المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ اَلْجَنَائِزِ 529 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: - شرح بلوغ المرام - اللهيميد - جـ ٢

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

‌كِتَابُ اَلْجَنَائِزِ

529 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث حسن، وفي إسناده محمد بن عمرو وهو مختلف فيه، والراجح أنه حسن الحديث ما لم يخالف.

(أَكْثِرُوا ذِكْرَ) أي: في نفوسكم، وفيما بينكم.

(هَاذِمِ) بالذال أي: قاطع.

(اَللَّذَّاتِ) أي لذات الدنيا.

•‌

‌ على ماذا يدل حديث الباب؟

الحديث يدل على استحباب الإكثار من ذكر الموت، في نفس الإنسان، وفيما بينه وبين الناس.

• اذكر فوائد الإكثار من الموت؟

يرقق القلب، ويرغب في الآخرة ويحث على الاجتهاد إليها، والنشاط في العبادة، ويرضى بالقليل من الدنيا، ويزهد في الدنيا، ويريح القلب من همّ الدنيا، و يمنع من الأشر والبطر والتوسع من الدنيا، ويحث على التوبة والاستدراك، ويدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم، ويقصر الأمل.

قال صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة) وفي رواية (وترق القلب وتدمع العين).

قال الحسن (من أكثر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا).

وقال بعض السلف: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، والنشاط في العبادة.

•‌

‌ ما مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت؟

مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الإكثار من ذكر الموت هو الاستعداد له بالعمل الصالح.

•‌

‌ اذكر ماذا يتضمن الإيمان بالموت؟

الإيمان بالموت يتضمن أموراً:

أولاً: تحتمه على كل من كان في الدنيا من أهل السماوات والأرض من الإنس والجن والملائكة.

قال تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه).

وقال تعالى: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).

وقال تعالى: (كل نفس ذائقة الموت).

ص: 1

ثانياً: أن كل له أجل محدود وأمد ممدود ينتهي إليه لا يتجاوزه ولا يقصر عنه.

قال تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).

وقال تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً).

ثالثاً: أن ذلك الأجل المحتوم والحد المرسوم لانتهاء كل عمر إليه لا اطلاع لنا عليه ولا علم لنا به.

قال تعالى: (وما تدري نفس ما ذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت).

رابعاً: التأهب له قبل نزوله والاستعداد لما بعده قبل حصوله.

عن ابن عمر قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). رواه البخاري

وقال علي: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولك واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل).

وقال تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت

).

وقال تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- التحذير من الاغترار بالدنيا.

- استحباب معرفة الأسباب التي تعين على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومنها الموت.

ص: 2

530 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ) الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموماً.

(لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ) من فقر أو مرض أو غير ذلك من الأضرار الدنيوية، والمراد بالضر الدنيوي لرواية ابن حبان (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا).

(فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ) أي: لا محالة ولا مفر.

(اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي) دعاء.

•‌

‌ ما حكم تمني الموت؟

لا يجوز.

لحديث الباب.

ولحديث خباب قال: (لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به) رواه البخاري.

•‌

‌ هل النهي تمني الموت نهي عام أم يجوز في أحوال؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: المنع مطلقاً.

وهذا قول القرطبي.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب) رواه البخاري.

ج- وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدْعُ به من قبل أن يأتيَه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) رواه مسلم.

ص: 3

قال القرطبي: وأما حديث أبي هريرة ففيه النهي عن تمني الموت مطلقاً لضرٍّ ولغير ضر.

القول الثاني: أنه لا يجوز لضر نزل به من فقر أو مرض وأما إذا خاف فتنة في دينه فإنه يجوز.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق - في حديث أبي هريرة - النهي عن تمني الموت، وقيّده في حديث أنس، بأن يكون تمنيه لضر نزل به، فيحمل المطلق على المقيد.

ب- أن مطلق حديث أنس يشمل الضر الدنيوي والأخروي، لكن المراد إنما هو الضر الدنيوي فقط، بدليل رواية ابن حبان (

لضر نزل به في الدنيا) حيث قيد الضر كونه في الدنيا.

ج- أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الدعاء بالموت عند خوف الفتن، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (

وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء) رواه مسلم.

فقوله صلى الله عليه وسلم (وليس به الدين) يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين.

قال ابن رجب: وأما تمني خوف فتنة في الدين، فإنه يجوز بغير خلاف.

وقال في موضع آخر: هو جائز عند أكثر العلماء.

•‌

‌ اذكر ما ورد عن السلف في تمني الموت خوف الفتنة؟

وقال عمر (اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط)

وتمنت زينب بنت جحش لما جاءها عطاء عمر فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها، فماتت قبل أن يدركها عطاء ثان لعمر.

وسأل عمر بن عبد العزيز من ظن به إجابة الدعاء أن يدعو له بالموت، لما ثقلت عليه الرعية، وخشي العجز عن القيام بحقوقهم.

وطُلب كثير من السلف الصالح إلى بعض الولايات، فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا.

واشتهر بعضهم واطلع على بعض عمل أحدهم أو معاملته مع الله فدعا لنفسه بالموت فمات.

وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيراً فسئل عن ذلك فقال: ما يدريني لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة أكون قد مت فسبقت هذا.

وفي المسند عن محمود بن لبيد. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب).

ص: 4

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم تمني الإنسان الموت بسبب الضر الدنيوي؟

أولاً: أنه يدل على عدم الصبر، والمسلم مطالب بالصبر والاحتساب.

ثانياً: أن بقاء المسلم قد يكون خيراً له.

ففي الحديث - وقد سبق - (لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب) أي يتوب.

وعند أحمد (وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً).

قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله).

ثالثاً: أن الإنسان لا يدري ما الأفضل له، البقاء أم الموت.

•‌

‌ ما الحكمة من هذا الدعاء (اللهم أحيني

) لمن كان داعياً بالموت؟

لأن في هذا الدعاء استسلام لقضاء الله، والمسلم يقول هذا الدعاء، لأنه لا يعلم هل الخير البقاء أم في الموت، فشرع قول هذا الدعاء لأن فيه رد ذلك إلى الله الذي يعلم عاقبة الأمور.

• ما الجمع بين هذا الحديث، وقول يوسف (ربّ توفني مسلماً

قال القرطبي: قيل: قال قتادة: لم يتمنى الموت أحد، نبي ولا غيره، إلا يوسف حين تكالبت عليه النعم وجُمع له الشمل، اشتاق إلى لقاء ربه.

وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت وإنما تمنى الموافاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفني مسلماً، وهذا هو القول في تأويل الآية عند أهل التأويل.

• قوله صلى الله عليه وسلم (لضر نزل به) فهل معنى ذلك أنه يجوز إذا لم يكن به ضر؟

لا، لا يجوز.

لكن هذا وصف أغلبي، ولكن الغالب على النفوس أنها تتمنى الموت حين ينزل بها الضر.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أنه لا يعلم الغيب إلا الله.

- في قوله (اللهم أحيني ما كانت

) تفويض وتسليم للقضاء.

- أن الموت قد يكون خيراً للإنسان، لقوله (ما كانت الوفاة خيراً لي).

- ثبوت علم الله للمستقبل.

ص: 5

531 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ) رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

===

(بِعَرَقِ) العرق هو الماء الذي يخرج من الجسد عند المشقة أو عند الحرارة.

(الْجَبِينِ) هو جانب الجبهة، ما بين الجبهة وبين الأذن.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث جاء من طريق قتادة عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قال بعض العلماء أن قتادة لم يسمع من ابن بريدة، قال ذلك البخاري وغيره.

لكن ابن بريدة توبع، فقد تابعه كَهْمَس عند النسائي، فقد روى الحديث النسائي من طريق كهمس عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سند صحيح متصل.

•‌

‌ اذكر أقوال العلماء في معنى الحديث؟

قيل: إن المؤمن يموت بعرق الجبين بما يكابده من المشاق بطلب المال الحلال، فإن طلب المال الحلال لا بد له من تعب ومشقة.

وقيل: من الحياء، وذلك لأن المؤمن إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل واستحياء من الله تعالى فعرق لذلك جبينه.

وقيل: إن المؤمن يشدد عليه في النزع، وسكرات الموت تمحيصاً لذنوبه.

وهذا التفسير أقرب للصواب، وذلك لأمور:

أولاً: أن شدة النزع أمر ثابت لا إشكال فيه، وقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة قالت (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرخ الخميصة عل وجهه، فإذا اغتم كشفها) وفي رواية قال (إن للموت لسكرات).

ثانياً: جاء عند أحمد عن بريدة (أنه كان في خراسان، فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده بالموت، وإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: موت المؤمن بعرق الجبين)، فهذا يؤيد المعنى الثاني.

•‌

‌ اذكر بعض علامات حسن الخاتمة؟

ذكر الألباني أن موت المؤمن بعرق الجبين من علامات حسن الخاتمة، ومن علامات حسن الخاتمة:

أولاً: نطقه بالشهادة عند الموت.

كما قال صلى الله عليه وسلم (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه الحاكم.

ثانياً: الموت بعرق الجبين.

كما في حديث الباب.

ثالثاً: الموت ليلة الجمعة أو نهارها.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر). رواه أحمد [وهو مختلف فيه]

رابعاً: الموت على عمل صالح.

قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة) رواه أحمد.

فائدة:

قال القرطبي: لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان:

أحدها: تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم، وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً، بل هو كما جاء في الحديث: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

والثانية: أن تعرف الخلق مقدار ألم الموت، وأنه باطن.

قد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً، ويرى سهولة خروج روحه، فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى قطع الخلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقاً لأخبار الصادقين عنه ما خلا الشهيد في سبيل الله.

ص: 6

532 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ.

===

(لَقِّنُوا) التلقين أن يقول الشيء ليتبعه غيره، فالمعنى اذكروا لا إله إلا الله ليتبعكم عليها الميت.

(لا إله إلا الله) معناها لا معبود بحق إلا الله.

•‌

‌ ما معنى (موتاكم) في هذا الحديث؟

أي من حضره الموت، لأن تلقين الميت بعد موته بدعة كما سيأتي إن شاء الله.

• ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب تلقين الميت لا إله إلا الله.

•‌

‌ هل هذا الأمر للوجوب أم للاستحباب؟

هذا الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب، حيث لم يقل أحد من العلماء بالوجوب.

• ما الحكمة من تلقين المحتضر الشهادة؟

الحكمة: أنه ورد في الحديث (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود.

•‌

‌ ما حكم التلقين بعد الموت؟

بدعة، وسيأتي حديثه إن شاء الله.

•‌

‌ اذكر كيفية التلقين؟

قال بعض العلماء:

- إن كان المحتضر قوي الإيمان فإنه يؤمر بها.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار، فقال: قل: لا إله إلا الله

) رواه أحمد.

- وأما إذا كان المحتضر متأثراً مضطرباً، فإنها تذكر عنده.

- وأما إذا حضر المؤمن احتضار الكافر، فإنه يأمره بها.

لقوله صلى الله عليه وسلم لعمه (يا عم، قل لا إله إلا الله).

ص: 7

•‌

‌ كم عدد مرات التلقين:

يلقن مرة واحدة حتى لا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بها بما لا يليق.

فإذا قاله مرة واحدة لا تكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه.

قال النووي: وَكَرِهُوا الإِكْثَار عَلَيْهِ وَالْمُوَالاة لِئَلا يَضْجَر بِضِيقِ حَاله وَشِدَّة كَرْبه، فَيَكْرَه ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَيَتَكَلَّم بِمَا لا يَلِيق. قَالُوا: وَإِذَا قَالَهُ مَرَّة لا يُكَرِّر عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَتَكَلَّم بَعْده بِكَلامٍ آخَر، فَيُعَاد التَّعْرِيض بِهِ لِيَكُونَ آخِر كَلَامه " انتهى.

ولَمَّا احْتُضِرَ عبد الله بْنُ المُبَارَكِ رحمه الله، جَعَلَ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ لَهُ: لَسْتَ تُحْسِنُ! وَأَخَافُ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِماً بَعْدِي، إِذَا لَقَّنْتَنِي، فَقُلْتُ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ لَمْ أُحْدِثْ كَلَاماً بَعْدَهَا، فَدَعْنِي، فَإِذَا أَحْدَثْتُ كَلَاماً، فَلَقِّنِّي حَتَّى تَكُوْنَ آخِرَ كَلَامِي. (سير أعلام النبلاء).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- استحباب الحضور عند المحتضر وتذكيره الشهادة، وكذلك تذكيره الوصية والتوبة.

- فضل شهادة أن لا إلا الله.

- فضل التوحيد، وأن الإنسان يبدأ إسلامه بالتوحيد ويختم حياته بالتوحيد.

ص: 8

533 -

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قَالَ (اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

===

(مَوْتَاكُمْ) أي المحتظر، وليس المراد الميت.

(يس) أي سورة يس.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث جاء من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

وهذا الحديث أعل بعدة علل:

منها: جهالة أبي عثمان، وكذلك أبوه.

قال المنذري: أبي عثمان وأبيه ليسا بالمشهورين.

وقال الألباني: وفيه أبو عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه كلاهما مجهول.

ومنها: الاضطراب بالسند، فمرة يروى عن أبي عثمان عن أبيه عن معقل، ومرة يروى عن أبي عثمان عن معقل [بإسقاط عن أبيه].

فالحديث لا يصح، وقد قال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن القطان بالاضطراب وبجهالة أبي عثمان وأبيه، نقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث.

•‌

‌ على ماذا يدل الحديث؟

استدل بحديث الباب من قال باستحباب قراءة سورة يس عند المحتظر.

لكن كما سبق أن الحديث ضعيف، وعليه فلا يشرع قراءتها عند المحتظر، لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بالأحاديث الضعيفة.

لكن جمهور العلماء على استحباب ذلك، واختاره ابن تيمية.

ففي "الاختيارات: والقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر، فإنها تستحب بياسين.

•‌

‌ ما معنى (على موتاكم) عند من صحح الحديث؟

معناه: أي على المحتظر.

قال ابن القيم مرجحاً هذا القول: وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر والأول أظهر لوجوه:

الأول: أنه نظير قوله (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله).

الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها، فإن هذه السورة قلب القرآن ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر

الثالث: إن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً يقرأون يس عند المحتضر.

الرابع: أن الصحابة لو فهموا من قوله (اقرأوا يس عند موتاكم) قراءتها عند القبر لما أخلوا به، وكان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم.

الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره، فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت.

•‌

‌ ما الحكمة من قراءتها عند من استحب ذلك؟

لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة.

كما قال تعالى (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)، وقوله تعالى (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها.

ص: 9

534 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اَلرُّوحَ إِذَا قُبِضَ، اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ" فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنَّ اَلْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ". ثُمَّ قَالَ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي اَلْمَهْدِيِّينَ، وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(عَلَى أَبِي سَلَمَةَ) مشهور بكنيته، واسمه عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، من السابقين الأولين إلى الإسلام، مات عام 4 هـ.

(شقَّ بَصَرُهُ) قال النووي: بفتح الشين، أي انفتح، لأن البصر يتبع الروح.

(إِنَّ اَلرُّوحَ إِذَا قُبِضَ، اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ) معناه إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظراً أين يذهب.

(فَضَجَّ) أي: صاح وصرخ.

(وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ) أي: اجعل له درجة عالية.

(فِي اَلْمَهْدِيِّينَ) أي مع المهديين، كقوله تعالى (وأدخلني في عبادك الصالحين) أي معهم.

(وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ) أي: أوسع له.

(وَاخْلُفْهُ) أي: اجعل له خليفة.

(فِي عَقِبِهِ) العقب الولد وولد الولد، وفي الحديث (في الغابرين) أي الباقين، كقوله تعالى (إلا امرأته كانت من الغابرين).

•‌

‌ ما حكم تغميض العينين إذا مات الإنسان؟

مستحب.

وهذا لدليل وتعليل.

الدليل: حديث الباب.

والتعليل:

قال النووي: أن لا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه.

وقال ابن قدامة: لأن الميت إذا كان مفتوح العينين والفم فلم يغمض حتى يبرد بقي مفتوحاً فيقبح منظره، ولا يؤمن دخول الهوام فيه والماء في وقت غسله.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- لا بأس بالبكاء على الميت ما لم يصل إلى حد النياحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم لما ضجوا.

- أن الإنسان إذا كان حاضراً عند الميت فإنه يستحب أن يدعو له [اللهم اغفر له، اللهم ارحمه

] لأن الملائكة تؤمن على ذلك.

- إثبات الملائكة.

- فضل أبي سلمة حيث دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوات العظيمة، وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فأخلفه في عقبه، حيث تزوجت زوجته أم سلمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أولاده في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت أم سلمة: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، إلا أخلفه الله خيراً منها، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما بقية الدعوات (اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين) فنرجوا أن الله استجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم.

- استحباب الدعاء للعقب لعل الله أن يبارك فيهم.

- استحباب البدء بالنفس قبل الغير في الدعاء، لقوله (واغفر لنا وله

).

- أن القبر قد يكون نوراً على صاحبه وقد يكون ظلاماً.

وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي عليهم).

- أن الدعاء للميت عند أهله فيه تسلية لهم.

ص: 10

535 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(سُجِّيَ) أي: غطي جميع بدنه.

(حِبَرَةٍ) بكسر الخاء وفتح الباء، وهي ضرب من برود اليمن.

•‌

‌ على ماذا يدل حديث الباب؟

يدل على استحباب تغطية الميت إذا مات.

قال النووي: وهو مجمع عليه.

•‌

‌ ما الحكمة من ذلك؟

صيانته من الانكشاف بستر عورته المتغيرة عن الأعين.

قال بعض العلماء: ولا يترك الميت على الأرض، لأنه أسرع لفساده، ولكن على سرير أو لوح ليكون أحفظ له.

قال بعض العلماء: يستحب أن يغطى الإنسان بالثوب الذي يحبه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث أنس:(إن أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الحِبَرة) متفق عليه، والله أعلم في صحة هذا التعليل.

ص: 11

536 -

وَعَنْهَا (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَبَّلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا).

(فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ) بضم السين وسكون النون، موضع بعوالي المدينة، فيه منازل بني الحارث بن الخزرج، وكان أبو بكر متزوجاً منهم.

(فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أي: قصد النبي صلى الله عليه وسلم.

(وَهُوَ مُسَجًّى) بجيم مشددة، كمُغطّى وزناً ومعنى.

(فَقَبَّلَهُ) أي: بين عينيه.

•‌

‌ ما حكم تقبيل الميت؟

يجوز.

لحديث الباب.

ب- ولحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون حينما توفي). رواه الترمذي لكنه ضعيف.

قال النووي رحمه الله: يجوز لأهل الميت وأصدقائه تقبيل وجهه، ثبتت فيه الأحاديث. (المجموع).

وقال الحافظ رحمه الله: فيه جواز تقبيل الميت.

و قال الشوكاني رحمه الله:؛ لأنه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر، فكان إجماعاً.

وكذلك لا حرج على المرأة أن تقبل زوجها بعد الوفاة.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا بأس بتقبيل الميت إذا قبله أحد محارمه من النساء، أو قبله أحد من الرجال، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ هل تقبيل أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم تبركاً به؟

لا، إن تقبيل أبا بكر للنبي صلى الله عليه وسلم حباً له وليس تبركاً كما زعمه بعض الشراح.

فقول من يقول: إن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً، غلط من وجوه:

أولاً: من أين لنا أن أبا بكر فعل هذا تبركاً.

ثانياً: أن أبا بكر فعل هذا محبة، يدل على هذا سياق الحديث، ولذلك بكى أبو بكر، وقال: والله ما يجمع الله عليك موتتين.

ثالثاً: أنه لو فعل هذا تبركاً لبادر كل الصحابة إلى فعله.

•‌

‌ ما معنى قول أبي بكر (والله لا يجمع الله عليك موتتين)؟

قيل: هو على حقيقته، أشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى.

وقيل: أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسأل ثم يموت.

وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك، والأول أصوب.

•‌

‌ ما حكم البكاء على الميت من غير نياحة؟

جائز.

وقد جاءت أدلة كثيرة على جوازه وستأتي إن شاء الله.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حب أبا بكر للنبي صلى الله عليه وسلم.

- الموت حق، وكل نفس ذائقة الموت.

- مصداق (إنك ميت وإنهم ميتون).

ص: 12

537 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

===

(نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ) يعني روحه.

(مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ) الدين كل ما ثبت في الذمة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث في إسناده عمر بن أبي سلمة، وهو متكلم فيه، لكن الراجح أنه صدوق، كما قال البخاري: صدوق في بعض حديثه وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ، وهذا الحديث لا يوجد فيه مخالفة، فهو حديث حسن.

وقد تابع عمر، الزهري كما عند حبان: عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به.

•‌

‌ ما معنى الحديث؟

قيل: لا تفرح بما لها من النعيم حتى يقضى عنه الدين، وقيل: عن دخول الجنة.

بعض أقوال العلماء في ذلك:

قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ.

وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَيْ أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ وَلَا هَلَاكٍ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ أَمْ لَا.

قال السندي: أَيْ مَحْبُوسَة عَنْ الدُّخُول فِي الْجَنّة.

وقال في تحفة الأحوذي: قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَيْ أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ وَلَا هَلَاكٍ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ أَمْ لَا.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ.

وقال الصنعاني: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْمَيِّتُ مَشْغُولًا بِدَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّخَلُّصِ عَنْهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ أَهَمُّ الْحُقُوقِ. انتهى.

•‌

‌ ما الواجب على ورثة الميت عند موته؟

قال الشوكاني معلقاً على هذا الحديث: فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيدٌ بمن له مالٌ يُقضى منه دينه، وأما من لا مالَ له ومات عازماً على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه. (نيل الأوطار).

وعلى هذا:

أولاً: إذا كان هذا الميت له مال فيجب أن يسدد منه دينه.

ثانياً: وإن لم يكن له مال واستطاع أولياؤه أن يسددوه عنه فذلك من عمل الخير والبر.

ثالثاً: وإن لم يكن شيء من ذلك فنرجو أن يدخل في معنى حديث البخاري (من أخذ أموال الناس يريد أداها أدى الله عنه) رواه البخاري.

ص: 13

•‌

‌ من مات وعليه دين لم يستطع أداءه لفقره هل تبقى روحه مرهونة معلقة؟

أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).

وهذا محمول على من ترك مالاً يقضى منه دينه، أما من لا مال له يقضى منه فيرجى ألا يتناوله هذا الحديث؛ لقوله سبحانه وتعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وقوله سبحانه (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة).

كما لا يتناول من بيّت النية الحسنة بالأداء عند الاستدانة، ومات ولم يتمكن من الأداء؛ لما روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله). (فتاوى اللجنة الدائمة).

قال ابن عبد البر: والدين الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو ادَّانه في غير حق، أو في سرف ومات ولم يؤده، وأما من ادَّان في حق واجب لفاقةٍ وعسرةٍ، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله.

•‌

‌ هل ديون الميت الآجلة تحل بموته؟

ديون الميت الآجلة تحلُّ ويسقط الأجل بموت المدين على الراجح من أقوال أهل العلم.

وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والمالكية، والظاهرية والحنابلة في رواية.

قال ابن قدامة المقدسي: فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان إحداهما: لا تحل إذا وثَّق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد. وقال طاووس وأبو بكر بن محمد بن الزهري وسعيد بن إبراهيم: الدينُ إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن.

والرواية الأخرى: أنه يحلُّ بالموت.

وبه قال الشعبي، والنخعي، ومالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي.

لأنه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال، لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت، لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة، لأنهم لم يلتزموها ولا رضيَ صاحبُ الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله، لأنه ضررٌ بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه، أما الميت فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الميت مرتهنٌ بدينه حتى يُقضى عنه) وأما صاحبه فيتأخر حقه وقد تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها، وإن حصلت لهم منفعةٌ فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعةٍ لهم. (المغني).

ص: 14

وقال ابن رشد الحفيد: وجمهور العلماء على أن الديون تحلُّ بالموت، وقال ابن شهاب مضت السنة بأن دينه قد حلَّ حين مات.

وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين، فيلزم أن يجعل الدين حالاً، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحلَّ الديون، فتكون الديون حينئذ مضمونة في التركة خاصةً، لا في ذممهم.

وما ذكره ابن رشد عن ابن شهاب الزهري له تتمة: مضت السنة بأن دينه قد حلَّ حين مات، ولأنه لا يكون ميراثٌ إلا بعد قضاء الدين] ذكره مالك في المدونة.

ومن أدلة الجمهور أيضاً:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه).

- فالميت معلقةٌ نفسه بالدَّين.

ولذلك قال بعض العلماء: هذا الحديث مشكلٌ عند أهل العلم في قوله (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية (مرهونة بدينه). فقال طائفة من العلماء: يحبس عن النعيم ويحال بينه وبين النعيم حتى يُقضى دينه، فنفسه لا تتنعم إلا بعد قضاء دينه.

لأنه قال: (نفس المؤمن مرهونة) وأصل الرهن: الحبس، كما في قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي: محبوسة.

فلما قال عليه الصلاة والسلام (نفس المؤمن مرهونة) دلَّ على أنها محبوسةٌ، وهي إما تحبس عن النعيم أو عن الفضل.

ولذلك كره العلماء الدَّين وشددوا فيه لهذا الحديث، فقالوا: إنه إذا كانت نفسه مرهونة، وماله موجوداً، والورثة لا يستحقون المال إلا بعد الدين، فالذي تطمئن إليه النفس أنه يجب عليهم أن يبادروا بسداد دينه ولو كان دينه مؤجلاً.

فلذلك الذي يظهر أن الميت تحل ديونه بالموت، وأنه يجب على ورثته أن يبادروا بسداد ديونه، خاصة مع قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وقوله (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وقوله (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) فهذه الآيات كلها صريحة بأن الدين مقدمٌ على حقوق الورثة، فإذا نظرنا إلى هذا فمعناه: أنه يجب علينا أن نبادر بسداد دين الميت؛ لأن هذا ماله وقد حلت ديونه، فينبغي أن يبادر بالأصلح والأوفر له؛ لأنه ليس ثَم مانع شرعي يمنع من هذا.

ونحن نقول: إن الدين المؤجل ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون به؛ لأن الدين إذا كان صاحبه قد أخره عليك إلى نهاية السنة، فإن الرفق بك أن تنتظر إلى نهاية السنة، فمن مات الرفق به أن يعجل، فأصبحت المسألة بالموت عكسية. ولذلك جعل شرعاً الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل، وإذا ثبت أن الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل لمصلحة المديون فالعكس بالعكس في حال الوفاة. ومن هنا فإنه يجب على الورثة أن يبادروا بالسداد. (شرح زاد المستقنع للشنقيطي).

ص: 15

ومما يؤيد حلول الأجل بالموت [أن الأجل شرع ترفيهاً للمدين، ولاعتبارات شخصية وأوصاف معينة جعلت الدائن يوافق على تأجيل دينه لثقته في المدين أن يفي بوعده بسداد الدين عند حلول أجله، ولذلك ومن هذه الناحية كان حقاً شخصياً يسقط بموت المدين، كما أن قوة دليل الجمهور النقلي منها أو العقلي تجعلني أرجح رأيهم هذا، ولكن من ناحية أخرى توجد فيه الشائبة المالية، لأنه في مقابل الأجل تزداد قيمة السلع، وتكون هذه الزيادة في مقابلة الأجل، ولذلك أرى أن يسقط من الزيادة بقدر ما بقي من مدة الأجل، إذا كان هذه الدين ثمناً لمبيعٍ أُجل ثمنُهُ، سواء أن البيع مرابحةً أو كان بيعاً بالتقسيط أو غيره، لأن العادة في مثل هذه البيوع أن تزاد أثمانها إذا كانت مؤجلةً أو مقسطةً عملاً بفتوى المتأخرين من الأحناف، وفي ذلك رفقاً ومصلحةً للدائن وورثة المدين، وليس في ذلك رائحة أو شائبة من الربا] بيع المرابحة والتقسيط ودورها في المعاملات المصرفية في الفقه الإسلامي للكباشي ص 21.

وخلاصة الأمر: أن الديون المؤجلة والمقسَّطة تحلُّ بموت المدين على الراجح من أقوال الفقهاء، ويلزم الورثة سداد ديون الميت الآجلة ما دام أن الميت قد ترك وفاءً لديونه، ويكون سداد الديون قبل توزيع التركة، حيث إن العلماء متفقون على أن قضاء الدين مقدمٌ على تنفيذ وصايا الميت، وإن كانت الوصية مقدمة على الدين في آية المواريث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) كما أن الرفق يقتضي إسقاط ما قابل التأجيل من زيادة

- عظم أمر الدين.

•‌

‌ هل يجب المبادرة لقضاء دين الميت إذا ترك مالاً؟

نعم، يجب المبادرة لقضاء دين الميت من قبل الورثة إذا ترك الميت مالاً، فما يفعله بعض الورثة من تأخير السداد، جناية في حق الميت، لأن نفسه معلقة حتى يسدد عنه.

•‌

‌ لماذا يستحب المبادرة لسداد الدين في الحياة؟

لسببين:

أولاً: لأن نفس المؤمن معلقة بدينه.

ثانياً: ولأن كثيراً من الورثة لا يحرصون على سداد دين ميتهم مع أنه ترك مالاً.

قال الصنعاني في حديث الباب: وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته، ففيه حث على التخلص عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه، فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً.

•‌

‌ اذكر خطورة الديْن؟

أولاً: يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين.

قال صلى الله عليه وسلم (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) رواه مسلم.

وروى النسائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ).

ثانياً: من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله.

قال صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.

قال ابن حجر: (أتلفه الله) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه، وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من الأمرين، وقيل: المراد بالإتلاف عذاب الآخرة.

ص: 16

ثالثاً: أن عدم سداد الدين ظلم.

قال صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) متفق عليه .... (مطل: منع. الغني: القادر على الوفاء).

رابعاَ: استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [أي: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) رواه البخاري ومسلم.

وقد ترك النبي رضي الله عنه الصلاة على من مات وعليه ديناران، حتى تكفل بسدادهما أبو قتادة رضي الله عنه، فلما رآه من الغد وقال له قد قضيتها، قال رضي الله عنه:(الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ) مسند أحمد (3/ 629) وحسنه النووي في "الخلاصة"(2/ 931) وابن مفلح في "الآداب الشرعية"(1/ 104) وحسنه محققو مسند أحمد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة.

وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه الترمذي.

وقد جاء عن كثير من السلف التحذير من الدين أيضاً:

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال (َإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ) رواه مالك.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما (يا حمران! اتق الله ولا تمت وعليك دين، فيؤخذ من حسناتك، لا دينار ثَمَّ ولا درهم) رواه عبد الرزاق.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حديث الباب محمول على من مات وترك ديناً وترك مالاً.

- قوله (بدينه) يشمل دين الله، ودين الآدمي.

دين الله: ككفارة عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكياً، أو زكاة لم يؤدها.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (دين الله أحق بالقضاء).

- وجوب رد الحقوق إلى أهلها.

- عظم حقوق الآدميين.

ص: 17

538 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي اَلَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ اذكر الحديث بتمامه؟

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ. وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ. فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ).

(بَيْنَمَا رَجُلٌ) قال في الفتح: لم أقف على شيء من الطرق على تسمية هذا المحرم.

(فَوَقَصَتْهُ) بفتح الواو: والوقص الكسر.

(وَلا تُحَنِّطُوهُ) أي: لا تجعلوا فيه حنوطاً، والحنوط: أخلاط من طيب.

(وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ) أي: لا تغطوا.

•‌

‌ ما حكم تغسيل الميت؟

واجب.

أ-لقوله (اغسلوه).

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (اغسلنها).

•‌

‌ ما حكم تكفين الميت؟

واجب.

لقوله (وكفنوه).

•‌

‌ ما حكم تغطية المحرم رأسه؟

لا يجوز.

لقوله (ولا تخمروا رأسه).

وهذا مذهب الشافعي وأحمد.

وخالف الحنفية والمالكية، وقالوا إن الميت يغطى رأسه.

والصحيح الأول لحديث الباب.

•‌

‌ ما حكم تغطية المحرم وجهه؟

اختلف العلماء في تغطية المحرم وجهه على قولين.

القول الأول: مباح للمحرم أن يغطي وجهه.

روى ذلك عن عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص.

وبه قال الشافعي وأحمد وابن حزم. الأدلة:

أ- لحديث الباب (ولا تخمروا رأسه).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تغطية رأس المحرم فقط، فدل على جواز ستر الوجه لأنه لو كان حراماً لنهى عنه

ولما روي عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون.

ص: 18

القول الثاني: لا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.

أ- لرواية جاءت في حديث الباب (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه) وهي عند مسلم.

ب-وروي عن ابن عمر أنه كان يقول (ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم) رواه البيهقي.

أجاب أصحاب القول الأول عن دليل القول الثاني قالوا: أن رواية (ولا وجهه) شاذة ضعيفة.

قال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته.

وقال الحافظ: وتردد ابن المنذر في صحته.

والأحوط أن لا يغطي المحرم وجهه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- وجوب اجتناب الطيب للمحرم حياً أو ميتاً.

- أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النووي: وهو مجمع عليه.

- استحباب خلط الماء بالسدر في تغسيل الميت.

- أن المحرم إذا مات لا يقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضة، لأن النبي لم يقل لهم: اقضوا عنه بقية نسكه، ولو كان قضاء النسك واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.

ولأننا لو قضينا عنه بقية نسكه لفوتنا عليه فائدة كبيرة وهي أنه يبعث يوم القيامة ملبياً.

- فضل من مات محرماً.

- أن من شرع في عمل صالح من طلب علم أو جهاد أو غيرهما ومن نيته أن يكمله فمات من قبل أن ذلك بلغت نيته الطيبة وجرى عليه ثمرته إلى يوم القيامة.

ص: 19

539 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاَللَّهُ مَا نَدْرِي، نُجَرِّدُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ لَا

) اَلْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت (لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم. وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه).

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: استحباب تجريد الميت من ثيابه عند غسله.

أ-لحديث الباب (قالوا: والله ما ندري نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا

)، فهذا يدل على أن تجريد الميت كان مشهوراً عندهم.

ب- ولأن في تجريده أمكن لتغسيله وأبلغ في تطهيره.

قال البهوتي رحمه الله: ثم جرده من ثيابه ندباً، لأن ذلك أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره وأشبه بغسل الحي وأصون له من التنجيس إذ يحتمل خروجها منه ولفعل الصحابة بدليل قولهم: لا ندري أنجرد النبي صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا.

وجاء في "الموسوعة الفقهية"(13/ 52): وذهب الحنفية والمالكية

إلى أنه يستحب تجريد الميت عند تغسيله؛ لأن المقصود من الغسل هو التطهير وحصوله بالتجريد أبلغ. ولأنه لو اغتسل في ثوبه تنجس الثوب بما يخرج، وقد لا يطهر

والصحيح المعروف عند الشافعية .. أنه يغسل في قميصه

وأما ستر عورته فلا خلاف فيه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والصحيح أنه يجرد إلا عورته وهي ما بين السرة والركبة.

•‌

‌ ما حكم تغطية عورته عند تغسيله؟

يجب أن تغطى عورته بثوب أو ساتر.

قال صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة) رواه مسلم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- خصوصية الرسول، حيث لم يجرد من ثيابه عند تغسيله.

- وجوب غسل الميت صلى الله عليه وسلم.

- دليل لقوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون).

قال الصنعاني: وفي هذه القصة دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره منة الموتى.

- كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، لأنه لم يجعلهم يُجْمعون على تجريده صلى الله عليه وسلم من ثيابه عند غسله، ولما ظهر فيهم الخلاف أرسل إليهم من كلمهم من ناحية البيت آمراً إياهم بعدم تجريده من ثيابه، وفي ذلك صيانة لحرمته صلى الله عليه وسلم بعد موته.

فوائد:

الأولى: لم يغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم الثلاثاء، وذلك بعد وفاته بيوم.

الثانية: قال عبد المغني المقدسي: وغسله علي بن أبي طالب، وعمه العباس، والفضل بن العباس، وقُثَم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولاه.

ص: 20

540 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيْنَا اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ"، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ. فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ اَلْوُضُوءِ مِنْهَا).

وَفِي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ (فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا).

===

(وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) كانت غاسلة للميتات وكانت من فاضلات الصحابيات وأسمها نسيبة بضم النون.

(وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ) هي زينب كما عند مسلم في صحيحه.

(إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِك) بكسر الكاف خطاب لأم عطية معناه إذ احتجتن وليس معناه التخيير.

(فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ) أي: أعلمناه.

(حِقْوَهُ) بكسر الحاء يعني إزاره.

(أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) أي: اجعلنه شعاراً لها وهو الثوب الذي يلي الجسد سمي شعاراً لأنه يلي شعر الجسد.

•‌

‌ ما حكم تغسيل الميت؟

واجب.

لقوله صلى الله عليه وسلم (اغْسِلْنَهَا) وهذا أمر والأمر للوجوب.

ولقوله للمحرم الذي وقصته ناقته (اغسلوه بماء سدر).

•‌

‌ هل يجوز للرجل أن يغسل المرأة وكذلك العكس؟

الواجب أن لا يغسل المرأة إلا جنس النساء، ولا يغسل الرجل إلا جنس الرجال.

قال في المغني: هذا قول أكثر أهل العلم.

•‌

‌ هل يستثنى من ذلك أحد؟

نعم.

- الزوجان يجوز لكل أحد منهما أن يغسل الآخر

أ- لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: لو متِ قبلي لغسلتك) رواه أحمد.

ب-ولقولها (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه) رواه أبو داود.

ج-وعن أسماء بنت عميس (أن فاطمة أوصت أن يغسلها علي) رواه الدار قطني.

د- (وأن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله فغسلته) رواه البيهقي.

- يجوز للرجل أن يغسل بنتاً دون سبع سنين، ويجوز للمرأة أن تغسل صبياً دون سبع سنين.

قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تغسل الصبي الصغير مجرداً من غير مئزر وتمس عورته وتنظر إليها.

ص: 21

•‌

‌ ما الأفضل أن يكون مع الماء في غسل الميت؟

الأفضل أن يكون مع الماء سدر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (بماء وسدر).

قال النووي: وهو متفق على استحبابه.

•‌

‌ ما الأفضل أن يكون في الغسلة الأخيرة؟

يستحب أن يكون مع الغسلة الأخيرة كافوراً.

لقوله (واجعلن في الآخرة كافوراً).

وباستحبابه قال جماهير العلماء.

•‌

‌ ما الحكمة من ذلك؟

لأنه يطيب الميت ويصلب بدنه ويبرده ويمنع إسراع فساده. (قاله النووي).

قال الحافظ رحمه الله: قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم أن فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتحلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك وهذا هو السر في جعله في الأخيرة إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء.

•‌

‌ ما الأفضل في عدد الغسلات؟

الأفضل أن يكون عدد الغسلات ثلاثاً، فإن لم يكف فخمس فإن لم يكف زيد على ذلك.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- الأفضل أن تقطع غسلاته على وتر.

- أن يستحب البداءة بغسل أعضاء الوضوء.

- أن المرأة ينقض رأسها ويجعل ثلاثة قرون ويلقى خلفها.

- استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الغسل من غسل الميت لا يجب.

وجه الدلالة: أنه موضع تعليم فلو وجب لعلمه.

- ثبوت التبرك بملابسه وآثاره وهو من خصائصه، فلا يتبرك بملابس غيره من الناس وآثارهم.

ص: 22

541 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كُفِّنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(سَحُولِيَّةٍ) بفتح السين نسبة إلى قرية باليمن.

(يمانية) نسبة إلى اليمن.

•‌

‌ ما الأفضل في عدد الثياب في الكفن؟

الأفضل في الكفن أن يكون بثلاثة أثواب.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-لحديث الباب.

ب-ولأن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل.

قال الإمام أحمد: أصح الأحاديث في كفن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث عائشة.

قال ابن حزم: ما تخير الله تعالى لنبيه إلا أفضل الأحوال.

•‌

‌ ما الواجب في عدد الثياب في كفن الميت؟

اتفق العلماء على أنه لا يجب أكثر من ثوب واحد يستر جميع البدن.

•‌

‌ هل الأفضل في الكفن أن يكون فيه قميص وعمامة أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: الأفضل أن لا يكون فيه قميص ولا عمامة.

وهذا مذهب الجمهور.

لحديث الباب.

القول الثاني: أنه يستحب القميص والعمامة.

وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة.

قالوا: إن قول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة أي ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة.

والصحيح القول الأول.

•‌

‌ ما أفضل الألوان في الكفن.

الأفضل أن يكون الكفن لونه أبيض.

أ-لحديث الباب.

ب-ولحديث (إن من أفضل ثيابكم البياض فالبسوها وكفنوا بها موتاكم).

قال النووي: مجمع عليه: أي على استحبابه.

ص: 23

•‌

‌ هل المرأة كالرجل في الكفن أم تختلف؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن المرأة تكفن في خمسة أثواب.

وهذا ما ذهب إليه الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب.

عن لَيْلَى بِنْتَ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةَ، قَالَتْ (كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحِقَاءَ، ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الآخَرِ، قَالَتْ: وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا يُنَاوِلُنَاهَا ثَوْبًا ثَوْبًا) رواه أبو داود، وهو حديث ضعيف لا يصح.

القول الثاني: أنها كالرجل.

لعدم الدليل على التفريق.

وهذا هو الصحيح.

•‌

‌ ما صفة وضع اللفائف؟

أن يوضع بعضها فوق بعض، ويوضع عليها الميت مستلقياً، ثم يرد طرف اللفافة العليا الأيمن ثم الأيسر، ثم الباقيان هكذا، ويكون أكثر الفاضل من جهة الرأس، هذا إذا كان الكفن طائلاً.

•‌

‌ من الذين لا يكفنون؟

أولاً: الشهيد ويدفن في ثيابه.

لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد (زملوهم في ثيابهم) رواه أحمد.

ثانياً: المحرم: يكفن في ثيابه التي مات فيها.

لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (وكفنوه في ثوبيه).

ص: 24

542 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَاءٍ اِبْنُهُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، فَأَعْطَاه [إِيَّاهُ]- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

- (قَمِيصَكَ) القميص ثوب له أكمام.

(لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) هو ابن سلول رأس المنافقين، مات عام 9 هـ.

(جَاءٍ اِبْنُهُ) عبد الله، قال الحافظ: وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة، وشهد بدراً وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال:(بل أحسن صحبته) أخرجه ابن مندة من حديث أبي هريرة بإسناد حسن.

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (لَمَّا تُوُفِّىَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّى عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا خَيَّرَنِيَ اللَّهُ فَقَالَ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ». قَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ. فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) متفق عليه.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَىٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا - أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ - فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ «أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ» . فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» . قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ (بَرَاءَةٌ)(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً) إِلَى (وَهُمْ فَاسِقُونَ) قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) رواه البخاري.

•‌

‌ ما حكم التكفين بالقميص؟

جائز.

لقوله (فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ إياه).

لكن الأفضل ترك ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفن في قميص.

قال النووي: لا يكره تكفين الميت في القميص،

ثم ذكر الأحاديث السابقة ..

وقال ابن قدامة: التكفين في القميص والمئزر واللفافة غير مكروه، وإنما الأفضل الأول، وهذا جائز لا كراهة فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات. رواه البخاري. (المغني).

وقد ترجم له البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 564) بقوله: باب جواز التكفين في القميص وإن كنا نختار ما اختير لرسول

الله صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض العلماء بكراهة التكفين في القميص.

قال النووي: وهذا ضعيف بل باطل من جهة الدليل، لأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، ولم يثبت في هذا شيء، فالصواب أنه لا يكره، لكنه خلاف الأولى .... (المجموع)، (المغني).

ص: 25

•‌

‌ ما الجمع بين ما جاء في حديث جابر قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه

وألبسه قميصه) وبين حديث الباب (

فأعطاه إياه).

قال ابن حجر: قد جمع بينهما بأن نفي قوله في حديث ابن عمر (فأعطاه) أي أنعم له بذلك، فأطلق على العِدَة اسم العطية مجازاً لتحقيق وقوعها.

وقيل: أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قميصيه أولاً، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده.

•‌

‌ ما سبب إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن به هذا المنافق؟

قيل: لتطييب قلب ابنه. قال النووي: وهو أظهر.

وقيل: لأنه كان قد كسا العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً حين أسر يوم بدر، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ثوباً بدله لئلا يبقى لكافر عنده فضل.

وقيل: فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إجابة لسؤال ابنه حين سأله ذلك. (المجموع).

•‌

‌ ما سبب صلاته صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن سلول مع نفاقه وكفره؟

اختلف العلماء في ذلك:

القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له وصلى عليه بناء على الظاهر، حيث إن ظاهره هو أنه من المسلمين، ولم يعلم بباطنه - وأنه مات على الكفر والنفاق - إلا بعد أن نزل النهي عن الصلاة عليه.

وهذا رأي النحاس، والخطابي، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن الجوزي، والرازي، وابن جزي، والحافظ ابن حجر.

قال ابن عطية: وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقيناً عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار، ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر.

وقال الحافظ ابن حجر: أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره واستصحاباً لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقلّ أهل الكفر وذلوا، أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى.

ص: 26

فائدة: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبيّ لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته، وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة، وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال فأنزل الله تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره). قال فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه.

القول الثاني: أن المنهي عنه هو الاستغفار الذي تُرجى إجابته، حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة للمستغْفَر له، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي طالب، فإنه إنما استغفر له كما استغفر إبراهيم لأبيه، على جهة أن يجيبهما الله تعالى، فيغفر للمدعو له، وهذا النوع هو الذي يتناوله منع الله ونهيه، وأما الاستغفار لأولئك المنافقين الذي خيّر فيهم فهو استغفار لساني، علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع، وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم.

قاله أبو العباس القرطبي (في المفهم)، واختاره أبو عبد الله القرطبي في التفسير.

ويدل لهذا القول رواية (لو أعلم أني إن زدتُ على السبعين يُغفر له لزدت عليها)، وهي صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بأن استغفاره لن ينفعه بشيء.

القول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على عبد الله بن أبيّ ولم يشهد جنازته.

وهذا اختيار أبي جعفر الطحاوي.

والجواب عن هذا: بأنه قد جاء في حديث ابن عمر وابن عباس التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه.

•‌

‌ هل يستحب المكافأة على المعروف؟

نعم تستحب.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه).

وقد قال صلى الله عليه وسلم (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتى لتركتهم له) رواه البخاري.

•‌

‌ ما الحكمة في حث الشريعة على المكافأة على المعروف؟

أولاً: تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.

ثانياً: أن يسأل يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه.

ثالثاً: الاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن المنافق يعامل المسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

- حكمة الله، حيث أن الأب منافق، والابن رجل صالح.

- جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كقميصه وإزاره. وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.

- جواز التكفين بثوب الواحد إذا ستر.

- قرن الحكم بالعلة، وقرن الحكم بالعلة فيه ثلاث فوائد سبقت في كتاب الطهارة.

ص: 27

543 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث في إسناده عبد الله بن خُثَيْم، الأكثر على توثيقه، وضعفه ابن المديني.

لكن الحديث له شاهد من حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البسوا ثم ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطيب وأطهر). وقد صحح هذا الحديث الحافظ ابن حجر.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب أن يكون الكفن أبيض.

أ- وقد تقدم أيضاً حديث عائشة (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب

بيض).

ب- ولحديث الباب (

وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ

).

ج- ولحديث سمرة السابق (الْبَسُوا الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ) رواه الترمذي.

د- وما كان الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل.

قال النووي رحمه الله: (بيض) دليل لاستحباب التكفين في الأبيض وهو مجمع عليه" انتهى من "شرح مسلم".

•‌

‌ الأمر في قوله (البسوا .. ) هل هو للوجوب أم للاستحباب؟

الأمر في قوله (البسوا

) للاستحباب، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الأحمر والأسود والأخضر، وغير ذلك ممن الملابس.

•‌

‌ ما الحكم لو كفن الميت بغير الأبيض؟

لو كفن الميت بغير الأبيض لجاز.

ص: 28

544 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: وجوب تحسين كفن الميت.

•‌

‌ ما المراد بتحسين الكفن؟

قال البغوي: المراد بتحسين الكفن هو البياض والنظافة لا كونه ثميناً.

قال العلماء: والمراد بإحسان الكفن، نظافته وكثافته وستره وتوسطه، وليس المراد به السرف فيه والمغالاة ونفاسته.

وقد قال بعض العلماء: المراد بتحسين الكفن هو طلب الشيء الثمين.

والأول أرجح.

•‌

‌ ما رأيك بقول النووي أنه يشترط أن يكون الكفن من جنس لباسه في الحياة؟

قال الألباني: وأما اشتراط النووي في المجموع كونه من جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر، ففيه نظر عندي، إذ كون مما لا دليل عليه، فقد يكون لباسه في الحياة نفيساً أو حقيراً، فكيف يجعل كفنه من جنس ذلك؟

•‌

‌ ما الحكم إذا ضاق الكفن عن الميت؟

إذا ضاق الكفن عن الميت، ولم يتيسر السابع، ستر به رأسه وما طال من جسده، وما بقي منه مكشوفاً جُعل عليه شيء من الإذخر أو غيره من الحشيش.

عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ (هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ. قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ نَمِرَةٌ فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِى رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ». وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا) متفق عليه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن كل من تصرف لغيره فانه يجب عليه أن يفعل ما هو أحسن.

- من الإحسان في الكفن أن يكون وفق السنة: كأن يكون ثلاثة أثواب وأن يكون لونه أبيض.

- وجوب تكفين الميت.

- أن الكافر لا يغسل ولا يكفن، بل تحفر له حفرة في الصحراء ويغمس فيها.

ص: 29

545 -

وَعَنْهُ قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟، فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ) أي: غزوة أحد وكانت عام 3 هـ.

(أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ) وعند الترمذي (أيهم أكثر حفظاً للقرآن).

•‌

‌ ما معنى قوله (في ثوب واحد)؟

اختلف العلماء في معناها على قولين:

قيل: أنه يشق الثوب بين الاثنين فيكفن هذا في بعضه وهذا في بعضه، لئلا يمس بشرة كل إنسان بشرة الآخر، وهذا اختيار ابن تيمية.

ولأن ذلك أدعى إلى ستر العورة.

قال ابن تيمية: معنى الحديث أنه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة، فيكفن كل واحد ببعضه للضرورة، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث (أنه كان يسأل عن أكثرهم قرآناً فيقدمه في اللحد) فلو أنهم في ثوب واحد جملةً لسأل عن أفضلهم قبل ذلك كي لا يؤدي إلى نقض الكفن وإعادته.

وقيل: يجمعهم في ثوب واحد ملتصقين.

أ- لأن هذا هو ظاهر اللفظ.

ب- ويؤيده قول جابر (فكفّن أبي وعمي في نمِرة واحدة).

•‌

‌ ما حكم دفن الرجلين في القبر الواحد؟

يجوز ذلك إذا كان لحاجة، ككثرة الموتى، أو قلة من يدفن.

ومما يدل على ذلك: عن أبي قتادة أنه قال: (أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله، حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقتلوا يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم،

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما، فجعلوا في قبر واحد). رواه أحمد بسند حسن كما قال الحافظ.

وفي حديث جابر في قصة استشهاد أبيه في آخرها: (

فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبر

).

•‌

‌ ما حكم الجمع بين أكثر من رجلين في قبر واحد من غير حاجة؟

قيل: يحرم.

وهذا قول جمهور العلماء.

لأن هذا خلاف عمل المسلمين.

قال النووي في المجموع: لا يجوز أن يدفن رجلان ولا امرأتان في قبر واحد من غير ضرورة.

وقيل: مكروه.

وهذا اختيار ابن تيمية.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والراجح عندي - والله أعلم - القول الوسط، وهو الكراهة، كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.

وقيل: لا يكره، وإنما هو ترك للأفضل، فحسب.

والراجح التحريم.

ص: 30

•‌

‌ اختلف العلماء في الذكر والأنثى، هل يدفنان جميعاً؟

فقيل: لا مانع من دفنهما إذا كان الرجل أحد محارمها.

وقيل: لا تدفن مطلقاً.

قال الحافظ ابن حجر: روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن وائلة بن الأسقع (أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل وتجعل المرأة وراءه).

وكان يجعل بينهما حائلاً من تراب ولا سيما إذا كان أجنبيين.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الذي يقدم في اللحد أفضلهم وأكثرهم أخذاً للقرآن، يعني يكون إلى جهة القبلة.

- فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن.

قال الحافظ: ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) رواه مسلم

فصاحب القرآن له منزلة عالية:

في الدين:

(إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) رواه مسلم.

وفي الآخرة:

قال صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتقِ ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها) رواه أبو داود.

- أن هذا التقدير لا يلزم منه التفضيل الأخروي، فلربما كان المؤخر عند الله أفضل من المقدم، وإنما الترتيب في القبر على حسب منازلهم في الدنيا.

•‌

‌ هل شهيد المعركة يُغسل؟

الحديث دليل على أن شهيد المعركة لا يغسل.

لقوله (وَلَمْ يُغَسَّلُوا).

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال ابن قدامة: إذا مات الشهيد في المعركة لم يغسل، وهو قول أكثر أهل العلم.

وقال الخطابي:

وفيه من الفقه أن الشهيد لا يغسل وهو قول عامة أهل العلم.

ونقل الصنعاني أيضاً عن الجمهور قولهم أن الشهيد لا يغسل.

•‌

‌ هل إذا مات الشهيد جنباً يغسل؟

إن كان الشهيد جنُباً فقد اختلف العلماء في تغسيله، والراجح أنه لا يُغسل إذ لا فرق بين الجُنب وغيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغسل الذين قتلوا في أُحد، ولأن الشهادة تكفر كل شيء.

أما ما يُذكر من أن عبد الله بن حنظلة " غسلته الملائكة " فهذا إن صح فليس فيه دليل على أنه يُغسله البشر؛ لأن تغسيل الملائكة له ليس شيئاً محسوساً لنا، وأحكام البشر لا تقاس على أحكام الملائكة، وما حصل لحنظلة رضي الله عنه هو من باب الكرامة وليس من باب التكليف.

قال ابن حجر في معرض الاستدلال بحديث جابر:

واستدل بعمومه على أن الشهيد لا يغسل حتى ولا الجنب ولا الحائض.

ص: 31

•‌

‌ ما الحكمة من عدم تغسيل الشهيد؟

جاء عند أحمد في حديث جابر (

لا تغسلوهم فإن كلَّ جُرحٍ أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة ولم يصلّ عليهم).

•‌

‌ هل من يموت بالغرق أو بالهدم أو غيرهم مما جاء في السنة بتسميتهم شهداء، هل حكمهم كحكم شهيد المعركة؟

ما يطلق عليه اسم الشهيد (كالغريق والهدم والمقتول دون ماله وغيرهم) يغسلون بالإجماع، وحكمهم حكم غيرهم من الأموات.

•‌

‌ اذكر أقسام الشهداء؟

قال النووي: اعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام:

أحدها: المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال.

فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة وفى أحكام الدنيا، وهو أنه لا يغسل ولا يصلى عليه.

والثاني: شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا.

وهو المبطون، والمطعون، وصاحب الهدم، ومن قتل دون ماله، وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيداً فهذا يغسل ويصلى عليه، وله في الآخرة ثواب الشهداء ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول.

والثالث: من غل في الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيداً، إذا قتل في حرب الكفار فهذا له حكم الشهداء في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة.

وقال في المجموع: والدليل للقسم الثاني أن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم غُسلوا وصُلي عليهم بالاتفاق واتفقوا على أنهم شهداء والله أعلم.

•‌

‌ هل الشهيد يصلى عليه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يصلى عليه.

وهذا مذهب ومالك، والشافعي، وأحمد.

قال ابن قدامة: فأما الصلاة عليه، فالصحيح أنه لا يصلى عليه، وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق.

قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: الشهداء الذين يموتون في المعركة لا تشرع الصلاة عليهم مطلقاً ولا يُغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ على شهداء أحد ولم يُغسلهم. رواه البخاري في صحيحه عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما.

أ- لحديث الباب (

وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ).

ب- وعن أنس (أن شهداء أحد لم يُغسّلوا ودُفِنوا بدمائهم ولم يُصلِ عليهم) رواه أبو داود.

ج- عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال في قتلى أحد (لا تغسلوهم فإن كلَّ جرحٍ أو كلَّ دم يفوح مسكا يوم القيامة ولم يصل عليهم) رواه أحمد.

ص: 32

القول الثاني: أنه يصلى عليه.

وهذا مذهب الحنفية.

أ- لحديث عقبة بن عامر (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحُد صلاته على الميت،

) رواه البخاري.

وفي رواية (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات

) رواه البخاري.

قال العيني رحمه الله: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَلَّى عَلَى أَهْل أُحُد بَعْد مُدَّة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّهِيد يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ مَاتَ حَتْف أَنْفه، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة وَأَوَّلَ الْخَبَر فِي تَرْك الصَّلَاة عَلَيْهِمْ يَوْم أُحُد عَلَى مَعْنَى اِشْتِغَاله عَنْهُمْ وَقِلَّة فَرَاغه لِذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا صَعْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَعُذِرُوا بِتَرْكِ الصَّلَاة عَلَيْهِم. (عمدة القارئ).

ب- وجاء (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة وكبر عليه تسعاً) رجاله ثقات وصححه الألباني.

قال أصحاب القول الأول عن حديث عقبة: أجاب الجمهور عن حديث عقبة بن عامر السابق بعدة أجوبة:

الأول: أن المقصود بصلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، أي: أنه دعا لهم.

الثاني: أن هذا خاص بشهداء أحد، بدليل أنه لم ينقل أنه صلى على غيرهم من الشهداء.

الثالث: أن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام.

قال ابن حجر رحمه الله: فَإِنَّ صَلَاته عَلَيْهِمْ تَحْتَمِل أُمُورًا أُخَر: مِنْهَا أَنْ تَكُون مِنْ خَصَائِصه، وَمِنْهَا أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الدُّعَاء كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ هِيَ وَاقِعَة عَيْن لَا عُمُوم فِيهَا، فَكَيْفَ يَنْتَهِض الِاحْتِجَاج بِهَا لِدَفْعِ حُكْم قَدْ تَقَرَّرَ؟. (الفتح).

وقال الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي: وَأَمَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الدُّعَاءُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا صَلَاةَ الْجِنَازَةِ الْمَعْهُودَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ دَعَا لَهُمْ بِدُعَاءِ صَلَاةِ الْمَيِّتِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ دَفْنِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَالْحَنَفِيَّةُ يَمْنَعُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا، وَالْقَائِلُونَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ يُقَيِّدُونَهُ بِمُدَّةٍ مَخْصُوصَةٍ لَعَلَّهَا فَائِتَةٌ هُنَا، وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةً لَمَا تَرَكَهَا فِي الْأَوَّلِ. (انتهى من " طرح التثريب).

قال النووي: وأما حديث عقبة فأجاب أصحابنا وغيرهم: بأن المراد من الصلاة هنا الدعاء (وقوله) صلاته على الميت أي دعا لهم كدعاء صلاة الميت، وهذا التأويل لابد منه، وليس المراد صلاة الجنازة المعروفة بالإجماع، لأنه صلى الله عليه وسلم بما فعله عند موته بعد دفنهم بثمان سنين ولو كان صلاة الجنازة المعروفة لما أخرها ثمان سنين.

واختار ابن القيم أن الإمام مخير إن شاء صلى وإن شاء ترك، فقال: وَالصَّوَاب فِي الْمَسْأَلَة: أَنَّهُ مُخَيَّر بَيْن الصَّلَاة عَلَيْهِمْ وَتَرْكهَا لِمَجِيءِ الْآثَار بِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا إِحْدَى الرِّوَايَات عَنْ الْإِمَام أَحْمَد، وَهِيَ الْأَلْيَق بِأُصُولِهِ وَمَذْهَبه.

•‌

‌ ما الحكمة من عدم الصلاة على الشهيد؟

قال الشيخ ابن عثيمين: (الشهيد) لا يصلي عليه أحدٌ من الناس لا الإمام ولا غير الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (لم يصلِّ على شهداء أحد)، ولأن الحكمة من الصلاة الشفاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يُشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) والشهيد يُكفر عنه كل شيء إلا الدَّيْن؛ لأن الدين لا يسقط بالشهادة بل يبقى في ذمة الميت في تركته إن خَلَّف تركة، وإلا فإنه إذا أخذه يريد أداءه أدى الله عنه.

ص: 33

546 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: - سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا تُغَالُوا فِي اَلْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلُبُ سَرِيعًا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف، لضعف عمرو بن هاشم، قال فيه البخاري: فيه نظر.

والحديث أيضاً منقطع به الشعبي وعلي بن أبي طالب حيث أن الشعبي لم يسمع من علي.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: النهي عن المغالاة في الكفن.

والمراد بالمغالاة: المبالغة في زيادة قيمة الكفن وتجاوز الحد فيه، واختياره من الثياب الفاخرة، والأقمشة الغالية.

عن حذيفة، قال: لا تغالوا في الكفن، اشتروا لي ثوبين نقيين.

وقال أبو بكر: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيهم. قالت عائشة: إن هذا خلق قال: إن الحي أولى بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة.

أن المغالاة في الكفن ليس تحسين الكفن، وقد سبق معنى تحسين الكفن في حديث سبق.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي عن المغالاة في الكفن؟

الحكمة: أنه يسلبه سريعاً، يعني أن الكفن يبلى، ولأن في ذلك إسرافاً وتبذيراً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن من لم يقدسه ويرفعه عمله لا يقدسه ولا يرفعه كفنه.

- العبرة عند الله بالإيمان والعمل الصالح لا التفاخر بالأكفان والأثواب.

ص: 34

547 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ لَهَا: لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ) اَلْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

548 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها (أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ.

===

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث عائشة جاء من طريق محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة: (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، قال: ما ضرك لو متّ قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك).

والحديث فيه محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث عند أبي يعلى.

وأيضاً قد تابع محمد بن إسحاق صالح بن كيسان كما عند أحمد والنسائي، فالحديث لا بأس به.

- وأما حديث أسماء، فقد قال الحافظ: وإسناده حسن، وقد احتج به أحمد وابن المنذر، وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما.

•‌

‌ هل يجوز للزوج أن يغسل زوجته إذا ماتت؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: الجواز.

وهذا مذهب جماهير العلماء. [نسبه إليهم الشوكاني].

قال ابن قدامة: الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْلَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاق.

أ- لحديث الباب (لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ).

ب- ما رواه الدارقطني عن أسماء بنت عميس قالت (غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال في المغني: إن علياً غسّل فاطمة، واشتهر ذلك فلم ينكر فكان إجماعاً.

قال الحافظ: رواه البيهقي من وجه آخر عن أسماء وإسناده حسن، ثم قال: وقد احتج بهذا الحديث أحمد وابن المنذر، وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما.

القول الثاني: أنه لا يجوز.

وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري.

أ- قالوا: لأن الموت فرقة تبيح أختها.

ب- أن الموت فرقة تبيح أختها وأربعاً سواها فحرم اللمس والنظر كالطلاق.

والراجح القول الأول.

ص: 35

•‌

‌ بما أجاب من منع عن أدلة من أجاز؟

أجاب عن الحنفية حديث (لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ):

أولاً: أنه محمول على الغسل تسبباً، فمعنى قوله (غسلتك) أي: قمت بأسباب غسلك كما يقال بني الأمير داراً.

ثانياً: أنه يحتمل أنه كان مخصوصاً بأنه لا ينقطع نكاحه بعد الموت.

وأجابوا عن أثر علي في تغسيله فاطمة: بأنه خاص بعلي، لأن فاطمة زوجته في الدنيا والآخرة فجاز له غسلها دون غيره.

وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لو بقيت الزوجية لما تزوج بنت أختها أمامة بنت زينب بعد موتها.

•‌

‌ ما حكم تغسيل الزوجة لزوجها بعد وفاته؟

جائز في قول عامة أهل العلم.

وقد نقل ابن المنذر الإجماع، أن الأمة أجمعت أن للمرأة غسل زوجها.

أ- لحديث عائشة (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) رواه أبو داود.

قال البيهقي: فتلهفت على ذلك، ولا يتلهف إلا على ما يجوز.

ب- وأوصى أبو بكر أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس.

فقد روى الإمام مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ (أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تُوُفِّيَ ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ فَقَالُوا لا).

قال صاحب المنتقى على شرح الموطَّأ في هذا الحديث: يدل على جواز غسل المرأة زوجها بعد وفاته، لأن هذا كان بحضرة جماعة من الصحابة

لا سيما أن أبا بكر أوصى بذلك ولم يعلم له مخالف من الصحابة فثبت أنه إجماع.

فائدة:

إذا توفيت الزوجة في أثناء عدة الطلاق، فإن كان الطلاق رجعياً جاز للزوج أن يغسلها، وكذا لو مات الزوج بعد أن طلقها طلاقاً رجعياً فلها أن تغسله؛ لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجات، فلها ما للزوجات وعليها ما على الزوجات.

قال ابن قدامة رحمه الله: "فإن طلق امرأته، ثم مات أحدهما في العدة، وكان الطلاق رجعياً، فحكمهما حكم الزوجين قبل الطلاق; لأنها زوجة تعتد للوفاة، وترثه ويرثها، ويباح له وطؤها. (المغني).

فإن كان الطلاق على عوض أو استكملت الطلقات الثلاث، لم يجز لأحدهما غسل الآخر؛ لانقطاع علائق الزوجية.

قال ابن قدامة رحمه الله: "وإن كان بائناً لم يجز؛ لأن اللمس والنظر محرم حال الحياة، فبعد الموت أولى. (المغني).

قال ابن عبد البر رحمه الله: وأجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها إن مات في عدتها.

وقال النووي رحمه الله: واتفقوا على أنه لا يُغسل البائن.

ص: 36

549 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ اَلَّتِي أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا فِي اَلزِّنَا- قَالَ (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنْ أبريدة. قَالَ (

فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزاً فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. قَالَ «إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي» . فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ. قَالَ «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ» . فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ «مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ).

وهذا الحديث رواه مسلم وفي إسناده بُشيْر بن المهاجر، وهو لين الحديث، وخرج له مسلم في المتابعات لا في الأصول، وقد خولف في هذا الخبر، فروي الخبر من طريق آخر من غير ذكر قصة الصلاة عليها، وهذا هو المحفوظ.

وفي الباب: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِىَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَي فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا فَقَالَ «أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا». فَفَعَلَ فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تُصَلِّى عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ فَقَالَ «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى) رواه مسلم.

•‌

‌ هل يصلى صلاة الجنازة على من أقيم الحد؟

نعم، يصلى عليه كغيره من المسلمين، لأنه مسلم.

•‌

‌ هل الإمام يصلي عليه أم لا؟

قد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يصلي عليه الإمام.

وهذا قول الجمهور، الشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي.

لحديث الباب (حديث عمران بن حصين).

القول الثاني: لا يصلى على المرجوم.

وهو قول مالك.

لما رواه أبو داود من أبي برزة الأسلمي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على ماعزاً ولم ينه عن الصلاة)

والراجح الأول.

ص: 37

قال النووي: وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَرْجُوم:

فَكَرِهَهَا مَالِك وَأَحْمَد لِلْإِمَامِ وَلِأَهْلِ الْفَضْل دُون بَاقِي النَّاس، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْر الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل.

وقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل وَغَيْرهمْ، وَالْخِلَاف بَيْن الشَّافِعِيّ وَمَالِك إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل، وَأَمَّا غَيْرهمْ فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، قَالُوا: فَيُصَلَّى عَلَى الْفُسَّاق وَالْمَقْتُولِينَ فِي الْحُدُود وَالْمُحَارَبَة وَغَيْرهمْ، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا يُصَلِّي أَحَد عَلَى الْمَرْجُوم وَقَاتِل نَفْسه، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصَلَّى عَلَى وَلَد الزِّنَا، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِهَذَا الْحَدِيث.

وَفِيهِ دَلَالَة لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل يُصَلُّونَ عَلَى الْمَرْجُوم كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرهمْ، وَأَجَابَ أَصْحَاب مَالِك عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُمْ ضَعَّفُوا رِوَايَة الصَّلَاة لِكَوْنِ أَكْثَر الرُّوَاة لَمْ يَذْكُرُوهَا.

وَالثَّانِي: تَأَوَّلُوهَا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالصَّلَاةِ أَوْ دَعَا فَسَمَّى صَلَاة عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي اللُّغَة.

وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ فَاسِدَانِ؛ أَمَّا الْأَوَّل فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيح، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة.

وَأَمَّا الثَّانِي فَهَذَا التَّأْوِيل مَرْدُود لِأَنَّ التَّأْوِيل إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ إِذَا اِضْطَرَبَتْ الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة إِلَى اِرْتِكَابه، وَلَيْسَ هُنَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِره. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية الرجم. [وسيأتي في كتاب الحدود إن شاء الله أدلته ومباحثه].

- وجوب إقامة الحدود.

- عدم كفر الزانية.

- الرد على الخوارج الذين يكفرون بكبائر الذنوب.

- أن التوبة تجب ما قبلها.

- فضل التوبة إلى الله.

- أن الإقرار يعتبر دليلاً لإقامة الحد.

- سعة رحمة الله.

ص: 38

550 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ (أُتِيَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

===

(بِمَشَاقِصَ) المشاقص سهام عراض.

(فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) وعند النسائي بلفظ (أما أنا فلا أصلي عليه).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن قاتل نفسه لا يصلي عليه الإمام.

لعصيانه بهذا الفعل.

وليكون ردعاً بغيره.

قيل: يحرم. وقيل: يكره.

ومثل الإمام من هو قدوة للناس، أو من أهل العلم، فإنهم لا يصلون عليه ردعاً لغيره.

قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي.

وقال الحسن، والنخعى، وقتادة، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه.

وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه ديْن زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم.

•‌

‌ ما رأيك بقول القرطبي (لعل هذا القاتل لنفسه كان مستحلاً لقتل نفسه، فمات كافراً فلم يصل عليه لذلك)؟

هذا قول مردود، لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية النسائي (أما أنا فلا أصلي عليه) والتقدير: وأما أنتم فصلوا عليه، لأن (أما) للتفصيل، فيكون المراد تفصيل حال المصلين عليه بين من لا يصلي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وبين من يصلي، وهم الصحابة، فدل على أنه مسلم ليس بكافر، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه مع كونه مسلماً، زجراً لغيره لئلا يتجاسروا بقتل أنفسهم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن فاعل الكبيرة غير كافر.

- الرد على الخوارج الذين يكفرون بكبائر الذنوب.

ص: 39

551 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ اَلْمَرْأَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ اَلْمَسْجِدَ- قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهَا اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ:(أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي" فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا"، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَزَادَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ قَالَ (إِنَّ هَذِهِ اَلْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اَللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ).

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ - أَوْ شَابًّا - فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا مَاتَ. قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، قَالَ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ». فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ (إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِم).

(أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ) وجاء عند البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها: (أم محجن) وجاء في رواية (أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء) والراجح أنها امرأة سوداء، لرواية البخاري:(أن امرأة أو رجلاً كانت تقم المسجد، ولا أُرَاه إلا امرأة) فقد ترجح عند الراوي أنه امرأة.

(تَقُمُّ الْمَسْجِدَ) جاء عند ابن خزيمة (كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد).

(أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي) أي: أعلمتموني بموتها حتى أصلي عليه.

(فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا) جاء عند ابن خزيمة (قالوا: مات من الليل، فكرهنا أن نوقظك).

(فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ) عند البخاري (أو قال: قبرها).

(فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا) وللبخاري (فأتى قبرها فصلي عليها).

•‌

‌ ما حكم الصلاة على الميت بعد دفنه (أي على القبر)؟

استدل بالحديث من قال بجواز الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لورود ذلك في أحاديث، منها:

- تعظيم خطر قتل النفس.

- عدم كفر قاتل نفسه.

أ- حديث الباب.

ب-وعن ابن عباس (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعاً) متفق عليه.

ج- وعَنْ أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ) رواه مسلم.

د- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلا، فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَفَلا آذَنْتُمُونِي!؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ) رواه البخاري.

هـ- وعن يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه: (أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى قَبْرًا جَدِيدًا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذِهِ فُلانَةُ، مَوْلاةُ بَنِي فُلَانٍ، فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَاتَتْ ظُهْرًا وَأَنْتَ نَائِمٌ قَائِلٌ (أي: في القيلولة) فَلَمْ نُحِبَّ أَنْ نُوقِظَكَ بِهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: لا يَمُوتُ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلا آذَنْتُمُونِي بِهِ؛ فَإِنَّ صَلاتِي لَهُ رَحْمَةٌ) رواه النسائي وحسنه ابن عبد البر في التمهيد، وصححه الألباني في صحيح النسائي.

د-عن سعيد بن المسيب (أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر) رواه الترمذي وهو مرسل.

وقد روى ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 239) مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين ممن صلوا على القبور بعد الدفن: منهم عائشة رضي الله عنها حين صلت على قبر أخيها عبد الرحمن، وابن عمر صلى على قبر أخيه عاصم، وسليمان بن ربيعة وابن سيرين وغيرهم. وكذلك ذكره ابن حزم في "المحلى"(3/ 366) عن أنس وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم جميعا.

قال الإمام أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان.

ص: 40

•‌

‌ اذكر خلاف العلماء في المدة التي إليها يصلى على القبر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: يصلى عليها على شهر، ولا يصلى عليها بعد شهر.

وهذا مذهب الحنابلة.

قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر.

أ-واستدلوا بمرسل سعيد بن المسيب السابق.

قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر.

ب-قالوا: ولأن الشهر مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، فجاز الصلاة عليه فيها.

القول الثاني: أنه يصلى على الميت في القبر ما لم يبل جسده ويتحقق تمزقه وذهابه.

ودليل هؤلاء: القياس على ما لو كان الميت خارج القبر على وجه الأرض.

القول الثالث: أن يصلى على الميت في القبر إلى ثلاثة أيام.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

واستدل هؤلاء بأن الصحابة كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أيام.

القول الرابع: أن الصلاة على القبر تكون لكل من كان من أهل فرض الصلاة على الميت عند موته.

وهذا هو الأرجح عند جمهور الشافعية.

القول الخامس: أن الصلاة على القبر جائزة أبداً.

وهذا وجه عند الشافعية، وإليه ذهب ابن عقيل من الحنابلة والظاهرية.

واستدل هؤلاء بحديث عقبة بن عامر قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحُد بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات

) متفق عليه.

وبوب أبو داود على هذا الحديث فقال: باب الميت يصلى على قبره بعد حين.

قال ابن القيم: وتبويب أبي داود، وذكره هذا الحديث يدل على أن ذلك لا يتقيد عنده بوقت لا شهر ولا غيره .....

وهذا هو الصحيح، فالصلاة على القبر ليس لها مدة معينة أو حد معين لا تصح الصلاة بعده، وذلك لأنه لا يصح في الدلالة على التحديد شيء من النصوص.

قال ابن حزم: أما أمر تحديد الصلاة بشهر أو ثلاثة أيام فخطأ لا يشكل، لأنه تحديد بلا دليل. (انتهى).

لكن القبور القديمة التي لها سنين عديدة لا يُصلى عليها، وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على ذلك، بل إن ما قدم عهده من القبور تكره الصلاة عليه، لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم صلوا على القبر إلا بحدثان ذلك.

ص: 41

* قال الشيخ ابن عثيمين: والصحيح أنه نصلي على القبر ولو بعد شهر، إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن، قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلا للصلاة.

مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة، فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.

مثال آخر: رجل مات قبل ثلاثين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله عشرون سنة ليصلي عليه، فلا يصح؛ لأن المصلي كان معدوما عندما مات الرجل، فليس من أهل الصلاة عليه.

ومن ثَمَّ لا يشرع لنا نحن أن نصلي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما علمنا أن أحداً من الناس قال: إنه يشرع أن يصلي الإنسان على قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو على قبور الصحابة، لكن يقف ويدعو.

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة الأقوال الأخرى؟

أما دليل من حدد ذلك بشهر:

فالجواب: بأن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته على أم سعد بعد شهر إنما وقع اتفاقاً من غير قصد التحديد.

قال ابن القيم: وَصَلَاته عَلَى أُمّ سَعْد بَعْد شَهْر لَا يَنْفِي الصَّلَاة بَعْد أَزْيَد مِنْهُ، وَكَوْن الْمَيِّت فِي الْغَالِب لَا يَبْقَى أَكْثَر مِنْ شَهْر لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَرْض، وَالْعِظَام تَبْقَى مُدَّة طَوِيلَة، وَلَا تَأْثِير لِتَمَزُّقِ اللُّحُوم.

وأما الجواب عن دليل من حدد ما لم يبلى جسده ويتحقق تمزقه.

فالجواب: بأن التحديد ببلى الميت لا يصح، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلى ولا يصلى على قبره.

ولأن بلى الميت يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهو أمر لا يعلم ولا ينضبط، فلا بد أن يكون التقدير على أمر معلوم لا مجهول.

وأما الجواب على من حدد ذلك بثلاثة أيام، وأن الصحابة كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أيام.

فيقال: إن هذا الأثر لا يعلم صحته.

وأيضاً قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على القبر بعد شهر، وهذا يرد دعواهم.

وأما ما استدل به أصحاب القول الأخير من صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد بعد ثماني سنوات، فالجواب:

أن هذه الصلاة ليست هي الصلاة على الميت، ولو كانت هي الصلاة على الميت لم يؤخرها النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هذا لا يصح، بل هذه الصلاة كالتوديع للأموات، وقد رجح هذا ابن القيم.

قال النووي: إن هذه الصلاة لا يصح أن تكون صلاة الجنازة بالإجماع.

ص: 42

•‌

‌ ما حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة؟

ذهب جمهور العلماء إلى جواز الصلاة على الجنازة في المقبرة.

فهو قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والظاهرية.

أ- فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

للأحاديث السابقة كحديث أبي هريرة (حديث الباب) وحديث ابن عباس وحديث أنس، فإن فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى على الميت في قبره وهو في المقبرة، وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص للنهي عن الصلاة في المقبرة.

قال ابن حزم - بعد أن ساق الآثار في النهي عن الصلاة في المقبرة وصلاته صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء - قال: وكل هذه الآثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا، إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة.

ب- فعل السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

فقد روى نافع قال (لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع بين القبور،

وحضر ذلك ابن عمر) أخرجه عبد الرزاق.

وقال ابن المنذر: وكان عمر بن عبد العزيز يفعل ذلك.

وذهب الشافعية إلى كراهة ذلك استدلالاً بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في المقبرة.

والراجح الأول.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- النهي عن احتقار المسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم). رواه مسلم

- استحباب كنس المساجد وتنظيفها، لأنها بيوت الله.

- تفقد الإمام رعيته.

- استحباب السؤال عن الخادم، لأن ذلك يدخل السرور عليه وعلى أهله.

- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.

- أن العبرة بالإسلام هو بالإيمان والعمل الصالح لا بالأحساب والأنساب.

- أن الدعاء ينفع الأموات في الصلاة وخارجها.

- إثبات ظلمة القبر وتنويرها.

- جواز إخبار أقرباء وأصدقاء الميت بوفاته.

- الصلاة على الميت بعد ما دفن يكون لسبب، ولا يكون دائماً ولكل أحد.

- جاء في حديث ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى قبر فصلى عليه وصفوا خلفه

).

- فيؤخذ من هذا على جواز الصلاة على القبر ممن صلى عليها في المسجد.

- أن من يصلي على القبر، يجعل القبر بينه وبين القبلة.

- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

ص: 43

552 -

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنِ اَلنَّعْيِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث في إسناده حبيب بن سليم، وثقه ابن حبان، والحديث حسنه الحافظ ابن حجر، فالحديث لا بأس به.

- الحديث له قصة: عن حذيفة قال (إذا مت فلا تؤذنوا بي إني أخاف أن يكون نعياً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي).

•‌

‌ عرف النعي؟

النعي: هو الإخبار بموت الميت.

قال الترمذي في جامعه ص (239): والنعي عندهم أن ينادى في الناس أن فلاناً مات ليشهدوا جنازته.

وقال ابن الأثير في النهاية (5/ 85): نعى الميت إذا أذاع موته، وأخبر به، وإذا ندبه.

وقال القليوبي في حاشيته (1/ 345): وهو النداء بموت الشخص، وذكر مآثره ومفاخره.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: تحريم النعي، وهو الإخبار بموت الميت.

لكن النعي المنهي عنه في الحديث: هو النعي الجاهلي من الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر والتباهي، مثل الصياح على أبواب البيوت والأسواق.

لأن النعي ينقسم إلى قسمين:

الأول: نعي محرم.

ودليله: حديث الباب.

هو النعي الجاهلي من الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر والتباهي، مثل الصياح على أبواب البيوت والأسواق.

قال السندي في (حاشية ابن ماجه) كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُشْهِرُونَ الْمَوْت بِهَيْئَةِ كَرِيهَة، فَالنَّهْي مَحْمُول عَلَيْهِ، وَخَافَ حُذَيْفَة أَنْ يَكُون الْمُرَاد إِطْلاق النَّهْي، فَمَا سمِحَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ بَاب الْوَرَع، وَإِلا فَخَبَر الْمَوْت سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ كَتَكْثِيرِ الْجَمَاعَة جَائِز

وقال الحافظ في الفتح: النَّعْي لَيْسَ مَمْنُوعًا كُلّه، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَمَّا كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَصْنَعُونَهُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ مَنْ يُعْلِن بِخَبَرِ مَوْت الْمَيِّت عَلَى أَبْوَاب الدُّور وَالأَسْوَاق.

وفي (تحفة الأحوذي) الظَّاهِرُ أَنَّ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَرَادَ بِالنَّعْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَى مُطْلَقِ النَّعْيِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّعْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّعْيُ الْمَعْرُوفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الأَصْمَعِيُّ: كَانَتْ الْعَرَبُ إِذَا مَاتَ فِيهَا مَيِّتٌ لَهُ قَدْرٌ رَكِبَ رَاكِبٌ فَرَسًا وَجَعَلَ يَسِيرُ فِي النَّاسِ وَيَقُولُ: نَعَاءِ فُلانٍ أَيْ أَنْعِيهِ وَأُظْهِرُ خَبَرَ وَفَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ، وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِمَوْتِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ قُتِلُوا بِمُؤْتَةَ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ أُخْبِرَ بِمَوْتِ السَّوْدَاءِ أَوْ الشَّابِّ الَّذِي كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ: أَلا آذَنْتُمُونِي. فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الإِعْلامِ بِالْمَوْتِ لا يَكُونُ نَعْيًا مُحَرَّمًا وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اِسْمُ النَّعْيِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّعْيِ فِي قَوْلِهِ:(يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ) النَّعْيُ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الأَحَادِيثِ.

ص: 44

الثاني: نعي جائز.

وهو الإخبار بموت الميت لحضور جنازته فهذا جائز، ويدل عليه:

أ- حديث أبي هريرة الآتي (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا).

ب- ولحديث أنس (فإن النبي صلى الله عليه وسلم نعى الأمراء الثلاثة الذين استشهدوا وقال: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب) متفق عليه.

قال النووي: وفيه [أي حديث النجاشي] اِسْتِحْبَاب الإِعْلام بِالْمَيِّتِ لا عَلَى صُورَة نَعْي الْجَاهِلِيَّة، بَلْ مُجَرَّد إِعْلَام للصَّلَاة عَلَيْهِ وَتَشْيِيعه وَقَضَاء حَقّه فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي جَاءَ مِنْ النَّهْي عَنْ النَّعْي لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ هَذَا، وَإِنَّمَا الْمُرَاد نَعْي الْجَاهِلِيَّة الْمُشْتَمِل عَلَى ذِكْر الْمَفَاخِر وَغَيْرهَا.

وقال في المجموع: والصحيح الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها وغيرها، أن الإعلام بموته لمن لم يعلم ليس بمكروه، بل إن قصد به الإخبار لكثرة المصلين فهو مستحب، وإنما يكره ذكر المآثر، والمفاخر، والتطواف بين الناس يذكره بهذه الأشياء، وهذا نعي الجاهلية المنهي عنه، فقد صحت الأحاديث بالإعلام فلا يجوز الغاؤها، وبهذا الجواب أجاب بعض أئمة الفقه والحديث المحققين والله أعلم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- النهي عن تقليد الجاهلية.

قال تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).

وقال تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

وقال تعالى (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة).

وقال صلى الله عليه وسلم (

إنك امرؤ فيك جاهلية) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونَهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله أذهب عنكم عُبيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنوا آدم وآدم خلق من تراب، ليدعنّ رجال فخرهم بأقوامهم، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان). رواه أبو داود

وقال صلى الله عليه وسلم (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) متفق عليه.

ص: 45

553 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى) النعي هو الإخبار بموت الميت.

(اَلنَّجَاشِيَّ) هو أصحمه ملك الحبشة كان عبداً صالحاً.

(وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى) أي: المكان الذي كان يصلي فيه على الجنازة.

•‌

‌ متى مات النجاشي؟

في رجب سنة تسع من الهجرة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ)؟

جواز نعي الميت.

والنعي ينقسم إلى قسمين، وقد تقدم ذلك.

•‌

‌ ما حكم الصلاة على الميت الغائب؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها مشروعة مطلقاً.

وهذا مذهب الشافعي، وأحمد.

قال النووي رحمه الله في (المجموع) مذهبنا جواز الصلاة على الغائب عن البلد، ومنعها أبو حنيفة. دليلنا حديث النجاشي وهو صحيح لا مطعن فيه وليس لهم عنه جواب صحيح. (انتهى).

لحديث الباب.

قالوا: إن في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب دليلاً على مشروعية الصلاة على الغائب.

القول الثاني: لا تشرع مطلقاً.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية.

أ-قالوا: إنه توفي خلق كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعز الناس عليه وهم غائبون في الأسفار، كما توفي في الحبشة، ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على أحد منهم.

ب- أنه لم ينقل عن الصحابة في الأمصار أنهم صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، كما توفي الخلفاء الراشدون من بعده، ولم ينقل عن المسلمين في الأمصار أنهم صلوا عليهم صلاة الغائب، وهذا دليل على عدم مشروعية الصلاة على الغائب.

وأجابوا عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي:

أولاً: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد.

ثانياً: قالوا: إنه كشف له صلى الله عليه وسلم حتى رآه، فيكون حكمه حكم الحاضرين بين يدي الإمام الذي لا يراه المؤمنون.

قال ابن دقيق: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال.

وقال النووي: وجوابه أنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله.

- حرص الصحابة عن الابتعاد عن كل ما نهى عنه الشرع، فهذا حذيفة قبل موته ينهى عن فعل أمور محرمة بعد موته.

ص: 46

ثالثاً: أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثالث: إذا كان الغائب لم يصل عليه مثل النجاشي صلي عليه، وإن كان صلي عليه فقد سقط فرض الكفاية.

جمعاً بين الأدلة.

وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه ابن القيم وقال: لم يكن من هدي النبي وسنته الصلاة على كل ميت غائب فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيّب فلم يصل عليهم وصح عنه أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت.

وقال الخطابي: لا يُصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه.

وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال: باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر.

وهذا القول هو الصحيح.

فائدة: قال بعض العلماء: تشرع الصلاة على الغائب إذا كان له نفع للمسلمين، كعالم أو مجاهد أو غني نفع الناس بماله ونحو ذلك، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختارها الشيخ السعدي وبه أفتت اللجنة الدائمة.

• ما كيفية الصلاة على الميت الغائب؟

كيفية الصلاة على الميت الغائب كطريقة الصلاة على الميت الحاضر.

•‌

‌ ما الأفضل أن يصلى على الجنازة؟

أن الأفضل في الصلاة على الجنازة أن تكون في مصلى الجنائز كما كان الأمر على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

أ-ففي حديث الباب (

وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى).

ب-وفي حديث ابن عمر (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد) متفق عليه.

•‌

‌ لكن ما حكم لو صلى على الجنازة في المسجد؟

قيل: يكره.

وهذا مذهب المالكية، والحنفية.

لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) من صلى على الميت في المسجد فلا شيء له). رواه أبو داود

وقيل: يجوز.

لحديث عائشة قالت (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد) رواه مسلم.

وسيأتي مزيد بحث في حديث قادم إن شاء الله.

ص: 47

•‌

‌ ما عدد تكبيرات الجنائز؟

عدد تكبيرات الجنائز أربع تكبيرات، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.

قال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع.

قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع.

واستدلوا:

أ-لحديث الباب (

وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب-وعن أبي وائل قال: (كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات) رواه البيهقي وحسنه الحافظ.

ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات:

أولاً: أنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى منهم الخمس.

ثانياً: أنها في الصحيحين.

ثالثاً: أنه أجمع على العمل بها الصحابة.

رابعاً: أنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس بلفظ: (آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربع) لكنه ضعيف لا يصح كما قال البيهقي، والحافظ ابن حجر.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا بأس بالزيادة على ذلك.

لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمساً كما في حديث زيد بن أرقم. فعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَصْلُهُ فِي "اَلْبُخَارِيِّ" وهذا القول هو الصحيح وخاصة إذا كان من أهل العلم والفضل، أو من كان له أثر كبير في الأمة، فلا مانع أن يكبر عليه خمساً أو ستاً.

•‌

‌ هل يستحب أن تكون صلاة الجنازة صفوفاً؟

نعم.

فقد جاء في حديث جابر عند البخاري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث).

وفي رواية (قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهَلُّمَ فصلوا عليه، قال: فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ونحن صفوف).

قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تأثيراً ولو كان الجمع كثيراً، لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم كانوا عددا كثيراً، وكان المصلى فضاء ولا يضيق بهم لو صفوا فيه صفا واحداً، ومع ذلك فقد صفهم، وهذا هو الذي فهمه مالك بن هبيرة الصحابي المقدم ذكره فكان يصف من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلّوا أو كثروا.

ص: 48

•‌

‌ هل تصح صلاة الجنازة بغير طهارة؟

الصحيح - وهو قول أكثر العلماء - أن صلاة الجنازة لا تصح إلا بطهارة.

لقوله (

فصلوا عليه).

قال النووي: وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وسجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة إلا ما حكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري من قولهما تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة وهذا مذهب باطل وأجمع العلماء على خلافه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

أ-وجوب الصلاة على الميت، وحكمها فرض كفاية.

لحديث الباب، ولحديث زيد بن خالد (

صلوا على صاحبكم).

ب-فضيلة النجاشي واسمه أصحمة، وكان عبداً صالحاً، وقد مات على الإسلام، ويؤيد ذلك أن جاء النص الصريح عنه بتصديق نبوته صلى الله عليه وسلم.

قال أبو موسى (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق إلى أرض الحبشة

وذكر القصة: ومنها: قال النجاشي: أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه) رواه أبو داود.

ج-ثبوت آية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أنه كشف عن موت النجاشي في نفس اليوم.

ص: 49

554 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمْ اَللَّهُ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(مَا مِنْ رَجُلٍ) خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأة مثله.

(لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا) شيئاً: نكرة في سياق النفي، فيشمل الشرك الأكبر والأصغر.

(إِلَّا شَفَّعَهُمْ اَللَّهُ فِيهِ) أي: قبل شفاعتهم.

•‌

‌ ما حكم تكثير المصلين على الميت.

مستحب، فكلما كثر الجمع كان أفضل وأنفع.

أ- لحديث الباب.

ب-وعن عائشة. قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه) رواه مسلم.

•‌

‌ ما الجمع بين حديث ابن عباس (فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا) وحديث عائشة (يبلغون مائة)؟

قال القرطبي: قيل: سبب هذا الاختلاف: اختلاف السؤال، وذلك أنه سئل مرَّة أخرى عمَّن صلّى عليه مائةٌ واستشفعوا له، فقال (شفعوا) وسئل مرَّة أخرى عمَّن صلّى عليه أربعون، فأجاب بذلك. ولو سئل عن أقلَّ من ذلك، لقال ذلك، والله أعلم؛ إذ قد يستجاب دعاء الواحد، ويقبل استشفاعه. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَنْ صلّى عليه ثلاثة صفوف شُفِّعوا فيه)، ولعلهم يكونون أقلَّ من أربعين.

وقال النووي: ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة، فأخبر به ثم بقبول شفاعة أربعين ثم ثلاث صفوف وإن قل عددهم فأخبر به، ويحتمل أيضاً أن يقال هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين، فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك، وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذ كل الأحاديث معمول بها ويحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين.

•‌

‌ ما شرط هذه الشفاعة للميت؟

يشترط عدم الشرك بالله، سواء الشرك الأكبر أو الأصغر.

فالمشرك الأكبر لا تصح صلاته.

والمشرك الأصغر لا تقبل شفاعته.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- فضل التوحيد بالله.

- التحذير من الشرك.

- أنه لو صلى على الميت أمة أكثر من الأربعين لكنهم فيهم شرك لم يحصل هذا الفضل الوارد في الحديث.

- لا ينفع كثرة المصلين ما لم يكونوا متقين.

- أن قلة المصلين مع التقوى والخشية وعدم الشرك أفضل.

- إثبات الشفاعة للمؤمنين.

ص: 50

555 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّيْتُ وَرَاءَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسْطَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(عَلَى امْرَأَةٍ) جاء في رواية مسلم (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى على أُم كعْبٍ)

(مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا) أي بسبب النفاس.

(وَسْطَهَا) أي: قام محاذياً لوسطها.

•‌

‌ ما السنة في وقوف الإمام من الميت؟

أن السنة إذا كان الميت امرأة أن يقف الإمام وسطها.

لحديث الباب فهو نص.

وأما الرجل فإنه يقف الإمام عند رأسه.

لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن نافع أبي غالب الخياط قال (شَهِدْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمَّا رُفِعَ أُتِيَ بِجِنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَذِهِ جِنَازَةُ فُلَانَةَ ابْنَةِ فُلَانٍ، فَصَلِّ عَلَيْهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا فَقَامَ وَسَطَهَا، وَفِينَا الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَدَوِيُّ، فَلَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ قِيَامِهِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ حَيْثُ قُمْتَ، وَمِنْ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قُمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا الْعَلَاءُ فَقَالَ: احْفَظُوا).

وهناك أقوال أخرى لكنها ضعيفة:

فقيل: يقف على وسط المرأة ووسط الرجل.

استدلوا بحديث سمرة وقالوا: إنه نص في المرأة، ويقاس عليها الرجل.

قال الشوكاني: ولم يصب من استدل بحديث سمرة على أنه يقام حذاء وسط الرجل والمرأة وقال: إنه نص في المرأة ويقاس عليها الرجل، لأن هذا قياس مصادم للنص، وهو فاسد الاعتبار.

وقيل: يقف حذاء صدرهما. وقيل: حذاء الرأس منهما، هذا قول المالكية.

وكل هذه الأقوال ضعيفة لا دليل عليها

والحق ما سبق: أن يقوم عند وسط المرأة، وعلى رأس الرجل.

قال النووي رحمه الله: السنة أن يقف الإمام عند عجيزة المرأة بلا خلاف للحديث; ولأنه أبلغ في صيانتها عن الباقين وفي الرجل وجهان: الصحيح: باتفاق المصنفين، وقطع به كثيرون وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين أنه يقف، عند رأسه، والثاني: قاله أبو علي الطبري عند صدره

، والصواب ما قدمته عن الجمهور، وهو عند رأسه ونقله القاضي حسين عن الأصحاب. (المجموع)

وقال الشوكاني: وإلى ما يقتضيه هذان الحديثان ـ حديث سمرة، وأنس رضي الله عنهما من القيام عند رأس الرجل ووسط المرأة ذهب الشافعي وهو الحق. (نيل الأوطار).

ص: 51

•‌

‌ ما الحكم إذا اجتمعت جنائز عديدة من الرجال والنساء؟

إن كانوا نوعاً [كلهم رجال] قدم إلى الإمام أفضلهم.

وإن كانوا رجالاً ونساء قدم الرجال على النساء.

وهذا قول أكثر العلماء.

فيجعل الرجال مما يلي الإمام ولو كانوا صغاراً.

(ويجوز أن يصلي على كل واحدة من الجنائز صلاة لأنه الأصل).

•‌

‌ كيف يوضعون للصلاة عليهم إذا كانوا رجالاً ونساءً؟

يضعون رأس الرجل بحذاء وسط المرأة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- علل بعض العلماء حكمة وقوف الإمام وسط المرأة بأنه أستر لها من الناس [وفيه نظر].

- أن النفساء وإن حازت الشهادة كونها في نفاسها فيصلى عليها فلا تأخذ حكم شهيد المعركة، فسائر من يطلق عليهم اسم الشهيد كالمبطون، والنفساء وغيرهم فيغسلون إجماعاً ويصلى عليهم.

ص: 52

556 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اِبْنَيْ بَيْضَاءَ فِي اَلْمَسْجِدِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(ابني البيضاء) قال النووي: قال العلماء: بنو البيضاء ثلاثة إخوة: سهل وسهيل وصفوان، وأمهم البيضاء، واسمها: دعد، والبيضاء وصف.

•‌

‌ اذكر سبب قول عائشة هذا؟

عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوُفِّىَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَتِ ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّىَ عَلَيْهِ. فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ في الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيه).

•‌

‌ ما حكم الصلاة على الجنازة في المسجد؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: الجواز.

وبه قال الشافعي، وأحمد.

قال ابن قدامة: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُخَفْ تَلْوِيثُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد.

وقال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ فِي جَوَاز الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق

وقال الشوكاني: وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور.

أ- لحديث الباب.

ب- ورد (أنه صلي على أبي بكر في المسجد) رواه سعيد بن منصور.

ج- (وصلي على عمر في المسجد) رواه مالك.

القول الثاني: المنع من ذلك.

وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك.

قال النووي: قَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك عَلَى الْمَشْهُور عَنْهُ: لَا تَصِحّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) رواه أبو داود.

وأجابوا عن حديث الباب: بأن حديث الباب محمول على أن الصلاة على ابني بيضاء وهما كانا خارج المسجد، والمصلون داخله وذلك جائز.

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن حديث (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له)؟

أجابوا عَنْه بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدهَا: أَنَّهُ ضَعِيف لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ، قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: هَذَا حَدِيث ضَعِيف تَفَرَّدَ بِهِ صَالِح مَوْلَى التَّوْأَمَة، وَهُوَ ضَعِيف.

وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي فِي النُّسَخ الْمَشْهُورَة الْمُحَقَّقَة الْمَسْمُوعَة مِنْ سُنَن أَبِي دَاوُدَ " وَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ " وَلَا حُجَّة لَهُمْ حِينَئِذٍ فِيهِ.

الثَّالِث: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيث وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: " فَلَا شَيْء له" لَوَجَبَ تَأْوِيله عَلَى " فَلَا شَيْء عَلَيْهِ " لِيَجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث وَحَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء، وَقَدْ جَاءَ (لَهُ) بِمَعْنَى (عَلَيْهِ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.

ص: 53

الرَّابِع: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى نَقْص الْأَجْر فِي حَقّ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِد وَرَجَعَ وَلَمْ يُشَيِّعهَا إِلَى الْمَقْبَرَة لِمَا فَاتَهُ مِنْ تَشْيِيعه إِلَى الْمَقْبَرَة وَحُضُور دَفْنه. وَاللَّهُ أَعْلَم .... (شرح مسلم للنووي).

وقال الخطابي: صالح مولى التوأمة ضعفوه وكان قد نسي حديثه في آخر عمره، وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلي عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، ففي تركهم إنكاره دليل على جوازه. (انتهى)

وكان ممن ضعفه من العلماء: الإمام أحمد - كما في مسائل ابنه عبد الله، وابن المنذر في (الأوسط)، والخطابي في (معالم السنن)، والبيهقي كما في (سننه)، وابن حزم في (المحلى)، وابن الجوزي في (العلل المتناهية).

•‌

‌ ماذا نستفيد من إنكار الصحابة على عائشة؟

نستفيد: أن هذا الفعل (وهو الصلاة على الجنازة في المسجد) لم يكن معروفاً على الدوام، ولو كان معروفاً ما أنكر الصحابة على عائشة.

ولذلك قال ابن القيم: ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، وربما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد، ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته.

•‌

‌ ماذا نستفيد من فعل عائشة وطلبها الصلاة على جنازة سعد؟

نستفيد: جواز صلاة النساء على الجنازة في المسجد مع الرجال أو منفردات.

فالأصل في العبادات التي شرعها الله في كتابه أو بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته أنها عامة للذكور والإناث، حتى يدل دليل على التخصيص بالذكور أو الإناث، وصلاة الجنازة من العبادات التي شرعها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعم الخطاب الرجال والنساء، إلا أن الغالب أن الذي يباشر ذلك الرجال لكثرة ملازمة النساء لبيوتهن، ولذلك إذا صادف أنه لم يحضر الجنازة إلا نساء صلين عليها، وقمن بالواجب نحوها.

وقد ثبت أن عائشة رضي الله عنها أمرت أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه، ولم نعلم أن أحداً من الصحابة أنكر عليها، فدل ذلك على أن المرأة تشارك الرجال في الصلاة على الجنازة.

وتكون صفوفهن خلف صفوف الرجال، وثبت أيضا أنهن صلين على النبي صلى الله عليه وسلم كما صلى عليه الرجال، لكنهن لا يشيعن الجنائز للدفن لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: الصلاة على الجنازة مشروعة للرجال والنساء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيرا، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل يا رسول الله، وما القيراطان؟ قال: (مثل الجبلين العظيمين) يعني من الأجر، متفق على صحته، لكن ليس للنساء اتباع الجنائز إلى المقبرة، لأنهن منهيات عن ذلك، لما ثبت في الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) رواه مسلم، أما الصلاة على الميت فلم تنه عنها المرأة سواء كانت الصلاة عليه في المسجد أو في البيت أو في المصلى، وكان النساء يصلين على الجنائز في مسجده صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده.

ص: 54

557 -

وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ (كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ.

558 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.

وَأَصْلُهُ فِي "اَلْبُخَارِيِّ.

===

(وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) الأنصاري المدني مات: 68 هـ.

(عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا) أي: أربع تكبيرات.

(وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا) أي: خمس تكبيرات.

(وَأَصْلُهُ فِي "اَلْبُخَارِيِّ) لفظه عند البخاري (إن علياً كبر على سهل بن حنَيْف فقال: إنه شهد بدراً) وليس في البخاري: عدد التكبيرات.

•‌

‌ كم عدد التكبيرات على الجنائز؟

قد وردت عدة صيغ:

فورد أربع تكبيرات، وهذا أكثر ما ورد.

كما في حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي

وكبر عليه أربع تكبيرات).

وغيرها من الأحاديث.

(وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر خمساً) كما في الحديث المذكور في الباب (حديث زيد بن أرقم).

(وثبت عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً) كما في الأثر المذكور في الباب، وصححه ابن حزم في المحلى.

عن عبد خير قال (كان علي رضي الله عنه يكبر على أهل بدر ستاً، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، وعلى سائر المسلمين أربعاً) رواه الدارقطني والبيهقي.

فاختلف العلماء في ذلك:

فالقول الأول: أنه لا يزاد على أربع تكبيرات.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع.

قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع.

وقال النووي: وهذا الحديث [يعني حديث زيد بن أرقم] عند العلماء منسوخ دل الإجماع على نسخه، وقد سبق أن بن عبد البر وغيره نقلوا الإجماع على أنه لا يكبر اليوم إلا أربعاً، وهذا دليل على أنهم أجمعوا بعد زيد بن أرقم.

ص: 55

واستدلوا:

عن أبي وائل قال (كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات). رواه البيهقي وحسنه الحافظ ابن حجر.

ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات:

أولاً: أنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى منهم الخمس.

ثانياً: أنها في الصحيحين.

ثالثاً: أنه أجمع على العمل بها الصحابة.

رابعاً: أنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كما أخرج من حديث ابن عباس بلفظ: (آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربع) لكنه ضعيف لا يصح كما قال البيهقي والحافظ ابن حجر.

القول الثاني: أنه لا بأس بالزيادة على ذلك.

لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمساً كما في حديث زيد بن أرقم.

وثبت عن علي أنه كان يكبر أكثر من أربع.

وهذا القول هو الصحيح، وخاصة إذا كان من أهل العلم والفضل، أو من كان له أثر كبير في الأمة، فلا مانع أن يكبر عليه خمساً أو ستاً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن السنة إذا وردت على وجوه متنوعة، فإنه يعمل بها كلها.

- أن الأكثر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو التكبيرات أربعاً.

- الحرص على العلم.

- السؤال عما يشكل.

- أن ما خرج عن الأصل، فإنه محل للسؤال.

ص: 56

559 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ فِي اَلتَّكْبِيرَةِ اَلْأُولَى) رَوَاهُ اَلشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

560 -

وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: (صَلَّيْتُ خَلَفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكْتِابِ فَقَالَ: "لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(فاتحة الكتاب) أي سورة الحمد لله رب العالمين.

•‌

‌ ما صحة حديث جابر؟

حديث ضعيف، كما قال المؤلف رحمه الله.

•‌

‌ ما المراد بالسنة في قول الصحابي (لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة)؟

أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة، وليس مراده السنة المرادفة للمستحب.

•‌

‌ ما حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: عدم مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

وهذا قول الحنفية، والمالكية.

أ-لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود.

قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخلاص الدعاء للميت ولم يذكر قراءة الفاتحة، ولو كانت القراءة واجب لذكره.

ب-ما روي عن ابن مسعود أنه قال (لم يوقّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الميت قراءة ولا قولاً) رواه الطبراني.

القول الثاني: وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وأنها ركن.

وهذا قول الشافعية، والحنابلة.

أ- لعموم حديث عبادة (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق عليه.

ب-وحديث أبي هريرة مرفوعاً (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج غير تمام) رواه مسلم.

وصلاة الجنازة صلاة شرعية لقوله (صلوا على صاحبكم)، وإذا كانت صلاة فتدخل في عموم الأدلة القاضية بوجوب قراءة الفاتحة في كل صلاة.

ج- ولحديث الباب في قول ابن عباس (

لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة) والسنة إذا أطلقت انصرفت إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد قال صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).

القول الثالث: مستحبة.

وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية.

والراجح أنها ركن.

قال ابن تيمية: وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثة أقوال: قيل: لا تستحب بحال، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز، وهذا هو الصواب. (الفتاوى الكبرى).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والفاتحة في صلاة الجنازة ركن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وصلاة الجنازة صلاة؛ لقوله تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً) فسماها الله صلاة؛ ولأن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ الفاتحة على جنازة، وقال (لتعلموا أنها سنة).

ص: 57

•‌

‌ هل يستحب الجهر بالقراءة في صلاة الجنازة؟

لا، لا يستحب.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

وابن عباس إنما جهر للتعليم.

وذهب بعض العلماء إلى استحباب الجهر.

فقد جاء في حديث الباب عن طلحة بلفظ (فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فجهر حتى سمعنا .... ) رواه النسائي.

والأول أصح.

عن أبي أمامة بن سهل قال: (السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة) رواه النسائي.

•‌

‌ هل يستحب قراءة سورة بعد الفاتحة؟

قيل: يستحب.

واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله.

للرواية السابقة (قرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة). وقد صحح بعضهم هذه الرواية كالإمام النووي، والألباني.

وقيل: لا تستحب.

وأنكر بعض العلماء هذه الزيادة كالبيهقي ولم يخرجها البخاري. والله أعلم.

•‌

‌ هل يشرع دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن دعاء الاستفتاح لا يسن في صلاة الجنازة.

وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

قال ابن المنذر: لم نجد في الأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد أن افتتح الصلاة على الجنازة، كما قال بعد أن افتتح الصلاة المكتوبة قولاً، ولا وجدنا ذلك عن أصحابه، ولا عن التابعين.

قال النووي وَأَمَّا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، واتفق الأصحاب على أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَرْكُهُ.

أ-أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استفتح في صلاة الجنازة.

ب-قالوا: إن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف، فناسب ترك الاستفتاح فيها.

ج-وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " أما الاستفتاح فلا بأس بفعله ولا بأس بتركه، وتركه أفضل أخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة) الحديث.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يشرع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الجنازة؟

فأجاب: ذكر العلماء أنه لا يستحب، وعللوا ذلك بأن صلاة الجنازة مبناها على التخفيف، وإذا كان مبناها على التخفيف، فإنه لا استفتاح.

القول الثاني: أن دعاء الاستفتاح يسن في صلاة الجنازة.

وهو قول الأحناف.

عللوا: بأنها صلاة، فيستفتح لها، كما يستفتح لسائر الصلوات.

واختار بعض الأحناف - كالطحاوي رحمه الله أنه لا استفتاح لها.

والأقرب: عدم مشروعية الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنها مبناها على التخفيف، ولهذا لا ركوع فيها ولا سجود، ولا يقرأ فيها سوى الفاتحة. والله أعلم.

ص: 58

561 -

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ اَلْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ اَلثَّوْبَ اَلْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ اَلْجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنَةَ اَلْقَبْرِ وَعَذَابَ اَلنَّارِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

562 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، اَللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى اَلْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى اَلْإِيمَانِ، اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ.

563 -

وَعَنْهُ أَنَّ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى اَلْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ اَلدُّعَاءَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

===

(اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) المغفرة الستر مع التجاوز.

(وَارْحَمْهُ) صفة تقتضي الإنعام والإكرام والإحسان بالمرحوم.

(وَعَافِهِ) العافية من المؤذيات في القبر ووحشته وظلمته وعذاب القبر.

(وَاعْفُ عَنْهُ) أي: تجاوز بما فعله حال الدنيا.

(وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ) النزل ما يهيأ للضيف.

(وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) مكان الدخول وهو القبر.

(وَنَقِّهِ) أي: خلصه.

(وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ) عوضه عن أهله أهلاً في الجنة. وقيل: تبديل أوصاف، أي زوجته تكون أحسن في الجنة بالأخلاق والجمال.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث عوف بن مالك عند مسلم، فيه زيادة:(قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت).

وحديث أبي هريرة أعله بعض العلماء، كالدارقطني وغيره، وصححه بعضهم وله شواهد.

وحديث أبي هريرة (إذا صليتم على الميت

) في إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكنه صرح بالتحديث عند ابن حبان، فالحديث حسن.

•‌

‌ ما معنى قوله (فحفظت من دعائه)؟

قيل: أي علمته من الصلاة فحفظته.

قال النووي:

وحينئذ يتأول هذا الحديث على أن قوله (فحفظت من دعائه) أي: علمنيه بعد الصلاة فحفظته.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر به ليعلمهم.

وهذا هو الصحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من أحاديث الباب؟

استحباب الدعاء للميت في صلاة الجنازة، وهو مقصوده.

ص: 59

•‌

‌ ما معنى قوله (أخلصوا له الدعاء)؟

قيل: تخصيص الميت بالدعاء، فلا يدعى لغيره على وجه الخصوص.

وقيل: الدعاء له بإخلاص وحضور قلب.

فإخلاص الدعاء للميت يكون بالتعيين وبالصفة:

بالتعيين: بأن يخص الميت بالدعاء وحده.

وبالصفة: بأن يدعو له بصدق وإخلاص وحضور قلب.

•‌

‌ ما حكم الجهر بالدعاء؟

اختلف العلماء بالجهر بالدعاء:

فقيل: يجهر.

وقيل: يسر، وهذا هو الصحيح.

لأن الأصل في الدعاء الإسرار، ولا يجهر إلا لقصد التعليم.

•‌

‌ هل الدعاء يصل للميت؟

نعم، الدعاء يصل للميت، وقد تضافرت النصوص ف ذلك.

قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له

) رواه مسلم.

وأحاديث الباب (اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ

) (اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا

).

وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد الفراغ من دفن الميت (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت) رواه أبو داود.

•‌

‌ ماذا يقال إذا كان الميت طفلاً؟

لم يثبت دعاء خاص للطفل.

لكن ورد حديث المغيرة قال صلى الله عليه وسلم (والطفل يدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) رواه أبو داود.

قال الشوكاني: إذا كان المصلى عليه طفلاً، استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً، روي ذلك عن البيهقي من حديث أبي هريرة.

•‌

‌ هل ترفع الأيدي في صلاة الجنازة؟

اختلف العلماء، هل يرفع يديه في تكبيرة الجنائز؟

فقيل: لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام.

لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فعله النبي صلى الله عليه وسلم لنقل.

وقيل: يرفع يديه.

لأنه ثبت عن ابن عمر أنه رفع يديه في كل تكبيرة، رواه البيهقي وهو صحيح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية الصلاة على الميت، وقد تقدم أنها فرض كفاية.

- أنه لابد أن يخص الميت بالدعاء، فلا يكفي الدعاء العام.

- أنه لا يتعين دعاء معين للميت لقوله (أخلصوا له في الدعاء) لكن الأفضل ما ورد في السنة.

ص: 60

564 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ) جاء عند البخاري (إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان لو سمعه لصعق).

(صَالِحَةً) قائمة بحقوق الله وحقوق الناس.

•‌

‌ ما حكم الإسراع بالجنازة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه مستحب.

قال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً بين الأئمة.

وقال النووي: واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه فيتأنى.

القول الثاني: أنه واجب.

وهو قول ابن حزم.

لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك (أسرعوا).

•‌

‌ قوله صلى الله عليه وسلم (أسرعوا .. ) هل المراد الإسراع بتجهيزها أو بحملها إلى قبرها؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: المراد الإسراع بحملها إلى قبرها.

ورجحه القرطبي، والنووي.

لقوله (

فشر تضعونه عن رقابكم).

ورد النووي القول الثاني الآتي وقال: والثاني باطل مردود بقوله (فشر تضعونه عن رقابكم).

القول الثاني: المراد الإسراع بتجهيزها وغسلها والصلاة عليها.

قال الفاكهي: ما رده النووي جمود على ظاهر لفظ الحديث، وإلا فيحتمل حمله على المعنى، فإنه قد يُعبّر بالحمل على الظهر، أو العنق عن المعاني دون الذوات، فيقال: حمل فلان على ظهره، أو على عنقه ذنباً، أو نحو ذلك ليكون المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم

(فشر تضعونه عن رقابكم) إنكم تستريحون من نظر من لا خير فيه، أو مجالسته ونحو ذلك، فلا يكون في الحديث دليل على رد قول هذا القائل، ويقوي هذا الاحتمال أن كل حاضري الميت لا يحملونه، إنما يحمله القليل منهم، لا سيما اليوم، فإنما يحمله في الغالب من لا تعلق له به.

قال الحافظ: ويؤيده - يعني كلام الفاكهي - حديث عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ولأبي داود من حديث حصين وَحْوَح مرفوعاً (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله

).

ص: 61

•‌

‌ ماذا يستثنى من الأمر بالإسراع بالجنازة؟

الإسراع بالجنازة مطلوب ما لم يمت فجأة لاحتمال أن يكون غشياناً [هذا كان قديماً قبل تقدم الطب].

قال الشافعي في الأم: أحب المبادرة في جميع أمور الجنازة، فان مات فجأة لم يبادر بتجهيزه لئلا تكون به سكتة ولم يمت بل يترك حتى يتحقق موته.

وقال ابن قدامة رحمه الله: وإن شُكّ في موته انتظر به حتى يتيقن موته بانخساف صُدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إن شك في موته؛ بأن مات بحادث أو بغتة، فإنه ينتظر حتى يتيقن موته وله علامات.

(شرح الكافي).

وقال أيضاً رحمه الله: "قوله: (أسرعوا بالجنازة) قال العلماء: يسرع في تجهيزه إلا أن يموت فجأة ويشك في موته فينتظر حتى يتيقن، وإلا فيسرع في تجهيزه .... (لقاء الباب المفتوح).

وأيضاً لا بأس بتأخيره إذا كان لمصلحة كأن يموت في حادث جنائي ليتحقق من قتله.

•‌

‌ هل إذا كان للميت أقارب فهل يجوز انتظارهم؟

لا بأس بذلك لكن بشروط:

أولاً: إذا قرُب الزمن.

ثانياً: ألا يشق على الحاضرين.

ثالثاً: ألا يخشى على الميت من التفسخ.

فائدة: بعض الناس يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه وربما يؤخرونه يوم أو يومين، وهذا جناية على الميت [تأخيره ساعة أو ساعتين أو مات أول النهار وأخرناه إلى الظهر فلا بأس].

فإن قيل: ما الجواب عن فعل الصحابة حيث لم يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم الأربعاء مع أنه توفي يوم الاثنين؟

الجواب: أنه أخر دفنه من أجل إقامة الخليفة بعده حتى لا يبقى الناس بلا خليفة.

•‌

‌ ما معنى الإسراع المأمور به بالحديث؟

المراد بالإسراع: أن يكون فوق المشي المعتاد لا الركض بها وخضها؛ لأن هذا قد يضر الميت ويشق على المتبعين من الضعفاء.

قال النووي رحمه الله: "والمراد بالإسراع فوق المشي المعتاد، ودون الخبب؛ لئلا ينقطع الضعفاء عن اتباع الجنازة، فإن خيف عليه تغير أو انفجار أو انتفاخ زيد في الإسراع. (شرح المهذب).

وقال البهوتي رحمه الله: وسن الإسراع بالجنازة؛ لحديث: (أسرعوا بالجنازة .. ) متفق عليه. ويكون الإسراع دون الخبب ...... لأنه يمخضها ويؤذي حاملها ومتبعها.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "يسن الإسراع بالجنازة من غير مشقة.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قالوا: لا ينبغي الإسراع الذي يشق على المشيعين، أو يخشى منه تمزق الميت، أو خروج شيء من بطنه مع الحركة.

وقال الحافظ رحمه الله: "والحاصل أنه يستحب الإسراع، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم.

وقال ابن تيمية: كان الميت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة لا يسرعون ولا يبطئون بل عليهم السكينة ولا يرفعون أصواتهم لا بقراءة ولا بغيرها وهذه هي السنة باتفاق المسلمين

ص: 62

فائدة: المشي بالجنازة ينقسم إلى أقسام:

أولاً: أن يمشي به خطوة خطوة.

فهذا بدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة التشبه بأهل الكتاب. [قاله ابن القيم].

ثانياً: أن يسرع بها إسراعاً كثيراً يخشى على الجنازة أو يشق على الحاملين، فهذا لا يجوز.

ثالثاً: أن يمشي بها بين السرعة والبطء، وهذا هو السنة.

•‌

‌ ما حكم أن تتبع الجنازة بما يخالف الشريعة؟

حرام، فلا يجوز أن تتبع الجنائز بما يخالف الشريعة، كرفع الصوت بالبكاء أو بنار.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتبع الجنازة بصوت ولا بنار).

وقال عمرو بن العاص (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار) رواه مسلم.

قال النووي: واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف من السكون حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره.

•‌

‌ ما الحكمة من الأمر بالإسراع بالجنازة؟

الحكمة قوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ).

وقد ورد في حديث آخر ذكر تعليل آخر، وهي مخالفة أهل الكتاب.

فعن أبي هريرة. قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبع جنازة قال: ابسطوا بها، ولا تدِبُّوا دَبيب اليهود بجنائزها) رواه أحمد.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عمران بن حصين (أنه أوصى، إذا أنا مت فأسرعوا، ولا تُهوّدوا، كما تُهوّد اليهود والنصارى).

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن القبر للميت الصالح خير من الدنيا.

- يجب الابتعاد عن الشر وأهله.

- حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقرن الحكم ببيان حكمته.

- إثبات عذاب القبر ونعيمه.

ص: 63

565 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ اَلْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ". قِيلَ: وَمَا اَلْقِيرَاطَانِ قَالَ: "مِثْلُ اَلْجَبَلَيْنِ اَلْعَظِيمَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: (حَتَّى تُوضَعَ فِي اَللَّحْدِ).

وَلِلْبُخَارِيِّ: (مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ).

===

(مَنْ شَهِدَ) أي: من حضر، وجاء في رواية (من شيع) وأخرى (من تبع).

• ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: فضل شهود الجنازة واتباعها.

وكان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبو هريرة قال: أكثر علينا أبو هريرة، فأرسل خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبو هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول، وقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال فرطنا في قراريط كثيرة.

• اذكر بعض فوائد شهود الجنازة؟

أولاً: الحصول على هذا الأجر العظيم.

ثانياً: القيام بحق هذا الميت من الصلاة عليه والدعاء له.

ثالثاً: أداء حق أهل الميت وجبر خاطرهم.

رابعاً: إعانة أهل الميت على تجهيزه ودفنه.

خامساً: حصول العبرة والعظة والاعتبار.

•‌

‌ اتباع الجنازة على مرتبتين اذكرهما؟

الأولى: اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها.

الثانية: إتباعها من عند أهلها حتى يفرغ من دفنها.

وهذه المرتبة الثانية أفضل لحديث الباب حيث يحصل على قيراطين.

•‌

‌ إذا تعددت الجنائز، وصليَ عليها صلاة واحدة، فهل يتعدد الأجر؟

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: في الحرم تتعدد الجنائز فهل يتعدد الأجر الذي أخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام؟

فأجاب: "إذا تعددت الجنائز في صلاة واحدة هل يأخذ الإنسان أجر عدد هذه الجنائز؟ الظاهر: نعم. لأنه يصدق عليه أنه صلى على جنازتين أو ثلاث أو أربع فيأخذ الأجر، لكن كيف ينوي؟ ينوي الصلاة على واحدة أو على الجميع؟ ينوي الصلاة على الجميع. (الباب المفتوح).

ص: 64

•‌

‌ بما يحصل قيراط الدفن؟

قوله (من شهدها حتى تدفن) ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن.

وقيل: يحصل بمجرد الوضع في اللحد، لرواية عند مسلم (حتى توضع في اللحد).

وقيل: عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب، لرواية (حتى توضع في القبر) والله أعلم.

قال النووي رحمه الله: وفيما يحصل به قيراط الدفن وجهان .... ، قلت: والصحيح أنه لا يحصل إلا بالفراغ من الدفن لرواية

البخاري ومسلم: (ومن تبعها حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان)، وفي رواية مسلم (حتى يفرغ منها)

ثم قال رحمه الله: والحاصل أن الانصراف عن الجنازة مراتب:

1 ـ ينصرف عقب الصلاة.

2 ـ ينصرف عقب وضعها في القبر، وسترها باللبن قبل إهالة التراب.

3 ـ ينصرف بعد إهالة التراب وفراغ القبر.

4 ـ يمكث عقب الفراغ، ويستغفر للميت ويدعو له، ويسأل له التثبيت.

فالرابعة أكمل المراتب، والثالثة تحصل القيراطين، ولا تحصله الثانية على الأصح ويحصل بالأولى قيراط بلا خلاف. (شرح المهذب).

وقال الحافظ في "فتح الباري" عند شرحه لحديث (47):، وقد أثبتت هذه الرواية:(وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ) أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد وهذا هو المعتمد .. " انتهى.

فائدة:

قال ابن قدامة رحمه الله: واتباع الجنائز على ثلاثة أضرب:

أحدها: أن يصلي عليها، ثم ينصرف

الثاني: أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن ..

الثالث: أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له. (المغني).

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (مَنْ شَهِدَ اَلْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ)؟

أن القيراط يحصل لمن صلى فقط ولو لم يقع اتباع.

قال الحافظ في الفتح: ومقتضاه أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة وبذلك صرح المحب الطبري وغيره، والذي يظهر لي: أن القيراط يحصل أيضاً لمن صلى فقط؛ لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلاً وصلى، ورواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ (أصغرهما مثل أحد) يدل على أن القراريط تتفاوت، ووقع أيضا في رواية أبي صالح المذكورة عند مسلم (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط) وفي رواية نافع بن جبير عن أبي هريرة عند أحمد:(ومن صلى ولم يتبع فله قيراط) فدل على أن الصلاة تحصل القيراط، وإن لم يقع اتباع، ويمكن أن يحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة. (فتح الباري).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن هذا الفضل في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء، لقول أم عطية (نهينا عن أتباع الجنائز).

- أنه يحصل للمصلي والمشيع حتى تدفن ثواب لا يعلم قدره إلا الله.

- أن في الصلاة على الميت وتشييع جنازته إحسان إلى الميت وإلى المصلي والمشيع.

ص: 65

566 -

وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه (أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث جاء من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً، ورواه معمر ويونس بن يزيد ومالك وغيرهم عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

وقد رجح إرساله أحمد، والبخاري، وأبو حاتم، والنسائي.

قال الترمذي: وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح.

•‌

‌ اذكر الخلاف في المشي مع الجنازة؟

اختلف العلماء في المشي مع الجنازة على أقوال:

القول الأول: الأفضل المشي أمامها.

وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور وجماعة من الصحابة.

لحديث الباب.

ولثبوت ذلك عن جمع من الصحابة، كابن عمر.

القول الثاني: أن المشي خلفها أفضل.

وهذا مذهب أبي حنيفة، وحكاه الترمذي عن سفيان الثوري.

لحديث (من تبع الجنازة

) والاتباع يكون من الخلف.

ولمرسل طاوس قال (ما مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، إلا خلف جنازة) وهذا مرسل وهو ضعيف.

القول الثالث: يمشي حيث شاء، أمامها أو يمينها أو يسارها أو خلفها.

لحديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب يسير خلفها، والماشي حيث شاء). رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح

وهذا القول هو الصحيح.

- أن الراكب يسير خلف الجنازة، لحديث المغيرة السابق.

ص: 66

567 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

(نُهِينَا) النهي: هو طلب الكف على وجه الاستعلاء.

(عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ) أي: عن تشييعها والمشي معاها.

(وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) أي: لم يؤكد علينا النهي، وهذا من فقهها.

•‌

‌ ما حكم اتباع النساء للجنائز؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه مكروه وليس بحرام.

وهذا مذهب الجمهور.

لقول أم عطية (ولم يعزم علينا).

القول الثاني: أنه للتحريم.

وهذا مذهب أحمد، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم.

أ-لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في النهي أنه للتحريم.

وأما قول أم عطية: (ولم يعزم علينا) فهذا اجتهاد منها وتفقه، والعبرة بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.

أو لعل المراد بقولها: (ولم يعزم علينا) لعلها تريد: ولم يؤكد النهي.

قال ابن القيم: قول أم عطية (نهينا عن اتباع الجنائز) فهو حجة للمنع، وقولها (ولم يعزم علينا) إنما نفت فيه وصف النهي وهو النهي المؤكد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كاف

والقول الثاني هو الراجح.

ب- ولأن في اتباع النساء للجنائز عدة أضرار:

أولاً: مخالطة الرجال.

ثانياً: جزع المرأة وعدم صبرها.

ثالثاً: أنها فتنة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن اتباع المرأة للجنازة منهي عنها، سواء اتباعها من البيت للمسجد، أو من المسجد إلى المقبرة.

- أن زيارة القبور للنساء حرام، لأنه إذا حرم الاتباع، فمن باب أولى الزيارة. [وستأتي المسألة بأدلتها إن شاء الله].

- حكمة الشرع في التشريع، حيث ينزل كل إنسان ما يناسبه.

- أن ما نهى عنه الشرع ينقسم إلى قسمين: نهي تحريم، ونهي كراهة.

- أن النهي عند الإطلاق يدل على التحريم.

ص: 67

568 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

(حتى توضع) أي على الأرض، كما جاء في رواية أخرى.

•‌

‌ ما حكم القيام للجنازة إذا مرت؟

اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت على أقوال:

القول الأول: أن القيام منسوخ.

وهذا قول جمهور العلماء.

قال الشوكاني: وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، أن القيام منسوخ بحديث علي.

أ- لحديث علي قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد) رواه مسلم.

ب- ولحديث عبادة بن الصامت قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اجلسوا خالفوهم) رواه أبو داود، والحديث ضعفه الترمذي والنووي وابن حجر وابن القيم.

القول الثالث: أن القيام مستحب.

وهذا مذهب ابن حزم، واختاره ابن تيمية، وابن القيم.

وقال ابن حزم رحمه الله: نستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء - وإن كانت جنازة كافر - حتى توضع أو تخلفه، فإن لم يقم فلا حرج.

أ- لحديث الباب (إذا رأيتم جنازة فقوموا

).

ب- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ) رواه مسلم.

ج- عَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى قال (أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ. فَقَالَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ إِنَّهُ يَهُودِيٌّ. فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْساً) متفق عليه.

وهذا القول هو الصحيح: أن أحاديث الأمر تدل على الاستحباب، وأن أحاديث الترك تدل على جواز ترك القيام.

وهذا القول هو الصحيح، وهو أولى من القول بالنسخ لأن فيه جمعاً بين الأدلة.

قال النووي بعد أن اختار هذا القول: هذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب، والقعود بياناً للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر.

وقال ابن حزم رحمه الله: فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام مبيناً أنه أمر ندب، وليس يجوز أن يكون هذا نسخاً; لأنه لا يجوز ترك سنة متيقنة إلا بيقين نسخ، والنسخ لا يكون إلا بالنهي، أو بتركٍ معه نهي؟

وقال ابن القيم: قيل: منسوخ والقعود آخر الأمرين، وقيل: بل الأمران جائزان، وفعله بياناً للاستحباب، وتركه بياناً للجواز، وهذا أولى من ادعاء النسخ.

•‌

‌ ما الجواب عن دليل من قال بالنسخ؟

الجواب من وجوه:

أولاً: أن من شرط النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين، وليس الأمر كذلك ههنا، فإن تركه صلى الله عليه وسلم للقيام بعد أمره به دليل على أن الأمر الأول للندب وليس للوجوب، وبه تجتمع الأدلة دون حاجة للقول بالنسخ.

ثانياً: أن أحاديث الأمر بالقيام لفظ صريح، وهذه الأحاديث حكاية فعل لا عموم له، وليس فيها لفظ عام يحتج به على النسخ، وغاية ما فيها أنه (قام وقعد) وهو فعل محتمل لا يقوى على تأييد دعوى النسخ.

•‌

‌ ما الحكمة من القيام؟

جاء في رواية (إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)، فالقيام للجنازة تعظيم لله عز وجل.

ويدل لذلك حديث البراء الطويل: (

جلس النبي صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير ولما يلحد

) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.

•‌

‌ إلى متى يستمر قيام الناس؟

جاء في رواية (حتى توضع على الأرض).

ص: 68

569 -

وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه (أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرَ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.

===

(مِنْ قِبَلِ) أي: من جهة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث صحيح ورجاله كلهم ثقات.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وقد قال هذا من السنة فصار كالمسند.

وصححه ابن حزم.

وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب إدخال الميت للقبر من جهة رِجْلي القبر.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أن المستحب في إنزال الميت القبر هو أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل سلاً إلى القبر.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.

أ- لحديث الباب، حيث قال (هذا من السنة).

قالوا: وقول الصحابي: (من السنة كذا) في حكم المرفوع فهو كالحديث المسند.

قال ابن قدامة: وهذا يقتضي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤخذ من هذا الحديث أن السنة في إنزال الميت القبر أن يكون ذلك من قِبل رِجلي القبر.

ب- أنه ورد عن بعض الصحابة إنزال الميت من قِبل رجلي القبر.

عن ابن سيرين قال (كنت مع أنس في جنازة، فأمر بالميت فأدخل من قبل رجل القبر) رواه أحمد.

وعن عامر الشعبي عن ابن عمر (أنه أدخل ميتاً من قبل رجليه) أخرجه ابن أبي شيبة.

القول الثاني: أنه يستحب أن يدخل الميت قبره من قبل القبلة، بأن يوضع من جهتها ثم يحمل فيلحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ.

وهذا مذهب الحنفية.

لحديث ابن عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج، فأخذه من قبل القبلة، وقال: رحمك الله إن كنت لأقراها تلاءً للقرآن) رواه الترمذي وضعفه البيهقي، والنووي.

القول الثالث: أن الميت يدخل القبر كيف أمكن.

وهذا مذهب الظاهرية.

والراجح الأول.

ص: 69

570 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْف.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث أعله بعض العلماء بالوقف، وقد اختلف فيه على قتادة، فرفعه همام بن يحي، ورفعه شعبة، وهشام الدستوائي، وهؤلاء أوثق في قتادة من همام بن يحي.

لكن هذا الموقوف له حكم الرفع لأنه لا يقال من قبل الرأي.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب قول (بسم الله وعلى ملة رسول الله) عند إنزال الميت القبر.

وهذا الذكر يقال عند إدخال الميت للقبر، فما يفعله بعض الناس من قول هذا الذكر عند إهالة التراب عليه خطأ.

- وهذه السنة خاصة بمن يباشر وضع الميت في قبره، أما من حضر دفنه فلا يشرع لهم هذا الذكر.

قال النووي رحمه الله: يستحب أن يقول الذي يدخله القبر عند إدخاله القبر بسم الله وعلي ملة رسول الله أو علي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (المجموع).

وقال المرداوي رحمه الله: ويقول الذي يدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " والسنة عند وضعه في اللحد أن يقول الواضع: " بسم الله وعلى ملة رسول الله.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "

فإن المشروع عند دفن الميت أن يقول من يضعه في لحده بسم الله وعلى ملة رسول الله .. " انتهى من "نور على الدرب".

•‌

‌ ماذا يسن بعد الدفن؟

يسن بعد الفراغ من الدفن الاستغفار للميت والدعاء له بالتثبيت.

لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ). رواه أبو داود.

(وقف عليه) أي: على قبره.

(فقال استغفروا لأخيكم) أي اطلبوا له المغفرة من الله. أي قولوا: اللهم اغفر له.

(وسلوا له التثبيت) أي اطلبوا له من اللّه تعالى أن يثبت لسانه لجواب الملَكين. أي: قولوا: ثبته اللّه بالقول الثابت.

(فإنه الآن يسأل) أي: أي يأتيه في تلك الحال ملكان، وهما منكر ونكير ويسألانه، فهو أحوج ما كان إلى الاستغفار والتثبيت.

ص: 70

•‌

‌ اذكر بعض المواضع التي يشرع فيها التسمية؟

أن هذا أحد المواضع التي يسن فيها قول: (بسم الله)، ومن المواضع:

منها: عند الوضوء.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لا وضوء له) رواه أبو داود.

ومنها: عند الركوب.

قال الله تعالى (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ).

وفي حديث علي (

وأُتيَ بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله .... الحديث وفي آخره قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت) رواه أبو داود.

ومنها: عند الذبح والصيد.

لقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).

وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

وعن عدي بن حاتم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله عليه فكل) متفق عليه.

ومنها: عند الأكل.

لحديث عمرو بن سلمة. قال (كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال: يا غلام سم الله، وكل بيمينك

) متفق عليه.

ومنها: عند دخول المنزل.

لحديث جابر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء) رواه مسلم.

ومنها: عند الجماع.

لحديث ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا

) متفق عليه.

ومنها: عند الخروج من البيت.

لحديث أنس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت .... ) رواه أبو داود.

ومنها: في المساء والصباح.

لحديث عثمان. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال: بسم الله، الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح

) رواه أبو داود.

ومنها: إذا عثر المرء أو عثرت دابته.

لحديث رجل قال (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعُثِر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب) رواه أبو داود.

ومنها: عند وضع الميت في قبره.

لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال: بسم الله، وعلى سنة رسول الله) رواه أبو داود.

ص: 71

571 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِم.

572 -

وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: (فِي الْإِثْمِ).

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث صحيح، رواته كلهم ثقات.

وقوله (من الإثم) ضعيفة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم الاعتداء على الميت.

•‌

‌ هل الاعتداء على الميت كالاعتداء على الحي؟

نعم، فالاعتداء على الميت بكسر عظم منه أو غير ذلك، كالاعتداء على الحي في الإثم دون القصاص.

•‌

‌ ما حكم تشريح جثة الميت؟

نستفيد من الحديث أنه لا يجوز تشريح جثة الميت، لأن ذلك اعتداء عليه.

لكن إذا كان الغرض صحيح، كقضية جنائية، فلا بأس.

•‌

‌ وقد اختلف العلماء في حكم تشريح جثة الميت لقصد التعليم:

القول الأول: لا يجوز ذلك.

وهو قول لبعض العلماء، واستدلوا:

بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

قالوا: وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لهم.

واستدلوا: بحديث الباب.

فهو دال على حرمة كسر عظام المؤمن الميت، والتشريح مشتمل على ذلك، فلا يجوز فعله.

قالوا: ودلت الأحاديث على أنه لا يجوز الجلوس على القبر، وأن صاحبه يتأذى بذلك، مع أن الجلوس عليه ليس فيه مساس بجسد صاحبه، فلأن لا يجوز تقطيع أجزائه وبقر بطنه الذي هون أشد انتهاكاً لحرمته من باب أولى وأحرى.

القول الثاني: الجواز.

قالوا: لأن في ذلك مصلحة أعظم وأكبر.

وقالوا: إن من قواعد الشريعة الكلية، ومقاصدها العامة، أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما.

وجه تطبيق هذه القاعدة:

أن المصلحة المترتبة على تشريح جثث الموتى لغرض التعليم، تعتبر مصلحة عامة راجعة إلى الجماعة، وذلك لما يترتب عليها من تعلم التداوي الذي يمكن بواسطته دفع ضرر الأسقام والأمراض عن المجتمع.

والراجح جواز تشريح جثة الكافر دون المسلم.

لأن الحاجة على التشريح يمكن سدها بجثث الكفار، فلا يجوز العدول عنها إلى جثث المسلمين، لعظم حرمة المسلم عند الله حياً وميتاً.

أما التشريح لمعرفة أسباب الوفاة خشية أن تكون أمراضاً وبائية، أو التشريح الجنائي، فلا بأس به.

ص: 72

573 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: (أَلْحَدُو ا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نُصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ مُسْلِم.

574 -

وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ:(وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.

===

(اللبن) ما ضرب من الطين يبنى به.

•‌

‌ عرف اللحد والشق؟

قال البهوتي: اللحد أن يحفر في أسفل حائط القبر مما يلي القبلة مكاناً يوضع فيه الميت.

والشق: أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه باللبن أو غيره.

•‌

‌ ما الأفضل في القبر اللحد أم الشق؟

اللحد أفضل، وهذا قول جمهور العلماء.

قال ابن قدامة: السُّنَّةُ أَنْ يُلْحَدَ قَبْرُ الْمَيِّتِ، كَمَا صُنِعَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

أ- لحديث الباب

ب- وعن أنس قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه.

وجه الدلالة من الحديثين: أنه اللحد هو الذي فُعل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ليختار الله لنبيه إلا الأفضل.

قال النووي في شرح حديث سعد: فيه استحباب اللحد ونصب اللبن، وأنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع.

ج-ولحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا) رواه أبو داود وهو حديث مختلف في صحته.

د - حديث جابر - وقد سبق - قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين في قتلى أحد ثم يقول (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد) رواه البخاري.

ففي هذا الحديث بيان فضيلة اللحد، لأنه الذي وقع دفن الشهداء فيه، مع ما كانوا فيه من الجهد والمشقة، فلولا مزيد فضيلة ما عانوه.

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (اللحد لنا والشق لغيرنا)؟

اختلف العلماء في معنى قوله (لنا) و (غيرنا)؟

فقيل: (لنا) أي: هو الذي نؤثره - أيها المسلمون - ونعرفه، لأن العرب لم تكن تعرف غيره، و (لغيرنا) أي: من الأمم السابقة ويؤيد ذلك رواية (والشق لغيرنا من أهل الكتاب).

وقيل: اللحد لنا معشر الأنبياء، والشق جائز لغيرنا.

وقيل: يمكن أنه صلى الله عليه وسلم عنى بضمير الجمع نفسه، أي: أوثر لي اللحد، وهو إخبار عن الكائن فيكون معجزة

والصحيح الأول.

•‌

‌ متى يكون الشق أفضل؟

يكون أفضل إذا كانت الأرض رخوة، فهنا فالشق أفضل.

قال النووي: أجمع العلماء على أن الدفن في اللحد والشق جائزان، لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل، لما سبق من الأدلة، وإن كانت رخوة تنهار، فالشق أفضل.

وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، فعند هؤلاء الشق أفضل إذا كان الأرض رخوة.

قال ابن عثيمين رحمه الله: ولكن إذا احتيج إلى الشق، فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية، فإن اللحد فيها لا يمكن؛ لأن الرمل إذا لحدت فيه انهدم، فتحفر حفرة، ثم يحفر في وسطها ثم يوضع لبن على جانبي الحفرة التي بها الميت؛ من أجل ألا ينهد الرمل، ثم يوضع الميت بين هذه اللبنات. (الشرح الممتع).

ص: 73

•‌

‌ ما المستحب في رفع القبر؟

المستحب أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لحديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد ونصب عليه

ورفع قبره من الأرض نحواً من شبر).

وجاء في ذلك بعض الآثار عن بعض السلف.

ولأن القبر يرفع عن الأرض ليعلم أنه قبر فيتوقى ويصان ولا يهان، ويترحم على صاحبه.

قال في (زاد المستقنع) ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه (الشرح الممتع) أي السنة أن يرفع القبر عن الأرض، وكما أنه سنة، فإن الواقع يقتضيه؛ لأن تراب القبر سوف يعاد إلى القبر، ومعلوم أن الأرض قبل حرثها أشد التئاماً مما إذا حرثت، فلا بد أن يربو التراب، وأيضاً فإن مكان الميت كان بالأول تراباً، والآن صار فضاء، فهذا التراب الذي كان في مكان الميت في الأول سوف يكون فوقه

واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يُرفع قبره، بل يسوى بالأرض خوفا عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.

وقوله (مسنما) أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.

والدليل على هذا: أن هذا هو صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه .... (الشرح الممتع).

وقد روى البخاري عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا.

أما ما رواه مسلم (969) عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ).

فالمقصود بالتسوية هنا، أي تسويته بسائر القبور، وقد تقدم أنها تكون في حدود الشبر.

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: " فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْقَبْر لَا يُرْفَع عَلَى الْأَرْض رَفْعًا كَثِيرًا، وَلَا يُسَنَّم، بَلْ يُرْفَع نَحْو شِبْر وَيُسَطَّح، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْأَفْضَل عِنْدهمْ تَسْنِيمهَا وَهُوَ مَذْهَب مَالِك " انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "القول المفيد شرح كتاب التوحيد:

" قوله: (ولا قبرا مشرفا): عالياً.

قوله: (إلا سويته). له معنيان:

الأول: أي سويته بما حوله من القبور.

الثاني: جعلته حسنا على ما تقتضيه الشريعة، قال تعالى:(الذي خلق فسوى) أي: سوى خلقه أحسن ما يكون، وهذا أحسن، والمعنيان متقاربان.

ص: 74

والإشراف له وجوه:

الأول: أن يكون مشرفا بكبر الأعلام التي توضع عليه، وتسمى عند الناس (نصائل) أو (نصائب)، ونصائب أصح لغة من نصائل.

الثاني: أن يبنى عليه، هذا من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن المتخذين عليه المساجد والسرج).

الثالث: أن تشرف بالتلوين، وذلك بأن توضع على أعلامها ألوان مزخرفة.

الرابع: أن يرفع تراب القبر عما حوله ليكون ظاهراً.

فكل شي مشرف، ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوى بغيره، لئلا يؤدي ذلك إلى الغلو في القبور والشرك.

•‌

‌ ما حكم أن يزاد على تراب القبر أكثر مما خرج منه؟

كره العلماء أن يزاد على تراب القبر أكثر مما خرج منه.

واستدلوا على الكراهة بحديث جابر قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر أو يزاد عليه

) رواه مسلم دون قوله (أو يزاد عليه) فهي عند أبي داود والنسائي.

والمراد بقوله (أو يزاد عليه) الزيادة على ترابه، بأمن يزاد على التراب الذي خرج منه.

ولهذا بوب البيهقي على هذا اللفظ من هذا الحديث، فقال: باب لا يزاد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً.

وقالوا: إن زيادة التراب على القبر يجري مجرى البناء، فلا يزاد عليه تراب من غيره، لئلا يرتفع القبر ارتفاعاً كثيراً.

وذهب ابن حزم إلى أن الزيادة على تراب القبر حرام.

ص: 75

575 -

وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ).

===

(أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ) يخصص القبر بناره بالجص، أو طلاؤه بالجص.

•‌

‌ ما حكم تجصيص القبر؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه مكروه.

وهذا قول بعض الفقهاء.

لحديث الباب.

القول الثاني: أنه حرام.

لحديث الباب، ففيه النهي عن ذلك، والأصل في النهي التحريم.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي:

أولاً: سد ذريعة الشرك.

ثانياً: لما في ذلك من تعظيم القبور والمباهاة فيها، وهذا باب قد يصل بصاحبه إلى الإخلال بالتوحيد.

ثالثاً: أن التجصيص في الأبنية إنما هو للزينة ولإحكام البناء، ولا حاجة للميت في قبره للزينة.

رابعاً: أن في ذلك خيلاء وإسراف.

خامساً: أن في ذلك تضييعاً للمال وإسرافاً بلا فائدة. (كتاب أحكام المقابر).

ويلحق بالتجصيص كل ما شابهه من تلوين القبر أو تزويق أو تخليق أو جعل الرخام عليه.

•‌

‌ ما حكم القعود على القبر؟

حرام.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا) رواه مسلم.

ومما يدل على تحريمه وأنه من الكبائر:

ج- حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ) رواه مسلم.

فما ذهب إليه جماعة من العلماء أن القعود على القبر مكروه، قول ضعيف.

ص: 76

•‌

‌ ما حكم البناء على القبور؟

حرام.

أ- لحديث الباب (

وأن يبنَى عليه).

ب-ولحديث أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى إلى القبر) رواه ابن ماجه.

ج- ومما يدل على التحريم: حديث علي وسبق: (

أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).

قال الشوكاني: ومن رفْع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياً، القبب والمشاهد المعمورة على القبور.

•‌

‌ اذكر مفاسد البناء على القبور؟

أولاً: أن ذلك وسيلة إلى عبادتها.

ثانياً: أن هذا من فعل عباد القبور والروافض.

ثالثاً: سد باب الشرك.

رابعاً: أن ذلك إسرافاً وتضييعاً للمال.

•‌

‌ ما حكم الكتابة على القبر؟

جاء في حديث الباب زيادة (وأن يكتب عليها) وهذه زيادة مختلف في صحتها.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: جواز الكتابة.

وهذا قول لبعض العلماء.

القول الثاني: تحريم الكتابة.

لحديث الباب، وفيه (وأن يكتب عليه).

ولأن الكتابة على القبر لم تكن معهودة عند السلف الصالح.

ولأن الكتابة على القبر قد تكون طريقاً للمباهاة والفخر والخيلاء.

وهذا هو الصحيح، وفي ذلك سداً للذرائع الشرك.

والنهي عن الكتابة يشمل الكتابة التي فيها ذكر اسم صاحب القبر، أو تاريخ وفاته، أو كتابة شيء من القرآن، أو أسماء الله تعالى.

قال الشيخ ابن باز: لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها ولا تجوز الكتابة عليها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) وخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وزاد (وأن يكتب عليه) ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه.

ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية، وإنما يعاد تراب القبر عليه ويرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

ص: 77

576 -

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَتَى الْقَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيّ.

===

(عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) أحد السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين، وأول من دفن بالبقيع.

(فَحَثَى) أهاله بيده.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث الباب ضعيف جداً، لأن في إسناده القاسم بن عبد الله العُمَري.

قال أحمد: ليس بشيء، وأيضاً في إسناد عاصم بن عبيد الله، قال ابن معين: ضعيف.

فالحديث لا يصح.

•‌

‌ ماذا يفعل بالقبر بعد وضع الميت في اللحد ووضع اللبن عليه؟

إذا فرغ من دفن الميت ومن وضع اللبن أو غيره على اللحد، فإنهم يهيلون التراب عليه، وهذا من تمام الدفن

وفي الحديث عن أنس قال (لما فن النبي صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب). رواه البخاري

وهذا يدل على أن الحاضرين لدفن الميت يردون تراب القبر على القبر بالمساحي والأيدي.

•‌

‌ هل يستحب لكل من حضر دفن الميت أن يحثو التراب على قبره؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن الحثو على الغير جائز وليس بمستحب.

القول الثاني: يستحب لكل من حضر دفن الميت أن يحثو على قبره ثلاث حثيات بيديه جميعاً.

وهذا مذهب الحنفية وأكثر العلماء.

أ-لحديث الباب. [وسبق أنه ضعيف]

ب-ولحديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قِبل رأسه ثلاثاً) وهذا مختلف فيه: صححه النووي، وابن القطان، والبوصيري، والألباني، وضعفه أبو حاتم، وأبو زرعة.

ج- حديث جعفر بن محمد عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعاً) رواه الشافعي وهو ضعيف.

د-وجاء عن ابن عباس: (أنه لما دفن زيد بن ثابت حثا عليه التراب ثم قال: هكذا يذهب العلم) أخرجه البيهقي.

وهذا القول هو الراجح. (فالأحاديث الواردة كلها فيها نظر لكن لعل بعضها يقوي بعض).

•‌

‌ هل هناك ذكر يقال عند حثي التراب؟

استحب البعض عند حثُ التراب على الميت أن يقول في الحثية الأولى (منها خلقناكم) وفي الثانية (ومنها نعيدكم) وفي الثالثة (ومنها نخرجكم تارة أخرى) والحديث الوارد في ذلك لا يصح.

وهو حديث أبي أمامة قال (لما وضعت أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، قال صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) رواه أحمد والبيهقي.

قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، وضعفه المصنف ابن حجر رحمه الله.

ص: 78

577 -

وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اِسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث إسناده حسن، في إسناده هانئ مولى عثمان وهو صدوق، فالحديث حسن، وقد صححه النووي وابن حجر.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: استحباب الدعاء للميت بعد دفنه بهذا الدعاء الوارد.

•‌

‌ ما حكم الموعظة عند القبر؟

لا تشرع الموعظة عند القبر.

حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه ذلك ولم يفعل، وإنما الوارد هو الدعاء له بالثبات والاستغفار.

وهذا هو الصحيح، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة الوعظ عند القبر.

وقد ورد حديث البراء قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر

) رواه أبو داود.

فهذا يدل على جواز الموعظة عند القبر في بعض الأحيان وليس ذلك سنة راتبة، بل إن قول البراء في الحديث (ولمّا يلحد) دليلاً على أن الوعظ كان لعارض وهو تأخر دفن الميت، لأن القبر لم يجهز، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم موعظة أصحابه إلى أن يُنتهى من تجهيز القبر.

•‌

‌ ما أفضل ما يقدم للميت؟

الدعاء هو أفضل ما يقدم للميت.

قال النووي: أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ).

وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد).

وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لحينا وميتنا).

وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له

) رواه مسلم.

•‌

‌ هل العبد يسأل في قبره؟

نعم، من عقيدة أهل السنة والجماعة: إثبات سؤال القبر، وأن العبد إذا وضع في قبره يسأل، والأدلة على ذلك كثيرة:

أ- عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ». قَالَ «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ». قَالَ «فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». قَالَ «فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ». قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَيَرَاهُمَا جَمِيعاً». قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعاً وَيُمْلأُ عَلَيْهِ خَضِراً إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) متفق عليه.

ص: 79

ب- وعَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ (أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِىَ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ. قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَيْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ «مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ، مِثْلَ - أَوْ قَرِيباً لَا أَدْرِى أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِى بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلَاثاً، فَيُقَالُ نَمْ صَالِحاً، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِناً بِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ - أَوِ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِى أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ لَا أَدْرِى، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ) متفق عليه.

ج- وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قَالَ «نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ فَيُقَالُ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّىَ اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَة) متفق عليه.

د- ولحديث الباب.

هـ- وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر

) متفق عليه

و- وعن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فبي تفتنون وعني تسألون) رواه أحمد.

•‌

‌ الذين لا يفتنون:

أ- الأنبياء.

لأن الأنبياء يُسأل عنهم، فيقال للميت: من نبيك؟.

ب- الشهداء.

عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي.

ج- الصديق.

قيل: لا يسأل.

إذا كان الشهيد لا يفتن، فالصديق أجل خطراً وأعظم أجراً أن لا يفتن.

لأنه مقدم ذكره في التنزيل على الشهداء.

وقد صح في المرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى رتبة منه ومن الشهيد.

وقيل: يسأل.

قال ابن القيم: الأحاديث الصحيحة ترد هذا القول وتبين أن الصديق يسأل في قبره كما يسأل غيره. والله أعلم.

وهذا القول هو الراجح.

د- المرابط.

قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان). رواه مسلم عن سلمان

هـ- الأطفال والمجانين.

اختلف هل يفتنون:

فقال بعضهم: إنهم لا يفتنون لدخولهم في العموم.

وقال بعضهم: إن المجانين والصغار لا يسألون، لأنهم غير مكلفين.

ص: 80

578 -

وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ (كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ اَلنَّاسُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ. ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ! قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا.

579 -

وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً.

===

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث ضمرة مقطوع، ومعنى مقطوع: أي أنه من قول التابعي، وقول التابعي ليس بحجة.

وحديث أبي أمامة رواه الطبراني، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيبه، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً

). هذا الحديث لا يصح.

قال النووي: إسناده ضعيف، قال ابن الصلاح: ليس إسناده بالقائم.

•‌

‌ ما حكم تلقين الميت بعد دفنه؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: يستحب ذلك.

وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.

لحديث الباب (أبي أمامة).

قال النووي: فهذا الحديث وان كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم علي المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد أعتضد بشواهد من الأحاديث كحديث (واسألوا له التثبيت) ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان سبق بيانهما قريباً، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به وإلى الآن، وهذا التلقين إنما هو في حق المكلف الميت أما الصبي فلا يلقن.

القول الثاني: أن تلقين الميت في قبره جائز وليس بمستحب.

واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، ووصفه بأنه أعدل الأقوال.

ولعل مستند هذا القول، أن حديث التلقين بعد الدفن لم يثبت، ولم يرد النهي عنه، فيكون مباحاً لدخوله في عموم الدعاء بالثبات المأمور به.

القول الثالث: أنه مكروه وبدعة.

وهو اختيار ابن القيم في الهدي.

قال ابن القيم: ولم يكن [أي النبي] يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا بعد الدفن أن ندعو له بالمغفرة والثبات، ولم يعلمنا التلقين.

ولا يعرف عن أحد من الصحابة فعل التلقين.

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة أصحاب القول الأول؟

أولاً: أن الحديث الوارد حديث ضعيف، فهو لا يصح، وإذا كان كذلك فلا يصح الاعتماد عليه أو العمل به مطلقاً، فقول النووي أو غيره بأن الحديث الضعيف يستأنس به، وذلك في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، مردود بأن هذا الحديث ضعيف، وضعفه شديد، بل هو موضوع في نظر بعض الأئمة.

ثانياً: وأما جعل حديث (واسألوا له التثبيت) شاهداً لحديث التلقين، فهذا غير صحيح، لأن حديث (اسألوا له التثبيت) ليس فيه إلا الدعاء للميت، وكذلك أثر عمرو بن العاص وأمره بالوقوف عند قبره مقدار ما ينحر الجزور لا شهادة فيه على التلقين.

ثالثاً: وأما قولهم: إن هذا العمل عليه الناس أو عليه عمل أهل الشام، فهذا لا حجة فيه، بل قول الإمام أحمد: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام، دليل على أن المسألة مبتدعة، وأنها لم تكن في القرون المفضلة. [كتاب أحكام المقابر - اختيارات ابن تيمية الفقهية]. [16/ 5/ 1433 هـ].

ص: 81

580 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كنت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رَوَاهُ مُسْلِم.

زَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ: (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ).

581 -

زَادَ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا).

===

•‌

‌ ما حكم زيارة القبور للرجال؟

مستحبة.

وهذا مذهب جماهير العلماء، بل نقل بعضهم الإجماع كالنووي.

قال النووي رحمه الله: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهو قول العلماء كافة; نقل العبدري فيه إجماع المسلمين، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهيا عنها أولاً ثم نسخ. (المجموع).

وقال ابن عبد البر رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه: إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القبور وهذا أمر مجتمع عليه للرجال، ومختلف فيه للنساء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنها تذكر الآخرة). (التمهيد).

أ-لحديث الباب.

ب-ولحديث أبي هريرة قال (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) رواه مسلم.

فهذا دليل على استحباب زيارة القبور من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمره.

وهناك خلاف لبعض السلف، فكره زيارة القبور ابن سيرين، والنخعي، والشعبي.

وقيل: مستحبة وهي فرض ولو مرة - يعني في العمر - وهذا قول ابن حزم.

•‌

‌ ما سبب النهي عن الزيارة في أول الأمر؟

قال النووي: وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه، أبيح لهم الزيارة، واحتاط صلى الله عليه وسلم بقوله: ولا تقولوا هجراً.

وقال ابن القيم: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً.

•‌

‌ اذكر صفة الزيارة الشرعية:

قال ابن القيم: زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:

أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة

الثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك فالميت أولى، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعاء أو صدقة أو أهدى قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم ولا أن يدعوا بهم ولا يصلي عندهم

الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.

ص: 82

•‌

‌ ما الحكمة من زيارة القبور:

بين الحديث الحكمة من زيارة القبور، وهي:

العبرة والاتعاظ، لقوله:(تذكر الآخرة)(تذكر الموت)(وتزهد في الدنيا).

وانتفاع الميت بالدعاء والاستغفار له.

•‌

‌ هل لزيارة القبور وقت معين؟

ليس لزيارة القبور وقت معين.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأفضل في زيارة القبور أن يكون يوم الجمعة.

واستدل هؤلاء بحديث (من زار قبر والديه أو أحدهما في كل جمعة مرة غفر له وكتب باراً). وهو حديث ضعيف.

وقالوا: إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة.

لكن الصحيح أن زيارة القبور ليس لها وقت معين لا يوم ولا وقت، بل ظاهر الحديث التي فيها الأمر بزيارة القبور، لم تحدد زمناً ولا قوتاً.

وأما الحديث فضعيف لا يصح، ومثل هذا الحديث لا يصلح الاعتماد عليه ولا العمل به مطلقاً.

وأما قولهم إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، فهذا القول لا دليل عليه سوى بعض الأخبار والمنامات، ومن المقرر عند أهل العلم أن الاحتجاج بالمنامات لا يصح لإثبات الأحكام الشرعية.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- إثبات النسخ في الأحكام الشرعية.

- على المسلم أن يعمل بالأسباب التي تذكره بالآخرة ولقاء الله.

- التحذير من نسيان الموت، فإن ذلك يؤدي إلى الإهمال وعدم الاستعداد للآخرة.

- فضل الزهد في الدنيا.

- فضل رقة القلب.

- فضل البكاء من خشية الله.

ص: 83

582 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

===

(لَعَنَ) اللعن الطرد والإبعاد، والمراد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم باللعنة.

(زَائِرَاتِ الْقُبُورِ) جاء بلفظ: (زوارات القبور) وقد ضبطت بالفتح (زَوّارات) وضبطت بالضم (زُوّرات)، بالضم: جمع زائرة، وبالفتح:(زَوّرات) يحتمل أنها صيغة مبالغة، والمعنى يكون: المكثرات من زيارة القبور، فاللعن يقع على من تكثر الزيارة. وقيل المعنى: إنها صيغة نسب، يعني ذوات الزيارة، لكن رواية (زائرات) توضح المقصود، وتبين أنه ليس المقصود الإكثار من الزيارة، لأننا لو أخذنا بأنها صيغة مبالغة، فإن هذا يكون إهداراً للرواية الأخرى.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث رواه الترمذي من طريق أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة.

وما ذكر المؤلف هو لفظ ابن حبان، وأما لفظ الترمذي (زوارات القبور).

والحديث سنده حسن، من أجل عمر بن أبي سلمة فإنه مختلف فيه، وحديثه من قبيل الحسن، وله شواهد.

•‌

‌ اذكر الخلاف في حكم زيارة النساء للقبور؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها حرام.

وهذا اختيار ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.

أ- لحديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور) رواه الترمذي.

ب-ولحديث ابن عباس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور) رواه الترمذي.

ج-ولحديث حسان بن ثابت قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) رواه ابن ماجه.

د- وعن عبد الله بن عمرو قال (بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ما أخرجكِ من بيتك يا فاطمة؟ قالت: أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم وعزيتهم بميتهم، فقال: لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر؟ فقال: لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك) رواه أبو داود، والكدى هي القبور هكذا فسرها بعض الرواة.

وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج إلى القبور، وقد كان ذلك مستقراً عند الصحابة، يدل عليه قول فاطمة:: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، تعني من النهي عن ذلك.

ص: 84

القول الثاني: إباحة زيارة النساء للقبور.

وهذا مذهب الجمهور.

قال النووي: بالجواز قطع الجمهور.

أ- لحديث أنس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبر، فقال لها: اتقي الله واصبري

).

قال الحافظ: وموضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة.

ب- ولحديث بريدة السابق (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها).

وجه الدلالة: أن الخطاب عام، فيدخل فيه النساء.

قال الحافظ: هو قول الأكثر، ومحله إذا أمنت الفتنة.

ج-وبحديث عائشة الطويل، وفيه (قالت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين

) رواه مسلم.

قالوا: وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة هذا الدعاء يدل على جواز زيارة المقابر للنساء.

د- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: (أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْمَقَابِرِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ قَدْ نَهَى، ثُمَّ أُمِرَ بِزِيَارَتِهَا) رواه الحاكم.

القول الثالث: أنه مكروه.

وهذا مذهب الحنابلة.

لحديث أم عطية (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا).

قالوا: والزيارة من جنس الاتباع، فيكون كلاهما مكروهاً غير محرم.

والراجح القول الأول.

وأما الإجابة عن أدلة من قال بالإباحة:

أ-أما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري

) فيجاب عنه:

• أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرّ المرأة على فعلها، بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ومن جملتها النهي عن زيارة القبور، ففي هذا إنكار قعودها عند القبر، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

قال ابن ابن القيم: احتج به على جواز زيارة النساء للقبور، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها الزيارة وإنما أمرها بالصبر، ولو كانت حراماً لبيّن لها حكمها، وأجيب عن هذا بأنه صلى الله عليه وسلم قد أمرها بتقوى الله والصبر، وهذا إنكار منه لحالها من الزيارة والبكاء.

ص: 85

• أن هذه القضية لا يعلم هل كانت قبل أحاديث المنع من زيارة النساء للقبور أو لا؟ وهي إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحاديث المنع، أو تكون دالة على المنع بأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها، وعلى الجواز على التقديرين لا تعارض أحاديث المنع، ولا يمكن دعوى نسخها بها.

ب- أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) فيجاب عنه:

أنه خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور بأصل الوضع فلا يدخل فيه النساء، وهذا هو المذهب الصحيح المختار في الأصول.

وعلى هذا فالإذن لا يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ.

ج- أما حديث عائشة: (قولي: السلام على أهل الديار

) فيجاب عنه:

• بأن الحديث لا دلالة فيه على جواز زيارة القبور للنساء، لأن الحديث إنما سيق لتعليم السلام على أهل القبور دون إباحة الزيارة للنساء، وقد تمر المرأة على أهل القبور في مسير لها من غير قصد الزيارة فتحتاج إلى التسليم عليهم، فلا يلزم من تعليمه لهن إباحة الزيارة قصداً.

• أن هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة يحتمل أن يكون قبل النهي الأكيد والوعيد الشديد لزوّارات القبور.

د- وأما حديث عائشة في زيارة قبر أخيها، فيجاب عنه:

أنها لم تخرج إليه للزيارة، وإنما خرجت للحج فمرت بقبره فوقفت عليه للدعاء له.

• ومنها أنه على فرض أنها قصدت الزيارة، فهو اجتهاد منها رضي الله عنها لا يعارض الأخبار الثابتة التي وردت في نهي النساء عن زيارة القبور.

• ومنها أن قولها: (كَانَ قَدْ نَهَى، ثُمَّ أُمِرَ بِزِيَارَتِهَا) خبر عام، لم تتعرض فيه لحكم زيارة النساء خاصة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:(كنت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم.

قال ابن القيم رحمه الله:

وَعَائِشَة إِنَّمَا قَدِمَتْ مَكَّة لِلْحَجِّ، فَمَرَّتْ عَلَى قَبْر أَخِيهَا فِي طَرِيقهَا، فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ، إِنَّمَا الْكَلَام فِي قَصْدهنَّ الْخُرُوج لِزِيَارَةِ الْقُبُور، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا عَدَلَتْ إِلَيْهِ وَقَصَدَتْ زِيَارَته، فَهِيَ قَدْ قَالَتْ " لَوْ شَهِدْتُك لَمَا زُرْتُك "، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَقَرّ الْمَعْلُوم عِنْدهَا: أَنَّ النِّسَاء لَا يُشْرَع لَهُنَّ زِيَارَة الْقُبُور، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلهَا ذَلِكَ مَعْنًى. وَأَمَّا رِوَايَة الْبَيْهَقِيِّ، وَقَوْلهَا " نَهَى عَنْهَا ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا ":

لَوْ صَحَّ؛ فَهِيَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ غَيْرهَا مِنْ دُخُول النِّسَاء، وَالْحُجَّة فِي قَوْل الْمَعْصُوم، لَا فِي تَأْوِيل الرَّاوِي، وَتَأْوِيله إِنَّمَا يَكُون مَقْبُولًا، حَيْثُ لَا يُعَارِضهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ أَحَادِيث الْمَنْع. (تهذيب السنن).

ص: 86

•‌

‌ بما أجاب بعض العلماء (القائلون بعدم التحريم) عن حديث (لعن زائرات القبور)؟

أن اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة بدلالة قوله (زوّارات)، وهذا لا يتناول الزائرة من غير إكثار للزيارة.

قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك.

وقال الشوكاني بعد سياق كلام القرطبي: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.

لكن يجاب عن هذا:

أولاً: أنه قد ورد في حديث ابن عباس لفظ (زائرات)، وفي هذا اللفظ زيادة علم، حيث إنه يصدق على الزائرة مرة واحدة فيؤخذ به.

ثانياً: أن لفظ (الزوّارات) قد يكون لتعددهن، كما يقال: فتحت الأبواب، إذا لك باب فتح يخصه.

وأجابوا أيضاً:

أن هذه الأحاديث التي فيها لعن زوارات القبور محمولة على ما إذا كانت زيارتهن لتجديد الحزن والتعديد والبكاء والنوح، وأما إذا كانت الزيارة للاعتبار من غير نوح ولا تعديد فلا يحرم عليهن ذلك.

لكن يجاب عن هذا:

أولاً: أن هذا التأويل أو الحمل للحديث لا دليل عليه.

ثانياً: أن زيارة النساء إذا كانت مظنة وسبباً للأمور المحرمة - والحكمة هنا غير مضبوطة - فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة، أن الحكمة إذا كانت خفية، أو غير منتشرة، علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سداً للذريعة.

وأجابوا أيضاً: بأن هذه الأحاديث ضعيفة الإسناد.

ويجاب عن هذا:

أولاً: أن كل من تُكلّم فيه من رجال الإسناد قد عدّله طائفة من العلماء، وإذا كان الجارح والمعدل من الأئمة، لم يقبل الجرح إلا مفسراً، فيكون التعديل مقدماً على الجرح المطلق.

ثانياً: أن حَدِيثَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ كَانَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَسَنِ.

ثالثاً: أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا رَيْبٍ

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد من العامة؟

- أنه لا فرق في التحريم بين زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره على الصحيح من أقوال أهل العلم.

- حكمة الشرع في التفريق في بعض الأحكام بين النساء والرجال.

- أن زيارة النساء للقبور من كبائر الذنوب، لأن فيها اللعن.

ص: 87

583 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلنَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

584 -

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

585 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

586 -

وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةٍ.

===

(المستمعة) أي التي تقصد سماع النياحة.

•‌

‌ ما صحة حديث أبي سعيد؟

حديث أبي سعيد جاء من طريق محمد بن الحسن بن عطية عن أبيه عن جده عن أبي سعيد.

ومحمد بن الحسن ضعيف كما قال أحمد وابن معين، وأبوه الحسن بن عطية ضعيف أيضاً، وكذلك جده عطية ضعفه أحمد والنسائي.

•‌

‌ عرف النياحة؟

النياحة: رفع الصوت بتعداد مآثر الميت، وهو من خصال أهل الجاهلية.

والندب: رفع الصوت بتعداد محاسن الميت ويقترن بواو (واكسياه، وامطعماه).

•‌

‌ ما حكم النياحة؟

حرام وهي من كبائر الذنوب.

أ- لحديث الباب (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلنَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ).

ب- وعن أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِي. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ». وَقَالَ «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ) رواه مسلم.

ج-وعن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) متفق عليه.

د- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

هـ- وعن أَبي بُرْدَةَ بْنُ أَبِى مُوسَى قَالَ (وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعاً فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَصَاحَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّة) رواه مسلم. (الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة).

•‌

‌ لماذا حرمت النياحة؟

أولاً: ينافي الصبر.

ثانياً: فيه اعتراض على قدر الله.

ثالثاً: لا يقدم شيئاً ولا يؤخره.

رابعاً: أنه جزع وتسخط بقضاء الله.

خامساً: أنه يهيج الحاضرين.

•‌

‌ هل النياحة حرام فقط على النساء؟

النياحة حرام على الرجال والنساء، وإنما خصت النساء لأن أكثر ما تفعله هو المرأة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

أ-أن مستمعة للنياحة راضية بذلك، فهي آثمة، فلا يجوز الجلوس مع أهل المنكر إلا بالإنكار عليهم أو القيام عنهم.

قال تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ).

ب-ضعف النساء.

ج-ينبغي التركيز في الدعوة للناس على الشيء المهم الخطير الذي يكثر وقوعه من النساء.

د- وجوب الصبر على المصائب، لأن النياحة تنافي الصبر. (17/ 5/ 1433 هـ).

ص: 88

587 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

588 -

وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة.

===

•‌

‌ ما المراد بالبكاء في الحديث؟

المراد النياحة.

قال النووي: وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم على أن المراد بالبكاء هنا البكاء بصوت لا مجرد دمع العين.

•‌

‌ ما الجمع بين هذا الحديث، وبين قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

اختلف العلماء في الجواب على هذا الحديث على أقوال كثيرة:

القول الأول: حمل الأحاديث الواردة في المسألة على ظاهرها وتأويل الآية.

وهذا قول ابن عمر، واختاره الشواكاني، والشيخ ابن باز.

قالوا: بأن الله تعالى له أن يتصرف في خلقه كما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل سبحانه

وقالوا عن الآية: بأنها عامة، والحديث مخصص لعمومها.

قال الشوكاني: وأنت خبير بأن الآية عامة لأن الوزر المذكور فيها واقع في سياق النفي والأحاديث المذكورة في الباب مشتملة على وزر خاص، وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور، فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم، ولا ملجئ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ليس هناك تعارض بين الأحاديث والآية التي ذكرتها عائشة رضي الله عنها فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ومن حديث المغيرة وغيرهما في الصحيحين وليس في البخاري وحده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت يعذب بما يناح عليه) وفي رواية_للبخاري: ببكاء أهله عليه، والمراد بالبكاء النياحة وهي رفع الصوت، أما البكاء الذي هو دمع العين فهذا لا يضر، وإنما الذي يضر هو رفع الصوت بالبكاء وهو المسمى بالنياحة. والرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم وأن يتحلوا بالصبر ويكفوا عن النوح، ولا بأس بدمع العين وحزن القلب، كما قال عليه السلام (لما مات ابنه إبراهيم: العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فالميت يعذب بالنياحة عليه من أهله والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه النياحة وهذا مستثنى من قوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فإن القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يصدق أحدهما الآخر ويفسر أحدهما الآخر، فالآية عامة والحديث خاص، والسنة تفسر القرآن وتبين معناه، فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة ولا تعارض بينها وبين الأحاديث.

القول الثاني: أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم (إن الميت) هي لمعهود معين، وهي يهودية مر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث، والراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه الآخر.

وهذا هو الظاهر من رواية عمرة وعروة عن عائشة.

عن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِى عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا) متفق عليه.

ص: 89

وعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ (ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، فَقَالَتْ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآن) متفق عليه.

القول الثالث: أن التعذيب المذكور في الحديث مختص بالكافر.

وهذا قول عائشة في رواه ابن عباس عنها.

الحديث وفيه (

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَاباً بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) متفق عليه.

القول الرابع: أن الحديث محمول على ما إذا كان النوح من سنة الميت وسنة أهله، ولم ينه أهله عنه في حياته، فإنه يعذب من أجل ذلك.

وهذا مذهب البخاري، وقد ترجم له في صحيحه بقوله:(باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه) إذا كان النوح من سنته.

القول الخامس: إن هذا محمول على من أوصى بأن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم، لأنه بسببه ومنسوب إليه.

ونسبه النووي للجمهور.

وهو اختيار الطحاوي، والخطابي، والبغوي، وأبي عبد الله القرطبي، والنووي، والذهبي، والشاطبي، والسندي، والآلوسي، والألباني.

القول السادس: إنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم، وتلك الشمائل قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون: يا مؤيد النسوان، ومؤتم الولدان، ومخرب العمران.

القول السابع: أن الحديث محمول على ما إذا أهمل الميت نهي أهله عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه، لأن إهماله لهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى (قوا أنفسكم).

القول الثامن: معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم.

وذهب إلى هذا محمد بن جرير، واختاره ابن تيمية والشيخ ابن عثيمين.

قال الشيخ ابن عثيمين: معناه أن الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يعلم بذلك ويتألم، وليس المعنى أن الله يعاقبه بذلك لأن الله تعالى يقول:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والعذاب لا يلزم أن يكون عقوبة ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السفر قطعة من العذاب) والسفر ليس بعقوبة، لكن يتأذى به الإنسان ويتعب، وهكذا الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يتألم ويتعب من ذلك، وإن كان هذا ليس بعقوبة من الله عز وجل له، وهذا التفسير للحديث تفسير واضح صريح، ولا يرد عليه إشكال، ولا يحتاج أن يقال: هذا فيمن أوصى بالنياحة، أو فيمن كان عادة أهله النياحة ولم ينههم عند موته، بل نقول: إن الإنسان يعذب بالشيء ولا يتضرر به " انتهى. "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (17/ 408

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحريم النياحة.

- إثبات الأسباب.

ص: 90

589 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: (شَهِدْتُ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُدْفَنُ، وَرَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ اَلْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيِّ.

===

(بنتاً) هي أم كلثوم.

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ شَهِدْنَا بِنْتاً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ - قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ - فَقَالَ «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ «فَانْزِلْ» . قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا) رواه البخاري.

قوله (لم يقارف): أي لم يجامع، ويؤيد هذا المعنى أنه جاء في رواية (لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة) وقيل: لم يذنب، والصحيح الأول.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز البكاء على الميت من غير نياحة ولا شق ولا ضرب، وقد جاءت الأدلة الكثيرة على جواز ذلك:

أ- فقد بكى صلى الله عليه وسلم لما ماتت ابنته، كما في حديث الباب.

ب- وبكى صلى الله عليه وسلم لما مات ابن ابنته، كما في حديث أُسَامَة بنِ زيدِ. قَالَ (أرْسَلَتْ بنْتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ ابْني قَدْ احْتُضِرَ فَاشْهَدنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرئُ السَّلامَ، ويقُولُ: ((إنَّ لله مَا أخَذَ وَلَهُ مَا أعطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأجَلٍ مُسَمًّى فَلتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)) فَأَرسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيهِ لَيَأتِينَّهَا. فقامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابتٍ، وَرجَالٌ رضي الله عنهم، فَرُفعَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبيُّ، فَأقْعَدَهُ في حِجْرِهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَينَاهُ فَقالَ سَعدٌ: يَا رسولَ الله، مَا هَذَا؟ فَقالَ:((هذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَها اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ عِبَاده)) متفق عليه.

قال النووي: مَعْنَاهُ أَنَّ سَعْدًا ظَنَّ أَنَّ جَمِيع أَنْوَاع الْبُكَاء حَرَام، وَأَنَّ دَمْع الْعَيْن حَرَام، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَسِيَ فَذَكَرَهُ، فَأَعْلَمَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مُجَرَّد الْبُكَاء وَدَمع العَيْنٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلا مَكْرُوه بَلْ هُوَ رَحْمَة وَفَضِيلَة وَإِنَّمَا الْمُحَرَّم النَّوْح وَالنَّدْب وَالْبُكَاء الْمَقْرُون بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنَّ اللَّه لا يُعَذِّب بِدَمْعِ الْعَيْن وَلا بِحُزْنِ الْقَلْب وَلَكِنْ يُعَذِّب بِهَذَا أَوْ يَرْحَم وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه). ا. هـ

ج- وبكى لما زار سعد بن عبادة، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ (اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ فَقَالَ «أَقَدْ قَضَى». قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا فَقَالَ «أَلَا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ) متفق عليه.

د- وبكى لما مات ابنه إبراهيم، كما في حديث أَنَس بْنِ مَالِك. قَالَ (دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْراً لإِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ». ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُون) رواه البخاري.

ص: 91

هـ- بكاؤه صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر وأصحابه. متفق عليه.

بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى استحباب البكاء على الميت إذا كان رحمة له.

قال رحمه الله:

لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافي الرضا بخلاف البكاء عليه لفوات حظ فيه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت.

•‌

‌ هل يجوز أن ينزل المرأة قبرها من ليس محرماً لها؟

نعم يجوز.

ففي هذه القصة نزل أبو طلحة، مع أن أبوها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجوداً، وكذلك زوجها عثمان.

لكن الأولى أن يكون من محارمها إن وجِد.

قال ابن قدامة رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم في أن أولى الناس بإدخال المرأة قبرها محرمها، وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها، ولها السفر معه، وقد روى الخلال بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قام عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت زينب بنت جحش فقال: ألا إني أرسلت إلى النسوة: من يدخلها قبرها؟ فأرسلن من كان يحل له الدخول عليها في حياتها. فرأيت أن قد صدقن. (المغني).

قال الشيخ الألباني أخرجه ـ أثر عمر رضي الله عنه ـ الطحاوي (3/ 304 - 305) والبيهقي (3/ 53) بسند صحيح. ينظر كتاب الجنائز (1/ 148).

فإن لم يكن لها محارم أو وجدوا إلا أن بهم مانعاً جاز أن ينزلها الأجنبي لحديث الباب.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: العلماء فيما أعلم لم يقل أحد منهم: إن المرأة يحرم أن يدخلها في قبرها من جامع تلك الليلة، لكنهم قالوا: من بعد عهده بالجماع فهو أولى

وبعض الناس يظنون أنه لا ينزل المرأة في قبرها إلا من كان من محارمها، وهذا غير صحيح، ينزلها من كان أعرف بطريقة الدفن، سواء كان من محارمها أو من غير محارمها (لقاء الباب المفتوح).

وقال رحمه الله أيضاً: المرأة يضعها في قبرها أي رجل من الرجال، سواء كان من محارمها أو من غير محارمها؛ لكن الأفضل من محارمها، إلا إذا علمنا أن أحداً من الناس لم يجامع تلك الليلة كرجل نعلم أنه ليس له زوجة، أو نعلم أنه قد تجاوز سن الشهوة، فقد قال العلماء رحمهم الله: إن من بَعُدَ عهده بالجماع أولى ممن قَرُب. (لقاء الباب المفتوح).

• من الذي يتولى إنزال المرأة لقبرها، الرجال أم النساء؟

الرجال لا النساء.

أ-لحديث الباب.

ب-ولأن تولي الرجال للجنائز في الدفن هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جرى عليه عمل المسلمين.

ج-ولأن الدفن يحتاج إلى بطش وقوة، والرجال أقوى وأشد بطشاً، فهم بذلك أعرف وعليه أقدر.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- رقة قلب النبي صلى الله عليه وسلم.

- جواز الجلوس عند القبر.

ص: 92

590 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه. وَأَصْلُهُ فِي "مُسْلِمٍ"، لَكِنْ قَالَ (زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ اَلرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ).

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث رواه ابن ماجه من طريق إبراهيم بن يزيد المكي عن أبي الزبير عن جابر به.

وإبراهيم بن يزيد الخُوزِي، قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بثقة.

•‌

‌ اذكر أصل الحديث كما في صحيح مسلم؟

عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْماً فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَقُبِرَ لَيْلاً فَزَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَه).

•‌

‌ ما حكم دفن الميت ليلاً؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يجوز إلا لضرورة.

وهذا مذهب ابن حزم.

لحديث الباب.

القول الثاني: أنه يجوز من غير كراهة.

وهذا مذهب الجمهور.

قال النووي: وهذا هو قول جماهير العلماء من السلف والخلف.

أ- لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ «مَتَى دُفِنَ هَذَا». قَالُوا الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي، قَالُوا دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْه) رواه البخاري.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة دفنهم إياه بالليل، وإنما أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره.

ب-ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد - وفي رواية: كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد - ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها، وفي رواية: قالوا: ماتت من الليل ودفنت فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) متفق عليه، والرواية التي فيها وجد الشاهد عند البيهقي.

قال ابن عبد البر: في الحديث دليل واضح على جواز الدفن بالليل.

ووجه الدلالة كسابقه من حيث إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره على الصحابة الدفن بالليل.

ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ليلاً.

عن عائشة قالت: (ما علمنا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء

) رواه أحمد.

قال الطحاوي:

وهذا بحضرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكره أحد منهم.

د-أن أبا بكر رضي الله عنه دفن ليلاً.

ص: 93

هـ- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. وَقَالَ لَهَا فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ. قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ. قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ. فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا. قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ. قَالَ إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ. فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِح) رواه البخاري.

و- أن فاطمة دُفنت بالليل.

عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِى بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكَ، وَمَا بَقِىَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ». وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئاً مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئاً فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ، دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِىٌّ لَيْلاً) متفق عليه.

و - (أن ابن مسعود رضي الله عنه دفن ليلاً) أخرجه ابن أبي شيبة.

قال ابن قدامة: وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلًا: عُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث الباب (الذي فيه الزجر عن الدفن ليلاً)؟

قيل: إن النهي الوارد في الحديث إنما هو عن دفن الميت قبل الصلاة عليه ويدل عليه ( .. فزجر النبي

حتى يصلى عليه).

وقيل: إن النهي في الحديث عن الدفن ليلاً ليس لذات الدفن، وإنما لما يترتب عليه من قلة المصلين، فإن الدفن بالنهار يحضره كثير من الناس ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفراد.

وقيل: إن النهي عن الدفن في الليل إنما كان لما يترتب عليه من إساءة الكفن، لأن الدفن ليلاً مظنة إساءة الكفن ورداءته.

قال ابن قدامة: وَحَدِيثُ الزَّجْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّأْدِيبِ؛ فَإِنَّ الدَّفْنَ نَهَارًا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِهَا، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَأَمْكَنُ لِإِتْبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ وَإِلْحَادِهِ.

•‌

‌ هل ورد عن عائشة أنها طلبت أن تدفن ليلاً؟

نعم، ورد أن عائشة طلبت أن تدفن ليلاً، هكذا ذكره محمد بن عمر الواقدي كما أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 6 - 7 وابن سعد في طبقاته 8/ 76 - 77، وسير أعلام النبلاء 2/ 192 وغيرها من المصادر.

والظاهر والله أعلم إما لئلا يؤخر دفنها لأنها كما ورد أنها ماتت ليلة السابع عشر من رمضان بعد الوتر، أو لأنّ ذلك أستر لها أو لعله ظهر في زمنها لا سيما في أواخر عمرها من يكره الدفن ليلا فأرادت أن تبيّن الحكم .. أو لغير ذلك. وعموما فإن الدفن بالليل جائز للحاجة والله تعالى أعلم .... (الإسلام سؤال وجواب).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- يجب مراعاة تجهيز الميت بإحسان تكفينه وغسله ودفنه.

- وجوب دفن الميت.

- وجوب الصلاة عليه.

ص: 94

591 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: - لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ -حِينَ قُتِلَ- قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ) أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، إِلَّا النَّسَائِيِّ.

===

(نَعْيُ) أي خبر وفاته.

(جَعْفَرٍ) هو ابن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب، مات في غزوة مؤتة عام 8 هـ.

(اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا) خطاب منه صلى الله عليه وسلم لأهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً، والمراد بآل جعفر: زوجته أسماء بنت عُمَيْس وأولاده.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث حسنه الترمذي والذهبي والشوكاني والألباني، لأن في إسناده خالد بن سَارَّة، قال الحافظ: صدوق.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب صنع الطعام لأهل الميت في يوم مصيبتهم.

قال الإمام الشافعي: وَأُحِبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ: أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِ يَمُوتُ وَلَيْلَتِهِ: طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَذِكْرٌ كَرِيمٌ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ قَبْلَنَا وَبَعْدَنَا. (الأم).

وقال الشوكاني رحمه الله: فِيه مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ بِمُؤْنَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَة. (نيل الأوطار).

•‌

‌ ما الحكمة من هذا الأمر؟

أن أهل الميت مشغولون بمصيبتهم فلا يقدرون على صنع طعامهم.

قال ابن قدامة: يُسْتَحَبُّ إصْلَاحُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ، إعَانَةً لَهُمْ، وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ، وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِمْ، عَنْ إصْلَاحِ طَعَامٍ لَأَنْفُسِهِم.

وقال العيني: يستفاد من الحديث استحباب صنعة الطعام لأهل الميت، سواء كان الميت حاضراً، أو جاء خبر موته، وذلك لاشتغال أهله بخبره، أو بحاله، ولذلك علل عليه السلام بقوله:(فإنه قد أتاهم أمرٌ يَشغَلُهم) أي: فإن الشأن: قد أتاهم أمر، أي: شأن وحالة، شَغلهم عن صنعة الطعام وغيره. (شرح سنن أبي داود).

•‌

‌ ما حكم صنع أهل الميت الطعام للناس؟

بدعة، بل عده بعض العلماء من النياحة.

قال الشيخ ابن باز: الأفضل أن يصنع الجيران والأقارب الطعام في بيوتهم ثم يهدوه إلى أهل الميت؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة أمر أهله أن يصنعوا لأهل جعفر طعاماً وقال: (لأنهم قد أتاهم ما يشغلهم)

وأما كون أهل الميت يصنعون طعاماً للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة، كل ذلك لا يجوز لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي - أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة) أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاؤا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام، والله ولي التوفيق.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن هذا من حقوق الأخوة الإيمانية.

- مشاركة المسلم لأخيه في مصيبته وحزنه.

- حسن تعاليم الإسلام.

- الحث على التعاون والتكاتف.

ص: 95

592 -

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى اَلمَقَابِرِ: - اَلسَّلَامُ عَلَى أَهْلِ اَلدِّيَارِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اَللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ) رَوَاهُ مُسْلِم.

593 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (مَرَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ اَلْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ اَلْقُبُورِ، يَغْفِرُ اَللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَن.

===

(السلام) الدعاء لهم بالسلامة.

(لنا ولكم العافية) العافية للأحياء من أمراض الجسد ومن أمراض القلب، وللأموات: من عذاب القبر وعذاب النار.

•‌

‌ ما صحة حديث ابن عباس؟

حديث ابن عباس سنده ضعيف، لأن في إسناده قَابوس بن أبي ظَبْتان، ضعفه أحمد، وأبو حاتم، والنسائي، فالحديث ضعيف.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: مشروعية الدعاء عند زيارة المقابر بالدعاء الوارد، والدعاء الوارد:

أ- حديث الباب (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين

) رواه مسلم.

جاء في رواية: (أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم.

ب- حديث عائشة في حديث لها طويل قالت (قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). رواه مسلم

ج-وعنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). رواه مسلم

د-عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ). رواه مسلم

•‌

‌ هل يشرع السلام أو الدعاء عند المرور بالمقابر إذا كانت مسورة بحيث لا نشاهد القبور؟

لا بأس بذلك، لأن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، كما أنه لا يشترط رفع الصوت عند السلام بحيث يسمع كل من في المقبرة ويسلم على أهلها وهو لم يشاهد كل قبر.

•‌

‌ ما كيفية السلام على أهل المقبرة؟

المستحب حال زيارة المقابر والسلام على أهلها: أن يقبل الزائر على أهل المقبرة بوجهه فيسلم عليهم ويدعو بما ورد.

ففي حديث أبي هريرة - وهو ثاني حديث الباب وإن كان ضعيفاً - قال (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه

).

قال القاري تعليقاً على هذا الحديث: فيه دلالة على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت، وأن يستمر كذلك حال الدعاء أيضاً، وعليه عمل عامة المسلمين.

ص: 96

•‌

‌ هل يشرع الوضوء لزيارة القبور؟

ذكر بعض الشافعية استحباب الوضوء لزيارة المقابر أو كون الزائر على طهارة، ولم يذكروا على ذلك دليلاً، ومعلوم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع ما لم يوجد دليل عليها ولا دليل هنا.

•‌

‌ عند زيارة القبور هل يشرع للزائر أن يصل إلى القبر الذي يقصد زيارته؟

يكفي عند أول القبور، وإن أحب أن يصل إلى قبر من يقصد زيارته ويسلم عليه فلا بأس. (الشيخ ابن باز).

•‌

‌ هل الموتى يسمعون أم لا؟

استدل بعض العلماء بقوله (السلام عليكم

) على أن الموتى يسمعون، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين:

القول الأول: أن الموتى لا يسمعون.

أ- لقوله تعالى (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

ب-قوله تعالى (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِين).

ج-قوله تعالى (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

د-قوله صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام) رواه أحمد.

وجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع سلام المسلّمين عليه، إذ لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه، وإذا الأمر كذلك فبالأولى أنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى.

القول الثاني: أن الموتى يسمعون مطلقاً

وهذا اختيار جمع من المحققين، كابن حزم، والقاضي عياض، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير.

أ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثاً ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّى حَقًّا». فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا). ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ) متفق عليه.

ب- عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ». قَالَ «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ

) متفق عليه.

ج- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ). رواه مسلم

وجه الدلالة: هذا الحديث فيه مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله (السلام عليكم) وهذا يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه، لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شك في أن ذلك ليس من شأن العقلاء.

د-عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من رجل يمر على قبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام رواه ابن حبان في المجروحين وهو ضعيف.

هـ- عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام. رواه أبو داود

ص: 97

594 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.

595 -

وَرَوَى اَلتِّرْمِذِيُّ عَنِ اَلمُغِيرَةِ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ (فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ).

===

(لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ) السب هو الشتم واللعن.

(أَفْضَوْا) أي: وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم سب الأموات.

•‌

‌ هل هذا الحكم عام للمسلم والكافر أو فقط للمسلم؟

قال بعض العلماء: يشمل هذا الميت المسلم والكافر.

وقال بعضهم: هذا خاص بأموات المسلمين.

والراجح أن الكافر إذا كان مؤذياً للمسلمين ولا يتأذى قريبه الحي المسلم فإن ذلك لا بأس.

والمسلم إن كان فاسقاً أو مبتدعاً فإنه يسب للتحذير من شره، ولكن دون وجود أقاربه.

•‌

‌ لماذا نهيَ عن سب الأموات؟

نهي عن سب الأموات لحكم، منها:

أولاً: لأنهم أفضوا وقدموا إلى ما عملوا.

ثانياً: أن في ذلك إيذاء لأقاربهم الأحياء.

ثالثاً: أن ذلك غيبة.

•‌

‌ ما الجمع بين ما جاء في الصحيحين من حديث أنس قال: (مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت

فلما سئل الرسول -صلى الله عليه وس

لم- عن ذلك قال: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار) وحديث الباب؟

الجمع:

أ-أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهورً بنفاق أو نحوه. [قاله النووي]

وقيل: يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه.

وقيل: يكون النهي العام متأخراً فيكون ناسخاً، وهذا ضعيف.

الاثنين: 24/ 5/ 1433 هـ

ص: 98

‌كِتَابُ اَلزَّكَاةُ

‌مقدمة:

‌تعريفها لغة:

النماء والزيادة.

‌وشرعاً:

هي نصيب مقدر شرعاً في مال معين يصرف لطائفة مخصوصة.

وسميت زكاة:

لأنها تزكي المال، وتزكي صاحب المال، وتطهر نفس الغني من الشح والبخل، وتطهر نفس الفقير من الحسد والضغينة، وتسد حاجة الإسلام والمسلمين.

كما قال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.

ومن حِكمِها: تطهير أصحاب الأموال من الشح والبخل، تقوية روابط المجتمع، تزيد المحبة والمودة بين أفراد المجتمع، وأيضاً فيها امتحان للنفس، لأن المال محبوب للنفس، والنفس تبخل به، إعانة الضعفاء وكفاية أصحاب الحاجة، وتكفر الخطايا وتدفع البلاء، ومجلبة للمحبة.

•‌

‌ قال ابن قدامة: اعلم أن على مريد الآخرة في زكاته وظائف:

الأولى: أن يفهم المراد من الزكاة، وهو ثلاثة أشياء: ابتلاء مدعي محبة الله بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل، وشكر نعمة المال.

الوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجها لكونه أبعد من الرياء والسمعة.

الوظيفة الثالثة: أن لا يفسدها بالمن والأذى.

الوظيفة الرابعة: أن يستصغر العطية، فإن المستعظم للفعل معجب به.

الوظيفة الخامسة: أن ينتقي من ماله أجله وأجوده وأحبه إليه.

الوظيفة السادسة: أن يطلب لصدقته من تزكو به.

•‌

‌ مناسبة كتاب الزكاة بعد كتاب الصلاة لأربعة أسباب:

أولاً: لأن الزكاة قرينة الصلاة في كثير من المواضع.

ثانياً: لأنها تأتي بعد الصلاة في الأهمية.

ثالثاً: شدة حاجة المكلف إليها.

رابعاً: اقتداء بحديث ابن عمر (بني الإسلام على خمس

وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة

).

•‌

‌ وقد اختلف العلماء متى فرضت؟

فقيل: قبل الهجرة.

لقوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) وهذه في سورة الأنعام وهي مكية.

وقيل: بعد الهجرة.

قال النووي: إن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة.

قال ابن حجر: وهو قول الأكثر.

وهذا هو الراجح.

قال ابن حجر: وإنما الذي وقع في السنة التاسعة بعث العمال.

•‌

‌ عقوبة تارك الزكاة:

عقوبة أخروية، وعقوبة دنيوية:

العقوبة الأخروية:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك) متفق عليه.

[الشجاع] الحية الذكر. [الأقرع] الذي لا شعر له لكثرة سمه وطول عمره. [الزبيبتان] نقطتان سوداوان فوق العينين وهو أخبث الحيات.

العقوبة الدنيوية:

عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (

وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء) رواه ابن ماجه.

ص: 99

596 -

عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى اَلْيَمَنِ

- فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ، وَفِيهِ:(أَنَّ اَللَّهَ قَدِ اِفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيّ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُعَاذاً قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّكَ تَأْتِى قَوْماً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَاب).

(بعث معاذاً) قال الحافظ: كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره البخاري في أواخر المغازي، واتفقوا على أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها، (كرائم أموالهم) جمع كريمة، وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً.

•‌

‌ ما حكم الزكاة؟

واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة).

وقال تعالى (وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).

وقال تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

) متفق عليه.

ولحديث الباب (وأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم) متفق عليه.

وأجمع المسلمون على وجوبها، فمن جحد وجوبها وهو ممن عاش بين المسلمين فإنه كافر، لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.

قال في المغني: وهي واجبة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أمته.

•‌

‌ ما حكم تارك الزكاة؟

تارك الزكاة ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يتركها جاحداً لوجوبها.

فهذا كفر مخرج من الملة، لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.

القسم الثاني: أن يتركها كسلاً وتهاوناً.

فهذا فيه خلاف.

والأرجح أنه لا يكفر، وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر عقوبة مانع الزكاة قال: (

فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) رواه مسلم، فلو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة.

(هل تؤخذ منه قهراً، سيأتي بحثها إن شاء الله).

ص: 100

•‌

‌ هل يجوز صرف الزكاة لصنف واحد من أصناف الزكاة الثمانية؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: يجوز ذلك.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ- لقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

ب- ولحديث الباب (

فترد على فقرائهم) والفقراء صنف واحد من الأصناف الثمانية.

ج-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بني زُرَيْق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر) رواه ابن خزيمة.

د-وقال صلى الله عليه وسلم لقَبِيصة (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها) رواه مسلم.

القول الثاني: أنه يجب التعميم.

وهذا مذهب الشافعي.

لقوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ

).

والصحيح القول الأول.

•‌

‌ ما المراد بقوله (إِنَّ اَللَّهَ قَدِ اِفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ)؟

صدقة: أي زكاة.

كقوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء .. ) أي: الزكاة.

•‌

‌ هل يجوز دفع الزكاة للغني؟

لا، لا يجوز دفع الزكاة لغني بكسب أو مال.

قال ابن قدامة: ولا خلاف في هذا.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرةٍ سوي) رواه مسلم.

ب-وعن عبيد بن عدي (أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر ورآهما جلْدَيْن فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أحمد.

ج-وأيضاً لآية الصدقة (إنما الصدقات للفقراء .. ) فمفهومه أنها لا تحل لغني.

د-ولأن أخذ الغني منها يمنع وصولها إلى أهلها، ويخل بحكمة وجوبها وهو إغناء الفقراء بها.

فائدة: ضابط الغنى: هو من يكون له كفاية على الدوام، إما بصناعة أو بكسب أو أجرة من عقار.

•‌

‌ هل يجوز نقل الزكاة إلى بلد آخر؟

- لا خلاف في مشروعية تفريق الزكاة في بلد المال الذي وجبت فيه الزكاة.

- أيضاً لا خلاف في جواز نقلها إذا استغنى أهل بلد المال.

واختلفوا في نقلها إذا لم يستغن أهل بلد المال؟

القول الأول: لا يجوز نقلها من بلد المال مطلقاً.

وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية.

أ- لحديث الباب (صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم).

وجه الدلالة: أنه قيد الصرف بأن يكون في فقرائهم، وهو أمر يشعر باختصاص فقراء بلد المال به دون غيرهم، أي فقراء أهل اليمن.

ب- وقالوا: إن زياد بن أبيه لما بعث عمران بن حصين ساعياً في الزكاة، فلما قدم عليه عمران، قال له: أين المال، قال عمران: أللمال بعثتني؟ ثم قال: أخذناها من حيث كنا نأخذها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه فيما كنا نضعه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه صرفها في أهلها.

ص: 101

القول الثاني: يجوز النقل للمصلحة الشرعية [كقرابة محتاجين، أو من هم أشد حاجة من أهل بلد المال]

وهذا قول الحنفية، واختاره ابن تيمية.

أ-واستدلوا بالعمومات (إنما الصدقات للفقراء

) قالوا: إن الله لم يفرق بين فقراء وفقراء.

ب-وبحديث معاذ (

فترد في فقرائهم) قالوا المراد بالفقراء هنا فقراء المسلمين.

ج-وبقوله صلى الله عليه وسلم لقَبِيصة بن المخارق - وقد تحمل حمالة وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم يريد منه العون على هذه الحمالة - قاله له (أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) فدل على أن الصدقات تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم[هذا من أقوى الأدلة].

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ لماذا الأفضل أن يفرقها في فقراء بلده؟

لأن في ذك فوائد:

أنه أيسر، وأقل خوفاً، وأن أهل بلده أقرب الناس إليه والقريب له حق، وأيضاً أن فقراء بلده تتعلق أطماعهم به وبما عنده من المال، وأيضاً أنه إذا أعطى أهل بلده صار بينه وبينهم مودة ورحمة.

•‌

‌ ما الأفضل أن يفرق زكاته بنفسه أو يوكل من يقوم بها؟

والأفضل أن يفرقها بنفسه.

لينال أجر القيام بتفريقها، وليبرئ ذمته بيقين، ويدفع عن نفسه المذمة ولا سيما إذا كان غنياً مشهوراً، وربما ينال دعوة صادقة من فقير، وربما يعطيها للفقير وهو في وقت كربة فيتذكرها الفقير ويدعو له كل ما تذكره، لكن يجوز أن يوكل من يدفعها عنه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية بعث السعاة.

- فضيلة معاذ، حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً ومعلماً، وفضائل معاذ كثيرة:

قال له الرسول صلى الله عليه وسلم (إني أحبك في الله) رواه أبو داود.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) رواه الترمذي.

أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصه ببعض العلم دون بقية الصحابة، كحديث (هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله

أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً).

- أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة.

- أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، إما بنفسه، وإما بنائبه.

- يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال، بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.

- يحرم دفع الزكاة لكافر إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم.

ص: 102

597 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَه (هَذِهِ فَرِيضَةُ اَلصَّدَقَةِ اَلَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ بِهَا رَسُولَهِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ اَلْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا اَلْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَر، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُون أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ اَلْجَمَل فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَة فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا اَلْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ اَلْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاة شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاه فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ اَلرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاة شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ اَلصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُخْرَجُ فِي اَلصَّدَقَةِ هَرِمَة وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اَلْمُصَّدِّقُ، وَفِي اَلرِّقَة رُبُعُ اَلْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ اَلْإِبِلِ صَدَقَةُ اَلْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ اَلْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اِسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ اَلْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ اَلْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ اَلْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ اَلْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ اَلْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ - رَوَاهُ اَلْبُخَارِيِّ.

===

(بِنْتُ مَخَاضٍ) هي التي أكملت السنة الأولى ودخلت في الثانية، وهي أقل سن يجزاء في زكاة الإبل.

(بِنْتُ لَبُون) هي التي استكملت الثانية ودخلت في السنة الثالثة.

(حِقَّةٌ) هي التي استكملت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.

(جَذَعَة) هي التي استكملت أربع سنين ودخلت في الخامسة.

(اَلْمُصَّدِّقُ) قيل: بلفظ: المُصِّدّق، وقيل: بلفظ: المُصَدِّق. [وسيأتي بحث أيهما أرجح]

•‌

‌ ما حكم الزكاة في بهيمة الأنعام؟

واجبة.

أ-عن أَبَي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالإِبِلُ قَالَ «وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ مِنَهَا فَصِيلاً وَاحِداً تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قَالَ «وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئاً لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّار) رواه مسلم.

ص: 103

قال النووي: هو أصح حديث في زكاة البقر.

قال ابن قدامة: فلا أعلم خلافاً في وجوب الزكاة في البقر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما لم يذكر زكاة البقر في كتاب أبي بكر، لقلة البقر في الحجاز، فلما بعث معاذاً إلى اليمن ذكر له حكم البقر لوجودها عندهم.

ب-وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى اَلْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً) رواه أهل السنن.

ب- ولحديث الباب.

•‌

‌ اذكر شروط وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام؟

تجب الزكاة في بهيمة بشروط:

الأول: أن تكون سائمة. (ترعى أكثر الحول).

أ- لحديث الباب وفيه (وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ)

ب-ولحديث بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا

) رواه أبو داود.

فذكْر السوم في الحديث يدل بمفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، لأن ذكْر السوم لا بد له من فائدة يعتد بها، صيانة لكلام الشارع عن اللغو.

فلا تجب الزكاة في بهيمة الأنعام إلا إذا كانت سائمة أكثر الحول ترعى الكلأ المباح، بأن ترعى سبعة أشهر - مثلاً - ويعلفها خمسة أشهر، واعتبر الأكثر، لأن له حكم الكل، وهذا بخلاف المعلوفة فلا زكاة فيها، لأنها تكثر مؤنتها، فيشق على النفوس إخراج الزكاة منها، بخلاف السائمة.

وقد ذكر العلماء أنها إذا كانت ترعى أكثر الحول فهي سائمة.

مثال: شخص عنده أغنام، ثمانية أشهر لا يعلفها [في البر] وأربعة أشهر يعلفها، فهذه زكاتها زكاة بهيمة الأنعام.

الثاني: أن تبلغ نصاباً.

لحديث الباب.

الثالث: مضي عام كامل.

•‌

‌ متى تجب الزكاة في الإبل؟

تجب إذا بلغت خمساً، فمن عنده أقل من خمس لا زكاة فيها.

أ-لحديث الباب.

ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (وليس فيما دون خمس ذوْدِ صدقة) متفق عليه.

ص: 104

•‌

‌ اذكر جدول نصاب الإبل من 5 - 120؟

نصاب الإبل من 5 - 120 كالتالي:

5 -

9: شاة واحدة.

10 -

14: شاتين.

15 -

19: 3 شياه.

20 -

24: 4 شياه.

25 -

35: بنت مخاض. (تم لها سنة ودخلت في الثانية).

36 -

45 بنت لبون.

46 -

60 حِقة.

61 -

75 جذعة.

[76 - 90] 2 بنتا لبون.

[91 - 120] حقتان.

•‌

‌ كم يكون النصاب من بعد 120؟

بعد: 120، في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون.

130: فيها حقة واحدة وبنتا لبون.

150: فيها 3 حقاق.

بنت اللبون: هي أنثى الإبل تمت لها سنتان وسميت بذلك لأن أمها قد ولدت وأصبحت ذات لبن غالباً.

بنت مخاض: أنثى الإبل ولها سنة واحدة، وسميت بذلك لأن الغالب أن أمها حامل.

حقة: الأنثى لها ثلاث سنوات سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.

جذعة: أنثى الإبل وتمت لها: 4 سنوات.

•‌

‌ متى يبدأ نصاب الغنم؟

نصاب الغنم يبدأ من أربعين، فمن عنده أقل من [40] لا زكاة فيها إلا أن يشاء ربها.

ففي حديث الباب (وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ).

• لماذا قال في الغنم (وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا .... ) ولم يذكر السوم في الإبل؟

الجواب من وجوه:

أولاً: أنه ذكر في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده كما تقدم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ

).

ثانياً: أن عدم الذكر ليس ذِكراً للعدم.

ثالثاً: قياساً على الغنم.

رابعاً: ولأن الإبل غالباً لا تكون إلا سائمة.

ص: 105

•‌

‌ اذكر نصاب الغنم؟

40 -

120: شاة. (الوقص: 80).

121 -

200: شاتان. (الوقص: 80).

201 -

399: ثلاث شياه. (الوقص: 198، وهذا أعلى وقص بالنسبة للغنم).

ثم في كل (100) شاة، فمثلاً: 400 - 499 أربع شياه، 500 - 599 خمس شياه.

•‌

‌ اذكر بعض الأحكام التي تختلف فيها سائمة بهيمة الأنعام عن بقية الأموال الزكوية؟

الأول: أن أنصابها مقدرة ابتداء وانتهاء.

الثاني: أنه لا شيء في الوقص. (الوقص هو ما بين الفرضين).

الثالث: أنه إذا فرّقها مسافة قصر فأكثر - لا فراراً من الزكاة - فلكل مكانٍ حكم منفرد.

رابعاً: أن الخلطة تؤثر فيها بخلاف غيرها.

•‌

‌ عرف الحيلة؟

الحيلة: التوصل إلى أمر محرم بفعلٍ ظاهره الإباحة.

•‌

‌ ما حكم الحيل؟

حرام.

أ- قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فقد مسخ الله تلك القرية قردة لما تحايلوا على ارتكاب المحرم.

ب- أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة (القلم) وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهو نائمون فأصبحت كالصريم، وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين، قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.

ج-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل).

د-ولأن المتحيل فيه نوع استهزاء بالله تعالى.

•‌

‌ كم مفسدة ارتكب المتحايل؟

كل من تحيل لارتكاب محرم [إما بإسقاط واجب أو فعل محرم] فقد ارتكب مفسدتين:

الأولى: مفسدة التحايل. الثانية: مفسدة فعل المحرم.

• اذكر الحيلة التي تؤدي إلى إسقاط الزكاة؟

في حديث الباب (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ اَلصَّدَقَةِ).

مثال: شخص عنده [40] شاة، فلما علم بقدوم المصدق فرقها، جعل [20] في جهة، و [20] في جهة، فهذا أمر محرم، لأنه فرق من أجل الهروب من الزكاة.

مثال آخر: ثلاث أشخاص عند كل واحد [40] شاة، تجب على كل واحد شاة، فلما علموا بقدوم المصدق، جمعوها في مكان واحد، من أجل أن يكون فيها شاة واحدة، لأنه يصير مجموعها [120]، فعلوا ذلك حيلة للتخلص من الزكاة، فهذا أمر محرم.

مثال آخر: رجل عنده (40) شاة في مكة وهذه فيها شاة، و (40) في المدينة وهذه فيها شاة، فقام هذا الرجل وجمعهما في مكان واحد، ليكون فيهما شاة واحدة، فهذا لا يجوز.

ص: 106

•‌

‌ ما الحكم لو كان مال الرجل نفسه متفرق:، مثال: شخص عنده (20) شاة في رفحاء، و (20) شاة في الرياض؟

الصحيح أن عليه الزكاة.

لأن المالك واحد.

•‌

‌ هل الخلطة مؤثرة في بهيمة الأنعام؟

نعم.

لقوله (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّة).

أي: أن الخلطة مؤثرة وتجعل المالين مال واحد.

مثال: عندي غنم، وأنت عندك غنم، والثالث عنده غنم، والرابع عنده غنم، وخلطناها جميعاً، فتجعل المالين كالمال الواحد، لكن تكون الخلطة مؤثرة بشروط:

الشرط الأول: أن يكون الخليطان من أهل الزكاة (بأن يكونا مسلمين حرين، فلو كان أحدهما مسلم والآخر ذمي، فإنه لا أثر لخلطة غير المسلم، لأن الزكاة غير واجبة على الذمي أصلاً).

الشرط الثاني: أن يختلطا في نصاب، بأن يكون مجموع ماليهما يبلغ نصاباً (كأربعين من الغنم).

الشرط الثالث: أن تكون الخلطة في السائمة (وهذا المشهور من مذهب الحنابلة) فلو اختلطا في زرع أو في عروض أو أثمان فإنه لا أثر لهذه الخلطة.

الشرط الرابع: أن يختلطا في الأوصاف التي ذكرها العلماء، وهي:

الاشتراك في الفحل: أي فحل المالين واحد، فلو كان مال زيد له فحل ومال عمرو له فحل فالخلطة غير مؤثرة.

الاتفاق في المسرح: أي يسرحن جميعاً ويرجعن جميعاً.

المحلب: أي المكان الذي تحلب فيه يكون واحداً.

المرعى: أي يكون المرعى لها جميعاً فليس غنم هذا في شعبة الوادي الشرقية، والثاني في الشعبة الغربية.

المراح: أي يكون المراح جميعاً، فلا يكون غنمي لها مراح وحدها، وغنمك لها مراح وحدها.

فهذه إذا اشتركت في هذه الأشياء الخمسة، فإن الخلطة هنا تصير المالين كالمال الواحد، وأما إذا تميز مال كل منهما عن الآخر في شيء من هذه الأوصاف فإنه لا يحصل تمام الارتفاق، وإذا لم يحصل تمام الارتفاق فإنه لا يكون مالهما كالمال الواحد.

الشرط الخامس: أن يختلطا في جميع الحول - وهذا الشرط بالإجماع - فلو اختلطا في بعض الحول أو افترقا في بعض الحول فإنه لا أثر لهذه الخُلطة، لأن إيجاب الزكاة معلقة بالخلطة، فإذا عدمت الخلطة عدِم وجوب الزكاة، وإذا عدم في بعض الحول سقطت الزكاة.

•‌

‌ هل الخلطة مؤثرة في غير بهيمة الأنعام؟

جمهور العلماء أن الخلطة مؤثرة في بهيمة الأنعام فقط، فلا تأثير للخلطة في غيرها من الأموال.

وذهب بعض العلماء إلى أن الخلطة تؤثر في جميع الأموال الزكوية، فلو خلط شخصان ماليهما - ومال كل واحد منهما لا يبلغ نصاباً - لكنهما يبلغان نصاباً إذا اجتمعا، فإن الخلطة تكون مؤثرة وتجب الزكاة على هذا القول، قياساً على السائمة بجامع الارتفاق.

وقيل: إن الخلطة مؤثرة في الأموال الظاهرة (كالحبوب والثمار والماشية) لأن السعاة كانوا يخرصون الثمر والحبوب دون استفصال.

والصحيح قول الجمهور.

•‌

‌ ما معنى قوله (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ)؟

أن المصدق (الساعي) إذا أخذ الصدقة من أحد الخليطين فإنه يرجع على صاحبه بالقدر الذي وجب عليه.

ص: 107

•‌

‌ ما حكم إخراج الهرمِة في الزكاة وذات العَوار؟

لا يجوز إخراج الهرمة (وهي المسنة التي سقطت أسنانها من الكبَر).

ولا ذات العَوَار، وهي المريضة المعيبة.

جاء في رواية [ولا تيْس إلا أن يشاء ربها]. الذكر من المعز.

•‌

‌ اذكر بعض المواضع التي يخرج فيها في سائمة بهية الأنعام الذَّكَر؟

الأصل في الواجب الذي يخرج من بهيمة الأنعام أن يكون أنثى، لكن يخرج الذكر في مواضع:

الأول: التيس (تيس الضراب) إذا رضي ربه.

الثاني: التبيع في الثلاثين من البقر.

الثالث: ابن اللبون عن بنت المخاض إذا لم تكن عنده.

الرابع: إذا كان النصاب كله ذكوراً.

•‌

‌ ما المراد بالمصدق في قوله (إلا أن يشاء المصدق)؟ وعلى ماذا تعود هذه الجملة؟

هذه الجملة (إلا أن يشاء المصدق) عائدة على الجملة الأخيرة وهي قوله (ولا تيس).

وأما قوله (المصدق) فقد اختلف العلماء في ضبطها:

الأكثر على أن اللفظ الأول: بتشديد الصاد وتشديد الدال. والمراد به: المُزَكِّي، (مالك الماشية).

يكون المعنى: لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلاً، ولا يؤخذ تيس إلا برضا المالك.

وعلى اللفظ الثاني: تخفيف الصاد وتشديد الدال، المصَدّق (هو آخذ الصدقة: الساعي والعامل).

ويكون المعنى: لا تخرج الهرمة ولا ذات العوار إلا إذا رأى الساعي أن هذا فيه مصلحة للفقراء.

الأقرب المعنى الثاني: المراد: المصَدّق (العامل) لأنه هو المناسب أن يجعل الأمر إليه، لأنه لو جعل الأمر موكول إلى صاحب المال ربما يجحف بالفقراء.

•‌

‌ ما هو الجُبران؟

الجبران: هو دفع ما نقص أو رد ما زاد، وهو من خصائص زكاة الإبل.

• لكل نوع من أنواع بهيمة الأنعام خصيصة اذكرها؟

زكاة الإبل: تختص بالجبران.

زكاة البقرة: تختص بإجزاء الذكَر، في الثلاثين وما تكرر منها. (في الثلاثين: تبيع، وفي الستين: تبيعان).

زكاة الغنم: تختص بإجزاء الصغار إذا كان النصاب كله صغاراً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- وجوب الزكاة في الفضة لقوله (وفي الرِقَة ربع العشر).

- الحديث دليل على أن من وجب عليه سن معين وعَدِمَه، فهو مخير، بين أن يرقى ويعطى جُبراناً، أو ينزل ويدفع هو جُبراناً.

الجُبران كما ورد في الحديث: شاتان إن استيسرتا أو عشرين درهماً.

إن نزل: وجبت عليه حِقة، فقال ليس عندي حقة لكن عندي بنت لبون، فله أن يدفع بنت لبون ويدفع الجبران، يعطي الساعي: شاتين أو عشرين درهماً.

- حكمة الشرع في التقدير والإيجاب، حيث لم يوجب فيما دون خمس من الإبل شيئاً.

- تحريم الحيل المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها.

ص: 108

598 -

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى اَلْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مُعَافِرَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَأَشَارَ إِلَى اِخْتِلَافٍ فِي وَصْلِهِ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

===

النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى اَلْيَمَن) أي: أرسله عاملاً على الزكاة وغيرها.

(تَبِيعًا) وهو الذي أتم الحول الأول ودخل في الثاني، والأنثى تبيعة، وسمي تبيعاً لأنه لا يزال يتبع أمه.

(مُسِنَّةً) وهي التي أتمت السنة الثانية ودخلت في الثالثة.

(حَالِمٍ) فسره أبو داود بالمحتلم، والمراد به أخذ الجزية ممن لم يسلم.

(دينار) يقدر بوزن: 72 حبة شعير.

(أو عَدْلَه) ما يقابل الشيء ويوازنه.

(مَعافِر) على وزن مساجد، المراد من الثياب المعافرية كما فسره أبو داود بذلك، نسبة إلى حي بن همدان

والمعنى الذي لم يسلم يدفع ديناراً، أو ما يقابل الدينار من ثياب اليمن.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث جاء من طريق الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ

، والحديث مختلف فيه فرجح بعض العلماء إرساله كالترمذي والدارقطني، وقد أخرجه مرسلاً ابن أبي شيبة، ورجح الوصل جماعة من العلماء، لأنها رواية جماعة من الحفاظ ووقع خلاف في سماع مسروق من معاذ، والراجح إثبات سماعه. والحديث صححه الألباني.

•‌

‌ على ماذا يدل حديث الباب؟

يدل على وجوب الزكاة في البقر، وهذا ثابت بالسنة والإجماع.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها

).

قال النووي: هو أصح حديث في زكاة البقر.

قال ابن قدامة: فلا أعلم خلافاً في وجوب الزكاة في البقر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما لم يذكر زكاة البقر في كتاب أبي بكر، لقلة البقر في الحجاز، فلما بعث معاذاً إلى اليمن ذكر له حكم البقر لوجودها عندهم.

•‌

‌ متى يبدأ نصاب البقر؟

الحديث يدل على أن نصاب البقر يبدأ من ثلاثين بقرة، فلا زكاة فيما أقل من ذلك.

قال ابن قدامة: ولا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر، وهو قول جمهور الفقهاء.

• اذكر جدول نصاب البقرة؟

أن في كل ثلاثين بقرة: تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين: مسنة.

مثال: 30: تبيع أو تبيعة

40: مسنة

60: تبيعان

70: مسنة وتبيعة

80: مسنتان

وهكذا .....

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- إثبات الجزية، وهي: مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار كل عام بدلاً عن قتلهم وإقامتهم في دارنا.

- أن من دون البلوغ لا جزية عليه لقوله (من كل حالم) لأنه ليس أهلاً للقتال.

- اختلف العلماء ممن تؤخذ الجزية، فقيل: تؤخذ من كل كافر، وقيل: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب أو من لهم شبهة كتاب كالمجوس. (وستأتي المسألة إن شاء الله).

- اختلف العلماء في مقدار الجزية، فقيل: غير مقدرة وإنما يرجع لاجتهاد الإمام، وهذا هو الصحيح، وقيل: إنها مقدرة لا يزاد عليه، لحديث الباب، وقيل: إنها أقلها مقدر (لا تنقص عن دينار) وأكثرها غير مقدر.

ص: 109

599 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ اَلْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ) رَوَاهُ أَحْمَد.

600 -

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ).

===

(تُؤْخَذُ) والآخذ هو الساعي.

(عَلَى مِيَاهِهِمْ) المياه جمع ماء، والمراد به مواردهم التي ينزلون عليها.

(دُورِهِمْ) منازلهم التي يسكنون بها.

•‌

‌‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

- الحديث حسن، في إسناده إسامة بن زيد الليثي متكلم فيه، لكنه حسن الحديث، وأما سلسلة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [عبد الله بن عمرو] فهي من قبيل الحسن على القول الصحيح

- وأما حديث أبي داود فقد أخرجه من طريق ابن إسحق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا سند حسن، لوجود محمد بن إسحاق، وأيضاً صرح بالتحديث عند أحمد.

•‌

‌‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن المصدق [العامل على الزكاة] هو الذي يأتي للصدقات ويأخذها على مياه أهلها، لأن ذلك أسهل لهم.

•‌

‌‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مراعاة التيسير على أهل الزكاة.

- مشروعية بعث السعاة.

- أن صاحب المال لا يكلف أن يأتي بصدقته لبيت المال.

ص: 110

601 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ عَلَى اَلْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.

وَلِمُسْلِمٍ: (لَيْسَ فِي اَلْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ اَلْفِطْرِ).

===

(فِي عَبْدِهِ) الإضافة هنا للاختصاص والتمليك، أي في عبده الذي ملكه مختصاً به.

(فِي فَرَسِهِ) أي الفرس الذي اختصها لنفسه، يركبها ويجاهد فيه ويسابق عليه.

(صَدَقَةٌ) أي: زكاة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه ليس على المسلم فيما يقتنيه من العبيد والخيل زكاة، فالأموال المعدة للقنية أو الاستعمال لا زكاة فيها.

قال النووي: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف.

وقال الصنعاني: الحديث نص على أنه لا زكاة في العبيد ولا الخيل، وهو إجماع فيما كان للخدمة والركوب.

وعليه: فليس على المسلم صدقة في فراش البيت، وأواني البيت، وسيارة الركوب، وما أشبه ذلك، فكل ما اقتناه الإنسان لنفسه من أي شيء كان، فليس فيه زكاة.

•‌

‌ هل في الخيل زكاة؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا زكاة فيها إلا إذا كانت للتجارة.

أ- لحديث الباب.

وأما الخيل والبغال والحمير والمتولد بين الغنم والظباء، فلا زكاة فيها، وهذا إذا لم تكن للتجارة، فإن كانت لها وجبت زكاتها؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).

ب- ولحديث علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق) رواه الترمذي وأبو داود.

وحكى الترمذي عن البخاري تصحيح هذا الحديث، وقد حسنه الحافظ، وقال الدارقطني: الصواب وقفه على علي.

•‌

‌ ما حكم الزكاة في الذهب المستعمل؟

استدل بالحديث من قال بعدم وجوب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال، وهذه مسألة خلافية. [وستأتي المسألة بكاملها إن شاء الله]

ص: 111

602 -

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَعَلَّقَ اَلشَّافِعِيُّ اَلْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِه.

===

(فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ) السائمة التي ترعى الحول كله أو أكثره.

(مُؤْتَجِراً) أي طالباً للأجر.

(لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا) معناها أن الخليطين لا يفرقان ماليهما خشية الصدقة كما سبق في حديث سبق.

(وَشَطْرَ مَالِهِ) يطلق على النصف.

(عَزْمَةً) العزمة في اللغة: الجد في الأمر، أي نأخذها أخذاً مؤكداً مجزوماً به.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث حسن، بهز بن جكيم مختلف فيه والأكثر على الاحتجاج به، قال ابن كثير: الأكثرون يحتجون به كأحمد وإسحاق وعلي بن المديني وابن معين وأبي داود والنسائي.

ولخص حاله الحافظ ابن حجر في التلخيص فقال: صدوق.

وأما والده: حكيم، فهو تابعي، قال النسائي لا بأس به، ووثقه العِجْلي. فالحديث حسن.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ)؟

نستفيد: أنه يشترط في زكاة الإبل أن تكون سائمة. (وقد سبق ذلك).

•‌

‌ كم فيها من الزكاة إذا كانت الإبل عددها 40؟

فيها بنت لبون.

•‌

‌ هل تجب الزكاة في الإبل المعلوفة؟

لا، لا تجب.

•‌

‌ ما حكم تفريق المالين خشية الصدقة؟

حرام وحيلة، وقد تقدم ذلك.

•‌

‌ ما حكم من منع الزكاة؟

من منع الزكاة فإنها تؤخذ منه قهراً، ويؤخذ شطر ماله، لكن هل تبرأ ذمته؟

إن أداها لله برئت ذمته، وإن أداها لدفع الإكراه فقط لا تبرأ ذمته ولا يعد مخرجاً لها عند الله لأنه ما أخرجها لله ولا لامتثال أمره.

ص: 112

•‌

‌ ما المراد بقوله (وشطر ماله)؟

فقيل: شطر المال كله. (حتى المال الذي لم يمنع زكاته).

وقيل: المال الذي منع زكاته فقط.

مثال: رجل عنده مليون درهم، وعنده [40] شاة، فجاءه الساعي فمنع الزكاة في الغنم، وقال: لا أعطيك شاة.

إذا قلنا المقصود (شطر ماله) المال الذي منع الزكاة، فإننا نأخذ [21]، وإذا قلنا المقصود (شطر ماله) كل ماله، فإننا نأخذ [500] ألف و [21] شاة.

والراجح الثاني، لأن الأصل في مال المسلم الحرمة فلا نأخذ بالاحتمال الزائد مع إمكان حمل اللفظ على الأقل.

•‌

‌ هل يجوز دفع الزكاة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله؟ والمراد بآله؟

لا يجوز.

والحكمة من ذلك: جاء في صحيح مسلم (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنها هي أوساخ الناس).

وآل محمد هم من تحرم عليهم الصدقة من بني هاشم: وهم آل العباس، وآل جعفر، وآل عَقِيل، وآل الحارث بن عبد المطلب.

•‌

‌ هل يجوز التعزير بأخذ المال؟

استدل بحديث الباب من قال: بجواز التعزير بأخذ المال، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز التعزير بالمال.

وهذا قول أكثر العلماء.

قال البيهقي في سننه الكبرى: قال الشافعي: لا تضعف الغرامة على أحد في شيء إنما العقوبة في الأبدان لا في الأموال؟

وقال الخطابي في معالم السنن: وقال الشافعي: لا يحرق رحله ولا يعاقب الرجل في ماله إنما يعاقب في بدنه جعل الله الحدود على الأبدان لا على الأموال، وإلى هذا ذهب مالك، ولا أراه إلا قول أصحاب الرأي.

وقال ابن قدامة في المغني: والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدي به ولأن الواجب أدب والتأديب لا يكون بالإتلاف.

لأن مال المسلم الأصل فيه الحرمة.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).

وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّام).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه).

القول الثاني: أنه يجوز ذلك.

واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إذا رأى الولاة أن هذا يحقق المصلحة ويردع الظلمة، واستدلوا بأدلة:

• حديث الباب.

• أمره صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين.

• وأمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ بها لحم الحمر الإنسية.

• ومثل: هدمه مسجد الضرار.

• ومثل: تحريق متاع الغال.

• ومثل: قطع نخل اليهود إغاظة لهم.

• ومثل: همه صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة.

• ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه فطرحه فلم يعرض له أحد.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 113

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني؟

أجابوا بجوابين:

أولاً: بأنها منسوخة، إذ كان مشروعاً في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.

قال الشوكاني: وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء، لأنه صلى الله عليه وسلم حكم عليه بضمان ما أفسدت ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم في تلك القضية أضعف الغرامة ولا يخفى أن تركه صلى الله عليه وسلم للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقا ولا يصلح للتمسك به على عدم الجواز وجعله ناسخا البتة.

وقال ابن حجر في فتح الباري: ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به، فدل على أن له معارضاً راجحاً وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف.

ثانياً: وعللوا عدم جواز التعزير بأخذ المال بأن هذا النوع من العقوبة يكون ذريعة إلى أخذ ظلمة الحكّام والولاة أموال الناس بغير حق.

وقد رد ابن القيم هذا القول، فقال: والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن من أدى الزكاة طيبة بها نفسه بدافع الأجر من الله فقد نال الأجر.

- تحريم منع الصدقة الواجبة.

- وجوب الزكاة في الإبل.

- الإشارة إلى إخلاص النية.

ص: 114

603 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ -وَحَالَ عَلَيْهَا اَلْحَوْلُ- فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَحَالَ عَلَيْهَا اَلْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ اَلْحَوْلُ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدِ اِخْتُلِفَ فِي رَفْعِه.

604 -

وَلِلتِّرْمِذِيِّ; عَنِ اِبْنِ عُمَرَ (مَنِ اِسْتَفَادَ مَالًا، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ اَلْحَوْلُ) وَالرَّاجِحُ وَقْفُه.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

- حديث علي رواه أبو داود مرفوعاً، ورواه ابن أبي شيبة موقوفاً عن علي قال: ليس في مال زكاة حتى يحول.

- وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً، وهذا سند ضعيف، لأن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف لا يحتج به كما قال أحمد وابن المديني والنسائي وجماعة، وقد رواه الترمذي موقوفاً عن ابن عمر، وصحح الترمذي الموقوف.

أن نصاب الفضة هو مائتا درهم، وهو إجماع، وقد تقدم ذلك في الحديث الثاني.

•‌

‌ ما حكم الزكاة في الذهب والفضة؟

واجب.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم).

وقال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) رواه مسلم.

•‌

‌ كم نصاب الفضة؟ وكم يجب فيها؟

نصابه: 200 درهم، فيجب فيها خمسة دراهم. (وهي بالنسبة (200) ربع العشر).

وقد تقدم حديث أنس (

وفي الرقة ربع العُشر) والرقة هي الفضة.

•‌

‌ كم نصاب الذهب؟ وكم فيه؟

نصابه: 20 ديناراً، الدينار: المثقال.

قال الشوكاني: وفيه دليل على أن نصاب الذهب عشرون ديناراً، إلى ذلك ذهب الأكثر.

وهو ما يعادل (85) غراماً، فما دون ذلك ليس فيه زكاة.

وفيه ربع العشر.

قال الشوكاني: ولا أعلم فيه خلافاً.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِك)؟

نستفيد: أن النقدين ليس فيهما وقْص.

ص: 115

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ اَلْحَوْلُ)؟

نستفيد: أنه يشترط لوجوب الزكاة حولان الحول، وذلك بأن يمر عليها حول وهي في حوزة مالكها (أي: أن يتم على المال بيد صاحبه سنة كاملة).

أ- لحديث الباب، وهو مختلف بين رفعه ووقفه، والأقوى أنه موقوف

ب- لكن ثبت عن أبي بكر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وعائشة كما ذكر ذلك الدارقطني وابن عبد الحق وابن حجر.

ج-ويغني عن هذا الأثر - المختلف فيه - السنة الفعلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله على الصدقة كل عام ثم عمل بذلك الخلفاء بما عملوه من سنته، بل بعضهم من السعاة كعمر.

د-ومن النظر: اشتراطه فيه رفق بالمالك ليتمالك النماء فيواسي منه، لأنها لو وجبت في كل شهر لكان ذلك ضرراً في المالك أو بأصحاب الأموال، ولو وجبت في السنتين أو الثلاث أو أكثر لكان ذلك ضرراً على أهل الزكاة

•‌

‌ هل هذا الشرط عام في جميع الأموال الزكوية؟

الجواب: لا، وإنما هو خاص بالأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) والسلع التجارية والنقود.

•‌

‌ اذكر ما لا يشترط فيه حولان الحول؟

أولاً: الخارج من الأرض.

لقوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).

ثانياً: نتاج السائمة.

مثال: رجل عنده [80] شاة، فيها شاة واحدة، لما بقي على تمام الحول شهران ولدت كل واحدة منهن اثنين، فأصبح المجموع [140] فيكون فيه [3] شياه، مع أن الأولاد لم يمض لهن إلا شهرين.

مثال آخر: لو كان عند شخص (120) من الغنم ففيها شاتان، وقبل تمام الحول بشهر ولدت مائة، فأصبح له (220) ففيها ثلاث شياه، مع أن أولادها لم يتم لها إلا شهر (أي لم يحول عليه الحول)، لكن تجب فيه الزكاة لأن حوله حول أصله.

ثالثاً: ربح التجارة.

مثال: رجل اشترى أرضاً للتجارة بـ (50 ألف)، وبقيت الأرض على قيمتها، فلما بقي على الحول شهر واحد ارتفعت القيمة حتى بلغت (100 ألف)، فإنه يؤدي زكاة (100) ألف، لأن ربح التجارة تبع لأصله، مع أن الخمسين الثانية لم يحل عليها الحول، لكنه ربح الخمسين الأولى فيتبع الأصل.

مثال آخر: لو فتح إنساناً محلاً في شهر محرم ورأس ماله خمسة آلاف، ثم إنه ربح في شهر محرم خمسة آلاف، وفي شهر صفر خمسة آلاف، وفي شهر ربيع خمسة آلاف، ولما انتهت السنة فإذا معه خمسون ألفاً، ففي هذه الحالة يزكي عن الخمسين ألفاً، لأن الربح فرع والفرع تبع للأصل.

رابعاً: الركاز.

ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفي الركاز الخمس) متفق عليه.

ص: 116

•‌

‌ اذكر كيفية حول المال المستفاد؟

المال المستفاد ينقسم إلى أقسام:

أ-أن يكون نماء للمال الأصلي:

فهذا حوله حول أصله.

مثال: نتاج السائمة، ربح التجارة.

ب-لا يكون نماء ويكون من جنس المال الذي عنده:

فهذا يبدأ حول مستقل، لأنه ليس نماء للأصل.

مثال: إنسان عنده ألف ريال، بدأ الحول فيها في محرم، وفي صفر جاءه ألف ريال راتب، هذه الألف من جنس المال، لكن ليس نماءً لهذه الألف.

ج-أن يكون مخالفاً للمال الذي عندك في الجنس:

فهذا يشترط له حول جديد.

مثال: عنده خمس من الإبل في محرم، وفي صفر اكتسب ألفاً، فإنه يبدأ من صفر.

قال الشيخ المشيقح: الأموال المستفادة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون المال المستفاد ربح تجارة أو نتاج سائمة:

فإذا كان ربح تجارة أو نتاج سائمة فحوله حول أصله، ولنضرب مثالاً على نتاج السائمة: هذا رجل عنده خمس من الإبل سائمة ابتدأ عليها الحول من محرم، وفي شهر ذي الحجة في آخر السنة أنتجت خمساً أخرى فالخمس الثانية هذه هل لها حول مستقل أو نقول حولها حول أصلها؟ نقول حولها حول أصلها وحينئذ إذا جاء شهر محرم نقول يزكي عن عشر من الإبل مع أن الخمس الجديدة هذه من الإبل ما مكثت عنده إلا شهراً.

وأيضاً ربح التجارة الذي يبيع ويشتري، الأموال هذه حولها حول أصلها، مثال على ذلك: صاحب بقالة افتتح البقالة في شهر محرم بخمسين ألف ريال يبيع ويشتري ولما جاء شهر محرم من السنة المقبلة عنده بضائع الآن اشتراها وأصبحت قيمة البقالة تساوي ثمانين ألف فحكم الزيادة هذه بأن حولها حول أصلها. فإذا جاء محرم لا يقول أن هذه البضائع الآن جديدة و لا يقول الربح الذي اكتسبه الآن إنما نقول هذه حولها حول أصلها فيجب عليه أن يزكي الجميع يقدر سعر بيع هذه البقالة تساوي ثمانين ألف والتي اشتراها الآن فيخرج زكاة الجميع.

فتلخص لنا القسم الأول وهو ما إذا كان نتاج سائمة أو ربح تجارة هذا نقول بأن حوله حول أصله.

القسم الثاني: أن يكون المال المستفاد ليس نتاج سائمة ولا ربح تجارة ويخالف جنس المال الذي عنده:

ولنفرض أن عنده نصاب من الإبل وجاءته أموال مثلاً: إرث أو هبة كما لو وهب له شخص عشرة آلاف ريال، أو جاءه راتب شهري خمسة آلاف ريال أو ورث من أبيه أو جاءته هبة خمسة ألاف وعنده سائمة، فهذه الأموال التي جاءته لا تضم إلى السائمة بالاتفاق، السائمة لها حولها وهذه الدراهم التي جاءته لها حول مستقل من حين ملكها.

القسم الثالث: أن يكون المال المستفاد ليس ربح تجارة ولا نتاج سائمة ويكون من جنس المال الذي عنده:

مثال: رجل عنده عشرة آلاف ريال ثم جاءه مرتب ألف ريال هذه الألف هل يضمها إلى العشرة التي عنده في الحول أو نقول بأن هذه الألف يستأنف لها حولاً جديداً؟ هذا موضع خلاف بين الجمهور وبين الحنفية رحمهم الله:

الرأي الأول: مذهب الحنيفية: يقولون مادام أنه من جنسه عنده الآن عشرة آلاف وجاءه ألف والجنس واحد يضمه ويكون هذا المستفاد حوله حول أصله.

الرأي الثاني: رأي الجمهور أنه يستأنف له حولاً مستقلاً.

والصواب ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله.

ص: 117

•‌

‌ ما كيفية زكاة الراتب الشهري؟

وعلى رأي الجمهور كل راتب يكون له حول مستقل، فراتب محرم تجب فيه الزكاة في محرم، وراتب صفر تجب الزكاة فيه في صفر وربيع في ربيع وهكذا، فكل مرتب يكون له حول مستقل، وهذا فيه مشقة، ولهذا أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة بأن الأحسن للإنسان أن يحدد وقتاً وينظر كم تجمع عنده من الرواتب فما حال عليه الحول يكون أدى زكاته في وقته وما لم يحل عليه الحول يكون عجل زكاته وتعجيل الزكاة عند جمهور العلماء أن هذا جائز ولا بأس به خلافاً للمالكية.

•‌

‌ هل تجب الزكاة في المال المحرم (إذا كان محرماً لذاته)؟

إذا كان المال المحرم، محرماً لعينه وذاته (كالدخان) فهذا باتفاق الفقهاء أنه لا تجب فيه الزكاة.

ولنفترض أن صاحب بقالة يبيع في بقالته مواداً غذائية ويبيع دخاناً، المواد الغذائية بخمسين ألف ريال والدخان بألف ريال نقول هذا الدخان ما تجب فيه الزكاة يخرج الزكاة عن الأموال المباحة شرعاً أما الدخان فهذا لا تجب في الزكاة. (فقه النوازل للمشيقح).

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم، وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ثم يمد يده إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.

•‌

‌ ما حكم الزكاة في المال المحرم لكسبه، كما لو اكتسب عشرة آلاف عن طريق الرشوة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: عدم وجوب الزكاة في هذا المال المحرم.

وهذا ما عليه عامة المتقدمين وكذلك أيضاً هو قول أكثر الفقهاء المعاصرين.

أ-لحديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول (لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) رواه مسلم.

ب- ولحديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).

ج- قالوا: إن الزكاة لا تجب إلا فيما يملكه المسلم، وهذا المال لا يملكه المسلم لأنه يجب عليه أن يتخلص من هذا المال المحرم بطرق التخلص التي ذكرها العلماء رحمهم الله.

القول الثاني: أن الزكاة واجبة في هذا المال المحرم.

أ-قالوا: إن هذه الأموال المحرمة لو أعفي الناس من زكاة هذه الأموال المحرمة لتتايع الناس في هذه المكاسب المحرمة فلهذا نوجب عليهم الزكاة.

ب-إن الزكاة تجب في الحلي المحرم، فالحلي المحرم ينص العلماء على أن الزكاة واجبة، مثال ذلك لو كان عندنا ذهب على صورة تمثال هذا التمثال محرم ولا يجوز ومع ذلك العلماء رحمهم الله ينصون عل وجوب الزكاة فيه.

ص: 118

•‌

‌ هل تجب الزكاة في المال العام؟

المال العام: هو المال المرصد للنفع العام دون أن يكون مملوكاً لشخص معين.

وهذه تشمل الأموال التابعة لبيت مال المسلمين، والأموال التابعة للجهات الخيرية كجميعة تحفيظ القرآن، وجمعيات البر، والمكاتب التعاونية للدعوة، والأموال الموصى بها في جهات عامة، ومثلها الأوقاف التي تكون على جهات عامة مثل رجل وقف مئة ألف ريال على جهة عامة لطلاب العلم، للفقراء، لكي يشتري به المسجد .. إلخ، وغير ذلك من الجهات الخيرية.

هذه الأموال لا زكاة فيها، لأنه ليس لها مالك معين.

لأن من شروط وجوب الزكاة أن يكون المال الذي تجب فيه الزكاة مملوكاً ملكاً تاماً لمعين.

والملك التام: كما فسره كثير من العلماء أي ملك الرقبة والقدرة على التصرف فيه في الحال وفي المآل.

ودليل هذا الشرط - أن يكون المال مملوكاً ملكاً تاماً لمعين -:

قول الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فقال الله عز وجل (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) فأضاف الأموال إليهم مما يدل على ملكهم لهذه الأموال واختصاصهم بالتصرف فيها فدل ذلك على أنه يشترط لوجوب الزكاة أن يكون مالكاً لها ملكاً تاماً وأن يكون معيناً.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فقال (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد عل فقرائهم) الشاهد هنا قوله عليه الصلاة والسلام (تؤخذ من أغنيائهم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف المال إليهم، فدل ذلك على اشتراط الملك التام لأن.

ولأن الزكاة تمليك للفقير والتمليك لابد أن يكون من مالك لهذا المال فإذا لم يكن هذا المال له مالك لم تجب فيه الزكاة.

ولأن من حِكَم الزكاة شُكر الله عز وجل على نعمة المال وهذا لا يكون إلا من المالك.

•‌

‌ هل تجب فيها الزكاة إذا استُثمرت واتُجِر بها؟

لا تجب فيها الزكاة حتى لو استثمرت واتجر بها.

ص: 119

605 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ (لَيْسَ فِي اَلْبَقَرِ اَلْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضاً.

===

(اَلْعَوَامِلِ) جمع عاملة، وهي التي تعمل بالحراثة واستخراج الماء وغير ذلك.

(صَدَقَةٌ) أي: زكاة.

•‌

‌ ما صحة هذا الأثر؟

هذا اللفظ المذكور ليس هو من قول علي، وإنما من قول ابن عباس أخرجه الدارقطني مرفوعاً، وهِم الحافظ في ذلك.

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذا الأثر؟

نستفيد: أن الحيوان المعد للعمل لا زكاة فيه.

أ-ويدل على هذا أيضاً: حديث أبي هريرة الذي سبق (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).

ب-ومما يدل على ذلك حديث (في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون) فذكْر السوم في الحديث يدل بمفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، لأن ذكْر السوم لا بد له من فائدة يعتد بها، صيانة لكلام الشارع عن اللغو.

قال في المغني: في ذكر السائمة احترازاً من المعلوفة والعوامل، فإنه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم.

•‌

‌ هل يقاس على البقر غيره؟

نعم، فكل ما أعد للبقاء والاستعمال فلا زكاة فيه، كما تقدم في حديث (ليس على العبد

).

كالسيارات والمكائن، لأنها غير معدة للتجارة.

•‌

‌ اذكر أنواع الزكاة في بهيمة الأنعام؟

اعلم أن بهيمة الأنعام تتخذ على أقسام:

القسم الأول: أن تكون عروض تجارة، فهذه تزكى زكاة العروض.

فقد تجب الزكاة في شاة واحدة، أو في بعير واحد، أو في بقرة واحدة؛ لأن المعتبر في عروض التجارة القيمة، فإذا كان هذا هو المعتبر فما بلغ نصاباً بالقيمة ففيه الزكاة، سواء كانت سائمة أو معلوفة، مؤجرة كانت، أو مركوبة للانتفاع.

القسم الثاني: السائمة، المعدة للدر والنسل، وهي التي ترعى، كما قال الله تعالى (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ). اتخذها صاحبها لدرها، أي: لحليبها، وسَمْنِها، والنسل، ولا يمنع كونها معدة لذلك أن يبيع ما زاد على حاجته من أولادها، لأن هؤلاء الأولاد كثمر النخل.

القسم الثالث: المعلوفة المتخذة للدر والنسل، وهي التي يشتري لها صاحبها العلف، أو يحصده، أو يحشه لها، فهذه ليس فيها زكاة إطلاقاً، ولو بلغت ما بلغت؛ لأنها ليست من عروض التجارة، ولا من السوائم.

القسم الرابع: العوامل، وهي الإبل التي عند شخص يؤجرها للحمل فهذه ليس فيها زكاة، وهذا القسم كان موجوداً قبل أن تنتشر السيارات، فتجد الرجل عنده مائة بعير أو مائتان يؤجرها فينقل بها البضائع من بلد إلى بلد، وإنما الزكاة فيما يحصل من أجرتها إذا تم عليها الحول.

فصارت الأقسام أربعة، وكل قسم منها بينه الشارع بياناً واضحاً شافياً.

وأعم هذه الأقسام: عروض التجارة؛ لأنها تجب فيها الزكاة على كل حال. (الشرح الممتع).

ص: 120

606 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مِنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ اَلصَّدَقَةُ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

607 -

وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ اَلشَّافِعِيّ.

===

(يتيماً) اليتيم من مات والده ولم يبلغ.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

- الحديث في إسناده المثَنّى بن الصّباح، قال الترمذي: يُضَعّف في الحديث، والأكثر على تضعيفه.

- أما مرسل الشافعي لفظه: ابتغوا في مال اليتامى، لا تذهبها ولا تستأصلها الزكاة، وسنده ضعيف، في إسناده ابن جُريْج مدلس وقد عنعن.

•‌

‌‌

‌ ما حكم الزكاة في مال الصبي والمجنون؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-لعموم الأدلة التي تدل على وجوب الزكاة في مال الأغنياء ولم تستثن.

ب- قال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم

) فالزكاة واجبة في المال، فهي عبادة مالية تجب متى توفرت شروطها، كملك النصاب، ومرور الحول.

ج-قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم

) وكل الأغنياء من عاقل ومجنون، وصغير وكبير، محتاج إلى طهارة الله لهم وتزكيته إياهم.

د-ولحديث الباب (من ولي يتيماً له مال فليتجر به ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) وهو ضعيف.

هـ - ـولأن المعنى الذي فرضت من أجله الزكاة وهو شكر الله جل وعلا وطهارة المال، يسري على مال الصبي والمجنون، إذ هما بحاجة إلى شكر الله وطهارة أموالهم أسوة بغيرهم من الأغنياء.

و_وأيضاُ فإن المقصود من الزكاة سد خلة الفقير من مال الغني، وذلك لأمرين: الأمر الأول: شكراً لله تعالى على نعمة المال، الأمر الثاني: تطهيراً للمال، ومالهما قابل لأداء القربات منه، وهو محل للشكر ومحل للتطهير.

ز-ولأن الزكاة واجب مالي، فتجب في مالهما كغيرهما من ذوي اليسار.

ك-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث سعاته لقبض الزكاة ولم يقل لهم لا تأخذوا الزكاة من مال المجانين والصبيان مع كثرة وجود ذلك.

ظ-أن هذا قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال بوجوبها: عمر وعلي وعائشة وابن عمر وجابر ولا يعلم لهم مخالف، قال عمر (اتجروا في أموال اليتامى ولا تأكلها الصدقة) رواه البيهقي وقال: إسناده صحيح.

القول الثاني: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق،

).

ب-ولأنها عبادة محضة فلا تجب عليه كالصلاة والحج.

ج- ولقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) والصبي والمجنون لا ذنوب عليهما حتى يحتاجا إلى التطهير والتزكية.

والصحيح قول الجمهور.

ص: 121

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة القول الثاني؟

الجواب:

أما الحديث فالمراد به رفع الإثم والوجوب عليهما، والزكاة لا تجب عليهما وإنما تجب في مالهما.

وأما الآية فإن التطهير ليس خاصاً بالذنوب، وإنما هو عام في تربية الخلق وتزكية النفس.

•‌

‌ من الذي يتولى إخراج الزكاة عنهما؟

قال ابن قدامة في المغني: إذا تقرر هذا - يعني وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون - فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما; لأنها زكاة واجبة، فوجب إخراجها، كزكاة البالغ العاقل، والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه; ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون، فكان على الولي أداؤه عنهما، كنفقة أقاربه.

وقال النووي: الزكاة عندنا واجبة في مال الصبي والمجنون بلا خلاف، ويجب على الولي إخراجها من مالهما كما يخرج من مالهما غرامة المتلفات، ونفقة الأقارب وغير ذلك من الحقوق المتوجهة إليهما، فإن لم يخرج الولي الزكاة وجب على الصبي والمجنون بعد البلوغ والإفاقة إخراج زكاة ما مضى، لأن الحق توجه إلى مالهما، لكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما. (المجموع)

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- استحباب تنمية مال اليتيم بالتجارة وغيرها، والاتجار: أن يتصرف الإنسان بالمال لطلب الربح.

- ثبوت الولاية على اليتيم، وإنها ولاية شرعية تقتضي عمل الأصلح في شؤونهم وأموالهم.

- حرص الشريعة على أموال اليتامى.

فجاء التحذير الشديد من أكل أموالهم:

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

وجاء الاهتمام بها وعدم إنفاقها إلا بما هو خير لهم.

قال تعالى (ولا تقربوا وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

ص: 122

608 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: "اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ) أي: بزكاتهم ليفرقها عنهم.

(قَالَ: "اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِم) أي: ارحمهم واغفر ذنوبهم، وفي الحديث زيادة (فأتاه أبي أبو أوفى فقال:(اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) يريد أبى أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب الدعاء لدافع الزكاة.

وجمهور العلماء على أن الدعاء لدافع الزكاة سنة مستحبة وليس بواجب.

وذهب أهل الظاهر إلى أنه واجب، للآية (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).

قال الجمهور: الأمر في حقنا للندب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً وغيره لأخذ الزكاة، ولم يأمرهم بالدعاء.

قال الشوكاني: وأوجبه بعض أهل الظاهر، وأجيب: بأنه لو كان واجباً لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم السعاة، ولأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرها لا يجب عليه فيه الدعاء، فكذلك الزكاة.

• لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن يأتي بصدقته؟

استجابة لأمر الله تعالى في قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) فكان صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر ربه إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صلِّ عليهم).

ومعنى الصلاة عليهم: الدعاء لهم.

•‌

‌ ما حكم مكافأة المحسن؟

سنة ولو بالدعاء.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تظنوا أنكم قد كافأتموه) رواه أبو داود.

والحكمة في مكافأة المحسن:

أولاً: تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.

ثانياً: أن يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه.

ص: 123

•‌

‌ ما حكم الصلاة على غير الأنبياء؟

استدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء، وهذه المسألة لها ثلاث أحوال:

الأولى: أن تكون تابعة للصلاة على الأنبياء، فهذه جائزة بالنص والإجماع.

كما في الحديث (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد).

الثانية: أن يصلي على غير الأنبياء استقلالاً لسبب، فهذا جائز.

كما في حديث الباب.

الثالثة: أن يصلى على غير الأنبياء استقلالاً من غير سبب، فهذا وقع فيه خلاف.

فذهب مالك والشافعي وطائفة من الحنابلة إلى المنع.

قال ابن عباس: (لا أعلم الصلاة تنبغي على أحد إلا على النبي).

وذهب أحمد وأكثر الصحابة إلى أنه لا بأس بذلك.

أ-لحديث الباب.

ب-وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة (صلى الله عليكِ وعلى زوجك) رواه ابن ماجه.

قال شيخ الإسلام: وهذا القول أصح وأولى، لكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلاة عليه دون غيره مضاهات للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجعل ذلك شعاراً معروفاً باسمه هذا هو البدعة.

وقال ابن القيم: ولو قيل حينئذٍ بالتحريم لكان له وجه.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والصلاة على غير الأنبياء تبعاً جائزة بالنص والإجماع لكن الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً لا تبعاً هذه موضع خلاف بين أهل العلم هل تجوز أو لا؟ فالصحيح جوازها، أن يقال لشخص مؤمن صلى الله عليه وقد قال الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عليهم) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على من أتى إليه بزكاته وقال (اللهم صلى على آل أبي أوفى) حينما جاؤوا إليه بصدقاتهم، إلا إذا اتخذت شعاراً لشخص معين كلما ذكر قيل: صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز لغير الأنبياء، مثل لو كنا كلما ذكرنا أبا بكر قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عمر قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عثمان قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا علياً قلنا: صلى الله عليه، فهذا لا يجوز أن نتخذ شعاراً لشخص معين (نور على الدرب).

وقد ذكر الحافظ ابن كثير الخلاف في المسألة فقال في تفسيره:

وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث (اللهم، صل على محمد وآله وأزواجه وذريته) فهذا جائز بالإجماع.

وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم:

فقال قائلون: يجوز ذلك.

واحتجوا بقوله (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ).

وبقوله (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).

وبقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).

وبحديث عبد الله بن أبي أوْفَى قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم).

وأتاه أبي بصدقته فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى).

وبحديث جابر (أن امرأته قالت: يا رسول الله، صل عَلَيَّ وعلى زوجي. فقال: صلى الله عليكِ وعلى زوجك).

وقال الجمهور من العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة.

لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم؛ ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى، ولا لجابر وامرأته، وهذا مسلك حسن.

ثم اختلف المانعون من ذلك: هل هو من باب التحريم، أو الكراهة التنزيهية، أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال، حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في كتاب الأذكار، ثم قال: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود.

ص: 124

609 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ رضي الله عنه سَأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِم.

===

(فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ) أي: إخراجها قبل تمام حولها.

(فَرَخَّصَ لَهُ) الرخصةِ عند أهل الأصول: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح.

وقيل: التسهيل لسبب في ترك واجب أو فعل محرّم، وهي أنواع:

رخصة واجبة: كأمل الميتة عند الضرورة، والتيمم عند عدم الماء.

مستحبة: كالفطر للمسافر في رمضان إذا كانت المشقة محتملة.

رخصة مباحة: لبس الحرير لمن به حكة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث رواه أيضاً أبو داود وابن ماجه، حسنه البغوي والألباني وأحمد شاكر والشيخ ابن باز

والحديث في إسناده: حُجَيَّهْ بن علي [على وزن عُلَيَّه] قال الحافظ: صدوق يخطئ، وللحديث شواهد

• ماذا يشترط لتعجيل الزكاة قبل تمام حولها؟

يشترط أن يكون ذلك بعد تمام النصاب.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز تعجيل زكاة المال قبل أن تمام حولها بشرط أن يكون قد بلغ النصاب.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز لعامين.

وبهذا قال الحسن، وسعيد بن جبير، والزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب: فيجوز عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، فيجوز تعجيل زكاة الماشية، والنقدين، وعروض التجارة، إذا ملك النصاب.

أ-لحديث الباب.

ب- ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأما العباس فهي علي ومثلها) متفق عليه.

فقال بعض العلماء: معناه: فهي عندي ومثلها.

لكن الصحيح أن معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن زكاته، لكن ضاعفها لأن الرجل من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فضاعف عليه الغرم، لأن قريب السلطان قد يتجرأ على المعصية لقربه من السلطان.

ص: 125

ج-التعجيل فيه مصلحة عاحلة للفقير، ولا يتعارض مع مصلحة صاحب المال المتطوِّع بالتعجيل.

د-القول بجواز تعجيل الزكاة، مظهر من مظاهر التخفيف التي دعا إليها الشّارع؛ وقد ورد التخفيف في الشّرع على ستة أوجه:

أحدها: بإسقاط المفروض: كإسقاط الحج عن الفقير، والصّلاة عن الحائض والمجنون والمغمَى عليه.

الثاني: بالتنقيص: إمّا من الأصل: كالقصر في السفر، أو من الأركان: كالإيماء في أفعال الصلاة للمريض.

الثالث: بالبدل: كمسح الرأس بدلًا عن غسلها، ومسح الخفّ عن غسل الرجلين، والتيمم عن الماء، والعاجز عن الصيام بالفدية.

الرابع: بالتقديم: كالجمع بين الصّلاتين، وتعجيل الزّكاة.

الخامس: بالتأخير: كالجمع والإفطار للمعذور.

القول الثاني: أنه لا يجوز تعجيلها قبل تمام الحول.

وبهذا قال المالكية، واختاره ابن المنذر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) رواه الترمذي.

والراجح القول الأول، لكن الأفضل عدم فعل ذلك إلا لمصلحة.

•‌

‌ هل الأفضل تعجيل الزكاة أم لا؟

الأفضل عدم تعجيلها، يعني لا يستحب (مع قولنا بالجواز).

أولاً: لأن الأصل أن تفعل العبادة عند حلول وقتها،

ثانياً: أنه ربما تتغير الحال، فقد يتلف المال، أو ينقص النصاب.

قال الشيخ ابن عثيمين: ولكن نفي الاستحباب لا يقتضي عدم ثبوته لسبب شرعي، مثل أن تدعو الحاجة للتعجيل كمعونة مجاهدين، أو لحاجة قريب، أو ما أشبه ذلك، فهنا استحباب تعجيلها ليس لذاته، وإنما لغيره، وهو السبب الطارئ الذي صارت المصلحة في تقديم الزكاة من أجله. (الشرح الممتع).

مثال آخر: لنفرض أن رجلاً يريد أن يتزوج هذا العام وهو محتاج إلى الزواج فيطلب منّا معاونته، فيجوز أن تقدم زكاة المال القادم، فهذا فيه مصلحة للمعطى، وفي هذه الحالة يكون التقديم أفضل.

سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ما حكم تعجيل الزكاة لسنوات عديدة للمنكوبين، والذين تحل بهم مصائب؟

فأجاب: تعجيل الزكاة قبل حلولها لأكثر من سنة: الصحيح: أنه جائز لمدة سنتين فقط، ولا يجوز أكثر من ذلك، ومع هذا لا ينبغي أن يعجل الزكاة قبل حلول وقتها، اللهم إلا أن تطرأ حاجة كمسغبة شديدة (مجاعة)، أو جهاد، أو ما أشبه ذلك، فحينئذ نقول: يُعجل؛ لأنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل، وإلا فالأفضل ألا يزكي إلا إذا حلت الزكاة؛ لأن الإنسان قد يعتري ماله ما يعتره من تلف، أو غيره، وعلى كل حال ينبغي التنبه إلى أنه لو زاد عما هو عليه حين التعجيل: فإن هذه الزيادة يجب دفع زكاتها.

•‌

‌ ما حكم تأخير إخراج الزكاة؟

يجب إخراج الزكاة على الفور، فلا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها.

أ-لأن الله أمر بإيتاء الزكاة، والأمر يقتضي الفور.

ب- وأيضاً فإن حاجة الفقراء ناجزة، وحقهم في الزكاة ثابت، فيكون تأخيرها عنهم منعاً لحقهم في وقته.

ص: 126

•‌

‌ اذكر بعض الحالات التي يجوز فيها تأخير الزكاة عن وقوت وجوبها؟

هناك حالات يجوز فيها تأخير الزكاة عن وقت وجوبها، وهذه الحالات:

أولاً: إذا كان في تأخير إخراجها مصلحة للفقير، مثال: أكثر الناس يخرجون زكاتهم في شهر رمضان رغبة في حصول الأجر، لكن في بعض الأيام الأخرى كأيام الشتاء التي لا توافق رمضان قد يكون الفقراء أشد حاجة، فلو أخرها المزكي إلى هذا الوقت جاز ذلك، لأن في ذلك مصلحة لمستحقيها.

ثانياً: أن لا يتمكن من إخراجها عند حلول الحول، كأن يكون هذا المال في ذمة موسر.

ثالثاً: إذا كان يتضرر بإخراجها في وقتها، كأن يخشى أن يرجع عليه الساعي مرة أخرى، أو يكون المزكي بين قوم لصوص ويخشى على نفسه وماله وعياله إن أخرجها نظروا إليه فيعلمون أن معه مالاً فيسطون عليه، فهنا يجوز له تأخيرها إلى حين زوال الضرر.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن للزكاة وقتاً تحل فيه، وحلولها يكون بتمام الحول إلا في أشياء معينة.

- أن التعجيل رخصة ليس بسنة، لأن المال قد يتلف أو ينقص النصاب كما تقدم.

- تأخير الزكاة لا يجوز، لأن الأصل في الأوامر الفورية.

وأيضاً المبادرة إلى إخراجها مبادرة إلى الطاعة، ومسارعة إلى أدائها، قال تعالى:{فاستبقوا الخيرات} .

ص: 127

610 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ اَلْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ ذَوْدٍ مِنَ اَلْإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ اَلتَّمْرِ صَدَقَةٌ) رَوَاهُ مُسْلِم.

611 -

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ).

وَأَصْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

(أَوَاقٍ) جمع أوقية، قال في الفتح: ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق، فخمس أواق هي مئتا درهم.

(اَلْوَرِقِ) الفضة.

(صَدَقَةٌ) أي زكاة.

(ذَوْدٍ) من الواحد إلى العشرة من الإبل.

(أَوْسُقٍ) جمع وسْق، وهو ستون صاعاً بالاتفاق، فيكون نصاب الحبوب [300] صاع.

الزكاة مبناها المواساة، لذا فإنها لا تجب في المال القليل الذي لا يفي بضرورات صاحبه.

•‌

‌ كم نصاب الفضة؟

أن نصاب الفضة (5) أواق وهي 200 درهم، وقد سبقت المسألة.

قال ابن قدامة: لا يجب فيما دون 200 درهم من الفضة صدقة لا نعلم فيه خلافاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ليس فيما دون خمس أواق صدقة). والأوقية أربعون درهماً، فإذا بلغت 200 درهم ففيها خمسة دراهم لا خلاف بين العلماء في ذلك.

قال الشيخ الطيار: أما معرفة كم تساوي من الجرامات في العصر الحاضر، فقد بحثت هذه المسألة وتبين لي أن (200) درهم تساوي (460) جراماً من الفضة.

•‌

‌ كم نصاب الإبل؟

يبدأ نصاب الإبل من خمس، فليس في أقل من خمس من الإبل صدقة، وقد تقدمت المسألة.

•‌

‌ كم نصاب الخارج من الأرض؟

خمسة أوسق (300) صاع، الوسق: 60 صاعاً. الصاع: 2 و 40 غراماً. (612) ك

•‌

‌ في هذا الحديث دليل لشرط من شروط الزكاة، فما هو؟

الشرط هو: أن يكون المال نصاباً.

فلا بد أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع، وهو يختلف باختلاف الأموال، فإن لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة فيه.

• النصاب: هو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة عليه.

ودليل هذا الشرط أدلة كثيرة:

أ- حديث الباب.

ب-وفي حديث أنس (في كل أربعين شاة شاة).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حكمة الشرع في إسقاط الزكاة فيما دون النصاب.

- في الحديث أن تقدير النصاب المخرج مرده إلى الشرع لا إلى العرف.

- أن الزكاة لا تجب في الخضروات والفواكه لقوله (خمسة أوسق) لأنها لا تكال.

ص: 128

612 -

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فِيمَا سَقَتِ اَلسَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا: اَلْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ: نِصْفُ اَلْعُشْرِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (أَوْ كَانَ بَعْلًا: اَلْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوِ اَلنَّضْحِ: نِصْفُ اَلْعُشْرِ).

===

(فِيمَا سَقَتِ اَلسَّمَاءُ) المراد بذلك المطر.

(وَالْعُيُونُ) هي الينابيع التي تنبع من الأرض أو من سفوح الجبال.

(أَوْ كَانَ عَثَرِياً) بفتح العين قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي.

(بِالنَّضْحِ) سقي الزرع بالماء الذي ينضحه [يخرجه] الناضح، وهو البعير.

(بَعْلاً) البعل: الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض.

(السَّوَانِي) جمع سانية، وهي الدابة من الإبل أو البقر أو الحمر ذاهبة وآيبة تخرج الماء من البئر.

•‌

‌ كم مقدار الواجب في الحبوب والثمار إذا بلغت نصاباً؟

المقدار يختلف:

أ-فإذا سقيت بماء السماء والأنهار (بلا مؤنة) ففيها العشر.

ب-وإذا سقيت بالنواضح (بمؤنة) ففيها نصف العشر.

قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث وُجُوب الْعُشْر فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاء وَالْأَنْهَار وَنَحْوهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَة كَثِيرَة، وَنِصْف الْعُشْر فِيمَا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ وَغَيْرهَا مِمَّا فِيهِ مُؤْنَة كَثِيرَة، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ.

وقال ابن قدامة: وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سُقِيَ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ، مِنْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ أَوْ دُولَابٍ أَوْ نَاعُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ لِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرًا فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ جُمْلَةً، بِدَلِيلِ الْمَعْلُوفَةِ، فَبِأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي، وَلِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرٌ فِي تَقْلِيلِ النَّمَاءِ، فَأَثَّرَتْ فِي تَقْلِيلِ الْوَاجِبِ فِيهَا.

•‌

‌ ما الحكمة من هذا التفريق؟

لأن ما سقي بمؤونة أشق على المالك فخفف مقدار الواجب.

قال الخطابي: وإنما كان وجوب الصدقة مختلف المقادير في النوعين، لأن ما عمت منفعته، وخفت مؤنته، كان أحمل للمواساة، فاُوجِب فيه العشر، توسعة على الفقراء، وجعل فيما كثُرت مؤونته نصف العشر، رفقاً بأرباب الأموال.

•‌

‌ ما الحكم إذا كان يسقى بمؤنة تارة وبغير مؤنة تارة متساوياً؟

إن وجد ما يسقى بالنضح تارة، وبالمطر تارة، فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر، وهو قول أهل العلم.

قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً.

ص: 129

•‌

‌ ما المراد بالمؤنة؟

المؤنة: هي مؤنة استخراج الماء لا مؤنة تحويله وتصريفه.

وقد تقدم أن المؤنة مؤثرة في الزكاة، فقد تسقطها بالكلية كما في المعلوفة من بهيمة الأنعام، وقد تؤثر فيها بتخفيفها كالزرع إذا سقي بمؤونة وجب فيه نصف العشر.

•‌

‌ متى يستقر الوجوب في الحبوب والثمار؟

وَلَا يَسْتَقِرُّ الوُجُوبُ إِلاَّ بِجَعْلِهَا فِي البَيْدَرِ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ سَقَطَتْ ....

قوله: «ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر، فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت» . أي: لا يستقر وجوب الزكاة إلا بجعلها في البيدر.

و (البيدر). هو المحل الذي تجمع فيه الثمار والزروع، ويسمى الجرين والبيدر؛ وذلك أنهم كانوا إذا جذوا الثمر جعلوا له مكاناً فسيحاً يضعونه فيه، وكذلك إذا حصدوا الزرع جعلوا له مكاناً فسيحاً يدوسونه فيه، فلا يستقر الوجوب إلا إذا جعلها في البيدر.

والدليل على أن استقرار الوجوب يكون بجعلها في البيدر قوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وإذا حصد الزرع فإنه يجعل في البيادر فوراً.

فإن تلفت بعد بدو الصلاح، واشتداد الحب، وقبل جعلها في البيدر، فإنها تسقط ما لم يكن ذلك بتعدٍ منه أو تفريط، فإنها لا تسقط.

وإذا جعلها في البيدر فإنها تجب عليه، ولو تلفت بغير تعد ولا تفريط؛ لأنه استقر الوجوب في ذمته فصارت ديناً عليه.

وعلى هذا فيكون لتلف الثمار والزرع ثلاث أحوال:

الحال الأولى: أن يتلفا قبل وجوب الزكاة، أي: قبل اشتداد الحب وقبل صلاح الثمر، فهذا لا شيء على المالك مطلقاً، سواء تلف بتعد أو تفريط، أو غير ذلك، والعلة عدم الوجوب.

الحال الثانية: أن يتلفا بعد وجوب الزكاة، وقبل جعله في البيدر، ففي ذلك تفصيل: إن كان بتعد منه أو تفريط ضمن الزكاة، وإن كان بلا تعد ولا تفريط لم يضمن.

الحال الثالثة: أن يتلفا بعد جعله في البيدر، أي: بعد جَذِّهِ ووضعه في البيدر، أو بعد حصاده ووضعه في البيدر، فعليه الزكاة مطلقاً، لأنها استقرت في ذمته فصارت ديناً عليه، والإنسان إذا وجب عليه دين، وتلف ماله فلا يسقط عنه.

والصحيح في الحال الثالثة أنها لا تجب الزكاة عليه ما لم يتعد أو يفرط، لأن المال عنده بعد وضعه في الجرين أمانة، فإن تعدى أو فرط، بأن أخر صرف الزكاة حتى سرق المال، أو ما أشبه ذلك فهو ضامن، وإن لم يتعد ولم يفرط وكان مجتهداً في أن يبادر بتخليصه، ولكنه تلف، مثل أن يجعل التمر في البيدر لأجل أن ييبس، ولكن لم يمض وقت يمكن يبسه فيه حتى سرق التمر، مع كمال التحفظ والحراسة، فلا يضمن، اللهم إلا إذا أمكنه أن يطالب السارق، ولم يفعل فهذا يكون مفرطاً.

إذاً القول الراجح أن الحال الثالثة تلحق بالحال الثانية. (الشرح الممتع).

•‌

‌ اذكر شروط وجوب زكاة الخارج من الأرض؟

الأول: أن يكون خارجاً من الأرض.

فلو أن إنساناً اشترى طناً من البر، فهذا لا تجب فيه الزكاة إلا إذا أراده عروض تجارة، لأنها ليست خارجة من الأرض.

ثانياً: أن تبلغ النصاب.

وقد سبق وهو (خمسة أوسق) الوسق: 60 صاعاً = 300 صاع.

فإذا أخرج من الأرض (بر أو شعير أو ذرة

) 300 صاع، فتجب فيها الزكاة.

ص: 130

613 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ; وَمُعَاذٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: - لَا تَأْخُذَا فِي اَلصَّدَقَةِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ اَلْأَصْنَافِ اَلْأَرْبَعَةِ: اَلشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ) رَوَاهُ اَلطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِم.

614 -

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ: (فَأَمَّا اَلْقِثَّاءُ، وَالْبِطِّيخُ، وَالرُّمَّانُ، وَالْقَصَبُ، فَقَدْ عَفَا عَنْهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث أبي موسى ومعاذ صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

وأما حديث معاذ الذي أخرجه الدارقطني إسناده ضعيف، فيه عبد الله بن نافع متكلم فيه، أيضاً في إسناده إسحاق بن يحيي، قال أحمد عنه: متروك الحديث، وقال ابن معين: ضعيف.

•‌

‌ اذكر ضابط الثمار والحبوب التي تجب فيها الزكاة؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: لا تجب إلا في الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث.

وبهذا قال جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري، واختاره الشوكاني، والألباني.

أ-لحديث الباب.

وهذا الحديث يؤيده أحاديث أخرى مرسلة:

عن مجاهد قال (لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الخمسة: البر، والشعير، والتمر، والزبيب) رواه البيهقي.

وقال الحسن (لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في عشرة أصناف: البر من الشعير، والتمر، والزبيب، والذرة، والإبل) رواه البيهقي.

قال الشوكاني: فهي تنتهض بتخصيص العمومات، مثل (وآتوا حقه يوم حصاده) فالحق ما ذهب إليه الثوري والحسن البصري والنخعي، والحسن بن صالح في وجوبها في هذه الأربعة، وأما زيادة الذرة فهي ضعيفة، لكن يعضد زيادة: والذرة، مرسل الحسن البصري ومجاهد.

القول الثاني: تجب في كل ما يقتات ويدخر.

وهذا مذهب المالكية، والشافعية.

كالحنطة، والشعير، والأرز، والذرة، بخلاف الجوز واللوز والفستق، هذه تدخر لكنها لا تقتات.

وكذلك الفواكه كالتفاح والرمان والكمثرى لا زكاة فيها، لأنها لا تدخر.

وقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد التعيين، بل قصد التعليل، وأن ما وافق هذه الأصناف في هذه العلة فإنه يلحق به في إيجاب الزكاة.

القول الثالث: تجب في كل ما يكال ويدخر سواء كان قوتاً أو غير قوت.

وهذا مذهب الحنابلة.

أ- لحديث جابر - وقد تقدم - (فيما سقت السماء العشر).

ب-لحديث أبي سعيد- وقد تقدم - (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة).

وجه الدلالة: دل حديث جابر على عموم الزكاة في كل ما خرج من الأرض، وخص هذا العموم بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم (خمسة أوسق) فاعتُبِر التوسيق، فخرج من الزكاة ما لا توسيق فيه، وهو مكيال فخرج ما لا يكال وما ليس بحب.

واختاره الشيخ ابن سعدي، والشيخ ابن باز رحم الله الجميع.

القول الرابع: تجب في كل خارج من الأرض.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

أ-لعموم قوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).

ب-وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

ج-ولحديث (فيما سقت السماء العشر

) وهذا عام يشمل كل ما خرج من الأرض.

والراجح القول الثاني أو القول الثالث.

•‌

‌ هل تجب الزكاة في الخضروات؟

لا تجب الزكاة في الخضروات، كالتفاح، والبرتقال، والموز، والمشمش، لأنها ليست مدخرة وليست مكيلة، ومثل هذه الأشياء إنما هي ذات منفعة عاجلة، والحاجة إليها مؤقتة، وليست من الغذاء الضروري، وإنما هي للتمتع والتفكه، فهي مأكولات الأغنياء دون الفقراء.

ص: 131

615 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنهما قَالَ (أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَصْتُمْ، فَخُذُوا، وَدَعُوا اَلثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا اَلثُّلُثَ، فَدَعُوا اَلرُّبُعَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا اِبْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.

616 -

وَعَنْ عَتَّابِ بنِ أُسَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ (أَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْرَصَ اَلْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ اَلنَّخْلُ، وَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَفِيهِ اِنْقِطَاع.

===

(إِذَا خَرَصْتُمْ) أيها السعاة، و الخرص هو تقدير الشيء وخرصه بالظن والتخمين.

(فَخُذُوا) أي: خذوا زكاة المخروص.

(وَدَعُوا اَلثُّلُثَ) أي: اتركوا.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

- حديث سهل فيه إسناده عبد الرحمن بن نِيَار، قال عنه الذهبي: لا يعرف، والحديث له شواهد.

منها: حديث أبي حميد الساعدي في خرص النبي صلى الله عليه وسلم حديقة المرأة في طريقهم إلى تبوك.

ومنها: بعثه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص على اليهود نخيلهم.

- وحديث عتاب بن أَسِيد، من طريق سعيد بن المسيب عن عتاب، قال أبو داود: سعيد لم يسمع من عتاب شيئاً،

وقال المنذري: انقطاعه ظاهر لأن مولد سعيد في خلافة عمر ومات عتاب في خلافة أبي بكر.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: أنه دليل على مشروعية خرص الثمار، كالنخل والعنب، وذلك إذا بدا صلاح الثمار، فيأتي الخارص ويقدر ما على النخل من الرطب تمراً، وما على شجر العنب زبيباً، فيطوف بالنخيل، ويرى جميع ثمرتها ثم يقول: خرصها كذا وكذا رطباً، ويجيء كذا وكذا يابساً، وكذا العنب، فيقدر ذلك بغير وزن ولا كيل، ليعرف مقدار الزكاة فيه، فإذا جفت الثمار أُخذتْ منها الزكاة التي سبق تقديرها بالخرص.

•‌

‌ عرف الخرص؟

هو: حزر مقدار الثمرة في رؤوس النخل وزناً.

•‌

‌ ما الذي يخرص؟

الذي يخرص الثمار كالعنب والتمر، لأن الثمرة فيها بارزة يمكن الإحاطة به.

وأما الحبوب فلا تخرص، لأن الحبوب تكون مستترة.

قال ابن قدامة: وَيُخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِمَا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِالْخَرْصِ فِي غَيْرِهِمَا، فَلَا يُخْرَصُ الزَّرْعُ فِي سُنْبُلِهِ.

وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْخَرْصِ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ تُؤْكَلُ رُطَبًا، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ، لِيُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَكْلِ الثَّمَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مِنْهَا عَلَى مَا خُرِصَ، وَلِأَنَّ ثَمَرَةَ الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ ظَاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَخَرْصُهَا أَسْهَلُ مِنْ خَرْصِ غَيْرِهَا، وَمَا عَدَاهُمَا فَلَا يُخْرَصُ.

ص: 132

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ودعوا الثلث أو الربع)؟ هل هو من أصل المال، أو من مقدار الواجب فيه؟

الراجح الثاني، وأنه قوله (ودعوا الثلث) أي: اتركوا ثلث الزكاة ليتصدق به رب المال بنفسه على أقاربه وجيرانه.

قال ابن قدامة: وَعَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْخَرْصِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ، تَوْسِعَةً عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَكْلِ هُمْ وَأَضْيَافُهُمْ، وَيُطْعِمُونَ جِيرَانَهُمْ وَأَهْلَهُمْ وَأَصْدِقَاءَهُمْ وَسُؤَّالَهُمْ.

فقوله (ودعوا الثلث) الخطاب للخارص والجابي أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها، ليخرجها صاحبها على أقاربه وجيرانه ونحوهم ممن تعلقت نفوسهم بهذه الثمرة والحب.

وقيل: اتركوا الثلث من نفس الثمرة، فلا يؤخذ عليه زكاة، رأفة بأرباب الأموال.

•‌

‌ قوله (ودعوا الثلث أو الربع) ما المرجع في ترك الثلث أو الربع؟

المرجع في ذلك إلى نظر الخارص واجتهاده في تحقيق المصلحة في ذلك.

قال ابن قدامة: وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْمَتْرُوكِ إلَى السَّاعِي بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ رَأْي الْأَكَلَةَ كَثِيرًا تَرَكَ الثُّلُثَ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا تَرَكَ الرُّبْعَ.

•‌

‌ ما وقت الخرص؟

وَقْتُ الْخَرْصِ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهُ.

أ- لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ، قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ).

ب- وَلِأَنَّ فَائِدَةَ الْخَرْصِ مَعْرِفَةُ الزَّكَاةِ، وَإِطْلَاقُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تَدْعُو إلَى ذَلِكَ حِينَ يَبْدُو الصَّلَاحُ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ .... (المغني).

•‌

‌ كم خارص يجزئ؟

يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ.

أ- لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ غَيْرَهُ.

ب- وَلِأَنَّ الْخَارِصَ يَفْعَلُ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْحَاكِمِ وَالْقَائِفِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ.

•‌

‌ ما صفة الخرص؟

قال ابن قدامة: صِفَةُ الْخَرْصِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ يُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ، وَيَنْظُرُ كَمْ فِي الْجَمِيعِ رُطَبًا أَوْ عِنَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ مَا يَجِيءُ مِنْهَا تَمْرًا، وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا خَرَصَ كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ تَخْتَلِفُ، فَمِنْهَا مَا يَكْثُرُ رُطَبُهُ وَيَقِلُّ تَمْرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَهَكَذَا الْعِنَبُ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ كُلِّ نَوْعٍ، حَتَّى يُخْرِجَ عُشْرَهُ

ص: 133

617 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; (أَنَّ اِمْرَأَةً أَتَتِ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا اِبْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ اِبْنَتِهَا مِسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا: "أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا" قَالَتْ: لَا. قَالَ: "أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اَللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ". فَأَلْقَتْهُمَا) رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيّ.

618 -

وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة.

619 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها; (أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحاً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَكَنْزٌ هُوَ؟ فقَالَ: إِذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ

===

(أَنَّ اِمْرَأَةً) هي أسماء بنت يزيد.

(مِسْكَتَانِ) بفتح الميم والسين هما سواران.

(أَيَسُرُّكِ) أيعجبك.

(أَوْضَاحاً) واحدها: وضح، وسميت بذلك لوضوحها ولمعانها، وهو نوع من الحلي.

(أَكَنْزٌ هُوَ؟) أي: أكنز هو يدخل في الوعيد الوارد في الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة

).

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

- الحديث الأول إسناده حسن، وقد صححه جمع من العلماء: ابن القطان، وابن الملقن، والحافظ كما هنا، والصنعاني، والنووي، وأحمد شاكر، والألباني وغيرهم.

- وأما حديث أم سلمة من طريق عتَّاب بن بَشِير عن ثابت بن عجلان عن عطاء بن أبي رباح عن أم سلمة، وعتاب بن بشير قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق يخطئ، وثابت بن عجْلان متكلم فيه، وأعل بالانقطاع بين عطاء وأم سلمة، فقد ذكر بعض العلماء أن عطاء لم يسمع من أم سلمة، لكن صححه ابن القطان وحسنه النووي، وله شواهد ومنها ما تقدم.

•‌

‌ ما المراد بالكنز المذكور في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ

أَلِيمٍ)؟

الصحيح: أنه كل مال وجب فيه صدقة الزكاة فلم تؤد، وأما ما أخرجت زكاته فليس بكنز.

وهذا مذهب الأكثر.

قال القاضي عياض: فقال أكثرهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تُودّ، فأما ما أخرجت زكاته فليس بكنز.

وقال ابن عبد البر: فالجمهور على أنه ما لم تؤد زكاته، وعليه جماعة الفقهاء والأمصار

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم

) رواه مسلم.

ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع

وفي آخره

فيقول: أنا كنزك).

ج-ولحديث الباب (إذا أديتِ زكاته فليس بكنز).

د-ولحديث أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أديتَ زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) رواه الترمذي.

وهناك أقوال أخرى، منها:

قيل: المراد بالآية أهل الكتاب، وقيل: كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وإن أديت زكاته.

ص: 134

•‌

‌ ما حكم الزكاة في الذهب والفضة؟

واجب.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

وقال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) رواه مسلم.

وتجب الزكاة فيها بشرطين: مضي حول كامل، وبلوغ النصاب [وتقدم تفصيل ذلك].

•‌

‌ هل تجب الزكاة في الذهب المباح المستعمل للمرأة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه فيه الزكاة:

وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، ومحمد بن سيرين، ومجاهد، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله ابن شداد، ومكحول، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، وابن المبارك، وابن شبرمة، والطحاوي، وابن حزم، وابن المنذر، والصنعاني.

وهو مذهب أبي حنيفة.

ورجحه الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.

ورجحه احتياطاً: الخطابي، والشنقيطي، وأبو بكر الجزائري، وصالح البليهي. أدلتهم:

أ-لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

والمراد بكنز الذهب والفضة: عدم إخراج ما يجب فيهما من زكاة وغيرها من الحقوق، والآية عامة في جميع الذهب والفضة، لم تخصص شيئاً دون شيء، فمن ادعى خروج الحلي المباح المستعمل من هذا العموم فعليه الدليل.

ب-ما ثبت في حديث مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ) والحديث عام.

ج-حديث الباب: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; (أَنَّ اِمْرَأَةً أَتَتِ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا اِبْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ اِبْنَتِهَا مِسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا:"أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا" قَالَتْ: لَا. قَالَ

).

قال ابن حجر: إسناده قوي. وقال النووي: إسناده قوي. وقال ابن الملقن: إسناده صحيح.

وقال الشنقيطي: أقل درجاته الحسن. وقال الألباني: إسناده حسن.

د-حديث عائشة قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتختان من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبكِ من النار) رواه أبو داود والحاكم.

قال النووي: إسناده حسن. وصححه الألباني.

ص: 135

القول الثاني: أنه لا زكاة فيه.

وبه قال ابن عمر، وجابر، وأنس، وابن مسعود، وأسماء، وعمرة بنت عبد الرحمن، والحسن البصري، وطاووس، والشعبي، وابن المسيب.

وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد.

أ-لحديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).

قال النووي: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها.

ب-حديث جابر رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في الحلي زكاة) رواه البيهقي.

وهذا مختلف فيه: فقد ذكر الشيخ البسام: أنه صححه: أبو زرعة، وابن الجوزي، والمنذري، وابن دقيق العيد.

وضعفه: البيهقي، وقال: باطل لا أصل له، وضعفه الألباني.

ج- قوله صلى الله عليه وسلم للنساء (تصدقن ولو من حليكن) متفق عليه.

وجه الدلالة: فيه دلالة على أنه لا زكاة في الحلي، لأنه لو كانت الصدقة فيه واجبة، لما ضرب به المثل في صدقة التطوع.

د-أن الصحابة كانت لهم أموال من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزكاة في ذلك.

هـ-وروي هذا القول عن جمع من الصحابة.

فقد جاء عن جابر (أنه سئل: أفي الحلي زكاة؟ قال: لا، قيل: وإن بلغ عشرة آلاف؟ قال: كثير) أخرجه عبد الرزاق.

وعن نافع (أن ابن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة) أخرجه مالك، قال الشنقيطي: هذا الإسناد في غاية الصحة.

وعن أنس (أنه سئل عن الحلي؟ فقال: ليس فيه زكاة) أخرجه البيهقي.

و- أن الزكاة إنما تجب في المال المعد للنماء، والحلي ليس معداً لذلك، لأنه خرج عن النماء بصناعته حلياً يلبس ويستعمل وينتفع به، والمرأة إنما تملكه بقصد الانتفاع الشخصي والتزين والتجمل، لا بنية النماء والاستثمار.

•‌

‌ بماذا أجاب هؤلاء عن أدلة القول الأول؟

أجابوا:

أ-قالوا: إن الآية والحديث، هذه عمومات، ولهذا العموم أدلة تخصص معناه وتقيد اطلاقه.

ب- أما الأحاديث التي فيها الأمر بإخراج الزكاة (كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيره) ففيها ضعف

قال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شيء، ورجح النسائي إرسال حديث عمرو بن شعيب.

قال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في الذهب.

ص: 136

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني؟

أجابوا: أن حديث (ليس في الحلي زكاة) ضعيف.

وعلى فرض صحته: فأنتم لا تقولون به، حيث أنهم يوجبون الزكاة في الذهب إذا أعد للنفقة والأجرة.

ب- وأما حديث (تصدقن ولو من حليكن) فإن هذا الحديث ليس فيه إثبات وجوب الزكاة، ولا نفيه، وإنما فيه الأمر بالصدقة حتى من حاجات الإنسان

والراجح القول الأول، والله أعلم.

فائدة: الخلاف السابق في الحلي المباح، أما المحرم فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على وجوب الزكاة فيه.

قال ابن قدامة: فيها الزكاة بغير خلاف بين أهل العلم.

قال النووي: أما الحلي المحرم فتجب الزكاة فيه بالإجماع.

مثال: إذا اتخذت المرأة حلياً فيه صورة محرمة.

•‌

‌ ما حكم الحلي إذا اتخذ للكراء والنفقة؟

فيه الزكاة.

الكراء: أي الأجرة. النفقة: مثل رجل عنده ذهب لنفقته، كلما احتاج إلى النفقة باع منه، ففيه الزكاة

•‌

‌ ما حكم لبس الذهب المحلق للنساء؟

جائز، وهذا قول جماهير العلماء بل حكاه بعضهم إجماعاً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الجزاء من جنس العمل.

- إثبات النار.

- إثبات يوم القيامة.

ص: 137

620 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا; أَنْ نُخْرِجَ اَلصَّدَقَةَ مِنَ اَلَّذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ لَيِّن.

===

(نعده) أي نهيئه ونحضره للتجارة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف لأن فيه مجاهيل: جعفر بن سعد بن سمرة، وشيخه خُبيْب بن سليمان، وشيخ شيخه سليمان بن سمرة.

قال الحافظ في التلخيص: في إسناده جهالة.

وقال النووي: في إسناده جماعة لا أعرف حالهم.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: وجوب الزكاة في عروض التجارة، وهذا قول جماهير العلماء.

قال ابن قدامة: تجب الزكاة في قيمة العروض في قول أكثر أهل العلم.

وقال الخطابي: زعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أنْ لا زكاة فيها، وهو مسبوق بالإجماع.

ومما يدل على وجوب الزكاة في عروض التجارة:

أ-قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْض).

قال الطبري: يعني بذلك: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة أو بصناعة.

وروي من عدة طرق عن مجاهد في قوله (من طيبات ما كسبتم) قال: من التجارة.

وبوب البخاري في صحيحه على هذه الآية فقال: باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْض).

قال أبو بكر الجصاص: وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال، فمن أخرج عروض التجارة منها فعليه الدليل.

وقال أبو بكر العربي: قال علماؤنا، قوله تعالى (ما كسبتم) يعني التجارة (ومما أخرجنا لكم من الأرض) يعني النبات.

ب-حديث الباب، وقد تقدم ضعفه.

ج-وروى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِم عَنْ أَبِي ذَرّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (فِي الْإِبِل صَدَقَتهَا، وَفِي الْغَنَم صَدَقَتهَا، وَفِي الْبَقَر صَدَقَتهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَته

الْحَدِيث).

قال الحافظ في "التلخيص"(2/ 391): إسناده لا بأس به اهـ. وصححه النووي في المجموع (6/ 4). وَالْبَزُّ بِالْبَاءِ وَالزَّاي (الثياب أو نوع منها). كَذَا ضَبَطَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَالْحَدِيث صَحَّحَهُ الْحَاكِم وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْره. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنْ النَّاس مَنْ صَحَّفَهُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَبِالرَّاءِ وَهُوَ غَلَطٌ ا. هـ.

فهذا الحديث دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، لأن الثياب لا زكاة فيها إلا إذا كانت للتجارة، فتعين حمل الحديث على ذلك.

ص: 138

د-وروى الشَّافِعِيّ، وَأَحْمَد، وَعَبْد الرَّزَّاق، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن حِمَاس عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَبِيعُ الْأُدْمَ فَمَرَّ بِي عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ لِي: أَدِّ صَدَقَة مَالِك، فَقُلْت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْأُدْم، فَقَالَ: قَوِّمْه ثُمَّ أَخْرَجَ صَدَقَته. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(828) لجهالة أبي عمرو بن حماس. ولكن يشهد له الأثر الثاني.

هـ-وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيّ قَالَ: كُنْت عَلَى بَيْتِ الْمَالِ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ إذَا خَرَجَ الْعَطَاءُ جَمَعَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ ثُمَّ حَسَبَهَا، غَائِبَهَا وَشَاهِدَهَا، ثُمَّ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ شَاهِدِ الْمَالِ عَنْ الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ. صححه ابن حزم.

و-وعن ابن عمر قال (ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة) رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه ابن حزم، والبيهقي والنووي.

وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك:

قال أبو عبيد: أجمع المسلمون أن الزكاة فرض واجب فيها، أي: عروض التجارة.

وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن في العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول.

•‌

‌ عرف عروض التجارة؟

العروض جمع عرض، وهو المال المعد للتجارة.

فكل شيء معد للتكسب والتجارة فهو عروض تجارة.

•‌

‌ لماذا سميت بذلك؟

سميت عروض: لأنها تعرض للبيع، أو لأنه يعرض ويزول ولا يبقى عند صاحبه.

•‌

‌ هل مجرد ما ينوي التجارة يكون للتجارة، أو لا بد أن يملكها بنية التجارة؟

المسألة لها أحوال:

أولاً: إن ملكها بفعله بنية التجارة، فهذه تكون للتجارة وفيها زكاة.

مثال: اشترى أرضاً يريد التجارة فيها.

ثانياً: إن ملكها بغير فعله، كمن مات له مورث وورث بعده أرضاً ونوى بها التجارة.

المذهب لا تكون للتجارة، لأنه ملكها قهراً.

والصحيح أنها تكون للتجارة.

ثالثاً: ملكها بفعله بغير نية التجارة ثم نوى بها التجارة:

المذهب لا تكون للتجارة، لأنه حين ملكها لم يكن ناوياً للتجارة.

والصحيح أنها تكون للتجارة بالنية.

مثال: اشترى سيارة، فأراد أن يستعملها للأجرة، ثم بدا له أن يعرضها للتجارة.

ص: 139

•‌

‌ ما كيفية زكاة العروض؟

تعتبر عند التقويم قيمة السلع.

•‌

‌ هل يخرج عروض أو نقود؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أن الواجب إخراج زكاة العروض من قيمتها لا من عينها.

وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ-قالوا: إن نصاب عروض التجارة معتبر بالقيمة، فوجب أن يكون المُخرج منها، وذلك قياساً على بقية الأموال التي حدد نصابها بالعين.

ب-وقالوا: إن القيمة هي محل الوجوب في زكاة العروض، إذ الواجب إخراج ربع العشر، وأما العروض فليست محلاً للوجوب، فكان الإخراج من عينها كالإخراج من غير الجنس.

القول الثاني: أن الواجب إخراج زكاة العروض من عينها لا من قيمتها.

وهذا قول الحنفية.

قالوا: إن الواجب إخراج ما في يد المزكي وملكه، وملكه عين العروض لا قيمتها.

القول الثالث: أنه يجزئ إخراج زكاة العروض من العروض إذا كان لمصلحة الفقير.

وهذا اختيار ابن تيمية.

والراجح القول الأول.

ص: 140

621 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَفِي اَلرِّكَازِ: اَلْخُمُسُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

622 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبَةٍ- (إِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ، فَعَرِّفْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ، فَفِيهِ وَفِي اَلرِّكَازِ: اَلْخُمُسُ) أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَن.

===

•‌

‌ ما صحة حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؟

الحديث سنده حسن، وسلسلة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من قسم الحسن، والحديث لم يروه ابن ماجه، وهِمَ الحافظ في ذلك، وإنما رواه الشافعي.

•‌

‌ عرف الركاز؟

الركاز: ما وجد في دِفن الجاهلية، ويعرف أنه من الجاهلية إما باسم ملِك من ملوكهم، أو ذكر تاريخ يدل على السنة أو نحو ذلك من العلامات.

•‌

‌ كم الواجب فيه؟

الواجب فيه الخمس.

لحديث الباب.

•‌

‌ لمن الركاز؟

لواجده.

أ-لأنه أحق به.

ب- ولفعل عمر وعلي، فإنهما دفعا باقي الركاز لواجده.

•‌

‌ هل للركاز نصاب؟

ليس له نصاب، فيزكى قليله وكثيره.

ففي حديث الباب (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) فظاهره: عدم اشتراط النصاب وهو مذهب الجمهور، واختاره: ابن المنذر، والصنعاني والشوكاني.

•‌

‌ متى وقت إخراج زكاته؟

من حين العثور عليه، فلا ينتظر دوران الحول عليه.

•‌

‌ أين يكون مصرفه؟

يكون مصرفه يكون لمصالح المسلمين العامة [بيت المال] ولا يخص به الأقسام الثمانية.

•‌

‌ ما الفرق بين الركاز، واللقطة؟

الركاز لواجده، واللقطة تعرف، فإن جاء صاحبها فهي له وإلا فهي لواجدها.

ص: 141

623 -

وَعَنْ بِلَالِ بْنِ اَلْحَارِثِ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنَ اَلْمَعَادِنِ اَلْقَبَلِيَّةِ اَلصَّدَقَةَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

===

(المعادن) سمي معدن لإقامته الطويلة، يقال: عدن بالمكان، إذا لزمه، ومنه سميت جنات عدن.

والمعدن: هو ما كان في الأرض من غير جنسها كالذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس.

الفرق بين المعدن والركاز: الركاز ما كان بفعل آدمي، والمعدن: نبات أنبته الله في الأرض وليس بوضع آدمي.

(القَبَلية): على وزن عربية، والقبل هو النشز من الأرض يقابلك، والقبلية: هو موضع بناحية ساحل البحر الأحمر من منطقة الفُرع، والفُرْع: اسم قرية ذات نخيل ومياه بينه وبين المدينة ثمانية برد.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف.

• هل تجب الزكاة في المعادن؟

القول الأول: تجب فيها الزكاة.

أ-لحديث الباب.

ب- ويؤيده قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

القول الثاني: لا تجب الزكاة في المعادن إلا في الذهب والفضة.

قال ابن قدامة: وقال مالك والشافعي: لا تتعلق الزكاة إلا بالذهب والفضة.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في حَجَر).

ولأنه مال يقوم بالذهب والفضة مستفاد من الأرض، أشبه الطين الأحمر.

القول الثالث: تجب الزكاة في المعادن التي تذوب وتنطبع بالنار.

وهذا قول أبي حنيفة.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ ما نصاب المعدن؟

إذا كان ذهباً فنصابه: 20 مثقالاً، وإن كان فضة فنصابه: 200 درهم، وإن كان من غيرهما فنصابه فقيمة الذهب أو قيمة الفضة.

•‌

‌ ما المقدار الواجب في المعدن؟

مقدار الواجب فيه ربع العشر.

وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

قياساً على الواجب في النقدين.

•‌

‌ هل يشترط في نصاب المعدن أن يستخرجه دفعة واحدة؟

لا، لا يشترط في نصاب المعدن أن يستخرج دفعة واحدة.

لأن الغالب في المعادن أن تستخرج شيئاً فشيئاً.

ص: 142

‌بَابُ صَدَقَةِ اَلْفِطْرِ

624 -

عَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ اَلْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى اَلْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ اَلنَّاسِ إِلَى اَلصَّلَاةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

625 -

وَلِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَاَلدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: (اغْنُوهُمْ عَنِ اَلطَّوَافِ فِي هَذَا اَلْيَوْمِ).

626 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وَفِي رِوَايَةٍ: (أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ).

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ (أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اَللَّهِ).

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعًا).

===

(فرض) أي أوجب.

(صاعاً) الصاع مكيال يسع أربع أمداد، والمد: ما يملأ كفيّ الرجل المعتدل في الخِلقة.

(أن تؤدى) أن توصل.

(زبيب) العنب الجاف.

(أَقِط) هو لبن الغنم المطبوخ المجفف.

•‌

‌ ما صحة رواية (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم)؟

إسنادها ضعيف، لأن في الإسناد أبو مَعْشَر، وهو نَجِيح السندي المدني، قال البخاري: منكر الحديث.

•‌

‌ ما حكم زكاة الفطر؟

واجبة.

لقوله (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم

).

•‌

‌ على من تجب؟

تجب على المسلم، الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير.

أ-لقوله ( .. من المسلمين).

قال الحافظ: وهو أمر متفق عليه.

ب-ولأنها طهرة والكافر ليس مكاناً للطهرة.

فلو أن رجلاً تزوج يهودية، فإنه لا يخرج عنها زكاة الفطر، لأنها كافرة.

ص: 143

•‌

‌ لماذا أضيفت إلى الفطر؟

قيل: أضيف إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان.

وقيل: المراد صدقة النفوس.

قال الحافظ: والأول أظهر، ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث: زكاة الفطر من رمضان.

•‌

‌ كم مقدار زكاة الفطر؟

صاع سواء من البر أو غيره.

لقوله صلى الله عليه وسلم (صاعاً

).

•‌

‌ هل تجب على الصغير؟

نعم، واجبة على الصغير والكبير، والجمهور تجب فطرة الصغير في ماله، والمخاطب بإخراجها وليه، وإن كان للصغير مال وإلا وجبت على من تلزمه نفقته.

•‌

‌ هل تجب زكاة الفطر على المسلم ولو لم يصم رمضان لمرض أو عذر؟

نعم، واجبة حتى ولو لم يصم لمرض أو عذر.

وذهب سعيد بن المسيب، والحسن البصري أنها لا تجب إلا على من صام، واستدل لهما بحديث ابن عباس الآتي بلفظ (صدقة الفطر طهرة للصائم).

قال في الفتح: وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب، كما أنها تجب على من لا يذنب، كمتحقق الصلاح، أو من أسلم قبل الغروب بلحظة.

أن من حكم هذه الزكاة اغتناء الفقراء في يوم العيد، لئلا يبتذلوا أنفسهم بالسؤال.

•‌

‌ ما حكم إخراج الزكاة من غير هذه الأصناف المنصوص عليها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يجزئ إخراج غير هذه الأصناف المنصوص عليها.

وهذا قول الحنابلة.

أ-أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَجْنَاسًا مَعْدُودَةً، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجْنَاسِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْفَرْضَ تَفْسِيرٌ لِلْمَفْرُوضِ، فَمَا أُضِيفَ إلَى الْمُفَسَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ مَفْرُوضَةً فَيَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا. (المغني).

ب- وَلِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ غَيْرَهَا عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجْزِ، كَإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَكَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ زَكَاةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.

القول الثاني: أنه يجوز إخراج زكاة الفطر من غير الأصناف المنصوصة مما هو من قوت البلد ولو مع توفر الأجناس المنصوصة.

وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.

أ- قياس الأصناف غير المنصوصة مما هو من قوت البلد على المنصوصة، وذلك لأنه لا يوجد في الأصناف المنصوصة معنى يخصها ويمنع من قياس غيرها عليها.

ب- أن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء، وزكاة الفطر لا تخرج عن هذا الباب، فجاز إخراجها من غالب قوت البلد، ويؤيده أن الأصناف المنصوصة كانت هي غالب قوت أهل المدينة وقتها، ولو كانوا يقتاتون غيرها لأمروا بالإخراج مما يقتاتون.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 144

•‌

‌ هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقداً؟

لا يجوز إخراجها نقداً.

وهذا مذهب جماهير العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ-لقول ابن عمر رضي الله عنه (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر وصاعا من شعير).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الصدقة من تلك الأنواع، فمن عدل إلى القيمة فقد ترك المفروض.

ب-عن أبي سعيد رضي الله عنه قال (كنا نخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعامنا التمر والشعير والزبيب والأقط).

وجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يخرجونها من غير الطعام، وتتابعهم على ذلك دليل على أن المشروع إخراجها طعاماً.

ج-أن إخراج زكاة الفطر من الشعائر، فاستبدال المنصوص بالقيمة يؤدي إلى إخفائها وعدم ظهورها (فتنقلب من شعيرة ظاهرة إلى صدقة خفية).

د-قال صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

هـ- أن ذلك مخالف لعمل الصحابة، فقد كانوا يخرجونها من الطعام.

•‌

‌ هل إذا لم يستطع دفع صاع، هل يدفع ما قدر عليه منه؟

قيل: يدفع ما قدر عليه.

أ-لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).

ب-ولأن بعض الصاع ينفع الفقير.

وقيل: لا يدفع.

لأن هذه عبادة مقدرة في تقدير معين، إذا عجز عن هذا القدر سقطت عنه.

والراجح الأول.

هل تجب زكاة الفطر على الجنين؟

لا تجب، ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.

وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه.

وكان عثمان يخرجها عنه.

فائدة:

ظاهر الأحاديث عدم الفرق بين أهل البادية وغيرهم، وإليه ذهب الجمهور.

وقال الزهري وربيعة والليث: إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة، ولا تجب على أهل البادية.

ص: 145

627 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ اَلْفِطْرِ; طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اَللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اَلصَّدَقَاتِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم.

===

(طهرة للصائم) أي تطهيراً لنفس من صام رمضان من اللغو.

(اللغو) هو الكلام الذي لا فائدة فيه.

(الرفث) قال ابن الأثير: الرفث هنا الفحش من الكلام.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث سنده حسن كما قال النووي، ورجاله ثقات.

•‌

‌ ما الحكمة من زكاة الفطر؟

أولاً: طهرة للصائم.

ثانياً: إغناء الفقراء وكفهم عن السؤال يوم العيد.

ثالثاً: طعمة للمساكين.

رابعاً: يلحق بركب الكرماء.

•‌

‌ اذكر أوقات إخراج زكاة الفطر؟

زكاة الفطر لها أوقات:

أولاً: الاستحباب: وهو يوم العيد قبل الصلاة.

لحديث ابن عمر السابق (

وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ اَلنَّاسِ إِلَى اَلصَّلَاةِ)

ولحديث الباب.

ثانياً: وقت جواز.

قبل العيد بيوم أو يومين.

لقول نافع (كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري.

ثالثاً: وقت وجوب.

تجب بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان.

أمثلة:

مات بعد الغروب ـ تجب عليه.

ملك رقيقاً قبل الغروب ـ يجب أن يخرج عنه.

رابعاً: وقت تحريم.

بعد صلاة العيد لغير عذر.

لحديث الباب.

(المذهب وقت الكراهة سائر يوم العيد إلى الغروب، والتحريم بعد غروب الشمس من يوم العيد).

ص: 146

•‌

‌ هل يجوز أن يخرج الجماعة فطرتهم لشخص واحد وكذا العكس؟

نعم، يجوز أن يخرج الجماعة فطرتهم ويعطوها لواحد، ويجوز للواحد أن يوزع فطرته على واحد أو اثنين.

•‌

‌ ما مصرف زكاة الفطر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن صدقة الفطر تجري مجرى زكاة المال، فيجوز دفعها للمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب كسائر الأصناف.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

أ- لقوله تعالى (إنما الصدقات للفقر) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وجه الدلالة: أن صدقة الفطر تدخل في عموم الصدقات، وقد بينت الآية مصارفها ومن يستحقها، ومنهم المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب.

ب- أن صدقة الفطر زكاة، فأشبهت زكاة المال، وقد تقرر أن زكاة المال تدفع إلى جميع الأصناف.

القول الثاني: أن صدقة الفطر تجري مجرى الكفارات، فلا يجوز دفعها إلا لمن لهم أخذ الكفارات، وهم الآخذون لحاجة أنفسهم، فلا يدخل فيها الغارمون ولا المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب.

وهذا قول الحنفية، والمالكية وهو اختيار ابن تيمية.

أ- لحديث الباب (

وطعمة للمساكين).

وجه الدلالة: قوله (طعمة للمساكين) يدل على أن ذلك حق للمساكين مختص بهم، كما اختص بهم الإطعام في الكفارة في قوله تعالى في آية الظهار (فإطعام ستين مسكيناً)، فإذا لم تجز أن تصرف هذه للأصناف الثمانية، فكذلك زكاة الفطر.

ب- أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه الراشدين أنه كان يدفع صدقة الفطر إلى سائر الأصناف الثمانية، بل كان يدفعها إلى المساكين وحسب.

قال ابن القيم: وكان من هديه عليه السلام تخصيص المساكين بهذه الصدقة، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، بل أحد القولين عندنا: أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة، وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية

بَابُ صَدَقَةِ اَلتَّطَوُّعِ

التطوع لغة: فعل الطاعة.

وشرعاً: كل طاعة ليست بواجبة.

والصدقة: دفع مال لفقير تقرباً إلى الله.

ص: 147

628 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اَللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ

- فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ وَفِيهِ:

(وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

629 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّ اِمْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ اَلنَّاسِ). رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ لحديث أبي هريرة كاملاً؟

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاه) متفق عليه.

•‌

‌ اذكر فضائل الصدقة؟

الصدقة فضلها عظيم، وأجربها كبير، وجاءت النصوص الكثيرة في فضلها:

أولاً: أنها برهان على صدق إيمان صاحبها.

لحديث أبي مالك الأشعري. قال: قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة برهان) رواه مسلم.

قال ابن رجب: وأما الصدقة فهي برهان،

فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان.

ثانياً: أنها تطهير للنفس.

كما قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).

ثالثاً: أنها تزيد المال.

قال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.

رابعاً: أنها تظلل صاحبها يوم القيامة.

كما في حديث الباب (العبد في ظل صدقته يوم القيامة) رواه ابن حبان.

خامساً: مغفرة الذنوب:

وفي الحديث (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) رواه الترمذي.

سادساً: يكون في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.

كما في حديث الباب (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ).

سابعاً: سبب للنجاة من النار.

كما قال صلى الله عليه وسلم للنساء (تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة) متفق عليه.

ثامناً: أن الله يضاعفها ولو كانت قليلة.

كما قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوه) متفق عليه.

عن أبي هُرَيْرَةَ قال. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) متفق عليه.

ص: 148

تاسعاً: درجة البر (الجنة) تنال بالإنفاق:

كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

وكان ابن عمر إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به.

عاشراً: صاحب الصدقة موعود بالخلف.

كما قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب.

الحادي عشر: سبب لدعاء الملائكة.

قال صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.

الثاني عشر: أن فيها انشراح الصدر، وراحة القلب وطمأنينته.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدَيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تُغَشِّىَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا». قَالَ فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَوَسَّع) متفق عليه.

الثالث عشر: الفضل الكبير.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلَانٌ. لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتاً فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لاِسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالي ثُلُثاً وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَه) رواه مسلم.

•‌

‌ متى أفضل وقت للصدقة؟

وقت الصحة والقوة.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ فَقَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَان) متفق عليه.

قال النووي رحمه الله: قَالَ الخطابي: فَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة، فَإِذَا شَحّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت وَآيَسَ مِنْ الْحَيَاة وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة، وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء وَخَوْف الْفَقْر .. فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصِيَّته كَبِير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَدَقَة الصَّحِيح الشَّحِيح.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَفِي الْحَدِيث أَنَّ تَنْجِيز وَفَاء الدَّيْن وَالتَّصَدُّق فِي الْحَيَاة وَفِي الصِّحَّة أَفْضَل مِنْهُ بَعْد الْمَوْت وَفِي الْمَرَض، وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" وَأَنْتَ صَحِيح حَرِيص تَأْمُل الْغِنَى الخ " لأَنَّهُ فِي حَال الصِّحَّة يَصْعُب عَلَيْهِ إِخْرَاج الْمَال غَالِبًا لِمَا يُخَوِّفهُ بِهِ الشَّيْطَان وَيُزَيِّن لَهُ مِنْ إِمْكَان طُول الْعُمْر وَالْحَاجَة إِلَى الْمَال كَمَا قَالَ تَعَالَى (الشَّيْطَان يَعِدكُمْ الْفَقْر) الآيَة.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء مَرْفُوعًا قَالَ: مَثَل الَّذِي يُعْتِق وَيَتَصَدَّق عِنْد مَوْته مِثْل الَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ "، وَهُوَ يَرْجِع إِلَى مَعْنَى حَدِيث الْبَاب.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا " لأَنْ يَتَصَدَّق الرَّجُل فِي حَيَاته وَصِحَّته بِدِرْهَمٍ خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته بِمِائَة.

ص: 149

فائدة:

قال السمرقندي: عليك بالصدقة بما قلّ أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال محمودة خمس في الدنيا وخمس في الآخرة.

أما التي في الدنيا:

فأولها: تطهير المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة).

والثاني: أن فيها تطهير البدن من الذنوب، كما قال الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ

).

والثالث: أن فيها دفع البلاء والأمراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة).

والرابع: أن فيها إدخال السرور على المساكين، وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين.

والخامس: أن فيها بركة في المال وسعة في الرزق، كما قال تعالى (ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).

وأما الخمس التي في الآخرة:

فأولها: أن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها في شدة الحر.

والثاني: أن فيها خفة الحساب.

والثالث: أنها تثقل الميزان.

والرابع: جواز على الصراط.

والخامس: زيادة الدرجات في الجنة.

•‌

‌ ما الأفضل في صدقة التطوع أن تكون سراً أم علانية؟

الأفضل أن تكون سراً.

أ- لحديث الباب (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

ب- ولقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

فقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال السعدي: أي: فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله (فنعما هي) أي: فنعم الشيء (هي) لحصول المقصود بها.

قال ابن القيم: قوله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) أي فنعم شيء هي وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة.

(وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: وإن تسروها وتدفعوها للفقراء فهو أفضل لكم لأنه أبعد عن الرياء.

قال ابن الجوزي: وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين:

أحدهما: يرجع إلى المعطي وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية.

والثاني: يرجع إلى المعطَى، وهو دفع الذل عنه بإخفاء الحال، لأن في العلانية ينكر.

ثم قال: واتفق العلماء على إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها.

قال السعدي:

وإن أخفاها وسلمها للفقير كان أفضل، لأن الإخفاء على الفقير إحسان آخر، وأيضاً فإنه يدل على قوة الإخلاص، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله (من تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

ص: 150

وقال ابن القيم:

وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير.

قال ابن كثير: فيه دلالة على إن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية.

فالأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:

ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

وجاء في الحديث (صدقة السر تطفئ غضب الرب).

قال القرطبي: قوله تعالى (فَنِعِمَّا هِيَ) ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك.

ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطُنع إليك فانشره.

وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ؛ فإذا أعجلته هنيّته، وإذا صغّرته عظّمته، وإذا سترته أتْمَمْته.

وقال بعض الشعراء فأحسن:

زاد معروفُك عندي عِظَماً

أنه عندك مستورٌ حقِيرْ

تَتَناساه كأَنْ لَمْ تأتِه

وهو عند الناس مشهور خطِيرْ

وقال رحمه الله: ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوّعها لانتفاء الرياء عنها.

قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوّع تفضُل علانيتها يقال بسبعين ضِعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سِرِّها يقال بخمسة وعشرين ضِعفاً.

قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.

قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف؛ وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة) وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عُرضة لذلك وروى النَّسائيّ عن عُقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يُسِرّ بالقرآن كالذي يُسِرّ بالصدقة وفي الحديث: صدقة السرّ تُطْفِئ غضب الرب

ويقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله في فوائد الآية السابقة في سورة البقرة - فيها: تفضيل لصدقة السرّ؛ لأنّ فيها إبْقاء على ماءِ وجه الفقير، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي.

• وأما الزكاة المفروضة فالأفضل إظهارها.

لأجل أن يقتدي به غيره، ولئلا يُساء الظن به، فيظن بعض الناس أنه لا يخرج زكاة.

ص: 151

قال النووي رحمه الله: الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها; ليراه غيره فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به، وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب إظهارها، وإنما يستحب الإخفاء في نوافل الصلاة والصوم. (المجموع).

وقال المرداوي في (الإنصاف) يستحب إظهار إخراج الزكاة مطلقاً على الصحيح من المذهب " انتهى.

وقال ابن بطال في شرحه (لصحيح البخاري) ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها .... وكذلك جميع الفرائض، والنوافل في الأشياء كلها وقال سفيان (إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) قال: سوى الزكاة، وهذا قول كالإجماع.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) فيما ينبغي مراعاته حال الإخراج: إظهار إخراج الزكاة وإعلانه

قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل " انتهى.

•‌

‌ هل يجوز إعطاء الكافر من الصدقة؟

يجوز إعطاء الصدقة - غير المفروضة - للفقراء من غير المسلمين وخصوصا إذا كانوا من الأقارب، بشرط أن لا يكونوا من المحاربين لنا، وأن لا يكون وقع منهم اعتداء يمنع الإحسان إليهم.

لقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).

ولحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت (قَدِمَتْ عَلَيّ أمي وهي مشركة - في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدَّتِهم - مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبةٌ - تطلب العون - أفأصلها؟ قال: نعم صِلِيْها) رواه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها (أن امرأة يهودية سألتها فأعطتها، فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر، فأنكرت عائشة ذلك، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له، فقال: لا، قالت عائشة: ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك " إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم) مسند أحمد.

فدل هذان الحديثان على جواز إعطاء الكافر من الصدقة.

ولا يجوز إعطاء فقراء الكفار من الزكاة، لأن الزكاة لا تعطى إلا للمسلمين في مصرف الفقراء والمساكين المذكورين في آية الزكاة.

قال الإمام الشافعي: ولا بأس أن يتصدق على المشرك من النافلة، وليس له في الفريضة من الصدقة حق، وقد حمد الله تعالى قوماً فقال (ويطعمون الطعام).

•‌

‌ ما المقصود بقوله (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)؟

المقصود المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث أن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم بما عملت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها.

•‌

‌ اذكر وقت صدقة التطوع؟

صدقة التطوع لها وقتان:

- وقت استحباب: وهو في كل وقت.

- وقت تأكد الاستحباب: وله أوقات مثل: وقت الحاجة والشدة والمجاعة والنكبات.

في العشر الأواخر من رمضان (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان).

في عشر ذي الحجة لحديث (ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه العشر- يعني عشر ذي الحجة - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله .. الحديث) رواه البخاري.

ومن الصدقات المؤكدة:

على الجار: لحديث (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه.

الصدقة عند الكسوف: لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس (صلوا وادعوا وتصدقوا) رواه البخاري.

ص: 152

•‌

‌ ما حكم أن ينوي الإنسان بصدقته أو زكاته نماء ماله فقط؟

لا بأس بذلك.

وقد نبه الله على مثل ذلك في قول نوح عليه السلام لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال). وقال صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، ولم يجعل الله عز وجل هذه الفوائد الدنيوية إلا ترغيباً للناس، وإذا كانوا يرغبون فيها فسوف يقصدونها، لكن من قصد الآخرة حصلت له الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، يعني نعطيه الدنيا والآخرة، أما الاقتصار في أداء العبادة على رجاء الفوائد الدنيوية فقط فلا شك أن هذا قصور في النية سببه تعظيم الدنيا ومحبتها في قلب من يفعل ذلك .... (لقاءات الباب المفتوح).

•‌

‌ اشرح معاني الكلمات في الحديثين؟

قوله (سبعة) هذا لا يدل على الحصر، بدليل أنه جاءت أحاديث فيها بعض الأعمال (غير المذكورة في الحديث) فيها هذا الفضل.

كحديث: (من نظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) رواه مسلم.

قوله (يظلهم في ظله) اختلف العلماء في المراد في هذا الظل:

قيل: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه.

وقيل: المراد: أنه بظله كرامته وحمايته، كما يقال: فلان في ظل الملك.

وقيل: المراد في ظل عرشه، وبه جزم القرطبي.

قوله (إمام عادل) فيه فضل الإمام إذا كان عادلاً.

والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه.

قال الحافظ: وأحن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط.

- قدمه في الذكر لعموم النفع به.

قوله (وشاب نشأ في طاعة الله) خص الشاب لأنه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى.

قوله (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال) المراد بالمنصب الأصل والشرف.

وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال.

قوله (دعته) قيل: دعته إلى الفاحشة. وقيل: دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها.

والأول أصح، ويؤيده وجود الكناية في قوله (إلى نفسها) ولو كان المراد التزويج لصرح به.

ففي هذا فضل الخوف من الله، وفضل العفاف.

وقد قال يوسف: (مَعَاذَ اللَّهِ). وقال: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

ص: 153

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- فضل ذكر الله خالياً. (خالياً: أي من الخلو، لأنه حينئذٍ أبعد من الرياء).

- أن المرأة كالرجل في هذا الحديث إلا إذا كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى فلا تدخل.

- عظم فضل الله.

- أن الله لا يضيع عمل المحسنين.

- فضل الإخلاص.

- ذم الرياء.

- فضل البكاء من خشية الله.

وقال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: وذكر منهما: عين بكت من خشية الله).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع).

فائدة:

قال ابن رجب:

ومن هاهنا عظم ثواب من أطاع الله سراً بينه وبينه، ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سراً.

فأما الأول: فمثل قوله تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) إلى قوله (فلا تعلم نفس .. ).

قال بعض السلف: أخفوا لله العمل فأخفى لهم الجزاء.

وفي حديث السبعة الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ( .. ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

وأما الثاني: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

ص: 154

630 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ، عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا] مُسْلِمًا [ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اَللَّهُ مِنْ خُضْرِ اَلْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اَللَّهُ مِنْ ثِمَارِ اَلْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ اَللَّهُ مِنْ اَلرَّحِيقِ اَلْمَخْتُومِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ لِينٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث ضعيف.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: فضل من كسا مسلماً على عري، وفضل إطعام مسلم على جوع، وفضل سقي مسلم على ظمأ

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (كَسَا] مُسْلِمًا [ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اَللَّهُ) وقوله (وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اَللَّهُ)؟

نستفيد أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة جليلة عظيمة، أدلتها من الكتاب والسنة كثيرة

قال تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ).

وقال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

وقال تعالى (َأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

وقال صلى الله عليه وسلم (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (احفظ الله يحفظك).

وقال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من وصل صفاً وصله الله) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة) رواه أبو داود.

• ماذا نستفيد من قوله (

على عري،

على جوع،

على ظمأ)؟

نستفيد: أن أفضل الصدقة ما وافق حاجة في المتصدق عليه، فالصدقة وقت الحاجة والشدة أفضل.

كما قال تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).

ص: 155

631 -

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اَلْيَدُ اَلْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اَلْيَدِ اَلسُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ اَلصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اَللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اَللَّهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

632 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (قِيلَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ: أَيُّ اَلصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ اَلْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

===

وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول) أي: في الإعطاء والإنفاق أبداً.

•‌

‌ ما المراد باليد العليا واليد السفلي؟

المراد باليد العليا: هي المنفقة. والسفلى: هي السائلة.

كما جاء في حديث آخر: (يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي).

وقال صلى الله عليه وسلم (الأيد ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى).

•‌

‌ اذكر بعض ما ورد في فضل الإنفاق؟

أولاً: أن الإنفاق استجابة لأمر ربنا تعالى.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ).

وقال تعالى (وَأَنفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

ثانياً: مضاعفة الحسنات.

قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

ثالثاً: أن درجة البر تنال بالإنفاق.

قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

رابعاً: أنها من صفات المتقين.

كما قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقوله تعالى (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) دليل على الإنفاق ملازم لهم في جميع أحوالهم.

خامساً: الأمان من الخوف يوم الفزع الأكبر.

قال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

سادساً: أن صاحب الإنفاق موعود بالخير الجزيل.

قال تعالى (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

وقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

سابعاً: أن الله يخلف المنفِق.

قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

ثامناً: أن الإنفاق دليل على صحة الإيمان.

قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة برهان) رواه مسلم، فالصدقة برهان على صحة الإيمان.

ص: 156

تاسعاً: ينال دعاء الملائكة.

كما قال صلى الله عليه وسلم (ما من صباح إلا وينزل ملكان: يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.

عاشراً: فضل من سبق بالإنفاق والجهاد.

قال تعالى (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).

الحادي عشر: أنها ارغام للشيطان وحسن ظن بالله.

قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

الثاني عشر: لا حسد إلا لمن أنفق في وجوه الخير.

قال صلى الله عليه وسلم (لَا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).

الثالث عشر: أن المنفق خير من الآخذ.

قال صلى الله عليه وسلم (اليد العليا خير من اليد السفلى).

•‌

‌ ما معنى قوله (وابدأ بمن تعول)؟

أي: أنه أول ما يجب على الإنسان الإنفاق على من يعولهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:(ابدأ بمن تعول).

ولقوله: (تصدق على ولدك).

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (وَخَيْرُ اَلصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى)؟

قَالَ الْخَطَّابِيّ: الْمَعْنَى أَفْضَل الصَّدَقَة مَا أَخْرَجَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ الْكِفَايَة.

وقال الحافظ ابن حجر: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَفْضَل الصَّدَقَة مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُه.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ خَيْر الصَّدَقَةِ مَا أَغْنَيْت بِهِ مَنْ أَعْطَيْتَهُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ.

وَقِيلَ: (عَنْ) لِلسَّبَبِيَّةِ وَالظَّهْر زَائِد، أَيْ: خَيْر الصَّدَقَةِ مَا كَانَ سَبَبهَا غِنًى فِي الْمُتَصَدِّق.

والأول هو الراجح.

ص: 157

•‌

‌ ما الجمع بين قوله (وَخَيْرُ اَلصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) وبين قوله (أَفْضَلُ الصدقة جُهْدُ اَلْمُقِلِّ)؟

قال الصنعاني: ووجه الجمع بين هذا الحديث والذي قبله ما قاله البيهقي ولفظه: والجمع بين صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وقوله: "أفضل الصدقة جهد المقل" أنه يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة والشدة والاكتفاء بأقل الكفاية وساق أحاديث تدل على ذلك.

وقال البغوي: والاختيار للرجل أن يتصدق بالفضل من ماله، ويستبقي لنفسه قوتاً لما يخاف عليه من فتنة الفقر، وربما يلحقه الندم على ما فعل، فيبطل به أجره، ويبقى كلاً على النّاس، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر خروجه من ماله أجمع، لَّما علم من قوة يقينه وصحة توكله، فلم يخف عليه الفتنة، كما خافها على غيره، أمّا من تصدق وأهله محتاجون إليه أو عليه دين فليس له ذلك، وأداء الدين والإنفاق على الأهل أولى، إلا أن يكون معروفاً بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، فأثنى الله عليهم بقوله (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) وهي الحاجة والفقر.

وقال القرطبي: وَالْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَفْضَلُ الصَّدَقَة مَا وَقَعَ بَعْدَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النَّفْسِ وَالْعِيَال بِحَيْثُ لَا يَصِيرُ الْمُتَصَدِّق مُحْتَاجًا بَعْدَ صَدَقَتِهِ إِلَى أَحَد، فَمَعْنَى الْغِنَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُصُول مَا تُدْفَعُ بِهِ الْحَاجَة الضَّرُورِيَّة كَالْأَكْلِ عِنْدَ الْجُوعِ الْمُشَوِّشِ الَّذِي لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالْحَاجَة إِلَى مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْأَذَى، وَمَا هَذَا سَبِيله فَلَا يَجُوزُ الْإِيثَارُ بِهِ بَلْ يَحْرُمُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ غَيْرَهُ بِهِ أَدَّى إِلَى إِهْلَاكِ نَفْسِهِ أَوْ الْإِضْرَارِ بِهَا أَوْ كَشْف عَوْرَتِهِ، فَمُرَاعَاة حَقِّهِ أَوْلَى عَلَى كُلِّ حَال، فَإِذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الْوَاجِبَاتُ صَحَّ الْإِيثَارُ وَكَانَتْ صَدَقَتُهُ هِيَ الْأَفْضَل لِأَجْلِ مَا يَتَحَمَّلُ مِنْ مَضَضِ الْفَقْر وَشِدَّةِ مَشَقَّتِهِ، فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُض بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ص: 158

•‌

‌ ما معنى (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اَللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اَللَّهُ)؟

(وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ) أي: من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياه، والاستعفاف: هو الكف عن الحرام، والسؤال من الناس

(يُعِفهُ اللهُ) أي: يرزقه الله العفة، قال القرطبي: أي يجازه على استعفافه بصيانه وجهه ورفع قاقته.

(وَمَنْ يَسْتَغْنِ) أي: من يستغن بالله عمن سواه، أو يُظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس (يُغْنِهِ اللهُ) يرزقه الله غنى القلب.

ففي هذا الحديث دليل على فضل الاستعفاف عن الناس والاستغناء عنهم.

قال السعدي: هذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة.

إحداها: قوله (ومن يستعفف يعفه الله).

والثانية: قوله (ومن يستغن يغنه الله).

وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقاً به دون المخلوقين. فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبداً لله حقاً، حراً من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعمر (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففاً وترفعاً عن منن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.

وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، إن ظن خيراً فله، وإن ظن غيره فله، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) فجمع الخير كله في هذا الدعاء، فالهدى: هو العلم النافع، والتقى: هو العمل الصالح، وترك المحرمات كلها، هذا صلاح الدين.

وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله، ومن كان غنياً بالله فهو الغني حقاً، وإن قلت حواصله، فليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.

وقال ابن تيمية: سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه.

وقال ابن القيم: يستعين الإنسان على التجرد من الطمع والفزع؟ بالتوحيد والتوكل والثقة بالله، وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله، ليس لأحد مع الله شيء

وقال ابن رجب رحمه الله: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه، لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه، كرهوه لذلك.

ص: 159

وقال رحمه الله: وفي النَّهي عن مسألة المخلوقين أحاديثُ كثيرة صحيحة، وقد بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه على أنْ لا يسألوا النَّاسَ شيئاً، منهم: أبو بكر الصدِّيق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطُه أو خِطام ناقته، فلا يسأل أحداً أنْ يُناوله إياه.

واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا الضَّرر، ونيل المطلوب، وجلبِ المنافع، ودرء المضارِّ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه؛ لأنَّه حقيقة العبادة، وكان الإمامُ أحمد يدعو ويقول: اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك، ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه. كما قال (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وقال (مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ).

وقال ابن تيمية: سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:

الأولى: مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي نوع من الشرك.

والثانية: مفسدة إيذاء المسؤول وهي نوع من ظلم الخلق.

والثالثة: فيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة ....

•‌

‌ اذكر بعض فضائل العفة؟

أولاً: أنّها من خصال أهل الإيمان.

قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. والَذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين).

ثانياً: أنّها من أسباب الفوز بظلّ الله يوم القيامة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (سبعةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه) متفق عليه.

ثالثاً: أنّ أهل العفّة ينالون عون الله.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَاف) رواه الترمذي.

رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها.

عن ابن مسعود قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.

خامساً: أنّها من أسباب سعادة المرء.

كما قال بعض السّلف: والله للذّة العفّة أعظم من لذّة الذّنب.

وقال الغزالي: ولا معيشة أهنأ من العفّة، ولا عبادة أحسن من الخشوع، ولا زهد خير من القنوع، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.

وقال في موضع آخر: وأمّا خلق العفّة فيصدر منه السّخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلةّ الطمع.

وكلّ ذلك لوعد الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَكَانَ فِيمَا حَفِظْتُ عَنْهُ أَنْ قَالَ:(إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ تبارك وتعالى إِلَّا آتَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْه).

قال حكيم: إذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه الطاعة، وألزمه القناعة، وأكساه العفاف.

وعن وهب بن منبه أنّه قال: " الإيمان عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله العفّة.

ص: 160

•‌

‌ كيف السبيل إلى التعلق بالله والتعفف عن الناس؟

أولاً: بالصبر ومجاهدة النفس.

لحديث الباب (ومن يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغن يغنِه الله، ومن يصبر يُصَبِّرْه الله، وما أعطي أحدٌ من عطاءٍ خيرٌ وأوسعُ من الصبر).

ثانياً: بالدعاء.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.

قال ابن تيمية: وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه له، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها. وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا دَرَت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم؛ فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب -الذي هو الملك- رقيقا مستعبدا متيما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس، فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس.

وقال ابن القيم: أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت.

وقال: الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.

وقال أيوب السَّختياني: لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان: العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس، والتجاوزُ عمّا يكون منهم.

وقال أعرابيٌّ لأهل البصرة: من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن. قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.

ص: 161

633 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَصَدَّقُوا " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ " قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ " قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: " أَنْتَ أَبْصَرُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ (أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي دِينَارٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ - أَوْ قَالَ: زَوْجِكَ -، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ) هذا لفظ أبي داود.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن الإنسان يجب عليه أن ينفق على نفسه وولده وزوجه وخادمه ومن يمونهم، وأن هذه النفقة بمثابة الصدقة، وأن صاحبها مأجور.

وقد جاءت أحاديث تدل على ما دل عليه حديث الباب؟

عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) رواه مسلم.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِى رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْراً الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) رواه مسلم.

عَنْ جَابِرٍ قَالَ (أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى عُذْرَةَ عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ «أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ». فَقَالَ لَا. فَقَالَ «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى». فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِىُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَىْءٌ فَلأَهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَىْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَىْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا». يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ) متفق عليه.

وجاء عند ابن حبان (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، ثم على أبويك، ثم على قرابتك، ثم هكذا، ثم هكذا)

ففي هذه الأحاديث:

أولاً: وجوب النفقة على الأولاد والأهل وممن يمونهم الرجل.

ثانياً: الِابْتِدَاء فِي النَّفَقَة بِالْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيب (اِبْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ فَضَلَ شَيْء فَلِأَهْلِك، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِك شَيْء فَلِذِي قَرَابَتك

).

فالزوجة ثم الأبناء ثم الوالدين وهكذا.

ص: 162

قال الْخَطَّابِيُّ: هَذَا التَّرْتِيب إِذَا تَأَمَّلْته عَلِمْت أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ". نقله عنه في " عون المعبود".

وقال النووي: " إذا اجتمع على الشخص الواحد محتاجون ممن تلزمه نفقتهم، نظرَ: إن وفَّى ماله أو كسبه بنفقتهم فعليه نفقة الجميع قريبهم وبعيدهم، وإن لم يفضل عن كفاية نفسه إلا نفقة واحد، قدَّم نفقة الزوجة على نفقة الأقارب

لأن نفقتها آكد، فإنها لا تسقط بمضي الزمان، ولا بالإعسار. انتهى "روضة الطالبين".

قال المرداوي: " الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: وُجُوبُ نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا، وَأَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا بِالْمَعْرُوفِ

إذَا فَضَلَ عَنْ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ.

قال الشوكاني: وقد انعقد الإجماع على وجوب نفقة الزوجة، ثم إذا فضل عن ذلك شيء فعلى ذوي قرابته.

فلم يختلف العلماء في تقديم الزوجة على الوالدين في النفقة، وإنما اختلفوا في الزوجة والولد أيهما يقدم؟

قال الشيخ ابن عثيمين: فالصواب أنه يبدأ بنفسه، ثم بالزوجة، ثم بالولد، ثم بالوالدين، ثم بقية الأقارب.

وجاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته: إذا تعدد مستحقو النفقة ولم يكن لهم إلا قريب واحد، فإن استطاع أن ينفق عليهم جميعاً وجب عليه الإنفاق، وإن لم يستطع بدأ بنفسه ثم بولده الصغير أو الأنثى أو العاجز، ثم بزوجته، وقال الحنابلة: تقدم الزوجة على الولد.

وبناء على ما سبق فالواجب على الزوج أن يبدأ بكفاية زوجته وأولاده من النفقة الواجبة عليه بالمعروف، فإن بقي معه بعد ذلك شيء من المال فالواجب عليه أن ينفقه على والديه.

ثالثاً: أَنَّ الْحُقُوق وَالْفَضَائِل إِذَا تَزَاحَمَتْ قُدِّمَ الْأَوْكَد فَالْأَوْكَد.

رابعاً: أَنَّ الْأَفْضَل فِي صَدَقَة التَّطَوُّع أَنْ يُنَوِّعهَا فِي جِهَات الْخَيْر وَوُجُوه الْبِرّ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَة، وَلَا يَنْحَصِر فِي جِهَة بِعَيْنِهَا.

خامساً: الحكمة من وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الأهل صدقة مع أنها واجبة.

قَالَ الْمُهَلَّب: النَّفَقَة عَلَى الْأَهْل وَاجِبَة بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا الشَّارِع صَدَقَة خَشْيَة أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ قِيَامهمْ بِالْوَاجِبِ لَا أَجْر لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَرَفُوا مَا فِي الصَّدَقَة مِنْ الْأَجْر فَعَرَّفَهُمْ أَنَّهَا لَهُمْ صَدَقَة، حَتَّى لَا يُخْرِجُوهَا إِلَى غَيْر الْأَهْل إِلَّا بَعْد أَنْ يَكْفُوهُمْ; تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي تَقْدِيم الصَّدَقَة الْوَاجِبَة قَبْل صَدَقَة التَّطَوُّع. نقله عنه في " فتح الباري.

ص: 163

634 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَنْفَقَتِ اَلْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا اِكْتَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(إِذَا أَنْفَقَتِ اَلْمَرْأَةُ) أي: تصدقت كما في رواية الترمذي (إذا تصدقت المرأة)، والمراد بالمرأة هنا الزوجة بدليل الرواية الأخرى (

من طعام زوجها).

(مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا) أي: من طعام زوجها الذي في بيتها المتصرفة هي فيه، وإنما خص الطعام بالذكر، لغلبة المسامحة به عادة، وإلا فغيره مثله.

(غَيْرَ مُفْسِدَةٍ) أي: غير مسرفة في التصدق بأن لا تتعدى إلى الكثرة المؤذية إلى النقص الظاهر.

•‌

‌ من المعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك غيره إلا بإذنه، فما الجواب عن حديث الباب؟

اختلف العلماء في الجواب عن هذا الحديث:

أ-فمن العلماء من أجازه في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان.

قال النووي: اعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز.

وقال أيضاً: الإذن ضربان:

أحدهما: الإذن الصّريح في النّفقة والصّدقة.

والثّاني: الإذن المفهوم من اطّراد العرف والعادة، كإعطاء السّائل كسرة ونحوها ممّا جرت العادة به، واطّرد العرف فيه، وعلم بالعرف رضا الزّوج والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلّم

واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة، فان زاد على المتعارف لم يجز، وهذا معنى قوله:(إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة) فأشار إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة. (شرح مسلم).

مثل: الرغيف، وزائد الطعام المطهي، وبقية الفاكهة ونحو ذلك مما يتسامح فيه الناس، وجرى العرف برضا الزوج في مثله.

ب-ومن العلماء من حمل ذلك على ما إذا أذن الزوج فيه ولو بطريق الإجمال سواء كان الإذن صريحاً أو عرفياً.

ج-ومن العلماء من ذهب إلى أن المراد بنفقة المرأة النفقة على صاحب المال، وليس لها أن تفتئت على رب البيت بالإنفاق على الفقراء.

د-ومنهم من أطلق لها حق التصرف، وإن لم يأذن الزوج، لكن بشرط عدم الإفساد، وفيما تعارف عليه الناس فيما بينهم.

وهذا هو الصحيح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- يشترط في حصول هذا الأجر للزوجة عدم الإسراف لقوله (غير مفسدة).

- قوله (من طعام بيتها) قال النووي: ونبه بالطعام أيضاً على ذلك، لأنه يُسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال.

- أن للزوجة أجر إذا أنفقت من مال زوجها من غير إسراف ولا تبذير كما أن للزوج أجر.

- أنه إذا عُلم أن الزوج فيه شح، وأنه لا يرضى أبداً التصدق من ماله، لم يجز للزوجة التصدق إلا بإذنه صريحاً.

ص: 164

635 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (جَاءَتْ زَيْنَبُ اِمْرَأَةُ اِبْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ اَلْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ اِبْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ اِبْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَىَ الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا». فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ». فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ». ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ «أَىُّ الزَّيَانِبِ». فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَال «نَعَمِ ائْذَنُوا لَهَا». فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِم).

وفي رواية للبخاري (وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِى فِي حَجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِى أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ولفظ مسلم: عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ». قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ: فَقُلْتُ إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِى عَنِّى وَإِلاَّ صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ. قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ. قَالَتْ فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتِي حَاجَتُهَا - قَالَتْ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ - قَالَتْ - فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا لَهُ ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ أَتَجْزِى الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ - قَالَتْ - فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ هُمَا». فَقَالَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّ الزَّيَانِبِ». قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ).

(إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ) كناية عن الفقر وقلة المال.

(فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِى عَنِّي) جواب الشرط محذوف عليه ما بعده: أي: صرفتها إليكم، والضمير لعبد الله بن مسعود ولأيتام لها، كما في رواية البخاري.

(وَإِلاَّ) لم يجز.

(صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ) أي: إلى من يجوز لي صرفه له.

(قَالَتْ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ) قيل: سبب امتناع ابن مسعود عن السؤال لما بُيّن بعد هذا بقولها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة.

ص: 165

•‌

‌ ما حكم دفع الزوجة زكاتها لزوجها؟

اختلف العلماء في دفع الزوجة زكاتها إلى زوجها على قولين:

القول الأول: أنه يجوز ذلك.

قال الصنعاني: هو قول الجمهور.

قال الحافظ - في حديث الباب -: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الْمَرْأَةِ زَكَاتهَا إِلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَة وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ.

وقال ابن حزم في المحلى: وتعطي المرأة زوجها من زكاتها إن كان من أهل السهام، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفتى زينب امرأة ابن مسعود. وساق الحديث.

أ-عموم الأدلة (إنما الصدقات للفقراء

).

ب-ولعدم الدليل الذي يمنع من ذلك.

ج- قال ابن قدامة: ولأنه - أي الزوج - لا تجب نفقته عليها فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي، ويفارق الزوجة فإن نفقتها واجبة عليه؛ ولأن الأصل جواز الدفع؛ لدخول الزوج في عموم الأصناف المسمين في الزكاة، وليس في المنع نص ولا إجماع، وقياسه على من ثبت المنع في حقه غير صحيح لوضوح الفرق بينهما، فيبقى جواز الدفع ثابتًا). انتهى

د-ولحديث الباب، فإن المراد به صدقة الفرض ويدل لذلك:

أولاً: قولها: (أيُجْزئ عني أن أنفق علي زوجي وأيتام لي

).

ثانياً: ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها، ينزل منزلة العموم، فلم يستفصل عن الصدقة، هل هي تطوع، أو واجب؟ فكأنه قال: يجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً.

قال الشوكاني: والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها أما:

أولاً: فلعدم المانع من ذلك ومن قال أنه لا يجوز فعليه الدليل.

وأما ثانياً: فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها ينزل منزلة العموم فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب فكأنه قال يجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً.

القول الثاني: لا يجوز.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

أ-لأن الرجل من امرأته كالمرأة من الرجل، وقد منعنا إعطاء الرجل للزوجة كذلك إعطاء المرأة لزوجها.

ب- ولأنها ستنتفع بدفعها إليه.

وقالوا: إن حديث الباب ليس المراد صدقة الفرض، وإنما المراد به صدقة التطوع ويدل لذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: (

ولو من حليكن

) فهذا يدل على التطوع.

قالوا: وأما قولها: (أيجزئ عني

) أي في الوقاية من النار، كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا يحصل لها المقصود.

وأجيب عن ذلك: إنه لا يستقيم ذلك، لأنه لا يستحق النار إلا من منع الصدقة الواجبة، أما صدقة التطوع فلا يعاقب على تركها، وفي قولها: أيجزئ عني؟ أي أيجزئ عني في الزكاة الواجبة؟ أما صدقة التطوع فلا يقال: أتجزئ عني؛ لأن الغرض منها قصد الأجر والثواب، والثواب يحصل بأي مقدار من المال دُفع ولأي دفع.

والراجح القول الأول.

ص: 166

•‌

‌ هل يجوز للزوج أن يدفع زكاته لزوجته الفقيرة؟

لا يجوز.

قال ابن المنذر: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ لأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَة عَلَيْهِ فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الزَّكَاةِ

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الصدقة [واجبة أو تطوعاً] على القريب فيها أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة.

- فضل الصدقة على الأقارب.

- ينبغي على المسلم أن يحرص على دفع زكاته لأقاربه الذين لا يتفق عليهم، كالأخوة، والأخوات، والأعمام والعمات وغيرهم.

- أن الصدقة من أسباب النجاة من النار، وقد تقدم فضائل الصدقة.

- زهد الصحابة في الدنيا وفقرهم.

- استجابة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم.

- مشروعية التثبت في العلم.

- أنه يجوز للمرأة أن تتصدق وتتصرف في مالها ولو بدون إذن زوجها.

ص: 167

636 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَسْأَلُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

637 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَأَلَ اَلنَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

638 -

وَعَنِ اَلزُّبَيْرِ بْنِ اَلْعَوَّامِ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ اَلْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اَللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ اَلنَّاسَ أَعْطَوهُ أَوْ مَنَعُوهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

639 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا اَلرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ اَلرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

===

(مَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَسْأَلُ اَلنَّاسَ) أي: المال تكثراً من غير حاجة ولا ضرورة.

(مُزْعَةُ لَحْمٍ) المُزعَة بضم الميم القطعة.

(مَنْ سَأَلَ اَلنَّاسَ أَمْوَالَهُمْ) أي: شيئاً من أموالهم.

(تَكَثُّرًا) أي: لأجل أن يكثر به ماله، لا لاحتياجه إليه.

(فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا) أي: قطعة من نار جهنم.

(فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) أي: فليستقل الجمر أو ليستكثره، فيكون تهديداً على سبيل التهكم.

•‌

‌ ما حكم سؤال الناس من غير حاجة ولا ضرورة؟

حرام، وهذه الأحاديث تدل على أنه من كبائر الذنوب.

•‌

‌ اذكر خطورة سؤال الناس؟

أولاً: يأتي يوم القيامة منزوع اللحم.

لحديث الباب.

ثانياً: من سأل الناس فإنه يسأل جمراً.

لحديث الباب (مَنْ سَأَلَ اَلنَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا

).

ثالثاً: عدم سؤال الناس من أسباب دخول الجنة.

قال صلى الله عليه وسلم (من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة) رواه أبو داود.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فَمَدَحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ لَا يسترقون أَيْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَهُمْ، وَالرُّقْيَةُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ فَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَحَدٍ ذَلِك.

رابعاً: سؤال الناس لا خير فيه للمقتدر.

لحديث الباب (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ اَلْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اَللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ

ص: 168

•‌

‌ اذكر مفاسد سؤال المخلوقين؟

قال شيخ الإسلام: إن سؤال المخلوقين فيه ثلاثة مفاسد:

مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي من نوع الشرك.

ومفسدة إيذاء المسؤول، وهي من نوع ظلم الخلق.

وفيه ذل لغير الله، وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة.

وقال: وأما سؤال المخلوق المخلوق أن يقضي حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به بخلاف سؤال العلم.

وقال: وأما المخلوق فكما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضِل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

وقال رحمه الله مبيناً سبب النهي عن سؤال المخلوقين قال:

فَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْرًا وَحُرْمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ: إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِمْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ إلَيْهِمْ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ: كُنْتَ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ، وَمَتَى احْتَجْتَ إلَيْهِمْ - وَلَوْ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ - نَقَصَ قَدْرُكَ عِنْدَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَتِكَ إلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ. (مجموع الفتاوى).

وقال: فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ: أَكْرَمُ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ. وَأَفْقَرُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ، وَالْخَلْقُ: أَهْوَنُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِم.

وقال: وَلِهَذَا كَانَتْ (مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ) مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيد،

ثم ذكر حديث الباب وقال: وَفِي الْمُسْنَدِ (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ؛ وَيَقُولُ: إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ؛ وَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ).

وقال ابن رجب: وفي النَّهي عن مسألة المخلوقين أحاديثُ كثيرة صحيحة، وقد بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه على أنْ لا يسألوا النَّاسَ شيئاً، منهم: أبو بكر الصدِّيق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطُه أو خِطام ناقته، فلا يسأل أحداً أنْ يُناوله إياه.

وقال رحمه الله مبيناً سبب النهي عن سؤال المخلوق قال: واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا الضَّرر، ونيل المطلوب، وجلبِ المنافع، ودرء المضارِّ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه؛ لأنَّه حقيقة العبادة، وكان الإمامُ أحمد يدعو ويقول: اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك، ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه. كما قال (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)، وقال (مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ).

والله سبحانه يحبّ أنْ يُسأل ويُرْغَبَ إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودُعائه، ويَغْضَبُ على من لا يسأله، ويستدعي مِنْ عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كُلِّهم سُؤْلَهم من غير أنْ يَنْقُصَ من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك كله: يكره أنْ يُسأل، ويُحبُّ أنْ لا يُسألَ، لعجزه وفقره وحاجته. ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يُغلِقُ عنك بابَه، ويُظهِرُ لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتحُ لك بابه بنصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك؟

وقال طاووس لعطاء: إياك أنْ تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أنْ تسأله، ووعدك أنْ يُجيبك

•‌

‌ اذكر بعض الأدلة على أن الواجب سؤال الخالق؟

دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ؛ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ).

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ (إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ؛ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ).

وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ.

ص: 169

وقد ثبت في "الصحيحين"عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (أنَّ الله عز وجل يقولُ: هل من دَاعٍ، فأستجيبَ له؟ هل من سائل فأُعْطِيَه؟ هل من مُستغفرٍ فأغْفِرَ له؟).

وقال صلى الله عليه وسلم (من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه ابن ماجه.

استحق الغضب لأمرين:

الأول: لأنه ترك محبوباً لله، فإن الله يحب أن يسأل (ذكر ذلك المناوي).

والثاني: لأن ترك الدعاء دليل على الكبر والاستغناء عن الله. (ذكر ذلك المباركفوري).

•‌

‌ هل سؤال العلم داخل في النهي؟

لا.

قال ابن تيمية: فَأَمَّا سُؤَالُ مَا يَسُوغُ مِثْلُهُ مِنْ الْعِلْمِ: فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُنْقِصُ الْجَوَابُ مِنْ عِلْمِهِ بَلْ يَزْدَادُ بِالْجَوَابِ وَالسَّائِلُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم (هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّ شِفَاءَ الْعَيِّ السُّؤَالُ).

• اختلف العلماء في المراد بقوله (يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم):

فقيل: يأتي ساقطاً لا قدر له ولا جاه.

وقيل: يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه.

وقيل: يبعث ووجهه عظم كله، فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به.

•‌

‌ ماذا يستثنى من ذم السؤال؟

استثنى العلماء من السؤال حالتين:

الحالة الأولى: أن يطلب من السلطان.

لأن طلبه من السلطان له وجه، لأنه قد يكون له حق من بيت المال.

الحالة الثانية: السؤال للحاجة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن سؤال الناس من حاجة لا بأس بها، وقد قال تعالى (وأما السائل فلا تنهر).

- أن الجزاء من جنس العمل، فحيث كان وجهه هو الذي يسأل ويقابل الناس عند السؤال، صار العذاب - يوم القيامة منصباً عليه، والجزاء من جنس العمل جاءت أدلة كثيرة تدل عليه، (وقد تقدمت).

- إثبات البعث والحساب.

باب قسْمُ الصدقات

في هذا الباب بيان مصارف الزكاة، ومن يعطى ومن لا يعطى.

وقد بيّن تعالى المستحقين للزكاة بنفسه ولم يكلها إلى أحد سواه.

فقال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ص: 170

640 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحِلُّ اَلصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اِشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.

===

(لَا تَحِلُّ) نفي الحل يستلزم الحرمة.

(الصَّدَقَةُ) المراد بالصدقة هنا الصدقة الواجبة وهي الزكاة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث رواه أبو داود موصولاً

عن عطاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورويَ مرسلاً، رواه مالك عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

واختلف أيهما أرجح الموصول أم المرسل؟

الدارقطني، وأبو حاتم، وأبو زرعة رجحوا المرسل، وابن خزيمة، والحاكم، والذهبي، والبيهقي، والألباني رجحوا الموصول.

•‌

‌ ما حكم دفع الزكاة لغني؟

لا يجوز، وقد تقدمت الأدلة على ذلك.

•‌

‌ متى يجوز دفع الزكاة لغني؟

الغني - كما تقدم ليس من أهل الزكاة - لكن قد تحل له بطرق شرعية كما جاء في هذا الحديث؟

الأول: العامل على الصدقة.

وهم جباتها، فإنهم يعطون لحاجتنا إليهم، وهذا من أهل الزكاة.

ثانياً: أو رجل اشتراها بماله.

أي اشترى الزكاة من الفقير.

وهذه لها صورتان:

الأولى: أن يشتري زكاة غيره، وهذه جائزة.

الثانية: أن يشتري الإنسان زكاة نفسه.

اختلف العلماء في هذه الصورة على قولين:

القول الأول: أنه مكروه.

وهو قول لجمهور.

أ-لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه، فظننتُ أنه بائعه برخصٍ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) متفق عليه.

قال النووي: هَذَا نَهْي تَنْزِيه لَا تَحْرِيم فَيُكْرَه لِمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ أَوْ أَخْرَجَهُ فِي زَكَاة أَوْ كَفَّارَة أَوْ نَذْر وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَات أَنْ يَشْتَرِيه مِمَّنْ دَفَعَهُ هُوَ إِلَيْهِ أَوْ يَهَبهُ، أَوْ يَتَمَلَّكهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ مِنْهُ فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.

ص: 171

القول الثاني: أنه حرام.

قال النووي: وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: النَّهْي عَنْ شِرَاء صَدَقَته لِلتَّحْرِيمِ.

أ-لحديث عمر السابق.

ب- ولأن الفقير (قابض الزكاة) قد يحابي هذا المشتري، وحينئذ تعود بعض منفعة زكاته إليه.

وهذا هو القول الصحيح.

قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (أنه منع المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق، سداً لذريعة العود فيما خرج عنه لله ولو بعوضه؛ فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوضها فتملكه إياها بغير عوض أشد منعاً وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله، والصواب ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من المنع من شرائها مطلقاً والعلة كما ذكرها ابن القيم في ذلك "

ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها، ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء - مع حاجته - فتسمح نفسه بالبيع، والله عالم بالأسرار، فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع المتصدق من شراء صدقته، وبالله التوفيق.)

ثالثاً: الغارم.

أي المديون، وهو على نوعين:

أولاً: الغارم لإصلاح ذات البين: وذلك بأن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم، ويلزم في ذمته مالاً لإطفاء الفتنة.

الثاني: الغارم الذي ركبته الديون بسبب من الأسباب: وهذا من أهل الزكاة.

رابعاً: الغازي في سبيل الله.

وهذا من أهل الزكاة الثمانية، كما قال تعالى:(وابن السبيل).

خامساً: المسكين الذي تصدق عليه منها فأهدى منها لغني.

• هؤلاء الخمسة:

الثلاثة الذين هم: الغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون عليها، والغزاة المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء من أهل الزكاة الثمانية.

وأما المشتري لها، والمهدي إليه منها، فليس من أهلها، وإنما ملكها من الفقير الذي استحقها وأعطى منها.

ص: 172

641 -

وَعَنْ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ اَلْخِيَارِ (أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلَانِهِ مِنَ اَلصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا اَلْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَوَّاهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ

===

(فَقَلَّبَ فِيهِمَا اَلْبَصَرَ) أي: صعّد بصره فيهما.

(جَلْدَيْنِ) أي: قويين شديدين.

ما صحة حديث الباب؟

الحديث صححه النووي وابن عبد الهادي، ونقل الحافظ في التلخيص عن الإمام أحمد قوله: ما أجوده

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن الغني لا تحل له الزكاة، وقد تقدمت الأدلة.

•‌

‌ من هو الغني؟

والغني: هو من يجد كفاف عيشه وعيش من يعولهم طول العام.

• هل تدفع الزكاة للقوي المكتسب؟

لا تدفع للقوي المكتسب، أي القادر على الكسب، لأنه غني بقوة كسبه.

لحديث الباب.

•‌

‌ ما مفهوم قوله (لقوي مكتسب)؟

مفهومه: إن كان قوياً لكنه غير عارف بالعمل، أو قوياً قادراً عارفاً لكن ليس في البلاد عمل لتفشي البطالة فيها، فإن هذا يعطى من الزكاة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قول الصحابي (فقلب فيهما البصر)؟

نستفيد: أنه يجب على المزكي أن يتحرى بزكاته من يستحقها.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أنه لا بأس للإنسان إذا أراد أن يعطي زكاته لشخص لكن غير متأكد من فقره، أن يعطيه ويذكره بالله وأنها لا تحل لغني، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

- جواز المسألة لحاجة.

- فيه دليل على قبول قول الإنسان فيما يُخبِر عن نفسه من إعسار أو يسار.

ص: 173

642 -

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ اَلْهِلَالِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَلْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، اِجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَومِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ; فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ اَلْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا [صَاحِبُهَا] سُحْتًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.

===

(وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ اَلْهِلَالِي) صحابي سكن البصرة.

(إِنَّ اَلْمَسْأَلَةَ) وعند النسائي (إن الصدقة) وأول الحديث (عن قبيصة قال: تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة إن المسألة .... ).

(حَتَّى يُصِيبَهَا) أي: ينال من المال ما يقضي به تلك الحمالة.

(ثُمَّ يُمْسِكَ) أي: يترك مسألة الناس، لانقضاء سبب حل مسألتهم.

(وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال، وتستأصلها، كالغرق والحرْق والبرد المفسد للزروع والثمار.

(حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ) أي: ما يقوم بحاجته الضرورية.

(وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) أي: رجل كان غنياً ثم افتقر، وأصابته حاجة ولم يعرف حاله.

(حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ) وفي رواية النسائي (حتى يشهد ثلاثة).

(مِنْ ذَوِي الْحِجَى) أي العقل.

(مِنْ قَومِهِ) لأنهم أعلم بحاله.

(فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ اَلْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا) السحت: كل مال حرام، وسمي به لأنه يسحت ويمحق المال.

•‌

‌ ما معنى قوله (تحملتُ حمالةً)؟

أي: تكلفت ديْناً.

قال الخطابي: تفسير الحَمَالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال، ويحدث بسببهما العداوة والشحناء، ويُخاف من ذلك الفتق العظيم، فيتوسط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين، ويتضمن مالاً لأصحاب الطوائل، يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة، وتعود بينهم الألفة.

وقال النووي: الحَمالة: هِيَ بِفَتْحِ الْحَاء، وَهِيَ الْمَال الَّذِي يَتَحَمَّلهُ الْإِنْسَان أَيْ يَسْتَدِينُهُ وَيَدْفَعهُ فِي إِصْلَاح ذَات الْبَيْن كَالْإِصْلَاحِ بَيْن قَبِيلَتَيْنِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَحِلّ لَهُ الْمَسْأَلَة، وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاة بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَدِينَ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ.

•‌

‌ اذكر أحوال تجوز فيها المسألة؟

الحالة الأول: رجل تحمل حمالة.

الحالة الثانية: الرجل إذا أصابت ماله جائحة أو آفة سماوية أهلكت تجارته وزرعه.

لأن هذا مما ينبغي فيها التعاون بين المسلمين.

الحالة الثالثة: رجل ادعى أنه أصابته فاقة وفقر بعد الغنى.

ص: 174

•‌

‌ اذكر شروط إعطاء من ادعى فاقة بعد غنى؟

الشرط الأول: أن يشهد ثلاثة رجال.

الشرط الثاني: من ذوي العقول.

الشرط الثالث: أن يكونوا من قومه.

•‌

‌ لماذا اشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون من ذوي العقول؟

قال النووي: وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحِجَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي الشَّاهِد التَّيَقُّظ فَلَا تُقْبَل مِنْ مُغَفَّلٍ.

وقال الشوكاني: وإنما جعل العقل معتبراً، لأنه من لا عقل له لا تحصل الثقة بقوله.

•‌

‌ لماذا اشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا من قومه؟

قال النووي: وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (مِنْ قَوْمه) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْخِبْرَة بِبَاطِنِهِ، وَالْمَال مِمَّا يَخْفَى فِي الْعَادَة فَلَا يَعْلَمهُ إِلَّا مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِصَاحِبِهِ.

• لماذا لم يشترط في الجائحة هذه الشروط (لم يحتج إلى بيّنة)؟

قال القرطبي: ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا، لظهور أمر الجائحة، وأما أمر الفاقة فقد تخفى

•‌

‌ المال المحرّم لا بركة فيه، اذكر بعض الأدلة على ذلك؟

أ-قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات).

ب- حديث الباب (فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ اَلْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).

ج- حديث أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قال (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ! إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا

الحديث وفيه: فَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَع) متفق عليه.

وفي لفظ (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ).

قال ابن حجر رحمه الله: وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يُبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع، وفيه ذم الإسراف، وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك، كما قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات.

د- حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَع) متفق عليه.

هـ-عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحريم السؤال إلا في هذه الحالات الثلاثة.

- جواز المسألة لمن وجدت فيه إحدى القرائن المذكورة.

- من جازت له المسألة لا يسأل أكثر مما يسد حاجته.

- يعتبر ثلاثة شهود على الإعسار، وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وجماعة، وذهب الجمهور على أنه تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات، وحملوا حديث الباب على الاستحباب.

ص: 175

643 -

وَعَنْ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَلصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ اَلنَّاسِ).

وَفِي رِوَايَةٍ: (وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا آلِ مُحَمَّدٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(إِنَّ اَلصَّدَقَةَ) المراد الزكاة الواجبة.

(إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ اَلنَّاسِ) المراد بالناس هنا المزكون. (فهو عام اريد به الخصوص).

(من خُمُس خيبر) الخمس ما يؤخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو سهم لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

•‌

‌ ما حكم دفع الزكاة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله؟

حرام.

قال في الشرح: لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة.

لحديث الباب.

•‌

‌ هل يعطون من الزكاة إذا كانوا عامليها عليها؟

لا يعطون ولو كانوا عاملين عليها.

وهذا قول جمهور العلماء.

قال النووي: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَة سَوَاء كَانَتْ بِسَبَبِ الْعَمَل أَوْ بِسَبَبِ الْفَقْر وَالْمَسْكَنَة وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَسْبَاب الثَّمَانِيَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَجَوَّزَ بَعْض أَصْحَابنَا لِبَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب الْعَمَل عَلَيْهَا بِسَهْمِ الْعَامِل؛ لِأَنَّهُ إِجَارَة، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي رَدِّهِ.

وقال القرطبي: ومساق الحديث والتعليل يقتضي أنها لا تحل لأحد من آل النبي صلى الله عليه وسلم على ما قدمناه، وإن كانوا عاملين عليها، وهو رأي الجمهور وقد ذهب إلى جوازها لهم إذا كانوا عاملين عليها؛ أبو يوسف والطحاوي، والحديث ردّ عليهم.

•‌

‌ من هم آل النبي صلى الله عليه وسلم

هم بنو هاشم وهم: آل العباس بن عبد المطلب، وآل أبي طالب بن عبد المطلب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب. (هؤلاء كلهم أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ ما الحكمة من عدم أخذهم من الزكاة؟

الحكمة بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إنما هي أوساخ الناس).

قال النووي: ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) فهي كغسالة الأوساخ.

وقال القرطبي: إنما كانت الصدقة كذلك؛ لأنها تطهرهم من البخل، وأموالهم من إثم الكنز، فصارت كأنها الغسالة التي تعاب.

ص: 176

•‌

‌ هل هذا التحريم يعم صدقة التطوع أم فقط الصدقة الواجبة؟

هذا التحريم في الحديث خاص بالصدقة الواجبة، وأما صدقة التطوع فإنها تحل لهم.

وهذا قول جماهير العلماء.

لأنهم إنما منعوا الزكاة لأنها تطهير لأموال الأغنياء ونفوسهم، وصدقة التطوع ليس كذلك.

قال ابن قدامة: أما صدقة التطوع فتحل لهم لأنها ليست من أوساخ الناس.

وقيل: تحرم عليهم حتى صدقة التطوع، وإلى هذا ذهب الشوكاني وجماعة.

لعموم الحديث.

•‌

‌ هل تحل صدقة التطوع للنبي صلى الله عليه وسلم

يستثنى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا تحل له صدقة التطوع أيضاً.

قال في المغني: فَأَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَمِيعَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَهَا كَانَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ سَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَصَفَهُ، قَالَ (إنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ).

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي لَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ).

وَقَالَ عليه السلام (إنِّي لَأَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فِي بَيْتِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلْقِيهَا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ (إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ).

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَشْرَفَ الْخَلْقِ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمْسُ الْخُمْسِ وَالصَّفِيُّ، فَحُرِمَ نَوْعَيْ الصَّدَقَةِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، وَآلُهُ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ، وَلَهُمْ خُمْسُ الْخُمْسِ وَحْدَهُ، فَحُرِمُوا أَحَدَ نَوْعَيْهَا، وَهُوَ الْفَرْضُ

•‌

‌ اختلف العلماء في أخذ بني هاشم من الزكاة إذا لم يعطوا حقهم من الخمس على قولين، اذكرهما؟

القول الأول: أنه لا يجوز أخذ بني هاشم من الزكاة مطلقاً، منعوا حقهم من الخمس أو أعطوه.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

لحديث الباب.

وجه الدلالة: أن التعليل بعدم حل الزكاة لبني هاشم من أجل كون الصدقات أوساخ الناس، ولشرفهم ومكانتهم، وهذا الوصف فيهم وفي الصدقات باق أعطوا الخمس أو حرموه.

ص: 177

القول الثاني: جواز أخذ بني هاشم للزكاة إذا منعوا حقهم من الخمس.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

أن الخمس عوض عن الزكاة، فإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض، وهو الزكاة، لإهمال الناس أمر الغنائم وإيصالها إلى مستحقيها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وبنو هاشم إذا منعوا من خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا وقاله أبو يوسف والإصطخري من الشافعية لأنه محل حاجة وضرورة.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإذا مُنعوا أو لم يوجد خمس كما هو الشأن في وقتنا هذا: فإنهم يُعطَون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح.

فائدة: قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: والخمس: هو أن الغنائم تقسم خمسة أسهم، أربعة أسهم للغانمين، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً:

الأول: لله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون في مصالح المسلمين، وهو ما يعرف بالفيء أو بيت المال.

الثاني: لذي القربى، هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، لأن بني عبد المطلب يشاركون بني هاشم في الخمس.

الثالث: لليتامى.

الرابع: للمساكين.

الخامس: لابن السبيل.

فإذا منعوا أو لم يوجد خمس، كما هو في الشأن في وقتنا هذا، فإنهم يعطون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.

•‌

‌ اذكر فوائد قرن الحكم بالعلة.

- قوله (إنما هي أوساخ الناس) تعليل لمنع الزكاة على بني هاشم

- ذكر علة الحكم يفيد أمور:

أولاً: بيان سمو الشريعة، حيث أنها لا تحكم إلا بما له علة.

ثانياً: اطمئنان النفس إلى الحكم.

ثالثاً: أن أحكام الله جاءت وفق المصلحة.

رابعاً: إمكان القياس على الحكم لغيره.

خامساً: ظهور مقتضى اسم الحكيم لله، وأنه لا يحكم إلا لحكمة.

سادساً: التنشيط على الامتثال. (الشيخ الصقير).

ص: 178

643 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ (مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي اَلْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم ": إِنَّمَا بَنُو اَلْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(أَعْطَيْتَ بَنِي اَلْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا) الخمس: ما يؤخذ من الغنية قبل قسمتها.

•‌

‌ هل بني المطلب تحل لهم الزكاة أم لا؟

استدل بحديث الباب من قال: إن بني المطلب لا تحل لهم الزكاة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا تحل لهم الزكاة.

وهذا قول الشافعي وجماعة.

أ-لحديث الباب (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد).

ب- ولأن لهم نصيباً من الخمس.

القول الثاني: أن بني المطلب يعطون من الزكاة.

وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك.

أ- لعموم الأدلة (إنما الصدقات للفقراء

).

ب-وأما تشريكهم في الخُمُس، فإنه مبني على المناصرة والمؤازرة بخلاف الزكاة، فإنهم لما آزروا بني هاشم وناصروهم أعطوا جزاءً لفضلهم من الخمس.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز الاستعانة بالغير.

- جواز سؤال الإنسان عما يعتقده حقاً له من المال.

- مشروعية مكافأة أهل المعروف على معروفهم، وفي الحديث (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه).

ص: 179

645 -

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى اَلصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اِصْحَبْنِي، فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، قَالَ: حَتَّى آتِيَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ. فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: " مَوْلَى اَلْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا اَلصَّدَقَةُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.

===

وَعَنْ أَبِي رَافِع) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى اَلصَّدَقَةِ) هذا الرجل هو الأرقم بن أبي الأرقم كما جاء في رواية لأحمد.

(فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا) أي: من الصدقة.

(مَوْلَى اَلْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي: حكمه كحكمهم.

(وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا اَلصَّدَقَةُ) يعني نفسه، وأهل بيته.

•‌

‌ هل تدفع لموالي بني هاشم؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا تدفع الزكاة لهم.

وهو مذهب أبي حنيفة.

لحديث الباب، وهو نص في ذلك، وأن حكمهم حكم أسيادهم في المنع من الزكاة.

القول الثاني: يجوز دفعها إليهم.

وهو قول مالك.

لأن علة التحريم مفقودة وهي الشرف.

والصحيح الأول، لحديث الباب.

قال الشوكاني: ونصب هذه العلة مقابل هذا الدليل الصحيح من الغرائب التي يعتبر بها المتيقظ.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- بعث السعادة

- شدة ورع الصحابة.

- سؤال عما استشكل.

ص: 180

646 -

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ; (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ اَلْعَطَاءَ، فَيَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَيَقُولُ: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا اَلْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي) أي: شخصاً أحوج إليه مني.

(خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ) أي: اتخذه مالاً لك وإن لم تكن في حاجة إلى إنفاقه.

(وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ) الإشراف التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول له، قال أبو داود: وسألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب.

قال القرطبي: إشراف النفس: تطلعها وتشوّفها، وشَرهُهَا لأخذ المال.

(وَلَا سَائِلٍ) أي بلسانك.

(وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) أي: وما لم يؤتك الله بالشرط المذكور، فلا تجعل نفسك تابعة له ناظرة إليه.

•‌

‌ ما المراد بهذا العطاء الذي يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر؟

المراد به: العمالة على الصدقة كما جاء الرواية الأخرى (قال عمر: فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّلني، فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أُعْطيتَ شيئاً من غير أن تسأل فكل، وتصدق).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: ذم السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس.

وقد تقدم ما يتعلق بهذه المسألة كاملة في شرح حديث (ومن يستعفف يعفه الله).

قال شيخ الإسلام: فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ.

وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ).

وَقَوْلِهِ (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ).

وَقَوْلِهِ (لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمْعٍ مُوجِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ) هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ أَيْضًا (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) وَقَالَ (مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ. وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ} فَكَرِهَ أَخْذَهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْب.

وقال رحمه الله: وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ).

فَالْمُشْرِفُ الَّذِي يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَالسَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري (قَالَ: أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَسْأَلَهُ فَوَجَدْتُهُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ وَاَللَّهِ مَهْمَا يَكُنْ عِنْدَنَا مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ).

وَ (الِاسْتِغْنَاءُ) أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَتَشَرَّفَ إلَيْهِ.

وَ (الِاسْتِعْفَافُ) أَلَّا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا.

وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ إلَى الْخَلْقِ؛ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِكَ أَنَّ أَحَدًا يَأْتِيكَ بِشَيْءِ، فَهَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ لَا يُوَجِّهُ قَلْبَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْمَكْرُوبُ:(لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ). وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ يَقُولُ: عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ) فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَتَأَلُّهُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَتَعَلُّقُ رَجَائِهِ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، وَهِيَ لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الطَّلَبَ.

وَالنَّاسُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَوْلُ الْعَبْدِ لَهَا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ أُخْرَى وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ تَكْمُلُ طَاعَةُ اللَّهِ.

ص: 181

وقال رحمه الله: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْغِنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ:

مِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ). وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ).

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ (وَرَجُلٌ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا. وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهَ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ).

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ (مَنْ طَلَبَ الْمَالَ اسْتِغْنَاءً عَنْ النَّاسِ وَاسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ).

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ (مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ) فَالسَّائِلُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْغِنَى.

وقَالَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أَيْ عَنْ السُّؤَالِ لِلنَّاسِ.

وَقَالَ (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) فَغِنَى النَّفْسِ الَّذِي لَا يَسْتَشْرِفُ إلَى الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْحُرَّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ وَالْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ. وَقَدْ قِيلَ: أَطَعْت مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي. فَكَرِهَ أَنْ يَتَّبِعَ نَفْسَهُ مَا اسْتَشْرَفَتْ لَهُ لِئَلَّا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ فَقْرٌ وَطَمَعٌ إلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُ خِلَافَ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَخِلَافَ غِنَى النَّفْسِ.

•‌

‌ هل يلزم الإنسان أن يقبل الزكاة أو غيرها إذا كان محتاجاً لها؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يجب.

لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر (فخذه .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب.

القول الثاني: أنه للاستحباب.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ جَاءَهُ مَال هَلْ يَجِب قَبُوله أَمْ يُنْدَب؟ عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهُ يُسْتَحَبّ فِي غَيْر عَطِيَّة السُّلْطَان.

قال ابن تيمية: في الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ (يَا حَكِيمُ: إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَى حَكِيمٍ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فَفِيهِ أَنَّ حَكِيمًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ. وَهَذَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ. وَقَوْلُهُ (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى) تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سُفْلَى.

وسئل ابن تيمية: عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا أَيَقْبَلُهُ؟ أَمْ يَرُدُّهُ؟

فَأَجَابَ:

قَدْ ثَبَتَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرِ (مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك) وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ مَا أَكْثَرَ مَسْأَلَتِك إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ فَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ بَعْدَك مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا). فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعْطَيَانِهِ فَلَا يَأْخُذُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ، أَوْ مُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ.

وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ؛ وَلَا إشْرَافٍ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ حَقَّهُ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَمِلَ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ.

ص: 182

•‌

‌ اذكر ما ذكره الحافظ ابن حجر في قبول عطية السلطان؟

قال رحمه الله: والتحقيق في المسألة: أن من علم كون ماله حلالاً فلا ترد عطيته، ومن عُلم كون ماله حراماً فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده، وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل.

•‌

‌ بما يجب أن يعلق الإنسان قلبه؟

أن الإنسان يجب أن يعلق تطلعه ورجاؤه بالله تعالى.

قال تعالى: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ).

وقال تعالى: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ).

وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس (إذا سألت فاسأل الله).

إذا قوي طمع الإنسان بالمخلوق قلّت عبوديته ورجاؤه وتعلقه بالله وبالعكس.

قال ابن تيمية: وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

وقال: وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذٍ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز أخذ المال إذا جاء من غير إشراف ولا سؤال.

- فضل عمر وزهده في الدنيا، حيث آثر غيره على نفسه.

- وجوب التعلق بالله تعالى في كل شيء.

- تحريم الاعتماد على غير الله.

الجمعة: 6/ 6/ 1433 هـ عصراً.

ص: 183

‌كتاب الصيام

•‌

‌ تعريفه:

لغة الإمساك.

وشرعاً: هو التعبد لله بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وقال في الفتح: والصوم والصيام في اللغة الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة.

وقال النووي: إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص بشرطه.

•‌

‌ حكمة مشروعية الصيام:

قال ابن رجب: في التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:

منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشَر والبطر والغفلة.

ومنها: تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتُعميه.

ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيراً من الفقراء.

ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان.

•‌

‌ وقال الزرقاني: شُرِع الصيام لفوائد:

أعظمها كسر النفس، وقهر الشيطان، فالشبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة.

ومنها: أن الغنيّ يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره على ما منع منه كثيراً من الفقراء، من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من مُنع ذلك على الإطلاق، فيوجب ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك.

• قال الحافظ ابن حجر: وذكر بعض الصوفية أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة ثم تاب تأخر قبول توبته مما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوماً فلما صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام ثلاثين يوماً وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك وهيهات وجدان ذلك.

• فرض في السنة الثانية من الهجرة.

قال ابن القيم: وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات.

• حكمُ صومه: فرض.

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(كتب) أي فرض (كما كتب على الذين من قبلكم) تسلية للمؤمنين وإشعار لهم بأن الله قد فرض هذا الأمر على من قبلهم من الأمم (لعلكم تتقون) فيه بيان الحكمة من مشروعية الصيام وهي تقوى الله.

ب-عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ) متفق عليه.

ج-وعن طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يقال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ». وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) متفق عليه.

وأجمع المسلمون على وجوب صيام رمضان. (قاله ابن قدامة).

(من أنكر وجوبه كفر لأنه أنكر أمراً معلوماً بالضرورة من الدين، وأما من تركه تهاوناً وكسلاً فالصحيح أنه لا يكفر وهذا مذهب الجمهور).

ص: 184

•‌

‌ مراحل فرضية رمضان:

صيام رمضان فرض على ثلاث مراحل:

أولاً: صيام عاشوراء.

لحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر) رواه البخار ي.

ثانياً: مرحلة التخيير بين الصيام والفدية.

قال تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

ثالثاً: فرض الصيام على التعيين.

قال تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

•‌

‌ فضائل الصيام:

أولاً: الصوم جُنّة من النار.

قال صلى الله عليه وسلم (الصيام جُنة يستجن بها العبد من النار) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً). متفق عليه

• اختلف في معنى (

جنة يستجن بها العبد):

فقيل: جنة ووقاية من النار، ورجحه ابن عبد البر.

وقيل: من الآثام.

وقيل: من الشهوات.

وقيل: من جميع ذلك، وبذلك جزم النووي.

ثانياً: الصيام طريق إلى الجنة.

عن أبي أمامة قال (قلت: يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا مِثل له) رواه النسائي.

ثالثاً: الصوم فضله عظيم اختص الله به.

• عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). متفق عليه معنى قوله صلى الله عليه وسلم[قال تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به] مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي عليها؟

اختلف العلماء في معناه على أقوال:

أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره.

ثانيها: أن المراد بقوله [وأنا أجزي به] أي أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس.

ثالثها: معنى قوله [الصوم لي] أي أنه أحب العبادات إلي والمقدم عندي.

رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله.

وأقرب الأجوبة التي ذكرتها إلى الصواب الأول والثاني. (فتح الباري).

ص: 185

• لكن اعلم: أن هذا الصيام الذي شرفه الله فأضافه إلى نفسه، المراد صيام من سلِم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً.

‌فائدة: معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان وغلقت أبواب النيران):

ذكر بعض العلماء أن المراد بتفتيح أبواب الجنة: هو عبارة عن تكثير الطاعات، وعن تغليق أبواب النيران: هو عبارة عن قلة المعاصي الموجبة لتغليق النيران، وقد ذكر نحو هذا المعنى - احتمالاً - القاضي عياض ومال إليه.

والاحتمال الثاني أن تكون هذه الأحاديث على حقيقتها فيقع في رمضان تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار، ورجح هذا القول ابن المنَيّر المالكي في حاشيته على البخاري، وهذا القول هو الذي تحتمله هذه الأحاديث وتعرفه العرب من لسانها.

فائدة: قوله صلى الله عليه وسلم (وصفدت الشياطين) هل التصفيد يعم جميع الشياطين أم يخص بعضها؟ قولان للعلماء رحمهم الله تعالى.

قيل: إن التصفيد يعم جميع الشياطين.

وهذا هو المتبادر من ألفاظ الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقيل: أن التصفيد يختص ببعض الشياطين دون بعض.

وقد اختلف هؤلاء على قولين:

أحدهما: أن الشياطين التي تصفد هي مسترقة السمع، وقد نص على هذا الحُليْمي في المنهاج في شعب الإيمان.

وثانيهما: أن الشياطين التي تصفد هي المردة العاتية منها.

وقد مال إلى هذا ابن خزيمة في صحيحه.

والصحيح الأول أن الشياطين جميعاً تصفّد.

لكن ينبغي أن يعلم أن هذه الشياطين هي الشياطين المنفصلة الخارجة عن الإنسان - أما القرين الملازم للإنسان فإنه لا يصفّد بحال.

‌فائدة: عن ابن عباس (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل) متفق عليه.

قال ابن رجب: في تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:

منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه.

ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم.

ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله به على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل.

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة.

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها. (لطائف المعارف).

فائدة: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْماً صَائِماً فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ) متفق عليه.

اختلف العلماء هل يشرع أن يقولها في كل صيام أو يختص بالفرض دون النفل؟

في ذلك قولان، وأصح القولين: أنه يقولها العبد في الحالين جميعاً واختاره ابن تيمية وابن عثيمين.

• الوارد أن يقول هذه الجملة مرتين (إني صائم، إني صائم).

• أن المحفوظ في الألفاظ المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر (اللهم) فلا يشرع أن يقول: اللهم إني صائم.

• لا يشرع للعبد أن يقول غير هذا القول إذا سب أو خوصم في صيامه، وأما ما ورد - كما عند ابن خزيمة وغيره - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وإن كنت قائماً فاجلس) فهذه اللفظة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 186

647 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(لَا تَقَدَّمُوا) أي: لا تسبقوا.

(رَمَضَانَ) أي: شهر رمضان.

(بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ)(أو) للتنويع وليست للشك، ولهذا جاء في مسلم (بصوم يوم ولا يومين).

•‌

‌ ما معنى حديث الباب؟

النهي عن تقدم صيام رمضان بصوم يوم أو يومين ما لم يكن ذلك عادة له.

قال ابن حجر: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان.

•‌

‌ هل النهي في الحديث للتحريم أم للكراهة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه للتحريم.

قالوا لأن الأصل في النهي التحريم.

القول الثاني: أنه للكراهة.

قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى [إلا رجل كان له صوم فليصمه]، والأول هو الراجح.

وقال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لحديث (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ

): واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة؟ والصحيح أنه نهي تحريم، لاسيما اليوم الذي يشك فيه. (شرح رياض الصالحين)

•‌

‌ ما العلة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين؟

اختلف في علة النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.

فقيل: التقوي بالفطر لرمضان.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا فيه نظر، لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربع لجاز.

وقيل: خشية اختلاط النفل بالفرض.

قال ابن حجر: وفيه نظر أيضاً، لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث.

وقيل: لأن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.

قال ابن حجر: وهذا هو المعتمد.

ص: 187

- وقال ابن رجب: لكراهة التقدم ثلاثة معان:

أحدها: أنه على وجه الاحتياط لرمضان، فيُنهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه.

والمعنى الثاني: الفصْل بين صيام الفرض والنفل.

والمعنى الثالث: أنه أمر بذلك، للتقوي على صيام رمضان، فإن مواصلة الصيام قد تُضعف على صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوي على صيام رمضان، وفي هذا التعليل نظر، فإنه لا يكره التقدم بأكثر من ذلك، ولا لمن صام الشهر كله.

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إلا رجل كان يصوم

معنى الاستثناء: أن من كان له ورد فقد أذن له فيه، لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما.

•‌

‌ متى يجوز تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين؟

في حالتين:

الأولى: من كان له عادة بصوم يوم معين، كيوم الاثنين أو الخميس، فلا بأس بذلك لزوال المحذور، والثانية: من يصوم واجباً كصوم نذر أو كفارة أو صيام قضاء رمضان السابق، فكل هذا جائز، لأن ذلك ليس من استقبال رمضان.

•‌

‌ ما صحة حديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)؟

استدل بعض العلماء بحديث الباب على ضعف حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا). رواه أبو داود

قال أحمد وابن معين: إنه منكر. (الفتح).

قال ابن حجر: وقد استدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك فيما هو أصح من حديث العلاء، وكذلك صنع قبله الطحاوي.

وحديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا

) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والطحاوي وابن حبان وعبد الرزاق والنسائي.

وهذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه (وسيأتي بحثه في حديث قادم إن شاء الله).

وقد قال ابن رجب: اختلف العلماء في صحة هذا الحديث، فصححه غير واحد، منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر.

وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأثرم، وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثاً أنكر منه، وردّه بحديث:(لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين)، فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين. (لطائف المعارف)، ويدل على ضعفه:

أ-حديث الباب.

ب-وحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان).

ج-جواز تقدم الصوم قبل رمضان بأكثر من يومين.

فإن قال قائل: ما الجواب عن حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (هل صمت من سَرَرِ هذا الشهر شيئاً)؟

فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه). متفق عليه

أولاً/ سرر الشهر آخر الشهر، ويؤيد ذلك رواية أحمد:(من سرار الشهر) قال البخاري: [باب الصوم من آخر الشهر] ثم ذكر حديث عمران.

ثانياً/ لا معارضة بين هذا الحديث وحديث الباب، فإن حديث عمران محمول على أن هذا الرجل كان معتاداً لصيام آخر الشهر، فتركه خوفاً من الدخول في النهي عن تقدم رمضان ولم يبلغه الاستثناء، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وأمره بقضائه لتستمر محافظته على ما وظف نفسه من العبادة، لأن أحب العمل إلى الله أدومه.

ص: 188

- اختلف في‌

‌ تسمية هذا الشهر رمضان:

فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب، أي تحرق، لأن الرمضاء شدة الحر.

وقيل: لما نقلت أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر شدة الحر.

وقيل: لأن وجوب صومه صادف شدة الحر.

قال ابن حجر: واختلف في تسمية هذا الشهر رمضان فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب، أي تحرق لأن الرمضاء شدة الحر، وقيل وافق ابتداء الصوم فيه زمناً حاراً.

- قول صلى الله عليه وسلم (لا تقدموا رمضان) دليل على أنه يجوز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر فلا كراهة.

ومن الأدلة على هذا الجواز:

أ- حديث الباب (لا تقدموا رمضان .. ).

ب-قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة

).

ج-وقوله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً .... ).

د-وقوله صلى الله عليه وسلم (من قام رمضان ..... ).

هـ-وقوله صلى الله عليه وسلم (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذي الحجة) متفق عليه.

و-وقوله صلى الله عليه وسلم (عمرة في رمضان .... ).

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يقال رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال شهر رمضان.

وهذا قول أصحاب مالك.

واستدلوا بحديث (لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان).

قال النووي: قولهم إنه اسم من أسماء الله ليس بصحيح، ولم يصح فيه شيء، وإن كان قد جاء به أثر ضعيف.

وقال ابن حجر: أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر.

ص: 189

648 -

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ (مَنْ صَامَ اَلْيَوْمَ اَلَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا اَلْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَهُ اَلْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث صحيح، وقد صححه الترمذي، وقال الدارقطني: إسناده صحيح.

•‌

‌ ما هو يوم الشك؟

هو الذي لا يعلم أيكون من رمضان أو يكون آخر يوم من شعبان.

يوم الشك: يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت ليلته صحواً ولم يرى الهلال، لاحتمال أن الشهر قد هلّ ولم ير.

وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

وقيل: يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر مما يعلم الرؤية، وهذا أصح.

•‌

‌ ما حكم صوم يوم الشك؟

القول الأول: أنه حرام.

ونسبه النووي لجمهور العلماء.

أ-لحديث عمار.

ب -ولحديث ابن عمر الآتي ( .... فإن غم عليكم فاقدروا له)، وفي رواية:(فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) وهذه مفسرة رواية (فاقدروا له) أن معنى اقدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً.

قال ابن حجر: ويرجح هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله:(فأكملوا العدة ثلاثين) ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث.

ج-قال ابن عثيمين: ولأن الصائم في يوم الشك متعدٍّ لحدود الله عز وجل لأن حدود الله ألا يصام رمضان إلا برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه).

القول الثاني: أنه واجب.

وهذا مذهب الحنابلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له).

قالوا: ومعنى: (اقدروا له) أي ضيقوا، من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله)، والتضييق أن يجعل شعبان (تسـ 29 ـعة وعشرون) يوماً.

والراجح القول الأول.

قال ابن القيم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو شهادة شاهد واحد، وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو قتر أو سحاب أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صامه، ولم يكن يصوم يوم الغيم ولا أمر به بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً إذا غم، وكان يفعل ذلك، فهذا فعله وهذا أمره.

ص: 190

649 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ (فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ).

وَلِلْبُخَارِيِّ (فَأَكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ).

650 -

وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ).

===

(إِذَا رَأَيْتُمُوهُ) الرؤية هنا بصرية، أي: أبصرتموه أي: هلال رمضان.

(فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ) أي: غُطيَ عليكم، قال النووي: معناه حال بينكم وبينه غيم.

•‌

‌ ما معنى (فَاقْدُرُوا لَهُ)؟

معناه: أكملوا شعبان ثلاثين يوماً.

فقد جاء في الرواية الأخرى (فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) وهذه مفسرة رواية (فاقدروا له) أن معنى اقدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً.

قال ابن حجر: ويرجح هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله (فأكملوا العدة ثلاثين) ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث.

وقال القرطبي: وقوله (فاقدروا له) أي: قدِّروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يومًا. يقال: قدَّرت الشيء أقدُرُه وأقدِره- بالتخفيف - بمعنى: قدَّرته - بالتشديد - كما تقدَّم في أول كتاب الإيمان. وهذا مذهب الجمهور في معنى هذا الحديث، وقد دلَّ على صحته ما رواه أبو هريرة مكان: فاقدروا له (فأكملوا العدة ثلاثين).

وقال النووي: وَفِي رِوَايَة (فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ) وَفِي رِوَايَة (إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَال فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) وَفِي رِوَايَة (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا) وَفِي رِوَايَة (فَإِنْ غُمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَد) وَفِي رِوَايَة (فَإِنْ عَمِيَ عَلَيْكُمْ الشَّهْر فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ) وَفِي رِوَايَة (فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ).

هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا فِي الْكِتَاب عَلَى هَذَا التَّرْتِيب، وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ:(فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّة شَعْبَان ثَلَاثِينَ).

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى (فَاقْدُرُوا لَهُ) فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ ضَيِّقُوا لَهُ وَقَدِّرُوهُ تَحْت السَّحَاب، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره مِمَّنْ يُجَوِّز صَوْم يَوْمِ لَيْلَةِ الْغَيْمِ عَنْ رَمَضَان.

وَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَجُمْهُور السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: قَدِّرُوا لَهُ تَمَام الْعَدَد ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِالرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَة، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّة ثَلَاثِينَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِـ (اقْدُرُوا لَهُ) وَلِهَذَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي رِوَايَةٍ، بَلْ تَارَة يَذْكُر هَذَا، وَتَارَة يَذْكُر هَذَا، وَيُؤَكِّدهُ الرِّوَايَة السَّابِقَة (فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ).

وقيل: إن معنى (اقدروا له) أي ضيقوا، من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله)، والتضييق أن يجعل شعبان (تسـ 29 ـعة وعشرون) يوماً.

•‌

‌ بما يجب صوم رمضان؟

صوم شهر رمضان يجب بأمرين:

الأول: برؤية هلال رمضان.

لحديث الباب: (صوموا لرؤيته

).

الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً.

قال في المغني: لأنه يتيقن به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه خلافاً.

ص: 191

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (إذا رأيتموه)؟

نستفيد: أن الرؤية هي المستند الشرعي في أحكام الصيام والإفطار، وأنه لا عبرة بالحساب ولا يصح الاعتماد عليه بحال من الأحوال.

• قال ابن تيمية: ولا ريب أنه ثبت في السنة الصحيحة واتفاق الصحابة، أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل، وعلم الحساب، فإن العلماء في الهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي.

•‌

‌ ما حكم من رأى هلال رمضان لوحده، أو رآه ورد قوله؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه يصوم وحده ويفطر سراً.

وهذا قول الشافعية والظاهرية.

أ- لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

ب- ولحديث الباب (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا).

ج- أنه يلزم على غير هذا القول، أن يفطر في يوم يعتقد أنه من رمضان، وأن يصوم يوماً يعتقد أنه العيد.

القول الثاني: يصوم وحده ويفطر مع الناس.

وهذا قول الحنفية والمالكية والمشهور عند الحنابلة.

قالوا: يصوم وحده للأدلة السابقة، وأما الفطر، فلا يفطر إلا مع الناس، لأن دخول شوال يكون بشاهدين.

القول الثالث: أنه يصوم مع الناس ويفطر معهم.

وهذا اختيار ابن تيمية.

أ- لحديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون). رواه أبو داود

ب- ولحديث أبي هريرة الآخر قال: قال صلى الله عليه وسلم (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون). رواه الترمذي

وقد ذكر الخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، فقال:

إذا رأى هلال الصوم وحده أو هلال الفطر وحده؛ فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد:

أحدها: أن عليه أن يصوم وأن يفطر سراً وهو مذهب الشافعي.

والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة.

والثالث: يصوم مع الناس ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون). رواه الترمذي. (الفتاوى: 25).

•‌

‌ هل يلزم إذا رؤي الهلال في بلد أن يصوم جميع المسلمين أم لكل بلد رؤيته؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: إذا ثبتت الرؤية في بلد إسلامي وجب الصوم على جميع المسلمين في أقطار الأرض، سواء اختلفت المطالع أو اتفقت، وسواء قربت الأماكن أو بعدت.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أيضاً، وهو ما ذهب إليه كثير من المعاصرين.

أ-لحديث الباب (صوموا لرؤيته).

وجه الدلالة: أن الخطاب عام للأمة بمجموعها، فإذا ثبت الهلال بأي بلد وجب الصوم على الجميع.

ب-هذا أولى لاجتماع كلمة المسلمين.

ج-ولحديث (الصومُ يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس).

ص: 192

القول الثاني: أن لكل بلد رؤيتهم.

حكاه ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه. (الفتح).

عَنْ كُرَيْبٍ (أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ: لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم

القول الثالث: أنه إذا اتفقت المطالع لزمهم الصوم، وإلا فلا.

وهذا المشهور عند فقهاء الشافعية واختاره ابن تيمية.

أ- لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمفهوم هذه الآية: من لم يشهد فلا صيام عليه.

ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتموه فصوموا

) وإذا اختلفت المطالع فلا يمكن أن يروه.

ج- ولحديث كريب السابق، فابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام، وكان حاكم المسلمين واحداً ولا ذكر عن أحد من الصحابة مخالف لابن عباس.

القول الرابع: أن الناس تبع للإمام.

وهذا القول هو الذي عليه العمل اليوم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

أ-وجوب صوم رمضان برؤية الهلال.

ب-أنه لا يثبت كون اليوم من رمضان بغير رؤية.

ج-قوله (إذا رأيتموه) قال النووي: المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان.

ص: 193

651 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (تَرَاءَى اَلنَّاسُ اَلْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ اَلنَّاسَ بِصِيَامِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

652 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اَلْهِلَالَ، فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اَللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ يَا بِلَالُ أَنْ يَصُومُوا غَداً) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ.

===

(إِنِّي رَأَيْتُ اَلْهِلَالَ) أي: هلال رمضان.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث ابن عمر صححه ابن حزم، والنووي، والألباني.

وحديث ابن عباس الصحيح أنه مرسل كما رجحه النسائي وغيره.

•‌

‌ كم شاهد يقبل في دخول رمضان؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يكفي شاهد واحد.

وهذا قول الشافعي وأحمد.

قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.

قال النووي: وهو الأصح، لأنه خبر ديني لا تهمة فيه وأحوط للعبادة.

وقال في المجموع: ذكرنا أن مذهبنا ثبوته بعدلين بلا خلاف وفى ثبوته بعدل خلاف، الصحيح ثبوته وسواء أصحت السماء أو غيمت، وممن قال يثبت بشاهد واحد عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وآخرون.

أ- لحديث الباب - حديث ابن عمر -.

قال الخطابي في حديث ابن عمر: فيه بيان أنّ شهادة الواحد العدل في رؤية هلال شهر رمضان مقبولة.

ب-ولحديث ابن عباس - حديث الباب الثاني -.

قال الصنعاني: فيه دليلٌ على قبول خبر الواحد في الصوم.

وقال الشوكاني: والحديثان المذكوران في الباب - يعني حديث ابن عمر وحديث ابن عباس - يدلان على أنها تُقبَل شهادة الواحد في دخول رمضان.

القول الثاني: أنه لا يقبل إلا اثنان.

قال النووي: وممن قال يشترط عدلان عطاء وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والليث والماجشون وإسحق بن راهويه.

ب-لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه، فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) رواه النسائي

وجه الدلالة: مفهوم الحديث يدل أنه لا يكفي الواحد، حيث أنه علق حكم الشهادة بعدلين، فعلم أنّ حكم الواحد مخالف لحكمهما.

ب-قالوا: لأن هذه شهادة على رؤية هلال الصيام، فأشبهت الشهادة على هلال شوال.

والقول الأول هو الصواب:

أولاً: حديث ابن عمر نص صريح يجب العمل بمقتضاه لأنه أشهر منه ومنطوق.

ثانياً: هلال شوال خروج من العبادة وهذا دخول فيها والمطلوب فيه الاحتياط، ومن الاحتياط قبول الواحد.

ص: 194

•‌

‌ كم شاهد يكفي لدخول بقية الشهور؟

لا بد من رجلين عدلين.

قال النووي: لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل.

لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - السابق - ( .... فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) رواه النسائي.

•‌

‌ ما شروط الشاهد؟

يشترط في الشاهد شروطاً:

أولاً: أن يكون مسلماً: فلا تقبل شهادة الكافر لأمور:

أ- لحديث الأعرابي السابق: (أتشهد أن لا إله إلا الله ..... ).

ب- أن الله رد شهادة الفاسق من المسلمين، ومن باب أولى رد شهادة الكافر.

ج- لأن الغالب فيه الكذب، والمتهم لا تقبل شهادته.

د- قوله تعالى (ممنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والكافر ليس بمرضي.

ثانياً: أن يكون بالغاً عاقلاً:

عاقل: فالمجنون لا تقبل.

بالغ: الصبي لا يخلو من حالين:

الأول: أن يكون غير مميز (لا يقبل قوله).

الثاني: أن يكون مميز (وهذا محل خلاف)، والأكثر على أنه لا يقبل قوله، لأنه لا يوثق بخبره، فلا بد من البلوغ.

ثالثاً: أن يكون عدلاً.

والعدل: من استقام في دينه ومروءته، والمعني: أن يكون موثوقاً بخبره لأمانته وبصره، أما من لا يوثق بخبره لكونه معروفاً بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أنه لا يشترط قبول الشهادة بلفظ الإشهاد، بل بمجرد إخباره إذا كان مستقيماً مسلماً يقبل قوله.

- أنه لا يقبل بالشهادة إلا مسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:(أتشهد أن لا إله إلا الله؟).

- أنه يكتفى بصلاح الظاهر.

- أنه يتعين على إمام المسلمين أن يعلن دخول شهر رمضان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن ينادي بأن يصوموا غداً.

ص: 195

653 -

وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ اَلْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ اَلصِّيَامَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَمَالَ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: - لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اَللَّيْلِ -.

===

•‌

‌ ما صحة حديث حفصة؟

الصحيح أنه موقوف كما رجحه النسائي والترمذي وأبو حاتم وابن عبد البر، وهو الصحيح.

وقد جاء وقفه عن ابن عمر عند مالك في الموطأ وإسناده صحيح.

•‌

‌ ما حكم النية للصوم الواجب؟

شرط، فمن لم يبيت النية من الليل فلا صيام له، وهذا في الصيام الواجب، كصيام رمضان وقضاء رمضان والنذر والكفارة.

أ- لحديث (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.

قالوا: والصيام عمل فلا صحة له إلا بالنية، لأن صحة العبادات مربوط بالنية.

ب- حديث الباب - حديث حفصة - فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى الصيام إذا خلا عن النية، فدل ذلك على اشتراطها ولزومها لصحته. - اختلف العلماء هل يلزم لكل يوم نية أو يكفي نية واحدة من أول يوم من رمضان؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يجزئ صوم رمضان نية واحدة من أول الشهر ما لم يقطعه بعذر فيستأنف النية.

وهذا مذهب المالكية.

لأنه من المعلوم عند جميع المسلمين أنه إذا دخل رمضان لا يمكن أن يتخلله يوم بدون صيام.

القول الثاني: يجب أن ينوي كل يوم بيومه من ليلته.

وهذا هو المشهور من المذهب، وهو مذهب الجمهور.

أ- قالوا: لأن كل يوم عبادة مستقلة.

قال ابن قدامة: ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض، ويتخللها ما ينافيها، فأشبهت القضاء.

ب- ولأنه صوم واجب، فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته، كالقضاء. (المغني).

والراجح القول الأول.

ويظهر أثر الخلاف: لو نام مكلف قبل الغروب، ولم يفق إلا من الغد بعد الفجر، فعلى المذهب لا يصح صومه، وعلى القول الراجح يصح صومه.

•‌

‌ ما الحكم لو قال: إن كان غداً من رمضان فهو فرضي؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يصح.

وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.

أ- لحديث الباب، قالوا: إن الحديث صريح في تبييت النية من الليل، فيكون نصاً في المسألة.

ب- ولأن هذا تردد في النية، والنية لا بد فيها من الجزم

القول الثاني: أنه يصح.

وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره الشيخ ابن عثيمين.

لأن هذا الرجل علق النية لأنه لا يعلم هل غداً من رمضان أم لا؟ فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا على التردد هل يصوم أم لا؟

وهذا القول هو الصحيح.

قال ابن تيمية: وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ.

فائدة: وهذه المسألة تحدث في رجل نام مبكراً ليلة الثلاثين من شعبان، وفيه احتمال أن تكون هذه الليلة من رمضان.

ص: 196

654 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ. فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ " قُلْنَا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ " ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: "أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا" فَأَكَلَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ) بفتح الحاء، هو شيء يُتخذ من تمر وسمن وأقط.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث عائشة؟

نستفيد: أن صوم النافلة يجوز من النهار.

لقوله (قَالَ: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ).

قال النووي: الحديث دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل الزوال. [قاله النووي]

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصح صوم التطوع بنية من النهار.

قال النووي: ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم: هل عندكم شيء؟ لكونه ضعف عن الصوم وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف، وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد.

•‌

‌ ماذا يشترط لمن نوى الصيام من النهار في صوم النفل؟

يشترط: أن لا يكون قد أكل شيئاً من بعد الفجر.

•‌

‌ وهل يشترط أن تكون النية قبل الزوال؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يشترط أن يكون قبل الزوال.

وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي.

قالوا: لأن معظم النهار مضى من غير نية، بخلاف الناوي قبل الزوال، فإنه قد أدرك معظم العبادة.

القول الثاني: يجوز ولو بعد الزوال.

وهذا مذهب الحنابلة.

أ- لحديث الباب (فإني إذاً صائم).

وجه الاستدلال: أنّ حديث عائشة رضي الله عنها مطلق من غير فصل بين ما قبل الزوال وبعده، فدلَّ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صام بنية من النهار، ولا فرق بين أوَّله وآخره.

ب- قالوا، إنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة، ولم ينقل عن أحد من الصّحابة رضي الله عنهم ما يخالفه صريحاً.

قال ابن تيمية: واختلف قولهما - أي الشافعي وأحمد - هل يجزئ التطوُّع بنية بعد الزوال؟ والأظهر صحته، كما نقل عن الصحابة.

ج- ولأنّ النّيّة وجدت في جزء النّهار، فأشبه وجودها قبل الزّوال بلحظة.

د- قال الزركشي: لأنّ ما صحَّت النية في أوله صحَّت في آخره، كالليل.

وهذا الصحيح.

ص: 197

•‌

‌ إن نوى الصوم أثناء النهار، هل يكتب له أجر الصوم يوماً كاملاً أو يكتب له من نيته؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يكتب له أجر اليوم الكامل.

قالوا: لأن الصوم الشرعي لا بد أن يكون من أول النهار.

القول الثاني: لا يثاب إلا من وقت النية فقط.

فإذا نوى عند الزوال فأجره على هذا القول نصف يوم.

لحديث (إنما الأعمال بالنيات) وهذا أول النهار لم ينو الصوم فلا يكتب له الأجر كاملاً.

واختار هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقال:

إذا نوى الصيام أثناء النهار وهو نفل ولم يأت قبله بما ينافي الصوم من أكل أو شرب أو غيرهما فصومه صحيح، سواء كان قبل الزوال أم بعد الزوال، ولكن هل يثاب من أول النهار، أو يثاب من النية؟ الصحيح: أنه يثاب من النية فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، والفائدة: أنه يكتب له أجر الصيام منذ نوى إلى غروب الشمس. (لقاء الباب المفتوح). والله أعلم بالراجح.

•‌

‌ هل يجوز قطع صوم النفل؟

نعم يجوز قطعه ولو من غير عذر. (باستثناء الحج والعمرة).

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

أ-لحديث الباب (

ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ:" أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا " فَأَكَلَ).

ب- عَنْ أَبِى جُحَيْفة. قَالَ (آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً. فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً. فَقَالَ كُلْ. قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ. قَالَ: نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ. فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ. فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلْمَانُ). رواه البخاري

ج- وعن أبي سعيد الخدري أنه قال (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتاني هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم ثم قال له أفطر وصم مكانه يوماً إن شئت) رواه البيهقي.

د- وعن أم هانئ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر). رواه الحاكم وحسنه العراقي

ج- ولأنه نفل فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء، وكذا في الدوام. [قاله النووي]

فائدة: لكن هؤلاء اتفقوا على استحباب إتمامه.

القول الثاني: أنه لا يجوز قطعه.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

أ-لقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم).

ب- ولحديث عائشة قالت: (كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها، فقالت: يا رسول الله! إنا كنا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، قال اقضيا يوماً آخر مكانه) رواه الترمذي.

ص: 198

والراجح القول الأول، وأما الجواب عن أدلة القول الثاني:

أما الآية (ولا تبطلوا أعمالكم) فيجاب عنها؛ بأن الخروج من صيام التطوع ليس إبطالاً للعمل، لأن إبطال العمل يكون بالردة، وقد يكون بالرياء والسمعة.

وأما حديث عائشة وحفصة؛ فهو حديث ضعيف لا يصح.

•‌

‌ هل يجوز قطع الفرض من صلاة أو صيام؟

لا يجوز، إلا في مسألتين:

الأولى: للضرورة، كما لو كان في ذلك إنقاذ نفس معصومة من الهلاك.

كمن شرع في صلاة فريضة، ورأى طفلاً يريد أن يقع في هلكة، فهنا يجب أن يقطعها لينقذه.

الثانية: إذا قطع الفرض ليفعله على وجه أكمل.

مثال: إنسان دخل في الصلاة لوحده، وفي أثناء صلاته دخل جماعة وشرعوا في الفريضة، فهنا يجوز أن يقطع الفريضة ليدخل معهم. (فهو قطعها ليفعلها على وجه أكمل).

والدليل على هذه المسألة: حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (أَنَّ رَجُلاً، قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنُكَ إِذَنْ) رواه أبو داود.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التقشف.

- مشروعية الهدية وقبولها، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قبول الهدية وإثابته عليها.

- جواز أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الهدية.

- جواز إخبار الإنسان عن عمله الصالح للمصلحة.

ص: 199

655 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَزَالُ اَلنَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا اَلْفِطْرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

656 -

وَلِلتِّرْمِذِيِّ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (قَالَ اَللَّهُ عز وجل أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا).

===

•‌

‌ ما صحة حديث أبي هريرة (أحب عبادي إليّ ....

ضعيف، لأن في إسناده قرة بن عبد الرحمن والجمهور على تضعيفه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذه الأحاديث؟

نستفيد: أدب من آداب الإفطار، وهو تعجيله والمبادرة به حين حلول وقته.

ومعنى التعجيل: أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر.

•‌

‌ اذكر ثمرات تعجيل الفطر؟

- في تعجيل الإفطار اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعجل الإفطار.

عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كنا مع رسول الله في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح لنا [أي اخلط السويق بالماء] فقال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليك نهاراً، قال: انزل فاجدح لنا، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا أفطر الصائم). متفق عليه

- تعجيل الفطر من أخلاق الأنبياء.

قال أبو الدرداء: ثلاث من أخلاق الأنبياء: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة. رواه الطبراني

- أن في تعجيل الفطور علامة أن الناس بخير.

لحديث الباب.

- في تعجيل الفطور مخالفة لليهود والنصارى.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى

يؤخرون). رواه أبو داود

- في تعجيل الفطور تيسير على الناس، وبعد عن التنطع، وقد امتثل هذا الأدب الصحابة.

قال البخاري: أفطر أبو سعيد حين غاب قرص الشمس.

وقال عمرو بن ميمون: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأهم سحوراً). رواه عبد الرزاق

•‌

‌ يفطر الصائم أول ما تغرب الشمس.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم).

• قوله (فقد أفطر الصائم) قال ابن حجر: أي دخل في وقت الفطر.

ويحتمل أن يكون معناه: فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي، وقد رد ابن خزيمة هذا الاحتمال، وأومأ إلى ترجيح الأول.

قال ابن حجر: ولا شك أن الأول أرجح.

- أن تعجيل الفطور فيه مخالفة لليهود والنصارى، لأنهم يؤخرون الإفطار كما سبق.

قال ابن حجر: وتأخير أهل الكتاب له أمد، وهو ظهور النجم، وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضاً بلفظ:(لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم) وفيه بيان العلة في ذلك.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الخير كل الخير بالتقيد بالحدود الشرعية.

- أن تعجيل الفطر سبب لاستمرار الخير في الناس.

- تيسير الله على عباده.

- أن المشروع تقديم الفطر على الصلاة.

- إثبات المحبة لله.

ص: 200

657 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي اَلسَّحُورِ بَرَكَةً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(تَسَحَّرُوا) السحور: بالفتح، ما يتسحر به، اسم للطعام.

(بَرَكَةً) البركة كثرة الخير، ومن معانيها النماء والزيادة، أي: خيراً كثيراً ثابتاً.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب السحور.

قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً. (أي في استحبابه).

وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه.

•‌

‌ لماذا لم نقل بوجوبه لقوله (تسحروا)؟

لم نقل بوجوبه لوجود الصارف عن ذلك، وهو وصال النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه.

قال البخاري: باب بركة السحور من غير إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور.

ويشير البخاري إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: وأيكم مثلي؟ إني يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا).

•‌

‌ قوله صلى الله عليه وسلم (بركة) اذكر بعض هذه البركة الموجودة في السحور؟

أولاً: اتباع السنة.

ثانياً: مخالفة أهل الكتاب.

ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).

ثالثاً: أن السحور يعطي الصائم قوة لا يمل معها الصيام.

رابعاً: أنه يكون سبباً للانتباه من النوم في وقت السحر الذي هو وقت الاستغفار والدعاء، وفيه ينزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا.

خامساً: مدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع.

سادساً: الزيادة في النشاط.

•‌

‌ بما يحصل السحور؟

يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب.

فقد أخرج هذا الحديث أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ (السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين).

ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة (تسحروا ولو بلقمة).

وعند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم سحور المؤمن التمر).

ص: 201

•‌

‌ ما الأفضل تقديم السحور أو تأخيره؟

الأفضل تأخير السحور.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). متفق عليه

زاد أحمد (وأخروا السحور).

وعن أنس عن زيد بن ثابت أنه قال (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية). متفق عليه

فهذا الحديث يدل على أنه يستحب تأخير السحور إلى قبيل الفجر، فقد كان بين فراغ النبي صلى الله عليه وسلم ومعه زيد من سحورهما، ودخولهما في الصلاة، قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية من القرآن، قراءة متوسطة لا سريعة ولا بطيئة، وهذا يدل على أن وقت الصلاة قريب من وقت الإمساك.

والمراد بالأذان الإقامة، سميت أذاناً لأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- قرن الحكم بعلته.

- استحباب التقوي على طاعة الله.

- حرمان أولئك الذين لا يتسحرون.

- ينبغي على المسلم أن يستشعر وهو يتسحر أنه متبع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).

ص: 202

660 -

وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ اَلضَّبِّيِّ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

وقد جاء في مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي من حديث أنس قال (كان رسول صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسَوات من ماء).

• ماذا نستفيد من الحديث؟

ففي هذا الحديث استحباب الفطر على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فماء. (فالمراحل ثلاث).

•‌

‌ هل هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟

هذا الأمر بالحديث للاستحباب.

ويدل لذلك حديث ابن أبي أوفى قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فلما غربت الشمس قال: انزل فاجدح لنا، قال: يا رسول الله، لو أمسيت

).

قوله (فاجدح) بالجيم ثم بالحاء، والجدح تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له المجدح.

قال ابن حجر: وشذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء.

•‌

‌ ما الحكمة من الفطر على التمر:

قال ابن القيم رحمه الله: وكان يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة، أدعى إلى قبوله، وانتفاع القوى به،

وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان أولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده ".

وقال الشوكاني: وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة.

ص: 203

661 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اَلْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ تُوَاصِلُ؟ قَالَ: " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي ". فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ اَلْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا اَلْهِلَالَ، فَقَالَ: " لَوْ تَأَخَّرَ اَلْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ " كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(نَهَى) النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء.

•‌

‌ عرف الوصال؟

الوصال هو: صوم يومين فصاعداً من غير أكل وشرب بينهما. [قاله النووي].

وقال ابن قدامة: وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب.

وقال القاضي عياض: هو متابعة الصوم دون الإفطار بالليل.

وقال ابن الأثير: هو أن لا يُفْطِرَ يَوْمَيْن أو أيَّاماً.

•‌

‌ ما حكم الوصال؟

اختلف العلماء في حكم الوصال على أقوال:

القول الأول: أنه محرم.

وهو مذهب الجمهور.

قال ابن حجر: وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال.

أ-لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما جاء في حديث الباب (نهى عن الوصال).

ب-وفي رواية: (لا تواصلوا

).

ج-ولابن خزيمة: (إياكم والوصال).

د-ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، فقد أفطر الصائم).

قال الحافظ ابن حجر: إذ لم يجعل الليل محلاً لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر.

القول الثاني: أنه جائز.

قال الحافظ ابن حجر: وقد ذهب إلى جوازه مع عدم المشقة، عبد الله بن الزبير، وروي أن أبى شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً.

أ-مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ولو كان حراماً ما أقرهم على فعله.

ب-إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي، فدل هذا على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه.

ج-ومن الأدلة حديث عائشة قالت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم).

قال ابن حجر: ويدل على أنه ليس بمحرم ما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه) وإسناده صحيح، فإن الصحابي قد صرح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرم الوصال.

القول الثالث: أنه جائز إلى السحر والمبادرة بالفطر أفضل.

وهذا قول أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة.

لحديث أبي سعيد عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر).

ورجح هذا القول ابن القيم، وقال: وهذا القول أعدل الأقوال، أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر، وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم.

ص: 204

•‌

‌ ما الحكمة من النهي عن الوصال؟

أولاً: رحمة بهم، وإبقاء عليهم.

وفي التنزيل (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت (نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رَحمة لهم) رواه البخاري ومسلم.

ثانياً: النهي عن التعمّق والتكلّف.

قال الإمام البخاري: باب الوصال. ومَن قال ليس في الليل صيام لقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه رحمة لهم وإبقاء عليهم، وما يُكْرَه مِنْ التَّعَمُّق.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: قال (وَاصَل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر، وواصَل أناس مِنْ الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ) رواه البخاري ومسلم.

ثالثاً: لِمَا فيه مِنْ ضعف القوة، وإنهاك الأبدان. قاله القرطبي.

رابعاً: دَفْع الْملل.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ). رواه البخاري ومسلم

ولَما نَهى عن الوصال صلى الله عليه وسلم قال (فَاكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ) متفق عليه.

خامساً: يُنهَى عن الوصال مِنْ أجل مُخالفة أهل الكتاب.

ولذلك كانت أكلة السَّحَر مِما يُخالَف به أهل الكتاب.

سادساً: لِمَا في الوصال مِنْ تضييع الحقوق والتقصير فيها.

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يصوم النهار ويقوم الليل، فلمّا زاره سلمان رضي الله عنه قال له سلمان: إن لربك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعطِ كل ذي حق حقّه، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان. رواه البخاري.

•‌

‌ ما المراد من قول الصحابي (إنك تُواصِل)؟

ليس فيه اعتراض، وإنما هو سؤال واستفسار عن شأنه صلى الله عليه وسلم، أنه يُواصِل وَيَنْهَى عن الوصال. لأنه صلى الله عليه وسلم كان قدوة لأصحابه، وكان إذا أمرهم بأمر فَعَله، وكان إذا أمرهم بأمر ابتدروا أمْرَه.

•‌

‌ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (يطعمني ربي ويسقيني)؟

اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم (يطعمني ربي ويسقيني):

فقيل: هو على حقيقته.

وضعفه النووي، فقال: لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً.

ص: 205

وضعفه ابن القيم، فقال: إنه غَلِطَ من قال: إنه كان يأكل ويشرب طعاماً وشراباً يتغذى به بدنه لوجوه:

أحدهما: أنه قال (أظل عند ربي يطعمني ويسقيني) ولو كان أكلاً وشراباً لم يكن وصالاً ولا صوماً.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنهم ليس كهيئتهم في الوصال، فإنهم إذا واصلوا تضرروا بذلك، وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه إذا واصل لا يتضرر بالوصال، فلوا كان يأكل ويشرب لكان الجواب: وأنا أيضاً لا أواصل، بل آكل وأشرب، كما تأكلون وتشربون فلما قررهم: إنك تواصل، ولم ينكر عليهم، دلّ على أنه كان مواصلاً وأنه لم يكن أكلاً وشراباً يفطر الصائم.

الثالث: أنه لو كان أكلاً وشراباً يفطر الصائم لم يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه، فإنه حينئذٍ صلى الله عليه وسلم هو وهم مشتركون في عدم الوصال، فكيف يصح الجواب بقوله: لست كهيئتكم.

وقيل: يجعل الله فيه قوة الطاعم الشارب.

ونسبه ابن حجر للجمهور.

وقيل: أن المراد ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح.

ورجح هذا القول ابن القيم، وقال: وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان، ومن له أدنى تجربة وشوق، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه، والرضى عنه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

- أن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت في حق أمته إلا ما خصه الدليل، ووجه ذلك من الحديث قول الصحابة (فإنك تواصل) لما نهاهم عن الوصال.

- فيه الاستكشاف عن حكمة النهي.

- وفيه أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته، ويبادرون إلى الإنشاء به إلا فيما نهاهم عنه.

ص: 206

662 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ اَلزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ.

===

(مَنْ لَمْ يَدَعْ) لم يترك.

(قَوْلَ اَلزُّورِ) الكذب.

(وَالْجَهْلَ) السفه.

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه)؟

قال ابن حجر: فلا مفهوم له، فإن الله لا يحتاج إلى شيء، وإنما معناه فليس لله إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الإرادة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن المقصود من شرعية الصيام تقوى الله، وتهذيب النفوس والأخلاق.

كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فبين الله تعالى أن الحكمة من الصيام تقوى الله، وهي فعل الأوامر وترك النواهي.

ولهذا قال ابن القيم: ففي الحديث الصحيح (من لم يدع قول الزور

) وفي الحديث (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم.

•‌

‌ فعل المحرمات والمنكرات في الصيام هل تبطله؟

لا، لا تبطل الصيام، وإنما تنقص ثواب الصوم، ومثلها الغيبة والنميمة وغيرها.

قال ابن حجر: وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلاً أو قولاً.

أ- لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (فلا يرفث ولا يجهل).

ب- ولحديث الباب.

وجمهور العلماء على أنها لا تفطر الصائم.

•‌

‌ ما الفوائد من ترك الشهوات من الأكل والشرب والمنكح في رمضان؟

في التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:

منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشَر والبطر والغفلة.

ومنها: تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتُعميه.

ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيراً من الفقراء.

ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان. (ابن رجب)

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- الحكمة من الشرائع، وأن فيها تهذيب النفوس، وتقويم الأخلاق، واستقامة الطبائع.

- صحة الصيام مع هذه الأمور المحرمة.

ص: 207

663 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: - فِي رَمَضَانَ -.

===

(وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ) المباشرة: التقاء البشرتين، ويستعمل في الجماع سواء أولج أو لم يولج، وليس الجماع مراداً هنا، وإنما المراد: الجماع فيما دون الفرج من تقبيل ولمس وضم وغيرها.

(وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ) قال النووي: أكثر الروايات بكسر الهمزة مع إسكان الراء، ومعناه: عُضوه الذي يستمتع به، أي: الفرج، ورواه جماعة بفتح الهمزة والراء، ومعناه: حاجته، وهي شهوة الجماع.

•‌

‌ جاء في رواية (كان يقبل وهو صائم، ثم تضحك) ما سبب ضحكها؟

يحتمل ضحكها من التعجب ممن خالف في هذا.

وقيل: تعجب من نفسها إذ تحدث بمثل هذا مما يستحي من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك.

وقد يكون الضحك خجلاً لإخبارها عن نفسها بذلك.

أو تنبيهاً على أنها صاحبة القصة لتكون أبلغ في الثقة بها.

أو سروراً بمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم وبمنزلتها منه ومحبته لها.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز تقبيل الرجل زوجته وهو صائم في رمضان.

وقد سئلت عائشة عما يحل للصائم من امرأته؟ فقالت: (اتق الفرج). رواه الطحاوي وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح

وهو دليل على أن الصائم لا يمتنع عن زوجته إلا ما يمتنع منها وهي حائض.

وقد اختلف العلماء في القبلة للصائم:

فكرهها قوم.

وهو المشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يكره القبلة لمباشرته.

ونقل عن قوم تحريمها.

لقوله تعالى (فالآن باشروهن) فمنع المباشرة في هذه الآية نهاراً.

والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل ذلك على أن المباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها.

وفرق قوم بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب دون الشيخ.

لحديث عبد الله بن عمرو قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله، أقبل وأنا صائم؟ قال: لا، فجاءه شيخ فقال: أقبل وأنا صائم؟ قال: نعم، قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيخ يملك نفسه). رواه أبو داود

وهذا الحديث ضعفه الحافظ ابن حجر وابن القيم، وقال: لا يصح التفريق بين الشاب والشيخ، ولم يجيء من وجه يثبت.

والصحيح أن القبلة لمن تحرك شهوته لكنه يأمن فساد الصوم ليست مكروهة، لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

لكن إذا كانت القبلة تلذذاً ويخشى فساد الصوم بحيث لا يأمن نفسه من الإنزال، فتحرم، لأنه يعرض صومه للفساد.

وقال ابن قدامة في المغني: القبلة لا تخلو من أمور:

- أن لا ينزل فلا يفسد صومه.

قال: لا نعلم فيه خلافاً، وذكر حديث الباب.

- أن يمني فيفطر بغير خلاف.

- أن يمذي ففيه خلاف.

ص: 208

•‌

‌ هل المذي إذا خرج من الصائم بسبب تقبيل أو لمس يفسد الصيام؟

اختلف العلماء في المذي هل يفطر إذا خرج من الصائم أم لا على قولين:

القول الأول: أنه يفطر بذلك. (إذا كان نزوله بسبب المباشرة كاللمس والتقبيل وما أشبه ذلك).

وهذا قول المالكية والحنابلة.

قالوا: إن المذي خارج تخلله الشهوة، خرج بالمباشرة، فأفسد الصوم كالمني. (المغني).

القول الثاني: عدم الفطر به.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.

أ - قالوا: بأنه خارج لا يوجب الغسل، فأشبه البول.

ب - أنه لم يوجد الجماع لا صورة ولا معنى.

قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: بعد أن ذكر مذهب الحنابلة في المسألة: ولا دليل له صحيح، لأن المذي دون المني لا بالنسبة للشهوة ولا بالنسبة لانحلال البدن، فلا يمكن أن يلحق به.

والصواب: أنه إذا باشر فأمذى، أو استمنى فأمذى أنه لا يفسد صومه، وأن صومه صحيح، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والحجة فيه عدم الحجة (أي عدم الحجة على أن نزول المذي مفسد للصيام)، لأن هذا الصوم عبادة شرع فيها الإنسان على وجه شرعي فلا يمكن أن نفسد هذه العبادة إلا بدليل. (الشرح الممتع).

ومعنى: (استمنى فأمذى) أنه حاول إنزال المني ولكنه لم يُنزل وإنما أنزل مذياً.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: خروج المذي لا يبطل الصوم في أصح قولي العلماء؛ سواء كان ذلك بسبب تقبيل الزوجة، أو مشاهدة بعض الأفلام، أو غير ذلك مما يثير الشهوة.

•‌

‌ ما الحكم إذا كرر النظر فأمنى، هل يفسد صومه أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يفسد صومه.

وهذا مذهب مالك وأحمد.

القول الثاني: أنه لا يفسد صومه.

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر.

قالوا: لأنه يشبه التفكير.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز التحدث عما يستحيى منه للمصلحة.

- جواز المباشرة للصائم إذا كان يملك نفسه ويأمن فساد الصوم.

- أنه لا فرق في هذا الحكم بين الشيخ والشاب، والحديث الوارد في التفريق بينهما ضعيف.

- فضل عائشة، في نقلها للأحكام التي يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في بيته.

ص: 209

664 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

665 -

وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: أَفْطَرَ اَلْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ

666 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ اَلْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ; أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" أَفْطَرَ هَذَانِ "، ثُمَّ رَخَّصَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي اَلْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ - رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ.

===

(اِحْتَجَمَ) أي: طلب من يحجمه، والحجامة: إخراج الدم من البدن بطرق معرفة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

- حديث أفطر الحاجم والمحجوم، جاء عن عدة من الصحابة: عن رافع بن خديج، وعن شداد، وعن ثوبان، وعن علي.

- وحديث شداد أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه، وصححه ابن المديني، وابن عبد البر، وابن حزم.

قال العقيلي في الضعفاء: أصح الأحاديث في هذا الباب حديث شداد بن أوس.

وقال أيضاً: حديث شداد بن أوس صحيح في هذا الباب.

وقال إسحق بن راهويه: (هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة) ذكره الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى.

ونقل في الفتح تصحيحه عن أحمد وابن خزيمة، وصححه ابن حبان أيضاً.

وقال النووي في المجموع: إسناده صحيح.

قال شيخ الإسلام: الأحاديث الواردة كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ.

وقال في المغني: حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفساً.

وقال ابن كثير: فأما حديث (افطر الحاجم والمحجوم) فقد رواه جماعة من الصحابة نحو بضعة عشر صحابياً من طرق متعددة يشدُّ بعضها بعضاً، بل هي مفيدةٌ للقطع عند جماعةٍ من المحدِّثين ومتواترة عند آخرين، وإن كان قد تكلم في بعض تلك الطرق.

•‌

‌ هل الحجامة تفطر الصائم أم لا؟

اختلف العلماء هل الحجامة تفطر أم لا؟

القول الأول: أنها تفطر.

وهو قول علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان [ذكر ذلك في الفتح].

وعلق الشافعي القول به على صحة الحديث.

أ- لحديث الباب (أفطر الحاجم والمحجوم).

ب- أن أحاديث الفطر بالحجامة للصائم أشهر وأكثر وأقوى من الترخيص بها.

ج-أن أحاديث الفطر بالحجامة قولية وحديث احتجام النبي صلى الله عليه وسلم فعل والقول مقدم على الفعل.

القول الثاني: أنها لا تفطر.

وهو مذهب الجمهور.

أ-لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم). رواه البخاري

ب-ما رواه أبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه) قال الحافظ: إسناده صحيح.

ج-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال (رخص للصائم بالحجامة والقبلة) رواه ابن خزيمة، وسنده صحيح إلى أبي سعيد وله حكم الرفع.

ص: 210

•‌

‌ بماذا أجاب هؤلاء عن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم)؟

أجابوا:

أ- أنه منسوخ.

قال ابن حجر في الفتح: (قال ابن عبد البر وغيره: فيه دليل على أن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ، لأنه جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع، وسبق ذلك الشافعي.

وقال ابن حزم: صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم)، بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً.

ب- لأنهما كانا يغتابان.

لما أخرجه الطحاوي والدارمي عن ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال (أفطر الحاجم والمحجوم) لأنهما كانا يغتابان.

ورد هذا: بأن في إسناده يزيد ابن معاوية وهو متروك، وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل.

ج-وأجاب بعضهم بأن المراد (أفطر الحاجم والمحجوم) سيفطران باعتبار ما يؤول إليه الأمر.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا التأويل.

وقال البغوي: معنى (أفطر الحاجم والمحجوم) أي تعرضا للإفطار.

قال الشوكاني: وهذا أيضاً جواب متكلف.

ومن أحسن ما يستدل به على أن الحجامة لا تفطر: حديث ابن عباس السابق.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز حلق المحرِم لشيء من رأسه.

- أن المحرم إذا احتجم وأزال شعراً من رأسه فإنه لا فدية عليه.

- أن الفدية إنما تجب على المحرِم إذا أزال من شعره ما تحصل به إماطة الأذى.

ص: 211

667 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

قَالَ اَلتِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ.

===

حديث الباب ضعيف ولا يصح.

قال ابن القيم: روي عنه أنه اكتحل وهو صائم ولا يصح.

•‌

‌ ما حكم الكحل للصائم؟

وردت أحاديث تجيز الاكتحال للصائم، وأحاديث تمنع ذلك وكلها لا تصح.

الأحاديث التي تثبت ذلك:

أ-حديث الباب ولا يصح.

ب-حديث ابن عمر (أنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد). رواه الترمذي.

ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء.

والأحاديث التي تمنع الكحل:

حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد عند النوم وقال: ليتقه الصائم). رواه أبو داود

قال أحمد: حديث منكر.

وقال ابن القيم: لا يصح.

فذهب بعض العلماء إلى أن الكحل يفسد الصوم.

لحديث (ليتقه الصائم).

ونسبه الشوكاني لابن شبرمة وابن أبي ليلى.

وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يفطر.

أ-أن أحاديث المنع ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها.

ب-البراءة الأصلية، ولا تنتقل عنها إلا بدليل، وليس في الباب ما يصلح للنقل [قاله الشوكاني].

ج-أن العين ليست منفذاً للأكل كالأنف.

وهذا القول هو الراجح، وهو قول عامة التابعين، فقد روى أبو داود في سننه عن الأعمش ـ وهو أحد أئمة التابعين ـ أنه قال (ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم).

ص: 212

668 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اَللَّهُ وَسَقَاهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

669 -

وَلِلْحَاكِمِ (مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ) وَهُوَ صَحِيحٌ.

===

(مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ) وجاء عند البخاري (من أكل ناسياً وهو صائم)، ولأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه:(جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم) وهذا الرجل هو أبو هريرة راوي الحديث. أخرجه الدار قطني

(فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) وفي رواية (فلا يفطر).

(فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اَللَّهُ وَسَقَاهُ) في رواية الترمذي (فإنما هو رزق رزقه الله)، وللدار قطني (فإنما هو رزق ساقه الله إليه).

•‌

‌ ما حكم من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم؟

حديث الباب يدل على أن من شرب أو أكل ناسياً لا يفسد صومه ولا كفارة.

وهذا مذهب جمهور العلماء، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد.

أ-لحديث الباب.

ب-ولرواية الحاكم (فلا قضاء عليه ولا كفارة).

ج-وهو الموافِقُ لقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) وقوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنا) وقد ثَبَتَ في الصحيح أنَّ الله أجاب هذا الدعاء.

د-وقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الله وَضَعَ عن أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه).

وذهب بعض العلماء إلى أنه يفسد الصوم ويجب القضاء.

وهو مذهب المالكية.

واعتذروا عن العمل بحديث الباب بأمور:

أ-لم يرد في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع، ويرد هذا:

قوله (وهو صائم) نكرةٌ في سياق الشرط فَتَعُمّ كُلَّ صائم.

ولرواية الحاكم (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء ولا كفارة).

ب-ورده بعضهم بكونه خبر واحد خالف القاعدة.

قال الشوكاني: وهو اعتذار باطل والحديث قاعدة مستقلة في الصيام، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل، ولرد ما شاء ما شاء.

•‌

‌ هل هناك فرق بين كثير الأكل وقليله؟

أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيره.

لما أخرجه أحمد عن أم إسحاق: (أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعتِ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك).

قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره.

ص: 213

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (ناسياً)؟

نستفيد: أن الأكل والشرب من المتعمد الذاكر يفطر الصائم.

قال ابن قدامة: الأكل والشرب، وهذا لا خلاف أن من تعمده يفطر ويجب عليه الإمساك والقضاء، لقوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).

وأجمع العلماء على أن الفطر بالأكل والشرب. (المغني).

•‌

‌ هل يجب على من رأى من يأكل ويشرب في نهار رمضان أن يذكره أم لا؟ قولان للعلماء:

القول الأول: أنه يجب تذكيره.

واختار هذا القول الشيخ ابن باز وابن عثيمين.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). رواه مسلم

القول الثاني: أنه لا يجب تذكيره.

لأنك تعلم علم اليقين أنه أكل أو شرب نسياناً ولم يرتكب حينئذٍ منكراً، وإنما أطعمه الله وسقاه.

والأول أرجح.

•‌

‌ ما حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يفسد صومه.

وهذا مذهب الحنفية والشافعية.

قال النووي: وأما المجامع ناسياً فلا يفطر ولا كفارة عليه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، ودليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه.

واختار هذا القول ابن تيمية.

أ- لرواية (من أفطر في رمضان ناسياً

) لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في حديث الباب لكونهما الأغلب وقوعاً.

قال ابن دقيق العيد: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب، لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي عموماً.

ب-ولعموم قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).

ج - ولقوله (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).

د- قال النووي: ودليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه.

ص: 214

القول الثاني: أن عليه القضاء والكفارة.

وهو قول الحنابلة.

أ- لحديث المجامع في نهار رمضان - وسيأتي الحديث إن شاء الله - حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منه، هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول.

والراجح القول الأول.

والجواب عن دليل القول الثاني:

أن المجامع الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم كان متعمداً، ويدل لذلك الروايات، فقد جاء في بعضها (هلكت) وفي بعضها (احترقت).

قال ابن حجر: فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- في الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم، ورفع المشقة والحرج عنهم.

- أن عمل الناسي لا ينسب إليه شرعاً.

فائدة: قال ابن حجر: ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: (أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائماً فنسيت فطعمت، قال: لا بأس، قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت، قال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، ثم قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام).

ص: 215

670 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ ذَرَعَهُ اَلْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ اَلْقَضَاءُ). رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ

وَأَعَلَّهُ أَحْمَدُ.

وَقَوَّاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ.

===

(مَنْ ذَرَعَهُ) أي: غلبه.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث اختلف فيه العلماء:

أنكره أحمد، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء، وضعفه البخاري في صحيحه بما رواه معلقاً بسند صحيح عن أبي هريرة موقوفاً أنه قال:(من قاء فلا فطر عليه وإنما يخرج ولا يولج).

وصحح الحديث الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وصححه الألباني.

•‌

‌ ما هو القيء؟

التقيؤ: هو خروج الطعام ونحوه من الجوف إلى ظاهر البدن، قال في لسان العرب: هو استِخْراجُ ما في الجَوْفِ عامداً.

•‌

‌ ما معنى (وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ اَلْقَضَاء)؟

أي: استدعى القيء وطلب خروجه تعمداً.

واستدعاء القيء له طرق: النظر، والشم، والعصر، والجذب، وربما نقول السمع ـ أيضاً.

أما النظر: فكأن ينظر الإنسان إلى شيءٍ كريهٍ فتتقزز نفسه ثم يقيء.

وأما الشم: فكأن يشم رائحة كريهة فيقيء.

وأما العصر: فكأن يعصر بطنه عصراً شديداً إلى فوق ثم يقيء.

وأما الجذب: بأن يدخل أصبعه في فمه حتى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء. (الشرح الممتع).

•‌

‌ ما حكم القيء عمداً في نهار رمضان.

استدل بالحديث من قال إن القيء عمداً يفسد الصوم وعليه القضاء إذا كان الصوم واجباً.

وقد حكاه ابن المنذر بالإجماع.

وقال ابن مسعود وعكرمة وربيعة والقاسم: إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالباً أو مستخرجاً ما لم يرجع فيه القيء باختياره. (نقله الشوكاني عنهم).

واستدلوا:

أ-أن الحديث لا يصح، ولم يثبت دليل أن القيء مفطر، ولو كان مفطراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً.

ب-واستدلوا بحديث (ثلاث لا يفطرن: القيء، والحجامة، والاحتلام). وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وغيره

•‌

‌ هل هناك فرق بين القيء القليل والكثير؟

لا فرق في القيء بين القليل والكثير على الصحيح، فلو تعمد القيء، وخرج شيء قليل أفطر، قال في الفروع: وإن استقاء فقاء أي شيء كان أفطر.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- رحمة الله بعباده حيث رفع المؤاخذة عما غلب عليهم.

- أن الإكراه على الفطر لا يحصل به الفطر.

ص: 216

671 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ اَلنَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ اَلنَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ).

وَفِي لَفْظٍ: (فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ اَلصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ اَلْعَصْرِ، فَشَرِبَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

672 -

وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى اَلصِّيَامِ فِي اَلسَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اَللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ

673 -

وَأَصْلُهُ فِي " اَلْمُتَّفَقِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ -

===

(خَرَجَ عَامَ اَلْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ) أي: سنة غزوة الفتح.

(حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ) بضم الكاف، وهو اسم واد أمام عسفان، قال ابن الأثير: كُراع الغميم: هو اسم موضع بين مكة والمدينة.

جاء في رواية: (حتى بلغ الكديد) بفتح الكاف وكسر الدال، مكان معروف، وهو بين عسفان وقُديْد، يعني بضم القاف على التصغير.

(فَصَامَ اَلنَّاسُ) أي: اقتداءً به صلى الله عليه وسلم حيث صام.

(ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ) جاء في رواية عن ابن عباس (ثم دعا بماء فشرب نهاراً ليراه الناس).

(فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ) أي: بعد أن أفطر.

(إِنَّ بَعْضَ اَلنَّاسِ قَدْ صَامَ) ظناً منهم أن الفطر رخصة، ورأوا أن لهم قوة على الصوم.

•‌

‌ لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق من لم يفطر حين أفطر صلى الله عليه وسلم (أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ)؟

قال الإمام ابن حبان: إنما أطلق عليهم هذه اللفظة بتركهم الأمر الذي أمرهم به، وهو الإفطار، لا أنهم صاروا عُصاة بصومهم في السفر.

وقال النووي: وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ، أَوْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْفِطْرِ أَمْرًا جَازِمًا لِمَصْلَحَةِ بَيَان جَوَازه، فَخَالَفُوا الْوَاجِب، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُون الصَّائِم الْيَوْم فِي السَّفَر عَاصِيًا إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ، وَيُؤَيِّد التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة:(إِنَّ النَّاس قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ).

•‌

‌ ما فائدة رواية (فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ اَلصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا ....

فائدتها: بيان سبب فطر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما أفطر من أجل مشقة الصوم على الناس الذين معه.

•‌

‌ لماذا ذكر المصنف رحمه الله حديث حمزة بن عمرو؟

ذكره ليستدل به على جواز الصوم في السفر.

وأصرح منه ما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال: (يا رسول الله، إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر ـ يعني رمضان ـ وأنا أجد القوة، وأجدني أهون علي من أن أخره فيكون ديناً علي، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة).

•‌

‌ ما حكم الفطر في رمضان للمسافر؟

جائز بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

ومن السنة أحاديث كثيرة، ومنها:

أ-حديث الباب - حديث جابر -.

ص: 217

•‌

‌ ما حكم الصوم للمسافر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: جائز.

قال ابن قدامة: وهذا قول أكثر العلماء.

وقال النووي: وهو قول جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى لأحاديث الباب وغيرها كثيرة.

أ-لحديث أنس قال (كنا نسافر فلا يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) متفق عليه.

ب- ولحديث أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ) متفق عليه.

ج - ولحديث عائشة قالت (سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر، فقال: إن شئتَ فصُم، وإن شئت فأفطر) متفق عليه.

القول الثاني: أن صيام المسافر لا يصح ولا يجزئه.

قال ابن حجر: فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر، وهذا قول بعض أهل الظاهر ومنهم ابن حزم.

أ- لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

قالوا: ظاهره أن عليه عدة، أي فالواجب عدة.

ب-واستدلوا بحديث الباب (فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ اَلنَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: "أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ).

ج- ولحديث جَابِر قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) متفق عليه.

قالوا: ومقابل البر الإثم، وإذا كان آثماً بصومه لم يجزئه.

والصحيح مذهب الجمهور وهو جواز الصوم للمسافر في نهار رمضان.

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة الظاهرية؟

أولاً: بالنسبة للآية، يقال: بأن هذا الفهم غير صحيح، إذ أن الإفطار مضمر في الآية، وعليه إجماع أهل التفسير، وتقديره:

فمن كان منكم مريضاً أو على سفر (فأفطر) فعدة من أيام أخر. واستدلوا:

ب-وحديث أنس قال (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم). متفق عليه

ثانياً: وأما قوله صلى الله عليه وسلم (أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ).

بأن هذا الاستدلال واقع في غير محله، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حق من شق عليه الصوم، ولا شك أن الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل.

ثالثاً: وأما حديث جابر (ليس من البر الصيام في السفر) فالجواب عنه: أنه خرج على سبب، فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري حيث ترجم [باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصوم في السفر].

قال ابن دقيق العيد: أخذ من هذا: أنه كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات ويكون قوله (ليس من البر الصيام في السفر) منزلاً على مثل هذه الحالة.

ص: 218

•‌

‌ اختلف الجمهور القائلون بجواز الصوم في السفر أيهما أفضل الصوم أم الفطر؟ اذكر الخلاف؟

القول الأول: الفطر أفضل.

وهو قول أحمد وإسحاق.

أ-عملاً بالرخصة، ففي الحديث (إن الله يحب أن تؤتى رخصه). رواه ابن خزيمة.

ب-ولحديث جَابِر قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) متفق عليه.

ج-ولحديث الباب (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه).

القول الثاني: الصوم أفضل لمن قوي عليه من غير مشقة.

ونسبه ابن حجر إلى الجمهور. واستدلوا:

أ- لحديث أبي الدرداء قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة). متفق عليه

ب-لأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

ج-أسرع في إبراء الذمة.

د-أسهل على المكلف.

هـ-يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان.

القول الثالث: هو مخير مطلقاً.

القول الرابع: أفضلهما أيسرهما، واختاره ابن المنذر.

لقوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ).

والراجح قول الجمهور.

لكن إذا كان هناك مشقة محتملة فالأفضل الفطر.

لحديث جَابِر قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: (عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ).

وإذا كان الصوم يشق عليه مشقة غير محتملة فهنا يجب الفطر.

لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

وأما إذا كان لا يشق عليه فالأفضل الصوم كما سبق من مذهب الجمهور.

الخلاصة: حالات صوم المسافر (3) وهي كما يلي:

الحالة الأولى: إذا كان يشق عليه مشقة محتملة فالأفضل الفطر. (يكره صومه).

لأن في ذلك عدولاً عن رخصة الله تعالى، والله يحب أن تؤتى رخصه.

الحالة الثانية: إذا كان يشق عليه مشقة غير محتملة فهذا يجب عليه الفطر (يحرم صومه).

لحديث جابر - السابق - (ليس من البر الصيام في السفر).

الحالة الثالثة: إذا لم يكن عليه مشقة فالأفضل الصوم كما سبق.

ص: 219

•‌

‌ ما حكم من نوى الصوم وهو مسافر، ثم أراد أن يفطر، فهل يجوز له ذلك؟

نعم يجوز له ذلك.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لحديث جابر (حديث الباب).

عَنِ ابْنِ عَبَّاس. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِى رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّبِعُونَ الأَحْدَثَ فَالأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ) رواه مسلم.

•‌

‌ ما حكم لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار، فهل له الفطر في ذلك النهار أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا يفطر ذلك اليوم.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي.

القول الثاني: له أن يفطر.

وهذا قول أحمد وإسحاق.

أ- لحديث الباب.

ب- عن ابن عباس (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكَديد أفطر، فأفطر الناس) متفق عليه.

وجه الاستدلال من الحديثين السابقين: أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي سافر فيه.

قال القرطبي في تفسيره: وهذا نص في الباب، فسقط ما خالفه.

واستدلَّ الشوكاني على ذلك بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ج- بالقياس: أنّ من أصبح صائمًا ثم مرض فإنه يباح له الفطر، فكذلك السفر.

قال الخطابي: وشبَّهوه بمن أصبح صائمًا ثم مرض في يوم فله أن يفطر من أجل المرض، قالوا: وكذلك من أصبح صائمًا ثم سافر، لأنّ كلَّ واحد من الأمرين سبب للرخصة حدث بعد مُضِيِّ شيء من النهار.

•‌

‌ بماذا أجاب الجمهور عن هذه الأحاديث؟

قال النووي: وقد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهَّم أنّ الكَديد وكُراع الغميم قريب من المدينة، وأنّ قوله (فصام حتى بلغ الكديد .. ) و ( .. كراع الغميم) كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائمًا فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر في نهاره، واستدلّ به هذا القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائمًا له أن يُفطِر في يومه، ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السَّفر، واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة؛ لأنّ الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة.

•‌

‌ متى يجوز للمسافر أن يفطر؟

المسافر لا يجوز له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره، فلا يجوز له الفطر قبل خروجه لأنه مقيم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز الخروج للقتال في رمضان.

- يسر الشريعة الإسلامية.

- أنه ينبغي للإمام والعالم والقدوة أن يراعي أحوال الناس.

- توكيد القول بالفعل.

- الإنكار على من خالف السنة ولو كان مجتهداً.

ص: 220

674 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: - رُخِّصَ لِلشَّيْخِ اَلْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ - رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ.

===

•‌

‌ ما صحة هذا الأثر؟

هذا الأثر رواه الدارقطني من طريق خالد الحَذَّاء عن عكرمة عن ابن عباس.

قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري.

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذا الأثر؟

أن الشيخ الهرم الذي لا يستطيع الصيام، فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه.

وقد سئل الشيخ ابن باز عن امرأة كبيرة السن ولا تطيق الصوم فماذا تفعل؟

عليها أن تطعم مسكيناً عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد من تمر أو أرز أو غيرهما، ومقداره بالوزن كيلو ونصف على سبيل التقريب. كما أفتى بذلك جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عباس رضي الله عنه وعنهم فإن كانت فقيرة لا تستطيع الإطعام فلا شيء عليها وهذه الكفارة يجوز دفعها لواحد أو أكثر في أول الشهر أو وسطه أو آخره، وبالله التوفيق اهـ.

وقال ابن كثير: فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر، ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما: لا يجب عليه إطعام، لأنه ضعيف عنه لسنه، فلم يجب عليه فدية كالصبي، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي - وهو قول مالك وأيده ابن حزم.

والثاني: وهو الصحيح، وعليه أكثر العلماء، أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف، على قراءة من قرأ:(وعلى الذين يطيقونه) - لعلها يطوقونه - أي يتجشمونه. كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري.

وقال ابن قدامة: الشَّيْخُ الْكَبِير وَالْعَجُوز إذَا كَانَ يُجْهِدُهُمَا الصَّوْمُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا

فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الإِطْعَامِ أَيْضًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَ (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا)

وَالْمَرِيضُ الَّذِي لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، يُفْطِرُ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا; لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّيْخ.

وفي الموسوعة الفقهية: اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُصَارُ إلَى الْفِدْيَةِ فِي الصِّيَامِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ إمْكَانِ قَضَاءِ الأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا لِشَيْخُوخَةٍ لا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الصِّيَامِ، أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لقوله تعالى:(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) وَالْمُرَادُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِم الصِّيَامُ.

•‌

‌ ما الدليل على أنه إذا تعذر الصوم عُدل إلى الإطعام؟

الدليل: أن الله تعالى لما فرض الصيام أولاً جعل الإنسان مخير بين الصوم أو الإطعام، كما قال تعالى (

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فدل على أن الإطعام معادل للصوم، فإذا تعذر الصوم رجع إلى معادله وهو الإطعام.

ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه.

•‌

‌ ما كيفية الإطعام؟

أ-أن يدعو مساكين بعدد الأيام في آخر الشهر للغداء إن كان بعد رمضان أو على العشاء فيعشيهم.

ب-أو أن يوزع طعاماً ويعتني بطبخه ويجعل معه أدم.

ويجب أن يطعم عن كل يوم مسكيناً لا أن يطعم طعام ثلاثين مسكيناً.

فلو قال: سأخرج طعاماً يكفي ثلاثين مسكيناً لستة فقراء، لا يجزئ.

•‌

‌ ما حكم الشيخ الكبير الهرم الذي سقط تمييزه؟

ليس عليه صيام ولا قضاء، لسقوط التكليف عنه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الصوم لا يجب إلا على القادر.

- يلحق بالشيخ الكبير كل من كان عجزه مستمراً لا يرجى زواله كالمريض مرضاً لا يرجى برؤه، لاشتراكهما في العلة (وهي عدم الإطاقة على الصوم).

ص: 221

675 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ: " وَمَا أَهْلَكَكَ؟ " قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى اِمْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: " هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: " تَصَدَّقْ بِهَذَا "، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) رَوَاهُ اَلسَّبْعَةُ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

===

(جَاءَ رَجُلٌ) قيل: هو سلمة بن صخر. قال الحافظ: ولا يصح ذلك.

(هلكت) وفي حديث عائشة: (احترقت)، والمعنى: وقعت في الإثم الذي هو سبب في هلاكي، وهذا يدل على أن هذا الرجل كان عالماً عامداً.

(وقعت على امرأتي) وفي حديث عائشة: (وطئت امرأتي) وفي رواية للبخاري (وقعت على امرأتي وأنا صائم).

(تعتق رقبة) العتق: الخلوص، وهو تخليص الرقبة من الرق، وقوله (رقبة) المراد بها النفس كاملة.

(أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟) أي: متواليين.

(ثُمَّ جَلَسَ) أي: الرجل، وفي رواية البخاري (فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم.

(بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ) بفتح العين والراء هو الزِّنْبيل.

(فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا) وفي رواية البخاري (خذ هذا فتصدق به).

(فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) أي وسط لا بتيها، والمدينة يحيط بها لابتان، أي حرتان [الحرة الشرقية والحرّة الغربية] والحرة: أرض تعلوها أرض سود.

(حَتَّى بَدَتْ) أي: ظهرت.

(أَنْيَابُهُ) هي السن التي خلف الرباعية.

•‌

‌ ما حكم من جامع في الفرج وهو صائم؟

من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامداً.

قال ابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم خلافاً.

•‌

‌ هل الوطء للصائم في نهار رمضان وهو صائم يعتبر كبيرة أم صغيرة؟

يعتبر من الكبائر.

لقوله (هلكت) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على أن فعله هذا مهلك.

•‌

‌ اذكر ما الذي يترتب على من جامع في نهار رمضان وهو صائم؟

يترتب عليه عدة أمور:

أولاً: الإثم.

ثانياً: فساد الصوم.

ثالثاً: وجوب الإمساك بقية يومه.

رابعاً: وجوب قضاء هذا اليوم. (وهذا مذهب جماهير العلماء).

خامساً: وجوب الكفارة المغلظة.

ص: 222

•‌

‌ ما هي كفارة من جامع في نهار رمضان وهو صائم، وهل هي على الترتيب أم التخيير؟

كفارة الجماع في نهار رمضان: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

وهي على الترتيب، وهذا مذهب جمهور العلماء.

•‌

‌ هل تجب الكفارة لو جامع وهو صائم في قضاء رمضان؟

لا تجب الكفارة في القضاء، وإنما تجب الكفارة إذا جامع في نهار رمضان فقط.

فلو أن رجلاً جامع زوجته وهو يصوم رمضان قضاءً، فلا كفارة عليه، وذلك لأن وجوب الكفارة من أجل انتهاك الصوم في زمن محترم، وهو شهر رمضان.

قال ابن قدامة: ولا تجب الكفارة في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء.

هو حرام الجماع في قضاء رمضان لكن لا يوجب الكفارة.

•‌

‌ ما الحكم لو جامع زوجته في نهار رمضان لكن الصوم غير واجب عليه؟

ليس عليه كفارة.

مثل: أن يكون هو وزوجته مسافرين وصائمين في السفر، ثم جامعها في نهار رمضان، فليس عليه كفارة، لأنه يباح له الفطر.

•‌

‌ ما الجماع الموجب للكفارة؟

الجماع الموجب للكفارة هو إيلاج الذكر في الفرج قبلاً كان أو دبراً، فأما الإنزال بالمباشرة دون الفرج فإنه يفطر الصائم ويلحقه الإثم، ولكنه لا يوجب الكفارة.

الخلاصة: فتجب الكفارة بشروط:

أولاً: أن يكون هناك جماع، وهو الإيلاج، فإن حصل مباشرة أو تقبيل أو ضم ولو مع الإنزال فلا تجب الكفارة.

ثانياً: أن يكون الجماع في صيام رمضان، فإن جامع في غير صيام رمضان فلا تجب الكفارة (وقد تقدم).

ثالثاً: أن يكون الصوم أداءً، فلو جامع في صيام رمضان قضاء، فلا تجب الكفارة.

رابعاً: أن يكون الصوم واجباً عليه، فلو كان مسافراً وهو صائم في نهار رمضان وجامع فلا تجب عليه الكفارة، لأن المسافر يحل له الفطر.

•‌

‌ هل على المرأة كفارة أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ليس عليها كفارة.

وهو قول الشافعية.

أ-قال ابن حجر: واستدلوا بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة.

ب-وكذا قوله في المراجعة (هل تستطيع) و (هل تجد) وغير ذلك

).

ج- واستدل الشافعية بسكوته صلى الله عليه وسلم عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة. (الفتح).

ص: 223

قال الماوردي: والدليل في هذا الخبر من وجهين:

أحدهما: أنّ الأعرابي إنما سأله عن فعل شارك فيه زوجته مع جهلها بحكمه، فاقتضى أن يكون جوابه حكمًا لجميع الحادثة.

والثاني: أنه لَمَّا كان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولم يُنقَل عنه أنه أمر المرأة بالكفارة ولا راسلها بإخراجها مع جهلها بالحكم فيها دلَّ على أنّ الكفارة لا تلزمها.

وقال ابن دقيق العيد: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها مع الحاجة إلى الإعلام، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

القول الثاني: عليها الكفارة.

وهو مذهب الجمهور.

لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما خص بدليل.

قال ابن حجر: ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين.

وهذا القول هو الصحيح أن على المرأة الكفارة إلا إذا كانت مكرهة فلا شيء عليها.

وأما الجواب عن قول أصحاب القول الأول (وقت الحاجة):

قال الحافظ ابن حجر: وأجيب ممتنع الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف.

•‌

‌ هل تجب الكفارة على من جامع ناسياً؟

اختلف العلماء في المجامع ناسياً: [وقد سبقت المسألة في الحديث الماضي].

وقد استدل من أوجبها على الناسي:

(أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك استفساره عن جماعه، هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزله منزلة العموم في القول).

والجواب عن هذا:

أنه تبين حاله أنه كان متعمداً، لأنه قال (هلكت، واحترقت) فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم.

فالراجح كما سبق أن المجامع ناسياً لا شيء عليه.

•‌

‌ هل يجب على المجامع قضاء اليوم أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يجب عليه القضاء.

وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالقضاء.

القول الثاني: يجب عليه قضاء هذا اليوم.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

أ- عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء).

وجه الاستدلال: أن من استقاء عامداً وجب عليه القضاء بنص هذا الحديث، فيكون حكم المجامع في وجوب القضاء مثل حكمه.

ب- واستدلوا أنه جاء عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع بالقضاء فقال له (صم يوماً مكانه) وهذه الزيادة مختلف فيها، فقد ضعفها ابن تيمية، وممن أثبتها الحافظ ابن حجر، وبين أن لها أصلاً كما في الفتح.

ج-واستدلوا: أن الصوم إذا شغلت به الذمة لم تبرأ إلا بالأداء، فإذا فات وقته وجب القضاء.

د-واستدلوا بحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (فاقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء) رواه البخاري.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 224

•‌

‌ هل تسقط الكفارة بالعجز والإعسار أم لا؟

اختلف العلماء: هل تسقط الكفارة بالعجز والإعسار أم لا؟ على قولين:

القول الأول: تسقط بالعجز والإعسار.

وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصحيح من المذهب، وقول الأوزاعي.

أ-لحديث الباب. حيث قال صلى الله عليه وسلم (أطعمه أهلك).

وجه الاستدلال: قال ابن قدامة - في الاستدلال لهذا القول: بدليل أنّ الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر وأخبره بحاجته إليه قال (أطعمه أهلك)، ولم يأمر بكفارة أخرى.

وقال النووي: واحتج لهذا القول بأنّ حديث هذا المجامع ظاهر بأنه لم يستقرَّ في ذمته شيء؛ لأنه أخبر بعجزه ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الكفارة ثابتة في ذمته، بل أذن له في إطعام عياله.

ب-القياس على زكاة الفطر، فإنه إذا عُدِمَهَا وقت الوجوب ثم وجدها فيما بعد؛ فإنه لا تجب عليه، لتعلقها بطهرة الصوم.

قال ابن حجر: ويتأيد ذلك - يعني الاستدلال بحديث الأعرابي السابق - بصدقة الفطر، حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها، وهو هلال الفطر.

ج - لعموم قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).

القول الثاني: لا تسقط بالعجز بل تبقى في ذمته.

والظاهر من المذهب، والمالكية، والقول الثاني للشافعي، وهو الصحيح عند الشافعية، ورواية عن أحمد، وهو اختيار الخطابي.

أ- لحديث الباب.

ووجه الاستدلال: أنّ الأعرابي لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجزه عن أجناس الكفارة لم يبيِّن له سقوطها عنه، بل أمر له بما يكفر به من التمر، فدلَّ على ثبوتها في ذمته وإن عجز عنها.

قال ابن تيمية - عند ذكره لأدلة هذا القول -: ولأنّ الأعرابي لو سقطت الكفارة عنه لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير بعد أن أُتِىَ بالعَرَق، فإنه حين وجوب الكفارة كان عاجزاً.

وقال النووي: وأمّا الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة، بل فيه دليل لاستقرارها؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة، فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمره بإخراجه، فدلَّ على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه كان محتاجًا ومضطرًّا إلى الإنفاق على عياله في الحال، والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وإطعام عياله، وبقيت الكفارة في ذمته.

ب- قياسًا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات.

وتُعُقب: بما قاله ابن قدامة: لا يصح القياس على سائر الكفارات؛ لأنه اطِّراح للنص بالقياس، والنص أولى.

والراجح القول الأول.

ص: 225

•‌

‌ اذكر الحكم فيمن كرر الجماع في نهار رمضان؟

إن كرر الجماع فله أحوال:

أ-إن كرر الجماع في يوم واحد، ولم يكفر، فكفارة واحدة، لأن الفعل واحد واليوم واحد.

قال ابن قدامة: إذا جامع ثانياً قبل التكفير عن الأول، فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه بغير خلاف بين أهل العلم.

ب-وإن جامع في يوم واحد مرتين، وقد كان كفّر عن الجماع الأول:

فقيل: يلزمه كفارة ثانية.

قالوا: لأن حرمة الزمن لا تزال باقية في حقه، لأنه يجب عليه الإمساك، فانتهكها بهذا الجماع.

وقيل: لا شيء عليه.

قال ابن قدامة: وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا شيء عليه بذلك الجماع.

لأن الوطء في الثانية لم يصادفه صائماً، لأن صومه فسد في الجماع الأول.

ج-إذا جامع في يومين أو أكثر، بأن جامع في: 1 رمضان، وفي: 2 رمضان، وفي 3 رمضان، فكم كفارة يلزمه؟

إن كان جامع في يومين وكان قد كفر عن اليوم الأول، فإنه يلزمه أن يكفر عن اليوم الثاني.

قال ابن قدامة: بغير خلاف نعلمه.

وإن كان لم يكفّر:

قيل: يلزمه 3 كفارات.

قال ابن قدامة: وهو قول مالك، والليث والشافعي، وابن المنذر.

قالوا: لأن كل يوم عبادة منفردة.

وقيل: لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول.

لأنها كفارات من جنس واحد، فاكتفي فيها بكفارة واحدة، كما لو أحدث بأحداث متنوعة، فإنه يجزئه وضوء واحد.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ قوله (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم

) ما سبب ضحك النبي صلى الله عليه وسلم

قيل: إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل، حيث جاء خائفاً على نفسه، راغباً في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة.

وقيل: ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه، وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. [الفتح: 4/ 202]

•‌

‌ هل العلم بالعقوبة شرط في إسقاط الكفارة؟

لا، لا يشترط العلم بالعقوبة لإسقاط العقوبة، بل يكفي أن يعلم أنها حرام.

فهذا الرجل لم يدر ما ذا يجب عليه، لكن يدري أن الجماع حرام، وعلمنا ذلك من قوله (هلكت).

ويقاس على ذلك ما لو زنى رجل وهو يعلم أن الزنى حرام، ولكنه يجهل الحد الواجب فيه، لأن العلم بالعقوبة ليس بشرط.

ص: 226

•‌

‌ اذكر مباحث عتق الرقبة؟

- يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-حملاً للمطلق هنا على المقيد في آية القتل (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

ب-ولحديث الجارية (قال لها رسول الله: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أنه علل جواز إعتاقها عن الرقبة بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة.

- لا يكون مستطيعاً: بأن لا يكون هناك عبيد، أو لا يملك ثمنها.

•‌

‌ اذكر مباحث صيام الشهرين المتتابعين؟

- يجب التتابع في صيامهما، فلو أفطر بينهما يوماً واحداً من غير عذر استأنف من جديد.

- فإن تخلل هذا القضاء شهر رمضان، فإنه يصوم رمضان ثم يكمل من اليوم الثاني من شوال.

- إن تخلله فطر واجب كعيد الفطر أو الأضحى أو أيام التشريق لم ينقطع.

- إن أفطر بعذر يبيح الفطر فإن التتابع لا ينقطع، أما إذا تحيل بالسفر على الفطر فإن التتابع ينقطع.

فالخلاصة: أن التتابع في الصيام لا ينقطع في ثلاث مسائل:

إذا انقطع التتابع بصوم واجب كرمضان.

وإذا انقطع لفطر واجب كالعيدين وأيام التشريق.

وإذا انقطع التتابع لعذر يبيح الفطر في رمضان.

- إن أفطر لصوم مستحب انقطع التتابع.

المذهب: المعتبر بالشهرين الأهلة إذا ابتدأ من أول الشهر سواء كان 30 يوماً أو كان 29 يوماً.

- وإن ابتدأ من أثناء الشهر فالمعتبر العدد.

مثال: رجل صام من (1) محرم، وكان محرم (29) يوماً ينتهي الشهر، وكان مثلاً صفر (29) يوماً فإنه يجزي ويكون صام (58) يوماً.

لكن إن صام من أثناء الشهر فالمعتبر العدد، فلو صام من اليوم (11) من محرم، فإنه ينقضي الشهر الأول (11) من صفر، ثم يشرع في (12) صفر وينقضي الشهر ب (12) من ربيع الأول. فيكون قد صام (60) يوماً.

والصحيح أن المعتبر بالشهرين الأهلة مطلقاً سواء صام من أول الشهر أو من أثنائه.

•‌

‌ اذكر مباحث الإطعام؟

- لا يجوز أن يطعم إلا إذا كان عاجزاً عن الصيام لمرض لا يرجى برؤه.

- يجزاء كل شيء يكون قوتاً للبلد، لأن الله تعالى قال (إطعام ستين مسكيناً) ولم يخصص من أي نوع، فيرجع ذلك إلى ما جرى به العرف. وهذا اختيار ابن تيمية.

- الواجب إطعام ستين مسكيناً لا يجزاء أقل من ذلك، فمن أطعم واحداً [60] يوماً لم يكن أطعم إلا واحداً فلم يتمثل الأمر.

ص: 227

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الإنسان مؤتمن على عبادته البدنية والمالية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على عجزه عن الكفارة بأنواعها.

- فضيلة العتق، لأنه بدأ به أولاً، ولأنه كفارة عن الذنب العظيم.

- اشتراط التتابع في صيام الشهرين، لقوله (متتابعين).

- أنه لا بد من إطعام ستين مسكيناً كما تقدم.

- جواز ذكر الإنسان حاله من غنىً أو فقر أو مرض أو حاجة، لا على وجه الشكاية إلى الخلق.

- الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم، والتألف على الدين والندم على المعصية واستشعار الخوف.

- جواز الضحك عند وجود سببه.

- التعاون على العبادة، والسعي في إخلاص المسلم.

- التكنية عما يستحيى من ذكره.

ص: 228

676 -

677 - وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

زَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: ولَا يَقْضِي.

===

(يُصْبِحُ) أي: يطلع عليه الفجر، وفي رواية (كان يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم).

(جُنُبًا) الجنب من أصابته جنابة، والجنابة كل ما أوجب غسلاً من إنزال أو جماع.

(مِنْ جِمَاعٍ) أي: بسبب الجماع، وهذا بيان للواقع.

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث في الصحيحين؟

لفظ البخاري: عن عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ).

وأما لفظ مسلم: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ).

•‌

‌ ما صحة صوم من طلع عليه الفجر وعليه جنابة؟

صومه صحيح.

لحديث الباب، فهو يدل على أن من أصبح جنباً فصومه صحيح ولا قضاء عليه، من غير فرق بين أن تكون الجنابة عن جماع أو غيره.

وإليه ذهب الجمهور.

وجزم النووي بأنه استقر الإجماع على ذلك، فقال: أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام، أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين.

ثم قال رحمه الله: وحكي عن الحسن بن صالح إبطاله، وكان عليه أبو هريرة، والصحيح أنه رجع عنه كما صرح به هنا في رواية مسلم، وقيل: لم يرجع عنه وليس بشيء.

وحكي عن الحسن البصري والنخعي أنه يجزئه في صوم التطوع دون الفرض.

وحكي عن سالم بن عبد الله، والحسن البصري والحسن بن صالح، يصومه ويقضيه، ثم ارتفع هذا الخلاف، وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته.

•‌

‌ هل مثل الجنب الحائض والنفساء؟

نعم، مثل الجنب الحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الفجر، ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما، فإنه يصح صومهما ويجب عليهما إتمامه، سواء تركت الغسل عمداً أو سهواً، بعذر أو بغير عذر كالجنب.

قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا نعلم صح عنه أم لا.

•‌

‌ ما الحكم من طلع عليه الفجر وهو يجامع؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن عليه الكفارة والقضاء.

وهذا مذهب الحنابلة.

قالوا: إن النزع جماع، ولأنه يتلذذ بالنزع، فيأخذ حكمه، والمجامع العامد يجب عليه القضاء والكفارة.

ص: 229

القول الثاني: أن صومه صحيح.

وهذا قول الجمهور من الحنفية، والشافعية وهو اختيار ابن تيمية.

أ- قالوا: إن النزع ترك للجماع، وترك الشيء لا يكون محصلاً له، بل يكون اشتغالاً بضده، وعليه فلا يعتبر النزع جماعاً أصلاً.

ب- بالقياس على ما لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب وهو عليه، فبدأ بنزعه لم يحنث.

ج- وبالقياس أيضاً على الغاصب إذا تاب وقد توسط الأرض المغصوبة، فهذا خروجه بنية تخليه المكان وتسليمه إلى مستحقه ليس منهياً عنه ولا محرماً.

وهذا القول هو الراجح.

•‌

‌ هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتلم؟

قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتلم.

لحديث الباب.

ولأن الاحتلام من الشيطان، وقد جاء في بعض طرق الحديث:(يصبح جنباً من غير احتلام) وهذا مذهب ابن عباس.

قال القرطبي في قول أم سلمة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً مني، فيصوم) في هذا فائدتان:

إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بياناً للجواز.

والثاني: أن ذلك كان من جماع، لا من احتلام، لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه.

وقال غيره: في قولها (من غير احتلام) إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان للاستثناء معنى.

والراجح الأول.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز الجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر.

- جواز تأخير الغسل من الجنابة، وأنه لا يجب المبادرة به إلا إذا حانت الصلاة.

- جواز التصريح بما يستحيا منه للمصلحة.

- فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونشرهن للعلم.

- أن الأصل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 230

678 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(مَنْ مَاتَ) أي: من مات من المكلفين بقرينة ما بعده.

(وَعَلَيْهِ صِيَامٌ) أي: قضاء صيام.

(صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) سيأتي ما المراد به إن شاء الله.

•‌

‌ هل يشرع الصيام عن الميت؟

حديث الباب يدل مشروعية ذلك، لكن اختلف العلماء هل يشرع القضاء عن الميت على أقوال؟

القول الأول: أنه يقضى عنه النذر فقط.

وهو قول أحمد وإسحاق.

قال الحافظ: وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يصام عنه إلا النذر، وأما رمضان فيطعم عنه.

حملاً للعموم الذي في حديث عائشة (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) على المقيد في حديث ابن عباس.

فقد جاء في حديث ابن عباس أن امرأة قالت (يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: أرأيتِ لو كان على أمك دين

) متفق عليه.

القول الثاني: يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.

وهذا مذهب أبي ثور، وأهل الحديث، ونصره ابن حزم، واختاره ابن تيمية والشيخ السعدي.

ورجحه النووي، وقال: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابنَا الْجَامِعُونَ بَيْن الْفِقْه وَالْحَدِيث لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة.

أ- لحديث الباب. (من مات .... ).

ب- ولحديث بريدة قال (بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أن عموم حديث عائشة يتناول رمضان وغيره، وفي حديث بريدة لم يستفصل من السائل عن هذا الشهر: هل هو رمضان أو غيره، ولو كان هناك فرق في الحكم لوجب الاستفسار أو بينه، فلما سكت عنه صلى الله عليه وسلم دل على اتحاد الحكم.

قال البيهقي عن حديث بريدة: فهذا الحديث قد صحَّ، وهو صريح في جواز الصوم عن الميت بعيدٌ من التأويل.

وقال الشوكاني عن حديث (من مات وعليه صوم): فيه دليل على أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات وعليه صوم، أيّ صوم كان.

ج- ما ذكره ابن تيمية: أنه إذا جاز الإطعام عنه وهو ليس من جنس الصيام، فالصيام من باب أولى، لأنه أقرب إلى المماثلة.

القول الثالث: لا يصام عن الميت مطلقاً.

وهذا مذهب الجمهور.

ص: 231

قال النووي: وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ مَيِّت لَا نَذْر وَلَا غَيْره، حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، وَرِوَايَة عَنْ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره: هُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء.

وقال الحافظ ابن حجر: وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة: لا يصام عن الميت.

أ- لحديث ابن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من مات وعليه صوم رمضان، فليطعم عن كل يوم مسكيناً) رواه الترمذي (حديث ضعيف).

ب-لقول ابن عباس (لا يصلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد). أخرجه النسائي

ج-ولقول عائشة (لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم). أخرجه عبد الرزاق. قالوا:

فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه، دلّ ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه.

قال ابن حجر: وهذه قاعدة لهم معروفة، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن ابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جداً، والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه.

والراجح القول الثاني، وأنه يصام عنه الواجب بأصل الشرع والنذر.

•‌

‌ بماذا أجاب الجمهور عن حديث عائشة (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)؟

قالوا المراد بقوله (صام عنه وليه) أي يفعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام.

قال النووي: وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ، وَأَيُّ ضَرُورَةٍ إِلَيْهِ وَأَيُّ مَانِع يَمْنَع مِنْ الْعَمَل بِظَاهِرِهِ مَعَ تَظَاهُرِ الْأَحَادِيثِ، مَعَ عَدَم الْمُعَارِض لَهَا، قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابنَا: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ صَلَاةٌ فَائِتَة، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ أَحَد فِي حَيَاته، وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي الْمَيِّت.

وقال الشوكاني: وهو عذر بارد لا يتمسك به منصف في مقابلة الأحاديث الصحيحة.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث ابن عمر (من مات وعليه صوم رمضان، فليطعم عن

الجواب عنه: أنه حديث لا يصح.

قال الترمذي: لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله.

وقال ابن حجر: قال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر.

وقال البيهقي: هذا خطأ من وجهين؛ أحدهما: رفعه الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول ابن عمر.

وقال النووي: ليس بثابت.

•‌

‌ متى يكون على الميت صيام؟

ويكون عليه صيام إذا تمكن منه فلم يفعل، أما إذا لم يتمكن فليس عليه صيام.

مثال: إنسان نذر أن يصوم [3] أيام، ثم مات من يومه، فهذا ليس عليه شيء لأنه لم يتمكن منه.

مثال آخر: إنسان مرض في: 20 رمضان فأفطر، وتواصل به المرض شهر شوال وشهر ذي القعدة، ثم مات، فهذا ليس عليه صوم، فلا يقضى عنه، لأنه لم يمر عليه أيام يتمكن منها القضاء. (الشيخ ابن عثيمين).

ص: 232

•‌

‌ هل الأمر بالحديث للوجوب أم للاستحباب؟

الأمر بالحديث (فليصم عنه وليه) ليس للوجوب عند جمهور العلماء، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادّعوا الإجماع على ذلك.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن بعض أهل الظاهر أوجبه، فلعله لم يعتد بكلامهم على قاعدته.

الدليل على أنه غير واجب:

أ- أننا لو قلنا بالوجوب للزم أن يأثم الولي إذا لم يصم، والله يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالديْن، كما قال صلى الله عليه وسلم للمرأة (أرأيتِ لو كان على أمكِ ديْنٌ أكنتِ قاضيَتَه؟ .... فقال: صومي) ومن المعلوم أن الوارث لا يجب عليه قضاء ديْن مورثه.

•‌

‌ ما المراد بالولي في قوله (صام عنه وليه)؟

اختلف في المراد بالولي:

فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصبه، والأول أرجح.

قال النووي: وَالْمُرَاد بِالْوَلِيِّ الْقَرِيب، سَوَاء كَانَ عَصَبَةً أَوْ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد الْوَارِث، وَقِيلَ: الْعَصَبَة، وَالصَّحِيح الْأَوَّل.

وقال في الفتح: واختلف في المراد بقوله (وليه) فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصبته، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.

•‌

‌ هل يجوز أن يقضيه عن الميت أجنبي؟

نعم يجوز.

قال النووي: ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف.

•‌

‌ هل يشترط التتابع في القضاء؟

لا يشترط التتابع، فيجوز متتابعاً ويجوز متفرقاً.

•‌

‌ هل يجوز إذا كان للميت عدد من الأولياء أن يتقاسموا أيام الصيام التي على مورثهم، ويصوم كل واحد منهم قسماً منها سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو من الصنفين؟

نعم يجوز، (هذا ما لم يشترط فيه التتابع كالكفارة، فإنه لا يجوز أن يصوموا جميعاً).

ص: 233

‌بَابُ صَوْمُ اَلتَّطَوُّعِ وَمَا نُهِيَ عَنْ صَوْمِهِ

679 -

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ اَلِاثْنَيْنِ، قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(يَوْمِ عَرَفَةَ) هو اليوم التاسع من ذي الحجة.

•‌

‌ ما حكم صوم يوم عرفة لغير الحاج؟

سنة.

لحديث الباب (يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).

•‌

‌ ما حكم صومه للحاج؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: يستحب فطره.

وهذا قول مالك والشافعي وأحمد.

أ-عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ (أَنَّ نَاساً تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ) متفق عليه.

ب- وعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ (إِنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِى صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ مَيْمُونَةُ بِحِلَابِ اللَّبَنِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِى الْمَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْه) متفق عليه.

وجه الاستدلال: يُستفاد من الحديثين استحبابُ فطر يوم عرفة للحجاج تأسِّيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الخطابي - شارحًا لحديث ميمونة رضي الله عنها وفيه: الاستحباب للإفطار بعرفة لمن شهدها، وإنما جاء الترغيب لمن غاب عنها.

وقال ابن القيم - بعد أن أورد حديث أم الفضل في فطر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بعرفة وغيره من الآثار في ذلك -: وصحَّ عنه: صيامه يكفر سنتين، فالصواب أنّ الأفضل لأهل الآفاق - أي الذين لم يَحُجُّوا - صومه، ولأهل عرفة فطره، لاختياره صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه، وعمل خلفائه بعده بالفطر.

تنبيه: في الحديث الأول أنّ أم الفضل هي التي أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح اللبن، وفي هذا الحديث أنّ ميمونة هي التي أرسلته!!

والجواب على ذلك - كما قال ابن القيم في تهذيب السنن، فقيل: يحتمل أن تكون ميمونة أرسلت، وأم الفضل أرسلت، كلٌّ منهما بقدَح، ويحتمل أن يكون مجتمعتين فإنها أختها، فاتفقتا على الإرسال بقدح واحد، فينسب إلى هذه وإلى هذه.

ج-وقال ابن عمر: (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه). رواه الترمذي

وجه الاستدلال: في الحديث بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في تركهم صيام يوم عرفة بعرفة.

د-أنّ يوم عرفة يوم عبادة وتضرُّع ودعاء، فيستحب للحاج أن يفطر ذلك اليوم ليقوى على التعبُّد والذكر والدعاء.

قال ابن قدامة: لأنّ الصوم يُضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظَّم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يُقصَد من كل فجٍّ عميق، رجاء فضل الله فيه، وإجابة دعائه به؛ فكان تركه أفضل.

ص: 234

القول الثاني: يكره صومه.

وهذا ذهب إليه بعض العلماء.

لحديث أبي هريرة. (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة) رواه أبو داود.

لكنه حديث ضعيف، قال العقيلي: لا يصحّ عنه أنه نهى عن صومه.

وقال النووي: ضعيف.

القول الثالث: يستحب صومه.

وهذا قول ابن حزم.

لحديث الباب (يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).

لكن هذا الحديث ورد في حق غير الحاج، أمّا الحاج فلا يصومه اقتداء وتأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، وفيه قوة على الدُّعاء والذكر والعبادة، والدعاء فيه مستجاب، وأنّ يوم عرفة هو يوم عيد لأهل عرفة؛ لاجتماعهم فيه كما في الحديث الذي تقدَّم ذكره.

والراجح القول الأول وهو استحباب فطره.

•‌

‌ ما الحكمة من استحباب فطره للحاج؟

قيل: ليتقوى على الدعاء.

وقيل: لأنه عيد لأهل عرفة.

قال ابن القيم: قالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهذا قول الخرقي وغيره.

وقال غيرهم - منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم، قال: والدليل عليه الحديث الذي في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى، عيدنا أهل الإسلام) قال شيخنا: وإنما يكون يوم عرفة عيداً في حق أهل عرفة لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم.

•‌

‌ هل تكفير الذنوب في صوم عرفة يشمل الصغائر والكبائر أم فقط الصغائر؟

التكفير يقع للصغائر دون الكبائر، وهذا مذهب جمهور العلماء.

أ-لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

ب-ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر). رواه مسلم

فإذا كانت الصلوات الخمس لا تقوى على تكفير الكبائر، فمن باب أولى صيام عرفة.

•‌

‌ أيهما أفضل يوم عرفة أم يوم عاشوراء؟

قال ابن حجر: روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً: إن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وإن صيام يوم عرفة يكفر سنتين.

وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك كان أفضل.

وقال ابن القيم: فإن قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل: فيه وجهان:

أحدهما/ أن يوم عرفة في شهر حرام، وقبله شهر حرام، وبعده شهر حرام، بخلاف عاشوراء.

الثاني/ أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا، بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى.

ص: 235

•‌

‌ ما هو يوم عاشوراء؟

هو اليوم العاشر من محرم، وهذا مذهب جمهور العلماء.

• ما فضل صوم يوم عاشوراء؟

أنه يكفر سنة كاملة.

لحديث الباب (وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ).

•‌

‌ هل كان صوم يوم عاشوراء واجباً أم تطوعاً؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لم يكن واجباً قبل فرض رمضان، بل كان سنة باق على سنيته.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

قال ابن حجر: ذهب الجمهور - وهو المشهور عند الشافعية - إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان.

أ- لحديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَان أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِر) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن قوله (لم يكتب عليكم صيامه) يدل على أنه لم يكن واجباً قط، لأن لم لنفي الماضي.

القول الثاني: أنه كان واجباً فنسخ وجوبه بفرض صيام رمضان.

وهذا قول الحنفية والمالكية واختيار ابن تيمية.

أ- عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ (كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَه). متفق عليه

قال ابن بطال: دلّ حديث عائشة على أن صومه كان واجباً قبل أن يُفْرَض رمضان، ودل أيضاً أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضاً.

•‌

‌ هل يكره إفراد صوم عاشوراء؟

لا، لا يكره.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر وأمر به، ويحصل بصيامه الأجر المترتب على ذلك من التكفير.

•‌

‌ ما الأفضل أن يصوم يوماً قبله أم بعده؟

الأفضل أن يصوم يوماً قبله، وعلى هذا جاءت أكثر الأحاديث.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع). رواه مسلم

وقد روى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال (صوموا التاسع مع العاشر).

وأما حديث: صوموا يوماً قبله وبعده - وكذلك حديث: صوموا يوماً قبله أو بعده، ضعيفة لا تصح.

ص: 236

•‌

‌ ما الحكمة من استحباب صوم اليوم التاسع مع العاشر؟

قال النووي: وذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجهاً:

أحدها: أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر وهو مروى عن ابن عباس فى حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا قبله يوماً وبعده يوماً.

الثاني: أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم كما نهى أن يصام يوم الجمعة وحده ذكرهما الخطابى وآخرون.

الثالث: الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله في عاشوراء: لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع.

وقال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على حديث (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع): ما همّ به من صوم التاسع يحتمل معناه ألا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يُشعر بعض روايات مسلم.

•‌

‌ ما سبب صيام عاشوراء:

ما جاء في حديث ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم نجى الله نبيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه). متفق عليه

•‌

‌ من لم يصم يوم عرفة أو عاشوراء هل يقضيه أم لا؟

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: النوافل نوعان: نوع له سبب، ونوع لا سبب له.

فالذي له سبب يفوت بفوات السبب ولا يُقضى.

مثال ذلك: تحية المسجد، لو جاء الرجل وجلس ثم طال جلوسه ثم أراد أن يأتي بتحية المسجد، لم تكن تحية للمسجد، لأنها صلاة ذات سبب، مربوطة بسبب، فإذا فات فاتت المشروعية، ومثل ذلك فيما يظهر يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإذا أخر الإنسان صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء بلا عذر فلا شك أنه لا يقضي، ولا ينتفع به لو قضاه، أي لا ينتفع به على أنه يوم عرفة ويوم عاشوراء.

وأما إذا مر على الإنسان وهو معذور كالمرأة الحائض والنفساء أو المريض، فالظاهر أيضاً أنه لا يقضي، لأن هذا خص بيوم معين يفوت حكمه بفوات هذا اليوم.

•‌

‌ ما حكم صيام يوم الاثنين؟

سنة.

لحديث الباب (وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ اَلِاثْنَيْنِ، قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ).

فيستحب صيام يوم الاثنين لأن في ذلك اليوم امتن الله على المسلمين بثلاث منن عظام، وهي:

ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ـ وبعثته صلى الله عليه وسلم رسولاً ـ إنزال القرآن الكريم في هذا اليوم.

•‌

‌ هل هناك علة أخرى لاستحباب صيامه؟

نعم، وهي ما جاءت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم). رواه الترمذي وأحمد

ص: 237

680 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ اَلدَّهْرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

•‌

‌ ما حكم صيام ست من شوال؟

مستحب.

لحديث الباب.

وبالاستحباب قال الجمهور، وهو مذهب السلف والخلف.

وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، حتى لا يظن وجوبها.

قال مالك: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها.

قال النووي رداً عليهم: وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح، وَإِذَا ثَبَتَتْ السُّنَّة لَا تُتْرَكُ لِتَرْكِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَوْ كُلِّهِمْ لَهَا، وَقَوْلهمْ: قَدْ يُظَنّ وُجُوبهَا، يُنْتَقَض بِصَوْمِ عَرَفَة وَعَاشُورَاء وَغَيْرهمَا مِنْ الصَّوْم الْمَنْدُوب.

وقال الشوكاني رداً عليهم: وهو باطل لا يليق بعاقل، فضلاً عن عالماً نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضاً يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها، ولا قائل بها.

وأحسن ما اعتذر به عن مالك:

ما قاله شارح موطئه أبو عمر بن عبد البر: إن هذا الحديث لم يبلغ مالكاً، ولو بلغه لقال به ..

•‌

‌ هل يصح صوم ست من شوال لمن عليه قضاء من رمضان؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يصح صيامها لمن عليه قضاء من رمضان.

وهذا اختيار الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع.

لقوله (من صام رمضان) أي كاملاً، فلا يصح صيام ست من شوال إلا باستكمال رمضان، وأما الذي عليه بقية من رمضان فلا يصدق في حقه أنه صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال.

القول الثاني: أنه يجوز.

وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة اختارها ابن قدامة وغيره.

أ-لفعل عائشة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها.

ب-ولأن قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) خرج مخرج الغالب.

ج-ولو أخذ قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) على ظاهره لم يدخل في هذه الفضيلة الكثير من النساء؛ لأن المرأة يأتيها العذر أثناء رمضان فيكون عليها قضاء.

د-ومن المعلوم أن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن الظهر مثلاً فإن الإنسان يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وكذلك بالنسبة لرمضان فإن وقت قضائه واسع كما ثبت ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِى شَعْبَانَ الشُّغُلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

وهذا أرجح.

ص: 238

•‌

‌ هل يجوز صوم هذه الأيام متفرقة؟

نعم، هذه الأيام تجوز متفرقة ومتتابعة.

قال في سبل السلام: واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر.

لكن الأفضل عقيب العيد مباشرة لعدة اعتبارات:

- المسارعة في فعل الخير.

- المسارعة إليها دليل على الرغبة في الصيام والطاعة.

- أن لا يعرض له من الأمور ما يمنعه من صيامها إذا أخرها.

- أن صيام ستة أيام بعد رمضان كالراتبة بعد فريضة الصلاة، فتكون بعدها.

•‌

‌ ما معنى (كصيام الدهر)؟

المراد بالدهر العام.

قال النووي: قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء في هذا حديث مرفوع في كتاب النسائي.

•‌

‌ هل يجوز صوم التطوع لمن عليه قضاء من رمضان؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: يجوز.

وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.

أ- لقول الله تعالى: (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) ولم يقيد الله تعالى القضاء بالاتصال برمضان ولا بالتتابع ..

ب-وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) متفق عليه.

ج-وقاسوه على صلاة التطوع قبل صلاة الفرض في وقتها.

القول الثاني: يحرم.

وهذا المشهور من المذهب.

والصحيح الأول وهو الجواز.

•‌

‌ ما الحكم إن أخر صيام الست من شوال حتى خرج شوال بلا عذر؟

إن أخرها بلا عذر، فإنه لا يقضيها لأنه تركها بلا عذر.

•‌

‌ ما الحكم إن أخرها بعذر كمرض أو حيض؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

قيل: يقضيها، واختاره السعدي.

قال السعدي: أما إن كان له عذر من مرض أو حيض أو نفاس أو نحو ذلك من الأعذار التي بسببها أخر صيام قضائه أو أخر صيام الست فلا شك في إدراك الأجر الخاص، وقد نصوا على ذلك.

وأما إذا لم يكن له عذر أصلاً بل أخر صيامها إلى ذي القعدة أو غيره فظاهر النص على أنه لا يدرك الفضل الخاص، وأنه سنة في وقت فات محله، كما إذا فاته صيام عشر ذي الحجة أو غيرها حتى فات وقتها، فقد زال ذلك المعنى الخاص وبقي الصيام المطلق.

وقيل: لا يقضيها، وهذا أرجح.

لأنها مؤقتة بوقت وقد مضى هذا الوقت.

ص: 239

681 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ إِلَّا بَاعَدَ اَللَّهُ بِذَلِكَ اَلْيَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ اَلنَّارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

===

(بِذَلِكَ اَلْيَوْمِ) أي: بسبب صيام ذلك اليوم.

(عَنْ وَجْهِهِ) أي ذاته، وإنما عبر به، لأن الإنسان أول ما يواجه الشيء يكون بوجهه.

(سَبْعِينَ خَرِيفًا) أي: سبعين عاماً.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: فضل الصيام في سبيل الله، وأن صيام يوم واحد في سبيل الله يباعد الله به صاحبه عن النار سبعين خريفاً.

•‌

‌ ما المراد في قوله (في سبيل الله) في الحديث؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: المراد الجهاد والغزو.

وهذا اختيار ابن الجوزي.

لأن العرف الأكثر استعماله في الجهاد.

ثم قال: فإن حُمِل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين.

القول الثاني: المراد (في سبيل الله) أي في مرضاة الله.

وقد استظهر الحافظ ابن حجر في فتح الباري بأن الحديث أعم من هذا كله، فيشمل الجهاد وغيره.

وهذا هو الصحيح.

•‌

‌ متى يكون مندوباً الصوم في الجهاد؟

هذا محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يختل به قتاله، ولا غيره من مهمات غزوه. [قاله النووي]

•‌

‌ اذكر بعض الأدلة على أن الصوم من أسباب النجاة من النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) متفق عليه، زاد سعيد بن منصور (جنة من النار). ولأحمد (جنة وحصن حصين من النار).

والجنة: بضم الجيم، الوقاية والستر، أي وقاية وستر من النار.

وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال: (قلت: يا رسول الله، مرني بعمل آخذه عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له). وفي رواية: (لا عدل له).

•‌

‌ لماذا خص الخريف من بين الفصول؟

المراد بالخريف هنا العام، وإنما خص بالذكر من دون بقية الفصول لأن فيه تنضج الثمار، وتحصل سعة العيش.

•‌

‌ اذكر بعض أسباب النجاة من النار؟

قال صلى الله عليه وسلم (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (من ابتلي بشيء من هذه البنات، فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتبت له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق). رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (من كان سهلاً ليناً حرمه الله على النار) رواه الحاكم.

وقال صلى الله عليه وسلم (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) رواه مسلم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- فضل الجهاد في سبيل الله.

- أن الأعمال الصالحة تتفاوت فضلاً وثواباً.

- سعة رحمة الله تعالى.

- ينبغي معرفة الأعمال التي تباعد عن النار.

ص: 240

682 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اِسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

===

(كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ) أي: صوم النفل متتابعاً.

(فِي شَعْبَانَ) سمي شعبان لتشعبهم في طلب المياه، أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب الإكثار من الصيام في شعبان.

•‌

‌ ما معنى حديث أم سلمة عند أبي داود (أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان)؟

اختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال:

قيل: أي أنه كان يصوم معظمه، فالمراد بالكل أكثره.

ويدل ذلك حديث الباب (وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ).

وجاء عند مسلم (كان يصوم شعبان إلا قليلاً).

قال الحافظ: وهذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود: (أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان) أي كان يصوم معظمه، فالمراد بالكل الأكثر.

وقيل: يحتمل أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان.

وقيل: المراد بقولها (كله) أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخره أخرى، ومن أثنائه طوراً، فلا يخلي شيئاً منه من صيام، ولا يخص بعضه بصيام دون بعض.

وقيل: قال ابن المنير: إما يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانياً عن آخر أمره أنه كان يصومه كله.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم ولفظه (ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان).

•‌

‌ ما الحكمة من إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان؟

اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها في شعبان.

وهذا فيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط.

وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان.

وهذا فيه حديث آخر أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان) قال الترمذي: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذاك القوي.

والأولى في ذلك: ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: (قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم).

ص: 241

•‌

‌ هل يستحب عمارة أوقات الغفلة؟

قال ابن رجب رحمه الله: وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب عند الله عز وجل.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:

منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل.

ومنها: أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة، لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعة، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم فيها.

ومنها: أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يُدْفَعُ به البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم. [لطائف المعارف 251 ـ 254]

•‌

‌ ما معنى قولها (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ)؟

قال القرطبي: معنى هذا: أنه كان يصوم متطوِّعًا، فيكثر، ويوالي حتى تتحدَّث نساؤه وخاصته بصومه، ويفطر كذلك. ومثل هذا: حديث ابن عبَّاس: كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم، وبمثل هذا أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه، فقال (بل أصوم وأفطر، وأقوم، وأنام، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

•‌

‌ ما الأفضل صوم شعبان أم صوم محرم؟

اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: صوم محرم.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم). رواه مسلم

فهذا تصريح بأنه أفضل الشهور.

قالوا: وأما إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون محرم، فلعله إنما علم فضله في آخر حياته.

أو لعلة كان يعرض عليه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما. [قاله النووي]

القول الثاني: صوم شعبان أفضل.

ورجح هذا ابن رجب رحمه الله، وقال: ويكون قوله (أفضل الصيام بعد رمضان المحرم) محمولاً على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فإنه يلتحق به في الفضل، كما أن قوله في تمام الحديث:(وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- عبودية النبي صلى الله عليه وسلم لربه.

- في الحديث الإشارة إلى ضعف حديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا).

- مراعاة المصالح فيما يقوم به من أعمال.

ص: 242

683 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنْ اَلشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

(ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) هذه تسمى الأيام البيض، وسميت بذلك لأن لياليها بيضاً لوضوح القمر فيها.

•‌

‌ اذكر بعض الأدلة العامة على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر؟

أ- عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله). متفق عليه

ب- وقد أوصى بذلك بعض الصحابة:

- منهم أبو هريرة رضي الله عنه فقد قال (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام). متفق عليه

- ومنهم أبو الدرداء فقد قال (أوصاني خليلي بثلاث لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر). رواه مسلم

- ومنهم أبو ذر كما عند الترمذي.

ج-وعن مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ (أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِى مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُوم) رواه مسلم.

•‌

‌ على ماذا يدل حديث عائشة السابق (لَمْ يَكُنْ يُبَالِى مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُوم)؟

يدل على أنه إذا صامها من أي الشهر أجزأ (أوله، أو أوسطه، أو آخره).

•‌

‌ ما الأفضل أن تكون هذه الأيام؟

استحب أكثر أهل العلم أن تكون الأيام البيض [13، 14، 15]، لورود أحاديث في الأمر بها:

أ-كحديث الباب.

ب-وحديث جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض صبيحة ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر). رواه النسائي، قال المنذري: إسناده جيد. وقال الحافظ: إسناده صحيح.

ج-وحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (إذا صمت من الشهر ثلاثاً، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة). رواه النسائي والترمذي

أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه صام غير أيام البيض:

كما في حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر). رواه أبو داود ورجحه ابن خزيمة

وكذلك في حديث حفصة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم كل شهر ثلاثة أيام، الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى).

فلعله صلى الله عليه وسلم كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكل ذلك في حقه أفضل.

ويترجح صيام أيام البيض على غيرها لأنها وسط الشهر، ووسط الشيء أعدله، ولأن الكسوف غالباً يقع فيها، وقد ورد بمزيد العبادة إذا وقع.

ص: 243

684 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: - غَيْرَ رَمَضَانَ -.

===

(لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ) أي: يحرم.

(أَنْ تَصُومَ) نفلاً.

(وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ) أي: حاضر في البلد.

•‌

‌ ما حكم صوم الزوجة نفلاً وزوجها حاضر بغير إذنه؟

يحرم عليها ذلك حتى تستأذنه.

أ-لحديث الباب.

ب- لأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه بنفل.

•‌

‌ ما الحكمة من المنع؟

لأن حق الزوج واجب، وصيام غير الفرض مستحب، ومن الفقه تقديم الواجبات، ومن ذلك تقديم طاعة الزوج على المستحبات.

•‌

‌ هل صوم الفرض يحتاج إلى إذن الزوج؟

صوم الفرض كرمضان لا يحتاج إذن الزوج.

لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

•‌

‌ هل يجب على الزوجة أن تستأذن زوجها في قضاء رمضان أم لا؟

هذه المسألة لا تحلو من حالين:

الحال الأولى: أن يضيق الوقت، بأن لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليها من رمضان.

فهنا لا يجب أن تستأذنه.

الحال الثانية: إذا لم يضق الوقت، (الوقت موسع للقضاء) فهنا اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يجب أن تستأذنه.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

أ- لحديث عائشة قالت (كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) متفق عليه.

ب- أنه ليس لها أن تمنع الزوج حقه الذي هو على الفور بما ليس على الفور.

ص: 244

القول الثاني: أنه لا يجب أن تستأذنه.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تصومن امرأة تطوعاً وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وهذا لفظه.

فمفهوم المخالفة من هذا الحديث يدل على أن لها أن تصوم بغير إذنه إذا لم يكن تطوعاً.

ب- أنه ليس للزوج منع الزوجة من المبادرة إلى قضاء رمضان إلا باختيارها، لأن لها حقاً في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم (وزوجها شاهد)؟

نستفيد: أن الزوج إذا كان غائباً فيجوز لها أن تصوم ولا تحتاج إلى إذنه.

أ- لمفهوم حديث الباب.

ب- ولأن صيامها لا يضيع عليه حقاً من حقوقه.

ج- ولأن المعنى المراد من المنع لا يوجد.

•‌

‌ قوله (إلا بإذنه) هل يشترط أن يكون الإذن صريحاً؟

لا يشترط، سواء كان الإذن صريحاً، أو ما يقوم مقامه من احتفاف قرائن تدل على رضاه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- عظم حق الزوج على الزوجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).

- وجوب تقديم الواجبات على المستحبات.

- جواز صيام الفرض بدون إذن الزوج.

ص: 245

685 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ اَلْفِطْرِ وَيَوْمِ اَلنَّحْرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ ما حكم صيام يومي العيد؟

حرام.

قال النووي: أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر، أو تطوع، أو كفارة.

وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم أن صوم يومي العيد منهي عنه، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة.

•‌

‌ ما الحكم لو نذر صيامهما، فهل يصح نذره؟

لا يصح نذره، ولا ينعقد، ولا يجوز الوفاء به.

لأنه نذر معصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يعص الله فلا يعصه). متفق عليه

•‌

‌ ما الحكمة من النهي عن صيامهما؟

قال الشوكاني: والحكمة في النهي عن صوم العيدين: أن فيه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى لعباده، كما صرح بذلك أهل الأصول.

ص: 246

686 -

وَعَنْ نُبَيْشَةَ اَلْهُذَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيَّامُ اَلتَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عز وجل. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

687 -

وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: (لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ اَلْهَدْيَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(لَمْ يُرَخَّصْ) هذه الصيغة لها حكم الرفع عند العلماء، (كقول الصحابي: رخص لنا في كذا، أو أذن لنا في كذا، أو نهينا عن كذا). فهذا له حكم الرفع.

•‌

‌ ما هي أيام التشريق؟

هي الأيام التي بعد يوم النحر، وهي [11، 12، 13] من ذي الحجة.

•‌

‌ لماذا سميت بذلك؟

سميت بذلك: لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تنشر في الشمس.

وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.

وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس.

•‌

‌ ما حكم صوم أيام التشريق؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: المنع مطلقاً.

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد وابن حزم.

قال في الفتح: وعن علي وعبد الله بن عمرو المنع مطلقاً، وهو المشهور عن الشافعي.

أ-لحديث الباب (حديث نبيشة).

قال الخطابي: فيه دليلٌ على أنّ صوم أيام التشريق غير جائز؛ لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه، فكذلك أيام التشريق، وسواء كان تطوعًا من الصائم أو نذرًا أو صامها الحاج عن التمتع.

ب-وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام منى أيام أكل وشرب). رواه مسلم

ج-عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) رواه أحمد.

قال الخطابي: وهذا كالتعليل في وجوب الإفطار فيها وأنها مستحقة لهذا المعنى، فلا يجوز صيامها ابتداءً تطوعًا ولا نذرًا، ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر.

القول الثاني: لا يصح صومها إلا للمتمتع والقارن إذا لم يجدا الهدي.

وهو قول مالك والشافعي في القديم.

ونسبه ابن حجر لابن عمر، وعائشة، وعبيد بن عمير.

أ-لحديث الباب (لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ اَلْهَدْي).

وقد أخرجه الدار قطني والطحاوي بلفظ (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق).

فهذا الحديث صريح في الترخيص للمتمتع الذي لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، وهو مقيِّد لما جاء من النهي عن صوم هذه الأيام مطلقاً.

ورجحه الشوكاني وقال: وهو أقوى المذاهب.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 247

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن دليل أصحاب القول الثاني (لم يرخص)؟

قالوا: هو موقوف على أم المؤمنين عائشة وابن عمر.

•‌

‌ ما الرد عليهم؟

الرد عليهم: بأنّ قول الصحابي «نهينا عن كذا» و «رخص لنا في كذا» - وشبهه - في حكم الرفع، بمنزلة قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي عليه جماهير أهل العلم.

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة أصحاب القول الأول (أيام التشريق أيام أكل

الجواب: بأنّ أحاديث النهي عن صوم أيام التشريق عامّة يُخَصّصُ منها المتمتع بما ثبت في «صحيح البخاري» : أنّ عائشة وابن عمر قالا (لم يرخّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي) وحمل المطلق على المقيد واجب، وكذلك بناء العام على الخاص، ولأنه رخّص فيها للمتمتع ضرورة.

•‌

‌ أيام التشريق حكمها واحد، وضح ذلك؟

أيام التشريق حكمها واحد.

أ-هي أيام أكل وشرب وذكر لله.

ب-وهي أيام منى.

ج-وهي أيام رمي الجمار.

د-صيامها حرام إلا لمن لم يجد الهدي.

هـ-كلها أيام ذبح.

•‌

‌ قول النبي صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل .... وذكر لله) إشارة إلى ماذا؟

قال ابن رجب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله وبدلها كفراً وهو جدير أن يسلبها، كما قيل:

إذا كنت في نعمة فارعها

فإن المعاصي تزيل النعم

وداوم عليها بشكر الإله

فشكر الإله يزيل النقم

و خصوصاً نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام كما في أيام التشريق فإن هذه البهائم مطيعة وهي مسبحة له قانتة كما قال تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) وإنها تسجد له كما أخبر بذلك في سورة النحل وسورة الحج وربما كانت أكثر ذكراً لله من بعض بني آدم. (لطائف المعارف).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية الهدي في الحج.

- أن من لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.

قال تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).

ص: 248

688 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ اَلْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اَللَّيَالِي، وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اَلْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

689 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ اذكر ما ورد في فضل يوم الجمعة؟

يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع.

لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم (أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة).

ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدانا الله له وضلَّ الناس عنه).

وعند أبي داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا فيه من الصلاة علي

).

•‌

‌ ماذا نستفيد من أحاديث الباب؟

نستفيد: النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام.

•‌

‌‌

‌ متى يزول النهي؟

الحديث يدل على أن النهي يزول بأمرين:

الأول: أن يوافق يوم الجمعة صيام معتاد، كأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة.

الثاني: إذا لم يفرده بالصيام، بل جمع معه غيره.

•‌

‌ هل النهي في قوله (لا يصومن

) للتحريم أم للكراهة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه للكراهة.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

لحديث الباب (لا يصومن

) والصارف عن النهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز صيامه إذا صيم يوماً قبله أو بعده.

القول الثاني: أنه للتحريم.

وهذا قول الظاهرية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

أ-لأحاديث الباب، قالوا: والأصل في النهي التحريم.

ب- ولحديث جابر (فقد سُئل أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم) رواه البخاري.

والراجح الأول.

ص: 249

•‌

‌ ما رأيك بقول مالك في الموطأ: " لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى، نهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن؟

قال النووي: فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه.

وقال الداوودي - من أصحاب مالك -: لم يبلغ مالكاً حديث النهي، ولو بلغه لم يخالفه.

•‌

‌ ما السبب في النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام؟

اختلف في سبب ذلك:

فقيل: لئلا يضعف عن العبادة، ورجحه النووي.

قال في الفتح: وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه.

وقال ابن القيم: ولكن يشكل عليه زوال الكراهة بضم يوم قبله أو بعده إليه.

وقيل: سداً للذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس منه، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد من الأعمال الدنيوية. [قاله ابن القيم]

وقيل: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، ورجحه الحافظ ابن حجر، وقال: ورد فيه صريحاً حديثان:

أحدهما: رواه الحاكم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده).

والثاني: رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: (من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام وشراب وذكر.

•‌

‌ ما حكم صوم يوم الجمعة مفرداً إذا صادف عرفة؟

صوم يوم الجمعة مكروه، لكن ليس على إطلاقه، فصوم يوم الجمعة مكروه لمن قصده وأفرده بالصوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام).

وأما إذا صام الإنسان يوم الجمعة من أجل أنه صادف صوماً كان يعتاده فإنه لا حرج عليه في ذلك، وكذلك إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا حرج عليه في ذلك، ولا كراهة.

مثال الأول: إذا كان من عادة الإنسان أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فصادف يوم صومه الجمعة فلا بأس، وكذلك لو كان من عادته أن يصوم يوم عرفة فصادف يوم عرفة يوم الجمعة فإنه لا حرج عليه أن يصوم يوم الجمعة ويقتصر عليه؛ لأنه إنما أفرد هذا اليوم لا من أجل أنه يوم الجمعة، ولكن من أجل أنه يوم عرفة، وكذلك لو صادف هذا اليوم يوم عاشوراء واقتصر عليه، فإنه لا حرج عليه في ذلك، وإن كان الأفضل في يوم عاشوراء أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده.

ومثال الثاني: أن يصوم مع الجمعة يوم الخميس، أو يوم السبت، أما من صام يوم الجمعة لا من أجل سبب خارج عن كونه يوم جمعة فإننا نقول له: إن كنت تريد أن تصوم السبت فاستمر في صيامك، وإن كنت لا تريد أن تصوم السبت ولم تصم يوم الخميس فأفطر كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والله الموفق. (الشيخ ابن عثيمين).

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: إذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة فصامه المسلم وحده فلا بأس بذلك، لأن هذا الرجل صامه لأنه يوم عرفة لا لأنه يوم جمعة.

فائدة: لم يصح في فضل صوم رجب حديث.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل ما ورد في فضل الصلاة والصيام في رجب فكله كذب.

ولذلك ذهب أكثر العلماء إلى كراهة إفراد رجب بالصوم، ولعل الحكمة هو أن إفراده بالصيام إحياء لشعار الجاهلية.

ص: 250

690 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا اِنْتَصَفَ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والطحاوي وعبد الرزاق وابن حبان وابن أبي شيبة والدارمي كلهم جميعاً عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ....

وقد اختلف العلماء في هذا الحديث:

فضعفه جماعة من العلماء، منهم: الإمام أحمد، وابن معين، كما نقله الحافظ ابن حجر عنهم في الفتح.

وعبد الرحمن بن مهدي نقله أبو داود في سننه عنه.

وابن رجب والعيني وأبو زرعة، نقله ابن رجب.

والبيهقي، فقد قال في سننه: باب الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء. [4/ 209]

وهو ظاهر كلام ابن رجب في لطائف المعارف.

وسبب ضعفه:

أولاً: أنه مخالف للأحاديث الصحيحة:

كحديث (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين

)، فهذا يدل على أن ما زاد على يومين أو ثلاثة فلا بأس.

وكحديث (صيام النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شعبان) وقد تقدم الحديث.

ثانياً: تفرد العلاء بن عبد الرحمن عن أصحاب أبي هريرة، مع أن الحديث في أمر تعم به البلوى ويحتاجه الناس.

وذهب جماعة من العلماء إلى تصحيحه، منهم:

الطحاوي، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وابن عبد البر، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، والسيوطي، وابن باز. قالوا: إن العلاء وثقه جمع من الحفاظ وأخرج له مسلم في صحيحه، وتفرده تفرد ثقة بحديث مستقل، وهذا لا يضر.

والصحيح أن الحديث لا يصح.

وأما من صحح الحديث فجمعوا بينه وبين حديث (كان أكثر صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان):

أولاً: أن يكون النهي لمن لم يكن له عادة، فإن كان له عادة فليصم.

ثانياً: أو من أنشأ الصوم بعد النصف، وإن صام قبل النصف فلا بأس.

ص: 251

691 -

وَعَنِ اَلصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَصُومُوا يَوْمَ اَلسَّبْتِ، إِلَّا فِيمَا اِفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا - رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ.

وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ مَنْسُوخٌ.

692 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ اَلْأَيَّامِ يَوْمُ اَلسَّبْتِ، وَيَوْمُ اَلْأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَهَذَا لَفْظُهُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث (لَا تَصُومُوا يَوْمَ اَلسَّبْتِ، إِلَّا فِيما افترض عليكم)؟

هذا الحديث اختلف العلماء فيه:

القول الأول: أنه ضعيف.

قال أبو داود: هذا حديث منسوخ.

وقال مالك: هذا كذب.

وقال النسائي: هذا حديث مضطرب.

وضعفه يحيي بن سعيد والطحاوي وابن القيم وابن حجر كما في التلخيص.

وسبب الضعف: الاضطراب في سنده والنكارة في متنه:

أما الاضطراب في سنده: فإن الحديث مداره على الصحابي: عبد الله بن بُسْر لكن اضطرب الرواة في روايته عنه:

فتارة رَووْه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم[بدون ذكر أخته]. [هذا عند أحمد].

وتارة رووه عنه عن أخته. [هذا كما في الرواية التي معنا: عند أبي داود والترمذي].

وتارة عنه عن عمته. [وهي لم يتغير اسمها: الصماء]. [عند ابن خزيمة والبيهقي].

وتارة عنه عن خالته الصماء. [عند النسائي في الكبرى].

وتارة عنه عن أمه الصماء. [انفرد بها تمام الرازي في كتابه الفوائد].

فقالوا: هذا اضطراب.

وأما نكارة متنه: فإن الحديث يدل على النهي عن صوم السبت إلا في حالة واحدة فقط: وهي أن يكون في صوم الفريضة، وهذا يدل على أنه لا يصام ولو كان قبله يوم أو بعده يوم.

وهذا يعارضه أحاديث أخرى أصح منه.

أ- ما رواه البخاري عن جويرية (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري).

فهذا حديث صريح في أنه يجوز صيام يوم السبت إذا كان قبله يوم، بخلاف حديث الباب فإنه لم يستثن هذه الحالة.

ب-ومنها: حديث (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده) ومعلوم قطعاً أن اليوم الذي بعد الجمعة هو يوم السبت.

ج- حديث الباب، حديث أم سلمة (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ اَلْأَيَّامِ يَوْمُ اَلسَّبْتِ، وَيَوْمُ اَلْأَحَدِ).

فهذه الأحاديث تدل على نكارة حديث الباب، وهذا القول هو الصحيح.

ص: 252

قال الشيخ ابن باز: لا حرج أن يصوم الإنسان يوم السبت مطلقاً في الفرض والنفل، والحديث الذي فيه النهي عن صوم يوم السبت حديث ضعيف مضطرب مخالف للأحاديث الصحيحة، فلا بأس أن يصوم المسلم من يوم السبت، سواءٌ كان عن فرض أو عن نفل، ولو ما صام معه غيره، والحديث الذي فيه النهي عن صوم يوم السبت إلا في الفرض حديث غير صحيح، بل هو ضعيف وشاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. (نور على الدرب).

القول الثاني: أنه صحيح.

وممن صححه: ابن السكن، قال النووي: صححه الأئمة.

وصححه الألباني وغيرهم.

والراجح أنه ضعيف لا يصح.

ولذلك فالراجح جواز صوم يوم السبت من غير كراهة ولو منفرداً.

•‌

‌ بما أجاب من قال بصحة الحديث؟

من صحح الحديث، بعضهم ذهب إلى أنه منسوخ.

قال أبو داود: وهذا حديث منسوخ. كما في سننه.

لكن لا دليل على النسخ، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص متعقباً دعوى أبي داود: ولا يتبين وجه النسخ فيه.

وذهب بعضهم: إلى أن النهي محمول على إفراده بالصيام، فإن صام يوماً قبله أو بعده فلا بأس.

وهذا رأي الترمذي وابن خزيمة وغيرهم.

أ- الترمذي، فقد أَخْرَجَ حديثَ الصَّمَّاءِ وقال: هذا حديثٌ حسنٌ، ومعنى كراهتِهِ في هذا أنْ يَخُصَّ الرجلُ يومَ السَّبْتِ بصيامٍ لأنَّ اليهودَ تُعظِّمُ يومَ السَّبْت.

ب- ابن خزيمة، فقد أخْرَجَ الحديث (وبَوَّبَ له في صحيحه: باب النهي عن صوم يوم السَّبْتِ تطَوُّعَاً إذا أُفرِد بالصوم).

ج-منهم ابن حبان، فقد ترجم (ذِكْرُ الزجر عن صوم يوم السَّبْتِ مُفْرَدَاً) وأَخْرَجَ تَحْتَهُ حديثَ عبد الله بن بُسْر، وترجم بَعْدَهُ:(ذِكْرُ العلة التي من أجلها نُهيَ عن صيام يوم السَّبْتِ مع البيان بأنَّه إذا قُرِن بيومٍ آخرَ جَازَ صومُهُ). وساق تَحْتَهُ حديثَ كُرَيْبٍ مولى ابنِ عباس عن أم سَلَمَةَ (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكثَرَ ما كانَ يصومُ من الأيام يومَ السَّبْتِ والأحد وكانَ يقول: إنَّهما عيدانِ للمشركين، وأنا أريد أنْ أُخالِفَهم).

د-قال النووي في المجموع: يُكْرَهُ إفرادُ يوم السَّبْتِ بالصوم، فإنْ صام قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ معه لم يُكرَه، صرَّح بكراهةِ إفرادهِ أصحابُنا، منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم

والصوابُ

أنَّه يُكْرَهُ إفرادُ السَّبْتِ بالصيام إذا لم يُوافق عادةً له لحديث الصَّمَّاء ....

هـ-قال ابن القيم: وقال جماعةٌ من أهل العلم: لا تعارُضَ بينه وبين حديث أم سَلَمَةَ، فإنَّ النهي عن صومه: إنَّما هو عن إفراده، وعلى ذلك تَرْجَمَ أبو داوُدَ

قالوا: ونظيرُ هذا أنَّه نهى عن إفراد يوم الجُمُعَةِ بالصوم إلا أنْ يصوم يوماً قَبْلَهُ أو يوماً بَعْدَهُ، وبهذا يزولُ الإشكالُ الذي ظنَّهُ مَنْ قال: إنَّ صومَهُ نوعُ تعظيمٍ له: فهو موافَقَةٌ لأهل الكتاب في تعظيمه، وإنْ تضمَّن مخالفتَهم في صومه، فإنَّ التعظيم إنَّما يكون إذا أُفرِدَ بالصوم ولا ريب أنَّ الحديث لم يجيء بإفراده، وأمَّا إذا صامه مع غيره، لم يكن فيه تعظيمٌ واللهُ أعلَمُ).

ص: 253

و-وقال الشوكاني: وقد جَمَعَ صاحِبُ البدر المنير بين هذه الأحاديث فقال النهيُ متوجِّهٌ إلى الإفراد، والصومُ باعتبارِ انضمامِ ما قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ إليه، ويؤيِّدُ هذا ما تقدَّمَ من إذنه صلى الله عليه وسلم لِمَنْ صام الجُمُعَةَ أنْ يصوم السَّبْتَ بعدها، والجَمْعُ مهما أمْكَنَ أولى من النسخ.

ك- وهو رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال:

الحال الأولى: أن يكون في فرضٍ كرمضان أداء، أو قضاءٍ، وكصيام الكفارة، وبدل هدي التمتع، ونحو ذلك، فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك معتقدا أن له مزية.

الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحدى أمهات المؤمنين وقد صامت يوم الجمعة: (أصمت أمس؟) قالت: لا، قال:(أتصومين غدا؟) قالت: لا، قال:(فأفطري) فقوله: (أتصومين غدا؟) يدل على جواز صومه مع الجمعة.

الحال الثالثة: أن يصادف صيام أيام مشروعة كأيام البيض ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شوال لمن صام رمضان، وتسع ذي الحجة فلا بأس، لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت، بل لأنه من الأيام التي يشرع صومها.

الحال الرابعة: أن يصادف عادة كعادة من يصوم يوماً ويفطر يوماً فيصادف يوم صومه يوم السبت فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين:(إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، وهذا مثله.

الحال الخامسة: أن يخصه بصوم تطوع فيفرده بالصوم، فهذا محل النهي إن صح الحديث في النهي عنه. (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حديث أم سلمة يدل على جواز صوم يوم السبت ويوم الأحد.

- هذا الحديث من الأحاديث التي تدل على نكارة حديث الصماء كما تقدم.

- أن مخالفة أهل الكتاب غاية مقصودة في الشرع، لأن المشابهة في الظاهر تورث المودة في الباطن.

ص: 254

693 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ غَيْرَ اَلتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَاسْتَنْكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ.

===

الحديث رواه أبو داود وغيره من طريق حَوْشَبْ بن عَقِيل عن مَهْدي الهَجَري قال حدثنا عكرمة عن أبي هريرة به.

والحديث ضعيف لأن في إسناده مَهْدي الهجري فالجمهور على أنه مجهول، قال ابن معين: لا أعرفه.

قال الشوكاني: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة بها، ولا يصح عنه النهي عن صيامه.

فالحديث ضعيف ولا يصح، وقد تقدمت مسألة حكم صوم يوم عرفة بعرفة.

ص: 255

694 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا صَامَ مَنْ صَامَ اَلْأَبَدَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

695 -

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ: (لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ).

===

(لَا صَامَ مَنْ صَامَ اَلْأَبَدَ) لفظ الحديث (قال لي رسول الله! يا عبد الله ابن عمرو! إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هَجَمت له العين ونهَكتْ، لا صام من صام الأبد).

(لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ) لفظ الحديث مختصراً (قال عمر يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر).

(اَلْأَبَدَ) هو الدهر الطويل الذي ليس بمحدود.

•‌

‌ ما معنى (لا صام من صام الأبد)؟

اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: هي جملة المقصود بها الدعاء على الصائم زجراً له عن مواصلة الصيام.

وقيل: هذه جملة المراد بها الخبر، والمعنى: لا صام: أي ما أدرك مشقة الصيام لكونه اعتاده، وقيل: لا أجر له لمخالفته الشرع.

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا صام ولا أفطر)؟

قيل: دعاء.

وقيل: إخبار، والمعنى ما صام وحصل الأجر، بسبب أنه لم يصم بأمر الشرع، ولا أفطر: ولا هو في الحقيقة مع المفطرين يأكل ويشرب.

•‌

‌ ما معنى صيام الدهر؟

المراد بصيام الدهر: سرد الصوم متتابعاً جميع الأيام باستثناء ما نهي عن صومه كأيام العيد وأيام التشريق.

•‌

‌ ما حكم صوم الدهر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: المنع مطلقاً، إما على وجه التحريم أو على وجه الكراهة ..

التحريم وهو قول ابن حزم، والكراهة هو مذهب الحنفية واختيار ابن قدامة وابن تيمية.

قال ابن قدامة: الذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام - يعني العيد والتشريق -، فإن صامها قد فعل محرماً، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه.

وقال ابن حزم: يحرم صوم الدهر أصلاً.

أ-لأحاديث الباب (لا صام من صام الأبد)، (لا صام ولا أفطر).

قال الحافظ رحمه الله: وَالْمَعْنَى بِالنَّفْيِ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ.

ب-لحديث أبي موسى مرفوعاً (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم). أخرجه أحمد

قال ابن حجر: وظاهره أنه تضيق عليه حصراً لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراماً.

ج-قوله صلى الله عليه وسلم (لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) وهذا وعيد شديد من مخالفة صوم النبي كصيام الدهر كما فعل بعض الصحابة، إذ قال أحدهم (أصوم أبداً).

ص: 256

د-عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا

إلى آخر الحديث. وفي رواية: فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك) رواه مسلم.

هـ-وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني قال: (بلغ عمر أن رجلاً يصوم الدهر، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول: كل يا دهري).

و-النظر الصحيح لما في صيام الدهر من المشقة على النفس وهذا يتعارض مع التشريع من التخفيف والتيسير.

القول الثاني: أنه يستحب صوم الدهر.

وهذا قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.

أما المالكية والشافعية فقد صرحوا بالاستحباب، وأما الحنابلة فنصوصهم جاءت بلفظ الجواز.

(والاستحباب مقيد عند الجميع بأن لا يؤدي صوم الدهر إلى تقصير في أداء الحقوق والواجبات، أو يخاف الصائم ضرراً على نفسه، فإن أدى لذلك فيكره حينئذ عند الشافعية والحنابلة، ويجوز عند المالكية).

واستدل هؤلاء:

أ-بحديث حمزة بن عمرو عند مسلم (أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم) وموضع الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سرد الصوم.

ب- ولحديث أبي موسى. قال صلى الله عليه وسلم (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم).

قال النووي رحمه الله: ومعنى: (ضيقت عليه) أي: عنه، فلم يدخلها.

وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو (لا أفضل من ذلك) أي في حقك، فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة، أو يفوت حقاً، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، فلو السرد ممتنعاً لبينه له، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام من كل شهر (كصيام الدهر). متفق عليه

قالوا: فدل على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به، وأنه أمر مطلوب.

د- أنه فعل بعض الصحابة كعائشة وعثمان وأبو طلحة.

عن ابن عمر أنه سئل عن صيام الدهر فقال: (كنا نعد أولئك فينا من السابقين). رواه البيهقي

وعن عروة أن عائشة (كانت تصوم الدهر في السفر والحضر) رواه البيهقي بإسناد صحيح.

وعن أنس قال (كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطراً إلا يوم الفطر أو الأضحى) رواه البخاري في صحيحه.

هـ-عموم الآيات والأحاديث الدالة على فضل العبادة وعمل الخير:

منها قوله تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).

وقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).

ص: 257

•‌

‌ بما أجاب الجمهور عن أدلة من قال بالمنع؟

أجابوا بما قال النووي رحمه الله:

أحدها: جواب عائشة رضي الله عنها وتابعها عليه خلائق من العلماء، أن المراد: من صام الدهر حقيقة، بأن يصوم معه العيد والتشريق، وهذا منهي عنه بالإجماع.

الثاني: أنه - يعني حديث (لا صام من صام الأبد) - محمول على أن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجد غيره، لأنه يألفه ويسهل عليه، فيكون خبراً لا دعاء، ومعناه لا صام صوماً يلحقه فيه مشقة كبيرة، ولا أفطر، بل هو صائم له ثواب الصائمين.

والثالث: أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوت به حقا، ويؤيده أنه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كان النهي خطاباً له، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه يضعف عن ذلك، وأقر حمزة بن عمرو - سيأتي حديثه فيما بعد - لعلمه بقدرته على ذلك بلا ضرر. (المجموع).

•‌

‌ بما أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة من قال بالجواز؟

أجابوا:

- أما حديث حمزة بن عمرو (إني أسرد الصوم) بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من سرد الصوم صوم الدهر، فقد قال أسامة بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال لا يفطر). رواه أحمد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر، فلا يلزم من ذكر السرد صوم الدهر. (الفتح).

وقد أجاب ابن حزم عن حديث حمزة بن عمرو الأسلمي وغيره من الصحابة الذين ورد أنهم كانوا يسردون الصوم: بأن سرد الصوم ليس هو صيام الدهر كله، وإنما هو متابعة الصيام لأشهر طويلة حتى يقال: لا يفطر، ولكن ليس صيام العام كله، وروي عن بعض الصحابة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه النهي الصريح عن صيام الدهر.

- وأما قوله (صيام ثلاثة أيام كصيام الدهر

) قال ابن القيم: هذا التشبيه إنما يقتضي التشبيه في ثوابه لو كان مستحباً.

- وأما الآية (من جاء بالحسنة

) والحديث (من صام يوماً .... ) فأجيب عن هذين الدليلين بأنهما عامَّان في كل صيام، وقد جاءت الأدلة السابقة بتخصيص صيام الدهر من عموم الاستحباب.

- وأما الجواب عن فعل بعض الصحابة كعائشة وأبو طلحة:

أولاً: أنه موقوف لا يعارض به المرفوع.

ثانياً: وصح عن بعض السلف أنهم كانوا يمنعون من يصوم الدهر.

ثالثاً: نصوص المنع أقوى من نصوص الجواز.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ اختلف المجيزون لصيام الدهر بالشرط المتقدم، أيهما أفضل: صوم الدهر أم صوم داود؟

فقيل: صوم الدهر أفضل.

لأنه أكثر عملاً، فيكون أكثر أجراً، وما كان أكثر أجراً كان أكثر ثواباً.

وقيل: صيام داود أفضل.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (

صم يوماً وأفطر يوماً، فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود). متفق عليه

يترجح من حيث المعنى بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق، وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه بل تضعف شهوته عن الأكل والشرب، وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهاراً، ويألف تناوله في الليل، بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالباً تفويت الحقوق.

ص: 258

‌بَابُ اَلِاعْتِكَافِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ

• الاعتكاف لغة: الإقامة، يقال: عكف بالمكان إذا أقام فيه، ومنه قوله تعالى:(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).

وشرعاً: لزوم المسجد بنية مخصوصة لطاعة الله وتفرغاً لعبادته.

وقيام رمضان: المراد الصلاة التي تصلى في رمضان بعد العشاء، وهي صلاة التراويح.

ص: 259

696 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

===

(مَنْ قَامَ رَمَضَانَ) المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. [قاله النووي]

ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في شهر رمضان ومعه ناس، ثم صلى الثانية فاجتمع الناس أكثر من الأولى، فلما كانت الثالثة أو الرابعة امتلأ المسجد حتى غض بأهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس ينادونه فقال: أما إنه لم يخفَ علي أمركم، ولكن خشيت أن تكتب عليكم).

زاد البخاري (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك).

(إِيمَانًا) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه.

(وَاحْتِسَابًا) أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه.

(غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، لكن أكثر العلماء على أن المراد الصغائر [وسبقت المسألة].

•‌

‌ ما المراد بقيام رمضان بقوله (من قام رمضان)؟

المراد بها صلاة التراويح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: فضل قيام رمضان والترغيب فيه.

قال النووي: هي سنة بالاتفاق.

وفي الحديث (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة).

•‌

‌ لماذا سميت بالتراويح؟

قال ابن حجر: سميت الصلاة في جماعة في ليالي رمضان التراويح، لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.

•‌

‌ من أول من جمع الناس لصلاة التراويح؟

وأول من جمع الناس عليها عمر.

فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ، إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ).

(أوزاع) بسكون الواو، أي: جماعة متفرقون.

قوله (فجمعهم على أبي بن كعب) أي جعله لهم إماماً، وكأنه اختاره عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وقال عمر:(أقرؤنا أبي).

ص: 260

•‌

‌ هل الأفضل أن تصلى جماعة أو فرادى؟

الأفضل صلاتها جماعة:

أ-لإقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها كما سبق.

ب-ولحديث أبي ذر السابق (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة).

•‌

‌ ما السبب في عدم استمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها؟

خشية أن تفرض عليهم صلاة الليل في رمضان، فيعجزون كما سبق في حديث عائشة.

•‌

‌ هل يشرع للنساء حضورها؟

نعم، بشرطه.

وقد روى سعيد بن منصور من طريق عروة (أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء).

•‌

‌ كم عدد ركعاتها؟

عدد ركعاتها (11) ركعة.

عن عائشة قالت (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه مسلم

وجاء عند مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال (أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة).

ولكن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم لا يدل على وجوب هذا العدد، فتجوز الزيادة، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: له أن يصلي عشرين ركعة، كما هو مشهور من مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصلي ستاً وثلاثين، كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وثلاث عشرة ركعة.

ثم استمر المسلمون، بعد ذلك يصلون صلاة التراويح كما صلاها الرسول، وكانوا يصلونها كيفما اتفق لهم، فهذا يصلي بجمع، وذاك يصلي بمفرده، حتى جمعهم عمر بن الخطاب على إمام واحد يصلي بهم التراويح، وكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان.

ومن الأدلة الواضحة على أن صلاة الليل ومنها صلاة التراويح غير مقيدة بعدد:

-حديث ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى) رواه البخاري ومسلم.

ونظرة إلى أقوال العلماء في المذاهب المعتبرة تبين لك أن الأمر في هذا واسع، وأنه لا حرج في الزيادة على إحدى عشرة ركعة:

-قال السرخسي وهو من أئمة المذهب الحنفي: فإنها عشرون ركعة سوى الوتر عندنا. (المبسوط)(2/ 145).

وقال ابن قدامة: والمختار عند أبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) رحمه الله، فيها عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال مالك: ستة وثلاثون.

-وقال النووي: صلاة التراويح سنة بإجماع العلماء، ومذهبنا أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات وتجوز منفرداً وجماعة.

" المجموع "(4/ 31).

فهذه مذاهب الأئمة الأربعة في عدد ركعات صلاة التراويح وكلهم قالوا بالزيادة على إحدى عشرة ركعة، ولعل من الأسباب التي جعلتهم يقولون بالزيادة على إحدى عشرة ركعة:

أولاً: أنهم رأوا أن حديث عائشة رضي الله عنها لا يقتضي التحديد بهذا العدد.

ثانياً: وردت الزيادة عن كثير من السلف.

ص: 261

ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة وكان يطيلها جداً حتى كان يستوعب بها عامة الليل، بل في إحدى الليالي التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بأصحابه لم ينصرف من الصلاة إلا قبيل طلوع الفجر حتى خشي الصحابة أن يفوتهم السحور، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبون الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستطيلونها، فرأى العلماء أن الإمام إذا أطال الصلاة إلى هذا الحد شق ذلك على المأمومين وربما أدى ذلك إلى تنفيرهم فرأوا أن الإمام يخفف من القراءة ويزيد من عدد الركعات.

والحاصل: أن من صلى إحدى عشرة ركعة على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أحسن وأصاب السنة، ومن خفف القراءة وزاد عدد الركعات فقد أحسن، ولا إنكار على من فعل أحد الأمرين. (الإسلام سؤال وجواب)

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- شرط مغفرة الذنوب بشرطين: أن يكون إيماناً، وأن يكون محتسباً.

- فضل الإخلاص لله.

- سعة رحمة الله.

- فضل شهر رمضان.

- هذا الأجر يحصل لمن قام جميع رمضان، فلو قام بعض الليالي دون بعض فلا يحصل له هذا الأجر.

ص: 262

697 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ اَلْعَشْرُ -أَيْ: اَلْعَشْرُ اَلْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ- شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(وَأَحْيَا لَيْلَهُ) أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، وليس المراد إحياء جميع الليل وإنما المراد معظمه.

(وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) أي أيقظهم للصلاة في الليل، وجد في العبادة، والمراد زوجاته.

•‌

‌ ما معنى قولها (شَدَّ مِئْزَرَهُ)؟

اختلف في تفسير ذلك على قولين:

القول الأول: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة.

القول الثاني: هو كناية عن اعتزاله النساء.

ورجحه ابن رجب رحمه الله، وقال: الصحيح: أن المراد: اعتزاله النساء وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، منهم: سفيان الثوري، وقد ورد ذلك صريحاً من حديث عائشة وأنس، وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان، وفي حديث أنس: وطوى فراشه واعتزل النساء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غالباً يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع.

•‌

‌ ما المراد بقوله (وأحيا ليله) هل إحياء جميع الليل أم غالبه؟

المراد إحياء غالبه وأكثره.

ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة أنها قالت (ما أعلمه قام ليلة حتى الصباح).

•‌

‌ اذكر بعض ما تميزت به العشر الأواخر من رمضان؟

تميزت هذه الليالي بأمور:

أولاً: إحياء الليل بالعبادة.

ثانياً: إيقاظ الأهل للصلاة.

ثالثاً: اعتزال النساء تفرغاً للعبادة.

رابعاً: الاعتكاف.

•‌

‌ هل يستحب إيقاظ الأهل للصلاة والطاعة؟

نعم، يستحب ذلك.

قال سفيان الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إذا أطاقوا ذلك.

وهذا العمل مسنون في كل الأيام لكنه يتأكد في ليالي العشر.

ومما يدل على استحبابه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء). رواه أبو داود

وفي الموطأ: (أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة، الصلاة، ويتلو هذه الآية (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها).

وكانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا:

يا نائماً بالليل كم ترقد

قم يا حبيبي قد دنا الموعد

وخذ من الليل وأوقاته

ورداً إذا ما هجع الرقد

من نام حتى ينقضي ليله

لم يبلغ المنزل أو يجتهد

قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد

ص: 263

698 -

وَعَنْهَا: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(كَانَ يَعْتَكِفُ) سبق تعريف الاعتكاف وأنه: لزوم المسجد بنية مخصوصة لطاعة الله.

•‌

‌ اذكر الأدلة على استحباب الاعتكاف؟

أ- قوله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

ب- حديث الباب.

ج- قوله صلى الله عليه وسلم (

فمن أحب أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر) رواه مسلم.

•‌

‌ ما الحكمة من الاعتكاف؟

التفرغ للعبادة، والانقطاع عن العوائق والشواغل.

قال ابن تيمية: ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبُّه ويعظِّمه، كما كان المشركون يعكفون على أصنامهم وتماثيلهم، ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم شرع الله لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى.

وذلك: لكي ينأى بنفسه عن الشَّواغل التي تحول بين المرء وبين أن يتفرَّغ لعبادة ربّه سبحانه وتعالى!

وهذه الشواغل تتمثل في الفضول الأربعة:

فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام!

فالقدر المناسب من هذه المضرّات الأربعة، ليس مضرّاً، ولكن الزيادة فيها عن حدّ الاعتدال!

وقال ابن القيم: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى!

وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً، ويُشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسُه بالله بدلاً من أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصودُ الاعتكاف الأعظم.

وقال ابن رجب: فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.

ص: 264

•‌

‌ متى يجب الاعتكاف؟

يجب بالنذر.

قال الحافظ: وليس واجباً إجماعاً إلا على من نذره.

لحديث عمر أنه قال (يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك). متفق عليه

ولحديث عائشة (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري.

•‌

‌ متى آكد الاعتكاف وأفضله؟

آكد الاعتكاف في رمضان، وأفضله العشر الأواخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفها حتى توفاه الله عز وجل.

ففي حديث الباب (كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ).

• ما الحكمة من تخصيص الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؟

لالتماس ليلة القدر.

عنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ .... ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ: إِنِّى اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِى إِنَّهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ) متفق عليه.

•‌

‌ ما أكثر الاعتكاف؟

اتفقوا على أنه لا حد لأكثره. [قاله في الفتح]

فائدة:

اختلف العلماء في أقل الاعتكاف على أقوال:

القول الأول: أن أقله لحظة.

وهذا مذهب الجمهور، فهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

قال النووي: وَأَمَّا أَقَلُّ الاعْتِكَافِ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لُبْثٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْكَثِيرُ مِنْهُ وَالْقَلِيلُ حَتَّى سَاعَةٍ أَوْ لَحْظَة.

أ-أن الاعتكاف في اللغة هو الإقامة، وهذا يصدق على المدة الطويلة والقصيرة ولم يرد في الشرع ما يحدده بمدة معينة.

قال ابن حزم: والاعتكاف في لغة العرب الإقامة .. فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف .. مما قل من الأزمان أو كثر، إذ لم يخص القرآن والسنة عدداً من عدد، ووقتاً من وقت.

ب-روى ابن أبي شيبة عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف. احتج به ابن حزم في المحلى (5/ 179) وذكره الحافظ في الفتح وسكت عليه. والساعة هي جزء من الزمان وليست الساعة المصطلح عليها الآن وهي ستون دقيقة.

ج-أن الاعتكاف في اللغة يقع على القليل والكثير.

ص: 265

قال الشيخ ابن باز: الاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة، لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك، وهو عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجباً بالنذر وهو في المرأة والرجل سواء.

القول الثاني: أن أقل مدته يوم.

وقال به بعض المالكية.

القول الثالث: أن أقل مدته يوم وليلة.

وهذا مذهب المالكية.

لحديث عمر أنه قال (يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك). متفق عليه.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ ما هي مبطلات الاعتكاف؟

أولاً: الجماع.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه.

وقال ابن حجر: واتفقوا على فساده بالجماع.

قال تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع.

ثانياً: الخروج بجميع بدنه بلا عذر.

فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة.

لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له). رواه أبو داود

•‌

‌ هل يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في مسجد؟

نعم، يشترط أن يكون في مسجد.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد.

وقال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً.

•‌

‌ اذكر الخلاف في ضابط المسجد الذي يصح في الاعتكاف؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.

لحديث حذيفة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة). رواه سعيد بن منصور

القول الثاني: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة.

وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

ص: 266

وجه الدلالة: أن الآية تعم كل مسجد، وخص منها ما تقام فيه الجماعة لأدلة وجوب الجماعة.

قال ابن قدامة في المغني: وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، وَاعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ.

القول الثالث: أنه في كل مسجد سواء تقام فيه الجماعة أم لا.

وهذا مذهب الشافعية.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). قالوا: وهذا عام يشمل كل المساجد ولا يقبل تخصيصها ببعض المساجد إلا بدليل.

القول الرابع: أنه لا بد في مسجد جامع.

وهذا اختيار الصنعاني.

لقول عائشة (لا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أخرجه ابن أبي شيبة.

والراجح القول الأول وأنه يصح في كل مسجد جماعة.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث حذيفة (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)؟

أولاً: أنه لا يثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أنه لو كان ثابتاً مرفوعاً لاشتهر ذلك بين الصحابة، وقد خالفه جمع من الصحابة.

قال علي بن أبي طالب: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. أخرجه ابن أبي شيبة.

وقالت عائشة: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. أخرجه البيهقي.

وقال ابن عباس: لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة. أخرجه البيهقي

ثالثاً: أنه لو قيل: بموجب هذا الحديث لكان حملاً للآية على النادر، وهذا من معايب الاستدلال.

رابعاً: على فرض ثبوته، فالمراد: لا اعتكاف كامل لما تقدم من أدلة الرأي الأول.

•‌

‌ هل يشرع الاعتكاف للمرأة؟

نعم يشرع لها الاعتكاف كالرجل.

لحديث الباب (

ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ).

•‌

‌ ما ضابط المسجد الذي يصح أن تعتكف فيه؟

وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة فيه.

لكن هذا القول ضعيف.

والصحيح أنه يصح اعتكافها في كل مسجد، ولو لم تقم فيه الجماعة، سوى مسجد بيتها.

وهذا مذهب الجمهور.

ص: 267

قال ابن قدامة:

أ- وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ سُمِّيَ مَسْجِدًا كَانَ مَجَازًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَسَاجِدِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا).

ب-وَلِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكَافِهِنَّ، لَمَا أَذِنَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ.

ج-وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ يُشْتَرَطُ لَهَا الْمَسْجِدُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، كَالطَّوَافِ.

•‌

‌ ما شروط اعتكاف المرأة؟

أولاً: إذن الزوج.

ثانياً: إذا أمنت الفتنة.

ثالثاً: أن تكون طاهرة.

•‌

‌ أيهما أفضل في العشر الأواخر العمرة أم الاعتكاف؟

اعتكاف العشر الأواخر من رمضان آكد من العمرة في رمضان، والجمع بينهما أكمل، فإن كان لا بد لأحدهما دون الآخر، فالاعتكاف أفضل لوجوه:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر ولم يعتمر.

ثانياً: أن الاعتكاف يعتبر في بعض البلاد من السنن المهجورة، فكان إحياؤه أولى من العمرة في رمضان.

ثالثاً: ولأن الاعتكاف في العشر يفوت وقته بخلاف العمرة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قولها (

واعتكف أزواجه من بعده)؟

نستفيد:

أ- استمرار هذا الحكم وعدم نسخه.

ب-استحباب الاستمرار على ما اعتاده الإنسان من فعل الخير وأنه لا يقطعه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فتركه) متفق عليه.

ص: 268

699 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى اَلْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(مُعْتَكَفَهُ) أي مكان اعتكافه.

•‌

‌ متى يدخل المعتكِف معتكفَه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يدخل من بعد صلاة الصبح من يوم إحدى وعشـ 21 ـرين.

قال ابن حجر: وهو قول الأوزاعي والليث والثوري.

ومال إليه الصنعاني.

لحديث الباب.

قال الخطابي: وفيه من الفقه: أن المعتكف يبتداء اعتكافه من أول النهار، ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر.

وقال الصنعاني: فيه دليلٌ على أنّ أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر، وهو ظاهر في ذلك.

القول الثاني: يدخل قبيل غروب الشمس من يوم العشرين (ليلة إحدى وعشـ 21 ـرين).

ونسبه الحافظ ابن حجر إلى الأئمة الأربعة.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: يدخل المعتكف معتكفه بأن يدخل المسجد الذي يريد الاعتكاف فيه إذا غابت الشمس من ليلة العشرين من رمضان، ويخرج إذا غابت الشمس من الليلة الأولى من شهر شوال

والعشر الأواخر من رمضان تدخل من ليلة إحدى وعشرين وليس من فجر إحدى وعشرين.

وهذا القول هو الصحيح.

1 -

أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. متفق عليه، وهذا يدل على أنه كان يعتكف الليالي لا الأيام، لأن العشر تمييز لليالي، قال الله تعالى (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، والعشر الأواخر تبدأ من ليلة إحدى وعشرين.

2 -

قالوا: إن من أعظم ما يقصد من الاعتكاف التماس ليلة القدر، وليلة إحدى وعشرين من ليالي الوتر في العشر الأواخر فيحتمل أن تكون ليلة القدر، فينبغي أن يكون معتكفاً فيها.

قال ابن تيمية: لأنه لا يكون معتكفًا جميع العشر إلا باعتكاف أول ليلة منه، لا سيما وهي إحدى الليالي التي يلتمس فيها ليلة القدر.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث الباب؟

الجواب من وجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً قبل غروب الشمس ولكنه لم يدخل المكان الخاص بالاعتكاف إلا بعد صلاة الفجر.

قال النووي: (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِف صَلَّى الْفَجْر ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفه) اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُول: يَبْدَأ بِالاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّل النَّهَار، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْث فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد: يَدْخُل فِيهِ قَبْل غُرُوب الشَّمْس إِذَا أَرَادَ اِعْتِكَاف شَهْر أَوْ اِعْتِكَاف عَشْر، وَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْمُعْتَكَف، وَانْقَطَعَ فِيهِ، وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ بَعْد صَلَاته الصُّبْح، لا أَنَّ ذَلِكَ وَقْت اِبْتِدَاء الاعْتِكَاف، بَلْ كَانَ مِنْ قَبْل الْمَغْرِب مُعْتَكِفًا لابِثًا فِي جُمْلَة الْمَسْجِد، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْح اِنْفَرَدَ.

ص: 269

وقال ابن حجر: وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح.

و‌

‌سئل الشيخ ابن عثيمين: متى يبتدئ الاعتكاف؟

فأجاب: جمهور أهل العلم على أن ابتداء الاعتكاف من ليلة إحدى وعشرين لا من فجر إحدى وعشرين، وإن كان بعض العلماء ذهب إلى أن ابتداء الاعتكاف من فجر إحدى وعشرين مستدلاًّ بحديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري:(فلما صلى الصبح دخل معتكفه) لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأن الرسول عليه الصلاة والسلام انفرد من الصباح عن الناس، وأما نية الاعتكاف فهي من أول الليل، لأن العشر الأواخر تبتدئ من غروب الشمس يوم عشرين.

الجواب الثاني: أَجَابَ به الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَة بِحَمْلِ الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَل ذَلِكَ فِي يَوْم الْعِشْرِينَ. قال السندي: وَهَذَا الْجَوَاب هُوَ الَّذِي يُفِيدهُ النَّظَر، فَهُوَ أَوْلَى وَبِالاعْتِمَادِ أَحْرَى.

•‌

‌ متى يخرج المعتكف من معتكفه؟

ذهب بعض العلماء إلى أنه يستحب أن يكون خروجه من معتكفه عند خروجه إلى صلاة العيد.

لكي يصل عبادة بعبادة.

وقيل: يخرج إذا غربت الشمس ليلة العيد.

وهذا القول هو الصحيح، لأن العشر الأواخر تنتهي بانتهاء الشهر، والشهر ينتهي بغروب الشمس من ليلة العيد.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية الاعتكاف.

- وفيه أن المعتكف يتخذ لنفسه مكاناً خاصاً وذلك ليخلو بربه بشرط أن لا يضيق على المصلين.

- أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد.

ص: 270

700 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ -وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

===

(فَأُرَجِّلُهُ) أمشط شعر رأسه وأسويه وأزينه.

(إِلَّا لِحَاجَةٍ) فسرها الزهري بالبول والغائط.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن من أخرج بعض بدنه من المسجد لم يكن ذلك قادحاً في صحة الاعتكاف.

•‌

‌ اذكر أقسام خروح المعتكف من المسجد؟

أولاً: خروج بعض جسد المعتكف.

فهذا لا يبطل الاعتكاف بالاتفاق.

لحديث الباب.

ثانياً: الخروج لما لا بد منه كالغائط والبول. (خروجه للوضوء إذا لم يكن فعله في المسجد).

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج عن معتكفه للغائط أو البول.

لحديث الباب (إلا لحاجة الإنسان) أي البول أو الغائط.

قال الشوكاني: وقد وقع الإجماع على استثنائهما.

ثالثاً: الخروج بجميع بدنه بلا عذر. (كالبيع والشراء).

فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة.

لحديث الباب (وكان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً).

رابعاً: الخروج للأكل والشرب.

ليس له ذلك إلا إذا لم يكن هناك من يأتيه به، وهذا مذهب الجمهور.

خامساً: الخروج لصلاة الجمعة.

إذا تخلل الاعتكاف جمعة في مسجد غير جامع وجب على المعتكف الخروج إلى صلاة الجمعة إذا كان من أهلها.

سادساً: الخروج لقربة من القرب:

كعيادة مريض، وصلاة جنازة، له الخروج إذا اشترط.

•‌

‌ إذا تخلل الاعتكاف جمعة وجب عليه الخروج إليها، لكن هل يبطل اعتكافه؟

قيل: لا يبطل اعتكافه.

وهذا مذهب الحنفية والحنابلة وبه قال ابن حزم.

أ-واستدلوا بالأدلة الدالة على مشروعية الاعتكاف في مسجد الجماعة.

وجه الدلالة: أن الشارع أذن بالاعتكاف في مسجد الجماعة مع إيجاب صلاة الجمعة، فدل ذلك على إذنه للخروج لصلاة الجمعة، وما ترتب على المأذون غير مضمون.

ص: 271

ب- أدلة وجوب صلاة الجمعة كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ).

وجه الدلالة: دلت هذه الأدلة على عدم بطلان الاعتكاف بالخروج إلى صلاة الجمعة، لأن إيجاب الشارع لها يقتضي استثناءها من عدم البطلان بالخروج.

وقيل: يبطل اعتكافه.

وهذا مذهب المالكية والشافعية.

قالوا: بأنه يمكنه الاحتراز من الخروج بأن يعتكف في مسجد جامع.

والراجح القول الأول، وهو عدم البطلان. (فقه الاعتكاف للمشيقح).

•‌

‌ ما حكم مباشرة الزوجة حال الاعتكاف؟

إذا باشر المعتكف زوجته لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: إن كان لغير شهوة فلا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة الأربعة.

لحديث الباب.

والحال الثانية: وإن كانت المباشرة لشهوة حرم ذلك عليه باتفاق العلماء.

أ-لحديث الباب (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ).

ب- ولمنافاته حال الاعتكاف.

•‌

‌ وهل يبطل اعتكافه؟

قولان للعلماء:

جماهير العلماء أنه لا يبطل اعتكافه إلا بالإنزال، إبقاء على الأصل، وهو صحة الاعتكاف، ولم يرد ما يدل على بطلانه.

وأما الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فالمراد بالمباشرة هنا الجماع في قول جمهور المفسرين، وهو اختيار ابن جرير. (فقه الاعتكاف للمشيقح).

•‌

‌ هل يجوز للمعتكف أن يحادث أهله وأن يزوروه؟

نعم، يجوز له محادثة أهله، وذلك ليقضوا حوائجه، ويفعلوا مصالحه، أو غير ذلك من المصالح العامة والخاصة.

وكذلك يجوز للإنسان المعتكف أن يزوره أهله.

لحديث صفية بنت حيي قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته لأزوره ليلاً، فحدثته ثم هممت لأنقلب فقام معي

ليقلبني

). متفق عليه

(لأنقلب) أي ترجع إلى بيتها. (ليقلبني) أي يردها إلى منزلها.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- الاهتمام بشعر الرأس.

- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ الشعر.

- خدمة المرأة لزوجها.

- جواز تنظيف المعتكف رأسه وبدنه وثيابه.

ص: 272

701 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: (اَلسُّنَّةُ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ، إِلَّا أَنَّ اَلرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ.

702 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيْسَ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا.

===

(وَلَا يُبَاشِرَهَا) المراد بالمباشرة هنا الجماع بقرينة ذكر اللمس قبلها.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

- قول عائشة انفرد بإخراجه أبو داود في سننه عن بقية أصحاب الكتب الستة، وقد اختلف العلماء فيه، وقد رجح بعض الحفاظ أن المحفوظ أنه من قول عروة بن الزبير.

- حديث ابن عباس أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن محمد الرَّمْلِي قال حدثنا محمد بن يحيي بن أبي عمر قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي عن أبي سُهَيْل عن مالك بن أنس عن طاووس عن ابن عباس به مرفوعاً.

وقد اختلف في هذا الحديث في رفعه ووقفه، ورجح الدارقطني الوقف، وأن الذي رفعه عبد الله بن محمد الرملي وغيره لا يرفعه، ورجح البيهقي أيضاً وقفه.

•‌

‌ هل يجوز للمعتكف أن يعود مريضاً، ويشهد جنازة؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه ليس له الخروج إلا بالشرط. وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.

أ- لحديث الباب (

لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً).

ب-ولقولها (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه) رواه مسلم.

والدليل على جوازه إذا اشترط:

عموم قوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

ولحديث ضباعة بنت الزبير، وفيه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم (حجي واشترطي) متفق عليه.

وجه الدلالة: أنه إذا كان الشرط يؤثر في الإحرام، وهو ألزم العبادات بالشروع فيه، فالاعتكاف من باب أولى.

القول الثاني: أن له الخروج بلا شرط.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ ما معنى قولها (ولا يمس امرأة ولا يباشرها)؟

المراد بالمباشرة هنا الجماع، بقرينة ذكر المس قبلها.

ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.

ص: 273

•‌

‌ هل يشترط لصحة الاعتكاف الصوم؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يشترط للاعتكاف صوم.

وهذا قول أبي حنيفة ومالك، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.

قال ابن القيم: القول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.

أ- لقوله تعالى (

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وجه الاستدلال: أنّ الله تعالى ذكر الاعتكاف إثر الصوم فوجب أن لا يكون الاعتكاف إلا بصوم.

ب- لحديث الباب - قول عائشة - (من السنة

ولا اعتكاف إلا بصوم).

ج-ما روته عائشة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني.

القول الثاني: لا يشترط الصوم للاعتكاف.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوال.

فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الاِعْتِكَافَ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ فَقَالَ «آلْبِرَّ تُرِدْنَ» . فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الاِعْتِكَافَ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِى الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ) رواه مسلم.

قال البغوي: وفي اعتكافه في أوَّل شوال دليلٌ على أنّ الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف؛ لأنّ يوم العيد غير قابل للصوم.

ب-ولحديث ابن عمر: (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك). متفق عليه، والليل ليس محلاً للصوم، ولو كان الصوم شرطاً لما صح اعتكاف الليل؛ لأنه لا صيام فيه.

قال الخطابي: وفيه دليل على أنّ الاعتكاف جائز بغير صوم؛ لأنه كان نذرَ اعتكافَ ليلة، والليل ليس بمحل للصوم.

وهذا الحديث أيضًا قد بوّب له ابن خزيمة بقوله: باب الخبر الدال على إجازة الاعتكاف بلا مقارنة للصوم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر باعتكاف ليلة، ولا صوم في الليل.

ج- حديث الباب - ابن عَبَّاسٍ - أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيْسَ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ) وتقدم أنه ضعيف.

د-ولأنه عبادة تصح في الليل، فلم يشترط له الصيام كالصلاة، ولأنه عبادة تصح في الليل، فأشبه سائر العبادات.

هـ-ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع، ولم يصح فيه نص، ولا إجماع، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف.

قال الشوكاني: استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن الليل ليس بوقت صوم.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 274

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة القول الأول؟

أما قوله تعالى (

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

فليس فيها ما يدلُّ على تلازمهما وإلا لكان لا صوم إلا باعتكاف، ولا قائل به.

وأما قول عائشة - (من السنة

ولا اعتكاف إلا بصوم).

قال البيهقي: قد ذهب كثيرٌ من الحفاظ إلى أنّ هذا الكلام من قول من دون عائشة، وأنّ من أدرجه في الحديث وهم فيه.

وقال أيضًا: قد أخرج البخاري ومسلم صدر هذا الحديث في الصحيح إلى قوله: «والسنة في المعتكف أن لا يخرج» ، ولم يُخرجا الباقي؛ لاختلاف الحفاظ فيه: منهم من زعم أنه من قول عائشة، ومنهم من زعم أنه من قول الزهري، ويشبه أن يكون من قول مَنْ دون عائشة.

وقال ابن عبد البر: لم يَقل أحدٌ في حديث عائشة هذا «السنة» إلا عبد الرحمن بن إسحاق، ولا يصح الكلام عندهم إلا من قول الزهري، وبعضه من كلام عروة.

وأما ما روته عائشة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني.

فهذا ضعيف لا يصح.

فيه سويْد بن عبد العزيز، قال ابن حجر: ضعيف جداً.

وأيضاً قد رواه غير واحد عن الزهري موقوفاً على عائشة.

قال البيهقي: رفعُه وهم، والصحيح موقوف.

أما حديث وأما قول عائشة (لا اعتكاف إلا بصوم)، فلا يصح مرفوعاً، وعلى فرض صحته فالمعنى أنه لا اعتكاف كامل إلا بصوم.

قال النووي: لو ثبت لوجب حمله على الاعتكاف الأكمل، جمعًا بين الأحاديث.

وقال ابن قدامة: ولو صحَّ فالمراد به الاستحباب، فإنّ الصوم فيه أفضل.

•‌

‌ هل يشترط للاعتكاف أن يكون في مسجد؟

نعم.

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد.

وقال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً.

لكن اختلفوا ما هو ضابط المسجد:

القول الأول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.

لحديث حذيفة مرفوعاً: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة). رواه سعيد بن منصور

القول الثاني: يصح في كل مسجد سواء أقيمت فيه الجماعة أم لا.

القول الثالث: لا يصح إلا في مسجد جماعة.

قال شيخ الإسلام: وهو قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه، إلا قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة أو مسجد جماعة، وهذا القول هو الصحيح".

ص: 275

ولأن اعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين:

إما ترك الجماعة الواجبة - وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيراً.

وأما الجواب عن حديث حذيفة: أنه حديث لا يصح، وعلى فرض صحته فهو محمول على الاعتكاف الأكمل.

- أن المرأة يشرع لها الاعتكاف كالرجل، ويصح اعتكافها في كل مسجد، ولو لم تقم فيه الجماعة، سوى مسجد بيتها، وهذا مذهب الجمهور.

لعموم قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد).

- ولحديث عائشة وفيه: (استئذان أزواجه صلى الله عليه وسلم أن يعتكفن في المسجد فأذن لهن). متفق عليه

وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة فيه.

وهذا قول ضعيف، لأن موضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الاعتكاف لا يجب على الإنسان إلا إذا نذره على نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطع الله فليطعه).

- وفيه دليل على أن المسجد شرط للاعتكاف. [وسبقت المسألة]

ص: 276

703 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ اَلْقَدْرِ فِي اَلْمَنَامِ، فِي اَلسَّبْعِ اَلْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي اَلسَّبْعِ اَلْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي اَلسَّبْعِ اَلْأَوَاخِرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

704 -

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.

وَقَدْ اِخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا أَوْرَدْتُهَا فِي " فَتْحِ اَلْبَارِي.

===

(أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء.

(أُرُوا) بضم أوله، أي: قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر، والظاهر أن المراد أواخر الشهر.

(لَيْلَةَ اَلْقَدْرِ فِي اَلْمَنَامِ) أي: قيل لهم في المنام، إنها في السبع الأواخر.

(أَرَى رُؤْيَاكُمْ) قال عياض: كذا جاء بإفراد الرؤيا، والمراد: مرائيكم، لأنها لم تكن رؤيا واحدة، وإنما أراد الجنس.

(تواطأت) أي توافقت.

(فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا) أي: طالباً لليلة القدر.

•‌

‌ اذكر بعض فضائل ليلة القدر؟

أولاً: قيامها سبب لمغفرة الذنوب.

قال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

ثانياً: أنزل فيها القرآن.

قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر).

ثالثاً: أنها مباركة.

قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة).

رابعاً: نزول الملائكة والروح فيها.

قال تعالى (تنزل الملائكة والروح فيها).

قال ابن كثير: أي: يكثر تنزّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزّل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَقِ الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له.

خامساً: أنها سلام إلى مطلع الفجر.

قال تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر).

عن مجاهد في قوله (سَلَامٌ هي) قال: سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى.

قال ابن الجوزي:

وفي معنى السلام قولان:

أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.

والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة.

ص: 277

•‌

‌ ما سبب تسميتها بليلة القدر؟

فقيل: لأن الله يقدر فيها الأرزاق والآجال وحوادث العام، كما قال تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم).

وعزاه النووي للعلماء حيث صدر كلامه فقال: قال العلماء: سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار.

وقيل: سميت بذلك لأنها ليلة عظيمة وذات شرف، من قولهم لفلان قدر عند فلان، أي: منزلة وشرف، ويدل لذلك قوله تعالى (ليلة القدر خير من ألف شهر).

وقيل: سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

•‌

‌ اذكر خلاف العلماء في تحديد ليلة القدر؟

اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر على أقوال كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري.

ويمكن تقسيم هذه الأقوال إلى:

هناك أقوال مرفوضة. كالقول بإنكارها من أصلها أو رفعها.

هناك أقوال ضعيفة. كالقول بأنها ليلة النصف من شعبان.

هناك أقوال مرجوحة. كالقول بأنها في رمضان في غير العشر الأخيرة منه.

القول الراجح. أنها في العشر الأواخر من رمضان، وآكدها أوتارها.

قال ابن حجر: وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.

الدليل على أن أوتار العشر آكد:

حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان). رواه البخاري ومسلم وفي رواية: (في الوتر من العشر الأواخر).

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها). رواه مسلم

وآكد هذه الأوتار ليلة سبع وعشرين، الأدلة:

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه[المحدث الملهم] وحذيفة بن اليمان [صاحب السر] لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين.

ما رواه مسلم عن أبي بن كعب أنه كان يقول: (والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان ـ يحلف ما يستثني ـ ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين).

قال ابن رجب: ومما استدل به من رجح أنها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات التي رؤيت فيها قديماً وحديثاً.

•‌

‌ ما الحكمة من إخفائها؟

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر، ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها لاقتصر عليها.

ص: 278

•‌

‌ اذكر سبب رفع علمها؟

جاء في حديث عبادة (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ «إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْس) رواه البخاري.

فهذا يفيد أنها رفعت بسبب المخاصمة.

وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِى بَعْضُ أَهْلِى فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ).

والجمع: إما أنه يحمل على التعدد، أو يكون المعنى: أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرجلين فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما.

قوله (فرفعت) قال ابن كثير: أي رفع علم تعيينها لكم، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود، لأنه قال بعد هذا: فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.

وقوله (وعسى أن يكون خيراً) أي وإن كان عدم الرفع أزيد خيراً وأولى منه، لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب، لكونه سبباً لزيادة الاجتهاد في التماسها.

وقال ابن كثير: وعسى أن يكون خيراً: يعني عدم تعيينها لكم، فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محالِّ رجائها فكان أكثر للعبادة، بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط. وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده. [تفسير ابن كثير. 4/ 534]

قال القاضي عياض: فيه أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان.

- وفيه أن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير.

•‌

‌ اذكر بعض علامات ليلة القدر؟

جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر من أماراتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع

لها).

ما جاء في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة). رواه ابن خزيمة

وذكر بعض العلماء علامات أخرى: زيادة النور في تلك الليلة، طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن

•‌

‌ اذكر بعض العلامات التي لا أصل لها؟

قال الحافظ: وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها وأن كل شيء يسجد فيها.

ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح في ليلة القدر حلوة، وهذا لا يصح.

وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها ولا ترى نجومها، وهذا لا يصح.

•‌

‌ هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على كشفها؟

ذهب إلى الأول الطبري وابن العربي وجماعة.

وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (من يقم ليلة القدر فيوافقها).

وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد (من قامها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له).

قال النووي: معنى يوافقها: أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها.

ص: 279

•‌

‌ ماذا يسن لمن علمها أن يقول؟

يسن أن يقول لمن علمها:

ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت (قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). رواه الترمذي

•‌

‌ ماذا يسن لمن رأى ليلة القدر؟

قال النووي في المجموع: ويسن لمن رآها كتمها.

وقال في شرح مسلم: وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر مَوْجُودَة كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل الْبَاب، فَإِنَّهَا تُرَى، وَيَتَحَقَّقهَا مَنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَم كُلّ سَنَة فِي رَمَضَان كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْبَاب، وَإِخْبَار الصَّالِحِينَ بِهَا وَرُؤْيَتهمْ لَهَا أَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَر، وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: عَنْ الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة لا يُمْكِن رُؤْيَتهَا حَقِيقَة، فَغَلَط فَاحِش، نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلا يُغْتَرّ بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

وقال شيخ الإسلام: وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ. فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الأَمْرُ.

فوائد:

- روى عبد الرزاق في مصنفه أن التابعي الجليل مكحول الدمشقي كان يرى ليلة القدر ثلاث وعشرين.

- قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أبو زيد الأنصاري: يقال أنه كان يرى ليلة القدر.

- قال النووي في المجموع: ليلة القدر مختصة في هذه الأمة زادها الله شرفاً لم تكن لمن كان قبلنا.

- وقال أيضاً رحمه الله: إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء.

وقيل: بل كانت موجودة في الأمم الماضية.

لحديث أبي ذر أنه قال: (يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر في رمضان أو في غيره؟ فقال: بل هي في رمضان، قال: قلت: يا رسول الله، تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبض الأنبياء رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة). رواه النسائي

ص: 280

705 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: " قُولِي: اَللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ اَلْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: استحباب قول هذا الدعاء عند إدراك ليلة القدر.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- فيه علو الهمة عند الصحابة.

- حرص عائشة على أفضل الدعاء في تلك الليلة التي علمت أن الدعاء مستجاب فيها.

فعائشة تحفظ الكثير من الأدعية، لكنها تريد دعاء جامعاً لخيري الدنيا والآخرة.

- إثبات صفة العفو لله عز وجل، ومعناه، قال الطبري: إن الله لم يزل عفواً عن ذنوب عباده، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به.

- إثبات صفة المحبة لله إثباتاً يليق بجلاله.

- الحديث رد على من زعم بأن ليلة القدر قد رفعت، إذ لو كانت ليلة القدر قد رفعت لقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: لا حاجة إلى معرفة هذا، فإن ليلة القدر قد رفعت.

- زيادة لفظ [كريم] اللهم إنك عفو كريم لا تثبت في هذا الحديث.

ص: 281

706 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(لَا تُشَدُّ) تشد بضم الدال.

(اَلرِّحَالُ) جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وشده كناية عن السفر، لأنه لازمه غالباً.

(اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ) أي: المحرم.

(وَمَسْجِدِي هَذَا) أي: المسجد النبوي.

(وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى) سمي بذلك لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقال الزمخشري: سمي أقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذا الحديث؟

نستفيد: استحباب شد الرحال والسفر لقصد هذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام - والمسجد النبوي - والمسجد الأقصى.

•‌

‌ اذكر بعض مميزات هذه المساجد؟

أولاً: استحباب شد الرحال والسفر إليها للعبادة فيها، وبالنسبة للمسجد الحرام فالسفر له واجب وغيره مستحب.

قال ابن القيم: وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيه غيرها.

ثانياً: أن هذه المساجد أفضل البقاع.

ثالثاً: مضاعفة الصلاة فيها.

فالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والمسجد النبوي بألف صلاة، والمسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وقيل: بمائتين وخمسين صلاة.

رابعاً: أن هذه المساجد بناها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فالكعبة المشرفة بناها إبراهيم وإسماعيل.

والمسجد الأقصى بناه يعقوب.

ومسجد المدينة بناه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ولكل مسجد فضائل خاصة نذكرها إن شاء الله في موضعها.

•‌

‌ ما حكم السفر لزيارة القبور؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز.

ذهب طائفة من المتأخرين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز ذلك.

استدل هؤلاء بأدلة فضل زيارة القبور، ولم يفرقوا بين زيارة القبور مع السفر إليها وبين الزيارة بدون سفر، بل أطلقوا دلالة الأحاديث على الاستحباب.

ب- واستدلوا بحديث ابن عمر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكباً وماشياً).

أورد هذا الحديث ابن قدامة، ولعل وجه الدلالة منه: جواز زيارة المواضع الفاضلة من المساجد وغيرها كالقبور والمشاهد، وعدم حصر ذلك في المساجد الثلاثة.

ص: 282

ج- استدلوا بأحاديث تدل على استحباب السفر لأجل زيارة القبور، وأكثر ما ذكروه من الأحاديث هي في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:

كحديث (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي).

وحديث (من زارني بعد مماتي كنت له شفيعاً يوم القيامة).

وحديث (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).

وغيرها من الأحاديث، وكلها ضعيفة واهية لا تصح.

القول الثاني: أن السفر لزيارة القبور غير مشروع، بل هو حرام ولا يجوز.

وهذا قول مالك وأكثر أصحابه، واختار هذا القول ابن تيمية، وابن القيم.

أ- واستدلوا بحديث الباب، ففيه النهي عن السفر لغير المساجد الثلاثة.

وهذا عام يشمل كل شيء من المساجد والمشاهد لمن زارها تعبداً وتقرباً ما عدا المساجد الثلاثة المذكورة بالحديث.

ب- ولأن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين لم يكن موجوداً في الإسلام وقت القرون الثلاثة _ قرن الصحابة والتابعين وأتباعهم _ التي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا السفر جائزاً فلا بد أن يقع من أحدهم، ولم يحدث هذا السفر إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة.

ج-أن شد الرحال إلى مقابر الأنبياء والصالحين يؤدي إلى اتخاذها أعياداً واجتماعات عظيمة، كما هو مشاهد، (ولا فرق بين شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره).

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ اذكر أحوال زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم

-:

أولاً: تستحب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لمن بالمدينة.

ثانياً: تستحب زيارة قبره لمن زار مسجده.

ثالثاً: السفر وشد الرحل لقصد زيارة القبر فقط دون المسجد، وهذه وقع فيها خلاف بين العلماء والصحيح أنه لا يجوز وغير مشروع ورجحه ابن تيمية.

كِتَابُ اَلْحَجِّ

بَابُ فَضْلِهِ وَبَيَانِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ

مقدمة:

تعريف الحج لغة: القصد، يقال: حج كذا بمعنى قصد.

وشرعاً: التعبد لله بأداء المناسك على صفة مخصوصة في وقت مخصوص.

• العمرة لغة: الزيارة.

وشرعاً: التعبد لله بالطواف والسعي والحلق أو التقصير.

•‌

‌ حكم الحج.

واجب بالكتاب والسنة والإجماع، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة.

قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس:

وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

والإجماع، قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة.

ص: 283

•‌

‌ واختلف العلماء في فرض الحج:

فقيل: قبل الهجرة.

قال في الفتح: هو شاذ.

وقيل: بعدها، واختلف في أي سنة:

فالجمهور أنه فرض في السنة السادسة لأنه نزل فيه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله).

ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر.

وقيل سنة تسع، ورجحه ابن القيم وقال:

فإن فرض الحج تأخر سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى: (وأتموا

) فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرض الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقضي وجوب الابتداء.

وهذا القول هو الراجح.

فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة؟

فالجواب:

أ-لكثرة الوفود في تلك السنة، ولهذا تسمى السنة التاسعة سنة الوفود.

ب-ولأن في السنة التاسعة كان من المتوقع أن يحج المشركون.

ج-وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذلك لبيان أن إمامة المسلمين في غيبته لأبي بكر رضي الله عنه، فكما كان إماماً لهم في الصلاة يكون إماماً لهم أيضاً في الحج.

د-ذكر بعضهم قال: كون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر الحج يدل على أن الحج ليس بواجب على الفور، ولكن هذا القول ضعيف.

•‌

‌ ما حكم تارك الحج تهاوناً وكسلاً؟

اختلف العلماء فيمن ترك الحج تهاوناً وكسلاً هل يكفر أم لا على قولين:

القول الأول: أنه يكفر.

وهذا مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير وهو أحد القولين عن ابن عباس.

أ- واستدلوا بقوله تعالى ( .. ومن كفر .. ) والكفر هنا الكفر الأكبر.

ب- وبحديث علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ملك زاداً وراحلة فلم يحج، مات يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي وهو ضعيف.

القول الثاني: أنه لا يكفر.

وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح.

ص: 284

•‌

‌ ما الجواب عن قوله تعالى (ومن كفر

قال الشنقيطي: الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَيْ: وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، فَقَدْ كَفَرَ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ الْبَالِغِ فِي الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ لِلْمِقْدَادِ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي الْحَرْبِ (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَال).

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَدْ كَفَرَ.

•‌

‌ ما حكم من حج بمال حرام؟

الذي عليه جمهور أهل العلم أن من حج بمال حرام سقط عنه وجوب الحج مع ارتكابه لإثم تناول ذلك المال الحرام.

قال النووي في المجموع: إذا حج بمال حرام أو راكباً دابة مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه عندنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وبه قال أكثر الفقهاء.

وفي الموسوعة الفقهية (17/ 131): فَإِنْ حَجَّ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ صَحَّ حَجُّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لَكِنَّهُ عَاصٍ وَلَيْسَ حَجًّا مَبْرُورًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لا يُجْزِيهِ الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم: ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ أ. هـ.

وقال الشيخ ابن باز: الحج صحيح إذا أداه كما شرعه الله، ولكنه يأثم لتعاطيه الكسب الحرام، وعليه التوبة إلى الله من ذلك ويعتبر حجه ناقصاً بسبب تعاطيه الكسب الحرام، لكنه يسقط عنه الفرض أ. هـ. فتاوى ابن باز (16/ 387).

وفي فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 43) كون الحج من مال حرام لا يمنع من صحة الحج، مع الإثم بالنسبة لكسب الحرام، وأنه ينقص أجر الحج، ولا يبطله. ا. هـ (موقع الإسلام سؤال وجواب).

قال ابن القيم: ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر.

ص: 285

707 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اَلْعُمْرَةُ إِلَى اَلْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ اَلْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا اَلْجَنَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(الجنة): هي الدار التي أعدها الله للمتقين.

•‌

‌ اذكر بعض فضائل العمرة؟

أ-حديث الباب (اَلْعُمْرَةُ إِلَى اَلْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا).

ب- وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) رواه الترمذي.

•‌

‌ اذكر بعض فضائل الحج؟

أ- حديث الباب (وَالْحَجُّ اَلْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا اَلْجَنَّةَ).

ب- وعن أبي هُرَيْرَةَ. قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه) رواه البخاري.

ج- وعن عمرو بن العاص. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أما علمت أن الحج يهدم ما قبله) رواه مسلم.

•‌

‌ هل للعمرة وقت محدد كالحج والصلاة؟

قال النووي: وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيع السَّنَة وَقْت لِلْعُمْرَةِ، فَتَصِحّ فِي كُلّ وَقْت مِنْهَا إِلَّا فِي حَقّ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّس بِالْحَجِّ، فَلَا يَصِحّ اِعْتِمَاره حَتَّى يَفْرُغ مِنْ الْحَجّ، وَلَا تُكْرَه عِنْدنَا لِغَيْرِ الْحَاجّ فِي يَوْم عَرَفَة وَالْأَضْحَى، وَالتَّشْرِيق وَسَائِر السَّنَة، وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَأَحْمَد، وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: تُكْرَه فِي خَمْسَة أَيَّام: يَوْم عَرَفَة، وَالنَّحْر، وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: تُكْرَه فِي أَرْبَعَة أَيَّام وَهِيَ: عَرَفَة، وَالتَّشْرِيق، وبناءً على ذلك فيجوز أداء العمرة في أي أوقات العام، وفي أي وقت من نهار أو ليل.

•‌

‌ هل يشرع تكرار العمرة في العام الواحد؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين؟

القول الأول: يشرع تكرارها.

وهذا قول جمهور العلماء.

قال ابن قدامة في المغني: وَلا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ لأَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وقال النووي: مذهبنا أنه لا يكره ذلك بل يستحب، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء من السلف والخلف.

للحديث السابق (تابعوا بين الحج والعمرة).

القول الثاني: لا يشرع تكرارها في العام الواحد أكثر من مرة.

وهذا قول جماعة من العلماء.

والراجح القول الأول.

وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في السنة أكثر من مرة فهذا لا يعني عدم مشروعية الاعتمار أكثر من مرة في السنة.

ص: 286

•‌

‌ هل يشرع تكرارها في السفرة الواحدة أو اليوم الواحد؟

ذهب بعض العلماء إلى مشروعية ذلك.

وسئل الشيخ ابن باز: هل يجوز تكرار العمرة في رمضان طلباً للأجر المترتب على ذلك؟

فأجاب: لا حرج في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ) رواه البخاري ومسلم.

إذا اعتمر ثلاث أو أربع مرات فلا حرج في ذلك. فقد اعتمرت عائشة رضي الله عنها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عمرتين في أقل من عشرين يوماً.

وقد ذهب بعض العلماء إلى تحديد المدة بين العمرتين بما إذا ظهر له شعر يحلقه في العمرة الثانية، وهذه المدة قد تكون نحواً من أسبوع أو عشرة أيام.

قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: قال الإمام أحمد: لا يعتمر إلا إذا حَمَّم رأسه" حمم: أي اسود من الشعر.

•‌

‌ ما رأيك بما يفعله بعض الناس من الاعتمار بعد الحج وقد اعتمر قبل الحج؟

قال ابن القيم: ولم يكن في عمره صلى الله عليه وسلم عمرة واحدة خارجاً من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلاً إلى مكة.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: وأما ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمر بعد الحج من التنعيم أو الجعرانة أو غيرهما وقد سبق وأن اعتمر قبل الحج، فلا دليل على مشروعيته، بل الأدلة تدل على أن الأفضل تركه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: المتابعة بين العمرتين جاءت به السنة، ولكن هذه المتابعة ينبغي أن تكون مقيدة بما جاء عن السلف، والسلف لم يكن من عملهم أن يكرروا العمرة كل يوم، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله قال إن الموالاة بين العمرتين والإكثار من العمر أنه مكروه باتفاق السلف ....

•‌

‌ كم عمرة اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم

قال الشنقيطي: إن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط، لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر:

أ-عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام عام 6 هـ.

ب-عمرة القضاء التي وقع عليها الصلح في الحديبية، وهي عام 7 هـ.

ج-عمرة الجعرانة بعد فتح مكة، عام 8 هـ.

ثم قال رحمه الله: وكل هذه العمر في شهر ذي القعدة بالإجماع والروايات الصحيحة.

د-عمرته مع حجه في حجة الوداع.

• قال ابن القيم: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قط.

• وقال: عمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في أشهر الحج، مخالفة لهدي المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج، ويقولون: هي من أفجر الفجور.

•‌

‌ الحديث دليل على أن الحج المبرور جزاؤه الجنة، فما هو الحج المبرور؟

قيل: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي.

قال النووي: الأصح والأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم.

ص: 287

قال الشيخ ابن باز: الحج المبرور هو الذي لا يرتكب فيه صاحبه معصية لله، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).

وقال ابن عبد البر: الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق وخرج بمال حلال.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الحج المبرور هو الذي جمع أوصافاً:

أولاً: أن يكون خالصاً لله.

ثانياً: أن يكون بمال حلال.

ثالثاً: أن يقوم فيه الإنسان بفعل ما يجب ليكون عبادة.

ومن الحج المبرور أن لا تحج المرأة إلا بمحرم، فإن حجت بغير محرم لم يكن حجها مبرور.

وقيل (المبرور): المقبول، قالوا: ومن علامات قبول الحج، أن يرجع العبد خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي.

وعلى كل فكما قال الإمام الْقُرْطُبِيّ: الْأَقْوَال الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيره مُتَقَارِبَة الْمَعْنَى، وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامه وَوَقَعَ مَوْافقاً لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّف عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل. نقله ابن حجر في (فتح الباري).

وفي حديث: (تابعوا

) أن الاستكثار من الحج والعمرة من أسباب جلب الرزق، وهناك عبادات تجلب الرزق:

أولاً: الاستغفار. قال تعالى: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً).

ثانياً: التوكل على الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). رواه الترمذي

ثالثاً: صلة الرحم. قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه). متفق عليه

ص: 288

708 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَلَى اَلنِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: اَلْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ " - رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَأَصْلُهُ فِي اَلصَّحِيحِ.

709 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنْ اَلْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: " لَا. وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ ") رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.

وَأَخْرَجَهُ اِبْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ.

710 -

عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: - اَلْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ -

===

(عَلَى اَلنِّسَاءِ جِهَادٌ) أي: أعلى النساء جهاد، وهي تريد بذلك جهاد السيف، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء لا يجاهدن بالسيف والسنان، فإن هذا من خصائص الرجال.

(جِهَادٌ) الجهاد هو بذل الجهد في قتال الأعداء.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَلَى اَلنِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: اَلْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ) أصله في صحيح البخاري من غير ذكر العمرة.

ولفظه: عن عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِين (أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ «لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُور) رواه البخاري.

قوله (لَكُنّ) بضم الكاف وتشديد النون (خطاب للنسوة).

وأما حديث الباب بذكر العمرة فقد رواه - كما قال المصنف - أحمد وابن ماجه.

وقد ضعف بعض العلماء زيادة (والعمرة) التي في حديث الباب وحكم بشذوذها لتفرد محمد بن فُضيْل بها.

• وأما حديث جَابِرِ (أَخْبِرْنِي عَنْ اَلْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: " لَا. وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ) حديث ضعيف في إسناده الحجاج بن أرْطَاة وهو ضعيف.

ضعف هذا الحديث الشافعي وابن عبد البر وابن حجر والنووي، والألباني في ضعيف الترمذي، وغيرهم.

قال الشافعي رحمه الله: هُوَ ضَعِيفٌ، لا تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ، وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ شَيْءٌ ثَابِتٌ بِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ لا تَصِحُّ، وَلا تَقُومُ بِمِثْلِهَا الْحُجَّةُ أ. هـ.

وقال النووي في المجموع: اتفق الحفاظ على أنه ضعيف.

• وأما حديث جابر الثاني (اَلْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ) ضعيف أيضاً.

ص: 289

•‌

‌ اذكر حكم العمرة هل هي واجبة أم لا؟

وقد اختلف العلماء في حكم العمرة على قولين:

القول الأول. أنها واجبة.

وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي.

وروي هذا القول عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والثوري.

أ-لحديث الباب - حديث عائشة - (عليهن جهاد لا قتال فيه).

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرن العمرة مع الحج، فدل على الاتفاق في الحكم وهو الوجوب.

أن قوله (عليهن) تدل على الوجوب، (وعلى من صيغ الوجوب).

ب- ولحديث أبي رزين (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال: حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي. (صححه الترمذي والحاكم).

قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة لعاجز بلغة الأمر.

ج-ولحديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله ما الإسلام؟ قال: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر) وهذه عند الدارقطني وصححها (والحديث في الصحيح دون ذكر العمرة).

د- ولحديث الباب - حديث جابر - (الحج والعمرة فريضتان) وهو ضعيف كما تقدم.

هـ-هو قول جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.

قال جابر: لَيْسَ مُسْلِم إِلا عَلَيْهِ عُمْرَة. قال الحافظ: رَوَاه اِبْن الْجَهْم الْمَالِكِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن.

وقال البخاري رحمه الله: بَاب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رضي الله عنهما: لَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، وقوله:(لَقَرِينَتُهَا) أي: قرينة فريضة الحج.

القول الثاني: أنها غير واجبة.

وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة، واختاره ابن تيمية.

قال ابن تيمية: والعمرة في وجوبها قولان للعلماء، هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها، والقول الآخر لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهذا القول هو الراجح، فإن الله إنما أوجب الحج بقوله:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) لم يوجب العمرة؛ وإنما أوجب إتمامها، فأوجب إتمامها لمن شرع فيهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج ....

أ-لحديث الباب - حديث جابر - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: (لا، وأن تعتمر فهو أفضل). رواه الترمذي، هو ضعيف كما تقدم.

ب-ولحديث: (الحج والعمرة تطوع) رواه الدارقطني وهو ضعيف.

ص: 290

قال الشوكاني مؤيداً هذا القول: والحق عدم الوجوب، لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادهما بما تقدم من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب.

وقال الصنعاني: والأدلة لا تنهض عند التحقيق على الإيجاب الذي الأصل عدمه.

والراجح الأول.

• فائدة: إذا قلنا بوجوب العمرة، فإن عمرة المتمتع تجزئ عن عمرة الإسلام.

•‌

‌ ما الفرق بين وجوب الحج ووجوب العمرة؟

وجوب العمرة ليس كوجوب الحج، لا في الآكدية ولا في العموم والشمول.

أولاً: الآكدية: فإن الحج ركن من أركان الإسلام وفرض بإجماع المسلمين، أما العمرة فليست بركن من أركان الإسلام.

ثانياً: الشمول: فإن العلماء قد اختلفوا في وجوبها.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- فضل عائشة، حيث سألت عن أفضل الأعمال تريد بذلك العمل والتطبيق.

- أن الجواب إذا كان يحتاج إلى زيادة قيد وجب على المجيب أن يذكر هذا القيد، لأنه قال:(عليهن جهاد لا قتال فيه) فلو قال: عليهن جهاد وسكت، لكان هناك إشكال.

- أن الجهاد بالبدن وقتال الكفار ليس مشروعاً في حق النساء لما هن عليه غالباً من ضعف البدن، ورقة القلب، وعدم تحمل الأخطار، ولا يمنع ذلك من قيامهن بعلاج المرضى ومداواة الجرحى.

- فضيلة الاستكثار من الحج والعمرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهما من الجهاد.

- أن الجهاد من أفضل الأعمال، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر عائشة بقولها، تريد الجهاد أفضل الأعمال.

ص: 291

711 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، مَا اَلسَّبِيلُ؟ قَالَ:(اَلزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ.

712 -

وَأَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف، وللحديث شواهد لا يصح منها شيء.

وقال عبد الحق: إن طرق الحديث كلها ضعيفة.

وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً.

قال الألباني: إن طرق هذا الحديث كلها واهية، وبعضها أوهى من بعض.

•‌

‌ من شروط الحج الاستطاعة، اذكر الدليل على ذلك؟

الدليل قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

•‌

‌ ما المراد بالسبيل؟

ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالسبيل الزاد والراحلة.

وهذا قول جمهور العلماء.

لحديث الباب وشواهده.

قال الشوكاني: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها.

وقال الشنقيطي: حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج.

وقد ذكر الترمذي أن أكثر أهل العلم على العمل بها.

وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير السبيل أنه قال: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زادٍ وراحلة من غير أن يجحف به، وسنده صحيح.

والمراد بالزاد: ما يتزود به، وهو في الأصل الطعام الذي يُتخذ للسفر، والمراد هنا: ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، والراحلة: الناقة التي تصلح لأن يرحل عليها.

وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالاستطاعة على قدر الطاقة.

واختار هذا ابن جرير في تفسيره.

فيدخل في ذلك الزاد والراحلة وأمن الطريق ووجود مكانٍ صالحٍ للمبيت بالمشاعر وزوال الموانع من أداء الحج أياً كانت، ونحو ذلك.

قال ابن جرير الطبري في تفسيره (وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة؛ لأن السبيل في كلام العرب الطريقُ. فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه، من زَمانة، أو عجز، أو عدو، أو قلة ماء في طريقه، أو زادٍ، أو ضعفٍ عن المشي، فعليه فرضُ الحج، لا يجزئه إلا أداؤه) إلى أن قال: (وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها؛ لأن الله عز وجل لم يخصص -إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج- بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية. فأما الأخبار التي رُويَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه الزاد والراحلة فإنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين).

ص: 292

وقال الشيخ محمد رحمه الله: الصحيح أن المراد بالسبيل في قوله تعالى: (من استطاع إليه سبيلاً) المراد الطريق الذي يوصلك إلى مكة أي طريق كان، سواء كان زاداً أو راحلة أو مشياً على الأقدام، أو ما أشبه ذلك.

• فائدة: بَعْدَ ضَرُورَاتِ اَلْإِنْسَانِ وَحَوَائِجِهِ اَلْأَصْلِيَّةِ: أي أن تكون الراحلة والزاد فاضلةً وزائدة عن حاجاته الضرورية التي يحتاجها له ولعياله، وكذلك ما يتعلق بالسكن والخادم وكذلك الديون.

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول).

وقال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء إثماً أن يُضيعَ من يقوت).

ولأن ذلك مقدم على الدين فكان تقديمه على الحج من باب أولى.

•‌

‌ اذكر حالات حج المدين؟

حج المدين له أحوال:

أولاً: أن تكون قيمة الحج تغطي ديونه فيجب عليه والحالة هذه أن يقضي الديون، فيكون في هذه الحالة غير مستطيع للحج فيسقط عنه.

ثانياً: أن تكون قيمة الحج لا تغطي الديون ولكنها تخفف شيئاً كثيراً، فالأولى أن يدفع قيمة الحج للغرماء.

ثالثاً: أن تكون قيمة الحج لا تغطي شيئاً بالنسبة للديون، قيل: إنه يحج لأن الحج مجلبة للرزق كما في حديث [تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب

].

وقيل: بل يسدد دينه ولا يحج لخطر الدين ولو كان قليلاً.

• إذا تُبرع له بمال هل يلزمه أخذه؟ الجواب: لا يلزمه لأنه قد يكون فيه منَّة من الناس، وإن أخذه جاز ولكن لا يجب عليه.

• هل يجوز أخذ المال من أجل الحج؟ قال ابن تيمية رحمه الله: يأخذ ليحج لا يحج ليأخذ.

• وعليه:

فمن كان قادراً بماله و بدنه: فهذا يلزمه أن يحج بنفسه، ومن ليس عنده مال ولا راحلة فلا يجب عليه الحج.

ومن كان قادراً بماله دون البدن: كأن يكون مريض: فهذا يقسمه العلماء إلى نوعين:

الأول: مرض يرجى برؤه: فإنه يصبر حتى يزول مرضه وتسقط الفورية عنه لعجزه.

الثاني: مرض لا يرجى برؤه: فإنه يجب أن يقيم من يحج عنه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن من الاستطاعة أن يوجد للمرأة محْرَم.

- أن الله تبارك وتعالى جعل الحج على من استطاع إليه سبيلاً، فالفقير لا ينبغي له أن يكلف نفسه ويشق عليه.

- قوله تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجاً بلا زاد ليسأل الناس، فقيراً كان أو غنياً. (أضواء البيان).

ص: 293

713 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: " مَنِ اَلْقَوْمُ؟ " قَالُوا: اَلْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: " رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ اِمْرَأَةٌ صَبِيًّا. فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: " نَعَمْ: وَلَكِ أَجْرٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(لَقِيَ رَكْبًا) جمع راكب، وهم الراكبون على الإبل خاصة في السفر من العشرة.

(بِالرَّوْحَاءِ) مكان بين مكة والمدينة.

(فَقَالَ: مَنِ اَلْقَوْمُ؟) وفي رواية النسائي (من أنتم؟).

(أَلِهَذَا حَجٌّ؟) أي: أيحصل لهذا الصبي ثواب حج.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: صحة حج الصبي، وقد نقل الإجماع على ذلك الطحاوي.

قال النووي: فِيهِ حُجَّة لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء أَنَّ حَجّ الصَّبِيّ مُنْعَقِد صَحِيح يُثَاب عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِيه عَنْ حَجَّة الْإِسْلَام، بَلْ يَقَع تَطَوُّعًا، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِيهِ.

ومما يدل على صحة حج الصبي:

ما رواه البخاري عن السائب بن يزيد قال (حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين).

•‌

‌ هل يجب الحج على الصبي؟

لا يجب عليه الحج.

لأنها قالت (ألهذا حج) ولم تقل: أعلى هذا حج.

ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة:

وعن الصبي حتى يبلغ).

•‌

‌ ما حكم من حج قبل البلوغ؟

من حج من دون البلوغ لا تجزئه عن حجة الإسلام.

وقد حكى الإجماع ابن المنذر وابن عبد البر والنووي وابن قدامة، أن الصبي لا يجزئه عن حجة الإسلام.

ومما يدل على ذلك الحديث الآتي.

ولحديث ابن عباس قال: (احفظوا عني ولا تقولوا، قال ابن عباس: أي صبي حج ثم بلغ فليحج حجة أخرى) رواه ابن أبي شيبة وله حكم الرفع.

•‌

‌ هل يلزم الصبي إذا أحرم بالحج ما يلزم البالغ من أحكام الحج؟

ذهب بعض العلماء إلى أن الصبي إذا أحرم بالحج لزمه ما يلزم البالغ من أحكام الحج، لأنه إذا ثبت له الحج ثبت للحج محظوراته وأحكامه.

وذهب بعضهم: إلى أن الصبي إذا أحرم بالحج لا يلزمه ما يلزم البالغ، فلا تترتب عليه أحكامه.

وهذا مذهب أبي حنيفة، ورجحه ابن حزم.

ص: 294

•‌

‌ هل يلزم الصبي المضي وإتمام حجه؟

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: المشهور من المذهب [يعني مذهب الحنابلة] أنه يلزمه الإتمام؛ لأن الحج والعمرة يجب إتمام فعلهما.

والقول الثاني، وهو مذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، أنه لا يلزمه الإتمام؛ لأنه غير مكلف، ولا ملزم بالواجبات.

وهذا القول هو الأقرب للصواب، وهو ظاهر ما يميل إليه صاحب الفروع [يعني ابن مفلح، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية].

وعلى هذا له أن يتحلل، ولا شيء عليه، وهو في الحقيقة أرفق بالناس؛ لأنه ربما يظن الولي أن الإحرام بالصبي سهل، ثم يكون على خلاف ما يتوقع، فتبقى المسألة مشكلة، وهذا يقع كثيراً من الناس اليوم، فإذا أخذنا بهذا القول، الذي هو أقرب للصواب لعلته الصحيحة، زالت عنا هذه المشكلة.

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ولكِ أجر)؟

قال عياض: وأجرها فيما تكلفته في أمره في ذلك، وتعليمه، وتجنيبه ما يجتنبه المحرِم.

وقال النووي: معناه بسبب حملها، وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم، وفعل ما يفعله المحرِم.

وقال الصنعاني: أي: بسبب حملها، وحجها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم، أو بسبب الأمرين.

فثواب حج الصبي له، لقول صلى الله عليه وسلم (ولك أجر) ولم يقل: ولكِ أجره.

وأما الحديث المروي (ثواب حج الصبي لوالديه) فهذا الحديث ضعيف، بل ذكر بعضهم أنه موضوع.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: أعمال الصبي الذي لم يبلغ - أعني أعماله الصالحة - أجرها له هو لا لوالده ولا لغيره ولكن يؤجر والده على تعليمه إياه وتوجيهه إلى الخير وإعانته عليه؛ لما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال (نعم ولك أجر) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج للصبي وأن أمه مأجورة على حجها به.

•‌

‌ اذكر أحكام نية الصبي في الحج؟

إن كان مميزاً (يعقل النية) فإن وليه يأمره بنية الإحرام. (يقول له قل: لبيك عمرة).

وإن كان غير مميز فإن وليه ينوي الإحرام عنه. (أن ينوي الولي بقلبه لا أن يقول: لبيك عن هذا الصبي).

•‌

‌ اذكر حكم الصبي عند الطواف به إذا كان مميزاً؟

عند الطواف: إن كان مميزاً يأمره بنية الطواف.

ثم إن كان قادراً على المشي مشى، وإن لم يكن قادراً حمله وليه أو غيره بإذن وليه.

إن كان يعقل النية ولكنه لا يستطيع الطواف بنفسه فيحمله وليه أو غيره بإذن وليه.

لأن الركوب في السعي أو الطواف جائز، قالت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بالطواف للوداع قالت:(إني مريضة، قال: طوفي من وراء الناس وأنتِ راكبة).

• ويصح الطواف عن نفسه وعن هذا الصبي.

هذا القول هو الراجح في هذه المسألة: إذا كان الصبي يعقل النية فنوى ثم حمله وليه، فإن الطواف يقع عنه وعن الصبي، وغاية ما فيه أنه كان محمولاً من أجل العجز.

اذكر حكم الصبي عند الطواف إن كان غير مميز (لا يعقل النية)، هل يجوز أن يطوف به محمولاً؟

قيل: لا يجوز.

فيقال للولي: إما أن تطوف أولاً ثم تطوف للصبي، وإما أن تكل أمره إلى شخص يحمله.

فلا يصح عمل واحد بنيتين لشخصين.

ص: 295

‌سئل الشيخ ابن العثيمين عن هذا فقال السائل: من طاف وهو حامل شخصاً هل يجزئ الطواف عن الاثنين؟

الجواب: لا يجزئ عن الاثنين إلا إذا كان المحمول مميزاً يقال له انو الطواف فينوي، أما الغير مميز لا يمكن أن يكون طوافاً واحداً على نيتين.

وقيل: يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر هذه المرأة بصحة حج الصبي، ولم يأمرها أن تطوف به طوافاً مستقلاً، مع أن المقام مقام بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

قال الشيخ العلوان: الحالات المتعلقة بحج الصبي ثلاث.

الأولى: أن يكون الصبي قادراً على المشي فيطوف حينئذٍ عن نفسه ويسعى عن نفسه.

الحالة الثانية: أن يكون غير قادر على المشي وله تمييز فينوى حينئذٍ كل من الحامل والمحمول عن نفسه ويجزئ عنهما طواف واحد وسعي واحد.

الحالة الثالثة: أن يكون الصبي صغيراً لا يميز فحينئذٍ يحمله وليه أو غيره وينوي عنه ويجزئ عنهما طواف واحد وسعي واحد وشأنهما قريب من شأن الراكب.

وقال بعض العلماء يطوف عن نفسه ثم يطوف طوافاً آخر عن الصبي.

والصحيح الأول: فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا المسلمون. فقالوا من أنت؟ قال رسول الله. فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال (نعم ولك أجر).

ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم طوفي طوافين عنه وعن نفسك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

وهذا مذهب أبي حنيفة واختاره ابن المنذر.

لأنه لا فرق بين هذا وبين الراكب فيجزئ عن الحامل وعن المحمول. (العلوان).

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: فإن نوى الحامل الطواف عنه وعن المحمول والسعي عنه وعن المحمول أجزأه ذلك في أصح القولين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر التي سألته عن حج الصبي أن تطوف له وحده، ولو كان ذلك واجباً لبينه صلى الله عليه وسلم.

وسئل الشيخ ابن جبرين عن ذلك فقال:

حيث صح الإحرام بالصبي فإن الولي هو المسئول عنه، فيلبسه الثياب ويعقد عليه إحرامه وينوي عنه النسك ويلبي عنه ويمسك بيده في الطواف والسعي، فإن كان عاجزاً كصغير أو رضيع فلا بأس بحمله، ويكتفى بطواف واحد عن الحامل والمحمول على الصحيح

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الصبي إذا حج فإن ثواب الحج يكون له، لكن لوليه أجر تولي أمره.

- فيه دليل على فساد من يقول من العامة: إن ثواب حج الصبي لوالده.

- قبول العبادة من الصغار وإثابتهم عليها، وفيه تدريب وتمرين على طاعة الله.

- جواز سؤال المرء عن اسمه، خصوصاً إذا صحبته أو أرادت أن تتعامل معه، حتى قال بعض الحكماء: من الجفاء أن تصاحب رجلاً لا تعرف اسمه.

- أن الذكر والدعاء في الطواف ليس بواجب، لأن الطفل غالباً لا يحسن أذكار الطواف حتى يقولها.

- أن صوت المرأة ليس بعورة لكن بشرط عدم الخضوع واللين لقوله تعالى (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً).

ص: 296

714 -

وَعَنْهُ قَالَ: (كَانَ اَلْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتِ اِمْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ اَلْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ اَلْفَضْلِ إِلَى اَلشِّقِّ اَلْآخَرِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اَللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي اَلْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى اَلرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ " وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

===

(كَانَ اَلْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: راكباً خلفه.

(فَجَاءَتِ اِمْرَأَةٌ) قال الحافظ: لم تسمّ.

(مَنْ خَثْعَم) قبيلة قحطانية، وفي رواية (تستفتيه).

(أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا) يعني أن الآية أو النص الذي فيه الفريضة حصل بعد أن بلغ والدها الشيخوخة.

(لَا يَثْبُتُ عَلَى اَلرَّاحِلَةِ) أي: لا يثبت على الدابة ولا يستقر لكبر سنه.

(أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟) أي: أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه.

(قَالَ: نَعَمْ) وفي حديث أبي هريرة (احججي عن أبيك).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز الإنابة في الحج عن الغير إذا كان غير قادر.

فالإنسان إذا كان قادراً بماله لكنه غير قادر ببدنه (لا يرجى زوال مرضه) فهذا يجب عليه أن ينيب أحداً عنه، لحديث الباب.

والقدرة قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:

أولاً: قدرة بالمال والبدن، فهذه توجب حج الإنسان بنفسه.

ثانياً: قدرة بالبدن دون المال، فهذه توجب حج الإنسان بنفسه إذا كان قادراً على المشي، سواء من بلده أم من مكة، فإن كان لا يقدر على المشي وليس عنده راحلة، فإنه لا يجب عليه الحج، لأنه غير مستطيع.

ثالثاً: قدرة بالمال دون البدن، فهذا يقسمه العلماء إلى قسمين:

قسم يرجى زوال عجزه، فهذا لا يجب أن يقيم من يحج عنه، بل لا يصح، لأن عجزه مؤقت.

وقسم لا يرجى زوال عجزه، فهذا يجب أن ينيب عنه أحداً، لحديث الباب.

قال النووي رحمه الله: والجمهور على أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز الميئوس من برئه.

وقال الحافظ ابن حجر: واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضَب - أي: شلل -، فلا يدخل المريض؛ لأنه يرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه.

•‌

‌ هل يجوز الحج عن العاجز مالياً؟

حج البدل لا يكون عن العاجز ماليّاً؛ لأن الحج تسقط فرضيته عن الفقير، إنما حج البدل عن العاجز ببدنه.

سئل علماء اللجنة الدائمة: هل يجوز لأحد أن يعتمر أو يحج عن قريبه الذي يكون بعيداً عن مكة، وليس لديه ما يصل به إليها، مع أنه قادر بالطواف؟

فأجابوا: قريبك المذكور لا يجب عليه الحج مادام لا يستطيع الحج ماليّاً، ولا تصح النيابة عنه في الحج ولا في العمرة؛ لأنه قادر على أداء كل منهما ببدنه لو حضر بنفسه في المشاعر، وإنما تصح النيابة فيهما عن الميت، والعاجز عن مباشرة ذلك ببدنه.

ص: 297

•‌

‌ هل يجوز لأحد أن يحج حجة واحدة لشخصين؟

لا يجوز لأحدٍ أن يحج عن شخصين أو أكثر في حجة واحدة، وله أن يعتمر عن نفسه - أو عن غيره - ويحج عن آخر.

قال علماء اللجنة الدائمة: تجوز النيابة في الحج عن الميت، وعن الموجود الذي لا يستطيع الحج، ولا يجوز للشخص أن يحج مرة واحدة ويجعلها لشخصين، فالحج لا يجزئ إلا عن واحد، وكذلك العمرة، لكن لو حج عن شخص واعتمر عن آخر في سنة واحدة أجزأه إذا كان الحاج قد حج عن نفسه واعتمر عنها.

•‌

‌ ما رأيك بمن يحج عن غيره من أجل المال؟

وسئل ابن تيمية: عمن حج عن الغير ليوفي دينه؟ فأجاب: أما الحاج عن الغير ليوفي دينه فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل، والأصح أن الأفضل الترك، فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة ليس من أعمال السلف، حتى قال الإمام أحمد: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحدٍ بشيء، ولو كان هذا عملاً صالحاً لكانوا إليه مبادرين، والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين، أعني إذا كان مقصوده بالعمل اكتساب المال

وجماع هذا: أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ.

وقال رحمه الله: الْحَاجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ قَصْدُهَا الْحَجَّ أَوْ نَفْعَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَقْصُودُهَا إلَّا أَخْذَ الْأُجْرَةِ فَمَا لَهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. (مجموع الفتاوى) 26/ 18.

وقال رحمه الله: أَمَّا الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ. فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يَحُجُّ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا لَكَانُوا إلَيْهِ مُبَادِرِينَ وَالِارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ. أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ. فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ وَيُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ. أَوْ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَنْ الْحَجِّ إمَّا لِصِلَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِرَحْمَةِ عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ لِيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ. وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَمَنْ ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَوْ لِيُعَلِّمَ أَوْ لِيُجَاهِدَ فَحَسَن. (مجموع الفتاوى 26/ 19).

وقال الشيخ ابن باز: الحج عن الآخرين ليس خاصّاً بالقرابة، بل يجوز للقرابة، وغير القرابة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّهه بالدَّيْن، فدل ذلك على أنه يجوز للقرابة، وغير القرابة.

وإذا أخذ المال وهو يقصد بذلك المشاهدة للمشاعر العظيمة، ومشاركة إخوانه الحجاج، والمشاركة في الخير: فهو على خير إن شاء الله، وله أجر.

أما إذا كان لم يقصد إلا الدنيا: فليس له إلا الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

•‌

‌ وقال الشيخ ابن عثيمين: النيابة في الحج جاءت بها السنَّة:

والاستنابة بالحج بعوض: إن كان الإنسان قصده العوض: فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: من حج ليأكل فليس له في الآخرة من خلاق - أي: نصيبٌ -.

وأما من أخذ ليحج: فلا بأس به، فينبغي لمن أخذ النيابة أن ينوي الاستعانة بهذا الذي أخذ على الحج، وأن ينوي أيضاً قضاء حاجة صاحبه؛ لأن الذي استنابه محتاج، ويفرح إذا وجد أحداً يقوم مقامه، فينوي بذلك أنه أحسن إليه في قضاء الحج، وتكون نيته طيبة. (لقاء الباب المفتوح).

ص: 298

•‌

‌ ماذا نستفيد من قولها (

لا يثبت على الراحلة)؟

نستفيد: أنه لا يجوز الحج عن القادر المستطيع ببدنه.

قال ابن قدامة: لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً.

قال ابن المنذر: أجمع أهل بالعلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه. (المغني).

•‌

‌ من حج عن غيره فماذا له من الأجر؟

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ثواب الأعمال المتعلقة بالنسك كلها لمن وكله، أما مضاعفة الأجر بالصلاة والطواف الذي يتطوع به خارجاً عن النسك وقراءة القرآن لمن حج لا للموكل.

•‌

‌ هل يجوز أن تحج المرأة عن الرجل والعكس؟

نعم، يجوز حج المرأة عن الرجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهذه المرأة أن تحج عن أبيها.

ويجوز حج الرجل عن المرأة من باب أولى.

قال شيخ الإسلام: يجوز للرجل الحج عن المرأة باتفاق أهل العلم، وكذا العكس عند الأئمة الأربعة.

•‌

‌ هل يجوز الحج عن الحي غير القادر نفلاً؟

وقد قال بعض الفقهاء: يجوز هذا بالنفل والفرض.

والصحيح أن هذا لا يجوز عن الحي إلا إذا كان غير قادر على الفرض، لأن الحي يستطيع أن يعمل ويتقرب إلى الله بما شاء من الطاعات.

ولأن الرخصة جاء بالفرض حين العجز.

•‌

‌ ما حكم الإرداف على الدابة؟

جائز، وهذا مشروط عند العلماء بما إذا لم يشق عليها.

عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار

). متفق عليه

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز استفتاء المرأة الرجل.

- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.

- تحريم نظر الرجل إلى المرأة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل، واستدل به النووي على ذلك، فقال في شرحه على مسلم: تحريم النظر إلى الأجنبية.

- وجوب إزالة المنكر باليد لمن أمكنه.

- استدل بهذا الحديث بعض فقهاء الشافعية على عدم وجوب تغطية المرأة وجهها.

- أن صوت المرأة ليس بعورة، وهذا القول هو الصحيح، لكن لا تخضع بالقول (فلا تخضعن بالقول .. ).

ص: 299

715 -

وَعَنْهُ: (أَنَّ اِمْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ "، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اِقْضُوا اَللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(أَنَّ اِمْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ) قال الحافظ: لم أقف على اسمها.

(نَذَرَتْ) أي: أوجبت على نفسها.

(أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟) أي: الديْن.

(اِقْضُوا اَللَّهَ) أي: أدوا إليه ما وجب عليكم من حقه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن ناذر الحج إذا مات قبل أداء نذره فإنه يؤدى عنه وجوباً إن ترك مالاً، واستحباباً إن لم يترك مالاً.

وهذا مذهب أكثر العلماء.

قال النووي: ذكرنا أن مذهبنا المشهور أنه إن مات وعليه حج الإسلام أو قضاء أو نذر وجب قضاؤها من تركته أوصى بها أم لم يوص، قال ابن المنذر: وبه قال عطاء وابن سيرين وروى عن أبي هريرة وابن عباس وهو قول أبى حنيفة وأبى ثور وابن المنذر.

وذهب بعض العلماء إلى وجوب الوفاء لقوله: (نعم، حجي عنها).

وفي هذا نظر لقوله تعالى (ولا تزروا وازرة وزر أخرى).

وأيضاً هو شبيه بالدين، فإن من مات وعليه دين وكان له مال وجب إيفاء الدين، وإلا فلا يجب على الورثة وإنما يستحب في حقهم.

قال ابن قدامة رحمه الله: متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج، وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر، سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط، وبهذا قال الحسن، وطاوس، والشافعي

لما روى ابن عباس (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها، مات ولم يحج؟ قال: حجي عن أبيك).

وعنه: (أن امرأة نذرت أن تحج، فماتت، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك؟ فقال: أرأيت لو كان على أختك دين، أما كنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقضوا دين الله، فهو أحق بالقضاء) رواهما النسائي، ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة، فلم يسقط بالموت كالدين. (المغني).

وأما إن كان في حياته لا يملك نفقة الحج الفاضلة عن نفقته ونفقة عياله، فالحج لم يجب عليه، ولا يجب الحج عنه، إلا إن تبرع أحد بذلك.

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لي ابن أخ أصيب بمرض السرطان -أعيذكم بالله من ذلك وجميع المسلمين- وتوفي هذا العام وعمره تسع عشرة سنة ولم يؤد فريضة الحج، علماً بأنه أصيب بهذا المرض منذ خمس سنوات، فهل نحج عنه؟ وهل هناك كفارة؟

لا بد أن نسأله: هل هذا الشاب عنده مال يستطيع أن يحج به؟ إن كان الأمر كذلك فلا بد أن يحج عنه، وإذا لم يكن عنده مال فالحج ليس بواجب عليه وقد مات بريئاً من الفريضة، لكن إن أرادوا أن يتطوعوا ويحجوا عنه فلا حرج.

•‌

‌ ما حكم من نذر الحج؟

الحكم: أنه يجب عليه الوفاء به.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين، والدين يجب على المرء قضاؤه.

ص: 300

•‌

‌ هل يصح نذر الحج ممن لم يحج؟

نعم.

قال في الفتح: فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور، وعليه الحج عن النذر، وقيل: يجزئ عن النذر، ويحج حجة الإسلام، وقيل: يجزئ عنهما.

•‌

‌ ما حكم من نذر الحج فمات قبل إدراك زمنه؟

إذا نذر الحج ومات قبل إدراك زمنه فإنه يسقط عنه لأنه لم يفرط.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الديون مقدمة على الميراث.

- في الحديث دليل على جواز القياس، وبهذا قال الأئمة الأربعة.

لقوله: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته).

ومثل ذلك قوله: (وفي بضع أحدكم صدقة

أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه إثم؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر). رواه مسلم

والقياس له ضوابط معروفة في كتب أصول الفقه.

- في قوله صلى الله عليه وسلم: (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) استدل به بعض العلماء على أن حق الخالق أولى من حق المخلوق.

وذهب بعض العلماء إلى أن حق المخلوق مقدم على حق الخالق، لأن حق المخلوق مبني على المشاحة.

مثال: لو توفي رجل وخلف ألف ريال، وكان مديون لشخص بألف ريال، وعليه زكاة ألف ريال.

نقول: يتحاصان بالسوية.

- قوله صلى الله عليه وسلم: (نعم، حجي عنها) هذا الحديث عام، وهو مقيد عند العلماء فيما لو حج المرء عن نفسه.

- حسن تفهيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوضيح المسائل.

- في الحديث دليل على وصول عبادة الحج من الحي إلى الميت، وهو في الحج والصدقة والدعاء والاستغفار مجمع عليه بين العلماء.

- جواز النذر لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 301

716 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ اَلْحِنْثَ، فَعَلَيْهِ [أَنْ يَحُجَّ] حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ [أَنْ يَحُجَّ] حَجَّةً أُخْرَى) رَوَاهُ اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اِخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

===

(الحنث) هو الإثم والذنب، ومعتاد أنه بلغ أن يكتب عليه إثم ذنبه.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

اختلف العلماء في رفع هذا الحديث ووقفه.

فروي مرفوعاً، وصححه مرفوعاً البيهقي والشيخ ابن باز، ومال إلى تصحيحه مرفوعا الحافظ في التلخيص وصححه الألباني.

قال الحافظ في التلخيص: ويؤيد صحة رفعه ما رواه بن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن بن عباس قال (احفظوا عني ولا تقولوا قال بن عباس

فذكره) وهذا ظاهره أنه أراد أنه مرفوع فلذا نهاهم عن نسبته إليه.

وروي موقوفاً وهو الصحيح.

وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس أنه قال (احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس .. فذكره) وإسناده صحيح، وظاهره أن له حكم الرفع، فهو بمنزلة (أمرنا، نُهينا).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: صحة حجة الصبي، وقد سبق ما يدل على ذلك في الحديث الماضي.

وأن حجة الصبي لا يجزئه عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يؤدي فريضة الحج بعد البلوغ إذا كان مستطيعاً.

•‌

‌ ما صحة حجة العبد قبل عتقه؟

حجة العبد قبل عتقه صحيحة ولكن لا يجزئه عن حجة الإسلام.

وحكاه ابن المنذر وابن عبد البر إجماعاً، وشذذوا القول الآخر.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ منهم على أن الصبي إذا حج في صغره والعبد في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا سبيلاً.

وذهب بعض العلماء إلى أن العبد إذا حج وهو بالغ أنه يصح حجه ويجزئه عن حجة الإسلام لأنه مكلف.

وهذا قول ابن حزم ورجحه السعدي وقال: إنه إذا حج (أي العبد) بعد بلوغه-ولو قبل حريته-أن حجته هي حجة الإسلام، كما أن الفقير معفو عنه الحج، ولا يجب عليه، فإذا تيسر له وفعله أجزأه ذلك، ولم يلزمه إعادته إذا استغنى، فكذلك هذا الرقيق إذا أدى فريضته فإن ذلك يجزئه.

وأيضاً: فإن الحج لم يوجبه الله ورسوله في العمر إلا مرة واحدة وذلك مجمع عليه، فلزم على قول من يقول: إن حج الرقيق لا يجزئه، أنه يجب في العمر مرتين، وهذا واضح.

ص: 302

•‌

‌ ما الحكم إذا عتق العبد في الحج؟

إذا أُعْتِق في يوم عرفات أجزأه الحج عن حجة الإسلام، أو أعْتِق بعد عرفات وأمكنه الرجوع قبل الفوات أجزأه عن حجة الإسلام.

•‌

‌ اذكر شروط الحج؟

الإسلام.

فكل عبادة لا تصح من كافر.

وهو شرط للوجوب وللصحة وللإجزاء.

أ- الحر.

فلا تجب على العبد لأنه مملوك مشغول بسيده.

وهو شرط للوجوب وللإجزاء.

ب- البلوغ.

فالصغير لا يجب عليه الحج (وسبقت الأدلة).

وهو شرط للوجوب وللإجزاء.

ج- العقل.

فالمجنون لا يجب عليه الحج.

وهو شرط للوجوب وللصحة وللإجزاء.

د- القدرة.

قادر بماله وبدنه. قال تعالى: (

من استطاع إليه سبيلاً).

ص: 303

717 -

وَعَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِاِمْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ اَلْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ " فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ اِمْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اِكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: اِنْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ اِمْرَأَتِكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

===

(وَلَا تُسَافِرُ) السفر مفارقة محل الإقامة، سمي بذلك: لأن الناس ينكشفون عن أماكن إقامتهم.

(وَإِنِّي اِكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا) المراد أن اسمي مكتوب مع الغزاة.

•‌

‌ ما حكم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية؟

حرام، قال في الفتح: وهو إجماع.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث عقبة بن عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْت) رواه مسلم.

قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم": قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد: الْحَمو أَخُو الزَّوْج، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِب الزَّوْج: اِبْن الْعَمّ وَنَحْوه. اِتَّفَقَ أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ الْأَحْمَاء أَقَارِب زَوْج الْمَرْأَة كَأَبِيهِ، وَأَخِيهِ، وَابْن أَخِيهِ، وَابْن عَمّه، وَنَحْوهمْ. وَالْأُخْتَانِ أَقَارِب زَوْجَة الرَّجُل. وَالْأَصْهَار يَقَع عَلَى النَّوْعَيْنِ. وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم (الْحَمو الْمَوْت) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْف مِنْهُ أَكْثَر مِنْ غَيْره، وَالشَّرّ يُتَوَقَّع مِنْهُ، وَالْفِتْنَة أَكْثَر لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُول إِلَى الْمَرْأَة وَالْخَلْوَة مِنْ غَيْر أَنْ يُنْكَر عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيّ. وَالْمُرَاد بِالْحَمْوِ هُنَا أَقَارِب الزَّوْج غَيْر آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. فَأَمَّا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء فَمَحَارِم لِزَوْجَتِهِ تَجُوز لَهُمْ الْخَلْوَة بِهَا، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد الْأَخ، وَابْن الْأَخ، وَالْعَمّ، وَابْنه، وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ. وَعَادَة النَّاس الْمُسَاهَلَة فِيهِ، وَيَخْلُو بِامْرَأَةِ أَخِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْت، وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ صَوَاب مَعْنَى الْحَدِيث.

ج-عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس لها محرم فإن ثالثهما الشيطان) رواه مسلم.

في هذا الحديث بيان أن من مقتضى الإيمان عدم الخلوة بالأجنبية، لاسيما وأن في الخلوة مشاركة للشيطان في هذا الاجتماع، وهو لا يوجد إلا ليوقع في الحرام، مما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية.

د- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ نَاكِحاً أَوْ ذَا مَحْرَم) رواه مسلم.

ففي هذا الحديث نهى عن المبيت عند امرأة أجنبية والمبيت يقتضي الخلوة مما يدل على حرمة الخلوة بالأجنبية.

•‌

‌ هل هذه الحرمة مقيدة بقيد أو مطلقة؟

هذه الحرمة مطلقة، سواء أمنت الفتنة أم لم تؤمن، وسواء وجدت العدالة أو لم توجد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (لا يخلون

نستفيد: جواز الخلوة مع وجود المحْرَم.

ص: 304

•‌

‌ هل يقوم غير محرم مقامه في هذا، كالنسوة الثقات؟

القول الأول: يجوز.

لضعف التهمة.

القول الثاني: لا يجوز بل لا بد من محرم.

لظاهر الحديث.

•‌

‌ ما يرفع الخلوة بين امرأة أجنبية ورجل أجنبي:

أ- الزوج.

قال النووي: لو كان معها زوجها كان كالمحرم وأولى بالجواز.

ب-محرَم المرأة - كأبيها أو أو أخيها - وهو يرفع الخلوة بلا ريب؛ لنص الحديث على ذلك؛ ففي الصحيحين عن صلى الله عليه وسلم قال (لَا يَخْلونَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إِلاَّ وَمَعَها ذُو مَحْرَم) وإنه إذا صلح محرماً لها في السفر فأولى أن يرفع الخلوة المحرمة في الحضر.

ج-وجود امرأة مأمونة أو أكثر.

قال النووي: وأمَّا إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما: فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يُستحى منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك؛ فإن وجوده كالعدم. (شرح مسلم).

وقال أيضاً: والمشهور: جواز خلوة رجل بنسوة لا محرَم له فيهن؛ لعدم المفسدة غالباً؛ لأن النساء يستحين من بعضهن بعضاً. (المجموع).

وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان مع المرأة مثلُها انتفت الخَلوة.

د-وجود رجل مأمون أو أكثر.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: أما إذا كان معهما رجل آخر أو أكثر، أو امرأة أخرى أو أكثر: فلا حرج في ذلك إذا لم يكن هناك ريبة؛ لأن الخلوة تزول بوجود الثالث أو أكثر.

وقال الشيخ ابن عثيمين: أما إذا كان معه امرأتان فأكثر: فلا بأس؛ لأنه لا خلوة حينئذٍ بشرط أن يكون مأموناً، وأن يكون في غير سفر.

•‌

‌ ما حكم سفر المرأة للحج الفرض من غير محرم؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: لا يجوز مطلقاً.

وهذا قول الحنفية والحنابلة.

أ- لحديث الباب (

إِنَّ اِمْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، .... وَلَا تُسَافِرُ اَلْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم).

ب- وعن ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تحجّن امرأة إلا ومعها ذو محرَم) رواه الدارقطني، قال ابن حجر: إسناده صحيح.

وجه الاستدلال: أن هذين الحديثين نصان صريحان في المسألة.

ص: 305

ج- عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثاً إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَم).

د-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَم) رواه البخاري ومسلم.

هـ-وعنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ) رواه البخاري ومسلم.

و-وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِداً إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوِ ابْنُهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا) رواه البخاري مسلم

ك-وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ) رواه البخاري ومسلم.

القول الثاني: يجوز إذا كان مع نساء ثقات

وهذا مذهب الشافعية.

أ-لما رواه البخاري معلقاً: (أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، وبعث معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف).

ب- وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ، فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ. فَقَالَ «يَا عَدِىُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ». قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، لَا تَخَافُ أَحَداً إِلاَّ اللَّه) رواه البخاري.

والراجح القول الأول، وهو التحريم مطلقاً من غير محرم.

وحديث الباب، لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم هل معها نساء أم لا، أو صغيرة أو كبيرة، أو آمنة أو غير آمنة.

قال الشيخ محمد بن عثيمين: هذا العمل وهو الحج بدون مَحرم: مُحرَّم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإنني قد اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك).

فلا يجوز للمرأة السفر بدون محرم، والمحرم: من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، ويشترط أن يكون بالغاً عاقلاً، وأما الصغير فلا يكون محرماً، وغير العاقل لا يكون محرماً أيضاً، والحكمة من وجود المحرم مع المرأة حفظها وصيانتها، حتى لا تعبث بها أهواء مَنْ لا يخافون الله عز وجل ولا يرحمون عباد الله.

ولا فرق بين أن يكون معها نساء أو لا، أو تكون آمنة أو غير آمنة، حتى ولو ذهبت مع نساء من أهل بيتها وهي آمنة غاية الأمن، فإنه لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الرجل بالحج مع امرأته لم يسأله ما إذا كان معها نساء وهل هي آمنة أم لا، فلما لم يستفسر عن ذلك دل على أنه لا فرق، وهذا هو الصحيح.

وقد تساهل بعض الناس في وقتنا الحاضر فسوَّغ أن تذهب المرأة في الطائرة بدون محرم، وهذا لا شك أنه خلاف النصوص العامة الظاهرة، والسفر في الطائرة كغيره تعتريه الأخطار.

ص: 306

•‌

‌ ما رأيك بمن قال إن العجوز التي لا تشتهى يجوز أن تسافر بغير محرَم؟

الصحيح أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر من غير محرم ولو كانت عجوزاً.

لقوله (لا تسافر المرأة

) وهذا عام، يشمل كل النساء، الشابة والعجوز.

ولأن لكل ساقطة لا قطة.

•‌

‌ المحرَم بالنسبة للمرأة هل شرط للوجوب أم شرط للأداء؟

اختلف العلماء:

فقيل: إن وجود المحرم شرط للوجوب. (يسقط الحج عنها إذا لم تجد محرماً).

وعلى هذا القول، فإن المرأة التي لا تجد محرَماً يسقط عنها الحج، كمن من ليس عنده مال يحج به.

وقيل: إنه شرط لوجوب الأداء. (يعني أن المرأة إذا لم تجد محرماً فإنها تستنيب).

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة من قال بالجواز مع نساء ثقات؟

أما فعل عمر مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وخروجهن للحج.

فالجواب عنه من وجوه:

أ-قالوا: ليس في الحديث أنه لم يكن معهن محرم، فلعل محارمهن كانوا معهن في قافلة الحج نفسها، وبعثُ عمرَ بنِ الخطاب معهنَّ عثمانَ بن عفان وعبدَ الرحمن بن عوف زيادةٌ في الإكرام والاطمئنان، ولا يُظن بالصحابة مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة من غير محرم، خاصة وقد جاء في بعض الروايات - وإن كان في سندها مقال - ما يدل على وجود محارمهن.

فقد روى ابن الجوزي في " المنتظم " في حوادث سنة (23 هـ) عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بإسنادهم قالوا: حجَّ عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم معهن أولياؤهن ممَنْ لا يحتجبن منه، وجعل في مقدم قطارهن: عبد الرحمن بن عوف، وفي مؤخره: عثمان بن عفان .. الخ.

ثم إنه يبعد جداً ألا يكون معهن أحد من محارمهن، مع كثرة المسافرين للحج معهن من المدينة، فالغالب أنه لن يخلو الأمر من أخ أو جد أو خال أو عم أو أحد المحارم من الرضاعة، وقد كانت الرضاعة كثيرة في ذلك الوقت.

ب-ثم على فرض أنه لم يكن معهن محرم: فهو اجتهاد منهن، ومعلوم أن اجتهاد الصحابي لا يُقبل إذا خالف نصّاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الصنعاني: ولا تنهض حجة على ذلك؛ لأنه ليس بإجماع.

ج-وأجاب فريق ثالث من أهل العلم بخصوصية ذلك بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن أمهات المؤمنين، وجميع الرجال محارم لهن.

قال أبو حنيفة رحمه الله: كان الناس لعائشة محرماً، فمع أيهم سافرت فقد سافرت بمحرم، وليس الناس لغيرها من النساء كذلك (عمدة القاري)؟

إلا أن جواب أبي حنيفة هذا غير مُسَلَّم؛ لأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في مقام أمهات المؤمنين في تحريم النكاح، وليس في المحرمية، وإلا فلو كن أمهاتٍ للمؤمنين في المحرمية أيضا لجاز لهن خلع الحجاب أمامهم والخلوة بهم ونحو ذلك من أحكام المحرمية، وذلك ما لم يقل به أحد.

يقول ابن تيمية في " منهاج السنة "(4/ 207) عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنهن أمهات المؤمنين في التحريم دون المحرمية " انتهى.

والمعتمد في الجواب هو الجواب الأول.

ص: 307

والحاصل: أنه لا يجوز أن تُرد الأحاديث الصحيحة الصريحة بما يستنبط من بعض أفعال الصحابة المحتملة، والواجب هو اتباع ما ثبت وليس ما هو محتمل.

سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: يقولون إن عائشة رضي الله عنها حجت مع عثمان بدون محرم؟

فأجاب: هذا يحتاج إلى دليل، لا يجوز أن يقال: حجت بدون محرم بغير دليل، لا بد أن يكون معها محرم، فعندها أبناء أخيها، عندها عبد الرحمن أخوها، عندها أبناء أختها أسماء، الذي يقول إنها حجت بدون محرم يكون قوله كذباً إلا بدليل، ثم لو فرضنا أنها حجت بدون محرم فهي غير معصومة، كل واحد من الصحابة غير معصوم، الحجة في قال الله وقال رسوله، ما هو بحجة قول فلان أو فلان، ما خالف السنة فلا حجة فيه، الحجة في السنة المطهرة الصحيحة، هذا هو المعروف عند أهل العلم، وهو المجمع عليه.

يقول الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

وقال مالك رحمه الله: ما منَّا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، (يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

المقصود: أن الواجب على أهل الإسلام والمؤمنين هو الأخذ بالسنَّة، لا يجب أن تعارض لقول فلان أو فلان أو فلانة، ثم لا يظن بعائشة رضي الله عنها وهي الفقيهة المعروفة أفقه نساء العالم، لا يظن بها أن تخالف السنَّة وتحج بغير محرم، وهي التي سمعت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فتاوى ابن باز).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا قال قائل: هذا الحجيج ليس فيه أن معهن محرَماً، فهل يقال هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن أمهات المؤمنين، ليس بمحرمية ولكن باحترام.

أو يقال المحرم هنا مسكوت عنه، وأُرسل معهن هذان الصحابيان الفاضلان مع المحارم؟ الأول محتمل، والثاني محتمل.

فإذا أخذنا بالقاعدة أن يُحمل المتشابه على المُحكم ماذا نقول؟

الجواب: نقول بالاحتمال الثاني ونقول: لابد أن محارمهن معهن لكن جُعل معهن هذان الصحابيان الجليلان تشريفاً وتعظيماً لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن. (شرح كتاب الحج من صحيح البخاري).

(موقع الإسلام سؤال وجواب).

ب- وأما الجواب عن حديث عدي بن حاتم:

فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن ذلك بأنه سيقع وهذا لا يدل على الجواز فلا وجه للاستدلال به فإنه عليه السلام ساق الكلام لبيان أمن الطريق من العدل وقوة الدولة لا لبيان أن المرأة يجوز لها الخروج من غير محرم.

نظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ليأتين على الناس زمان تصير الظعينة من مكة إلى الحيرة لا يأخذ أحد بخطام راحلتها) وقد أجمعوا على أنها لا يجوز لها الخروج من مكة إلى الحيرة بغير محرم ولا من مكة إلى أي بلد.

ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم (سيكون دجالون كذابون) ولا يلزم من ذلك جواز الدجل والكذب.

ص: 308

•‌

‌ من هم المحرَم بالنسبة للمرأة؟

ضابط المحرم الذي يجوز السفر معه والخلوة به هو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح.

(على التأبيد) احترازاً من أخت الزوجة وعمتها وخالتها.

(بنسب) كالأب، والابن، والأخ، والعم، وابن الأخ ....

(مباح) كالرضاع: الأب من الرضاع، والأخ من الرضاع ....

والمحرم بالمصاهرة: أبو زوجها، ابن زوجها، زوج أم المرأة، زوج بنت المرأة.

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم (إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم) فِيهِ دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ جَمِيع الْمَحَارِم سَوَاء فِي ذَلِكَ، فَيَجُوز لَهَا الْمُسَافَرَة مَعَ مَحْرَمهَا بِالنَّسَبِ كَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَابْن أَخِيهَا وَابْن أُخْتهَا وَخَالهَا وَعَمّهَا، وَمَعَ مَحْرَمهَا بِالرَّضَاعِ كَأَخِيهَا مِنْ الرَّضَاع وَابْن أَخِيهَا وَابْن أُخْتهَا مِنْهُ وَنَحْوهمْ، وَمَعَ مَحْرَمهَا مِنْ الْمُصَاهَرَة كَأَبِي زَوْجهَا وَابْن زَوْجهَا، وَلَا كَرَاهَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا يَجُوز لِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْخَلْوَة بِهَا وَالنَّظَر إِلَيْهَا مِنْ غَيْر حَاجَة، وَلَكِنْ لَا يَحِلّ النَّظَر بِشَهْوَةِ لِأَحَدِ مِنْهُمْ، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، وَوَافَقَ مَالِك عَلَى ذَلِكَ كُلّه إِلَّا اِبْن زَوْجهَا، فَكَرِهَ سَفَرهَا مَعَهُ لِفَسَادِ النَّاس بَعْد الْعَصْر الْأَوَّل، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لَا يَنْفِرُونَ مِنْ زَوْجَة الْأَب نَفْرَتهمْ مِنْ مَحَارِم النَّسَب، قَالَ: وَالْمَرْأَة فِتْنَة إِلَّا فِيمَا جَبَلَ اللَّه تَعَالَى النُّفُوس عَلَيْهِ مِنْ النَّفْرَة عَنْ مَحَارِم النَّسَب، وَعُمُوم هَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَى مَالِك.

•‌

‌ ما شروط المحرم:

أولاً: أن يكون بالغاً، فالصغير لا يكفي أن يكون محرماً، لأن المقصود من المحرم حماية المرأة وصيانتها، ومن دون البلوغ لا يحصل فيه ذلك.

ثانياً: عاقلاً، فالمجنون لا يصح أن يكون محرماً، لأنه لا يحصل للمجنون حماية المرأة وصيانتها.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الولد متى يكون محرماً لأمه؟ هل هو بالبلوغ أو بالتمييز؟ فأجاب: المحرم بارك الله فيك! يكون مَحْرَماً إذا كان بالغاً عاقلاً، فمن لم يبلغ فليس بمحرم، ومن كان في عقله خلل فليس بمحرم. (لقاءات الباب المفتوح)

ثالثاً: الذكورية، فالمرأة لا تكون محرماً للمرأة.

•‌

‌ هل يجب على الزوج أن يحج مع زوجته؟

قولان:

القول الأول: يجب إذا لم يكن لها غيره.

لحديث الباب: (انطلق فحج مع امرأتك).

قال ابن حزم: ففرض عليه أن يحج معها ....

القول الثاني: لا يلزمه.

وهذا القول أقوى.

وأما الحديث: (انطلق

) فهنا أمره بالحج مع امرأته لأن المرأة قد شرعت في السفر، ولا طريق إلى خلاص من ذلك إلا أن يسافر معها.

لكن ليس للزوج أن يمنعها عن حج فرض باتفاق العلماء.

•‌

‌ ما حكم خروج المرأة للحج من غير محرم في حج التطوع؟

لا يجوز لها ذلك.

وهذا مذهب أغلب الفقهاء، فيه قال الحنفية والمالكية وهو المذهب الراجح عند الشافعية وقال به الحنابلة.

ص: 309

•‌

‌ ما الجمع بين الروايات المختلفة في أحاديث النهي عن سفر المرأة بلا محرم؟

وردت عدة روايات كما تقدم في الأحاديث:

ورد مطلق من غير تقييد كحديث الباب (وَلَا تُسَافِرُ اَلْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم).

وورد في حديث أبي سعيد (لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثاً

).

وورد في حديث أبي هريرة (

مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَم).

وورد في حديث أبي سعيد (

لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلاَّ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرم).

وورد في حديث ابن عمر (

لا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ).

وورد في حديث أبي هريرة (

أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَة).

والجمع بين هذه الروايات: قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين.

قَالَ الْعُلَمَاء: اِخْتِلَاف هَذِهِ الْأَلْفَاظ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، وَاخْتِلَاف الْمَوَاطِن، وَلَيْسَ فِي النَّهْي عَنْ الثَّلَاثَة تَصْرِيح بِإِبَاحَةٍ اللَّيْلَة أَوْ الْبَرِيد، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَة تُسَافِر ثَلَاثًا بِغَيْرِ مَحْرَم، فَقَالَ: لَا، وَسُئِلَ عَنْ سَفَرهَا يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ مَحْرَم: فَقَالَ: لَا، وَسُئِلَ عَنْ سَفَرهَا يَوْمًا فَقَالَ: لَا. وَكَذَلِكَ الْبَرِيد، فَأَدَّى كُلّ مِنْهُمْ مَا سَمِعَهُ، وَمَا جَاءَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا عَنْ رِوَايَة وَاحِد فَسَمِعَهُ فِي مَوَاطِن، فَرَوَى تَارَة هَذَا، وَتَارَة هَذَا، وَكُلّه صَحِيح، وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلّه تَحْدِيد لِأَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ اِسْم السَّفَر، وَلَمْ يُرِدْ صلى الله عليه وسلم تَحْدِيد أَقَلّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا، فَالْحَاصِل أَنَّ كُلّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا تُنْهَى عَنْهُ الْمَرْأَة بِغَيْرِ زَوْج أَوْ مَحْرَم، سَوَاء كَانَ ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ يَوْمَيْنِ أَوَيَوْمًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ؛ لِرِوَايَةِ اِبْن عَبَّاس الْمُطْلَقَة، وَهِيَ آخِر رِوَايَات مُسْلِم السَّابِقَة (لَا تُسَافِر اِمْرَأَة إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم) وَهَذَا يَتَنَاوَل جَمِيع مَا يُسَمَّى سَفَرًا.

وقال الحافظ ابن حجر: تحت حديث (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرَم) كذا أطلق السفر، وقيّده في حديث سعيد الآتي في الباب فقال (مسيرة يومين)، ومضى في الصلاة حديث أبي هريرة مقيداً بمسيرة يوم وليلة، وعنه روايات أخرى، وحديث ابن عمر فيه مقيداً بثلاثة أيام، وعنه روايات أخرى أيضاً، وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقديرات.

•‌

‌ وقد اختلف العلماء في مقدار السفر الذي لا يجوز للمرأة أن تسافر فيه، إلا إذا كان معها زوجها أو محرم لها:

قيل: لا يجوز للمرأة أن تسافر ليلتين بلا زوج أو محرم، فإن كانت المسافة أقل من ذلك فلها أن تسافر لوحدها.

لحديث أبي سعيد (لا تسافر المرأة يومين .... ).

وقيل: لا يجوز أن تسافر مطلقاً، كان السفر قريباً أو بعيداً، إلا معها زوج أو ذو محرم لها.

لحديث ابن عباس - حديث الباب - (وَلَا تُسَافِرُ اَلْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم).

وقيل: يجوز أن تسافر المرأة فيما دون البريد، فإذا كان بريداً فصاعداً فليس لها أن تسافر إلا بمحرم.

لرواية أبي داود عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تسافر امرأة بريداً إلا مع زوج أو ذي محرم).

وقيل: للمرأة أن تسافر فيما دون اليوم بلا محرم، وما زاد على ذلك فلا يجوز إلا بزوج أو محرم.

لحديث أبي هريرة ( .... أن تسافرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَم).

والراجح - كما تقدم - أنه لا يجوز لها أن تسافر مطلقاً سواء كان السفر بعيداً أو قصيراً.

وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة: يحرم على المرأة السفر بدون محرم مطلقا، سواء قصرت المسافة أم طالت.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- يرخص في سفر المرأة بدون محرم في حالات متفق عليها:

أ- الكافرة تسلم في دار الحرب، فيجوز أن تسافر لوحدها لدار المسلمين.

ب- الأسيرة تخلصت من الكفار، فلها أن تسافر لوحدها.

ج- المرأة إذا انقطعت من الرفقة فلها أن تسير لوحدها.

- أن الحج لا يجب على المرأة إذا لم يكن لها محرم.

ص: 310

718 -

وَعَنْهُ: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: " مَنْ شُبْرُمَةُ؟ " قَالَ: أَخٌ [لِي]، أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: " حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: "حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ.

===

(قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي) هذا شك من الراوي.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث مختلف فيه، فرجح الإمام أحمد والإمام الطحاوي وقفه، واختاره ابن المنذر.

وقال ابن المنذر _ كما في التلخيص الحبير (2/ 223): لا يثبت رفعه.

ورجح بعض العلماء رفعه كالبيهقي فقال _ كما في السنن الكبرى: هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه)، وقال أيضاً:(ومن رواه مرفوعاً حافظ ثقة، فلا يضره خلاف من خالفه).

ورجح المرفوع ابن حبان وعبد الحق وابن القطان والنووي والألباني.

•‌

‌ هل ما دل عليه هذا الأثر الموقوف صحيح؟

نعم، ما دل عليه هذا الموقوف هو الصحيح لوجوه:

أولاً: أنه قول صحابي لم يثبت خلافه.

ثانياً: أنه الأصل، فالأصل أن يحج الإنسان عن نفسه قبل أن يحج عن غيره.

ثالثاً: أن الله قد خاطب هذا المكلف وأمره أن يؤدي هذا الفرض، فكيف يذهب يؤدي فرض غيره، والله قد خاطبه بنفسه: (ولله على الناس حج

).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه لا يجوز للإنسان أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه.

وقد ذهب إلى هذا جماهير العلماء.

فالواجب أن يبدأ بنفسه، ثم يحج عن غيره.

•‌

‌ ما الحكم لو حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه؟

إن حج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه، فإن هذه الحجة تكون عن نفسه، ويرد المال لصاحبه.

وقد جاء في رواية عند ابن ماجه لهذا الحديث (فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة).

قال الشيخ ابن عثيمين: لو فرضنا أن هذا الذي أقيم وهو لم يؤد فريضة الحج، حج وقال: لبيك عن فلان الذي وكله، يكون الحج لهذا الذي حج ويرد النفقة التي أعطاها لمن وكله، لأن ذلك العمل الذي وكله فيه لم يصح، فيرد عوضه. (الشرح الممتع).

وهذا القول هو مذهب الشافعي وأحمد.

وذهب بعض العلماء إلى أن من حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه فإن الحج يقع عن الغير، وهذا قول الحنفية والمالكية.

واستدلوا بحديث المرأة الخثعمية - وقد تقدم - ولم يسألها هل حججتِ عن نفسك أم لا؟

ولكن الراجح القول الأول، وأما حديث الخثعمية فالجواب عنه بأن يقال: أن المرأة سألت وهي متلبسة بالحج (تحج عن نفسها) فهي تسأل عن المستقبل.

ص: 311

•‌

‌ هل يشرع الجهر بالتلبية؟

نعم، يشرع الجهر بالتلبية.

•‌

‌ هل يشرع ذكر اسم المحجوج عنه؟

نعم يشرع، فالرجل إذا حج عن غيره فإنه يصرح بذكره فيقول: لبيك عن فلان.

ولو يسميه، نعم يسميه ولو كان امرأة، لكن لو قال: لبيك عمن استنابني فإنه جائز.

إذا نسي اسم من وكله فإنه يقول: لبيك عمن استنابني.

1 -

يجوز إذا كان الرجل فقيراً لا يستطيع الحج ولم يحج عن نفسه فأعطاه رجل مالاً ليحج عنه.

لأن هذا الرجل الآن لا يستطيع الحج (السبيل) لأنه ليس عنده مال، فيجوز أن يحج عن غيره.

2 -

المشهور من المذهب أنه يجب أن يحج النائب من حيث المستنيب.

قالوا: لو أن هذا الرجل أراد أن يحج لنفسه فإنه ينطلق من مكانه، فكذلك نائبه.

لكن هذا القول ضعيف، والصحيح أنه لا يلزمه أن يقيم من يحج عنه من مكانه، لأن الطريق ليس مقصوداً لذاته.

•‌

‌ أذكر بعض الفوائد من الحديث؟

- مشروعية الجهر بالتلبية.

- مشروعية الحج عن الغير سواء كان قريباً أو بعيداً، وقد تقدمت المسألة وشروطها.

- تعليم الجاهل.

•‌

‌ هل يشترط ذكر اسم المنوي عنه؟

الحج والعمرة عن الغير لا يشترط فيهما ذكر اسم الشخص المنوي عنه الحج أو العمرة، ولا التلفظ بذلك، بل تكفي النية عنه، والنية محلها القلب.

ولكن الأفضل أن يقول عند أول تلبية: لبيك اللهم عن فلان - كما في حديث الباب.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: الحج عن الغير يكفي فيه النية عنه، ولا يلزم فيه تسمية المحجوج عنه، لا باسمه فقط ولا باسمه واسم أبيه أو أمه، وإن تلفظ باسمه عند بدء الإحرام أو أثناء التلبية أو عند ذبح دم التمتع إن كان متمتعاً أو قارناً - فحسن؛ لما روى أبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال:" من شبرمة "؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال:" حججت عن نفسك "؟ قال: لا. قال: " حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ".

وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: رجل حج عن امرأة وعندما أراد الإحرام من الميقات نسي اسمها ماذا يصنع؟

فأجاب: إذا حج عن امرأة أو عن رجل ونسي اسمه فإنه يكفيه النية ولا حاجة لذكر الاسم، فإذا نوى عند الإحرام أن هذه الحجة عمن أعطاه الدراهم أو عمن له الدراهم كفى ذلك، فالنية تكفي؛ لأن الأعمال بالنيات، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- إذا كان الرجل فقير لم يحج عن نفسه لفقره، هل يصح أن ينوب على غيره؟

قيل: لا يصح.

وقال بعض العلماء: إنه يصح لإنسان الذي لم يؤدِ الفريضة عن نفسه أن يحج عن غيره، إذا كان الحج لا يجب عليه، كالفقير.

مثال: رجل فقير ليس عنده شيء، فأنابه شخص وقال: حج عني، فإنه يصح، فالسبب قالوا: الحج لا يجب على هذا الفقير، فهو لم يسقط فرض غيره قبل فرض نفسه، لأن الفريضة هنا غير واجبة.

وهذا القول هو الصحيح.

القاعدة: من وجب عليه الحج لم يصح أن يحج عن غيره قبل نفسه، وأما من لم يجب عليه الحج فيصح.

ص: 312

719 -

وَعَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (إِنَّ اَللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ اَلْحَجَّ " فَقَامَ اَلْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كَلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اَللَّهِ؟ قَالَ: " لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، اَلْحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، غَيْرَ اَلتِّرْمِذِيِّ.

===

(كتب) يعني فرض.

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كما جاء في صحيح مسلم؟

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ قَالَ - ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: وجوب الحج. والحج فرض بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين).

وقال صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس:

وذكر منها: وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

وأجمع المسلمون على فرضيته.

•‌

‌ ما حكم تارك الحج تكاسلاً؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: كافر.

وهو مذهب عمر، وهو مذهب سعيد بن جبير وطائفة من فقهاء المالكية.

لقوله تعالى (

وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين).

وعن الحسن قال: قال عمر: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين). رواه ابن سعد.

القول الثاني: أنه لا يكفر.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر مانع الزكاة قال: (فيرى سبيله إما إلى النار وإما إلى الجنة) فلو كان كافراً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إما إلى الجنة وإما إلى النار، لأن الكافر لا يشم رائحة الجنة.

قالوا: فإذا لم يكفر تارك الزكاة فتارك الحج من باب أولى.

وهذا القول هو الراجح.

* وأما الجواب عن قوله تعالى: (ومن كفر

) فقد تقدم في أول الشرح.

•‌

‌ كم مرّة يجب الحج في العُمُر؟

يجب مرة واحدة في العمر.

ص: 313

•‌

‌ هل الحج على الفور أم على التراخي؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه على الفور.

وهو قول المالكية والحنابلة.

قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج، وأمكنه فعله؛ وجب عليه على الفور، ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك.

- لقوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقوله تعالى (واستبقوا الخيرات).

- قال صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليتعجل) رواه أحمد وفيه ضعف.

- ما جاء في قصة الحديبية، وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا

فوالله ما قام منهم رجل

فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس).

ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن الأمر للفور ما دخل على أم سلمة مغضباً.

- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله؛ ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي وفيه ضعف.

- أن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ للذمة.

- ولأنه أحد أركان الإسلام؛ فكان واجباً على الفور كالصيام.

- ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات.

القول الثاني: أنه على التراخي وليس على الفور.

وهذا مذهب أكثر الشافعية.

قال النووي: مذهبنا أنه على التراخي، وبه قال الاوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس رضي الله تعالى عنهم.

أ- قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، ولا خلاف أن آية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرومون بعمرة، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف وإذا كان الحج فرض عام ست، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر، فذلك دليل على أنه على التراخي.

ب-ومن أدلتهم أيضاً: أَنه إن أَخر الحج من سنة إلى أَخرى، أَوْ إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤدياً للحج لا قاضياً له بالإجماع، قالوا: ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء.

ج-ومنها: أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي، بجامع أن كليهما واجب، ليس له وقت معين: قالوا: ولكن ثبتت آثار: أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة.

والراجح أنه على الفور.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج عام 9 هـ وحج عام 10 هـ، لسببين:

أولاً: كثرة الوفود عليه في تلك السنة، ولهذا تسمى سنة الوفود.

ثانياً: لأن في السنة التاسعة من المتوقع أن يحج المشركون كما وقع.

ص: 314

•‌

‌ ما حكم من مات ولم يحج وهو بالغ وكان مقتدراً؟

قال الشيخ ابن عثيمين: اختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: إنه يحج عنه وأن ذلك ينفعه، ويكون كمن حج لنفسه، ومنهم من قال: لا يحج عنه، وأنه لو حج عنه ألف مرة لم تقبل. يعني لم تبرأ بها ذمته، وهذا القول هو الحق، لأن هذا الرجل ترك عبادة واجبة عليه مفروضة على الفور بدون عذر، فكيف يذهب عنها، ثم نلزمه إياها بعد الموت، ثم التركة الآن تعلق بها حق الورثة، كيف نحرمهم من ثمن هذه الحجة وهي لا تجزئ عن صاحبها، وهذا هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن"، وبه أقول: إن من ترك الحج تهاوناً مع قدرته عليه لا يجزئ عنه الحج أبداً، لو حج عنه الناس ألف مرة، أما الزكاة فمن العلماء من قال: إذا مات وأديت الزكاة عنه برئت الذمة، ولكن القاعدة التي ذكرتها تقتضي ألا تبرأ ذمته من الزكاة، لكني أرى أن تخرج الزكاة من التركة، لأنه تعلق بها حق الفقراء والمستحقين للزكاة، بخلاف الحج، فلا يؤخذ من التركة، لأنه لا يتعلق به حق إنسان، والزكاة يتعلق بها حق الإنسان، فتخرج الزكاة لمستحقيها، ولكنها لا تجزئ عن صاحبها، سوف يعذب بها عذاب من لم يزك، نسأل الله العافية، كذلك الصوم إذا علم أن هذا الرجل ترك الصيام وتهاون في قضائه، فإنه لا يقضى عنه، لأنه تهاون وترك هذه العبادة، التي هي ركن من أركان الإسلام بدون عذر، فلو قضي عنه لم ينفعه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ). فهذا فيمن لم يفرط، وأما من ترك القضاء جهراً وجهاراً بدون عذر شرعي فما الفائدة أن نقضي عنه " انتهى.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن صيغة الأمر لا تدل على التكرار، فيكفي في امتثاله مرة ما لم يأت البيان من دليل آخر.

- أنه لا يجب الإحرام لمن مرّ بالميقات وقد أدى فريضة الحج.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج مرة) ولو أوجبنا الإحرام على من مرّ بالميقات بدون قصد الحج والعمرة لكان الحج يجب مرات كثيرة كلما مرّ بالميقات وجب عليه أن يحرم.

وهذا القول هو الراجح: أنه لا يجب الإحرام من الميقات إلا لمن أراد الحج أو العمرة.

ص: 315

‌باب المواقيت

المواقيت جمع ميقات: وهو المكان الذي يحرم منه من أراد النسك.

720 -

عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ اَلشَّامِ: اَلْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ اَلْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اَلْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ اَلْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

721 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

722 -

وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إِلَّا أَنَّ رَاوِيَهُ شَكَّ فِي رَفْعِهِ.

723 -

وَفِي اَلْبُخَارِيِّ: - أَنَّ عُمَرَ هُوَ اَلَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ -.

724 -

وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيِّ: عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَشْرِقِ: اَلْعَقِيقَ)

===

(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ) حدد.

(ذَا الْحُلَيْفَةِ،) مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين.

قال النووي: وهي أبعد المواقيت من مكة، بينهما نحو عشر مراحل، وهي قريبة من المدينة.

(اَلْجُحْفَةَ) قال الحافظ: هي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة.

قال النووي: سميت بذلك لأن السيل اجتحفها.

(يَلَمْلَمَ) وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة.

(قَرْنَ اَلْمَنَازِلِ) على نحو مرحلتين من مكة، وهو أقرب المواقيت إلى مكة.

(هُنَّ) أي: هذه المواقيت.

(لَهُنَّ) أي: لأهل البلاد المذكورة.

(وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ) يعني أن هذه المواقيت تكون محل إحرام لكل شخص أتى عليها من غير أهل البلاد المذكورة.

(وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ) أي: ومن كان منزله دون هذه المواقيت، بأن كان بينها وبين مكة، فميقاته من حيث أنشأ السفر أو أنشأ النية للحج أو العمرة.

•‌

‌ اذكر المواقيت المكانية للحج أو العمرة؟

قال ابن قدامة بعد ما ذكر المواقيت: أجمع أهل العلم على أربعة منها، وهي: ذو الحليفة، وقرن، والجحفة ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله فيها.

•‌

‌ ما حكم الإحرام من هذه المواقيت لمن أراد الحج أو العمرة؟

واجب.

أ- لقوله (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ

).

ب-وفي حديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ..... ) متفق عليه.

ج- وفي حديث ابن عمر - عند البخاري - قال (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْناً، وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَة).

ص: 316

•‌

‌ ما أبعد هذه المواقيت، وما الحكمة؟

أبعد هذه المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة.

قال الحافظ: فقيل في الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة، وقيل: رفقاً بأهل الآفاق، لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، أي ممن له ميقات معين.

•‌

‌ ما حكم من تجاوز هذه المواقيت من غير إحرام وهو مريد النسك؟

قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ، إنْ أَمْكَنَهُ، سَوَاءٌ تَجَاوَزَهُ عَالِمًا بِهِ أَوْ جَاهِلًا، عَلِمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ جَهِلَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

وَبِهِ يَقُولُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ.

وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ.

وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ.

وقال الشيخ ابن باز: لا يجوز للمسلم إذا أراد الحج أو العمرة أن يتجاوز الميقات الذي يمر به إلا بإحرام، فإن تجاوزه بدون إحرام لزمه الرجوع إليه والإحرام منه، فإن ترك ذلك وأحرم من مكان دونه أو أقرب منه إلى مكة فعليه دم عند الكثير من أهل العلم، يذبح في مكة ويوزع بين الفقراء؛ لكونه ترك واجباً وهو الإحرام من الميقات الشرعي.

•‌

‌ ما حكم من مرّ بميقات ليس ميقاته؟

يجب عليه أن يحرم منه.

فهذه المواقيت لأهلها ولمن مرّ عليها من غير أهلها ممن أراد الحج أو العمرة.

فمن سلك طريقاً فيها ميقات فهو ميقاته، فإذا مرّ أحد من أهل نجد ميقات أهل الشام فإنه يحرم منه، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقات أهل نجد.

•‌

‌ ما حكم المرأة الحائض إذا كانت تريد الحج أو العمرة وحاضت بالميقات؟

والمرأة التي تريد العمرة لا يجوز لها مجاوزة الميقات إلا بإحرام، حتى لو كانت حائضاً فإنها تحرم وهي حائض وينعقد إحرامها ويصح؛ والدليل لذلك أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما ولدت - والنبي صلى الله عليه وسلم نازل في ذي الحليفة يريد حجة الوداع - فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟

قال (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي).

ودم الحيض كدم النفاس، فنقول للمرأة الحائض: إذا مررت بالميقات وأنت تريدين العمرة أو الحج فاغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ".

والاستثفار معناه: أنها تشد على فرجها خرقة وتربطها ثم تحرم، سواء بالحج أو بالعمرة ".

ص: 317

ولكنها إذا أحرمت ووصلت إلى مكة لا تأتي إلى البيت ولا تطوف به حتى تطهر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت في أثناء العمرة قال لها (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي في البيت حتى تطهري) هذه رواية البخاري ومسلم، وفي صحيح البخاري أيضاً ذكرت عائشة أنها لما طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، فدل هذا على أن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وهي حائض أو أتاها الحيض قبل الطواف فإنها لا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، أما لو طافت وهي طاهرة وبعد أن انتهت من الطواف جاءها الحيض؛ فإنها تستمر وتسعى ولو كان عليها الحيض وتقص من رأسها وتنهي عمرتها، لأن السعي بين الصفا والمروة لا يشترط له الطهارة. (الشيخ ابن عثيمين).

•‌

‌ ما الحكم إذا مر الشامي بميقات أهل المدينة، هل له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة والتي هي الأصل أو يجب أن يحرم من ذي الحليفة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يجب أن يحرم من ذي الحليفة.

وهذا قول الشافعي وأحمد.

لقوله صلى الله عليه وسلم (هنّ لهنّ ولمن مرّ عليهنّ من غير أهلهنّ).

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد ذا الحليفة ميقاتاً من ضمن هذه المواقيت، فلم يجز تجاوزه بغير إحرام كسائر المواقيت.

القول الثاني: يجوز ذلك تجاوز ذي الحليفة إلى الجحفة ويحرم من الأخير.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو اختيار شيخ الإسلام.

أ-واستدلوا بحديث الباب (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ اَلشَّامِ: اَلْجُحْفَةَ).

قالوا: لأن هذا الرجل مرّ بميقاتين، يجب عليه الإحرام منهما، أحدهما فرع، والثاني أصل، والأصل الجحفة وميقات المدينة فرع، فله أن يدع الإحرام من الفرع إلى الأصل.

ب- وقالوا: إن أهل الشام بنص الحديث ميقاتهم الجحفة.

والأول أحوط.

•‌

‌ ما حكم من كان منزلة دون الميقات؟

حكمه: يكون ميقاته من مكانه الذي هو ساكن فيه.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).

وقال الشيخ ابن باز: جدة ليست ميقاتاً للوافدين، وإنما هي ميقات لأهلها ولمن وفدوا إليها غير مريدين الحج ولا العمرة، ثم أنشئوا الحج والعمرة منها.

•‌

‌ ما حكم مَنْ سافر مِنْ بلده إلى جدة ثم أراد العمرة فهل يحرم من جدة؟

لا يخلو الأمر مِنْ حالين:

أ- الإنسان قد سافر إلى جدة بدون نية العمرة، ولكن طرأت له العمرة وهو في جدة: فإنه يُحرم من جدة، ولا حرج في ذلك؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما حين ذكر المواقيت قال:(ومَن كان دون ذلك: فمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).

ب- يكون سافر من بلده بنية العمرة عازماً عليها: فإنه يجب في هذه الحالة أن يُحرم من الميقات الذي يمر به، ولا يجوز الإحرام من جدة؛ لأنها دون الميقات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقَّت المواقيت فقال:(هنَّ لهنَّ ولمن مرَّ عليهن مِنْ غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة).

فإن أحرم من جدة ونزل إلى مكة في هذه الحال: فإن عليه عند أهل العلم فدية، دماً يذبحه في مكة، ويتصدق به على الفقراء، وعمرته صحيحة، فإن لم يحرم من جدة بعد وصوله إليها، وهو ناوٍ العمرة قبل وصوله: فإنه يرجع إلى الميقات، ويحرم منه، ولا شيء عليه. (الشيخ ابن عثيمين).

ص: 318

•‌

‌ ما حكم من تجاوز هذه المواقيت بلا نية النسك، ثم طرأ عليه نية العزم على النسك؟

فإنه يحرم من حيث أراد النسك.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).

أي: ومن كان منزله دون هذه المواقيت، بأن كان بينها وبين مكة، فميقاته من حيث أنشأ السفر أو أنشأ النية للحج أو العمرة.

•‌

‌ ما حكم من لا يمر بميقات؟

الذي لا يمر بميقات فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، واعتبار المحاذاة أصل بنى عليه عمر حين قرر ذات عرق ميقاتاً لأهل العراق. (وسيأتي إن شاء الله).

•‌

‌ ما حكم الإحرام قبل الميقات؟

ذهب عامة أهل العلم على أن الإحرام من وراء الميقات صحيح معتد به، وأن من أحرم قبل بلوغ الميقات فإحرامه صحيح، وحكاه ابن المنذر إجماعاً.

والقائلون بأن الإحرام قبل الميقات منعقد اختلفوا هل هو أفضل، أو هو جائز أو مكروه؟

قال ابن بطال في شرح البخاري حكاية عن ابن المنذر بعد حكاية الإجماع المشار إليه ما عبارته:

غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، واستحبه آخرون.

فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل علي وابن مسعود عن قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّه) فقالا: أن تحرم من دويرة أهلك.

وأجاز ذلك علقمة والأسود، وهو قول أبى حنيفة، والثوري، والشافعي.

وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة.

وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات.

وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد: المواقيت أفضل؛ لأنها سنة النبي عليه السلام. ا. هـ

والصواب قول من كره الإحرام قبل الميقات، لأنه قول عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولموافقته لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يختار إلا الأفضل، وإحرام من أحرم قبل الميقات منعقد لأن من أنكره من الصحابة لم يلزم من فعله بتجديد الإحرام، ولأنه قول عامة العلماء، والذاهبون إلى عدم الصحة قليل من أهل العلم.

قال ابن قدامة مبيناً وجه كراهة الإحرام قبل الميقات: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل

قال الشيخ ابن عثيمين: الإحرام قبل هذه المواقيت المكانية مكروه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقتها، وكون الإنسان يحرم قبل أن يصل إليها فيه شيء من تقدم حدود الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) يدل على أنه ينبغي لنا أن نتقيد بما وقته الشرع من الحدود الزمانية والمكانية، ولكنه إذا أحرم قبل أن يصل إليها فإن إحرامه ينعقد.

وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وقت هذه المواقيت قال (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) فمن كان من أهل نجد فمر بالمدينة فإنه يحرم من (ذو الحليفة) ومن كان من أهل الشام، ومر بالمدينة، فإنه يحرم من (ذو الحليفة) ولا يحل له أن ينتظر حتى يصل إلى ميقات الشام الأصلي على القول الراجح من قولي أهل العلم.

ص: 319

•‌

‌ هل الإنسان إذا مر بالميقات وهو لا يريد نسكاً وكان قد أدى فرضه، هل يلزمه الإحرام أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: إنه يجب عليه الإحرام، ولا يتجاوز الميقات إلا محرماً، لأداء عمرة أو حج، وممن قال بهذا القول جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، إلا إن الحنفية قيدوه فيما إذا كان منزله خارج المواقيت، وهو قول عند الشافعية.

أ-عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم (يتجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم).

بالنسبة للفظ الأول: قال ابن حجر: (رواه ابن عدي مرفوعاً من وجهين ضعيفين)(70).

وفي لفظ آخر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تجوزوا الوقت إلا بإحرام).

قال الهيثمي: وفيه خصيف، وفيه كلام وقد وثقَّه جماعة.

وقال الذهبي عنه: صدوق سيء الحفظ، ضعفه أحمد، ووصفه أبو حاتم بالاختلاط.

ب-عن ابن عباس رضي الله عنه قال (لا يدخل أحد مكة إلا محرماً) رواه البيهقي، قال الحافظ: إسناده جيد.

ج-عن علي قال (لا يدخلها إلا بإحرام، يعني مكة) أخرجه ابن أبي شيبة.

القول الثاني: أنه لا يجب.

وهذا مذهب الشافعي.

قال النووي: أن الأصح عندنا أنه يستحب له الإحرام ولا يجب.

واختار هذا القول ابن حزم، والشوكاني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الشنقيطي.

أ-لقوله: (ممن أراد الحج والعمرة) فمفهومه أن من لم يرد النسك لا يجب عليه.

ب- حديث - وقد تقدم - (الحج مرة وما زاد فهو تطوع).

وجه الدلالة: إن الحج والعمرة لا يجبان في العمر إلا مرة واحدة، وأن ما زاد كان تطوعاً، والتطوع لا يجب وإنما يستحب، فإذا أوجبنا على الداخل إلى مكة الإحرام وهو لا يريد الحج، أو العمرة فكأننا قد أوجبنا عليه شيء لم يوجبه الشرع.

الخلاصة: أن من رد بالميقات فله 3 أحوال:

الحال الأول: أن يكون مريداً للنسك، فيجب عليه الإحرام من الميقات.

الحال الثانية: أن يكون غير مريد للنسك، فلا يجب عليه.

الحال الثالثة: أن يكون متردداً (كأن يقول: لا أدري هل أتمكن من العمرة أم لا) فهنا لا يجب عليه الإحرام لقوله (ممن أراد الحج أو العمرة) وهذا متردد وليس بعازم.

ص: 320

•‌

‌ ما ميقات أهل مكة للحج؟

ميقات أهل مكة للحج من مكة.

لقوله (حتى أهل مكة من مكة).

فمن حج من مكة فمنها حتى لو من غير أهلها.

•‌

‌ ما ميقات أهل مكة للعمرة؟

ميقات أهل مكة للعمرة من الحل. (كالتنعيم أو عرفة).

وهذا مذهب الأئمة الأربعة.

قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لتحرم منه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحديد النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت من معجزات النبوة، فإنه حددها قبل إسلام أهلها إشعاراً منه بأنهم سيسلمون.

- جعل كل أهل جهة لهم ميقات في طريقهم إلى مكة من رحمة الله بخلقه، وتسهيل شرعه لهم.

ص: 321

725 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْق) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

726 -

وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إِلَّا أَنَّ رَاوِيَهُ شَكَّ فِي رَفْعِهِ.

727 -

وَفِي اَلْبُخَارِيِّ (أَنَّ عُمَرَ هُوَ اَلَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْق).

728 -

وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيِّ: عَنِ اِبْنِ عَبَّاس (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَشْرِقِ: اَلْعَقِيق).

===

(ذَاتَ عِرْق) ميقات أهل العراق، سمي بذلك لوجود جبل صغير فيه.

(اَلْعَقِيق) واد عظيم يقع شرق مكة.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

- حديث عائشة ضعيف أنكره أحمد واعتبره من منكرات أفلح بن حميْد، وقال ابن خزيمة: قد روي أخبار في ذات عرق أنه ميقات أهل العراق، ولا يثبت عند أهل الحديث منها شيء.

- وحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق) ضعيف لا يصح.

•‌

‌ اذكر لفظ أثر عمر في توقيته ذات عرق لأهل العراق؟

عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ (لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْناً، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْناً شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْق) رواه البخاري.

•‌

‌ ما هو ميقات أهل العراق؟

ذات عرق.

وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامة: فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم.

•‌

‌ من الذي وقت ذات عرق لأهل العراق؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لحديث الباب حديث عائشة وابن عباس.

القول الثاني: أن الذي وقته عمر.

لحديث ابن عمر قال: (لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وإنه جور عن طريقنا إن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، قال: فحد له ذات عرق). رواه البخاري

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدده لاشتهر ذلك كما اشتهر تحديد المواقيت الأخرى، وأيضاً لو وقع تحديدها لما احتاج عمر إلى تحديدها لأهل العراق.

وضعف هؤلاء الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق.

وممن قال بهذا أبو الشعثاء جابر بن زيد وطاووس ومحمد بن سيرين ومسلم وأبو داود وابن المنذر وابن خزيمة والخطابي والبغوي وابن الجوزي والنووي.

قال مسلم: فأما الأحاديث التي ذكرناها من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق فليس واحد منها يثبت.

ص: 322

وقال ابن المنذر: ولا يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة.

وقال ابن خزيمة: وقد روي في ذات عرق أنه ميقات أهل العراق أخبار عن غير ابن جريج لا يثبت عند أهل الحديث شيء منها.

وقال البغوي: والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت لهم شيئاً.

وقال النووي: وَأَمَّا (ذَات عِرْق) بِكَسْرِ الْعَيْن فَهِيَ مِيقَات أَهْل الْعِرَاق، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ صَارَتْ مِيقَاتهمْ بِتَوْقِيتِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمْ بِاجْتِهَادِ عُمَر بْن الْخَطَّاب؟ وَفِي الْمَسْأَلَة وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ: أَصَحّهمَا: وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ رضي الله عنه فِي الْأُمّ: بِتَوْقِيتِ عُمَر رضي الله عنه، وَذَلِكَ صَرِيح فِي صَحِيح الْبُخَارِي.

القول الثالث: أن الذي وقته النبي وعمر لم يبلغه النص فجاء توقيته على وفق توقيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وعمر معروف بموافقاته الكثيرة.

وبهذا قال ابن حزم، وابن قدامة، وابن تيمية، والعيني.

قال ابن قدامة: ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق فقال برأيه فأصاب، ووافق قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان كثير الإصابة.

والقول الثاني أصح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قول عمر (قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْق) رواه البخاري؟

نستفيد: أن من لا يمر بشيء من هذه المواقيت فإنه ينظر إلى حذو الميقات الأقرب إليه (فيحرم منه).

فإذا مر في طريق بين يلملم وقرن المنازل ينظر أيهما أقرب إليه، فإذا حاذى أقربهما إليه أحرم من محاذاته فعمر قال لهم: انظروا إلى حذوها من طريقكم).

فأمرهم أن ينظروا إلى محاذاة قرن المنازل ويحرموا.

•‌

‌ من أين يحرم من جاء بالطائرة؟

وفي حكم عمر رضي الله عنه هذا فائدة جليلة، وهي أن الذين يأتون عن طريق الطائرات وقد نووا الحج أو العمرة ويمرون بهذه المواقيت إما فوقها أو عن يمينها أو يسارها يجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا هذه المواقيت، ولا يحل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في جدة، كما يفعله كثير من الناس، فإن هذا خلاف ما حدده النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

وقال الله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

فعلى الإنسان إذا جاء عن طريق الجو وهو يريد الحج أو العمرة أن يكون متهيئاً للإحرام في الطائرة، فإذا حاذى أول ميقات يمر به وجب عليه أن يحرم، أي أن ينوي الدخول في النسك ولا يؤخر هذا حتى يدخل في مطار جدة. (الشيخ ابن عثيمين).

بَابُ وُجُوهِ اَلْإِحْرَامِ وَصِفَتِهِ

وجوه: أنواع وصور.

الإحرام: نية الدخول في النسك.

ووجوه الإحرام وأنواعه ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.

ص: 323

729 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (خَرَجْنَا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ اَلْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ اَلنَّحْر) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(خَرَجْنَا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يعني من المدينة، وكان خروجه يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة.

(حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ) سنة عشر من الهجرة، سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع بها الناس.

(فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) هؤلاء هم المتمتعون، فالمتمتع يهل من الميقات بالعمرة، فإذا فرغ منها حل وجوباً، ثم أهل بالحج يوم التروية.

(مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ) أي: حج مع عمرة، وهؤلاء القارنون.

(ومنا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) وهؤلاء المفردون.

(وَأَهَلَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ) ظاهر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفرداً.

•‌

‌ ما هي الأنساك الثلاثة؟

هي: التمتع، والقران، والإفراد.

وقد ذكر غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه يجوز الحج بكل نسك من الأنساك الثلاثة لكل مكلف على الإطلاق.

فقد قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أنه يصح الحج بكل نسك من أنساك ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، لكل مكلف على الإطلاق.

وقال النووي: مذهبنا جواز الثلاثة وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وقال ابن عبد البر: وفي حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة من الفقه: أن التمتع جائز وأن الإفراد جائز وأن القران جائز وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.

وقال ابن قدامة: وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، واختلفوا في الأفضل.

وقال الماوردي: لا اختلاف بين الفقهاء في جواز الإفراد، والتمتع، والقران، وإنما اختلفوا في الأفضل.

وهذا الذي ذكره جماعة من أهل العلم، وهو الإجماع على جواز الإحرام بأي نسك من الأنساك الثلاثة، ليس محل إجماع ولا اتفاق على الصحيح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ثبت عن ابن عباس وطائفة من السلف أن التمتع واجب، وأن كل من طاف بالبيت وسعى ولم يكن معه هدي، فإنه يحل من إحرامه، سواء قصد التحلل أم لم يقصده، وليس عند هؤلاء لأحد أن يحج إلا متمتعا. وهذا مذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر. (مجلة البحوث الإسلامية).

والدليل على جواز الأنساك الثلاثة:

أ- حديث الباب.

ب-عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل).

قال النووي - بعدما أورد الحديثين- فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وإنما اختلفوا في الأفضل كما سيأتي إن شاء الله.

ص: 324

•‌

‌ اذكر صفة التمتع؟

صفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج من عامه.

لا يكون متمتعاً إلا إذا جمع هذه الأوصاف:

أولاً: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.

ثانياً: أن يفرغ من العمرة بالطواف والسعي والتقصير.

ثالثاً: أن يحرم بالحج من عامه.

•‌

‌ ما صفة القران؟

صفته: أن يحرم بالحج والعمرة معاً ويقول: لبيك عمرة وحجاً.

جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال (هل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حج).

وله صورة أخرى: أن يحرم بالعمرة أولاً (على أنه متمتع) ثم يدخل الحج عليها.

مثال: أن يحرم بالعمرة أولاً (على أنه متمتع) ثم يحدث له عذر لا يتمكن بسببه من إكمال العمرة، فحينئذ يدخل الحج ليكون قارناً.

مثل ما حصل لعائشة حينما أحرمت بالعمرة، لكنها قبل أن تصل إلى مكة حاضت بسرف،

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت.

واختلفوا لو أحرم بالحج (مفرداً) ثم أدخل العمرة عليه على قولين:

فقيل: لا يجوز.

لأن فيه إدخالاً للأصغر على الأكبر.

وقيل: يجوز، وهذا الصحيح.

•‌

‌ ما صفة الإفراد؟

الإفراد: أن يحرم بالحج مفرداً فيقول: لبيك حجاً.

•‌

‌ ما النسك الذي تلبس به النبي صلى الله عليه وسلم

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا.

وبه قال الإمام مالك، والشافعي في قول من أقواله، واختاره البيهقي وابن عبد البر والقاضي عياض.

أ- لحديث الباب (

وَأَهَلَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ).

ب-وعن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج) رواه البخاري.

ج-وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً).

وفي رواية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفرداً) رواهما مسلم.

د-عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج) رواه مسلم.

القول الثاني: أن صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً.

ص: 325

وهو قول للشافعي.

أ-عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال (تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه القرآن، قال رجل برأيه ما شاء

) متفق عليه.

ب- وعنه قال (تمتع نبي الله وتمتعنا معه) رواه مسلم.

ج-وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدموا مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد

) متفق عليه.

القول الثالث: أنه حج قارناً.

وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، واختاره الطحاوي، وابن حزم، وابن الجوزي، وابن قدامة، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر.

قال الإمام أحمد: لا شك أنه كان قارناً.

وقال ابن حزم:

صح لنا بلا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

وقال النووي: والصواب الذي نعتقده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

وقال ابن تيمية: أما حجه صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه كان قارناً.

وقال ابن القيم: ومن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب حق التأمل جزم جزماً لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته قارناً.

وقال ابن حجر: والذي تجتمع به الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

أ-عن نافع عن ابن عمر (أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.

ب-عن ابن عباس (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية حين تواطئوا على عمرة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته) رواه أبو داود.

ج-عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) رواه البخاري.

قال ابن حجر: وهذا دال أنه صلى صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

د-عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفاً، قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثاً ينفعك الله به (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل قرآن يحرمه) رواه مسلم.

هـ- عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم (ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج) متفق عليه.

و-وعن أنس. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لبيك عمرة وحجاً) رواه مسلم.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 326

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة من قال: إنه حج مفرداً؟

الجواب عنه من وجوه:

أ-أن هؤلاء الذين رووا الإفراد - وهم عائشة وجابر وابن عمر - رووا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً - كما سيأتي في أدلة من رأى القران - ويعترض عليها بالأحاديث الأخرى الصحيحة، التي رواها غير هؤلاء، التي نقل رواتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قارناً، وفي بعضها أنه حج متمتعاً، فهي متعارضة في الظاهر ومحتملة إفراد الحج، أو أن مرادهم إفراد عمل الحج، كما أن من روى أنه أفرد الحج لم يقل أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أفردت بالحج، ولا أتاني من ربي آت يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد: سمعته يقول: لبيك بعمرة مفردة البتة، ولا بحج مفرد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وأما الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج فهم ثلاثة: عائشة وابن عمر وجابر، والثلاثة نقل عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج، وما صح عنهما من ذلك فمعناه إفراد أعمال الحج.

من الأجوبة:

ب-أن من قال (أفرد بالحج) فإن قوله محمول على أول الحال، ثم إنه قرن عليه السلام بعد ذلك.

ج-أن يكون مراد من قال (أفرد الحج) أنه اعتمر أول الإحرام.

د-أن يكون مراد من قال (أفرد الحج) الرد على من قال: تمتع بالعمرة إلى الحج، وحل من إحرامه كما يحل المتمتع.

هـ- أن يكون مراد من روى أنه أفرد: أنه لم يحج بعد نزول فرض الحج إلا حجة فردة لم يثنها بأخرى. (مشكل أحاديث المناسك)(مجلة البحوث الإسلامية عدد: 59).

•‌

‌ ما أفضل الأنساك؟

اختلف العلماء في الأفضل من الأنساك الثلاثة، وسبب اختلافهم في ذلك يرجع إلى اختلافهم في نسك الحج الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه - كما تقدم - قد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً

فاختلف العلماء في الأفضل على أربعة أقوال:

القول الأول: القران أفضل.

وهذا قول الثوري وأبو حنيفة وإسحاق، ورجحه النووي والمزني.

واستدلوا بالأحاديث الصحيحة، التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً. قالوا: فلما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، وهو إنما يختار لنفسه الأفضل، دل على أن القران أفضل الأنساك.

ونوقش هذا الاستدلال: بأنه وإن كان الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، لكن هذا لا يدل على أنه الأفضل؛ إذ لو كان القران هو الأفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان قارناً ولم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نقل أصحابه من الحج إلى المتعة، وتأسف كيف لم يمكنه ذلك، ولو كان القران هو الأفضل لكان الأمر بالعكس.

القول الثاني: التمتع أفضل.

وبه قال الإمام أحمد في الصحيح من المذهب، والشافعي في قول، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وعلي، وبه قال الحسن وعطاء وطاووس ومجاهد.

أ- استدلوا بالأحاديث الصحيحة عن ابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا، أن يحلوا ويجعلوها عمرة، وذلك في أحاديث صحيحة متفق عليها.

كقوله صلى الله عليه وسلم (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة). متفق عليه

فهو صلى الله عليه وسلم تأسف على فواته، وأمر أصحابه أن يفعلوه.

ص: 327

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، لهذا لما قال سلمة بن شبيب لأحمد: يا أبا عبد الله، قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة - أي متعة الحج - فقال: يا سلمة كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق. عندي أحد عشر حديثاً صحيحاً عن رسول صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك؟

ب- أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج، مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسهولة، مع زيادة لنسك هو الدم، فكان ذلك هو الأولى.

ج- أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى، بقوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وذلك دون سائر الأنساك.

د- أنه أيسر للمكلف.

القول الثالث: التمتع أفضل الأنساك إلا لمن ساق الهدي فإن القران في حقه أفضل.

ودليل هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي، ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه

وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح.

فائدة: قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة.

•‌

‌ كم سعي على القارن؟

القارن ليس عليه إلا سعي واحد ويدل لذلك:

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، ولم يسع بين الصفا والمروة إلى سعياً واحدا فقط بعد طواف القدوم.

روى مسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال (لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافَهُ الأَوَّل)

قال النووي رحمه الله: (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابه) يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا طَوَاف وَاحِد لِلإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد.

ب-وروى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ ( .... فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ (وهم المتمتعون) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ (وهم القارنون) فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا).

ومرادها رضي الله عنها بالطواف الواحد السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يطلق عليه طواف.

قال ابن القيم: وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى تَعَدُّد السَّعْي عَلَى الْمُتَمَتِّع، فَإِنَّ قَوْلهَا (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَر بَعْد أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِم) تُرِيد بِهِ الطَّوَاف بَيْن الصَّفَّا وَالْمَرْوَة، وَلِهَذَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِهِ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ لَكَانَ الْجَمِيع فِيهِ سَوَاء فَإِنَّ طَوَاف الإِفَاضَة لا يَفْتَرِق فِيهِ الْقَارِن وَالْمُتَمَتِّع.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: هل يكفي طواف واحد وسعي واحد للقارن؟

فأجاب:

إذا حج الإنسان قارناً فإنه يجزئه طواف الحج، وسعي الحجّ عن العمرة والحج جميعاً، ويكون طواف القدوم طواف سنّة وإن شاء قدم السعي بعد طواف القدوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شاء أخره إلى يوم العيد، بعد طواف الإفاضة، ولكن تقديمه أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم العيد فإنه يطوف طواف الإفاضة فقط، ولا يسعى لأنه سعى من قبل، والدليل على أن الطواف والسعي يكفيان للعمرة والحج جميعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وكانت قارنة (طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجِك وعمرتك) فبيّن النبي عليه السلام أن طواف القارن وسعي القارن يكفي للحج والعمرة جميعاً.

ص: 328

•‌

‌ قال ابن القيم: وَلِلنّاسِ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ الّتِي أَتَتْ بِهَا عَائِشَةُ مِنْ التّنْعِيمِ أَرْبَعَةُ مَسَالِكَ:

أَحَدُهَا: أَنّهَا كَانَتْ زِيَادَةً تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا وَجَبْرًا لَهَا، وَإِلّا فَطَوَافُهَا وَسَعْيُهَا وَقَعَ عَنْ حَجّهَا وَعُمْرَتِهَا، وَكَانَتْ مُتَمَتّعَةً ثُمّ أَدْخَلَتْ الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَةِ فَصَارَتْ قَارِنَةً وَهَذَا أَصَحّ الْأَقْوَالِ وَالْأَحَادِيثُ لَا تَدُلّ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا مَسْلَكُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا.

الْمَسْلَكُ الثّانِي: أَنّهَا لَمّا حَاضَتْ أَمَرَهَا أَنْ تَرْفُضَ عُمْرَتَهَا، وَتَنْتَقِلَ عَنْهَا إلَى حَجّ مُفْرَدٍ فَلَمّا حَلّتْ مِنْ الْحَجّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَمِرَ قَضَاءً لِعُمْرَتِهَا الّتِي أَحْرَمَتْ بِهَا أَوّلًا، وَهَذَا مَسْلَكُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذِهِ الْعُمْرَةُ كَانَتْ فِي حَقّهَا وَاجِبَةً وَلَا بُدّ مِنْهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ كَانَتْ جَائِزَةً وَكُلّ مُتَمَتّعَةٍ حَاضَتْ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الطّوَافُ قَبْلَ التّعْرِيفِ فَهِيَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إمّا أَنْ تُدْخِلَ الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَتَصِيرَ قَارِنَةً وَإِمّا أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ وَتَصِيرَ مُفْرِدَةً وَتَقْضِي الْعُمْرَةَ.

الْمَسْلَكُ الثّالِثُ: أَنّهَا لَمّا قَرَنَتْ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ لِأَنّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا أَحَدُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.

الْمَسْلَكُ الرّابِعُ: أَنّهَا كَانَتْ مُفْرِدَةً وَإِنّمَا امْتَنَعَتْ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَاسْتَمَرّتْ عَلَى الْإِفْرَادِ حَتّى طَهُرَتْ وَقَضَتْ الْحَجّ وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ هِيَ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ وَهَذَا مَسْلَكُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَالِكِيّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ مِنْ الضّعْفِ بَلْ هُوَ أَضْعَفُ الْمَسَالِكِ فِي الْحَدِيثِ.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية الأنساك الثلاثة.

- أن القارن والمفرد لا يحلان إلا يوم النحر، وأما المتمتع يحل من العمرة عند قدومه إذا طاف وسعى وقصر، ويحرم بالحج بعد ذلك في اليوم الثامن في عامه. (لا تعلق بالإحلال بنحر الهدي).

- قال العلماء: يشترط لصحة تقديم سعي الحج أن يسبقه طواف نسك ولو مسنوناً.

بَابُ اَلْإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ

الإحرام شرعاً: نية الدخول في النسك.

وسمي بذلك لأن الإنسان في دخوله للنسك يحرم عليه ما كان مباحاً عليه قبل إحرامه.

•‌

‌ حِكَم تشريع الإحرام: من حكم مشروعية الإحرام:

1 -

استشعار تعظيم الله عز وجل.

2 -

تلبية أمره بأداء النسك الذي يريده المحرم.

3 -

استشعار إرادة تحقيق العبودية.

4 -

الامتثال لله تبارك وتعالى .... (الموسوعة الفقهية).

ص: 329

730 -

عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (مَا أَهَلَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ اَلْمَسْجِدِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

===

(مَا أَهَلَّ) أهل الإهلال، رفع الصوت، لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، والمراد بالإهلال هنا الإحرام.

(اَلْمَسْجِدِ) مسجد ذي الحليفة.

•‌

‌ من أين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم

وردت عدة روايات في موضع إحرام النبي صلى الله عليه وسلم:

أولاً: ورد أنه أهل لما استوت به دابته على البيداء.

أ-ففي حديث جابر الطويل - وسيأتي - (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ

فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لبيك اللهم لبيك

) رواه مسلم.

ب-وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَج). متفق عليه

ثانياً: وورد أنه أحرم من عند المسجد، حين استوت به راحلته.

أ-كما في حديث الباب.

ب-وفي رواية قال (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة) متفق عليه وهذا لفظ مسلم.

ج-وعنه (أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً) رواه مسلم.

ثالثاً: وورد أنه أحرم بعد الصلاة.

عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دُبُر الصلاة) رواه أحمد والنسائي.

قال النووي بعد ذكره لروايات حديث الباب: هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو: استواؤها قائمة، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور، أن الأفضل أن يحرِم إذا انبعثت به راحلته، وقال أبو حنيفة: يُحرم عقب الصلاة، وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف.

•‌

‌ ما حكم التلبية عند الإحرام؟

سنة.

فتشرع التلبية عن الدخول في الإحرام، لأنها شعار الحج والعمرة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الإحرام هو أول عمل يبدأ به مريد الحج والعمرة.

- مشروعية التلبية بالصوت، وسيأتي مباحثها.

ص: 330

731 -

وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ اَلسَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

===

(بِالْإِهْلَالِ) الإهلال: رفع الصوت بالتلبية.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب رفع الصوت بالتلبية. ومن الأدلة:

أ- حديث الباب.

ما جاء عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ فقال: العج والثج). رواه ابن ماجه

العج: رفع الصوت بالتلبية، الثج: إسالة دماء الهدايا. قال تعالى (وأنزلنا من السماء ماء ثجاجاً) أي: سيالاً.

ج-وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما على يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر). رواه الترمذي

د-ما رواه البخاري من حديث أنس قال (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين سمعتهم يصرخون بهما جميعاً).

قال ابن حجر: فيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية.

هـ- ما روى ابن أبي شيبة عن بكر بن عبد الله المزني قال (كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين) قال الحافظ: إسناده صحيح

و-قال أبو بكر بن عبد الله المزني: (كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين). رواه أبو بكر وابن أبي شيبة وصححه الحافظ

وجمهور العلماء على أن رفع الصوت بالتلبية مستحب، وذهب ابن حزم إلى وجوب رفع الصوت بالإهلال

وقال في المحلى: ولو مرة واحدة.

•‌

‌ هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية أم لا؟

رفع الصوت خاص بالرجال، أما المرأة فالمستحب عدم رفع صوتها إلا عند محارمها فلا مانع حينئذ أن ترفع الصوت.

وأما ابن حزم فيرى أن المرأة ترفع صوتها بالتلبية كالرجل تماماً، وقال: لم يرد دليل على التخصيص.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- المراد بالإهلال: تعيين النسك، بحيث يرفع صوته بما أهل به، ويصدق لفظ الإهلال على التلبية.

ص: 331

732 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

===

(تَجَرَّدَ) أي: تعرى من ثيابه.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث أعل بضعف بعض رواته، لكن له شواهد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب الاغتسال عند الإحرام.

أ- لحديث الباب. (وفيه ضعف).

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميْس بالاغتسال ولفظ الحديث: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ: اِغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي) رواه مسلم وسيأتي الحديث إن شاء الله.

ج-وجاء عن ابن عمر أنه قال: (من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخوله مكة). رواه الحاكم وصححه الحافظ ابن حجر

قال ابن قدامة: يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل قبله، وهو قول طاووس والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي.

لما روى زيد بن ثابت

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام، ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فيسن لها الاغتسال كالجمعة، وليس واجباً في قول عامة أهل العلم.

قال الشوكاني: الحديث يدل على استحباب الغسل عند الإحرام وإلى ذلك ذهب الأكثر.

•‌

‌ ما الحكمة من هذا الاغتسال؟

قال الشوكاني: قيل: والحكمة في الاغتسال عند الإحرام هي التنظيف، وقطع الرائحة الكريهة ودفع أذاها عن الناس، وقيل الحكمة فيه أنه لإزالة التفث الذي يكون على الإنسان حتى يأتي تفل الحج مفردًا عما كان قبله، فتفل الحاج كخلوف فم الصائم.

•‌

‌ هل الغسل مستحب لكل أحد حتى للحائض؟

نعم، الغسل لكل مريد الإحرام، صغير أو كبير، ذكراً أو أنثى، للجنب أو غير الجنب، للحائض والنفساء.

لحديث جابر السابق ( .... حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ: اِغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي).

قال ابن القيم: وكان في قصتها ثلاث سنن:

إحداها: غسل المحرِم.

والثانية: أن الحائض تغتسل لإحرامها.

والثالثة: أن الإحرام يصح من الحائض. (زاد المعاد).

ص: 332

•‌

‌ هل المحرم إذا لم يجد الماء هل يتيمم أم لا؟

اختلف العلماء إذا لم يجد الماء هل يتيمم؟

قيل: يتيمم.

وقيل: لا يتيمم، واختار هذا القول ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية.

لأن المراد من الغسل التنظف، والتراب ينظف ولا يطهر، والمراد هنا التنظف لا التطهر.

•‌

‌ ما حكم صلاة ركعتين عند الإحرام؟

اتفق العلماء على مشروعية الإحرام بعد صلاة الفريضة أو نافلتها إذا كان وقت فريضة.

واتفقوا على أن من لم يصل للإحرام فلا شيء عليه.

لكن إذا قدم الميقات في وقت ليس فيه صلاة مفروضة فهل يصلي صلاة خاصة بالإحرام أو لا؟ اختلف العلماء على قولين:

القول الإول: ليس للإحرام صلاة تخصه، فإن كان في وقت فريضة استحب أن يحرم عقيب الصلاة المكتوبة

وهو روايةٌ عن أحمد واختيار ابن تيمية، والألباني وابن عثيمين وزاد: أو عقب صلاة مشروعة من عادته أنه يصليها. قالوا: إنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة خاصة بالإحرام، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عقب الفريضة.

القول الثاني: أن للإحرام صلاة تخصه وتؤدَى من أجله.

وهذا قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لحديث جابر (أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليْفة ركعتين ثم أحرم) رواه مسلم.

ب- واستدلوا أيضاً بفعل ابن عمر (أنه كان يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) رواه البخاري.

ج- واستدلوا بحديث عمر. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أتاني آتٍ من ربي وقال لي: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين، وقل: لبيك بعمرة وحجة) رواه البخاري.

وهذا القول أرجح والله أعلم.

•‌

‌ ماذا يستحب للمحرم بعد غسله للإحرام.

يستحب للمحرمُ بعد غسل الإحرام أن يلبد رأسه، وذلك لمن يطول مكثه في أعمال الحج، وهذا مذهب الشافعية، وقول للحنفية، وقول للمالكية، واختاره المباركفوري. وحكى النووي فيه الإجماع.

أ-عن ابن عمر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) رواه البخاري ومسلم.

قال النووي في شرح مسلم في شرح كلمة (ملبدا): فيه استحباب تلبيد الرأس قبل الإحرام، وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا. والتلبيد: ضم الشعر بعضه إلى بعض بمادة تمسكه حتى لا يتفرق.

ب-وعن حفصة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر هديي). رواه البخاري، ومسلم

* فيه دليل على استحباب تلبيد شعر الرأس عند الإحرام.

ثانياً: أن ذلك أرفق به، لكونه يسكن شعره، ويجمعه، فلا يتولد فيه القمل، ولا يقع فيه الدبيب، ولا يتخلله الغبار، ولا يتشعث، ولا ينتفش في مدة الإحرام.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد من الحديث؟

- وجوب التجرد من المخيط ولبس إزار ورداء للإحرام للرجال.

- أن المراد بالغسل إذا أطلق أنه غسل كغسل الجنابة.

ص: 333

733 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: مَا يَلْبَسُ اَلْمُحْرِمُ مِنْ اَلثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا اَلْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا اَلْبَرَانِسَ، وَلَا اَلْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ اَلنَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ اَلْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ اَلْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ اَلثِّيَابِ مَسَّهُ اَلزَّعْفَرَانُ وَلَا اَلْوَرْسُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

===

(مَا يَلْبَسُ اَلْمُحْرِمُ مِنْ اَلثِّيَابِ) أجمعوا على أن المراد به الرجل، وكان هذا السؤال بالمدينة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم للحج.

(الْقُمُصَ) هو ما يفصل ويلبس على هيئة البدن.

(وَلَا اَلْعَمَائِمَ) وهي التي تلف وتكور على الرأس.

(وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ) وهي ما يلبس على أسفل البدن بأكمام.

(وَلَا اَلْبَرَانِسَ) وهو ثوب رأسه منه ملصق به.

وَلَا اَلْخِفَافَ) جمع خف، ما يلبس على القدم من جلد ونحوه.

(إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ اَلنَّعْلَيْنِ) تثنية نعل، وهو: ما يلبس على القدم للوقاية من الأرض من غير ستر لها.

(اَلزَّعْفَرَانُ) نبات يصبغ به الثياب.

(وَلَا اَلْوَرْسُ) نبت أصفر، يصبغ به الثياب، له رائحة طيبة.

جاء عند البخاري زيادة (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) وهما لباس اليد.

•‌

‌ لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب الرجل (لا تلبسوا .. ) مع أن السؤال عما يلبس المحرم؟

قال النووي: هذا من بديع الكلام وجزله، لأن ما لا يلبس منحصر، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر.

وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل به المقصود كيف كان، ولو بتغيير أو زيادة، ولا يشترط المطابقة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: أن المحرِم ممنوع عليه لبس هذه الملابس (الملابس المعتادة التي خيطت للبدن) وبعضهم يعبر بلبس المخيط.

قال النووي: لا يتوقف التحريم والفدية على المخيط، بل سواء المخيط وما في معناه، وضابطه: أنه يحرم كل ملبوس معمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به بخياطة أو غيرها.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويلات والخفاف والبرانس.

قال المجد ابن تيمية: واتفقوا على أن التحريم هنا على الرجال المحرمين خاصة دون النساء.

•‌

‌ هل يقاس على هذه المحرمات غيرها مما يشبهها؟

نعم يقاس عليها ما يشبهها:

فالقمص: ويشمل ما كان بمعناه كالفنيلة والكوت.

والبرانس: يشمل المشلح والفروة والبشت.

والعمائم: وتشمل كل ما غطى الرأس بملاصق، كالغترة والطاقية.

والخفاف: يشمل كل ما ستر القدم كالجوارب.

السراويلات: يشمل كل ما ستر بعض البدن، مثل السراويل القصيرة.

الورس والزعفران: يشمل كل أنواع الطيب، وهذا عام في حق الرجال والنساء.

النقاب: ويشمل البرقع.

ما عدا ذلك فهو حلال: الساعة، والنظارة، والخاتم، والعلاقية.

ص: 334

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم اللباس المذكور على المحرِم؟

قال العلماء: الحكمة أن يبعد عن الترفه، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته، وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكر به الموت، ولباس الأكفان، وليتذكر البعث يوم القيامة، حفاة عراة.

لأجل أن يتساوى المحرمون في هذا اللباس فلا يبقى بينهم مكان للتباهي والتفاخر.

ولأجل أن يتذكر المحرم كلما لاح له إزاره ورداؤه أنه في نسك وعبادة، فيبتعد عن المعاصي.

ولأجل أن يتذكر بهذا اللباس أيضاً يوم القيامة.

•‌

‌ بماذا عبر الفقهاء رحمهم الله عن هذا المحظور؟

عبروا عنه باسم (لبس المخيط).

قال الشيخ ابن عثيمين: وهذه الأشياء الخمسة صار العلماء يعبرون عنها بلبس المخيط، وقد توهم بعض العامة أن لبس المخيط هو لبس ما فيه خياطة، وليس الأمر كذلك، وإنما قصد أهل العلم بذلك أن يلبس الإنسان ما فصل على البدن، أو على جزء منه كالقميص والسراويل، هذا هو مرادهم، ولهذا لو لبس الإنسان رداءً مرقعاً، أو إزاراً مرقعاً فلا حرج عليه، ولو لبس قميصاً منسوجاً بدون خياطة كان حراماً.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (ولا العمائم)؟

نستفيد: تحريم تغطية الرجل المحرِم رأسه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ اَلثِّيَابِ مَسَّهُ اَلزَّعْفَرَانُ وَلَا اَلْوَرْسُ)؟

نستفيد: تحريم الطيب بكل أنواعه على المحرم.

•‌

‌ اذكر محظورات الإحرام مع ذكر الدليل على كل محظور؟

مَحْظُورَاتُ اَلْإِحْرَامِ: هي ما يمنع منه المحرم بحج أو عمرة، وقد عرفت بالتتبع والاستقراء.

‌1 - حَلْقَ اَلشَّعْرِ.

هذا المحظور الأول من محظورات الإحرام، لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئاً من شعر رأسه.

قال تعالى (ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ).

وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (لعلك يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه.

• وألحق جمهور العلماء شعر بقية الجسم الذراع والساق والإبط بشعر الرأس.

• اختلف العلماء متى تجب الفدية؟ قيل: إذا حلق ثلاث شعرات وقيل: إذا حلق أربع، الصحيح أنه إذا حلق من شعر رأسه ما يحصل به إماطة الأذى، فلو حلق شعرة واحدة متعمداً من غير عذر فهو آثم لكن ليس عليه فدية.

•‌

‌ هل تغطية الوجه من المحظورات؟

قولان للعلماء: قيل: من المحظورات لحديث الذي وقصته الناقة وفيه (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه) رواه مسلم.

وقيل: إنه ليس من المحظورات، وهذا المذهب، وقالوا إن زيادة (ولا وجهه) زيادة شاذة أعرض عنها البخاري، وكذلك ورد عن بعض الصحابة تغطية الوجه، (وستأتي المسألة ان شاء الله).

ص: 335

‌2 - تَقْلِيمَ اَلْأَظْفَارِ.

هذا هو المحظور الثاني، لا يجوز للمحرم أن يقص أظافره سواء الرجلين أو اليدين المرأة أو الرجل.

قال في الشرح: أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظافره إلا من عذر.

قياساً على حلق الرأس.

• لا فرق بين أظافر اليدين والرجلين، للمرأة والرجل.

‌3 - وَلُبْسَ اَلْمِخْيَطِ، إِنْ كَانَ رَجُلاً.

هذا هو المحظور الثالث، لا يجوز للمحرم أن يلبس مخيطاً (والمراد بالمخيط: هو ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من أعضائه، كالقميص، والسراويل، والفنايل والخفاف، والجوارب وشراب اليدين و الرجلين).

لحديث الباب (

لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا اَلْبَرَانِسَ

).

• هذا المحظور خاص بالرجل، فللمرأة أن تلبس من الثياب ما تشاء غير أن لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس القفازين وهما شراب اليدين، ولا تتنقب لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تتنقب المحرمة ولا تلبس القفازين).

‌4 - وَتَغْطِيَةَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ رَجُلاً.

فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق. (حكاه ابن المنذر إجماعاً).

للحديث الباب (

لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا اَلْعَمَائِمَ

).

قولنا: بملاصق: كالطاقية والغترة.

•‌

‌ ستر الرأس للمحرم ينقسم إلى أقسام:

أولاً: أن يغطي رأسه بما يلبس عادة كالطاقية والغترة والعمامة فهذا حرام بالنص والإجماع.

ثانياً: أن يستظل بالشجرة أو الحائط أو السقف أو الخيمة فهذا لا بأس به، فقد قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها .. ) رواه مسلم.

ثالثاً: أن يغطي رأسه بالحناء والكتم فهذا جائز لحديث ابن عمر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) متفق عليه.

رابعاً: أن يظلل رأسه بتابع له كالشمسية ومحمل البعير فهذا محل خلاف والصحيح جوازه.

حكم تغطية المحرم وجهه؟ اختلف العلماء في حكم تغطية المحرِم وجهه على قولين:

القول الأول: يجوز للمحرم أن يغطي وجهه.

روي ذلك عن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر.

وقال به القاسم وطاوس والثوري والشافعي وأصحابه وأحمد في أصح الروايتين وابن حزم.

أ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ - قَالَ أَيُّوبُ: فَأَوْقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ - وَقَالَ عَمْرٌو فَوَقَصَتْهُ - فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ - قَالَ أَيُّوبُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً وَقَالَ عَمْرٌو - فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّى) متفق عليه.

ص: 336

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تغطية رأس المحرِم فقط، فدل على جواز ستر الوجه، لأنه لو كان حراماً لنهى عنه.

ب- روى مالك والبيهقي من حديث الفرافصة بن عمير الحنفي (أنه رأى عثمان بن عفان بالعرج يغطي وجهه وهو محرِم).

القول الثاني: لا يجوز للمحرِم أن يغطي وجهه.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.

أ-لحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاس السابق (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ .... جاء في رواية عند مسلم (وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً).

ب- ما رواه مالك والبيهقي أن ابن عمر كان يقول (ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرِم).

وقد ناقش أهل القول الأول زيادة (ولا وجهه) بأنها زيادة لا تثبت.

قال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهْم من بعض رواته.

قال الحافظ: تردد ابن المنذر في صحته.

والأحوط للمحرم ألا يغطي وجهه.

قال النووي رحمه الله في المجموع (7/ 280) فرع: مذهبنا أنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز كرأسه واحتج لهما بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره " ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " رواه مسلم، وعن ابن عمر أنه كان يقول " ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم " رواه مالك والبيهقي وهو صحيح عنه.

واحتج أصحابنا برواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه " أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم " وهذا إسناد صحيح وكذلك رواه البيهقي ولكن القاسم لم يدرك عثمان وأدرك مروان واختلفوا في مكان إدراكه زيداً وروى مالك والبيهقي بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: " رأيت عثمان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان.

‌5 - الطِّيبَ رَجُلاً وَامْرَأَةٌ.

فلا يجوز للمحرم أن يتطيب وهو محرم.

للحديث السابق وفيه (ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس).

وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته (لا تمسوه بطيب).

•‌

‌ شم الطيب له أحوال:

الحال الأولى: أن يشمه بقصد التلذذ [فهذا من محظورات الإحرام].

الحال الثانية: أن يشمه بغير قصد، كما لو مر بسوق العطارين وشم الطيب [هذا ليس من محظورات الإحرام].

الحال الثالثة: شم الطيب ليرى جودته من عدمها [المذهب أنه من المحظورات، واختار ابن القيم أنه ليس من المحظورات].

• الطيب يشمل الطيب في رأسه وفي لحيته وفي صدره وفي ثوبه وغيره من الأماكن.

• قال النووي في سبب تحريم الطيب على المحرم: لأنه داعية إلى الجماع، ولأنه ينافي تذلل الحاج.

ص: 337

‌6 - و قَتْلُ صَيْدِ اَلْبَرِّ اَلْوَحْشِيِّ اَلْمَأْكُولِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِهِ.

هذا هو المحظور السادس: لا يجوز للمحرم أن يقتل الصيد حال إحرامه.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

وقال تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً (.

• المحرِم لا يجوز له أن يُعِيْنَ على قتل الصيد، ولا يجوز له أن يدلّ عليه، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه في "الصحيحين" وفيه أنه قال عليه السلام (هل أشار إليه إنسانٌ أو أَمَرَه بشيء؟ قالوا: لا، قال:((فكلوا)، أبو قتادة كان مع بعض الصحابة كانوا مُحْرِمين، أبو قتادة ما كان محرِمًا، فصاد لهم هذا الصيد فأكلوا منه، ثم تَحَرَّجُوا مِنْ كونهم أكلوا مِنْ صيدٍ وهم مُحْرِمون، فسألوا النبيَّ عليه السلام، فقال لهم عليه السلام (هل أشار إليه إنسانٌ أو أَمَرَه بشيء؟ يعني: هل أحد منكم أعان أبا قتادة على صيد هذا الحمار الوحشي، أعانه في شيء، أشار إليه في شيء، دلّه على شيء؟ قالوا: لا، قال:(فكلوا)، إذًا: المحرِم يجوز له أن يأكل الصيد بشرط:

أن لا يكون هذا الصيد صاده مُحْرِمٌ آخر، أو أعانه مُحْرِمٌ، أو أشار إليه مُحْرِمٌ، أو صِيد لأجله .. صِيد لأجل مُحرِم.

أما إذا كان هناك شخص ليس مُحْرِمًا وصاد صيدًا وقدّم منه شيئًا إلى مُحْرِم؛ فلا بأس أن يأكل، النبي صلى الله عليه وسلم قال (فكلوه).

• لو صاد المحرم الصيد فإنه ليس له أكله، لأن هذا محرم لحق الله.

• الصيد الذي صاده المحرم حرام عليه وعلى غيره، لأنه بمنزلة الميتة.

• لو استأنس البري فلا يجوز للمحرم اصطياده، لأنه باعتبار أصله هو بري، فمتى استأنس الظباء أو الأرانب أو البط أو الحمام فلا يحل للمحرم اصطياده.

• إذا صاد السمك داخل حدود الحرم، كأن تكون بحيرة بها أسماك، فالصحيح أنه يجوز، لأن المحرّم صيد البر.

• من اضطر إلى الأكل فذبح الصيد لذلك فإنه يحل له، لأنه لا تحريم مع الضرورة

‌7 - اَلْجِمَاع.

هذا هو المحظور السابع، وهو الجماع في الفرج، وهو أعظم المحظورات وأشدها خطراً.

وهو محرم بنص القرآن الكريم، قال تعالى:(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق) فسر ابن عباس الرفث بالجماع.

• فإن كان قبل التحلل الأول فإنه يترتب عليه أمور:

أ-الإثم: لأنه عصى الله في قوله (فلا رفث).

ب- فساد النسك: لقضاء الصحابة بذلك.

ج-وجوب المضي فيه: فعليه إتمامه وليس له الخروج منه لقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله).

د-وجوب القضاء من العام القادم.

هـ- عليه الفدية: وهي بدنة تذبح في القضاء ويوزعها على المساكين في مكة أو في مكان الجماع.

• وأما إذا كان بعد التحلل الأول:

أ-الإثم، فساد الإحرام: فيجب عليه أن يخرج إلى الحل ليحرم منه (يعني يخلع ثيابه (ثياب الحل) ويلبس إزاراً ورداءاً ليطوف طواف الإفاضة محرماً، لماذا؟ لأنه فسد ما تبقى من إحرامه فوجب عليه أن يجدده).

(التحلل الأول يحصل بعد الرمي والحلق ورجحه الشيخ ابن عثيمين، وقيل: يحصل التحلل الأول بالرمي وحده).

ب- ذبح شاة.

• إذا أكرهتْ الزوجة على الجماع، فالصحيح لا يلزمها كفارة، ولا يلزم زوجها أن يكفر عنها.

ص: 338

‌8 - المباشرة لشهوة فيما دون الفرج.

فلا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته فيما دون الفرج، لأن المباشرة وسيلة للوقوع في الجماع المحرّم على المُحرِم.

‌9 - عقد النكاح.

يحرم على المحرم ولا يصح ولا فدية فيه.

لحديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم ولا ينكح و لا يخطب) رواه مسلم.

• يحرم عقد النكاح على الذكور والإناث، سواء كان المحرم الولي أو الزوج أو الزوجة، فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة).

• لو عقد لرجل محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة والولي محرم لا يصح).

•‌

‌ ما حكم المحرِم الذي لا يجد الإزار؟

يجوز له لبس السراويل.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، والخفين إذا لم يجد نعلين.

لحديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخطب بعرفات (من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل). متفق عليه

•‌

‌ هل يجب على المحرم الذي لا يجد نعلين ولبس خفين هل يجب عليه قطعهما أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجب عليه قطعهما من أسفل من الكعبين.

وهو قول عروة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر.

لحديث الباب (فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْن).

قالوا: يحمل المطلق على المقيد، فحديث ابن عباس مطلق ليس فيه قطع، فيحمل على حديث ابن عمر المقيد بالقطع.

القول الثاني: أنه لا يجب قطعهما.

وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

لحديث عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَاراً فَلْيَلْبَسْ سَّرَاوِيلَ) متفق عليه.

قالوا: فهو يعتبر ناسخاً لحديث ابن عمر، لأن حديث ابن عباس كان في عرفات، ولأن المقام مقام تعليم، والناس متوافرون، ولو قصد النبي صلى الله عليه وسلم تقييد هذا الخبر بحديث ابن عمر لبينه ووضحه.

ولأن في القطع إضاعة للمال.

وهذا القول هو الراجح، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 339

•‌

‌ وهل تجب عليه فدية؟

ذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا فقد النعلين ولبس الخفين مقطوعين أسفل من الكفين، لم تلزمه فدية، إذ لو كانت لازمة لبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا قال مالك والشافعي.

•‌

‌ ما الذي يحرم على المرأة المحرِمة؟

يحرم عليها أن تنتقب أو تلبس القفازين (لباس اليدين) ومثل ذلك البرقع.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين).

ولها أن تلبس جوارب الرجلين.

ما رأيك بقول من قال: إن إحرام المرأة في وجهها، وأنه ليس لها أن تغطيه حال الإحرام؟

ذهب كثير من العلماء إلى ذلك، ولكنهم يرون أن لها أن تسدل عليه ما يستره أمام الأجانب، وبعضهم شرط أن لا يمس الوجه وبعضهم لم يشرطه.

وابن القيم له كلام متين عظيم في هذه المسألة يقول:

وَأَمَّا نَهْيه فِي حَدِيث اِبْن عُمَر الْمَرْأَة أَنْ تَنْتَقِب. وَأَنْ تَلْبَس الْقُفَّازَيْنِ، فَهُوَ دَلِيل عَلَى أَنَّ وَجْه الْمَرْأَة كَبَدَنِ الرَّجُل، لَا كَرَأْسِهِ، فَيَحْرُم عَلَيْهَا فِيهِ مَا وُضِعَ وَفُصِّلَ عَلَى قَدْر الْوَجْه كَالنِّقَابِ وَالْبُرْقُع، وَلَا يَحْرُم عَلَيْهَا سَتْره بِالْمِقْنَعَةِ وَالْجِلْبَاب وَنَحْوهمَا وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَوَّى بَيْن وَجْههَا وَيَدَيْهَا، وَمَنَعَهَا مِنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَاب، وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يَحْرُم عَلَيْهَا سَتْر يَدَيْهَا، وَأَنَّهُمَا كَبَدَنِ الْمُحْرِم يَحْرُم سَتْرهمَا بِالْمُفَصَّلِ عَلَى قَدْرهمَا وَهُمَا الْقُفَّازَانِ، فَهَكَذَا الْوَجْه إِنَّمَا يَحْرُم سَتْره بِالنِّقَابِ وَنَحْوه، وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَرْف وَاحِد فِي وُجُوب كَشْف الْمَرْأَة وَجْههَا عِنْد الْإِحْرَام، إِلَّا النَّهْي عَنْ النِّقَاب، وَهُوَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ فَنِسْبَة النِّقَاب إِلَى الْوَجْه كَنِسْبَةِ الْقُفَّازَيْنِ إِلَى الْيَد سَوَاء. وَهَذَا وَاضِح بِحَمْدِ اللَّه. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَسْمَاء أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْههَا وَهِيَ مُحْرِمَة، وَقَالَتْ عَائِشَة (كَانَتْ الرُّكْبَان يَمُرُّونَ بِنَا، وَنَحْنُ مُحْرِمَات مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابهَا عَلَى وَجْههَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَا) ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَاشْتِرَاط الْمُجَافَاة عَنْ الْوَجْه كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره ضَعِيف لَا أَصْل لَهُ دَلِيلًا وَلَا مَذْهَبًا.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي المرأة [المحرمة] عن تغطية وجهها، وإنما ورد النهي عن النقاب، والنقاب أخص من تغطية الوجه، لكون النقاب لباس الوجه، فكأن المرأة نهيت عن لباس الوجه، كما نهي الرجل عن لباس الجسم. (الشرح الممتع).

وبهذا يظهر أن القول بأن المرأة المحرمة أُمرت بكشف وجهها، غير صحيح.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حرص الصحابة على السؤال والعلم للتطبيق والعمل.

- على الإنسان إذا أراد الحج أن يتعلم أحكام الحج.

- بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن جوابه.

- يسر الشريعة الإسلامية.

ص: 340

734 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ) أي: عند إحرامه.

(وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) وفي رواية (ولحلهِ قبل أن يُفيض) وللنسائي (وحين يريد أن يزور البيت).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب الطيب عند الإحرام قبل عقد النية، حتى ولو استدامة رائحته حتى لو سال على الملابس.

وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وقال ابن المنذر: وبه أقول.

قال النووي: وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى اِسْتِحْبَاب الطِّيب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْد الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا يَحْرُم اِبْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَام، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ خَلَائِق مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَجَمَاهِير الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء، مِنْهُمْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص، وَابْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر وَمُعَاوِيَة وَعَائِسَة وَأُمّ حَبِيبَة وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُف وَأَحْمَد وَدَاوُد وَغَيْرهمْ،

وقال في الفتح: وهو قول الجمهور.

وقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت (كأني أنظر إلى وبيض المسك في مفرق رأسه)(الوبيض) هو البريق

وقد جاء عند أبي داود بسند قوي عن عائشة قالت: (كنا نضمخ جباهنا بالمسك المطيب، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيرانا النبي ولا ينهانا).

قال النووي: وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعِهِ مِنْهُمْ: الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيث عَائِشَة هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَطَيَّبَ ثُمَّ اِغْتَسَلَ بَعْده، فَذَهَبَ الطِّيب قَبْل الْإِحْرَام، وَيُؤَيِّد هَذَا قَوْلهَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى:(طَيَّبْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عِنْد إِحْرَامه ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا) فَظَاهِره أَنَّهُ إِنَّمَا تَطَيَّبَ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ، ثُمَّ زَالَ بِالْغُسْلِ بَعْده، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّر مِنْ كُلّ وَاحِدَة قَبْل الْأُخْرَى، وَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ، وَيَكُون قَوْلهَا:(ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَخ طِيبًا) أَيْ قَبْل غُسْله، وَقَدْ سَبَقَ فِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ الطِّيب كَانَ ذَرَّة، وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبهُ الْغُسْل. قَالَ: وَقَوْلهَا: (كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى وَبِيص الطِّيب فِي مَفَارِق رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِم) الْمُرَاد بِهِ أَثَره لَا جِرْمه. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَلَا يُوَافَق عَلَيْهِ؛ بَلْ الصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجُمْهُور أَنَّ الطِّيب مُسْتَحَبّ لِلْإِحْرَامِ؛ لِقَوْلِهَا (طَيَّبْته لِحُرْمِهِ)، وَهَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ الطِّيب لِلْإِحْرَامِ لَا لِلنِّسَاءِ، وَيُعَضِّدهُ قَوْلهَا:(كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى وَبِيص الطِّيب).

وَالتَّأْوِيل الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي غَيْر مَقْبُول؛ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِر بِلَا دَلِيل يَحْمِلنَا عَلَيْهِ.

•‌

‌ ما حكم تطييب المحرم لثوبه وملابسه؟

لا يجوز للمحرِم أن يطيّب ملابس الإحرام قبل إحرامه.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية، واختيار ابن باز وابن عثيمين.

لحديث ابن عمر السابق (

وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ اَلثِّيَابِ مَسَّهُ اَلزَّعْفَرَانُ وَلَا اَلْوَرْسُ

).

ولأن الرخصة جاءت إنما جاءت في البدن.

قال الشيخ ابن باز: لا يجوز للمحرم أن يضع الطيب على الرداء والإزار، وإنما السنة تطييب البدن كرأسه ولحيته وإبطيه ونحو ذلك، أما الملابس فلا يطيبها عند الإحرام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (لا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران أو الورس) فالسنة أنه يتطيب في بدنه فقط، أما ملابس الإحرام فلا يطيبها ولا يلبسها حتى يغسلها أو يغيرها.

ص: 341

•‌

‌ ما الحكم لو انتقل الطيب إلى ملابس الإحرام؟

يجب غسله.

• ماذا نستفيد من قولها (وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ)؟

نستفيد: استحباب الطيب بعد التحلل الأول وقبل الطواف، وهذه سنة قليل من يعمل بها.

•‌

‌ متى يكون التحلل الأول؟

يكون التحلل الأول بالرمي والحلق، وهذا مذهب أكثر العلماء.

لقولها (وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ).

وقد جاء في حديث (إذا حلقتم ورميتم حل لكم .... ) وسيأتي إن شاء الله.

وقيل: يحصل بالرمي فقط.

لحديث (إذا رميتم فقد حللتم).

وقيل: يحصل باثنين من ثلاثة: وهي الرمي والحلق والطواف.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- استحباب التجمل والتطيب عند الذهاب إلى العبادات في المساجد، لا سيما المجامع الكبيرة، فقد قال تعالى (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد).

ص: 342

735 -

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَنْكِحُ اَلْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ) رَوَاهُ مُسْلِم.

===

(لَا يَنْكِحُ اَلْمُحْرِمُ) بفتح الياء، أي لا يتزوج لنفسه.

(وَلَا يُنْكِحُ) بضم الباء، لا يزوج امرأة بولاية ولا وكالة في مدة الإحرام.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن المحرِم محرّم عليه أن يَنكح - بفتح الياء - أي: يتزوج، أو يُنكِح - بضم الياء - أي: يعقد النكاح لغيره، أو يخطب، أي: يطلب زواج المرأة من نفسها أو من أهلها.

تحريم عقد النكاح للمحرم لنفسه سواء كان رجلاً أو امرأة كلاهما محرماً أو أحدهما محرماً والآخر حلالاً.

فلا يجوز أن يكون المُحْرِم ولياً في عقد النكاح، ولو كان الزوج والزوجة حلالاً.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهي محرم) رواه مسلم؟

استدل بحديث ابن عباس هذا الحنفية وقالوا: يجوز للمحرم أن يتزوج أو يزوِّج.

لكن الجواب عن هذا الحديث من وجوه:

أولاً: أن ابن عباس وهِم إذ نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج ميمونة محرماً.

قال سعيد بن المسيب: وهِم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرِم.

ثانياً: أن ميمونة وهي صاحبة القصة قالت (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً) رواه مسلم.

ثالثاً: أن أبا رافع كان الرسول بينهما حيث قال (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما) رواه الترمذي.

رابعاً: أن الرواة بأنه صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً كثيرون، منهم ميمونة نفسها، ومنهم أبو رافع، وسليمان بن يسار، ومنهم صفية بنت شيبة.

قال ابن عبد البر: وما أعلم أحداً من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عبد الله، ورواية من ذكرنا معارضة لروايته، والقلب إلى رواية الجماعة أميل، لأن الواحد أقرب إلى الغلط.

وقال: والرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال متواترة عن ميمونة بعينها، وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها.

وقال عياض: الذي صححه أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً، وهو قول كبراء الصحابة ورواياتهم، ولم يأت عن أحد منهم أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده.

•‌

‌ ما حكم الخطبة للمحْرِم؟

لأهل العلم في خطبة المحرم قولان:

القول الأول: تكره الخطبة للمحرم، والمحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين.

وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختيار ابن قدامة.

القول الثاني: أنه تحرم خطبة المحرم.

وهو مذهب المالكية، واختيار ابن حزم وابن تيمية والصنعاني، والشنقيطي، وابن باز وابن عثيمين والشنقيطي.

أ-لحديث الباب ( .... ولا يخطب).

فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجميع نهياً واحداً ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس لنا ما يعارض ذلك من أثر ولا نظر.

ب-أن الخطبة مقدمة النكاح وسبب إليه كما أن العقد سبب للوط، والشرع قد منع من ذلك كله حسما للمادة.

قال الشنقيطي: الأظهر عندي أن المحرِم لا يجوز له أن يخطب امرأة، وكذلك المحرمة لا يجوز للرجل خطبتها لما تقدم من حديث عثمان، وبه تعلم أن ما ذكره كثير من أهل العلم من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام وإنما تكره أنه خلاف الظاهر من النص.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن المحرم يجوز له أن يشهد على عقد النكاح لرجل وامرأة ليسا مُحْرمين.

- يحرم عقد النكاح على الذكور والإناث، سواء كان المحرم الولي أو الزوج أو الزوجة، فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة).

- لو عقد لرجل محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة والولي محرم لا يصح.

ص: 343

736 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ اَلْحِمَارَ اَلْوَحْشِيَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ:(هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

737 -

وَعَنْ اَلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اَللَّيْثِيِّ رضي الله عنه (أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(وَعَنْ اَلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اَللَّيْثِيِّ) هو الصعب بن جثّامة بن قيس بن عبد الله بن يعمر الليثي الحجازي، صحابي من المقلين من الحديث.

(وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ) أو للشك من الراوي، والأبواء: منزل بين مكة والمدينة قريب من الجحفة، وودان: موضع بقرب الجحفة أيضاً.

(فَرَدَّهُ عَلَيْهِ) أي: رد ذلك الحمار على الصعب.

(إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ) أي: محرمين.

•‌

‌ اذكر لفظ حديث أبي قتادة كاملاً؟

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا وَخَرَجْنَا مَعَهُ - قَالَ - فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ «خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي». قَالَ فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أَبَا قَتَادَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَاناً فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا - قَالَ - فَقَالُوا أَكَلْنَا لَحْماً وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ - قَالَ - فَحَمَلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِ الأَتَانِ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَاناً فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا فَقُلْنَا نَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ. فَحَمَلْنَا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا. فَقَالَ «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ». قَالَ قَالُوا لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا).

(خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا) كانَ ذلكَ في عمرةِ الحُدَيْبِيَةِ، فَأَطْلَقَ على العمرةِ الحجَّ، وهوَ جائز، وكانت سنة 6 في شهر ذي القعدة.

•‌

‌ سبق أن قتل الصيد من محظورات الإحرام، اذكر الأدلة على ذلك، وما المراد بالصيد؟

الأدلة على تحريم قتل الصيد للمحرِم:

قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

وقوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وحديث الباب (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ).

والمراد بالصيد:

الصيد المحرّم على المحرِم ما جمع ثلاثة أشياء ذكرها المؤلف:

أولاً: أن يكون مأكولاً.

فإذا كان غير مأكول فليس عليه فدية.

ثانياً: أن يكون برياً (وضده البحري).

قال في الشرح: أما صيد البحر فلا يحرم على المحرم بغير خلاف.

قال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) البحري: هو ما لا يعيش إلا في البحر.

ثالثاً: أن يكون وحشياً.

فما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج.

إذاً الشروط: أن يكون الصيد: مأكولاً - برياً - متوحشاً.

(كالحمامة، والضبع، والغزال، والأرنب).

* لا يحرم حيوان إنسي وهذا بالإجماع لأنه ليس بصيد، كالإبل والبقر والغنم.

ص: 344

•‌

‌ ما حكم إذا صاد المحل صيداً وأطعمه المحرم، فهل يكون حلالاً للمحرم أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه حرام على المحرِم.

وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وإسحاق والثوري.

أ-لقوله تعالى (وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً).

ب- ولحديث الصعب بن جثامة.

القول الثاني: يجوز أكل المحرم مما صاده المُحِل مطلقاً ولو صاده لأجله.

وهذا مذهب أبي حنيفة وعطاء ومجاهد.

لحديث أبي قتادة.

القول الثالث: القول بالجمع: فما صاده الحلال لأجل المحرم حرم على المحرم فقط، وما لم يصد لأجله فهو حلال له.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأصحابهما، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ورجحه ابن حبان، وابن عبد البر، والبغوي، والقاضي عياض، والنووي، وابن القيم، وابن حجر وغيرهم.

واحتجوا لمسلكهم بأن فيه توفيقاً وجمعاً بين الأحاديث المختلفة وعملاً بجميعها.

ويؤيد هذا الجمع ما رواه أحمد وأبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم).

قال الترمذي بعد هذا الحديث: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بأكل الصيد للمحرم بأساً إذا لم يصده أو يصد من أجله.

قال الشوكاني: والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بين الأحاديث.

وهذا القول هو الراجح.

• الخلاصة:‌

‌ الصيد المحرّم على المحرم:

‌أ-ما صاده بنفسه.

لقوله تعالى (وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً).

‌ب- ما صِيد لأجله:

لحديث الصعب بن جثامة.

‌ج- أو كان له أثر في صيده، أو أعان عليه.

لحديث أبي قتادة (

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ». قَالَ قَالُوا لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا).

ص: 345

•‌

‌ ما الحكم إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ فقتله؟

اختلف الفقهاء فيما إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ فقتله، على قولين:

القول الأول: إذا دلَّ المحرم حلالاً على صيدٍ فقتله، يلزم المحرم جزاؤه.

وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، وبه قال طائفةٌ من السلف، وهو اختيار ابن تيمية، والشنقيطي، وحُكيَ فيه الإجماع.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟)

أنه علَّق الحلَّ على عدم الإشارة؛ فأحرى أن لا يحل إذا دلَّه باللفظ، فقال هناك صيدٌ ونحوه.

ب-أنَّه قول عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يُعرَف لهما مخالفٌ من الصحابة رضي الله عنهم.

ج-أنَّه سببٌ يُتوصَّلُ به إلى إتلاف الصيد؛ فتعلَّق به الضمان؛ فإنَّ تحريم الشيء تحريمٌ لأسبابه.

القول الثاني: إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ، فإنه يكون مُسيئاً، ولا جزاء عليه.

وهو مذهب المالكية، والشافعية.

أ- لظاهر قوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم).

وجه الدلالة: أنَّه علَّق الجزاء بالقتل؛ فاقتضى ألا يجب الجزاء بعدم القتل.

ب-أنها نفسٌ مضمونةٌ بالجناية؛ فوجب ألاَّ تُضمنَ بالدلالة كالآدمي.

ج- أنَّ القاتل انفرد بقتله باختياره، مع انفصال الدال عنه، فصار كمن دل محرماً أو صائماً على امرأة فوطئها، فإنه يأثم بالدلالة، ولا تلزمه كفارة، ولا يفطر بذلك.

•‌

‌ ما حكم أكل الحمار الوحشي؟

حلال، وأنه من الصيد.

أ- لحديث الباب، فقد أمر صلى الله عليه وسلم الصحابة بالأكل من حمار الوحش وهم محرمون، وهذا دليل على حله.

ب- ولحديث جابر قال (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي). رواه مسلم.

•‌

‌ ما حكم أكل الحمر الإنسية (الأهلية)؟

حرام.

أ-عن أنس قال (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ] اَلْأَهْلِيَّةِ]، فَإِنَّهَا رِجْس) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ب-وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية). متفق عليه

ج-وعن علي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية). متفق عليه

د-وعن ابن أبي أوفى قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر). رواه البخاري

فهذه الأحاديث فيها النهي الصريح عن لحوم الحمر الأهلية.

قال ابن القيم: أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم علي، وجابر، والبراء، وابن أبي أوفى، و

، والعرباض، وأبو ثعلبة، وابن عمر، وأبو سعيد، وسلمة،

ص: 346

•‌

‌ العلة في النهي عنها:

قيل: لحاجتهم إليها.

فقد جاء في حديث ابن عمر: (

وكان الناس قد احتاجوا إليها).

لكن يرد هذا القول حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل) فلو كان النهي من أجل أنها حمولة الناس لكان النهي عن لحوم الخيل أولى.

وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة.

وقيل: أنه إنما حرمت لأنها رجس في نفسها.

قال ابن القيم: وهذا أصح العلل، فإنها هي التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه في الصحيحين.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حل أكل الحمار الوحشي.

- رد الهدية إذا وجد ما يمنع من قبولها، لكن من حسن الخلق أن يبين للمردودة عليه هديته سبب الرد.

- أن الإعانة على الأمور المحرمة والدلالة عليها لا يجوز، لأن المعين مشارك للمباشر في عمله.

- الإمساك عن الأشياء المشتبهة حتى يتبين أمرها من حل أو حرمة من الورع.

- سؤال أهل العلم عما يشكل من الأحكام.

- أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

- استحباب قبول الهدية إذا لم يكن هناك مانع من قبولها.

- الاعتذار عن رد الهدية، تطييباً لقلب المهدي.

ص: 347

738 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَمْسٌ مِنَ اَلدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي [اَلْحِلِّ] وَالْحَرَمِ: اَلْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ اَلْعَقُورُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(خَمْسٌ) ذكر الخمس يفيد نفي الحكم عن غيرها، لكنه ليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيمكن أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أولاً ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس تشترك معها في هذا الحكم.

فقد ورد زيادة (الحية) وهي سادسة كما في حديث ابن عمر عن الصعب وابن مسعود عند مسلم.

(اَلْغُرَابُ) وفي صحيح مسلم تقييده بالأبقع، وهو الذي في ظهره وبطنه بياض.

(العقرب) دويبة ذات سم تلسع.

(الحدأة) طائر معروف يختطف الأموال الثمينة.

وَالْكَلْبُ اَلْعَقُورُ) أي: الجارح المفترس.

•‌

‌ لماذا سميت هذه بالفواسق؟

قال النووي: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، ومنه سمي الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله وطاعته، فوصفت هذه الخمس بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله أو حل أكله أو خروجها بالإيذاء أو الإفساد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز قتل الخمسة المذكورة في الحديث في الحل والحرم، وهو موضع اتفاق بين العلماء.

•‌

‌ هل الغراب يقتل مطلقاً أم هناك غراب معين؟

في حديث الباب الإذن في قتل الغراب مطلقاً ولم يخص نوعاً فيها من نوع.

وجاء في صحيح مسلم عن عائشة أيضاً. قال صلى الله عليه وسلم (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم .... وذكر منها: والغراب الأبقع)، وكذلك في حديث ابن عمر.

فاختلف العلماء في ذلك.

فذهب بعض العلماء بحمل الأحاديث المطلقة في الإذن بقتل كل غراب على المقيدة بالغراب الأبقع.

وممن سلك هذا المسلك أبو حنيفة وصاحباه محمد بن الحسن وأبو يوسف والطحاوي، وحكاه ابن المنذر عن بعض أصحاب الحديث، وبه أخذ ابن خزيمة وابن حجر والعيني.

وذهب بعض العلماء إلى تقديم الروايات المطلقة على المقيدة.

وممن سلك هذا المسلك ابن عبد البر وابن قدامة.

قال ابن قدامة: الروايات المطلقة أصح.

واعتذر بعضهم بأن رواية (الأبقع) شاذة.

ص: 348

وذكر بعض العلماء أن التقييد بالأبقع أنه خرج مخرج الغالب فلا يختص الحكم به.

قال القرطبي: قوله (الغراب الأبقع) تقييد لمطلق الروايات الأخرى التي ليس فيها الأبقع، وبذلك قالت طائفة، فلا يجيزون إلا قتل الأبقع، وغير هذه الطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان، ورأوا أن ذكر الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب عندهم.

•‌

‌ ما المراد بالكلب العقور؟

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْكَلْبِ الْعَقُور.

فَقِيلَ: هُوَ الْكَلْب الْمَعْرُوف.

وَقِيلَ: كُلّ مَا يَفْتَرِس؛ لأَنَّ كُلّ مُفْتَرِس مِنْ السِّبَاع يُسَمَّى كَلْبًا عَقُورًا فِي اللُّغَة. قاله النووي.

•‌

‌ واختلف العلماء هل يتعدى القتل إلى غيرها من المؤذيات أم لا؟

القول الأول: أنه لا يتعدى إلى غيرها.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر.

لأنها هي التي ورد بها النص.

القول الثاني: بل يتعدى إلى غيرها من كل مؤذ.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

وأن ما جاء في الحديث على سبيل المثال.

قال ابن القيم: إنما اختصت هذه بالذكر لينبه بها على ما في معناها، وأنواع الأذى مختلفة، فيكون ذكر نوع منها منبهاً على جواز قتل ما فيه ذلك النوع.

وقال الشيخ ابن عثيمين: والتنبيه بهذه الأمثلة يدل على أن ما كان مثلها في الحكم وما كان أشد منها فهو أولى منها بالحكم، ولهذا أخذوا قاعدة من ذلك، وقالوا: يسن قتل كل مؤذٍ.

•‌

‌ ما أقسام الحيوانات من حيث القتل وعدمه؟

ينقسم الحيوان من حيث القتل وعدمه إلى أقسام:

‌القسم الأول: قسم أمر بقتله.

كالخمس في حديث الباب، ومثل الوزغ.

‌القسم الثاني: قسم منهي عن قتله.

كالنملة، والنحلة، والهدهد، والصرد.

لحديث ابن عباس قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدد، والصُّرد) رواه أبو داود.

‌القسم الثالث: قسم سكت عنه.

كالذباب، والصراصير، والجعلان.

فهذه إن آذت قتلت، وإن لم تؤذ: فقيل يجوز قتلها، وقيل يكره، وهذا الأقرب.

لأن الله خلقها لحكمة، فلا ينبغي أن تقتل.

ص: 349

‌فائدة: تنقسم الكلاب من حيث الأحكام إلى أربعة أقسام:

‌أ- الكلب العقور.

فهذا يشرع قتله كما في حديث الباب.

‌ب- كلب الصيد والحرث والماشية.

فهذا يباح اقتناؤه ولا يقتل إلا لسبب.

‌ج- الكلب الأسود.

وهذا له خصائص.

إباحة قتله، لا يحل صيده، يحرم اقتناؤه، يقطع الصلاة، أنه شيطان.

‌د- ما سوى ذلك من الكلاب.

فهذه لا يباح اقتناؤه، ولا يقتل إلا إذا أذى.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية قتل كل ما فيه أذية من الحيوانات، كالذئب، والأسد، والفهد، والنمر.

- استدل بالحديث على تحريم أكل المذكورات في الحديث، لأن ما أمر بقتله فإنه يحرم أكله.

- حكمة الله.

ص: 350

739 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِحْتَجَمَ) أي: طلب من يحجمه، والحجامة هي: إخراج الدم من البدن بطرق معروفة.

(وَهُوَ مُحْرِمٌ) جاء في رواية (في رأسه).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز الحجامة للمحرم من غير فدية إذا لم يقطع شعراً.

وهذا قول جمهور العلماء.

لحديث الباب.

•‌

‌ هل يلزمه فدية؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

قال بعض العلماء: إن قطع شعراً فدى.

وذهب الحسن البصري إلى لزوم الفدية لمن احتجم ولو لم يقطع شعراً.

والصحيح أنه لا فدية، فإن ظاهر الحديث ليس فيه فدية.

لأنه من المعلوم أنه إذا كانت الحجامة في الرأس لا بد أن يحلق ما يمكن أن يحتجم به.

وليس هذا كقوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) فإن ذلك في حلق جميع الرأس.

وهذه المسألة شبيهة بحك الرأس، فالغالب أن الشعر مع الحك يتساقط، وكذلك غسل الرأس يحصل معه تساقط شعره وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم.

•‌

‌ استدل بحديث الباب بعض العلماء بأن الفدية في حلق الرأس تكون في حلقه حلقاً يكون كاملاً؟ كيف ذلك؟

قال الشيخ ابن عثيمين: إذا أخذ من شعره ما فيه إماطة الأذى ففيه دم، أي: إذا حلق حلقاً يكون كاملاً يسلم به الرأس من الأذى، والدليل ما أخرجه البخاري (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم في وسط رأسه) والحجامة في الرأس من ضرورتها أن يحلق الشعر من مكان المحاجم، ولا يمكن سوى ذلك، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن إخراج الدم من سائر البدن ليس من محظورات الإحرام.

- جواز الحجامة عند الحاجة إليها.

- أن الحجامة لا تنقض الوضوء، حيث لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ.

ص: 351

740 -

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ:" مَا كُنْتُ أَرَى اَلْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: " فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ " - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) الأنصاري، أبو محمد المدني صحابي جليل.

(حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اَللَّه صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الأخرى (أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية).

(وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي) أي: يتساقط القمل من كثرته على وجهي.

• ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن حلق شعر الرأس من محظورات الإحرام، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

أ-قال تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

ب-لحديث الباب، حيث رتب فدية الأذى على حلق الرأس مع كونه للعذر، فدل على أنه من محظورات الإحرام.

ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر والنووي.

•‌

‌ اذكر أحوال فاعل المحظور؟

فاعل المحظور له ثلاث أحوال:

أولاً: أن يفعل المحظور عالماً متعمداً ذاكراً غير معذور.

فهذا آثم وعليه الفدية.

ثانياً: أن يفعله عالماً مختاراً ذاكراً معذوراً.

فهذا عليه الفدية ولا إثم عليه.

لحديث الباب.

فلو احتاج الإنسان إلى تغطية رأسه من أجل برد أو حر يخاف منه، جاز له تغطيته وعليه الفدية.

ثالثاً: أن يفعله معذور بجهل أو نسيان.

فهذا لا شيء عليه لأنه جاهل أو ناسي.

•‌

‌ ما هي فدية من حلق رأسه وهو محرِم؟

فدية من حلق رأسه وهو محرم: أنه يخيّر بين ثلاثة أشياء وهي:

صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.

قال تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

وقد جاءت السنة بتوضيح هذه الآية:

(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) وضحته السنة أنه ثلاثة أيام.

(أَوْ صَدَقَةٍ) وضحته السنة أنه إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

(أَوْ نُسُكٍ) وضحته السنة أن النسك شاة.

وهذه الفدية هي فدية حلق الرأس، وتقليم الأظافر، وقص الرأس، والطيب، ولبس المخيط، والمباشرة، ولبس القفازين للمرأة.

ص: 352

•‌

‌ متى تجب الفدية في حلق الشعر؟

تجب الفدية في حلق الشعر إذا حلق ما يحصل به إماطة الأذى، وهو مذهب المالكية، واختاره ابن حزم، وابن عبد البر، وابن عثيمين.

أ-قوله تعالى (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

وجه الدلالة: أنَّ حلق شعر الرأس من أذىً به، لا يكون إلا بمقدار ما يماط به الأذى.

ب-حديث الباب.

وجه الدلالة: أن الكفارة إنما تجب في حلق الرأس في مثل ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة، وهو حلق ما يماط به الأذى.

جـ - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ في رأسه).

وجه الدلالة: أن الحجامة في الرأس من ضرورتها أن يُحلَق الشعر من مكان المحاجم، ولا يمكن سوى ذلك، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتدى، لأن الشعر الذي يزال من أجل المحاجم لا يماط به الأذى، فهو قليلٌ بالنسبة لبقية الشعر.

•‌

‌ هل حلق بقية شعر الجسد كحلق الرأس؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن حلق شعر غير الرأس من محظورات الإحرام.

أ-أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) التفث: الرمي، والذبح، والحلق والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار، واللحية.

ب-قياس شعر الجسد على شعر الرأس؛ بجامع أن الكل يحصل بحلقه الترفه، والتنظف، وهو ينافي الإحرام لكون المحرم أشعث أغبر.

•‌

‌ اذكر أقسام محظورات الإحرام من حيث الفدية وعدمها؟

تنقسم إلى أربعة أقسام:

أ- ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح والخطبة.

ب- ما فديته بدنة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول.

ج- ما فديته مثله، وهو الصيد.

د- ما فديته فدية أذى (إطعام أو ذبح أو صيام) وهو باقي المحظورات. (حلق الشعر، تقليم الأظافر، تغطية الرأس، مس الطيب، لبس القفازين، النقاب، المباشرة دون الفرج، لبس المخيط).

•‌

‌ هل هذه الفدية (فدية الأذى) على التخيير أم الترتيب؟

على التخيير.

أ-لظاهر الآية (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

ب- لحديث الباب في رواية عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (أَتَى عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِى، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِى فَقَالَ «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً).

ص: 353

ف‌

‌ما الجواب عن حديث في قوله (، تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: " فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ ..

الجواب الأول: قال النووي: لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّ الصَّوْم لَا يَجْزِي إِلَّا لِعَادِمِ الْهَدْي، بَلْ هُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ النُّسُك، فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مُخَيَّر بَيْنه وَبَيْن الصِّيَام وَالْإِطْعَام، وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّر بَيْن الصِّيَام وَالْإِطْعَام.

الجواب الثاني: قال ابن حجر: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما إذن له في حلق رأسه بسبب الأذى، أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، أو بوحي غير متلو، فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصيام فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام، لعلمه بأنه لا ذبح معه فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال أتجد شاة قلت لا فنزلت هذه الآية ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فقال صم ثلاثة أيام أو أطعم.

• يشترط في الصيام التتابع؟

لا، لا يشترط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيدها بالتتابع هنا.

•‌

‌ كم مقدار الإطعام، ومن أي نوع؟

النبي صلى الله عليه وسلم حدد المقدار بقوله (لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ)، وأطلق النوع، فظاهر الحديث أن الفدية نصف صاع لكل مسكين سواء من البر أو غيره.

•‌

‌ ما الحكم إذا كرر المحظور؟

إن كرر محظوراً من أجناس (كطيب، وتغطية رأس، وليس مخيط) فلكل واحدة كفارة.

وهذا المذهب.

وقيل: عليه كفارة واحدة.

والراجح الأول.

إن كرر محظوراً من جنس واحد، كحلق رأسه، وحلق شعر بدنه، فكفارة واحدة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- ظاهر الحديث أنه يخرج نصف صاع، سواء كانت الفدية من البر أو غيره، وهذا مذهب جماهير العلماء.

- أن السنة مفسرة للقرآن.

- قال ابن القيم: يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه.

ص: 354

741 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (لَمَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلنَّاسِ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اَللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ اَلْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ اَلنَّظَرَيْنِ " فَقَالَ اَلْعَبَّاسُ: إِلَّا اَلْإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ: إِلَّا اَلْإِذْخِرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(لَمَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) أي عام هـ هـ

(إِنَّ اَللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ اَلْفِيلَ) أي منعه من الانبعاث.

(وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي) أي ما أحل الله لأحد من الأنبياء وأممهم أن يدخل مكة بقتال أبداً لأن مكة معظمة.

(وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ) المراد بالساعة المقدار من الزمن، والمراد فتح مكة، وهو ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر.

(فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا) قال النووي: يحرم التنفير وهو الإزعاج عن موضعه، قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى.

والصيد تقدم: كل حيوان بري حلال متوحش طبعاً، كالحمام والأرانب.

(وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا) وفي رواية (ولا يختلى خلاها) المراد بالاختلاء القطع.

(وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا) أي: لقطتها، واللقطة: مال أو مختص ضل عن ربه.

(وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ اَلنَّظَرَيْنِ) قال النووي: معناه أن وليّ المقتول بالخيار، إن شاء قَتَلَ القاتل، وإن شاء أخذ فداءه، وهي الدية.

(إِلَّا اَلْإِذْخِرَ) قال في الفتح: نبت معروف عند أهل مكة، طيب الريح.

(فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا) يسدون به الخلل بين اللبنات في القبور.

(وَبُيُوتِنَا) أي: سقفها.

•‌

‌ ما حكم القتال في مكة، وماذا يستثنى؟

حرام.

لقوله (ولن تحل لأحد بعدي).

ويستثنى أمران:

الأول: القتال عند المدافعة، فإذا قوتل الإنسان فله أن يقاتل.

لقوله تعالى (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين).

والثاني: قتل من حصلت منه جناية في الحرم توجب قتله. (فلو قتل عمداً فإنه يقتل).

•‌

‌ ما حكم قطع شجر مكة؟

قال في المغني: أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم، وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع.

•‌

‌ ما ينبت بالحرم من الشجر ينقسم إلى ثلاثة أقسام، اذكرها؟

الأول: ما أنبته الله من الشجر والحشيش، فهذا لا يجوز قطعه فهذا بالنص والإجماع.

أ-لحديث الباب.

ب-ولحديث أبي شُريْح، في قوله صلى الله عليه وسلم (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يَعضِد بها شجرة) متفق عليه.

وأجمع العلماء على ذلك.

ص: 355

* ويستثنى من ذلك:

أ-الإذخر، لحديث الباب.

ب-اليابس من الشجر والحشيش، لأنه بمنزلة الميت.

ج- الانتفاع بما انقلع من أغصان الشجر والحشيش، وهذا إذا كان بفعل الله فجائز، واختلفوا إذا انقلع بفعل آدمي، فقيل: يحرم، وهذا المذهب، وقيل: يجوز الانتفاع به من غير القالع.

د- ثمر الشجر، فيجوز الانتفاع به.

هـ- ما أنبته الله مما هو مغيّب في الأرض، كالكمأة، والفقع، فهذا يجوز، لأنه ليس بشجر ولا حشيش، وإنما هو مودع في باطن الأرض.

القسم الثاني: ما أنبته الآدمي.

من الزرع والبقل، فهذا جائز، لأنه ليس بزرع ولا حشيش.

القسم الثالث: ما أنبته الآدمي من الشجر.

كالنخل والعنب.

فالجمهور على الجواز.

وذهب الشافعية إلى المنع، ورجحه ابن قدامة، والأول أصح.

•‌

‌ ما حكم تنفير الصيد في مكة وقتله؟

يحريم تنفير الصيد في مكة وقتله من باب أولى.

•‌

‌ ما حكم سفك الدماء في مكة؟

حرام.

واختلف العلماء في إقامة الحدود في مكة:

فقيل: يحرم ويضيق عليه حتى يخرج.

لقوله تعالى: (ومن دخله كان آمناً).

وقيل: يجوز.

وهذا مذهب مالك والشافعي.

لعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود بالقصاص في كل زمان ومكان.

والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 356

•‌

‌ ما حكم لقطة الحرم؟

اختلف العلماء فيها على قولين:

القول الأول: لا يجوز التقاطها إلا لمن أراد ينشدها ويعرفها دائماً وأبداً.

وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن القيم وقال: هذا هو الصحيح.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب (ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد). متفق عليه أي المعرّف على الدوام.

قال الحافظ ابن حجر: والمعنى: لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط، فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا.

قال النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث لَا تَحِلّ لُقَطَتهَا لِمَنْ يُرِيد أَنْ يُعَرِّفهَا سَنَة ثُمَّ يَتَمَلَّكهَا كَمَا فِي بَاقِي الْبِلَاد، بَلْ لَا تَحِلّ إِلَّا لِمَنْ يُعَرِّفهَا أَبَدًا. وَلَا يَتَمَلَّكهَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَغَيْرهمْ، وَقَالَ مَالِك: يَجُوز تَمَلُّكهَا بَعْد تَعَرُّفهَا سَنَة، كَمَا فِي سَائِر الْبِلَاد، وَبِهِ قَالَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيث تَأْوِيلَات ضَعِيفَة.

ب- وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِىِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ) رواه مسلم.

القول الثاني: أن لقطة الحرم والحل سواء.

وهذا مذهب المالكية.

أ-لحديث زيد بن خالد. قال (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ، أَوْ الْوَرِقِ؟ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا).

فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لقطة الحرم وغيرها.

ب- وأنه أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة.

ج- ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم، كالوديعة. (المغني).

والراجح القول الأول.

والجواب عن حديث زيد بن خالد: أنه عام، مخصوص بلقطة مكة لحديث الباب (لا تحل ساقطتها إلا لمنشد).

فلقطة الحرم لها ثلاث أحوال:

أ-أن يأخذها للتملك من الآن، فهذا حرام.

ب-أن يأخذها للتملك بعد الإنشاد، فهذا حرام.

ج-أن يأخذها للإنشاد، فهذا حلال.

أما لقطة غير الحرم فيجوز أن يتملكها بعد الإنشاد الشرعي.

ص: 357

•‌

‌ هل في قطع الشجر في مكة جزاء أم لا؟

قيل: يجب الضمان مع الإثم.

وهذا المذهب ومذهب الشافعي، لورود بعض الآثار عن بعض السلف.

وقيل: لا يجب الضمان.

وهذا قول مالك وداود وابن المنذر.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ لو أن إنسان ملك صيداً في الحرم، هل يملك أن يخرج به إلى خارج الحرم أم لا؟

الصحيح أنه لا يملك إخراجه، لأن حرمته في الحرم انتهكها بصيده إياها.

•‌

‌ لو دخل إنسان بصيد من خارج الحرم فهل يحرم أم لا؟

يعني لو أن إنساناً صاد غزالاً من الميقات وهو لم يحرم، ثم دخل به إلى مكة.

المذهب يرى أنه يجب أن يطلقه.

ولكن الصحيح أنه لا يجب أن يطلقه ويكون ملكاً له، لأنه ليس من صيد الحرم. [وستأتي المسألة إن شاء الله]

•‌

‌ اذكر أنواع خطب النبي صلى الله عليه وسلم

خطب النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: خطب راتبة.

كخطبة العيد، والجمعة، والكسوف على القول الراجح.

القسم الثاني: خطب عارضة.

وهي إذا دعت الحاجة إلى بيان حكم أو موعظة قام إلى الناس وذكّرهم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن من قتل له قتيل عمداً فهو مخير بين القصاص أو أخذ الدية.

- فضيلة العباس.

- ضعف قول من يقول: إن الحمد هو الثناء، لقوله (فحمد الله وأثنى عليه) والعطف يقتضي المغايرة.

- جواز مراجعة المفتي أو ولي الأمر.

- عرفة ليست من الحرم، لذلك لا بأس بقتل الصيد فيها.

- أن مكة فتحت عنوة. (قهراً بالسيف).

- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الدين في المناسبات العامة.

- مشروعية الخطبة عند الحاجة إليها.

ص: 358

742 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ اَلْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ) الخليل.

(حَرَّمَ مَكَّةَ) أي: أظهر للناس تحريمها.

(وَدَعَا لِأَهْلِهَا) أي: بالبركة.

(وَإِنِّي حَرَّمْتُ اَلْمَدِينَةَ) كما سيأتي في الحديث (ما بين عير إلى ثور).

(وَإِنِّي دَعَوْتُ) بالبركة.

(بِمِثْلَيْ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّة) كما في حديث أنس (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة)، وفي لفظ (اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم).

•‌

‌ ما الجمع بين حديث الباب (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) وحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض)؟

الجمع: بأن إسناد التحريم إلى إبراهيم من حيث إنه مبلّغه، فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله، والأنبياء يبلغونها.

قال الحافظ: لأن المعنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة، أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس وكانت قبل ذلك عند الله حراماً، أو أول من أظهره بعد الطوفان، وقال القرطبي: معناه أن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل، قال ولأجل هذا أكد المعنى بقوله: ولم يحرمها الناس، والمراد بقوله: ولم يحرمها الناس أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه، وقيل معناه أن حرمتها مستمرة من أول الخلق وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ اذكر الأدلة على أن مكة وما حولها حرم؟

أ- قال تعالى (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ).

ب- وقال تعالى (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

ج-وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

د- عن ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) متفق عليه.

هـ- حديث الباب (

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا).

•‌

‌ اذكر الأدلة على أن المدينة حرم؟

أ- حديث الباب (وَإِنِّي حَرَّمْتُ اَلْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ).

ب- حديث علي الآتي (المدينة حرم ما بين عير وثور).

ص: 359

•‌

‌ إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا لمكة وأهلها اذكر دليل ذلك؟

كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ منْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

•‌

‌ النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمدينة وأهلها بالبركة ضعف ما جعله في مكة، اذكر الأدلة على ذلك؟

أ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِى مُدِّهِم) متفق عليه.

ب- وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ) متفق عليه.

وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ) رواه مسلم.

ج- وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهْىَ وَبِيئَةٌ فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ وَاشْتَكَى بِلَالٌ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ قَالَ (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) متفق عليه.

د- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ صَبَرَ عَلَى لأْوَائِهَا كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً أَوْ شَهِيداً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم.

هـ- أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة وسعة الرزق كدعوة إبراهيم لأهل مكة، بل دعا أن تكون البركة في المدينة ضعفي بركة مكة ..

و- وقال صلى الله عليه وسلم: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).

ز- وقال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإني أشفع لمن يموت بالمدينة).

•‌

‌ ما حكم من أدخل صيداً إلى الحرم من الحل، هل يلزمه إطلاقه أم لا؟

اختلاف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: لا يلزمه إطلاقه.

وهذا مذهب الشافعية.

أ- ما جاء عن هشام بن عروة أنه قال في إدخال الصيد إلى الحرم (كان أمير المؤمنين بمكة - يعني عمه ابن الزبير - تسع سنين يراها في الأقفاص، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهون عن ذلك). رواه ابن حزم في المحلى

ب- أن الشارع إنما نهى عن تنفير صيد مكة، ولم يبين مثل هذا الحكم الخفي مع كثرة وقوعه، وحاجة الناس إليه، وترك البيان مع قيام الحاجة دليل على البقاء على أصل الحل.

ج-أنه من صيد الحل وقد ملكه خارج الحرم، فلم يمنع من التصرف فيه كصيد المدينة.

القول الثاني: يجب إطلاقه.

وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.

قالوا: إن الحرم سبب محرم للصيد يوجب ضمانه، فحرم استدامة إمساكه كالإحرام.

والراجح الأول.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- وفي الحديث دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة حيث دعا لأهلها.

- أنه لا يوجد حرم في الدنيا إلا حرم مكة والمدينة فقط.

وأما المسجد الأقصى فليس بحرم، لهذا يجب تصحيح العبارة المشهورة عند الناس [ثالث الحرمين] يقصدون المسجد الأقصى.

قال ابن تيمية: ليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان، والحرم المجمع عليه حرم مكة وأما المدينة فلها حرم أيضاً عند الجمهور كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 360

743 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(عْير وثوْر) جبلان معروفان عند أهل المدينة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: بيان فضل المدينة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لها حرماً، فلا يقطع شجرها في حرمها، ولا يقتل الصيد ولا ينفر.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لحديث الباب: (المدينة حرم ما بين

).

وقال أبو حنيفة: أنه لا يحرم حرم المدينة.

والأول أصح.

•‌

‌ هل في قتل صيده جزاء؟

جماهير العلماء على أنه لا جزاء في صيد المدينة، بل هو حرام بلا ضمان.

لعدم النص في ذلك.

•‌

‌ ما حدود حرم المدينة؟

الحديث فيه تحديد حرم المدينة، فقد حدد صلى الله عليه وسلم حدود المدينة من جهاتها الأربع، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" المدينة حرم ما بين عَير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل".

وما رواه أبو عوانة في المسند من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المدينة حرم ما بين لابتيها).

واللابة: الحرة، وهي الأرض التي قد ألبستها حجارة سود.

قال الدكتور صالح بن حامد الرفاعي في كتابه- الأحاديث الواردة في فضائل المدينة جمعاً ودراسةـ: فهذان الحديثان وغيرهما حددا المدينة من الجهات الأربع، فحدها من جهة الجنوب جبل عَير، وهو جبل ممتد من الغرب إلى الشرق ويشرف طرفه الغربي على ذي الحليفة، وطرفه الشرقي على المنطقة المتصلة بمنطقة قباء من جهة الجنوب الغربي.

وحدها من جهة الشمال جبل ثور، وهو جبل صغير شمالي أحد. ويحدها من جهة الشرق الحرة الشرقية، وهي إحدى اللابتين المذكورتين في قوله صلى الله عليه وسلم:(المدينة حرم ما بين لا بتيها) واللابة الأخرى هي الحرة الغربية، والحرتان داخلتان في حرم المدينة، صرح بذلك أبو زكريا النووي وغيره.

•‌

‌ اذكر بعض الفروق بين حرم مكة وحرم المدينة؟

- أن حرم مكة ثابت بالنص والإجماع، وحرم المدينة مختلف فيه.

- أن صيد حرم مكة فيه الجزاء والإثم، وصيد حرم المدينة فيه الإثم ولاجزاء فيه.

- أن الإثم المترتب على صيد حرم مكة أعظم من الإثم المترتب على صيد حرم المدينة.

- أن حرم مكة يحرم فيه قطع الأشجار بأي حال من الأحوال إلا عند الضرورة، وأما حرم المدينة فيجوز ما دعت الحاجة إليه.

ص: 361

• قال الشيخ ابن عثيمين: الصحيح أنه (أي الصيد في الحرم النبوي) محرم، لكنه ليس كالصيد في حرم مكة، فإن صيد حرم مكة إذا صاده الإنسان فإثمه أكبر مما لو صاد صيداً في حرم المدينة، وحرم المدينة ليس في صيده جزاء، وحرم مكة يحصل فيه جزاء، وحرم المدينة إذا أدخل الإنسان الصيد فيه من خارج الحرم فله إمساكه وذبحه، وحرم مكة فيه خلاف، فمن العلماء من يقول: إذا أدخل الإنسان صيداً إلى حرم مكة وجب عليه إطلاقه، ومنهم من يقول: لا يجب، والصحيح أنه لا يجب عليه إطلاقه، فلو أدخل الإنسان أرنباً أو حمامة من خارج الحرم إلى الحرم فله استبقاؤها وذبحها؛ لأنها ملكه، بخلاف ما إذا صادها في الحرم، فإنه ليس له إبقاؤها وليس له ذبحها، إنما عليه أن يطلقها" انتهى.

"مجموع فتاوى ابن عثيمين"(22/ 228).

•‌

‌ هل المسجد الأقصى حرم؟

ليس بحرم.

قال شيخ الإسلام: وليس ببيت المقدس مكان يسمى حرماً ولا بتربة الخليل ولا بغير ذلك من البقاع، إلا ثلاثة أماكن:

أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة، شرفها الله تعالى.

والثاني: حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي (يعني المدينة النبوية) فإن هذا حرم عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد، وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والثالث: وُج، وهو وادٍ بالطائف، فإن هذا رُوِيَ فيه حديث، رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرماً عند أكثر العلماء، وأحمد ضعف الحديث المروى فيه فلم يأخذ به.

وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرماً عند أحد من علماء المسلمين، فإن الحرم ما حرم اللهُ صيده ونباته، ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجاً عن هذه الأماكن الثلاثة.

وقال رحمه الله: وليس في الدنيا حرم، ولا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان (أي مكة والمدينة) ولا يسمى غيرهما حرماً كما يسمي الجهال حرم المقدس، وحرم الخليل فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين

ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في (وجٍّ) وهو وادي بالطائف

)

فائدة: الجمهور على أن وادي وج ليس محرم، وقد ورد فيه حديث أنه حرم عند أبي داود لكنه ضعيف.

ص: 362

‌بَابُ صِفَةِ اَلْحَجِّ وَدُخُولِ مَكَّةَ

744 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ:" اِغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي "

وَصَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ اَلْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اِسْتَوَتْ بِهِ عَلَى اَلْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ:" لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ اَلْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ ".

حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا اَلْبَيْتَ اِسْتَلَمَ اَلرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى اَلرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اَلْبَابِ إِلَى اَلصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ اَلصَّفَا قَرَأَ:" إِنَّ اَلصَّفَا وَاَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ "" أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اَللَّهُ بِهِ " فَرَقِيَ اَلصَّفَا، حَتَّى رَأَى اَلْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اَللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ، وَلَهُ اَلْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ [وَحْدَهُ] أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ اَلْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ". ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى اَلْمَرْوَةِ، حَتَّى (4) اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ اَلْوَادِي [سَعَى] حَتَّى إِذَا صَعَدَتَا مَشَى إِلَى اَلْمَرْوَةِ فَفَعَلَ عَلَى اَلْمَرْوَةِ، كَمَا فَعَلَ عَلَى اَلصَّفَا

- فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ. وَفِيهِ:

فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ اَلتَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَى، وَرَكِبَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا اَلظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتْ اَلشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ اَلْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا.

حَتَّى إِذَا زَاغَتْ اَلشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ اَلْوَادِي، فَخَطَبَ اَلنَّاسَ.

ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى اَلظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.

ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى اَلْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ اَلْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ اَلْمُشَاةِ (1) بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ اَلشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ اَلصُّفْرَةُ قَلِيلاً، حَتَّى غَابَ اَلْقُرْصُ، وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ اَلزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اَلْيُمْنَى:" أَيُّهَا اَلنَّاسُ، اَلسَّكِينَةَ، اَلسَّكِينَةَ "، كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ.

حَتَّى أَتَى اَلْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا اَلْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اِضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ اَلْفَجْرُ، فَصَلَّى اَلْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ اَلصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى اَلْمَشْعَرَ اَلْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا.

فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرَ فَحَرَّكَ قَلِيلاً، ثُمَّ سَلَكَ اَلطَّرِيقَ اَلْوُسْطَى اَلَّتِي تَخْرُجُ عَلَى اَلْجَمْرَةِ اَلْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى اَلْجَمْرَةَ اَلَّتِي عِنْدَ اَلشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلَ حَصَى اَلْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ اَلْوَادِي، ثُمَّ اِنْصَرَفَ إِلَى اَلْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى اَلْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ اَلظُّهْرَ- رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلاً.

===

•‌

‌ ماذا قال النووي عن حديث جابر هذا؟

حديث جابر أخرجه مسلم في كتاب الحج رقم (1218) وقد وصف جابر في هذا الحديث صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه.

قال النووي: حديث جابر، وهو حديث عظيم حوى على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه، وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر ابن المنذر جزءاً كبيراً، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه [انتهى كلامه].

ص: 363

•‌

‌ متى حج الرسول صلى الله عليه وسلم

حج في السنة العاشرة من الهجرة، وسميت حجة الوداع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها.

• فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته لم يحج إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع في السنة العاشرة، وأما الأحاديث الواردة أنه صلى الله عليه وسلم حج حجتين بعد الهجرة كلها منكرة، وجزم بنكارتها الإمام البخاري، وأحمد، والترمذي وطائفة من المحدثين.

• وقد فرض الحج في السنة التاسعة، وفرض بقوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة.

•‌

‌ فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة؟

فالجواب:

أولاً: بسبب كثرة الوفود، ولذلك تسمى السنة التاسعة سنة الوفود.

ثانياً: لأنه من المتوقع أن يحج في السنة التاسعة المشركون.

• وفي هذه السنة - السنة التاسعة - بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس، فعن أبي هريرة. قال (بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس قبل حجة الوداع، فبعثني أبو بكر: أن أنادي في الناس: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) متفق عليه.

• جاء في رواية (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي اَلنَّاسِ فِي اَلْعَاشِرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ حَاجٌّ) فماذا نستفيد من ذلك؟

نستفيد: أنه يستحب للإمام إيذان الناس وإعلامهم بالأمور المهمة والعظيمة ليتأهبوا لها.

•‌

‌ متى كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا خرج معه صلى الله عليه وسلم بشر كثير؟

كان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة في يوم السبت، وقدم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة، فيكون صلى الله عليه وسلم مكث في الطريق ثمان ليال.

جاء في رواية (فَقَدِمَ اَلْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلُ مِثْلَهُ فَخَرَجْنَا مَعَه)

وفي هذا دليل على حرص الصحابة على العلم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم لاتباعه والتأسي به عليه السلام، ويستفاد من ذلك الحث على صحبة أهل العلم والفضل في الأسفار ولا سيما في الحج، لما في ذلك من الخير الكثير من الاستفادة من علمهم وأخلاقهم، إضافة إلى حفظ الوقت وصرفه فيما ينفع ويفيد.

• قوله (فقدم المدينة بشر كثير) ذكر بعض أهل السير: أن الذين قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجته نحو من مائة وعشرين ألفاً.

•‌

‌ هل الأفضل الركوب أم المشي في الحج؟

قال القرطبي: لا خلاف في جواز الركوب والمشي في الحج، واختلف في الأفضل منهما: فذهب مالك، والشافعي في آخرين: إلى أن الركوب أفضل اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة التفقة، ولتعظيم شعائر الحج بأبَّهة الركوب. وذهب غيرهم: إلى أن المشي أفضل؛ لما فيه من المشقة على النفس.

ولا خلاف في: أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل.

وقال النووي: قَوْله: (بَيْن يَدَيْهِ مِنْ رَاكِب وَمَاشٍ) فِيهِ جَوَاز الْحَجّ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِل الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع الْأُمَّة. قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلّ ضَامِر) وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَفْضَل مِنْهُمَا، فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء: الرُّكُوب أَفْضَل اِقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّهُ أَعْوَن لَهُ عَلَى وَظَائِف مَنَاسِكه، وَلِأَنَّهُ أَكْثَر نَفَقَة. وَقَالَ دَاوُدُ: مَاشِيًا أَفْضَل لِمَشَقَّتِهِ. وَهَذَا فَاسِد لِأَنَّ الْمَشَقَّة لَيْسَتْ مَطْلُوبَة.

ص: 364

•‌

‌ ما هو ميقات أهل المدينة؟

ذو الحليفة.

لقول جابر (حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ).

وسبق حديث ابن عباس (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة لأهل المدينة).

وسبق حكم الإحرام من الميقات وأنه واجب.

•‌

‌ من هي التي ولدت في الميقات؟

أسماء بنت عميس.

قال جابر (فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ).

وهي زوجة أبي بكر الصديق، ولدت له محمداً في الميقات، وكانت قبل ذلك تحت جعفر بن أبي طالب وأولاده منها، وبعد وفاة أبي بكر تزوجها علي بن أبي طالب.

ماذا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته ماذا تصنع؟

قال لها (اِغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ).

الاستثفار: أن تشد المرأة على وسطها شيئاً ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشدها من ورائها وقدامها ليمتنع الخارج، وفي معناها الوسائل المعروفة الآن عند النساء.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء (اِغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ).

قال ابن القيم: كان في قصتها ثلاث سنن:

إحداها: غسل المحرِم.

والثانية: أن الحائض تغتسل لإحرامها.

والثالثة: أن الإحرام يصح من الحائض.

• وقد تقدمت مباحث الاغتسال عند الإحرام.

• الحديث دليل على استحباب الاغتسال عند الإحرام.

قال ابن قدامة: يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل قبل إحرامه لما روى زيد بن ثابت: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل، رواه الترمذي، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام، ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فيسن لها الاغتسال كالجمعة، وليس واجباً في قول عامة أهل العلم.

•‌

‌ ومن سنن الإحرام: التنظف (أخذ ما ينبغي أخذه كشعر العانة والإبط والشارب والأظافر).

قال ابن قدامة معللاً: لأن الإحرام يمنع قطع الشعر، وقلم الأظافر، فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه، فإذا كانت أظفاره طويلة أو شعره طويل فإنه يسن إزالتها، وإلا فلا يستحب.

ص: 365

• قوله صلى الله عليه وسلم لها (وَأَحْرِمِي) أطلق لها النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام، وقد أحرم الناس من ذي الحليفة على وجوه ثلاثة، منهم من أحرم بالحج، ومنهم من أحرم بالعمرة، ومنهم من أحرم بالحج والعمرة.

عن عائشة. قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بعمرة وحج، ومنا من أهل بالحج) متفق عليه.

•‌

‌ ما الصلاة المفروضة التي أحرم بعدها النبي صلى الله عليه وسلم

صلاة الظهر في مسجد ذي الحليفة.

ولذلك استحب أهل العلم أن يكون الإحرام عقب صلاة فرض كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

• فإن لم يكن وقت صلاة فرض، هل يسن أن يصلي ركعتين للإحرام؟ تقدمت المسألة والخلاف فيها.

قال جابر (وصلى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ اَلْقَصْوَاءَ).

•‌

‌ متى أهل النبي صلى الله عليه وسلم

حديث الباب قال جابر (حَتَّى إِذَا اِسْتَوَتْ بِهِ عَلَى اَلْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: " لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ

)

وذهب بعض العلماء إلى أنه يلبي إذا استوت به راحلته.

لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وهذا القول هو الصحيح، وأما حديث جابر _ أنه لبى على البيداء - فيحمل على أن جابراً لم يسمع التلبية إلا حين استوت راحلة النبي صلى الله عليه وسلم على البيداء. (وقد تقدمت المسألة).

•‌

‌ ما معنى (أهلَّ) ولماذا سماها جابراً توحيداً؟

معنى (أهلّ) أي: رفع صوته بالتلبية، وهذه كلمات عظيمة.

وسماها جابراً توحيداً لأنها تضمنت التوحيد والإخلاص.

•‌

‌ اذكر معاني التلبية؟

(لَبَّيْكَ) إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، والمراد بالتثنية التأكيد.

(لَا شَرِيكَ لَكَ) أي: في كل شيء، فلا شريك لك في ملكك، ولا شريك لك في ألوهيتك، ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك.

(إِنَّ اَلْحَمْدَ) أي: لك الحمد على كل حال، والحمد وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً.

(وَالنِّعْمَةَ) أي: الفضل والإحسان، كله لك، لأن الله وحده المحمود والمنعم.

(وَالْمُلْكَ) أي ملك الخلائق وتدبيرها لك وحدك.

•‌

‌ فإن قال قائل: أين النداء من الله حتى يجيبه المحرم؟

الجواب هو قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). [رجالاً] على أقدامهم [ضامر] البعير الذي أتعبه السفر [فج عميق] طريق بعيد.

ص: 366

•‌

‌ اشتملت التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة، اذكرها؟

قال ابن القيم: وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ كَلِمَات التَّلْبِيَة عَلَى قَوَاعِد عَظِيمَة وَفَوَائِد جَلِيلَة:

إِحْدَاهَا: أَنَّ قَوْلك " لَبَّيْكَ " يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك، وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مِنْ أَجَابَهُ.

الثَّانِيَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُقَال لَبَّيْكَ إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا: أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ: اِمْرَأَة لَبَّة، أَيّ مَحَبَّة لِوَلَدِهَا.

الثَّالِثَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة، وَلِهَذَا قِيلَ: هِيَ مِنْ الْإِقَامَة، أَيّ أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك.

الرَّابِعَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ، أَيّ خُضُوعًا بَعْد خُضُوع، مِنْ قَوْلهمْ. أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك، أَيّ خَاضِع ذَلِيل.

الْخَامِسَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص، وَلِهَذَا قِيلَ. إِنَّهَا مِنْ اللُّبّ، وَهُوَ الْخَالِص.

السَّادِسَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى، إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل لَبَّيْكَ لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ.

السَّابِعَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنْ اللَّه، وَلِهَذَا قِيلَ. إِنَّهَا مِنْ الْإِلْبَاب، وَهُوَ التَّقَرُّب.

الثَّامِنَة: أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي الْإِحْرَام شِعَارًا لِانْتِقَالِ مِنْ حَال إِلَى حَال، وَمِنْ مَنْسَك إِلَى مَنْسَك، كَمَا جَعَلَ التَّكْبِير فِي الصَّلَاة سَبْعًا، لِلِانْتِقَالِ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن.

التَّاسِعَة: أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم، الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده، بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا. وَلِهَذَا كَانَتْ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا.

الْعَاشِرَة: أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِمِفْتَاحِ الْجَنَّة وَبَاب الْإِسْلَام الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَة الْإِخْلَاص وَالشَّهَادَة لِلَّهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ.

الْحَادِيَة عَشَرَة: أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبّ مَا يَتَقَرَّب بِهِ الْعَبْد إِلَى اللَّه، وَأَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّة أَهْله، وَهُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة وَخَاتِمَتهَا.

الثَّانِيَة عَشْرَة: أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف لِلَّهِ بِالنِّعْمَةِ كُلّهَا، وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَة لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ النِّعَم كُلّهَا لَك، وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِم بِهَا.

الثَّالِثَة عَشْرَة: أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّ الْمِلْك كُلّه لِلَّهِ وَحْده، فَلَا مِلْك عَلَى الْحَقِيقَة لِغَيْرِه.

•‌

‌ ما حكم التلبية؟

قال ابن حجر في فتح الباري:

وفيها مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة.

القول الأول: أنها سنة لا يجب بتركها شيء وهو قول الشافعي وأحمد.

القول الثاني: واجبة يجب بتركها دم. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.

القول الثالث: أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها. وهذا مروي عن الثوري وأبي حنيفة وأهل الظاهر، وقالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة.

قال الشنقيطي في أضواء البيان: وإذا عرفت مذاهب أهل العلم في حكم التلبية فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى وقال (لتأخذوا عني مناسككم) فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا التلبية، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل، أما كونها مسنونة أو مستحبة أو واجبة بدونها وتجبر بدم، فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم والعلم عند الله تعالى.

ص: 367

•‌

‌ هل الأفضل الاقتصار على تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم أم يجوز الزيادة؟

الأفضل التزام تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول جابر (ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته).

وتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الباب (لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ اَلْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك).

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ). قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ) متفق عليه.

وكان من تلبيته صلى الله عليه وسلم: لبيك إله الحق.

قال القاضي: قال أكثر العلماء: المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك والشافعي.

لكن يجوز الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أ-لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع الناس يزيدون فأقرهم ولم ينكر ذلك، فدل على جواز ذلك.

ب-وبعضهم يقول: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواصل.

ج- (وكان ابن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) رواه مسلم.

د-وروى أحمد في مسنده عن جابر قال (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكر تلبية النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والناس يزيدون: ذا المعارج).

•‌

‌ ما حكم التلبية لغير المحرم (التلبية للحلال في الأمصار)؟

لا تشرع التلبية لغير المحرم في الأمصار، لعدم الدليل، فيكره أن يلبي غير المحرم وهذا قول مالك وهو الصحيح، لأن التلبية من شعائر الحج وليست بعبادة مستقلة بنفسها، وقد قال بعض العلماء باستحباب التلبية للحلال، لكنه قول ضعيف.

•‌

‌ ما حكم التلبية الجماعية؟

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قول أنس رضي الله عنه (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا المُكبِّر ومنا المُهل) - متفق عليه - يدل على أنهم ليسوا يلبون التلبية الجماعية، ولو كانوا يلبون التلبية الجماعية لكانوا كلهم مهلين أو مكبّرين، لكن بعضهم يكبر، وبعضهم يهل، وكل يذكر ربه على حسب حاله.

وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم التلبية الجماعية للحجاج؟ حيث أحدهم يلبي والآخرين يتبعونه؟

فأجابت: لا يجوز ذلك، لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، بل هو بدعة " انتهى.

•‌

‌ ما المراد بالركن في قول جابر (حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا اَلْبَيْتَ اِسْتَلَمَ اَلرُّكْنَ)؟

المراد بالركن: أي الحجر الأسود، وسمي ركناً لأنه في ركن الكعبة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من ذلك؟

نستفيد: أنه يسن للمحرم أن يبدأ طوافه بالحجر الأسود فيقصده ويبدأ الشوط منه.

قال النووي: واعلم أن للبيت أربعة أركان الركن الأسود والركن اليماني ويقال لهما: اليمانيان، وأما الركنان الآخران فيقال لهما: الشاميان، فالركن الأسود فيه فضيلتان: إحداهما: كونه على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، وأما اليماني ففيه فضيلة واحدة: وهى كونه على قواعد إبراهيم.

وأما الركنان الآخران فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين؛ فلهذا خص الحجر الأسود بشيئين الاستلام والتقبيل للفضيلتين".

ص: 368

•‌

‌ اذكر أحوال استلام الحجر الأسود؟

أ- أن يستلم الحجر ويقبله، وهذا أعلاها [والمسح يكون باليد اليمنى لأن اليد اليمنى تقدم للتعظيم].

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَبَّلَ اَلْحَجَرَ اَلْأَسْوَدَ: فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [هذا من فقه عمر: أن تقبيل الحجر اتباعاً لله ولرسوله]

ب- إن لم يتمكن، استلمه بيده وقبل يده.

عن نافع قال: (رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله). متفق عليه

ج- أن يستلمه بشيء في يده، ويقبل ذلك الشيء.

لحديث عامر بن واثلة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الحجر بمحجن معه ويقبل المحجن). رواه مسلم

[المحجن] هو عصا محنية الرأس.

د- إن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك.

•‌

‌ ما الحكمة من تقيبل واستلام الحجر الأسود؟

الحكمة: تعظيماً لله تعالى واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم لا لكونه حجراً أو محبة له.

•‌

‌ هل يشرع استلام الركن اليماني؟

نعم يشرع.

لحديث ابنِ عُمَر قَالَ (لَمْ أَرَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ اَلْبَيْتِ غَيْرَ اَلرُّكْنَيْنِ اَلْيَمَانِيَيْن) رواه مسلم.

قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفقت الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين.

قال شيخ الإسلام: لا يستلم إلا الركنيين اليمانيين دون الشاميين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلم اليمانيين خاصة لأنها على قواعد إبراهيم.

• عند استلام الركن اليماني لا يقل شيئاً لا تكبير ولا غيره، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

• إن لم يتمكن من استلام الركن اليماني، لم تشرع الإشارة إليه بيده.

•‌

‌ ماذا يقول عند استلام الحجر؟

يسن أن يقول: الله أكبر.

لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر) رواه البخاري.

الإشارة تكون باليد اليمنى دون اليدين جميعاً.

ص: 369

•‌

‌ هل يشرع قول بسم الله؟

لم ينقل في ذكر صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (بسم الله).

لكن ثبت عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال: باسم الله والله أكبر، أخرجه البيهقي وغيره بإسناد صحيح، كما قال النووي والحافظ.

•‌

‌ هل في استلام الحجر فضل؟

نعم، في استلامه فضل عظيم؟

قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مَسْحَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ يَحُطَّانِ الْخَطَايَا حَطًّاً) رواه أحمد عن ابن عمر.

وقال صلى الله عليه وسلم (والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق) رواه الترمذي عن ابن عباس.

• إن مشروعية تقبيل الحجر الأسود مشروطة بعدم إيذاء الناس بالمزاحمة والمدافعة، فإنه في هذه الحالة ترك الاستلام أفضل.

• في آخر شوط عند الانتهاء لا يستلم ولا يقبل الحجر الأسود ولا يكبر لأنه انتهى طوافه.

• هل يشرع تقبيل الحجر الأسود واستلامه في غير نسك من حج أو عمرة؟

الجمهور على المنع.

•‌

‌ اذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها المعتمرون والحجاج عند استلام الحجر الأسود؟

1 -

الإشارة باليدين كهيئة التكبير للصلاة عند محاذاة الحجر الأسود، والصواب الإشارة باليد اليمنى فقط، ولا يشير بيديه.

2 -

الوقوف الطويل عند محاذاة الحجر الأسود، وهذا لا يجوز خاصة عند الزحام لما في ذلك من الضرر، والإيذاء للطائفين، وإعاقة سيرهم، والسنة في ذلك الإشارة إلى الحجر إذا حاذاه مع التكبير ولا يقف لأجل ذلك.

3 -

التكبير قبل محاذاة الحجر الأسود، أي: بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه

النبي صلى الله عليه وسلم، وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطاً غير صحيح، فالاحتياط الحقيقي النافع هو إتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله وهو أن الطواف يبتدئ بالحجر الأسود لا قبله.

4 -

تكرار التكبير عند محاذاة الحجر الأسود، فبعض الطائفين إذا حاذى الحجر الأسود وقف ثم بدأ يكبر عدة تكبيرات، وهذا خطأ، والصواب أن التكبير يكون مرة واحدة.

5 -

تقبيل اليد عند الإشارة إلى الحجر الأسود، وهذا خلاف السنة فالصواب أن التقبيل لليد لا يكون إلا إذا مست الحجر الأسود، أما إذا لم يستطع استلام الحجر، وأشار إليه بيده اليمنى فإنه لا يقبلها، هذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

6 -

بعض الحجاج والمعتمرين عندما يمسح الحجر الأسود أو الركن اليماني يمسحه بيده اليسرى كالمتهاون به، وهذا خطأ فإن اليد اليمنى أشرف من اليد اليسرى، واليد اليسرى لا تُقدَّم إلا للأذى، كالاستنجاء، والاستجمار، والامتخاط بها، وما أشبه ذلك، وأما مواضع التقبيل والاحترام، فإنه يكون لليد اليمين.

7 -

المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله، حتى إنه يؤدي أحياناً إلى المقاتلة والمشاتمة، فيحصل له بذلك الأقوال المنكرة مالا يليق بهذا المكان في المسجد الحرام قال تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَاب) وهذه المزاحمة تذهب الخشوع وتنسي ذكر الله، وهما من أعظم المقصود في الطواف.

ص: 370

9 -

اعتقادهم أن الحجر الأسود نافع بذاته؛ لذلك تجدهم عند استلامهم له يمسحون بأيديهم على بقية أجسادهم، وهذا جهل فالنافع الضار هو الله سبحانه وتعالى، وقد قال عمر رضي الله عنه عند استلام الحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).

[مقال في موقع الملتقى الفقهي].

•‌

‌ ماذا يسن أن يقول عند دخول البيت؟

يسن دخول البيت بالرجل اليمنى قائلاً الدعاء الوارد عند دخول المسجد، كبقية المساجد، (اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك).

وأما ما قاله بعض الفقهاء أنه يسن إذا رأى البيت أن يرفع يديه ويقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، أو: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، فهذا قول ضعيف، لأن هذه الآثار كلها لا تصح، فلا يعتمد عليها في إثبات حكم شرعي (فلا يصح ذكر ولا دعاء عند رؤية البيت) وجابر الذي نقل حجة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيء من هذه الأذكار.

•‌

‌ ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دخل البيت؟

أول شيء فعله: طاف بالبيت.

•‌

‌ ما اسم هذا الطواف الذي بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم

هذا الطواف الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم: هو طواف القدوم، وهو مشروع في حق القارن والمفرد. (وأن يقدّم سعي الحج) ولو أراد أن يقدّم سعي الحج من غير طواف لم يصح (يشترط لصحة تقديم سعي الحج أن يسبقه طواف نسك ولو مسنوناً).

وفي هذا أن تحية البيت الطواف، فإن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم الطواف.

وهذا فيمن دخل المسجد للطواف، أما إذا دخل المسجد للجلوس أو الصلاة فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد كغيره من المساجد، وأما حديث (تحية البيت الطواف) فهو حديث لا يصح.

•‌

‌ بماذا يبدأ المحرم نسكه؟

يبدأ المحرم بالطواف مبتدئاً من الحجر الأسود جاعلاً البيت عن يساره لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان متمتعاً فطوافه لعمرته، وإن كان مفرداً أو قارناً فهو طواف القدوم.

•‌

‌ ما حكم من نقص في عدد أشواط الطواف؟

يجب أن يكون الطواف سبعة أشواط، فمن ترك شيئاً ولو يسيراً من شوط من السبعة لم يصح، لأنه لم يأت بالعدد المعتبر.

•‌

‌ ما الحكم لو شك هل طاف ستة أو سبعاً فماذا يفعل؟

يبني على اليقين إلا إذا غلب على ظنه شيء فإنه يعمل به، فإن غلب على ظنه أنه طاف ستة يجعلها ستة ويأتي بسابع.

•‌

‌ هل للطواف ذكر مخصوص؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس له-أي الطواف- ذكر مخصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو بسائر الأدعية الشرعية، وأما تخصيص كل شوط بدعاء معين فهذا لا أصل له.

•‌

‌ ما الحكم إذا قطع طوافه فريضة أو جنازة؟

صلى وأكمل من حيث وقف.

ص: 371

•‌

‌ ما حكم الوضوء للطواف؟

الأفضل أن يطوف على وضوء لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه.

وهذا قول جماعة من أئمة السلف. فقد روى ابن أبي شيبة عن شعبة بن الحجاج قال (سألت حماداً ومنصوراً وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة؟ فلم يروا به باساً.

وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا بد من الوضوء للطواف.

أ- لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق.

ب-ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (الطواف بالبيت صلاة) لكن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، ولذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى صحة الطواف بغير طهارة.

•‌

‌ ما هو الاضطباع، وفي أي طواف يكون؟

الاضطباع: هو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر فيكون العاتق الأيمن مكشوفاً.

ويكون في طواف القدوم في كل الأشواط السبعة.

•‌

‌ ما دليل مشروعيته؟

حديث يعلي بن أمية رضي الله عنه قال (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر) رواه أبو داود.

•‌

‌ ما الحكمة منه؟

الحكمة منه أنه يعين على سرعة المشي.

•‌

‌ هل يسن الاضطباع في غير طواف القدوم؟

لا يسن الاضطباع في غير طواف القدوم، وما يفعله كثير من الحجيج حيث يضطبعون من حين الإحرام إلى أن يخلعوا فإنه خطأ ومخالف للسنة، ولهذا قال العلماء: يستحب له أن يزيل الاضطباع مباشرة قبل ركعتي الطواف.

• يسن أن يدعو بين الركنين بما جاء في الحديث (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ولا تشرع الزيادة على ذلك كقول كثير من الناس: وأدخلنا الجنة مع الأبرار، يا عزيز يا غفار، لأن ذلك لا أصل له.

•‌

‌ ما هو الرمل، ومتى يكون؟

قال النووي: قال العلماء: الرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطا.

ويكون في طواف القدوم.

•‌

‌ ما حكمه؟

سنة.

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر هذا.

ص: 372

•‌

‌ وفي أي الأشواط يستحب؟

يستحب في الأشواط الثلاثة الأول، والمشي في الأربعة الباقية.

قال في المغني: وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل ثلاثاً ومشى أربعاً.

وذكر ابن قدامة في "المغني"(5/ 221) استحباب الرمل والاضطباع في طواف العمرة وفي طواف القدوم ثم قال: وَلا يُسَنُّ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي طَوَافٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ; لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا رَمَلُوا وَاضْطَبَعُوا فِي ذَلِك.

وقال النووي: لَكِنْ يَفْتَرِقُ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الاضْطِبَاعَ مَسْنُونٌ فِي جَمِيعِ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ، وَأَمَّا الرَّمَلُ إنَّمَا يُسَنُّ فِي الثَّلَاثِ الأُوَلِ وَيَمْشِي فِي الأَرْبَعِ الأَوَاخِرِ.

•‌

‌ ما الحكمة منه؟

إظهار القوة والجلد للمشركين.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) متفق عليه.

•‌

‌ فإن قيل: ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها؟

الجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف.

ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة.

•‌

‌ من أين يكون الرمل وإلى أين؟

الرمل يكون من الحجر إلى الحجر.

لحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر).

وهذا يقدم على حديث ابن عباس، لأن:

حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع، وأما حديث ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر) كان في حجة الوداع، فيكون هذا ناسخاً للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس، لأنه متأخر عنه.

قال النووي في شرح حديث ابن عمر (رمل من الحجَر إلى الحجر): فيه بيان أن الرَّمَل يُشرع في جميع المطاف من الْحَجَر إلى الْحَجَر، وأما حديث ابن عباس

قال: وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يَرْمُلوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الرَّكنين، فمنسوخ بالحديث الأول؛ لأن حديث ابن عباس كان في عُمرة القضاء سنة سبع، قبل فتح مكة، وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم، وإنما رَملوا إظهارا للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الرَّكُنين اليمانيين؛ لأن المشركين كانوا جلوساً في الْحِجْر، وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سَنة عَشر رَمَل مِنْ الْحَجَر إلى الْحَجَر، فوجب الأخذ بهذا المتأخر.

ص: 373

• أن الرمل خاص بالرجال.

• وليس الرمل هو هز الكتفين كما يفعله بعض الجهلة [قاله الشيخ ابن عثيمين].

•‌

‌ من الذين لا يشرع لهم الرمل؟

أولاً: أهل مكة.

قال ابن عبد البر: واختلفوا في أهل مكة إذا حَجوا هل عليهم رَمَل أم لا؟ فكان ابن عمر لا يرى عليهم رَملاً إذا طافوا بالبيت.

وقال ابن قدامة: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَرْمُلْ.

والسبب أنه ليس لهم طواف قُدُوم؛ لأنهم مِنْ حاضري المسجد الحرام.

الثاني: النساء فلا يشرع لهن الرمل.

قال النووي: اتفق العلماء على أن الرَّمَل لا يُشرع للنساء، كما لا يُشرع لهن شِدّة السعي بين الصفا والمروة. ولو ترك الرَّجُل الرَّمَل حيث شُرع له فهو تارك سُنة، ولا شيء عليه.

•‌

‌ ماذا يفعل بعد الطواف؟

يسن أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم.

لقول جابر (ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى اَلرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ).

•‌

‌ ما السنة أن يقرأ فيهما؟

يسن أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) كما جاء عند مسلم. [والمقام] هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه للبيت وشق عليه تناول الحجارة].

قال النووي: هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف.

•‌

‌ هل يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام؟

لا يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام، فلو صلاهما في أي مكان من الحرم أو خارجه جاز.

• المشروع في هاتين الركعتين التخفيف وليس قبلهما دعاء ولا بعدهما دعاء.

•‌

‌ إذا دار الأمر بين أن يصلي قريباً من المقام مع كثرة حركته، كرد المارين بين يديه، وبين أن يصلي بعيداً عن المقام ولكن بطمأنينة، فما الأفضل؟

فالأفضل الثاني، لأن ما يتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة بما يتعلق بمكانها.

•‌

‌ ما حكم الموالاة بين الطواف والركعتين؟

واختلف الفقهاء في حكم الموالاة بين الطواف والركعتين، على قولين:

الصحيح أن الموالاة سنة، فلو فصل بين الطواف وركعتيه بوقت طويل، جاز.

وهو قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

أ-أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف بالبيت بعد صلاة الصبح، فلما قضى طوافه، نظر فلم ير الشمس طلعت، فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى ركعتين).

ب-عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو بمكة، وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج - فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أقيمت صلاة الصبح، فطوفي على بعيرك والناس يصلون، ففعلت ذلك، فلم تصل حتى خرجت).

ص: 374

•‌

‌ ماذا يستحب إذا جاء للمقام؟

يستحب إذا جاء المقام أن يقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).

•‌

‌ ما الحكمة من قراءة هذه الآية؟

أولاً: بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إبلاغ الناس أنه فعل ذلك امتثالاً لأمر الله.

ثانياً: أن يشعر نفسه أنه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله.

•‌

‌ هل تجزيء سنة راتبة عنهما أو صلاة مكتوبة؟

هذا موضع خلاف والصحيح أنها لا تجزيء، لأنهما سنة مستقلة بنفسها.

•‌

‌ ماذا يسن أن يفعل بعد الفراغ من الركعتين؟

يسن أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه بيده إن تيسر له ذلك، وإلا تركه ومضى.

لقول جابر (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى اَلرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ).

قال النووي: فِيهِ دَلَالَة لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلطَّائِفِ طَوَاف الْقُدُوم إِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَاف وَصَلَاته خَلْف الْمَقَام أَنْ يَعُود إِلَى الْحَجَر الْأَسْوَد فَيَسْتَلِمهُ، ثُمَّ يَخْرُج بَاب الصَّفَا لِيَسْعَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِلَام لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّة لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَلْزَمهُ دَم.

قال بعض العلماء: وظاهر ذلك أنه لا يسن تقبيله ولا الإشارة إليه.

قال الشيخ ابن عثيمين: بعد أن يصلي ركعتين يستلم الركن مرة ثانية كالمودع للبيت في هذا العمل

ولم ترد السنة بالتقبيل في هذا الموضع ولم ترد أيضاً بالإشارة.

وعلى هذا فلا تقبيل ولا إشارة، فان تيسر لك أن تستلمه فهو سنة وإلا فدعه.

وهذا فيمن خرج ليسعى، أما من طاف ولا يريد السعي [كطواف الوداع مثلاً أو طواف الإفاضة لمن سعى بعد طواف القدوم] فإنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى الركن فاستلمه.

• وقد تقدم أنه لا يشرع تقبيل ولا استلام الحجر في غير نسك.

•‌

‌ في كم موضع يشرع تقبيل الحجر واستلامه؟

الذي دلت عليه السنة أن تقبيل الحجر واستلامه يكون في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول: في بداية الطواف.

الموضع الثاني: أثناء الطواف إذا مر به.

الموضع الثالث: عقب صلاة الركعتين خلف المقام. (في هذا الموضع استلام فقط).

مسألة: جاء عند الإمام أحمد (ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه) فيسن بعد صلاة الركعتين أن يذهب إلى زمزم ويشرب ويصب على رأسه.

•‌

‌ ماذا يفعل الحاج بعد أن ينتهي من الطواف والصلاة خلف المقام؟

يذهب إلى المسعى ليسعى بين الصفا والمروة.

ص: 375

•‌

‌ ماذا يستحب أن يقرأ عند الصفا؟

يستحب قراءة هذه الآية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) إذ دنا من الصفا وليس إذا صعد، ولا يشرع إكمال الآية وإنما يقتصر فقط على (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).

• ما الحكمة من قراءة هذه الآية؟

أولاً: اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: امتثالاً لأمر الله.

ثالثاً: وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله.

•‌

‌ هل يقول هذه الآية في كل شوط وعند المروة؟

لا تقال هذه الآية إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف - فلا يقال بعد ذلك - لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية، لأنه ليس ذكراً يختص بالصعود وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو بتقديم الله له.

•‌

‌ هل يجوز أن يبدأ بالمروة قبل الصفا؟

لا يجوز، بل يجب أن يبدأ بالصفا قبل المروة.

والبدء بالصفا هو تفسير لقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فقد بدأ بما قدم الله ذكره.

•‌

‌ اذكر ما يفعله الحاج على الصفا؟

يستحب أن يصعد الصفا وأن يستقبل القبلة حينما يطلع عليه (وليس هو واجب، الواجب هو حدود العربيات)

ويستحب رفع اليدين عند الصعود على الصفا، وصفة رفعهما كصفة رفعهما عند الدعاء.

ويستحب على الصفا أن يوحد الله ويكبره ويقول (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).

[أنجز وعده] أي: بإظهار هذا الدين، وكون العاقبة للمتقين. [ونصر عبده] أي: نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم[وهزم الأحزاب] أي: غلبهم وكسرهم [وحده] أي: بلا قتال من الناس.

• أنه يستحب الدعاء فيما بين ذلك، وصفة هذا: أن يذكر الله أولاً، ثم يدعو، ثم يذكر الله ثانياً، ثم يدعو، ثم يذكر الله ثالثاً، ثم ينزل من الصفا.

•‌

‌ ماذا يفعل بعد الذكر والدعاء؟

بعد الذكر والدعاء يتجه إلى المروة.

• إذا حاذى العلم الأخضر هرول حتى العلم الثاني، والهرولة خاصة بالرجال.

•‌

‌ هل تشترط الطهارة للسعي؟

لا تشترط الطهارة للسعي.

ص: 376

•‌

‌ ما كيفية السعي بين الصفا والمروة؟

السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، الذهاب شوط والرجوع شوط آخر.

قال النووي: قوْله: (حَتَّى إِذَا كَانَ آخِر طَوَاف عَلَى الْمَرْوَة) فِيهِ دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ الذَّهَاب مِنْ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَة يُحْسَب مَرَّة وَالرُّجُوع إِلَى الصَّفَا ثَانِيَة وَالرُّجُوع إِلَى الْمَرْوَة ثَالِثَة وَهَكَذَا، فَيَكُون اِبْتِدَاء السَّبْع مِنْ الصَّفَا، وَآخِرهَا بِالْمَرْوَةِ.

•‌

‌ هل هناك ذكر خاص للسعي؟

ليس له ذكر خاص، بل يقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقرآن، وإن دعا في السعي بقوله (رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم) فلا بأس لثبوت ذلك عن ابن مسعود وابن عمر.

• إذا كان في آخر شوط من السعي أتمه بصعوده المروة، ولا يقف للدعاء ولا للذكر، لأن العبادة قد انتهت.

•‌

‌ ما حكم الموالاة بين الطواف والسعي؟

اختلف الفقهاء في حكم الموالاة بين الطواف والسعي على قولين:

القول الأول: أن الموالاة بينهما سنة، فلا يضر الفصل بزمن طويل، وهو قول الحنفية، وقول عند المالكية، والمذهب عند الشافعية، وقول الحنابلة.

أ- أن كل واحد من الطواف والسعي ركن، والموالاة بين أركان الحج لا تجب، كالوقوف بعرفة وطواف الإفاضة.

ب-أن الموالاة إذا لم تجب في السعي نفسه، ففيما بينه وبين الطواف أولى.

القول الثاني: أن الموالاة بين الطواف والسعي شرط، فلو فرق بينهما كثيرا لزم إعادة الطواف والسعي، وهو قول عند المالكية، ووجه عند الشافعية.

واستدلوا له: بأن السعي لما افتقر إلى تقدم الطواف عليه ليمتاز عما لغير الله تعالى، افتقر إلى الموالاة بينه وبينه ليقع به الامتياز، ولا يحصل الميز إذا أخل بالموالاة.

والراجح الأول.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا حرج في الفصل بين السعي والطواف عند أهل العلم، فلو سعى بعد الطواف بزمن أو في يوم آخر فلا بأس بذلك ولا حرج فيه، ولكن الأفضل أن يتوالى السعي مع الطواف، فإذا طاف بعمرته سعى بعد ذلك من دون فصل، وهكذا في حجه ولو فصل فلا حرج في ذلك؛ لأن السعي عبادة مستقلة، فإذا فصل بينهما بشيء فلا يضر، ولهذا لو قدم الحاج أو القارن وطاف فقط وأجل السعي إلى ما بعد نزوله من عرفات فلا حرج في ذلك، وإن قدمه فلا حرج في ذلك.

•‌

‌ ما حكم الموالاة في الطواف؟

اختلف الفقهاء رحمهم الله في اشتراط الموالاة في الطواف على قولين:

القول الأول: أنها شرط وإليه ذهب المالكية والحنابلة وهو وجه عند الشافعية.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد والى بين طوافه وقال (لتأخذوا عني مناسككم).

ب-بأن الطواف بالبيت صلاة فيشترط له الموالاة كسائر الصلوات أو بأنها عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة.

ص: 377

القول الثاني: أنها ليست بشرط.

وإليه ذهب الحنفية والشافعية في الأصح عندهم.

أ-واستدل القائلون بأن الموالاة ليست بشرط بعموم قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، قالوا فالآية مطلقة من غير شرط الموالاة.

ب- وبأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الطواف ودخل السقاية فاستسقى فسقي فشرب ثم عاد وبنى على طوافه صلى الله عليه وسلم

•‌

‌ ماذا يفعل المتمتع بعد السعي؟

إذا كان الحاج متمتعاً قصر من شعره، وإنما يقصر هنا ليبقى شعر للحج.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (

ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم يهل بالحج).

• أما في غير هذه الحالة فالحلق أفضل من التقصير في حق الرجال (لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً).

ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال في الثالثة والمقصرين) متفق عليه.

ولأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الحلق أبلغ تعظيماً لله.

• أما المرأة تقصر من شعرها مقدار أنملة: فالمشروع للمرأة التقصير دون الحلق، قال ابن قدامة:"لا خلاف في هذا".

• التقصير لا بد أن يعم جميع الرأس، وهذا القول هو الصحيح من أقوال العلماء.

لقوله تعالى (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ومن المعلوم أن الإنسان إذا قصر من رأسه ثلاث شعرات من جانب الرأس ما يعد أنه مقصر.

فقول من يقول أنه يكفي ثلاث شعرات فهو قول مرجوح.

• الحلق أو التقصير من واجبات الحج كما سيأتي إن شاء الله.

• من أسرار الحلق أو التقصير أن فيهما كمال الخضوع والتذلل لله تعالى، وإظهار العبودية والانقياد لطاعته.

• وأما القارن والمفرد فإنه يبقى على إحرامه ولا يتحلل، والأفضل له أن يتحلل بعمرة إذا لم يسق الهدي.

•‌

‌ ما هو يوم التروية، ولماذا سمي بذلك؟

[يوم التروية] هو اليوم الثامن من ذي الحجة.

قال النووي: وسمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره.

•‌

‌ متى تبتدئ أعمال الحج؟

تبتدئ من اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، حيث يذهب الحجاج لمنى.

• في هذا اليوم توجهوا إلى منى توجهوا من الأبطح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل هناك.

•‌

‌ ماذا يسن في اليوم للمحلين؟

في هذا اليوم يسن للمحلين الإحرام بالحج.

عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه (أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج) متفق عليه.

ص: 378

• أنه يسن للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن.

•‌

‌ من أين يحرم المحل يوم التروية؟

يحرم يوم التروية من مكانه.

عن جابر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا بالأبطح) رواه مسلم.

وإنما أهلوا من الأبطح لأنه مكان نزولهم. (والأبطح: هو مسيل فيه دقاق الحصى يقع شرقي مكة، فأحرم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان ومعه أصحابه قبل الزوال، ثم توجهوا إلى منى وكان ذلك يوم الخميس).

وقد قال بعض الفقهاء: أنه يحرم من الحرم تحت الميزاب، وهذا غلط وبدعة، فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عهد عن أحد من الصحابة أنه فعله.

•‌

‌ ماذا يسن أن يفعل عند إحرامه يوم التروية؟

يسن أن يفعل الحاج عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظف والتجرد من المخيط ويهل بالحج بعدها قائلاً: لبيك حجاً.

•‌

‌ ما كيفية الصلاة في منى في اليوم الثامن؟

السنة أن يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع، وهذا مستحب بإجماع العلماء.

• الأفضل أن تكون صلاة الظهر في اليوم الثامن في منى.

• أن الصلاة في منى تكون قصراً من غير جمع.

•‌

‌ إلى متى يسن المكث في منى؟

يسن أن يمكث في منى حتى تطلع الشمس.

لقول جابر (

ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتْ اَلشَّمْسُ).

•‌

‌ ما رأيك بمن يذهب إلى عرفات من ليلتها؟

الذين يذهبون إلى عرفات من ليلتها قد خالفوا السنة، وكذلك من لم يحرم اليوم الثامن، وهو وإن كان جائزاً لكنهم حرموا أنفسهم السنة.

•‌

‌ إذا صادف يوم التروية يوم جمعة، فأيهما أفضل، أن يصلي الحاج في المسجد الحرام ثم يخرج إلى منى، أو أن يخرج إلى منى (ضحى) ويصلي الظهر في منى؟

الثاني أفضل، لأن بقاءك في منى عبادة، وأنت أيها الحاج لم تأت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة. (ابن عثيمين).

• هل نمرة من عرفة؟

ليست من عرفة، وهي قرية قرب عرفة وليست من عرفة.

•‌

‌ ما معنى قول جابر (

فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ

فقيل: المعنى أي قد قارب عرفة.

قال النووي: المراد قارب عرفات، فإن نمرة ليست من عرفات.

وقيل: أن مراد جابر أن منتهى سيره عرفة، وأنه لم يفعل كما تفعل قريش في الجاهلية، فتنتهي بمزدلفة وتقف فيها يوم عرفة، وفي طريقه إلى عرفة نزل بنمرة، وهذا أصح.

(أجاز) تعدى، [القبة] قال ابن الأثير:"القبة من الخيام بيت صغير مستدير".

ص: 379

•‌

‌ متى يسن الخروج إلى عرفة من منى؟

يسن الخروج إلى عرفة من منى إذا طلعت الشمس من يوم عرفة وهو يلبي أو يكبر. [عرفة: مشعر خارج حدود الحرم، لأنها واقعة في الحل، وهي اسم لمكان الوقوف في الحج، سميت عرفة لارتفاعها على ما حولها].

•‌

‌ ماذا نستفيد من قول جابر (فَوَجَدَ اَلْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا)؟

نستفيد: إن تيسر له النزول بنمرة نزل إلى زوال الشمس [ونمرة قرية قرب عرفة وليست من عرفة كما تقدم]، وهذا النزول نزول نسك، بناءً على أن الأصل التعبد في جميع أعمال الحج إلا ما قام الدليل على أنه ليس كذلك، وإلا ذهب إلى عرفات واستقر بها ولو قبل الزوال.

•‌

‌ متى دخل النبي صلى الله عليه وسلم عرفة؟

بعد الزوال.

لقول جابر (حَتَّى إِذَا زَاغَتْ اَلشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ اَلْوَادِي، فَخَطَبَ اَلنَّاس).

[القصواء] لقب لناقته التي حج عليها، [فرحلتْ له] أي جعل عليها الرحل، [بطن الوادي] وادي عرنة الذي فيه مقدمة المسجد، لأن المسجد بعضه في عرفة وبعضه خارج عرفة، وبطن الوادي موضع متسع، ولذا خصه النبي صلى الله عليه وسلم بخطبته.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قول جابر (فَأَتَى بَطْنَ اَلْوَادِي، فَخَطَبَ اَلنَّاس).

فيه استحباب الخطبة للإمام ليعلم الناس صفة الوقوف ويذكرهم بعظم هذا اليوم.

• وقد خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها أحكام مهمة وعظيمة.

•‌

‌ ما كيفية الصلاة في يوم عرفة؟

كيفية الصلاة: استحباب جمع العصر مع الظهر في عرفات وهذا الجمع مجمع عليه، بأذان واحد وإقامتين.

لقول جابر (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا).

•‌

‌ ما حكم القصر والجمع لأهل مكة في عرفة ومزدلفة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: يشرع لهم الجمع والقصر كغيرهم.

وهذا مذهب المالكية واختيار ابن تيمية وابن القيم.

أ-قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة بمنى، وجمع وقصر بعرفة ومزدلفة، وصلى معه جميع المسلمين من أهل مكة وغيرهم، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولا بتأخير العصر في عرفة، أو تقديم المغرب في المزدلفة، وكذا خلفاؤه من بعده، فدل ذلك على مشروعية الجمع والقصر لأهل مكة في المشاعر.

ب- أن خروج أهل مكة إلى منى وعرفات ومزدلفة، يعتبر سفراً، فشرع لهم الجمع والقصر كغيرهم.

ص: 380

القول الثاني: لا يجوز الجمع والقصر لهم.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

قالوا: إن خروج أهل مكة إلى منى وعرفة ومزدلفة لا يعد سفراً لعدم المسافة، وهم في اعتبار المسافة كغيرهم، فلم يجز لهم الجمع والقصر.

والراجح: الأحوط عدم الجمع والقصر.

•‌

‌ ما الحكمة من هذا الجمع؟

الحكمة من جمع التقديم هنا: ليتفرغ الناس للدعاء، وأيضاً لو تفرقوا لفاتت الجماعة، وصلى كل إنسان لوحده.

• أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان، لقوله:(ثم أذن ثم أقام).

• أنه لا تشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر، لقوله:(ولم يصلّ بينهما).

• أنه لا تشرع الجمعة للمسافر.

•‌

‌ ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك؟

ذهب حتى أتى الموقف، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس.

لقول جابر (ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى اَلْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ اَلْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ اَلْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفَاً حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرْصُ.

[فلم يزل واقفاً] المراد بالوقوف هنا المكث، لا الوقوف على القدمين

أي: ثم ركب من مكان خطبته وصلاته حتى أتى الموقف، وهو عند الجبل المعروف في شمال عرفة، وتسميه العامة جبل الرحمة.

•‌

‌ ما الدليل على أن عرفة كلها موقف؟

الدليل قوله صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف) لكن يجب على الواقف أن يتأكد من حدودها، وهي علامات يجدها من يطلبها، لأنها واضحة، ومن وقف خارجها لم يصح حجه لأن الحج عرفة.

•‌

‌ ما حكم صعود جبل عرفة (جبل الرحمة)؟

لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حث على صعود جبل عرفات الذي اشتهر عند الناس باسم: جبل الرحمة، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم صعود هذا الجبل في حجه ولا اتخذه منسكاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(خذوا عني مناسككم)، ودرج على ذلك الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فلم يكونوا يصعدون على هذا الجبل في حجهم ولا اتخذوه منسكاً لهم؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف تحت هذا الجبل عند الصخرات الكبار، وقال:(وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة) ولذا قال كثير من العلماء: إن صعود هذا الجبل في الحج على وجه النسك بدعة، منهم الإمام النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ صديق خان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصلي نفلاً بموقف عرفات، بل اكتفى بصلاة الظهر والعصر في مسجد نمرة، جمعاً وقصراً، ولا اتخذ مصلى بما يسمى جبل الرحمة ليصلي فيه من صعد على هذا الجبل نافلة أو فريضة في يوم عرفات، بل اشتغل بعد صلاته الظهر والعصر بذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً وتكبيراً وتلبية، وبدعاء ربه والضراعة إليه، حتى غربت الشمس. فاتخاذ مصلى أو مسجد على هذا الجبل ليصلي فيه من صعد عليه من البدع التي أحدثها الجهال. فتاوى اللجنة الدائمة" (11/ 206 - 208)

ص: 381

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الصعود على جبل عرفات ليس من الأمور المشروعة، بل هو إن اتخذه الإنسان عبادة بدعة، لا يجوز للإنسان أن يعتقده عبادة، ولا أن يعمل به على أنه عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على فعل الخير، وأبلغ الناس في تبليغ الرسالة، وأعلم الناس بدين الله، لم يصعده ولم يأمر أحداً بصعوده، ولا أقر أحداً بصعوده فيما أعلم، وعلى هذا فإن صعود هذا الجبل ليس بمشروع، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف خلفه من الناحية الشرقية قال:(وقفت هاهنا، وعرفة كله موقف) وكأنه صلى الله عليه وسلم يشير بهذا إلى أن كل إنسان يقف في مكانه، ولا يزدحمون على هذا المكان الذي وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ لماذا سميت عرفة بهذا الاسم؟

قيل: لأن الناس يتعارفون فيها.

وقيل: لأن أمين الوحي جبريل طاف بإبراهيم عليه السلام وكان يريه المشاهد فيقول له "أَعَرَفْتَ؟ أَعَرَفْتَ؟ "، فيرد إبراهيم "عَرَفْتُ، عَرَفْتُ.

وقيل: لأن آدم وحواء عندما هبطا من الجنة التقيا فعرفها وعرفته في هذا المكان.

وقيل: لأنها مرتفعة على غيرها؛ والشيء المرتفع يسمى عُرْفاً، ومنه: أهل الأعراف، كما قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً)، ومنه: عُرْف الديك؛ لأنه مرتفع؛ وكل شيء مرتفع يسمى بهذا الاسم.

•‌

‌ ما بداية الوقوف بعرفة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن بداية الوقوف من زوال الشمس.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال.

القول الثاني: أن بداية الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة.

لحديث عروة بن المضرس قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني بجمْع - قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طي، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، قالوا: فقوله (أو نهاراً) يشمل ما قبل الزوال وما بعده.

والراجح قول الجمهور، والجواب عن حديث عروة بن مضرس بأن المراد بـ (بالنهار) فيه خصوص ما بعد الزوال، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه من بعده. (وستأتي المسألة).

•‌

‌ ما نهاية وقت الوقوف بعرفة؟

نهاية وقته: طلوع الفجر يوم النحر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك) رواه أبو داود.

قال جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع). [قاله في المغني]

ص: 382

•‌

‌ ما المستحب للحاج في يوم عرفة؟

يستحب للحاج أن يتفرغ للدعاء في يوم عرفة.

وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبل القبلة وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع اليدين، ولا يزال هكذا ذاكراً ملبياً داعياً راجياً من الله أن يجعله من عتقائه الذين يباهي بهم الملائكة كما في الحديث:(ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: (ماذا أرادوا هؤلاء).

• قال شيخ الإسلام: لم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء خاصاً ولا ذكراً خاصاً، بل يدعو بما شاء من الأدعية.

•‌

‌ إلى متى يجب البقاء في عرفة؟

يجب البقاء بعرفة إلى غروب الشمس، ثم الدفع بعد الغروب.

أ-لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

قال جابر (

فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ اَلشَّمْسُ

).

ب- ولأن الدفع قبل الغروب من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمخالفتها.

•‌

‌ اذكر بعض الأخطاء التي يرتكبها الحجاج في عرفة؟

الأول: أن الحجاج يمرون بك ولا تسمعهم يلبون، فلا يجهرون بالتلبية في مسيرهم من منى إلى عرفة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في يوم العيد.

الثاني: ومن الأخطاء العظيمة الخطيرة أن بعض الحجاج ينزلون خارج عرفة، ويبقون في منزلهم حتى تغرب الشمس، ثم ينطلقون منه إلى مزدلفة، وهؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف ليس لهم حج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة " رواه الترمذي (889) وصححه الألباني في إرواء الغليل (1064). فمن لم يقف في عرفة في المكان الذي هو منها، وفي الزمان الذي عين للوقوف بها فإن حجه لا يصح للحديث الذي أشرنا إليه، وهذا أمر خطير.

الثالث: أن بعض الناس إذا اشتغلوا بالدعاء في آخر النهار، تجدهم يتجهون إلى الجبل الذي وقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن القبلة تكون خلف ظهورهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم، وهذا أيضًا جهل وخطأ؛ فإن المشروع في الدعاء يوم عرفة أن يكون الإنسان مستقبل القبلة، سواء كان الجبل أمامه أو خلفه، أو عن يمينه أو عن شماله، وإنما استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الجبل؛ لأن موقفه كان خلف الجبل، فكان صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، وإذا كان الجبل بينه وبين القبلة فبالضرورة سيكون مستقبلاً له.

الرابع: أن بعضهم يظن أنه لا بد أن يذهب الإنسان إلى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عند الجبل ليقف هناك، فتجدهم يتجشَّمون المصاعب، ويركبون المشاق، حتى يصلوا إلى ذلك المكان، وربما يكونون مشاة جاهلين بالطرق فيعطشون ويجوعون إذا لم يجدوا ماءً وطعاماً، ويضلُّون في الأرض، ويحصل عليهم ضرر عظيم بسبب هذا الظن الخاطئ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) وكأنه صلى الله عليه وسلم يشير إلى أنه: ينبغي للإنسان ألا يتكلف ليقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم، بل يفعل ما تيسر له، فإن عرفة كلها موقف.

ص: 383

الخامس: أن بعض الناس يعتقدون أن الأشجار في عرفة كالأشجار في منى ومزدلفة، أي: لا يجوز للإنسان أن يقطع منها ورقة أو غصناً أو ما أشبه ذلك؛ لأنهم يظنون أن قطع الشجر له تعلق بالإحرام كالصيد، وهذا ظن خاطئ، فإن قطع الشجر لا علاقة له بالإحرام، وإنما علاقته بالمكان، فما كان داخل حدود الحرم - أي: داخل الأميال - من الأشجار فهو محترم، لا يعضد ولا يقطع منه ورق ولا أغصان، وما كان خارجًا عن حدود الحرم فإنه لا بأس بقطعه ولو كان الإنسان محرماً، وعلى هذا فقطع الأشجار في عرفة لا بأس به

، (وأما الأشجار التي غرسها الناس فلا يشملها تحريم قطع الشجرة من أجل الحرم، ولكنها قد يحرم قطعها بسبب آخر وهو الاعتداء على حق من غرسها، وعلى حق الحجاج أيضاً إذا كانت إنما غرست من أجل أن تلطف الجو ويستظل بها الناس من حر الشمس.

وعلى هذا فالأشجار المغروسة بعرفة لا يجوز قطعها لا من أجل الحرم وإنما لأن قطعها اعتداء على حق المسلمين عموماً).

السادس: أن بعض الحجاج يعتقدون أن للجبل الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم قدسية خاصة، ولهذا يذهبون إليه، ويصعدونه، ويتبركون بأحجاره وترابه، ويعلقون على أشجاره قصاصات الخرق، وغير ذلك مما هو معروف، وهذا من البدع، فإنه لا يشرع صعود الجبل ولا الصلاة فيه.

السابع: أن بعض الناس يظن أنه لا بد أن يصلي الإنسان الظهر والعصر مع الإمام في المسجد، ولهذا تجدهم يذهبون إلى ذلك المكان من أماكن بعيدة ليكونوا مع الإمام في المسجد، فيحصل عليهم من المشقة والأذى والتيه ما يجعل الحج في حقهم حرجاً وضيقاً، ويضيق بعضهم على بعض، ويؤذي بعضهم بعضاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الوقوف:" وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف "، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا:" جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ". فإذا صلى الإنسان في خيمته صلاة يطمئن فيها بدون أذى عليه ولا منه، وبدون مشقة تلحق الحج بالأمور المحرجة، فإن ذلك خير وأولى.

الثامن: أن بعضهم يخرج من عرفة قبل أن تغرب الشمس، فيدفع منها إلى المزدلفة، وهذا خطأ عظيم، وفيه مشابهة للمشركين الذين كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ومخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يدفع من عرفة إلا بعد أن غابت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه. (الإسلام سؤال وجواب).

•‌

‌ ما كيفية الدفع إلى مزدلفة؟

يستحب أن يكون الدفع بسكينة وهدوء.

لقول جابر (حَتَّى غَابَ القُرْصُ وَأَرْدًفَ أُسَامَةُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ اَلزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اَلْيُمْنَى: (أَيُّهَا اَلنَّاسُ، اَلسَّكِينَةَ، اَلسَّكِينَةَ) كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ اَلْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ).

[شنق للقصواء الزمام] هو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير. [مَورِك رحله] هو الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله إذا مل من الركوب.

[كلما أتى حبلاً] هو التل اللطيف من الرمل الضخم، والمعنى إذا أتى حبلاً من حبال الرمل أرخى لناقته قليلاً من أجل أن تصعد [المزدلفة] وتسمى جمعاً.

•‌

‌ ما سبب تسمية مزدلفة في ذلك؟

قيل: لأنهم يقربون فيها من منى، والازدلاف القرب.

وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها، والاجتماع الازدلاف.

وقيل: لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى؛ أي يتقربون بالوقوف، ويقال للمزدلفة: جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب، وهذا قول قتادة، وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها.

ص: 384

•‌

‌ ما كيفية الصلاة إذا وصل إلى مزدلفة؟

يسن أن يجمع بين المغرب والعشاء إذا وصل إلى مزدلفة، وأن يصليهما بأذان واحد وإقامتين، وأيضاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة.

• أنه لا يصلي بينهما نافلة.

•‌

‌ ما الحكم لو صلى في الطريق؟

لو صلى في الطريق أجزأه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

وذهب ابن حزم إلى أنه لو صلى في الطريق لم يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد (الصلاة أمامك)، لكن هذا قول ضعيف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة (الصلاة أمامك) لأنه لو وقف ليصلي وقف الناس، ولو أوقفهم في هذا المكان لكان في ذلك مشقة عليهم.

•‌

‌ متى يجب أن يصلي في الطريق؟

يجب أن يصلي في الطريق إذا خشي خروج وقت العشاء بمنتصف الليل.

• ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، لحديث أسامة بن زيد قال (دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ، فقلت له الصلاة يا رسول الله؟ قال: الصلاة أمامك) متفق عليه، فهل يسن للإنسان أن ينزل في أثناء الطريق وفي المكان الذي نزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان سار معه ويبول ويتوضأ وضوءاً خفيفاً؟

الجواب: لا يسن هذا، لأن هذا وقع اتفاقاً، بمقتضى الطبيعة حيث احتاج أن يبول فنزل فبال.

•‌

‌ ما الحكم إذا وصل مزدلفة في وقت المغرب؟

قيل: يؤخر الصلاة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: يقدم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حين وصل إلى مزدلفة صلى.

قال الشيخ ابن عثيمين: قد يقال: روى البخاري عن ابن مسعود أنه قدم مزدلفة العشاء أو قريباً من العشاء، فأذّن وصلى المغرب، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أذن فصلى العشاء، وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى أن لا يجمع، وبناء على هذا نقول: من وصل مبكراً فليصل ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء، فإن قال الحاج: الراحة لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حين أن أصِل وأصلي معها العشاء وأستريح، نقول: ذلك جائز ولا بأس به.

• ماذا نستفيد من قول جابر (ثُمَّ اِضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ اَلْفَجْرُ)؟

نستفيد: أنه يسن أن ينام حتى يصبح.

•‌

‌ هل يصلي الوتر أم لا؟

يستثنى الوتر فإنه يصليه ولا يتركه لأسباب:

أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه لا سفراً ولا حضراً، حتى كان صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته في السفر.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمراً عاماً بدون استثناء.

ثالثاً: أن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فإما أن يكون جابر سكت عن ذكره لأنه لا يدري، ولهذا لم ينف الوتر كما نفى التنفل في قوله [ولم يسبح بينهما].

رابعاً: أن يكون ترك ذكره للعلم به، ولأنه ليس من المناسك، والحديث في سياق المناسك.

ص: 385

•‌

‌ هل يشرع قيام الليل؟

قال بعض العلماء يشرع قيام الليل، لأنه قد ثبت عن أسماء، فقد ثبت عنها (أنها نزلت ليلة جمع بالمزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: ارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة

) متفق عليه.

•‌

‌ هل يجوز أن يدفع من مزدلفة قبل الفجر؟

قال بعض العلماء يجوز بعد منتصف الليل للضعفة من النساء والصبيان والكبار والعاجزين والمرضى.

وقال بعض العلماء: إن المعتبر غروب القمر، ولذلك كان من فقه أسماء أنها تنتظر حتى إذا غاب القمر دفعت، وغروب القمر يكون بعد مضي ثلثي الليل تقريباً.

لحديث عائشة قالت (كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمْع بليل فأذن لها) متفق عليه.

وعن ابن عباس قال (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) متفق عليه.

•‌

‌ ما حكم الدفع من مزدلفة لغير الضعفاء والعاجزين؟

غير الضعفاء والعاجزين فالجمهور على أنه يجوز أن يدفع آخر الليل، وقال بعض العلماء لا يجوز ورجحه بعض المحققين، لكن الصحيح الجواز، والأحوط البقاء حتى صلاة الصبح.

•‌

‌ ما حكم المبيت بمزدلفة؟

المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، إذا تركه عمداً فحجه صحيح مع الإثم وعليه دم. (وستأتي المسألة إن شاء الله).

•‌

‌ ما السنة في صلاة الفجر في مزدلفة.

السنة في صلاة الفجر في مزدلفة المبادرة بها في أول وقتها، مبادرة تكون غير معتادة، ولعل هذه المبادرة ليتسع وقت الذكر والدعاء بعد الصلاة.

لقول جابر ( .... فصلى الفجرَ حين تبين له الصبح).

قال النووي: السُّنَّة أَنْ يُبَالِغ بِتَقْدِيمِ صَلَاة الصُّبْح فِي هَذَا الْمَوْضِع وَيَتَأَكَّد التَّبْكِير بِهَا فِي هَذَا الْيَوْم أَكْثَر مِنْ تَأَكُّده فِي سَائِر السَّنَة لِلِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ وَظَائِف هَذَا الْيَوْم كَثِيرَة فَسُنَّ الْمُبَالَغَة بِالتَّبْكِيرِ بِالصُّبْحِ لِيَتَّسِع الْوَقْت لِلْوَظَائِف.

•‌

‌ ما السنة للحاج في مزدلفة بعد صلاة الصبح؟

السنة للحاج في مزدلفة بعد صلاة الصبح أن يأتي المشعر الحرام فيرقي عليه ويستقبل القبلة ويذكر الله ويهلله ويدعو كما قال تعالى (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقوله صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وجمع كل موقف) رواه مسلم.

• على الحاج أن يحذر من تضييع هذه الدقائق الغالية.

يبقى للدعاء والذكر حتى يسفر جداً.

[المشعر الحرام] هو جبل صغير بمزدلفة والآن المسجد المبني في مزدلفة على المشعر الحرام.

ص: 386

•‌

‌ متى يكون الدفع من مزدلفة إلى منى؟

يسن للحاج أن يدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس من يوم العيد.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس.

قال ابن القيم: أجمع المسلمون على أن الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة.

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لأهل الجاهلية.

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ (إِنَّ اَلْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

[لا يفيضون] أي من جمع كما جاء في رواية [أشرق] أي من الإشراق، أي أدخل في الشروق، والمعنى: لتطلع عليه الشمس، [ثبير] جبل معروف هناك، وهو على يسار الذاهب إلى منى، وهو أعظم جبال مكة، [ثم أفاض] أي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء في رواية أبي داود الطيالسي: (فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض) وفي حديث جابر عند مسلم: (

فدفع قبل أن تطلع الشمس).

• ففي هذا الحديث أن السنة في الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس.

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة المشركين، فإنهم كانوا يبقون في مزدلفة صبح يوم النحر حتى تشرق الشمس، ثم يفيضون إلى منى، ففي هذا الحديث تأكد الإفاضة من مزدلفة وقت الإسفار قبل طلوع الشمس.

• أن من تأخر عامداً فقد أساء وخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من تعذر عليه ذلك بعد أن أخذ في الإفاضة ولكن عاقه المسير لشدة زحام، أو خلل في مركوبه، أو نحو ذلك فهو معذور.

•‌

‌ ما الحكمة من إسراع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى على وادي محسر؟

(وادي محسر هو وادٍ بين مزدلفة ومنى لا من هذه ولا من هذه).

اختلف العلماء لماذا أسرع في وادي محسر:

قيل: هذا أمر تعبدي.

وقيل: لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل فينبغي للإنسان أن يسرع إذا مرّ بأراضي العذاب.

وهذا تعليل عليل لأمرين:

أ- لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا، بل في مكان يقال له [المُغَمّس] حول الأبطح.

ب- أنه لا يشرع الإسراع للذاهب، ولا يشرع الإسراع لغير القادم من مزدلفة، فلو كان على ما ذكروا لشرع الإسراع لكل من مرّ به، وهم لا يقولون بهذا.

وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم، كما خالفهم في الخروج من عرفة، وفي الإفاضة من مزدلفة. والله أعلم.

ص: 387

•‌

‌ اذكر ترتيب أعمال يوم العيد؟

السنة في أعمال يوم العيد تكون كالتالي:

أولاً: رمي جمرة العقبة.

قال جابر (ثُمَّ سَلَكَ اَلطَّرِيقَ اَلْوُسْطَى اَلَّتِي تَخْرُجُ عَلَى اَلْجَمْرَةِ اَلْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى اَلْجَمْرَةَ اَلَّتِي عِنْدَ اَلشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَ).

فيه أن السنة للحاج إذا وصل إلى منى أن يبدأ برمي جمرة العقبة، وقد سماها جابر الكبرى، وسماها بذلك باعتبار ما قبلها من الجمرتين الصغرى والوسطى، ولأنها تنفرد بالرمي يوم العيد.

ثانياً: النحر.

لقول جابر (ثُمَّ اِنْصَرَفَ إِلَى اَلْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ).

ثالثاً: الحلق أو التقصير.

عن أنس. قال (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر) رواه مسلم.

وجاء عند أحمد من حديث جابر (

نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق).

رابعاً: طواف الإفاضة، وهو ركن بالإجماع.

خامساً: السعي للمتمتع.

• أعمال يوم العيد الأفضل ترتيبها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم:

رمي، ثم نحر، ثم حلق، ثم طواف، ثم سعي، فإن أخل بترتيبها ولو متعمداً فلا شيء عليه، وهذا قول جمهور العلماء.

لحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: " اِذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " اِرْمِ وَلَا حَرَجَ " فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: " اِفْعَلْ وَلَا حَرَجَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: لو قدم السعي على الطواف في يوم النحر جاز، خلافاً لأكثر أهل العلم.

•‌

‌ ما الجمرة التي ترمى يوم العيد؟

جمرة العقبة لا غير، وترمى بسبع حصيات.

•‌

‌ ما المقصود من رمي الجمار؟

أ-عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون) رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح على شرطهما.

ص: 388

وقد ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان أن حكمة الرمي معقولة المعنى وذكر هذا الحديث وقال: وعلى هذا الذي ذكره البيهقي فَذِكْرُ الله الذي شرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ورميه وعدم الانقياد إليه.

ب- وكذلك إقامة ذكر الله، والاقتداء برسول الله، وتحقيق التذلل.

•‌

‌ متى وقت رمي جمرة العقبة؟

يوم النحر بعد طلوع الشمس، وهذا هو الأفضل.

ففي حديث جابر قال (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) رواه مسلم، وأما أهل الأعذار إذا وصلوا في آخر الليل ووصلوا إلى منى فإنهم يرمون، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي وإلا لما استفاد شيئاً.

• وتكون الحصى بمثل حصى الخذف - وهي بالخاء المعجمة - وقدر حصى الخذف أكبر من حبة الحمص قليلاً، فلا يجوز أن يرمي بالحجر الكبير فيؤذي المسلمين، ولا بالصغير الذي لا يمكن رميه.

•‌

‌ ما السنة أن يفعل مع الرمي؟

السنة أن يكبر مع كل حصاة.

لحديث جابر هذا.

ب- وَلحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي اَلْجَمْرَةَ اَلدُّنْيَا، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ

هكذا رأيت رسول الله يفعله) متفق عليه.

•‌

‌ ما الحكم لو رمى السبع جميعاً مرة واحدة؟

يكون الرمي بحصى متعاقبات، فلو رمى السبع جميعاً مرة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة.

•‌

‌ ما الحكم لو وضع الحصى وضعاً؟

لو وضع الحصى وضعاً لم يجزئه، لأن قوله (رمى) يدل على أنه لا بد من الرمي.

• لم يذكر جابر من أين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حصى جمرة العقبة، وهذا يدل على أنه ليس لذلك مكان معين، بعضهم قال أن النبي صلى الله عليه وسلم التقطها من منى، وبعضهم قال إنه التقطها من موقفه الذي رمى فيه، وبعضهم قال إنه التقطها من طريقه لحديث الفضل وفيه (حتى إذا دخل محسراً وهو من منى، قال: عليكم بحصى

الخذف

) وبهذا جزم ابن القيم، والمقصود أنه ليس للحصى مكان معين، وأما ما يعتقده بعض العوام أن المستحب أن يُلتقط الحصى من مزدلفة فهذا لا أصل له فضلاً على أن يكون واجباً.

•‌

‌ ما حكم غسل الحصى؟

بدعة كما قال ابن تيمية.

ص: 389

•‌

‌ متى يقطع الحاج التلبية؟

يقطع الحاج التلبية عند رمي جمرة العقبة وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث ابن عباس وأسامة قالا (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) رواه البخاري.

•‌

‌ ما الحكمة من عدم الوقوف بعد جمرة العقبة للدعاء؟

وقد علل بعض العلماء السبب بعدة علل:

قيل: لضيق المكان.

وقيل: لأنها انتهت العبادة.

وقيل: لأنها ليست من منى.

قال ابن القيم: فَقِيلَ لِضِيقِ الْمَكَانِ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ وَهُوَ أَصَحّ: إنّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَرَغَ الرّمْيُ وَالدّعَاءُ فِي صُلْبِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، وَهَذَا كَمَا كَانَتْ سُنّتُهُ فِي دُعَائِهِ فِي الصّلَاةِ إذْ كَانَ يَدْعُو فِي صُلْبِهَا، فَأَمّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمْ يَثْبُت عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَعْتَادُ الدّعَاءَ وَمَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَإِنْ رُوِيَ فِي غَيْرِ الصّحِيحِ أَنّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَدْعُو بِدُعَاءٍ عَارِضٍ بَعْدَ السّلَامِ وَفِي صِحّتِهِ نَظَرٌ، ولا رِيبَ أَنّ عَامّةَ أَدْعِيَتِهِ الّتِي كَانَ يَدْعُو بِهَا، وَعَلّمَهَا الصّدّيقَ إنّمَا هِيَ فِي صُلْبِ الصّلَاةِ وَأَمّا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: لَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ: اللّهُمّ أَعِنّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِك، وَحُسْنِ عِبَادَتِك فَدُبُرُ الصّلَاةِ يُرَادُ بِهِ آخِرُهَا قَبْلَ السّلَامِ مِنْهَا، كَدُبُرِ الْحَيَوَانِ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ السّلَامِ كَقَوْلِهِ تُسَبّحُونَ اللّهَ وَتُكَبّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ الْحَدِيثُ.

• فيه دليل على أنه يسن للحاج بعد الرمي أن ينحر هديه.

•‌

‌ ما حكم الهدي على المتمتع والقارن؟

يجب الهدي على المتمتع والقارن.

أما المتمتع بنص القرآن قال تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)، وأما القارن فوجوب الهدي عليه هو مذهب جمهور العلماء، قياساً على المتمتع.

• ودم التمتع والقران دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد ودم واحد. ولهذا كان دم المتعة والقران مما يؤكل منه ويهدى ويتصدق - فليس هو دم جبران -، وأما دم المحظور لا يؤكل منه ولا يهدى، فهو يصرف على الفقراء.

•‌

‌ ما الحكم إن عدم الهدي؟

إن عدم الهدي فقد قال تعالى (فإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

فعليه - كما أخبر الله - صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم.

ص: 390

• ومعنى لا يجد الهدي: أن لا يوجد هدي في الأسواق، أو أن يوجد بهيمة أنعام لكنه لا يملك الثمن.

• بالنسبة لصيام الثلاثة أيام في الحج، متى يصومها؟ الصحيح أن يبدأ من حين إحرامه بالعمرة، ويكون آخرها آخر أيام التشريق، والأفضل أن تصام أيام التشريق [11، 12، 13] لقول عائشة وابن عمر قالا (لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري، فظاهر هذا النص أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج، لأن أيام التشريق أيام حج.

• لكن هل يلزم التتابع؟ إن ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق لزم التتابع، لأنه لا يجوز أن تؤخر عن أيام التشريق، وأما إذا صامها قبل أيام التشريق فيجوز أن يصومها متفرقة.

•‌

‌ ما حكم طواف الإفاضة؟

ركن من أركان الحج بالإجماع.

قال تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

• السنة أن يكون هذا الطواف يوم العيد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

• أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر؟

حديث جابر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة.

قال جابر (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى اَلْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ اَلظُّهْرَ).

[فأفاض] أي: طاف طواف الإفاضة.

وجاء في الصحيحين عن ابن عمر (أنه صلاها بمنى).

عن نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، قَالَ نَافِعٌ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ) متفق عليه.

والجمع: أن يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصلّ، فصلى بهم إماماً، فتكون صلاته في منى معادة، كما وقع له في بعض حروبه.

قال النووي: وَوَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْل الزَّوَال، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْر بِمَكَّة فِي أَوَّل وَقْتهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْر مَرَّة أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِين سَأَلُوهُ ذَلِكَ، فَيَكُون مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَة الَّتِي بِمِنًى، وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صَلَاته صلى الله عليه وسلم بِبَطْنِ نَخْل أَحَد أَنْوَاع صَلَاة الْخَوْف فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابه الصَّلَاة بِكَمَالِهَا وَسَلَّمَ بِهِمْ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى تِلْكَ الصَّلَاة مَرَّة أُخْرَى، فَكَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ، وَلَهُمْ صَلَاة.

وقال الشوكاني: ويمكن الجمع بأن يقال إنه صلى بمكة ثم رجع إلى منى فوجد أصحابه يصلون الظهر فدخل معهم متنقلاً لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك لمن وجد جماعة يصلون وقد صلى.

وقال الشنقيطي: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، كَمَا قَالَ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِطَائِفَةٍ، وَمَرَّةً بِطَائِفَةٍ أُخْرَى فِي بَطْنِ نَخْلٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ سَابِقًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَرَأَى جَابِرٌ وَعَائِشَةُ صَلَاتَهُ فِي مَكَّةَ فَأَخْبَرَا بِمَا رَأَيَا وَقَدْ صَدَقَا. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ صَلَاتَهُ بِهِمْ فِي مِنًى فَأَخْبَرَ بِمَا رَأَى، وَقَدْ صَدَقَ وَهَذَا وَاضِحٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِد.

ص: 391

745 -

وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اَللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ اَلنَّارِ) رَوَاهُ اَلشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف، لأن فيه راوي اسمه صالح بن محمد قال عنه البخاري: منكر الحديث.

•‌

‌ هل يشرع هذا العمل، وهو سؤال الله رضوانه والجنة والاستعاذة برحمته من النار بعد التلبية؟

بما أن الحديث ضعيف فإنه لا يجوز أن يعمل به، ولا يذكر إلا مقروناً ببيان ضعفه.

لأن الله نصرنا بالأحاديث الصحيحة.

وفي حديث جابر السابق لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار.

وعليه فلا يسن هذا الدعاء بعد التلبية.

ص: 392

746 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ) قال النووي: المراد بالرحال المنازل.

(وَوَقَفْتُ هَاهُنَا) يشير صلى الله عليه وسلم إلى مكان وقوفه.

•‌

‌ لماذا سميت منى بهذا الاسم؟

سميت بذلك لكثرة ما يمنى بهذا من الدماء.

•‌

‌ لماذا سميت مزدلفة جمْع؟

قال النووي: أما المزدلفة فمعروفة، سميت بذلك من التزلف والازدلاف، وهو التقرب، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها، أي مضوا إليها وتقربوا فيها.

وقيل: سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات.

وتسمى جمعاً لاجتماع الناس فيها.

•‌

‌ أي يكون النحر يوم العيد؟

يكون في منى، وفي قوله:(ومنى كلها منحر) أي فلا أفضلية لموضع دون موضع.

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم (وَمِنًى كُلّهَا مَنْحَر فَانْحَرُوا فِي رِحَالكُمْ) فَالْمُرَاد بِالرِّحَالِ الْمَنَازِل. قَالَ أَهْل اللُّغَة: رَحْل الرَّجُل مَنْزِله سَوَاء كَانَ مِنْ حَجَر أَوْ مَدَر أَوْ شَعْر أَوْ وَبَر،

وَمَعْنَى الْحَدِيث مِنًى كُلّهَا مَنْحَر يَجُوز النَّحْر فِيهَا فَلَا تَتَكَلَّفُوا النَّحْر فِي مَوْضِع نَحْرِي، بَلْ يَجُوز لَكُمْ النَّحْر فِي مَنَازِلكُمْ مِنْ مِنًى.

•‌

‌ هل يصح النحر في جميع الحرم أم فقط بمنى؟

ذهب جماهير العلماء إلى أن النحر يصح في جميع الحرم.

لقوله في رواية ابن ماجه (وكل فِجاج مكة طريق ومنحر) فليس النحر خاصاً بمنى، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر منى لأن الناس كانوا مجتمعين فيها يوم العيد. (كُلّ فِجَاج مَكَّةَ) بِكَسْرِ الْفَاء جَمْع فَجٍّ وَهُوَ الطَّرِيق الْوَاسِع.

•‌

‌ ما الحكم لو نحر هديه خارج الحرم؟

لو نحر خارج الحرم: فالجمهور على أنه لا يجزئ.

وذهب الإمام الطبري إلى الإجزاء.

وقول الجمهور أصح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)؟

نستفيد: أن جميع ميدان عرفة موقف، ففي أي مكان وقف فيها ودعا أجزأ ذلك.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- سماحة الشريعة، حيث لم يشق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته فيلزمهم بموقف معين.

قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ بَيَان رِفْق النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِأُمَّتِهِ وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ فِي تَنْبِيههمْ عَلَى مَصَالِح دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ لَهُمْ الْأَكْمَل وَالْجَائِز، فَالْأَكْمَل مَوْضِع نَحْره وَوُقُوفه، وَالْجَائِز كُلّ جُزْء مِنْ أَجْزَاء الْمَنْحَر، وَجُزْء مِنْ أَجْزَاء عَرَفَات.

- أن جمعاً (مزدلفة) كلها موقف، ففي أي مكان من مزدلفة وقف الحاج أجزأ ذلك (والمراد بالوقوف هنا المكث والإقامة).

ص: 393

747 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا) وفي في الرواية الثانية (من كَدَاء) بفتح الكاف والمد.

(وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) وفي الرواية الثانية (من كُدًى) بضم الكاف والقصر كهُدَى.

وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى).

•‌

‌ هل يسن دخول مكة من أعلاها والخروج من أسفلها؟

ذهب بعض العلماء إلى استحباب دخول مكة من أعلاها، والخروج من أسفلها.

قال النووي: وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ دُخُول مَكَّة مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَالْخُرُوج مِنْهَا مِنْ السُّفْلَى لِهَذَا الْحَدِيث، وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ تَكُون هَذِهِ الثَّنِيَّة عَلَى طَرِيقه كَالْمَدَنِيِّ وَالشَّامِيّ أَوْ لَا تَكُون كَالْيَمَنِيِّ، فَيُسْتَحَبّ لِلْيَمَنِيِّ وَغَيْره أَنْ يَسْتَدِير وَيَدْخُل مَكَّة مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى طَرِيقه، وَلَا يُسْتَحَبّ لِمَنْ لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقه كَالْيَمَنِيِّ، وَهَذَا ضَعِيف وَالصَّوَاب الْأَوَّل.

وقال بعض العلماء إن هذا لا يسن، لأن هذا الفعل لم يقع قسطاً، وإنما وقع من غير قصد.

والصحيح الأول لمن قدر وسهل عليه، لأن في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التأسي.

•‌

‌ ما الحكمة في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه ودخوله؟

قال في فتح الباري: اختلف في المعنى الذي من أجله خالف النبي صلى الله عليه وسلم بين الطريقين:

فقيل: ليتبرك به كل من في طريقه.

وقيل: لمناسبة العلو عند الدخول، لما فيه من تعظيم المكان.

وقيل: لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت.

وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها مختفياً في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظافراً غالباً.

ص: 394

748 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوَى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوَى) قال النووي: هو موضع معروف بقرب مكة.

(حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ) ولمسلم (ثم يدخل مكة نهاراً).

•‌

‌ ما حكم الاغتسال عند دخول مكة؟

مستحب.

قال في فتح الباري: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث ابن عمر قال (اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة بفخ) رواه الترمذي، وفيه ضعف.

ج-وقد جاء عند الحاكم عن ابن عمر قال: (من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخول مكة).

د- أن مكة مجمع أهل النسك، فإذا قصدها استحب له الاغتسال، كالخارج إلى الجمعة.

•‌

‌ هل الاغتسال مستحب للمحرم فقط أو حتى للحلال إذا أراد دخول مكة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يسن لغير المحرم.

وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وظاهر كلام الحنابلة.

وقد جاء عند الحاكم عن ابن عمر قال (من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخول مكة).

القول الثاني: أنه لا يسن.

وهو قول لبعض العلماء.

والراجح الأول.

•‌

‌ ما الأفضل لدخول مكة نهاراً أم ليلاً؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: النهار أفضل.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

لحديث الباب.

وجه الدلالة: كون النبي صلى الله عليه وسلم يبيت بذي طوى ويؤخر الدخول إلى النهار، دليل على أن الدخول نهاراً أفضل، وقد كان هذا في حجة الوداع، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم).

ب- أن الدخول نهاراً أعون للداخل، وأرفق به، وأقرب إلى مراعاة الأمور المشروعة له على أكمل وجوهها، وأسلم له من التأذي والإيذاء.

ص: 395

قال النووي: وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب دُخُول مَكَّة نَهَارًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ أَنَّ دُخُولهَا نَهَارًا أَفْضَل مِنْ اللَّيْل، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف: اللَّيْل وَالنَّهَار فِي ذَلِكَ سَوَاء، وَلَا فَضِيلَة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَهَا مُحْرِمًا بِعُمْرَةِ الْجِعِرَّانَة لَيْلًا، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ حَمَلَهُ عَلَى بَيَان الْجَوَاز.

القول الثاني: أن الدخول ليلاً ونهاراً سواء.

وهو قول لبعض الشافعية وبعض العلماء.

لحديث محرش الكعبي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة، ودخل مكة ليلاً، فقضى أمر العمرة، ثم رجع ليلاً). رواه أحمد

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- قال ابن حجر: أما تخصيص الاغتسال من هذه البئر، والبيات في هذا المكان، فلعله راجع إلى أن ذلك واقع في طريقه فلا تتقيد الأفضلية في ذلك.

- قال بعض العلماء: الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرماً، وإنما هو لحرمة مكة.

ص: 396

749 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ اَلْحَجَرَ اَلْأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ) رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث ابن عباس مرفوعاً لا يصح، وهو مضطرب، وهو لا يصح.

ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في السجود على الحجر الأسود.

وأما الخبر المشهور (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود وجعل يبكي، فالتفت إلى عمر فإذا هو يبكي، فقال: يا عمر، هنا تسكب العبرات). فهو لا يصح، رواه ابن ماجه وغيره.

وأما الموقوف على ابن عباس، فهو محفوظ.

•‌

‌ ما حكم السجود على الحجر الأسود؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه سنة.

وبه قال الجمهور.

وممن نسبه إليهم الإمام النووي في شرحه على مسلم فقال: وَكَذَا يُسْتَحَبّ السُّجُود عَلَى الْحَجَر أَيْضًا بِأَنْ يَضَع جَبْهَته عَلَيْهِ، فَيُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَلِمهُ ثُمَّ يُقَبِّلهُ، ثُمَّ يَضَع جَبْهَته عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس وَطَاوُسٍ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد، قَالَ: وَبِهِ أَقُول.

القول الثاني: أنه بدعة.

روي هذا عن مالك.

لعدم وروده.

والأول أصح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية تقبيل الحجر الأسود.

ص: 397

750 -

وَعَنْهُ قَال (أَمَرَهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، مَا بَيْنَ اَلرُّكْنَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ).

وهنتهم: أضعفتهم. حمى يثرب: هو اسم المدينة في الجاهلية، وسميت في الإسلام: المدينة، وطيبة، وطابة.

•‌

‌ عرف الرمل؟

قال النووي: قال العلماء: الرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطا.

• متى يكون الرمل؟

يكون في طواف القدوم.

وذكر ابن قدامة في (المغني) استحباب الرمل والاضطباع في طواف العمرة وفي طواف القدوم ثم قال: وَلا يُسَنُّ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي طَوَافٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ; لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا رَمَلُوا وَاضْطَبَعُوا فِي ذَلِك.

•‌

‌ ما حكمه؟

سنة.

أ-لحديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم وفيه (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً).

ب- ولحديث الباب.

•‌

‌ وفي أي الأشواط يستحب؟

يستحب في الأشواط الثلاثة الأول، والمشي في الأربعة الباقية.

قال في المغني: وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل ثلاثاً ومشى أربعاً.

وقال النووي: لَكِنْ يَفْتَرِقُ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الاضْطِبَاعَ مَسْنُونٌ فِي جَمِيعِ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ، وَأَمَّا الرَّمَلُ إنَّمَا يُسَنُّ فِي الثَّلَاثِ الأُوَلِ وَيَمْشِي فِي الأَرْبَعِ الأَوَاخِرِ.

•‌

‌ ما الحكمة منه؟

إظهار القوة والجلد للمشركين.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) متفق عليه.

ص: 398

• فإن قيل:‌

‌ ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها؟

الجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف.

ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة.

•‌

‌ من أين يكون الرمل وإلى أين؟

الرمل يكون من الحجر إلى الحجر.

لحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحَجَر إلى الحجر).

وهذا يقدم على حديث ابن عباس، لأن:

حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع، وأما حديث ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر) كان في حجة الوداع، فيكون هذا ناسخاً للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس، لأنه متأخر عنه.

قال النووي في شرح حديث ابن عمر (رمل من الحجَر إلى الحجر): فيه بيان أن الرَّمَل يُشرع في جميع المطاف من الْحَجَر إلى الْحَجَر، وأما حديث ابن عباس

قال: وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يَرْمُلوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الرَّكنين، فمنسوخ بالحديث الأول؛ لأن حديث ابن عباس كان في عُمرة القضاء سنة سبع، قبل فتح مكة، وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم، وإنما رَملوا إظهاراً للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الرَّكُنين اليمانيين؛ لأن المشركين كانوا جلوساً في الْحِجْر، وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سَنة عَشر رَمَل مِنْ الْحَجَر إلى الْحَجَر، فوجب الأخذ بهذا المتأخر.

وقال ابن تيمية بعد ذكر حديث ابن عباس: وكان هذا في عمرة القضية، ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عمرة الجعرانة ومكة دار إسلام، ثم حج حجة الوداع وقد نفى الله الشرك وأهله ورمل من الحَجَر إلى الحجر.

•‌

‌ من الذين لا يشرع لهم الرمل؟

‌أولاً: أهل مكة.

قال ابن عبد البر: واختلفوا في أهل مكة إذا حَجوا هل عليهم رَمَل أم لا؟ فكان ابن عمر لا يرى عليهم رَملاً إذا طافوا بالبيت.

وقال ابن قدامة: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَرْمُلْ.

والسبب أنه ليس لهم طواف قُدُوم؛ لأنهم مِنْ حاضري المسجد الحرام.

‌الثاني: النساء فلا يشرع لهن الرمل.

قال النووي: اتفق العلماء على أن الرَّمَل لا يُشرع للنساء، كما لا يُشرع لهن شِدّة السعي بين الصفا والمروة. ولو ترك الرَّجُل الرَّمَل حيث شُرع له فهو تارك سُنة، ولا شيء عليه.

ص: 399

•‌

‌ إذا لم يرمل في الأشواط الثلاثة الأول فهل يشرع له قضاء في الأربعة الباقية؟

لا يشرع قضاؤه، لأنه سنة فات محلها.

قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: فَلَوْ أَخَلَّ بِالرَّمَلِ فِي الثَّلَاث الْأُوَل مِنْ السَّبْع لَمْ يَأْتِ بِهِ مِنْ الْأَرْبَع الْأَوَاخِر؛ لِأَنَّ السُّنَّة فِي الْأَرْبَع الْأَخِيرَة الْمَشْي عَلَى الْعَادَة فَلَا يُغَيِّرهُ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنهُ الرَّمَل لِلزَّحْمَةِ أَشَارَ فِي هَيْئَة مَشْيه إِلَى صِفَة الرَّمَل، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنهُ الرَّمَل بِقُرْبِ الْكَعْبَة لِلزَّحْمَةِ وَأَمْكَنَهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَبَاعَد وَيَرْمُل؛ لِأَنَّ فَضِيلَة الرَّمَل هَيْئَة لِلْعِبَادَةِ فِي نَفْسهَا، وَالْقُرْب مِنْ الْكَعْبَة هَيْئَة فِي مَوْضِع الْعِبَادَة لَا فِي نَفْسهَا، فَكَانَ تَقْدِيم مَا تَعَلَّقَ بِنَفْسِهَا أَوْلَى.

وقال ابن حجر: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- ليس الرمل هو هز الكتفين كما يفعله بعض الجهلة [قاله الشيخ ابن عثيمين].

- استحباب المشي في الأشواط الأربعة الباقية.

ص: 400

751 -

وَعَنْهُ قَالَ: (لَمْ أَرَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ اَلْبَيْتِ غَيْرَ اَلرُّكْنَيْنِ اَلْيَمَانِيَيْنِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

752 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَبَّلَ اَلْحَجَرَ [اَلْأَسْوَدَ] فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

753 -

وَعَنْ أَبِي اَلطُّفَيْلِ رضي الله عنه قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ اَلرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقْبِّلُ اَلْمِحْجَنَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(غَيْرَ اَلرُّكْنَيْنِ اَلْيَمَانِيَيْنِ) تثنية يماني، هو من باب التغليب، حيث يراد بها الركن اليماني، أي الموالي لجهة اليمن، والركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود.

قال النووي: واعلم أن للبيت أربعة أركان، الركن الأسود والركن اليماني ويقال لهما: اليمانيان، وأما الركنان الآخران فيقال لهما: الشاميان، فالركن الأسود فيه فضيلتان: إحداهما: كونه على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، وأما اليماني ففيه فضيلة واحدة: وهى كونه على قواعد إبراهيم.

وأما الركنان الآخران فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين؛ فلهذا خص الحجر الأسود بشيئين الاستلام والتقبيل للفضيلتين.

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذه الأحاديث؟

نستفيد: استحباب استلام وتقبيل الحجر الأسود.

•‌

‌ ما هي أحوال تقبيل واستلام الحجر الأسود؟

أ-أن يستلم الحجر ويقبله، وهذا أعلاها (والمسح يكون بيد اليمنى لأن اليد اليمنى تقدم للتعظيم).

عَنْ عُمَر (أَنَّهُ قَبَّلَ اَلْحَجَرَ اَلْأَسْوَدَ: فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [هذا من فقه عمر: أن تقبيل الحجر اتباعاً لله ولرسوله]

ب-إن لم يتمكن، استلمه بيده وقبل يده.

عن نافع قال: (رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله). متفق عليه

ج-أن يستلمه بشيء في يده، ويقبل ذلك الشيء.

لحديث عامر بن واثلة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الحجر بمحجن معه ويقبل المحجن). رواه مسلم

[المحجن] هو عصا محنية الرأس.

د-إن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك.

•‌

‌ ما الحكمة من تقيبل واستلام الحجر الأسود؟

الحكمة: تعظيماً لله تعالى واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم لا لكونه حجراً أو محبة له.

ولذلك قال عمر (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).

ص: 401

•‌

‌ ماذا يقول عند استلام الحجر؟

يسن أن يقول: الله أكبر.

لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر) رواه البخاري.

الإشارة تكون باليد اليمنى دون اليدين جميعاً.

•‌

‌ هل يشرع قول بسم الله؟

لم ينقل في ذكر صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (بسم الله).

لكن ثبت عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال: باسم الله والله أكبر، أخرجه البيهقي وغيره بإسناد صحيح، كما قال النووي والحافظ.

•‌

‌ هل في استلام الحجر فضل؟

نعم، في استلامه فضل عظيم؟

وقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مَسْحَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ يَحُطَّانِ الْخَطَايَا حَطًّاً) رواه أحمد عن ابن عمر.

وقال صلى الله عليه وسلم (والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق) رواه الترمذي عن ابن عباس.

•‌

‌ هل يشرع تقبيل الحجر الأسود واستلامه في غير نسك من حج أو عمرة؟

الجمهور على المنع.

قال الشيخ ابن عثيمين: الذي يظهر لي أن تقبيل الحجر الأسود من سنن الطواف وأن تقبيله بدون طواف ليس بمشروع.

•‌

‌ اذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها المعتمرون والحجاج عند استلام الحجر الأسود؟

1 -

الإشارة باليدين كهيئة التكبير للصلاة عند محاذاة الحجر الأسود، والصواب الإشارة باليد اليمنى فقط، ولا يشير بيديه.

2 -

الوقوف الطويل عند محاذاة الحجر الأسود، وهذا لا يجوز خاصة عند الزحام لما في ذلك من الضرر، والإيذاء للطائفين، وإعاقة سيرهم، والسنة في ذلك الإشارة إلى الحجر إذا حاذاه مع التكبير ولا يقف لأجل ذلك.

3 -

التكبير قبل محاذاة الحجر الأسود، أي: بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطاً غير صحيح، فالاحتياط الحقيقي النافع هو إتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله وهو أن الطواف يبتدئ بالحجر الأسود لا قبله.

4 -

تكرار التكبير عند محاذاة الحجر الأسود، فبعض الطائفين إذا حاذى الحجر الأسود وقف ثم بدأ يكبر عدة تكبيرات، وهذا خطأ، والصواب أن التكبير يكون مرة واحدة.

5 -

تقبيل اليد عند الإشارة إلى الحجر الأسود، وهذا خلاف السنة فالصواب أن التقبيل لليد لا يكون إلا إذا مست الحجر الأسود، أما إذا لم يستطع استلام الحجر، وأشار إليه بيده اليمنى فإنه لا يقبلها، هذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

6 -

بعض الحجاج والمعتمرين عندما يمسح الحجر الأسود أو الركن اليماني يمسحه بيده اليسرى كالمتهاون به، وهذا خطأ فإن اليد اليمنى أشرف من اليد اليسرى، واليد اليسرى لا تُقدَّم إلا للأذى، كالاستنجاء، والاستجمار، والامتخاط بها، وما أشبه ذلك، وأما مواضع التقبيل والاحترام، فإنه يكون لليد اليمين.

7 -

المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله، حتى إنه يؤدي أحياناً إلى المقاتلة والمشاتمة، فيحصل له بذلك الأقوال المنكرة مالا يليق بهذا المكان في المسجد الحرام قال تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَاب) وهذه المزاحمة تذهب الخشوع وتنسي ذكر الله، وهما من أعظم المقصود في الطواف.

ص: 402

9 -

اعتقادهم أن الحجر الأسود نافع بذاته؛ لذلك تجدهم عند استلامهم له يمسحون بأيديهم على بقية أجسادهم، وهذا جهل فالنافع الضار هو الله سبحانه وتعالى، وقد قال عمر رضي الله عنه عند استلام الحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).

[مقال في موقع الملتقى الفقهي].

•‌

‌ هل يستحب استلام الركن اليماني؟

نعم يستحب.

قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفقت الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين.

قال شيخ الإسلام: لا يستلم إلا الركنيين اليمانيين دون الشاميين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلم اليمانيين خاصة لأنها على قواعد إبراهيم.

قال في المغني: الركن اليماني قبلة أهل اليمن، ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه، وذلك أنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان، فيستلمه ويقبله، ثم يأخذ على يمين نفسه، ويجعل البيت على يساره، فإذا انتهى إلى الركن الثاني، وهو العراقي، لم يستلمه، وهذان الركنان يليان الحجر، فإذا وصل إلى الرابع وهو الركن اليماني، استلمه.

ثم قال رحمه الله: والصحيح أنه لا يقبله، وهو قول أكثر أهل العلم.

•‌

‌ ما الحكم إذا لم يتمكن من استلامه؟

إن لم يتمكن من استلام الركن اليماني، لم تشرع الإشارة إليه بيده.

• ماذا يقول عند استلام الركن اليماني؟

عند استلام الركن اليماني لا يقل شيئاً لا تكبير ولا غيره، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- إن مشروعية تقبيل الحجر الأسود مشروطة بعدم إيذاء الناس بالمزاحمة والمدافعة، فإنه في هذه الحالة ترك الاستلام أفضل.

- في آخر شوط عند الانتهاء لا يستلم ولا يقبل الحجر الأسود ولا يكبر لأنه انتهى طوافه.

- قال ابن تيمية: وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فالطواف بها واستلامها وتقبيلها من أعظم البدع المحرمة باتفاق الأئمة الأربعة.

الزحام على الحجر لا بأس ما لم يؤذ المسلمين، فقد أخرج عبد الرزاق عن أيوب عن نافع: أن ابن عمر كان يزاحم على الحجر حتى يرعف ثم يجيء فيغسله.

وإن آذى غيره فلا يجوز.

ص: 403

754 -

وَعَنْ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: (طَافَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث صححه الترمذي وصححه النووي.

وله شاهد عند أبي داود من حديث ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم).

•‌

‌ ما هو الاضطباع،

الاضطباع: هو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر فيكون العاتق الأيمن مكشوفاً.

• وفي أي طواف يكون؟

ويكون في طواف القدوم في كل الأشواط السبعة.

•‌

‌ ما دليل مشروعيته؟

حديث الباب (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر) رواه أبو داود.

وباستحبابه قال الجمهور.

•‌

‌ ما الحكمة منه؟

الحكمة منه أنه يعين على سرعة المشي.

•‌

‌ هل يسن الاضطباع في غير طواف القدوم؟

لا يسن الاضطباع في غير طواف القدوم، وما يفعله كثير من الحجيج حيث يضطبعون من حين الإحرام إلى أن يخلعوا فإنه خطأ ومخالف للسنة، ولهذا قال العلماء: يستحب له أن يزيل الاضطباع مباشرة قبل ركعتي الطواف.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز الإحرام بالأخضر وغيره من الألوان، لكن الأفضل البياض، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إن خير ثيابكم البياض).

- من ترك الاضطباع في كل الأشواط أو في بعضها فطوافه صحيح ولا شيء عليه؛ لأن الاضباع سنة مستحبة وليس بواجب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى:

وَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. اهـ. وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم، وذهب البعض إلى أن من ترك الاضطباع قضاه في طواف الإفاضة.

ص: 404

755 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ يُهِلُّ مِنَّا اَلْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ [مِنَّا] اَلْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب التلبية والتكبير يوم عرفة.

لقوله (كَانَ يُهِلُّ مِنَّا اَلْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ [مِنَّا] اَلْمُكَبِّرُ).

وفي الرواية الثانية (منا الملبي، ومنا المكبر) يعني أنهم يجمعون بين التلبية والتكبير، فمرة يلبي هؤلاء، ويكبر آخرون، ومرة بالعكس، فيصدُق في كل مرة أن البعض يكبر، والبعض يلبي.

والدليل على جواز ذلك: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم.

وأيضاً أخرج أحمد من حديث ابن مسعود قال (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بالتكبير).

فهذا نص صريح بأنه صلى الله عليه وسلم كان يلبي في غالب أحواله، ويكبر أحياناً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- الحديث يدل على مشروعية التلبية والتكبير في يوم عرفات.

- أن التكبير يقوم مقام التلبية في هذا اليوم، لأن المقصود هو تعظيم الله، وهذا يحصل بالتكبير أو التلبية.

- أن الصحابة كانوا لا يقرون منكراً، لأن أنساً احتج على جواز مشروعية التكبير والتلبية في هذا اليوم بأن الرجل كان يلبي وكان يهل ولا ينكر عليه.

- أن كل شيء فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة.

ص: 405

756 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلثَّقَلِ، أَوْ قَالَ فِي اَلضَّعَفَةِ مِنْ جَمْعٍ بليل).

757 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: - اِسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ اَلْمُزْدَلِفَةِ: أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبِطَةً -تَعْنِي: ثَقِيلَةً- فَأَذِنَ لَهَا - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

===

(فِي اَلثَّقَلِ) الأمتعة.

(مِنْ جَمْعٍ) أي مزدلفة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذه الأحاديث؟

نستفيد: أنه لا بأس بتقديم الضعفة إلى منى قبل طلوع الفجر.

قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً.

•‌

‌ ما القدر الذي يكفي في النزول بالمزدلفة؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال؟

فقيل: بقدر حط الرحال. وهذا مذهب مالك.

وقيل: إلى نصف الليل. وهذا مذهب الحنابلة.

وقيل: يبيت معظم الليل. وهذا مذهب الشافعي.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قال بعض العلماء: أن المعتبر غروب القمر، ولذلك كان من فقه أسماء بنت أبي بكر أنها تنتظر حتى إذا غاب القمر دفعت، وغروب القمر يكون بعد مضي ثلثي الليل تقريباً.

- أما غير الضعفاء:

فالجمهور أنه يجوز أن يدفعوا في آخر الليل.

قال الشنقيطي: والأظهر عندي في هذه المسألة هو أنه ينبغي أن يبيت إلى الصبح، لأنه لا دليل مقنعاً يجب الرجوع إليه مع من حدد بالنصف الأخير ....

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلوا بها الفجر ويقفوا بها.

•‌

‌ ما حكم المبيت بمزدلفة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه واجب.

وهذا المذهب، وقول الأكثر.

أ-لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ).

والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل على صرفه عن الوجوب.

ص: 406

ب- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعروة بن مضرس رضي الله عنه وقد اجتمع به في صلاة الفجر يوم مزدلفة فقال (يا رسول الله، إني أتعبت نفسي وأكللت راحلتي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عنده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه).

ج-لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل، والترخيص يدل على أن الأصل العزيمة والوجوب.

د- أن النبي صلى الله عليه وسلم بات في مزدلفة وقال (لتأخذوا عني مناسككم).

القول الثاني: أنه ركن لا يصح الحج بدونه.

وهو قول بعض العلماء، وهو قول داود الظاهري.

أ- لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ).

قالوا: فهذا الأمر يدل على أنه لا بد من ذكر الله عند المشعر الحرام.

ب-ما ورد في بعض روايات حديث عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه كما عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك الإمام والناس، وأفاض معنا فقد أدرك، ومن فاته الناس والإمام فلم يدرك) يعني من أدرك الوقوف مع الإمام والناس وأفاض معهم فقد أدرك الحج، ومن فاته الوقوف مع الناس والإفاضة معهم فقد فاته الحج.

القول الثالث: أنه سنة.

وهو قول لبعض العلماء.

والراجح القول الأول وبتركه دم.

ويدل على عدم ركنيته:

حديث عبد الرحمن بن يعمر وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني.

ومعلوم أنه بهذا يكون قد فاته المبيت بمزدلفة قطعاً بلا شك ومع ذلك صرح النبي صلى الله عليه وسلم هنا بأن حجه تام.

•‌

‌ ما الجواب عن رواية النسائي (من أدرك الإمام والناس، وأفاض معنا فقد أدرك، ومن فاته الناس والإمام فلم يدرك)؟

هذه الرواية غير محفوظة، كما عليه أكثر أهل العلم، فلا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى والشنقيطي كما في أضواء البيان

إنما حديث عروة بن مضرس روايته المحفوظة هي الرواية التي ستأتي قريباً إن شاء الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).

ص: 407

•‌

‌ هل يباح للضعفة الرمي قبل طلوع الشمس؟

يباح للضعفة الرمي قبل طلوع الشمس، بل يباح لهم رمي العقبة متى ما وصلوها، ولو قبل الفجر على الصحيح.

وذلك لفعل أسماء، ففي الصحيحين:(أن أسماء نزلت ليلة جمع بالمزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها).

وروى أبو داود عن عائشة أنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر).

وضعف هذا الحديث الإمام أحمد.

والأصل فيمن عجل أن يكون عجل للرمي، والأصل رميه متى وصل.

وذهب بعض العلماء إلى المنع.

واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترموا حتى تطلع الشمس). رواه أبو داود وهي شاذة

•‌

‌ ما معنى المبيت بمزدلفة؟

معنى المبيت بمزدلفة: ليس معناه النوم، وإنما يبقى الليل في مزدلفة.

•‌

‌ ما مقدار الواجب للمبيت بمزدلفة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يكفي الحاج أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي المغرب والعشاء، ويتعشى.

وهذا مذهب مالك.

القول الثاني: قالوا إن المقدار الواجب لمن وقف قبل منتصف الليل أن يقف حتى منتصف الليل. ومن وقف بعد منتصف الليل فإنه يجزئه أيّ وقوف.

وهو الذي ذهب إليه الشافعي والإمام أحمد وجماعة من أهل العلم.

أ-لحديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتِ (اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً - يَقُولُ الْقَاسِمُ وَالثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ - قَالَ فَأَذِنَ لَهَا) متفق عليه.

ب- ولحديث ابْنَ عَبَّاسٍ قال (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ - أَوْ قَالَ فِي الضَّعَفَةِ - مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ) متفق عليه.

أج- عن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِاللَّيْلِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ أَرْخَصَ فِى أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّه) متفق عليه.

وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنه لا يمكن أن يرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الواجب. فهذه الأدلة تدل على أن هؤلاء الضعفة من النساء ومن يرافقهم أنهم أتوا بجزء من الواجب، ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في باقيه وفي الدفع إلى منى.

ص: 408

758 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَرْمُوا اَلْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَفِيهِ اِنْقِطَاعٌ.

759 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (أَرْسَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ اَلنَّحْرِ، فَرَمَتِ اَلْجَمْرَةَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

===

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث ابن عباس: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس، ضعيف لا يصح وأعل بالانقطاع.

• وحديث عائشة: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة .. ضعيف وقد أنكره الإمام أحمد وغيره.

- الحديث يدل على أن وقت رمي جمرة العقبة يكون بعد طلوع الشمس.

وقد اختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث، وبين الأحاديث التي تدل على جواز الرمي لمن دفع قبل طلوع الشمس:

أولاً: بعض العلماء ضعف هذا الحديث.

أ - حيث أعله بالاضطراب.

ب - وأعله بالشذوذ، حيث جاء خبر ابن عباس في الصحيحين من طرق وليس فيه: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) وممن ضعفه الإمام البخاري.

ثانياً: وذهب بعضهم إلى تصحيحه، ومنهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري، حيث ذكر أن للحديث طرقاً، وحسنه بمجموعه.

•‌

‌ اذكر الجمع بين الأحاديث الدالة على جواز رمي النساء والضعفة قبل الفجر، وبين الأحاديث الدالة على النهي عن ذلك؟

الأحاديث الدالة على الجواز:

أ-عن عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ (قَالَتْ لِي أَسْمَاءُ وَهْىَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا. فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَتِ ارْحَلْ بِى. فَارْتَحَلْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ ثُمَّ صَلَّتْ فِى مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا أَيْ هَنْتَاهْ لَقَدْ غَلَّسْنَا. قَالَتْ كَلاَّ أَيْ بُنَيَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلْظُعُنِ) متفق عليه.

ب- عن سَالِم (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِاللَّيْلِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. متفق عليه

الحديث الدال على النهي:

حديث ابن عباس حديث الباب (لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس).

الجمع:

القول الأول: أن يحمل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله ألا يرموا حتى تطلع الشمس الوارد في حديث ابن عباس على الندب أو الاستحباب أو الأفضلية، وتبقى أحاديث الرخصة في الرمي قبل طلوع الشمس على دلالتها بالجواز.

وممن سلك هذا المسلك من أهل العلم: الماوردي، والبغوي، وابن قدامة، والنووي، وابن حجر.

قال المنذري: ويمكن حمل هذه الأحاديث على الاستحباب جمعاً بين السنن.

وقال ابن قدامة بعد أن ذكر حديث ابن عباس (

والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب.

ص: 409

وقال النووي: وأما حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل جمعاً بين الأحاديث.

وقال ابن حجر: ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس بحمل الأمر في حديث ابن عباس على الندب.

وقال العلامة الشنقيطي عن هذا الجمع: وله وجه من النظر.

القول الثاني: الجمع باختلاف الحال، وذلك بحمل النهي عن رمي جمرة العقبة قبل الشمس على الذكور، وحمل الإذن على النساء.

وممن سلك هذا المسلك النسائي وابن القيم.

أما النسائي فتصرفه في السنن يدل على ذلك، فقد عقد باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس وخرج فيه حديث ابن عباس، ثم أعقبه بباب: الرخصة في ذلك للنساء.

وقال ابن القيم:

ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث، فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس، فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، وأما من قدمه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم.

القول الثالث: ترجيح حديث ابن عمر وحديث أسماء الدالين على الإذن في رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس على حديث ابن عباس الدال على النهي.

وممن سلك هذا المسلك الإمام البخاري وابن خزيمة.

وأما البخاري فقد ساق بأسانيده حديث ابن عباس في النهي، وأعل منها طريقي الحكم عن مقسم، والحسن العرني عن ابن عباس، ثم أردفها بحديثي أسماء وابن عمر ثم ختم بقوله: وحديث هؤلاء أكثر في الرمي قبل طلوع الشمس وأصح.

ورجحه الشيخ عبد الله الفوزان وقال: فالصواب أن من دفع من مزدلفة بعد مغيب القمر من الضعفة والنساء والأطفال أنه يرمي ولو قبل الصبح لأمور ثلاثة:

الأول: أنه ورد في السنة ما يدل على ذلك، ثم ذكر حديث ابن عمر.

الثاني: أنه لو كان رمي هؤلاء لا يجوز قبل الصبح لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بياناً عاماً.

الثالث: أن تأخير رميهم إلى ما بعد طلوع الشمس مخالف لمقتضى الرفق بهم والحرص على سلامتهم.

•‌

‌ متى يبتدئ رمي جمرة العقبة؟

اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها على أقوال:

القول الأول: أنه يجوز رميها بعد منتصف الليل من ليلة النحر.

وممن قال به الشافعي، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة. وعطاء وابن أبي ليلى، وعكرمة بن خالد، وطاوس، والشعبي.

قال ابن قدامة في المغني: وأما وقت الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر، وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد والشافعي.

أ- لحديث الباب (أَرْسَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ اَلنَّحْرِ، فَرَمَتِ اَلْجَمْرَةَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ)

ووجه الدلالة - كما قال الشافعي - وهذا لا يكون إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة.

ب-وبحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما (أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا؟ قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن).

وفي رواية لأبي داود، وابن خزيمة (قلت: إنا رمينا الجمرة بليل؟ قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية لمالك والنسائي (كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك).

ص: 410

وجه الدلالة: أن صنيع أسماء رضي الله عنها من تعجيل الدفع من مزدلفة، ورميها جمرة العقبة بليل، ثم صلاتها الفجر في منزلها، وإخبارها أنهم كانوا يصنعون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على جواز رمي جمرة العقبة قبل الفجر.

وقد عنون له ابن خزيمة: (باب الرخصة للنساء في رمي الجمار قبل طلوع الفجر).

ج-وقالوا: إن رمي أم سلمة رضي الله عنها قبل الفجر، صالح لجميع الليل، ولا ضابط له، فجعل النصف ضابطاً؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله.

د-وقالوا: إن منتصف الليل وقت للدفع من مزدلفة، فكان وقتاً للرمي كبعد طلوع الشمس.

القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها.

وهو قول أبو حنيفة، ومالك وغيرهما، واستدلوا:

أ-بحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أنه كان يقدم ضعفة أهله، فمنهم ممن يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجه الدلالة: تقديم ابن عمر رضي الله عنهما أهله إلى منى قرب صلاة الفجر، ورميهم الجمرة فور قدومهم، وإخبار ابن عمر بأن ذلك مما أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل صريح على جواز الرمي قبل طلوع الشمس.

ب-وبحديث شعبة عن ابن عباس رضي الله عنها (أن النبي صلى صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر).

وجه الاستدلال منه:

إخبار ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى، وأنهم رموا الجمرة مع الفجر، دليل على صحة الرمي قبل طلوع الشمس.

ج-كما استدلوا بالقياس وهو أن النصف الآخر من الليل وقت الوقوف فلم يكن وقتاً للرمي كالنصف الأول.

القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس.

وهو قول النخعي والثوري، واختيار ابن القيم، واستدلوا لهذا القول بأدلة منها:

أ- حديث جابر رضي الله عنه أنه قال (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ضحى، وقد قال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم) فدل ذلك على أن رمي جمرة العقبة إنما يبدأ بعد طلوع الشمس.

ب-بحديث ابن عباس رضي الله عنه قال (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أُغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبنيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم ضعفة أهله نهاهم عن رمي جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، فدل ذلك على أن رمي جمرة العقبة إنما يبدأ بعد طلوع الشمس.

والراجح القول الأول.

- جواز الرمي لمن دفع ليلاً من مزدلفة، ولو كان لا يجوز لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.

أما حديث عائشة يدل على جواز دفع الضعفة ليلاً من المزدلفة، والخبر لا يصح، أنكره أحمد، وقال ابن القيم: هو خبر منكر.

وقد سبق ما يغني عنه.

ويدل على جواز الطواف بعد الرمي ليلاً، وهذا صحيح، فمن أذن له بالدفع ليلاً جاز أن يرمي ويطوف بالبيت.

ص: 411

760 -

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث عروة هذا حديث صحيح.

•‌

‌ متى يبدأ وقت الوقوف بعرفة؟

اختلف العلماء متى يبدأ الوقوف بعرفة على قولين:

القول الأول: أنه يبدأ من زوال الشمس من يوم عرفة.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية.

قال النووي: وهو قول العلماء كافة إلا أحمد.

قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يقف إلا بعد الزوال.

قال النووي: واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال، وكذلك الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إلى اليوم.

القول الثاني: أن الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع فجر يوم عرفة.

وهذا مذهب الحنابلة.

واستدلوا بحديث الباب (

وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا

) ولم يقيده بما بعد الزوال.

•‌

‌ بماذا أجاب الجمهور عن حديث الباب؟

قالوا: إن المراد بـ (النهار) في الحديث هو ما بعد الزوال، بدليل فعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفاؤه من بعده، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقف قبل الزوال.

• بماذا أجاب أصحاب القول الثاني عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقف بعد الزوال؟

قالوا:

أ- إن دلالة حديث عروة - على أن وقت الوقوف بعرفة شامل لجميع النهار - مأخوذة من منطوقه، وأما دلالة حديث جابر على أن وقت الوقوف إنما يبدأ من الزوال فمفهومه، وإذا تعارضا قدم المنطوق على المفهوم.

ب-إن حديث عروة قول، وحديث جابر فعل، والقول أبلغ في البيان من الفعل.

ج- إن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الوقوف بعرفة قبل الزوال، لا يمنع كونه وقتاً للوقوف، وإنما وقف في وقت الفضيلة ولم يستوعب جميع الوقت.

وقول الجمهور أحوط.

ص: 412

•‌

‌ ما حكم الوقوف بعرفة؟

ركن من أركان الحج.

قال ابن عبد البر: أجمع العلماء في كل عصر وبكل مصر - فيما علمت - أنه فرض لا ينوب عنه شيء، وأنه من فاته الوقوف بعرفة في وقته الذي لا بد منه فلا حج له.

قال النووي: الوقوف بعرفات ركن من أركان الحج، وهو أشهر أركان الحج للأحاديث الصحيحة (الحج عرفة) وأجمع المسلمون على كونه ركن.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).

ب- ولحديث الباب: (وقد وقف بعرفة قبل ذلك).

•‌

‌ متى ينتهي الوقوف بعرفة؟

لا خلاف في أن آخر الوقوف طلوع فجر يوم النحر.

وقال ابن قدامة رحمه الله: ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر. قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع. [قاله في المغني]

لحديث الباب.

•‌

‌ ما حكم الدفع من عرفة قبل غروب الشمس لمن وقف بها نهاراً؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس ركن، ومن دفع قبل الغروب ولم يعد فقد فاته الحج.

وهذا قول الإمام مالك.

قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك.

لحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج، فليتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل) أخرجه الدارقطني وضعفه ابن حزم.

ويناقش هذا القول بأن الحديث ليس فيه نفي صحة الوقوف بعرفة في النهار لمن لم يقف في الليل، بل غاية ما فيه أن وقت الوقوف يمتد إلى آخر الليل كما أفاده حديث عروة بن مضرس المتقدم.

القول الثاني: يجب الوقوف بعرفة حتى غروب الشمس.

وهذا قول الحنفية، وهو قول عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة.

أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفاً (بعرفة) حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص ثم دفع.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم من حديث جابر.

فيستفاد الوجوب من فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقع بياناً لأمر مجمل، ومقتضى الأمر الوجوب عند الإطلاق.

ب- أن في ذلك مخالفة للمشركين.

ج- لو كان الدفع من عرفة قبل غروب الشمس جائزاً لرخص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة أن يتقدموا خوفاً من الزحام كما رخص لهم أن يدفعوا من مزدلفة بعد غيبوبة القمر إلى منى.

ص: 413

القول الثالث: أن الوقوف إلى غروب الشمس من المستحبات.

وهذا قول الثوري، والصحيح من مذهب الشافعية، واختاره ابن حزم والنووي، ورجحه بقوة الشيخ الشنقيطي.

واستدلوا بحديث الباب (

وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه).

ووجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم (وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) دال على إجزاء الوقوف لمن وقف نهاراً ثم دفع قبل الغروب، حيث حكم النبي صلى الله عليه وسلم بتمام حجه وقضاء تفثه.

وأجاب الجمهور بأن المراد بالوقوف نهاراً في الحديث، هو الوقوف حتى غروب الشمس؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، حيث لم يدفعوا إلا بعد غروب الشمس، فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح لحديث عروة بن مضرس المذكور، إلا أننا نوجب عليه دماً؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما (من نسى من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً) رواه مالك والبيهقي.

والراجح القول الثاني، وأن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس من واجب.

وقد اختلف أصحاب هذا القول في مسائل:

المسألة الأولى: من غادر قبل غروب الشمس ثم عاد قبل الغروب:

فقيل: لا شيء عليه.

وهذا هو مذهب الحنابلة واختيار ابن باز.

قالوا: لأنه أتى بالواجب، ولأنه استدرك المتروك، فحكمه كحكم من تجاوز الميقات غير محرم، ثم رجع فأحرم منه.

وقيل: عليه دم.

قالوا: لأنه بالدفع لزمه الدم، فلم يسقط برجوعه.

قال الشيخ ابن عثيمين: إذا دفع قبل الغروب فقد تعمد المخالفة، فيلزمه الدم بالمخالفة، ورجوعه بعد أن لزمه الدم بالمخالفة لا يؤثر شيئاً.

المسألة الثانية: من غادر عرفة قبل الغروب وعاد بعد الغروب.

فقيل: عليه دم.

لأنه لما غربت عليه الشمس قبل العودة إلى عرفة لزمه الدم الواجب.

وقيل: لا شيء عليه.

•‌

‌ ما الحكم من اقتصر بالوقوف على الليل؟

قال ابن قدامة: وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ، وَلَا جَاءَ عَرَفَةَ، حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، فَوَقَفَ لَيْلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ، فَأَشْبَهَ مَنْ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ إذَا أَحْرَمَ مِنْهُ.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أنه يجزئ الوقوف بعرفة ولو جزءاً يسيراً.

- أن من وقف ولو لحظة في عرفة فقد تم حجه، لكن لا بد أن يكون أهلاً للوقوف.

- أن يكون مسلماً: وعلى هذا فلو كان لا يصلي، ووقف بعرفة، وبعد الدفع منها صلى، فلا يصح حجه، لأنه حين الوقوف ليس أهلاً للحج.

عاقلاً: فإن كان مجنوناً لم يصح وقوفه.

وغير سكران، وغير مغمي عليه.

ص: 414

761 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ (إِنَّ اَلْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(كَانُوا لَا يُفِيضُونَ) أي: من جمْع كما جاء في رواية.

(أَشْرِقْ ثَبِيرُ) أي: من الإشراق، أي أدخل في الشروق، والمعنى: لتطلع عليه الشمس، (ثبير) جبل معروف هناك، وهو على يسار الذاهب إلى منى، وهو أعظم جبال مكة.

(ثُمَّ أَفَاضَ) أي: النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء في رواية أبي داود الطيالسي (فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض)، وفي حديث جابر عند مسلم (

فدفع قبل أن تطلع الشمس).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن السنة في الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس.

قال في المغني: لا نعلم خلافاً في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله

ثم ذكر حديث الباب.

وقال ابن القيم: أجمع المسلمون على أن الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة.

لحديث الباب.

ولحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (

فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس). رواه مسلم

•‌

‌ اذكر أنواع إفاضات الحج؟

حصل بالتتبع والاستقراء أن إفاضات الحج ثلاثة:

الأولى: من عرفة إلى مزدلفة ليلة عيد النحر.

وهذه هي المذكورة في قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس).

الثانية: من مزدلفة إلى منى.

وهي المذكورة في حديث الباب (ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس).

الثالثة: الإفاضة من منى إلى مكة لأداء طواف الحج.

وهي المشار إليها في حديث جابر السابق وفيه: (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض بالبيت).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- وجوب مخالفة المشركين.

- أن من شريعتهم وحجهم ونسكهم عدم النفرة من مزدلفة إلا بعد الشروق.

ص: 415

762 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم قَالَا: (لَمْ يَزَلِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ اَلْعَقَبَةِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

•‌

‌ متى يقطع المحرم الحاج التلبية.

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: عند أول شروعه بالرمي.

لحديث الباب.

وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد.

قال النووي: يبدأ وقت التلبية من حين الإحرام إلى يوم النحر حتى يرمي جمرة العقبة لما أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس أنه قال (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) وهذا قول الشافعي وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي ثور وأحمد وإسحاق وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.

قال ابن عبد البر: فقال الثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبور ثور: يقطعها في أول حصاة يرميها من جمرة العقبة.

قال الشنقيطي:

فاعلم أن الصحيح الذي قام عليه الدليل: أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة لما جاء عند مسلم عن الفضل بن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة) وقوله في هذا الحديث (حتى بلغ الجمرة) هو حجة من قال يقطع التلبية عند الشروع في الرمي لأن بلوغ الجمرة هو وقت الشروع في الرمي.

القول الثاني: يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة.

وهو قول إسحاق وابن خزيمة، واختاره بن حزم.

لحديث الفضل قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة). رواه ابن خزيمة

لكن هذه اللفظة: (ثم قطع التلبية مع آخر حصاة) منكرة، لم ترد في الحديث.

قال البيهقي في سننه: هذه الزيادة غريبة، وليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس عن الفضل.

والراجح القول الأول.

ومن القرائن الدالة على ذلك، ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير في كل حصاة، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات.

•‌

‌ فإن قيل: ما الجواب عن حديث عَنْ نَافِعٍ قَالَ (كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِى طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّى بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) رواه البخاري؟

الجواب: أن يقال: إن المراد بقطع التلبية عند دخول الحرم الإمساك عنها - للحاج - إمساكاً مؤقتاً ينتهي بالطواف والسعي، ثم يعاودها بعد الخروج من مكة إلى عرفة.

ص: 416

قال ابن خزيمة: وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة دالة على أنه لم يقطع التلبية عند دخوله الحرم قطعاً لم يعاود لها.

ويدل لهذا الجمع: ما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة، فإذا غدا ترك التلبية، وكان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحرم.

•‌

‌ متى يقطع المعتمر التلبية؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: يقطعها عند دخول أدنى الحرم.

وهو قول ابن عمر وعروة بن الزبير والحسن ومالك والنسائي وابن خزيمة.

عَنْ نَافِعٍ قَالَ (كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِى طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّى بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) رواه البخاري.

القول الثاني: يقطعها إذا استلم الركن.

قال في المغني: وبهذا قال ابن عباس، وعطاء، وعمرو بن ميمون، وطاوس، والنخعي، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

قال الترمذي بعدما خرج حديث ابن عباس الآتي قال: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قالوا: لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر.

أ- عن ابن عباس قال (يمسك صلى الله عليه وسلم عن التلبية في العمرة، إذا استلم الحجر). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ب- وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم (اعتمر ثلاث عمر، ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر) رواه أحمد وإسناده ضعيف وضعفه ابن حزم.

ج-ولأن التلبية إجابة إلى العبادة، وإشعار للإقامة عليها، وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها، وهو التحلل منها، والتحلل يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل، فينبغي أن يقطع التلبية، كالحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة، لحصول التحلل بها. وأما قبل ذلك، فلم يشرع فيما ينافيها، فلا معنى لقطعها. (المغني).

ص: 417

763 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (أَنَّهُ جَعَلَ اَلْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى اَلْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ اَلَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ اَلْبَقَرَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ..

764 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: (رَمَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْجَمْرَةَ يَوْمَ اَلنَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَادَتْ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

765 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي اَلْجَمْرَةَ اَلدُّنْيَا، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يُسْهِلُ، فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ اَلْقِبْلَةَ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي اَلْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ اَلشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ اَلْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ اَلْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ اَلْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(وَرَمَى اَلْجَمْرَة) أي: جمرة العقبة.

•‌

‌ ما حكم رمي الجمار؟

واجب من واجبات الحج، فقد اتفق الفقهاء على أن رمي الجمار واجب من واجبات الحج، واستدلوا على ذلك بالسنة، والإجماع.

أما السنة: فالأحاديث كثيرة منها:

أ- حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لما أتى إبراهيم عليه السلام المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون.

ب-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: (إذبح ولا حرج) فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي؟ قال (إرم ولا حرج) الحديث، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي، والأمر للوجوب.

وأما الإجماع: فإن الأمة الإسلامية أجمعت على وجوب رمي الجمرات؛ وهي رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر، والجمرات الثلاث (الصغرى، والوسطى، والكبرى) أيام التشريق، اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه، أنه قال:(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، ويقول: (لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه).

•‌

‌ ما الجمرة التي ترمى يوم النحر؟

جمرة العقبة، فلا يرمي من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة، وهذا بالإجماع.

•‌

‌ ما أفضل وقت لرميها؟

أفضل وقت لرميها يوم النحر ضحى.

قال الشوكاني: لا خلاف في أن هذا هو الأحسن لرميها.

•‌

‌ ما الأفضل في كيفية رمي جمرة العقبة؟

الأفضل لمن أراد أن يرمي جمرة العقبة أن يقف في بطن الوادي، وتكون منى عن يمينه، ومكة عن يساره.

واتفقوا على أنه من حيث رماها جاز.

قال النووي: وأجمعوا على أنه من حيث رمى جمرة العقبة جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو رماها من فوقها، أو أسفلها.

ص: 418

•‌

‌ ما حكم الرمي في أيام التشريق قبل الزوال؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: لا يجوز الرمي قبل الزوال.

وهذا مذهب الجمهور.

قال ابن قدامة: ولا يرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال، فإن رمى قبل الزوال أعاد. نصّ عليه [أي الإمام أحمد]. وروي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وروي عن الحسن، وعطاء، إلا أن إسحاق وأصحاب الرأي، رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، ولا ينفر إلا بعد الزوال.

أ- حديث الباب، عن جابر قال (رَمَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْجَمْرَةَ يَوْمَ اَلنَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَادَتْ اَلشَّمْسُ).

• ولحديث ابن عمر قال: (كنا نتحين زوال الشمس، فإذا زالت رمينا). رواه البخاري

• وعن ابن عباس قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما زالت الشمس). رواه الترمذي

قال الشيخ ابن عثيمين: ومما يدل على أنه لا يجزئ الرمي قبل الزوال: لو كان الرمي جائزاً قبل الزوال لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها من وجه، ولما فيه من التيسير على العباد من وجه آخر، ولما فيه من تطويل الوقت من وجه ثالث، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعمد أن يؤخر حتى تزول الشمس مع أنه أشق على الناس، دلّ على أنه قبل الزوال لا يجزئ.

القول الثاني: يجوز.

وهو قول عطاء وطاووس.

القول الثالث: يجوز قبل الزوال يوم النفر الأول.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

درءاً للمشقة، وتيسيراً للناس.

والأول هو الصحيح.

•‌

‌ ما حكم الرمي ليلاً؟

اختلف العلماء في جواز الرمي ليلاً: على قولين:

القول الأول: الجواز.

وهو قول مالك والشافعي.

لحديث ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج

الحديث وفيه: فسأله رجل: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: لا حرج). رواه البخاري قالوا: واسم المساء يصدق بجزء من الليل.

القول الثاني: عدم الجواز.

وهو قول أبي حنيفة وابن المنذر. قالوا في الجواب عن دليل أصحاب القول الأول:

أن مراد السائل بالإمساء: يعني بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل، ودليل ذلك قول ابن عباس في أول الحديث:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر) فبتصريحه بقوله: يوم النحر، يدل على أن السؤال وقع في النهار.

والراجح الأول وهو الجواز. ويدل لذلك:

أن النبي صلى الله عليه وسلم بين بداية الرمي، ولم يبين نهايته، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.

وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج عن ابن سايط قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون حجاجاً فيدعون ظهرهم فيجيئون فيرقون بالليل).

ص: 419

•‌

‌ ما صفة الرمي في أيام التشريق؟

في حديث ابن عمر صفة ذلك وهي:

أن يرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم يتقدم فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو رافعاً يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيدعو وهو رافع يديه، ثم يرمي جمرة العقبة فينصرف ولا يقف للدعاء.

•‌

‌ ما الحكمة من رمي الجمار؟

أ- الاقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام.

عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون) رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح على شرطهما.

وقد ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان أن حكمة الرمي معقولة المعنى وذكر هذا الحديث وقال: وعلى هذا الذي ذكره البيهقي فذكر الله الذي شرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ورميه وعدم الانقياد إليه.

ب- وكذلك إقامة ذكر الله، والاقتداء برسول الله، وتحقيق التذلل.

•‌

‌ ما حكم الترتيب بين الجمرات؟

لا خلاف في مشروعية الترتيب في رمي الجمرات (الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى) واختلف العلماء في حكم هذا الترتيب على أقوال:

القول الأول: أنه شرط.

وهو قول مالك والشافعي وأحمد.

فلو نسي ورمى العقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى، حسبت الأولى فقط، ووجب عليه أن يرمي الثانية والثالثة.

أ- واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كما جاء في حديث ابن عمر.

ب- وبقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

القول الثاني: سنة.

وهو قول أبي حنيفة والحسن وعطاء. واحتجوا:

أن الجمار مناسك متكررة، في أمكنة متفرقة، في وقت واحد، ليس بعضها تابعاً لبعض، فلم يشترط الترتيب بها كالرمي والذبح.

القول الثالث: أنه واجب ليس بشرط.

والرأي الأول أحوط.

•‌

‌ ما مقدار الحصا في الرمي؟

يكون الحصى بمثل حصى الخذف - وهي بالخاء المعجمة - وقدر حصى الخذف أكبر من حبة الحمص قليلاً

لحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (

، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف). رواه مسلم

فلا يجوز أن يرمي بالحجر الكبير فيؤذي المسلمين، ولا بالصغير الذي لا يمكن رميه.

ص: 420

•‌

‌ ما السنة أن يفعل مع الرمي؟

السنة أن يكبر مع كل حصاة.

ب- لحديث الباب، عن اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي اَلْجَمْرَةَ اَلدُّنْيَا، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ

هكذا رأيت رسول الله يفعله) متفق عليه.

ب- ولحديث جابر - وقد تقدم - في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف) رواه مسلم.

•‌

‌ ما الحكم لو رمى السبع جميعاً مرة واحدة؟

يكون الرمي بحصى متعاقبات، فلو رمى السبع جميعاً مرة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة، ويلزمه أن يرمي بست حصيات غيرها، ودليل ذلك أن المنصوص عليه تفريق الأفعال أثناء رمي الجمرات فيجب التقييد بالتفريق الوارد بالسنة النبوية.

•‌

‌ بما يكون الرمي؟

يشترط أن يكون المرمي به حجراً.

وهذا قول الجمهور (المالكية، والشافعية، والحنابلة)، فلا يصح الرمي بالطين والمعادن والتراب.

وقد استدل الجمهور بما ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما رمى جمرة العقبة؛ فعن جابر يصف رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمرة العقبة، فيقول:(فرماها بسبع حصيات - يكبر مع كل حصاة منها - مثل حصى الخذف).

•‌

‌ ما الحكم لو وضع الحصى وضعاً؟

لو وضع الحصى وضعاً لم يجزئه، لأن قوله (رمى) يدل على أنه لا بد من الرمي.

•‌

‌ ما الحكمة من عدم الوقوف للدعاء بعد رمي جمرة العقبة؟

قيل: لضيق المكان.

وقيل: لأنها انتهت العبادة.

وقيل: لأنها ليست من منى.

• هل يشرع غسل الحصى؟

لا يشرع، بل ذلك بدعة كما قال ابن تيمية.

•‌

‌ ما حكم الرمي بالحجر مرة ثانية؟

قال بعض العلماء: لا يجزئ الرمي بحصاة رمي بها.

وقيل: يجزئ ذلك، وهذا أصح.

ص: 421

766 -

وَعَنْه - أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اَللَّهُمَّ ارْحَمِ اَلْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ فِي اَلثَّالِثَةِ: " وَالْمُقَصِّرِينَ) - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(اللَّهُمَّ) بمعنى يا الله، حذفت منها ياء النداء وعوض عنها الميم.

(ارْحَمِ) هذا دعاء، ولا تكون فعل أمر هنا، لأنها من الأدنى إلى الأعلى.

(اَلْمُحَلِّقِينَ) الحلق هو إزالة الشعر من الرأس من أصله.

(والْمُقَصِّرِينَ) التقصير قص بعض الشعر مع عدم استئصاله.

•‌

‌ ما حكم الحلق أو التقصير في الحج؟

واجب. [وسيأتي إن شاء الله]

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن الحلق أفضل من التقصير في الحج.

أ- قول الله تعالي (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون).

قلت: قدم الله عز وجل الحلق علي التقصير، وهذا يدل على أن الحلق أفضل لتقدمه.

ب- حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته). متفق عليه.

وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل.

ج-لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالرحمة ثلاث مرات.

•‌

‌ ما وجه كون الحلق أفضل من التقصير؟

قال في الفتح: وجه كون الحلق أفضل من التقصير أنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلة، وأدل على صدق النية، فالذي يقصّر يُبقي على نفسه شيئاً مما يتزين به، بخلاف الحالق، فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى.

وقال النووي: ووجه فضيلة الحلق على التقصير أنه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية في التذلل لله تعالى، ولأن المقصر مبق على نفسه الشعر الذي هو زينة، والحاج مأمور بترك الزينة، بل هو أشعث أغبر.

•‌

‌ هل الحديث دليل على أن الإنسان مخير بين الحلق والتقصير؟

نعم.

قال ابن قدامة: في قول أكثر أهل العلم.

قال النووي: وذكر الأحاديث في دعائه صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة بعد ذلك، هذا كله تصريح بجواز الاقتصار على أحد الأمرين إن شاء اقتصر على الحلق، وإن شاء على التقصير، وتصريح بتفضيل الحلق، وقد أجمع العلماء على أن الحلق أفضل من التقصير، وعلى أن التقصير يجزي إلا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أنه كان يقول: يلزمه الحلق في أول حجة، ولا يجزئه التقصير، وهذا إن صح عنه مردود بالنصوص وإجماع من قبله.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ.

ص: 422

• ما حكم الحلق أو التقصير في الحج؟

واجب من واجبات الحج في قول جمهور العلماء.

أ-لقوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ).

وجه الدلالة: أنَّ الله تعالى جعل الحلق والتقصير وصفاً للحج والعمرة، والقاعدة أنه إذا عبر بجزءٍ من العبادة عن العبادة، كان دليلاً على وجوبه فيها.

ب- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية) أخرجه البخاري

ج-عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع) أخرجه البخاري ومسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم)، مع كون فعله وقع بياناً لمجمل الكتاب.

•‌

‌ ماذا يفعل من كان أصلع الرأس؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: يجب أن يمر الموسى على رأسه إمراراً.

وبهذا قال الحنفية والمالكية.

واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الأصلع (يمر الموسى على رأس)، وهو أثر لا تقوم به حجة لضعفه.

القول الثاني: استحباب إمرار الموسى على الرأس.

وبه قال الشافعية والحنابلة.

واستدلوا بما استدل به أصحاب القول الأول، وبالإجماع.

قال النووي رحمه الله: ونقل ابن المنذر إجماع العلماء على أن الأصلع يمر الموسى على رأسه.

القول الثالث: أنه لا شيء عليه.

وبه قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله، قال: وهذا في الحقيقة لا فائدة له (أي: إمرار الموسى على رأس الأصلع)؛ لأنَّ إمرار الموسى على الشَّعر ليس مقصوداً لذاته حتى يُقال: لمَّا تعذَّر أحد الأمرين شُرع الأخذ بالآخر؛ لأن المقصود من إِمرار الموسى إزالة الشَّعر، وهذا لا شعر له، لقوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) وهذا لم يؤته الله شعراً فلا يكلَّف عمل شيء.

•‌

‌ هل الحلق دوماً أفضل من التقصير؟

الحلق أفضل من التقصير لعموم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حالة واحدة فإن التقصير أفضل، وذلك للمتمتع إذا كان الإنسان متمتعاً بالعمرة إلى الحج، فإن التقصير أفضل لأجل أن يتوفر الشعر للحلق في الحج، ولهذا لمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الرابع من ذي الحجة وأمر أصحابه بالتحلل أمرهم بالتقصير، فقال:(وليقصّر ثم ليُحل).

ص: 423

•‌

‌ كم أقل المجزئ في حلق الرأس أو تقصيره؟

اختلف العلماء في أقل المجزئ في حلق الرأس على أقوال:

القول الأول: أن أقل ما يجزئ حلق أو تقصير ثلاث شعرات.

وهذا مذهب الشافعية.

قالوا: الشعر جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

القول الثاني: أن الواجب حلق ربع الرأس.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

واستدلوا بالقياس على قولهم في مسح الرأس في الوضوء، فقد أوجبوا مسح ربع الرأس فأكثر.

القول الثالث: أن الحلق أو التقصير لا بد أن يعم جميع الرأس.

وهذا مذهب الإمامين: مالك وأحمد.

أ-لأن الله تعالى قال (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قصر ثلاث شعرات من جانب الرأس ما أحس الناس أنه مقصّر.

ب-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه تفسيراً منه لمطلق الأمر، فيجب الرجوع إليه، ولأنه نسك تعلق بالرأس، فوجب استيعابه به كالمسح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن المرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة، فالمشروع للمرأة التقصير دون الحلق.

قال ابن قدامة: لا خلاف في ذلك.

قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم.

- محل الحلق أو التقصير هو شعر الرأس خاصة دون بقية شعور البدن.

واستحب بعض العلماء ومنهم: المالكية والحنابلة، الأخذ من الشعور المستحب إزالتها أو تخفيفها، كالعانة والشارب وكذلك تقليم الأظافر، وكان ابن عمر يفعله.

- قال البخاري في صحيحه: وزعموا أن الذي حلق النبي صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله.

- قال ابن القيم: وحلق كثير من الصحابة، بل أكثرهم، وقصر بعضهم.

ص: 424

767 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: " اِذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " اِرْمِ وَلَا حَرَجَ " فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: " اِفْعَلْ وَلَا حَرَجَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ) أي: على راحلته كما في الرواية الثانية، وفي رواية (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته بمنى)، وعند البخاري في كتاب العلم (عند الجمرة).

(فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ) هي الحجة التي حجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته، ولم يحج بعد هجرته إلا مرة واحدة فقط في السنة العاشرة من الهجرة.

(لَمْ أَشْعُرْ) بضم العين، الشعور هو الإحساس والإدراك، فالسائل عمل النسك من الحج بلا شعور ولا إحساس لما ينبغي تقديمه ولا تأخيره من المناسك.

(فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ) المشروع الذبح قبل الحلق، لقوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله).

(اِذْبَحْ وَلَا حَرَجَ) هذه الكلمة يحتمل: أن الرجل قال: حلقت قبل أن أذبح، أي ولم أذبح الآن، فقال له: اذبح ولا حرج، وتحتمل أن السائل قال: حلقت قبل أن أذبح، وقد ذبحت الآن، فقال: اذبح، أي في المستقبل، وكلا المعنيين صحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد أن الأفضل في أنساك يوم العيد أن ترتب على الصفة التالية اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم:

الرمي، النحر، الحلق، الطواف، السعي.

ونستفيد: أن الترتيب بينها ليس بواجب وأنه يجوز الإخلال بالترتيب.

فإن أخل بترتيبها ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه.

قال في المغني: وهو قول كثير من أهل العلم.

وإن قدم بعضها على بعض في حق العامد العالم، اختلف العلماء في ذلك:

والصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول الإمام أحمد وجمهور التابعين وفقهاء الحديث أنه يجوز تقديم بعضها على بعض في حق العامد.

مستدلين بأحد طرق هذا الحديث التي رواها البخاري ومسلم عن ابن عمرو: (قال السائلون: يا رسول الله، حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج. وقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج. فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج). ولم يقيده بالناسي والجاهل.

•‌

‌ هل يجوز تقديم سعي الحج على الطواف في يوم النحر؟

ذهب بعض العلماء إلى جواز ذلك.

أ-لحديث أسامة بن شريك قال (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، وكان الناس يأتونه، فمن قائل يقول: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو أخرت شيئاً أو قدمت شيئاً، فكان يقول: لا حرج لا حرج، إلا رجلٌ اقترض عِرْضَ رجل مسلم وهو ظالم فذاك الذي حرِج وهلك) رواه أبو داود.

ب- ويؤيد ذلك قوله (ما سئل عن شيء في ذلك اليوم قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج).

قال الشيخ ابن عثيمين: لو قدم السعي على الطواف في يوم النحر جاز، خلافاً لأكثر أهل العلم.

وممن صحح حديث (سعيت قبل أن أطوف) ابن خزيمة حيث أورده في صحيحه وابن جماعة حيث قال: إسناده صحيح، وكذا قال النووي كما في المجموع.

وقد حكم بعض العلماء على رواية (سعيت قبل أن أطوف أو أخرت

) بالشذوذ.

قال ابن القيم: وقوله (سعيت قبل أن أطوف) ليس بمحفوظ والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق، بعضها على بعض.

وجماهير أهل العلم على عدم جواز تقديم السعي على الطواف، وجعلوا الترتيب بينهما شرطاً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ رسالته، ولهذا وقف ليسأله الناس فجعلوا يسألونه.

- ينبغي لطالب العلم أن يقف للناس في أماكن عباداتهم ليسألوه.

- أجمع العلماء على مشروعية ترتيب هذه الأعمال كما سبق.

ص: 425

768 -

وَعَنْ اَلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

هذا الحديث ليس من أحاديث الحج، خلافاً لما يشعر به صنيع الحافظ، وإنما هو في عمرة الحديبية، سنة ست، حين منعت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة لأداء عمرتهم، فحصلت المصالحة بينهم على أن يعود ويأتي من قابل، كما في القصة المشهورة التي أخرجها البخاري وقد جاء فيها (

فلما فرغوا من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا

) الحديث، ثم تحلل النبي صلى الله عليه وسلم بالذبح والحلق، وتابعه أصحابه على ذلك.

وعلى هذا فقوله (وأمر أصحابه بذلك) ليس في الحج، لأن النحر والحلق في الحج إنما كان من فعله صلى الله عليه وسلم وليس من أمره، وأما الأمر فكان في الحديبية، ولو أن المؤلف جعل هذا الحديث في باب الإحصار لكان أولى .... (منحة العلام للفوزان).

• ولفظ الحديث كما في البخاري:

عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. قَالَ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ» . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيراً لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ. فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضاً، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ «بَلَى» . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ «بَلَى» . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذاً قَالَ «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِي» . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ» . قَالَ قُلْتُ لَا. قَالَ «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ» . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى. قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى. قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذاً قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لَا. قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً. قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَداً مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَداً مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضاً، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضاً غَمًّا

).

ص: 426

769 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدَ حَلَّ لَكُمْ اَلطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا اَلنِّسَاءَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث ضعيف ولا يصح، باتفاق أهل الحديث، وفي سنده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف.

•‌

‌ بما يكون التحلل الأول؟

اختلف العلماء بما يكون التحلل الأول؟

القول الأول: برمي جمرة العقبة.

وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، ونصره ابن قدامة.

وهو أحد القولين عن أمير المؤمنين عمر، وأفتى به جمع غفير من الصحابة والتابعين.

فإذا رمى حل له كل شيء إلا النساء.

أ- لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) رواه أحمد مرفوعاً، وهذا الحديث مختلف فيه، ورواه البيهقي موقوفاً.

ب- وجاء عن عمر أنه يحل بمجرد الرمي، رواه مالك في الموطأ بسند صحيح.

ج- وثبت هذا عن عائشة قالت (إذا رمى حل له كل شيء إلا النساء، حتى يطوف بالبيت، فإذا طاف بالبيت حل له النساء). إسناده صحيح، رجاله ثقات رواه ابن أبي شيبة في المصنف.

وعن ابن الزبير قال (إذا رميت الجمرة من يوم النحر، فقد حل لك ما وراء النساء). إسناده صحيح، رجاله ثقات. رواه ابن أبي خزيمة في صحيحه.

قال ابن قدامة: وهو الصحيح إن شاء الله.

القول الثاني: حصول التحلل الأول بفعل اثنين من الثلاثة: الرمي والحلق أو التقصير والطواف بالبيت.

هذا مذهب الشافعية، والصحيح المشهور في مذهب الحنابلة.

أ-لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها) متفق عليه.

وجه الدليل من الحديث يتبين من تراجم أهل العلم، وشروحهم له:

فقد ترجم الإمام البخاري له بقوله (باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة).

وترجم له إمام الأئمة ابن خزيمة بقوله (باب إباحة التطيب يوم النحر بعد الحلق، وقبل زيارة البيت ضد قول من زعم أن التطيب محظور حتى يزور البيت).

وترجم الإمام ابن حبان له بقوله (باب ذكر الإباحة للمحرم إذا أراد طواف الزيارة أن يتطيب بمنى قبل إفاضته).

وترجم الإمام الترمذي له بقوله (باب ما جاء في الطيب عند الإحلال، قبل الزيارة

" ثم ساقه.

ص: 427

وقال ابن خزيمة موجها لذلك: " وفي أخبار عائشة (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت) دلالة على أنه إذا رمى الجمرة، وذبح، وحلق، كان حلالا، قبل أن يطوف بالبيت، خلا ما زجر عنه من وطء النساء، الذي لم يختلف العلماء فيه أنه ممنوع من وطء النساء، حتى يطوف طواف الزيارة.

قال الحافظ ابن حجر: فدل ذلك. على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، وأخذه من حديث الباب من جهة التطيب، فإنه لا يقع إلا بعد التحلل، والتحلل الأول يقع بأمرين من ثلاثة: الرمي، والحلق، والطواف. فلولا أنه حلق بعد أن رمى لم يتطيب.

وقال الإمام الشنقيطي في دلالة الحديث على المسألة: " وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق .. إلى أن قال: والتحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول؛ لحديث عائشة المتفق عليه، الذي هو صريح بذلك.

قلت: ومما يوضح دلالة الحديث على أن التحلل الأول حصل بالرمي والحلق معاً وجوه:

الأول: أن أعمال الحج التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجته تلك أنه رمى جمرة العقبة، ثم نحر، ثم حلق، ثم طاف بالبيت، كما ثبت ذلك عنه عليه السلام من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاق: " خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس).

وفي رواية (لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، ونحر نسكه، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: " احلق " فحلق فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس) أخرجه مسلم.

وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها التصريح بأنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت، وتقييدها الإحلال بقبلية طواف الزيارة يدل على أن الرمي، والحلق، قد تحقق فعلهما قبل الطواف، وأن الحل حصل بهما.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى، ثم حلق، ثم طاف. فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: " قبل أن يطوف.

وقال زين الدين أبو الفضل العراقي رحمه الله في شرحه للحديث: فيه دليل على إباحة التطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل طواف الإفاضة، وهو المراد بالطواف هنا. وإنما قلنا: بعد رمي جمرة العقبة والحلق؛ لأنه عليه السلام رتب هذه الأفعال يوم النحر هكذا: فرمى، ثم حلق، ثم طاف.

فلولا أن التطيب كان بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: قبل أن يطوف بالبيت.

وقال النووي: وقولها في الرواية الأخرى (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) فيه تصريح بأن التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق، قبل الطواف. وهذا متفق عليه

ص: 428

770 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لَيْسَ عَلَى اَلنِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا يُقَصِّرْنَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث مختلف فيه، فصححه النووي وأبو حاتم وابن حجر، وضعفه جمع من أهل العلم.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: أن النساء ليس عليهن حلق، وإنما تقصير، وهذا بالإجماع.

قال ابن قدامة: لا خلاف في ذلك.

قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم.

أ- لحديث الباب.

ب- أنه ليس من عمل نساء الصحابة ومن بعدهم، وفي الحديث (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

ج- أن حلقه تشبه بالرجال، وهو حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال).

د-أنه مثلة، والمثلة لا تجوز، وكونه مثلة واضح، لأن شعر رأسها من جمالها.

قال ابن قدامة: لأن الحلق في حقهن مُثْله.

وقال الإمام النووي في المجموع: أجمع العلماء على أنه لا تؤمر المرأة بالحلق بل وظيفتها التقصير من شعر رأسها؛ لأنه بدعة في حقهن ومُثلة.

•‌

‌ ما كيفية تقصير المرأة؟

تقصر قدر أنملة.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع"(7/ 329): " قوله: "وتقصر منه المرأة قدر أنملة "، أي: أنملة الأصبع وهي مفصل الإصبع، أي أن المرأة تمسك ضفائر رأسها إن كان لها ضفائر، أو بأطرافه إن لم يكن لها ضفائر، وتقص قدر أنملة، ومقدار ذلك اثنان سنتيمتر تقريباً، وأما ما اشتهر عند النساء أن الأنملة أن تطوي المرأة طرف شعرها على إصبعها فمتى التقى الطرفان فذاك الواجب فغير صحيح.

•‌

‌ وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بعض شعور النساء يكون مدرَّجاً، كما يسمينه أي ليس بقرون يقصر منها قدر أنملة، فكيف يتحقق تعميمه بالتقصير؟

فأجاب: يؤخذ من كل درجة.

ثم سألته: لكنه غير متمايز؟

فأجاب: يكفي إذن أن يؤخذ من أسفله.

ص: 429

771 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اِسْتَأْذَنَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

772 -

وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرُعَاة اَلْإِبِلِ فِي اَلْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ اَلنَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ اَلْغَدِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ اَلنَّفْرِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

===

(أَنَّ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ) عم النبي صلى الله عليه وسلم المتوفى سنة (32).

(اِسْتَأْذَنَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى) المراد بها ليلة الحادي عشر واللتين بعده.

(مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، المراد بها سقاية الحجيج من ماء زمزم، وكان العباس بن عبد المطلب هو القائم بها زمن النبوة.

(فَأَذِنَ لَهُ) أي: أذِن النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت تلك الليالي بمكة، ويترك المبيت بمنى، وفي رواية (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة

).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: مشروعية المبيت بمنى ليالي التشريق، وهي: الحادية عشرة، والثانية عشرة، والثالثة عشرة لمن تأخر.

قال النووي: وهذا متفق عليه.

•‌

‌ هل المبيت بمنى ليالي التشريق واجب أم سنة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

أصحهما: أن المبيت بمنى أيام التشريق واجب.

وهو قول الجمهور فقد ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة وبه قال الشوكاني.

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمنى، وقال:(خذوا عني مناسككم).

ب- حديث الباب (رخص للعباس بن عبدالمطلب أن يبيت بمكة ليالي منى .... ).

ووجه الدلالة: أن تخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره من الحجاج.

ج-ورود بعض الآثار عن عمر بن الخطاب وابنه عبدالله وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً- بمنع الحجاج من المبيت خارج منى.

•‌

‌ ما مقدار المبيت الواجب بمنى؟

اختلف العلماء في مقدار المبيت المجزئ على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن القدر المجزئ هو أن يكون موجوداً بمنى عند طلوع الفجر.

وهو أحد القولين في مذهب الشافعية.

ودليل هذا القول: القياس على المبيت ليلة المزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلتها في حديث عروة بن المضرِّس (من شهد صلاتنا هذه - يعني صلاة الصبح - ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).

وقد أجيب عن هذا: أن عروة كان معذوراً في عدم مبيته بمزدلفة.

ص: 430

القول الثاني: أنه لا فرق بين المبيت أكثر الليل أو أقله.

وبه قال ابن حزم.

ودليل هذا القول: إن لم يرد دليل على التحديد فلا يصار إلى شيء من ذلك إلا بدليل.

القول الثالث: أن المقدار المجزئ هو أكثر الليل.

وهذا مذهب الجمهور من المالكية وهو الأظهر عند الشافعية وهو مذهب الحنابلة.

أ-ومن أدلتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفة من أهله أن يدفعوا بعد منتصف الليل.

ووجه الدلالة: أن الترخيص للضعفة إنما كان لعذرهم فيدل هذا على أن من عداهم يبقون أكثر الليل.

ب- أن أكثر الشيء يقوم مكانه ممن بات أكثر الليل صار في حكم من بات جميعه.

وهذا القول هو الراجح.

•‌

‌ هل يجوز لأهل الأعذار المبيت خارج منى؟

نعم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة، وأرخص لرعاة الإبل.

•‌

‌ هل يعذر غير هؤلاء؟

قال الشيخ ابن عثيمين: ومثل ذلك في وقتنا الحاضر رجال المرور، والأمن، ومن ذلك الأطباء، فإنه يسمح لهم في ترك المبيت، فكل من يشتغل بمصلحة عامة يعذر في ترك المبيت قياساً على السقاية والرعاية.

• إن كان لمصلحة خاصة، مثل: مرض أو خوف، أو ضياع مال، هل يرخص له؟

نعم.

قال ابن القيم: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لأهل السقاية، وللرعاة في ترك البيتوتة، فمن له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضاً لا تُمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء.

قال في المغني: وأهل الأعذار كالمرض ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم، كالرعاة في ترك البيتوتة.

• الخلاصة:

‌ترك المبيت بمنى ليال أيام التشريق على تفصيل:

‌الحالة الأولى: إذا كان ترك المبيت بمنى لعذر.

سئل الشيخ ابن باز عن حكم من لم يستطع المبيت في منى أيام التشريق فقال:

لا شيء عليه لقول الله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) سواء كان تركه المبيت لمرض أو عدم وجود مكان أو نحوهما من الأعذار الشرعية كالسقاة والرعاة ومن في حكمهما.

‌الحالة الثانية: إذا ترك المبيت ليال أيام التشريق لغير عذر.

قال الشيخ رحمه الله: من ترك المبيت بمنى أيام التشريق بدون عذر فقد ترك شيئاً شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وبدلالة ترخيصه لبعض أهل الأعذار مثل الرعاة وأهل السقاية. والرخصة لا تكون إلا مقابل العزيمة، ولذلك اعتبر المبيت بمنى أيام التشريق من واجبات الحج في أصح قولي أهل العلم، ومن تركه بدون عذر شرعي فعليه دم، لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (من ترك نسكاً أو نسيه فليرق دماً) ويكفيه دم واحد عن ترك المبيت أيام التشريق.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- المراد بالمبيت: الإقامة بمنى أكثر الليل.

- الرخصة في عدم المبيت في منى لصاحب سقاية الحاج ولرعاة الإبل.

- يسر الشريعة الإسلامية.

ص: 431

773 -

وَعَنْ أَبِي بِكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (خَطَبَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ اَلنَّحْرِ

) اَلْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

774 -

وَعَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ رضي الله عنها قَالَتْ: - خَطَبَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ اَلرُّءُوسِ فَقَالَ: " أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ؟ " - اَلْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

===

(يَوْمَ اَلنَّحْرِ) هو يوم العيد.

(وَعَنْ سَرَّاءَ) بفتح السين وتشديد الراء، بنت نبهان صحابية.

(يَوْمَ اَلرُّءُوسِ) هو اليوم الثاني من التشريق، سمي بذلك لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي.

(أَوْسَطَ أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ) هو اليوم الثاني من أيام التشريق، وأيام التشريق هي: 11، 12، 13 من ذي الحجة، وسميت بذلك: لأنهم كانوا يشرقون لحوم الأضاحي

ماذا نستفيد من الحديثين؟

نستفيد: مشروعية الخطبة يوم النحر، وكذلك ثاني أيام التشريق.

•‌

‌ كم عدد خطبه صلى الله عليه وسلم في حجته؟

الظاهر من سياق أحاديث حجته صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم خطب ثلاث خطب.

الأولى: يوم عرفة بعرفة.

والثانية: يوم النحر بمنى.

والثالثة: أوسط أيام التشريق بمنى.

•‌

‌ اذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة؟

في حديث جابر الطويل في صفة حج النبي وفيه (

فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ» . قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . ثَلَاثَ مَرَّات). رواه مسلم

•‌

‌ اذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر؟

عَنْ أَبِى بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ - ثُمَّ قَالَ - أَيُّ شَهْرٍ هَذَا». قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ - فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ «أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ». قُلْنَا بَلَى. قَالَ «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا». قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ - فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ «أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ». قُلْنَا بَلَى. قَالَ «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا». قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ - فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ». قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ - وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِى كُفَّاراً - أَوْ ضُلاَّلاً - يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ». ثُمَّ قَالَ «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ) متفق عليه.

ص: 432

•‌

‌ اذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق؟

جاء في لفظ أنه عليه السلام قال: هل تدرون أي يوم هذا؟ قال: هو اليوم الذي يدعون يوم الرؤوس قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أوسط أيام التشريق، هل تدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا المشعر الحرام، ثم قال: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلغت، فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلاً حتى مات).

قال في عون المعبود: وهذه هي الخطبة الثالثة بعد صلاة الظهر فعلها ليعلم الناس بها المبيت، والرمي في أيام التشريق وغير ذلك؛ مما بين أيديهم.

وقال ابن القصار: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره؛ لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا.

•‌

‌ اذكر أسماء أيام الحج؟

اليوم الثامن: يوم التروية.

اليوم التاسع: يوم عرفة.

اليوم العاشر: يوم النحر.

اليوم الحادي عشر: يوم القر، لأن الناس يقرون في منى.

اليوم الثاني عشر: يوم النفر الأول.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- يوم النحر هو العيد، وهو يوم الحج الأكبر، قال صلى الله عليه وسلم:(يوم الحج الأكبر يوم النحر)، وسمي بذلك لأن معظم أيام الحج ومناسكه فيه.

•‌

‌ ما أفضل أيام الدنيا؟

اختلف العلماء في ذلك، على قولين:

القول الأول: يوم النحر أفضل.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام عند الله يوم النحر). رواه أبو داود

القول الثاني: يوم عرفة.

وهذا المشهور عند أصحاب الشافعي. قالوا:

أ- لأن صيامه يكفر سنتين.

ب- وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة.

ج- ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف.

والراجح القول الأول.

قال ابن القيم: لأن الحديث الدال عليه لا يعارضه شيء يقاومه.

ص: 433

775 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا (طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ اَلصَّفَا وَاَلْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث عند مسلم؟

الحديث لفظه عند مسلم: عن عائشة أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر (يسعك طوافك لحجك وعمرتك، فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة وهو قول جمهور العلماء ويدل لذلك:

أ- عن عائشة قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

وفيه: فأما الذين جمعوا الحج والعمرة (وهم القارنون) فإنما طافوا طوافاً واحداً) متفق عليه.

ب- وعن جابر قال (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) رواه مسلم.

قال النووي رحمه الله (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابه) يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا طَوَاف وَاحِد لِلإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد.

ج- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً ولم يطف بعد عرفة إلا طوافاً واحداً، وأما طوافه الأول حين قدم، فهو طواف القدوم.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: هل يكفي طواف واحد وسعي واحد للقارن؟

فأجاب: إذا حج الإنسان قارناً فإنه يجزئه طواف الحج، وسعي الحجّ عن العمرة والحج جميعاً، ويكون طواف القدوم طواف سنّة وإن شاء قدم السعي بعد طواف القدوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شاء أخره إلى يوم العيد، بعد طواف الإفاضة، ولكن تقديمه أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم العيد فإنه يطوف طواف الإفاضة فقط، ولا يسعى لأنه سعى من قبل، والدليل على أن الطواف والسعي يكفيان للعمرة والحج جميعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وكانت قارنة:(طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجِك وعمرتك) رواه أبو داود وصححه الألباني، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن طواف القارن وسعي القارن يكفي للحج والعمرة جميعاً.

قال ابن قدامة رحمه الله: المشهور عن أحمد، أن القارن بين الحج والعمرة، لا يلزمه من العمل إلا ما يلزم المفرد، وأنه يجزئه طواف واحد، وسعي واحد، لحجه وعمرته. وهذا قول ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون: بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد، وهو طواف الإفاضة، وسعي واحد، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها.

ص: 434

•‌

‌ كم سعي على المتمتع؟

اختلف العلماء في المتمتع، هل يكفيه سعي واحد على قولين:

القول الأول: أنه لا يكفيه، بل عليه سعيان، سعي لعمرته، وسعي لحجته بعد إفاضته من عرفات.

أ- لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، وفيه فقالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) رواه البخاري ومسلم.

وقولها رضي الله عنها عن الذين أهلوا بالعمرة - (ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) تعني به: الطواف بين الصفا والمروة، على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث.

وأما قول من قال: أرادت بذلك طواف الإفاضة، فليس بصحيح؛ لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه، وإنما المراد بذلك: ما يخص المتمتع، وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى لتكميل حجه، وذلك واضح بحمد الله، وهو قول أكثر أهل العلم.

ويدل على صحة ذلك أيضاً ما رواه البخاري في الصحيح تعليقاً مجزوماً به، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن متعة الحج، فقال: أَهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي)، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال:(من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله)، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة). انتهى المقصود منه، وهو صريح في سعي المتمتع مرتين.

القول الثاني: أن المتمتع يكفيه سعي واحد.

وبهذا قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.

لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافهم الأول) رواه مسلم

قال ابن القيم: من تمسك بهذا الحديث، هذا نص صحيح، صرح فيه جابر بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد.

لكن الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الجواب الأول: بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافاً واحداً للعمرة والحج، خصوص القارنين منهم، كالنَّبي صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: قَوْله: (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابه بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَهُوَ طَوَافه الْأَوَّل) يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَاف وَاحِد لِلْإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد.

الجواب الثاني: أن يقال: إن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه، وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة، لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.

الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد.

ص: 435

776 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمُلْ فِي اَلسَّبْعِ اَلَّذِي أَفَاضَ فِيهِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.

===

الحديث فيه ضعف، فيه ابن جريج وهو من المدلسين، وقد أعل أيضاً بالإرسال.

والحديث دليل على أن الرمل لا يكون إلا في طواف القدوم كما تقدم، ولا يكون في طواف الإفاضة، وقد تقدم ذلك.

ص: 436

777 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى اَلْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

778 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ -أَيْ: اَلنُّزُولَ بِالْأَبْطَحِ- وَتَقُولُ: إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلاً أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(بِالْمُحَصَّبِ) على وزن محمد، وهو اسم مكان متسع بين جبلين، وهو إلى منى أقرب من مكة، سمي بذلك لكثرة ما به من الحصى.

(بِالْأَبْطَحِ) وهو المحصب. قال النووي: وَ (الْمُحَصَّبُ) بِفَتْحِ الْحَاء وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ (وَالْحَصْبَة) بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان الصَّاد، وَ (الْأَبْطَح) وَالْبَطْحَاء وَخَيْف بَنِي كِنَانَة اِسْم لِشَيْءِ وَاحِد، وَأَصْل الْخَيْف كُلّ مَا اِنْحَدَرَ عَنْ الْجَبَل وَارْتَفَعَ عَنْ الْمِيل.

•‌

‌ هل نزول المحصب سنة أم وقع اتفاقاً؟

اختلف العلماء في ذلك والصحيح أنه سنة.

وهو مذهب جمهور العلماء.

قال النووي:

فَحَصَل خِلَاف بَيْن الصَّحَابَة رضي الله عنهم. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور اِسْتِحْبَابه اِقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ وَغَيْرهمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يُصَلِّي بِهِ الظُّهْر وَالْعَصْر وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاء وَيَبِيتُ بِهِ بَعْض اللَّيْل أَوْ كُلّه اِقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال في طرح التثريب: وهو قول الأئمة الأربعة.

أ-لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أنس.

ب- عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِمِنًى (نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ إِنَّ قُرَيْشاً وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِى بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ) متفق عليه.

فالمحصب والأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة أسماء للموضع الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة يوم النفر قبل أن يودع، وهو موضع بين مكة ومنى.

وهذا يدل على أن نزوله صلى الله عليه وسلم بالمحصب كان قصداً، لهذه المصلحة، شكراً لله تعالى.

قال النووي: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَكَانَ نُزُوله صلى الله عليه وسلم هُنَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الظُّهُور بَعْد الِاخْتِفَاء، وَعَلَى إِظْهَار دِين اللَّه تَعَالَى.

ب- وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون الأبطح) رواه مسلم.

ب- ولفعل الصحابة، فعن سالم:(أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون بالأبطح).

القول الثاني: ليس بسنة.

وهذا مروي عن ابن عباس وعائشة.

أما عائشة، فلحديث الباب (أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ -أَيْ: اَلنُّزُولَ بِالْأَبْطَحِ- وَتَقُولُ: إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلاً أَسْمَحَ لِخُرُوجِه).

وأما ابن عباس فقال (التحصيب ليس بشيء، وإنما منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه

والصحيح الأول.

فإن قيل: ما الجواب عن ما ورد عن عائشة وابن عباس؟

قال الحافظ: والحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك، فلا يلزم بتركه دم، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك.

ص: 437

779 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْحَائِضِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(أُمِرَ اَلنَّاسُ) الآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا ينصرفنّ أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت).

(أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ) أي: الطواف.

(إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ) أي: طواف الوداع.

(عَنِ الْحَائِضِ) وفي معناها النفساء.

•‌

‌ ما حكم طواف الوداع للحاج؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

أولاً: أنه واجب.

قال النووي: وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء، منهم: الحسن البصري، والحكم، وحماد، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

وهذا القول هو الصحيح.

أ- لحديث الباب، ووجه الدلالة من وجهين:

الأول: الأمر بطواف الوداع، بقوله (أمِر) وفي رواية لمسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت).

الثاني: أنه قال (خفف عن الحائض) والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام.

قال الحافظ في الفتح: فِيهِ دَلِيل عَلَى وُجُوب طَوَاف الْوَدَاع لِلأَمْرِ الْمُؤَكَّد بِهِ وَلِلتَّعْبِيرِ فِي حَقّ الْحَائِض بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّخْفِيف لا يَكُون إِلا مِنْ أَمْر مُؤَكَّد " انتهى. ونحوه قاله النووي في "شرح مسلم".

ب- ولحديث ابن عباس قال (كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أن النهي عن النفر قبل طواف الوداع دليل على الوجوب.

القول الثاني: أنه سنة لا شيء في تركه.

وبه قال مالك وداود وابن المنذر.

قالوا: إن طواف الوداع لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجباً لوجب عليهما كطواف الإفاضة

والقول الأول هو الصحيح، وأن من تركه عليه دم.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْحَائِضِ)؟

نستفيد: سقوط طوف الوداع عن الحائض.

قال في المغني: هو قول عامة الفقهاء.

قال النووي: هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت.

• وهل يسقط عن النفساء أم لا؟

فالصحيح نعم، أنه يسقط عن النفساء خلافاً لابن حزم.

ص: 438

•‌

‌ ما حكم طواف الوداع للمعتمر؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه سنة.

وهذا قول جمهور العلماء، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً.

أ- أن الصحابة رضي الله عنهم لما حلوا من عمرتهم في حجة الوداع، خرجوا إلى منى وعرفة، ولم يؤمروا بطواف الوداع، ولو كان واجباً لأمروا به.

ب- ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يطف للوداع عند خروجه من مكة بعد عمرة القضاء والجعرانة.

ج-ولأن الأحاديث لم تأت إلا بأمر الحاج به، ففي حديث ابن عمر المخرّج عند ابن خزيمة (أمر الحاج .. ) وكذلك رواية ابن عباس عند الشافعي، فتخصيصه بالحاج يدل على أن المعتمر على خلافه.

وحديث (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) أمر للحجاج بدليل قرينة الحال، لأنه صلى الله عليه وسلم قاله عند الفراغ من الحج إرشاداً للحجاج.

قال الشيخ ابن باز: المعتمر لا وداع عليه في أصح قولي العلماء.

القول الثاني: أنه يجب على المعتمر وداع.

وبه قال الثوري.

قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا القول هو الراجح،

وقال: طواف الوداع واجب على كلِّ إنسان مغادر مكة وهو حاج أو معتمر، للأدلة التالية:

أ- عموم قوله: (لا ينفر واحد حتى يكون آخر عهده بالبيت).

وهذا شامل (واحدٌ) نكرة في سياق النفي، أو في سياق النهي، فتعم كل من خرج.

ب- أن العمرة كالحج، سماها النبي صلى الله عليه وسلم حجاً أصغر، كما في حديث عمرو بن حزم المشهور الذي تلقته الأمة بالقبول:(والعمرة هي الحج الأصغر).

ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليعلى بن أمية: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).

فإذا كنت تصنع طواف الوداع في حجك، فاصنعه في عمرتك، ولا يخرج من ذلك إلا ما أجمع العلماء على خروجه، مثل: الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فإن هذا بالإجماع ليس مشروعاً في العمرة. (انتهى كلام الشيخ).

د- حديث الحارث بن عبد الله بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت) رواه الترمذي، لكنه ضعيف.

والراجح أن طواف الوداع للعمرة سنة.

لكن ينبغي للإنسان أن يفعله خروجاً من الخلاف وأبرأ للذمة. والله أعلم.

فائدة: أجمع العلماء على أن المعتمر إذا اعتمر ثم خرج مباشرة، أنه لا يجب عليه طواف وداع، كأن يقدم مكة فيطوف ويسعى ويحلق ثم يخرج مباشرة، فهذا لا طواف عليه.

ص: 439

•‌

‌ هل على أهل مكة طواف وداع؟

أهل مكة ليس عليهم أن يطوفوا للوداع؛ لأن الطواف وجب توديعا للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة لأنها وطنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في بيانه أن طواف الوداع ليس من أركان الحج التي لا بد منها: ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم، ولا طواف وداع؛ لانتفاء معنى ذلك في حقهم، فإنهم ليسوا بقادمين إليها ولا مودعين لها ما داموا فيها.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ليس على أهل مكة طواف وداع.

وهذا الأمر يشمل كل من كان داخل حدود الحرم.

قال ابن قدامة: ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي، لا وداع عليه.

لكن إذا أراد شخص من أهل مكة أن يسافر منها بعد أداء المناسك فإنه يلزمه طواف الوداع قبل الخروج من مكة.

قال النووي رحمه الله: قال أصحابنا: من فرغ من مناسكه، وأراد المقام بمكة، ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه، سواء كان من أهلها، أو غريبا، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا كان الرجل من أهل مكة، وحج وسافر بعد الحج، فليطف للوداع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت) مسلم، وهذا عام، فنقول لهذا المكي: ما دمت سافرت في أيام الحج، وقد حججت، فلا تسافر حتى تطوف.

•‌

‌ هل على أهل جدة طواف وداع؟

نعم يجب عليهم طواف الوداع عند الخروج من مكة.

لعموم الأدلة.

قال الشيخ ابن عثيمين: من كان من أهل جدة فإنه يجب عليه أن لا يخرج من مكة حتى يودع.

فائدة: قال بن قدامة: إذا نفرت الحائض بغير وداع فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت وودعت، لأنها في حكم الإقامة، بدليل أنها لا تستبيح الرخص.

•‌

‌ اذكر بعض أخطاء الناس في طواع الوداع؟

الناس يخطئون في طواف الوداع في أمور:

الأول: أن بعض الناس لا يجعل الطواف آخر أمره؛ بل ينزل إلى مكة ويطوف طواف الوداع، وقد بقي عليه رمي الجمرات، ثم يخرج إلى منى فيرمي الجمرات ثم يغادر، وهذا خطأ، ولا يجزئ طواف الوداع في مثل هذه الحال، وذلك لأنه لم يكن آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف؛ بل كان آخر عهده رمي الجمرات.

الثاني: أن بعض الناس يطوف للوداع ويبقى في مكة بعده، وهذا يوجب إلغاء طواف الوداع، وأن يأتي ببدله عند سفره. نعم لو أقام الإنسان في مكة بعد طواف الوداع لشراء حاجة أو لتحميل العفش أو ما أشبه ذلك فهذا لا بأس به.

الثالث: أن بعض الناس إذا طاف للوداع وأراد الخروج من المسجد رجع القهقرى، أي: رجع على قفاه، يزعم أنه يتحاشى بذلك تولية الكعبة ظهره، وهذا بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشد منا تعظيماً لله تعالى ولبيته، ولو كان هذا من تعظيم الله وبيته لفعله صلى الله عليه وسلم. وحينئذ فإن السنة إذا طاف الإنسان للوداع أن يخرج على وجهه ولو ولى البيت ظهره في هذه الحالة.

الرابع: أن بعض الناس إذا طاف للوداع ثم انصرف ووصل إلى باب المسجد الحرام اتجه إلى الكعبة وكأنه يودّعها، فيدعو أو يُسلِّم أو ما أشبه ذلك، وهذا من البدع أيضاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولو كان خيراً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ".

ص: 440

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

• قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: من طاف للإفاضة قبل الرمي، ونوى في طوافه أن الطواف طواف إفاضة ووداع، فهذا لا يجزئه عن الوداع، لأنه لم يكمل أعمال الحج بعد، ولو كان طوافه المذكور بعد فراغه من الرمي اكتفى به عن الوداع، ولم يقم بعده، بل سافر في الحال كفاه عن طواف الوداع.

• قال في المغني: إذا طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعليه إعادته.

وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور.

لحديث الباب.

• رخص العلماء له في الأشياء التي يفعلها وهو عابر وماش، مثلاً يشتري حاجة في طريقه، أو أن ينتظر رفقته متى جاءوا ركب ومشى، ومثله لو تغدى أو تعشى.

• قول بعض الفقهاء: تقف الحائض والنفساء على باب المسجد

، هذا فيه نظر، فقد انعقد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يندب إليه، فلما حاضت صفية قال:(فلتنفر) فقد خفف عنها النبي صلى الله عليه وسلم طواف الوداع، ولم يشرع لها الدعاء عند الباب.

•‌

‌ واجبات الحج.

‌1 - اَلْإِحْرَامُ مِنْ اَلْمِيقَاتِ.

فيجب على الحاج أو المعتمر أن يحرم من الميقات، ولا يجوز أن يتجاوزه بغير إحرام إذا أراد الحج أو العمرة

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (يهل أهل المدينة .... ) وهذا خبر بمعنى الأمر.

ب-وقال ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة

). رواه البخاري.

‌2 - وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اَلْغُرُوبِ.

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لو دفع بالناس قبل الغروب لكان أرفق ومع ذلك وقف إلى الغروب.

ولأن الدفع قبل الغروب فيه مشابهة لأهل الجاهلية لأنهم يدفعون قبل الغروب. [الممتع: 7].

فتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الدفع إلى ما بعد غروب الشمس ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب مع أن وقت المغرب قد دخل، يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت، وكأنه عليه السلام ممنوع حتى تغرب الشمس.

‌3 - وَالْمَبِيتُ لَيْلَةَ اَلنَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ.

فالمبيت بمزدلفة من واجبات الحج، وهذا قول الأكثر.

لقوله تعالى (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ).

وقال صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وجمْع كلها موقف) رواه مسلم.

وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك سنة، وذهب بعضهم إلى أنه ركن، وتقدم ذلك كله.

‌4 - المبيت بمنى أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ.

أي: ومن واجبات الحج المبيت بمنى ليالي التشريق.

لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اِسْتَأْذَنَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي رواية (رخص).

فالعباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، ولو لم يكن واجباً ما احتاج إلى الاستئذان.

ص: 441

‌5 - وَرَمْيُ اَلْجِمَارِ.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه الترمذي.

لأنه عمل يترتب عليه الحل فكان واجباً ليكون فاصلاً بين الحل والإحرام.

‌6 - وَالْحَلْقُ أَوْ اَلتَّقْصِيرُ.

لأن الله جعله وصفاً في الحج والعمرة فقال: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ)

‌7 - طواف الوداع.

عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْحَائِضِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية (لا ينصرفنّ أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت).

•‌

‌ الفرق بين ترك الأركان وترك الواجبات.

إذا ترك الحاج ركن من أركان الحج:

فإن كانت الإحرام - وهي النية -لم ينعقد نسكه لحديث (إنما الأعمال بالنيات).

وإن ترك ركناً من أركان الحج - غير النية - لم يتم حجه حتى يأتي به، فإذا كان الركن مما يفوت فالحج لاغ، كما لو ترك الوقوف بعرفة حتى خرج فجر يوم العيد.

وإن ترك واجباً فعليه دم.

عن ابن عباس قال: (من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً). رواه مالك

هذا الدم جبران لا شكران، وعليه فيجب أن يتصدق بجميعه على فقراء الحرم ويذبح في الحرم ويوزع في الحرم. (وهذا ما عليه جماهير العلماء).

ص: 442

780 -

وَعَنِ اِبْنِ اَلزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي بِمِائَةِ صَلَاةٍ - رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

•‌

‌ ما صحة الحديث؟

الحديث إسناده صحيح.

•‌

‌ كم مقدار الصلاة في المسجد النبوي؟

مقدار الصلاة فيه عن ألف صلاة فيما سوى المسجد الحرام.

وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).

•‌

‌ هل المضاعفة خاص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بناه أو يشمل الزيادة التي طرأت على المسجد بعد وفاته؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن الصلاة تضاعف فيها كما تضاعف في أصل المسجد.

وهذا مذهب الجمهور.

قال ابن رجب رحمه الله: وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل أيضاً، فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كله سواء في المضاعفة والفضل.

وقد قيل: إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف، إنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، منهم ابن عقيل وابن الجوزي، وبعض الشافعية.

القول الثاني: أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده.

ورجح هذا النووي.

والراجح الأول.

والله أعلم.

•‌

‌ ما فضل الصلاة في المسجد الحرام؟

الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) متفق عليه.

وقد جاء عند ابن ماجه (وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه).

•‌

‌ هل هذا الفضل يشمل جميع الحرام أم فقط خاص بمسجد الكعبة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أن المضاعفة خاصة بالمسجد الذي فيه الكعبة.

وهذا مذهب المالكية، وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء منهم النووي والمحب الطبري، وابن مفلح، وابن حجر الهيتمي واختاره ابن عثيمين رحمهم الله.

أ- لقوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).

وجه الدلالة: أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان من مسجد الكعبة، كما يدل على ذلك حديث أنس قال (أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة) فدل ذلك على أن المراد بالمسجد الحرام في مضاعفة الصلاة، مسجد الكعبة.

ص: 443

ب- ولقوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام) والمقصود أن الاستقبال في هذه الآية للكعبة.

ج-ولحديث ميمونة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواها من المساجد إلا مسجد الكعبة) رواه مسلم.

وجه الدلالة: قوله (إلا مسجد الكعبة) وهذا نص، حيث فسرت هذه الرواية، الروايات الأخرى التي فيها ذكر المسجد الحرام.

القول الثاني: أن المضاعفة عامة في جميع الحرم.

وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وقول للحنابلة، واختاره ابن القيم والشيخ ابن باز.

أ- لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا).

فهذه الآية تدل على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كله وليس المسجد فقط، قال ابن حزم بلا خلاف.

ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم - عندما كان في صلح الحديبية - (أخرجه أحمد مطولاً 4/ 323) كان يصلي في الحرم مع أن إقامته في الحديبية بالحل وذكر الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم.

وهذا من أصرح الأدلة على أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع الحرم وليس مسجد الجماعة فقط.

قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا دلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف.

•‌

‌ هل المضاعفة تختص بالفريضة أم تشمل حتى النافلة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: إن المضاعفة تختص بالفريضة فقط.

وهذا مذهب أبي حنيفة والمالكية ورجحه الطحاوي.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).

القول الثاني: أن المضاعفة تعم صلاة الفريضة والنفل.

وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة ورجحه النووي.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة؛ بل يعم الفرض والنفل جميعاً، وبه قال مطرف من أصحاب مالك. وقال الطحاوي: يختص بالفرض، وهذا مخالف إطلاق هذه الأحاديث الصحيحة. والله اعلم.

لإطلاق الأحاديث الصحيحة.

ص: 444

قال الشيخ ابن باز: المضاعفة عامة للفرض والنفل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الفريضة بل قال (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).

وقال صلى الله عليه وسلم (صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)، وهذا يعم النفل والفرض، لكن النفل في البيت أفضل، ويكون له أجر أكثر، والمرأة في بيتها أفضل ولها أجر أكثر، وإذا صلى الرجل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً أو نفلاً فله هذه المضاعفة، ومع هذا فالمشروع له أن يصلي النافلة في البيت، سنة الظهر سنة المغرب سنة العشاء سنة الفجر أفضل، وتكون له المضاعفة أكثر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: قال للناس: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويخاطبهم وهو في المدينة عليه السلام، فدل ذلك على أن صلاتهم في بيوتهم صلاة النافلة أفضل وتكون مضاعفتها أكثر، وهكذا في المسجد الحرام.

وهذا القول هو الراجح.

فائدة: قال الحافظ ابن حجر: ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء كما نقله الثوري وغيره.

•‌

‌ أيهما أفضل مكة أم المدينة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن مكة أفضل.

وهذا قول الجمهور.

لحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت). رواه الترمذي وصححه.

قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف، فلا ينبغي العدول عنه.

القول الثاني: أن المدينة أفضل.

وهذا مذهب مالك.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).

قال ابن عبد البر: " هذا الاستدلال بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة ".

والراجح القول الأول.

فائدة: قال النووي: وأجمعوا أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض.

ص: 445

•‌

‌ كم مقدار الصلاة في المسجد الأقصى، ولماذا سمي بذلك؟

سمي بذلك: قيل: لبعده عن المسجد الحرام في المسافة.

وقيل: في الزمان، وفيه نظر، لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة.

مقدار الصلاة فيه:

قيل: عن [500] صلاة.

جاء ذلك عند الطبراني.

والذي يظهر من كلام ابن تيمية وابن القيم ترجيح هذا القول.

وقيل: بألف صلاة.

جاء عند ابن ماجه، وهو ضعيف.

وقيل: بخمسين صلاة.

جاء عند ابن ماجه.

قال ابن القيم تعليقاً على هذه الرواية: وهذا محال، لأن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل منه، والصلاة فيه تفضل على غيره بألف صلاة.

وقال الذهبي: هذا منكر جداً.

وقيل: بمائتين وخمسين صلاة.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مِثْل شطن فرسه من الأرض حيث يَرى منه بيت المقدس خيراً له من الدنيا جميعاً) رواه الحاكم (4/ 509) وصححه ووافقه الذهبي والألباني كما في " السلسلة الصحيحة " في آخر الكلام على حديث رقم (2902).

•‌

‌ هل التضعيف خاص بالصلاة أم يشمل جميع الأعمال الصالحة كالصوم والصدقة وغيرها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن الأعمال الصالحة لا تضاعف في الحرم كالصلاة.

واستدلوا بأن الأدلة الثابتة في التضعيف مختصة بالصلاة فقط والقول بمضاعفة الطاعات الأخرى يحتاج إلى دليل ثابت.

القول الثاني: أن الأعمال الصالحة تضاعف كالصلاة.

أ-لحديث ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له كتب الله له مئة ألف شهر رمضان فيما سواه

" (أخرجه ابن ماجه، قال الألباني: الحديث موضوع.

ونوقش الاستدلال بأن الحديث لا يثبت.

ب- ولحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة) رواه البزار، والحديث ضعيف.

والصحيح القول الأول، وأنه لم يثبت دليل ينص على مضاعفة الطاعات في المسجد الحرام كمضاعفة الصلاة أي بمائة ألف، ولكن تبقى الأعمال الصالحة في الحرم لها تعظيم ومزية عن غيرها وذلك لفضيلة الحرم على الحل.

قال ابن باز رحمه الله: وبقية الأعمال الصالحة تضاعف - أي في الحرم - ولكن لم يرد فيها حد محدود، إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال الصالحة كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد.

ص: 446

‌بَابُ اَلْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ

الفوات: أن يفوت الحج، كأن يفوته الوقوف بعرفة، حيث لم يصلها إلا بعد مضي وقتها.

فمن لم يأت عرفة قبل طلوع فجر يوم النحر، ولو لحظة، ولو ماراً، فاته الحج بإجماع العلماء.

قال النووي رحمه الله في (المجموع): فإذا أحرم بالحج، فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج بالإجماع.

ولذلك سمي الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، لأنه بفوته يفوت الحج، وليس هناك ركن من أركان الحج إلا ويمكن تداركه إلا الوقوف بعرفة، ومن ثم قال النبي (الحج عرفة)، بخلاف الطواف لأنه ليس له وقت محدود.

فمن فاته الحج يلزمه ما يلي:

أولاً: أن يحول هذا الحج إلى عمرة، فيأتي إلى الكعبة ويطوف بالسعي ويقصر.

لأنه ليس بإمكانه إتمام الحج الآن، ولأن الحج عرفة.

لما رواه مالك في الموطأ (870) أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه (خَرَجَ حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالنَّازِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلًا، فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ)، وصحح إسناده النووي رحمه الله.

ثانياً: يلزمه القضاء والهدي.

أما وجوب القضاء والهدي، فلما رواه عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا: صَدَقَ) رواه أبو داود (1862) وفي لفظ: (مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ أَوْ مَرِضَ). صححه الألباني في صحيح أبي داود.

ولقول عمر لأبي أيوب رضي الله عنهما: (فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلًا، فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ).

وبهذا قال الحنفية ومالك والشافعي والحنابلة.

وروى مالك عن نافع عن سليمان بن يسار (أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْطَأْنَا الْعِدَّةَ، كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَانْحَرُوا هَدْيًا، إِنْ كَانَ مَعَكُمْ، ثُمَّ احْلِقُوا أَوْ قَصِّرُوا، وَارْجِعُوا، فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَحُجُّوا وَأَهْدُوا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ).

وقال ابن قدامة: الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين. وهو قول من سمينا من الصحابة، والفقهاء، إلا أصحاب الرأي، فإنهم قالوا: لا هدي عليه

، ولنا، حديث عطاء، وإجماع الصحابة

" انتهى.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب القضاء إلا إذا كان واجباً عليه.

• الخلاصة:

أولاً: من فاته الحج وكان حجه فرضاً، فعليه إعادته بغير خلاف.

ثانياً: من فاته الحج وكان حجه نفلاً، فهل يلزمه إعادته أم لا؟

جماهير العلماء: يلزمه إعادته.

فهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والمذهب عند الحنابلة.

وذهب الظاهرية إلى أنه لا يلزمه إعادته.

والأول أصح.

ص: 447

781 -

عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَلَقَ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اِعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اَللَّهِ) أي منع، منعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أداء عمرته يوم الحديبية.

قال تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) الآية نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة.

•‌

‌ ما هو الإحصار؟

الإحصار في اللغة: المنع.

وفي الشرع: هو منع المحرمين من المضي للحج أو العمرة أو كليهما من جميع الطرق.

•‌

‌ هل يجوز للمحصر أن يتحلل إذا أحصر بعدو؟

فقد أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره العدو من المشركين وغيرهم فمنعوه الحج ولم يجد طريقاً آمناً يوصله إليه جاز له التحلل من إحرامه.

وإلى هذا ذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم الله جميعاً.

وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأنس.

وذلك لأن الله تعالى قد نص على جواز التحلل عند الحصر بقوله (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم أحصروا بالحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا.

وسواء كان الإحرام بالعمرة فقط أو بالحج أو بهما معاً لا خلاف فيه بين علماء الأمصار سوى ما نسب إلى ابن سيرين أنه قال: لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة ولا يخشى فواتها.

•‌

‌ ما الواجب على المحصر؟

‌أولاً: الهدي.

لقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

قال الشنقيطي: هذه الآية نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء.

ص: 448

وجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها، وهو مذهب الأئمة الأربعة.

•‌

‌ ما الحكم إذا لم يكن مع المحصر هدي؟

إذا كان مع المحصر هدي لزمه نحره إجماعاً، واختلف العلماء إذا لم يكن مع المحصر هدي، هل يلزمه شراؤه أو لا على قولين؟

القول الأول: وجوب الهدي عليه، وأنه يلزمه شراؤه.

وهذا قول الجمهور.

القول الثاني: أنه لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار.

وهذا قول مالك واختيار ابن القيم.

لأن الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفاً وأربعمائة، ولم يكن معهم كلهم هدي، بل كان هديهم سبعين بدنة، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالهدي، وإنما أمرهم بالتحلل مطلقاً.

وهذا أرجح.

‌ثانياً: الحلق.

وهذا مذهب مالك وأصحابه.

لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم وأمر أصحابه أن يحلقوا.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير، لأنه لم تذكر الآية.

والأول أصح.

‌ثالثاً: وجوب القضاء

وقد اختلف العلماء هل يجب عليه القضاء أم لا (إذا كان حجه تطوعاً)؟

القول الأول: يجب عليه القضاء.

لحديث (من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل).

القول الثاني: لا يلزمه القضاء إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام، أو واجباً بنذر، فإنه يلزمه القضاء السابق.

أ-أن القرآن لم يذكر.

ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه.

ج-أن هذا النسك ليس واجب ابتداء، وإنما الواجب إتمامه، وإتمامه معذور بالعجز عنه.

د-وأيضاً الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء أقل من الذين كانوا معه في عمرة الحديبية، فهو لم يأمرهم بالقضاء.

وهذا أرجح.

ص: 449

•‌

‌ ما رأيك بقول من قال من العلماء: إن المحصر إذا لم يجد الهدي يصوم عشرة أيام بنية التحلل.

قال بذلك بعض العلماء: قياساً على من عجز عما استيسر من الهدي في التمتع.

والصحيح أنه لا يجب.

وهو مذهب مالك.

فإنه لم يكن مع كل المحصرين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، ولم يأمرهم ولم يوجبه عليهم، وبذلك أمرهم بالتحلل مطلقاً.

•‌

‌ ما المراد بالإحصار؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

الأول: أن المحصر هو من حصره العدو فقط.

وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو المشهور من المذهب.

الثاني: المحصر هو حصر العدو أو من أحصره المرض ونحوه.

وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد في روايته الثانية، وروي نحوه عن ابن مسعود وعطاء والنخعي والثوري·

الثالث: المحصر هو الممنوع من الحج بأي نوع امتنع.

وإليه ذهب آخرون منهم مجاهد وقتادة.

ص: 450

782 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (دَخَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ اَلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أُرِيدُ اَلْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " حُجِّي وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(دَخَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ اَلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ) دخل عليها عيادة لها، أو زيارة وصلة، وضباعة بضم الضاد بنت الزبير الهاشمية، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم.

(أُرِيدُ اَلْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ) أي: مريضة.

(فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حُجِّي) أي: أحرمي بالحج.

(وَاشْتَرِطِي) أي: واجعلي شرطاً في حجك عند الإحرام، وهو اشتراط التحلل متى احتجتِ إليه.

(أَنَّ مَحَلِّي) بكسر الحاء، أي: محل خروجي من الإحرام.

(حَيْثُ حَبَسْتَنِي) أي: المكان والزمان الذي يحصل لي فيه الحبس

•‌

‌ ما هو الاشتراط؟

الاشتراط: أن يقول المحرم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.

•‌

‌ ما حكم الاشتراط؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه مستحب لكل أحد.

وهو قول عمر وعلي والشافعي، وهذا مذهب الحنابلة، ورجحه ابن حزم.

لحديث الباب.

القول الثاني: أنه غير مشروع مطلقاً.

وهو قول الحنفية والمالكية.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم ينقل عنه.

وقيل: يستحب للخائف فقط.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح جمعاً بين الأدلة.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كل من حج.

قال ابن تيمية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنه عمه ضباعة بنت الزبير أن تشترط على ربها لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت، ولم يكن يأمر بذلك كل من حج.

•‌

‌ ما فائدة الاشتراط؟

قال ابن قدامة: ويقيد هذا الشرط بشيئين:

أحدهما: أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه، أنه له التحلل.

الثاني: أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم.

• سئل الشيخ ابن باز ما حكم الاشتراط بعد عقد الإحرام بمدة؟

ليس له ذلك وإنما يقال ذلك عند عقد الإحرام، والمراد بعقد الإحرام هو: أن ينوي الدخول فيه بقلبه.

• وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بالنسبة للاشتراط في الحج، هل هناك حالات معينة يَشْتَرِط فيها الحاج ويقول: إن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي؟

فأجاب: الاشتراط في الحج أن يقول عند عقد الإحرام: إن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي.

وهذا الاشتراط لا يُسَنُّ إلا إذا كان هناك خوف مِنْ مرض أو امرأة تخاف من الحيض، أو إنسان متأخر يخشى أن يفوته الحج، ففي هذه الحالة ينبغي أن يشترط، وإذا اشترط وحصل ما يمنع من إتمام النسك، فإنه يتحلل وينصرف ولا شيء عليه.

أما إذا كان الإنسان غير خائف فالسنة أن لا يشترط، بل يعزم ويتوكل على الله.

ص: 451

783 -

وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ اَلْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرَجَ، فَقَدَ حَلَّ وَعَلَيْهِ اَلْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ قَالَ عِكْرِمَةُ. فَسَأَلْتُ اِبْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَا: صَدَقَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

===

(عَنْ عِكْرِمَةَ) البربَري مولى ابن عباس.

(مَنْ كُسِرَ) بضم الكاف وكسر السين، أصابه كسر في يده أو رجله.

(أَوْ عُرَج) بفتح الراء، أي أصابه شيء في رجله.

(فَقَدَ حَلَّ) أي يجوز له أن يترك إحرامه ويرجع إلى بلده.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث صحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن المحرم بحج أو عمرة إذا أصابه عذر منعه من إكمال النسك من كسر أو مرض أو حادث فإنه يحل من إحرامه بحصول ذلك المانع.

وقد استدل بالحديث من قال إن الإحصار يحصل بكل ما يمنع المحرم من المضي في نسكه من عدو أو مرض أو غيرهما.

وهذه المسألة (فيما يكون الإحصار) اختلف العلماء فيها على قولين:

القول الأول: لا إحصار إلا من عدو فقط دون مرض أو غيره.

وهذا قول ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وهو مذهب أحمد ومالك والشافعي.

وعلى هذا القول فمن أحصر بمرض ونحوه، لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه.

• الآية الكريمة، حيث أنها نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

• وورد عن ابن عباس (لا حصر إلا من عدو). رواه البيهقي

القول الثاني: أن الإحصار يكون بكل حابس يحبسه عن الحج من عدو أو مرض أو غير ذلك.

وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام.

لحديث الباب (من كسر أو عرج

).

لقوله تعالى: (فإن أحصرتم) أي منعتم عن إتمامها، ولم يقيد الله الحصر بعدو.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ هل يلزم المحصر القضاء من العام القابل؟

واختلف العلماء هل يجب عليه القضاء أم لا (إذا كان حجه تطوعاً)؟

القول الأول: يجب عليه القضاء.

وهذا مذهب الجمهور.

أ-لقوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله).

ب-لحديث الباب.

القول الثاني: لا يلزمه القضاء إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام، أو واجباً بنذر، فإنه يلزمه القضاء السابق.

أ-أن القرآن لم يذكر.

ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه.

ج-أن هذا النسك ليس واجب ابتداء، وإنما الواجب إتمامه، وإتمامه معذور بالعجز عنه.

د-وأيضاً الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء أقل من الذين كانوا معه في عمرة الحديبية، فهو لم يأمرهم بالقضاء.

وهذا أرجح.

ص: 452

‌كِتَابُ اَلْبُيُوعِ

‌بَابُ شُرُوطِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهُ

‌مقدمة:

‌تعريف البيع:

لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وسمي بيعاً من الباع، لأن كلاً من الآخذ والمعطي يمد يده.

واصطلاحاً: هو مبادلة مال بمال على التأبيد غير ربا وقرض.

قولنا (على التأبيد) احترازاً من الإجارة، فالإجارة مبادلة مال بمال ولكن ليس على سبيل التأبيد.

مثال: كأن أشتري منك هذا البيت لمدة سنة، هذا ليس بيعاً لكن إجارة.

قولنا (غير ربا) فإنه ليس من البيع لقوله تعالى (وحرم الربا)، مع أنه مبادلة.

مثال: كأن أعطيك ريال بريالين.

أن التفريق بينهم في الحكم دليل على التفريق بينهما في الحقيقة، فإن حقيقة البيع غير حقيقة الربا لأن الله فرق بينهما.

قولنا (وقرض) فالقرض لا يسمى بيعاً، وإن كان فيه مبادلة، لأن القصد من القرض الإرفاق والإحسان، والبيع القصد منه المعاوضة.

• المال يطلق على كل شيء له قيمة سواء كان نقداً (كالذهب والفضة) أو كان منقولاً (كالكتب والأقلام والثياب .. ) وهكذا الدواب والبهائم.

أ-ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاتها .. ثم ذكر الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، فاعتبر الإبل والبقر والغنم مالاً.

ب- وفي حديث الأعمى (أمسك عليك مالك) وقد كان له واد من الغنم.

قال العلماء: سمي المال مالاً لأن النفس تميل إليه.

•‌

‌ ما حكم البيع؟

البيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس:

أ-قال تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ).

ب-وقال تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) فهذا دليل على مشروعيته، لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بالإشهاد إلا على أمر مباح.

ج-وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فمنع سبحانه من البيع قبل الصلاة بعد الأذان للجمعة وفي أثنائها، ثم أذِنَ فيه بعد الصلاة، والأمر إذا جاء بعد نهي فهو إباحة.

د-وقال صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار) متفق عليه.

هـ-وقال صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري.

و-عن رفاعة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب أطيب؟ قال (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) رواه البزار.

ز-وعن حكيم بن حزام (أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يأتيني الرجل يريد البيع ليس عندي فأذهب إلى السوق فأشتريه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عند) رواه الترمذي، فدل بمفهومه على جواز بيع ما عنده.

وأجمع المسلمون على جوازه.

ص: 453

قال ابن قدامة: وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة.

والحكمة تقتضيه: وذلك لأن مصالح الناس تحتاج إلى البيع، فقد يكون عند رجل دراهم وليس عنده لباس أو طعام، أو صاحب طعام ونحوه في حاجة إلى دراهم، فيتوصل كل منهم إلى مقصوده بواسطة البيع، وهذا من رحمة الله بعباده.

•‌

‌ اذكر صيغ البيع:

البيع له صيغتان: صيغة قولية، وصيغة فعلية.

الصيغة القولية (وهي الإيجاب والقبول).

الإيجاب: اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه كالوكيل.

والقبول: اللفظ الصادر من المشتري.

مثال: يقول البائع بعتك هذه السيارة (هذا إيجاب)، فيقول المشتري قبلت (هذا قبول).

الصيغة الفعلية (وتسمى المعاطاة).

وهي أن يدفع المشتري الثمن ويدفع البائع السلعة بدون لفظ بينهما.

(كما يحصل في الأسواق الحديثة حيث تأتي وتأخذ السلعة وتعطيه الثمن).

وقد اختلف العلماء في صحة البيع بهذه الصيغة:

والراجح أنه يصح البيع بهذه الصيغة (وهذا مذهب المالكية والحنابلة واختاره النووي).

لأن الله قال (وأحل الله البيع) فأطلق الله، ولم يقل أحل البيع بصورة كذا، أو بصورة كذا.

قيل: لا يصح البيع بهذه الصيغة وهذا مذهب الشافعي.

وقيل: يصح في الأشياء اليسيرة دون الأشياء النفيسة.

المعاطاة لها صور:

(من الطرفين) كأن يكون السعر مكتوب على السلعة، فيأخذ المشتري السلعة ويعطي البائع القيمة.

(من المشتري) أن يقول البائع للمشتري خذ هذه بعشرة (إيجاب) فأخرج المشتري العشرة وأعطاه إياها ولم يقل قبلت.

(من البائع) أن يقول المشتري أعطني هذه بعشرة، فأخذها صاحب المحل وأعطاه إياها ولم يقل بعت. (الشرح الممتع)

•‌

‌ ما الأصل في البيع الحل أو الحرمة؟

الأصل فيه الحل.

قال تعالى (وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).

أي: أن الأصل في البيع الحل، فكل صورة من صور البيع يدعى أنها حرام فعلى المدعي البينة أي الدليل، فإذا شككنا في بيع هل هو حلال أو حرام، فالأصل أنه حلال. (وهذا ضابط مهم).

ص: 454

•‌

‌ اذكر شروط البيع؟

شروط البيع وهي سبعة عرفت بالتتبع والاستقراء لنصوص الشريعة.

والمقصود من هذه الشروط تحصين البيع من أمور ثلاثة: [الظلم، والغَرر، والربا] وهذه الشروط

في البائع والمشتري، وبعضها في المعقود عليه، وبعضها في الثمن.

الشرط الأول: الرضا. (والمعنى: أن يأتيا بالبيع اختياراً).

أ-قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).

ب- أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما البيع عن تراض) رواه ابن حبان.

ج-وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسٍ منه) ومن المعلوم أنه إذا لم يحصل رضا لم يحصل طيب نفس.

د-ومن النظر: لأنه لو قلنا لا يشترط الرضا لأدى ذلك إلى العدوان والفوضى، فكل من أراد مال غيره يأخذه قهراً ويعطيه ثمنه، وهذا فتح لباب الفوضى والعدوان.

• فإن أكره البائع أو المشتري على البيع لم يصح، لعموم الأدلة الدالة على أن المكره لا يؤاخذ ولا يترتب على عقوده شيء كما قال تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).

مثال: لو أن سلطاناً أرغم شخصاً على أن يبيع هذه السلعة لفلان فباعها فإن البيع لا يصح لأنها صدرت عن غير تراض.

• لو كان الإكراه بحق فإنه يجوز، مثال: كمن كان مديناً وطالبه الغرماء بالسداد وعنده سلع، فيجبره القاضي على البيع لسداد ديونه، فإن أبى أن يبيع باع الحاكم أمواله وسدد.

مثال آخر: أن يضطر رجل إلى طعام وهو عند هذا الشخص ولا يريد بيعه فإنه يجبر على أن يبيعه.

الشرط الثاني: أن يكون مقدوراً على تسليمه.

أ-لحديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم، وغير المقدور على تسليمه فيه غرر [فهو شبيه بالمعدوم]. لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا.

ب- قبض المبيع واستيلاء العاقد عليه هو المقصود من البيع، وعلى هذا لا يجوز بيع غير المقدور على تسليمه لفوات الغرض المقصود، ولأنه غرر.

أمثلة: فلا يجوز بيع العبد الآبق من سيده، لأنه غرر، لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا.

وأيضاً هو داخل في الميسر أيضاً [لأنه دائر بين المغنم والمغرم]، لان البائع لن يبيعه بسعر مثله، لأنه آبق، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يباع الآبق بمثل سعر غير الآبق، وكذلك المشتري إذا حصل على العبد فهو غانم، وان لم يحصل فهو غارم، وهذا هو الميسر.

وكذلك لا يجوز بيع البعير الشارد، لأنه غرر.

وكذلك طير حمام في الهواء لا يجوز بيعه، لأنه غير مقدور على تسليمه.

ص: 455

• لكن‌

‌ إذا كان يألف المكان والرجوع إليه فهل يجوز بيعه؟

قولان:

القول الأول: المنع مطلقاً، وهذا المذهب.

والقول الثاني: الجواز، واختاره ابن عقيل، وهو الأظهر، فإن رجع إلى مكانه فذاك، وإلا فللمشتري الفسخ.

• الغرر: قال ابن تيمية: هو ما تردد بين السلامة والعطب، ومعنى هذا: ما كان متردداً بين أن يسلم للمشتري فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يعطب فلا يحصل المقصود بالعقد.

وقال ابن القيم: الغرر ما تردد بين الحصول والفوات. (الذي لا يدري حصوله، هل يحصل ام لا) كبيع جمل شارد.

• الجهالة: هو ما علم حصوله وجهلت صفته. مثال: قال المشتري: أشتري منك هذا الكتاب بالمال الذي في جيبي (هذا يسمى جهالة لأننا علمنا حصوله لكننا لا ندري مقدار الدراهم).

• والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم في باب البيع يدخل تحته مسائل كثيرة.

قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه.

قاعدة مهمة: كل معاملة محرمة إنما تحرم لواحد من أمور أربعة: إما لوجود الربا فيها، وإما لما فيها من الميسر [إما غانماً أو غارماً]، وإما لما فيها من الظلم والتغرير والخداع، وإما هذا العقد يتضمن ترك واجب أو فعل محرم [مثل البيع بعد نداء الجمعة الثاني، أو باع سلاحاً في فتنة، أو باع عنباً لمن يتخذه خمراً).

الشرط الرابع: العلم بالمبيع برؤية أو صفة، فالرؤية فيما يعلم بالرؤية، والصفة فيما يعلم بالصفة، والشم فيما يعلم بالشم.

لأن جهالة البيع غرر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر.

• العلم بالصفة: يعني أن يصف له السلعة وإن لم يحضرها، ويشترط لذلك شرطان: أن يكون المبيع مما يمكن ضبطه وتحديده بالصفة، الشرط الثاني: أن يذكر ما يختلف به الثمن غالباً.

أمثلة:

أ-بيع ما في بطن الحمل.

مثال: قال بعتك ما بطني هذه الشاة، لا يجوز لأنه غرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فإنه لا يدرى هل هو ذكر أو أنثى، وهل هو حي أو ميت، وقد يكون واحداً أو أكثر.

ب-بيع ما في بطن أمتَه.

فلو كان عنده أمَة يطأها فقال بعتك حمل هذه الأَمَة، هذا لا يجوز لأنه بيع معدوم، لو قدرنا أنه سيوجد فهو مجهول العاقبة: لا ندري هل متعدد أولا، وهل هو ذكر أم أنثى.

وكذلك لا يجوز بيع لبن في ضرع.

• وكذلك لا يجوز بيع عبد من عبيده، مثال: عندي عشرة عبيد، فقلت: بعت عليك واحداً منهم بمائة، فلا يصح، لأن فيه غرر، لأن العبيد يختلفون، ومثل ذلك الغنم.

• لكن لو قال: خذ ما تشاء من هؤلاء العبيد أو من هذه الغنم بمائة، فالمذهب لا يجوز، والصحيح أن هذه الصورة جائزة، فإن أخذ المشتري شيئاً غالياً فنقول: إن البائع هو الذي فرط.

ص: 456

• كل بيع يتضمن الغرر او الجهالة فهو حرام لأمرين:

الأمر الأول: إبعاد الناس عن أكل الأموال بالباطل، والثاني: إبعاد الناس عن الشقاق والنزاع.

• يستثنى من ذلك: حمل الشاة وهي حامل، فإنه هذا يجوز، لأن الحمل ثبت تبعاً (ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً).

الشرط الرابع: أن يكون الثمن معلوماً قدره.

[المثمن] تقدم أنه لا بد أن يكون معلوماً فلا يصح بيع آبق [الثمن] أي لابد أن يكون معلوماً وهو المال.

• يشترط أن يكون الثمن (وهو المال) معلوماً قدره، وهل هو حال أو مؤجل.

لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وإذا كان الثمن مجهولاً حصل الغرر والخداع، والثمن أحد العوضين، فالجهل به غرر كالجهل بالمبيع.

مثال: لو قال اشتريت منك هذه السلعة بما في جيبي من الدراهم، فهذا لا يجوز.

• فلا يجوز البيع بما ينقطع به السعر، وهو ما تقف عليه المساومة، لأنه مجهول، فقد يقف السعر على ثمن كثير أو قليل فيحصل الغرر.

والقول الثاني: أنه يصح البيع بما ينقطع به السعر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، لأن الإنسان يطمئن ويقول: لي أسوة بالناس آخذه بما يأخذ به غيري.

الشرط الخامس: وأن يكون العاقد [البائع والمشتري] مالكاً للشيء أو مأذوناً فيه.

فلا يجوز للإنسان أن يبيع ملك غيره، فلو باع إنسان سيارة غيره، فإن البيع لا يصح.

أ-لحديث حكيم بن حزام (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: إنه يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق. فقال: لا تبع ما ليس عندك) رواه أحمد، أي لا تبع ما ليس في ملكك أو تحت تصرفك.

ب-ولأن بيع ما لا يملك تصرف في مال الغير، والتصرف في مال الغير حرام وظلم ومن أكل المال بالباطل وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).

ج-ولأننا إذا قلنا بجواز بيع الإنسان لملكِ غيره أدى ذلك إلى أن يستحل المال فيأكل المال المدفوع في مقابل ذلك المملوك بدون وجه حق.

• إذا كان المبيع ليس عنده وقت العقد فإن البيع لا يصح (كما يفعله بعض التجار يبيع السلعة قبل أن يملكها، فهذا لا يجوز، وكذلك يفعله كثير من البنوك).

الشرط السادس: أن يكون العاقد جائز التصرف (وهو: الحر، البالغ، العاقل، الرشيد).

الحر: فالمملوك لا يجوز بيعه ولا شراؤه (أي أنه لا يبيع ولا يشتري) إلا بإذن سيده، لأن العبد لا يملك، فما في يد العبد ملك لسيده.

البالغ: فالصغير دون التمييز لا يصح بيعه بالإجماع لأنه لا يتأتى منه القصد.

وأما المميز دون البلوغ فمحل خلاف بين العلماء على قولين:

قيل: يصح تصرفه، وقيل: لا يصح، لكن لوليه أن يأذن له بالتصرف في الأشياء اليسيرة ليتدرب وهذا القول هو الصحيح.

العاقل: فالمجنون لا يصح بيعه لعدم العقل الذي يحصل به التراضي والقصد.

الرشيد: وهو الذي يحسن التصرف في ماله، وضده السفيه فلا يصح تصرفه.

والدليل على هذا الشرط قوله تعالى (وابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).

(وابْتَلُوا الْيَتَامَى) أي اختبروهم، كأن يعطيه مال وينظر كيف يتصرف فيه (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) هذا الشرط الأول وهو البلوغ (فَإِنْ آنَسْتُمْ) علمتم (مِنْهُمْ رُشْداً) هذا الشرط الثاني، والرشد حسن التصرف (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وأما قبل البلوغ وقبل الرشد لا يدفع إليهم أموالهم، ولا يدفع إليهم أموالهم لأنه غير نافذ التصرف.

ص: 457

784 -

عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ اَلْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: عَمَلُ اَلرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث صحيح.

•‌

‌ ما أفضل المكاسب؟

اختلف العلماء أي المكاسب أفضل، مع اتفاقهم على أن العمل كله فاضل إذا كان مشروعاً.

فمنهم من ذهب إلى أن أفضل المكاسب الزراعة.

ومنهم من رأى أن أفضلها كسب اليد أي الصناعة.

وذهب آخرون إلى تفضيل التجارة على غيرها، وفريق آخر رأى أن أفضل المكاسب على الإطلاق ما يكتسب من أموال الكفار المحاربين عن طريق الجهاد في سبيل الله.

وقال الحافظ: أفضل ما يكسب من الأموال من الجهاد (أي الغنيمة) فهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم ولما فيه من إعلاء كلمة الله.

ورجحه ابن القيم، وقال: والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، حيث يقول:(بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله وجعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره. (زاد المعاد: 5/ 793).

قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة وقال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل.

قال النووي: والصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، فإن كان زراعة فهو أطيب الكسب لما يشمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يؤكل منه بغير عوض.

وقال ابن حجر: وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى، وخذلان كلمة أعدائه والنفع الأخروي. قال: ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل، ثم قال: والحق أن ذلك مختلف المراتب، وقد يختلف اختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله تعالى.

وقد ورد في فضل العمل في التجارة حديث لكنه لم يثبت، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (تسعة أعشار الرزق في التجارة).

وأما ورد في تفضيل العمل من كسب اليد (الصنائع) والتجارة:

فهو ما رواه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ).

ص: 458

وعَنْ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) رواه البخاري.

•‌

‌ ما هو البيع المبرور؟

البيع المبرور بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا).

فالبيع المبرور ما جمع الصدق والبيان.

الصدق: في الوصف. والبيان: في العيب.

قال الشيخ السعدي في شرح حديث (

فإن صدقا وبينا بورك .. ).

هذا الحديث أصل في بيان المعاملات النافعة، والمعاملات الضارة، وأن الفاصل بين النوعين: الصدق والبيان.

فمن صدق في معاملته، وبيّن جميع ما تتوقف عليه المعاملة من الأوصاف المقصودة، ومن العيوب والنقص، فهذه معاملة نافعة في العاجل: بامتثال أمر الله ورسوله، والسلامة من الإثم، ونزول البركة في معاملته، وفي الآجلة: بحصول الثواب، والسلامة من العقاب.

ومن كذب وكتم العيوب، وما في المعقود عليه من الصفات، فهو - مع إثمه - معاملته ممحوقة البركة.

ومتى نزعت البركة من المعاملة خسر صاحبها دنياه وأخراه.

ص: 459

785 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ اَلْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: - إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ اَلْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ اَلْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا اَلسُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا اَلْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا اَلنَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا. هُوَ حَرَامٌ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اَللَّهُ اَلْيَهُودَ، إِنَّ اَللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(عَامَ اَلْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ) فيه بيان تاريخ ذلك، وكان ذلك في رمضان، سنة ثمان من الهجرة، ويحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك، ثم أعاده صلى الله عليه وسلم ليسمعه من لم يكن سمعه. قاله في الفتح.

(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ) قال الحافظ: لم أقف تسمية القائل.

(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ!! أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني.

(شُحُومَ اَلْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا اَلسُّفُنُ) أي: تلطخ، والمعنى تدهن السفن بالشحوم بعد أن تذاب، ليمنع ذلك تسرب الماء للخشب.

(وَتُدْهَنُ بِهَا اَلْجُلُودُ) أي: أن تلك الشحوم تُطلى بها الجلود.

(وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا اَلنَّاسُ؟) أي: يُنوّرون بها مصابيحهم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم.

(لَا. هُوَ حَرَامٌ) قيل: أي: البيع حرام، وقيل: الضمير للانتفاع، أي: الانتفاع بشحوم الميتة حرام.

(قَاتَلَ اَللَّهُ اَلْيَهُودَ) أي: أهلكهم ولعنهم.

(إِنَّ اَللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ) أي: أذابوه حتى يصير ودكاً، فيزول عنه اسم الشحم، احتيالا على الوقوع في المحرم.

•‌

‌ عرف الميتة والخمر والميتة والأصنام؟

الميتة: كل ما لم يمت بذكاة شرعية.

والخمر: كل ما أسكر، كما قال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر).

والأصنام: جمع صنم وهو كل ما عبد من دون الله من أشجار أو أحجار أو نحو ذلك، ومثل ذلك الوثن.

•‌

‌ ما حكم بيع الخمر؟

حرام، وهذا بالإجماع، وكذلك شربها واقتنائها.

وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم بيعها كابن المنذر والنووي.

عن أنس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له) رواه أبو داود.

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم بيعها؟

لأن بها تزول عن الإنسان نعمة العقل التي كرَّمهْ الله بها، ويأتي في حال سكره ولهوه بأنواع المنكرات والعظائم، وإشاعة العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصد عن الخير وعن ذكر الله.

ص: 460

•‌

‌ ما حكم بيع الميتة؟

حرام، وهذا بالإجماع.

قال النووي: وأما الميتة والخمر والخنزير: فأجمع المسلمون على تحريم بيع كل واحد منها.

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم بيع الميتة؟

لأن فيها مضرة كبيرة على البدن، وهدم للصحة، ومع هذا فهي جيفة خبيثة نتنة نجسة، تعافها النفوس، ولو أكلت مع إكراهها والتقزز منها، لصارت مرضاً على مرض، وبلاء مع بلاء.

•‌

‌ هل يستثنى من بيع الميتة شيء من الميتات؟

نعم، يستثنى السمك والجراد.

أ - لحديث (أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد).

ب - إنما حرم بيع الميتة لأنه لا ينتفع بها، والميتة الحلال ينتفع بها.

•‌

‌ هل كل الميتة حرام أم هناك شيء من الميتة يجوز بيعه؟

هناك أشياء من الميتة يجوز بيعها وهي:

أ- ما لا تحله الحياة، كالشعر (للمعز) والوبر (للإبل) والصوف (للضأن) والريش (للطير)(هذا بيعه حلال).

ب- عظام الميتة: وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله لأنه يرى أن عظامها طاهرة، لكن جمهور العلماء على خلاف هذا القول.

ج- جلد الميتة، وذلك إذا دبغ، لأنه يطهر بالدباغ على القول الراجح.

•‌

‌ ما حكم بيع الخنزير؟

حرام.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الخنزير وشراؤه محرم.

وقال ابن القيم: وأما تحريم بيع الخنزير، فيتناول جملته، وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة.

وقال: والخنزير أشد تحريماً من الميتة.

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم بيع الخنزير؟

لأن ضرره على البدن والعقل عظيم؛ لأنه يسمم الجسد بأمراضه، ويورث آكله من طباعه الخبيثة، وهو مشاهد في الأمم التي تأكله، فقد عرفوا بالبرودة.

•‌

‌ ما حكم بيع الأصنام؟

حرام.

قال ابن القيم: تحريم بيع الأصنام أعظم تحريماً وإثماً وأشد منافاة للإسلام من بيع الميتة والخنزير.

ص: 461

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم بيع الأصنام؟

لأنه ذريعة للشرك ومفسدة للأديان.

قال ابن القيم رحمه الله في هذا الحديث: اشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول، ومطاعم تفسد الطباع، وتغذي غذاء خبيثاً، وأعيان تفسد الأديان، وتدعو إلى الفتنة والشرك.

فصان بتحريم النوع الأول: العقول عما يزيلها ويفسدها، وبالثاني: القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها، والغاذي شبيه بالمغتذي، وبالثالث: الأديان عما وضع لإفسادها، فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان.

•‌

‌ هل تجوز المتاجرة في الخمور والخنازير إذا كان لا يبيعها لمسلم؟

لا يجوز المتاجرة فيما حرم الله من الأطعمة وغيرها، كالخمور والخنزير ولو مع الكفرة؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه) ولأنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها وعاصرها ومعتصرها. (فتاوى اللجنة)

•‌

‌ ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم (

لا، هو حرام) هل يعود على البيع، أو على الانتفاع؟

اختلف العلماء في هذا على قولين:

القول الأول: أنه يعود على البيع، أي لا يحل البيع.

وعلى هذا القول: يجوز الانتفاع بشحوم الميتة دون بيعها.

ورجح هذا القول ابن تيمية، وابن القيم.

قال الصنعاني: وهذا هو الأظهر.

قال ابن القيم: قال شيخنا، هو راجع إلى البيع فإنه عليه السلام لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة، قالوا: إن في شحومها من المنافع كذا وكذا، فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال: لا، هو حرام. وهذا القول هو الراجح، لأن السياق بالبيع فلا يحل بيعها.

ولأن الانتفاع بالشحوم في غير الأكل انتفاع محض لا مفسدة فيه، فيجوز الانتفاع بها في مثل دون بيعها، وقد ذكر ابن القيم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع.

فقال رحمه الله: وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به بل لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع.

القول الثاني: أن الضمير يعود على الانتفاع، أي لا يجوز الانتفاع بشحوم الميتة.

وعزاه النووي للجمهور. قالوا:

أ-إن الضمير يعود على الانتفاع، لأنه أقرب مذكور.

ب- ولأن إباحة الانتفاع ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله.

والأول أصح.

ص: 462

•‌

‌ عرف الحيلة؟

الحيلة: هي التوصل إلى أمر محرم بفعلٍ ظاهره الإباحة. (بإسقاط واجب أو فعل محرم).

•‌

‌ ما حكم الحيل؟

حرام.

أ- لقوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فقد مسخ الله تلك القرية قردة لما تحايلوا على ارتكاب المحرم.

ب- ولأن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة (القلم) وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهو نائمون فأصبحت كالصريم، وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين، قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.

ج-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل).

د-ولأن المتحيل فيه نوع استهزاء بالله تعالى.

هـ-قال ابن القيم: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم الى من يعمل الحيلة في التوصل اليه.

قال ابن القيم رحمه الله: بعد أن ذكر تحريم الحيل: فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله، ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله، وأسقط فرائضه بالحيل، كقوله:(لعن الله المحلل والمحلل له)(لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها). (إعلام الموقعين)

•‌

‌ كم مفسدة ارتكب المتحايل؟

كل من تحيل لارتكاب محرم [إما بإسقاط واجب أو فعل محرم] فقد ارتكب مفسدتين:

الأولى: مفسدة التحايل. الثانية: مفسدة فعل المحرم

•‌

‌ اذكر بعض الأمثلة على سد الذرائع؟

جاءت الشريعة بسد الذرائع المؤدية إلى المحرمات:

- نهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبّوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة.

- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من أكبر الكبائر شتْم الرجل والديه، قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه).

- وأمسك صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، مع ما فيه من مصلحة، لكونه ذريعة إلى التنفير، وقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.

- ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور.

- ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها، حتى كأنه ينظر إليها.

- ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن فاعله.

- ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن التحليل والتحريم لله ورسوله، فما حرمه الله ورسوله فهو حرام، وما أحلوه فهو حلال.

- تحريم بيع الخمر، ويقاس عليه ما يضر العقل كالمخدرات والحشيش وغيرهما.

- حكمة الشرع في تحريم الخمر.

- تحريم بيع الميتة.

- تحريم بيع الخنزير.

- تحريم بيع الأصنام، ويدخل فيه كل ما فيه منفعة مضرة للدين كالمجلات الفاسدة، وكتب الضلال والبدع.

- جواز الانتفاع بشحوم الميتة. (لقوله: لا، هو حرام) عائد على البيع، كما هو الصحيح كما تقدم.

- جواز لعن اليهود.

- أن التحيل على محارم الله سبب لغضب الله.

- أن المتحيل متشبه باليهود المغضوب عليهم.

فائدة:

قال ابن القيم: فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو واقع في طائفتين:

علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله وشرعه، فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة.

ص: 463

786 -

وَعَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا اِخْتَلَفَ اَلْمُتَبَايِعَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ اَلسِّلْعَةِ أَوْ يَتَتَارَكَانِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم.

===

(إِذَا اِخْتَلَفَ اَلْمُتَبَايِعَانِ) أَيْ إِذَا اِخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ. قَالَ فِي النَّيْلِ: لَمْ يَذْكُرْ الْأَمْرَ الَّذِي فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي فَيَعُمُّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا وَفِي سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ وَالتَّصْرِيحُ بِالِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا يُنَافِي هَذَا الْعُمُومَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الْحَذْفِ.

(لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ) البيّنة: كل ما يَبين الحق ويظهره، سواء كان شهوداً أو قرينة، والبينة هنا (في الأموال) رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعِي.

(فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ اَلسِّلْعَةِ) أي: مالكها، وهو البائع.

(أَوْ يَتَتَارَكَانِ) أي: على فسخ البيع.

•‌

‌ ما الحكم لو اختلف البائع والمشتري فيمن حدث عنده العيب وليس لأحدهما بينة؟

مثال: لو اشترى سيارة، وبعدما ذهب بها رجع وقال: السيارة فيها عيب، فقال البائع: العيب حدث عندك؟ وقال المشتري بل العيب من عندك؟

مثاله: باعه عبداً ثم ادعى المشتري أن به عيباً (وهو عرج).

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: القول قول المشتري.

وهذا مذهب الحنابلة.

قالوا: لأن الأصل عدم قبض الجزء الفائت بالعيب.

القول الثاني: أن القول قول البائع. (بيمينه).

وهذا قول الجمهور.

أ-لحديث الباب.

ب- ولأن الأصل السلامة وعدم وجود العيب.

ج-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(فالمدعي هنا المشتري فليأت ببينة).

د-أن دعوى المشتري وجود العيب تستلزم استحقاق الفسخ والأصل عدم الفسخ.

وهذا القول هو اختيار ابن تيمية وهو الراجح.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: قَدْ اِسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ إِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقْدِ. وَلَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَقَعْ التَّرَاضِي بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَادِّ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ بِلَا خِلَاف.

إذاً القول قول البائع مع يمينه (لأن كل من قلنا: إن القول قوله، فالقول قوله بيمينه).

ص: 464

•‌

‌ ما الحكم لو اختلف البائع والمشتري في قدر ثمن المبيع؟

مثال: اشتريت هذه الساعة منك، فلما جئت لأنقده الثمن، أعطيته (100) ريال، فقال البائع: أنا بعتها عليك بـ (120) ريال، فالمشتري يقول اشتريتها بـ (100) والبائع يقول بعتها بـ (120) اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنهما يتحالفان.

وهذا هو المشهور من المذهب.

أ-واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا) هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له.

ب- وقالوا: لأن كلاً منهما مدعٍ ومنكر، والقاعدة أن اليمين على المنكر، البائع يدعي أن القيمة 120 وينكر أن القيمة 100، والمشتري يدعي أن القيمة 100 وينكر أن القيمة 120، فهنا يتحالفا ويفسخ العقد.

وكيفية الحلف: نص الفقهاء أنه يبدأ بيمين البائع لأن القاعدة في الأيمان أنه يبدأ بيمين أقوى المتداعيين، وأقواهما البائع لأن المبيع يرد عليه.

يحلف البائع بالنفي والإثبات، يبدأ بالنفي لأن الأصل في اليمين أنها للنفي، يحلف فيقول والله ما بعت الكتاب بـ (100) والله لقد بعته بـ (120)، ثم يقول المشتري والله ما اشتريت الكتاب بـ (120) والله لقد اشتريته بـ (100) ثم يفسخ العقد إذا لم يرض بقول صاحبه، فترد السيارة للبائع والثمن للمشتري.

القول الثاني: أن القول قول البائع، أو يترادان البيع (يعني إذا رضي المشتري بقول البائع فذاك وإلا فسخ البيع من غير بينة ولا شيء).

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

أ-لحديث الباب (إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول قول البائع، أو يترادان) رواه أبوداود وأحمد.

ب-ولأن البائع لم يرض بإخراج هذا المبيع عن ملكه إلا بهذا الثمن، فكيف نجبره على قبول ما هو أقل.

وهذا القول هو الصحيح.

• حالات مستثناة:

الحالة الأولى: إذا كان يمتنع صدق أحدهما- البائع أو المشتري -، فهنا القول قول من لا يحتمل قوله الكذب.

مثال ذلك: الإصبع الزائدة، فإذا اشترى عبداً فوجد فيه إصبعاً زائدة، فأراد رده، فقال البائع: حدث هذا العيب عندك، وقال المشتري: أبداً، فالقول قول المشتري؛ إذ لا يمكن أن يحدث له إصبع زائدة، ولو أمكن أن يحدث لكان كل إنسان يتوقع أن يحدث له ذلك، وإذا قبلنا قول المشتري فلا يشترط أن يحلف؛ لأنه لا حاجة للحلف.

الحالة الثانية: إذا كان لا يحتمل أن يكون قول المشتري.

مثاله: اشترى بهيمة ثم ردها، والعيبُ الذي فيها جُرْحٌ، ادعاه المشتري فنظرنا إلى الجرح وإذا هو يثعب دماً، جرح طري والبيع له مدة أسبوع، فالقول قول البائع بلا يمين؛ لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الجرح قبل العقد.

ص: 465

787 -

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ اَلْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ اَلْكَاهِنِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

===

(عَنْ ثَمَنِ اَلْكَلْبِ) الثمن: ما وقع عليه العقد، وثمن الكلب: ما يعطى بدلاً عنه.

(مهْرِ الْبَغِيِّ) هو ما تأخذه الزانية على الزنا، وسماه مهراً لكونه على صورته.

(وَحُلْوَانِ اَلْكَاهِنِ) هو ما يعطاه على كهانته، شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلاً بلا كلفة ولا في مقابلة مشقة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم بيع الكلب، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه سواء المعلم أو غيره.

قال النووي: وبهذا قال جماهير العلماء منهم: أبو هريرة، والحسن، والبصري، وربيعة، والأوزاعي، والحكم، وحماد والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر وغيرهم.

وقال الحافظ: ظَاهِر النَّهْي تَحْرِيم بَيْعه، وَهُوَ عَامّ فِي كُلّ كَلْب مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْره مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَوْ لا يَجُوز، وَمِنْ لازِم ذَلِكَ أَنْ لا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور " انتهى.

وقال ابن قدامة: لا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ بَاطِلٌ، أَيَّ كَلْبٍ كَانَ.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ) متفق عليه.

ج- ولحديث أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْب) رواه البخاري.

د- ولحديث ابن عباس مرفوعاً (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كَفَّهُ تراباً) رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر.

هـ- ولحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلا مَهْرُ الْبَغِيِّ) رواه أبو داود، قال الحافظ: إسناده حسن.

القول الثاني: يصح بيع الكلب.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

وعللوا بأن فيه منفعة مباحة فتجوز المعاوضة عليها.

القول الثالث: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره.

وهذا جاء عن عطاء، والنخعي.

لحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد).

والراجح القول الأول.

ص: 466

•‌

‌ ما الجواب عن رواية (إلا كلب صيد)؟

غير صحيحة.

قالَ النسائي بعد روايته للحديث: هَذَا مُنْكَرٌ.

وقال السندي في (حاشية النسائي) ضعيف باتفاق المحدثين.

وقال النووي: وَأَمَّا الأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَنْ ثَمَن الْكَلْب إِلا كَلْب صَيْد، وَأَنَّ عُثْمَان غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَن كَلْب قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَعَنْ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ التَّغْرِيم فِي إِتْلافه فَكُلّهَا ضَعِيفَة بِاتِّفَاقِ أَئِمَّة الْحَدِيث. (شرح مسلم).

مثال: لو وجدنا شخصاً عنده كلب ماشية، وأبى أن يعطيه أحداً احتاج إليه إلا بثمن، فإنه يجوز أن يدفع مالاً ليأخذه والإثم على البائع.

مع أن البائع الذي باع الكلب إذا كان مستغنياً عنه حرام عليه اقتناؤه فضلاً عن بيعه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الكلب غير متقوم، بمعنى أنه لو أتلف كلب الصيد أو الحرث فلا قيمة له شرعاً، وأن إتلافه هدر.

- قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: هذه الأشياء الثلاثة [ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن] محرمة على الآخذ ومحرمة على المعطي، فهذا رجل جاء إلى رجل عنده كلب صيد، وأبى أن يبيعه إلا بعشرة آلاف، فقبل المشتري، ثم قال:: لا أعطيك عشرة آلاف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: نهى عن ثمن الكلب، فنقول إما أن ترجع الكلب إن كان باقياً، وإلا أعطنا الدراهم، فنأخذ الدراهم منه ونجعلها في بيت مال المسلمين، ولا نعطيها لصاحب الكلب، لأنه لا يستحق ذلك، فإذا قال صاحب الكلب ردوا علي كلبي، نظرنا، إن كان يحتاجه رددناه عليه وإن لم يكن في حاجة إليه قلنا: أنت لست بحاجة إليه ولا يحل لك أن تقتنيه ".

- جاء في رواية عن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ثمن الكلب والسنور). والسنور: هو القط.

وقد اختلف العلماء في بيع السنور:

القول الأول: لا يجوز بيعه.

وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد، واحتجوا بالحديث الذي سبق، وفيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن السنور.

القول الثاني: يجوز بيعه.

وستأتي المسألة إن شاء الله.

- خبث الكلب، ولهذا حرم ثمنه حتى مع جواز الانتفاع به.

- تحريم مهر البغي، قال النووي: وهو حرام بإجماع المسلمين.

وهو حرام على الزانية وعلى الزاني.

والحكمة: لأن هذا عوض عن محرم، والقاعدة: أن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.

- تحريم الكهانة.

قال البغوي والقاضي عياض: أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن، لأنه عوض عن محرم، ولأنه أكل المال بالباطل.

- أحوال إتيان الكاهن؟

إتيان الكاهن ينقسم إلى أقسام:

أولاً: أن يأتيه فيسأله ويصدقه، فهذا كفر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أبو داود.

ثانياً: أن يأتيه فيسأله ولم يصدقه، فهذا حرام ولا تقبل له صلاة أربعين ليلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم.

ص: 467

788 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ [يَسِيرُ] عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ. قَالَ: فَلَحِقَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْراً لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ " قُلْتُ: لَا. ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ " فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي. فَقَالَ: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا اَلسِّيَاقُ لِمُسْلِمٍ.

===

(أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى) أي: في سفر، كما في الرواية الأخرى (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) وقد رجح الحافظ انها غزوة ذات الرقاع.

(أَعْيَا) أي تعب، وعجز عن السير.

(فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ) أي: يطلقه، وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد كما كانوا يفعلون في الجاهلية، لأنه لا يجوز في الإسلام.

(فَلَحِقَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أي: لأنه صلى الله عليه وسلم كان في آخر الجيش انتظاراً للعاجزين، ورفقاً بالمنقطعين.

(فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ) هذا يفيد أن الدعاء كان لجابر، وفي رواية (فضربه برجله ودعا له) وهذا يفيد أن الدعاء كان للجمل، ويجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم دعا له ولجمله.

(فَسَارَ سَيْراً لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ) أي: في الإسراع، وعند البخاري في الوكالة ( .... فضربه، فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم).

(بعنيه بأوقية، قلت: لا) وفي رواية لأحمد: (فكرهت أن أبيعه) وفي رواية أيضاً لأحمد (لا، بل هو لك يا رسول الله).

(حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي) بضم الحاء، أي استثنيت حمله إياي.

(أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ) جاء في رواية: (فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت إليه بالبعير).

(فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ) جاء في رواية: (فأعطاني ثمن الجمل، والجمل وسهمي مع القوم، وفي رواية: (فأعطاني ثمنه ورده علي) قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله بطريق المجاز، لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال، كما رواه مسلم.

(أَتُرَانِي) بضم التاء، والهمزة للاستفهام، أي: أتظنني.

(مَاكَسْتُكَ) المماكسة المناقصة في الثمن، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه يجوز للبائع أن يشترط نفعاً في المبيع.

مثاله: كأن يقول: أبيع عليك داري، بشرط أن أسكن فيه لمدة أسبوع.

مثال آخر: بعت سيارتي واشترطت على المشتري أن أسافر بها إلى مكة.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز.

وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.

أ- لحديث (نهى عن بيع وشرط) وسيأتي إن شاء الله أنه لا يصح.

ب-قالوا: لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد.

القول الثاني: أنه يجوز.

وهذا مذهب الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وطائفة.

وهذا القول هو الصحيح.

لحديث الباب، فإن جابراً باع على النبي صلى الله عليه وسلم الجمل، واشترط أن يحمله إلى أن يصل المدينة.

ص: 468

•‌

‌ ماذا يشترط في هذا النفع؟

يشترط أن يكون معلوماً.

والعلم يكون: بالزمن ويكون بالعمل ويكون بالمسافة.

مثال الزمن: بعت بيتي واشترطت أن أسكن هذا البيت لمدة شهر.

مثال العمل: لو بعت عبداً، واشترطت أن يخيط لي ثوباً.

مثال المسافة: لو بعت سيارة، واشترطت أن أسافر بها إلى مكة.

•‌

‌ ما الحكم لو كان النفع مجهولاً؟

لا يصح.

مثال: أبيعك بيتي بشرط أن أسكنه إلى قدوم زيد.

هذا لا يصح، لأن قدوم زيد مجهولاً.

•‌

‌ ما الحكم لو اشترط النفع في غير المبيع؟

(كما لو قال: بعتك بيتي على أن تسكنني بيتك شهراً).

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يصح.

وهذا هو المشهور من المذهب.

لحديث (نهى عن بيعتين في بيعة). (وسيأتي الحديث إن شاء الله).

القول الثاني: أنه يصح إلا إذا تضمن محظوراً شرعياً.

واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ السعدي.

أ- لحديث الباب.

ب-ولحديث (المسلمون على شروطهم).

مثال: إذا تضمن محظوراً شرعياً:

مثال: لو قلت أقرضتك ألف ريال بشرط أن تسكنني بيتك لمدة شهر، لأنه قرض جر منفعة.

أما حديث (نهى عن بيعتين في بيعة) فقد قال بعض العلماء إن المقصود بها: مسألة العينة.

•‌

‌ عرف الشرط؟

الشرط لغة: العلامة ومنه قوله تعالى (فقد جاء أشراطها) أي علاماتها.

واصطلاحاً: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود.

•‌

‌ ما الفرق بين شروط البيع (التي سبقت في أول الباب وهي سبع) والشروط في البيع؟

الفرق بين الشروط في البيع وشروط البيع، من وجوه أربعة:

الأول: أن شروط البيع من وضع الشارع، والشروط في البيع من وضع المتعاقدين.

الثاني: شروط البيع يتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزوم البيع، فهو صحيح، لكن ليس بلازم؛ لأن من له الشرط إذا لم يوف له به فله الخيار.

الثالث: أن شروط البيع لا يمكن إسقاطها، والشروط في البيع يمكن إسقاطها ممن له الشرط.

الرابع: أن شروط البيع كلها صحيحة معتبرة؛ لأنها من وضع الشرع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح معتبر، ومنها ما ليس بصحيح ولا معتبر؛ لأنه من وضع البشر، والبشر قد يخطئ وقد يصيب (الشرح الممتع).

ص: 469

•‌

‌ هل المعتبر من الشروط في البيع ما كان في صلب العقد، أو ما بعد العقد، أو ما قبل العقد؟

المذهب: أن المعتبر ما كان في صلب العقد، أو في زمن الخيارين: خيار المجلس، وخيار الشرط.

مثال: بعتك هذه السيارة واشترطت أن أسافر عليها إلى مكة، فهذا محله في نفس العقد وهو صحيح.

مثال آخر: بعتك هذه السيارة، وبعد أن تم العقد بالإيجاب والقبول، قلت: أنا أشترط عليك أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيار؛ لأنك لو قلت: لا، قلتُ: فسخت الآن؛ لأن بيدي الخيار ما دمنا لم نتفرق فلنا أن نزيد الشرط.

مثال آخر: بعتك هذه السيارة ولي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني جئت إليك، وقلت: أشترط أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيارين.

وأما ما كان قبل ذلك مما اتفق عليه قبل العقد، فالمذهب أنه غير معتبر.

مثاله: اتفقت أنا وأنت على أن أبيع عليك السيارة، واشترط: أن أسافر عليها إلى مكة، وعند العقد لم نذكر هذا الشرط إما نسياناً وإما اعتماداً على ما تقدم، فهل يعتبر هذا أو لا؟ الجواب: لا يعتبر على المذهب.

والصحيح: أنه يعتبر لما يلي:

أولاً: لعموم الحديث (المسلمون على شروطهم) وأنا لم أدخل معك في العقد إلا على هذا الأساس.

ثانياً: أنهم جوزوا في النكاح تقدم الشرط على العقد، فيقال: أي فرق بين هذا وهذا؟ وإذا كان النكاح يجوز فيه تقدم الشرط على العقد، فالبيع مثله، ولا فرق.

إذاً الشروط في البيع معتبرة سواء قارنت العقد، أو كان بعده في زمن الخيارين، أو كانت متفقاً عليها من قبل. (الشرح الممتع)

•‌

‌ ما الواجب في الشروط؟

الواجب فيها: ألا تخالف الشرع فإن خالفته فهي باطلة.

لحديث عائشة -في قصة بريرة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه.

•‌

‌ هل يجب الوفاء بالشروط الصحيحة؟

نعم يجب.

أ-لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).

ب-ولقوله سبحانه (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً).

ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) رواه أحمد.

•‌

‌ إلى كم قسم تنقسم الشروط في البيع؟

تنقسم إلى قسمين: شروط صحيحة، وشروط فاسدة

ص: 470

•‌

‌ ما الشروط الصحيحة، مع ذكر بعض الأمثلة؟

الشروط الصحيحة: ما ترتب عليه مقتضاه.

أمثلة للشروط الصحيحة:

طلب الرهن:

مثال: أن أبيع على هذا الرجل شيئاً بثمن مؤجل، فلا أثق به فأقول ارهني شيئاً (الذي يطلب الرهن غالباً البائع).

تأجيل الثمن:

مثال: أن يقول أريد أن اشتري السيارة بثمن كذا وكذا لمدة سنة. (الذي يطلبه غالباً المشتري).

(ومن الأمثلة كون العبد كاتباً قوياً).

•‌

‌ هل يجوز أن يجمع أكثر من شرط في المبيع؟

مثال: اشترط المشتري على البائع حمل الحطب وتكسيره.

مثال آخر: اشترط المشتري على البائع أن يفصل هذا الثوب ويخيطه.

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يصح شرطان في بيع ..

وهذا مذهب الحنفية والشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع) رواه أبو داود.

القول الثاني: يجوز ذلك، بل يجوز ولو أكثر من ذلك ما لم تكن الشروط محرمة.

وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

وجه الدلالة من الآية والحديث: أنهما دلا على وجوب الوفاء بالشروط، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل صريح.

ج- أن الأصل في المعاملات كلها: اصلها وشروطها الصحة والإباحة ما لم يدل دليل صريح على المنع.

(ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصح الجمع بين الشرطين لحديث: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع).

وهذا هو الصحيح.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث (

ولا شرطان في بيع)؟

الجواب: أن المقصود به بيع العينة كما رجحه ابن القيم رحمه الله.

ص: 471

•‌

‌ ما حكم إذا شرط أنه لا يبيع المبيع أو لا يهبه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه يبطل البيع والشرط.

وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.

أ- لحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط) لكن هذا الحديث ضعيف، ضعفه الإمام أحمد وابن تيمية واستغربه النووي.

ب- لأنه مناف لمقتضى العقد، لأن العقد يقتضي التمليك، والتصرف في المبيع بيعاً أو هبة.

القول الثاني: أنه يبطل الشرط ويصح البيع.

وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

لحديث بريرة - وسيأتي الحديث - حيث دل على صحة العقد وبطلان الشرط، فالشرط إذا نافي مقتضى العقد بطل في نفسه، ولا يلزم منه بطلان العقد.

القول الثالث: يصح العقد والشرط.

وبهذا قال جماعة من السلف، منهم الحسن البصري، والنخعي، وابن أبي ليلى، وابن المنذر، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.

أ- لحديث (المسلمون على شروطهم).

ب- أن الأصل في العقود والشروط الصحة، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل.

والراجح - والله أعلم - القول الثاني، أنه يبطل الشرط ويصح البيع.

•‌

‌ اذكر بعض الشروط الفاسدة التي تبطل العقد؟

أ-مثل: أن يشترط أحدهما على الآخر عقداً كقرض.

كأن اقول: بعتك بيتي بشرط أن تقرضني ألف ريال.

ب- ومثل: أن يجمع بين بيع وقرض فهذا شرط فاسد مبطل للعقد.

مثال: بعتك بيتي بمائة على أن تقرضني مائة.

لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.

ج - ذهب بعض العلماء إلى أن من الشروط الفاسدة التي تبطل العقد أن يشترط أحدهما عقداً آخر غير القرض، مثال: بعتك هذا البيت على أن تؤجرني بيتك لمدة سنة، أو بعتك هذا البيت على أن تبيعني بيتك، وتقدمت المسألة وأن الراجح الجواز.

•‌

‌ اذكر بعض الشروط الفاسدة لكنها غير مفسدة للعقد؟

أ-مثال: أن يشترط المشتري أن لا خسارة عليه، فهنا يبطل الشرط والعقد صحيح.

لأن هذا مخالف لمقتضى العقد، لأن مقتضى العقد أن الإنسان إذا ملك شيئاً صار له غنمه وغرمه.

ب-أو أن يشترط المشتري أن لا يبيعه مطلقاً.

فهذا شرط فاسد غير مفسد للعقد على المذهب.

لأنه يخالف مقتضى العقد. إذ أن مقتضى العقد أن يبيع المالك ملكه لمن يشاء وإن شاء لم يبعه، وقد تقدمت المسألة.

ص: 472

•‌

‌ ما الحكم إذا باع شيئاً بشرط البراءة من كل عيب مجهول؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يبرأ من العيب مطلقاً.

القول الثاني: أنه يبرأ من كل عيب بهذا الشرط.

القول الثالث: أنه يبرأ من كل عيب لم يعلم به دون ما علمه فلا يبرأ.

وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.

وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، وهو هذا التفصيل، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.

أن يكون عالماً بها ولكنه كتمها، فهذا لا يبرأ، لأنه خدعه وغشّه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا). وقال صلى الله عليه وسلم في المتبايعين (إن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).

وإما أن يكون جاهلاً بالعيوب فهذا يبرأ، لأن هذا هو الذي يقدر عليه، وهو أن يريد أن يسلم.

قال شيخ الإسلام مرجحاً هذا التفصيل (والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم، أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري).

وقال ابن القيم: هذا الذي جاء عن الصحابة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز ضرب الدابة للسير وإن كانت غير مكلفة، بشرط أن لا يشق عليها.

- جواز المساومة لمن يعرض سلعته للبيع.

- رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وشدة عطفه ولطفه بأصحابه.

- ينبغي على أمير القوم أن يرفق بضعيفهم.

- جواز تكرار طلب البيع أو الشراء، لقوله (بعنيه، ثم قال: بعنيه) وهذا لا يعد من الإلحاح المكروه.

- جواز تسييب الدابة إذا لم يكن فيها منفعة.

- إثبات معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من آيات نبوته، لقول جابر (فضربه فسار سيراً لم يسر مثله قط).

- مشروعية تقدم القبول على الإيجاب في البيع، فلا حرج للمشتري أن يسبق البائع فيقول للبائع: بعني هذه الدار، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد أن يكون الإيجاب قبل القبول، ولكن هذا القول ضعيف.

- جواز المماكسة في البيع.

- سماحة النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وحسن وفائه لأصحابه.

- أن القبض ليس شرطاً في صحة البيع.

- تواضعه صلى الله عليه وسلم.

- جواز الوكالة في وفاء الديون.

- فضيلة جابر، حيث ترك حظ نفسه وامتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم له ببيع جمله مع احتياجه إليه.

فائدة: قال الحافظ ابن حجر: آل أمر جمل جابر هذا لما تقدم له من بركة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مآل حسن، فرأيت من ترجمة جابر من تاريخ ابن عساكر بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال: (فأقام الجمل عندي زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فعجز، فأتيت به عمر، فعرفت قصته، فقال: اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك إلى أن مات.

فائدة: رجح الحافظ ابن حجر أن هذه القصة وقعت في غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة.

ص: 473

789 -

وَعَنْهُ قَالَ (أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا) العتق: تخليص الرقبة من الرق.

(عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ) أي: علق عتقه بموته، كأن يقول: أنت حر بعد وفاتي.

(لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ) جاء في رواية (وعليه دين) وفي رواية (وكان محتاجاً وعليه دين فباعه النبي صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم وأعطاه وقال: اقض دينك).

(فَدَعَا بِهِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ) أي: العبد.

• اذكر لفظ البخاري كاملاً وكذا لفظ مسلم؟

لفظ البخاري: عَنْ جَابِرٍ قَالَ (بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَاماً عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْه).

ولفظ مسلم: عَنْ جَابِرٍ قَالَ (أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى عُذْرَةَ عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ لَا. فَقَالَ «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى». فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِىُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِى قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا». يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِك).

•‌

‌ ما معنى قوله (عن دبر)؟

قال النووي: أي قال له أنت حر بعد موتي، وسمي هذا تدبيراً لأنه يحصل العتق فيه في دبر الحياة.

•‌

‌ لماذا سمي مدبّراً؟

سمي بذلك: لأن عتقه جعل دُبُر حياة سيده، والموت دبر الحياة.

•‌

‌ ما حكم التدبير؟

جائز.

قال النووي: وأجمع المسلمون على صحة التدبير.

•‌

‌ ما سبب بيع النبي صلى الله عليه وسلم للعبد المدبر في حديث الباب؟

بيّنة الروايات سبب ذلك:

في رواية البخاري (لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ) ففي هذه الرواية دلالة على أن سبب بيعه أنه لا يملك غيره.

وفي رواية للبخاري أخرى (

فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني) ففي هذه الرواية التصريح أن سبب بيعه هو احتياجه لثمنه.

وجاء في رواية النسائي (

وكان محتاجاً، وعلين ديْن، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي هذه الرواية أن سبب بيعه هو الديْن.

ص: 474

•‌

‌ ما حكم بيع المدبّر؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: الجواز مطلقاً.

قال النووي: وممن جوزه عائشة وطاووس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود.

قياساً على الموصى بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع. (قاله النووي).

وقالوا: إن قوله (وكان محتاجاً) لا مدخل له في الحكم، وإنما ذُكر لبيان السبب في المبادرة لبيعه.

القول الثاني: لا يجوز بيعه.

لحديث (لا يُباع مدبّر ولا يُوهب).

القول الثالث: يجوز بيعه للحاجة.

وهذا قول عطاء والحسن.

واختار هذا القول ابن دقيق.

لحديث الباب، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم باعه لما علم أن صاحبه لا يملك شيئاً غيره.

قال الشوكاني: ولا يخفى أن في الحديث إيماء إلى المقتضى لجواز البيع بقوله (فاحتاج) وبقوله (اقض دينك وأنفق على عيالك) لا يقال الأصل جواز البيع والمنع منه يحتاج إلى دليل ولا يصلح لذلك حديث الباب لأن غايته أن البيع فيه وقع للحاجة ولا دليل على اعتبارها في غيره بل مجرد ذلك الأصل كاف في الجوار، لأنا نقول قد عارض ذلك الأصل إيقاع العتق المعلق فصار الدليل بعده على مدعي الجواز ولم يرد الدليل غلا في صورة الحاجة فيبقى ما عداها على أصل المنع.

والراجح الجواز للحاجة.

•‌

‌ هل المدبر يعتق من كل المال أم من الثلث؟

إذا قال الإنسان لعبده: أنت حر بعد موتي، صح، فإذا مات عتق، ولكن لا يعتق إلا بعد الديْن ومن الثلث فأقل، فحكمه حكم الوصية.

فإذا مات السيد والعبد مدبر، قيمته عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ عشرة آلاف، فإن العبد لا يعتق، لأن الدين مقدم عليه، ولهذا باع النبي صلى الله عليه وسلم العبد المدبر لقضاء دين سيده.

وإذا دبّر سيد عبده وقيمة العبد عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال، وليس له سوى هذا العبد، فنصفه للدين ويعتق ثلث النصف الباقي، أي سدس جميعه، والباقي للورثة، فيباع العبد على أن سدسه حر، فيوفى الدين، والباقي من الثمن يكون ثلثه للعبد، لأنه كسبَه بجزئه الحر، والباقي للورثة (الشيخ ابن عثيمين).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- في الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمرهم إياهم بما فيه الرفق بهم وإبطالهم ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.

- أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بنفسه وبمن يعول قبل الصدقة والتبرع.

- العتق بالتدبير أقل أجراً من العتق حال الحياة، لأن عتق التدبير يكون بعد الموت، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل - أي تؤخر - حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) أي الوارث.

وكذلك العتق في مرض الموت أقل من العتق في الصحة.

- وجوب الاهتمام بسداد الديون وما على الإنسان من حقوق.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله).

وقال صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).

ص: 475

790 -

وَعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهَا (أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا. فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

وَزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: فِي سَمْنٍ جَامِدٍ.

791 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا وَقَعَتْ اَلْفَأْرَةُ فِي اَلسَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَايِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ اَلْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بِالْوَهْمِ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث ميمونة حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه.

وأما زيادة النسائي (في سمن جامد) فهي لا تصح.

وأما حديث أبي هريرة فكما قال البخاري وأبو حاتم أنه وهْم.

•‌

‌ ما حكم السمن إذا وقعت فيه فأرة وماتت فيه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: التفريق بين الجامد والمائع، فالجامد يحكم فيه بنجاسة ما جاور النجاسة وبطهارة الباقي، وأما المائع فكله ينجس بملاقاة النجاسة قل أو كثر.

وهذا مذهب الجمهور.

لحديث أبي هريرة - حديث الباب الثاني - (فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَايِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ)

القول الثاني: أن الفأرة إذا وقعت في السمن وماتت فيه، نجّست ما حولها مما وقعت فيه، فيجب إلقاؤها وإلقاء ما حولها، ويحكم على البقية بأنه طاهر، لا فرق بين الجامد والمائع.

وهذا قول ابن تيمية.

لحديث ميمونة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله جواباً عاماً مطلقاً بأن يلقوها وما حولها، ولم يستفصل هل كان سمنهم مائعاً أو جامداً.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (

فماتت)؟

نستفيد: أن تأثيرها في المائع عند موتها فيه، فلو خرجت حية لم تضره.

فالحديث دل بمفهومه على أن الفأرة لو وقعت في السمن ثم خرجت وهي حية: أن السمن لا ينجس. (منحة العلام)

•‌

‌ هل يلحق بالسمن غيره من المائعات؟

نعم، يلحق به غيره من المائعات كالزيت والعسل واللبن ونحوها، وذكر السمن إنما هو واقعة عين لميمونة وإلحاق ما ذكر من القياس الواضح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أنه متى زال الأذى زال حكمه.

- الاحتياط في البعد عن النجاسة.

- نجاسة الفأرة بالموت.

- أن الفأرة طاهرة بالحياة.

فائدة: جاءت الشريعة المطهرة بالأمر بقتل الفأرة حيثما وجدت، لما يترتب على وجودها من فساد.

فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحل والْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) رواه البخاري ومسلم.

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بن القصار: إنَّمَا سَمَّاهَا فَوَاسِقَ لِخُرُوجِهَا عَمَّا عَلَيْهِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ بِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَاوَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ فَقَالَ إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقَكُمْ) رواه أبو داود.

(فأخذت): أي شرعت (فجاءت): الفأرة (بها): أي بالفتيلة (فألقتها): أي الفتيلة (على الخمرة): وهي السجادة التي يسجد عليها المصلي تُصنع من حصير أو خوص ونحوه

فائدة: قال ابن قدامة في المغني: السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس، فهذا ونحوه من حشرات الأرض سؤره طاهر يجوز شربه والوضوء به، ولا يكره، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.

ص: 476

792 -

وَعَنْ أَبِي اَلزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ اَلسِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ؟ فَقَالَ (زَجَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ (إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ).

===

(زَجَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أي: نهى وأمر بالكف، والزجر أشد النهي.

(اَلسِّنَّوْرِ) الهر (القط).

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وصححه ابن القيم.

وذهب بعض العلماء إلى عدم صحته وممن قال بذلك: الإمام أحمد، والدارقطني، والنسائي، والخطابي، وابن عبد البر، وابن رجب، وأن هذا الحديث موقوف على جابر.

قال الإمام أحمد (جامع العلوم والحكم، لابن رجب ص 878): (ما أعلم فيه شيئًا يثبت أو يصح، وقال أيضًا: الأحاديث فيه مضطربة.

وقال أبو عوانة في مستخرجه بعد ذكره لأحاديث النهي عن ثمن السنور، ومن ضمنها رواية مسلم: في الأخبار التي فيها نهي عن ثمن السنور: فيها نظر في صحتها، وتوهينها.

وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: وأومأ الخطابي إلى ضعف الحديث، وتعقبه النووي، وقدمنا أن النسائي قال: إنه منكر)

وقال ابن عبد البر في التمهيد) وليس في السنور شيء يصح)، ونقل عنه الأبي في إكمال إكمال المعلم (4/ 252) أنه قال: حديث السنور لا يثبت رفعه.

•‌

‌ ما صحة زيادة (إلا كلب صيد)؟

ضعيفة لا تصح كما قال النسائي وغيره.

•‌

‌ ما حكم بيع السنور؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: تحريم بيعه.

وهو قول الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله.

وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه ومجاهد وجابر بن زيد.

وجزم ابن القيم بتحريم بيعه في (زاد المعاد) وقال: وكذلك أفتى أبو هريرة رضي الله عنه وهو مذهب طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يعارضه فوجب القول به.

قال الشوكاني وهو يتكلم عن فقه الحديث: وفيه دليل على تحريم بيع الهر، وبه قال أبو هريرة، ومجاهد، وجابر وابن زيد حكى ذلك عنهم ابن المنذر وحكاه المنذري عن طاووس.

أ- لحديث الباب.

ب- وروى أبو داود والترمذي عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ). رواه أبو داود

القول الثاني: جوزا بيعه.

وهو قول جمهور العلماء. (كما حكاه النووي عنهم).

قال النووي: هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة.

ص: 477

•‌

‌ بماذا أجاب هؤلاء عن حديث الباب؟

أجابوا عن حديث الباب بأجوبة:

الجواب الأول: أنه ضعيف.

وأشار إلى هذا الإمام الخطابي، وعزاه النووي لابن المنذر.

والرد عليهم:

قال النووي: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيّ وَأَبُو عَمْرو بْن عَبْد الْبَرّ مِنْ أَنَّ الْحَدِيث فِي النَّهْي عَنْهُ ضَعِيف فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ الْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره. (شرح مسلم).

وقال رحمه الله: أما ما ذكره الخطابي وابن المنذر أن الحديث ضعيف فغلط منهما، لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح. (المجموع)

الجواب الثاني: أنه محمول على كراهة التنزيه.

والرد عليهم:

قال الشوكاني في (نيل الأوطار): ولا يخفى أن هذا إخراج للنهي عن معناه الحقيقي بلا مقتض.

الجواب الثالث: أن المراد بالنهي: الهرة الوحشية التي لا يملك قيادها فلا يصح بيعها لعدم الانتفاع بها.

قال النووي: وأما النهي عن ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَع وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْع،

الجواب الرابع: أن ذلك كان في ابتداء الإسلام.

والرد عليهم:

وقال البيهقي في السنن رداً على الجمهور أيضاً: وقد حمله بعض أهل العلم على الهر إذا توحش فلم يقدر على تسليمه، ومنهم من زعم أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوماً بنجاسته، ثم حين صار محكوماً بطهارة سؤره حل ثمنه، وليس على واحد من هذين القولين دلالة بينة.

ص: 478

793 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعٍ أُوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا. فَقَالَتْ لَهُمْ; فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ. فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ اَلْوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ اَلْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا اَلْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلنَّاسِ [خَطِيباً]، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عز وجل مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اَللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اَللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا اَلْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ (اِشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ اَلْوَلَاءَ).

===

(جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ) مشتقة من البرير، وهو ثمر الأراك، قيل: كانت لناس من الأنصار، وقيل: لناس من بني هلالة قاله ابن عبد البر، وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق.

(كَاتَبْتُ أَهْلِي) أي مواليها، والكتابة: شراء العبد نفسه من سيده.

(وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي) الولاء لغة من الولاية، وفي الشرع يطلق على عدة معان، منها: ولاء العتق، وهو أن الإنسان إذا أعتق عبداً صار عاصباً كعصوبة النسب تماماً.

(أَمَّا بَعْدُ) كلمة يؤتى بها عند الدخول في صلب الموضوع بعد المقدمة، وقول من يقول: يؤتى بها للانتقال من موضوع إلى موضوع، ضعيف.

(مَا بَالُ رِجَالٍ) أي: ما حالهم.

(يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً) الشروط في البيع: إلزام أحد المتعاقدين الآخر ما لا يلزمه بمقتضى العقد.

(مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ) قال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة.

(وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) قال القرطبي: خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو كثرت، وقيل: المعنى لو شرط مائة مرة توكيداً فهو باطل، ويؤيده رواية (وإن شرط مائة مرة).

(قَضَاءُ اَللَّهِ أَحَقُّ) أي: بالاتباع من الشروط المخالفة له.

(وَشَرْطُ اَللَّهِ أَوْثَقُ) أي: باتباع حدوده التي حدها.

(وَإِنَّمَا اَلْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) أي: فالولاء لمن أعتق المملوك لا لمن باعه.

•‌

‌ كان في بريرة ثلاث سنن، اذكرها؟

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ، وَأُهْدِىَ لَهَا لَحْمٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدُمٍ مِنْ أُدُمِ الْبَيْتِ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ، فَقَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ. فَقَالَ «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ». وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا: (إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَق) متفق عليه.

•‌

‌ ما هي الكتابة؟

الكتابة: هي شراء العبد نفسه من سيده.

•‌

‌ ما حكم الكتابة؟

مشروعة ومستحبة.

وقد أجمعت الأمة على مشروعية كتابة السيد لعبده.

قال تعالى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).

ص: 479

•‌

‌ وهل يجب على السيد مكاتبة عبده إذا طلب منه العبد وعلم منه خيراً؟

اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: أنه واجب.

وهذا مذهب ابن حزم، ونقل وجوبه عن مسروق والضحاك.

لقوله تعالى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).

القول الثاني: أنه غير واجب.

وهذا مذهب الجمهور.

والصارف عن الوجوب:

أن هذا مال له، ولم يوجب الله عز وجل إخراج المال على المالك إلا بالزكاة أو النفقة الواجبة.

وهذا القول هو الصحيح، لظاهر الآية الكريمة.

لكن يسن للسيد أن يكاتبه إذا علم فيه خيراً، استجابة لأمر الله.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قول عائشة (

أعدها لهم)؟

نستفيد: أنه يجوز أن يكون شراء المكاتب حالاً كما يجوز بأقساط.

•‌

‌ ما حكم تعجيل الدين المؤجل مقابل إسقاط بعضه حالاً، وماذا تسمى هذه المسألة؟

هذه المسألة تسمى مسألة (ضَع وتَعجَّل)، وهي أنْ يُصالِح عَنْ الدَّين المُؤجَّل بِبَعضِه حَالاً.

وقد اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على قولين:

القَول الأول: تَحريم ذلك وهو قَول أبي حَنيفَة ومَالِك والشَّافِعيّ والمَشهور عن أحمَد.

ووَجه ذلك: أنَّه شَبِيه بالزِّيادَة مع الإِنظار المُجمَع على تَحريمها؛ لأنَّه جَعل لِلزمان مِقدارًا مِنْ الثَّمن بَدلاً منه في المَوضِعَين جَميعًا، فَهو في الصُّورتَين جَعل للزَّمان ثَمنًا لِزيادَته ونَقصه.

وعَلَّل صَاحِب المُبدِع مِنْ الحَنابِلة بِقَوله: لأنه يَبذِل القَدر الذي يَحطَه عِوضًا عن تَعجِيل ما في ذِمَّته وبَيع الحِلول والتَّأجِيل لا يَجوز.

وهذا التَّعلِيل بمعنى ما علَّل به صاحِب فَتح القَدير مِنْ الحَنفيَّة حَيث يَقول: وذلك اعتِياض عن الأَجَل وهو حَرام)، وهما يَتَّفِقان مَع قول ابن رُشد: لأنَّه جَعل لِلزَّمان مِقدارًا مِنْ الثَّمَن) فاتَّفَقتْ كَلِمتهم على أن بَيع الأَجَل لا يَجوز وهو الذي مِنْ أَجلِه مَنعوا مَسألة: (ضَع وتَعجَّل):

قال ابن القَيِّم في إِغاثَة اللَّهفان: واحتَجّ المَانِعون بِالأَثَر والمَعنى؛ أَمَّا الآثار فَفي سُنَن البّيهَقي عن المِقْدَاد بن الأَسوَد قال: (أَسلفْتُ رَجُلاً مَائة دِينار فقُلْتُ له: عَجِّلْ تِسعين دِينارًا وأَحطُّ عَشرة دَنانير؟ فقال: نَعم، فَذَكرْتُ ذلك لِرسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أَكلْتَ رِبا مِقْداد وأَطعَمتَه). وفي سَنَده ضَعف.

وصحَّ عن ابن عُمر رضي الله عنهما أنَّه قد سُئِل عن الرَّجُل يَكون له الدَّين على رَجُل إلى أَجَل فَيَضَع عنه صَاحِبه ويُعجِّل له الآخَر، فَكرِه ذلك ابن عُمر ونَهى عنه.

وصحَّ عن أبي المِنهال أنَّه سأل ابن عُمر رضي الله عنهما فَقال لِرَجُل: علَيّ دَين، فَقال لي: عَجِّلْ لي لِأضَع عَنك، قال: فَنَهاني عنه. وقال: نَهى أمير المؤمنين - يَعني عُمر - أنْ يَبيع العَين بالدَّين. وقال أبو صَالِح مَولى السَّفاح واسمه عُبَيد: بِعْتُ برًّا مِنْ أهل السُّوق إلى أَجَل ثم أَردتُ الخُروج إلى الكوفَة فعَرضوا علَيّ أنْ أضَع عَنهم ويَنقِدوني فَسَألتُ عن ذلك زَيد بن ثابِت فقال: (لا آمُرك أنْ تَأكُل هذا ولا تُوكِله) رَواه مَالِك في المُوطّأ.

ص: 480

وأمَّا المعنى فَإنَّه إذا تَعجَّل البَعض وأَسقَط البَاقي فَقد باع الأَجَل بالقَدر الذي أَسقَط وذلك عَين الرِّبا، كما لو باع الأَجَل بالقَدر الذي يُزيده إذا حَلَّ عليه الدَّين، فَقال: زِدني في الدَّين وأَزِيدك في المُدَّة، فَأيّ فَرق بين أَنْ تَقول حُط من الأَجَل وأَحُط من الدَّين، أو تَقول: زِد في الأَجَل وأَزِيد في الدَّين

قالوا: فنَقَص الأَجَل في مُقابَلة نَقص العِوض كزِيادَته في مُقابَلة زِيادَته، فكما أن هذا رِبا فَكَذلك الآخَر.

القَول الثَّاني: جَواز الوَضع والتَّعجُّل.

وهو رِوايَة عن أحمَد، ونَسَب ابن رُشد وابن القَيِّم القَول بجَوازه إلى ابن عبَّاس وزَفر من الحَنَفيّة.

والقَول بِالجَواز هو اختيار شَيخ الإسلام ابن تَيميَة رحمه الله

قال في الاختيارات: ويَصِحّ الصُّلح عن المُؤجَّل بِبعضِه حَالاًّ، وهو رِوايَة عن أحمَد وحَكَي قَولاً لِلشَّافعيّ) واختار هذا القَول أيضًا ابن القَيّم وقال: لِأنَّ هذا عَكس الرِّبا فإنَّ الرِّبا يَتَضَمَّن الزِّيادَة في أَحد العِوضَين في مُقابَلة الأَجَل، وهذا يَتَضمَّن بَراءة ذِمَّته من بَعض العِوَض في مُقابَلة سُقوط الأَجَل فَسقَط بَعض العِوضِ في مُقَابَلة سُقوط بَعض الأَجَل فانتَفَع به كُلّ واحِد مِنهما، ولم يَكن هنا رِبا لا حَقِيقَة ولا لُغة ولا عُرفا، فَإنَّ الرِّبا الزِّيادَة، وهي مُنتَفِية هاهنا، والذين حَرَّموا ذلك قاسوه على الرِّبا ولا يَخفى الفَرق الوَاضِح بين قوله:(إمَّا أنْ تُربي وإمَّا أنْ تَقضي)، وبين قوله (عَجِّلْ لي وأَهب لَك مَائة) فَأين أَحَدهما من الآخَر فَلا نَصّ في تَحريم ذلك ولا إِجماع ولا قِياس صَحيح.

قال ابن رُشد وقال: وعُمدَة مَنْ أَجازه ما رُوي عن ابن عبَّاس أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أَمَر بإخْرَاج بَني النَّضير جَاء نَاس مِنهم فَقالوا: يَا نَبيّ اللَّه إنَّك أَمرْتَ بِإخراجِنا ولنا على النَّاس دِيون لم تَحِل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ضَعوا وتَعجَّلوا.

القَول الثَّالث: يَجوز ذلك في دَين الكِتابَة ولا يَجوز في غَيره.

لِأنَّ ذلك يَتَضمَّن تَعجيل العِتق المحَبوب إلى اللَّه، والمُكاتِب عَبد ما بَقِي عليه دِرهم، ولا رِبا بين العَبد وبين سَيده، فالمُكاتِب وكَسبه لِلسَّيد فَكأنَّه أَخَذ بَعض كَسبه وتَرك بَعضه.

والرَّاجِح: هو القَول الثَّاني وهو جَواز ذلك مُطلقًا، لِأنَّه ليس مع مَنْ مَنَعه دَليل صَحيح، والأَصل في المُعامَلات الصِّحَة والجَواز ما لم يَدلّ دَليل على التَّحريم، وقياسهم مَنع ذلك على مَنع زِيادَة الدَّين وتَمديد أجَلِه قِياس مع الفارِق؛ لِأنَّ مَنع الزِّيادَة في مُقابَلة التَّمدِيد مُلاحَظ فيه مَنع إِثقال كَاهِل المَدين مِنْ غَير استِفادَة تَحصِل له، بِخِلاف هذه المَسأَلة فإنَّ فيها تَخفِيفًا عنه.

•‌

‌ إلى كم قسم تنقسم خطب النبي صلى الله عليه وسلم

تنقسم إلى قسمين: دائمة - وعارضة.

الدائمة: مثل خطب الجمعة، والعيدين.

العارضة: كأن يحدث أمر يريد التنبيه عليه، كما في حديث الباب.

•‌

‌ ما الفرق بين الحمد والثناء؟

الحمد:: هو الإخبَارُ عن محاسِنِ المَحمُودِ معَ حُبِّه وتعظِيمِه.

وقيلَ: هو الثَّناءُ؛ والأولُ: أصحُّ، وهو الذِي ارتَضَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ.

وأما الثَّنَاءُ: فهُو تَكرَارُ الْمحَامدِ مرَّةً بعد مرَّةٍ؛ كما بيَّنَ ذلك ابْنُ الْقَيِّمِ مُطوَّلًا في بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ.

ص: 481

•‌

‌ ما حكم تصرف المرأة في مالها من غير علم زوجها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: الجواز مطلقاً.

وهذا قول جمهور العلماء، من الحنفية، والشافعية، والحنابلة في المذهب، وابن المنذر.

قال في نيل الأوطار: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها مطلقاً من غير إذن من الزوج إذا لم تكن سفيهة، فإن كانت سفيهة لم يجز، قال في الفتح: وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة.

أ- لحديث ابن عباس قال (أشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِ) متفق عليه.

وجه الدلالة: قبِل النبي صلى الله عليه وسلم صدقتهن، ولم يسأل عن إذن أزواجهن لهن في الصدقة، فدل على أنه لا يشترط.

ب-وعن مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ - رضى الله عنها - (أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِى يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي قَالَ «أَوَفَعَلْتِ». قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِيهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِك) رواه البخاري ومسلم.

وجه الدلالة: أن ميمونة أعتقت ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو أولها.

القول الثاني: أنه لا يجوز إلا بإذنه.

وهذا قول طاوس والليث.

أ- لحديث عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يجوز لامرأة عطية، إلا بإذن زوجها) رواه الترمذي.

قال ابن حجر في الفتح واحتج طاووس، بحديث عمرو بن شعيب (لا تجوز عطية امرأة في مالها إلا بإذن زوجها) أخرجه أبو داود والنسائي قال بن بطال .. وأحاديث الباب أصح.

ب-وبحديث واثلة بن الأسقع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئاً إلا بإذن زوجها، إذا ملك عصمتها)(قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم).

•‌

‌ بماذا أجاب من قال بالجواز عن أدلة من قال بالمنع؟

أجابوا بعدة أجوبة:

الجواب الأول: ضعف الأحاديث الواردة في منع المرأة من التصرف في مالها، بخلاف أدلتهم التي لا مطعن في ثبوتها ولا دلالتها.

الجواب الثاني: أنه لو فرض أن الأحاديث الواردة في المنع صالح للاستلال، لا يمكن أن تعارض الأدلة المبيحة، لقوتها ثبوتاً ودلالة، والقاعدة أنه إذا تعارض دليلان ولم يمكن الجمع بينهما قدم أقواهما، واجتماع دلالة القرآن والسنة الصحيحة على حق المرأة في التصرف في مالها، لا بقوى على معارضتها أحاديث ضعيفة، أو مختلف في ثبوتها.

الجواب الثالث: حمل أحاديث المنع - لو صحت - على أحد أمرين:

الأمر الأول: أن ذلك محمول الأدب والاختيار، و حسن العشرة واستطابة نفس الزوج، وليس على سبيل التحريم.

الأمر الثاني: حمل المنع على المرأة السفيهة، التي تتصرف في مالها تصرف السفهاء، فتكون محجورا عليها حجر سفه.

ص: 482

•‌

‌ ما حكم بيع التقسيط؟

المراد ببيع التقسيط: مبادلة سلعة تسلم حالاً بثمن مؤجل يسدد على دفعات معلومة في أوقات محددة، مع زيادة في الثمن.

اختلف العلماء في حكم هذه المسألة.

القول الأول: أنه حرام.

وهو مذهب قلة من العلماء.

بحجة أنه ربا، قالوا: لأن فيه زيادة في الثمن مقابل التأجيل وهذا هو الربا.

القول الثاني: أنه جائز.

وهذا مذهب جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة.

أ-ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُوم)

وبيع السلم جائز بالنص والإجماع. وهو شبيه ببيع التقسيط. وذكر العلماء من حكمته أنه ينتفع المشتري برخص الثمن، والبائع بالمال المعجل، وهذا دليل على أن للأجل في البيع نصيباً من الثمن. وأن هذا لا بأس به في البيوع.

ب-بما رواه الإمام أحمد في مسنده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشاً، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل) رواه أحمد.

ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاءه أناس منهم فقالوا يا رسول الله: إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال صلى الله عليه وسلم:(ضعوا وتعجلوا).

فهذا الحديث يدل على جواز جعل المدة عوضاً عن المال في بعض الحالات، لأن وضع جزء من الدين أو حط بعضه كان في مقابل عدم استيفاء الأجل، فكذلك زيادة الثمن عند تأجيله مثل ذلك سواء بسواء.

د-قياساً على عقد السلم، وهو بيع آجل بعاجل، أي بيع سلعة مؤجلة بثمن معجل، حيث أنه في الغالب يكون السعر أقل من ثمن المثل لأجل التعجيل، فإذا جاز الحط من الثمن لأجل التعجيل، جازت الزيادة في الثمن لأجل التأجيل.

هـ-وجرى عمل المسلمين على جواز زيادة الثمن مقابل التأجيل من غير نكير منهم. فصار كالإجماع على جواز هذه الصورة من صور البيع.

سئل الشيخ ابن باز عن حكم الزيادة في الثمن مقابل الأجل فقال: إن هذه المعاملة لا بأس بها لأن بيع النقد غير التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل وظن ذلك من الربا وهو قول لا وجه له وليس من الربا في شيء لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقداً، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشاً فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).

وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة وهي من جنس معاملة بيع السلم.

ص: 483

•‌

‌ ما شروط صحة بيع التقسيط؟

الشرط الأول: ألا يكون المبيع ذهباً أو فضة أو ما ألحق بهما من الأثمان، فلا يجوز مثلاً بيع الذهب بالتقسيط؛ لوجوب التقابض في مبادلة الذهب بالنقود.

الشرط الثاني: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع وقت العقد، فلا يجوز أن يبيع سلعة قبل أن يملكها ثم يذهب فيشتريها ويسلمها للمشتري.

الشرط الثالث: أن يكون المبيع مقبوضاً للبائع، فلا يجوز أن يبيع سلعة قد اشتراها ولكنه لم يقبضها.

الشرط الرابع: ألا يشترط البائع على المشتري زيادة في الثمن إذا تأخر عن أداء ما عليه في الوقت المحدد؛ لأن هذا من الربا، كأن يقول: تدفع عن كل قسطٍ تتأخر في أدائه غرامة عن التأخير.

•‌

‌ استشكل صدور الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بالموافقة بشراء بريرة من أهلها مع موافقتهم على اشتراط الولاء لهم وهو شرط باطل؟

قيل: أن معنى (اشترطي لهم) أن اللام في (لهم) بمعنى (على).

كقوله تعالى (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

وهذا المشهور عن المزني، وهو قول الشافعي.

وضعف هذا التأويل النووي، وابن دقيق العيد.

وقيل: الأمر في قوله (اشترطي) للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم.

ويقوي هذا التأويل رواية (اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاءوا).

وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه، أطلق الأمر مريداً به التهديد على مآل الحال، كقوله (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤمنون).

وكأنه قال: اشترطي لهم فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم.

وقيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر، وباطنه النهي، كقوله (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير).

وقيل: اشترطي ودعيهم يعملون ما شاءوا أو نحو ذلك، لأن ذلك غير قادح في العقد، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله شهيراً يخطب به على المنبر ظاهراً، إذ هو أبلغ في التكبير وأوكد في التغيير.

وهذا القول أرجح.

•‌

‌ ما حكم قول أما بعد في الخطبة؟

سنة، كان صلى الله عليه وسلم يقولها، ويؤتى بها عند إرادة الدخول في صلب الموضوع.

أ-لما كسفت الشمس، قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً وحمد الله بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد: ما من شيء لم أكن قد رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار

). متفق عليه

ب-وخطب مرة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إليّ). متفق عليه

ج-وخطب صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فإن هذا الحي من الأنصار

).

د- وحديث الباب.

ص: 484

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- استحباب طلب المعاونة والمساعدة عند العجز.

- مشروعية إعانة الرقيق في إعتاق نفسه.

- مشروعية مبايعة المرأة دون علم زوجها.

- أن الولاء لمن أعتق، أن يكون عندك عبد، فتعتق هذا الرقيق، فيبقى ولاء هذا الرقيق لسيده الذي أعتقه، فإذا توفي هذا الرقيق وعنده مال فإنه يرثه هذا السيد إذا لم يكن له وارث.

فالولاء من أسباب الميراث.

- ينبغي على العلماء إذا علموا أمراً يحتاج إلى تنبيه يجب عليهم تنبيه العامة وتبليغهم.

- ينبغي الاعتناء بأحكام الشريعة.

- أن السنة لمن أراد أن يخطب أن يبدأ بتحميد الله، وسواء في ذلك خطبة العيد والاستسقاء أو غيرهما.

- أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الخطب أن لا يشهر ولا يفضح، وإنما يستر وينصح.

- أن كل شرط لا يوافق الشريعة فهو باطل مردود وإن كثر وأكّد.

- أن كل شرط لا يخالف الشريعة فهو صحيح معمول به.

- استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات.

- أن السجع جائز إذا كان غير متكلف، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم:(قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، إنما الولاء لمن أعتق).

وأما إذا كان متكلفاً فهو من سجع الكهان، فهذا لا ينبغي.

- أن الولاء لمن أعتق.

- أن أقضية الله وأحكامه وشروطه وحدوده هي المتبعة، وما عداها فلا يتبع ولا يركن إليه.

- إنكار القول الذي لا يوافق الشرع.

- أنه يجوز للمرء أن يقضى عنه دينه برضاه.

- وجوب الرجوع إلى كتاب الله.

ص: 485

794 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ اَلْأَوْلَادِ فَقَالَ: لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ، لِيَسْتَمْتِعْ بِهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ) رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: رَفَعَهُ بَعْضُ اَلرُّوَاةِ، فَوَهِمَ.

795 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ (كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَا، أُمَّهَاتِ اَلْأَوْلَادِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

•‌

‌ ما المراد بأم الولد؟

أم الولد: هي من أتت من سيدها بما تبين فيه خلق الإنسان.

•‌

‌ ما حكم بيع أمهات الأولاد؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنها لا تباع.

وهذا قول عمر وعثمان وعائشة وعامة الفقهاء، وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جماهير المسلمين.

بل حكى ابن قدامة والنووي الإجماع على المنع.

لنهي عمر عن ذلك.

القول الثاني: جواز بيعها.

وهذا اختيار ابن تيمية.

أ- لحديث الباب - جَابِرٍ - قَالَ (كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَا، أُمَّهَاتِ اَلْأَوْلَادِ، وَالنَّبِيُّ حي

).

ب-ولما جاء عن علي قال (اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، قال: ثم رأيت بعد أن يبعن، قال عبيدة: فقلت له: فرأي ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة - أو قال في الفتنة - قال: فضحك علي) أخرجه عبدالرزاق، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر.

وهذا أصح.

قال الخطابي: يحتمل أن يكون بيع الأمهات كان مباحاً، ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ولم يشتهر ذلك النهي، فلما بلغ عمر نهاهم.

والذي يظهر لي أن نهي عمر إنما كان عن اجتهاد منه، و ليس عن نهي ورده عن النبي صلى الله عليه وسلم، و ذلك لتصريح علي رضي الله عنه بأنه كان عن رأي من عمر و منه.

فروى عبد الرزاق (13224) بسنده الصحيح عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا يقول: اجتمع رأيي و رأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن. قال: ثم رأيت بعد أن يبعن، قال عبيدة: فقلت له: فرأيك و رأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة، قال: فضحك علي.

قال الحافظ: و هذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد.

•‌

‌ هل تعتق أم الولد بموت سيدها؟

نعم، تعتق بموت سيدها وإن لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا.

لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعاً (مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ

وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ (ذُكِرَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِي

وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ إتْلَافٌ حَصَلَ بِسَبَبِ حَاجَةٍ أَصْلِيَّةٍ، وَهِيَ الْوَطْءُ فَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَالْأَكْلِ وَنَحْوِه.

•‌

‌ هل يجوز للرجل أن يجامع أمَتَه؟

نعم، أباح الإسلام للرجل أن يجامع أمَته سواء كان له زوجة أو زوجات أم لم يكن متزوجاً.

ويقال للأمة المتخذة للوطء (سرية) مأخوذة من السِّرِّ وهو النكاح.

ودل على ذلك القرآن والسنة، وفعله الأنبياء فقد تسرَّى إبراهيم عليه السلام من هاجر فولدت له إسماعيل عليهم السلام أجمعين.

وفعله نبينا صلى الله عليه وسلم، وفعله الصحابة والصالحون.

قال الله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا).

معنى (ما ملكت أيمانكم) أي: ما ملكتم من الإماء والجواري.

ص: 486

وقال الله تعالى (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما).

وقال (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون).

قال الطبري: يقول تعالى ذكره (والذين هم لفروجهم حافظون) حافظون عن كل ما حرم الله عليهم وضعها فيه، إلا أنهم غير ملومين في ترك حفظها على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم من إمائهم.

قال ابن كثير: وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد فعله إبراهيم عليه السلام في هاجر لما تسرى بها على سارة.

وقال ابن كثير أيضاً: وقوله تعالى (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي: وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام وكانتا من السراري رضي الله عنهما.

وقد أجمع العلماء على إباحته.

قال ابن قدامة: ولا خلاف في إباحة التسري ووطء الإماء؛ لقول الله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين).

وقد كانت مارية القبطية أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم التي قال فيها (أَعِتَقَها ولدُها)، وكانت هاجر أم إسماعيل عليه السلام سُرِّيَّة إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وكان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمهات أولاد أوصى لكل واحدة منهن بأربعمائة، وكان لعلي رضي الله عنه أمهات أولاد، ولكثير من الصحابة، وكان علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله من أمهات الأولاد. يعني أن هؤلاء الثلاثة علي والقاسم وسالم كانت أمهاتهم من الإماء.

•‌

‌ هل يجوز للسيد أن يتزوج أمَتَه؟

اتفق العلماء على أنه لا يجوز للسيد أن يتزوج أمته، لأن عقد الملك أقوى من عقد الزوجية، ويفيد ما يفيده عقد الزوجة وزيادة، ويجوز له أن يتزوج أمَةَ غيره إذا توفرت شروط ذلك.

قال ابن قدامة رحمه الله: وليس للسيد أن يتزوج أمَتَه؛ لأن ملك الرقبة يفيد ملك المنفعة وإباحة البضع، فلا يجتمع معه عقدٌ أضعفُ منه، ولو ملك زوجته وهي أمة انفسخ نكاحها، وكذلك لو ملكت المرأة زوجها انفسخ نكاحها، ولا نعلم في هذا خلافاً.

وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات)

قوله تعالى (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) أي: فَلْيَتَزَوّج بأَمَة الغير، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوّج أَمَةَ نفسه؛ لتعارض الحقوق واختلافها " انتهى.

وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ويحرم على السيد أن يتزوج مملوكته؛ لأن عقد الملك أقوى من عقد النكاح، ولا يجتمع عقدٌ مع ما هو أضعفُ منه.

والحاصل: أن عقد النكاح لا ينعقد بين السيد وأمته، وتبقى في ملكه وذمته ولا تكون حرة بذلك.

وإذا أراد الرجل أن يتزوج أمته، فإنه يعتقها أولاً حتى تصير حرة، ثم يتزوجها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا .... ثم تزوجها).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديثين؟

- الاحتجاج بما فُعِل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

- أن أم الولد تعتق بموت السيد.

ص: 487

796 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ اَلْمَاءِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: (وَعَنْ بَيْعِ ضِرَابِ اَلْجَمَلِ).

797 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ اَلْفَحْلِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.

===

(ضِرَابِ اَلْجَمَل) بكسر الضاد المعجمة.

(عَسْبِ اَلْفَحْلِ) بفتح العين وإسكان السين.

•‌

‌ ما معنى قوله (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء)؟

معناه: النهي عن بيع الماء الفاضل عن حاجة الإنسان وحاجة عياله وماشيته، وأن الواجب بذل الزائد منه لمحتاجه، والمراد بذلك: ما كان في الفلاة من مورد ونحوه، وكذا نقع البئر والعين الجارية، لأن الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار.

قال القرطبي في: وأما ماء الأنهار، والعيون، وآبار الفيافي، التي ليست بمملوكة: فالاتفاقُ حاصلٌ: على أن ذلك لا يجوزُ منعه، ولا بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ).

قال الخطابي: معناه الْكَلَأ الَّذِي يَنْبُت فِي مَوَات الْأَرْض يَرْعَاهُ النَّاس لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصّ بِهِ دُون أَحَد أَوْ يَحْجُرهُ عَنْ غَيْره،

وَأَمَّا الْكَلَأ إِذَا كَانَ فِي أَرْض مَمْلُوكَة لِمَالِك بِعَيْنِهِ فَهُوَ مَال لَهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُشْرِكهُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِه.

•‌

‌ ما حكم بيع الماء إذا حازه الإنسان في خزانه أو في قربة؟

جائز.

قياساً على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لأن يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتي بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) رواه البخاري

قال ابن قدامة: وأما ما يحوزه من الماء في إنائه فإنه يملكه بذلك وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم

وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع الماء في الروايا من غير نكير، وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ ولا يأخذ إلا بإذن مالكه.

وسئل الشيخ الفوزان حفظه الله: هل يجوز بيع الماء؟ ومتى؟

فأجاب: في ذلك تفصيل: إذا كان حاز الماء في وعائه أو بركته فإنه يملكه ويجوز له أن يبيعه؛ لأنه حازه واستولى عليه وتعب في تحصيله، فصار ملكًا له، أما إذا كان الماء باقيًا في البئر أو في النهر أو في المجرى الذي يجري في ملكه فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه لا يجوز له بيعه، بل يكون هو أولى بالانتفاع به من غيره، وليس له أن يمنع الآخرين من الانتفاع به انتفاعًا لا يضره هو ولا يضر في ملكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء.

الخلاصة: بيع الماء لا يخلو من حالتين:

الحال الأولى: أن يكون الماء في بئر أو نهر عام ليس ملكاً لأحد، فهذا لا يجوز بيعه.

لما روى أبو داود أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ).

قال في "عون المعبود: الْمُرَاد الْمِيَاه الَّتِي لَمْ تَحْدُث بِاسْتِنْبَاطِ أَحَد وَسَعْيه كَمَاءِ الْآبَار وَلَمْ يُحْرَز فِي إِنَاء أَوْ بِرْكَة أَوْ جَدْوَل مَأْخُوذ مِنْ النَّهَر، وَالْكَلَأ: وَهُوَ النَّبَات رَطْبه وَيَابِسه.

الحال الثانية: أن يكون الماء في ملك الشخص، وهو الذي أخرجه وحازه في ملكه، فهذا يجوز له أن يبعه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع: أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة، فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكاً له بالحيازة " انتهى.

ص: 488

•‌

‌ ما معنى ضراب الجمل؟

أي: أخذ الكراء على ضرابه، بل ينبغي لصاحب الفحل إعارته بلا كراء.

قال ابن الأثير: ضراب الجمل: نَزْوه على الأنثى، والمراد بالنهي ما يؤخذ عليه من الأجرة، لا على نفس الضراب، وتقديره: نهى عن ثمن ضراب الجمل.

•‌

‌ ما معنى (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ اَلْفَحْلِ)؟

قيل: هو ثمن ماء الفحل، وقيل: أجرة الجماع.

قال الحافظ: وعلى الأخير جرى البخاري، ويؤيد الأول حديث جابر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ اَلْجَمَل).

•‌

‌ ما حكم أخذ الأجرة على ضراب الجمل؟

حرام، للنهي الصريح في ذلك.

•‌

‌ ما العلة من التحريم؟

قال الحافظ في الفتح: لأنه غَيْر مُتَقَوَّم وَلَا مَعْلُوم وَلَا مَقْدُور عَلَى تَسْلِيمه.

وقال ابن القيم في زاد المعاد:

إحداها: أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته.

الثانية: أن المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد فإنه مجهول القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر فإنها احتملت بمصلحة الآدمي فلا يقاس عليها غيرها وقد يقال والله أعلم:

ثالثاً: إن النهي عن ذلك من محاسن الشريعة وكمالها فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان وجعله محلا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط من أعينهم في أنفسهم، وقد جعل الله سبحانه فطر عباده لا سيما المسلمين ميزانا للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح، ويزيد هذا بيانا أن ماء الفحل لا قيمة له ولا هو مما يعاوض عليه.

•‌

‌ ما حكم الإجارة على ذلك؟

جمهور العلماء على عدم جواز إجارة الفحل للضراب، للأحاديث السابقة.

ص: 489

798 -

وَعَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ اَلْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ اَلرَّجُلُ يَبْتَاعُ اَلْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ اَلنَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ اَلَّتِي فِي بَطْنِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

===

(نَهَى) النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء.

(حَبَلِ اَلْحَبَلَةِ) بفتح الباء، والحبل: الحمل.

(اَلْجَزُورَ) هو البعير.

(تُنْتَجَ) بضم التاء الأولى، أي تلد.

•‌

‌ ما حكم بيع حبَل الحَبَلة؟

حرام. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والنهي يقتضي التحريم.

•‌

‌ ما معنى بيع حبل الحبلة؟

اختلف العلماء في تفسيره على تفسيرين:

التفسير الأول: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها.

قال النووي: وقد ذكر مسلم في هذا الحديث هذا التفسير عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم.

التفسير الثاني: وهو بيع ولد الناقة الحامل في الحال.

قال النووي: وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلام، وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية، وهذا أقرب إلى اللغة، لكن الراوي هو ابن عمر وقد فسره بالتفسير الأول وهو أعرف.

قال النووي: وهذا البيع باطل على التفسيرين.

وقال: أجمع العلماء على بطلان بيع الجنين.

للجهالة.

•‌

‌ ما العلة في النهي عن هذا البيع؟

أما على التفسير الأول: فللجهالة في الأجل.

مثال: باع عليه شخص شيء، وأجل الثمن فقال: لا تسلمني الثمن إلا أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.

وأما على التفسير الثاني: فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك وغير مقدور على تسليمه.

وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة من البيوع.

فقد يكون الجنين الذي في بطن الناقة ذكراً، وقد يكون أنثى، وقد يخرج حياً وقد يخرج ميتاً، وقد يكون واحداً، وقد يكون متعدداً.

•‌

‌ ما حكم بيع الناقة الحامل؟

يجوز.

لأن الحمل حينئذٍ تبع، وإذا كان تبعاً (فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً).

ومثله: لو باع اللبن في الضرع، فإنه لا يصح، لكن لو باع شاة فيها لبن صح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- النهي عن كل بيع فيه جهالة سواء كان في عين المبيع أو ثمن المبيع أو الأجل.

- تحريم بيع الحمل.

- من شروط البيع: أن يكون المعقود عليه موجوداً حين العقد، فلا يصح بيع المعدوم وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء، ويعتبر بيع المعدوم باطلاً.

قال النووي رحمة الله: فبيع المعدوم باطل بالإجماع.

- أن المعاملات التي كان يتعامل بها أهل الجاهلية على الإباحة ما لم ينص الشارع على تحريمها، لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل.

- يشترط أن يكون المبيع معلوماً، وثمنه معلوماً، وأجله - إن كان مؤجلاً - معلوماً.

مثال: بعتك هذا الشيء بـ 100 إلى أن يقدم زيد، فالأجل هنا مجهول، فالبيع صحيح والشرط فاسد، فإذا فسد شرط التأجيل فإن البيع يبقى حالاً، وللمشتري الخيار بين إمضاء البيع ودفع الثمن حالاً، أو فسخ البيع.

- حكمة الشرع في النهي عن كل ما فيه غرر وجهالة.

ص: 490

799 -

وَعَنْهُ; (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ ما هو الولاء؟

الولاء: عصوبة تثبت للمعتِق، وعصبته المتعصبين بأنفسهم.

•‌

‌ ما حكم بيع الولاء وهبته؟

حرام.

قال البغوي: اتفق أهل العلم على أن الولاء لا يباع ولا يوهب ولا يورث، إنما هو سبب يورث به، كالنسب يورث به ولا يورث.

وقال الخطابي في شرح الحديث: وهذا كالإجماع من أهل العلم.

وقال النووي: فِيهِ تَحْرِيم بَيْع الْوَلَاء وَهِبَته، وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَقِل الْوَلَاء عَنْ مُسْتَحَقّه بَلْ هُوَ لُحْمَة كَلُحْمَةِ النَّسَب، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف. وَأَجَازَ بَعْض السَّلَف نَقَلَهُ وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَبْلُغهُمْ الْحَدِيث.

•‌

‌ ما العلة في تحريمه؟

قال القرطبي: إنما لم يجز بيع الولاء ولا هبته، للنهي عن ذلك، ولأنه أمر وجودي لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب، فكما لا تنتقل الأبوة والجدودة كذلك لا ينتقل الولاء.

ولأن الذي يشتري الولاء غالباً، إنما يشتريه لأجل ما ثبت له من العصوبة وهي مجهولة، لأنه ربما يكون لهذا العتيق عصوبة نسب، كأن يوله له أبناء أو يكون له أعمام أو إخوة ونحو ذلك.

•‌

‌ ما الجواب عن ما ورد عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان بن يسار مولاها لابن عباس؟

قال ابن قدامة: فعل هؤلاء شاذ يخالف قول الجمهور، وترده السنة، فلا يعول عليه.

ص: 491

800 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ اَلْغَرَرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(بَيْعِ اَلْحَصَاةِ) أي: البيع المنسوب للحصاة، وقد جاء عند أحمد (لا تبايعوا بالحصاة) وفي لفظ لابن الجارود (لا تبايعوا بإلقاء الحصى).

•‌

‌ ما حكم بيع الحصاة؟

حرام. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

•‌

‌ ما معنى بيع الحصاة؟

قال النووي: أَمَّا بَيْع الْحَصَاة فَفِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات:

أَحَدهَا: أَنْ يَقُول: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَاب مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أَرْمِيهَا، أَوْ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْض مِنْ هُنَا إِلَى مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاة.

وَالثَّانِي: أَنْ يَقُول: بِعْتُك عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِي بِهَذِهِ الْحَصَاة.

وَالثَّالِث: أَنْ يَجْعَلَا نَفْس الرَّمْي بِالْحَصَاةِ بَيْعًا، فَيَقُول: إِذَا رَمَيْت هَذَا الثَّوْب بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيع مِنْك بِكَذَا.

وقال القرطبي: اختُلف فيه على أقوال:

أولها: أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة.

وثانيها: أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة فهو المبيع.

وثالثها: أن يقبض على الحصى، فيقول: ما خرج كان لي بعدده دراهم أو دنانير.

ورابعها: أيُّ زمان وقعت الحصاة من يده وجب البيع. فهذا إيقاف لزوم على زمن مجهول.

وهذه كلها فاسدة لما تضمنته من الخطر، والجهل، وأكل المال بالباطل.

وقال ابن القيم:

أَمّا بَيْعُ الْحَصَاةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى نَوْعِهِ كَبَيْعِ الْخِيَارِ وَبَيْعِ النّسِيئَةِ وَنَحْوِهِمَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدّمِ.

الْحَصَاةِ بِأَنْ يَقُولَ ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَعَلَى أَيّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَك بِدِرْهَمِ وَفُسّرَ بِأَنّ بَيْعَهُ مِنْ أَرْضِهِ قَدْرَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ رَمْيَةُ الْحَصَاةِ وَفُسّرَ بِأَنْ يَقْبِضَ عَلَى كَفّ مِنْ حَصَا وَيَقُولُ لِي بِعَدَدِ مَا خَرَجَ فِي الْقَبْضَةِ مِنْ الشّيْءِ الْمَبِيعِ أَوْ يَبِيعُهُ سِلْعَةً وَيَقْبِضُ عَلَى كَفّ مِنْ الْحَصَا وَيَقُولُ لِي بِكُلّ حَصَاةٍ دِرْهَمٌ وَفُسّرَ بِأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُهُمَا حَصَاةً فِي يَدِهِ وَيَقُولُ أَيّ وَقْتٍ سَقَطَتْ الْحَصَاةُ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفُسّرَ بِأَنْ يَتَبَايَعَا وَيَقُولَ أَحَدُهُمَا: إذَا نَبَذْت إلَيْك الْحَصَاةَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفُسّرَ بِأَنْ يَعْتَرِضَ الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ فَيَأْخُذُ حَصَاةً وَيَقُولُ أَيّ شَاةٍ أَصَبْتهَا فَهِيَ لَك بِكَذَا وَهَذِهِ الصّوَرُ كُلّهَا فَاسِدَةٌ لِمَا تَتَضَمّنُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ الْغَرَرِ وَالْخَطَرِ الّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالْقِمَارِ. (زاد المعاد).

•‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

لأن ذلك من الجهالة والغرر.

ولأنه أكل لأموال الناس بالباطل.

ولأنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس.

ص: 492

•‌

‌ عرف الغرر؟

قال ابن تيمية: هو مجهول العاقبة.

وقال: هو ما تردد بين السلامة والعطب، ومعنى هذا: ما كان متردداً بين أن يسلم للمشتري فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يعطب فلا يحصل المقصود بالعقد.

وقال ابن القيم: الغرر ما تردد بين الحصول والفوات. (الذي لا يدري حصوله، هل يحصل ام لا) كبيع جمل شارد.

النهي عن بيع الغرر أصل عظيم في باب البيع يدخل تحته مسائل كثيرة، قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه.

فكل بيع فيه غرر فهو حرام.

•‌

‌ اذكر بعض الأمثلة على الغرر؟

قال النووي:

ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع .. ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل، لأنه غرر من غير حاجة.

•‌

‌ هل يعفى عن شيء من الغرر؟

يعفى عن اليسير الذي لابد منه.

قال القرطبي: كل بيع لابد فيه من نوع من الغرر، لكنه لما كان يسيراً غير مقصود لم يلتفت الشرع إليه.

وقال النووي:

وَقَدْ يَحْتَمِل بَعْض الْغَرَر بَيْعًا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَة كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الدَّار وَكَمَا إِذَا بَاعَ الشَّاة الْحَامِل وَاَلَّتِي فِي ضَرْعهَا لَبَن فَإِنَّهُ يَصِحّ لِلْبَيْعِ، لِأَنَّ الْأَسَاس تَابِع لِلظَّاهِرِ مِنْ الدَّار، وَلِأَنَّ الْحَاجَة تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِن رُؤْيَته. وَكَذَا الْقَوْل فِي حَمْل الشَّاة وَلَبَنهَا. وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز أَشْيَاء فِيهَا غَرَر حَقِير، مِنْهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّة بَيْع الْجُبَّة الْمَحْشُوَّة وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوهَا، وَلَوْ بِيعَ حَشْوهَا بِانْفِرَادِهِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز إِجَارَة الدَّار وَالدَّابَّة وَالثَّوْب وَنَحْو ذَلِكَ شَهْرًا مَعَ أَنَّ الشَّهْر قَدْ يَكُون ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُون تِسْعَة وَعِشْرِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز دُخُول الْحَمَّام بِالْأُجْرَةِ مَعَ اِخْتِلَاف النَّاس فِي اِسْتِعْمَالهمْ الْمَاء وَفِي قَدْر مُكْثهمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز الشُّرْب مِنْ السِّقَاء بِالْعِوَضِ مَعَ جَهَالَة قَدْر الْمَشْرُوب وَاخْتِلَاف عَادَة الشَّارِبِينَ وَعَكْس هَذَا.

قَالَ الْعُلَمَاء: مَدَار الْبُطْلَان بِسَبَبِ الْغَرَر. وَالصِّحَّة مَعَ وُجُوده عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنْ دَعَتْ حَاجَة إِلَى اِرْتِكَاب الْغَرَر وَلَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنْهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكَانَ الْغَرَر حَقِيرًا جَازَ الْبَيْع وَإِلَّا فَلَا. (شرح مسلم).

وقال ابن القيم: ليس كل غرر سبباً للتحريم، والغرر إذا كان يسيراً أو لا يمكن الاحتراز منه لم يكن مانعاً من صحة العقد.

ص: 493

801 -

وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اِشْتَرَى طَعَاماً فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(مَنِ اِشْتَرَى طَعَاماً) أي: كل ما يؤكل، كالقمح والأرز والتمر.

(فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ) أي: يستوفيه بالكيل، وقد جاء بلفظ (حتى يستوفيه) وفي لفظ (حتى يقبضه).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: نهي من اشترى طعاماً أن يبيعه حتى يستوفيه. (والاستيفاء يكون بكيله).

مثال: اشتريت من صاحب هذه المزرعة هذه الكومة من الحب كل صاع بدرهم، فجاءني شخص وقال: بع عليّ هذا البر الذي اشتريته، فهذا لا يجوز حتى يستوفيه ويقبضه ويكيله.

•‌

‌ هل يقاس عليه غيره أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه، سواء مطعوم أو معدود أو عقار أو سيارات.

وهذا مذهب الشافعية، وهو قول محمد وزفر من الحنفية، ورجحه ابن القيم.

أ-لحديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه).

قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله.

ب-ولحديث حكيم بن حزام قال: (قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه). لكنه حديث ضعيف رواه أحمد.

فقوله (بيعاً) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم من طعام وغيره.

ج- عن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). رواه أبو داود

فقوله (نهى أن تباع السلع

) يفيد العموم، وهذا القول رجحه ابن القيم وأطال في نصرته.

د- ولحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن). رواه أبو داود

وجه الدلالة: أن السلعة قبل قبضها من ضمان البائع، لأن من شرط انتقال الضمان للمشتري قبضه للمبيع، فإذا باع المشتري السلعة قبل قبضها فيكون قد ربح في شيء لم يدخل في ضمانه، وهذا لا يجوز حتى يقبضه فيكون من ضمانه.

القول الثاني: يجوز بيع كل شيء قبل قبضه إلا الطعام المكيل أو الموزون، فلا يجوز حتى يقبضه.

أ- لحديث الباب (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه). وفي رواية: (حتى يستوفيه).

قالوا: الأحاديث الواردة جاءت خاصة بالطعام، فدل هذا على أن غير الطعام ليس كذلك في الحكم.

وهذا مذهب المالكية.

ص: 494

القول الثالث: لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه، لكن يستثنى العقار [الأراضي، المزارع].

وهذا مذهب أبي حنيفة.

والراجح القول الأول، وهو عدم جواز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه.

•‌

‌ ما الحكمة من منع بيع السلع قبل قبضها؟

لعدم استيلاء المشتري على السلعة.

وعدم انقطاع علاقة البائع عنها، فإنه يطمع في الفسخ، وقد يمتنع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح.

وربما أمضاه إلى التحيل على فسخ العقد ولو ظلماً، وجرّ ذلك إلى الخصام والمعاداة.

•‌

‌ ما كيفية القبض؟

بالنسبة للطعام يكون بالوزن، فإذا وزنه فإنه يعتبر قبضه، فيجوز بيعه.

أما بقية المبيعات فيرجع إلى العرف.

العقار: ويحصل بالتخلية، لأن الشرع أمر بالقبض، وأطلقه، فيحمل على العرف والعادة، وقد جرت العادة بقبض العقار ونحوه بالتخلية.

مثال: بعت بيتي على شخص، القبض يكون: أن أعطيه المفتاح، وأترك بيتي.

والذهب والسيارات وغيرها من المنقولات: يكون بالنقل والتحويل.

فلو بعت أقلام على شخص، فالقبض يكون باستلامها بيده.

سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: اشتريت قطعة أرض وتم تسليمي سند قبض بالمبلغ من البائع، حتى يتم إصدار صك ملكية الأرض لي فهل يجوز بيعها قبل صدور الصك؟ أم أن ذلك داخل في بيع ما لا أملك، جزاكم الله خيرا؟

إذا تم البيع بينكما جاز لك التصرف ولو تأخر إصدار الصك، والله ولي التوفيق.

وقال: إذا تم البيع وقبضت السيارة لك أن تتصرف فيها لكن تخرج بها عن مكان البيع تنقلها إلى مكانك، أو إلى محل آخر، أو إلى معرض آخر، حتى يتم القبض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم (نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) ولو ما تمت بقية الإجراءات، ما دام تم البيع بينكما، إذا افترقتما لزم البيع" انتهى.

‌س- ما حكم من يشتري سلعة حالة ب 300 ويبيعها على اصدقائه ب 300 بعد الاتفاق مع الزملاء؟

المعاملة تجوز بشروط:

الأول: أن تشتري السلعة، وتقبضها، ثم تبيعها عليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه:(إذا اشتريت مبيعا فلا تبعه حتى تقبضه) رواه أحمد والنسائي.

وعند أحمد: عن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيَّ؟ قَالَ:(فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَه).

وأخرج الدارقطني وأبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) والحديث حسنه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 495

فلا يجوز أن تعقد معهم البيع قبل أن تملك السلعة وتقبضها. لكن يجوز أن تعدهم بإحضارها، وأن يعدوك بشرائها، وأن تتفق معهم على قدر الثمن، وهذا الوعد غير ملزم لواحد منكما.

الثاني: ألا تكون وكيلا لهم في الشراء، فلا يصح أن يوكلوك في شراء سلعة، فتشتريها بـ 200 ثم تبيعها عليهم بأزيد، لأن الوكيل لا يجوز أن يربح من موكله إلا بعلمه.

وإنما تتعامل معهم على أنك بائع، تشتري السلعة التي يرغبون فيها، وتربح عليهم.

الثالث: أن تبيع لهم بسعر السوق، وأما الزيادة الكبيرة، في حال جهلهم بالسعر الحقيقي، فهي غبنٌ لا يجوز فعله. فإن علموا السعر الحقيقي ورضوا بذلك فلا حرج، وإن لم يعلموا السعر الحقيقي فلا يجوز أن تزيد في الثمن زيادة فاحشة.

(الإسلام سؤال وجواب).

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن البيع قبل القبض لا يجوز وباطل.

- إذا تلف المبيع:

فإن كان قبل القبض، فإنه من ضمان البائع.

وإن كان بعد القبض، فإنه من ضمان المشتري.

ص: 496

802 -

وَعَنْهُ قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا، أَوْ اَلرِّبَا).

===

(فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا) الوكْس النقص.

•‌

‌ اذكر معنى (نهى عن بيعتين في بيعة)؟

اختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال:

القول الأول: أن يقول البائع أبيعك هذه السلعة نقداً بعشرة، ونسيئة بأحد عشرة، ويعقدان العقد من غير تحديد لأحد الثمنين.

وقد قال بهذا القول ابن مسعود، وهو قول الحنفية والمالكية. واستدلوا:

أ- أنه هذا التفسير مما لا يختلف فيه الناس.

ب-أن هذا التفسير يصدق عليه أنه بيعتين في بيعة، لأن هناك بيعاً بثمن مؤجل وبيعاً بثمن معجل، ولم يحددا أحد البيعتين، كما أنه يصدق على أن من فعل ذلك فله أوكسهما أو الربا.

القول الثاني: أن (بيعتين في بيعة) يراد به: اشتراط عقد في عقد، كأن يقول له: لا أبيعك هذه السلعة حتى تؤجرني بيتك.

وقال بهذا الحنابلة.

القول الثالث: أن المراد بـ (بيعتين في بيعة) بيع العينة، وهو أن يبيع الشيء نسيئة ثم يشتريه بأقل من الثمن الذي باعه به نقداً (عاجلاً).

وقال بهذا القول ابن تيمية، وابن القيم.

ووجه القول: أن البائع جمع بين بيعتين في بيعة واحدة، وذلك لأنه باع السلعة، ثم اشتراها، وقصده من ذلك بيع دراهم بدراهم، بزيادة مقابل النسيئة، فليس له في هذه الحال إلا الأوكس (الأقل) أو فإنه سيقع في الربا.

وهذا القول هو الراجح.

•‌

‌ فائدة: إذا قال البائع: هذه السيارة بخمسين ألف نقداً، وستين ألف بالتقسيط.

فهذه المسألة لها صورتان:

الأولى: أن يتفرق البائع والمشتري وقد اتفقا على ثمن منهما وطريقة السداد. فالبيع جائز.

الثانية: أن يتفرقا من غير اتفاق على الثمن، فهذا البيع محرم ولا يصح.

قالَ البغوي رحمه الله فِي شَرْحِ السُّنَّةِ -عن هذه الصورة الثانية-: هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لأَنَّهُ لا يُدْرَى أَيُّهُمَا جُعِلَ الثَّمَنَ.

وبهذا فَسَّر كثيرٌ من العلماء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. صححه الألباني صحيح الترمذي.

قال الترمذي: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِنَقْدٍ بِعَشَرَةٍ وَبِنَسِيئَةٍ بِعِشْرِينَ، وَلا يُفَارِقُهُ عَلَى أَحَدِ الْبَيْعَيْنِ، فَإِذَا فَارَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا بَأْسَ، إِذَا كَانَتْ الْعُقْدَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا.

وقال النسائي في السنن: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَبِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً.

وَقَالَ الشوكاني فِي نيْلِ الأوطار: وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ عَدَمُ اِسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ بَيْعِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِثَمَنَيْنِ.

ص: 497

‌وسئلت اللجنة الدائمة: ما رأيكم في بيع السيارة بعشرة آلاف نقداً أو اثني عشر ألفاً تقسيطا؟

فأجابت:

إذا باع إنسان لأخر سيارة بعشرة آلاف ريال مثلاً نقداً، أو باثني عشر ألف ريال إلى أجل، وتفرقا من مجلس العقد دون أن يتفقا على أحد الأمرين: ثمن النقد أو ثمن التأجيل لم يجز البيع ولم يصح، لجهالة الحال التي انتهى إليها البيع من حلول أو تأجيل. وقد استدل لهذا كثير من العلماء بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وإن اتفق المتبايعان قبل أن يتفرقا من مجلس العقد على أحد الثمنين ثمن النقد أو ثمن التأجيل ثم تفرقا بعد التعيين فالبيع جائز صحيح للعلم بالثمن وحاله.

وفي سؤال آخر:

إذا قال البائع: هذه السلعة بعشرة ريالات مؤجلة، وبخمسة نقداً. ما حكم ذلك؟

فأجابت اللجنة:

إذا كان الواقع كما ذكرت فلا يجوز البيع، لأنه من صور بيعتين في بيعة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، لما في ذلك من الجهالة التي تفضي إلى النزاع والاختلاف. (الإسلام سؤال وجواب).

•‌

‌ فائدة: سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز إبدال سيارتي القديمة بأخرى جديدة، وأدفع الفرق بين السيارتين لصاحب السيارة الجديدة؟ فالذي يحدث في هذه البلاد: أن يذهب صاحب السيارة القديمة إلى شركة السيارات، ويعلمهم برغبته، فيقدّرون قيمة كلّ من السيارتين،

فيدفع الفرق ويأخذ الجديدة بدلا من سيارته، مع العلم بأنهم لا يشترون القديمة إلا إذا اشترى منهم الجديدة، فهل هذا البيع صحيح أو لا؟

فأجابت:

إذا كان الواقع كما ذكرت؛ جاز لك أن تدفع سيارتك القديمة إلى الشركة مثلا لتأخذ بدلا منها سيارة جديدة، وتدفع الفرق بين القيمتين، وليس هذا من باب بيعتين في بيعة، بل هو بيع سيارة بأخرى مع المفاضلة بين قيمتهما، وليس في ذلك ربا؛ لأنّ السيارات ليست من الأنواع الربوية. وبالله التوفيق. صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحريم الربا.

- تحريم الحيل.

- أن الإنسان إذا تعامل في معاملة ربوية فالواجب عليه ترك الزيادة.

ص: 498

803 -

وَعَنْ عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ.

وَأَخْرَجَهُ فِي " عُلُومِ اَلْحَدِيثِ " مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ عَمْرٍو اَلْمَذْكُورِ بِلَفْظِ (نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ) وَمِنْ هَذَا اَلْوَجْهِ أَخْرَجَهُ اَلطَّبَرَانِيُّ فِي " اَلْأَوْسَطِ " وَهُوَ غَرِيبٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث عمرو بن شعيب

حديث حسن من أجل رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وأما (نهى عن بيع وشرط) فضعيف لا يصح، فيه عبد الله بن أيوب الضرير، قال عنه الدارقطني: متروك.

وأنكره ابن تيمية وابن القيم.

•‌

‌ ما معنى (لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ)؟

المراد بالسلف: القرض.

كأن يقول: أبيعك هذه السيارة على أن تقرضني مائة.

أو أقرضك كذا على أن تبيعني سيارتك.

وقد حكى ابن عبد البر، وابن هبيرة اتفاق العلماء على تحريم ذلك.

وقال ابن قدامة: لا أعلم فيه خلافاً.

لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.

قال ابن قدامة رحمه الله في (الكافي): ولا يجوز أن يُشترط في القرض شرط يجر به نفعاً، مثل أن يشترط رد أجود منه، أو أكثر، أو أن يبيعه أو أن يشتري منه، أو يؤجره أو يستأجر منه، أو يهدي له، أو يعمل له عملا ونحوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم[نهى عن بيع وسلف] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

•‌

‌ ما معنى قوله (وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ)؟

اختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه على ظاهره.

وعليه فلا يجوز أن يشترط المشتري: حمل الحطب، وشرط تكسيره

وهذا مذهب الحنفية والشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة.

لحديث الباب (وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْع).

قالوا: لأن ذلك يفضي إلى النزاع والشقاق.

القول الثاني: أن المراد بالشرطين: مسألة العينة.

وهذا اختيار ابن القيم.

وقالوا يجوز أن يشترط أكثر من شرط ما لم تكن الشروط محرّمة.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

وجه الدلالة من الآية والحديث: أنهما دلا على وجوب الوفاء بالشروط، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل صريح.

ج- أن الأصل في المعاملات كلها: اصلها وشروطها الصحة والإباحة ما لم يدل دليل صريح على المنع.

وهذا هو الصحيح.

ص: 499

•‌

‌ ما معنى قوله (وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ)؟

أي: لا يجوز للإنسان أن يربح في شيء لم يقبضه، كأن يبيع السلعة قبل قبضها، لأن السعلة قبل قبضها من ضمان البائع لا المشتري.

•‌

‌ ما معنى قوله (وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ)؟

معنى الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع ما ليس عنده وملكه وقت العقد.

وقد قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام (لا تبع ما ليس عندك) رواه أبو داود.

قال ابن قدامة: لا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها، ليمضي ويشتريها ويسلمها، ولا نعلم فيه مخالفاً.

ومعنى العندية في قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تبع ما ليس عندك) ما أفاده ابن القيم بقوله: العندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهدته، وإنما هي عندية الحكم والتمكين.

•‌

‌ وبيع ما ليس عند الإنسان يشمل أمور:

الأول: النهي عن بيع العين المعينة التي ليست عند البائع، بل هي مملوكة لغيره فيبيعها ثم يسعى في شرائها من صاحبها ثم يسلمها للمشتري

الثاني: يشمل بيع ما لا يقدر على تسليمه، لما فيه من الغرر.

قال الشيخ ابن باز: لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة بنقد أو نسيئة إلا إذا كان مالكاً لها وقد قبضها.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك).

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك) رواه الخمسة بإسناد صحيح، وهكذا الذي يشتريها ليس له بيعها حتى يقبضها أيضاً، للحديثين المذكورين؛ ولما رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)؛ ولما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانه حتى يؤوه إلى رحالهم) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

والحكمة من النهي: لأن ما لا يملكه البائع على خطر، فقد يحصّل المبيع وقد لا يحصّله، وهذا فيه غرر وخطر، ويفضي إلى النزاع والخصومة.

ص: 500

804 -

وَعَنْهُ قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلْعُرْبَانِ) رَوَاهُ مَالِكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، بِهِ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف لا يصح، ضعفه الإمام أحمد، والبيهقي، والنووي في المجموع، والمنذري في مختصر السنن، وابن حجر في التلخيص، والألباني في ضعيف الجامع الصغير.

•‌

‌ ما هو بيع العربون؟

قال ابن الأثير: العربون هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئاً على أنّه إن أمضى البيع حُسب من الثمن، وإن لم يمض البيع كان لصاحب السلعة ولم يرتجعه المشتري.

وقالت اللجنة الدائمة: هو أن يدفع المشتري للبائع أو وكيلاً مبلغاً من المال أقل من ثمن المبيع بعد تمام عقد البيع، لضمان المبيع؛ لئلا يأخذه غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فللبائع أخذه وتملكه.

•‌

‌ ما حكم بيع العربون؟

اختلف العلماء رحمهم الله في حكم بيع العربون على قولين:

القول الأول: التحريم.

ذهب إليه جمهور علماء الأمصار إلى أنّه غير جائز بل هو باطل ولا يصحّ.

وهو قول مالك، والشافعيّ، والليث ابن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحنفية، وحكى ابن المنذر بطلانه عن ابن عباس، والحسن البصري.

أ-لحديث الباب.

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع) رواه الخمسة.

قال الشوكاني: فاشتمل العربون على شرطين فاسدين.

ج-قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُواْ أَموَالَكُم بَينَكُم بالباطل).

قال القرطبي في تفسيره: ومن أكْل أموال الناس بالباطل بيع العربان .. فهذا لا يصلح، ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين، والعراقيين، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بالإجماع.

د-أن في بيع العربان معنى الميسر، قاله الدهلوي في الحجة.

هـ-أنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، كما لو قال: ولي الخيار، متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.

القول الثاني: الجواز

وهو مذهب الإمام أحمد، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه، وقال ابن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئاً. قال أحمد: هذا في معناه.

أ- لما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وعلقه البخاري: عن عبد الرحمن بن فروخ (أن نافع بن عبد الحارث اشترى داراً للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر فالبيع له، وإن عمر لم يرض فأربعمائة لصفوان).

ومما يقوي هذا الحديث أيضا أن قصة شراء عمر بن الخطاب داراً للسجن بمكة من صفوان بن أمية ـ قد اشتهرت بين أهل العلم، وبين من كتب في تاريخ مكة، مثل: الأزرقي، والفاكهي، وابن شبة، حتى إنها كانت موجودة في عصر الفاكهي، وكانت لا تزال سجن مكة، فليراجع، والله أعلم.

ب-ومن المعقول: قالوا: إنّ ذلك الثمن في صفقة العربان إنّما استحقّه البائع في مقابل الزمن وتأخير بيعه وتفويت الفرصة على البائع.

قال الشيخ محمد بن عثيمين: الجهالة في بيع العربون ليست جهالة ميسر، لأن جهالة الميسر يكون فيه المتعاملان بين الغنم والغرم، أما هذه فإن البائع ليس بغارم، بل البائع غانم، وغاية ما هنالك أن ترد إليه سلعته، ومن المعلوم أن المشتري لو شرط الخيار لنفسه مدة يوم أو يومين كان ذلك جائزاً، وبيع العربون يشبه شرط الخيا، إلا أنه يعطى للبائع جزء من الثمن إذا رد إليه السلعة، لأن قيمتها قد تنقص إذا علم الناس بهذا، ولو على سبيل التقديم، ففيه مصلحة.

وفيه أيضاً مصلحة للبائع من وجه آخر، أن المشتري إذا سلم العربون فإن في هذا دافع لتتميم البيعة.

وفيه كذلك مصلحة للمشتري، لأنه يكون بالخيار في رد السلعة إذا دفع العربون، بينما لو لم يدفعه للزمه البيع .... (بحث للأخ عدنان الأحمدي).

ص: 501

805 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (اِبْتَعْتُ زَيْتاً فِي اَلسُّوقِ، فَلَمَّا اِسْتَوْجَبْتُهُ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحاً حَسَناً، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِ اَلرَّجُلِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ اِبْتَعْتَهُ حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ; فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُبَاعَ اَلسِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا اَلتُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

===

(اِبْتَعْتُ زَيْتاً فِي اَلسُّوقِ) أي: اشتريت.

(فَلَمَّا اِسْتَوْجَبْتُهُ) أي: استحققته.

(فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِ اَلرَّجُلِ) أي: أعقد معه البيع، لأن من عادة المتبايعين أن يضرب أحدهما يده في يد الآخر عند عقد البيع.

(لَا تَبِعْهُ حَيْثُ اِبْتَعْتَهُ) أي: حيث اشتريته.

(حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ) أي: تحرزه وتضمه إليك بنقله إلى مكانك والتصرف فيه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه وقبل نقله إلى رحله.

وهذ في كل شيء، عام في كل شيء، فلا يجوز بيع شيء حتى يحوزه إلى رحله.

فالحديث دليل على أنه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يحوزه إلى رحله.

وقد تقدم وجه النهي عن بيع السلعة قبل قبضها.

والظاهر أن المراد به القبض، لكنه عبر عنه بما ذكر لما كان غالب قبض المشتري الحيازة إلى المكان الذي يختص به.

وأما نقله من مكان إلى مكان لا يختص به فعند الجمهور أن ذلك قبض.

•‌

‌ كيفية القبض:

إن كان مما يتناول باليد كالدراهم والثوب فقبضه نقل.

وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان آخر.

وما كان لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية.

ومما يدل على العموم - على أن السلع - أياً كانت - لا يجوز بيعها قبل حيازتها - حديث حكيم بن حزام عند البيهقي بسند جيد؛ قلت: يا رسول الله إني أبتاع هذه البيوع، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: يا ابن أخي لا تبع شيئاً حتى تقبضه.

ومما يدل على أن الحكم عام في الطعام وغيره: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه)، قال ابن عباس (ولا أحسب كل شيء إلا مثله).

وقد حكى الخطابي في (معالم السنن)، وابن المنذر - كما عزاه إليه ابن القيم في (تهذيب السنن) - الإجماع على عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه.

أما غير الطعام، فقد حكى الخطابي وكذا ابن القيم للعلماء فيه أربعة أقوال.

رجح ابن القيم منها: القول بتعميم حكم المنع في الطعام وغيره.

ص: 502

806 -

وَعَنْهُ قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أَبِيعُ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ اَلدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ اَلدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذَا مِنْ هَذِهِ وَأُعْطِي هَذَهِ مِنْ هَذِا؟ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم.

===

(أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا) أن المراد بسعر يومها: أنه سعر الصرف في السوق وقت الاقتضاء؛ فيكون معنى قوله في الحديث: " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تتفرقا وبينكما شيء " أي لا حرج في أن تستبدل الدنانير التي لك في ذمة صاحبك بالدراهم أو العكس إذا كان هذا الاستبدال مراعى فيه سعر الصرف في السوق وقت الاقتضاء.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

روي هذا الحديث موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما من طرق، وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق أخرى تلتقي في سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما.

رواه عن سماك بن حرب مرفوعا أبو داود وأحمد والترمذي والنسائي والبيهقي والطيالسي وابن الجارود.

واختلف العلماء في صحته وضعفه.

فصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وممن صححه النووي في المجموع؛ قال: حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة، عن سماك بن حرب عن سعيد عن ابن عمر بلفظه هنا.

وذكر البيهقي في (معرفة السنن والآثار) أن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر. قلت: وهذا لا يقدح في رفعه. وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلاً وبعضهم متصلاً وبعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً كان محكوماً بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققوا المحدثين من المتقدمين والمتأخرين.

وممن صححه أيضاً: ابن حبان، وحسنه السبكي في تكملة المجموع، ورجح رفعه ابن الملقن، وحسنه ابن بسام في توضيح الأحكام.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه يجوز أن يُقضَى عن الذهب فضة، وعن الفضة ذهباً.

•‌

‌ اذكر الشروط لكي تصح هذه المعاملة؟

يشترط التقابض قبل التفرق من مجلس العقد.

قال ابن عبد البر: ولا خلاف بين علماء المسلمين في تحريم النسيئة في بيع الذهب بالذهب والورق بالورق، وبيع الورق بالذهب و الذهب بالورق، وأن الصرف كله لا يجوز إلا هاء وهاء قبل الافتراق. هذه جملة اجتمعوا عليها.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).

ومثل ذلك لو باع سلعة بالريال السعودي فله أن يعتاض عنه بالدينار الكويتي - مثلاً - بشرط التقابض.

ص: 503

•‌

‌ هل يشترط أن يكون الاستبدال بسعر يومها؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه شرط.

وهذا مذهب الحنابلة، ورجحه الشوكاني، والشيخ ابن باز.

أ- لحديث الباب (لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا).

ب- ولئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه.

القول الثاني: أن ذلك ليس بشرط، بل يجوز بسعر يومها وأغلى وأرخص.

قال الخطابي: وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يعتبر غيرُه السعر، فقد جاء في صحيح مسلم في حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد).

وقال ابن عبد البر في التمهيد: وأما قوله في هذا الحديث: بسعر يومكما فلم يعول عليه جماعة من الفقهاء، وقد ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.

وقال الصنعاني: وأما قوله في رواية أبي داود بسعر يومها فالظاهر أنه غير شرط، وإن كان أمرا أغلبياً في الواقع، يدل على ذلك قوله فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم.

وقال في عون المعبود نقلا عن فتح الودود: والتقييد بسعر اليوم على طريق الاستحباب.

واستدل هؤلاء بحديث عبادة قال: قال صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب

، فإذا اختلفتم الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).

قالوا: لم يقيد الصرف بسعر معين عند تبادل الذهب بالفضة، أو العكس.

•‌

‌ ماذا قال أصحاب القول الثاني عن حديث الباب؟

أجابوا:

أولاً: أن الحديث موقوف على ابن عمر حيث لم يرفعه إلا سماك بن حرب، وهو مختلف فيه.

وأجيب: بما سبق من أن الحديث قد صححه جمع من أهل الحديث.

الثاني: على فرض صحة الحديث فهو محمول على الاستحباب؛ كما قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: والتقييد بسعر اليوم على طريق الاستحباب.

وقال الصنعاني: (وأما قوله في رواية أبي داوود (بسعر يومها) فالظاهر أنه غير شرط، وإن كان أمرا أغلبياً في الواقع. يدل على ذلك قوله (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم ").

وقال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله: وهذا القيد للاستبدال غير مراد بالإجماع "

ص: 504

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن حديث عبادة؟

قالوا: بأن حديث عبادة عام وحديث ابن عمر خاص، فيحمل العام على الخاص.

قال الشيخ ابن عثيمين: إذا أقرض الإنسان شخصاً دولارات فإنه يثبت في ذمة المقترض دولارات فقط، سواء اشترط ذلك أم لم يشترط، ولا يلزمه - أي لا يلزم المقترض - أن يوفي سواها، سواء زادت قيمتها أم نقصت أم بقيت على ما هي عليه، فمن اقترض شيئاً لم يثبت في ذمته إلا ما اقترضه فقط، ولكن لو أراد المقترض أن يوفي المقرض من عملة أخرى واتفقا على ذلك فلا بأس ولكن بشرط أن تكون بسعر يومها وألا يتفرقا وبينهما شيء " انتهى ملخصاً.

سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: اقترضت من صديق مبلغاً من المال بالدولار، هل يجوز سداد هذا المبلغ بما يساويه من عملة أخرى كالريال اليمني مثلاً أو الجنيه؟

نعم لا بأس أن يكون الإنسان اقترض عملة ثم يسددها بعملة أخرى بالتراضي إذا رضي صاحب العملة الأولى أن يأخذ عنها عملة أخرى فلا حرج في ذلك، يداً بيد من غير تأخير فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يا رسول الله إننا نبيع الدنانير بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم فقال عليه الصلاة والسلام:(لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) فإذا اقترضت مثلاً مائة دولار وأعطيت صاحبها عنها عملة أخرى كالريال السعودي أو اليمني أو الدينار الأردني أو العراقي يداً بيد بحسب القيمة فلا بأس بذلك أو زدته زيادة على ذلك لأنك تراه محسن إليك فلا بأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خيار الناس أحسنهم قضاء) وهكذا لو باع عليك سيارة بعشرة آلاف مثلا دولار ثم أعطيته عنها ما يقابلها من الدنانير أو الريال السعودي أو اليمني أو ما أشبه ذلك من العمل الأخرى فلا بأس ولكن بشرط التقابض في المجلس وأن لا تتفرقا وبينكما شيء، وأن تعطيه إياها بسعر يومها حين المعاوضة.

ص: 505

807 -

وَعَنْهُ قَالَ (نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ ما النجش؟

النجش: هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها.

•‌

‌ ما حكمه؟

حرام.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَلا تَنَاجَشُوا. وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ

) متفق عليه.

•‌

‌ ما هدف الناجش؟

أ-أن ينفع البائع.

ب-أن يضر المشتري.

ج-أو الأمرين جميعاً.

هـ-أو مجرد العبث.

•‌

‌ ما الحكم لو وقع البيع؟

إذا وقع البيع فإن البيع صحيح عند أكثر العلماء.

لأن المنهي عنه هو الفعل لا العقد.

•‌

‌ ما حكم من وقع عليه النجش؟

من وقع عليه النجش فإن له الخيار إذا زاد الثمن عن العادة.

الخيار بين: أن يرد السلعة ويأخذ الثمن (الفسخ)، أو يبقيها بثمنها الذي استقر عليه العقد.

•‌

‌ ما حكم قول البائع أعطيت بالسلعة كذا وكذا، وهو كاذب؟ وهل يعتبر من النجش؟

يجب على البائع أن يصدق في بيعه، ولا يكذب، حتى يبارك الله له في بيعه، فإن كذب محق الله البركة من بيعه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) رواه البخاري ومسلم.

وقول البائع: إنه أُعطي في السلعة كذا، وهو لم يُعْطَ هذا المبلغ كذبٌ بلا شك، وأكل لمال المشتري بالباطل، لأن المشتري إذا صَدَّق البائع أنه أُعطي في السلعة 105 فسوف يزيده بلا شك، فيكون البائع قد خدعه، وكذب عليه، ليزيد السعر، فيكون أكل ماله بالباطل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التناجش فقال:(وَلَا تَنَاجَشُوا) رواه البخاري ومسلم.

ص: 506

والنَّجْش هو أن يأتي شخص لا يريد شراء سلعة فيزيد في ثمنها حتى يغر المشتري ويجعله يزيد في الثمن.

قال ابن قدامة في المغني: ولو قال البائع: أعطيت بهذه السلعة كذا وكذا، فصدقه المشتري، واشتراها بذلك، ثم بان كاذباً .. فهو في معنى النجش" انتهى.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع"(8/ 302): ومن المناجشة: أن يقول البائع للمشتري: أعطيت في السلعة كذا، وهو يكذب، والمشتري سوف يقول: إذا كانت سِميت بمائتين فأشتريها بمائتين وعشرة، وفعلاً، اشتراها بمائتين وعشرة، وتبين أن قيمتها مائة وخمسون، فإن له الخيار، لأنه غُبِن (خُدِع) على وجه يشبه النجش. (الإسلام سؤال وجواب)

مسألة: قال العلماء: يستثنى من ذلك مسألتان:

المسألة الأولى: مسألة المزايدة: وهي أن يعرض البائع سلعته في السوق، ويتزايد المشترون فيها، فتباع لمن يدفع الأكثر، وهو المعروف بـ (بيع المزاد العلني)(الحراج).

لأن السلعة معروضة للزيادة، ولأن البائع لم يركن لمشترٍ معين.

بيع المناقصة: كأن تقول مؤسسة نريد عشر سيارات، ولا يذكرون السعر، تأتي شركة تقول عندي سيارات ب (100) وتقول شركة ثانية نفس السيارات (90).

لأن أصل الشركة لما نزلت المناقصة تريد أقل ما يكون من الأسعار.

ص: 507

808 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ اَلْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَعَنْ اَلثُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا اِبْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

809 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اَلْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

•‌

‌ ما هي المحاقلة؟

مَأْخُوذَة مِنْ الْحَقْل وَهُوَ الْحَرْث وَمَوْضِع الزرع، وهي بَيْع الْحِنْطَة فِي سَنَبُلُّهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَة. (النووي).

قال الشيخ ابن عثيمين: صورة أخرى للمحاقلة: أن يبيع الإنسان حقله على الآخر بحقله.

مثال: عندي مزرعة وعندك مزرعة فبعتها عليك بمزرعتك وكلتاهما بر، فهذا لا يجوز.

•‌

‌‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

أما على الصورة الأولى: لتعذر العلم، فإذا فرضنا أن البر المحصود معلوم، فإن الزرع غير معلوم، فيكون باع براً غير معلوم ببر معلوم، وهذا لا يجوز.

وأما على الصورة الثانية: لجهالة أحد العوضين، لأنه مستور بأوراقه، والجهل في ذلك يوقع في الربا.

•‌

‌ ما هي المزابنة؟

المزابنة: هي بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ.

مثال: أن يبيع رطباً على رؤوس النخل، بثمر في الزنبيل، فهذا لا يجوز.

مثال آخر: رجل عنده شجر من الأعناب، وآخر عنده أكياس من الزبيب، فقال أحدهما للآخر: نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب، فهذا لا يجوز.

• ما الحكمة من النهي؟

أ-لأن ذلك مظنة الربا لعدم التساوي.

لأن بيع تمر بتمر يشترط فيه التساوي، والتساوي هنا معدوم.

لأنه لو فرضنا أن أكياس الزبيب معلومة المقدار، لكن أشجار العنب غير معلومة المقدار.

ب-حصول الغرر به، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح.

•‌

‌ ما هي المخابرة؟

بضم الميم، مأخوذة من الخبار، وهي الأرض اللينة القابلة للزرع.

والمراد بها هنا: زراعة الأرض بجزء مما يخرج منها.

والمخابرة المنهي عنها ما كان فيه جهالة وغرر وهي (كل مزارعة فيها جهالة فهذه مخابرة).

مثال: أن يقول زارعتك على أن يكون لي شرقي الأرض ولك غربيها، فهذا لا يجوز للجهالة والغرر، لأنه قد يكون المحصول كثير من الشرقي دون الغربي أو بالعكس.

أو يقول: زارعتك على أن يكون لي البر ولك الشعير.

أو يقول: زارعتك على أن يكون لي (100) صاع من البر ولك الباقي.

ص: 508

•‌

‌‌

‌‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

لما ذلك من الجهالة والغرر والمخاطرة، لأنه ربما صلح هذا الجانب وتلف الآخر.

•‌

‌ ما معنى قوله (وَعَنْ اَلثُّنْيَا إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ)؟

معناه: أن يبيع شيئاً ويستثنى منه شيئاً غير معلوم.

كأن يقول: بعتك هذه الكتب إلا بعضها.

أو يقول: بعتك هذه النخلات العشر إلا واحدة.

أما إذا كانت معلومة فلا بأس.

كما لو قال: بعتك هذه النخلات العشر إلا هذه وعينها، فهذا يصح.

• ما الحكمة من النهي؟

لأن عدم التعيين غرر، ولجهالة المستثنى، وهذا يفضي إلى النزاع.

•‌

‌ ما هي المخاضرة؟

قال ابن حجر: المخاضرة بالخاء والضاد المعجمتين، وهي مفاعلة من الخضرة، والمراد: بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها

وقال ابن قتيبة: والمخاضرة التي نهي عنها بيع الثمار وهي خضر لم يبد صلاحها يسمي ذلك مخاضرة لأن المتبايعين تبايعا شيئاً أخضر فهي من اثنين مأخوذة من الخضرة.

• ما الحكمة من النهي؟

لأنه يؤدي إلى الغرر، فقد يصاب هذا الحب بآفات ويحصل في ذلك نزاع بين المشتري والبائع.

فائدة: يجوز في حالة واحدة، وهي إذا باعه على أنه علف لدوابه بشرط القطع في الحال.

ص: 509

810 -

وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (لَا تَلَقَّوْا اَلرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ ". قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: " وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ" قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

811 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَلَقَّوا اَلْجَلَبَ، فَمَنْ تُلُقِّيَ فَاشْتُرِيَ مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ اَلسُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) السمسار: هو الوسيط بين البائع والمشتري لتسهيل الصفقة.

(فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ اَلسُّوقَ) المراد بالسيد المُتَلَّقَىَ.

•‌

‌ ما المراد بتلقي الركبان؟

الركبان: وهم من يقدمون للبلد لبيع سلعهم، والتعبير بالركبان خرج مخرج الغالب، وإلا فهو شامل للمشاة.

•‌

‌ ما حكم تلقي الركبان؟

منهي عنه، وهذا النهي للتحريم عند جمهور العلماء.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

لأن فيه ضرراً على الركبان، وعلى أهل البلد.

أما الركبان فإن المتلقي لهم سيأخذ السلعة بثمن أقل من ثمن السوق، فيحصل لهم الخديعة والغبن.

وأما أهل البلد فإن من تلقى هؤلاء فسوف يشتري منهم برخص، ويكون شراؤه سبب لرفع الأسعار، بخلاف ما لو هبطوا بها الأسواق، فإنه سوف يحصل منهم تنشيط لأهل البلد وربما نزلت الأسعار مع كثرة ما جلب.

قال النووي: سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته عن الخديعة.

•‌

‌ هل البيع صحيح أم فاسد؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: البيع صحيح.

وهذا مذهب الجمهور، ورجحه الشوكاني.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (

فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار).

قالوا: ثبوت الخيار للسيد فرع عن صحة البيع.

ب- ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد.

القول الثاني: أن البيع فاسد.

قال الشوكاني: وقال به بعض المالكية وبعض الحنابلة.

والراجح الأول.

ص: 510

•‌

‌ ما الحكم إذا قدم الراكب السوق، وعلم أنه قد غبن؟

له الخيار.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تلقوا الجلب، فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) رواه مسلم.

[سيده: المراد المُتَلَّقَىَ).

•‌

‌ ما المراد ببيع الحاضر للباد؟

أن يبيع المقيم لمن قدم من خارج البلد.

الحاضر هو المقيم في المدن والقرى.

والباد هو ساكن البادية.

وقد عبر بعض أهل العلم البادي بأعم من ذلك، كما قال ابن قدامة:"البادي ها هنا من يدخل البلدة من غير أهلها سواء كان بدوياً أو من قرية أو بلدة أخرى".

• إذاً يكون ذكر البادي مثالاً لا قيداً.

وقد جاء في رواية أن طاووس سأل ابن عباس: ما معنى لا يبع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً.

[السمسار هو الذي يبيع لغيره بأجرة]

•‌

‌ ما حكم بيع الحاضر للباد؟

حرام.

وهو مذهب جماهير العلماء.

لدلالة الحديث على ذلك.

وذهب مجاهد وأبو حنيفة وأصحاب الرأي أن البيع صحيح.

قالوا: أن النهي كان في أول الإسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك، ثم نسخ بعموم قوله: الدين النصيحة.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث (الدين النصيحة)؟

أجاب الجمهور عن حديث (الدين النصيحة) بأنه عام، والنهي عن بيع الحاضر للباد خاص، والخاص يقضي على العام.

وهذا هو الصحيح.

وقد جمع الإمام البخاري بين أدلة الفريقين، وجعل النهي خاص عمن يبيع بالأجرة كالسمسار، وأما من ينصحه ويعلمه بأن السعر كذا وكذا، فلا يدخل في النهي عنده.

لكن قال الشوكاني: البقاء على ظواهر النصوص هو الأولى، فيكون بيع الحاضر للبادي محرماً على العموم وسواء كان بأجرة أم لا.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

قال ابن قدامة: المعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد، ضاق على البلد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا المعنى.

جاء في رواية: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).

خامساً: المشهور من مذهب الحنابلة إلى أن بيع الحاضر للباد باطل بشروط:

1 -

أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة.

2 -

أن يكون جاهلاً بسعر يومها، فإن كان يعلم السعر فلا حرج أن يبيع حاضر لبادي.

3 -

أن يقصده الحاضر ليبيع له، أما إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع.

لكن جمهور العلماء على صحة البيع مع الإثم.

أما بالنسبة للشروط التي ذكرها الحنابلة، فالأخذ بظاهر الحديث أولى.

قال الشوكاني: لا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الأمور من التخصيص بمجرد الاستنباط.

ص: 511

812 -

وَعَنْهُ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ اَلرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تُسْأَلُ اَلْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ (لَا يَسُمِ اَلْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ اَلْمُسْلِمِ).

===

•‌

‌ ما حكم بيع الرجل على بيع أخيه؟

حرام.

أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبيع الرجل على بيع أخيه .. ) متفق عليه

ب-ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبع بعضكم على بيع بعض) رواه مسلم.

ج- ولحديث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه) رواه مسلم.

•‌

‌ اذكر مثالاً على ذلك؟

مثال ذلك: أن يشتري شخص من إنسان سلعة بـ (10) ثم يأتيه آخر ويقول: أعطيك مثلها بـ (9)، أو يقول أعطيك أحسن منها بـ (10).

•‌

‌ هل شراء الرجل على الرجل مثل ذلك؟

نعم، يحرم الشراء على شراء الرجل.

قال ابن قدامة:

كَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَجِيءَ إلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، فَيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اُشْتُرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا.

أ- لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

ب-وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ.

ج-وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْخَاطِبِ. (المغني).

•‌

‌ اذكر مثالاً لذلك؟

مثال ذلك: علمتُ أن زيداً باع على عمر بيته بـ 100، فذهبت إلى زيد وقلت له: يا فلان، أنت بعت بيتك على عمر بـ 100، أنا سأعطيك 120.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

قطع العدوان على الغير، واجتناب ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء.

قال ابن قدامة:

فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ.

•‌

‌ ما حكم هذا البيع؟

اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: أنه صحيح مع الإثم.

وهذا مذهب الجمهور كما ذكر ذلك الشوكاني.

القول الثاني: أنه باطل.

وهذا مذهب المالكية والحنابلة ورجحه ابن حزم وابن تيمية.

لأن النهي عائد إلى العقد نفسه.

ص: 512

•‌

‌ هل يجوز البيع على بيع الكافر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يجوز.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يبع الرجل على بيع أخيه) والكافر ليس أخاً.

القول الثاني: لا يجوز.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قالوا: وأما قوله (لا يبع الرجل على بيع أخيه) فهذا قيد أغلبي لا مفهوم له.

مثال ذلك: اشترى مسلم من كافر سلعة، فلا يجوز أن يذهب البائع المسلم ويقول له: أنا أعطيك السلعة بأقل

•‌

‌ متى يجوز بيع الرجل على بيع الرجل؟

يجوز إذا أذِن له البائع.

لحديث ابْن عُمَرَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ). متفق عليه

قال الحافظ: قوله (إلا أن يأذن له) يحتمل أن يكون استثناء من الحكمين كما هو قاعدة الشافعي.

ويحتمل أن يختص بالأخير.

ويؤيد الثاني رواية المصنف في النكاح من طريق بن جريج عن نافع بلفظ (نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب).

ومن ثم نشا خلاف للشافعية هل يختص ذلك بالنكاح أو يلتحق به البيع في ذلك والصحيح عدم الفرق، وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ (لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر).

•‌

‌ ما حكم السوم على سوم الرجل؟

حرام.

لحديث الباب (لَا يَسُمِ اَلْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ اَلْمُسْلِمِ).

•‌

‌ ما معنى السوم على سوم الرجل؟

معناه: أن يتفق البائع والمشتري على البيع ولم يعقداه، فيأتي إنسان ويقول للبائع: رده، وأنا أشتريه منك بأكثر، أو يقول المستام: رده، وأنا أبيعك خيراً منه بثمنه، أو مثله بأرخص.

فالسوم على السوم يحرم: إذا كان السلعة معروضة بغير طريق المزايدة واستقر الثمن بالتراضي بين المتعاقدين.

قال النووي: أَمَّا السَّوْم عَلَى سَوْم أَخِيهِ فَهُوَ أَنْ يَكُون قَدْ اِتَّفَقَ مَالِك السِّلْعَة وَالرَّاغِب فِيهَا عَلَى الْبَيْع وَلَمْ يَعْقِدَاهُ، فَيَقُول الْآخَر لِلْبَائِعِ: أَنَا أَشْتَرِيه وَهَذَا حَرَام بَعْد اِسْتِقْرَار الثَّمَن، وَأَمَّا السَّوْم فِي السِّلْعَة الَّتِي تُبَاع فِيمَنْ يَزِيد فَلَيْسَ بِحَرَامٍ.

•‌

‌ أما السلعة إذا كانت معروضة عن طريق المزايدة فلا بأس بالسوم على سوم الآخر.

قال ابن قدامة:

الثَّانِي، أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلَا يَحْرُمُ السَّوْمُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَاعَ فِي مَنْ يَزِيدُ.

فَرَوَى أَنَسٌ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الشِّدَّةَ وَالْجَهْدَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا بَقِيَ لَك شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَلَى، قَدَحٌ وَحِلْسٌ، قَالَ: فَأْتِنِي بِهِمَا فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَقَالَ مَنْ يَبْتَاعُهُمَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَخَذْتُهُمَا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ، فَبَاعَهُمَا مِنْهُ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، يَبِيعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ.

ص: 513

813 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اَللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ.

814 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ (أَمَرَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَبِيعَ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا، فَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا، فَارْتَجِعْهُمَا، وَلَا تَبِعْهُمَا إِلَّا جَمِيعًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ اَلْقَطَّانِ.

===

•‌

‌ ما حكم التفريق بين الوالدة وولدها في البيع؟

حرام.

لحديث الباب.

•‌

‌ كأن يبيع الأم على شخص، ويبع ولدها الصغير على شخص آخر.

فالأرقاء لا يفرق بينهم، بل يباعون جميعاً أو يبقون جميعاً، حرصاً على بقاء الرحم والتعاطف بينهما.

قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا الطِّفْلِ غَيْرُ جَائِزٍ.

هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثِ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِيهِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا).

قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا وَإِنْ رَضِيَتْ.

وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْضَى بِمَا فِيهِ ضَرَرُهَا، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ قَلْبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَنْدَمُ.

•‌

‌ هل يلحق بالبيغ غير البيع كالهبة والقسمة وغيرهما؟

نعم يلحق بالبيع، كالهبة والقسمة وغيرهما.

•‌

‌ هل هذا الحكم خاص بالصغير أم يشمل حتى البالغ؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَلَدِ كَبِيرًا بَالِغًا أَوْ طِفْلًا.

أ-لعموم الخبر.

ب-وَلِأَنَّ الْوَالِدَةَ تَتَضَرَّرُ بِمُفَارَقَةِ وَلَدِهَا الْكَبِيرِ، وَلِهَذَا حَرُمَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِدُونِ إذْنِهِمَا.

القول الثاني: أنه خاص بالصغير، وأما بعد البلوغ فيجوز التفريق.

وهذا مذهب الشافعي.

ص: 514

قال ابن قدامة: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

أ-لما ورد أن سلمة بن الأكوع (أنه أتى أبا بكر بامرأة وابنتها، فنفّله أبو بكر ابنتها

) رواه مسلم.

قال النووي: فيه جواز التفريق بين الأم وولدها البالغ، ولا خلاف في جوازه عندنا.

ب-ولأن الولد بعد البلوغ يصير مستقلاً بنفسه، والعادة التفريق بين الأحرار، فإن المرأة تزوج ابنتها.

مثال: فلو كانت الأم معها ابن عمره (17) عاماً، فإنه يجوز أن تباع الأم لشخص، ويباع الابن لشخص آخر.

قال ابن قدامة: لِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَتَى بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَهَبَهَا لَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ إلَيْهِ مَارِيَةُ وَأُخْتُهَا سِيرِينُ، فَأَمْسَكَ مَارِيَةَ، وَوَهَبَ سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.

وَلِأَنَّ الْأَحْرَارَ يَتَفَرَّقُونَ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوَّجُ ابْنَتُهَا، فَالْعَبِيدُ أَوْلَى.

وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَخَصَّصُ عُمُومُ حَدِيثِ النَّهْيِ. (المغني).

•‌

‌ هل يقاس على الوالدة العمة أو الخالة؟

نقول: إذا نظرنا إلى حديث علي قلنا: إنها تقاس العمة والخالة، لأن في حديث علي: تحريم التفريق بين الأخوين، وأخذ العلماء من هذا والذي قبله قاعدة: وقالوا: لا يجوز التفريق بين ذوي الرحم في البيع.

والضابط: أن كل مملوكين لو قدر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى لم يحل أن يتزوج الآخر لقرابته منه، فإنه لا يجوز التفريق بينهما.

فالعمة وابن أخيها لا يجوز التفريق بينهما، لأنه لا يحل التناكح بينهما، وابن العم وابن عمه يجوز التفريق بينهما، لأنه لو كان أحدهما أنثى لجاز أن يتزوجه الآخر. (ابن عثيمين).

•‌

‌ ما حكم البيع إذا وقع؟

لا يصح ويجب نقضه.

لقوله صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا، فَارْتَجِعْهُمَا، وَلَا تَبِعْهُمَا إِلَّا جَمِيعاً).

•‌

‌ هل هذا التفريق حرام حتى في العتق؟

لا، في العتق يجوز أن يعتق الأم ويدع الولد، أو يعتق الولد ويدع الأم، لأنه لا ضرر في هذا. (ابن عثيمين).

ص: 515

815 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَال (غَلَا اَلسِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اَلنَّاسُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! غَلَا اَلسِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْمُسَعِّرُ، اَلْقَابِضُ، اَلْبَاسِطُ، الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اَللَّهَ تَعَالَى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

(غَلَا اَلسِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ) أي: ارتفع الثمن على غير المعتاد.

(فَسَعِّرْ لَنَا) التسعير: تحديد أثمان الأشياء.

•‌

‌ عرف التسعير؟

التسعير: هو إلزام ولي الأمر - أو من يقوم مقامه - الناس بثمن معين لا يتبايعون إلا به فيمنعون من الزيادة عليه أو النقص عنه عند الضرورة في الطعام وغيره مما يحتاج الناس إليه بحيث يراعي حق الطرفين بالعدل للمصلحة العامة.

•‌

‌ ما حكم التسعير؟ (في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها).

فقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الأصل عدم جواز التسعير في هذه الحالة.

أ-لقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم).

وجه الدلالة: أن الله تعالى جعل التراضي شرطًا لإباحة التجارات، والتسعير في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها يفوت ذلك، إذ إنه يتضمن إلزام أصحاب السلع والخدمات أن يبيعوا بما لا يرضون.

وأيضاً: هذه الآية أنها تفيد إطلاق الحرية للبائع، والتسعير حجر عليه وإلزام له بصفة معينة في البيع؛ إذ قد لا يكون راضياً به فيكون كالأكل بالباطل الذي نهت الآية الكريمة عنه.

ب- حديث الباب.

ج- ولحديث أبي هريرة قال (جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر. فقال: بل أدعو الله، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله سعر. فقال: بل الله يخفض ويرفع) رواه أبو داود.

ووجه الدلالة من هذين الحديثين: أنهما يدلان على تحريم التسعير، ويتضح ذلك من وجهين:

أولهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن التسعير مع أن الصحابة طلبوا منه ذلك وتكرر الطلب منهم ومع ذلك لم يسعر، فلو كان التسعير جائزا لأجابهم إلى طلبهم. وعلى هذا يكون التسعير غير جائز.

ثانيهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل امتناعه عن التسعير بأنه ظلم، والظلم حرام. وعلى هذا يكون التسعير حراماً.

•‌

‌ ما حكم التسعير إذا غلا السعر؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة واختاره الشوكاني.

واستدلوا بالأدلة السابقة التي تدل على تحريم التسعير.

ص: 516

القول الثاني: يجوز عند الحاجة.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، واختاره ابن تيمية.

رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: قال: السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب.

فأما الأول: فمثل ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال» . رواه أبو داود وصححه.

فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.

وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها - مع ضرورة الناس إليها - إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.

فشيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى الأخذ بالتسعير مطلقاً وفي كل الأحوال، وإنما يفرق بين حالتين:

الأولى: حالة ما إذا كان الغلاء ناتجاً عن قلة العرض وكثرة الطلب دون أن يكون للتجار دخل في ذلك، فهنا لا يرى الأخذ بالتسعير بل يراه ضرباً من ضروب الظلم والعدوان.

ص: 517

الثانية: حالة ما إذا كان الغلاء ناتجاً عن جشع التجار واستغلالهم للناس، فهنا يرى أن التسعير حلال بل واجب، ويتعين على ولي الأمر تحديد الأسعار - في هذه الحالة - حماية للناس من جشع التجار واستغلالهم.

وهذا ما يتفق مع سماحة الشريعة الإسلامية وعدالتها لما فيه من جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الظلم عن الناس.

• هل المسعر من أسماء الله؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه من أسماء الله.

الذين ألحقوا " المسعر" بأسماء الله الحسنى:

الإمام القرطبي، والإمام ابن حزم، والإمام عبد الحق الإشبيلي، المعروف بابن الخراط والإمام الشوكاني، قال: قَوْلُهُ: الْمُسَعِّرُ: فيه دَلِيلٌ على أَنَّ الْمُسَعِّرَ من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك.

أ- لحديث الباب.

ب-عَنْ أَبِى هُرَيْرَة (أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ «بَلْ أَدْعُو». ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ «بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَة) رواه أحمد.

ج-عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ (غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا لَهُ: لَوْ قَوَّمْتَ لَنَا سِعْرَنَا، قَال: إن اللهَ هُوَ الْمُقَوِّمُ، أَوِ الْمُسَعِّرُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُفَارِقَكُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ، فِي مَالٍ وَلَا نَفْس) رواه أحمد.

القول الثاني: أنه ليس من اسماء الله.

سئل الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان: هل المسعر والقابض والباسط من أسماء الله عز وجل أم من صفاته؟

الجواب: لا أسماء ولا صفات، ولا يجوز أن تكون أسماء ولا صفات، ولكن الله يُخبر عنه بأنه يفعل هذه الأشياء وباب الخبر واسع، كما يقال: إن الله موجود، وإنه شيء، ولا يسمى بأنه موجود، ولا بأنه شيء، وباب الخبر واسع، ولا يقال: إنه هو الزارع؛ ولا نسميه الزارع، ولهذا يطلق على بني آدم ذلك كثيراً ولا أحد ينكره.

وقال العلوان: المسعر ليس من أسماء الله لأنه ليس فيه مدح.

ص: 518

816 -

وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(إِلَّا خَاطِئٌ) الخاطئ المذنب.

•‌

‌ عرف الاحتكار؟

الاحتكار: هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه.

•‌

‌ ما حكم الاحتكار؟

حرام.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ- لحديث الباب.

قال الشوكاني في (نيل الأوطار) والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز لأن الخاطئ المذنب العاصي.

وقال الصنعاني رحمة الله: الخاطئ هو العاصي الآثم، وفى الباب أحاديث دالة على تحريم الاحتكار.

ب- وعن أبي أمامة. قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحتكر الطعام) رواه الحاكم والبيهقي.

ج - جاء في ذلك عدة أحاديث في أسانيدها ضعف:

عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة).

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ).

وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله).

وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس) رواه ابن ماجة.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون).

وجه الدلالة من هذه الأحاديث:

قال الإمام الشوكاني رحمة الله: ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار، ولو فرض عدم ثبوت شيء منها في الصحيح فكيف وحديث معمر مذكور في صحيح مسلم.

•‌

‌ هل الاحتكار عام في كل شيء أو أنه خاص بالطعام؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أن الاحتكار خاص في الأقوات خاصة.

وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة (الحنابلة عندهم أنه خاص بقوت الآدمي فقط).

أ- عن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم (من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس). رواه ابن ماجه وهو ضعيف

ب-وعن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم (من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ منه الله). رواه الحاكم وهو ضعيف

ج- حديث أبي أمامة السابق (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحتكر الطعام).

قالوا: فلما خص الطعام بالنهي عن احتكاره، دل على أن غيره جائز.

د- أن الضرر الأعم إنما يلحق العامة بحبس القوت والعلف.

القول الثاني: أن الاحتكار عام في كل شيء، سواء كان قوتاً أو غيره.

وهو قول مالك والثوري.

لحديث الباب، فهو عام.

وهذا الصحيح.

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم الاحتكار؟

أولاً: أنه ينافي قوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

ثانياً: فيه ضراراً بالناس واستغلال حاجاتهم.

ثالثاً: بث روح الحقد والبغضاء بين المسلمين.

ص: 519

817 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَصُرُّوا اَلْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ اِبْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ اَلنَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: - فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ -.

وَفِي رِوَايَةٍ: - لَهُ، عَلَّقَهَا - اَلْبُخَارِيُّ (رَدَّ مَعَهَا صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، لَا سَمْرَاءَ) قَالَ اَلْبُخَارِيُّ: وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ.

818 -

وَعَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (مَنِ اِشْتَرَى شَاةً مَحَفَّلَةً، فَرَدَّهَا، فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَزَادَ اَلْإِسْمَاعِيلِيُّ: مِنْ تَمْرٍ.

===

(لَا تَصُرُّوا اَلْإِبِلَ وَالْغَنَمَ) بضم التاء وفتح الصاد، أي: لا تجمعوا اللبن في ضرعها.

(فَمَنِ اِبْتَاعَهَا) أي: فمن اشتراها.

(بَعْدُ) أي: بعد التصرية.

(فَإِنَّهُ بِخَيْرِ اَلنَّظَرَيْنِ) أي: أحسن الرأيين.

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا تَصُرُّوا اَلْإِبِلَ وَالْغَنَمَ)؟

قال النووي: مَعْنَاهُ لَا تَجْمَعُوا اللَّبَن فِي ضَرْعهَا عِنْد إِرَادَة بَيْعهَا حَتَّى يَعْظُم ضَرْعهَا فَيَظُنّ الْمُشْتَرِي أَنَّ كَثْرَة لَبَنهَا عَادَة لَهَا مُسْتَمِرَّة، وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَب: صَرَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض أَيْ جَمَعْته وَصَرَّى الْمَاء فِي ظَهْره أَيْ حَبَسَهُ فَلَمْ يَتَزَوَّج.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم تصرية الإبل والغنم، وكانوا يجمعون لبنها في ضرعها ليظن من رآها أنها كثيرة اللبن، فيشتريها بزيادة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.

• وهل مثل الإبل والغنم البقر وغيرها أم لا؟

نعم.

قال ابن قدامة: جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّصْرِيَةِ بَيْنَ الشَّاةِ وَالنَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ، وَشَذَّ دَاوُد، فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَصْرِيَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ (لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا بِخِلَافِهِمَا، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِيهِمَا بِالنَّصِّ، وَالْقِيَاسُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ.

وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ (مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً).

وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّهُ تَصْرِيَةٌ بِلَبَنٍ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، أَشْبَهَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، وَالْخَبَرُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَصْرِيَةِ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا أَغْزَرُ وَأَكْثَرُ نَفْعًا.

وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ. (المغني).

وقال الحافظ ابن حجر: لكن لم يذكر البقر لغلبتهما عندهم، وإلا فحكمهما سواء خلافاً لداود الظاهري. (قاله في الفتح)

وقال ولي الدين: الظاهر أن ذكر الإبل والغنم دون غيرهما، خرج مخرج الغالب فيما كانت العرب تصريه، وتبيعه، تدليساً وغشاً، فإن البقر قليل ببلادهم، وغير الأنعام لا يقصد لبنها غالباً، فلم يكونوا يصرون غير الإبل والغنم، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له.

•‌

‌ ما الحكمة من التحريم؟

أولاً: لأن ذلك غش وخداع وتدليس وإيذاء للحيوان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من غشنا فليس منّا).

ثانياً: أن في ذلك ضرراً على الحيوان.

ص: 520

•‌

‌ ما حكم من اشتراها ووجدها مصراة؟

هو بالخيار ثلاثة أيام إذا علم بالتصرية بين أمرين:

إما أن يمسكها بلا أرش.

وإن شاء ردها إلى البائع وصاعاً من تمر.

وقد ذهب إلى ذلك عامة أهل العلم.

قال في الفتح: وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة، وقال به من التابعين، ومن بعدهم من لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتُلب قليلاً أو كثيراً، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا.

•‌

‌ إن ردها ماذا يرد معها؟

يرد معها صاعاً من تمر.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد.

لوروده في الحديث: (وصاعاً من تمر).

قال النووي: ثُمَّ إِذَا اِخْتَارَ رَدّ الْمُصَرَّاة بَعْد أَنْ حَلَبَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْر سَوَاء كَانَ اللَّبَن قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، سَوَاء كَانَتْ نَاقَة أَوْ شَاة أَوْ بَقَرَة، هَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ الصَّحِيح الْمُوَافِق لِلسُّنَّةِ.

وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَرُدّ صَاعًا مِنْ قُوت الْبَلَد وَلَا يَخْتَصّ بِالتَّمْرِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِرَاق وَبَعْض الْمَالِكِيَّة وَمَالِك فِي رِوَايَة غَرِيبَة عَنْهُ: يَرُدّهَا وَلَا يَرُدّ صَاعًا مِنْ تَمْر لِأَنَّ الْأَصْل أَنَّهُ إِذَا أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ رَدّ مِثْله إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلَّا فَقِيمَته. وَأَمَّا جِنْس آخَر مِنْ الْعُرُوض فَخِلَاف الْأُصُول، وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ هَذَا بِأَنَّ السُّنَّة إِذَا وَرَدَتْ لَا يُعْتَرَض عَلَيْهَا بِالْمَعْقُولِ.

•‌

‌ ما الحكمة من تقييده بالتمر؟

قال النووي: وَأَمَّا الْحِكْمَة فِي تَقْيِيده بِصَاعِ التَّمْر، لِأَنَّهُ كَانَ غَالِب قُوتهمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت فَاسْتَمَرَّ حُكْم الشَّرْع عَلَى ذَلِكَ. (نووي)

ولأن التمر أشبه باللبن أو الحليب من غيره، لكونه غذاء وقوتاً، ولا يحتاج إلى كلفة ومؤنة حين الانتفاع به.

•‌

‌ هذا التمر عوضاً عن ماذا؟

هذا التمر عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها.

•‌

‌ لماذا قدره النبي صلى الله عليه وسلم بصاع؟

قدر النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع، مع أن اللبن قد يكون كثيراً، وقد يكون قليلاً قطعاً للنزاع.

قال النووي: وَإِنَّمَا لَمْ يَجِب مِثْله وَلَا قِيمَته بَلْ وَجَبَ صَاع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا يَرْجِع إِلَيْهِ وَيَزُول بِهِ التَّخَاصُم. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا عَلَى رَفْع الْخِصَام وَالْمَنْع مِنْ كُلّ مَا هُوَ سَبَب لَهُ.

ص: 521

•‌

‌ ما صحة البيع؟

البيع صحيح لقوله (إن رضيها أمسكها)، وهو مجمع عليه.

وأنه يثبت للمشتري الخيار إذا علم بالتصرية، وبه قال الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة فقال: لا يردها، بل يرجع بنقصان العيب.

•‌

‌ ما الحكم إذا علم بالتصرية قبل حلبها؟

قال ابن قدامة: وَإِنْ عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ قَبْلَ حَلْبِهَا، مِثْلُ أَنْ أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ، أَوْ شَهِدَ بِهِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَلَهُ رَدُّهَا، وَلَا شَيْءَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ التَّمْرَ إنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا لِلَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا، فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ) وَلَمْ يَأْخُذْ لَهَا لَبَنًا هَاهُنَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ شَيْءٍ مَعَهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ.

•‌

‌ ما الحكم لو احتلبها وترك اللبن بحاله، هل يرد اللبن أم صاعاً من تمر؟

قال ابن قدامة: وَأَمَّا لَوْ احْتَلَبَهَا وَتَرَك اللَّبَنَ بِحَالِهِ ثُمَّ رَدَّهَا، رَدَّ لَبَنهَا، وَلَا يُلْزِمُهُ أَيْضًا بِشَيْءٍ.

لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فَرَدَّهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ.

فَإِنْ أَبَى الْبَائِعُ قَبُولَهُ، وَطَلَبَ التَّمْرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إذَا كَانَ بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ.

وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ.

لِظَاهِرِ الْخَبَرِ.

وَلِأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ بِالْحَلْبِ، وَكَوْنُهُ فِي الضَّرْعِ أَحْفَظَ لَهُ.

وَلَنَا، أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رَدِّ الْمُبْدَلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْبَدَلُ، كَسَائِرِ الْمُبْدَلَاتِ مَعَ أَبْدَالِهَا.

وَالْحَدِيثُ الْمُرَادُ بِهِ رَدُّ التَّمْرِ حَالَةَ عَدَمِ اللَّبَنِ؛ لِقَوْلِهِ (فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ).

وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُمْ إنَّ الضَّرْعَ أَحْفَظُ لَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ إبْقَاؤُهُ فِي الضَّرْعِ عَلَى الدَّوَامِ، وَبَقَاؤُهُ يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ.

•‌

‌ ما الحكم إذا اشترى مصراة من غير بهيمة الأنعام؟

قال ابن قدامة: فَإِنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً مِنْ غَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَالْأَمَةِ وَالْأَتَانِ وَالْفَرَسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

لِعُمُومِ قَوْلِهِ (مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً و مَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً).

وَلِأَنَّهُ تَصْرِيَةٌ بِمَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهِ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَتَصْرِيَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ يُرَادُ لِلرَّضَاعِ، وَيُرَغِّبُ فِيهَا ظِئْرًا وَيُحَسِّنُ ثَدْيَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ كَثْرَةَ لَبَنِهَا، فَبَانَ بِخِلَافِهِ، مَلَكَ الْفَسْخَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَمَا ثَبَتَ بِاشْتِرَاطِهِ، وَلَا مَلَكَ الْفَسْخَ بِعَدَمِهِ.

وَلِأَنَّ الْأَتَانَ وَالْفَرَسَ يُرَادَانِ لِوَلَدِهِمَا.

وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ.

لِأَنَّ لَبَنَهَا لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُقْصَدُ قَصْدَ لَبَنِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ لَبَنِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَكْثَرُ، وَاللَّفْظُ الْعَامُ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَمَرَ فِي رَدِّهَا بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَلَا يَجِبُ فِي لَبَنِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَامًّا وَخَاصًّا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُحْمَلُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَامِّ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْخَاصُّ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. (المغني).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- الحديث دَلِيل عَلَى تَحْرِيم التَّدْلِيس فِي كُلّ شَيْء. (وهو أن يظهر السلعة بمظهر مرغوب فيه وهي خالية منه)

وله صورتان:

الأولى: أن يظهر الشيء على وجه أكمل مما هو عليه.

الثانية: أن يظهره على وجه كامل وفيه عيب.

- وَأَنَّ التَّدْلِيس بِالْفِعْلِ حَرَام كَالتَّدْلِيسِ بِالْقَوْلِ.

ص: 522

819 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا صَاحِبَ اَلطَّعَامِ" قَالَ: أَصَابَتْهُ اَلسَّمَاءُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. فَقَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ اَلطَّعَامِ; كَيْ يَرَاهُ اَلنَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(على صُبْرة) بضم الصاد وإسكان الباء هي: الكومة من الطعام.

(فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا) أي أدركت، والبَلَل، الرطوبة والنداوة، وهذا البلل كان مستوراً بالطعام اليابس.

(ما هذا؟) استفهام إنكاري، أي: ما هذا البلل المنبئ غالباً عن الغش.

(يَا صَاحِبَ اَلطَّعَامِ؟) يحتمل أنه ترك نداءه باسمه لعدم العلم به، أو أنه للتسجيل عليه بإضافته إلى ما غش به من زيادة في زجره وتوبيخه.

(أَصَابَتْهُ اَلسَّمَاءُ) أي: المطر.

(أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ اَلطَّعَامِ) استفهام يراد به النصح والإرشاد، أي: لتسلم من الغش الذي هو من أقبح الأوصاف.

(كَيْ يَرَاهُ اَلنَّاسُ) تعليل لما قبله.

(مَنْ غَشَّ) وفي الرواية الأخرى (من غشنا) واللفظ الأول أعم، والغش: المراد به هنا: كتم عيب المبيع أو الثمن.

(فَلَيْسَ مِنِّي) وفي حديث ابن عمر (فليس منا) أي ليس على طريقتنا وهدينا وسنتنا، وليس المراد إخراجه عن الإسلام.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم الغش في البيع والشراء وأنه من الكبائر.

أ-لحديث الباب ( .. من غش فليس مني).

وقد جاء بلفظ عام، في حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) رواه مسلم، فيدخل فيه كل أنواع الغش.

قال الخطَّابي: (معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا، يريد أنَّ من غشَّ أخاه وترك مناصحته، فإنَّه قد ترك اتباعي والتمسك بسنَّتي).

قال القاضي عياض: (معناه بيَّن في التحذير من غش المسلمين، لمن قلده الله تعالى شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم).

قال العظيم آبادي: (والحديث دليلٌ على تحريم الغشِّ، وهو مُجمَع عليه).

وقال الغزالي: (يدل على تحريم الغش

).

ب- وعن معقل بن يسار. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) متفق عليه.

قال النووي: (معناه: بَيِّن في التحذير من غشِّ المسلِمين لِمَنْ قلَّده الله تعالى شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خانَ فيما اؤتُمِن عليه فلم ينصح فيما قلَّده، إمَّا بتضييعه تعريفَهم ما يلزمهم من دينهم، وأخذهم به، وإمَّا بالقِيام بما يتعيَّن عليه، من حفظ شرائعهم، والذبِّ عنها

وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة من الجنَّة).

وقال ابن عثيمين: فإنَّ فيه التحذير من غش الرعيَّة، وأنَّه ما من عبد يسترعيه الله على رعيته ثم يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة، وأنَّه إذا لم يحطهم بنصيحته فإنه لا يدخل معهم الجنَّة.

ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من طعام، لا سمراء).

قال ابن عبد البر: وهذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل فيمن دلَّس عليه بعيب، أو وجد عيبًا بما ابتاعه، أنه بالخيار في الاستمساك أو الرد.

وقال الأمير الصنعاني: الحديث أصل في النَّهي عن الغش، وفي ثبوت الخيار لمن دلَّس عليه.

ص: 523

•‌

‌ ما تعريف الغش؟

الغش: هو كتم عيب المبيع أو الثمن.

قال ابن عرفة: في حدوده: إبداء البائع ما يوهم كمالاً في مبيعه كاذباً أو كتم عيبه.

وقال في لسان العرب: الغش نقيض النصح.

•‌

‌ ما معنى قوله (من غش فليس مني) وفي الرواية الثانية (من غشنا فليس منا)؟

أي: ليس على طريقنا وهدينا.

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: ومعناه عند أهل العلم أنه ليس ممن اهتدى بهدينا، واقتدى بعلمنا وعملنا وحسن طريقتنا

وهكذا القول في كل الأحاديث الواردة بنحو هذا القول، كقوله صلى الله عليه وسلم من غش فليس منا وأشباهه.

وقال ابن حجر: (ليس منا) أي ليس على طريقتنا أو ليس متبعا لطريقتنا لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله ونظيره (من غشنا فليس منا) و (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب) وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا مجرد حمل السلاح، والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره فيقول: معناه ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه.

•‌

‌ اذكر بعض صور الغش؟

الغش له صور كثيرة:

منها: غش الراعي لرعيته.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) متفق عليه.

ومنها: الغش في البيوع والمعاملات.

كما في حديث الباب.

يقول ابن حجر مبيناً هذا النوع من الغش: الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع، أو مشتر فيها شيئًا، لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل.

ومنها: الغش في النصيحة.

وذلك بعدم الإخلاص فيها، وعدم الصدق.

قال صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة) رواه مسلم.

وقال جرير (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) رواه مسلم.

والغش في الصناعة، والغش في النكاح، بأن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها، أو تدعي أنها بكر ونحو ذلك،

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن الصدق والبيان والنصح في البيع سبب للبركة، لحديث (فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما).

- وجوب إظهار العيب، وتحريم كتمه، ليكون المشتري على علم وبصيرة.

- أن التدليس في البيع حرام، وهو أن يخفي العيب، وللمشتري الخيار.

- الغش يناقض الإيمان، لأن من مقتضى الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، والغش ينافي ذلك.

- حرص الشريعة على إبعاد كل ما يؤدي إلى الضرر بالمسلم.

- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- على ولي الأمر إنكار المنكرات ووعظ أصحابها.

ص: 524

820 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَبَسَ اَلْعِنَبَ أَيَّامَ اَلْقِطَافِ، حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْراً، فَقَدَ تَقَحَّمَ اَلنَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ) رَوَاهُ اَلطَّبَرَانِيُّ فِي " اَلْأَوْسَطِ " بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

لا يصح.

قال ابن حبان في (المجروحين) حديث منكر.

وقال الذهبي (في الميزان) خبر موضوع.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم بيع العنب لمن يتخذه خمراً.

لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مُحَرَّمٌ.

وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ التَّمْرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ مُسْكِرًا.

قَالَ الثَّوْرِيُّ بِعْ الْحَلَالَ مِمَّنْ شِئْت.

وَاحْتَجَّ لَهُمْ بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ.

وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً.

فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَشَارِبَهَا وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَسَاقِيَهَا).

وَأَشَارَ إلَى كُلِّ مُعَاوِنٍ عَلَيْهَا، وَمُسَاعِدٍ فِيهَا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ زَبِيبًا، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إلَّا لِمَنْ يَعْصِرُهُ، فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ، وَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إنْ بِعْت الْخَمْرَ وَلِأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ أَمَتِهِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا.

وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ بِدَلِيلِنَا.

وَقَوْلُهُمْ: تَمَّ الْبَيْعُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ.

قُلْنَا: لَكِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْهُ.

•‌

‌ كيف يعرف البائع أن المشتري يريد أن يتخذ العنب للخمر؟

يعرف ذلك بعلمه، أو بالقرائن القوية.

قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ، إذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، إمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا إنْ كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ، أَوْ مَنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، وَلَمْ يَلْفِظْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْخَمْرِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ. (المغني).

ص: 525

قال الشوكاني: لكن قوله (حبس) وقوله أو (ممن يعلم أن يتخذه خمراً) يدلان على اعتبار القصد والتعمد للبيع لمن يتخذه خمراً، ولا خلاف في التحريم مع ذلك.

وأما مع عدمه فذهب جماعة من أهل العلم إلى جوازه منهم الهادوية مع الكراهة ما لم يعلم أنه يتخذه لذلك ولكن الظاهر أن البيع من اليهودي والنصراني لا يجوز لأنه مظنة لجعل الخمر خمراً.

ويؤيد المنع من البيع مع ظن استعمال المبيع في معصية، ما أخرجه الترمذي وقال غريب من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (

ولا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام) (نيل الأوطار)

وقال الشيخ ابن عثيمين: إن قال قائل: ما الذي يدريني أن هذا الرجل اشترى العصير ليتخذه خمراً أو ليشربه في الوقت الحاضر؟.

نقول: إذا غلب على الظن أن هذا من القوم الذين يشترون العصير ليتخذوه خمراً كفى ذلك وصار هذا حراماً؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله سبحانه وتعالى قد نهى عن ذلك، وإلا فالأصل الصحة، وعدم المنع. (الشرح الممتع).

•‌

‌ هل هذا الحكم - وهو التحريم - يجري في كل من باع شيئاً لأحد يستخدمه في محرم؟

نعم.

قال ابن قدامة: وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ، وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِلْغِنَاءِ، أَوْ إجَارَتِهَا كَذَلِكَ، أَوْ إجَارَةِ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ.

فَهَذَا حَرَامٌ، وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِمَا قَدَّمْنَا.

وقال ابن تيمية في (شرح العمدة) وكل لباس يغلب على الظن أنه يستعان به على معصية، فلا يجوز بيعه وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم. (الأحد: 26/ 12/ 1433 هـ).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد من الحديث؟

- تحريم الخمر.

- تحريم الإعانة على الإثم.

- تحريم بيع كل معين على المعصية.

- أن الوسائل لها حكم المقاصد.

ص: 526

821 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَضَعَّفَهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ اَلْقَطَّانِ.

===

(الخراج) ما يخرج ويحصل من الفوائد والمنافع الحاصلة من العين المباعة أو المؤجرة، مثل لبن الحيوان، والانتفاع بالدابة أو السيارة.

(بالضمان) أي: مقابل الضمان.

•‌

‌ ما معنى الحديث؟

معناه: أن ما يحصل من فوائد ومنافع العين المباعة يكون للمشتري في مقابل ضمانه للعين المباعة، إذ لو تلفت العين كانت من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، ومثل ذلك العين المؤجرة.

لأن من تحمل الخسارة - لو حصلت - يجب أن يحصل على الربح.

قال أَبو عبيد وغيره من أَهل العلم: معنى الخراج في هذا الحديث غلة العبد يشتريه الرجلُ فيستغلُّه زماناً، ثم يَعْثُرُ منه على عَيْبٍ دَلَّسَهُ البائعُ ولم يُطْلِعْهُ عليه، فله رَدُّ العبد على البائع والرجوعُ عليه بجميع الثمن، والغَّلةُ التي استغلها المشتري من العبد طَيِّبَةٌ له لأَنه كان في ضمانه، ولو هلك هلك من ماله.

• تعني هذه القاعدة: أن من رد بعيب في عقد من العقود فليس عليه رد المنافع التي حصل من المردود، لأنه مستحق لها في مقابلة غرمها لو طرأ عليها طارئ يستوجب ذلك الغرم.

قد يعبر الفقهاء عن هذه القاعدة بعبارات مختلفة:

الغرم بالغنم - المنافع بالضمان - من ضمن مالاً فله ربحه.

فمن اشترى ماشية فحلبها، أو أرضاً فاستعملها، أو سيارة فركبها أو حمل عليها، ثم وجد بشيء من ذلك عيباً، فله أن يرد العين المباعة، ويأخذ الثمن، ولا شيء عليه فيما انتفع به، بل هو مقابل ضمانه المبيع، لأنه لو تلف في يده لكان من ضمانه.

ص: 527

822 -

وَعَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي بِهِ أُضْحِيَّةً، أَوْ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوْ اِشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ - رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ ضِمْنَ حَدِيثٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.

823 -

وَأَوْرَدَ اَلتِّرْمِذِيُّ لَهُ شَاهِداً: مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ.

===

•‌

‌ ما تعريف بيع الفضولي؟

المراد بالفضول لغة: هو من يشتغل بما لا يعنيه، أو بما ليس له، وعمله يسمى فضالة.

وعند الفقهاء: هو من يتصرف في حق الغير بغير إذن شرعي أو ولاية.

•‌

‌ ما حكم بيع الفضولي؟

اختلف العلماء في بيع الفضولي - وقد تقدم ذلك -.

تحرير محل النزاع:

أ-إذا لم يجز المالك تصرف الفضولي فلا ينفذ تصرفه بلا خلاف.

ب- إذا كان الفضولي معذوراً لعدم تمكنه من استئذان المالك فيقف نفاده على الإجازة بلا خلاف كما قال ابن تيمية بل حكى اتفاق الصحابة على ذلك.

•‌

‌ محل الخلاف إذا أجازه هل ينفذ أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن بيع الفضولي وشراءه باطل.

وهذا مذهب الشافعي في الجديد، ومذهب الحنابلة وبه قال الظاهرية.

أ- لحديث حكيم بن حزام مرفوعاً (لا تبع ما ليس عندك) رواه الترمذي.

وجه الدلالة: أن الفضولي ليس بمالك، فكان ممنوعاً من البيع والشراء لعدم الملك.

ب-ولحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً (لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك). رواه أبو داود

وجه الدلالة: أن فيه النهي عن بيع ما لا يملك، وهذا الفضولي لا يملك، والنهي يقتضي الفساد فيبطل.

ج- ولحديث أبي بكرة مرفوعاً (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن تصرف الفضولي في مال الغير حرام، لأنه تصرف في مال أخيه المسلم بلا إذن فيحرم د-ولأنه تمليك مالا يملك، وبيع مالا يقدر على تسيلمه، فأشبه بيع الطير في الهواء.

القول الثاني: أن تصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإن أجازه المالك صح وإلا فلا.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

أ-واستدلوا بحديث الباب.

وجه الدلالة: أن عروة قد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بشراء شاة واحدة، ولم يأذن له في البيع، فاشترى شاة أخرى، وباع، وكل ذلك كان من قبيل تصرف الفضولي، فأجازه الرسول ودعا له بالبركة.

ب-أن عقد الفضولي إذا أجازه المالك جاز قياساً على الوصية بأكثر من الثلث، فإنها تصح وتكون موقوفة على إجازة الورثة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- جواز الوكالة.

ص: 528

824 -

وَعَنِ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ اَلْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِرَاءِ اَلْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ اَلْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ اَلصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ اَلْغَائِصِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

825 -

وَعَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَشْتَرُوا اَلسَّمَكَ فِي اَلْمَاءِ; فَإِنَّهُ غَرَرٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ اَلصَّوَابَ وَقْفُهُ.

826 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعَمَ، وَلَا يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ) رَوَاهُ اَلطَّبَرَانِيُّ فِي " اَلْأَوْسَطِ " وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " اَلْمَرَاسِيلِ " لِعِكْرِمَةَ، وَهُوَ اَلرَّاجِحُ.

وَأَخْرَجَهُ أَيْضاً مَوْقُوفاً عَلَى اِبْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَرَجَّحَهُ اَلْبَيْهَقِيُّ.

827 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ) رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ، وَفِي إِسْنَادِه ضَعْفٌ.

===

•‌

‌ ما صحة هذه الأحاديث التي ذكرها المصنف رحمه الله؟

-حديث أبي سعيد إسناده ضعيف كما قال المصنف رحمه الله، وضعفه ابن حزم، والبيهقي وقال: وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي، فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهي عنه في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- وحديث ابن مسعود (لَا تَشْتَرُوا اَلسَّمَكَ فِي اَلْمَاءِ

) اختلف فيه رفعاً ووقفاً، والراجح عند الأئمة: الدارقطني والبيهقي والخطيب وابن الجوزي أنه موقوف.

- وحديث اِبْنِ عَبَّاسٍ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعَمَ، وَلَا يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ .. ) حديث ضعيف، قال البيهقي - بعد أن أخرجه مرفوعاً موصولاً - تفرد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي، وقد أرسله عنه وكيع، ورواه غيره موقوفاً - ثم ساق رواية الموقوف ثم قال - هذا هو المحفوظ: موقوف.

وقال النووي: هذا الأثر عن ابن عباس صحيح رواه الدارقطني والبيهقي، وروياه عنه مرفوعاً بإسناد ضعيف.

- وحديث أبي هريرة كما قال المصنف إسناده ضعيف.

•‌

‌ اذكر صور البيوع المذكورة في الحديث وسبب تحريمها؟

‌الأول: شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ اَلْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ.

وهو بيع الحمل، وتقدم علة النهي عن بيعه في حديث (حبل الحبلة).

‌ثانياً: وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا.

أي: بيع اللبن في الضرع، فلا يجوز بيع اللبن في الضرع.

قال ابن قدامة: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

أ-وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ). رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ.

ب-وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَأَشْبَهَ الْحَمْلَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَمْ تُخْلَقْ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ مَا تَحْمِلُ النَّاقَةُ، وَالْعَادَةُ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ. (المغني).

ج-أنه يدخل في بيوع الغرر المنهي، لأن انتفاخ الضرع قد يكون لبناً وقد يكون لسمنٍ، ويحتمل أن يكون لبناً صافياً أو كدراً.

وقال الشوكاني: قوله (وعن بيع ما في ضروعها) هو أيضا مجمع على عدم صحة بيعه قبل انفصاله لما فيه من الغرر والجهالة، إلا أن يبيعه منه كيلاً نحو أن يقول بعت منك صاعاً من حليب بقرتي فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر والجهالة.

ص: 529

‌ثالثاً: وَعَنْ شِرَاءِ اَلْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ.

فلا يجوز بيع العبد الآبق، وهو الهارب من سيده.

لعدم القدرة على تسليمه.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْآبِقِ لَا يَصِحُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَكَانَهُ، أَوْ جَهِلَهُ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْفَرَسِ الْعَائِرِ، وَشِبْهِهِمَا.

وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ بَعِيرًا شَارِدًا.

وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآبِقِ، إذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا.

وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ.

أ-وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَهَذَا بَيْعُ غَرَرٍ.

ب-وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إنْسَانٍ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ.

‌رابعاً: وَعَنْ شِرَاءِ اَلْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ.

المغانم: جمع مغنم، والغنائم جمع غنيمة، وهي ما أصيب من أموال الكفار.

فلا يجوز أن يبيع المغانم قبل قسمتها من القسمة، لأن نصيب الغانم مجهول المقدار، ثم إنه باع ما لا يملك.

قال ابن القيم: والنهي عن شراء المغانم حتى تقسم داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده، فهو بيع غرر ومخاطرة

وقال الشوكاني: قوله (وشراء المغانم) مقتضى النهي عدم صحة بيعها قبل القسمة، لأنه لا ملك لأحد من الغانمين قبلها، فيكون ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.

•‌

‌ اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز أخذ شيء من الغنيمة على وجه التملك قبل القسمة، وأن ذلك غلول ومحرّم.

واتفقوا أيضاً على أن بيع شيء من الغنيمة قبل القسمة محرّم، لعدم تمكن الملك قبل القسمة، وأن البيع إذا وقع لا يصح، لعدم القدرة على التسليم.

وحكم البيع إذا وقع: يكون باطلاً على قول جمهور العلماء.

‌خامساً: وَعَنْ شِرَاءِ اَلصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ.

مثاله: رجل فقير يعطيه الناس من صدقاتهم، فجاءه شخص فقال بعني ما يأتيك من صدقة. (كغنم أو بقرة).

فهذا منهي عنه

للجهالة، ولأنه بيع ما لا يملك.

‌سادساً: وَعَنْ ضَرْبَةِ اَلْغَائِصِ.

قال ابن الأثير: فيه أنه نهى عن ضربة الغائص، وهو أن يقول: أغوص في البحر غوصة بكذا فما أخرجته فهو لك، وإنما نهي عنه لأنه غرر.

ص: 530

‌سابعاً: بيع السمك.

فلا يجوز بيع السمك وهو في الماء.

قال ابن قدامة: وَلَا السَّمَكِ فِي الْآجَامِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ، قَالَ: إنَّهُ غَرَرٌ.

وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ.

وَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا.

الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ رَقِيقًا، لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ وَمَعْرِفَتَهُ.

الثَّالِثُ، أَنْ يُمْكِنَ اصْطِيَادُهُ وَإِمْسَاكُهُ.

فَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالْمَوْضُوعِ فِي الطَّسْتِ.

وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِذَلِكَ. (المغني).

‌ثامناً: أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعَمَ.

فلا يجوز بيع الثمرة قبل أن تطعم (قبل أن يبدو صلاحها).

كما في حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ). متفق عليه

الحكمة في النهي قبل بدو صلاحها: أنه في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها غرراً وخطراً ظاهراً يفضي إلى المفاسد الكثيرة بين المسلمين من إيقاع التشاحن والتشاجر وأكل مال الغير بغير حق.

فالبائع إذا باع قبل بدو الصلاح وتعجل البيع فإنه ستقل قيمتها عما لو أخر البيع إلى ما بعد الصلاح والنضج فيكون في ذلك خسارة عليه.

وأما المشتري: ففي ذلك حفظ لماله من الضياع والمخاطر والتغرير، لأن الثمرة قد تتلف وتنالها الآفات قبل الانتفاع بها فيذهب ماله، فنهي عن ذلك تحصيناً للأموال من الضياع وحفظاً للحقوق، وقطعاً للمخاصمات والمنازعات بين المتبايعين.

وقد قسم ابن قدامة بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلى أقسام، فقال رحمه الله:

لا يخلوا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يشتريها بشرط التبقية، فلا يصح البيع إجماعاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.

القسم الثاني: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإجماع، لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها، وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه.

القسم الثالث: أن يبيعها مطلقاً، ولم يشترط قطعاً ولا تبقية، فالبيع باطل، وبه قال مالك والشافعي، وأجازه أبو حنيفة.

ثم قال مرجحاً رأي الجمهور في حكم هذا القسم الأخير: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع.

ص: 531

‌تاسعاً: وَلَا يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ.

اختلف العلماء في بيع الصوف على الظهر؟

ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى تحريمه وبطلانه، وعزاه النووي إلى جماهير العلماء.

أ-لحديث الباب.

ب-ولأنه لا يمكن تسليمه إلا باستئصاله من أصله، ولا يمكن ذلك إلا بإيلام الحيوان وهذا لا يجوز.

ج- ولأن الصوف ينبت من أسفل ساعة فساعة، فيختلط المبيع بغيره، بحيث يتعذر التمييز في ذلك.

د- ولحصول الجهالة والتنازع بين المتبايعين في موضع القطع مما قد يفضي إلى الخصومة بينهما.

قال الشيخ ابن عثيمين: القول الثاني: أنه يصح بيع الصوف على الظهر بشرط الجز في الحال وألا تتضرر به البهيمة؛ لأنه مشاهد معلوم، ولا مانع من بيعه فلا يشتمل البيع على محذور، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه إذا بيع بشرط الجز في الحال فهو كما لو بيع الزرع بشرط الجز في الحال، والنماء الذي قد يحصل يزول باشتراط جزه في الحال.

فإن قال قائل: ما الجواب على الحديث الذي اسْتُدِلَّ به وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما؟.

قلنا الجواب: إن صح الحديث، فإنما نهى عنه؛ لأنه قد يتأذى الحيوان بجزه، ولا سيما إذا جزه في أيام الشتاء فيكون النهي ليس لعلة الجهالة ولكن لعلة الأذى.

وأما القياس وهو أنه متصل بالحيوان، فهو كجزء من أجزائه، فجوابنا على ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أننا لا نسلم منع بيع الجزء المعلوم المشاهد، كبيع الرأس مثلاً، وبيع الرقبة، وبيع اليد من العضد فلا نسلم أن بيع هذا حرام؛ لأنه مشاهد معلوم، وليس فيه غرر ولا جهالة.

الوجه الثاني: أنه لا يصح القياس؛ لأن الشعر أو الصوف في حكم المنفصل، فكيف يجعل في حكم الجزء، والعجب أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إنَّ مس المرأة لشهوة ناقض للوضوء، ومس شعرها لا ينقض الوضوء، قالوا: لأنه في حكم المنفصل!!

فالراجح في هذه المسألة أن بيع الصوف على الظهر جائز، لكن بشرط أن يجز في الحال وألاَّ يلحق الحيوان أذى، أما إذا لحق الحيوان أذى مُنِعَ لا لأنه مجهول، ولكن لأذى الحيوان.

‌عاشراً: بَيْعِ اَلْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ.

قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول.

ونهي عنه لأن المبيع مجهول الصفة، ومتعذر التسليم.

•‌

‌ ما حكم بيع الطائر في الهواء؟

لا يجوز.

لعدم القدرة على تسليمه.

•‌

‌ ما حكم ما يسمى بالبوفيه المفتوح؟

ما تفعله بعض المطاعم من تحديد ثمن معين للوجبة حتى الإشباع ـ الذي يظهر ـ أنه من الغرر اليسير الذي لا يؤثر في صحة البيع، وهو يشبه ما ذكره النووي رحمه الله في كلامه السابق من دخول الحمام بأجرة معلومة، مع عدم العلم بكمية الماء المستعمل، وكذلك الشرب من السقاء مع عدم العلم بكمية الماء.

لكن إذا كان الإنسان يعلم من نفسه أنه يأكل كثيراً خارجاً عن المعتاد فإنه يجب عليه أن يذكر لهم ذلك، لأن هذا يكون غررا كثيراً.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " مسألة: هناك محلات تبيع الأطعمة تقول: ادفع عشرين ريالا والأكل حتى الشبع؟

الجواب: الظاهر أن هذا يتسامح فيه؛ لأن الوجبة معروفة، وهذا مما تتسامح فيه العادة، ولكن لو عرف الإنسان من نفسه أنه أكول فيجب أن يشترط على صاحب المطعم؛ لأن الناس يختلفون.

ص: 532

‌بَابُ اَلْخِيَارِ

بالخيار: الخيار هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه.

وعرفه بعضهم: هو الخيار الذي يثبته الشرع للعاقدين عقداً لازما في فسخه ما داما لم يتفرقا بأبدانهما.

828 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً بَيْعَتَهُ، أَقَالَهُ اَللَّهُ عَثْرَتَهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

===

(مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً) أي: بيعه.

(أَقَالَهُ اَللَّهُ عَثْرَتَهُ) أي: غفر زلته وخطيئته.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

صحيح.

•‌

‌ عرف الإقالة؟

هي: رفع عقد المعاوضة المالي اللازم للمستقيل باتفاق العاقدين.

فقولنا: المعاوضة: يخرج النكاح فرفعه يكون بالطلاق.

وتقييده باللزوم يخرج غير اللازم فإن فسخه لا يسمى إقالة لأنه لا يشترط فيه رضا المتعاقدين.

وقولنا باتفاق العاقدين: يخرج ما لو أُكرها على رفع العقد.

وفي الموسوعة الفقهية: هي رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْن.

•‌

‌ ما صورة الإقالة؟

قال في إنجاح الحاجة: صورة إقالة البيع إذا اشترى أحد شيئاً من رجل ثم ندم على اشترائه، إما لظهور الغبن فيه، أو لزوال حاجته إليه، أو لانعدام الثمن، فرد المبيع على البائع وقبل البائع رده أزال الله مشقته وعثرته يوم القيامة لأنه إحسان منه على المشتري، لأن البيع كان قد ثبت فلا يستطيع المشتري فسخه. (عون المعبود).

• وينبغي أن يعلم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد لازم والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار.

لقوله صلى الله عليه وسلم (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ومع ذلك فقد اتفق أهل العلم على أن من آداب البيع والشراء الإقالة.

قال الإمام الغزالي عند ذكره الإحسان في المعاملة، الخامس: أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، قال صلى الله عليه وسلم (من أقال نادماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة). (إحياء علوم الدين).

ص: 533

•‌

‌ ما حكم الإقالة؟

مستحبة مشروعة.

ويدل على مشروعيتها واستحبابها:

أ- قوله تعالى (وافعلوا الخير) فالآية المذكورة تدل بعمومها على مشروعية الإقالة، لأن الأمر فيها ورد بفعل الخير، ولاشك أن إقالة النادم من فعل الخير.

ب- حديث الباب (مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً بَيْعَتَهُ، أَقَالَهُ اَللَّهُ عَثْرَتَهُ).

ج- وهي من رحمة الخلق والإحسان إليهم.

قال صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود

وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم (الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).

وقال صلى الله عليه وسلم (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه) رواه مسلم.

قال الشيخ ابن عثيمين: ولكن هي سنة في حق المقيل، ومباحة في حق المستقيل، أي: لا بأس أن تطلب من صاحبك أن يقيلك، سواء كنت البائع أو المشتري، أما في حق المقيل فهي سنة لما فيها من الإحسان إلى الغير، وقد قال الله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)، ولأن فيها إدخال سرور على المُقال وتفريجاً لكربته، لا سيما إذا كان الشيء كثيراً وكبيراً، فتكون داخلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى)، فتكون سبباً للدخول في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة.

•‌

‌ قوله صلى الله عليه وسلم (من أقال مسلماً

) هل لهذا مفهوم؟

لا مفهوم له، فإن ذكر المسلم في الحديث ورد من باب التغليب، وإلا فإقالة غير المسلم كإقالة المسلم.

قال الإمام الصنعاني: وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْماً أَغْلَبِيّاً وَإِلَّا فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَخْرَجَهُ الْبَزَّار.

ص: 534

•‌

‌ هل الإقالة فسخ أم بيع؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنها فسخ وإلغاء للعقد الأول وليست بيعاً.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

ووجه هذا الرأي بأن الإقالة في اللغة عبارة عن الرفع، يقال في الدعاء (اللهم أقل عثراتي) أي: ارفعها، والأصل أن معنى التصرف شرعاً ينئ عنه اللفظ لغة، ورفع العقد فسخه، ولأن البيع والإقالة اختلفا اسماً فتخالفا حكماً، فإذا كانت رفعاً فلا تكون بيعاً، لأن البيع إثبات والرفع نفي وبينهما تناف، فكانت الإقالة على هذا التقدير فسخاً محضاً.

القول الثاني: أنها بيع.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مرجحاً القول الأول: الصواب أنها فسخ لعقد مضى، ولهذا تجوز قبل قبض المبيع، وتجوز بعد نداء الجمعة الثاني، وتجوز بعد إقامة الصلاة إذا لم تمنع من الصلاة، لأنها ليست بيعاً، وتجوز في المسجد.

•‌

‌ هل تجوز الإقالة بأقل أو أكثر من الثمن؟

قيل: لا تجوز إلا بالثمن.

لأن مقتضى الإقالة رد الأمر على ما كان عليه، ورجوع كل واحد منهما إلى ماله، فلم تجز بأكثر من الثمن.

وقيل: يجوز.

ورجح ذلك ابن رجب والشيخ ابن عثيمين.

قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع:

وكذلك ـ أيضاً ـ لو أن البائع طلب من المشتري الإقالة فقال: أقيلك على أن تعطيني كذا وكذا زيادة على الثمن فإنه لا يجوز؛ لأنها تشبه العينة حيث زيد على الثمن.

ولكن القول الراجح أنها تجوز بأقل وأكثر إذا كان من جنس الثمن؛ لأن محذور الربا في هذا بعيد فليست كمسألة العينة؛ لأن مسألة العينة محذور الربا فيها قريب، أما هذه فبعيد، وقد قال ابن رجب رحمه الله في (القواعد) إن للإمام أحمد رواية تدل على جواز ذلك، حيث استدل ببيع العربون الوارد عن عمر رضي الله عنه، وقال: الإقالة بعوض مثله، وعليه فيكون هناك رواية أومأ إليها الإمام أحمد بجواز الزيادة على الثمن والنقص منه، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه عمل الناس، وهو من مصلحة الجميع؛ وذلك لأن البائع إذا أقال المشتري، فإن الناس سوف يتكلمون ويقولون: لولا أن السلعة فيها عيب ما ردها المشتري، فيأخذ البائع عوضاً زائداً على الثمن من أجل جبر هذا النقص.

وقال في شرح البلوغ: الصحيح الجواز، ومحذور الربا فيها بعيد، فمثلاً: إذا بعت عليك سيارة بعشرين ألفاً، ثم جئت إليّ وقلت: أقلني، أنا لا أريد السيارة، فقلت: لا أقيلك إلا إذا أعطيتني ألفين من الثمن، فقال: أعطيك.

•‌

‌ اذكر بعض الأدلة على قاعدة: الجزاء من جنس العمل؟

قال تعالى (إن تنصروا الله ينصركم).

قال صلى الله عليه وسلم (ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الله) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (من وصل صفاً وصله الله) رواه أبو داود.

ص: 535

829 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِذَا تَبَايَعَ اَلرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا اَلْآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا اَلْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدَ وَجَبَ اَلْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اَلْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ اَلْبَيْعُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

830 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(اَلْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا اِبْنَ مَاجَهْ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: (حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا).

===

(إِذَا تَبَايَعَ اَلرَّجُلَانِ) أي البائع والمشتري، وأطلق عليهما ذلك من باب التغليب، وفي رواية (البيعان بالخيار).

(فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ) من إمضاء البيع أو فسخه.

(مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) أي: بأبدانهما على القول الراجح، وفي رواية البيهقي (حتى يتفرقا من مكانهما).

(فَقَدَ وَجَبَ اَلْبَيْعُ) أي: ثبت البيع.

•‌

‌ على ماذا يدل الحديث؟

الحديث يدل على إثبات خيار المجلس للمتبايعين.

وهو الخيار الذي يثبت للمتعاقدين ما داما في المجلس، أي مجتمعين.

•‌

‌ اذكر الخلاف في ثبوته؟

اختلف العلماء في ثبوت الخيار المجلس على قولين:

القول الأول: ثبوت خيار المجلس.

وإلى هذا ذهب جماهير العلماء، كالشافعي وأحمد.

قال ابن قدامة: وهو مذهب أكثر أهل العلم.

قال النووي: وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة الأسلمي من الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن رشد: ولا مخالف لهما من الصحابة.

وقال البخاري: به قال ابن عمر وشريح والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة.

أ-لحديث الباب.

ب- ولحديث حكيم بن حزام. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه.

وجه الدلالة: هذان الحديثان، وما في معناها ـ يدلان دلالة صريحة على ثبوت خيار المجلس، بما يعطي الحق للمتبايعين ـ ومن في معناهما في كل عقد فيه معارضة في إمضاء البيع أو فسخه مدة المجلس، ولا يبطل ذلك إلا بأحد أمرين:

الأول: إمضاء العقد وإن لم يتفرقا:

الثاني: انتهاء مجلس العقد ذاته بتفرقهما بأبدانهما.

بالتفرق في هذين الحديثين محمول على التفرق بالأبدان، ومل لم يتفرقا بأبدانهما يبقى لهما حق الخيار.

ص: 536

القول الثاني: أنه لا خيار للمجلس، بل يلزم العقد بالإيجاب والقبول.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وجه الدلالة: أن الأمر بالوفاء بالعقد في هذه الآية للوجوب، والعقد يتم بالإيجاب والقبول قبل التفرق أو التخاير، وإذا صدر كذلك وجب الوفاء به، وخيار المجلس ينافي ذلك، إذ مقتضاه إمكان فسخ العقد بعد تمامه من أحد العاقدين، وهو ما ينافي الأمر بالوفاء الوارد في الآية.

ب- ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).

وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أباح أكل المال عن طريق التجارة، وهذه الإباحة مطلقة عن قيد التفرق عن مكان العقد، ولما كان العقد يتم بالإيجاب والقبول الصادرين عن رضا، كان الأكل مباحا بمجرد العقد، وإذا أجزنا فسخ العقد لأحد العاقدين بخيار المجلس كان من آثاره عدم جواز الأكل، وهو ما يتنافى مع الآية الشريفة.

•‌

‌ بماذا أجاب هؤلاء عن أحاديث من قال بثبوته؟

أولاً: قالوا: إن المراد بالتفرق هنا التفرق بالأقوال، وليس التفرق بالأبدان، كما في قوله تعالى: " وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ: وقوله تعالى (ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ)، وقوله صلى الله عليه وسلم (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) فالتفرق في هذا كله إنما يكون بالأقوال والاعتقادات، لا بالأبدان، والقياس على النكاح والإجارة والعتق، يؤكد هذا التأويل.

ويجاب عن هذا:

أن هذا خلاف الظاهر، ورواية البيهقي تدل على ذلك (حتى يتفرقا من مكانهما) وكذلك فعل ابن عمر كما سيأتي.

ثانياً: قالوا إنها منسوخة بحديث (المسلمون على شروطهم).

والجواب عن هذا: إن النسخ لا يثبت مع مجرد الاحتمال والتوقيع، ومعلوم أنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى الترجيح وهنا يمكن الجمع. فيقال أن الشروط المذكورة في الحديث ليست كل الشروط التي يبرمها الناس وهذا محل اتفاق إنما المراد الشروط المباحة وهي التي لا تعارض نصوص الكتاب والسنة.

•‌

‌ ما المراد بالتفرق في قوله (مالم يتفرقا)؟

قال بعض العلماء: المراد بالتفرق، تفرق الأقوال، وهذا ضعيف.

والصحيح أن المراد التفرق بالأبدان.

أ- لرواية البيهقي (حتى يتفرقا من مكانهما).

ب- أن راوي الحديث ابن عمر فسره بذلك، ففي رواية البخاري (وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه).

ج- أن ذلك خلاف الظاهر.

وقال صاحب المغنى حمل التفرق على الأقوال باطل لوجوه:

أولاً: أن اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بقول ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على البيع بعد الاختلاف فيه.

ثانياً: أن هذا يبطل فائدة الحديث إذ قدم علم أنهما بالخيار قبل العقد في انشائه وإتمامه أو تركه.

ثالثاً: أنه يرد تفسير ابن عمر رضي الله عنهما للحديث وكذا أبي برزه وهما راويا الحديث وأعلم بمعناه.

ص: 537

•‌

‌ ما هو ضابط التفرق؟

اختلف العلماء في حد هذا التفرق.

قيل: التفرق أن يغيب عن صاحبه.

وقيل: بأن يمشي أحدهما مستديراً لصاحبه خطوات.

وقيل: هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة.

والراجح من أقوال العلماء هو عرف الناس وعاداتهم فيما يعدونه تفرقاً، فما عده العرف تفرقاً فهو كذلك وإلا فلا. والقاعدة: كل ما ورد مطلقاً في لسان الشارع، ولم يحدد، فإنه يرجع إلى تحديده إلى العرف.

ولأن التفرق في الشرع مطلق فوجب أن يحمل على التفرق المعهود.

ولأن الشارع علق عليه حكماً ولم يبينه، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والاحراز.

فمتى تفرقا بأبدانهما تفرقا يعتد به العرف انقطع خيارهما ولزم العقد ولو أقاما في مجلسهما مدة متطاولة أو قاما وتماشيا مراحل أو حجز بينهما حاجز من جدار أو غيره فهما على خيارهما وبه قطع جمهور القائلين بالخيار. أمثلة:

إذا كانا في بيت، فبخروج أحدهما منه.

إذا كانا في غرفة، فبخروج أحدهما منها.

•‌

‌ كم مدة خيار المجلس؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه لا حد للمدة التي يظل فيها الخيار قائماً ما دام لم يحدث تفرق بالأبدان بين المتعاقدين، وإن مكثا معاً طيلة عمرهما، ولا عبرة في ذلك بما يحدث منهما ـ قبل تفرقهما ـ بما يدل على إعراضهما عن التعاقد.

وقال بهذا الرأي الشافعية، قال النووي: إنه هو الصحيح وبه قطع الجمهور.

وقال به الظاهرية وهو الظاهر من كلام الحنابلة.

فقد قال البهوتي: وإن بني بينهما ـ أي بين المتبايعين ـ وهما في المجلس حائط من جدار، أو غيره، أو أرخيا ستراً في المجلس، أو ناما فيه، أو قاما منه فمضيا جميعاً ولم يتفرقا، فالخيار باق بحالة.

لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الخيار على التفرق، فإذا لم يوجد وجد الخيار، وإذا وجد لم يوجد الخيار.

الرأي الثاني: يرى أصحابه أن الخيار له أمد معين ينتهي عنده، إن لم يتفرقا بأبدانهما قبل ذلك، وهذا الأمد هو ثلاثة أيام.

ومقتضى هذا الرأي: أن المتعاقدين بعد العقد يثبت لهما خيار المجلس ما داما لم يتفرقا، فإذا استمر عدم التفرق مدة طويلة من الزمن تقل عن ثلاثة أيام ظل خيار المجلس قائماً، حتى إذا كانت ثلاثة أيام انقطع الخيار، حتى ولو لم يحدث تفرق فعلى بين المتعاقدين.

وقال بهذا الرأي الشافعية في وجه عندهم.

قال النووي: وحكى وجه أنه لا يزيد على ثلاثة أيام.

وحجة هذا الرأي: القياس على خيار الشرط، فكما لا يجوز أن يزيد الخيار المشروط على ثلاثة أيام، فكذلك خيار المجلس لا يجوز أن يزيد على ثلاثة أيام.

الرأي الثالث: ويرى أصحابه أن خيار المجلس ينتهي بمجرد ظهور إعراض عما يتعلق بالعقد، طالت المدة أو قصرت.

والراجح الأول.

ص: 538

•‌

‌ ما الحكمة من خيار المجلس؟

أن الإنسان قبل أن يملك الشيء تتعلق به نفسه تعلقاً كبيراً، فإذا ملكه زالت تلك الرغبة، لذلك شرع خيار المجلس.

•‌

‌ متى يثبت البيع؟

يثبت البيع إذا تفرقا بأبدانهما بعد البيع.

•‌

‌ متى يسقط خيار المجلس؟

أولاً: إن نفياه قبل ثبوته، أو أسقطاه بعد ثبوته.

ثانياً: إن أسقط أحدهما بقي خيار الآخر، بأن قال: أسقطت خياري، فإنه يبقى خيار الآخر.

• يثبت خيار المجلس في البيع، والإجارة.

فإذا اتفقت أنا وأنت على أن أؤجرك بيتي لمدة سنة، فما دمنا في المجلس فلكل واحد منا الخيار، لأن الإجارة كالبيع، فهي عقد معاوضة.

•‌

‌ هل إذا مات أحد المتبايعين في زمن الخيار قبل التفرق ينتقل الخيار للورثة؟

اختلف العلماء في هذا على قولين:

القول الأول: أنه ينتقل للورثة.

وهذا مذهب الشافعية.

القول الثاني: أنه لا ينتقل بل يسقط بالوفاة.

وهذا مذهب الحنابلة.

لأنه إذا كان العقد يلزم بالتفرق بالأبدان فمفارقة الحياة من باب أولى.

وبناء عليه لو توفى أحد المتعاقدين قبل التفرق فإن العقد يلزم، ولا خيار للوارث في فسخ العقد؛ إلا إذا كان الميت قد طالب بالفسخ قبل موته، فيكون للوارث المطالبة بالفسخ خلفا لمورثه.

•‌

‌ ما حكم أن يقوم أحد المتبايعين خشية الاستقالة؟

حرام.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) رواه أبو داود.

•‌

‌ ما الجواب عن فعل ابن عمر (أنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثم رجع إليه)؟

الجواب:

أ- هذا اجتهاد منه، مدفوع بالحديث المتقدم الذي ينهى عن ذلك.

ب- أو يحمل على أنه لم يبلغه الخبر.

فائدة: من أنواع الخيار: خيار الشرط.

وهو أن يشترط المتبايعان في العقد مدة معلومة ولو طويلة.

وهذا الشرط دل عليه عموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).

وحديث: (المسلمون على شروطهم). مثال: بعث عليك سيارتي على أن الخيار لنا لمدة شهر.

يشترط أن تكون المدة معلومة ولو كانت طويلة.

فإن كانت مجهولة لا تصح.

قال: بعتك بيتي على أن لي الخيار حتى أشتري بيتاً، هذا فيه جهالة، ويحصل فيه نزاع.

ص: 539

وقوله (ولو كانت المدة طويلة) هذا صحيح فيما إذا كان الشيء يبقى، لكن فيما لا يبقى تلك المدة، مثال: اشتريت منك خضار، وقلت على أن لي الخيار لمدة ستة أشهر.

قال بعضهم: يصح، وقالوا: إذا خاف فسادها تباع ويحفظ الثمن. لكن هذا فيه إشكال، لأنه إذا باعها بأقل من الثمن رجع المشتري، وإن باع بأكثر رجع البائع.

ولذلك قال بعض الأصحاب: أنه إذا كانت المدة الطويلة يخشى فساد المعقود عليه فلا تصح، وهذا القول وجيه، لأن الذي يخشى فساده لا يمكن أن يضرب له مدة يفسد فيها، لأن هذا شبه تلاعب.

•‌

‌ يبطل خيار الشرط بأمور:

أ- إذا مضت مدة الخيار.

ب- إذا أسقطاه، فلو قدر أنهما تبايعا، على أن يكون الخيار لمدة عشرة أيام، وبعد مضي خمسة أيام اتفقا على إلغاء الشرط، فإنه يجوز ويسقط الشرط، لأن الحق لهما.

• إن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح، فيقول البائع: بعتك هذا البيت على أن لي الخيار لمدة شهر، فيقول المشتري: قبلت.

• من له الخيار فإن له الفسخ سواء كان الآخر حاضراً أو غائباً.

إذا كان حاضراً فالأمر واضح، وإذا كان غائباً فإنه يُشهّد ويقول: إني فسخت العقد.

ومن له الخيار فإن له الفسخ ولو مع سخط الآخر وزعله.

• النماء المنفصل زمن الخيار: أي المنفصل عن المبيع فهو للمشتري. مثاله:

باع إنسان شاة واشترط هذا المشتري الخيار لمدة أسبوع اللبن نماء منفصل، فهو للمشتري.

أما النماء المتصل:

قال بعضهم: يكون للبائع تبعاً للعين.

وذهب بعض العلماء: إلى أن النماء المتصل للمشتري، لأنه حصل بسببه، وهذا القول هو الراجح.

مثال: اشتريت عبداً واشترطت الخيار لمدة ستة شهور، فعلمته القراءة والكتابة في هذه المدة، فقال البائع: رجعت عن البيع، العبد الآن يكتب وقد زادت قيمته والكتابة نماء متصل.

فعلى القول الأول يرجع العبد للبائع وليس للمشتري شيء، وهذا رأي في المذهب.

وعلى القول الراجح: يأخذ البائع العبد، وتقدر قيمته وهو لا يعرف القراءة والكتابة، وقيمته وهو متصف بهذه الزيادة، والفرق بين القيمتين للمشتري.

وعلى هذا فيكون النماء المتصل والمنفصل للمشتري.

• يحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع زمن الخيار، لأن تصرف أحدهما في المبيع يستلزم سقوط حق الآخر، يستثنى من ذلك أحوال:

أ-إن أذن له صاحب الحق.

ب-في حال تجربة المبيع، لأنه قد يكون قصد المشتري بالخيار لأجل التجربة.

• إذا مات أحدهما زمن الخيار:

قال بعض العلماء: من مات منهما زمن الخيار بطل خيارهما لأن خياره يتعلق به شخصاً، فإذا مات بطل

وقال بعض العلماء: أنه لا يبطل خياره بموته، لأنه إذا مات انتقل الملك إلى الورثة، فلا يكون الموت مبطلاً.

وهذا القول هو الراجح.

أما إذا كان الموت في خيار المجلس، فهنا يتوجه القول بأن من مات منهم بطل خياره، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث:(ما لم يتفرقا) والموت أعظم فرقة.

ص: 540

831 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي اَلْبُيُوعِ فَقَالَ (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خَلَابَةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

(ذَكَرَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الرَّجُل هُوَ حَبَّان بِفَتْحِ الْحَاء وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة اِبْن مُنْقِد بْن عَمْرو الْأَنْصَارِيّ وَالِد يَحْيَى وَوَاسِع بَنِي حَبَّان شَهِدَا أُحُدًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ وَالِده مُنْقِد بْن عَمْرو، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَة وَثَلَاثِينَ سَنَة، وَكَانَ قَدْ شُجَّ فِي بَعْض مَغَازِيه مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْض الْحُصُون بِحَجَرٍ فَأَصَابَتْهُ فِي رَأْسه مَأْمُومَة فَتَغَيَّرَ بِهَا لِسَانه وَعَقْله لَكِنْ لَمْ يَخْرُج عَنْ التَّمْيِيز. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرًا، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهُ مَعَ هَذَا الْقَوْل الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام فِي كُلّ سِلْعَة يَبْتَاعهَا. (قاله النووي).

(أَنَّهُ يُخْدَعُ) أي: يُغر ويُخدع.

(فِي اَلْبُيُوعِ) أي: في حال مبايعته للناس.

وقد بيّن ابن إسحاق في روايته المذكورة سبب شكواه، وهو ما يلقى من الغبن، وقد أخرجه أحمد، وأصحاب السنن من حديث أنس ولفظه (أن رجلاً كان في عُقدته ضعف، كان يبايع، وأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله احْجُر عليه، فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاه، فقال: يا نبي الله لا أصبر عن البيع، قال: إذا بايعت، فقل: لا خلابة.

(لَا خِلَابَةَ) بكسر الخاء وتخفيف اللام، أي: لا خديعة، أَيْ لَا تَحِلّ لَك خَدِيعَتِي أَوْ لَا يَلْزَمنِي خَدِيعَتك.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد إثبات خيار الغبن لمن غبن في البيع.

وقد اختلف العلماء في إثبات خيار الغبن.

فقيل: يثبت خيار الغبن للمغبون.

وهذا قول أحمد.

وقيل: لا يثبت الخيار لكل مغبون، إلا من كان مثل هذا الرجل بضعف عقله.

قال النووي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْحَدِيث فَجَعَلَهُ بَعْضهمْ خَاصًّا فِي حَقّه وَأَنَّ الْمُغَابَنَة بَيْن الْمُتَبَايِعَيْنِ لَازِمَة لَا خِيَار لِلْمَغْبُونِ بِسَبَبِهَا سَوَاء قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَآخَرِينَ وَهِيَ أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِك. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ الْمَالِكِيَّة: لِلْمَغْبُونِ الْخِيَار لِهَذَا الْحَدِيث بِشَرْطِ أَنْ يَبْلُغ الْغَبْن ثُلُث الْقِيمَة فَإِنْ كَانَ دُونه فَلَا. وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَار، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ:(قُلْ لَا خِلَابَة) أَيْ لَا خَدِيعَة، وَلَا يَلْزَم مِنْ هَذَا ثُبُوت الْخِيَار وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَوْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَار كَانَتْ قَضِيَّة عَيْن لَا عُمُوم لَهَا، فَلَا يَنْفُذ مِنْهُ إِلَى غَيْره إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاَللَّه أَعْلَم.

وقال الشوكاني: واختلف العلماء في هذا الشرط هل كان خاصا بهذا الرجل أم يدخل فيه جميع من شرط هذا الشرط فعند أحمد ومالك في رواية عنه والمنصور بالله والإمام يحيى أنه يثبت الرد لكل من شرط هذا الشرط ويثبتون الرد بالغبن لمن لم يعرف قيمة السلع وقيده بعضهم بكون الغبن فاحشا وهو ثلث القيمة عنده قالوا بجامع الخدع الذي لأجله أثبت النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الخيار وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل لهذا الرجل الخيار للضعف الذي كان في عقله كما في حديث أنس المذكور فلا يلحق به إلا من كان مثله في ذلك بشرط أن يقول هذه المقالة ولهذا روى أنه كان إذا غبن يشهد رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثا فيرجع في ذلك وبهذا يتبين أنه لا يصح الاستدلال بمثل هذه القصة على ثبوت الخيار لكل مغبون وإن كان صحيح العقل ولا ثبوت الخيار لمن كان ضعيف العقل إذا غبن ولم يقل هذه المقالة وهذا مذهب الجمهور وهو الحق. (نيل الأوطار).

ص: 541

والراجح ثبوت خيار الغبن بشرط أن يكون الغبن فاحشاً يخرج عن العادة.

•‌

‌ متى يثبت خيار الغبن؟

قال ابن قدامة: وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِلْغَبْنِ فِي مَوَاضِعَ:

أَحَدُهَا: تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، إذَا تَلَقَّاهُمْ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ وَبَاعَهُمْ وَغَبَنَهُمْ. (وقد تقدم ذلك).

الثَّانِي: بَيْعُ النَّجْشِ. (وقد تقدم ذلك).

الثَّالِثُ: الْمُسْتَرْسِلُ إذَا غُبِنَ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ.

وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ قِيلَ: قَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلَامَتِهَا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَرْسِلِ، وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ.

وَلَنَا: أَنَّهُ غَبْنٌ حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ، فَأَثْبَتِ الْخِيَارَ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْسِلِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالْغَبْنِ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعْجَلَ، فَجَهِلَ مَا لَوْ تَثَبَّتَ لَعَلِمَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ.

وَالْمُسْتَرْسِلُ هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلَا يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ.

قَالَ أَحْمَدُ: الْمُسْتَرْسِلُ، الَّذِي لَا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ.

وَفِي لَفْظٍ، الَّذِي لَا يُمَاكِسُ.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحريم الخديعة في البيع.

- جواز البيع بشرط الخيار.

- استدل بعض الفقهاء بهذا الحديث على إثبات خيار الشرط، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لهذا الرجل الخيار لمدة ثلاثة أيام، كما في رواية ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر.

ص: 542

‌كتاب البيوع

باب الربا - باب السلم والقرض والرهن -باب التفليس والحجر

باب الصلح - باب الحوالة والضمان - باب الشركة والوكالة -

باب الإقرار - باب العارية - باب الغصب - باب الشفعة

ص: 543

‌بابُ الربا

الربا لغة: الزيادة.

وشرعاً: الزيادة الحاصلة بمبادلة الربوي بجنسه، أو تأخير القبض فيما يلزم فيه التقابض من الربويات.

وهو نوعان:

ربا الفضل: بيع الشيء بجنسه مع التفاضل.

كما لو باع صاعاً من البر بصاعين.

أو كيلو من الذهب بكيلوين.

وربا النسيئة: بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه مما يساويه في العلة بدون قبض.

صاع من البر بصاع من البر من تأخر القبض

باع صاع من البر بصاع من الشعير مع تأخر القبض.

• والربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع كما سيأتي.

ص: 544

832 -

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ اَلرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ

833 -

وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ.

834 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اَلرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ اَلرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى اَلرِّبَا عِرْضُ اَلرَّجُلِ اَلْمُسْلِمِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَراً، وَالْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ وَصَحَّحَهُ.

===

(لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: دعاء على المذكورين بالإبعاد عن الرحمة.

(آكِلَ اَلرِّبَا) أي: آخذ الربا.

(وَمُوكِلَهُ) بضم الميم، أي: معطي الربا.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث جابر رواه مسلم في صحيحه.

وحديث أبي جحيفة رواه البخاري ولفظه (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ).

وأما حديث ابن مسعود فلفظ ابن ماجه مختصراً (اَلرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا)

وزيادة (أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ اَلرَّجُلُ أُمَّهُ .. ) عند الحاكم.

قَالَ الحاكم: هذا حَدِيث صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وَقَالَ البيهقي: هذا إسنادٌ صحيحٌ، والمتنُ منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلاّ وهماً، وكأنه دَخَل لبعض رواة الإسناد في إسناده.

هذا الحَدِيث فيه علتان:

العلةُ الأولى: تتعلق بمتن الخبر.

وهي أنَّ زيادة (أيسرها مثل أنْ ينكحَ الرجُل أمه، وإنّ أربى الرّبَا عرض الرجُل المسلم) شاذةٌ؛ شذّ بها محمد بن غالب يدل على هذا ثلاثة أمور:

الأوَّل: أنّ ثلاثةً من الرواة رووا الأثر عن عَمْرو بنِ علي -وفيهم أئمة- فلم يذكروا هذه الزيادة وهم: ابن ماجه في سننه والبزار في مسنده وعبد الله بن بُندار الباطرقاني رواه عنه أبو نُعيم في أخبار أصبهان ثلاثتهم ابن ماجه والبزار وعبدالله عن عمرو بن علي به.

وَقَالَ البزار: وهذا الحَدِيث لم نسمع أحداً أسنده بهذا الإسناد إلاّ عَمْرو بن علي.

الثاني: أنَّ المتقنين من أصحاب شعبة -كمحمد بن جعفر، والنضر بن شميل-لم يذكروا هذه الزيادة وسيأتي ذكر رواياتهم.

الثالث: أنّ محمد بنَ غالب وقعت له أوهام من جنس هذا الوهم الذي وقع له في هذا الحَدِيث (انظر: حديثاً آخر وهم فيه محمد بن غالب فأدخل حديثا في حديث في السلسلة الضعيفة للألباني رقم 2، هذا يدل على أنَّ كتابه وقعت فيه بعض الأوهام من دخول حَدِيث في حَدِيث وبين ذلك الدَّارقُطني في قولِهِ عن محمد بن غالب تمتام (ثقة مأمون إلاّ إنّه كان يخطئ، وكان وهم في أحاديث منها

) ثم ذكر مثالاً على حديثٍ وهم فيه.

العلة الثانية: الاختلافُ على شُعْبَة في رفع الحَدِيث ووقفه.

وإنما صح بلفظ (الربا بضع وسبعون باباً، والشرك مثل ذلك)

وأما لفظ (وَإِنَّ أَرْبَى اَلرِّبَا

) فقد صح من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق).

ص: 545

•‌

‌ عرف الربا؟

الربا: لغة هو الزيادة.

واصطلاحاً: مبادلة الربوي بجنسه، أو تأخير القبض فيما يلزم فيه التقابض من الربويات.

وهو ينقسم إلى قسمين:

ربا الفضل: وهو الزيادة في مبادلة مال ربوي بمال ربوي من جنسه.

كمبادلة صاع بر بصاعين من البر، لوجود الزيادة في أحد العوضين.

أو مبادلة مائة غرام من الذهب بمائة وعشرة وإن اختلفا في الجودة.

ربا النسيئة: وهو تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي سواء كان من جنسه أو من غير جنسه إذا اتحدا في العلة.

مثال: كبر ببر أو بشعير بعد شهر، أو ريالات بريالات بعد أسبوع.

وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة عند مبادلة الربوي بربوي من جنسه مع تأخير القبض.

كمائة بمائة وعشرة بعد شهر. [فهنا الجنس واحد وهو الريالات وجد التفاضل 100 بـ 110 فهذا ربا الفضل، ووجد التأخير إلى شهر فهذا ربا النسيئة].

•‌

‌ اذكر بعض النصوص التي تدل على تحريم الربا وأنه من الكبائر؟

أ-قال الله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

ب-وقال سبحانه وتعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).

ج-وقال عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).

قال ابن عباس رضي الله عنهما (هذه آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم.

د-وقال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَأْكُلُواْ الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

هـ-وقال سبحانه وتعالى في شأن اليهود حينما نهاهم عن الربا وحرمه عليهم، فسلكوا طريق الحيل لإبطال ما أمرهم به قال سبحانه في ذلك (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).

و-وقال عز وجل (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُواْ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

ز- عَنْ جَابِر. قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ اَلرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ).

ك- وعن سمرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (

ولَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ،

الحديث وفيه: .... فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، وَرَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قال: وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا) رواه البخاري.

ص- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَات) متفق عليه.

ض-وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) رواه أحمد.

ص: 546

ي- وعن سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، قال: اللهم هل بلّغت؟ قالوا: نعم، ثلاث مرات. قال: اللهم اشهد ثلاث مرّات) رواه ابو داود.

ظ- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام) رواه البخاري.

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تحذيراً من فتنة المال، فهو من بعض دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم بالأمور التي لم تكن في زمنه، ووجه الذّمّ من جهة التّسوية بين الأمرين وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذموماً من حيث هو والله أعلم.

ظ- وعن أبي جحيفة (أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ) رواه البخاري.

قال ابن قدامة: أجمعت الأمة على أن الربا محرم.

- بعض ما ورد في ربا الفضل من النصوص:

أ- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الوَرِق بالورِق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)

قوله (ولا تشفوا بعضها على بعض) سيأتي معناها إن شاء الله.

قوله (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) والمراد بالناجز الحاضر، وبالغائب المؤجّل.

ب-وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدّرهم بالدّرهمين). رواه مسلم

ج-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه مسلم.

د-وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد) رواه مسلم

هـ-وعن أبي سعيد وابي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان) رواه مسلم.

قوله (الجنيب) التمر الطيب.

قوله (بالصاعين من الجمع) نوع من التمر الرديء وقد فسر بأنه الخليط من التمر.

و-وعن أبي سعيد قال (جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء بِعْتُ منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك "أوّه، عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبِعْهُ ببيع آخر ثم اشترِ به).

ص: 547

•‌

‌ ما الحكمة من تحريم الربا.

يلخص العلامة ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر تلك الحكمة في النقاط التالية:

أ-انتهاك حرمة مال المسلم بأخذ الزائد من غير عوض.

ب-الإضرار بالفقير لأن الغالب غنى المقرض وفقر المستقرض فلو مكن الغني من أخذ أكثر من المثل أضر بالفقير.

ج-انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله

د-تعطل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها؛ إذ من يحصل درهمين بدرهم كيف يتجشم مشقة كسب أو تجارة.

•‌

‌ قد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق.

قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)، وقال تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ

) ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء.

فالمتصدق ضد المرابي؛ لأن المتصدق يحسن إلى الناس والمرابي يظلم الناس، ولهذا قال سبحانه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

• هل يجوز للإنسان العمل في بنك يتعامل بالربا، مع أنه لا يقوم في البنك بعمل ربوي، ولكن دخل البنك الكلي ربا؟

لا يجوز لمسلم أن يعمل في بنك تعاملُه بالربا، ولو كان العمل الذي يتولاه ذلك المسلم في البنك غير ربوي؛ لتوفيره لموظفيه الذين يعملون في الربويات ما يحتاجونه، ويستعينون به على أعمالهم الربوية، وقد قال تعالى:(وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). (فتاوى اللجنة الدائمة).

وفي فتوى للجنة أخرى:

أولاً: العمل في البنوك التي تتعامل بالربا حرام، سواء كانت في دولة إسلامية أو دولة كافرة؛ لما فيه من التعاون معها على الإثم والعدوان الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

ثانياً: ليس في أقسام البنك الربوي شيء مستثنى فيما يظهر لنا من الشرع المطهر؛ لأن التعاون على الإثم والعدوان حاصل من جميع موظفي البنك. (فتاوى اللجنة).

وجاء في فتوى للجنة الدائمة أيضاً:

البنوك التي تتعامل بالربا لا يجوز للمسلم أن يشتغل فيها، لما فيه من إعانة لها على التعامل بالمعاملات الربوية، بأي وجه من وجوه التعاون من كتابة وشهادة وحراسة وغير ذلك من وجوه التعاون، فإن التعاون معها في ذلك تعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عنه بقوله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

•‌

‌ وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز العمل في مؤسسة ربوية كسائق أو حارس؟

فأجاب: لا يجوز العمل بالمؤسسات الربوية ولو كان الإنسان سائقاً أو حارساً، وذلك لأن دخوله في وظيفة عند مؤسسات ربوية يستلزم الرضى بها، لأن من ينكر الشيء لا يمكن أن يعمل لمصلحته، فإذا عمل لمصلحته فإنه يكون راضياً به، والراضي بالشيء المحرم يناله من إثمه. أما من كان يباشر القيد والكتابة والإرسال والإيداع وما أشبه ذلك فهو لا شك أنه مباشر للحرام.

قد ثبت من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء)(من موقع الإسلام س ج)

ص: 548

835 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَبِيعُوا اَلذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا اَلْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

836 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ اَلصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ اَلْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

837 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اِسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(لَا تَبِيعُوا اَلذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي: متساويين، وجاء في حديث أبي هريرة بيان أن التساوي يكون بالوزن.

(وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ) أي: لا تزيدوا بعضها على بعض.

(وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ) الناجز الحاضر، في هذا إشارة إلى التقابض.

(اَلذَّهَبُ بِالذَّهَبِ) أي: بيع الذهب بالذهب، ولفظ الذهب عام يدخل فيه جميع أصنافه، من مضروب، ومنقوش وجيد، ورديء.

(مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ) وفي الرواية الأخرى (إلا مثلاً بمثل) أي: متساويين.

(يَدًا بِيَدٍ) حال، أي: متقابضين في مكان التبايع قبل أن يتفرقا.

(فَمَنْ زَادَ أَوْ اِسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا) أي: فمن أعطى زيادة على قدر المبيع الآخر من جنسه، أو طلب الزيادة فهذا الزائد ربا

1 -

الحديث دليل على أن الأموال الربوية ستة، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح.

فيؤخذ من أحاديث الباب‌

‌ ضوابط الربا:

أولاً: إذا بيع الربوي بجنسه مشاركاً له في العلة فلا بد من شرطين:

المماثلة (في الوزن) - التقابض في مجلس العقد.

مثال: ذهب بذهب (لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة).

فضة بفضة (لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة).

بر ببر (لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة).

ثانياً: إذا بيع الربوي بغير جنسه لكنه مشارك له في العلة فيشترط شرط واحد وهو: القبض.

مثال: ذهب بفضة يشترط شرط واحد التقابض. (لأن الذهب غير جنس الفضة لكنه مشارك له في العلة كما سيأتي).

مثال: باع 10 آصع من البر بـ 100 صاع من الشعير يجوز بشرط واحد وهو التقابض. [لأن التمر غير جنس الشعير لكنه مشارك له في العلة].

ومثل: بيع الريالات بالدولارات، فكلاهما اتحدا في العلة (وهي الثمنية) لكن اختلفت في الجنس (هذه ريالات وهذه دولارات) فإنه يجوز بشرط التقابض.

لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).

ثالثاً: إذا بيع الربوي بغير جنسه ولم يكن مشاركاً له في العلة فإنه لا يشترط شيء، يجوز التفاضل والتفرق.

مثال: ذهب بشعير، يجوز مطلقاً من غير شروط.

مثال: فضة ببر يجوز مطلقاً من غير شروط.

ص: 549

مسألة مهمة: جودة أحد الجنسين لا تبرر زيادة أحدهما على الآخر.

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا». فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا تَفْعَلْ بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) متفق عليه.

(الجنيب) التمر الطيب، (الجمْع) الرديء.

قال الشوكاني: والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلاً، وهذا أمر مجمع عليه.

2 -

أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريقة السليمة البعيدة عن الربا، التي يسلكها من أراد أن يستبدل التمر الجيد بالتمر الرديء، وذلك بأن يبيع التمر الرديء بدراهم ويشتري بالدراهم تمراً جيداً، وهذه الطريقة تتبع في كل ربوي يراد استبداله بربوي أحسن منه، لأن الجودة في أحد الجنسين لا تبرر الزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر.

•‌

‌ هل يجري الربا في غير هذه الأصناف الستة مما هو مثلها أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن تحريم الربا محصور في هذه الأشياء الستة لا يتجاوزها إلى غيرها.

يروى هذا القول عن قتادة وهو قول أهل الظاهر وقال به أيضاً طاوس، وعثمان البتي، وأبو سليمان.

وممن اختار هذا القول الإمام الصنعاني حيث يقول في سبل السلام: ولكن لما لم يجدوا - أي الجمهور - علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها، وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها:(القول المجتبى).

واختاره من الحنابلة ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس.

القول الثاني: أنه يلحق بها ما شاركها في العلة.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-واستدلوا بحديث معمر بن عبدالله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الطعام بالطعام مثلاً بمثل

) ولفظ (الطعام) أعم من الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة.

ب-واستدلوا أيضاً بالمعنى، وذلك أن ما وافقها في العلة يجب أن يأخذ حكمها، مراعاة لمقصود الشارع في التحريم، فما دام أن العلة واضحة وموجودة في غير هذه الأصناف فليحكم بالإلحاق، لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين مختلفين، قالوا: وقد اقتصر الحديث على الأصناف الستة من باب الاكتفاء بالأشياء التي لا يستغني عنها الناس عادة.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 550

•‌

‌ ما علة التحريم في هذه الأشياء الستة؟

اختلف العلماء في علة التحريم في هذه الأموال على أقوال:

أولاً: علة الربا في النقدين.

أرجح الأقوال: أن العلة فيهما مطلق الثمنية، أي أنهما أثمان للأشياء.

وهذا قول المالكية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأظهر أن العلة في ذلك هي الثمنية لا الوزن.

جاء في مجلة البحوث الإسلامية: فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:

أولاً: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان كالفلوس وهذا يقتضي ما يلي:

أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.

ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلاً سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالاً سعودياً ورقاً.

ج - يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقاً كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. (أبحاث هيئة كبار العلماء).

وعلى هذا: فيجري الربا في كل ما اتخذه الناس عملة وراج رواج النقدين، مثل الأوراق النقدية الآن، وعلى هذا فلا يجوز بيع (15) ريالاً سعودياً ورقاً بـ (16) ريالاً سعودياً ورقاً، ويجوز بيع بعضها ببعض من غير جنسها إذا كان يداً بيد، كما لو باع ورق نقد سعودي بليرة سورية أو لبنانية أو كويتية، لأن العملات الورقية أجناس متعددة بتعدد جهات إصدارها.

•‌

‌ ما علة التحريم في الأربعة الباقية. (التمر والشعير والملح والبر)؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أن العلة هي الطعم مع الكيل. (إذا يلحق بها كل مكيل ومطعوم).

ورجح هذا القول ابن قدامة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

وعلى هذا القول: الأرز يجري فيه الربا، لأنه مطعوم ومكيل، وكذلك: الذرة والدهن والعدس واللحم ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال كالرمان والسفرجل والبيض والأترج والتفاح، والأشنان مكيل لكنه غير مطعوم فلا يجري فيه الربا.

واستدل هؤلاء بأن الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة مطعومة مكيلة، فيلحق بها كل ما كان كذلك.

القول الثاني: أن العلة هي الاقتيات والادخار.

أي كون الطعام قوتاً يقتات به الناس غالباً، ويدخره مدة من الزمن فلا يفسد، وعلى هذا القول فيجري الربا في الأرز والقمح والذرة ونحوها.

وهذا مذهب مالك، واختاره ابن القيم.

ص: 551

واستدل هؤلاء بحديث عبادة، قالوا: إن الأصناف المذكورة في حديث عبادة يجمعها وصف الاقتيات والادخار.

القول الثالث: أن العلة في هذه الأربعة هي الطعمية - أي كونها مطعومة -.

وهذا قول الشافعي.

القول الرابع: أن العلة في الأربعة المذكورة هي الكيل ولو كانت غير مطعومة.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.

قال العلامة الشنقيطي: وهذا القول أظهر دليلاً.

أمثلة:

مبادلة تفاحة بتفاحتين، هل يجري الربا؟

عند الحنفية والحنابلة: لا يجري؛ لأنها ليست مكيلة ولا موزونة، بل معدودة.

وعند الشافعية: يجري؛ لأنها مطعومة.

وعند الإمام مالك: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، وليست مقتاتة تدّخر.

صاع برّ بصاعين:

عند الحنابلة والحنفية: يجري؛ لأنها مكيلة.

وعند الشافعية: يجري؛ لأنها مطعومة.

وعند المالكية: يجري؛ لأنها مدّخرة ومقتاتة.

وعند شيخ الإسلام: يجري، لأنها مطعومة ومكيلة.

كيلو حديد بكيلوين حديد:

عند الحنفية والحنابلة: يجري؛ لأنها موزونة.

وعند الشافعية: لا يجري فيها الربا؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، ولا مطعومة.

وعند الإمام مالك: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، ولا يقتات ولا يدّخر.

وعند شيخ الإسلام: لا يجري؛ لأن العلة عنده الثمنية، أو الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن.

قلم بقلمين:

عند الحنفية والحنابلة: لا يجري؛ لأنها ليست مكيلة ولا موزونة، بل معدودة.

وعند الشافعية: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، وليست طعماً؛ لأن العلة عندهم غلبة الطعم أو غلبة الثمنية - الاقتصار على الذهب والفضة -.

وعند المالكية: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، وليست مقتاتة ولا مدّخرة.

وعند شيخ الإسلام: لا يجري؛ لأنه يرى أن العلة الثمنية، والطعم مع الوزن أو الطعم مع الكيل.

فائدة:

قال ابن قدامة: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ، مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ الرِّبَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، كَالْأُرْزِ، وَالدُّخْنِ، وَالذُّرَةِ، وَالْقُطْنِيَّاتِ، وَالدُّهْنِ، وَالْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، وَ، وَنَحْوِهِ.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، سِوَى قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ شَذَّ عَنْ جَمَاعَةِ النَّاسِ، فَقَصَرَ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ. (المغني).

ص: 552

ثم قال رحمه الله: وَمَا انْعَدَمَ فِيهِ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَالطَّعْمُ، وَاخْتَلَفَ جِنْسُهُ، فَلَا رِبَا فِيهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.

وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالتِّينِ، وَالنَّوَى، وَالْقَتِّ، وَالْمَاءِ، وَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً، فَيَكُونُ مَوْزُونًا مَأْكُولًا، فَهُوَ إذًا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. (المغني).

•‌

‌ ما أنواع الربا؟

الربا نوعان - كما تقدم - ربا نسيئة وربا فضل.

فالنوع الأول ربا النسيئة - من النساء بالمد وهو التأخير - هو نوعان:

أحدهما: قلب الدين على المعسر، وهذا هو أصل الربا في الجاهلية:

أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي، فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال والأصل واحد.

وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين، قال الله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، فإذا حل الدين وكان الغريم معسراً لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب الدين عليه بل يجب إنظاره.

وإن كان موسراً كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره لكن الكفار يعارضون حكم الله في ذلك ويقولون (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا).

الثاني: من نوعي ربا النسيئة: ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما - ويسميه بعضهم: ربا اليد -

كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، وكذا بيع جنس بآخر من هذه الأجناس مؤجلاً، وما شاركها في العلة يجري مجراها في هذا الحكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد) في أحاديث كثيرة جاءت بمعناه.

فقوله صلى الله عليه وسلم (يداً بيد) يعني الحلول والتقابض قبل التفرق في بيع هذه الأشياء بعضها ببعض، ويقاس عليها ما شاركها في العلة.

النوع الثاني: ربا الفضل.

وتعريفه: هو الزيادة في مبادلة مال ربوي بمال ربوي من جنسه.

كمبادلة صاع بر بصاعين من البر، لوجود الزيادة في أحد العوضين.

أو مبادلة مائة غرام من الذهب بمائة وعشرة وإن اختلفا في الجودة.

وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة عند مبادلة الربوي بربوي من جنسه مع تأخير القبض.

كمائة بمائة وعشرة بعد شهر. [فهنا الجنس واحد وهو الريالات وجد التفاضل 100 بـ 110 فهذا ربا الفضل، ووجد التأخير إلى شهر فهذا ربا النسيئة].

ص: 553

•‌

‌ اذكر مقارنة بين ربا النسيئة وربا الفضل:

أولاً: ربا النسيئة ربا جلي وربا الفضل ربا خفي، وربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكان الدائن يؤخر الدين عن المدين ويزيده عليه، وكلما أخر زاد الدين حتى تصير المائة آلافاً مؤلفة.

ثانياً: ربا النسيئة حرم قصداً لما فيه من الضرر العظيم، وهو إثقال كاهل المدين من غير فائدة تحصل له، وربا الفضل حرم لأنه وسيلة لربا النسيئة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما) والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك إذا باعوا درهما بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت بين النوعين إما في الجودة أو غيرها، فإنهم يتدرجون من الربح المعجل إلى الربح المؤخر وهو ربا النسيئة.

ثالثاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه إجماعاً قطعياً، وربا الفضل وقع فيه خلاف ضعيف.

رابعاً: ربا النسيئة لم يبح منه شيء، وربا الفضل أبيح منه ما دعت الحاجة إليه، كذا يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، قال: لأن ما حرم سدً للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد.

•‌

‌ هل ذهب أحد إلى جواز ربا الفضل، وما دليلهم؟

ذهب بعض الصحابة كابن عباس وجماعة إلى جواز ربا الفضل.

واستدلوا بحديث أسامة بن زيد. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا ربا إلا في النسيئة) متفق عليه.

قال ابن قدامة: وَالرِّبَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا.

وَقَدْ كَانَ فِي رِبَا الْفَضْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؛ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ).

والراجح تحريمه وهو قول جماهير العلماء للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد تقدم ذكرها.

•‌

‌ ما الجواب عن حديث (لا ربا إلا في النسيئة)؟

أجاب جمهور العلماء عن حديث أسامة بأجوبة:

الجواب الأول: أنه منسوخ.

قال النووي: وأما حديث أسامة (لا ربا إلا في النسيئة) فقال قائلون: بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره وهذا يدل على نسخه.

وقال الحافظ ابن حجر: اتفق العلماء على صحة حديث أسامة واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد.

فقيل: منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

وقال الشوكاني: لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

الجواب الثاني: أنه حديث مجمل والأحاديث التي تمنع ربا الفضل مبينة، فيجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه.

الجواب الثالث: أنه رواية صحابي واحد، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ناطقة بمنع ربا الفضل، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد عن الخطأ من رواية الواحد.

الجواب الرابع: أن المعنى في قوله (لا ربا إلا في النسيئة) أي: الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل. (قاله النووي).

ص: 554

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: كان معتمد ابن عباس وابن عمر حديث أسامة ابن زيد (إنما الربا في النسيئة) ثم رجع ابن عمر وابن عباس عن ذلك، وقالا بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض، متفاضلاً حين بلغهما حديث أبي سعيد كما ذكره مسلم من رجوعهما صريحاً، وهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تدلّ على أن ابن عمر وابن عباس لم يكن بلغهما حديث النهي عن التفاضل في غير النسيئة، فلما بلغهما رجعا إليه.

وأيضاً نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم فيقدم عليه حديث أبي سعيد، لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدّم. والله أعلم.

•‌

‌ هل البر والشعير صنفان أم صنف واحد؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنهما صنف واحد.

وهذا مذهب مالك والليث.

القول الثاني: أنهما صنفان.

وهذا قول جماهير العلماء.

لعطف أحدهما على الآخر.

قال القرطبي: وقوله: (البُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير) دليل على أنهما نوعان مختلفان؛ كمخالفة التمر للبُرٍّ؛ وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، وابن عُلّيَّة، وفقهاء أهل الحديث.

وذهب مالك، والأوزاعي، والليث، ومعظم علماء المدينة والشام: إلى أنهما صنف واحد. وهو مروي عن عمر، وسعيد، وغيرهما من السَّلف متمسكين، بتقاربهما في المنبت، والمحصد، والمقصود؛ لأن كل واحد منهما في معنى الآخر، والاختلاف الذي بينهما إنما هو من باب مخالفة جيِّد الشيء لرديئه. (المفهم).

• إذا باع إنسان مصاغاً من الذهب لآخر، وليس مع المشتري بعض القيمة أو كل القيمة، ولا بعد أيام أو شهر أو شهرين فهل هذا جائز أو لا؟

إذا كان الثمن الذي اشترى به مصاغ الذهب ذهبا أو فضة أو ما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية أو مستنداتها لم يجز، بل هو حرام؛ لما فيه من ربا النسيئة. وإن كان الشراء بعروض كقماش أو طعام أو نحوهما جاز تأخير الثمن. (فتاوى اللجنة)

•‌

‌ هل يلزم تسديد أجرة التصنيع عند استلام الذهب أو نعتبره حساباً جارياً؟

لا يلزم أن يسدد لأن هذه الأجرة على عمل، فإن سلمها حال القبض: فذاك، وإلا متى سلمها صح. (الشيخ ابن عثيمين)

•‌

‌ سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن بيع العملة القديمة بأكثر من قيمتها؟

فأجاب: ليس فيه بأس؛ لأن العملة القديمة أصبحت غير نقد، فإذا كان مثلاً عنده من فئة الريال الأولى الحمراء أو من فئة خمسة أو عشرة التي بطل التعامل بها وأراد أن يبيع ذات العشرة بمائة فلا حرج؛ لكونها أصبحت سلعة ليست بنقد، فلا حرج. (لقاء الباب المفتوح)

ص: 555

838 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اِسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرٍ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ " فَقَالَ: لَا، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ اَلصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلْ، بِعِ اَلْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اِبْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا - وَقَالَ فِي اَلْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اِسْتَعْمَلَ رَجُلًا) وفي الرواية الأخرى (بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر فأمّره عليها

).

(عَلَى خَيْبَرٍ) بلدة معروفة.

(فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ) نوع من أعلى أنواع التمر.

(إِنَّا لَنَأْخُذُ اَلصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ) وفي رواية البخاري (إنا نشتري الصاع بالصاعين من الجمْع). قال النووي: الجمع تمر رديء.

(فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلْ) أي: لا تبيع الصاع بالصاعين، وفي الرواية الأخرى (ولكن مثلاً بمثل) أي: بيعوا الجنس الواحد بعضه ببعض متماثلاً في الكيل.

(بِعِ اَلْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ

) أي: بع هذه التمر الردء بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيباً.

(وَقَالَ فِي اَلْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ) أي: مثل ما قال في المكيل من أنه لا يجوز بيع بعض الجنس منه ببعضه متفاضلا وان اختلفا في الجودة والرداءة، بل يباع رديئه بالدراهم ثم يشتري بهذا الجيد، والمراد بالميزان هنا الموزون.

•‌

‌ على ماذا يدل الحديث؟

الحديث يدل على تحريم التفاضل بين نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية.

فاختلاف الجنس في الجودة والرداءة لا يؤثر في منع الربا.

قال الشوكاني: الحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلاً، وهذا أمر مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم فيه.

وأما سكوت الرواة عن فسخ البيع المذكور فلا يدل على عدم الوقوع أما ذهولاً وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا هو الربا فرده كما بنه على ذلك في الفتح. (نيل الأوطار).

مثال: لا يجوز أن تبيع (100) قمح جيد بـ (110) رديء، لأنه ربا.

وقد جاء في حديث أبي سَعِيد قال (جَاءَ بِلَالٌ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مِنْ أَيْنَ هَذَا». فَقَالَ بِلَالٌ تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ) متفق عليه.

ففي هذا الحديث جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني جيد، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جودته، فقال: من أين هذا، فقال بلال: كان عندنا تمر، فبعت الصاعين من الرديء بصاع من هذا الجيد، ليكون مطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بلال بأن عمله هذا هو عين الربا، فلا تفعل ثم أرشده للطريقة الصحيحة، وهي إذا أراد استبدال رديء بجيد، أن يبيع الرديء بدراهم ثم اشتر بالدراهم تمراً جيداً.

قال النووي رحمه الله: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَوَّهْ عَيْن الرِّبَا) قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ كَلِمَة تَوَجُّع وَتَحَزُّن، وَمَعْنَى عَيْن الرِّبَا: أَنَّهُ حَقِيقَة الرِّبَا الْمُحَرَّم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- شدة إكرام الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم.

- تحريم ربا الفضل.

- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

- تعظيم أمر الربا.

- وجوب إنكار المنكر.

- لا ذنب على الجاهل.

- ينبغي للعالم والمفتي إذا أخبر بتحريم شيء، أن يبين للناس أبواب الحلال التي تغني عن الحرام.

- عظم المعصية، وكيف بلغت من نفس النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 556

839 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلصُّبْرَةِ مِنَ اَلتَّمْرِ لا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا بِالْكَيْلِ اَلْمُسَمَّى مِنَ اَلتَّمْرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(عَنْ بَيْعِ اَلصُّبْرَةِ) بضم الصاد المهملة، وسكون الموحدة، وهي الطعام المجتمع، كالكومة.

(لا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا) أي: لا يعلم مقدار تلك الصبرة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: النهي عن بيع الصبرة من التمر - وهي الكومة - التي يعلم كيلها، بتمر آخر علم كيله.

قال الشوكاني: والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار. (نيل الأوطار)

لأن الصبرة يُجهل كيلها ومقدارها، فالتساوي غير معلوم، فيكون ربا، لأن بيع التمر بالتمر لابد من شرطين: التساوي، والتقابض كما تقدم، وهذا لا يتم إلا بمعرفة كل من العوضين.

وقال ابن قدامة: وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا أَوْ كَانَ جُزَافًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ.

وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ، لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ).

وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ) إلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ شَرْطٌ، وَالْجَهْلُ بِهِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ، كَحَقِيقَةِ التَّفَاضُلِ. (المغني).

وقال النووي: هذا تصريح بتحريم بيع التمر بالتمر حتى يعلم المماثلة، قال العلماء: لأن الجهل بالمماثلة في هذا الباب كحقيقة المفاضلة، لقوله صلى الله عليه وسلم (إلا سواءً بسواء) ولم يحصل تحقق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الربويات إذا بيع بعضها ببعض حكم التمر بالتمر. (شرح مسلم)

- قال المجد ابن تيمية: الحديث يدل بمفهومه على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز.

ص: 557

840 -

وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَلطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ اَلشَّعِيرَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

•‌

‌ اذكر الحديث بطوله؟

عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ فَقَالَ بِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيراً. فَذَهَبَ الْغُلَامُ فَأَخَذَ صَاعاً وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَراً أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ». قَالَ وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. قِيلَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ قَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِع). رواه مسلم

(أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ) أي: خادمه.

(بصَاعِ قَمْحٍ) وهو البر.

(فَقَالَ بِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيراً) أي: بثمنه.

(فَذَهَبَ الْغُلَامُ فَأَخَذَ صَاعاً) أي: من الشعير.

(فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ) أي: بيع صاع القمح بصاع الشعير والزيادة.

(وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ) أي: لا تأخذ الشعير بالقمح إلا متماثلين في الكيل.

(قِيلَ لَهُ) أي: لمعمر.

(فَإِنَّهُ) أي: الشعير.

(لَيْسَ بِمِثْلِهِ) أي: مثل القمح، يعني أنه ليس من جنسه، أي: أن القمح والشعير جنسان مختلفان، فلا يحرم فيهما التفاضل، فلماذا تريد أن تفسخ هذا البيع؟

(قَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِع) أي: يشابه، ومعناه أخاف أن يكون في معنى المماثل، فيكون له حكمه في تحريم الربا.

•‌

‌ من الذي استدل بهذا الحديث على أن الحنطة والشعير جنس واحد؟

الذي استدل به مالك، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً.

قال النووي: وَاحْتَجَّ مَالِك بِهَذَا الْحَدِيث فِي كَوْن الْحِنْطَة وَالشَّعِير صِنْفًا وَاحِدًا لَا يَجُوز بَيْع أَحَدهمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُمَا صِنْفَانِ يَجُوز التَّفَاضُل بَيْنهمَا كَالْحِنْطَةِ مَعَ الْأَرُزّ، وَدَلِيلنَا مَا سَبَقَ عِنْد قَوْله صلى الله عليه وسلم:(فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاس فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ) مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي حَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا بَأْس بِبَيْعِ الْبُرّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِير أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ " وَأَمَّا حَدِيث مَعْمَر هَذَا فَلَا حُجَّة فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح بِأَنَّهُمَا جِنْس وَاحِد، وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ ذَلِكَ فَتَوَرَّعَ عَنْهُ اِحْتِيَاطًا.

وقال القرطبي: قوله (البُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير) دليل على أنهما نوعان مختلفان؛ كمخالفة التمر للبُرٍّ؛ وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، وابن عُلّيَّة، وفقهاء أهل الحديث.

وذهب مالك، والأوزاعي، والليث، ومعظم علماء المدينة والشام: إلى أنهما صنف واحد. وهو مروي عن عمر، وسعيد، وغيرهما من السَّلف متمسكين، بتقاربهما في المنبت، والمحصد، والمقصود؛ لأن كل واحد منهما في معنى الآخر، والاختلاف الذي بينهما إنما هو من باب مخالفة جيِّد الشيء لرديئه. (المفهم).

وقال رحمه الله: قد تقدَّم ذكر الخلاف في عدَّ البُرِّ والشعير صنفًا واحدًا بما يغني عن إعادته، لكنا نبيِّن في هذا الحديث: أن حديث معمر لا حجَّة فيه لأصحابنا، وإن كانوا قد أطبقوا على الاحتجاج به. ووجه ذلك: أن غايتهم في التمسك به أن يحتجوا بمذهب معمر. وهو قول صحابي، وهو أعلم بالمقال، وأقعد بالحال.

قال: إن قول معمر هذا رأي منه، لا رواية، وما استدل به من قوله صلى الله عليه وسلم (الطَّعام بالطَّعام) لا حجَّة له فيه؛ لأنه إن حمل على عمومه لزم منه: ألا يباع التمر بالبُرِّ، ولا الشعير بالملح، إلا مثلاً بمثل. وذلك خلاف الإجماع، فظهر: أن المراد به: الجنس الواحد من الطَّعام. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الأجناس المختلفة في حديث عبادة بن الصامت وغيره، وفصَّلها واحدًا واحدًا، ففصل التمر عن البر، والشعير عنه، ثم قال بعد ذلك (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم) ثم الظاهر من فتيا معمر: إنما كانت منه تقيه وخوفاً. ألا ترى نصَّه، حيث قال: إني أخاف أن يُضَارع؟! والحجَّة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره. (المفهم)

ص: 558

841 -

وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: (اِشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاِثْنَيْ عَشَرَ دِينَاراً، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَلْتُهَا فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ اِثْنَيْ عَشَرَ دِينَاراً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(اِشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ) أي: يوم غزوة خيبر، وذلك بعد انتهاء المعركة وتقسيم المغانم، جاء في رواية (وهي من المغانم).

قال القرطبي: كان بيع هذه القلادة بعد قَسْم الغنيمة، وبعد أن صارت إلى فَضالة في سهمه، ولأن الغنيمة لا يتصرف في بيع شيء منها إلا بعد القِسمة.

(قِلَادَةً) بكسر القاف، ما يجعل في العنق من حلي وغيره.

(وَخَرَزٌ) بفتح الخاء والراء، جمع خرزة، وهي حبات مثقوبة تصنع من أي نوع، وتنظم في سلك ويتزين بها.

•‌

‌ هل وقع اضطراب في هذا الحديث؟

وقع اضطراب في هذا الحديث مضمونه:

أن في بعض الروايات: قال فضالة: اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً.

وفي بعضها: اشتراها رجل بسبعة أو تسعة دنانير، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي بعضها: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، نبايع اليهود: الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتبيعوا

الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن، وهذه ليس فيه أي إشارة للقلادة.

وفي بعضها: عن حنش، أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق، وجوهر، فأردت أن أشتريها، فسألت فضالة بن عبيد.

ففي هذه الرواية ما يدل على أن القصة وقعت لتابعي، وفي غيرها أن القصة وقعت للصحابي.

وفي بعضها: قلادة فيها خرز وذهب، وفي بعضها ذهب وورق، وجوهر.

وقد أجاب بعض أهل العلم عن دعوى الاضطراب بجوابين:

أحدهما: القول بتعدد الأحاديث.

ذهب إلى ذلك البيهقي، والسبكي، وابن حجر في أحد قوليه.

قال البيهقي في السنن (5/ 293) سياق هذه الأحاديث مع عدالة رواتها تدل على أنها كانت بيوعاً شهدها فضالة كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم ينهي عنها، فأداها كلها، وحنش الصنعاني أداها متفرقاً، والله أعلم.

وقال ابن حجر متعقباً في النكت على ابن الصلاح (2/ 795) بل هما حديثان لا أكثر، رواهما جميعاً حنش بألفاظ مختلفة، وروي عن علي بن رباح أحدهما» ثم بين ابن حجر أن أحد الحديثين في قصة وقعت للصحابي، وحديث آخر في قصة وقعت للتابعي، فوضح أنهما حديثان لا أكثر.

ص: 559

الجواب الثاني: ما اختاره ابن حجر في تلخيص الحبير، قال: والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها، وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، ويكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة.

وقال ابن حجر في النكت: «هذا كله - يعني الاختلاف في الحديث - لا ينافي المقصود من الحديث، فإن الروايات كلها متفقة على المنع من بيع الذهب بالذهب ومعه شيء آخر غيره، فلو لم يمكن الجمع لما ضر الاختلاف والله أعلم.

•‌

‌ ما حكم بيع ذهب بذهب مع غيره؟

حرام.

قال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ لا يَجُوز بَيْع ذَهَب مَعَ غَيْره بِذَهَبٍ حَتَّى يُفَصَّل، فَيُبَاع الذَّهَب بِوَزْنِهِ ذَهَبًا، وَيُبَاع الآخَر بِمَا أَرَادَ، وَكَذَا لا تُبَاع فِضَّة مَعَ غَيْرهَا بِفِضَّةٍ

وَسَوَاء كَانَ الذَّهَب فِي الصُّورَة قَلِيلا أَوْ كَثِيرًا

وَهَذَا مَنْقُول عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه وَابْنه، وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد. (شرح مسلم)

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن بيع الذهب الذي معه فصوص الزركون بذهب بنفس الوزن؟

فأجاب: هذا العمل محرم لأنه مشتمل على الربا، لأن فيه زيادة الذهب، حيث جعل ما يقابل الفصوص وغيرها ذهباً، وهو شبيه بالقلادة التي ذكرت في حديث فضالة بن عبيد حيث اشتري قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً، ففصلها فوجد فيه أكثر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تباع حتى تفصل).

•‌

‌ ما حكم شراء الذهب عبر الإنترنت؟

من المعلوم أن من شروط بيع وشراء الذهب بالنقود في الإسلام أن يحصل التقابض عند العقد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلاً بمثل سواء بسواء يد بيد

، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). رواه مسلم

وأنا أظن أن شراء الذهب عبر الإنترنت لا يحصل يداً بيد لأنك ترسل لهم القيمة ثم يرسلون لك الذهب بعد مدة، فإذا كان الأمر كذلك فالبيع بهذه الطريقة محرم، ويحرم عليك أن تجلب الزبائن لهذه الشركة، لقول الله تعالى:(ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

لكن لو حصل الاستلام والتسليم فوراً في مجلس العقد يجوز لك القيام بالدلالة وجلب زبائن لهذه الشركة وأخذ أجرة على هذه الدلالة. (الإسلام سؤال وجواب)

ص: 560

842 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ.

843 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتْ اَلْإِبِلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصِ اَلصَّدَقَةِ. قَالَ: فَكُنْتُ آخُذُ اَلْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ اَلصَّدَقَةِ) رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَات.

===

(عَلَى قَلَائِصِ اَلصَّدَقَةِ) القلوص الناقة الشابة القوية.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث سمرة، من طريق الحسن عن سمرة، وهذا فيه خلاف هل سمع منه أم لم يسمع.

حسنه بعض العلماء بشواهده.

وحديث عبد الله بن عمرو حديث حسن.

•‌

‌ ما حكم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: يحرم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.

وهذا مذهب الحنفية، ورجحه الشوكاني.

أ-لحديث سمرة (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ).

ب- وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة).

القول الثاني: يجوز بيع الحيوان بالحيوان مطلقاً، ولو كان من جنسه، متفاضلاً يداً بيد، أو متفاضلاً نسيئة، كمن يبيع بعيراً ببعيرين حالا أو إلى أجل.

وهذا مذهب الشافعية ورواية عند الحنابلة.

أ-واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو (فَكُنْتُ آخُذُ اَلْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ اَلصَّدَقَةِ).

ب-ما رواه مالك والشافعي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملا يدعى (عصيفيراً) بعشرين بعيراً إلى أجل.

ج-ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً، أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة، يوفيها صاحبها بالربذة.

د-ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا، ووصله عبد الرزاق، أن رافع بن خديج اشترى بعيراً ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غداً.

هـ - ما رواه البخاري ومالك، عن سعيد بن المسيب أنه قال (لا ربا في الحيوان).

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني؟

قال الشوكاني: لا شك أن أحاديث النهي وإن كان كل واحد منها لا يخلو من مقال، لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من الصحابة، سمرة، وجابر بن سمرة، وابن عباس، وبعضها يقوي بعضاً، فهي أرجح من حديث واحد غير خال من المقال، وهو حديث عبد الله بن عمرو، ولا سيما وقد صحح الترمذي وابن الجارود حديث سمرة، وقد تقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة

وأما الآثار الواردة عن الصحابة فلا حجة فيها، وعلى فرض ذلك فهي مختلفة. (مجلة البحوث الإسلامية)

ص: 561

•‌

‌ ما حكم بيع اللحم بالحيوان؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه.

وهذا مذهب الشافعية، وهو قول الفقهاء السبعة.

أ- لما روى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان) رواه مالك والبيهقي، وهو مرسل.

ب- ولحديث سهل بن سعد. أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) أخرجه الدارقطني، وضعفه وأقره الحافظ ابن حجر والبيهقي بالغلط في إسناده، قال ابن عبد البر: إنه حديث موضوع.

القول الثاني: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، ويجوز بغير جنسه.

وهذا مذهب المالكية، والحنابلة.

وقد استدلوا بأدلة أصحاب القول الأول، لكنهم خالفوهم في أن اللحم كله جنس واحد، بل قالوا: هو أجناس، فلذا حرم في بيعه بجنسه وجاز بغير جنسه لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم).

القول الثالث: أنه إذا كان المقصود اللحم، فيحرم سواء بيع بجنسه أو بغير جنسه، أما إذا لم يقصد اللحم (كركوب أو تأجير أو حرث) فيجوز.

وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.

وسبب التحريم إذا أريد بالحيوان اللحم، لأنه باع لحماً بلحم من غير تماثل.

وأما بيع اللحم باللحم، فإن اللحم أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم البقر جنس، ولحم الضأن جنس، فلا يجوز بيع اللحم بلحم من جنسه إلا بالتساوي، فلا يباع كيلو من لحم الضأن بكيلوين منه، ويجوز كيلو من البقر بكيلوين من لحم الضأن لاختلاف الجنس.

ص: 562

844 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ اَلْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ اَلْجِهَادَ، سَلَّطَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ.

وَلِأَحْمَدَ: نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ اَلْقَطَّانِ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث فيه ضعف، وقد جاء من غير وجه، ولا يصح، وذهب شيخ الإسلام، وابن القيم، إلى تقويته بمجموع طرقه 0

الحديث صححه الطبري في "مسند ابن عمر"(1/ 108) وابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(29/ 30) والألباني في "السلسلة الصحيحة"(رقم/ 11).

•‌

‌ عرف العينة؟

العينة مشتقة من العين، لأن صاحبها محتاج إلى العين، وهي النقد وما يقوم مقامه، وقيل: مشتقة من العَون، لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده.

واصطلاحاً: أن يقوم البائع ببيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها ممن باعها عليه بأقل من ذلك الثمن نقداً.

وقال الشيخ ابن عثيمين: مثال بيع العينة: أنا بعت على زيد سيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، ثم إني اشتريتها من هذا الرجل بثمانية عشر ألفاً، فهذا حرام لا يجوز؛ لأنه يتخذ حيلة إلى أن أبيع السيارة بيعاً صورياً بعشرين ألفاً، ثم أعود فأشتريها بثمانية عشر ألفاً نقداً، فيكون قد أخذ مني ثمانية عشر ألفاً وسيوفيني عشرين ألفاً وهذا ربا، فهذا لا يجوز؛ لأنه حيلة واضحة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما:(دراهم بدراهم وبينهما حريرة) وهذه تسمى مسألة العِينة؛ لأن الرجل أعطى عيناً وأخذ عيناً، والعين: النقد؛ الذهب والفضة. (الممتع)

وقال رحمه الله: وهي: مثل أن يكون محتاج إلى دراهم فلا يجد من يقرضه، فيقوم ويشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً، سميت بذلك لأن البائع رجع إليه عين ماله.

•‌

‌ ما حكم بيع العينة؟

اختلف العلماء في حكمها على قولين:

القول الأول: أنها حرام.

وهذا قول جماهير العلماء.

لظهور الحيلة الربوية في هذا النوع من البيوع.

قال محمد بن الحسن الشيباني في إحدى صور العينة - كما في "فتح القدير"(7/ 213) هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، اخترعه أَكَلَةُ الربا.

قال ابن قدامة: أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

ص: 563

وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ ثَمَنٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا فَجَازَ مِنْ بَائِعِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا. (المغني).

أ- لحديث الباب.

ب-وقد عقد الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "المصنف"(8/ 184) باباً قال فيه:

" باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد اشتراءها بنقد:

أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته: أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة، فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت! وبئس والله ما اشترى! أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل، قالت:(من جاءه موعظة من ربه فانتهى) الآية، أو قالت:(إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم).

قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التعليق"(2/ 558): إسناد جيد. وصححه الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 16) وصححه ابن القيم في (إعلام الموقعين) ورد على المخالفين في ذلك

ج- أن القول بالتحريم هو المنقول عن عدد من الصحابة، كعائشة، وابن عباس، وأنس.

- عائشة سبق في الأثر السابق.

- وأما ابن عباس: حين سئل ابن عباس عن حريرة بيعت إلى أجل، ثم اشتريت بأقل. فقال: دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة. رواه سعيد وغيره، وجاء نحوه عند عبد الرزاق في مصنفه.

وسئل أنس عن العينة، فقال: إن الله لا يُخْدَع هذا مما حرم الله ورسوله. عزاه ابن القيم لمطين في كتاب البيوع 0

د- حديث أبي هريرة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة) رواه الترمذي، والعينة هي المقصودة في هذا الخبر.

هـ-ولأنه ذريعة إلى الربا، ليستبيح بيع ألف بنحو خمسمائة إلى أجل، والذريعة معتبرة في الشرع بدليل منع القاتل من الإرث. (المغني)

هـ- أن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا، بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، ولهذا نقل عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة.

القول الثاني: أنها حلال.

وهذا المشهور من مذهب الشافعي.

أ- لقوله تعالى (وأحل الله البيع).

والصحيح قول الجمهور، وأما الآية فهي عامة، وقد جاءت الأدلة الخاصة بتحريم العينة.

ص: 564

•‌

‌ اذكر مسألة عكس العينة؟

مثاله: أن يبيع السلعة نقداً بـ 100 ثم يشتريها ممن اشتراها بأكثر منه مؤجل.

مثاله: بعتك بيتي (80) ألف نقداً، ثم اشتريته منك (100) ألف مؤجلة (عكس مسألة العينة).

مثال آخر: أن يشتري شخص سيارة بـ (50 ألف) نقداً، ثم يأتي البائع ويشتري هذه السيارة 70 مؤجلة.

وقد اختلف العلماء في هذه الصورة هل هي جائزة أم لا؟

القول الأول: الجواز إذا لم تكن حيلة.

قالوا: لأن الأصل حل البيع، وحرمت العينة بالنص، ولأنه ليس فيها محذور شرعي.

واختار هذا الموفق ابن قدامة اذا لم يكن هذا مواطأة واتفاق بينهما.

القول الثاني: إنها حرام.

وهو قول الحنفية، والحنابلة.

لأن المقصود بالمنع هو سد ذريعة الربا.

- مسألة: إذا باعه سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها منه نقداً بأكثر فإن هذا يجوز، لأن ليس فيه حيلة.

•‌

‌ ما هو بيع التورق، وما حكمه؟

التورق مأخوذ من الورق، والمراد به المال بجميع أنواعه.

ومعنى التورق: أن يشتري من يحتاج مالاً سلعة مؤجلة بأكثر من قيمتها حالة، ثم يبيعها على أجنبي نقداً.

فالتورق هو: شراء سلعة بثمن مؤجل بقصد بيعها على غير البائع

تحرير محل النزاع:

أولاً: إذا كان المشتري غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع، أو القينة، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق كما قال ابن تيمية.

ثانياً: أن يكون مقصوده الدراهم لحاجته لها، وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضاً أو غيره، فيشتري سلعة ليبيعها ويأخذ ثمنها، فهذا هو التورق، وقد اختلف العلماء في حكمه على أقوال:

القول الأول: أنها حرام.

وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم، وهو قول بعض السلف.

أ- قالوا: إن هذا من بيع المضطر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، والنهي يقتضي التحريم.

ب- أن الله حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وهو في حقيقته أخذ دراهم بدراهم، وهذا المعنى موجود في التورق، لأنه يريد به الدراهم، والنية معتبرة في الأحكام.

قال ابن تيمية: وإنما الذي أباحه الله البيع والتجارة، وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها، فأما إذا كان قصده مجرد الدراهم بدراهم أكثر منها، فهذا لا خير فيه.

قال ابن القيم: وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها، وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه.

ص: 565

القول الثاني: أنها جائزة عند الحاجة، مكروهة عند عدمها.

وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وهو مذهب الحنابلة.

جاء في الموسوعة الفقهية: جمهور العلماء على إباحتها، لعموم قوله تعالى:(وأحل الله البيع) ولأنه لم يظهر فيها قصد الربا ولا صورته.

أ- لعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع).

ب- ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً).

وجه الدلالة: أن التورق نوع من المداينات التي تدخل في عموم الآية.

ج- أن الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام دليل صريح صحيح على منعه.

د- قال ابن قدامة: ولأن الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة، كالسلم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق من لا يحتاج إليهما.

وقد أجازها الشيخ ابن باز رحمه الله، فقال: وأما مسألة التورق فليست من الربا، والصحيح حلها، لعموم الأدلة، ولما فيها من التفريج والتيسير وقضاء الحاجة الحاضرة، أما من باعها على من اشراها منه، فهذا لا يجوز بل هو من أعمال الربا، وتسمى مسألة العينة، وهي محرمة لأنها تحايل على الربا.

وقد توسط الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فقال بجوازها بشروط معينة.

قال رحمه الله في رسالة المداينة: " القسم الخامس - أي من أقسام المداينة -: أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد من يقرضه فيشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيع السلعة على شخص آخر غير الذي اشتراها منه، فهذه هي مسألة التورق.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جوازها، فمنهم من قال: إنها جائزة؛ لأن الرجل يشتري السلعة ويكون غرضه إما عين السلعة وإما عوضها وكلاهما غرض صحيح.

ومن العلماء من قال: إنها لا تجوز؛ لأن الغرض منها هو أخذ دراهم بدراهم ودخلت السلعة بينهما تحليلاً، وتحليل المحرم بالوسائل التي لا يرتفع بها حصول المفسدة لا يغني شيئاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

والقول بتحريم مسألة التورق هذه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد.

بل جعلها الإمام أحمد في رواية أبي داود من العينة كما نقله ابن القيم في "تهذيب السنن"(5/ 801).

ولكن نظراً لحاجة الناس اليوم وقلة المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط:

1 -

أن يكون محتاجا إلى الدراهم، فإن لم يكن محتاجاً فلا يجوز، كمن يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره.

2 -

أن لا يتمكن من الحصول على المال بطرق أخرى مباحة كالقرض، فإن تمكن من الحصول على المال بطريقة أخرى لم تجز هذه الطريقة لأنه لا حاجة به إليها.

3 -

أن لا يشتمل العقد على ما يشبه صورة الربا مثل أن يقول: بعتك إياها العشرة أحد عشر أو نحو ذلك، فإن اشتمل على ذلك فهو إما مكروه أو محرم، نقل عن الإمام أحمد أنه قال في مثل هذا: كأنه دراهم بدراهم، لا يصح. هذا كلام الإمام أحمد. وعليه فالطريق الصحيح أن يعرف الدائن قيمة السلعة ومقدار ربحه ثم يقول للمستدين: بعتك إياها بكذا وكذا إلى سنة.

4 -

أن لا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها وحيازتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع قبل أن يحوزها التجار إلى رحالهم. فإذا تمت هذه الشروط الأربعة فإن القول بجواز مسألة التورق متوجه كيلا يحصل تضييق على الناس.

وليكن معلوماً أنه لا يجوز أن يبيعها المستدين على الدائن بأقل مما اشتراها به بأي حال من الأحوال؛ لأن هذه هي مسألة العينة.

ص: 566

845 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ اَلرِّبَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ.

===

(الشفاعة) السعي للغير في جلب نفع أو دفع مضرة.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

في إسناده ضعف.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

الحديث دليل على أنه لا يجوز أخذ هدية مقابلة الشفاعة.

قال الصنعاني: وفيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة، وظاهره سواء كان قاصداً لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد.

معنى الحديث: أنَّ مَنْ شفع لأخيه المسلم شفاعة، بأن توسَّط له عند الغير لقضاء مصلحة بجلب منفعة أو دفع مضرَّة، فأَهْدَى المشفوع له هديَّة للشافع، نظير هذه الشفاعة والوساطة، فقَبِلها الشافِع؛ فحرامٌ عليه؛ لأنه أمرٌ يسيرٌ لا يجوز أخذ العِوَض عليه في الدنيا، وقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الرِّبا

قال العلماء: وَذَلِكَ لأَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، فَأَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهَا يُضَيِّعُ أَجْرَهَا، كَمَا أَنَّ الرِّبَا يُضَيِّعُ الْحَلَالَ .... (عون المعبود)

وهناك وَجْهٌ آخر لجعل قبول الهديَّة على الشفاعة من الرِّبا، وهو أنَّ " الرِّبا هو الزيادة في المال من الغير، لا في مقابلة عِوَض، وهذا مثله.

يعني: أن الشافع أخذ مالاً بدون مقابل فهو يشبه المرابي الذي أخذ الزيادة بدون مقابل.

ممَّا جاء عن السلف في معنى الحديث:

قول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى عن اليهود: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ): "السُّحت: أَنْ تطلبَ لأخيك الْحَاجة فتُقضَى؛ فيهدي إِلَيْك هَدِيَّة فتقبلها مِنْه.

وعن مَسْرُوق رحمه الله تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّه شفعَ لرجل في حاجةٍ، فأهدى له جاريةً؛ فغضبَ مسروقٌ غضبًا شديدًا، وقال: " لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَفْعَلُ هَذَا مَا كَلَّمْتُ فِي حَاجَتِك، وَلَا أُكَلِّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ. سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً لِيَرُدَّ بِهَا حَقًّا أَوْ يَرْفَعَ بِهَا ظُلْمًا، فَأُهْدِيَ لَهُ، فَقَبِلَ؛ فَهُوَ سُحْت.

وقد أخذ بعض العلماء بظاهر هذا الحديث، فمنعوا أخذ الهدية على الشفاعة، سواء كانت الشفاعة واجبة أو غير واجبة.

وذهب بعض العلماء: إلى جواز أخذ الهدية على الشفاعة إذا كانت غير واجبة.

وحملوا هذا الحديث على: الشفاعة الواجبة - كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ مظلوم من يد ظالم، أو الشفاعة المحرَّمة - كالشفاعة عند السلطان في تولية ظالم على الرَّعيَّة.

لأنَّ الشفاعة إذا كانت في واجب فهي واجبة، فأخذ الهديَّة في مقابلها محرّم، وإذا كانت في أمر محرَّم؛ فأخذ الهديَّة في مقابلها محرَّم.

أما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح؛ فأخذ الهديَّة عليها مباح؛ قالوا: لأنها مكافأة على إحسانٍ غير واجب.

وهذا اختيار ابن تيمية.

ص: 567

قال الصنعاني: فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة

ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم من يد الظالم، أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية، فإنها في الأولى واجبة فأخذ الهدية في مقابلها محرم، والثانية محظورة فقبضها محظور، وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح فلعله جائز أخذ الهدية لأنها مكافأة على إحسان غير واجب، ويحتمل أنها تحرم لأن الشفاعة شيء يسير لا تؤخذ عليه مكافأة. (سبل السلام)

تنبيه:

ومحل المنع إذا كانت الهدية مقابل الشفاعة وبذل الجاه، أما إذا كانت مقابل جهد وعمل؛ فإنه لا حرج فيها.

•‌

‌ ما الجمع بين حديث الباب، وحديث (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)؟

أولاً: لا يوجد تعارض في القرآن بين آياته، وأيضاً لا يوجد تعارض بين السنة الصحيحة، هذه قاعدة معروفة عند أهل العلم، وإذا قرأت آيتين ظننت أنهما متعارضتان فأعد النظر مرة بعد أخرى، فإن لم تصل إلى نتيجة فاسأل أهل العلم، وكذلك يقال في الحديثين الصحيحين كذلك أنه لا يمكن التعارض بينهما، فإن أشكل عليك شيء فأعد النظر مرة بعد أخرى، فإن لم يظهر لك الجمع فانظر أي الحديثين أقوى؛ لأن الأحاديث الواردة عن الرسول عليه السلام ليست كالقرآن، فهي منقولة بخبر الآحاد وبخبر التواتر، وخبر الآحاد من المعلوم أن بعض المخبرين أقوى من البعض، فانظر أيهما أقوى، فإذا كانا سواءً في القوة فاحمل أحدهما على محمل لا يتعارض مع الآخر، فهذا الحديث وهو: هدية من شفع له أن يهدى إلى الشافع يراد بذلك الشفاعة التي يريد بها الإنسان وجه الله عز وجل فإنه لا يقبل؛ لأن ما أريد به الآخرة لا يكون سبباً لنيل الدنيا، ولأن الشافع الذي يشفع يريد بذلك وجه الله إذا أعطي هدية فإن نفسه قد تغلبه في المستقبل فينظر في شفاعته إلى ما في أيدي الناس، فلهذا حذر من قبول الهدية. وأما (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) فالمراد به ما سوى الشفاعة التي منحت، فيكون هذا عاماً وهذا مخصصاً.

•‌

‌ هل يؤجر على الشفاعة السيئة؟

لا يؤجر بل يأثم.

قال اللَّهِ تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا).

كِفْلٌ: نَصِيبٌ، أي: من الإثم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة، وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها: ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله: أن من شفع لأحدٍ في الخير كان له نصيب من الأجر، ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر " انتهى.

•‌

‌ ما حكم الشفاعة فيما يقدر عليه الإنسان؟

مستحبة.

بشرط: أن تكون في شيء مباح، فلا تصح الشفاعة في شيء يترتب عليه ضياع حقوق الخلق أو ظلمهم، كما لا تصح الشفاعة في تحصيل أمر محرم، كمن يشفع لأناس قد وجب عليهم الحد أن لا يقام عليهم، قال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها " أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " رواه البخاري ومسلم.

ومن الأدلة على استحبابها:

قوله تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها).

و عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ" اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَب) متفق عليه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قِصَّة برِيرَةَ وزَوْجِها. قال: قال لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ راجَعْتِهِ؟» قَالتَ: يا رَسُولَ اللَّه تأْمُرُنِي؟ قال: «إِنَّما أَشْفعُ» قَالَتْ: لا حاجة لِي فِيهِ. رواه البخاري.

ص: 568

846 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

===

(الراشي) هو دافع الرشوة.

(والمرتشي) هو آخذها.

•‌

‌ عرف الرشوة؟

الرشوة: هي ما يدفع من مال ونحوه كمنفعة، ليتوصل به إلى ما لا يحل.

قال ابن حجر: الرشوة: بضم الراء وكسرها ويجوز الفتح وهي ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه.

وقال ابن العربي: الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عوناً على ما لا يحل، والمرتشي قابضه، والراشي معطيه والرائش الواسطة. (الفتح).

وقال الصنعاني: والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل، مأخوذ من الرشا وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر.

وقال أيضاً: وفي النهاية لابن الأثير قال: الراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ والرائش هو الذي يمشي بينهما وهو السفير بين الدافع والآخذ، وإن لم يأخذ على سفارته أجراً فإن أخذ فهو أبلغ (أي بالإثم والحرمة). (سبل السلام)

•‌

‌ ما حكم الرشوة؟

حرام وكبيرة من كبائر الذنوب.

أ- لحديث الباب.

ب-ولحديث ثوبان رضي الله عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما) رواه أحمد، وهو ضعيف بهذه الزيادة.

ج-وقال تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت) قال الحسن وسعيد بن جبير: هو الرشوة.

د-وقوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون).

•‌

‌ قال الشيخ ابن عثيمين: وهي محرمة لما يلي:

أولاً: للحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.

ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.

ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عز وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله عز وجل.

رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً؛ لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.

ص: 569

خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل المال بالباطل، لأنه ليس من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؛ لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على الحكم بالحق، والحكم بالحق لا يجوز أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها أعانةً لأكل المال بالباطل.

سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.

•‌

‌ متى يجوز دفع الرشوة؟

يجوز دفع الرشوة، إذا لم يتمكن الإنسان من الوصول إلى حقه إلى بها، وتكون حينئذ حراماً على الآخذ دون المعطي.

قال ابن حزم رحمه الله: ولا تحل الرشوة: وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل، أو ليولي ولاية، أو ليظلم له إنسان، فهذا يأثم المعطي والآخذ.

فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي، وأما الآخذ فآثم. (المحلى).

وقال ابن تيمية رحمه الله: إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه، أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراماً على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً، قيل: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل) ومثل ذلك: إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو كان ظالماً للناس فإعطاء هؤلاء جائز للمعطي، حرام عليهم أخذه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " أما الرشوة التي يتوصل بها الإنسان إلى حقه، كأن لا يمكنه الحصول على حقه إلا بشيء من المال، فإن هذا حرام على الآخذ وليس حراماً على المعطي، لأن المعطي إنما أعطى من أجل الوصول إلى حقه، لكن الآخذ الذي أخذ تلك الرشوة هو الآثم لأنه أخذ ما لا يستحق " انتهى نقلا عن "فتاوى إسلامية"(4/ 302).

قال الخطابي: الراشي: المعطي، والمرتشي: الأخذ، وإنما تلحقهما العقوبة معًا إذا استويا في القصد والإرادة، فرشا المعطي لينال به باطلًا، ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا رشا ليتوصل به إلى حق، أو يدفع به عن نفسه ظلمًا، فإنه غير داخل في هذا الوعيد، وقد روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله.

ومما يدل على ذلك: واستدلوا ما رواه أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا، وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلا نَارٌ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ).

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي هؤلاء المال مع أنه حرام عليهم، حتى يدفع عن نفسه مذمة البخل.

•‌

‌ فإن كان القاضي ليس له رزق، أي: راتب ـ من بيت المال، من الدولة، وهو إنسان ليس له مال، وقال للخصمين: لا أقضي بينكما إلا بكذا وكذا، حسب القضية إن كانت كبيرة قال: أقضي بينكما بشيء كثير، وإذا كانت صغيرة بشيء قليل، فهل يجوز ذلك أو لا؟

في ذلك خلاف، المشهور من المذهب أنه يجوز، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن هذا أخذُ عوض على أمر واجب عليه، فإن الحكم بين الناس واجب، وهو إذا عود نفسه هذا، هل سيقتصر على مقدار الكفاية؟ أبداً سيطمع، وإذا جعل الجُعل مثلاً على الألف خمسة في اليوم الأول، جعل على الألف في اليوم الثاني عشرة وازداد طمعاً، فالصواب أن هذا لا يجوز، ويقال له: اتق الله بقدر ما تستطيع، اعمل في السوق، واقض بين الناس في وقت آخر، (الشرح الممتع)

ص: 570

847 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ; أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْماً أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعاً أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(الْمُزَابَنَةِ) بضم الميم، وهي مأخوذة من الزبن، وهو الدفع الشديد.

قيل للبيع المخصوص مزابنة كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من العين أراد دفع البيع لفسخه، أو أراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع

(حائطهِ) قالَ في (النهايةِ): الحائِطُ ههنا البُسْتانُ من النَّخيلِ، إذا كانَ عليه حَائِطٌ: وهو الجِدَارُ، وجَمْعُه حَوَائِط.

(كَرْماً) بفَتْحِ الكافِ وسُكونِ الراءِ آخِرَه مِيمٌ، شَجَرُ العِنَبِ، وأُرِيدَ به هنا العِنَبُ نَفْسُه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم المزابنة.

وهي بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ.

مثال: أن يبيع رطباً على رؤوس النخل، بثمر في الزنبيل، فهذا لا يجوز.

مثال آخر: رجل عنده شجر من الأعناب، وآخر عنده أكياس من الزبيب، فقال أحدهما للآخر: نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب، فهذا لا يجوز.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي:

مظنة الربا لعدم التساوي.

لأن بيع تمر بتمر يشترط فيه التساوي، والتساوي هنا معدوم.

لأنه لو فرضنا أن أكياس الزبيب معلومة المقدار، لكن أشجار العنب غير معلومة المقدار.

أ- حصول الغرر به، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح.

•‌

‌ اذكر بعض فوائد الحديث؟

-الحديث دليل على تحريم بيع كل نوعين ربويين جهل تساويهما.

- يشترط في الربوي إذا بيع بجنسه أن يكون متماثلاً، وأن يكون يداً بيد.

ص: 571

848 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (سُئِلَ عَنِ اِشْتِرَاءِ اَلرُّطَبِ بِالتَّمْرِ. فَقَالَ: أَيَنْقُصُ اَلرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ " قَالُوا: نَعَمَ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ اَلْمَدِينِيِّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

===

(أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟) ليسَ سُؤالاً يُقْصَدُ منه المَعْرِفَةُ، فإِنَّه صلى الله عليه وسلم يَعْرِفُ أنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ، وإِنَّما يَقْصِدُ صلى الله عليه وسلم بَيانَ مَناطِ الحُكْمِ ووَجْهِ العِلَّةِ بتَحْرِيمِ البَيْع.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه لا يجَوَزِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؛ لِعَدَمِ التَّسَاوِي.

ص: 572

849 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، يَعْنِي: اَلدَّيْنِ بِالدَّيْنِ) رَوَاهُ إِسْحَاقُ، وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعفه أحمد، والشافعي، وابن عدي، وابن تيمية، وابن حجر، والألباني.

ولكن الأمة تلقت معناه بالقبول وعليه العمل والله أعلم.

•‌

‌ ما معنى بيع الكالئ بالكالاء؟

أن المراد ببيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه في الحديث هو بيع الدين بالدين.

كما فسر ذلك كثير من العلماء بالدين بالدين منهم نافع.

قال البيهقي: "قال نافع: وهو بيع الدين بالدين.

ومنهم الإمام أبو جعفر الطحاوي، وابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهم الله تعالى-

حيث قال ابن تيمية بعد أن ذكر الحديث: أي المؤخر وهو بيع الدين بالدين.

ولكن هذا الحديث مع ضعف سنده لعلة تفرد موسى بن عبيدة به فقد تلقته الأمة بالقبول بين عامل به على عمومه وبين متأول له، ولقد اتفقت المذاهب الأربعة على الأخذ بمضمونه والاحتجاج به، وإن كان بينهم خلاف فيما يتناوله من الصور التي يصدق عليها.

قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى- في الموطاً: وقد نهى عن بيع الكالئ بالكالئ.

قال الشافعي - رحمه الله تعالى- في الأم عن حكم صرف ما في الذمة: لا يجوز لأنه بيع دين بدين.

قال ابن عبد البر: ومما نهي عنه الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين.

قال الشيرازي: ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة.

وقال المرداوي: لا يجوز بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين.

فتلقي الأمة لهذا الحديث يغني عن صحة الإسناد.

ثانياً: دليلهم من الإجماع: انعقد إجماع العلماء على تحريم يبع الدين بالدين كما حكى ذلك الإمام أحمد، وابن المنذر، وابن رشد، وابن قدامة، وابن تيمية رحمهم الله تعالى.

قال ابن قدامة: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، قال أحمد: إنما هو إجماع.

قال ابن رشد: فأما النسيئة من الطرفين لا يجوز بإجماع، لا في العين ولا في الذمة؛ لأنه الدين بالدين المنهي عنه.

ولكن بعض العلماء مثل ابن تيمية - رحمه الله تعالى- يرى أن هذا الإجماع المنعقد على تحريم بيع الدين بالدين خاص ببعض صوره دون بعضها، وهو بيع الواجب بالواجب

ص: 573

•‌

‌ اذكر بعض صور بيع الكالئ بالكالاء؟

بيع الدين لغير من هو عليه بثمن مؤجل.

فهذه لا يجوز بل نقل بعضهم الاتفاق على ذلك.

لأن فيه شغلاً للذمتين بغير فائدة.

بيع الديْن لغير من هو عليه بثمن حال.

صورة المسألة: أن يكون لزيد مائة ألف ريال في ذمة إبراهيم، فيبيعها على عمرو بسيارة معينة ويقبض السيارة، وتكون المائة ألف لعمرو في ذمة إبراهيم.

اختلف العلماء فيها:

القول الأول: لا يجوز.

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية في الأظهر عندهم، والحنابلة.

أ-أن الدائن لا يقدر على تسليم المبيع للمشتري؛ لأن الدين شيء متعلق بذمة المدين، وهي غير مقدورة للدائن، وقد يجحد المدين الدين، أو يماطل، أو يكون معسرًا فيتعذر تخليص الدين منه، وبهذا يكون الدين غير مقدور على تسليمه، فهو كبيع الطير في الهواء وبيع الآبق والشارد ونحوهما مما لا يقع تحت تصرف البائع وقدرته، وما لا يقدر على تسليمه فبيعه غير جائز لما فيه من المخاطرة.

القول الثاني: يجوز بشروط ثمانية.

وهو قول المالكية:

القول الثالث: أنه يجوز، بشرط أن يبيعه بسعر يومه.

وهذا قول عند الشافعية رجحه جمع من أئمتهم، وهو رواية عند الحنابلة، وهو ظاهر كلام ابن عباس، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

والله أعلم.

بيع دين مؤجل بأقل منه حالًا على أجنبي غير صاحب الدين.

لا يجوز، وهو ربا وقد نص عليه ابن تيمية.

بيع الدين الحال بدين آخر بزيادة.

حرام، وهو من ربا الجاهلية.

جعل ما في الذمة رأس مال سَلمِ.

- ومنها: لو كان لكل واحد من الاثنين دين على الآخر من غير جنس دينه، كالذَّهب والفضة، فتصارفا، ولم يُحضرَا أحد العوضين.

- ومنها: أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل لم يجد وفاءه، فيقول: بِعْنيه إلى أجل آخر بزيادة، فيبيعه، ولا يجري بينهما تقابض.

قال النووي: وَأَمَّا الْعَرَايَا فَهِيَ أَنْ يَخْرُص الْخَارِص نَخَلَات فَيَقُول: هَذَا الرُّطَب الَّذِي عَلَيْهَا إِذَا يَبِسَ تَجِيء مِنْهُ ثَلَاثَة أَوْسُق مِنْ التَّمْرَة مَثَلًا، فَيَبِيعهُ صَاحِبه لِإِنْسَانٍ بِثَلَاثَةِ أَوْسُق تَمْر، وَيَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِس، فَيُسَلِّم الْمُشْتَرِي التَّمْر وَيُسَلِّم بَائِع الرُّطَب الرُّطَب بِالتَّخْلِيَةِ.

الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وهذه لها أحوال:

أولاً: الزيادة على خمسة أوسق، لا يجوز بلا خلاف.

ثانياً: أقل من خمسة أوسق، يجوز.

ثالثاً: في خمسة أوسق، هذه فيها خلاف:

قيل: لا يجوز.

وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية، ورجحه ابن المنذر.

قالوا: الأصل أن بيع التمر بالرطب حرام، وتبقى الخمسة مشكوكاً فيها، والأصل المنع.

وقيل: يجوز.

عملاً برواية الشك (خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق).

والراجح الأول.

قال النووي: وَهَذَا جَائِز فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق، وَلَا يَجُوز فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَة أَوْسُق، وَفِي جَوَازه فِي خَمْسَة أَوْسُق قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحّهمَا لَا يَجُوز لِأَنَّ الْأَصْل تَحْرِيم بَيْع التَّمْر بِالرُّطَبِ وَجَاءَتْ الْعَرَايَا رُخْصَة، وَشَكَّ الرَّاوِي فِي خَمْسَة أَوْسُق أَوْ دُونهَا فَوَجَبَ الْأَخْذ بِالْيَقِينِ وَهُوَ دُون خَمْسَة أَوْسُق وَبَقِيَتْ الْخَمْسَة عَلَى التَّحْرِيم. (شرح مسلم).

الشرط الثالث: أن يكون المشتري محتاجاً إلى الرطب، فإن لم يكن محتاجاً فإنها لا تجوز.

لأن بيع العرايا رخص فيه للحاجة.

الشرط الرابع: التقابض بين الطرفين.

لأن الأصل في بيع التمر بالتمر أنه لا بد من شرطين: التساوي والتقابض.

فالتساوي عرفنا أنه رخص فيه، ويبقى التقابض على الأصل لم يرخص فيه.

(والتقابض يكون في النخل: بالتخلية، وفي التمر بالكيل لأخذ).

• هل العرايا خاصة بالتمر، أم يجوز في جميع الثمار؟

اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: أن العرايا خاصة بالتمر، فيقتصر الجواز على النخل فقط دون غيرها من الثمار.

ص: 574

‌بَابُ اَلرُّخْصَةِ فِي اَلْعَرَايَا وَبَيْعِ اَلْأُصُولِ وَالثِّمَارِ

850 -

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي اَلْعَرَايَا: أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ (رَخَّصَ فِي اَلْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ اَلْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا).

851 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ اَلْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(رخص) الرخصة التسهيل في أمر ملزم به، إما في تركه وإما في فعله.

(العرايا) جمع عريّة، مشتقة من التعري، وهو التجرد، لأنها عريت عن حكم باقي البستان.

•‌

‌ ماذا يشترط في بيع التمر بالرطب؟

من المعلوم أن بيع الرطب بالتمر (وهو المزابنة) لا يجوز، لأن الرطب ينقص إذا جف، وبيع التمر بالتمر يشترط فيه شرطان:

التساوي - والتقابض.

والتساوي هنا معدوم.

•‌

‌ ما يستثنى من ذلك؟

يستثنى من ذلك: العرايا.

وهي: بيع رطب في روؤس نخله بتمر كيلاً.

أن يخرص الخارص نخلات فيقول: هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجيء منه ثلاثة أوسق من التمر مثلاً، ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشتري التمر، ويسلم بائع الرطب الرطب بالنخلة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز بيع العرايا (وهو بيع رطب بتمر يابس) وهو مستثنى من بيع المزابنة، وهذا مذهب أكثر العلماء.

لحديث الباب.

وخالف أبو حنيفة وقال: لا يجوز.

لكن الصحيح مذهب الجمهور.

•‌

‌ اذكر شروط حل العرايا؟

الشرط الأول: أن تباع النخلة بخرصها، ولا بد أن يكون من عالم به.

لقوله (أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً).

فلا يجوز أن يأتي أي أحد من الناس، لا بد أن يكون الخارص خبيراً.

ص: 575

وهذا المشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال الليث بن سعد، والظاهرية.

أ-واستدلوا بأحاديث الباب، حيث إنها صريحة في حصر الجواز بالتمر دون غيره.

ب-أن الأصل يقتضي تحريم العرية، وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة، ولا يصح قياس غيرها عليها لوجهين:

الأول: أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها، وسهولة خرصها.

الثاني: أن القياس لا يعمل به إذا خالف نصاً.

القول الثاني: أنه عام في جميع الثمار.

فلو أن شخصاً عنده زبيب جاز أن يشتري به عنباً يتفكه به.

وهذا مذهب مالك، واختاره من الحنابلة أبو يعلى، وهو مذهب الأوزاعي، واختاره ابن تيمية.

واستدلوا بالقياس على النخل بجامع الحاجة في كلٍ والاقتيات، وهذا المعنى موجود في غير النخل، وعليه فلا يصح قصر الحكم على النخل.

القول الثالث: أنه يجوز في العنب وحده، فيباع العنب في الشجر بزبيب ....

وهو قول الشافعي، واختاره النووي.

قالوا: قياساً على التمر، بجامع أنه يخرص مثله وييبس ويقتات ويوسق ويحتاج لأكله كالتمر، أما غير العنب فليس كذلك.

والراجح: الله أعلم.

•‌

‌ ما حكم بيع الرطب على وجه الأرض بتمر كيلاً؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن البيع صحيح.

ونسبه النووي للجمهور.

القول الثاني: المنع.

واختاره ابن دقيق العيد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حل العرايا؟

نستفيد: أن ما حُرِّم تحريم وسائل فإنه يباح للحاجة.

وقد ذكر العلماء شرطاً لإباحة المحرم للحاجة، وهو:

أن يكون هذا المحرم محرماً تحريم الوسائل، لا المقاصد.

وذلك أن المحرمات نوعان:

الأول: محرم تحريم مقاصد، كأكل الميتة، وشرب الخمر، فهذا لا يباح للحاجة، وإنما يباح للضرورة.

والثاني: محرم تحريم وسائل، كلبس الحرير، وربا الفضل

فهذا يباح للحاجة.

قال أبو عبد الله الزركشي رحمه الله:

فالضرورة: بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب كالمضطر للأكل، واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم.

والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرَّم.

"المنثور في القواعد"(2/ 319).

ص: 576

ومثال ذلك: جواز لبس الرجل لثوب حرير من أجل حكة به. وقد جاءت السنة بذلك.

مثال آخر: إباحة ربا الفضل للحاجة، فقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر كيلاً، مع أن الأصل تحريم هذه المعاملة، لأنه لا يمكن حصول التساوي بين الرطب والتمر، لأن الرطب ينقص إذا جف، فتكون هذه الصورة داخلة في ربا الفضل، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص فيها للحاجة.

انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 137).

وقد نظم ذلك القول والمثال: الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في منظومته في أصول الفقه وقواعده، فقال:

لكنَّ ما حُرِّمَ للذَّرِيعَةِ

يَجُوزُ للحَاجَةِ كَالعَريَّةِ

وقد شرح ذلك بقوله:

"هذا مستثنى من قوله: (وكل ممنوع فللضرورة يباح) لأن ظاهره أنه لا يباح المحرم إلا عند الضرورة، فاستثنى من ذلك ما كان محرماً للذريعة، فإن حكمه حكم المكروه، يجوز عند الحاجة.

مثاله: العَرِيَّة وهي: عبارة عن بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، وأصل بيع الرطب بالتمر حرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع التمر بالرطب فقال:(أينقص إذا جف؟) قالوا: نعم، فنهى عن ذلك.

ووجهه: أن بيع التمر بالتمر لابد فيه من التساوي، ومعلوم أن الرطب مع التمر لا يتساويان، فإذا كان هذا الفلاح عنده الرطب على رؤوس النخل، وجاء شخص فقير ليس عنده دراهم يشتري رطباً يتفكه به مع الناس، لكن عنده تمر من العام الماضي، فلا حرج أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة لأنه ليس عنده دراهم، ولو باع التمر أولاً ثم اشترى رطباً ففيه تعب عليه، وربما ينقص ثمن التمر، فيجوز له أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة بشروط:

1 -

أن لا يتجاوز خمسة أوسق.

2 -

وأن لا يدع الرطب حتى يتمر.

3 -

وأن يكون الرطب مخروصاً بما يؤول إليه تمراً، مثل أن يقال: هذا الرطب إذا صار تمراً صار مماثلاً للتمر الذي بذله للمشتري

4 -

وأن لا يجد ما يشتري به سوى هذا التمر.

5 -

وأن يكون الرطب على رؤوس النخل، لئلا يفوته التفكه شيئاً فشيئاً.

فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يبيع التمر ويشتري الرطب كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء، وأراد تمراً جيداً أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمراً جيداً، فلماذا نقول بالعَرِيَّة، ولا نقول: بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطباً؟

فالجواب على هذا:

أولاً: أن السنة فرقت بينهما، وكل شيء فرق الشرع فيه فإن الحكمة بما جاء به الشرع، لأننا نعلم أن الشرع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، وما فرق الشرع بينهما وظننا أنهما متماثلان، فإن الخطأ في فهمنا، فيكفي أن نقول: جاء الشرع بحل هذا ومنع هذا، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلاً عن هذا، فيقال: إن الصحابة رضي الله عنه كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل، وهذا ربا صريح لا يحل.

ص: 577

أما في مسألة العَرِيَّة فيجب أن يخرص الرطب بحيث يساوي التمر لو أتمر، بمعنى: أننا نخرص الرطب بحيث يكون هذا الرطب إذا يبس وصار تمراً على مقدار التمر الذي اشترى الرطب به.

ثانياً: أن نقول: إن ربا الفضل إنما حُرم لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة، وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين متماثلين جنساً ووصفاً، بل لابد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل، وتتشوف النفوس إلى زيادة الدين إذا تأجل، وتقول النفس: إذا كانت الزيادة تجوز لطيب الصفة، والنقص يجوز لرداءة الصفة، فلتجز الزيادة لزيادة المدة بتأخير الوفاء، فترتقي النفس من هذا إلى هذا، والنفس طماعة لا سيما في البيع والشراء، ولا سيما مع قلة الورع كما في الأزمنة المتأخرة، لذلك سُدَّ الباب، وقيل: لا يجوز ربا الفضل، ولو مع التقابض في المجلس.

والذي يمكن أن يقع في العرية هو ربا الفضل، وتحريم ربا الفضل علمنا من التقرير الذي ذكرناه أنه إنما يحرم لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة، والذي حرم لكونه ذريعة فإنه يباح عند الحاجة.

فإن قال قائل: الفقير الذي لا دراهم عنده ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر؟

الجواب: ليس هناك ضرورة، لأنه يمكن أن يعيش على التمر، لكن هناك حاجة، يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، فلهذا رخِّص له في العرية.

مثال آخر: النظر إلى وجه المرأة الأجنبية حرام، لأنه وسيلة إلى الفاحشة، ولهذا جاز للحاجة، فالخاطب يجوز أن يرى وجه مخطوبته، والشاهد إذا أراد أن يعرف عين المرأة المشهود عليها، يجوز أن يرى وجهها ليشهد على المرأة بعينها، لأن التحريم هنا تحريم وسيلة، وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة.

مثال آخر: الحرير على الرجال حرام، لأنه وسيلة إلى أن يتخلق الرجل بأخلاق النساء من الليونة والرقة، والتشبه بالنساء حرام، فلما كان تحريمه تحريم وسيلة جاز عند الحاجة، فإذا كان الإنسان فيه حكة يجوز أن يلبس الحرير من أجل أن تبرد الحكة، لأن تحريمه تحريم وسائل" انتهى. "شرح منظومة أصول الفقه وقواعده" (ص 64 - 67).

ص: 578

852 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى اَلْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا؟ قَالَ: " حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ ".

853 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلثِّمَارِ حَتَّى تُزْهَى. قِيلَ: وَمَا زَهْوُهَا؟ قَالَ: " تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

854 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ اَلْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

===

(حَتَّى يَبْدُوَ) أي: يظهر.

(صَلَاحُهَا) صلاح كل شيء بحسبه، منها ما يكون صلاحه باللون، ومنها ما يكون بالطعم، ومنها ما يكون باللمس.

(نَهَى اَلْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ) أي: المشتري.

(تُزْهَى) قال ابن الأثير: زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

•‌

‌ ما الحكمة من النهي؟

قال في الفتح: أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري، فلئلا يضيع ماله، ويساعد البائع على الباطل، وفيه أيضاً قطع النزاع والتخاصم .... (الفتح).

وقال بعض العلماء: الحكمة في النهي قبل بدو صلاحها: أنه في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها غرراً وخطراً ظاهراً يفضي إلى المفاسد الكثيرة بين المسلمين من إيقاع التشاحن والتشاجر وأكل مال الغير بغير حق.

فالبائع إذا باع قبل بدو الصلاح وتعجل البيع فإنه ستقل قيمتها عما لو أخر البيع إلى ما بعد الصلاح والنضج فيكون في ذلك خسارة عليه.

وأما المشتري: ففي ذلك حفظ لماله من الضياع والمخاطر والتغرير، لأن الثمرة قد تتلف وتنالها الآفات قبل الانتفاع بها فيذهب ماله، فنهي عن ذلك تحصيناً للأموال من الضياع وحفظاً للحقوق، وقطعاً للمخاصمات والمنازعات بين المتبايعين.

فالخلاصة أن حكمة النهي ترجع إلى ثلاثة أمور:

أولاً: لما فيه من الغرر.

ثانياً: أنه سبب في تنازع الناس.

ثالثاً: أنه طريق إلى أكل أموالهم بالباطل.

- وقد قسم ابن قدامة بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلى أقسام، فقال رحمه الله:

لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام:

أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إجْمَاعًا.

(لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 579

والنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَيَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَنَسٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ.

قَالَ: أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُهُ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ قَطْعًا وَلَا تَبْقِيَةً، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ.

وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.

وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.

ثم قال مرجحاً رأي الجمهور:

وَلَنَا: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا) فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النزاع.

•‌

‌ متى يجوز بيع الثمار؟

يجوز بيع الثمر بعد بدو صلاحه، وبدو صلاحه جاء بيانه في بعض الأحاديث:

فقد جاء في حديث (حتى يزهو).

وفي رواية (حتى يبدو صلاحها).

وأجمع هذه الألفاظ حديث جابر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَطعَمَ).

وفي رواية (حَتَّى تَطِيبَ).

فالضابط أن يطيب أكله ويطهر نضجه.

قال النووي: بدو الصلاح يرجع إلى تغير صفة في الثمرة، وذلك يختلف باختلاف الأجناس، وهو على اختلافه راجع إلى شيء واحد مشترك بينها، وهو طيب الأكل. (المجموع).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الضابط يدور على إمكان أكلها واستساغته؛ لأنه إذا وصل إلى هذا الحد أمكن الانتفاع به، وقبل ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا على كره، وهو أيضا إذا وصل هذه الحال من النضج قَلَّت فيه الآفات والعاهات. (الشرح الممتع)

•‌

‌ متى يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها؟

أولاً: إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع في الحال.

قال ابن قدامة رحمه الله: القسم الثاني: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإجماع; لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها; بدليل ما روى أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو. قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟. رواه البخاري.

وهذا مأمون فيما يقطع، فصح بيعه كما لو بدا صلاحه.

ثانياً: إذا بيعت الثمرة مع أصلها، أو بيع الزرع مع الأرض، فلا يشترط بدو الصلاح في الثمر والزرع.

قال ابن قدامة رحمه الله: أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ الْأَصْلِ، فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ).

وَلِأَنَّهُ إذَا بَاعَهَا مَعَ الْأَصْلِ حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَالُ الْغَرَرِ فِيهَا، كَمَا احْتَمَلَتْ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ بَيْعِ الشَّاةِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ، وَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ فِي بَيْعِ الدَّارِ. (المغني).

ص: 580

•‌

‌ ما الحكم لو وقع العقد على هذا البيع؟

لو وقع العقد على هذا البيع لكان البيع باطلاً، لأن النهي عائد إلى ذات المنهي عنه. لكن استثنى العلماء:

إذا باعه بشرط القطع، لأن عاهته مضمونة، لأنه سيقطع الآن قبل أن يتعرض للعاهات، وهذا ليس من إضاعة المال، لأنه يمكن أن يجعله علفاً لبهائمه، لكن لو علمنا أنه سيأخذه ليرميه في الأرض، فهذا يمنع.

•‌

‌ ما الحكم لو باع البستان جميعاً؟

تحرير محل النزاع:

أولاً: لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز بيع جنس، ببدو الصلاح في جنس آخر.

ثانياً: لا خلاف بين العلماء في أن الشجرة إذا بدا صلاحها يجوز بيعها.

ثالثاً: اختلف العلماء في جواز بيع النوع الواحد والجنس الواحد، بصلاح بعض أشجاره:

القول الأول: أنه إذا بدا الصلاح في الشجرة جاز سائر أنواعها من الجنس الواحد، فإذا بدا في السكري - مثلاً - جاز بيع جميع النخيل في البستان مهمات أنواعه.

وهذا مشهور مذهب الشافعية، ومذهب المالكية.

أ- قالوا: إن أنواع الجنس الواحد يتلاحق طيبها عادة.

ب- لو لم نقل بجواز بيع الجنس الواحد ببدو الصلاح في بعضه، لأدى ذلك إلى المشقة والضرر بسوء المشاركة، والمشقة والضرر مرفوعان في الشريعة الإسلامية.

القول الثاني: إذا بدا في شجرة جاز بيع سائر أنواعها في البستان، دون الأنواع الأخرى.

فلو بدأ الصلاح في النخل السكري جاز بيعه، لكن لو بدأ في السكري لم يجز بيع غيره لم يبدو صلاحه.

وهذا قول عند الشافعية، ومشهور مذهب الحنابلة.

أ-القياس على الشجرة الواحدة.

ب- اعتبار بدو الصلاح في الجميع يشق، ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي، فوجب أن يتبع مالم يبد صلاحه من نوعه ما بدا.

القول الثالث: يشترط لجواز بيع الثمرة أن يبدو الصلاح في كل شجرة من شجر الثمرة المبيعة.

وهذا قول عند الحنابلة.

أ- لدخول ما لم يبدو صلاحه في عموم النهي

ب- مالم يبدو صلاحه لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع كالجنس الآخر.

والراجح القول الأول

(الجوائح وأحكامها).

ص: 581

855 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَراً فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا. بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: - أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ اَلْجَوَائِحِ -.

===

(لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ)(من) بمعنى (على).

(فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) أي: أصابت ذلك الثمر آفة.

(فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا) أي: من أخيك، وهذا صريح في التحريم.

(بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ) أي: في مقابلة الثمر الذي أصابته الجائحة.

(بِغَيْرِ حَقٍّ) تأكيد للإنكار في أخذه.

•‌

‌ ما تعريف الجائحة؟

قال ابن قدامة: الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها.

وقال ابن تيمية: الجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد.

وقال القرطبي: الجائحة ما اجتاحت المال، وأتلفته إتلافاً ظاهراً، كالسيل والمطر والحرق والسرق وغلبة العدو، وغير ذلك مما يكون إتلافه للمال ظاهراً.

فالجائحة إذاً: هي كل آفة لا صنع للآدمي فيها، فيدخل في ذلك المطر الشديد، والحر والبرد، والريح، والجراد، والغبار المفسد ونحو ذلك من الآفات السماوية.

مثالها: انسان باع على أخيه ثمر عنب فقدر أنه جاء حر شديد فتلفت هذه العنب أو مطر مصحوباً ببرد فأتلفه.

•‌

‌ ما معنى (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ اَلْجَوَائِحِ)؟

أي: أمر بإسقاطها، وعدم المطالبة بها، يعني أن من اشترى ثماراً فأصابتها آفة سماوية كالبَرَد - بفتحتين - والحر الشديدين والجراد ونحو ذلك من الآفات التي تعرض للثمار، فإنه لا يحل للبائع أن يُطالب بثمنها.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: الأمر بوضع الجوائح، (أي: أن تلف الثمار المبيعة بجائحة يكون من مال البائع)، وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامة: ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع.

وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم: يحيي بن سعيد الأنصاري، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الحديث، وبه قال الشافعي في القديم.

قال الحافظ في الفتح: استُدل بهذا الحديث على وضع الجوائح في الثمر يُشترَى بعد بدو صلاحه، ثم تصيبه جائحة.

فهذا مذهب المالكية، والحنابلة، والشافعية في القديم.

أ- لقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

).

وجه الدلالة: أن الله نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وأخْذ البائع الثمن من المشتري بعد أن تلفت الثمرة بجائحة قبل تمام نضجها نوع مما نهى الله عنه، لأنه أخذه بدون مقابل، حيث لم يحصل للمشتري مقصوده من العقد، وهو أخذ الثمرة بعد تمام نضجها.

ب- لحديث الباب (لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَراً فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟).

ج- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ اَلْجَوَائِحِ).

ص: 582

وجه الدلالة من الحديثين:

دل الحديثان على وجوب وضع الجوائح بالنص الصريح، أما الأول فقد جاءت دلالته على وجوب وضع الجوائح بصريح التحريم، حيث نفى النبي صلى الله عليه وسلم حل أخذ شيء من مشتري الثمرة إذا أجيحت، ثم أكد حرمته بصيغة الاستفهام الإنكاري، ووصفه بأنه غير حق.

ودل عليه الحديث الثاني بالأمر الصريح، والأمر يقتضي الوجوب مالم يصرفه صارف، ولم يوجد، فدل الحديثان على وجوب وضع الجوائح.

قال الشيخ عبد الله الفوزان: وجه الاستدلال:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى حل أخذ شيء من مشتري الثمرة إذا اصابتها جائحة.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكّد حرمة أخذ مال المشتري بصيغة الاستفهام الإنكاري، ووصفه بأنه غير حق.

ثالثاً: أنه أمر أمراً صريحاً بوضع الجوائح، والأمر يقتضي الوجوب.

•‌

‌ هل هناك فرق بين قليل الجائحة وكثيرها؟

اختلف العلماء بذلك على قولين:

القول الأول: يوضع قليل الجائحة وكثيرها.

وإليه ذهب الإمام أحمد في أشهر الروايتين عنه، وأبو عبيد وغيره من فقهاء الحديث.

أ- لعموم الأحاديث الواردة في الأمر بوضع الجوائح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وما دون الثلث داخل فيه فيجب وضعه.

ب- ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تلف منها من مال البائع وإن كان قليلاً.

القول الثاني: لا توضع الجائحة إلا إذا بلغت الثلث.

وهو قول مالك في جوائح الثمار.

أ-قالوا: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْكُلَ الطَّيْرُ مِنْهَا، وَتَنْثُرَ الرِّيحُ، وَيَسْقُطَ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَابِطٍ وَاحِدٍ فَاصِلٍ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْجَائِحَةِ، وَالثُّلُثُ قَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا؛ الْوَصِيَّةُ، وَعَطَايَا الْمَرِيضِ، وَتَسَاوِي جِرَاحِ الْمَرْأَةِ جِرَاحَ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ.

ب-وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوَصِيَّةِ (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ آخِرُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَلِهَذَا قُدِّرَ بِهِ.

والراجح الأول، لعموم أحاديث وضع الجوائح.

تنبيه: قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَلِفَ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَضَعَ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

•‌

‌ ما الحكم لو فرط المشتري وتأخر في جذاذ النخل مثلاً؟

لو فرط المشتري وتأخر في جذاذ النخل - مثلاً - عن وقته المعتاد فأصابته جائحة بمطر - مثلاً - فهو من ضمانه لا من ضمان البائع، لتفريطه بترك نقل الثمرة في وقت نقلها مع قدرته.

•‌

‌ ما حكم الجائحة إذا كانت بفعل آدمي؟

إذا كانت الآفة بفعل الآدمي فيطالب به الجاني.

• هل السرقة تعتبر جائحة؟

السرقة لا تعتبر جائحة على القول الراجح.

ص: 583

856 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اِبْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ اَلَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اَلْمُبْتَاعُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(مَنِ اِبْتَاعَ) أي: اشترى.

(نَخْلًا) أي: باع أصل النخل.

(بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ) التأبير هو التلقيح، وهو وضع طلع الفحل من النخل بين طلع الإناث.

(اَلْمُبْتَاعُ) أي: المشتري.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن من اشترى نخلاً بعد التأبير فثمرتها للبائع.

وأنه لو باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري لمفهوم الحديث.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لحديث الباب، فهو صريح بذلك، فهو يدل على أن ثمرة النخل المبيع يكون للبائع بعد التأبير ما لم يشترطه المبتاع.

قال ابن حجر: وقد استدل بمنطوقه على أن من باع نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع، وبمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال جمهور العلماء.

وقال القرطبي: وإذا تقرَّر هذا، فظاهر هذا الحديث يقتضي بلفظه: أن الثمرة المأبورة لا تدخل مع أصولها إذا بيعت الأصول إلا بالشرط، ويقتضي دليل خطابه: أن غير المأبورة داخلة في البيع.

وهو مذهب مالك، والشافعي، والليث.

وذهب أبو حنيفة: إلى أن الثمرة للبائع قبل الإبار وبعده.

وقال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري قبل الإبار وبعده. وهذا القول مخالف للنص الصحيح، فلا يلتفت إليه.

وأما أبو حنيفة فالخلاف معه مبين على القول بدليل الخطاب، فهو ينفيه، وخصمه يثبته. والقول بدليل الخطاب في مثل هذا ظاهر؛ لأنه لو كان حكم غير المؤبر حكم المؤبر لكان تقييده بالشرط لغوًا لا فائدة له. فإن قيل: فائدته التنبيه بالأعلى على الأدنى. قيل له: ليس هذا بصحيح لغة ولا عرفًا، ومن جعل هذا بمنزلة قوله تعالى (فلا تقل لهما أفّ) تعين أن يقال لفهمه: أفّ، وتف. (المفهم)

•‌

‌ ما الحكمة من ذلك؟

الحكمة: لأن البائع عمل في هذه الثمرة عملاً يصلحها، لأن التأبير يصلح الثمرة، فلما عمل فيها عملاً يصلحها، تعلقت بها وصار له تأثير فيها، وبذلك جعلها الشارع له.

•‌

‌ ما الحكم لو اشترط المشتري أن تكون له الثمرة بعد التأبير؟

يصح ذلك.

لقوله (إلا أن يشترط المبتاع).

•‌

‌ هل يجوز للبائع إبقاء الثمرة على رؤوس الشجر إلى وقت الجذاذ؟

قيل: للبائع إبقاؤها إلى الجذاذ.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

وقيل: يجب على البائع قطع ثمرته من أصل المبيع في الحال.

وإليه ذهب الحنفية.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

يلحق بالتمر ما عداه كالعنب، والتين، والبرتقال.

2.

جواز الشروط في البيع، لكن بشرط ألا تخالف الشريعة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط) متفق عليه.

3.

هذا الحكم في هذا الحديث إنما هو لعام واحد، وأما السنوات القادمة فهي للمشتري.

ص: 584

‌أَبْوَابُ اَلسَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَالرَّهْنِ

857 -

عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (قَدِمَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اَلْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي اَلثِّمَارِ اَلسَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه وَلِلْبُخَارِيِّ (مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ)

858 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَا (كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَالزَّيْتِ- إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. قِيلَ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالَا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

===

(قَدِمَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اَلْمَدِينَةَ) أي: جاء إليها مهاجراً.

(وَهُمْ يُسْلِفُونَ) الواو فيه للحال، أي: وأهل المدينة من الأوس والخزرج وغيرهم يتعاملون بالسلف، أي بالسلم. (وسيأتي تعريفه إن شاء الله)

(اَلسَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ) أي: مدة سنة أو مدة سنتين، يعني يدفعون المال إلى من يتعاملون معه بالسلم، ويكون تسليم الثمار مؤجلاً إلى سنة أو إلى سنتين بعد تسليم الثمن.

(أسلف) وعد في عقد صفقة سلم.

(كيل معلوم) مقدار محدد من الكيل مع ضبط نوع الكيل.

(ووزن معلوم) أي: فيما يوزن.

(أجل معلوم) أي: وقت محدد.

(الْمَغَانِمَ) جمع مغنم، وهي الأموال التي يأخذها المسلمون من الكفار قهراً.

(أَنْبَاطٌ) هم قوم من العرب دخلوا في العجم فاستعجموا فاختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، سموا بذلك لكثرة معرفتهم بإنباط الماء، أي: استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة.

•‌

‌ عرف السلم؟

السلَم لغة: هو السلف وزناً ومعنى، وسميَ سلماً لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفاً لتقديم رأس المال.

وشرعاً: عقد على موصوف في الذمة مؤجل، بثمن مقبوض في مجلس العقد.

(عقد على موصوف) خرج به العقد على معين، فليس بسلم (مؤجل) لا بد أن يكون هناك تأجيل. (بثمن مقبوض في مجلس العقد) لا بد أن يقبض الثمن كاملاً في مجلس العقد.

•‌

‌ اذكر أدلة مشروعيته.

السلم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه).

وأما السنة: فلحديث الباب.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز.

وقال الحافظ في الفتح: واتفقوا على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب.

مثاله: أن أعطي رجل 100 ريال، على أن يعطيني بعد سنة 100 كيلو من الأرز.

ص: 585

•‌

‌ ما الحكمة منه؟

من أجل التوسعة، لأن الإنسان يحتاج إلى نقود وعنده تمر أو صنعة تتأخر، فيحتاج إلى شراء أدوات لصنعته أو ثمرته.

فالزارع يبدأ زرعه في شهر ربيع الثاني مثلاً، ولا يحصده إلا في شهر شعبان أو بعده، ففي هذه المدة هو بحاجة إلى دراهم لشراء البذور أو نفقة عماله أو عياله، أو آلاته، وأنت عندك دراهم لست بحاجة إليها، فنقول له: أنا أشتري منك براً بأنقص من قيمته [مثلاً يساوي الصاع ريالين، وأنت تقول: أشتريه الآن بريال] فكل منكما انتفع، فالأول احتاج المال وأخذه، والثاني اشتراه رخيصاً.

•‌

‌ اذكر شروط صحة السلم؟

أولاً: أن يكون لأجل معلوم.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) كشهر أو شهرين أو أكثر أو أقل بحسب الاتفاق.

فلا يصح أن يكون مجهولاً.

لو قال: أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر إلى قدوم زيد، فهذا لا يجوز، لأن مقدم زيد غير معلوم.

•‌

‌ اختلف العلماء في مقدار الأجل في السلم على أقوال:

فقيل: لا فرق بين الأجل القريب والبعيد، فلو قدره بنصف يوم جاز.

وقيل: أقله ثلاثة أيام.

والصحيح أنه لا بد من أجل له وقع في الثمن، يعني أن الثمن ينقص به، أما ما لا يتأخر به الثمن فهذا غير مؤجل، وبناء على ذلك يمكن أن تختلف المدة باعتبار المواسم.

•‌

‌ ما الحكم لو قال: إلى الجذاذ أو إلى الحصاد؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يصح.

وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي.

قالوا: لأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز.

القول الثاني: أنه يصح.

وهذا مذهب مالك واختيار ابن تيمية.

قالوا: إنه أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتاً كثيراً، فأشبه إذا قال: إلى رأس السنة.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ ما الحكم إذا أسلم في جنس إلى أجلين وبالعكس؟

يجوز، لكن لابد أن يبين قسط كل أجل.

مثال: أن يقول أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر حنطة، لكن إلى أجلين، يحل بعضها في رجب وبعضها في شوال، فهذا يصح، لكن لابد أن يبين قسط كل أجل، فيقول: يحل منه خمسون في رجب، وخمسون في شوال، حتى لا يكون فيه جهالة.

ص: 586

•‌

‌ ما الحكم إذا أسلم في جنسين إلى أجل واحد؟

يجوز.

مثال: أسلمت إليك مائة درهم في تمر سكري، وبرحي، يحل في شوال، فهذا يصح، لكن لابد أن يبين كل جنس وثمنه، فيقول مثلاً: أسلمت إليك في البر والتمر، خمسين صاعاً من البر، وخمسين صاعاً من التمر.

الشرط الثاني: أن يكون معلوم القدر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ).

فإذا لم يكن معلوم القدر فسد السلم، لجهالة قدر المسلم فيه، وإفضاء ذلك إلى الخصومة والنزاع.

مثال: إذا قال: أسلمت إليك ألف ريال بمائة صاع بر أو بمائة كيلو قطن صح.

- فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فلابد فيه من عد معلوم، أو ذرع معلوم، إلحاقاً للعد والذرع بالكيل والوزن، بجامع عدم الجهالة بالقدر في كلٍّ، فيجوز السلم في البيض ونحوه عدداً.

الشرط الثالث: أن يقبض الثمن بمجلس العقد.

وهذا موضع إجماع بين العلماء، إلا أن مالكاً أجاز تأخيره نحو يوم أو يومين أو ثلاثة بناء على أنه شيء يسير.

- وجمهور العلماء قالوا: بفساد عقد السلم بالتفرق قبل القبض، لأنه يصير من باب بيع الدَّيْن بالدّين.

- إذا قبض بعض الثمن ثم تفرقا ثم قبض البقية، فالراجح في هذه المسألة أنه يصح فيما قبض ويبطل فيما لم يقبض.

فلو أسلم في مائة كيلو من التمر بألف ريال، وأعطاه خمسمائة ريال في المجلس، صح في نصف المسلم فيه، ومالم يقبض بطل فيه ويعقد عليه عقداً آخر.

الشرط الرابع: ضبط صفات المسلم فيه - وهو الشيء المبيع -.

والمراد الصفات التي لها أثر في اختلاف الثمن، بأن يذكر كل وصف يختلف بسببه الثمن اختلافاً ظاهراً، مثل ذكر اللون في الثياب، أو أنه قديم أو جديد، ولابد أن يبين النوع إن كان للجنس أكثر من نوع، فيبين أن الأرز من النوع الهندي مثلاً، وفي السمن يبين أنه سمن بقر أو غنم، والتمر يبين أنه سكري أو شقراء أو نحوهما.

أ- لترتفع الجهالة.

ب- وتسد الأبواب التي تفضي إلى المنازعة عند التسليم.

الشرط الخامس: أن يكون المسلم فيه عام الوجود.

قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافاً، وذلك أنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه.

فالقدرة على التسليم شرط، ولا يتحقق إلا إذا كان عام الوجود.

فلو أسلم إليه مائة ريال بمائة كيلو عنب يحل وسط الشتاء لم يجز، لأن المسلم فيه لا يوجد وقت حلول الأجل.

ص: 587

•‌

‌ وهل يشترط كون المسلم فيه موجوداً حال السلم؟

القول الأول: لا يشترط.

وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.

أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم).

ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطاً لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين.

ب- ولأنه ليس وقت وجوب التسليم.

القول الثاني: أنه يشترط.

وهذا قول الثوري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي.

والأول أصح.

مثال: لو أجرى عقد السلم في وقت الشتاء على رطب صح.

•‌

‌ ما حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه؟

قال ابن قدامة: أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافاً.

•‌

‌ ما حكم الإسلام في الحيوانات؟

اختلف العلماء في حكم الإسلام في الحيوانات على قولين:

القول الأول: لا يصح السلم في الحيوانات.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

أ- لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في الحيوان) رواه الحاكم وهو ضعيف.

ب-ولأن الحيوانات تختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه.

القول الثاني: أنه يصح السلم في الحيوان.

قال ابن المنذر: ومما روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوانات، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، ومالك، وأحمد.

قالوا: قياساً على جواز القرض فيه، فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اقترض بكراً.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

حرصت الشريعة على سد كل باب يؤدي إلى التنازع والتباغض والخصومات.

2.

السلم من بيوع الجاهلية التي أقرها الشرع، لكن أضاف بعض الشروط التي تبعد الخصومات والتنازع.

ص: 588

859 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اَللَّهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ) هذا عام في أخذ الأموال عن طريق القرض، أو البيع إلى أجل، أو الشركة، أو العارية، أو أي معاملة من وجوه المعاملات الأخرى.

(يُرِيدُ أَدَاءَهَا) أي: عند أخذه لها كانت نيته الوفاء والأداء مما يرزقه الله تعالى.

(أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ) تأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يعينه الله يوسع رزقه، ويسوق له من المال ما يقضي به دينَه لحسن نيته، ويشمل أداءها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء الله، فإن فاته الأول في دار الدنيا لم يفته الثاني - إن شاء الله - في الدار الآخرة لحسن نيته.

(وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا) أي: عند أخذه لها لم تكن نيته الوفاء، بل يريد إتلاف ما أخذ على صاحبه، وهو يشمل ما إذا إدّان وليس عنده نية الوفاء، أو أخذها بلا حاجة وإنما يريد إتلافها على صاحبها.

(أَتْلَفَهُ اَللَّهُ) في الدنيا بإتلاف الشخص نفسه وإهلاكه، ويدخل فيه إتلاف ماله وجاهه وطيب عيشه وتضييق أموره وتعسيره مطالبه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: الترغيب في حسن النية عند الاستدانة من الناس، وأن من استدان ونيته الوفاء أعانه الله.

فقد روى النسائي: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ (أَنَّ مَيْمُونَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَانَتْ فَقِيلَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ، قَالَتْ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، أَعَانَهُ اللَّهُ عز وجل

•‌

‌ اذكر حالات المدين؟

للمدين له حالات:

الحالة الأولى: إذا أخذ الدين بنية عدم الوفاء.

فإنه آثم سواء مات ولم يوفه أو أعسر في حياته، فإنه يؤاخذ يوم القيامة.

لأنه غير معذور بالاستدانة، ولأنه قصد استهلاك مال المسلم بغير وجه حق، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ

)

ومما يدل على ذلك أيضاً:

أ-حديث أَبي هُرِيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه منْه الْيوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَملٌ صَالحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقدْرِ مظْلمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري

ب-وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أتدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِنْ حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ) واه مسلم.

ج-وعن أَبِي هريرة أَنْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء) رواه مسلم

ص: 589

فهذه الأحاديث تبين عظمة حقوق الغير، سواء كانت في النفس، أو في العرض، أو في المال، وأن من ظلم مسلماً في شيء منها فإنه مؤاخذ به يوم القيامة، وأن الله يقتص منه لخصمه، وأن هذا الأمر سبب عظيم لدخول النار كما نصت عليه الأحاديث.

الحالة الثانية: إذا الدين في مباح وبنيته الوفاء.

فإن مات قبل الوفاء من غير تقصير منه، فإن الله يقضي عنه دينه يوم القيامة، فيعوض دائنيه فضلاً منه وتكرماً، وأما المدين فلا مؤاخذة عليه لعدم تقصيره أو تفريطه.

قال ابن حجر: من مات قبل الوفاء بغير تقصير منه كأن يُعسر مثلاً

وكانت بنيته وفاء دينه، ولم يوفَ عنه في الدنيا،

الظاهر أنه لا تبِعة عليه والحالة هذه في الآخرة، بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، كما دل عليه حديث الباب.

وقال ابن عبد البر: ومن أدَان في حق واجب لفاقة أو عسرة، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه عن الجنة -إن شاء الله- لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين من صنوف الفيء.

•‌

‌ الحديث دليل على وجوب المسارعة في أداء الديون، وتحريم المماطلة.

أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) متفق عليه.

المطل: منع أداء ما استحق أداؤه.

الغني: القادر على السداد.

ب- وعن عمرو بن الشريد عن أبيه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لي الواجد يحل عرضَه وعقوبَته) رواه ابن ماجه.

(لَيْ) اللي: المطل. (الواجد) الواجد: هو القادر على قضاء دينه. (عرضه) أي: لصاحب الدين أن يذمه ويصفه بسوء القضاء، وفسره وكيع في هذا: بشكايته، وكذا سفيان عند البخاري معلقاً. (وعقوبَته) أي: حبسه، كما فسره وكيع في هذا الحديث.

ففي هذه الأحاديث تحريم المماطلة، ولذلك قسم بعض الفقهاء المدين إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مدين غني قادر مقتدر على الوفاء بجميع ديونه.

فهذا يجب عليه وفاء دينه لغريمه في وقته.

فإن لم يفِ وأراد المماطلة، فلصاحب الحق أن يغلظ عليه بالقول، لأنه صاحب حق، وصاحب الحق له مقال، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، فقد روى البخاري عن أبي هريرة (أن رجلاً أنى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه، فأغلظ له، فهمّ به الصحابة، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً)

قال ابن عبد البر: والدليل على أن مطل الغني ظلم لا يحل، ما أبيح منه لغريمه من أخذ عوضه والقول فيه بما هو عليه من الظلم وسوء الأفعال، ولولا مطله له كان ذلك فيه غيبة وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) يريد من بعضكم على بعض ثم أباح لمن مطل بدينه أن يقول فيمن مطله قال صلى الله عليه وسلم (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) واللي المطل والتسويف والواجد الغني. (التمهيد)

ص: 590

وقال ابن قدامة: إذَا امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلِغَرِيمِهِ مُلَازَمَتُهُ، وَمُطَالَبَتُهُ، وَالْإِغْلَاظُ لَهُ بِالْقَوْلِ، فَيَقُولُ: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيُّ الْوَاجِدِ، يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ) فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضُهُ أَيْ: يُحِلُّ الْقَوْلَ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) وَقَالَ (إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا). (المغني).

فإذا امتنع المدين عن الوفاء، وماطل وهو معلوم الملاءة، فإنه يحبس، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

وهو مروي عن عدد من قضاء السلف منهم: شريح، والشعبي، وابن أبي ليلى.

قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ قولهم من علما الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الديْن.

القسم الثاني: مدين معسر معدم.

فهذا إذا تحقق إعساره فلا يجوز تغليظ القول عليه، بل يجب تركه وإنظاره إلى ميسرة.

لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).

قال السعدي رحمه الله: (وَإِنْ كَانَ) المدين (ذُو عُسْرَةٍ) لا يجد وفاء (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين: ومن فوائد الآية: وجوب إنظار المعسر - أي: إمهاله حتى يوسر، لقول الله تعالى:(فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) فلا تجوز مطالبته بالدين، ولا طلب الدين منه.

ولأن التغليظ في القول والحبس لدفع الظلم لإيصال الحق إلى مستحقه، والمعسر لا ظلم منه لعدم قدرته على الوفاء، ولأنه إذا كان غير مستطيع وفاء دينه لا يكون الحبس مفيداً في حقه، لأن الحبس شرع للتوصل إلى قضاء الديْن، لا لعينه، وهذا أمر قد قال به عامة الفقهاء.

القسم الثالث: مدين معسر غير معدم، له من المال ما يكفي لبعض ديونه لا كلها.

فهذا المدين يحق لدائنيه رفع أمره إلى القاضي متى ما ركبته الديون وزادت عن ماله، وهذا القسم سياتي الكلام عليه - إن شاء الله - في باب الحجر إن شاء الله، (والمفلس: من كان دينه أكثر من ماله).

•‌

‌ ما حكم إعانة المدين المعسر؟

مستحب وفيه أجر كبير.

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من نفّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.

(نفّس) أي: فرّج. (كُربة) أي: الكربة الخصلة الي يحزن بها.

قال الإمام النووي في شرح الحديث: ومعنى نفس الكربة: أزالها.

وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين، وقد سبق تفصيله، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، إن كان هذا شرطاً في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به، لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم. (شرح مسلم)

ص: 591

•‌

‌ ماذا يستحب للدائن؟

أولاً: يستحب له السماحة في طلب الدين.

لحديث جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري.

ولفظ الترمذي (غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى) زاد أحمد (سهلاً إ).

قوله (سمحاً) قال ابن حجر: أي سهلاً وهي صفة مشبهة تدل على الثبوت، فلذلك كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي، والسمح الجواد، يقال: سمح بكذا أي: إذا أجاد، والمراد هنا المساهلة. (وإذا اقتضى) أي: طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف.

ثانياً: إنظاره إذا كان معسراً.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. فَلَقِىَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْه) متفق عليه.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ (أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيماً لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ إِنِّى مُعْسِرٌ. فَقَالَ آللَّهِ قَالَ آللَّهِ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ) رواه مسلم.

وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ) رواه الترمذي.

وعن أبي اليسر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ) رواه مسلم.

ثالثاً: الوضع عنه.

للحديث السابق (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ).

ولحديث أبي قتادة السابق (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ).

أنظر معسراً: أي أمهله في قضاء الدي، وضع عنه: أي تجاوز عن الدين أو بعضه.

•‌

‌ ماذا يستحب للمدين؟

أولاً: أخذ الدين بنية الوفاء.

لحديث الباب.

ولرواية النسائي (من أخذ ديْناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل.

ثانياً: حسن القضاء.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً - فَقَالَ لَهُمُ - اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ». فَقَالُوا إِنَّا لَا نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ. قَالَ «فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ - أَوْ خَيْرَكُمْ - أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) متفق عليه.

ص: 592

عَنْ أَبِى رَافِعٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْراً فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِىَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَاراً رَبَاعِياً. فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً) متفق عليه.

•‌

‌ عرف القرض؟

القرض لغة: هو القطع، ومنه المقراض الذي يقطع به.

القرض: هو إعطاء مال لمن ينتفع به ويرد بدله.

قول (ويرد بدله) خرج بذلك العارية، لأن العارية لا يرد بدلها وإنما يرد عينها.

- وسمي قرضاً: لأن المقرض يقطع جزءاً من ماله للمقترض.

•‌

‌ هل القرض من عقود المعاوضات أو من عقود التبرعات؟

القرض من عقود التبرعات.

العقود تنقسم إلى (3) أقسام:

الأول: عقود تبرعات (كالقرض، والهبة، والوصية).

الثاني: عقود معاوضات (كالبيع، والإجارة).

الثالث: عقود توثيقات (كالرهن، والضمان).

•‌

‌ ما حكم القرض؟

حكمه للمقرِض: سنة.

قال الشوكاني: وفي فضيلة القرض أحاديث وعموميات الأدلة القرآنية والحديثية القاضية بفضل المعاونة وقضاء حاجة المسلم وتفريج كربته وسد فاقته شاملة له، ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته.

أ-قال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، والقرض إحسان.

ب-وقال تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة).

وجه الدلالة: أن هذه الآية عامة في الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ويدخل في ذلك القرض، ولهذا قالوا: إن الله تبارك وتعالى شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرض، وشبه الجزاء المضاعف على ذلك ببدل القرض وهذا يدل على فضيلة القرض.

ج-وقال تعالى (وأقرضوا الله قرضاً حسناً).

د- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) رواه مسلم.

هـ- وعن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من منح منيحة لبن أو ورِق، أو هدى زقاقاً كان له مثل عتق رقبة) رواه الترمذي.

قال الترمذي: ومعنى قوله (من منح منيحة ورق) إنما يعني به قرض الدراهم. (أو هدى زقاقاً) يعني به هداية الطريق.

ص: 593

قال الحافظ في الفتح: المنيحة بالنون والمهملة وزن عظيمة هي في الأصل العطية، قال أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين: أحدهما: أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر: أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنا ثم يردها، وقال القزاز: قيل لا تكون المنيحة إلا ناقة أو شاة والأول أعرف.

وقال المباركفوري: قوله: (من منح) أي أعطى (منيحة لبن أو ورق) بكسر الراء وسكونها أي فضة، قال الجزري في النهاية منحة الورق القرض، ومنحة اللبن أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانا ثم يردها، ومنه الحديث (المنحة مردودة).

د- وعن ابن مسعود. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما من مسلم يقرض قرضاً مرتين إلا كصدقتها مرة) رواه ابن ماجه.

وأما بالنسبة للمقترض فمباح.

•‌

‌ ما الذي يصح قرضه؟

كل شيء يصح بيعه يصح قرضه إلا بني آدم:

فيصح قرض الحيوانات، والأواني، والكتب، والطاولات، ..

(إلا بني آدم) أي الأرقاء، قالوا: لئلا يؤدي إلى أن يستقرض أمَة فيجامعها.

•‌

‌ هل يتأجل القرض بالتأجيل؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن القرض لا يلزم تأجيله بالتأجيل، ولا يكون إلا حالاً.

وهذا قول جمهور العلماء، من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لقوله تعالى (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ).

قالوا: نفي السبيل عنهم على وجه نصوصية الاستغراق، فلو لزم تحقق سبيل عليه.

ب- أن القرض من عقود التبرعات، فهو صلة في الابتداء، فلو لزم لكان سبباً في الخروج عن باب الإرفاق.

ج- القياس على العارية في عدم لزومها.

القول الثاني: صحة التأجيل ولزومه.

وهذا قول مالك، والليث بن سعد، وهو قول بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وبقية النصوص الواردة في وجوب الوفاء بالعهد والوعد

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) رواه الترمذي.

ج-ولأن المطالبة به وهو مؤجل إخلاف للوعد، وقد قال صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: .. وإذا وعد أخلف) متفق عليه. فالوعد يجب الوفاء به.

د- القياس على سائر الدين، حيث لا يحق لصاحب الحق تعجيلها قبل أجلها، كثمن المبيع المؤجل (باتفاق) والأجرة المؤجلة.

هـ-ما ثبت عن ابن عمر (أنه سئل عن القرض إلى أجل، فقال: لا بأس به، قال: وإن أعطى أفضل من دراهمه ما لم يشترط) أخرجه البخاري تعليقاً.

و- أن الأصل في الديون جواز التأجيل، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ) وإخراج القرض من ذلك يحتاج إلى دليل، لأنه ديْن من الديون.

وهذا القول هو الراجح، وقد نصره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين.

ص: 594

•‌

‌ ما الجواب عن قول أصحاب القول الأول: أن القرض من عقود التبرعات؟

الجواب: أن تأجيل القرض لا ينافي موضوع التبرعات، إذ القرض إحسان، وتأجيله إحسان آخر، وكون المقرِض ملزماً بالكف عن المطالبة حتى ينتهي الأجل، لا ينافي كونه متبرعاً، إذ هو ألزم نفسه برضاه مع علمه بأن النفع للمقترض.

•‌

‌ ما حكم قرض المنافع؟

مثال: كأن يقول: احصد عندي هذا اليوم وأحصد عندك غداً، أو أن ينسخ له كتاباً على أن ينسخ له كتاباً آخر مثله.

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يجوز قرض المنافع.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.

أ- قالوا: إن من صحة القرض أن يكون معلوم القدر حتى يمكن رد بدله، والمنافع يصعب تقديرها، فلا تتحقق المماثلة الوا.

ب- لأنه يكون من قبيل القرض الذي جر نفعاَ، وهو محرم.

ج- أنه غير معهود في العادة والعرف.

القول الثاني: أنه يجوز.

وهو مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.

أ- أن القرض عقد إرفاق وقربة، ويتسامح فيه ما لا يتسامح في غيره من عقود المعاوضات.

ب- أن الأصل في المعاملات الإباحة، وإذا قيل هذا في باب المعاوضات فباب الإرفاق والتبرع أولى بذلك وأحرى.

والله أعلم بالراجح.

•‌

‌ ما حكم إذا شرط المقرِض أن يوفيه في بلد آخر؟ كأن يقول: أقرضك بشرط أن توفيني به في مكان كذا.

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: ستأتي المسألة إن شاء الله.

•‌

‌ ما حكم ما يسمى بجمعية الموظفين؟

اختلف العلماء المعاصرين في حكم هذه الجمعية على قولين:

القول الأول: الجواز.

وإليه ذهب غالب هيئة كبار العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

لأن الأصل في العقود الحل، فكل عقد لم يرد دليل شرعي يدل على تحريمه فهو جائز.

أن في هذه المعاملة تعاوناً على البر والتقوى، فهي طريق لسد حاجة المحتاجين، وإعانة لهم على البعد عن المعاملات المحرمة كالربا أو التحايل عليه ببيع العينة.

القول الثاني: أنها حرام.

ص: 595

860 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَاناً قَدِمَ لَهُ بَزٌّ مِنَ الشَّامِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ بِنَسِيئَةٍ إِلَى مَيْسَرَةٍ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ) أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

===

- (بَزٌّ مِنَ الشَّامِ) بفتح الباء والزاي المشددة، نوع من الثياب الغليظة.

(بِنَسِيئَةٍ) أي: يؤخر تسليم الثمن.

(إِلَى مَيْسَرَةٍ) أي: مؤجلاً إلى وقت اليسر والسعة والغنى.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث صحيح، أخرجه الترمذي وأحمد أيضاً.

•‌

‌ ما حكم البيع إلى ميسرة؟

البيع إلى الميسرة محل خلاف بين أهل العلم.

فإن الميسرة أجل مجهول فلا يصح عند جماهير العلماء.

قال الشيرازي في المهذب: إن باع بثمن مؤجل لم يجز إلى مجهول، كالبيع إلى العطاء، لأنه عوض في بيع، فلم يجز إلى أجل مجهول كالمسلم فيه. اهـ.

وقال النووي في شرحه: اتفقوا على أنه لا يجوز البيع بثمن إلى أجل مجهول. انتهى.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) اتفق الفقهاء على عدم جواز التأجيل إلى ما لا يعلم وقت وقوعه ـ حقيقة أو حكماً ـ ولا ينضبط، وهو الأجل المجهول وذلك كما لو باعه بثمن مؤجل إلى قدوم زيد من سفره، أو نزول مطر، أو هبوب ريح، وكذا إذا باعه إلى ميسرة، واختلفوا في أثر هذا التأجيل على التصرف فيرى الحنفية والمالكية والشافعية ـ وهو رأي للحنابلة ـ أنه لا يصح العقد أيضا، وذلك لأنه أجل فاسد فأفسد العقد.

ويرى الحنابلة أن الأجل المجهول في البيع يفسد، ويصح البيع، وفي السلم يفسد الأجل والسلم. انتهى.

ومن أهل العلم من يستثني البيع إلى ميسرة من اشتراط معلومية الأجل.

لحديث الباب.

قال الصنعاني: فيه دليل على بيع النسيئة وصحة التأجيل إلى ميسرة. اهـ.

والراجح هو قول الجمهور وأن البيع إلى الميسرة لا يصح، وهو من الأجل المجهول.

وأما حديث الباب فالجواب عنه:

قال البيهقي: هذا محمول على أنه استدعى البيع إلى الميسرة، لا أنه عقد إليها بيعا، ثم لو أجابه إلى ذلك أشبه أن يوقت وقتاً معلوماً، أو يعقد البيع مطلقاً ثم يقضيه متى ما أيسر. اهـ.

قال ابن قدامة: إن قيل: فقد روي عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي أن ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة، قلنا: قال ابن المنذر: رواه حرمي بن عمارة، قال أحمد: فيه غفلة هو صدوق. قال ابن المنذر: فأخاف أن يكون من غفلاته إذ لم يتابع عليه. ثم لا خلاف في أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح. اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري، والعيني في عمدة القاري: الحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب، لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه، ولذلك لم يصف الثوبين. انتهى.

ص: 596

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

جواز معاملة الكفار، والشراء منهم، والبيع لهم، وغير ذلك من التصرفات، وأنَّها لا تعتبر من موالاتهم والركون إليهم.

2.

فيه دليل على جواز الاستقراض، وأنه ليس من المسألة المذمومة.

3.

فيه دليل على أنَّ ما يأتي من الكفار من ثياب مصبوغة، أو أواني مُموَّهة، فالأصل في ذلك الطهارة.

4.

جواز بيع النسيئة.

5.

بيان لؤم اليهود وشحهم، وفساد طويتهم، وأنَّ هذه الأخلاق الذميمة والصفات الدنيئة متأصلة بأولهم وآخرهم، إلاَّ من أنقذه الله تعالى منهم باتباع الرسل، وهدي الأنبياء.

ففي الحديث: عن عائشة قالت: (إنَّ فلانًا جاءه بزٌّ، فابعثْ إليه يبيعك ثوبين إلى الميسرة، فبعث إليه، فقال: قد عرفت ما يريد محمَّد، إنما يريد أن يذهب بثوبي -أي لا يعطيني دراهمي-. فبلغ ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد كذب، لقد عرفوا أني أتقاهم لله عز وجل" أو قال: "أصدقهم حديثًا، وآداهم للأمانة).

6.

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه وتحمله.

ص: 597

861 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ اَلدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى اَلَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ اَلنَّفَقَةُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

(اَلظَّهْرُ) المراد به الحيوان المعد للركوب.

(بِنَفَقَتِهِ) أي: مقابل نفقته.

(وَعَلَى اَلَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ اَلنَّفَقَةُ) النفقة: هي المؤنة من علف وسقي ورعاية ونحو ذلك.

•‌

‌ عرف الرهن؟

الرهن: هو توثقة دينٍ بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.

مثال: في ذمتي لزيد (100) درهم فأرهنتك مسجل.

فإذا كان الرهن أكثر من الدين فإنه يمكن استيفاء الدين من بعضها.

وإذا الدين أكثر من العين المرهونة فإنه يمكن استيفاء بعضه منها.

وإذا كان الدين بقدر العين فإنه يمكن استيفاؤه كله منها.

•‌

‌ ما الحكمة من الرهن؟

توثقة الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن حفاظاً لحقه فكذلك يوثق بالرهن.

•‌

‌ ما حكم الرهن؟

الرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع:

قال تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة).

وعن عائشة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد) متفق عليه.

وقال ابن قدامة: أجمع المسلمون على جواز الرهن.

- جماهير العلماء على جواز الرهن في الحضر كما يشرع في السفر، لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم له وهو مقيم بالمدينة، وأما تقيده بالسفر في الآية فإنه خرج مخرج الغالب، لأن الرهن غالباً يكون في السفر.

- قال ابن حجر رحمه الله في قول البخاري في التبويب للحديث (في الحضر).

فيه إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب، فلا مفهوم له، لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر، وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين لقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب.

وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر.

ص: 598

•‌

‌ ما الذي يصح رهنه؟

كل ما جاز بيعه جاز رهنه، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.

لأن الرهن إذا كان مما لا يصح بيعه - كالخمر، والكلب والوقف - فإنه لا يمكن الاستيفاء منه إذا تعذر السداد.

مثال: أقرضت شخصاً (100) ريال، وقلت له أعطني رهناً، فقال: أعطيك كلب صيد، فهذا لا يجوز، لأن الكلب لا يجوز بيعه، لأن مقصود الرهن لا يحصل منه.

فيصح رهن السيارات والساعات والفرش والطاولات وكل شيء يجوز بيعه.

- لا يصح رهن المجهول، وكذلك لا يصح رهن الوثائق الرسمية كبطاقة الأحوال، وجواز السفر ونحوهما، لأن هذه الوثائق الرسمية لا يمكن بيعها عند تعذر استيفاء الديْن.

•‌

‌ ماذا يكون الرهن عند المرتهن؟

يكون أمانة عند المرتهن لا يضمنها إلا إذا تعدى أو فرط كسائر الأمانات، فإذا احترقت أو سرقت من غير تعد ولا تفريط فإنه لا يضمنها.

مثال: إنسان أخذ السيارة رهناً، لكن قدر أنها سرقت، فلا يضمنها لأنه لم يتعد ولم يفرط.

مثال آخر: إنسان أخذ كتاباً رهناً، ووضع الكتاب في مكان آمن مع كتبه، لكن هذا الكتاب سرق، فإنه لا يضمن لأنه لم يتعد ولم يفرط.

- التعدي: أن يفعل ما لا يجوز، والتفريط: أن يترك ما يجب (في الحفظ).

- فإن فرط أو تعدى فإنه يضمن.

مثال: أخذ كتاباً رهناً ووضعه في الحوض، فجاء المطر فأتلفه، فهنا يضمن الكتاب لأنه مفرط.

مثال آخر: أخذ السيارة رهناً، فاستعملها ففعل حادثاً فيها، فإنه يضمن، لأنه اعتدى، لأن هذه السيارة أمانة عنده، والأمانة صفتها لا تستعملها ولا تقصر في حفظها.

- قاعدة (كل من قبض مال غيره بإذن من الغير أو من الشارع فهو أمانة عنده فلا يضمن إلا بتعد أو تفريط)

•‌

‌ ما حكم انتفاع المرتهن بالرهن؟

يحرم على المرتهن أن ينتفع بالرهن، وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:

الأولى: ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه، فهذا لا يجوز الانتفاع به بغير إذن الراهن.

قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً.

الثانية: ما يحتاج إلى نفقة مما يركب ويحلب.

فهذا اختلف العلماء في حكم انتفاع المرتهن بهذه الأشياء مقابل النفقة بغير إذنٍ من الراهن على قولين:

القول الأول: يجوز للمرتهن الانتفاع إذا قام بنفقته ولو لم يأذن المالك، ويكون الانتفاع بقدر النفقة.

كأن يكون الرهن دابة (بعيراً) واحتاج المرتهن إلى الركوب، فإنه يركبه ولو لم يستأذن من الراهن، لأن الشارع هو الذي أذن له، لأن الشارع جعل الانتفاع مقابل النفقة.

وهذا مذهب الحنابلة.

ص: 599

لحديث الباب (اَلظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ اَلدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا

).

وجه الدلالة: أن الحديث جعل المنفعة بدلاً وعوضاً عن النفقة، ومعلوم أن الراهن يستحق المنافع بملك الرقبة، لا بالنفقة، مما يدل على أن المراد المرتهن.

القول الثاني: لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمركوب، أو المحلوب إذا لم يأذن له الراهن.

إلى هذا ذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية.

أ- لحديث الآتي (لا يغلق الرهن من صاحبة، له غنمه وعليه غرمه).

وجه الدلالة: أن الحديث جعل الغنم للراهن، ولا شك أن منافع الرهن من غنمه، والحديث لم يفرق بين مركوب أو محلوب.

ب-إن الرهن لم يخرج المرهون من ملك الراهن، والراهن لم يأذن للمرتهن بالانتفاع، فالمرتهن كالأجنبي، والرهن كالوديعة.

•‌

‌ ماذا أجاب جمهور العلماء عن حديث الباب؟

أجابوا بعدة أجوبة:

أولاً: أن هذا الحديث ورد على خلاف القياس من وجهين:

أحدهما: التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه.

الثاني: تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر: لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه.

ثانياً: أن المراد بالحديث: أن الرهن مركوب ومحلوب للمرتهن بإذن الراهن.

ثالثاً: إن الحديث مجمل، لم يبيّن من الذي يركب ويشرب، هل هو الراهن أم المرتهن؟

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن هذه الاعتراضات؟

أما قولهم: إنه على خلاف القياس.

فالجواب: بأن السنة الصحيحة من جملة الأدلة والأصول، فلا يجوز ردها بدعوى المخالفة للأصول، وهي لا ترد إلا بمعارض أرجح.

وأما قولهم: إن المراد بإذن المالك.

فالجواب: أن الحديث مطلق، إذ ليس فيه تعليق بالإذن.

وأما قولهم: إن الحديث مجمل لم يبين هل هو الراهن أم المرتهن.

فالجواب: إن الذي يركب ويشرب هو المرتهن لأمرين:

الأول: أن الحديث يجعل الركب واللبن بدل النفقة، فإذا أنفق المرتهن ركب وشرب.

الثاني: أنه قد ورد في رواية هشيم عن زكريا بلفظ (إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها

).

والقول الأول هو الراجح.

وقد ذهب بعض العلماء إلى حمل الحديث على أنه يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن مركوباً ولبناً واستخدامه عند تعذر الإنفاق عليه من الراهن لامتناعه.

قال ابن حجر في الفتح: وقد ذهب الأوزاعي، والليث، وأبو ثور إلى حمله على ما إذا أمتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذ للمرتهن الإنفاق على الحيوان حفظاً لحياته، ولإبقاء المالية فيه، وجعل له في مقابلة نفقته الانتفاع بالركوب أو بشرب اللبن بشرط أن لا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه وهي من جملة مسائل الظفر.

ص: 600

•‌

‌ هل القبض شرط للزوم أم لا؟

مثاله: قلت لشخص: بعتك سيارتي بشرط أن ترهنني هذه الساعة، قال: قبلت (ولم يقبض المرتهن الساعة).

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن قبض الرهن شرط للزوم.

وهذا مذهب أكثر العلماء.

وعلى هذا القول: فإن للراهن أن يتصرف بالرهن (وهو الساعة كما في المثال السابق) بيعاً أو هبة لأنه لم يقبضه.

لقوله تعالى (فرهان مقبوضة). وعلى هذا الرهان التي لم تقبض لا أثر لها ولا تنفع.

واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً ..... ) فالحديث ظاهر في صورة ما إذا قبض المرتهن الرهن.

وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي أقبضه أياه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقبض اليهودي الدرع، ولو لم يكن القبض شرطاً لما أقبضه إياه.

القول الثاني: أن القبض ليس شرطاً للزوم، بل يلزم الرهن بمجرد عقد الرهن.

وعلى هذا القول فلا يجوز للراهن أن يتصرف فيه، ولو تصرف فيه فإن تصرفه غير صحيح.

وهذا مذهب المالكية وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.

أ-لعموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وعقد الرهن تام بالاتفاق فيجب الوفاء به.

ب-ولقوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً). والعقد عهد وقد تعاقدا على الرهن فيجب الوفاء به.

ج- ولحديث (المسلمون على شروطهم) وجه الاستدلال: أنه لما شرط عليه الرهن وقَبِل هذا الرهن فإنه يجب العمل بمقتضاه، ومقتضاه عدم التصرف فيه بغير إذن المرتهن.

ج- ولقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) وهذا دليل على أنه إذا حصل الائتمان لم يلزم القبض اكتفاء بالائتمان عليه، ولهذا أكد الله تعالى على المؤتمن أن يؤدي أمانته حيث أمره بالأداء وبتقوى الله.

فهذا المرتهن الذي شرط الرهن وتركه عند الراهن قد ائتمنه عليه وتركه عنده، وإذا كان قد ائتمنه عليه فإنه يجب الوفاء بما يقتضيه الرهن وهو أن يبقى عنده أمانة.

وقالوا: إن القول باشتراط القبض يؤدي إلى الخصومة والنزاع وفتح باب التحايل، لأن هذا الشخص إذا عقد العقد وعلم أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض فإنه سيعقد هذا العقد ويتحايل في تأخير قبض الرهن ثم بعد ذلك يتصرف فيه ببيع أو غيره، فينشأ عن ذلك النزاع والخصومة.

وهذا القول هو الراجح، وأما الجواب عن الآية (فرهان مقبوضة .. ) فقالوا: إن الله لم يذكر في الآية القبض على وجه الإطلاق، وإنما ذكره في حال معين وهو السفر، فهنا لا يمكن التوثقة إلا برهن مقبوضة، لأنك إذا لم تقبض الرهن وليس بينكما مكاتبة صار ذلك عرضة بأن يجحدك الراهن، ومما يدل على ذلك بقية الآية (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته) فهذا يدل على أنه إذا حصل الإئتمان بيننا فإننا يجب أن نعتمد على أداء الأمانة سواء حصل القبض أم لم يحصل، وإلا لكانت هذه الجملة لا معنى لها.

ص: 601

862 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْلَقُ اَلرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ اَلَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَرِجَالهُ ثِقَاتٌ. إِلَّا أَنَّ اَلْمَحْفُوظَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ إِرْسَالُهُ.

===

(لَا يَغْلَقُ اَلرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ) بفتح الياء وسكون الغين ثم لام مفتوحة، ومعناه: لا يستحق المرتهن الرهن بمجرد حلول الأجل.

(لَهُ غُنْمُهُ) أي: زيادته وكسبه.

(وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ) أي: هلاكه ونقصه ونفقته.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

صححه جمع من الحفاظ إرساله.

•‌

‌ ما معنى حديث الباب؟

مَعْنَى الحديثِ: أنَّ المُرْتَهِنَ لا يَسْتَحِقُّ الرَّهْنَ إذا عَجَزَ الراهِنُ عن أداءِ ما رَهَنَهُ به؛ لأنَّ الرَّهْنَ مِلْكٌ للراهنِ لا يَزَالُ مِلْكُه عليه، وإنَّما هو وَثِيقَةٌ بيَدِ المُرْتَهِنِ، لحِفْظِ مالِه من الدَّيْنِ عندَ الراهِن. (توضيح الأحكام).

ومن معانيه:

أولاً: أن المرتهن يأخذ الرهن ويستعمله فيأخذ أجرته إن كان يؤجر ومنافعه إن كان ينتفع به ولا يكون للراهن منها شيء، وهذا إغلاق، لأنك حِلت بينه وبين صاحبه.

ثانياً: أنه إذا حل الدين ولم يوفِ الدين أخذه المرتهن رغماً عن أنف الراهن سواء كان ذلك بقدر الدين أو بأقل أو بأكثر، وهذا إغلاق، لأنك منعتَ صاحبه منه، وكلا الصورتين حرام وأكل للمال بالباطل.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (عليه غنمه وغرمه)؟

نستفيد: أنَّ نَفَقَةَ الحَيَوانِ المَرْهونِ ومُؤْنَتَه على الراهنِ، فليسَ على المُرْتَهِنِ شَيْءٌ منها، كما أنَّ لَهُ غُنْمُه من ثَمَرَةٍ وزِيادَةٍ وكَسْبٍ، كما جاءَ في الحديثِ السابق (الْخَرَاجُ بالضَّمَان).

•‌

‌ ماذا يكون إذا حل الأجل؟

يطالب الراهن بالسداد، فإذا سدد المبلغ كاملاً انفك الرهن.

ومعنى: انفك الرهن: أن يسلمه المرتهن إلى الراهن (وهو صاحبه الأصلي).

وإن لم يحصل الوفاء، وطلب صاحب الحق بيع الرهن: فإن كان الراهن أذن للمرتهن في بيعه باعه ووفى دينه.

وإن لم يأذن فإنه ترفع القضية للحاكم فيجبره الحاكم على أمرين: وفاء الدين أو بيع الرهن، فإن أبى فإنه يبيعه الحاكم ويوفي دينه.

•‌

‌ ما الحكم لو قال صاحب الرهن للمرتهن إذا حل الأجل ولم أوفك فالرهن لك ووافق على ذلك المرتهن، فهل يجوز أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز.

وهذا قول جماهير العلماء.

ص: 602

قال ابن قدامة: وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ مَتَى حَلَّ الْحَقُّ وَلَمْ يُوَفِّنِي فَالرَّهْنُ لِي بِالدَّيْنِ أَوْ: فَهُوَ مَبِيعٌ لِي بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ.

رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ. (المغني).

لحديث الباب (لا يغلق الرهن على صاحبه) رواه الدارقطني.

القول الثاني: أنه يجوز.

وهذا اختيار ابن القيم.

أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

ب- ولحديث (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حل حراماً أو حرم حلالاً).

ويرى ابن القيم رحمه الله أن الحديث جاء لإبطال عادة كانت في الجاهلية، وهي أن المرتهن يأخذ الرهن إذا حل الأجل ولم يؤد الراهن الدين من غير رضا الراهن ولا اشتراط ذلك عليه في عقد الرهن.

قال رحمه الله في اعلام الموقعين: إذا رهنه رهناً بدين وقال: إن وفيتك الدين إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما عليه صح ذلك، وفعله الامام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح، وهو المشهور من مذاهب الائمة الثلاثة، واحتجوا بقوله (لا يغلق الرهن).

ولا حجة لهم فيه، فإن هذا كان موجبه في الجاهلية، أن المرتهن يتملك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يوفه، فهذا هو غلق الرهن الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا مفسدة ظاهرة، وغاية ما فيه أنه بيع علق على شرط، ونعم فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المرتهنين، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله، ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن من تكليفه الرفع إلى الحاكم وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة، فإذا اتفقا على أنه بالدين عند الحلول كان أصلح لهما وأنفع وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة.

•‌

‌ هل يضمن المرتهن الرهن إذا هلك في يده؟

اتفق الفقهاء على أن الرهن إذا تلف عند المرتهن بتعدٍ منه أو بتقصير في حفظه، فإنه ضامن له.

واختلفوا فيما إذا هلك بغير تعد منه ولا تفريط على أقوال:

القول الأول: إذا تلف الرهن في يد المرتهن فإنه مضمون عليه مطلقاً، أي: سواء مما يخفى - كالثياب والجواهر - أو مما لا يخفى كالعقار.

وهذا مذهب الحنفية.

القول الثاني: أن الرهن أمانة في يد المرتهن فلا يضمنه ولا يسقط بتلفه شيء من الدين.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وابن المنذر.

وهذا القول هو الراجح.

•‌

‌ من الذي ينفق على المرهون؟

اتفق الفقهاء على أن مؤونة المرهون على الراهن، فطعام المرهون وشرابه وكسوته وكفنه على الراهن.

لحديث الباب (

له غنمه وعليه غرمه).

فجعل الحديث لمالك الرهن غنمه من نماء وزيادة، وجعل عليه غرمه من مؤونة أو نقص أو هلاك.

ولأن هذه الأشياء من حقوق الملك، ومؤونات الملك على المالك، والمالك الراهن فكانت المؤونة عليه.

ص: 603

863 -

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنَ اَلصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ اَلرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ إِلَّا خَيَارًا، قَالَ: " أَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خِيَارَ اَلنَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ) أي: اقترض.

(مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا) بفتح الباء، وهو الصغير من الإبل، قال النووي: أَمَّا الْبَكْر مِنْ الْإِبِل: فَبِفَتْحِ الْبَاء وَهُوَ الصَّغِير كَالْغُلَامِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَالْأُنْثَى بَكْرَة وَقَلُوص، وَهِيَ الصَّغِيرَة كَالْجَارِيَةِ.

(فَقَالَ: لَا أَجِدُ إِلَّا خَيَارًا) الخيار: هو الجيد، وفي رواية (خياراً رباعياً) والرَّبَاعي من الإبل: هو الذكر منها إذا أتى عليه ست سنين ودخل في السابعة حين طلعت رباعيته.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز الزيادة بالوفاء بما هو أفضل من الشي المقترض، وأن ذلك من حسن القضاء.

قال النووي: وَفِيهَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْن مِنْ قَرْض وَغَيْره أَنْ يَرُدّ أَجْوَد مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ السُّنَّة وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَرْض جَرَّ مَنْفَعَة فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيّ عَنْهُ مَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْد الْقَرْض، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الزِّيَادَة فِي الْأَدَاء عَمَّا عَلَيْهِ. وَيَجُوز لِلْمُقْرِضِ أَخْذهَا سَوَاء زَادَ فِي الصِّفَة أَوْ فِي الْعَدَد بِأَنْ أَقْرَضَهُ عَشَرَة فَأَعْطَاهُ أَحَد عَشَر، وَمَذْهَب مَالِك: أَنَّ الزِّيَادَة فِي الْعَدَد مَنْهِيّ عَنْهَا، وَحُجَّة أَصْحَابنَا عُمُوم قَوْله صلى الله عليه وسلم (خَيْركُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاء). (نووي)

فالزيادة في القرض على نوعين:

الأول: أن تكون مشترطة في أصل العقد، وهذا ربا بالإجماع، كما سيأتي إن شاء الله.

الثاني: أن تكون الزيادة غير مشروطة في أصل العقد، وإنما بذلها المقترض من باب حسن الأداء، فهذا مستحب ومن مكارم الأخلاق، كما في حديث الباب.

•‌

‌ هل الزيادة يجوز أن تكون في الصفة والعدد، أم فقط في الصفة دون العدد؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز أن تكون الزيادة في القدر أو في الصفة.

وهذا قول جماهير العلماء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لحديث الباب.

وجه الدلالة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه القرض بالسن الخيار، وثناءه على حسن القضاء يدل على استحباب تطوع المقترض بزيادة على ما اقترضه عند الوفاء، ويدل على جواز قبول المقرض لذلك سواء كانت الزيادة في المقدار أو في الصفة، لأن النص أطلق ولم يقيد.

فقوله صلى الله عليه وسلم (إن خيار الناس أحسنهم قضاء) عام يتناول حسن القضاء في الصفة كما يتناول حسن القضاء في القدر.

ب-عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي) متفق عليه.

ص: 604

وجه الدلالة: أن الحديث يدل على جواز الزيادة على الديْن عند الوفاء، والزيادة في هذا الحديث هي زيادة في القدر، كما تدل عليه الروايات الأخرى للحديث.

القول الثاني: يجوز أن تكون الزيادة من جهة الوصف، كأن يوفيه المقترض أجود عيناً أو أرفع صفة، ولا يجوز أن تكون الزيادة من جهة المقدار.

وهذا قول جمهور المالكية.

قالوا: إن الحديث ورد في الجمل الخيار وهو أجود صفة.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ اذكر ما يسن للمدين تجاه المقرض؟

أولاً: حسن القضاء، كما في حديث الباب.

ثانياً: أخذ الدين بنية الوفاء.

لحديث أبي هريرة -وفد تقدم- (من أخذ أموال الناس يريد أداها أدى الله عنه).

ولحديث ميمونة -وقد تقدم- (من أخذ ديْناً وهو يريد أن يؤديَه أعانه الله عز وجل رواه النسائي.

ثالثاً: الدعاء للدائن والثناء عليه.

أ- عن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْهُ حِينَ غَزَا حُنَيْنًا ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ) رواه النسائي وابن ماجه.

ب-وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ، فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ، فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ، فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوه) حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي.

•‌

‌ ما حكم قرض الحيوان؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين: وجمهور العلماء على جواز ذلك، لحديث الباب.

قال الشوكاني: وفي الحديث جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور.

• اقتراض النبي صلى الله عليه وسلم على ماذا يدل؟

يدل على جواز الاقتراض والاستدانة، وإنما استدان النبي صلى الله عليه وسلم للحاجة.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

جواز المطالبة بالديْن إذا حل الأجل.

2.

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وعظم حلمه.

3.

جواز القرض.

ص: 605

864 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَهُوَ رِبًا) رَوَاهُ اَلْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَإِسْنَادُهُ سَاقِط.

===

•‌

‌ ما صحة حديث؟

لا يصح كما قال المصنف رحمه الله، وإسناده ضعيف جداً، فيه سوّار بن مصعب هو الهمداني الكوفي أبو عبد الله، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك.

وممن حكم بضعفه: الصنعاني في سبل السلام، والشوكاني في نيل الأوطار، والألباني، وابن باز.

قال عمر بن بدر الموصلي في المغني (لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ ما حكم اشتراط منفعة في القرض؟

حرام بالإجماع.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف في ذلك أن أخْذه الزيادة على ذلك ربا.

وقال ابن عبد البر: وكل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلّف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك.

وقال ابن قدامة: وكل قرض شرط فيه أن يزيده، فهو حرام بغير خلاف.

وقال القرطبي: أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف.

وقال ابن تيمية: وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حراماً.

وقال ابن حجر: وفيه جوزا وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد فيحرم حينئذ اتفاقاً.

وقال الشوكاني: وأما إذا كانت الزيادة مشروطة فتحرم اتفاقاً.

لأن القرض عقد إرفاق وهو قربة، فإذا أخذ عليه الزيادة لم يكن إرفاقاً ولا قربة. بل يكون بيعاً ورباً صريحاً.

قال ابن قدامة: لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه.

قال ابن حزم في المحلى: وصح النهي عن ابن سيرين وقتادة والنخعي.

- والمنفعة قد تكون بدنية، أو مالية، أو عين.

مثال البدنية: أن يقول أقرضتك ألف ريال بشرط أن تشتغل عندي يوماً واحداً.

مثال المالية: أقرضتك ألف ريال بشرط أن تعطيني ساعتك

مثال عين: أقرضتك ألف ريال بشرط أن أسكن بيتك يوم واحد.

- وسواء كانت الزيادة في الصفة أو في القدر.

مثال الزيادة في الصفة: أن يشترط رد المقترض أجود مما أخذ، كأن يقارض دابة ويشترط عليه رد أجود منها، وكشرط قضاء شيء عفن بشيء سالم.

ومثال الزيادة في القدر: أن يشترط رد المقترض أكثر مما أخذ من جنسه، كأن يقترض عشرة دراهم، ويشترط عليه أن يرد أحد عشر درهماً.

ص: 606

•‌

‌ ما الحكم لو اشترط الوفاء بالأقل؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يجوز اشتراط الوفاء بالأقل.

وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم.

أ- أن مقتضى القرض رد المثل، فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يجز.

ب- القياس على اشتراط الزيادة.

القول الثاني: يجوز اشتراط الوفاء بالأقل.

لأن القرض شرع رفقاً بالمقترض، واشتراط الوفاء بالأقل منفعة للمقترض، ونفع المقترض لا يمنع منه.

وهذا الصحيح.

•‌

‌ ما حكم القرض إذا كان من المعلوم عن المقترض أنه يزيد في الوفاء؟

كره بعض الفقهاء ذلك.

وهذا قول الحنفية.

قالوا: إن المقرض إذا أقرض للمعروف بحسن القضاء، فإنه إنما فعل ذلك لأنه يطمع في حسن عادته.

والصحيح عدم الكراهة، ورجحه ابن قدامة.

قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، لَمْ يُكْرَهْ إقْرَاضُهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي حُسْنِ عَادَتِهِ.

وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، فَهَلْ يَسُوغُ لَأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ إقْرَاضَهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ خَيْرُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ. (المغني).

•‌

‌ ما الحكم إذا أقرضه واشترط عليه الوفاء في بلد آخر؟

هذه المسألة لها صور:

الصورة الأولى: تمحض المنفعة للمقرض، حيث يكون غاية المقرض من اشتراط الوفاء في بلد غير بلد القرض نفع نفسه فقط، ليستفيد به سقوط خطر الطريق، الذي قد يتعرض له ماله، كما ينتفع المقرض - أيضاً - بإسقاء كراء الحمل فيما يحتاج حمله إلى مؤنة لنقله من بلد إلى آخر.

ففي هذه الحالة لا يجوز اشتراط الوفا في غير بلد القرض، وهذا بالإجماع.

لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.

الصورة الثانية: تمحض المنفعة للمقترض، حيث يكون غاية المقرض من اشتراط الوفاء في غير بلد القرض نفع المقترض فقط.

وفي هذه الحالة: يجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض، لأن هذا إرفاق مع إرفاق.

ص: 607

الصورة الثالثة: أن يكون اشتراط الوفاء في غير بلد القرض لمنفعة المقرض والمقترض معاً.

وهذه محل خلاف بين العلماء:

فقيل: يكره.

وقيل: يحرم.

وقيل: يجوز، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.

وقيل: لا يجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض إذا كان لحمل مال الوفاء مؤنة، ويجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض إذا لم يكن لحمل الوفاء مؤنة. واختاره ابن قدامة.

•‌

‌ ما الحكم لو اشترط عقداً آخر مع القرض كالبيع والإجارة (كأن يقول: أقرضك ألفاً على أن تبيع عليّ بيتك)؟

حرام.

أ-لحديث (لا يحل سلف ولا بيع) وقد تقدم الحديث وشرحه.

ومعنى السلف في الحديث القرض.

ب- أن اشتراط عقد البيع في عقد القرض ذريعة إلى الزيادة في القرض، لأنه ربما يحابيه في الثمن من أجل القرض، فيكون القرض جاراً لمنفعة مشروطة فيكون ربا.

قال ابن القيم: وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف، بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع.

ج- أن اشتراط عقد البيع في عقد القرض يخرج القرض عن موضوعه وهو الإرفاق.

•‌

‌ ما الحكم لو قال المقرض للمقترض: أقرضك كذا بشرط أن تقرضني بعد ذلك غيره؟

حرام.

لأن هذا الاشتراط يجر منفعة للمقرض، وقد تقدم أن كل قرض يجر منفعة مشروطة للمقرض فهو حرام.

والمنفعة في هذا الاشتراط، أن المقرض ينتفع بالقرض الثاني من المقترض.

•‌

‌ ما حكم بذل المقترض للمقرض منفعة غير مشروطة أثناء مدة القرض (قبل الوفاء) كهدية؟

الصحيح: إن أهدى المقترض هدية للمقرض فإن كانت بعد الوفاء فجائز، وإن كانت قبل الوفاء فلا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فكان بينهما تهاد قبل الاستقراض، لأن جريان العادة بذلك بينهما قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه.

وعلى هذا، فلا يجوز للمقترض أن يعد المقرض بأن يعطيه هدية عند الوفاء، وله أن يعطيه ذلك إذا كان بدون اتفاق سابق.

أما إذا كان هذا الشخص لم تجر العادة بأن يهدي لك فلا يجوز لك قبولها لأنها قد تكون بسبب القرض، فإذا قبلتها تكون قد وقعت في الربا لأن القاعدة في القرض أن "كل قرض جَرَّ نفعاً فهو ربا" وهذا القرض قد جر لك نفعاً.

وأيضاً: لأنه قد يكون دفعها إليك حتى تؤجل مطالبته بالدَّيْن، وهذا أيضاً من الربا.

وقد دل على ذلك ما رواه ابن ماجه عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا يَرْكَبْهَا وَلا يَقْبَلْهُ، إِلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ). حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية.

وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة.

ص: 608

قال ابن القيم في "إعلام الموقعين"(3/ 136): "وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ (يعني الصحابة) كَأُبَيّ بن كعب وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا" اهـ.

وقال الشوكاني: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْهَدِيَّةَ وَالْعَارِيَّةَ وَنَحْوَهُمَا إذَا كَانَتْ لِأَجْلِ التَّنْفِيسِ فِي أَجَلِ الدَّيْنِ (أي تأخير السداد)، أَوْ لأَجْلِ رِشْوَةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، أَوْ لأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَنْفَعَةٌ فِي مُقَابِلِ دَيْنِهِ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ; لأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الرِّبَا أَوْ رِشْوَةٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لأَجْلِ عَادَةٍ جَارِيَةٍ بَيْنَ الْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَقْرِضِ قَبْلَ التَّدَايُنِ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَرَضٍ أَصْلا فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ لإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ" اهـ.

•‌

‌ هل يوجد حل آخر غير رد الهدية وغير الوقوع في الربا؟

فالجواب: نعم، إن أبيت إلا قبولها فأمامك أحد خيارين: إما أن تكافئه عليها بمثلها أو أكثر، وإما أن تحتسبها من الدين، فتسقط قيمة الهدية من الدين الذي على صاحبك.

رَوَى سَعِيدٌ بن منصور فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْت رَجُلا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً. قَالَ: رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ، أَوْ احْسبهَا لَهُ.

وروى سعيد بن منصور أيضاً عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْت رَجُلا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا. فَقَالَ: خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ.

انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (6/ 159).

قال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع"(9/ 61):

"فإن قال قائل: ما دامت المسألة حراماً فلماذا لا يردها أصلاً؟

قلنا: لأنه قد يمنعه الحياء والخجل وكسر قلب صاحبه من الرد، فنقول: خذها وانو مكافأته عليها بمثلها أو أكثر، أو احتسبها من دَيْنه، وهذا لا بأس به" اهـ بتصرف.

وما سبق من التحريم إذا كانت الهدية قبل وفاء القرض، فإذا كنت بعد الوفاء فلا بأس بقبولها.

قال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع"(9/ 59):

"إذا أعطى هدية بعد الوفاء قليلة أو كثيرة فإن ذلك جائز" اهـ. وانظر: "المغني"(6/ 437)"الشرح الممتع"(9/ 59 - 61)

•‌

‌ ما الحكم لو انفضت العملة، وكذلك لو تغيرت ولم يعمل بها؟

لا يجوز لمن استدان من أحدٍ مالاً أن يلتزم بإرجاع قيمته وقت القرض، بل يجب عليه أداء القرض بمثل ما أخذه لا بقيمته، وهذا قول جمهور العلماء قديماً وحديثاً، وهو ما تفتي به المجامع الفقهية المعاصرة، وهذا في حال أن تبقى العملة متداولة، كما هي ولو تغير سعر صرفها.

أما إذا ألغيت العملة بالكلية وصار الناس لا يتعاملون بها: فهنا للعلماء فيها أقوال:

فمنهم من قال: على المدين القيمة وقت القرض.

ومنهم من قال: إن المعتبر قيمتها وقت المنع.

وقال آخرون: المعتبر قيمتها وقت الوفاء.

ص: 609

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وأقرب شيء أن المعتبر: القيمة وقت المنع؛ وذلك لأنه ثابت في ذمته " عشرة فلوس " إلى أن مُنعت، يعني: قبل المنع بدقيقة واحدة لو طلبه لأعطى عشرة فلوس، ولكان الواجب على المقرض قبولها، فإذا كان كذلك: فإننا نقدرها وقت المنع. (الشرح الممتع)

فائدة:

جاءت الأحاديث النبوية بالتحذير من الدين، والاستعاذة بالله منه، والترغيب في القناعة والرضا باليسير، وأن ينظر المسلم في أمر دنياه إلى من هو دونه، ولا ينظر إلى من فوقه.

فروى النسائي (4605) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) حسنه الألباني.

وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه الترمذي.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رواه الترمذي.

وروى النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ).

وروى أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاهَدْتُ بِنَفْسِي وَمَالِي فَقُتِلْتُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَعَادَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ: (إِنْ لَمْ تَمُتْ وَعَلَيْكَ دَيْنٌ لَيْسَ عِنْدَكَ وَفَاؤُهُ) حسنه البوصيري.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (إِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ، وَآخِرَهُ حَرْبٌ) رواه مالك في الموطأ (2/ 770)

وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [أي: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) رواه البخاري ومسلم.

قال ابن عمر رضي الله عنهما (يا حمران! اتق الله ولا تمت وعليك دين، فيؤخذ من حسناتك، لا دينار ثَمَّ ولا درهم).

ولم يأت كل هذا التشديد في أمر الدين إلا لما فيه من المفاسد على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع.

قال القرطبي: قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك، وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه السلام:(نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه) رواه الترمذي 1078 وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله " انتهى.

ص: 610

‌بَابُ اَلتَّفْلِيسِ وَالْحَجْرِ

865 -

عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمَالِكٌ: مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ مُرْسَلًا بِلَفْظِ (أَيُّمَا رَجُلٌ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ اَلَّذِي اِبْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ اَلَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ اَلْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ اَلْمَتَاعِ أُسْوَةُ اَلْغُرَمَاءِ) وَوَصَلَهُ اَلْبَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ تَبَعًا لِأَبِي دَاوُدَ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ: مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ خَلْدَةَ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ، فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ فِيكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُدَ هَذِهِ اَلزِّيَادَةَ فِي ذِكْرِ اَلْمَوْتِ.

===

- (بِعَيْنِهِ) أي: لم يتغير ولم يتبدل.

(فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) أي: كائناً من كان وارثاً وغريماً.

(قد أفلس) المفلس شرعاً: ما تزيد ديونه على موجوده، سمي مفلساً لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس، لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً.

•‌

‌ من هو المفلس في عرف الفقهاء؟

المفلس: هو من دينه أكثر من ماله.

قال ابن حجر: المفلس شرعاً من تزيد ديونه على موجوده، سمي مفلساً لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس، لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً.

وقال ابن قدامة: وَالْمُفْلِسُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، وَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ مِنْ دَخْلِهِ.

وَسَمَّوْهُ مُفْلِسًا وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ فِي جِهَةِ دَيْنِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، إلَّا الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ، كَالْفُلُوسِ وَنَحْوِهَا. (المغني).

•‌

‌ هل يحجر على المفلس؟

إذا كانت ديون الإنسان أكثر من ماله فإنه يحجر عليه، إذا طلب الغرماء ذلك [الغرماء] أصحاب الديون.

- ومعنى الحجر: منع الإنسان من التصرف في جميع ماله، ويمنع من التصرف في ماله فقط، فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يهب، أما في الذمة فلا بأس، فلو استدان من غيره شيء فإن له ذلك.

ص: 611

ولأن في الحجر عليه حماية لحق الدائن، وحماية لذمة المدين، لئلا تبقى ذمته مشغولة بالدين.

ثم يصفي ماله، فيباع ما وراءه، فإذا كان عنده دكان تباع البضاعة التي فيه، وإذا كان عنده عقار فإنه يباع، وأما البيت الذي يسكنه والسيارة التي يركبها لا تباع، لأن هذه بمثابة الأمور الضرورية.

ويقسم ماله على الغرماء بقدر ديونهِم.

•‌

‌ اذكر أنواع الحجر؟

الحجر ينقسم إلى قسمين:

الأول: حجر لمصلحة الغير: (وهم الغرماء).

الثاني: وحجر لمصلحة المحجور عليه، كالحجر على السفيه والمجنون والصغير.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن من باع متاعه [كسيارة، أو ثوباً، أو غيره] لأحد مؤجلاً، أو ودعه، فأفلس المشتري، بأن كان ماله لا يفي بديونه، فللبائع أخذ متاعه إذا وجد عينه، بأن كان بحالة لم تتغير صفاته بما يخرجه عن اسمه، ولم يقبض من ثمنه شيئاً، فحينئذٍ يكون أحق به من الغرماء.

وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء:

القول الأول: أن من وجد عين ماله عند من أفلس، فهو أحق به من غيره.

وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

قال ابن عبد البر: وممن قال بهذا الحديث، واستعمله وأفتى به، فقهاء المدينة، وفقهاء الشام، وفقهاء البصرة، وجماعة من أهل الحديث.

لحديث الباب.

القول الثاني: أن البائع غير مستحق لأخذ عين ماله حين يجده، بل يكون أسوة بين الغرماء.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

لكن هذا قول ضعيف مصادم للنص.

والراجح مذهب الجمهور.

وقد جاء في رواية (إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء) رواه ابن حبان.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (بعينه)؟

نستفيد: أن تقديم صاحب السلعة على غيره يكون بشرط: أن يجد ماله بعينه، أي لم يتغير ولم يتبدل، فإن تغير فهو أسوة الغرماء.

مثال: باع رجل على رجل بعيراً، ثم أفلس هذا الرجل، لكن البعير سمنت أكثر، فهنا لا يستحق هذا المال، بل يكون أسوة الغرماء.

كذلك إذا قبض من ثمنه شيئاً، فإنه في هذه الحالة لا حق له، ويكون أسوة الغرماء.

ص: 612

فقد جاء في رواية: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به) فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء.

إذاً يشترط:

أولاً: أن تكون عين المتاع موجودة عند المشتري المفلس لم تتغير لقوله (بعينه).

الثاني: أن يكون الثمن غير مقبوض من المشتري، فإن قبض البائع شيئاً من الثمن فلا رجوع له على المفلس بعين ماله، لرواية أبي داود (ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً).

الثالث: أن يكون المشتري حياً، فإن مات فلا رجوع للبائع بل هو أسوة الغرماء. (وهذا المذهب كما سيأتي).

•‌

‌ ما الحكم إذا مات المفلس، هل يكون الرجل أحق بماله أو يكون أسوة الغرماء؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

فقال بعض العلماء: هو أحق بماله.

وهذا مذهب الشافعي.

قال الحافظ ابن حجر: واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة قال (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه) وهو حديث حسن يحتج بمثله، أخرجه أحمد وأبو داود.

وقيل: بل يكون أسوة الغرماء.

وهذا مذهب مالك وأحمد.

لقوله (من أدرك ماله بعينه عند رجل) وبعد موته لا يكون أدركه عند هذا الرجل، وإنما أدركه عند الورثة.

وهذا الراجح.

•‌

‌ ما الحكم إذا مات صاحب المتاع؟ فهل تسقط حق ورثته، أو أن الورثة ينزلون منزلة المورث؟

قولان للعلماء، والراجح فيها أنه يورث فيكون الورثة أحق به من بقية الغرماء.

ص: 613

866 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ اَلشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيُّ اَلْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَعَلَّقَهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

(لَيُّ) اللي: المطل.

(اَلْوَاجِدِ) أي: القادر على قضاء دينه.

(يُحِلُّ عِرْضَهُ) أي: لصاحب الدين أن يذمه ويصفه بسوء القضاء، وفسره وكيع في هذا الحديث بشكايته، وكذا سفيان عند البخاري معلقاً.

(وَعُقُوبَتَهُ) أي: حبسه.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث في إسناده محمد بن عبد الله بن ميمون وفيه ضعف، ولذا علقه البخاري بصيغة التمريض فقال: ويُذكر.

وقد صحح الحديث الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر في الفتح: إسناده حسن، وذكر الطبراني أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم المماطلة في أداء الديْن لصاحبه.

وقد دل على تحريم ذلك:

أ- حديث الباب.

ب- حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) متفق عليه.

والمطل في اصطلاح الفقهاء: منع أداء ما استحق أداؤه.

ج- حديث أبي هريرة -وقد تقدم- (

ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.

قال ابن قدامة: إذَا امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلِغَرِيمِهِ مُلَازَمَتُهُ، وَمُطَالَبَتُهُ، وَالْإِغْلَاظُ لَهُ بِالْقَوْلِ، فَيَقُولُ: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيُّ الْوَاجِدِ، يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ)، فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضُهُ أَيْ يُحِلُّ الْقَوْلَ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) وَقَالَ (إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا).

وقد تقدم أن المدين ينقسم إلى أقسام ثلاثة:

مدين غير قادر على الوفاء معسر معدم، فهذا لا يجوز مطالبته.

مدين قادر مليء فهذا يجب عليه وفاء دينه، يحرم عليه المماطلة.

ومدين معسر غير معدم، له من المال ما يكفي لبعض ديونه لا كلها، فهذا يحق للغرماء أن يرفعوا أمره إلى القاضي، وهو موضوع الحديث السابق (من أدرك ماله بعينه .. ).

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (لي الواجد)؟

أن غير الواجد المعسر الذي لا يجد وفاء، لا يعد مماطلاً، بل هذا يجب إنظاره، كما في الحديث السابق (مطل الغني ظلم) مفهومه مطل غير الغني ليس بظلم.

ص: 614

•‌

‌ متى يحصل المطل؟

يحصل المطل بأمرين:

الأول: أن يطالب المستحق المدينَ بالوفاء، لأنه لا يقال مطله إلا إذا طالبه فدافعه.

الثاني: أن يمتنع المدين عن الوفاء بلا عذر.

فإذا كان امتناع المدين عن الوفاء لعذر، كعدم تمكنه من إحضار المال الغائب، أو كان معسراً فلا يعد مماطلاً بامتناعه.

قال النووي: وَمَطْل غَيْر الْغَنِيّ لَيْسَ بِظُلْمٍ وَلَا حَرَام لِمَفْهُومِ الْحَدِيث، وَلِأَنَّهُ مَعْذُور، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَدَاء لِغِيبَةِ الْمَال أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ التَّأْخِير إِلَى الْإِمْكَان، وَهَذَا مَخْصُوص مِنْ مَطْل الْغَنِيّ. أَوْ يُقَال: الْمُرَاد بِالْغَنِيِّ الْمُتَمَكِّن مِنْ الْأَدَاء، فَلَا يَدْخُل هَذَا فِيهِ.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (وعقوبته)؟

نستفيد أن المدين إذا امتنع عن الوفاء، وماطل وهو معلوم الملاءة، فإنه يحبس.

وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

وهو مروي عن عدد من قضاء السلف منهم: شريح القاضي، والشعبي، وابن أبي ليلى.

قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ قولهم من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين.

لحديث الباب (

وعقوبته) والحبس عقوبة.

- وقوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) والظالم يستحق العقوبة، لوجوب دفع الظلم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

التحذير من مماطلة الغني بالديْن.

2.

أن لي غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته. (الأحد: 14/ 4/ 1434 هـ)

ص: 615

867 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ اِبْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ " فَتَصَدَّقَ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(أُصِيبَ رَجُلٌ) قيل: هو معاذ بن جبل، قاله النووي، وقال القرطبي: هذا الرجل هو معاذ بن جبل، وكان غرماؤه يهود.

(فِي ثِمَارٍ اِبْتَاعَهَا) أي: اشتراها، يعني لحقه خسران، بسبب إصابة آفة ثماراً اشتراها، ولم ينقد ثمنها.

(فَكَثُرَ دَيْنُهُ) أي: فطالبه البائع بثمن تلك الثمرة، وكذا طالبه بقية غرمائه، وليس له مال يؤديه.

(تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ) أي: على الرجل المدين، والصدقة: التبرع بالمال ابتغاء وجه الله.

(تَصَدَّقَ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ) أي: ما تصدقوا عليه.

(وَفَاءَ دَيْنِهِ) أي: لكثرته.

(فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ) أي: مما تصدق الناس عليه.

(وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) أي: إلا أخْذ ما وجدتم.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

الحديث دليل على أن المعسر لا تحل مطالبته، ولا ملازمته، ولا سجنه، وبهذا قال الشافعي ومالك وجمهور العلماء.

كما قال تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

ولقوله (وليس لكم إلا ذلك).

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (خذوا ما وجدتم)؟

ونستفيد: أن المفلس يؤخذ منه كل ما يوجد له، ويستثنى من ذلك ما كان من ضرورته.

ونستفيد أيضاً: أنه لا حق للغرماء في ما زاد على ما عنده.

• لكن هل هذا يعني سقوط بقية الدين؟

الجواب: لا، ولكن المراد سقوط الطلب ببقية الديْن، وليس المراد سقوط بقية الدين.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

أنه ينبغي لذي الجاه المطاع أن يشفع لمن أصيب.

2.

مبادرة الصحابة إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 616

868 -

وَعَنِ اِبْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ، وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا، وَرُجِّحَ إرساله.

===

(حَجَرَ) الحجر المنع.

(عَلَى مُعَاذٍ) ابن جبل.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث مختلف فيه، صححه ابن كثير في (إرشاد الفقيه).

وضعفه جماعة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن من قلّ ماله وكثر دينه، وطلب غرماؤه الحجر عليه، أن الحاكم يحجر عليه.

•‌

‌ عرف الحجر؟

الحجر لغة: المنع.

وشرعاً: منع الإنسان من التصرف في ماله إما لمصلحته أو لمصلحة الغير.

•‌

‌ اذكر أقسام الحجر؟

ينقسم الحجر إلى قسمين:

الأول: حجر لمصلحة الغير.

فيمنع الإنسان من التصرف في ماله فقط، فإذا كان الإنسان مدين، وديْنه أكثر من ماله، حُجر عليه لمصلحة الغرماء، ويمنع من التصرف في ماله فقط، فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يهب، أما في الذمة فلا بأس، فلو استدان من غيره شيء فإن له ذلك.

الثاني: وحجر لمصلحة المحجور عليه (كالحجر على السفيه والمجنون والصغير)، وسيأتي بالحديث القادم إن شاء الله.

•‌

‌ ما الدليل على الحجر على المفلس؟

أ- حديث الباب.

ب-ولأن في الحجر عليه حماية لحق الدائن، وحماية لذمة المدين، لئلا تبقى ذمته مشغولة بالدين.

•‌

‌ ماذا يفعل الحكم إذا حجر على المفلس؟

يبيع ماله ويوزعه فوراً على الغرماء، لحديث الباب.

ويُترك للمفلس من ماله: ما يحتاج إليه ولا يستغني عنه مثل: الثياب، والكتب، والبيت الذي يسكنه، وآلات الصنعة، والقوت الضروري، ورأس مال التجارة .... إلخ

ويؤخذ الزائد عن حاجته من هذه الأشياء، ويترك له ما يكفيه بلا زيادة.

وذهب بعض العلماء (الإمامان مالك والشافعي) إلى أنه إذا كان يقيم في بيت يملكه فإنه يؤخذ منه ويُباع، ويُستأجر له بيت يسكنه.

ص: 617

•‌

‌ ما كيفية توزيع ماله على الغرماء؟

يقسمه على الغرماء بقدر ديونهِم.

قال الحافظ في الفتح: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ ظَهْر فَلَسُهُ فَعَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْر عَلَيْهِ فِي مَالِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ عَلَيْهِ وَيَقْسِمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِم. (الفتح).

كيفية التوزيع: أن يُنسب الموجود من مال المفلس إلى الديُن ونعطي كل واحد من الغرماء بقدر نسبته.

مثال: إذا كان رجل عليه دين، ومحمد يطلبه {2000} وخالد {3000} وأحمد {5000} المجموع: 10000، ولم نجد عنده إلا {5000} فيكون التوزيع كالتالي.

ننسب {5000} إلى {1000} ، يخرج النصف فيصير محمد له: 1000، وخالد: 1500 وأحمد: 2500.

مثال آخر: الديون خمسمائة ألف، كل واحد من الغرماء الخمسة له مائة ألف، فلما أحصينا مال المفلس فإذا هو مائة ألف، انسب الموجود من مال المفلس إلى مال الديون يساوي الخمس، فنعطي كل واحد من الغرماء الخمس (فيأخذ كل واحد منهم عشرون ألفاً).

•‌

‌ هل يقدم أحد من الغرماء؟

لا، فلا يقدم صاحب دين على آخر، فلا يقدم السابق على اللاحق، أو صاحب الكثير على القليل. فلا فرق بين هؤلاء.

فلو واحد دينه (مائة ألف، والثاني دينه خمسة آلاف، كل واحد من هؤلاء يأخذ الخمس).

•‌

‌ هل يستثنى أحد؟

إلا صاحبُ الرهن برهنهِ.

ومن وجد ماله بعينه عنده (كما تقدم).

•‌

‌ إذا تم توزيع مال المفلس على الغرماء، ولم يف بجميع الدين، فهل يبقى الباقي ديناً عليه أم يسقط؟

بل يبقى ديناً، متى قدِر أن يقضيها وجب عليه أن يقضيها.

قال ابن قدامه: وإذا فُرِّق مال المفلس وبقيت عليه بقية وله صنعة فهل يجبره الحاكم على إيجار نفسه ليقضي دينه؟ على روايتين.

ثم ذكر القولين بأدلتهما، ولم يصرح بالراجح منهما، غير أنه يظهر من كلامه أنه يميل إلى القول بأن الحاكم يجبره على العمل ليقضي دينه.

ثم قال ابن قدامة: وإن فُكَّ الحجر عليه (يعني: بعد بيع ماله) لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته حتى يملك مالاً.

•‌

‌ هل يستحب إظهار الحجر؟

نعم يستحب لفائدتين:

الأولى: ليظهر من له دين عند هذا الرجل.

الثانية: ألا يتصرف أحد معه في هذا المال الذي عنده، لأن تصرفه بعد الحجر باطل.

•‌

‌ هل يحل الديْن المؤجل بفلس المدين؟

لا يحل، لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه.

فلو أن رجلاً أفلس وحجرنا عليه، ولشخص آخر عليه دين مؤجل لا يحل إلا بعد سنة، فلا يحل هذا الديْن المؤجل لتفليس المدين.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

حرص الشريعة على حقوق الناس.

2.

خطر الدين.

3.

أنه لا يفك الحجر إلا الحاكم، لأنه ثبت بحكم الحاكم فلا يرتفع إلا بحكمه.

ص: 618

869 -

وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (عُرِضْتُ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا اِبْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ اَلْخَنْدَقِ، وَأَنَا اِبْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ (فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ) وَصَحَّحَهَا اِبْنُ خُزَيْمَةَ.

870 -

وَعَنْ عَطِيَّةَ اَلْقُرَظِيِّ رضي الله عنه قَالَ (عُرِضْنَا عَلَى اَلنَّبِيِّ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

===

(عُرِضْتُ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أي: قُدّمتُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لينظر إليّ ويعرف حالي ومقدرتي على القتال.

(يَوْمَ أُحُدٍ) أي: غزوة أحد، وكانت سنة 3 هـ في شوال.

(فَلَمْ يُجِزْنِي) أي: لم يأذن لي بالخروج إلى القتال في أحد، وفي رواية لمسلم (فاستصغرني).

(وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ اَلْخَنْدَقِ) أي: في غزوة الخندق، سنة خمس.

(عَطِيَّةَ اَلْقُرَظِيِّ) بضم القاف وفتح الراء، نسية إلى قريظة، وهم بطن من اليهود كانوا يسكنون المدينة.

(عُرِضْنَا عَلَى اَلنَّبِيِّ يَوْمَ قُرَيْظَةَ) وهي الغزوة المعروفة، وسببها هو ما وقع من بني قريظة من نقض عهده صلى الله عليه وسلم، وممالأتهم لقريش، وغطفان عليه، فتوجه إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب لسبع بقين من ذي القعدة، وخرج إليهم في ثلاثة آلاف.

•‌

‌ اذكر النوع الثاني من أنواع الحجر؟

الحجر لمصلحة المحجور عليه (كالحجر على السفيه والمجنون والصغير).

السفيه: الذي لا يحسن التصرف في ماله بأن يبذل ماله في حرام أو في غير فائدة.

الصغير: هو من لم يبلغ.

المجنون: من لا عقل له.

فهؤلاء يمنعون من التصرف في المال والذمة.

لقوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً). وهذا خطاب للأولياء، والسفيه كل من لا يحسن التصرف، فيدخل في عموم الآية الصغير والمجنون.

- قوله (أموالكم) أي أموال السفهاء وليست أموال الأولياء، لكن أضاف أموالهم إلى الأولياء، لأمرين:

الأمر الأول: لأنها تحت نظرهم وتصرفهم. الأمر الثاني: إشارة إلى أنها مثل أموالهم في وجوب العناية بها.

•‌

‌ متى يزول الحجر عن الصبي؟

يزول الحجر عن الصبي بشرطين:

الأول: البلوغ.

الثاني: الرشد، لقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).

قال ابن قدامة: وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ ليس فيه خلاف، وإذا بلغ الصغير غير رشيد لا تسلم إليه أمواله بل يحجر عليه بسبب السفه باتفاق المذاهب.

ص: 619

•‌

‌ اذكر علامات البلوغ؟

‌أولاً: إنزال المني بجماع أو احتلام

قال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام.

قال تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا).

وقال صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة:

وعن الصبي حتى يحتلم) رواه أبو داود.

‌ثانياً: الحيض.

قال ابن قدامة: وأما الحيض فهو علم على البلوغ، لا نعلم فيه خلافاً.

وقال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء.

لحديث عائشة. قالت: قال صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة حائض من غير خمار).

‌ثالثاً: بالبلوغ بالسن.

•‌

‌ اختلف العلماء في السن الذي يكون به البلوغ: على أقوال:

القول الأول: البلوغ بالأربع عشرة سنة. وهو قول الثوري.

القول الثاني: بالخمس عشرة سنة.

قال ابن حجر: وقال الشافعي وأحمد وابن وهب والجمهور: حده فيها استكمال خمس عشرة سنة.

وقال النووي: وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم، قالوا: باستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفاً وإن لم يحتلم.

لحديث الباب (

وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ اَلْخَنْدَقِ، وَأَنَا اِبْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي

).

قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهْوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ.

القول الثالث: البلوغ بالسبع عشرة سنة.

قال الشوكاني: وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة.

وقال ابن حجر: وقال أكثر المالكية: حده فيها سبع عشرة أو ثمان عشرة.

القول الرابع: البلوغ بالثمانية عشرة سنة.

وهذا القول عزي لأبي حنيفة إلى أن حد البلوغ في استكمال ثمان عشرة سنة إلا أن يحتلم قبل ذلك.

القول الخامس: البلوغ بالإنبات. وقال به جمع من أهل العلم.

قال ابن حجر: فاعتبر مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور الإنبات.

وقال ابن حزم: والإنبات بلوغ صحيح.

لحديث الباب -عطية- (

فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي).

ص: 620

871 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّه. أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَجُوزُ لِاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا).

وَفِي لَفْظٍ (لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا، إِذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ اَلسُّنَنِ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ ما حكم تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: إن الزوج له حق منعها فيما زاد على الثلث وليس له الحق فيما دون ذلك.

وبه قال المالكية والحنابلة على إحدى الروايتين.

أ-لما ورد أن خيرة امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحلي لها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ فِي مَالِهَا إِلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا فَهَلْ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا قَالَتْ نَعَمْ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ زَوْجِهَا فَقَالَ هَلْ أَذِنْتَ لِخَيْرَةَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا فَقَال نَعَمْ فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا) رواه ابن ماجه، وفي إسناده عبد الله ابن يحيى وأبوه مجهولان.

- ولحديث الباب.

قيّد هؤلاء المنع بما زاد على الثلث لوجود نصوص أخرى داله على أن المالك له حق التصرف في ماله في الثلث وما دونه بالوصية، وليس له ذلك في ما زاد على الثلث إلا بإجازة الورثة كما في قصة سعد بن أبي وقاص المشهورة، حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يتصدق بجميع ماله قال لا، قال فالثلثين، قال لا؟ قال: فبالشطر قال لا قال فبالثلث، قال: الثلث والثلث كثير.

وأما استدلالهم بالقياس فهو أن حق الزوج متعلق بمالها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها) أخرجه السبعة، والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها وينبسط فيه وينتفع به، فإذا أعسر بالنفقة أنظرته فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض.

القول الثاني: للزوج منع زوجته مطلقاً إلا بإذن زوجها.

وبه قال طاوس.

قال ابن حجر في الفتح: واحتج طاوس بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .. ثم ذكر حديث الباب.

القول الثالث: للمرأة التصرف في مالها مطلقاً سواء كان بعوض أو بغير عوض، أكان ذلك بمالها كله أو بعضه.

وبه قال الجمهور ومنهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة في المذهب، وابن المنذر.

أ- لقوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً).

فأباح الله للزوج ما طابت له به نفس امرأته.

ب- ولحديث ابن عباس ( .. فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ،

) وقبِل النبي صلى الله عليه وسلم صدقتهن، ولم يسأل عن إذن أزواجهن لهن في الصدقة، فدل على أنه لا يشترط.

ص: 621

ج-وعن مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ -رضى الله عنها- (أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي قَالَ «أَوَ فَعَلْتِ». قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِيهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِك) رواه البخاري ومسلم.

وجه الدلالة: أن ميمونة أعتقت ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو أولى لها.

وهذا القول هو الصحيح.

قال في الفتح: وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة.

•‌

‌ بماذا أجاب جمهور العلماء عن حديث الباب؟

الجواب الأول: بأنّ ذلك محمول على الأدب وحسن العشرة ولحقّه عليها ومكانته وقوة رأيه وعقله.

قال السندي في شرحه على النسائي في الحديث المذكور: وهو عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج

الجواب الثاني: تضعيف الحديث.

ونقل عن الشافعي أن الحديث ليس بثابت، وكيف نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الأثر ثم المعقول .. وقد أعتقت ميمونة قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب ذلك عليها، فدل هذا مع غيره على أن هذا الحديث إن ثبت فهو محمول على الأدب والاختيار.

ص: 622

872 -

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ [اَلْهِلَالِيِّ]رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اَلْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اِجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ) رواه مسلم.

===

(وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ اَلْهِلَالِي) صحابي سكن البصرة.

(إِنَّ اَلْمَسْأَلَةَ) وعند النسائي (إن الصدقة) وأول الحديث (عن قبيصة قال: تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة إن المسألة

).

(حَتَّى يُصِيبَهَا) أي: ينال من المال ما يقضي به تلك الحمالة.

(ثُمَّ يُمْسِكَ) أي: يترك مسألة الناس، لانقضاء سبب حل مسألتهم.

(وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال، وتستأصلها، كالغرق والحرْق والبرد المفسد للزروع والثمار.

(حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ) أي: ما يقوم بحاجته الضرورية.

(وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) أي: رجل كان غنياً ثم افتقر، وأصابته حاجة ولم يعرف حاله.

(حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ) وفي رواية النسائي (حتى يشهد ثلاثة).

(مِنْ ذَوِي الْحِجَى) أي العقل.

(مِنْ قَومِهِ) لأنهم أعلم بحاله.

(فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ اَلْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا) السحت: كل مال حرام، وسمي به لأنه يسحت ويمحق المال.

•‌

‌ ما معنى قوله (تحملتُ حمالةً)؟

أي: تكلفت ديْناً.

قال الخطابي: تفسير الحَمَالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال، ويحدث بسببهما العداوة والشحناء، ويُخاف من ذلك الفتق العظيم، فيتوسط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين، ويضمن مالاً لأصحاب الطوائل، يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة، وتعود بينهم الألفة.

وقال النووي: الحَمالة: هِيَ بِفَتْحِ الْحَاء، وَهِيَ الْمَال الَّذِي يَتَحَمَّلهُ الْإِنْسَان أَيْ يَسْتَدِينُهُ وَيَدْفَعهُ فِي إِصْلَاح ذَات الْبَيْن كَالْإِصْلَاحِ بَيْن قَبِيلَتَيْنِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَحِلّ لَهُ الْمَسْأَلَة، وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاة بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَدِينَ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ.

•‌

‌ اذكر أحوال تجوز فيها المسألة؟

الحالة الأول: رجل تحمل حمالة.

الحالة الثانية: الرجل إذا أصابت ماله جائحة أو آفة سماوية أهلكت تجارته وزرعه.

لأن هذا مما ينبغي فيها التعاون بين المسلمين.

الحالة الثالثة: رجل ادعى أنه أصابته فاقة وفقر بعد الغنى.

ص: 623

•‌

‌ اذكر شروط إعطاء من ادعى فاقة بعد غنى؟

الشرط الأول: أن يشهد ثلاثة رجال.

الشرط الثاني: من ذوي العقول.

الشرط الثالث: أن يكونوا من قومه.

•‌

‌ لماذا اشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا من ذوي العقول؟

قال النوي: وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحِجَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي الشَّاهِد التَّيَقُّظ فَلَا تُقْبَل مِنْ مُغَفَّلٍ.

وقال الشوكاني: وإنما جعل العقل معتبراً، لأنه من لا عقل له لا تحصل الثقة بقوله.

•‌

‌ لماذا اشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا من قومه؟

قال النووي: وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (مِنْ قَوْمه) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْخِبْرَة بِبَاطِنِهِ، وَالْمَال مِمَّا يَخْفَى فِي الْعَادَة فَلَا يَعْلَمهُ إِلَّا مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِصَاحِبِهِ.

•‌

‌ لماذا لم يشترط في الجائحة هذه الشروط (لم يحتج إلى بيّنة)؟

قال القرطبي: ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا، لظهور أمر الجائحة، وأما أمر الفاقة فقد تخفى.

•‌

‌ لماذا ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث في هذا الباب، مع أنه قد ذكره في كتاب الزكاة؟

لأن الإنسان إذا أصيب بجائحة صار مفلساً، فتحل له المسألة.

•‌

‌ المال المحرّم لا بركة فيه، اذكر بعض الأدلة على ذلك؟

أ-قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات).

ب- حديث الباب (فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ اَلْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).

ج- حديث أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قال (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ! إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا

الحديث وفيه: فَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَع) متفق عليه.

وفي لفظ (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ).

قال ابن حجر رحمه الله: وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يُبارك له فيه، لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع، وفيه ذم الإسراف، وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك، كما قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات).

د- حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَع) متفق عليه.

هـ-عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

تحريم السؤال إلا في هذه الحالات الثلاثة.

2.

جواز المسألة لمن وجدت فيه إحدى القرائن المذكورة.

3.

من جازت له المسألة لا يسأل أكثر مما يسد حاجته.

4.

يعتبر ثلاثة شهود على الإعسار، وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وجماعة.

وذهب الجمهور على أنه تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات، وحملوا حديث الباب على الاستحباب.

ص: 624

‌بَابُ اَلصُّلْحِ

873 -

عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ اَلْمُزَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحاً حَرَّمَ حَلَالاً وَ أَحَلَّ حَرَاماً، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطاً حَرَّمَ حَلَالاً وَأَحَلَّ حَرَاماً) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ كَثِيرَ بْنَ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ عَوْفٍ ضَعِيفٌ.

وَكَأَنَّهُ اِعْتَبَرَهُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ

874 -

وَقَدْ صَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف

قال الشوكاني بعد أن ذكر طرق الحديث ورواياته: ولا يخفى أن الأحاديث المذكورة والطرق يشهد بعضها لبعض، فأقل أحوالها أن يكون المتن الذي اجتمعت عليه حسناً.

•‌

‌ عرف الصلح؟

الصلح: هو معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم، ويُتوصل بها إلى الموافقة بين المختلفين.

• اذكر بعض النصوص التي تدل على فضل الصلح؟

قال تعالى) وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

وقال تعالى) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).

وقال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).

وقال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).

وقال صلى الله عليه وسلم (كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَة) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم.

وقال صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى؟ قال: إصلاح ذات البين) رواه أحمد.

وعن سهل بن سعد (أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم) رواه البخاري.

قال أنس: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة.

وقال أبو أمامة: امش ميلاً وعد مريضاً، وامش ميلين وزر أخاً في الله، وامش ثلاثة أميال وأصلح بين اثنين.

وقال بعض العلماء: من أراد فضل العابدين فليصلح بين الناس، ولا يوقع بينهم العداوة والبغضاء.

ص: 625

•‌

‌ اذكر بعض أنواع الصلح؟

الصلح في الأموال: ويتكلم عنه الفقهاء في كتاب البيوع.

الصلح بين الزوجين: وهذا يتكلم عليه الفقهاء في باب عشرة النساء.

الصلح بين المتخاصمين: وهذا يتكلم عليه الفقهاء في كتاب القضاء.

الصلح بين أهل البغي وأهل العدل: وهذا يتكلم عليه الفقهاء باب حكم البغاة.

الصلح بين أهل الإسلام والكفار: وهذا يتكلم عليه الفقهاء في باب أحكام الجهاد.

•‌

‌ ما المقصود بالصلح في كتب الفقه؟

يقصد الفقهاء في باب الصلح، الصلح على الأموال.

• ما نستفيد من قوله (الصلح جائز بين المسلمين .... )؟

أي: أن الصلح جائز ونافذ ما لم يخالف الشريعة.

•‌

‌ متى يكون الصلح غير جائز؟ مع ذكر بعض الأمثلة؟

كما جاء في الحديث (

إِلَّا صُلْحاً حَرَّمَ حَلَالاً وَ أَحَلَّ حَرَاماً) لأن ذلك مضادة لله ولرسوله.

أمثلة:

أ- إذا صالحت المرأة زوجها على ألا يطلقها. فهذا صلح حرم حلالاً، لأن الطلاق حلال.

ب- إذا صالح الرجل امرأة على مال لكي تقر له بالزوجية (هذا صلح لا يجوز، لأنه صلح يحل حراماً).

ج-رجل حصل بينه وبين زوجته شقاق ونزاع، فقالت: أصالحك وأصير لك امرأة طيبة بشرط أن تطلق زوجتك فلانة، فهذا حرام (لأنه أحل حراماً) فهي تريد أن تصالحه على إحلال أمر محرم (لأنها تريد منه أن يطلق زوجته الأخرى وهذا محرم).

•‌

‌ اذكر أنواع الصلح في الأموال؟

الصلح ينقسم إلى قسمين:

النوع الأول: الصلح مع الإقرار.

وهو جائز باتفاق الفقهاء.

بأن يقر الطرفان بالحق ثم يتصالحا عليه، فهذا حكمه حكم البيع.

مثال: اذا أقر أحمد لخالد أن في ذمته له ألف ريال، فأسقط خالد 500 ريال منها، فهنا أقرا جميعاً بالحق.

فهنا صالحه عن الحق بجنسه.

- يصالحه بالحق بغير جنسه: إذا أقر له بألف ريال فصالحه عنها بسيارة فهنا صالحه عن الحق بغير جنسه.

- أو صالحه عن الديْن المؤجل ببعضِه حالاً، هذه تسمى عند العلماء مسألة (ضع وتعجل)، وهي جائزة على القول الراجح.

لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه كما لا يمنع من استيفائه.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر وسألهم أن يقبلوا ثمر حائطه ويحللوا أباه.

وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر.

ص: 626

•‌

‌ ماذا يشترط في هذا النوع من هذا الصلح؟

يشترط أن لا يكون ذلك بشرط.

كأن يقول له: نعم أنا مقر لك بهذا الديْن أو هذه العيْن، ولكن لا أوفيك إلا بأن تصالحني على شيء منها هبة منك لي، أو تبرأني على شيء منها.

فهذا لا يصح ولا يحل.

أ-لأن هذا من أكل أموال الناس بالباطل.

ب- ولأنه في هذه الحالة تحولت المسألة إلى معاوضة فتؤدي إلى ربا.

النوع الثاني: الصلح على إنكار.

أن يدعي شخص على آخر ديناً أو عيناً فينكر المدعَى عليه ثم يتصالحان على شيء معين.

فهي في حق المدعِي في حكم البيع، لأنه يأخذ المال عوضاً عن حقه، وفي حق المدعى عليه إبراء، لأنه يدفع هذا العوَض من أجل قطع الخصومة والنزاع وافتداء ليمينه.

مثال: ادعى محمد على إبراهيم أن الأرض التي بيد إبراهيم له، فقال ابراهيم: ليس لك (أنكر أن يكون له) لكن من أجل ألا يرفع الأمر إلى المحاكم، وخوفاً من اليمين، وقطعاً للخصومة قال: خذ هذه 5000 آلاف لك، فتصالحا على ذلك، فهذا في حق محمد بيع وفي حق إبراهيم إبراء.

- ويشترط في هذا الصلح (على الإنكار) أن يكون المدعي معتقداً أن ما ادعاه حق، والمدعَى عليه يعتقد أنه لا حق عليه، فيتصالحان قطعاً للخصومة والنزاع، فإن كان أحدهما عالماً بكذب نفسه، فالصلح باطل في حقه، وما أخذه حرام عليه، لأنه من أكل المال بالباطل.

- وهذا الصلح اختلف فيه الفقهاء على قولين:

القول الأول: أن هذا الصلح جائز.

وهذا مذهب المالكية، والحنفية، والحنابلة.

أ-لقوله تعالى (والصلح خير).

ب-ولحديث الباب.

ج-ولأن الصلح إنما شرع للحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة، والحاجة الداعية إلى ذلك أولى من الصلح في حال الإقرار، لأن الإقرار مسالمة ومساعدة، فهذا أولى بالجواز.

القول الثاني: أن الصلح على الإنكار باطل.

وهذا مذهب الشافعية، وابن حزم.

قالوا: بأن المدعي إن كان كاذباً فقد استحل مالَ المدعَى عليه، وهو حرام، وإن كان صادقاً فقد حرّم على نفسه ماله الحلال - لأنه يستحق جميع ما يدعيه -.

والراجح قول الجمهور.

•‌

‌ ما حكم المصالحة عن الديْن ببعضه حالاً؟

يجوز على القول الراجح، وقد تقدمت المسألة.

ص: 627

•‌

‌ ما حكم الصلح على الحقوق المجهولة؟

جائز.

مثال: زيد وعمرو بينهما دين، ولكن كل منهما لا يعلم مقدار الدين، فتصالحا على شيء معين.

فزيد يقول أذكر أني أخذت منك دراهم لكن لا أذكر كم، وعمرو يقول أذكر أني أعطيتك دراهم، لكن لا أذكر كم هي؟ فتصالحا على ألف ريال وينتهي الأمر بذلك.

- وأما إذا كان أحدهما يعلم قدر الديْن ولكنه أخفى وجحد فإنه لا يصح في حقه باطناً.

•‌

‌ ما حكم الصلح على حد من الحدود (كحد السرقة أو الزنا)؟

لا يجوز، والصلح باطل.

مثال: رجل سرق من بيت رجل ثم أمسكه فبدلاً أن يرفع أمره إلى القاضي، قال: أعطيك كذا وكذا من المال ولا ترفع أمري إلى القاضي.

مثال آخر: رجل زنى بمولية رجل فصالحه على أن يعطيه شيء من المال، هذا كله صلح باطل.

بل الحدود يجب إقامتها.

•‌

‌ ما حكم الصلح على ترك الشهادة؟

لا يجوز.

مثال: قال له: أنت ستشهد مع زيد، خذ هذه ألف ريال، ولا تشهد.

•‌

‌ هل يجب الوفاء بالشروط؟

نعم، يجب بالوفاء بالشروط الصحيحة التي لا تخالف الشريعة، سواء كانت في البيع أو النكاح أو الإجارة أو الوقف أو غيرها.

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والأمر بالوفاء بالعقد أمر به وبأوصافه وشروطه التي تشترط فيه.

ب- وقال تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) والشرط الذي التزمه الإنسان هو عهد على نفسه.

ج-وقال صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) مفهومه أن كل شرط في كتاب الله يجب الوفاء به.

د - ولحديث الباب (المسلمون على شروطهم

).

هـ- وعن عقبة بن عامر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) متفق عليه.

•‌

‌ ما حكم الشروط التي تخالف الشريعة؟

حرام وتكون باطلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) متفق عليه.

•‌

‌ اذكر بعض الأمثلة على الشروط الصحيحة وغير الصحيحة؟

من الشروط الصحيحة:

أن تشترط المرأة على الرجل أن يسكنها في بيتاً لوحدها.

أو تشترط أن تُكمل دراستها.

أو أن يشترط البائع سكنى الدار لمدة شهر.

ومن الشروط الفاسدة:

أن تشترط الزوجة طلاق ضرتها.

أو أن يشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع.

ص: 628

875 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(لَا يَمْنَعُ جَارٌ) الجار المراد به هنا الملاصق. والجار يطلق على عدة معان: يطلق ويراد به القريب.

قال تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً

والجار الجنب) أي القريب كما ذكر أهل التفسير. ويطلق ويراد به الشريك. كقوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بسقبه) فإن المراد بالجار هنا الشريك في العقار.

(خَشَبَةً) أي من خشب سقفه الذي يسقف به داره.

(فِي جِدَارِهِ) الضمير يعود على الجار.

(عَنْهَا) الضمير يعود إلى السنة المذكورة في كلامه، قال النووي: أي عن هذه السنة.

قال القرطبي: هذا القول من أبي هريرة إنكار عليهم لما رأى منهم الإعراض، واستثقال ما سمعوه منه، وذلك أنهم لم يُقْبِلوا عليه، بل طأطؤوا رؤوسهم، كما رواه الترمذي في هذا الحديث.

(مُعْرِضِينَ): أي غير مسارعين للعمل بها وتضييعها.

(وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) قال القرطبي: أي لأحدثنّكم بتلك المقالة التي استثقلتم سماعها من غير مبالاة، ولا تَقيّة، وأوقعها بينكم كما يُوقَع السهم بين الجماعة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: نهي الجار عن منع غرز جاره خشبه في جداره.

وهذا الحكم اختلف فيه العلماء:

تحرير محل النزاع:

أولاً: لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ينتج عنه إلحاق ضرر بجدار الجار كتهديمه أو وهنه، فذلك غير جائز، لحديث (لا ضرر ولا ضرار).

ثانياً: كذلك لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ليس له به حاجة، فليس للجار أن يضع خشبة على جدار جاره إن كان به غنية عن ذلك، لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة، فلم يجز.

ثالثاً: الخلاف وقع: في الانتفاع غير المضر بالجار، وهو الذي يحتاج إليه المنتفع لتسقيف بيته أو قيام بنائه.

فهذا اختلف فيه العلماء على قولين:

القول الأول: لا يجوز وضع الخشب على حائط الجدار إلا بإذنه، وإن لم يأذن فلا يجز، لكن يستحب له بذله.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، والقول الجديد عند الشافعية.

أ-لعموم الآيات التي تنهى عن الظلم والتعدي على أموال الآخرين وحقوقهم.

كقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

ب- وعموم الأحاديث التي تنهى عن أخذ أموال الآخرين ظلماً وعدواناً.

كقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).

وقوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام).

ص: 629

القول الثاني: أنه يجب على الجار أن يبذل حائطه لجاره مع الحاجة وقلة الضرر، وأنه يجبر على ذلك إذا امتنع.

وهذا مذهب الحنابلة، وبه قال أبو ثور، وإسحاق، وابن حزم.

لحديث الباب.

وجه الدلالة: أنه نهي صريح عن منع الجار من الانتفاع بجدار جاره، وظاهر النهي يقتضي التحريم، وبالتالي فلا يجوز للجار منع جاره من الانتفاع بجداره عند الحاجة.

قال ابن حجر: استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار، فأراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا، فإن امتنع أجبر، وبه قال أحمد، وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية، والشافعي في القديم.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة القول الأول؟

الجواب: أنها نصوص عامة، وحديث (لا يمنع

) خاص، والخاص يقضي على العام.

قال البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن نخصها وقد حمله الراوي على ظاهره وهو أعلم بالمراد

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن حديث الباب؟

أ-قال ابن حجر: وحملوا الأمر في الحديث على الندب، والنهي على التنزيه جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه.

ب- قالوا: إن الضمير في (جداره) يعود لصاحب الخشب، أي: لا يمنع جاره أن يغرز خشبه على جدار نفسه وإن تضرر به من جهة منع الضرر ونحوه.

لكن هذا خلاف الظاهر، ويؤيد رجوع الضمير إلى الجار، أن الراوي للحديث - أبو هريرة - قد حمل الضمير على ظاهره وهو عودته للجار، وأنكر على من أعرض عن ذلك، فدل على عودته للجار لا لصاحب الخشب.

•‌

‌ اذكر اهتمام الإسلام بالجار؟

أ-عن عائشة قالت. قال صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

قوله (سيورثه): قيل: يجعل له مشاركة في المال، وقيل: أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أصح.

ب-وعَنْ أَبِى شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ». قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الَّذِى لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ) رواه البخاري.

قال ابن بطال: في هذا الحديث تأكيد على حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتكرير اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل.

وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) متفق عليه.

ج-وقال صلى الله عليه وسلم (حسن الأخلاق وحسن الجوار يزيدان في الأعمار) رواه أحمد.

د- وقال صلى الله عليه وسلم (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) رواه مسلم.

ص: 630

•‌

‌ اذكر أقسام الجيران؟

قسم الفقهاء رحمهم الله الجيران إلى ثلاثة أقسام:

أ- جار له حق واحد، وهو الذمي الأجنبي.

ب- جار له حقان، وهو المسلم الأجنبي، له حق الجوار، وحق الإسلام.

ج- جار له ثلاثة حقوق، وهو المسلم القريب، له حق الإسلام، وحق الجوار، وحق القرابة.

•‌

‌ ما حدود الجوار:

اختلفت عبارات أهل العلم اختلفت في حد الجوار المعتبر شرعًا على أقوال:

القول الأول: إن حد الجوار المعتبر شرعًا أربعون دارًا من كل جانب.

وقد جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها كما جاء ذلك عن الزهري والأوزاعي.

لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا

) رواه أبو يعلى وهو ضعيف.

القول الثاني: الجار هو الملاصق فقط.

وبه قال أبو حنيفة وزفر.

قالوا: لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة، والاتصال بين الملكين بلا حائل بينهما، فأما مع الحائل فلا يكون مجاوراً حقيقة.

القول الثالث: أن الجار هو الملاصق وغيره ممن يجمعهم المسجد إذا كانوا أهل محلة واحدة.

وبه قال القاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني.

القول الرابع: الجار هو من قاربت داره دار جاره، ويرجع في ذلك إلى العرف.

وهذا اختيار ابن قدامة، وصوبه في الإنصاف.

وهذا القول هو الراجح.

قال الألباني: وقد اختلف العلماء في حد الجوار على أقوال ذكرها في "الفتح"(10/ 367)، وكل ما جاء تحديده عنه صلى الله عليه وسلم بأربعين ضعيف لا يصح، فالظاهر أن الصواب تحديده بالعرف.

ص: 631

876 -

وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ اَلسَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا.

===

•‌

‌ ما مناسبة الحديث لباب الصلح؟

مناسبة الحديث لباب الصلح، أن المؤلف رحمه الله قصد بيان أن النهي في الحديث الذي قبله محمول على التنزيه جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه. (منحة العلام).

•‌

‌ اذكر بعض النصوص التي تدل على تحريم مال المسلم بغير حق؟

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).

ب- وعن أَبي بكْرة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَال (إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ

فَإنَّ دِمَاءكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عليكم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا). متفق عليه

ج-عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُه) رواه مسلم.

د-عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) متفق عليه.

هـ-وعن أَبي أمامة. أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ (مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئ مُسْلِم بيَمينه، فَقدْ أوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الجَنَّةَ) فَقَالَ رَجُلٌ: وإنْ كَانَ شَيْئاً يَسيراً يَا رَسُول الله؟ فَقَال: (وإنْ قَضيباً مِنْ أرَاك) رواه مسلم.

و-وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ؟) قالوا: المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع، فَقَالَ:(إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزَكاةٍ، ويأتي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وقَذَف هَذَا، وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْل أنْ يُقضى مَا عَلَيهِ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّار) رواه مُسلم.

ز- وعن أبي حُرة الرقاشي عن عمه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد.

ص: 632

‌بَابُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ

877 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَطْلُ اَلْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعُ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ (فَلْيَحْتَلْ).

===

(وَإِذَا أُتْبِعُ أَحَدُكُمْ) أي: أحِيل.

(عَلَى مَلِيٍّ) أي: قادر على الوفاء كما سبأتي إن شاء الله.

(فَلْيَتْبَعْ) أي: فليتحول، كما في رواية أحمد (فليحتل).

•‌

‌ ما معنى قوله (مَطْلُ اَلْغَنِيِّ ظُلْمٌ)؟

(مَطْلُ) المطل: المنع، يعني منع ما يجب على الإنسان دفعه من دين. (اَلْغَنِيِّ) القادر على السداد.

(ظُلْمٌ) الظلم شرعاً: نقص كل حق حقه.

ففيه دليل على تحريم المماطلة بالحق، لقوله (ظلم) فإذا كان ظلم وجب أن يزال، فإن أبى حبس بطلب صاحب الدين لأن الحق له.

وقال صلى الله عليه وسلم (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبوداود.

(لي) يعني مطل. (الواجد) القادر على الوفاء.

(عرضه) أي لصاحب الدين أن يذمه ويصفه بسوء القضاء. (عقوبته) حبسه.

مفهوم الحديث أن مطل غير الغني (العاجز) ليس بظلم. (وقد تقدم شرحه).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز الحوالة.

والحوالة ثابتة بالسنة والإجماع.

لحديث الباب.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة.

وقال النووي: أصلها مجمع عليه.

•‌

‌ عرف الحوالة؟

الحوالة: هي نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

مثال: زيد يطلب عمر مائة ريال، وعمر يطلب خالد مائة ريال، فجاء زيد إلى عمر وقال أعطني حقي فقال عمر: إن لي حقاً عند خالد هو مائة درهم وقد أحلتك عليه.

إذاً تحول الحق من ذمة عمر إلى ذمة خالد.

- والحوالة من عقود الإرفاق، فيها إرفاق للطالب والمطلوب، أما الطالب فوجه الإرفاق في حقه أنه ربما يكون المطلوب ذا صلة بالطالب بقرابة أو غيره فيشق عليه أن يطالبه، فيحيل المطلوب على الثالث فيكون إرفاقاً بالمحيل {الطالب} .

أما بالنسبة للمطلوب فلأن الطالب قد يكون سيء المعاملة بالنسبة للمطلوب يضايقه ويكثر الترداد عليه فيتخلص منه بالتحويل إلى ذمة الآخر فيكون إرفاقاً بالمطلوب.

ص: 633

•‌

‌ ما أركان الحوالة؟

محيل: وهو من عليه الحق وله حق.

محال: وهو من له الحق.

محال عليه: وهو المطلوب للمحيل.

•‌

‌ هل يشترط رضا المحيل؟

نعم يشترط رضاه.

قال ابن قدامة: ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف.

وقال ابن حجر: ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف.

وقال الشوكاني: ويشترط في صحة الحوالة رضا المحيل بلا خلاف.

لأن الديْن عليه فلا يلزمه أن يسدد عن طريق الحوالة.

•‌

‌ هل يشترط رضا المحال عليه؟

لا يشترط رضاه.

لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه بالقبض فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل.

•‌

‌ هل يجب على من أحيل بحقه أن يتحول أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجب أن يتحول إذا كان على مليء.

وهذا مذهب الحنابلة.

لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (فليحتل .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب.

القول الثاني: أنه لا يجب بل يستحب.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

ونسبه ابن عبد البر لأكثر الفقهاء.

وقال ابن حجر: وهو قول الجمهور.

والقول الأول هو الصحيح لظاهر الحديث، إذا كان المحال عليه مليء.

•‌

‌ ماذا أجاب الجمهور عن حديث الباب؟

أ- قالوا: الأمر محمول على الاستحباب.

قال ابن الملقن: مذهب الشافعي وغيره أنه إذا أحيل على مليء استحب له قبول الحوالة، وحملوا الحديث على الندب، لأنه من باب التيسير على المعسر.

وقال القرطبي: وهذا الأمر عند الجمهور محمول على الندب، لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر.

ص: 634

•‌

‌ عرف المليء؟

المليء: هو القادر على الوفاء بماله وبقوله وببدنه.

بماله: يكون عنده القدرة على الوفاء، أي: أن يكون عنده مال.

بقوله: ألا يكون مماطلاً.

ببدنه: معناه أن يمكنَ محاكمته شرعاً وعادة (يمكن إحضاره لمجلس الحكم)، فإن لم يمكن إحضاره لمجلس الحكم، فإن المحال لا يلزمه قبول الحوالة.

مثال: كأن يقول أحلتك على أبيك، فإنه هنا لا يلزمه قبول الحوالة، لأنه لا يمكن شرعاً إحضار الأب لمجلس لقضاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك).

وكذلك لو أحاله على أمير البلد، فإنه لا يلزمه قبول الحوالة، لأن أمير البلد لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم عادة.

•‌

‌ لو أحيل على غير مليء (كمماطل) هل يلزمه أن يتحول؟

من أحيل على غير مليء لا يلزمه التحول، لأمرين:

الأمر الأول: لمفهوم الحديث ( .. على مليء) فمفهومه أنه لو أحيل على غير مليء فلا يلزمه القبول.

الأمر الثاني: لأن في ذلك ضرراً عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).

•‌

‌ إذا تمت الحوالة ماذا يترتب عليها؟

إذا تمت الحوالة بأن تمت شروطها، نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبرأ المحيل براءة كاملة.

قال الموفق: وهو قول عامة الفقهاء.

وعلى هذا فلو قدر أن المحال عليه افتقر بعد تمام الحوالة، فإن المحال لا يرجع على المحيل، لأن الحق انتقل انتقالة كاملة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

ص: 635

878 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ (تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا، فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَخَطَا خُطًى، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: اَلدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُحِقَّ اَلْغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا اَلْمَيِّتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

879 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ اَلْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ اَلدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " فَلَمَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْفُتُوحَ قَال: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً).

===

(فقال أَبُو قَتَادَةَ: اَلدِّينَارَانِ عَلَيَّ) أي صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل، لَمّا تكفل أبو قتادة رضي الله عنه

(كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ اَلْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ اَلدَّيْن) وفي رواية (كان إذا تُوفيَ المؤمن).

(هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟) أي: هل ترك مالا يُقضى به دينه؟ وفي رواية للبخاريّ (هل ترك لدينه فضلاً؟) أي: قدرًا زائدًا على مؤنة تجهيزه. قال في "الفتح": والأول أولى، بدليل قوله: "فإن حُدّث أنه ترك لدينه وفاء ....

(فَلَمَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْفُتُوحَ قَال: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي أنا أقرب لهم من أنفسهم، أو أنا أحقّ بهم منها، وقد وَجَّهَ ذَلك بقوله (فمن توفي

).

(فَمَنْ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ) وفي رواية (وَمَنْ تَرَكَ مَالاً، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) وفي رواية للبخاريّ (فليرثه عصبته).

ولمسلم من طريق الأعرج، عن أبي هريرة (والذي نفسي بيده إنْ على الأرض من مؤمن، إلا وأنا أولى الناس به، فأيكم ما ترك ديناً، أو ضَيَاعًا، فانا مولاه، وأيكم ترك مالاً، فإلى العصبة من كان).

ومن طريق همام بن منبّه، عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب اللَّه عز وجل فأيكم ما ترك دينًا، أو ضَيعةً، فادعوني، فأنا وليّه، وأيكم ما ترك مالاً، فليُؤثَر بماله عصبتُهُ من كان) وفي رواية (ومن ترك كَلًّا وَلِيتُه).

قال النوويّ (والضَّيَاع) و (الضَّيعة) بفتح الضاد: المراد بهم العيال المحتاجون الضائعون. قال الخطّابيّ: الضياع، والضيعة هنا وصف لورثة الميت بالمصدر، أي ترك أولادًا، أو عيالاً ذَوِي ضَيَاع، أي لا شيء لهم، والضَّيَاع في الأصل مصدر ضاع، ثم جُعل اسمًا لكلّ ما يُعَرَّض للضَّيَاع، وأما (الْكَلّ) فبفتح الكاف، قال الخطّابيّ، وغيره: المراد به ههنا العيال، وأصله الثِّقَلُ، ومعنى (أنا مولاه) أي: وليّه، وناصره.

•‌

‌ هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المديون استمر أم لا، ولماذا ترك الصلاة عليه في أول الأمر؟

لا، لم يستمر، بل نسخ لما فتح عليه الفتوح.

وكان امتناع النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر:

ردعاً لأصحاب الديون للمبادرة بقضاء الدين وحفظاً لحق الدائن حتى لا يضيع حقه.

قال القرطبيّ رحمه الله: امتناعه من الصلاة على من مات، وعلي دين، ولم يتركَ وفاءً، إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي أن يتحمّله الإنسان، إلا من ضرورة، وأنه إذا أخذه فلا ينبغي أن يَتراخَى في أدائه إذا تمكّن منه، وذلك لأن الدين شَين، وأنه هَمٌّ بالليل، ومَذلّة بالنهار، وإخافة للنفوس، بل وإرقاق لها.

ص: 636

ثم قال: وكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ليرتدع من يتساهل في أخذ الدين، حتى لا تتشوّش أوقاتهم عند المطالبة، وكان هذا كلّه في أول الإسلام،

ثم نُسخ ذلك كلّه بقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)،

ولقول الراوي في الحديث (فلما فتح اللَّه عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من تُوفّي، وعليه دين، فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته.

فحديث جابر منسوخ بحديث أبي هريرة ( .. فمن مات ولم يترك وفاءً فعليّ قضاؤه).

وقال ابن حجر: قال العلماء كأن الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين، ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال النووي: إِنَّمَا كَانَ يَتْرُك الصَّلَاة عَلَيْهِ لِيُحَرِّضَ النَّاس عَلَى قَضَاء الدَّيْن فِي حَيَاتهمْ، وَالتَّوَصُّل إِلَى الْبَرَاءَة مِنْهَا، لِئَلَّا تَفُوتهُمْ صَلَاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ عَادَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَقْضِي دَيْن مَنْ لَمْ يُخَلِّف وَفَاء.

وقال أيضاً: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا قَائِم بِمَصَالِحِكُمْ فِي حَيَاة أَحَدكُمْ وَمَوْته. وَأَنَا وَلِيّه فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن قَضَيْته مِنْ عِنْدِي إِنْ لَمْ يُخَلِّف وَفَاء، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَال فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ لَا آخُذ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ خَلَّفَ عِيَالًا مُحْتَاجِينَ ضَائِعِينَ فَلْيَأْتُوا إِلَيَّ، فَعَلَيَّ نَفَقَتهمْ وَمُؤْنَتهمْ. (شرح مسلم).

وقال ابن بطال: قوله (من ترك ديْناً فعلي) ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه ديْن.

وقال الحافظ المنذري: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي على المدين، ثم نسخ ذلك.

•‌

‌ ما المراد بقوله (فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ)؟

قال النووي: قِيلَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْضِيه مِنْ مَال مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ.

وَقِيلَ: مِنْ خَالِص مَال نَفْسه.

وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْقَضَاء وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقِيلَ: تَبَرُّع مِنْهُ. (شرخ مسلم).

وقال الصنعاني قوله (فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ) ظاهره أنه يجب عليه القضاء.

•‌

‌ هل يجب قَضَاء دَيْن مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن وليس له وفاء؟

فَقِيلَ: يَجِب قَضَاؤُهُ مِنْ بَيْت الْمَال.

وَقِيلَ: لَا يَجِب.

•‌

‌ هل يجوز ضمان ما على الميت من ديون؟

نعم يجوز ضمان الدين ولو كان المدين مفلساً، حياً أو ميتاً، مليئاً أو مفلساً.

وهذا قول الجمهور.

وقيل: لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء.

وهذا قول أبي حنيفة.

لأن هذا دين ساقط، فلا يصح ضمانه، كما انه لو أسقط بالأبرار. (لأنه دين على معسر والدين ع المعسر ساقط، لأنه لا يجوز مطالبته).

ص: 637

•‌

‌ على ماذا يدل قوله (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم)؟

يدل على أن من عليه دين فإنه يُصلى عليه، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة عليه، فلو كانت الصلاة عليه غير مشروعة لما أمر بها.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

ذهب جمهور العلماء إلى أن من ضمن ديناً عن الميت، فإنه يلزمه قضاؤه، وليس له أن يرجع في هذا الضمان.

2.

صعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمّله إلا عند الضرورة.

3.

فضل أبي قتادة، حيث بادر بتخليص ذمة أخيه المسلم، حتى ينال فضل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه.

•‌

‌ عرف الضمان؟

هو لغة: مشتق من الضِّمْن، ضمن الشيء ضمناً.

وشرعاً: أن يضمنَ الحق عن الشخص الذي عليه الحق.

أو التزام الإنسان نفسه ما وجب أو ما قد يجب على غيره.

مثال ما وجب: أن ترى شخصاً ممسكاً بشخص يريد أن يحاكمه ويدفعه إلى ولاة الأمور لأنه يطلبه مال، فتأتي أنت وتقول لهذا الطالب أنا ضامن فلان.

مثال ما يجب: أن يقول لك شخص إني أريد أن أشتري من فلان سيارة وهو لا يعرفني، فأريدك أن تضمنني في قيمتها. (الشيخ ابن عثيمين).

•‌

‌ اذكر أدلة ثبوته؟

هو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:

قال تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) أي ولمن جاء بصواع الملك الذي فقد (حِملُ بعير) أي: ما يحمله من الطعام (وأنا به زعيم) أي كفيل ضامن.

ب- ولحديث الباب.

ج- ولحديث أبي أمامة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) رواه أبوداود.

قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على جواز الضمان.

•‌

‌ ما حكم الضمان بالنسبة للضامن؟

حكمه بالنسبة للضامن فهو مستحب.

لأنه من الإحسان، والله تعالى يقول (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) لكن هذا مقيد بقدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادراً على الوفاء لم يستحب الضمان في هذه الحال، لأن فيه ضرراً عليه، ولا ينبغي لمسلم أن يتحمل عن غيره ما فيه ضرر عليه.

•‌

‌ ما أركانه؟

أركانه ثلاثة: ضامن، ومضمون عنه، ومضمون له.

الضامن: هو المتحمل.

المضمون عنه: هو المتحمل عنه. (وهو المدين).

المضمون له: المالك له. (وهو البائع).

ص: 638

• ما شروط الضمان:

أولاً: أن يكون من جائز التصرف.

لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه في ماله. (تقدم تعريف جائز التصرف وهو: البالغ العاقل الحر الرشيد).

فقولنا البالغ يخرج الصبي، فالصبي لا يصح ضمانه إلا في الأمور اليسيرة عرفاً.

وقولنا (العاقل) يخرج المجنون، فالمجنون لا يصح ضمانه.

وقولنا (الحر) يخرج الرقيق، فالرقيق لا يصح ضمانه إلا بإذن سيده.

وقولنا (الرشيد) يخرج السفيه، فالسفيه لا يصح ضمانه إلا في الأمور اليسيرة، لأن السفيه حكمه حكم الصبي المميز، أما الصبي غير المميز لا يصح ضمانه لا في قليل ولا في كثير.

ثانياً: رضا الضامن.

لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضا

ثالثاً: أن يكون الدين معلوماً أو مآله إلى العلم.

مثاله: أن يقول الضامن: أنا اضمن دين هذا الشخص وكان الدين الذي عليه ألف ريال.

لكن لو قال: للناس أنا ضامن لكل ما يشتريه هذا الشخص، فهذا فيه جهالة يحدث بسببها النزاع، وكل ما يؤدي إلى الجهالة والنزاع فإنه لا يصح.

•‌

‌ هل يصح الضمان عن الحي والميت؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: جواز الضمان عن الحي والميت سواء كان له تركة أم لم يكن له تركة.

لحديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ (قَالَ كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ». قَالُوا لَا. قَالَ «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً». قَالُوا لَا. فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ». قِيلَ نَعَمْ. قَالَ «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً». قَالُوا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ. فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِىَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ «هَلْ تَرَك شَيْئاً». قَالُوا لَا. قَالَ «فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ». قَالُوا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَىَّ دَيْنُهُ. فَصَلَّى عَلَيْه) رواه البخاري.

القول الثاني: أن الضمان مختص بالحي دون الميت، لأن الحي له ذمة ترجع إليها.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ هل يشترط رضا المضمون عنه أو المضمون له؟

هذا موضع خلاف، والراجح لا يشترط.

•‌

‌ هل لصاحب الحق (وهو المضمون له) مطالبة من شاء منهما، أو لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما.

وهذا مذهب الجمهور.

قالوا: لأن الحق ثابت في ذمتهما فله مطالبة من شاء منهما.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) والزعيم هو الضمين، والغُرم: أداء شيء يلزمه.

ص: 639

القول الثاني: لا يجوز لصاحب الحق أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه.

وهذا القول هو الصحيح.

وقوى هذا القول ابن القيم، واختاره الشيخ السعدي رحمه الله.

أ-لأن الضامن محسن وقد قال الله تعالى (ما على المحسنين من سبيل) فليس لنا عليه من سبيل وهو محسن إلا أن يتعذر الحق.

ب-ولأن المضمون أصل والضامن فرع، وإذا أمكن الرجوع إلى الأصل فإنه يُستغنى به عن الفرع.

ج- ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الذي هو على غيره مع القدرة على استيفاء الحق ممن هو عليه.

•‌

‌ هل يجوز أخذ أجرة على الضمان؟

مثال: ذهبت إلى زيد وقلت له: أريدك أن تضمنني عند فلان؟ فقال زيد: لا مانع عندي، لكن اضمنك بألف ريال.

الجواب: لا يجوز أخذ الأجر على الضمان لأمرين:

الأمر الأول: أن الضمان من باب الإحسان والمعروف الذي يُبذل ابتغاء وجه الله.

الأمر الثاني: أن أخْذ العوض يستلزم أن يربح فيما إذا وفىّ عن المضمون عنه ثم أخذ الحق منه، فيصير كالقرض الذي جر نفعاً.

•‌

‌ متى يبرأ الضامن؟

أولاً: إن قام المضمون عنه بما التزمَ به من حق. (فهنا يبرأ الضامن).

ثانياً: إذا أبرأه صاحب الحق، واسقط عنه الديْن، لأن الضامن تابع وفرع، وإذا برأ الأصل برأ الفرع.

أي: إذا أبرأ صاحب الحق (وهو المضمون له) أبرأ الضامن فهنا يبرأ الضامن ويبقى الحق على المضمون.

كأن يقول التاجر: أبرأتك يا ضامن، واكتفي بصاحب الحق.

لأنه أبرأه من الضمان فقط (يعني من الوثيقة) أما الدين فهو متعلق بصاحب الحق

ثالثاً: إذا برئ الأصيل.

أي: إذا أبرأ التاجر المضمون عنه (وهو من عليه الحق) فإنه ذمة الضامن تبرأ.

لأنه إذا برئت ذمة المضمون عنه لم يبق هناك شيء يضمن، ولأنه إذا برى الأصل برأ الفرع.

- لكن لو أبرأ الضامن فإنه لا يبرأ المضمون عنه، لأن الأصل لا يبرأ ببراءة التبع.

- والقاعدة: إذا برئ الأصل برئ الفرع لا العكس.

•‌

‌ ما الحكم إذا استوفى المضمون له من الضامن، فهل يرجع عليه أم لا؟

هذه المسألة له أحوال:

أولاً: إذا نوى الرجوع فإنه يرجع.

ثانياً: إذا نوى التبرع (يعني أداه بنية أنه متبرعاً عنه) فهذا لا يرجع، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لأنه متطوع بذلك فأشبه الصدقة.

ثالثاً: أن يقضي عنه ولم ينو تبرعاً ولا رجوعاً، بل ذَهَل عن قصد الرجوع وعدمه، فالراجح أنه يرجع.

ص: 640

880 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ) رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

لا يصح، ضعفه ابن عدي، والبيهقي.

•‌

‌ عرف الكفالة؟

الكفالة: هي التزام جائز التصرف احضار بدن من عليه الحق.

- وعلى هذا فالفرق بين الضمان والكفالة: أن الضمان يتعلق بالأموال، والكفالة تتعلق بالأبدان.

•‌

‌ ما الدليل على جوازها؟

قوله تعالى عن يعقوب (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ).

وقال صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) والزعيم لفظ عام يطلق على الكفيل وعلى الضمين، ومعنى (غارم) أي ملزم نفسه بما ضمن.

•‌

‌ ما الفرق بين الضمان والكفالة:

أولاً: أن الضمان يتعلق بالدين والكفالة تتعلق بالبدن.

ثانياً: أن الكفيل يبرأ بموت المكفول أو تلف العين المكفول بها، والضامن لا يبرأ بموت المضمون.

ثالثاً: أن الكفالة تصح مؤقتة ولا يصح الضمان مؤقتاً.

رابعاً: أنه يصح ضمان دين الميت دون كفالته.

•‌

‌ ما حكم الكفالة في الحدود؟

صورة ذلك (أن يجب حد على شخص فيكفله آخر بإحضاره عند إقامة الحد أو القصاص).

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء كان لله تعالى أو لآدمي.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.

أ- لحديث الباب (لا كفالة في حد)، وهو ضعيف.

ب- ولأنه حد لا يمكن استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول له.

القول الثاني: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد لحق الله، دون من وجب عليه حق لآدمي.

وهذا مذهب الشافعية.

قالوا: إن حقوق الآدميين من القصاص ونحوه مبنية على المشاحة، وهي حق مالي لازم فأشبه الكفالة بالمال، فتجوز الكفالة فيها لتوثيق الحق، بخلاف حدود الله فهي مبنية على المسامحة.

ص: 641

القول الثالث: تصح الكفالة في الحدود والقصاص، سواء كان حقاً لله أو لآدمي.

وهذا اختيار ابن تيمية.

لحديث بريدة في قصة الغامدية التي اعترفت بالزنا، وفيه قال: فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، رواه مسلم.

والصحيح الأول، لأن الكفالة في البدن في الحقوق المالية إذا تعذرت انتقلت إلى الضمان المالي، بخلاف هذه المسألة، فلا عوض للبدن إذا تعذر حضوره، إذ لا يمكن الاستيفاء من الكفيل في الحد والقصاص.

•‌

‌ متى يبرأ الكفيل؟

يبرأ في الأحوال التالية:

أولاً: أن يُسلّم المكفول نفسه. (وإذا برئ الأصل برئ الفرع).

ثانياً: بموت المكفول، لأن إحضاره في هذه الحالة متعذر.

ثالثاً: بإبراء المكفول له (صاحب الحق).

- (إذا برئ المكفول برئ الكفيل لا عكس).

•‌

‌ ما الحكم إذا مات المكفول؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن الكفيل يبرأ بموت المكفول.

وهذا مذهب الحنفية، ومشهور مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- أنه ثبت عجزه عن إحضاره بسبب موته، فبطلت الكفالة.

ب- أن الحضور سقط عن الأصيل فسقط عن الفرع وهو الكفيل.

القول الثاني: أنه لا يبرأ، بل يلزمه الضمان المالي، ويرجع به على ورثته.

وهذا قول الليث، وهو اختيار ابن تيمية.

أ- أن العقود مبنية على التراضي، والبائع لم يرض بالعقد إلا في حال توثيقه بكفالة تحفظ حقه، فإذا براء الكفيل كان ذلك منافياً لمفهوم الرضى في العقد، منافياً لمقصود الشارع من مشروعية الكفالة.

ب- القياس على ما لو عجز الكفيل في الحياة عن إحضار بدن المكفول، فإنه يلزمه الضمان المالي، والموت تسبب في عجز الكفيل عن إحضار بدن الميت من ناحية الحكم.

والأول أصح، والله أعلم.

•‌

‌ هل يشترط رضا الكفيل؟

نعم.

يشترط رضا الكفيل لا المكفول.

ص: 642

‌بَابُ اَلشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ

881 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ اَللَّهُ: أَنَا ثَالِثُ اَلشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.

882 -

وَعَنْ اَلسَّائِبِ [بْنِ يَزِيدَ] اَلْمَخْزُومِيِّ (أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ اَلْبَعْثَةِ، فَجَاءَ يَوْمَ اَلْفَتْحِ، فَقَالَ: " مَرْحَباً بِأَخِي وَشَرِيكِي) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَةَ.

883 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (اِشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ .. ) اَلْحَدِيثَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.

===

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث أبي هريرة ضعيف، فيه علتان:

العلة الأولى: الاختلاف في وصله وإرساله.

العلة الثانية: في إسناده سعيد بن حيان، والد أبي حيان.

قال فيه ابن القطان: لا تعرف له حال، ولا يعرف من روى عنه غير ابنه. بيان الوهم والإيهام.

وقال الذهبي: لا يكاد يعرف. ميزان الاعتدال.

وحديث السائب في إسناده ضعف، أعل بعدة علل.

فالحديث مضطرب سندًا ومتنًا، أما اضطرابه في الإسناد: فروي موصولًا ومرسلًا، وأما اضطرابه في المتن، فقد اختلف فيمن كان شريكًا للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه يتعذر فيه الترجيح، وتارة يجعل الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم في أبي السائب، ومنهم من يجعله من قول أبي السائب في النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديث ابن مسعود: أعله بعضهم بالانقطاع، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، كما قال أبو حاتم والترمذي وغيرهما.

ورأى بعضهم أن حديث أبي عبيدة عن أبيه في حكم المتصل.

قال ابن القيم في تهذيب السنن "أبو عبيدة شديد العناية بحديث أبيه وفتاويه، وعنده من العلم ما ليس عند غيره".

•‌

‌ عرف الشركة؟

الشركة: اجتماع في تصرف.

يعني أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه. (وتسمى هذه شركة عقود).

•‌

‌ ماذا نستفيد من أحاديث الباب؟

نستفيد: جواز الشركة.

والشركة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

وقال سبحانه (ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء).

وأحاديث الباب.

وأما الإجماع، فقال ابن قدامة: أجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها.

والشركة تعريفها: اجتماع في تصرف.

يعني أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه. (وتسمى هذه شركة عقود).

ص: 643

•‌

‌ اذكر أنواع الشركة؟

شركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة الوجوه، وشركة الأبدان.

شركة العنان:

أ- هي أن يكون من كلٍ منهما مالٌ وعمل. (أن يشتركان اثنان فأكثر في مال يتجران فيه ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه (ففيها مال وعمل بدني).

ب - سميت بذلك: إما من عَنَّ يعِن بكسر العين وضمها: إذا ظهر أمامك، وذلك لظهور مال كل من الشريكين لصاحبه.

وإما من العِنان: وهو سير اللجام الذي تمسك به الدابة، والفارسان إذا تساويا في السير، فإن عنانيهما يكونان سواء.

أو أخْذاً من عنان الدابة المانع لها من السير، لمنع كل من الشريكين من التصرف بغير مصلحة.

ج- وهذا النوع من الشركات جائز باتفاق الفقهاء.

وقد ورد في جوازها أدلة تقريربة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والتقرير أحد وجوه السنة.

فقد ورد عن سليمان بن أبي مسلم قال (سألت أبا المنهال عن الصرف يداً بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد، ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه، فقال: فعلتُ أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ما كان يداً بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه) رواه البخاري.

مثال: رجل عنده (100) ريال، وآخر عنده (100)، فاتفقا على أن يفتحا محلاً لهذا المال، وصار كل واحد منهما يعمل بهذا المحل.

د- هذا النوع هو السائد بين الناس.

لأنه لا يشترط فيها المساواة لا في المال ولا في التصرف، فيجوز أن يكون أحد الشريكين أكثر من الآخر.

هـ- يشترط لهذه الشركة أن يكون المال معلوماً.

لأن المجهول لا يمكن الرجوع إليه عند الفسخ.

و-ويشترط أن يكون لكل واحد منها جزءاً معلوماً من الربح مشاعاً. (المشاع: الربع، والثلث، النصف).

قوله (لكل واحد منها) فلو اتفقا على أن يكون الربح لأحدهما دون الآخر، فإن ذلك لا يصح.

قوله (جزءاً من الربح مشاعاً) كأن يقول: لي ربع الربح ولك ثلاث أرباع يصح.

أو قال: الربح بيننا فإنه يصح.

أو قال: لك ثلث الربح ولك الثلثان.

- فأما إن كان معيناً فإنه لا يصح.

فإن قال أحدهما لك من الربح (100) درهم، فإنه لا يصح، لأنه ربما لا تربح إلا هذا الربح فيبقى الثاني لا ربح له.

أو قال: لي ربح السيارات وأنت لك ربح الأطعمة، فلا يجوز.

ز- إن لم يذكرا الربح فإنه لا يصح، لأمرين:

الأمر الأول: أن الربح هو المقصود في الشركة، فلا يجوز الإخلال به.

الأمر الثاني: أن عدم ذكر الربح يبقى مجهولاً، وهذا يؤدي إلى النزاع.

ط- ينفذ تصرف كل واحد منهما بالمالين: بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه.

ك- والربح بينهما بحسب الشرط، فلا يكون بقدر المال.

ص: 644

•‌

‌ لماذا الربح على حسب الشرط؟

لأنه يرجع إلى العمل، والخبرة، والثقة، والسمعة ونحو ذلك، وهذا يختلف باختلاف الناس، قد يكون هذا الرجل ممن يثق به الناس لخبرته وجودته ونحو ذلك، فيشترط أن له ثلاثة أرباع الربح

ش-الخسارة على قدر المال:

مثال: جاء أحدهما بـ (200) والآخر (100) وخسرا، وعند التصفية أصبح المال (150) فيكون على صاحب (200) خسارة (100) وعلى صاحب (100) خسارة (50).

مثال آخر: جاء أحدهما بعشرة آلاف، وجاء الثاني بعشرين ألف، فإذا خسرت الشركة فيكون على صاحب عشرة آلاف ثلث الخسارة، وعلى صاحب العشرين ألفاً: الثلثان.

شركة المضاربة:

أ-هي أن يكون من أحدهما المال ومن الآخر العمل. (هي أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه).

مثال: أعطى عمر زيداً (100) ريال ليتجر بها على أن يكون الربح بينهما.

ب-الناس بحاجة إلى هذه الشركة، حيث أن الأموال لا تنمو إلا بالتنقيب والتجارة، وليس كل من يملكها يحسن العمل بها، وكذلك هناك من يحسن العمل لكن لا مال له فكانت الحاجة لصالح الطرفين.

ج-إن قال رب المال اتجر به والربح بيننا فنصفان، وإن قال اتجر به ولي ثلاثة أرباع أو الثلث صح، لأنه متى علم نصيب أحدهما أخذه والباقي للآخر.

د- ولا يضارب العامل بمال لآخر إلا بشرطين:

الأول: إن رضي الأول.

الثاني: إن لم يضر بالأول.

مثال: أعطيتك مبلغاً من المال على أن تتجر به بالكتب، فأخذتها وضاربت، ثم عقد هذا الرجل عقد مضاربة مع رجل آخر في نفس السلعة، فهذا العقد يضر بالأول، لأن السلعة إذا كثرت رخصت.

لكن إن رضي الأول جاز.

هـ- إن فسدت شركة المضاربة:

فقيل: المال كله لرب المال، وللعامل أجرة المثل.

وقيل: للعامل سهم المثل.

ص: 645

فيقال: لو اتجر الإنسان بهذا المال كم يعطى في العادة؟ فقالوا -مثلاً- يعطى نصف الربح، فيكون له نصف الربح، وهكذا.

وهذا القول هو الصحيح، لأن العامل إنما عمل على أنه شريك لا على أنه أجير.

شركة الوجوه:

أ-المراد بالوجوه هنا: الجاه والمنزلة، وهي شركة تقوم على اشتراك رجلين أو أكثر ولا مال لهم على أن يشتروا بوجوههم.

ب- سميت بذلك:

لبنائها على وجاهة كل منهما ومكانته عند الناس.

ج- ويكون الربح بينهما على ما اشترطاه من تساو أو تفاضل، لأن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار.

-حكمها:

هي جائزة عند الحنفية والحنابلة.

لأنها شركة عقد تتضمن توكيل كل شريك صاحبَه في البيع والشراء، والمسلمون على شروطهم، كما جاء في الحديث.

وقال المالكية والشافعية والظاهرية وأبو ثور: هذه الشركة باطلة.

لأن الشركة تتعلق بالمال أو بالعمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة.

شركة الأبدان:

أ- وهي أن يشتركان اثنان فأكثر فيما يكتسبون من صنائعهم، كالحدادة، والخياطة، والنجارة، ونحو ذلك، أو يشتركوا فيما يكتسبون من المباح كالاحتشاش، والاحتطاب، وسائر المباحات.

والقول بجوازها هو قول جمهور العلماء.

ووجه جوازها: أن شركة الأبدان تتضمن الوكالة، وتوكيل كل من الشريكين للآخر بتقبل العمل صحيح، وصحة الوكالة وجوازها دليل على صحة الشركة بالأبدان، لأن المشتمل على الجائز جائز.

ب- عادة تكون هذه الشركة بين الحدادين والنجارين وأمثالهم ممن يعملون بالبدن.

ج -تصح مع اختلاف الصنائع كحداد ونجار مثلاً.

د- إن مرض أحدهما فالكسب الذي عمله أحدهما بينهما.

لأن الأصل الشركة.

وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه.

ص: 646

‌باب الوكالة

884 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (أَرَدْتُ اَلْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي بِخَيْبَرَ، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ.

885 -

وَعَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ يَشْتَرِي لَهُ أُضْحِيَّةً .. ) اَلْحَدِيثَ. رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

886 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى اَلصَّدَقَة) اَلْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

887 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَذْبَحَ اَلْبَاقِيَ) اَلْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

888 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ اَلْعَسِيفِ. قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا .... ) اَلْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذه الأحاديث التي ذكرها المصنف رحمه الله؟

نستفيد جواز الوكالة.

فالمصنف رحمه الله ذكر هذه الحديث لأن فيها دلالة على جواز الوكالة.

والوكالة لغة: التفويض.

واصطلاحاً: هي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.

وهذا التعريف يدل على أن الموكِل لابد أن يكون جائز التصرف فلا تصح الوكالة من صبي أو مجنون

ولابد أن يكون أن الوكيل جائز التصرف.

•‌

‌ ما حكم الوكالة؟

قال ابن قدامة: الوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع:

قال تعالى عن موسى (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ).

وقال تعالى - عن سليمان أنه قال للهدهد - (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ).

وقال تعالى (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا).

وقال تعالى (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً).

والأحاديث التي ذكرها المصنف رحمه الله.

قال ابن قدامة: وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا.

ص: 647

•‌

‌ هل الوكالة عقد جائز أم عقد لازم؟

عقد جائز.

والعقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر، ولا إذنه أيضاً.

لأنها من جهة المُوَكِّل إذْنٌ، ومن جهة الوكيل بذل نفع وكلاهما غير لازم.

- لكن يلزمه في حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان هناك ضرر في فسخ الوكالة، كأن يكون فسخ الوكالة بشيء يتضرر به الموكِل.

الحالة الثانية: إذا كانت الوكالة بجعل (أي بمقابل)، فهذه حكمها حكم الإجارة، فلا يجوز لأحد فسخها.

•‌

‌ اذكر أنواع العقود من حيث اللزوم والجواز؟

العقود من حيث اللزوم والجواز تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: لازم من الطرفين: كالبيع، والإجارة.

الثاني: جائز من الطرفين: كالوكالة.

وهو العقد الذي يملك فيه كل طرف أن يفسخ العقد متى شاء.

كالوكالة، والوصية، والجعالة.

الثالث: لازم من طرف جائز من طرف آخر.

كالرهن، فهو لازم من جهة الراهن بشرطه، وجائز من جهة المرتهن، وكذلك الضمان جائز من جهة المضمون له دون الضامن

وقد يتحول العقد الجائز إلى عقد لازم، إذا لزم من الفسخ ضرر بيّن، وقد ذكر ابن رجب في قواعده فقال في القاعدة الستين: التفاسخ في العقود الجائزة، متى تضمن ضرراً على أحد المتعاقدين، أو غيرهما ممن له تعلق بالعقد لم يجز، ولم ينفذ إلا أن يمكن استدراك الضرر بضمان أو نحوه، فيجوز على ذلك الوجه.

•‌

‌ هل تجوز الوكالة معلقة؟

نعم تجوز.

كقوله: إذا قدم الحاج فبع هذا.

وبهذا قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الراجح.

•‌

‌ ما مبطلات الوكالة:

أولاً: بموت أحدهما.

لأنه إذا مات الموكل انتقل المال إلى ورثته، فلابد من تجديد الوكالة إذا شاؤوا أن يستمروا مع الوكيل.

أما الوكيل فتبطل بموته، لأن الموكل إنما رضيه بعينه، فإذا مات فإن المعقود عليه قد زال وفات، فتبطل بذلك الوكالة.

قال ابن المنذر: وقد أجمعوا عَلَى أن موت الموكل يبطل الوكالة. (الإقناع).

ص: 648

واتفق الفقهاء على أن الوكالة تنفسخ بموت الوكيل؛ لأنها تعتمد على الحياة التي هي محل صحة التصرف، فإذا زالت انتفت صحتها لانتفاء ما تعتمد عليه.

ثانياً: بجنون أحدهما.

لأن المجنون ليس له أهلية التصرف.

اتفق العلماء على أن الجنون المطبق إذا طرأ على الموكل أو الوكيل، فإنه يبطل الوكالة؛ لأنه مبطل لأهلية الآمر وأهلية التصرف، ولأن حكمه حكم الموت؛ لأن المجنون لا يملك التصرف، فلا يملكه غيره من جهته، ولا يملكه هو من جهة غيره.

واختلفوا في الجنون غير المطبق كمن يُجَنُّ أحيانًا ويفيق أخرى على قولين:

القول الأول: لا تبطل به الوكالة.

وهو قول الحنفية، والمالكية، ووجه للشافعية، ومذهب الحنابلة.

لأن قصور مدته وسرعة إفاقته تجعله عفوًا كأوقات النوم لانتفاء الخوف عنه

القول الثاني: تبطل الوكالة به، وهو وجه عند الشافعية.

يمكن أن يستدل لهم بأن أهلية التصرف زالت بالجنون، فتزول معها العقود الجائزة، فيلزم استئناف العقد.

والراجح هو القول الأول.

ثالثاً: بفسخ أحدهما.

اتفق الفقهاء على أن الوكالة تبطُل بعزل الموكل لوكيله، أو عزل الوكيل لنفسه.

لأنها عقد جائز من الطرفين، فكانت محتملة للفسخ بالعزل.

ولأنها إذنٌ في التصرف، فملك كل واحد منهما إبطاله.

ولأن التوكيل حق الموكل وقبوله حق الوكيل، فلهما إبطاله.

رابعاً: خروج محل التصرف عن ملك الموكل.

صورة المسألة: كأن يوكِّله في بيع عبد فيموت العبد، أو بيع أرض فوهبها الموكل وقبضها الموهوب.

لا خلاف بين العلماء أن الوكالة تبطل بخروج المعقود عليه عن ملك الموكل، وعلَّلوا ذلك بأن الوكالة تعلَّقت بملك الموكل، وقد زال ملكه، فلا تبقى الوكالة بدون المحل.

•‌

‌ هل تبطل الوكالة بالردة؟

اتفق الفقهاء على أن الوكالة لا تبطل بالردَّة إذا لم يلحق المرتدُّ بدار الحرب.

واختلفوا في بطلانها إذا لحق بدار الحرب على قولين:

القول الأول: تبطل الوكالة بالردة إذا لحق المرتد بدار الحرب.

وهو قول أبي حنيفة.

قالوا: إن الردة مع اللحاق بدار الحرب يعتبر موتًا حكماً.

ص: 649

القول الثاني: لا تبطل الوكالة بالردة؛ سواء لحق المرتد بدار الحرب، أم لا.

وهو قول صاحبَي أبي حنيفة، ومذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ-أن الردة نفسها لا تنافي الوكالة قياسًا على تصرفاته قبل لحاقه بدار الحرب.

ب-لأن تصرفات المرتد نافذة.

ج-ولأن الردة لا تمنع ابتداءً وكالته، فلا تمنع استدامتها.

وهذا الراجح.

•‌

‌ ما الحكم لو تصرف الوكيل قبل أن يعلم بفسخه؟

تحرير محل الخلاف:

أ-لا خلاف بين العلماء أن الوكالة عقد جائز لكل منهما فسخه متى شاء إذا علم الآخر بالفسخ، ومحل الخلاف إذا لم يعلم.

ب-إذا علم الوكيل بالعزل فتصرفه باطل بالإجماع.

ج-محل الخلاف إذا لم يعلم بالعزل.

مثاله: وكلت هذا الرجل على أن يبيع بيتي، ثم في اليوم الثاني أشهدت رجلين أني فسخت وكالته، ثم باع البيت في اليوم الثالث ولم يعلم بالفسخ؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا ينفذ تصرفه، والبيع باطل.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.

وعلى هذا القول فالبيع غير صحيح، لأنه فسخ الوكالة قبل البيع.

القول الثاني: أن تصرفه نافذ.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

قالوا: لأن تصرفه مستند إلى إذن سابق لم يعلم بإزالته فكان تصرفاً صحيحاً، (لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان) فالأصل بقاء الوكالة.

ب- أنه لم يصدر منه تفريط، وإنما التفريط من الموكل الذي لم يبلغه.

ج- أن الوكيل يتصرف بأمر الموكل ولمصلحته، وعزله قبل علمه حل للعقد، فلا يثبت في حقه قبل علمه كالنسخ، لا يثبت في ذمة المكلف إلا بعد العلم.

د- أن في القول بعزله إضراراً به، لأنه قد يتصرف بعد عزله بما يوجب الضمان، والضرر يزال.

هـ- أن الوكيل محسن، ولا يكون جزا المحسن الإساءة بتحميله الضمان.

و-أن الشريعة أتت برفع الحرج والمشقة، وفي هذا مشقة ظاهرة على الوكيل.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 650

•‌

‌ ما حكم الوكالة في العبادات؟

العبادات من حيث الوكالة وعدمها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: قسم يصح التوكيل فيه مطلقاً: كالعبادات المالية.

كتفريق صدقة، أو زكاة، أو نذر، أو كفارة.

قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه.

لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها.

الزكاة: كأن أعطي شخص ألف ريال زكاة كمالي، وأقول له وزعها على الفقراء.

ويصح أن يوكل من يفرق صدقته أو زكاته.

ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ونحو ذلك من العبادات المالية.

الثاني: قسم لا يصح التوكيل فيها مطلقاً، وهي العبادات البدنية المحضة. (أي الخالصة التي لا تتعلق بالمال).

مثل: الصلاة، والصوم، والوضوء.

لأنها تتعلق بنفس الفاعل، فلا يصح أن يوكل بها غيره.

الصلاة: كأن أقول لشخص: اذهب وصلِ عني صلاة الظهر، فهذا لا يجوز.

الصوم: كأن أقول لشخص: علي يوم قضاء من رمضان، أريدك أن تصومه عني، فهذا لا يجوز.

الوضوء: كأن أقول لشخص: الجو بارد وأريدك أن تتوضأ عني، فهذا لا يجوز

الثالث: قسم فيه تفصيل:

وهو الحج في الفرض: فالذي لا يستطيع أن يحج عجزاً مستمراً فإنه يجوز له أن يوكل وإلا فلا يجوز.

لحديث ابن عباس. قال (جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع) متفق عليه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الحج كغيره من العبادات، والأصل فيه عدم جواز التوكيل، لأنه عبادة، والأصل في العبادة أنها مطلوبة من العابد، ولا يقوم غيره مقامه فيها، وحينئذ نقول: الحج وردت النيابة فيه عن صنفين من الناس:

الأول: من مات قبل الفريضة، فإنه يحج عنه، لأنه ثبت ذلك بالسنة.

الثاني: من كان عاجزاً عن الفريضة عجزاً لا يرجى زواله، فهذا جاءت به السنة، وسبق دليلها.

ص: 651

•‌

‌ اذكر أقسام الوكالة بالنسبة لحقوق الآدميين؟

تنقسم الوكالة في حقوق الآدميين من حيث التوكيل إلى قسمين:

القسم الأول: قسم يصح التوكيل فيه: كالعقود، والفسوخ.

فهذه يصح التوكيل فيها، لأن المقصود إيجاده بقطع النظر عن الفاعل.

العقود: كالبيع، والشراء، والإجارة، والقرض، والنكاح.

كأن أقول لشخص: وكلتك تبيع سيارتي.

الشراء: كأن اقول لشخص: وكلتك تشتري لي سيارة.

الإجارة: كأن أقول لشخص: وكلتك تستأجر لي بيتاً.

والفسوخ: كالطلاق، والخلع، والعتق، والإقالة.

الطلاق: كأن أقول لشخص: يا فلان وكلتك أن تطلق زوجتي (وتكون الفائدة - أنه يثبت طلاقها عند المحكمة).

الخلع: كأن اقول لشخص: وكلتك مخالعة زوجتي (الخلع مفارقة الزوجة على عوض).

العتق: كأن أقول لشخص: وكلتك تعتق عبدي فلان.

الإقالة: اشتريت من فلان سيارة ثم لم تعجبني السيارة، فرجعت إليه وقلت: أريد أن تقيلني البيع، فقال: نعم، فلو وكلت إنساناً في الإقالة يجوز سواء من البائع أو من المشتري.

القسم الثاني: قسم لا يصح التوكيل فيه مطلقاً: كالظهار، واللعان، والأيْمان

أ-لأنها تتعلق بنفس الشخص، فالوكيل لا يستطيع أن يفعلها.

ب- ولأنه تفوت الحكمة في التوكيل فيه.

الظهار: فلو وكل شخصاً في الظهار من امرأته، فذهب الرجل إلى المرأة، وقال لها: أنتِ على زوجك كظهر أمه عليه، فهذا لا يجوز ولا يثبت الظهر.

اللعان: وهو ما يكون بين الزوج وزوجته - إذا رماها بالونا - ولم تعترف، فإنه يقام بينهما لعان (وهو أيمان مؤكدة بشهادات، فيقسم الرجل ثم الزوجة، فهنا لا يجوز للزوج أن يوكل أحداً غيره لإقامة اللعان، لأنها تتعلق بالشخص نفسه - أن الوكيل لا يصح أن يضيف اللعنة إلى نفسه.

الأيْمان: أي لا يجوز أن يوكل شخصاً يذهب عنه إلى القاضي ليؤدي اليمين عنه، لأنها تتعلق بالشخص نفسه.

•‌

‌ لماذا لا يصح التوكيل في الظهار؟

لا يصح التوكيل فيه لأمور ثلاثة:

أولاً: لأنه يتعلق بنفس الشخص كما سبق.

ثانياً: أن الموكل لا يملك ذلك، بل هو حرام عليه، فكيف يصح ذلك من الوكيل.

ثالثاً: أن في قبول الوكيل هذا العمل الموكل فيها من باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهى الله عن ذلك.

ص: 652

•‌

‌ اذكر الدليل على جواز الوكالة في الحدود؟

تجوز الوكالة في الحدود: في إثباتها واستيفائها.

أ-لحديث أبي هريرة فِي قِصَّةِ اَلْعَسِيفِ. قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا

). اَلْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(فإن اعترفت) توكيل في الإثبات (فارجمها) توكيل في الاستيفاء.

ب- وأمر صلى الله عليه وسلم برجم ماعز فرجموه.

ج-ووكل عثمان علياً في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة.

د- ولأن الحاجة تدعو إليه، لأن الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه.

•‌

‌ هل للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكل فيه؟

لا، ليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكلَ فيه.

كأن أوكل شخصاً ليشتري لي سيارة، فيذهب هو ويوكل آخر، هذا لا يجوز.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) والتوكيل بغير إذن تعد على مال الغير.

ب- ولأن تصرف الوكيل مستفاد بالإذن، فوجب أن يقتصر في تصرفه على ما أُذِن فيه، فإذا وكّل غيره فمعناه أنه وكل غيره أن يتصرف في ملك الغير.

ج- وأيضاً: يقال: إن الموكِّل قد يرضى أن يتصرف في ملكه فلان، ولا يرضى أن يتصرف في ملكه فلان.

نعم يستثنى حالات:

الحالة الأولى: أن يأذن له، فيجوز.

مثال: أقول وكلتك أن تبيع سيارتي ولك أن توكل من شئت، أو من تثق به.

قال ابن قدامة: إذا أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ فِعْلُهُ، كَالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.

وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَيْنِ خِلَافًا.

الحالة الثانية: أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله، كالأعمال الدنيئة في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة، فهنا يجوز التوكيل. (وهذا اختيار ابن القيم)

قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا يَرْتَفِعُ الْوَكِيلُ عَنْ مِثْلِهِ، كَالْأَعْمَالِ الدَّنِيَّةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَعْمَلُهُ الْوَكِيلُ عَادَةً، انْصَرَفَ الْإِذْنُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ.

الحالة الثالثة: إذا كان يعجز عن القيام بمثله عادة.

مثال: وكلت رجلاً أن يصعد بحجر كبير إلى السطح، لأنك تريد أن تبني به السطح، وهو رجل ضعيف لا يقوى على ذلك، فهل له أن يوكل من يحمل الحجر إلى فوق؟ الجواب نعم، لأن مثله يعجز عنه.

قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْمَلُهُ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ؛ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي عَمَلِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ جَمِيعِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيلِ بِلَفْظِهِ.

فائدة: إذا نهاه، فلا يجوز له أن يوكل.

قال ابن قدامة: أَنْ يَنْهَى الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ عَنْ التَّوْكِيلِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ.

ص: 653

•‌

‌ هل يضمن الوكيل إذا تلفت العين بيده؟

الوكيل أمين، فلا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.

والأمين هو: كل من كان المال بيده بإذن من الشارع أو بإذن من المالك فهو أمين، ومن كان في يده بغير إذن من الشارع أو من المالك فليس بأمين.

أمثلة:

ولي اليتيم: أمين، أذن له الشرع.

ناظر الوقف: أمين، أذنَ له الواقف.

المُوصَى إليه: أمين، أذن له الموصِي.

المستأجر الذي تحتَ يده العين مؤجرة: أمين، أذن له المُؤجر وهلم جَرّاً.

•‌

‌ الوكيل أمين؛ لأن العين حصلت بيده بإذن من الموكِّل، متى ترتفع الأمانة؟

ترتفع الأمانة إذا تعدى أو فرط، وصارت يده غير أمينة.

التعدي: أن يفعل ما لا يجوز.

التفريط: أن يترك ما يجب.

مثال آخر: الوكيل وكله في شراء ساعة، واشترى الساعة، ثم وضعها في بيته على رف يتناوله الصبيان، فأخذ الصبيان الساعة وخرَّبوها، فإنه يضمن؛ لأنه فرَّط.

مثال آخر: وكلته أن يشتري لي ساعة فاشتراها، ثم إنه نسي ساعته في البيت فوضع الساعة التي اشتراها لي في يده ـ يعني استعملها ـ فجاءها شيء وكسرها، فإنه يضمن؛ لأن هذا من التعدي.

مثال آخر: اشترى الساعة ووضعها في رف عال لا يتناوله الصبيان، ولكن أحد الصبيان كان بذيّاً، أتى بسلم، وصعد على الرف وأخذ الساعة وكسرها، فهنا لا يضمن؛ لأن هذا ليس تعدياً ولا تفريطاً، إذ إنه جرت العادة أن الناس يحفظون مثل الساعة وشبهها في الرفوف العالية عن الصبيان، وهذا الصبي خرج عن العادة.

فعلى كل حال، إذا تلف الشيء الذي تحت يده بتعدٍّ أو تفريط فهو ضامن، وبلا تعدٍّ ولا تفريط فهو غير ضامن. (الشرح الممتع)

•‌

‌ من الذي يقبل قوله في نفي التفريط؟

يقبل قول الوكيل في نفي التفريط لكن مع يمينه.

(لأن كل من قلنا إن القول قوله فيما يتعلق بحق العباد فلابد فيه من اليمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر).

فلو قال الموكل للوكيل: لقد فرطت في حفظها، قال الوكيل: لم أفرط، فإنه يقبل قوله مع يمينه لأمرين:

الأمر الأول: أن الأصل عدم التفريط.

الأمر الثاني: أن الموكل قد ائتمنه على ذلك، وإذا ائتمنه فإنه لا يصح أن يعود فيُخَوِّنَه بدون سبب أو ثبوت شرعي.

•‌

‌ ما الحكم لو باع بدون ثمن المثل؟

مثال: وكلت شخصاً أن يبيع هذه السيارة بـ (20) فباعها بـ (15).

البيع صحيح، ويضمن النقص.

فالبيع صحيح لأنه تعلق به حق امرئ ثالث وهو المشتري. ويضمن النقص لأنه دون ثمن المثل.

ص: 654

‌بَابُ اَلْإِقْرَارِ

889 -

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قُلِ اَلْحَقَّ، وَلَوْ كَانَ مُرًّا) صَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

صحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد جواز الإقرار.

والإقرار: هو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق.

•‌

‌ اذكر أدلة ثبوته؟

أ-قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

ب-وقال صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها

).

ج-وحديث ماعز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدّه بإقراره.

د_ وكذلك الغامدية حدها الله لما اعترفت بالزنا.

هـ- وأجمع المسلمون على صحة الإقرار.

وهو أقوى الأدلة لإثبات دعوى المدعى عليه، ولهذا يقولون: إنه سيد الأدلة.

لأنه اعتراف ممن عليه الحق، فلا يحتمل الشبهة.

•‌

‌ اذكر ما يشترط لصحة الإقرار؟

الشرط الأول: أن يكون المقر مكلفاً. (بالغاً عاقلاً).

أ- لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق،

).

ب- ولأنه قول ممن لا يصح تصرفه فلم يصح، كفعله.

فلا يصح من صبي، ولا من مجنون.

فلا يصح الإقرار من السكران لأنه لا عقل له، ولذلك لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة حينما قال له: هل أنتم إلا عبيد أبي.

الشرط الثاني: أن يكون المقر مختاراً.

ص: 655

فلا يصح الإقرار من مكره.

أ- لأن الله رفع حكم الكفر عن المكره لقوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).

ب- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

ج- وقال تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). فكل العقود لا بد فيها من التراضي.

فإن ادعى الإكراه فإنه لا يقبل إلا ببينة، كأن يظهر عليه أثر ضربٍ أو حبس.

الشرط الثالث: ألا يكون محجور عليه.

فالمحجور عليه لحظ الغير لا يصح إقراره في أعيان ماله، ويصح في ذمته ويطالب بذلك بعد فك الحجر.

• فإذا أقر المقر فإنه يحكم القاضي عليه، ولا يجوز الرجوع عنه إلا ببينة إذا كان في حق من حقوق الآدميين.

• فالمرء مُؤاخذ بإقراره، فإن المرء إذا كان عاقلاً كامل الأهلية فإنه مُواخذ بما يقر به، ولو أنه أنكر بعد ذلك فلا عبرة بإنكاره، فمن أقر على نفسه إقرارًا صحيحًا في هذه الحالة يلزم بذلك، وهذا محل اتفاق من أهل العلم فيما يتعلق بالعقود والحقوق الواجبة عليه بإنشاء العقود، فلو أنه مثلاً أقر بمال أو ببيع ثم أنكر بعد ذلك فإنه يلزمه ذلك ولا ينفعه إنكاره.

•‌

‌ هل يجب على الإنسان أن يعترف بجميع الحقوق التي عليه للآدميين؟

نعم، يجب عليه أن يعترف بذلك، ليخرج من التبعة بأداء أو استحلال.

ويكون ذلك بأمرين: إما بأدائها إلى أصحابها - أو باستحلالهم من ذلك.

فإن حقوق الآدميين مبناها على المشاحاة.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخيه مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري.

[منْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخيه] اللام في قوله (له) بمعنى (على) أي: من كانت عليه مظلمة لأخيه، وقد جاء في رواية عند البخاري (من كانت عنده مظلمة لأخيه) وللترمذي (رحم الله عبداً كانت له عند أخيه مظلمة).

[مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ] أي: من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وعند الترمذي (من عرض أو مال).

[فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ] أي: يستبرئ ذمته منه بأدائه أو بعفوه.

[الْيَوْمَ] أي: في الدنيا.

[قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ] وذلك في يوم القيامة.

[وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ] أي: صاحب المظلمة.

[فَحُمِلَ عَلَيْهِ] أي: على الظالم.

ففي هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يرد ما عليه من حقوق الآدميين، قبل أن يموت وينتقل إلى دار الآخرة فتكون عليه وتؤخذ من حسناته إن كان له عمل صالح، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه.

وقد جاء في الحديث عن أَبي هريرة رضي الله عنه أَنْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (أَتَدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِنْ حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ). رواه مسلم

ص: 656

وعن أُمِّ سَلَمةَ أَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) متفق عليه. «أَلْحَنَ» أَيْ: أَعْلَم.

وعن أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فقال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَايَ؟ فقال لَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ، ثُمَّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيْف قُلْتَ؟ قال: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عني خَطَاياي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ). رواه مسلم.

فحقوق العباد يجب أن يتحلل منها في الدنيا قبل أن يحاسب عليها في الآخرة.

وحقوق العباد تنقسم إلى أقسام:

القسم الأول: أن تكون في النفس.

مثل أن يكون قد جنى عليه، أو ضربه حتى جرحه، أو قطع عضواً من أعضائه، فإنه يتحلل منه بأن يُمكّن صاحب الحق من القصاص، أو بذل الدية إذا لم يكن القصاص.

القسم الثاني: أن تكون في المال.

فإنه يعطيه ماله ويرجع لصاحبه، فإن كان صاحبه قد مات فإنه يسلمه إلى ورثته، فإن لم يعرف مكانه فإنه يتصدق به عنه.

القسم الثالث: وإن كانت المظلمة في العرض كسب أو شتم.

فاختلف العلماء في كيفية التحلل منه على قولين:

القول الأول: اشتراط الإعلام والتحلل.

واحتج أصحاب هذا القول: بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.

القول الثاني: إنه لا يشترط الإعلام بما نال من عِرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّل غيبته بمدحه والثناء عليه.

وهذا اختيار أبي العباس ابن تيمية.

واحتج أصحاب هذه المقالة: بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وخنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه.

قالوا: وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل.

وقالوا: إن الفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:

أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه محض حقه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه.

الثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تهج منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سرّه ذلك وفرح به.

وهذا القول الثاني هو الراجح والله أعلم بالصواب.

ص: 657

‌بَابُ اَلْعَارِيَةِ

890 -

عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَلَى اَلْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وفيها خلاف مشهور هل سمع من سمرة أو لا.

والحديث له شواهد تقويه كحديث يعلى بن أمية الآتي وحديث أبي أمامة (العارية مؤداة، والمنحة مردودة).

• ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (عَلَى اَلْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ)؟

أي: على اليد ضمان ما أخذته من مال الغير حتى تؤديه، أو حفظ ما أخذت (حَتَّى تُؤَدِّيَهُ) إلى صاحبه.

•‌

‌ عرف العارية؟

هي عند الفقهاء: دفع عين لمن ينتفع بها مجاناً ويردها.

قوله (لمن ينتفع بها) يخرج البيع، لأنه تمليك.

قوله (مجاناً) يخرج به الإجارة، لأنها تمليك المنفعة بمال.

قوله (ويردها) فيه إشارة إلى أن العارية إنما تكون حال حياة المعير، فيخرج بذلك الوصية بالمنفعة، لأنها تمليك بعد الوفاة.

من أمثلة العارية: أن يعيره كتاباً ليقرأ فيه، أو شيئاً من متاع البيت ليستخدمه، أو سيارة يركبها.

•‌

‌ اذكر أدلة مشروعيتها؟

قال تعالى (ويمنعون الماعون) أي المتاع يتعاطاه الناس بينهم.

فقد ذكر جمهور المفسرين أن المراد بـ (الماعون) ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض من الأواني أو الأمتعة.

قال ابن مسعود (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر) رواه أبو داود.

وقال تعالى (العارية مؤداة) رواه أبوداود.

وعن أنس قال (كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة

) متفق عليه.

(واستعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعاً) رواه أبوداود.

وأجمع المسلمون على جواز العارية.

ص: 658

•‌

‌ ما حكم العارية.

أما بالنسبة للمستعير فهي مباحة.

وأما للمعير فهي سنة وقربة.

قال ابن قدامة: العارية مندوب إليها وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم.

أ-لقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

ب- وقال تعالى (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

ج- ولأن فيها عوناً للمسلم، وقضاء حاجته، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من حديث الباب؟

نستفيد: أنه يجب على الإنسان رد ما أخذته يده من مال الغير إلى مالكه.

•‌

‌ ما الذي يجوز إعارته؟

تجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة.

(كالدار، والعبيد، والجواري، والثياب، والحلي للبس).

(ينتفع) فلا يجوز إعارة ما لا نفع فيه.

(مباح) فلا يجوز إعارة المحرم مثل آلات اللهو.

•‌

‌ ممن تصح العارية.

قال ابن قدامة: ولا تصح العارية إلا من جائز التصرف.

لأن الإعارة نوع من التبرع، لأنها إباحة منفعة.

•‌

‌ هل يجوز للمستعير أن يعير العارية لغيره بغير إذن مالكها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز.

وهذا قول الشافعية، والحنابلة.

القول الثاني: أنه يجوز.

وهذا مذهب الحنفية.

قياساً على المستأجر.

والأول أصح.

ص: 659

891 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَدِّ اَلْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ اَلرَّازِيُّ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الراجح ضعفه، فإن أبا حاتم أنكره، وضعفه أحمد وابن الجوزي.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أنه يجب على الإنسان أن يرد الأمانة إلى صاحبها إذا طلبها.

والأمانة ضد الخيانة، والمراد بها هنا: الشيء الذي يوجد عند الأمين.

والأمين: هو الذي في يده مال لغيره برضى المالك، كالمودع والوكيل، أو برضى الشارع كولي الصغير أو اليتيم.

•‌

‌ على من مؤنة رد العارية؟

ذهب جماهير العلماء إلى مؤنة رد العارية على المستعير.

أ-لقوله تعالى (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).

ب- وقال صلى الله عليه وسلم (أد الأمانة إلى من ائتمنك).

ج- أن هذا المستعير قبض العين لمصلحته الخاصة.

د- لأن المعير محسن.

هـ- أننا لو ألزمنا المعير بموؤنة الرد لامتنع الناس منها.

•‌

‌ عرف الخيانة وما حكمها؟

الخيانة: هي الغدر في موضع الأمانة، وهي صفة ذم بكل حال.

فالخيانة هنا: هي عدم الوفاء بالأمانة، إما بالتفريط في حفظها، أو بجحدها وعدم أدائها، أو التصرف فيها بلا إذن صاحبها.

قال القرطبي: الخيانة: الغدر وإخفاء الشيء.

وهي حرام ومن كبائر الذنوب.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).

قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).

وهي من صفات المنافقين قال تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث:

، وإذا أؤئتمن خان) متفق عليه.

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول (

اللهم إني أعوذ بك من الخيانة، فإنها بئس البطانة).

ص: 660

•‌

‌ هل يجوز للإنسان إذا كان له حق على إنسان وامتنع من أدائه أن يأخذ من ماله بغير إذنه؟

هذه المسألة تسمى عند العلماء (مسألة الظفر) وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه يجوز له ذلك.

وهذا مذهب الشافعي، وهو المعتمد عند المالكية.

أ- لعموم قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).

ب- وقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).

ج- وقوله تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).

د- ولحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ) متفق عليه.

فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهند الأخذ بغير إذن أبي سفيان، ولو كان الإذن شرطاً لبينه صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام النووي عند ذكر ما يستفاد من الحديث: ومنها: أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهذا مذهبنا. (شرح النووي).

وقال الحافظ ابن حجر: واستدل به على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهو قول الشافعي وجماعة.

القول الثاني: أنه لا يجوز.

وهذا مذهب الحنابلة.

لحديث الباب (ولا تخن من خانك).

•‌

‌ ما الجواب عن حديث (ولا تخن من خانك)

أجابوا: أن الحديث ضعفه جمع من أهل العلم، منهم الشافعي، وأحمد، والبيهقي، وابن حزم، وابن الجوزي.

ثم الحديث على فرض صحته، فإن هذا ليس من الخيانة.

قال الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين

).

يؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ، وَهِيَ أَنَّكَ إِنْ ظَلَمَكَ إِنْسَانٌ: بِأَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِكَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُمْكِنْ لَكَ إِثْبَاتُهُ، وَقَدَرْتَ لَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ظَلَمَكَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَأْمَنُ مَعَهُ الْفَضِيحَةَ وَالْعُقُوبَةَ; فَهَلْ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ أَوْ لَا؟. أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَأَجْرَأُهُمَا عَلَى ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَعَلَى الْقِيَاسِ: أَنَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ (فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ)

وَقَوْلِهِ (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم).

ومِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: ابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ.

ص: 661

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ; وَعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ: وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا لِمَنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيث (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ. وَلَا تَخُنْ مِنْ خَانَك) وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ لَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ; لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَخُنْ مَنْ خَاهُ، وَإِنَّمَا أَنْصَفَ نَفْسَهُ مِمَّنْ ظَلَمَه. (أضواء البيان).

وقال ابن القيم في الكلام على حديث عائشة. قالت (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ) متفق عليه.

قال رحمه الله في زاد المعاد: وَقَدْ احْتَجّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظّفْرِ وَأَنّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ بِقَدْرِ حَقّهِ الّذِي جَحَدَهُ إيّاهُ وَلَا يَدُلّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنّ سَبَبَ الْحَقّ هَاهُنَا ظَاهِرٌ وَهُوَ الزّوْجِيّةُ فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ خِيَانَةً فِي الظّاهِرِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ صلى الله عليه وسلم (أَدّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) وَلِهَذَا نَصّ أَحْمَدُ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مُفَرّقًا بَيْنَهُمَا فَمَنَعَ مِنْ الْأَخْذِ فِي مَسْأَلَة الظّفْرِ وَجَوّزَ لِلزّوْجَةِ الْأَخْذَ وَعَمِلَ بِكِلَا الْحَدِيثَيْنِ.

الثّانِي: أَنّهُ يَشُقّ عَلَى الزّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَيُلْزِمُهُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ الْفِرَاقِ، وَفِي ذَلِكَ مَضَرّةٌ عَلَيْهَا مَعَ تَمَكّنِهَا مِنْ أَخْذِ حَقّهَا.

الثّالِثُ: أَنّ حَقّهَا يَتَجَدّدُ كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَ هُوَ حَقّا وَاحِدًا مُسْتَقِرّا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَدِينَ عَلَيْهِ أَوْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ بِخِلَافِ حَقّ الدّيْنِ. (الزاد).

ص: 662

892 -

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعاً "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ. قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

893 -

وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِسْتَعَارَ مِنْهُ دُرُوعاً يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَقَالَ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.

894 -

وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا ضَعِيفًا عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ.

===

(أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ) أي: تضمن إن تلفت بقيمتها.

(أَوْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ) العارية المؤداة: هي التي يجب أداؤها مع بقاء عينها، فهي الأمانة المردودة نفسها، فإن تلفت لم تضمن بالقيمة.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث يعلى حديث صحيح.

وحديث صفوان فيه ضعف وله شواهد قواه بها الإمام البيهقي.

•‌

‌ هل إذا تلفت العارية عند المستعير يجب عليه ضمانها أم لا؟

لا خلاف بين العلماء أن العارية تضمن إذا تلفت عند المستعير بتعد أو تفريط.

واختلفوا إذا تلفت بغير تعد ولا تفريط على قولين:

القول الأول: أنها مضمونة مطلقاً.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، ونسبه ابن حجر للجمهور.

قال ابن قدامة: والعارية مضمونة، وإن لم يتعد فيها المستعير.

لحديث (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).

القول الثاني: أن المستعير لا يضمن مطلقاً.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

لأن المستعير أمين.

القول الثالث: أن العارية لا تضمن إلا إذا شرط ذلك.

واختاره ابن تيمية، والصنعاني.

لحديث الباب (بل عارية مضمونة)

وهذا القول هو الراجح.

والخلاصة: أن العارية تضمن في حالتين:

الحالة الأولى: إن شرط المعير ضمان العارية فإنها تضمن.

لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).

ولقوله تعالى (وأوفوا بالعهد).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

ولقوله صلى الله عليه وسلم لصفوان لما استعار منه دروعاً (بل عارية مضمونة) رواه أبو داود.

ومعنى (بل عارية مضمونة) المعنى: أي أستعيرها منك متصفة بأنها مضمونة لا عارية مطلقة عن الضمان، فهو دليل على ضمانها عند الشرط، لأن المستعير تعهد بذلك.

ص: 663

الحالة الثانية: إذا فرط أو تعدى. (وهذا بالاتفاق كما سبق).

كأن أعطيه كتاباً ليقرأ فيه، فوضعه في حوش البيت فسرق فإنه يضمن، لأنه فرط فلم يحفظه في حرزه.

لكن لو وضعه في مكان محرز فجاء سارق فسرقه فإنه لا يضمن، لأنه ليس متعدياً ولا مفرطاً.

والدليل على أنه يضمن إذا تعدى أو فرط:

لأنه بتعديه أو تفريطه زال ائتمانه، فصار غير أمين، فيجب عليه الضمان.

•‌

‌ ما الفرق بين الإجارة والعارية؟

الفرق الأول: أن نفقة رد العين المستعارة على المستعير، وفي باب الإجارة مؤونة رد العين المؤجرة على المؤجر، فالمستأجر يرفع يده عنها.

الفرق الثاني: أن المستعير لا يملك أن يعير العارية، فإذا استعرت كتاباً لا تملك أن تعيره إلى زيد أو عمرو؛ أما المستأجر فيجوز أن يؤجر العين المستأجرة.

الفرق الثالث: أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات، وأما عقد العارية من عقود التبرعات.

الفرق الرابع: أن عقد الإجارة يثبت فيه خيار المجلس، وأما عقد العارية لا يثبت فيه خيار المجلس.

الفرق الخامس: على المذهب يقولون أن العارية مضمونة وأما العين المؤجرة فليست مضمونة إلا إن تعدى أو فرط، والصحيح أن كلاً من العارية والعين المؤجرة ليست مضمونة.

الفرق السادس: أن العارية إباحة للمنافع وإما الإجارة فهي تمليك للمنافع.

•‌

‌ هل هي عقد لازم لا يجوز الرجوع فيه أو عقد جائز يجوز الرجوع فيه؟

الجواب أن العارية قسمان:

القسم الأول: أن تكون مطلقة غير مقيدة بوقت، مثلاً استعار السيارة أو استعار الكتاب ولم يقل لمدة يوم أو يومين، فهذه يجوز الرجوع فيها وليست عقداً لازماً.

يجوز الرجوع فيها في أي وقت؛ لأن العارية إباحة نفع وتبرع وإذا كان كذلك فللمالك أن يرجع في هذه المنفعة التي لم تقبض، له ألاّ يهب هذه المنافع.

القسم الثاني: أن تكون العارية مؤقتة كما لو استعار الكتاب لمدة يومين أو السيارة لمدة ثلاثة أيام ونحو ذلك، فهل يملك المعير أن يرجع في هذه العارية أو لا يملك؟

أكثر أهل العلم: أنه يملك؛ لأن العارية من عقود التبرعات (وما على المحسنين من سبيل) وكما تقدم أنه وهبه المنافع التي مضت والمستقبلة حتى الآن لم يهبها له فله أن يرجع فيها.

ولأنها من عقود التبرعات.

والرأي الثاني: أن العارية إذا كانت مؤقتة لا يملك الرجوع فيها، فلو قال: أعرني الكتاب لمدة يومين، قال: أعرتك الكتاب لمدة يومين فإنه لا يملك الرجوع في هذه الحالة.

والدليل على هذا: أن في هذا إخلافاً للوعد من وجه، ومن وجه آخر أنه قد يلحق المستعير ضرر، قد يكون استعار الكتاب لكونه يحتاجه في هذه اليومين، استعار آلة الحرفة لكونه يحتاجها في هذه اليومين وربما يتعطل عليه العمل ويلحقه ضرر.

والقاعدة: {لا ضرر ولا ضرار} .

فربما استعار السيارة لحمل البضائع وتحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيام ونحو ذلك.

فالصواب: إذا كانت العارية مؤقتة، فإن المعير لا يملك الرجوع.

ص: 664

‌بَابُ اَلْغَصْبِ

895 -

عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ اِقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ اَلْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اَللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(مَنْ اِقْتَطَعَ) أي: من أخذ.

(شِبْرًا مِنْ اَلْأَرْضِ) الشبر: هو ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج بينهما المعتاد.

•‌

‌ عرف الغضب؟

وهو عند الفقهاء: هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق.

قوله: (الاستيلاء) أي: إن الغصب تصرف فعلي، يقوم على الاستيلاء الذي ينبني على القهر والغلبة.

وقوله: (قهراً) خرج به لو استولى عليه خلسة أو سرقة، فإن هذا لا يعد غصباً اصطلاحاً، فالسارق: هو من يأخذ المال خفية، والمختلس: هو من يأخذ الشيء جهاراً بحضرة صاحبه في غفلة منه.

وقوله: (بغير حق) خرج به الاستيلاء بحق، كاستيلاء الحاكم على مال المفلس ليوفي الغرماء.

•‌

‌ ما حكمه؟

حرام ومن كبائر النوب.

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).

ب-وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).

ولحديث الباب (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه.

وأجمع العلماء على تحريم الغصب في الجملة. (قاله ابن قدامة).

•‌

‌ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ اِقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ اَلْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اَللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)؟

اختلف العلماء في معناه:

فقيل: أن يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه.

وقيل: يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أخذ من الأرض شبراً بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).

وقيل: أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه.

•‌

‌ ما الواجب على الغاصب؟

يجب على الغاصب رد المغصوب إذا كان بحاله.

قال ابن قدامة: فمن غصب شيئاً لزمه رده إن كان باقياً بغير خلاف نعلمه.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أبو داود.

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (من أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود.

ص: 665

•‌

‌ هل يلزم الغاصب رد المغصوب بزيادته؟

نعم، يلزم الغاصب رد المغصوب بزيادته سواء كانت متصلة أو منفصلة.

لأنها من نماء المغصوب، وهو لمالكه، فلزمه ردها كالأصل.

مثال الزيادة المتصلة: غصب عناقاً صغيرة ثم كبرت وسمنت، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.

مثال الزيادة المنفصلة: غصب شاة حائلاً، فولدت عنده، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.

فيجب عليه الرد ولو غرم رده أضعاف قيمته.

يعني إذا لم يمكن رده إلا أن يخسر الغاصب قيمته عشر مرات، فإنه يلزمه رده.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود.

•‌

‌ هل يلزم الغاصب ضمان نقص المغصوب ولو كان بغير فعله؟

نعم، يلزم الغاصب ضمان النقص ولو كان بغير فعله.

مثاله: غصب أمة شابة، وبقيت عنده لمدة شهرين، وأتاها ما يوحشها، فابيض شعرها، فكانت بالأول تساوي [100] درهم، والآن تساوي [50] درهم، فيلزم الغاصب [50] درهم، لأنها نقصت تحت استيلائه، فوجب عليه الضمان.

وأيضاً: لو أن هذه البهيمة هزلت وقل لحمها وجب عليه أرشها فيضمن النقص.

ومثل ذلك: ثوب تخرق، وبناء تهدم، وإناء تكسّر.

لأنه نقْص حصل في يد الغاصب فوجب ضمانه.

•‌

‌ ما الحكم لو غصب شيئاً له أجرة؟

إن غضب شيئاً له أجرة، كالعقار، والدواب ونحوها فعليه أجرة مثله، سواء استوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت.

لأنها تلفت في يده العادية، فكان عليه عوضها.

فلو غصب أرضاً فعليه أجرتها منذ غصبها إلى وقت تسليمها.

•‌

‌ ما الحكم إذا غصب جارحاً أو كلباً فحصل بذلك صيداً؟

يكون الصيد لمالكه، لأن الكلب لمالكه.

وكذلك إذا غصب عبداً وصاد هذا العبد طيوراً، فإن الصيد لمالكه.

وأما إذا غصب فرساً: فصاد به، فإن الصيد للغاصب، لأن الفرس ليس هو الذي يصيد، بل يصاد عليه، والصائد هو الغاصب، لأن الغاصب صاد بسهمه، لكن على الغاصب أجرة الفرس.

ص: 666

•‌

‌ هل يجب الضمان مطلقاً على الغاصب؟

نعم، يجب الضمان عليه مطلقاً، سواء تعدى أو فرط أو لم يتعدى ولم يفرط، لأن يده يد ظالم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

أن الأرضين سبع.

قال صلى الله عليه وسلم (

لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأراضين السبع وعامرهن

).

وأما في القرآن فلم يرد تصريحاً، وإنما ورد تلميحاً كقوله تعالى (ومن الأرض مثلهن) أي في العدد.

2.

شدة تحريم الظلم.

3.

إثبات يوم القيامة.

4.

أن يوم القيامة لا يقاوم بأيام الدنيا.

5.

ليس اغتصاب الأموال مقصوراً على الاستيلاء عليها بقوة، بل ذلك يشمل الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة والأيمان الفاجرة.

قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون).

وقال صلى الله عليه وسلم (من قضيت له بحق أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار).

ص: 667

896 -

وَعَنْ أَنَسٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ اَلْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَكَسَرَتِ اَلْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا اَلطَّعَامَ. وَقَالَ: كُلُوا، وَدَفَعَ اَلْقَصْعَةَ اَلصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ، وَحَبَسَ اَلْمَكْسُورَةَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَسَمَّى اَلضَّارِبَةَ عَائِشَةَ، وَزَادَ: فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ) وَصَحَّحَهُ.

===

(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ) وهي عائشة كما في رواية الترمذي.

(فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ اَلْمُؤْمِنِين) قال الطيبي: وإنما وصفت المرسلة بأنها أم المؤمنين إيذانًا بسبب الغيرة التي صدرت من عائشة وإشارة إلى غيرة الأخرى حيث أهدت إلى بيت ضرتها.

ولم يبين في هذه الرواية من المرسلة، ورجح الحافظ ابن حجر أنها زينب بنت جحش.

(فَكَسَرَتِ اَلْقَصْعَةَ) وفي رواية (غارت أمكم) وهذا اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها.

قال ابن حجر: الغَيْرَة: بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن من أتلف لغيره شيئاً أنه يضمنه، فإن كان مثلياً ضمنه بمثله، وإن لم يكن مثلياً ضمنه بقيمته.

•‌

‌ ما هو المثلي؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن المثلي كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه.

فقولنا: (كل مكيل أو موزون) خرج به ما سواهما كالمعدود، والمذروع، والحيوان، والثياب، وهلمّ جرّاً.

مثال: الأقلام متقومة، وكذلك الساعات متقومة؛ لأن فيها صناعة مباحة، فعلى المذهب يجب أن يرد قيمتها

وهذا المذهب.

القول الثاني: المثلي: ما له نظير أو مقارب من معدود أو مكيل أو موزون أو مصنوع أو غير ذلك.

وهذا قول ابن تيمية.

أ-لحديث الباب.

ب- ولأن الضمان بالشبيه والمقارب يجمع الأمرين وحصول مقصود صاحبه.

قال الشيخ ابن عثيمين: ولهذا كان القول الصحيح أن المثلي ما كان له مثل أو مقارب، وعلى هذا فالحيوان مثلي، ولهذا استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بَكْراً ورد خياراً رباعيّاً، فجعله مثليًّا، ولما جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند إحدى نسائه بطعام، ضربت المرأة ـ التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها ـ يد الغلام حتى سقط الطعام وانكسرت الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إناء بإناء وطعام بطعام، وأخذ طعام التي كان عندها وصحفتها وردهما مع الغلام، فهنا ضمن الإناء بالمثل مع أن فيه صناعة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مثليّاً، ولا شك أن هذا القول هو الأقرب، وعلى هذا فإذا استقرض بعيراً ثبت في ذمته بعير مثله، وإذا استقرض إناء ثبت في ذمته إناء مثله، وهذا أقرب من القيمة.

ص: 668

وقال رحمه الله: والصحيح أن المسجل من أقسام المثليات، والمذهب كل مصنوع فليس بمثلي، بل متقوم، والصواب أن الشيء المثلي هو الذي له مثل ونظير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام الذي أرسلت به إحدى أمهات المؤمنين، وهو في بيت عائشة رضي الله عنها وكسرت الإناء والطعام، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم طعامها وإناءها، وقال: طعام بطعام وإناء بإناء، وهذا يدل على أن المثلية تكون في المصنوعات، كما تكون في الحيوانات، فالرسول صلى الله عليه وسلم استسلف بعيراً بكراً ورد خيراً منه رباعياً، وهذا يدل على أن المثل ـ أيضاً ـ في الحيوانات، وعندهم أن الحيوان متقوم؛ لأنهم يقيدون المثلي بكل مكيل، أو موزون لا صناعة مباحة فيه، يصح السلم فيه، وهذا ضيق جداً.

• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

شدة الغيْرة بين الضرات.

2.

فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة.

وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعاً (أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه).

3.

جواز إهداء الطعام.

4.

حل الهدية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الصدقة فلا تحل، لأنها أوساخ الناس.

5.

أن الشيء المثلي يضمن بضمنه - كما تقدم - سواء كان مكيلاً أو معدوداً أو مزروعاً أو مصنوعاً أو غير ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل القصعة السليمة مكان القصعة التي كُسرتْ.

6.

سعة حلم النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 669

897 -

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ اَلزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، ويقال: إن البخاري ضعفه.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

قال الخطابي: هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث.

وقال أيضاً: وضعفه البخاري أيضاً، وقال: تفرد بذلك شريك عن أبي إسحاق، وشريك يهم كثيراً أو أحياناً". (معالم السنن)

•‌

‌ ما حكم من غصب أرضاً وزرع فيها؟

حكم ذلك: أن الزرع يكون لصاحب الأرض، ويدفع للغاصب قيمة الزرع من بذر وحرث ونحو ذلك.

وهذا مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن حزم.

قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.

ولصاحب الأرض أن يبقي الزرع للغاصب بأجرة مثله إلى الحصاد مع أرش نقص الأرض.

لحديث الباب.

وذهب بعض العلماء إلى أن الزرع للغاصب وعليه أجرة الأرض.

والقول الأول أصح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

تحريم الظلم ومن ذلك الغصب والاعتداء على حقوق الآخرين.

2.

أن ما كان حقاً للعباد، جاز لهم إسقاطه.

3.

أن تصرفات الغاصب باطلة.

ص: 670

898 -

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ اَلزُّبَيْرِ قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ مِنْ اَلصَّحَابَةِ; مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ، غَرَسَ أَحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلًا، وَالْأَرْضُ لِلْآخَرِ، فَقَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَأَمَرَ صَاحِبَ اَلنَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ. وَقَال: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

899 -

وَآخِرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِ " اَلسُّنَنِ " مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.

وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَفِي تَعْيِين صَحَابِيِّهِ.

===

(لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ) أي: ليس لذي عرق ظالم حق، لأن العرق نفسه جماد، لا يعرف حقاً ولا باطلاً.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

سنده ضعيف.

•‌

‌ ما حكم إذا غرس الغاصب نخلاً في الأرض المغصوبة؟

إذا غرس الغاصب في الأرض المغصوبة، ألزِم بقلع الغرس.

لحديث الباب (لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ).

قال أبو عبيْد: فهذا الحديث مفسر للعرق الظالم، وإنما صار ظالماً لأنه غرس في الأرض وهو يعلم أنها ملك لغيره، فصار بهذا الفعل ظالماً غاصباً، فكان حكمه أن يقلع ما غرس.

وقد نقل ابن رشد الإجماع على ذلك.

وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافاً.

•‌

‌ ما الحكم لو قلع النخل، وصارت الأرض غير مستوية وفيها حفر من الغرس؟

يجب عليه أن يسويها، وأن يرد الأرض إلى ما كانت عليه، لأنه ضرر حصل بفعله في ملك غيره.

ص: 671

900 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ; رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ اَلنَّحْرِ بِمِنًى (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ [وَأَعْرَاضَكُمْ] عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

•‌

‌ على ماذا يدل الحديث؟

الحديث يدل على تحريم أكل أموال الناس بالباطل ومن ذلك الغصب.

وقد تقدم أدلة ذلك:

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).

ب- حديث الباب.

ج-عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُه) رواه مسلم.

د-عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) متفق عليه.

هـ-وعن أَبي أمامة. أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ (مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئ مُسْلِم بيَمينه، فَقدْ أوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الجَنَّةَ)) فَقَالَ رَجُلٌ: وإنْ كَانَ شَيْئاً يَسيراً يَا رَسُول الله؟ فَقَال: وإنْ قَضيباً مِنْ أرَاك) رواه مسلم.

ز- وعن أبي حُرة الرقاشي عن عمه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد وله شواهد

•‌

‌ هل يدخل العقار في الغصب أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن العقار يدخل تحت الغصب، وأن الغصب كما يتصور في المنقولات فكذلك يتصور في العقارات.

وهذا قول جمهور العلماء.

أ- للحديث المتقدم (من ظلم قيد شبر طُوِّقه من سبع أرضين يوم القيامة).

هذا يدل على أن الغصب يدخل تحته العقار.

ب-ولحديث الباب (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) ويدخل في المال العقار.

القول الثاني: أن العقار لا يدخل تحت الغصب لا يتصور فيه الغصب.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

قالوا: لأن العقار لا يمكن نقله ولا تحويله.

والقول الأول أصح.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

الأصل في مال المسلم التحريم.

2.

تحريم دم المسلم بغير حق.

3.

تحريم عرض المسلم بغير حق.

4.

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ العلم.

5.

التأكيد والنصح في المناسبات العامة.

ص: 672

‌بَابُ اَلشُّفْعَةِ

901 -

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (اَلشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ).

وَفِي رِوَايَةِ اَلطَّحَاوِيِّ (قَضَى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ) وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

===

(قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: حكم وألزم.

(فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ) الحدود جمع حد، والمراد به هنا: ما تُميز به الأملاك بعضها عن بعض.

(وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ) أي: بيّنت مصارف الطرق وشوارعها.

(اَلشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ) أي: في كل شيء مشترك، والشِرك: النصيب المشترك.

(أَرْضٍ) بيضاء مشتركة بين اثنين، فإذا باع أحد الشريكين فلشريكه الشفعة.

(أَوْ رَبْعٍ) بفتح الراء وهو المنزل، وإنما قيل للمنزل: رَبْعٌ، لأن الإنسان يربع فيه، أي: يقيم.

(أَوْ حَائِطٍ) الحائط: بستان النخل.

(لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ) وفي لفظ (لا يحل أن يبيع حتى يعرض على شريكه).

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث جابر رواه البخاري بهذا اللفظ، ورواه مسلم بلفظ آخر.

ورواية الطحاوي ذكرها الحافظ ابن حجر لأنها تدل على أن الشفعة تجوز في كل شيء.

•‌

‌ عرف الشفعة؟

الشفعة شرعاً: هي انتزاع الشريك حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن الذي استقر عليه العقد.

قال ابن قدامة: وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ انْتِزَاعَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الْمُنْتَقِلَةِ عَنْهُ مِنْ يَدِ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ.

وقال في الفتح: وفي عُرف الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك، كانت انتقلت إلى أجنبي، بمثل العِوض المسمّى.

مثال الشفعة: زيد وعمرو شريكان في أرض، فباع عمرو نصيبه على خالد، فنقول لزيد أن ينتزع نصيب عمرو من خالد بالثمن الذي استقر عليه العقد.

•‌

‌ اذكر أدلة ثبوتها؟

قال ابن قدامة: وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

لحديث الباب.

قال ابن قدامة: أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ، فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضِ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ.

وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِشَرِيكِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِمَّا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْخَلَاصِ وَالِاسْتِخْلَاصِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيه حُسْنُ الْعِشْرَةِ، أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ، لِيَصِلَ إلَى غَرَضِهِ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ، وَتَخْلِيصِ شَرِيكِهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، سَلَّطَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ.

وقال في الفتح: ولم يختلف العلماء في مشروعيتها، إلا ما نُقل عن أبي بكر الأصم من إنكارها.

ص: 673

•‌

‌ بما تثبت الشفعة؟

تثبت الشفعة بالبيع، وهذا بالإجماع.

•‌

‌ هل تثبت الشفعة بالهبة؟

مثل أن يهب الشريك نصيبه لشخص.

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا تثبت بالهبة

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لأنها انتقلت بغير عوض مالي.

القول الثاني: أن الشفعة تثبت في الهبة.

وهذا قول ابن أبي ليلى وجماعة.

قالوا: لأن الضرر حاصل بالشريك الجديد.

•‌

‌ هل تثبت الشفعة إذا انتقل النصيب بالإرث؟

مثال: زيد وعمرو شريكان في أرض، فمات عمرو، فانتقل نصيبه إلى ورثته، فهل لزيد أن يشفع؟

الجواب: لا، لأنه انتقل بغير عوض، ولأنه انتقال غير اختياري.

•‌

‌ ما حكم التحايل لإسقاط الشفعة؟

حرام.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة.

ولأن في التحيل: إسقاط لحق المسلم، والتحيل لإسقاط حق المسلم حرام، لأنه من باب العدوان على المسلمين.

•‌

‌ اذكر بعض صور التحايل؟

أولاً: أن يظهر الشريك والمشتري أن البيع بثمن كبير.

مثال: أن يبيعه بعشرة آلاف، ويقول أنني بعتها بخمسين ألف، فإن الشريك الآن لن يطالب بالشفعة، لأنه إذا طالب سوف يأخذها بالثمن الذي استقر عليه العقد.

ثانياً: أن يظهر الشريك والمشتري أن الانتقال بغير عوض، فيقول الشريك لشريكه: إنني قد وهبت فلان نصيبي من الأرض، وإذا قال: وهبت فلا شفعة على مذهب الجمهور.

ثالثاً: أن يوقف المشتري النصيب فوراً.

ص: 674

•‌

‌ هل تثبت الشفعة في المنقولات (كالسيارات، والكتب، والأقلام) وغيرها؟

أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات، واختلفوا في غير العقارات كالمنقولات على قولين:

القول الأول: عدم ثبوت الشفعة في المنقول.

وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لحديث الباب (فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَة).

قالوا: إن وقوع الحدود وتصريف الطرق لا يتصور في المنقول.

ب- ولحديث (اَلشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ).

قالوا: جعل الشفعة في الربع والحائط، ولم يذكر المنقول.

القول الثاني: ثبوت الشفعة في المنقول.

وهذا اختيار ابن تيمية.

أ- لحديث الباب (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء).

قالوا: إن هذا الحديث عام، فيدخل فيه المنقول.

ب- أن الشفعة شرعت لإزالة الضرر، والضرر الثابت في العقار هو بعينه ثابت في المنقول.

وهذا القول هو الصحيح.

مثال: زيد وعمرو شريكان في سيارة، فباع عمرو نصيبه على بكر، فإنه - على القول الراجح - لزيد أن يشفع.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (

فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ)؟

نستفيد: أنه لا شفعة للجار، وهذا قول جماهير العلماء، وستأتي المسألة إن شاء الله.

•‌

‌ هل تثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة؟

العقار المبيع إما أن يكون مما يقبل القسمة كالعقار الكبير من أرض أو دار أو مزرعة، وإما أن يكون مما لا يقبل القسمة بحيث لو قسم لم يعد كل قسم صالحاً للبيع وحده أو الانتفاع به، كالعقار الصغير من طريق ضيقة أو بئر أو نحو ذلك، فأما ما يقبل القسمة فلم يختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة فيه، وأما ما لا يقبل القسمة فقد اختلف العلماء فيه على قولين:

القول الأول: ثبوت الشفعة.

وبه قال الحنفية، والظاهرية، واختار ذلك ابن تيمية.

أ- لعموم حديث الباب (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفعة في كل ما لم يقسم).

ب- أن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بدخول شريك، والضرر متحقق في هذا النوع من العقار.

ص: 675

القول الثاني: عدم ثبوت الشفعة.

وبه قال المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لحديث الباب (

في كل مالم يقسم).

قالوا: إن تعليقه ثبوت الشفعة في الشيء بما إذا لم يقسم دليل على أن ما لا يقبل القسمة لا تجري فيه الشفعة أصلاً.

ب- أن إثبات الشفعة هنا يلحق الضرر بالشريك البائع، لأنه لا يمكن أن يستقل بنصيبه بالقسمة، وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع، وفي كل هذا ضرر على البائع.

•‌

‌ ما الواجب على الشريك إذا أراد أن يبيع نصيبه؟

يجب عليه أن يعرض على شريكه قبل أن يبيع.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لَا يحل أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ) رواه مسلم.

•‌

‌ هل للكافر شفعة على المسلم؟ (لو باع شريك الذمي شقصاً على مسلم، فهل للذمي الشفعة على المسلم أم لا).

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا شفعة لكافر على مسلم.

وهذا المذهب، واختيار ابن القيم.

أ- لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا شفعة للنصراني) رواه البيهقي ولا يصح.

ب- أننا لو مكناه من الشفعة لجعلنا له سلطاناً على المسلم.

القول الثاني: أن له الشفعة.

وهذا قول جماهير العلماء.

لعموم الأدلة. وهو الصحيح.

•‌

‌ متى تسقط الشفعة؟

تسقط الشفعة بأمور:

أولاً: ترك طلب الشفعة.

ثانياً: إذا طلب الشفيع بعض العقار المبيع.

ثالثاً: الإبراء والتنازل عن الشفعة.

رابعاً: التنازل عن الشفعة مقابل تعويض أو صلح.

ص: 676

902 -

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَفِيهِ قِصَّةٌ.

903 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (جَارُ اَلدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ عِلَّةٌ

904 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا - وَإِنْ كَانَ غَائِبًا - إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

===

(بِصَقَبِهِ) الصقب: بفتح الصاد والقاف، هو القرب والملاصقة.

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث أنس إسناده ضعيف.

وحديث جابر ضعفه الشافعي، وابن معين، وأحمد وغيرهم.

•‌

‌ هل تثبت الشفعة للجار أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: عدم ثبوت الشفعة للجار مطلقاً.

وهذا قول، جماهير العلماء.

قال الشوكاني: وقد حكي هذا القول عن: علي، وعمر، وعثمان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق.

أ- لحديث جابر السابق ( .... فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ).

فهذا الحديث دليل على أن ما قسِم لا شفعة فيه، وأن الحدود إذا وجدت بين الأملاك فلا شفعة.

ب- أن الضرر الذي شرعت من أجل رفعه الشفعة لا يتحقق بسبب الجوار، لتميز كل ملك عن الآخر، لصاحبه حرية التصرف فيه، بخلاف الملك المشترك.

القول الثاني: أن للجار الشفعة مطلقاً.

وهذا مذهب الحنفية.

أ- لحديث الباب - حديث أبي رافع - (اَلْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ).

ب- ولحديث الباب - حديث أنس - (جَارُ اَلدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ).

القول الثالث: ثبوت الشفعة للجار عند الاشتراك في حق من حقوق الارتفاق.

وهذا اختيار ابن تيمية، وابن القيم.

أ- لحديث الباب - جابر - (اَلْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا - وَإِنْ كَانَ غَائِبًا - إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا).

فهذا الحديث أثبت الشفعة للجار إذا كان الطريق مشتركاً بينهما.

ب- أن المشاركة في الحقوق كالمشاركة في الملك، من حيث كثرة المخالطة ووجود الضرر بين الشركاء، والشفعة إنما شرعت لرفع الضرر.

وهذا القول هو الصحيح.

•‌

‌ ما الجواب عن دليل الجمهور ( .... فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ)؟

الجواب:

أولاً: أن قوله (فإذا وقعت

) مدرجة من قول جابر.

ورد ذلك بأن الأصل، أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج.

ثانياً: قالوا: إن ذكر الحكم لبعض أفراد العموم لا يقتضي التخصيص، بمعنى: إذا جاء عموم ثم فرع عليه بذكر حكم يختص ببعض أفراده فإنه لا يقتضي التخصيص.

ص: 677

905 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اَلشُّفْعَةُ كَحَلِّ اَلْعِقَالِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ، وَزَادَ:(وَلَا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ) وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

===

(العِقال) هو الحبل الذي يعقل به البعير.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف جداً.

من الأحاديث الواردة في الشفعة حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبزار بلفظ (لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل عقال) وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني وله مناكير كثيرة. وقال الحافظ في إسناده ضعيف جدا وضعفه ابن عدي وقال ابن حبان لا أصل له. وقال أبو زرعة منكر. وقال البيهقي ليس بثابت

•‌

‌ ما معنى قوله (اَلشُّفْعَةُ كَحَلِّ اَلْعِقَالِ)؟

المعنى: أن الشفعة تفوت إذا لم يبادر إليها، كالبعير الشرود يحل عقاله.

•‌

‌ هل الشفعة على الفور أم على التراخي؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنها على الفور. (أي: من حين أن يعلم يجب أن يطالب).

وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.

أ- لحديث الباب، وقد تقدم أنه لا يصح.

ب- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الشفعة لمن واثبها).

ج- ولأن الشفعة لدفع الضرر عن الشريك فكانت على الفور.

القول الثاني: أن الشفعة تثبت للشريك على التراخي.

وهذا مذهب المالكية.

أ- أن الشفعة حق من جملة الحقوق التي لا تسقط إلا بالرضا بإسقاطها بما يدل على الرضا من قول أو فعل.

فالشفعة لا تسقط إلا بما يدل على سقوطها، إما بقول صريح، أو قرينة ظاهرة.

القول الصريح: أن يقول: لما علم أن شريكه قد باع، أنا لست بمطالب.

القرينة الظاهرة: أن يسكت ويرى أن المشتري قد تصرف وعمل وهو ساكت، فهذه قرينة ظاهرة تدل على رضاه.

ب- أن إلجاء الشفيع إلى الفورية وعدم إعطائه الفرصة للنظر غير مناسب لما شرعت له الشفعة.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 678

•‌

‌ هل للشريك الشفعة بعد أن آذنه شريكه ثم باعه من غيره؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن له الشفعة.

قال الصنعاني: هذا قول الأكثر.

قالوا: لأن إسقاطه للشفعة كان قبل وجود السبب.

القول الثاني: أنه لا يستحق الشفعة.

وهذا قول الثوري، والحكم، وأبي عبيد، وطائفة من أهل الحديث (نيل الأوطار).

ورجح ذلك الصنعاني في سبل السلام، وقال: هو الأوفق.

ص: 679

‌بَابُ اَلْقِرَاضِ

906 -

عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَلَاثٌ فِيهِنَّ اَلْبَرَكَةُ: اَلْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَخَلْطُ اَلْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ، لَا لِلْبَيْعِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى اَلرَّجُلِ إِذَا أَعْطَاهُ مَالًا مُقَارَضَةً: أَنْ لَا تَجْعَلَ مَالِي فِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ، وَلَا تَحْمِلَهُ فِي بَحْرٍ، وَلَا تَنْزِلَ بِهِ فِي بَطْنِ مَسِيلٍ، فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدَ ضَمِنْتَ مَالِي) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي " اَلْمُوَطَّأِ " عَنْ اَلْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ:(أَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالٍ لِعُثْمَانَ عَلَى أَنَّ اَلرِّبْحَ بَيْنَهُمَا) وَهُوَ مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ.

===

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث صهيب (ثَلَاثٌ فِيهِنَّ اَلْبَرَكَةُ:

) حديث لا يصح.

قال البخاري: موضوع.

وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات.

وأثر حكيم بن حزام إسناده قوي كما قال ابن حجر.

وأثر اَلْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: موقوف صحيح.

•‌

‌ ما القراض؟

القراض لفظ يطلقه أهل الحجاز على شركة المضاربة.

وهو في اصطلاح الفقهاء: عقد بين اثنين، أحدهما يقدم مالاً، والآخر يتجر فيه على أن يكون للعامل جزء شائع من الربح. (هي أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه).

مثال: أعطى عمر زيداً (100) ريالاً ليتجر بها على أن يكون الربح بينهما.

•‌

‌ ما حكم هذه الشركة؟

جائزة بالإجماع.

قال في بداية المجتهد: ولا خلاف بين المسلمين في جواز القِراض.

وقال ابن قدامة: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة.

ص: 680

•‌

‌ هل كانت المضاربة موجودة قبل الإسلام؟

نعم، كانت موجودة وأقرها الإسلام.

قال ابن القيم: وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام، فضارب أصحابه في حياته، وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة.

وقال ابن حزم: والقِراض كان في الجاهلية،

فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في الإسلام، وعمل به المسلمون عملاً متيقناً لا خلاف فيه،

•‌

‌ ما الحكمة من هذه الشركة؟

الناس بحاجة إلى هذه الشركة، حيث أن الأموال لا تنمو إلا بالتنقيب والتجارة، وليس كل من يملكها يحسن العمل بها، وكذلك هناك من يحسن العمل لكن لا مال له فكانت الحاجة لصالح الطرفين.

وقد تقدمت مباحث شركة المضاربة في باب الشركات.

• هل يشترط أن يكون رأس المال معلوم المقدار؟

نعم.

قال ابن قدامة: وَمَنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا وَلَا جُزَافًا، وَلَوْ شَاهَدَاهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَلَنَا، أَنَّهُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُشَاهِدَاهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِكَمْ يَرْجِعُ عِنْد الْمُفَاصَلَةِ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْكِيسِ.

•‌

‌ هل يجوز للعامل أن يضارب بمال لآخر؟

لا يضارب العامل بمال لآخر إلا بشرطين:

الأول: إن رضي الأول.

الثاني: إن لم يضر بالأول.

مثال: أعطيتك مبلغاً من المال على أن تتجر به بالكتب، فأخذتها وضاربت، ثم عقد هذا الرجل عقد مضاربة مع رجل آخر في نفس السلعة، فهذا العقد يضر بالأول، لأن السلعة إذا كثرت رخصت.

لكن إن رضي الأول جاز.

ص: 681

‌بَابُ اَلْمُسَاقَاةِ وَالْإِجَارَةِ

907 -

عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: فَسَأَلُوا أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ اَلثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا "، فَقَرُّوا بِهَا، حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ -.

وَلِمُسْلِمٍ: (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُ شَطْرُ ثَمَرِهَا).

===

(عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر) المعاملة: التعامل مع الغير، وخيبر: بلدة زراعية شمال المدينة، كان يسكنها طائفة من اليهود، فتحت في المحرم سنة سبع من الهجرة.

(بشطرِ ما يخرج منها) الشطر المراد هنا النصف، والمعنى: أنه عاملهم بنصف ما يخرج من ثمرها وزرعها مقابل عملهم ونفقتهم، والنصف الآخر للمسلمين لكونهم أصحاب الأصل.

(مِنْ ثَمَرٍ) وفي رواية لمسلم (ونخل وشجر) دليل على جواز المساقاة.

(أَوْ زَرْعٍ) دليل على جواز المزارعة.

•‌

‌ عرف المساقاة.

المساقاة لغة: مشتقة من السقي لأن السقي هو أهم الاعمال الذي يستفيد منها التمر.

واصطلاحاً: أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره مشاع.

مثال: إنسان عنده أرض وعليها أشجار من نخيل وأعناب ورمان وغيرها، فأعطاها شخصاً ينميها بجزء من الثمرة. (كالثلث مثلاً).

•‌

‌ ما دليل جوازها؟

حديث الباب (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ).

فقوله (من ثمر) هذه مساقاة.

وقوله (أو زرع) هذه مزارعة.

فجمهور العلماء على جوازها.

قال ابن رشد: أما جوازها - يعني المساقاة - فعليه جمهور العلماء مالك، والشافعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، وأحمد، وداود

لحديث الباب، وجاء في بعض الروايات (أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض من الثمرة).

وفي رواية للبخاري (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها).

فقوله (أن عملوها) يراد به المساقاة، حيث يطلق أهل المدينة على المساقاة المعاملة.

وقوله (أن يزرعوها) يراد بها المزارعة، فالحديث جمع بين عقدي المساقاة والمزارعة.

وذهب أبو حنيفة إلى عدم جوازها، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق، أو إجارة بثمرة مجهولة.

والراجح قول الجمهور.

ص: 682

•‌

‌ ما حكم المزارعة؟

اختلف العلماء في حكم المزاعة على أقوال:

قال الشافعي: جائزة في النِّحل والكرى فقط.

وذهب الظاهرية إلى أنها لا تجوز إلا في النِّخل فقط.

والحق أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار، لأن الحديث ورد بالثمر، وهو عام في كل ثمر.

•‌

‌ هل المساقاة عقد لازم أم عقد جائز؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه عقد جائز.

وهذا مذهب الحنابلة.

أ- لحديث الباب (

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا).

وجه الدلالة: أنه لو كان لازماً لم يجز بغيره تقدير مدة، ولا يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم.

ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة، ولو قدر مدة لم يترك نقله، لأن هذا مما يحتاج إليه، وعمر أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر، ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم منها.

القول الثاني: أنها عقد لازم.

وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.

أ- لأنه عقد معاوضة فكان لازماً كالإجارة.

ب-أنه لو كان جائزاً لجاز لرب المال فسخهما إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل فيستضر.

ج-أن الوفاء بالوعد واجب وإخلافه محرم، فإذا عقد معه على سنة لزمه الوفاء به من باب الوفاء بالشروط وهو واجب.

وهذا القول هو الراجح.

وعلى هذا القول لا يمكن لأحدهما الفسخ، فإن يقدر على العامل العمل لمرض أو نحوه، فإنه يقسم، ويقوم مقامه على حسابه.

•‌

‌ ماذا يشترط في المساقاة؟

يشترط أن يكون الجزء من الثمرة مشاعاً معلوماً، كالربع والثلث.

فلو قال: لي ثمرة هذا العام، ولك ثمرة العام القادم، لا يصح.

لو قال: لي ثمرة الجانب الشرقي، ولك ثمرة الجانب الغربي، لا يصح.

لو قال: للعامل 100 صاع، لا يصح.

إن قال: ساقيتك على أن لك الثلث، فإنه يجوز، ويكون لصاحب الأرض الثلثان.

فإذا عين حق أحدهما فالباقي للآخر.

ص: 683

•‌

‌ هل يشترط أن يكون الشجر له ثمر؟

قيل: يشترط ذلك، وأن يكون الشجر له ثمر.

فلا تصح المساقاة على شجر لا ثمرة له، كشجر الزينة والزهور فلا تصح المساقاة.

لأنه لا يمكن أن يعطي العامل نصيبه.

وقيل: يصح على شجر ليس له ثمر. وحينئذ يقدر للعامل أجرة المثل.

وأن يكون الثمر مأكولاً.

وقيل: يصح.

نخل تين عنب رمان فيدفعها للعامل ويقوم عليها بجزء مشاع معلوم، فلو أعطى أرضاً لإنسان ليغرسها بمساقاة فلا يصح، فلا بد أن يكون على شجر موجود.

مشاع معلوم: كالثلث او الربع من الثمرة، كأن أقول: هذه 100 شجرة تين تقوم بسقيها والقيام عليها ولك ربع الثمرة.

فلو قال لي ثمرة هذا العام ولك ثمرة العام القادم لا يصح.

ولو قال لي ثمرة الجانب الشرقي ولك ثمرة الجانب الغربي لا يصح.

لو قال للعامل 100 صاع لا يصح.

لو قال ساقيتك على أن لك الثلث، فإنه يجوز، ويكون لصاحب الأرض الثلثان.

فإن كانت على ثمرة معينة لا تصح، كأن أقول هذه (100) شجرة تقوم بسقيها ولي ثمر 30 شجرة

•‌

‌ هل تجوز المساقاة مدة مجهولة؟

واحْتَجَّ أَهْل الظَّاهِر بِهَذَا (نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) عَلَى جَوَاز الْمُسَاقَاة مُدَّة مَجْهُولَة.

وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا تَجُوز الْمُسَاقَاة إِلَّا إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة كَالْإِجَارَةِ.

وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. جَازَ ذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام خَاصَّة لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لَنَا إِخْرَاجكُمْ بَعْد اِنْقِضَاء الْمُدَّة الْمُسَمَّاة، وَكَانَتْ سُمِّيَتْ مُدَّة، وَيَكُون الْمُرَاد بَيَان أَنَّ الْمُسَاقَاة لَيْسَتْ بِعَقْدٍ دَائِم كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاح، بَلْ بَعْد اِنْقِضَاء الْمُدَّة تَنْقَضِي الْمُسَاقَاة. فَإِنْ شِئْنَا عَقَدْنَا عَقْدًا آخَر، وَإِنْ شِئْنَا أَخْرَجْنَاكُمْ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذَا أَطْلَقَا الْمُسَاقَاة اِقْتَضَى ذَلِكَ سَنَة وَاحِدَة.

•‌

‌ ما الحكم إذا كان الفسخ من العامل؟

قيل: لا شيء له. (سواء فسخ بعذر أو بغير عذر).

وقيل: إذا كان فسخه لعذر شرعي فإنه يستحق الأجرة.

وهذا أقرب.

ص: 684

•‌

‌ ما الواجب على العامل في المساقاة، وما الواجب على رب الأرض؟

على كل من العامل وصاحب الأرض ما جرت العادة به، لأنه لم يرد فيه نص (بأن على العامل كذا وعلى صاحب الأرض كذا) فيكون المرجع فيه إلى العرف، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

- العرف يدل على أن على العامل الحرث والسقي والتسميد وقطع الأغصان الرديئة، وإصلاح طرق الماء ونحو ذلك.

وعلى رب المال ما يحفظ الأصل كبناء حائط، أو بناء ما انهدم منه، وحفر البئر، وإحضار آلة رفع الماء.

- وما يلزم العامل ورب الأرض مما ليس فيه نص، فيرجع فيه إلى العرف، فما تعارف عليه الناس أنه من اختصاص العامل لزمه، أو من اختصاص رب الأرض لزمه، فإن لم يكن هناك عرف معلوم فعلى ما تشارطاه

•‌

‌ عرف المزارعة؟

المزارعة: مأخوذة من الزرع، وهي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها.

مثالها: إنسان عنده أرض بيضاء وليس فيها زرع، فأعطاها فلاحاً يزرعها وله نصف الزرع - مثلاً - فهذا يجوز.

ص: 685

908 -

وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ (سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنْ كِرَاءِ اَلْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ اَلنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ اَلْجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنْ اَلزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي اَلْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ اَلنَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ اَلْأَرْضِ.

909 -

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ اَلضَّحَّاكِ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ اَلْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.

===

(عَنْ كِرَاءِ اَلْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة) أي: أجرتها.

(الماذيانات) أي: الأنهار الكبار.

(أقبال الجداول) الأوائل.

(الجداول) جمع جدول، وهو النهر الصغير.

•‌

‌ عرف المزارعة؟

المزارعة: هي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم فيما يخرج منها.

•‌

‌ اذكر الخلاف في حكم المزارعة؟

اختلف العلماء في حكمها على أقوال:

القول الأول: أنها لا تصح.

وهذا مذهب أبي حنيفة وزفر.

أ- لحديث الباب - ثابت بن الضحاك - (

أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ اَلْمُزَارَعَة).

ب-عن ابن عمر قال (ما كنا نرى بالمزارعة بأساً، حتى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها) متفق عليه.

ج- ولحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه). رواه مسلم

د- ان المزارعة استئجار للأرض بأجرة مجهولة معدومة، فلا نعلم هل ينبت الزرع أو لا، وإذا نبت لا نعلم مقداره، وهل هو كثير أو يسير، وكل هذا ينطوي على غرر.

القول الثاني: أنها جائزة.

وهذا مذهب الإمام أحمد، وقال به من الشافعية ابن خزيمة، وابن المنذر، والخطابي، والنووي، واختاره ابن حزم.

قال النووي: وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُف، وَمُحَمَّد، وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ، وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ، وَأَحْمَد، وَابْن خُزَيْمَةَ، وَابْن شُرَيْح وَآخَرُونَ: تَجُوز الْمُسَاقَاة وَالْمُزَارَعَة مُجْتَمِعَتَيْنِ، وَتَجُوز كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر الْمُخْتَار لِحَدِيثِ خَيْبَر، وَلَا يُقْبَل دَعْوَى كَوْن الْمُزَارَعَة فِي خَيْبَر إِنَّمَا جَازَتْ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، بَلْ جَازَتْ مُسْتَقِلَّة، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّز لِلْمُسَاقَاةِ مَوْجُود فِي الْمُزَارَعَة قِيَاسًا عَلَى الْقِرَاض؛ فَإِنَّهُ جَائِز بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ كَالْمُزَارَعَةِ فِي كُلّ شَيْء، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَالْأَعْصَار مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْعَمَل بِالْمُزَارَعَةِ.

ص: 686

أ-لحديث معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، فإنها قصة مشهورة لا تقبل الرد ولا التأويل.

عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية للبخاري (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها).

فقوله (أن يعملوها) يراد به المساقاة، حيث يطلق أهل المدينة على المساقاة المعاملة.

وقوله (أن يزرعوها) يراد بها المزارعة، فالحديث جمع بين عقدي المساقاة والمزارعة.

ب- ولفعل السلف لها من غير نكير.

قال البخاري: باب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ قَالَ مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَّ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. وَزَارَعَ عَلِىٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِى بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِىٍّ وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ. وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا.

أراد البخاري من إيراد هذه الآثار المعلقة عن الصحابة، بيان أن الصحابة لم يختلفوا في جواز المزارعة، وهي آثار علقها جازماً بها، فتكون صالح للحجة.

القول الثالث: لا تجوز إلا تبعاً للمساقاة.

وها مذهب الشافعية والمالكية بشرط أن يكون البياض تبعاً للأصل وأن يكون البياض الثلث أو أقل.

واستدلوا بجوازها تبعاً للمساقاة بحديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خبير (

من ثمر أو زرع).

قال النووي: قَوْله: (مِنْ ثَمَر أَوْ زَرْع) يَحْتَجّ بِهِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي جَوَاز الْمُزَارَعَة تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَة عِنْدهمْ لَا تَجُوز مُنْفَرِدَة، فَتَجُوز تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَيُسَاقِيه عَلَى النَّخْل، وَيُزَارِعهُ عَلَى الْأَرْض كَمَا جَرَى فِي خَيْبَر.

والراجح أنها جائزة.

•‌

‌ ما الجواب عن أحاديث النهي عن المزارعة؟

وأما حديث رافع بن خديج الذي فيه النهي عن المزارعة، فإنه محمول على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيء من الغرر والجهالة.

ولذلك قال رافع (كنا نكري الأرض، على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه).

وقال أيضاً (لم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، وأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس).

وقال الخطابي في حديث رافع بن خديج في قوله في الإجارة: (في الماذيانات، اقبال الجداول) قال: فقد أعلمك رافع في هذا الحديث، أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطاً فاسدة، وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول، فيكون خاصاً لرب المال.

أمثلة:

قال: أزارعك على أن لي شرقي الأرض ولك غربيها. لا يصح.

قال: أزارعك على أن لي ما حول الجداول والأنهار ولك ما بعد منها. لا يصح.

فيشترط في المزارعة أن يكون الجزء مشاع، كالثلث والربع والنصف.

فإذا قال للعامل: أعطيك هذه الأرض مزارعة ولك الثلث ولي الثلثان، فإنه يصح.

إن قال: إزرعها ولك بعض الزرع، لا يصح لأنه مجهول.

ص: 687

•‌

‌ ماذا يشترط فيها؟

يشترط أن يكون الجزء معلوماً مشاعاً.

فلو قال له: خذ هذه الأرض ازرعها ولك شيء مما يخرج منها، فهذا لا يصح.

ولو قال: خذ هذه الأرض ازرعها، ولك ما يخرج من شمالها، ولي ما يخرج من جنوبها، فإنه لا يصح.

أو قال: لي زرع هذا العام ولك زرع العام الثاني، فإنه لا يصح.

وبها يتضح أن الشروط المفسدة للمزارعة هي ما اشتمل على أمرين:

الأول: ما يعود بجهالة نصيب كل من رب الأرض والعامل.

الثاني: أن يشترط أحدهما نصيباً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ما يخرج من جانب معين من الأرض وللآخر ما يخرج من الجانب الآخر.

•‌

‌ هل يشترط أن يكون البذر من رب الأرض أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يشترط.

وهذا المذهب، وهو مذهب الشافعية.

قالوا: قياساً على المضاربة، فكما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص، والمال من شخص، فكذلك المزارعة.

القول الثاني: أنه لا يشترط، فيجوز من رب الأرض ويجوز من العامل.

ورجح هذا القول ابن قدامة وابن القيم.

لحديث الباب (أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر

) ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم البذر على المسلمين.

قال ابن تيمية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، على أن يعمروها من أموالهم، فكان البذر من عندهم.

وقد ذكر ابن القيم أن الحديث دليل على عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وإنما يجوز أن يكون من العامل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينقل البذر إليهم من المدينة قطعاً.

قال ابن القيم: والذين اشترطوا البذر من ربّ الأرض قاسوها على المضاربة، وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة، فهو من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه، بل يذهب نفع الأرض، فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي ....

وحديث ابن عمر: (أن النبي عامل أهل خيبر

) ولم يذكر البذر على النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 688

910 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; أَنَّهُ قَالَ: (اِحْتَجَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى اَلَّذِي حَجَمَهُ أَجْرَهُ) وَلَوْ كَانَ حَرَاماً لَمْ يُعْطِهِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

911 -

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَسْبُ اَلْحَجَّامِ خَبِيثٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

===

(كسب) أي ما يكتسبه من مال أو أجرة.

(الحجام). هو من يقوم بالحجامة، والحجامة: إخراج الدم الفاسد من الإنسان.

لفظ حديث رافع: قال: قال صلى الله عليه وسلم (ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِىِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيث) رواه مسلم.

•‌

‌ ما حكم كسب الحجام؟

اختلف العلماء في حكم كسب الحجام على قولين:

القول الأول: أنه حرام.

أ-لحديث الباب (كسب الحجام خبيث).

ب- ولحديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام) رواه أحمد.

القول الثاني: أنه حلال.

وهذا مذهب الجمهور.

قال النووي: فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: لَا يَحْرُم كَسْب الْحَجَّام، وَلَا يَحْرُم أَكَلَهُ لَا عَلَى الْحُرّ وَلَا عَلَى الْعَبْد.

أ-لحديث الباب (اِحْتَجَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى اَلَّذِي حَجَمَهُ أَجْرَهُ - وَلَوْ كَانَ حَرَاماً لَمْ يُعْطِهِ) متفق عليه.

وعند مسلم (وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

ب- ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال (حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْر) متفق عليه.

ج - عَنِ ابْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَأْذِنُهُ، حَتَّى أَمَرَهُ أَنْ أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَرَقِيقَك) رواه أبو داود.

قال ابن قدامة: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام (أطعمه رقيقك) دليل على إباحة كسبه، إذ غير جائز أن يُطعم رقيقه ما يحرم أكله، فإن الرقيق آدميون يحرم عليهم ما حرمه الله تعالى كما يحرم على الأحرار.

وهذا القول هو الصحيح.

قال النووي: وَحَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي فِي النَّهْي عَلَى التَّنْزِيه وَالِارْتِفَاع عَنْ دَنِيء الْأَكْسَاب، وَالْحَثّ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق وَمَعَالِي الْأُمُور. وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُفَرِّق فِيهِ بَيْن الْحُرّ وَالْعَبْد فَإِنَّهُ لَا يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يُطْعِم عَبْده مَا لَا يَحِلّ.

ص: 689

وقال ابن قدامة: ويدل على أنه مباح وليس حراماً: ما روى ابن عباس قال (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراماً لم يعطه) متفق عليه. وفي لفظ (لو علمه خبيثاً لم يعطه).

وقال رحمه الله: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ (أَطْعِمْهُ رَقِيقَك) دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ كَسْبِهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُطْعِمَ رَقِيقَهُ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، فَإِنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيُّونَ، يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَسْمِيَتُهُ كَسْبًا خَبِيثًا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ، فَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الثُّومَ وَالْبَصَلَ خَبِيثَيْنِ، مَعَ إبَاحَتِهِمَا وَإِنَّمَا كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِلْحُرِّ تَنْزِيهًا لَهُ؛ لِدَنَاءَةِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ

وَأَمْرُهُ بِإِطْعَامِ الرَّقِيقِ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ نَهْيِهِ عَنْ أَكْلِهَا عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ. (المغني).

وقال ابن القيم: وتسميته إياه خبيثاً كتسميته صلى الله عليه وسلم للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.

والخبيث كما يطلق على المحرم، يطلق على الشيء الرديء والكسب الدنيء، كقوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

أن كسب الحجامة كسب رديء، لأن مهنته دنيئة.

2.

ينبغي للمسلم أن يترفع عن سفاسف الأمور.

3.

الحرص على معالي الأمور.

ص: 690

912 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ اَللَّهُ عز وجل ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) رَوَاهُ البخاري.

===

(ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَة) أي: ثلاثة أنفس، وذكر هؤلاء الثلاثة ليس للتخصيص، لأن الله تعالى خصم لجميع الظالمين، ولكن لما أراد التشديد على هؤلاء صرح بهم.

(رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ) أي: أعطى يمينه بي، أي عاهد عهداً وحلف عليه بالله ثم نقضه.

(وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ) أي: باع إنساناً على أنه عبد مع أنه في الواقع ليس رقيقاً وإنما هو حر فأكل ثمنه.

(وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ) أي: فحصل من الأجير على العمل الذي استأجره من أجله.

(وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) أي: لم يعطه عوضه وأجرته مقابل هذا العمل.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد تحريم أكل أجرة العامل وعدم إعطائها إياه بعد استيفاء العمل، وهذا من كبائر الذنوب.

ونستفيد جواز الإجارة.

•‌

‌ عرف الإجارة؟

تعريفها لغة: مشتقة من الأجر وهو العوض. قال تعالى (لو شئت لاتخذت عليه أجراً).

وشرعاً: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم.

•‌

‌ اذكر أدلة جوازها؟

دل على جوازها الكتاب والسنة والإجماع.

أ- قال تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

ب- وقال تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

ج- وحديث الباب (وَرَجُلٌ اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ).

د- عن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (

وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ، هَادِياً خِرِّيتاً وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) رواه البخاري.

هـ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) رواه البخاري.

ص: 691

- قال في المغني: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَكُلِّ مِصْرٍ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ، إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، يَعْنِي أَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ تُخْلَقْ وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَعْصَارِ، وَسَارَ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْعِبْرَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَنَافِعِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْأَعْيَانِ، فَلَمَّا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَلَا يَخْفَى مَا بِالنَّاسِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ دَارٌ يَمْلِكُهَا، وَلَا يَقْدِرُ كُلُّ مُسَافِرٍ عَلَى بَعِيرٍ أَوْ دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا، وَلَا يَلْزَمُ أَصْحَابَ الْأَمْلَاكِ إسْكَانُهُمْ وَحَمْلُهُمْ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الصَّنَائِعِ يَعْمَلُونَ بِأَجْرٍ، وَلَا يُمْكِنُ كُلَّ أَحَدٍ عَمَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ مُتَطَوِّعًا بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِجَارَةِ لِذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقًا لِلرِّزْقِ، حَتَّى إنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ بِالصَّنَائِعِ.

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغَرَرِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ وُجُودِهَا، لِأَنَّهَا تَتْلَفُ بِمُضِيِّ السَّاعَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ.

•‌

‌ اذكر أنواع الإجارة؟

الإجارة ضربان:

الأول: الإجارة على العين يستوفي منافعها.

كأجرتك هذه الدار سنة.

الثاني: الإجارة على عمل، وهي عقد على عمل معلوم يقوم به العامل.

كحمل هذا المتاع إلى مكان كذا، أو بناء هذا الجدار ونحو ذلك.

•‌

‌ اذكر شروط الإجارة؟

أولاً: يشترط معرفة المنفعة المعقود عليها.

أ-لأنها المعقود عليها فاشترط العلم كالمبيع.

ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.

ج - ولأن المستأجر والمؤجر بين غانم وغارم.

مثال: استأجرت منك هذا البيت للسكنى، يصح.

مثال: استأجرتك أن تدلني على طريق مكة، يصح.

ثانياً: يشترط معرفة الأجرة (يعني تكون معلومة).

قال في المغني (لا نعلم فيه خلافاً).

وقد جاء في حديث - وسيأتي - (أنه من استأجر أجيراً فليعلمه أجره).

فلو استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم لم يصح.

لو استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس لم يصح.

ص: 692

ثالثاً: يشترط أن تكون المنفعة مباحة ..

فلا تصح على نفع محرم كالزنا والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر.

لقوله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

النفع إما أن يكون:

مباحاً: مثال: استأجرت بيتاً لأسكنه، يصح لأن سكنى البيت مباح.

حراماً: مثال: استأجرت دكاناً لبيع الدخان، لا يصح لأن بيع الدخان محرم.

مكروهاً: مثال: أن يستأجر شخصاً ليحلق له قزع، يصح مع الكراهة، لأن القزع مكروه.

•‌

‌ ماذا يشترط في العين المؤجرة؟

يشترط شروطاً:

أولاً: معرفتها برؤية أو صفة.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، ولأن عدم معرفتها يفضي إلى النزاع.

ثانياً: القدرة على التسليم.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تبع ما ليس عندك) والإجارة نوع من البيع.

مثال: إنسان له عبد آبق، فقال له آخر: أجرني عبدك فلان، فقال له: إن عبدي هرب، قال: أجرني وأنا أبحث عنه. قال: أجرتك، فهذا لا يصح.

ثالثاً: اشتمال العين على منفعة.

أ- لأنه لا يمكن استيفاء هذه المنفعة من هذه العين.

ب- كما أن أخذ أموال الناس في مقابل ما لا نفع فيه يعتبر من أكل أموال الناس بالباطل.

مثال: لا يجوز إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع.

قال النووي: أن يكون منتفعاً به، فما لا نفع فيه ليس بمال.

وقال ابن قدامة: لا يجوز بيع ما لا نفع فيه.

•‌

‌ هل يشترط في الإجارة الواردة على منفعة أن تكون المدة معلومة؟

نعم.

قال في الإنصاف: ويشترط كون المدة معلومة بلا نزاع في الجملة.

وقال في المغني: الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ هِيَ الضَّابِطَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، الْمُعَرِّفَةُ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، كَعَدَدِ الْمَكِيلَاتِ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيْلِ.

لأن عدم تحديد المدة يؤدي إلى الغرر والجهالة المفضية إلى المنازعة.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.

ولأن الأجرة تختلف باختلاف المدة فوجب العلم بها.

ص: 693

•‌

‌ هل لعقد الإجارة حد أقصى لتأجير العين؟

ليس في عقد الإجارة حد أقصى لتأجير العين، فتصح الإجارة مهما طالت المدة، ولكن بشرط أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة.

قال ابن قدامة رحمه الله: وَلَا تَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، بَلْ تَجُوزُ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُدَّةَ الَّتِي تَبْقَى فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ.

وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَهُوَ الصَّحِيحُ.

الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَبْقَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَتَتَغَيَّرُ الْأَسْعَارُ وَالْأَجْرُ.

وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِك)، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى نَسْخِهِ دَلِيلٌ.

وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ سَنَةً، جَازَ أَكْثَرَ مِنْهَا، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ وَثَلَاثِينَ، تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّقْدِيرِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهُ.

قال الشيخ ابن عثيمين: لو أجرها مدة طويلة يغلب على الظن أنها لا تبقى فيها، فظاهر كلام المؤلف أن الإجارة لا تصح

لو أجره البعير لمدة خمسين سنة فإنه لا يصح؛ لأن البعير لا يبقى إلى خمسين سنة، أو أجره سيارة لمدة مائة سنة فلا يصح؛ لأن الغالب أنها لا تبقى إلا أن توقف ولا تستعمل فهذا شيء آخر، لكن إذا استعملت فلا تبقى إلى هذه المدة.

فاشترط المؤلف في تأجير العين مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، فإن لم يغلب على الظن بقاء العين فيها فإنه لا يصح؛ لأنه لا يتم استيفاء المنفعة، ومن شرط الإجارة أن يمكن استيفاء المنفعة، فإذا استأجرها لمدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، ولكنها لم تبق؛ فإن الإجارة تنفسخ ويسقط عن المستأجر بقسطه من الأجرة. (الشرح الممتع)

•‌

‌ هل الإجارة عقد لازم أم عقد جائز؟

عقد لازم.

وها مذهب عامة العلماء.

فلا يملك أحد المتعاقدين الانفراد بفسخ العقد إلا برضا الطرف الآخر أو وجود ما يقتضي الفسخ.

أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ويدخل في ذلك عقد الإجارة، لأنه عقد من العقود.

ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

ج-ولأنها نوع من البيع. (بيع منافع).

د- أن القول بعد لزوم عقد الإجارة فيه ضرر للمتعاقدين أو لأحدهما.

ص: 694

•‌

‌ هل يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره لآخر؟

نعم يجوز.

مثال: استأجرت منك بيتاً لمدة (5) سنوات وسكنت فيه لمدة سنة وانتهى غرضي منه، فإنه يجوز أن أؤجر هذا البيت لشخص لمدة (4) سنوات.

لأن المستأجر ملك النفع، فمادام أنه يملك المنفعة فله أن يستوفيها بنفسه، وله أن يستوفيها بنائبه من يؤجرها عليه، بخلاف العارية، فالعارية إباحة نفع، يعني لو أن شخصاً أعارك هذا الدكان تبيع وتشتري فيه، فهل لك أن تؤجره أو تعيره؟

نقول: لا تملك أن تؤجره ولا أن تعيره؛ لأن العارية إباحة نفع، بخلاف الإجارة فإن المستأجر يملك المنفعة، وما دام أنه يملك المنفعة فله أن يستوفيها كما سلف بنفسه أو بنائبه عن طريق الإجارة أو عن طريق الإعارة.

•‌

‌ وهل يجوز أن يؤجرها أكثر من أجرة الأصل؟

هذه المسألة لها أحوال:

أولاً: أن يؤجرها بأقل، فهذا يصح.

ثانياً: أن يؤجرها بمثل الأصل، فهذا يصح.

ثالثاً: أن يؤجرها بأكثر، فيه خلاف والصحيح أنه يصح.

قال ابن تيمية: للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة، وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة، لئلا يكون ذلك ربحاً فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك، لأنها مضمونة على المستأجر.

•‌

‌ هل يجوز للمستأجر أن يؤجرها لشخص أكثر منه ضرراً؟

لا، لا يجوز.

مثال: لو استأجر داراً للسكنى، جاز أن يؤجرها لغيره للسكنى أو دونها، ولا يجوز أن يؤجرها لمن يجعل فيها مصنعاً أو معملاً.

•‌

‌ ما الحكم إن حصل فسخ؟

إن كان الفسخ بلا عذر شرعي:

فإن كان من المستأجر فعليه الأجرة كاملاً.

وإن كان من المؤجر فلا شيء له.

مثال: إنسان استأجر بيتاً من شخص لمدة سنة بألف ريال، وفي أثناء السنة فسخ المستأجر، فيلزمه الأجرة كاملة.

وكذلك بالنسبة للمؤجر، فلو منع المستأجر بعض المدة أو كلها، فلا أجرة له.

وأما إن الفسخ بعذر شرعي:

فإن كان من قبل المؤجر: له من الأجرة بالقسط.

وكذلك إذا كان الفسخ من المستأجر.

مثال: استأجر منه بيتاً، وفي أثناء المدة انهدم، فيتعذر استيفاء المنفعة، فعليه من الأجرة بالقسط.

ص: 695

•‌

‌ ما الحكم إن تلفت العين المؤجرة بغير تفريط من المستأجر؟

قال ابن قدامة: وَالْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَضْمَنْهَا،

وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهَا، فَكَانَتْ أَمَانَةً.

فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين: الأمين كل من حصل في يده مال بإذن من الشارع، أو إذن من المالك.

•‌

‌ ما الحكم إذا تلفت العين المستأجرة بفعل من المستأجر؟

إذا تعدى المستأجر (بأن فعل ما ليس له فعله) أو فرط (بأن ترك ما يجب عليه فعله) فإنه في هذه الحالة يجب عليه الضمان.

قال السعدي في القواعد الجامعة: التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعد ولم يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقاً.

•‌

‌ ما الحكم إذا تلفت العين المستأجرة بعد الانتهاء من الإجارة؟

فهذا له حالتان:

الأولى: أن يترك الرد لعذر: ففي هذه الحالة لا ضمان عليه.

كأن يكون المالك غائباً.

الثانية: أن يمسك العين المستأجرة بغير عذر، ويطلبه المالك فيمتنع المستأجر.

ففي هذه الحالة يعتبر غاصباً، فعليه أجرة المدة التي بقيت فيها العين في يده، وإن تلفت العين فعليه ضمانها.

•‌

‌ هل يجوز للمرأة أن تؤجر نفسها بغير إذن زوجها.

لا يجوز.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) متفق عليه.

ب-ولما فيه من فوات الاستمتاع بها، وهي مملوكة المنافع للزوج إلا إذا اشترطت عليه عند العقد.

- متى تنفسخ الإجارة؟

تنفسخ بأحوال:

أولاً: بتلف العين المؤجرة.

كدار انهدمت، أو عبد مات.

لتعذر الاستيفاء، ويكون للمؤجر من الإجارة بالقسط.

ثانياً: بموت المرتضع.

مثال: استأجر امرأة على أن ترضع هذا الولد لمدة سنتين، فمات الولد بعد سنة، فليس لها من الأجرة إلا مقدار سنة واحدة.

ثالثاً: بانقلاع ضرس.

مثال: رجل استأجر شخصاً أن يقلع ضرسه، فواعده على أن يأتيه في الصباح، فلما كان في الليل انقلع الضرس، فهنا تنفسخ الإجارة، لأن المعقود عليه معين وتلف.

ص: 696

•‌

‌ هل تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما؟

لا، لا تنفسخ.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لأن المعقود عليه في الإجارة هي منفعة العين، وليس المعقود عليه ذات المؤجر أو المستأجر.

قال البخاري في صحيح: باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضاً فَمَاتَ أَحَدُهُمَا.

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَيْسَ لأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَجَلِ.

وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ تُمْضَى الإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَصَدْراً مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

مثال: رجل استأجر من آخر بيتاً، وفي أثناء المدة مات، فهنا لا تنفسخ الإجارة، ويكون حق الاستيفاء لورثته، وكذلك بالعكس، لو أن المؤجر مات، فإنها لا تنفسخ، ويكون بقية الأجرة للورثة.

•‌

‌ ما الحكم إذا طلب من المستأجر الخروج قبل انتهاء المدة وطلب عوضاً مقابل لك؟

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إذا كان هذا المستأجر له مدة معينة، وجاءه صاحب الدكان يطلب منه الخروج قبل انتهاء هذه المدة: فلا حرج عليه أن يطلب عوضاً عن إسقاط حقه فيما بقي من المدة.

مثال ذلك: أن يكون قد استأجر هذا الدكان عشر سنين، ثم يأتيه صاحب الدكان بعد مضي خمس سنين، ويطلب منه أن يُفرِّغ الدكان له، فلا حرج على المستأجر حينئذٍ أن يقول: أنا لا أخرج وأدع بقية مدتي إلا بكذا وكذا؛ لأن هذا معاوضة على حق له ثابت بمقتضى العقد الذي أمر الله بالوفاء به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

•‌

‌ هل يضمن الطبيب إذا مات المريض؟

لا يضمن لكن بشروط:

أ-أن لا تجنِ أيديهم.

ب-أن يعرف حذقهم. (أي إجادتهم للصنعة ومعرفتهم بها).

•‌

‌ ما الحكم إذا تسلم عيناً بإجارة فاسدة؟

هذه لها أحوال:

إن لم تبدأ المدة لم يلزمه شيء ويردها إلى صاحبها.

إن انتهت المدة يسلم أجرة المثل كاملة.

في أثناء المدة يسلم القسط من أجرة المثل.

ص: 697

(تفسد الإجارة إما بفوات شرط أو وجود مانع).

مثال: رجل استأجر بيتاً من غير مالكه ولا قائم مقام مالكه. {الإجارة هنا فاسدة}

إذا انتهت المدة، يثبت لصاحب البيت أجرة المثل سواء كان مثل ما اتفق عليه أو أكثر أو أقل.

(هذا المستأجر قد استأجر بـ {100} وأجرة المثل بـ {200} فيلزم المستأجر {200} ويرجع بالمائة الزائدة على الذي غره وخدعه، وهو الذي أجر بيت غيره بغير إذنه.

•‌

‌ هل يجوز استئجار آدمي ليدله على الطريق؟

نعم يجوز، لكن يشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف.

عن عائشة -في حديث الهجرة- (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر هو وأبو بكر عبد الله بن أريْقط الليثي، وكان هادياً خريتاً). رواه البخاري

(الخريت: الماهر بالدلالة).

•‌

‌ ما الواجب على الأجير؟

يجب على الأجير إتقان العمل وإتمامه، ويحرم عليه الغش في العمل والخيانة فيه.

وفي الحديث (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).

ويجب إعطاء الأجير أجره كاملة عندنا ينهي عمله.

لقوله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه).

ص: 698

913 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ حَقًّا كِتَابُ اَللَّهِ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

•‌

‌ اذكر لفظ الحديث كاملاً؟

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ -أَوْ سَلِيمٌ- فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلاً لَدِيغاً أَوْ سَلِيماً. فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْراً. حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْراً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللَّهِ).

•‌

‌ ما حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: الجواز.

وهذا مذهب الشافعي، وبه قال ابن حزم.

قال الشنقيطي: وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.

وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي أُجُورِ الْمُعَلِّمِينَ: أَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

أ- لحديث الباب.

ب- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى. فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئاً جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَال «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ». فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئاً». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئاً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ. فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ. وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي - قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ». فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّياً فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا - عَدَّدَهَا. فَقَالَ «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) رواه مسلم.

وفي رواية (انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ).

ج- أنه يجوز أخذ الرزق على ذلك، فجاز أخذ الأجرة، ولا فرق.

وقال الشيخ ابن عثيمين: وأما أخذ الأجرة على إقراء القرآن أي على تعليم القرآن فهذا مختلف فيه، والراجح أنه جائز لأن الإنسان يأخذه على تعبه وعمله لا على قراءته القرآن، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن أفضل ما أخذتم عليه أجراً أو قال أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي لم يجد مهراً، قال: زوجتكها بما معك من القرآن أي يعلمها ما معه من القرآن فتبين بهذا أن الاستئجار لقراءة القرآن محرم وفيه إثم وليس فيه أجر ولا ينتفع به الميت وأما الأجرة على تعليم القرآن فالصحيح أنها جائزة ولا بأس بها. انتهى.

ص: 699

القول الثاني: التحريم.

وهذا مذهب الحنفية، وهو مذهب الحنابلة في تعليم القرآن.

أ- لقوله تعالى (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً).

وجه الدلالة: أنها دلت على تحريم تعاطي الأجر على آيات الله كالقرآن، وما في معناه من العلوم الشرعية.

ب- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ (عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ، وَالْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلأَسْأَلَنَّهُ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا) رواه أبو داود.

ج- وعن أبي الدرداء. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أخذ قوساً على تعليم القرآن، قلده الله قوساً من النار) رواه البيهقي.

د- وعن أبي بن كعب قال (علمت رجلاً القرآن، فأهدى إليّ قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار، فرددتها) رواه ابن ماجه.

فالحديث دل على تحريم الهدية، فمن باب أولى الأجرة المشروطة.

(الحديث حكم عليه ابن عبد البر والبيهقي بالانقطاع، وأعله ابن القطان بجهالة أحد رواته، وله طرق عن أبيّ، قال ابن القطان: لا يثبت منها شيء).

هـ- وعن سهل. قال: قال صلى الله عليه وسلم (

اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله). رواه أبو داود

القول الثالث: الجواز للحاجة.

وهذا اختيار ابن تيمية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه وفيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد وغيره أعدلها أنه يباح للمحتاج.

أ- استدلوا بأدلة الفريقين وجمعوا بينهما، فقيدوا الجواز بالحاجة ومنعوه في غير الحاجة.

ب- واستدلوا بأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، والحاجة للتعليم حاجة عامة للصغار والكبار.

ج-القياس على ولي اليتيم.

قال ابن تيمية: كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغني مع الغنى.

د- أن الإنفاق على الأهل واجب، فمن عجز عن التكسب في حال تعليمه فيجوز له أخذ الأجرة لوجوب النفقة عليه إن لم نقل بالوجوب.

قال ابن تيمية: وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ - وَهُوَ أَقْرَبُ - قَالَ: الْمُحْتَاجُ إذَا اكْتَسَبَ بِهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَمَلَهَا لِلَّهِ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبٌ أَيْضًا فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ بِهَذَا؛ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَسْبِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُ أَنْ يَعْمَلَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ بَلْ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ وَهَذَا فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ: كَانَ هُوَ مُخَاطَبًا بِهِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ إلَّا بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 700

قال الشنقيطي: الَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ تَدْعُهُ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَلَّا يَأْخُذَ عِوَضًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، لِلْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ دَعَتْهُ الْحَاجَةُ أَخَذَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ المَأْخُوذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ قَبِيلِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّعْلِيمِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأُجْرَةِ.

وَالْأَوْلَى لِمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِ التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني (المانعين)؟

أولاً: أن حديث عبادة في سنده المغيرة بن زياد، وقد تكلم فيه أحمد، والبخاري، وأبو حاتم.

ثانياً: أنه يحتمل أنه بدأ العمل مخلصاً محتسباً لله فلم يرد أن تغيير نيه.

قال الصنعاني: فذهب الجمهور ومالك والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيراً أو كبيراً، ولو تعين تعليمه على المعلم عملاً بحديث ابن عباس ويؤيده ما يأتي في النكاح من جعله صلى الله عليه وسلم تعليم الرجل لامرأته القرآن مهراً لها، قالوا: وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة في رواية مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه وفيه الأسود بن ثعلبة فيه مقال فلا يعارض الحديث الثابت.

قالوا: ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان متبرعاً بالإحسان وبالتعليم غير قاصد لأخذ الأجرة فحذره صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وتوعده، وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه.

وقال صاحب عون المعبود في شرح حديث عبادة: قال الخطابي اختلف قوم من العلماء في معنى هذا الحديث وتأويله:

فذهب بعضهم إلى ظاهره، فرأوا أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري، وأبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه.

وقال طائفة لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي.

وأباح ذلك آخرون وهو مذهب عطاء، ومالك، والشافعي، وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً زوجتكما على ما معك من القرآن.

وتأولوا حديث عبادة على أنه كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع، فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة لرجل أو استخرج له متاعاً قد غرق في بحر تبرعاً وحسبة، فليس له أن يأخذ عليه عوضاً ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً، وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه ودفعه إليهم مستحب، وقال بعض العلماء أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالات فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه، لأن فرض ذلك لا يتعين عليه، وإذا كان في حال أو في موضع لا يقوم به غيره لم تحل له الأجرة وعلى هذا يؤول اختلاف الأخبار فيه. انتهى.

وقال النووي: وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين:

أحدهما: أن في إسناده مقالاً.

والثاني: أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئاً، ثم أهدي إليه على سبيل العوض فلم يجز له الأخذ بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم. والله أعلم

ص: 701

•‌

‌ بماذا أجاب أصحاب القول الثاني عن أدلة القول الأول (الجواز).

أما حديث ابن عباس:

أ-فقالوا: إن المراد بالأجر هنا الثواب.

ب- أن الحديث منسوخ بما ورد من نصوص الوعيد في أخذ الأجرة.

ج- أن الرقية نوع من التداوي، فهي من الأمور المباحة، وليست مثل التعليم إذ هو عبادة، فالقياس عليها قياس مع الفارق.

والأكمل والافضل أن الإنسان لا يأخذ على تعليمه أجراً.

فائدة:

قال الشنقيطي: قَوْلُهُ تَعَالَى (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ).

ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْهُدَى، بَلْ يَبْذُلُ لَهُمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَخْذِ أُجْرَةٍ فِي مُقَابِلِهِ.

وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، كَقَوْلِهِ فِي «سَبَإٍ» عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ).

وَقَوْلِهِ فِيهِ أَيْضًا فِي آخِرِ «سُورَةِ ص» (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

وَقَوْلِهِ فِي «الطُّورِ» ، وَ «الْقَلَمِ» (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ).

وَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).

وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).

وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ فِي «سُورَةِ هُودٍ» (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي).

وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» عَنْ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ).

وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ رُسُلِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «يس» (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا).

وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَبْذُلُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عِوَضٍ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

تنبيه:

أخذ الأجرة على مجرد القراءة.

قال ابن تيمية: الاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة.

•‌

‌ ما حكم أخذ الأجرة على الرقية؟

يجوز.

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا في سَفَرٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ. فَقَالُوا لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ نَعَمْ فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأُعْطِىَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. وَقَالَ حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. فَتَبَسَّمَ وَقَالَ «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ». ثُمَّ قَالَ «خُذُوا مِنْهُمْ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ) رواه مسلم

وقد بوب عليه النووي رحمه الله في شرحه لمسلم بقوله: باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار.

ص: 702

وقال النووي رحمه الله في شرحه للحديث: قوله صلى الله عليه وسلم (خُذُوا مِنْهُمْ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ) هذَا تَصْرِيح بِجَوَازِ أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى الرُّقْيَة بِالْفَاتِحَةِ وَالذِّكْر، وَأَنَّهَا حَلَال لَا كَرَاهَة فِيهَا، وَكَذَا الْأُجْرَة عَلَى تَعْلِيم الْقُرْآن، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَآخَرِينَ مِنْ السَّلَف وَمَنْ بَعْدهمْ، وَمَنَعَهَا أَبُو حَنِيفَة فِي تَعْلِيم الْقُرْآن، وَأَجَازَهَا فِي الرُّقْيَة.

•‌

‌ ما الحكم إن كان ترك الإتمام من المستأجر لا من الأجير؟

الحكم: أنه يستحق جميع الأجرة، إلا إذا كان لعذر فله من الأجرة بقدر ما عمل.

مثال: استأجر شخص رجلاً ليبني له جداراً، فلما كان في أثناء العمل أتى السيل فهدم الجدار، وليس عند المستأجر شيء يبني به الجدار من جديد، فهنا لا يستحق العامل إلا مقدار ما عمل. (ابن عثيمين).

•‌

‌ ما الحكم إذا استأجر شخصاً لعمل محرّم، فهل يعطيه أجرته أم لا؟ (كأن يستأجره للعزف والزمر مثلاً، أو ليشهد له زوراً، أو ليضرب له بريئاً، أو كمن يستأجر امرأة للزنا ونحو ذلك من الأعمال المحرمة)

الحكم: أنه لا يجوز أن يدفع له الأجرة على العمل المحرم، ويلزمه أن يتصدق بهذا المال، لئلا يجمع بين العوضين: المنفعة المحرمة، والمال.

جاء في (الموسوعة الفقهية" (1/ 290)): الإجارة على المنافع المحرمة كالزنى والنوح والغناء والملاهي محرمة وعقدها باطل، لا يستحق به أجرة.

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن رجل حلق ذقنه عند الحلاق وقال: سوف أعطيك المال فيما بعد دينا عليّ، ثم هداه الله والتزم بأحكام الإسلام فهل يعطيه المال أم لا؟

فأجاب: يقول له: أنا لن أعطيك إياه لأن هذا مقابل عمل محرم، ويتصدق به.

•‌

‌ ما الحكم إن تاب من عمل محرم وقد اكتسب مالاً محرماً كأجرة الغناء أو شهادة الزور والأجرة على كتابة الربا؟

من تاب إلى الله تعالى من عمل محرم، وقد اكتسب منه مالاً، كأجرة الغناء والرشوة والكهانة وشهادة الزور، والأجرة على كتابة الربا، ونحو ذلك من الأعمال المحرمة، فإن كان قد أنفق المال، فلا شيء عليه، وإن كان المال في يده، فيلزمه التخلص منه بإنفاقه في وجه الخير، إلا إذا كان محتاجاً فإنه يأخذ منه قدر الحاجة، ويتخلص من الباقي.

قال ابن القيم رحمه الله: إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض، كالزانية والمغنى وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده.

فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لصاحبه في مقابلته نفع مباح.

وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين. (مدارج السالكين)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أخذ عوضاً عن عين محرمة أو نفع استوفاه، مثل أجرة حَمَّال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البغيّ ونحو ذلك فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله، فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث، ولا يعاد إلى صاحبه؛ لأنه قد استوفى العوض، ويتصدق به كما نص على ذلك من نص من العلماء، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك وغيرهم. (مجموع الفتاوى)

- فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: مسألة: لو أن الإنسان استؤجر على عمل في الذمة بأن قيل له: نريد تنظيف هذا البيت كل يوم، ولك في الشهر مائة ريال، فاستأجر من ينظف البيت كل يوم لكن بخمسين ريال، فهل يجوز أو لا؟

الجواب: نعم يجوز، هذا من جنس ما إذا قلنا: إنه يجوز أن يؤجر بقية المدة بأكثر من الأجرة، وعلى هذا عمل الناس اليوم.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

أن الإسلام قد ضمن للعاملين حقوقهم وتوفير الحياة الكريمة لهم ولأسرهم فلا يجوز لرب العمل ان يؤذيه بل يجب ان يعطيه حقه في الاجر والراحة واداء العبادات والقيام بحق الزوجية والوالدين.

ليعلم كل انسان انه مسئول عن كل كبيرة وصغيرة يوم القيامة.

الأجر هو حق للعامل دون أن يمن عليه رب العمل.

ص: 703

914 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اِسْتَأْجَرَ أَجِيراً، فَلْيُسَلِّمْ لَهُ أُجْرَتَهُ) رَوَاهُ عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ وَفِيهِ اِنْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ اَلْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَنِيفَة.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث ضعيف، لانقطاعه كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن من شروط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة.

قال في المغني (لا نعلم فيه خلافاً).

أ-لحديث الباب (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره).

ب-ولأن الجهالة بالأجرة يفضي إلى النزاع والخصام بين المؤجر والمستأجر.

فلو استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم لم يصح.

لو استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس لم يصح.

•‌

‌ هل يصح استئجار الظئر بطعامها وكسوتها؟

الظئر: المرضعة.

مثال: أن أستأجر امرأة لترضع ولدي بطعامها وكسوتها).

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز.

وهذا مذهب أبي حنيفة والمالكية والحنابلة.

أ- لقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ).

ب- ولقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

القول الثاني: أنه لا يجوز.

وهذا مذهب الشافعية.

قالوا: إن العلم بالأجرة شرط في صحة عقد الإجارة، وإطلاق الطعام والكسوة دون وصفهما يجعل الطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة.

والراجح الجواز.

ص: 704

•‌

‌ هل يجوز استئجار الأجير بطعامه وشرابه؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز.

وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن حزم.

قالوا: إن العلم بالأجرة شرط في صحة عقد الإجارة، وإطلاق الطعام والكسوة دون وصفهما يجعل الطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة.

القول الثاني: أنه جائز.

وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.

قياساً على الظئر.

قال في الشرح: روي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأُجراء بطعامهم وكسوتهم

والراجح الجواز، ويكون الطعام والكسوة بالعرف.

•‌

‌ هل يجوز استئجار حيواناً بطعامه وشرابه؟

مثاله: أن يستأجر شخص دابة لينتفع بها، وتكون الأجرة علفها وصيانتها وحفظها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: عدم الجواز.

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

أ- قالوا: لأن العوض مجهول معدوم، ولا يدرى أيوجد أم لا؟ والأصل عدمه، ولا يصح أن يكون ثمناً.

ب- استدلوا بدليل الإجماع على ذلك، حيث ابن قدامة أنه لا يعلم مخالفاً في ذلك.

القول الثاني: الجواز.

وهو مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية.

أ- القياس على استئجار الأجير بطعامه.

ب-أن علف الدابة معروف بالعادة، وهذا يرفع عنه صفة الجهالة فيكون معلوماً.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 705

‌بَابُ إِحْيَاءِ اَلْمَوَاتِ

915 -

عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ عَمَّرَ أَرْضاً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) قَالَ عُرْوَةُ: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ. رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

916 -

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ) رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

وَقَالَ: رُوِيَ مُرْسَلاً. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاخْتُلِفَ فِي صَحَابِيِّهِ، فَقِيلَ: جَابِرٌ، وَقِيلَ: عَائِشَةُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَالرَّاجِحُ اَلْأَوَّلُ.

===

(مَنْ عَمَّرَ أَرْضاً) لفظ البخاري (أعمر)، وهذا مفسر لحديث (من أحيا).

(لَيْسَتْ لِأَحَدٍ) هذا شرط من شروط إحياء الأرض، كما في الحديث الثاني (أرضاً ميتة).

(فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) أي: من غيره.

(وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ) أي: قضى بأن الإحياء ملك شرعي.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الأحاديث؟

نستفيد: أن من أحيا أرضاً وعمرها فهو أحق بها من غيره، ويملكها ملكاً شرعياً.

•‌

‌ ما معنى إحياء الموات؟

هي الأرض البائرة التي لا يعلم لها مالك.

والمَوَات بفتح الميم والواو الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد.

التي لا يعرف لها مالك: هذا شرط الموات، أن تكون الأرض التي يراد إحياؤها لا يعلم لها مالك معين.

تعريف الموات عند الفقهاء: هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم.

المنفكة عن الاختصاصات: أي التي لا يختص بها واحد بعينه، كالأرض الخراب الدارسة التي لا يملكها أحد ولا يتعلق بها مصلحة عامة.

فالأرض التي فيها مصلحة لأهل البلد فلا يجوز إحياؤها، كأن تكون الأرض مدفن الأموات لأهل البلد، أو كانت هذه الأرض يستنبطون منها الملح أو يأخذون منها الحجارة أو غير ذلك فلا يجوز إحياؤها.

وملك معصوم: أي: ما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية أو غيرها، فلا يملك بالإحياء لأنه ملك لصاحبه.

•‌

‌ ما دليل أن من أحياء أرض ميتة فهي له؟

أحاديث الباب.

قال ابن قدامة: وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ.

ص: 706

•‌

‌ ما شروط إحياء الأرض الموات؟

يشترط لإحياء الأرض الموات شرطان:

الأول: أن تكون الأرض لا مالك لها.

فإن كان لها مالك فلا يجوز يصح إحياؤها إجماعاً.

قال ابن قدامة: فَهَذَا لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ.

وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُرِفَ بِمِلْكِ مَالِكٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِ أَرْبَابِهِ

الثاني: ألا تكون الأرض من اختصاصات البلد.

فالأرض التي فيها مصلحة لأهل البلد فلا يجوز إحياؤها، كأن تكون الأرض مدفن الأموات لأهل البلد، أو كانت هذه الأرض يستنبطون منها الملح أو يأخذون منها الحجارة أو غير ذلك فلا يجوز إحياؤها.

ولذلك جاء في الحديث (الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والنار، والحطب).

•‌

‌ هل يشترط أن يكون المحيي مسلماً؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا يشترط.

قال ابن قدامة: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.

أ-وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ).

ب- وَلِأَنَّ هَذِهِ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ التَّمْلِيكِ، فَاشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، كَسَائِرِ جِهَاتِهِ.

القول الثاني: أنه يشترط أن يكون مسلماً.

واستدلوا بحديث (موتان الأرض لله ولرسوله ثم لكم) لكنه ضعيف.

والراجح الأول.

•‌

‌ هل يشترط إذن الإمام لإحياء الموات؟

اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: أنه لا يشترط.

وهذا مذهب الجمهور.

أ- لعُمُومُ قَوْلِهِ عليه السلام (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً، فَهِيَ لَهُ).

ب- وَلِأَنَّ هَذَا عَيْنٌ مُبَاحَةٌ، فَلَا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُهَا إلَى إذْنِ الْإِمَامِ، كَأَخْذِ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهِ. (المغني)

القول الثاني: أنه يشترط إذن الأمام.

وهذا مذهب أبي حنيفة. وذلك لأمرين:

الأول: أن الأرض الموات في سلطان الإمام ويعتبر بولايته على البلدان واضع اليد عليها، فلا يُستولى على ما تحت يده إلا بإذنه.

الثاني: أن الإحياء من غير إذن الإمام قد يدفع إلى التزاحم والنزاع.

والصحيح الأول أنه لا يشترط، لكن في هذا الزمان ينبغي أن يكون بإذن الإمام لما يترتب من عدم الإذن المفاسد والنزاعات والخصومات.

ص: 707

•‌

‌ هل تملك أرض الحرم بالإحياء كأرض عرفات ومنى؟

لا، لا تملك بالإحياء.

لأنها عامة مشتركة بين جميع المسلمين فهي كمختصات البلد وبقعها كبقع المساجد يشترك فيها كافة الناس فلا تملك بالإحياء، ولو قلنا أنها تملك بالإحياء لأدى ذلك إلى التضييق على الحجاج ونحوهم.

•‌

‌ بما يحصل الإحياء؟

أولاً: ببناء حائط.

أي: يبني جداراً منيع يحيط بها ويحميها، ويكون كما جرت به عادة أهل البلد، ومعنى منيع: ألا يدخل إلى ما وراءه إلا بباب.

ثانياً: أو بحفر بئر.

هذا الأمر الثاني مما يحصل به الإحياء، وهو حفر بئر في الأرض الموات ووصل إلى الماء، فهذا يكون إحياء.

ثالثاً: أو إجراء ماء إليها.

هذا الأمر الثالث مما يكون به الإحياء، وهو سوق الماء وإجراؤه إلى الأرض الموات من عين أو نهر ونحوهما.

- سقيها بماء المطر لا يكون إحياء.

رابعاً: أو منع ما لا تزرع معه.

هذا الأمر الرابع ما يحصل به الإحياء، وهو قلع الأشجار والأحجار المانعة من زرعها وسقيها، ويزيل عنها ما لا يمكن زرعها معه.

مثال: فيها أشجار وحشائش لا يمكن زرعها معها فجاء بجرافه وقلعها فهذا احياء.

•‌

‌ ما حكم إحياء ما قرب من البلد؟

قال ابن قدامة: وَمَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ، وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ، مِنْ طُرُقِهِ، وَمَسِيلِ مَائِهِ، وَمَطْرَحِ قُمَامَتِهِ، وَمُلْقَى تُرَابِهِ وَآلَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ.

وقيل: يجوز.

قال ابن قدامة: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ).

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْعَقِيقَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَيْنَ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ.

وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَامِرِ، فَجَازَ إحْيَاؤُهُ، كَالْبَعِيدِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ.

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ.

لِأَنَّهُ فِي مَظِنَّةِ تَعَلُّقِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي حَائِطِهِ إلَى فِنَائِهِ، وَيَجْعَلَهُ طَرِيقًا، أَوْ يَخْرُبَ حَائِطُهُ، فَيَضَعَ آلَاتِ الْبِنَاءِ فِي فِنَائِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَعِيد. (المغني).

وقال: وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِ الْقَرْيَةِ، كَفِنَائِهَا، وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا، وَمُحْتَطَبِهَا، وَطُرُقِهَا، وَمَسِيلِ مَائِهَا، لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

ص: 708

917 -

وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ; أَنَّ اَلصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

•‌

‌ ما معنى الحمى؟

قال ابن قدامة: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْمِيَ أَرْضًا مِنْ الْمَوَاتِ، يَمْنَعُ النَّاسَ رَعْيَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَلَأِ، لِيَخْتَصّ بِهَا دُونَهُمْ.

•‌

‌ ما معنى (لا حمى إلا لله ولرسوله)؟

الصحيح أن معناه: لا حمى إلا على مثل ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المعنى أنه لا أحد يحمي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل أن عمر حمى بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكذا عثمان.

قال ابن قدامة: وَكَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْرِفُ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا انْتَجَعَ بَلَدًا أَوْفَى بِكَلْبٍ عَلَى نَشَزَ، ثُمَّ اسْتَعْوَاهُ.

وَوَقَفَ لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ بِالْعُوَاءِ، فَحَيْثُمَا انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِنَفْسِهِ، وَيَرْعَى مَعَ الْعَامَّةِ فِيمَا سِوَاهُ.

فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ.

وَرَوَى الصَّعْبُ بْن جَثَّامَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ).

رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ (النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلَأِ) رَوَاهُ الْخَلَّالُ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ سِوَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحْمِيَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى.

فَأَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ (لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ).

لَكِنَّهُ لَمْ يَحْمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا حَمَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ (حَمَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ) رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ.

وَالنَّقِيعُ، بِالنُّونِ: مَوْضِعٌ يُنْتَقَعُ فِيهِ الْمَاءُ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْخِصْبُ، لِمَكَانِ مَا يَصِيرُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَأَمَّا سَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ، وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ وَضَوَالُّ النَّاسِ الَّتِي يَقُومُ الْإِمَامُ بِحِفْظِهَا، وَمَاشِيَةُ الضَّعِيفِ مِنْ النَّاسِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ مَنْ سِوَاهُ مِنْ النَّاسِ.

وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ.

وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَيْسَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْمِيَ؛ لِقَوْلِهِ (لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ).

وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ حَمَيَا، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ إجْمَاعًا. (المغني).

وقال في النهاية في معنى الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عما كانت تفعله الجاهلية، وأضاف الحمى لله ولرسوله أي: إلا ما يحمي للخيل التي ترصد للجهاد والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله.

وقال ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب لما ذكر الحديث: تأوله الجمهور على معنى أنه لا ينبغي أن يحمى إلا كما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المجاهدين وشبه ذلك مثل ما فعله الخلفاء بعده حموا لإبل الغزاة.

وقال السيوطي في حاشية البخاري قوله (لا حمى إلا لله ولرسوله) قال الشافعي يحتمل معنيين:

أحدهما: لا حمى إلا ما حماه صلى الله عليه وسلم.

والثاني: لا حمى إلا مثل ما حماه، فعلى الأول ليس لأحد من الولاة أن يحمي بعده وعلى الثاني يختص بمن قام مقامه فهو الخليفة دون سائر نوابه.

وقال البيهقي: وفيه وفيما قبله دلالة على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا حمى إلا لله ورسوله) أراد به أن لا حمى إلا على مثل ما حمى عليه رسوله في صلاح المسلمين والله أعلم.

ص: 709

918 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

919 -

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، وَهُوَ فِي اَلْمُوَطَّإِ مُرْسَلٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث جاء من عدة طرق.

حسن الحديث بمجموع طرقه: النووي، وابن الصلاح، وابن رجب، وابن الملقن.

وضعفه: ابن حزم، وابن عبد البر، والذهبي.

قال ابن عبد البر: وأما معنى هذا الحديث فصحيح في الأصول.

وقال ابن حزم: هذا خبر لا يصح.

•‌

‌ اذكر بعض الآيات التي تدل على ما دل عليه هذا الحديث؟

قاله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).

وقال تعالى (لا تضار والدة بولدها).

وقال تعالى (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن).

وقال تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد).

وقال تعالى (أو دين غير مضار).

وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وغير ذلك كثير من الآيات والأحاديث الدالة على معنى هذه القاعدة.

•‌

‌ ما معنى (لا ضرر ولا ضرار)؟

اختلفت عبارات العلماء في الفرق ما بين الضرر والضرار.

فقيل: إن الضرر والضرار واحد، لكن كرر للتأكيد، فالضرر والضرار بمعنى واحد، وهو إيصال الأذى للغير. وقيل: الضرر أن يضر الرجل أخاه، والضرار: أن يضر كل واحد منهما صاحبه.

وقيل: الضرر إلحاق الإنسان مفسدة بغيره ابتداء، وأما الضرار فهو إلحاق الإنسن مفسدة بمن أضرَّ به على سبيل المجازاة على وجه غير جائز.

وقيل: الضرر: ما كان عن غير قصد، والضرار: ما كان عن قصد.

مثال ذلك: إنسان عنده شجرة في بيته يسقيها فانتشرت الرطوبة إلى بيت جاره بدون قصد، هذا نقول فيه: ضرر.

وإنسان آخر غرس شجرة وصار يسقيها من أجل أن ينتشر الماء والرطوبة إلى بيت جاره فيتأذى به، هذا ضرار، وكلاهما منفي شرعاً، فالضرر يزال وإن لم يقصد، والمضارة تزال وعليه إثم القصد. (اختاره ابن عثيمين).

وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع به أنت، والضرار، ما تضر به صاحبك من غير أن تنتفع به.

وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة ابن الصلاح، وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلم، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور:

منها: أن فيه تفريقاً بين الضرر والضرار، والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.

والثاني: أن لفظ الضرر يختلف عن لفظ الضرار، في أن الضرر ظاهر منه أن الموصل لهذا الضرر منتفع به، وأما المضار بالشيء، فإنه غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا -أيضاً- يعني: من جهة اللغة بين.

ص: 710

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم إلحاق الضرر بالغير، وهو ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون الغرض من ذلك: الضرر.

فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع:

منها: في الوصية.

قال تعالى (بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار).

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه.

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث فينقص حقوق الورثة.

ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة.

ومنها: الرجعة في النكاح.

قال تعالى (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا).

فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة فإنه آثم بذلك، وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث: يطلق الرجل امرأته ثم يتركها حتى يقارب انقضاء عدتها ثم يراجعها ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبداً بغير نهاية، فيدع امرأته لا مطلقة ولا ممسكة، فأبطل الله ذلك وحصر الطلاق في ثلاث مرات.

القسم الثاني: أن يكون الضرر من غير قصد. كأن يتصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره، وهذا على نوعين:

النوع الأول: أن يتصرف على وجه غير معتاد ولا مألوف، فلا يسمح له به.

كأن يؤجج ناراً في أرضه في يوم عاصف، فيحترق ما يليه.

النوع الثاني: أن يتصرف على الوجه المعتاد، وهذه تختلف وجهات نظر العلماء.

يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر) أن الله لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة، فإن ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم، لكنه لم يأمر عباده بشيء هو ضار لهم في أبدانهم أيضاً.

ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض، وقال (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج).

وأسقط الصيام عن المريض والمسافر، فقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

وأسقط اجتناب محظورات الإحرام كالحلق ونحوه عمن كان مريضاً أو به أذى من رأسه وأمر بالفدية.

- ما الحكمة من إيراد هذا الحديث في باب إحياء الموات؟

أتى به المصنف رحمه الله ليبين أن الحمى إذا تضمن ضرراً على المسلمين وجب منعه، وإن كان لماشية المسلمين. (ابن عثيمين)

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

1.

والحذر من ظلم الغير.

2.

الدين حماية للنفس والمال.

3.

النهي عن الضرر بالغير.

4.

مراعاة شعور الآخرين.

5.

فضل دفع الأذى.

6.

وجوب أداء حقوق الغير.

ص: 711

920 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ اَلْجَارُودِ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث في سنده ضعف، لعنعنة الحسن، وله شاهد من حديث جابر عند عبد بن حميد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

الحديث يَدُلُّ على أحَدِ أنواعِ الإحياءِ، وهو إحاطةُ الأرضِ المَوَاتِ بحائِطٍ يَمْنَعُ الحيواناتِ مِنْ القَفْزِ مِنْ أعلاهُ، فمَن أَحَاطَ أَرْضاً بجِدَارٍ مَنِيعٍ؛ فَقَدْ أَحْيَا تِلْكَ الأرضَ.

وإذا أَحْيَا الأَرْضَ فَقَدْ مُلِّكَها مِلْكاً شَرْعِيًّا؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم (فهي له). (توضيح الأحكام).

والتحويط: بناء جدار منيع يحيط بها ويحميها، ويكون كما جرت به عادة أهل البلد.

ومعنى (منيع) أن لا يُدخل إلى ما وراءه إلا بباب.

وذكر الشيخ البسام أن العمل في المحاكم في المملكة أنه إذا كان ارتفاع الجدار متراً ونصف المتر فهو إحياء، لأنه منيع، وما كان دون ذلك فهو تحجير وليس بإحياء. (التسهيل).

قال الصنعاني: وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيَّنَ نَوْعاً مِنْ أَنْوَاعِ الْعِمَارَةِ، وَلا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ الأَرْضِ بِأَنَّهُ لا حَقَّ فِيهَا لأَحَدٍ كَمَا سَلَفَ.

ص: 712

921 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

===

(مَنْ حَفَرَ بِئْرًا) المراد البئر التي تحفر في الأرض الموات للتمليك.

(عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ) العَطَن هو موطن الإبل ومبركها حول الحوض.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث كما قال المصنف – رحمه الله – إسناده ضعيف.

وحسنه الألباني لأن له شاهداً.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن حريم البئر إذا حفرها لسقي ماشيته أربعون ذراعاً، وما عدا ذلك يكون هو والناس فيه سواء.

وذهب بعض العلماء إلى أن حريم البئر خمسة وعشرون ذراعاً إن كانت بئراً جديدة، وخمسون ذراعاً إن كانت بئراً قديمة أثرية.

قال ابن قدامة: وَلَنَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا) وَهَذَا نَصٌّ.

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَلِيبِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَالْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا.

وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُمْلَكُ بِهِ الْمَوَاتُ، فَلَا يَقِفُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، كَالْحَائِطِ.

وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبِئْرِ لَا تَنْحَصِرُ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَا حَوْلَهَا عَطَنًا لَإِبِلِهِ، وَمَوْقِفًا لِدَوَابِّهِ وَغَنَمِهِ، وَمَوْضِعًا يَجْعَلُ فِيهِ أَحْوَاضًا يَسْقِي مِنْهَا مَاشِيَتَهُ، وَمَوْقِفًا لِدَابَّتِهِ الَّتِي يَسْتَقِي عَلَيْهَا وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْتَصُّ الْحَرِيمُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَرْقِيَةِ الْمَاءِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَحَدِيثُنَا أَصَحُّ مِنْهُ، وَرَوَاهُمَا أَبُو هُرَيْرَة، فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ. (المغني).

حديث أبي هريرة (حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، .. ) قال الدارقطني: الصحيح أنه مرسل.

- المراد بحريم البئر: ما حولها من مرافقها وحقوقها.

- قال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان البئر للزرع، فإنه لا يتقيد بأربعين ذراعاً، ولا بخمسة وعشرين، ولا بخمسين، بل يتقيد بما يمكن أن يحييه بهذه البئر حسب العادة قلّ أو كثر.

ص: 713

922 -

وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أقطعه أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ

923 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ اَلزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى اَلْفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ. فَقَالَ: أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ اَلسَّوْطُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِيهِ ضَعْفٌ.

===

(أقطعه أَرْضًا) الإقطاع: ما يعطيه الإمام لبعض الرعية من أراضي الموات، فيختص به ويصير أولى بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه.

التحجير: هو أن يشرع في الإحياء ولا يتمه.

والفرق بينه وبين الإحياء: أن المحيي يملك ما أحياء - وأما المتحجر فهو أحق بالأرض من غيره.

مثال: لو جاء إنسان إلى هذه الأرض وأدار حولها أحجاراً، فهذا تحجير وليس إحياء.

مثال: لو بنى حول الأرض جداراً قصيراً، فهذا يقال له تحجير ولا يقال له إحياء.

مثال آخر: او حفر بئراً للوصول إلى الماء (والماء 100 متر) فلما حفر 70 متراً توقف، فهذا يسمى تحجيراً ولا يسمى إحياء فإذا أقطع الإمام أرضاً لإنسان فهو أحق بهذه الأرض من غيره، لكن ليس له أن يتصرف بها.

قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ الْمَوَاتِ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ، كَالْمُتَحَجِّرِ لِلشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، حَيْثُ اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْهُ مَا عَجَزَ عَنْ إحْيَائِهِ مِنْ الْعَقِيقِ، الَّذِي أَقْطَعَهُ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهُ.

وَرَدَّ عُمَرُ أَيْضًا قَطِيعَةَ أَبِي بَكْرٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، فَسَأَلَ عُيَيْنَةُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ كِتَابًا فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُجَدِّدُ شَيْئًا رَدَّهُ عُمَرُ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ.

لَكِنَّ الْمُقْطَعَ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَوْلَى بِإِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ، وَإِلَّا قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: إنْ أَحْيَيْته، وَإِلَّا فَارْفَعْ يَدَك عَنْهُ.

كَمَا قَالَ عُمَرُ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقْطِعْك لِتَحْجُبَهُ دُونَ النَّاسِ

•‌

‌ اذكر أنواع الإقطاع؟

الإقطاع 3 أنواع:

الأول: إقطاع تمليك: أن يملّك الإمام أو نائبه أحداً من المسلمين أرضاً (كأراضي المنح في هذا الوقت).

الثاني: إقطاع إرفاق: أن يعطيه أرضاً يرتفق بها (كالأراضي التي تعطى للباعة يبيعون عليها بضاعتهم) كأسواق الجمعة الموجودة الآن.

الثالث: إقطاع استغلال: أن يقطع ولي الأمر أو نائبه أحداً من المسلمين أرضاً يستغلها بالزراعة - مثلاً - ثم إن شاء رجع وإن ملكه إياها.

فمن اقطع أرضاً - غير إقطاع التمليك - فهو أحق بها من غيره، لكن ليس له أن يتصرف بها.

ص: 714

924 -

وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ اَلصَّحَابَةِ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ (اَلنَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي اَلْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

===

•‌

‌ ما المراد بالكلأ والماء والنار في هذا الحديث؟

الْمُرَاد الْمِيَاه الَّتِي لَمْ تَحْدُث بِاسْتِنْبَاطِ أَحَد وَسَعْيه كَمَاءِ الْآبَار وَلَمْ يُحْرَز فِي إِنَاء أَوْ بِرْكَة أَوْ جَدْوَل مَأْخُوذ مِنْ النَّهَر.

وَالْكَلَأ: وَهُوَ النَّبَات رَطْبه وَيَابِسه. (عون المعبود).

وَالنَّارِ الشَّجَر الَّذِي يَحْتَطِبهُ النَّاس مِنْ الْمُبَاح فَيُوقِدُونَه.

•‌

‌ اذكر معنى الحديث؟

قال الخطابي رحمه الله فيه: هذا معناه الكلأ ينبت في موات الأرض يرعاه الناس ليس لأحد أن يُخص به دون أحد، ويحجزه عن غيره، وقد كان أهل الجاهلية إذا عز الرجل منهم حمى بقعة من الأرض لماشيته ترعاها يذود الناس عنها، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الناس فيه شركاء يتعاورونه بينهم، فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه فهو مال ليس لأحد أن يشركه فيه إلا بإذنه. ا. هـ

وقال ابن عبد البر في التمهيد عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع نقع بئر: وفي هذا الحديث دليل على أن الناس شركاء في الكلأ وهو في معنى الحديث الآخر: الناس شركاء في الماء والنار والكلأ. إلا أن مالكا رحمه الله ذهب إلى أن ذلك في كلأ الفلوات والصحاري، وما لا تملك رقبة الأرض فيه، وجعل الرجل أحق بكلأ أرضه إن أحب المنع منه فإن ذلك له.

وقال المناوي: أي لا يجوز لأحد منعهن .. والكلأ بالهمز والقصر النبات أي المباح وهو النابت في موات فلا يحل منع أهل الماشية من رعيه لأنه مجرد ظلم، أما كلأ نبت بأرض ملكها بالإحياء فمذهب الشافعية حل بيعه.

وقال الصنعاني: والكلأ النبات رطباً كان أو يابساً،

والحديث دليل على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد الثلاثة وهو إجماع في الكلأ في الأرض المباحة والجبال التي لم يحرزها أحد، فإنه لا يمنع من أخذ كلئها أحد إلا ما حماه الإمام

وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة ففيه خلاف بين العلماء. انتهى.

•‌

‌‌

‌ ما الحكم إذا حازه الإنسان هل يجوز بيعه؟

نعم، لأنه حازه وملكه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قوله (ولا يصح بيع نقع البئر) نقع البئر هو: ماؤه الذي نبع من الأرض، فلا يجوز بيع هذا الماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار) ولأن هذا الماء لم يخرج بقدرة الإنسان؛ بل بقدرة الله عز وجل، فقد يحفر الإنسان بئرا عميقا ولا يخرج الماء فليس من كده ولا فعله، بل هو سبب، فلذلك لا يملكه، وإذا كان لا يملكه فإنه لا يصح بيعه، أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكا له بالحيازة. (الشرح الممتع)

الخلاصة: بيع الماء لا يخلو من حالتين:

الحال الأولى: أن يكون الماء في بئر أو نهر عام ليس ملكاً لأحد، فهذا لا يجوز بيعه.

ص: 715

وَقَالَ السِّنْدِيُّ: وَقَدْ ذَهَبَ قَوْم إِلَى ظَاهِره فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة لَا تُمْلَك وَلَا يَصِحّ بَيْعهَا مُطْلَقًا، وَالْمَشْهُور بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَلَأِ هُوَ الْكَلَأ الْمُبَاح الَّذِي لَا يَخْتَصّ بِأَحَدٍ، وَبِالْمَاءِ مَاء السَّمَاء وَالْعُيُون وَالْأَنْهَار الَّتِي لَا تُمْلَك، وَبِالنَّارِ الشَّجَر الَّذِي يَحْتَطِبهُ النَّاس مِنْ الْمُبَاح فَيُوقِدُونَهُ، فَالْمَاء إِذَا أَحْرَزَهُ الْإِنْسَان فِي إِنَائِهِ وَمِلْكه يَجُوز بَيْعه وَكَذَا غَيْره.

الحال الثانية: أن يكون الماء في ملك الشخص، وهو الذي أخرجه وحازه في ملكه، فهذا يجوز له أن يبعه.

قال ابن القيم: فأما من حازه فى قِربته أو إنائه، فذاك غيرُ المذكور فى الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه، ثم أراد بيعَها كالحطب والكلأ والملح، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لأنَ يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتَى، بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوه).

قال الشيخ ابن عثيمين: أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة، فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكاً له بالحيازة " انتهى

•‌

‌ ما حكم لو نبت الزرع في أرض مملوكة؟

يجوز للإنسان أن يرعى الكلأ الذي لم ينبته أحد، فإن كان في أرض مباحة فلا خلاف في ذلك.

وإن كان في أرض مملوكة ولم يكن صاحبها محتاجاً إليه للغير فيجوز على الراجح من قولي أهل العلم، ولا يلزمه في ذلك عوض.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وقد اتفق المسلمون على أن الكلأ النابت في الأرض المباحة مشترك بين الناس، فمن سبق إليه فهو أحق به، وأما النابت في الأرض المملوكة، فإنه إن كان صاحب الأرض محتاجاً إليه فهو أحق به، وإن كان مستغنياً عنه، ففيه قولان مشهوران لأهل العلم، وأكثرهم يجوزون أخذه بغير عوض لهذا الحديث، ويجوزون رعيه بغير عوض.

ص: 716

‌بَابُ اَلْوَقْفِ

925 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا مَاتَ اَلْإِنْسَانُ اِنْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالَحٍ يَدْعُو لَهُ) رَوَاهُ مُسْلِم.

===

(إذا مات الإنسان انقطع عمله) يعني بزوال التكليف بالموت وخروجه من دار العمل إلى البرزخ، وليس البرزخ مكاناً للعمل، ومعنى انقطع عمله: يعني انقطع ثوابه.

(إلا من ثلاثة) إلا من ثلاثة أشياء، فإن ثوابها يدوم للإنسان بعد موته لدوام أثرها.

(صدقة جارية) المراد بها الصدقة المتصلة التي استمر نفعها كوقف العقارات والكتاب والمصاحف والأواني ونحو هذا مما يستمر نفعه ببقاء عينه.

(أو علم ينتفع به) قوله (ينتفع به) هذا قيد، فهذا يخرج العلم الذي لا نفع فيه، أو العلم الذي فيه مضرة كعلم النجوم يتعلمه، وكذا العلوم المفسدة للدين والأخلاق فلا تدخل في الحديث. والمراد بالعلم الذي ينتفع به ما يلي: العلم الذي علمه الطلبة المستفيدين المستعدين للعلم - العلم الذي ينشره بين الناس - الكتب التي ألفها في نفع المسلمين، قال العلماء: والكتب أعظمها أثراً لطول بقائها.

(أو ولد صالح يدعو له) المراد بالصلاح الاستقامة على طاعة الله، (الحديث يشمل ولد الصلب وولد الولد، ويشمل الذكر والأنثى) وصْف الولد بالصلاح: ليكون دعاؤه مجاباً فينتفع والده بدعائه، وفائدة التقييد بالولد - مع أن دعاء غير الولد ينفع - هو تحريض الولد على الدعاء لوالديه.

•‌

‌ عرف الوقف؟

هو: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.

مثال: أن يقول هذا بيتي وقف على الفقراء، فأصل البيت محبوس (ثابت لا يباع ولا يوهب ولا يورث)، لا يمكن أن يتصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غير ذلك، ومنفعته مطلقة للفقراء، فكل من كان فقيراً استحق هذا الوقف.

• تسبيل المنفعة: أي الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة.

•‌

‌ اذكر أدلة مشروعية الوقف؟

أ-قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيء فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم).

والوقف داخل في الإنفاق.

ب- قال تعالى (وافعلوا الخير).

ج-ولحديث الباب في قوله (أو صدقة جارية).

والصدقة الجارية هي الوقف.

ص: 717

•‌

‌ ما المقصود من الوقف؟

المقصود منه أمران:

الأمر الأول: الأجر الحاصل للواقف.

الأمر الثاني: نفع الموقوف عليه في عين الوقف أو غلته.

مثال: قلت هذا البيت وقف على زيد من الناس - لو أراد أن يسكنه فهنا انتفع بعين الوقف، ولو أجر الناظر البيت وأعطاه الغلة فهنا انتفع بغلته.

•‌

‌ ماذا يشترط في الوقف؟

أولاً: يشترط في الوقف أن يكون على جهة بر وطاعة، كالمساجد، والفقراء، واليتامى ونحوها.

لأن المقصود به التقرب إلى الله، كبناء مسجد أو مدرسة علمية، أو داراً ريعها للفقراء.

لو قال: هذا وقف على الأغنياء، فإنه لا يصح، لأنهم ليسوا محلاً للقربة.

•‌

‌ أما إذا كان على معين فإنه لا يشترط أن يكون على بر [لكن يشترط ألا يكون إثم].

مثال: وقفت هذا البيت على فلان الغني، فإنه يصح، لأنه ليس على جهة.

ثانياً: ومما يشترط في الوقف: أن يكون مما ينتفع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه.

قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: الصدقة الجارية هي الوقف.

وقال الخطيب الشربيني رحمه الله: الصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف كما قاله الرافعي، فإن غيره من الصدقات ليست جارية.

قال ابن حزم في المحلى (8/ 151): الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ، الْبَاقِي أَجْرُهَا بَعْدَ الْمَوْت.

وقال ابن الأثير في "النهاية"(1/ 739): (صَدَقة جارِية) أي دَارّة مُتَّصِلة كالوُقُوف المُرْصَدة لأبواب البِرّ.

وقال السرخسي في "المبسوط"(12/ 32): مَقْصُودُ الْوَاقِفِ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ جَارِيَةً لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وقال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام"(1/ 135): وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ تُحْمَلُ عَلَى الْوَقْفِ وَعَلَى الْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِ دَارِهِ وَثِمَارِ بُسْتَانِهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ، لِتَسَبُّبِهِ إلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ التَّسَبُّبِ.

وقال في أسنى المطالب (2/ 4457): وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيّ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: الصدقة الجارية: كل عمل صالح يستمر للإنسان بعد موته، والذي يتصدق به الإنسان من ماله، هو ماله الحقيقي الباقي له، الذي ينتفع به.

- والصدقة الجارية هي التي يستمر ثوابها بعد موت الإنسان، وأما الصدقة التي لا يستمر ثوابها ـ كالصدقة على الفقير بالطعام ـ فليست صدقة جارية.

وبناء عليه: فتفطير الصائمين وكفالة الأيتام ورعاية المسنين - وإن كانت من الصدقات - لكنها ليست صدقات جارية، ويمكنك أن تساهم في بناء دار لليتامى أو المسنين، فتكون بذلك صدقة جارية، لك ثوابها ما دامت تلك الدار ينتفع بها.

ص: 718

وأنواع الصدقات الجارية وأمثلتها كثيرة، منها: بناء المساجد، وغرس الأشجار، وحفر الآبار، وطباعة المصحف وتوزيعه، ونشر العلم النافع بطباعة الكتب والأشرطة وتوزيعها.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) رواه ابن ماجه قال المنذري: إسناده حسن.

د-ولحديث عمر الآتي، فقد أشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن طرق الصدقات، وهو الوقف.

قال ابن حجر: وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف.

هـ- قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده مقدرة إلا وقف.

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم شرحه لحديث الباب: قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عَمَل الْمَيِّت يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ، وَيَنْقَطِع تَجَدُّد الْثوَاب لَهُ، إِلا فِي هَذِهِ الأَشْيَاء الثَّلاثَة; لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبهَا; فَإِنَّ الْوَلَد مِنْ كَسْبه، وَكَذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيم أَوْ تَصْنِيف، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة، وَهِيَ الْوَقْف.

فإذا كان لا ينتفع به على سبيل الدوام فلا يصح وقفاً.

مثال: الطعام، لا يصح وقفه، لأنه ينفد.

فلو قلت: هذه الخبز وقف لله تعالى على الجائعين، فهذا لا يصح وقفاً، وتكون صدقة.

لو وقّف حماراً مقطع الأرجل، فإنه لا يصح، لأنه لا ينتفع به.

•‌

‌ بما ينعقد الوقف؟

ينعقد بالصيغة القولية، والصيغة الفعلية.

أولاً: الصيغة القولية.

قال في المغني: وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ صَرِيحَةٌ، وَثَلَاثَةٌ كِنَايَةٌ.

فَالصَّرِيحَةُ: وَقَفْت، وَحَبَسْت، وَسَبَّلْت.

مَتَى أَتَى بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ (إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا، وَسَبَّلْت ثَمَرَتَهَا).

فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ

وأما الكناية: تصدقت، حرمت، أبدت.

فهذه لا يحصل بها الوقف إلا بشروط:

الشرط الأول النية، فيكون على ما نوى.

الثاني: أن ينضم إليها أحد الألفاظ الخمسة.

مثال: تصدقت بداري صدقة موقوفة.

تصدقت بهذه الدار محبسة.

الثالث: أن يصفها بصفات الوقف.

فيقول: تصدقت بهذا البيت صدقة لا تباع [الذي لا يباع هو الوقف].

ثانياً: الصيغة الفعلية.

أن يبني مسجداً ويأذن للناس في الصلاة فيه، فهذا يكون وقفاً، لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك، ولا يشترط أن يقول هذا وقف، لأن فعله يدل على ذلك.

ص: 719

926 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْه قَالَ: " إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا " قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ [غَيْرَ] أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي اَلْفُقَرَاءِ، وَفِي اَلْقُرْبَى، وَفِي اَلرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اَللَّهِ، وَابْنِ اَلسَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقاً - غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ).

===

(أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا فَأَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا) أي: يستشيره في التصرف في هذه الأرض.

(أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْه) أي أعز وأجود، لأن النفيس هو الشيء الجيد المغتبط به.

(إِنْ شِئْتَ) الأجر والمثوبة من الله.

(حَبَّسْتَ أَصْلَهَا) بتشديد الباء ويجوز التخفيف، وأصل الحبس لغة المنع، أي: وقفت تلك الأرض

(وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) أي: وتصدق بغلتها وبريعها أو بمنفعتها، وقد جاء في رواية عند النسائي (احبس أصلها وسبّل ثمرها) وفي رواية (تصدّق بثمره، وحبس أصله).

(فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي اَلْفُقَرَاءِ) وهو من لا يقدر على نصف كفايته وكفاية عائلته لا بماله ولا بكسبه.

(وَفِي اَلْقُرْبَى) أي: الأقارب، والمراد بهم قرابة عمر.

(وَفِي اَلرِّقَابِ) جمع رقبة، والمراد هنا فك الإنسان من الرق أو الأسر، والمعنى: أنه يشترى من غلة الوقف رقاباً فيعتقون، أو يعان المكاتبون الذين كاتبوا أسيادهم على مقدار من المال يعتقون بدفعه.

(وَفِي سَبِيلِ اَللَّهِ) اختلف في معناه فقيل: المراد به الجهاد فيشمل شراء الأسلحة وأدوات الحرب ونحو ذلك، وقيل: أن المراد قي سبيل الله، كل ما أعان على اعلاء كلمة الله ونشر دينه ونفع المسلمين، وعلى هذا التفسير يدخل فيه أبواب كثيرة جداً فيدخل فيه إعانة المجاهدين، وبناء المساجد والمدارس ودور الرعاية والمستشفيات ويدخل أيضاً شراء الكتب وتوزيعها أو المساهمة بطبعها، ورعاية الأيتام والمعوقين والأرامل.

(وَابْنِ اَلسَّبِيلِ) أي المسافر الذي انقطع به السفر ولم يستطع مواصلة السفر، فهذا يعطى من ريع الوقف ما يوصله إلى بلده.

(وَالضَّيْفِ) هو من ينزل بالقوم يريد القراء.

(لا جُنَاحَ) أي لا حرج ولا إثم.

(عَلَى مَنْ وَلِيَهَا) أي قام بحفظها وإصلاحها (أي الأرض).

(أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا) أي يأخذ من ريعها ما يحتاج إليه من طعام أو كسوة أو مركب.

(بِالْمَعْرُوفِ) هذا قيد، فأخْذه مقيد بالمعروف، وهو ما جرى به العرف وأقره الشرع.

(وَيُطْعِمَ صَدِيقاً) قيل: المراد صديق الناظر، وهذا الأقرب لرواية البخاري (أو يوصل صديقه) وقيل: المراد صديق الواقف، وهذا فيه بُعد.

(غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً) التمول: اتخاذ المال أكثر من حاجته، والمراد: أن الناظر يأكل من الوقف لكن لا يتملك منه شيئاً، فلا يأخذ - مثلاً - من الوقف ألف ريال، (500) يأكلها، و (500) يودعها في رصيده.

ص: 720

•‌

‌ هل الوقف عقد لازم أم يجوز الرجوع فيه؟

الوقف عقد لازم بمجرد القول، فلا يملك الواقف الرجوع فيه.

وهذا قول الجمهور من العلماء.

أ- لحديث الباب. (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا

أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ

).

وجه الاستدلال من وجهين:

الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يحبّس الأصل، والحبس هو المنع، والقول أن الوقف عقد جائز ينافي التحبيس.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحكام الوقف فقال (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ

).

ب- حديث أبي هريرة السابق (

أو صدقة جارية).

فالوقف إذا لم يرد به الدوام لم يكن صدقة جارية.

ج- إذا كان الرجوع في الصدقة بعد إخراجها من يده لا يجوز، لأن العطية لا يجوز الرجوع فيها بعد إخراجها من يده، فكذلك الوقف لا يجوز الرجوع فيه بعد أن يتصدق به.

وقال أبو حنيفة: إن الوقف عقد جائز، فللواقف أن يرجع في وقفه متى شاء.

واستدل بحديث ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لما نزلت سورة النساء وفرض فيها الفرائض (المواريث) قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حبس عن فرائض الله) رواه الطحاوي وسنده ضعيف.

والصحيح القول الأول.

•‌

‌ ما حكم بيع الوقف؟

لا يجوز بيعه.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يباع أصلها).

وهذا مذهب جماهير العلماء.

وشذ أبو حنيفة فأجاز بيع الوقف والرجوع فيه.

وخالفه أصحابه في ذلك.

قال أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة حديث عمر، لقال به، ورجع عن بيع الوقف.

•‌

‌ ما حكم بيع الوقف إذا تعطلت منافعه؟

اختلف أهل العلم في بيع الوقف إذا تعطلت منافعه على ثلاثة أقوال:

القول الأول: المنع من بيعه مطلقاً.

وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.

أ- لحديث الباب (لا يباع أصلها، ولا تبتاع، ولا توهب، ولا تورث).

ب- قالوا: ولأنَّ ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها كالمعتق والمسجد أشبه الأشياء بالمعتق.

القول الثاني: رد الوقف إلى المتبرع به إذا تعطلت مصالحه.

وهذا قول محمد بن الحسن.

ص: 721

واستدل بأنَّ الوقف إنَّما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف عليه منه فزال ملكه عنه.

القول الثالث: جواز بيع الوقف للحاجة.

وهذا رواية عن الإمام أحمد، بشرط أن يشتري بقيمته ما يكون بدلاً عن الأول.

ودليلهم على ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه حين بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب فكتب إلى سعد: أن انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد، وكان هذا العمل بمشهد من الصحابة فلم ينكر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة.

فلو كان الوقف بيتاً فانهدمت، أو كان مسجداً ورحل عنه أهل القرية فعلى هذا القول أنه يجوز بيعه وإبداله بشيء آخر يستمر فيه نفعه للواقف.

لما ورد عن عمر (كتب إلى سعد - لما بلغه أن بيت المال الذي في الكوفة قد نَقَب - تهدم - قال عمر: انقل المسجد الذي بالتمّارين، واجعل بيت المال في قِبلة المسجد، فإنه لا يزال في المسجد مصلٍّ) أخرجه الطبراني، وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً [قاله في المغني].

ويؤيد هذا أن بقاء العين بلا منفعة لا فائدة فيه، وحرمان له من ثوابه.

•‌

‌ ما حكم الوقف على النفس؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: صحة ذلك.

وهذا اختيار ابن تيمية.

أ- لحديث جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم لرجل (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك

) رواه مسلم.

قالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة على النفس هي المقدمة، والوقف نوع من الصدقة.

ب- أن المقصود من الوقف القربة، وهي حاصلة بالوقف على النفس.

القول الثاني: عدم صحة ذلك.

وهذا قول الجمهور.

لحديث الباب وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم (حبّس الأصل وسبّل الثمرة) رواه أحمد.

قالوا: إن تسبيل الثمرة تمليكها للغير، ولا يتصور أن يملك الشخص من نفسه لنفسه.

والله أعلم.

ص: 722

•‌

‌ اذكر شروط صحة الوقف؟

يشترط لصحة الوقف:

أولاً: أن يكون الواقف جائز التصرف. (بأن يكون بالغاً حراً رشيداً).

ثانياً: أن يكون الوقف على بر، لأن المقصود به التقرب إلى الله.

كالمساجد، والمساكين، وكتب العلم، والأقارب.

ثالثاً: أن يكون الموقف بما ينتفع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه.

فلا يصح وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به، كالطعام.

رابعاً: أن يكون الموقف معيناً.

فلا يصح وقف غير المعين.

مثال: وقفت إحدى بيتيّ، لا يصح.

•‌

‌ هل يجب العمل بشرط الواقف؟

نعم، يجب العمل بشرطه.

لأنه خرج من ملك الواقف على شرط معين.

فيجب العمل بشرطه في الجمع: قال: هذا وقف على زيد ومحمد وخالد وعلي، فإنهم يعطون سواء.

ويجب العمل بشرطه في التقديم: قال: هذا وقف على زيد ثم خالد.

إذا لم يشترط شيئاً: استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم.

•‌

‌ هل يشترط القبول للوقف؟

إذا كان على جهة كالفقراء والمساكين فإنه لا يشترط القبول.

قال ابن القيم: لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معين اتفاقاً.

وأما إذا كان على معين، أو على جماعة معينة محصورين ففيه قولان:

قيل: لا يشترط القبول.

وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، ورجحه النووي، وابن القيم.

وينتقل إلى من بعده.

مثال: لو قال: هذا وقف على زيد، ثم المساكين، وقال زيد: لا أريده، ينتقل فوراً إلى المساكين.

وقيل: يشترط قبوله.

لأنه تبرع لآدمي، فكان من شرطه القبول كالهبة والوصية.

والأول أصح.

ص: 723

•‌

‌ هل يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه؟

ذهب عامة أهل العلم إلى أن شرط الواقف لا يصح تغييره ما دام في غير محذور شرعي.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح.

فقال رحمه الله: ويجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ من الناظر على الوقف:

إن عين الواقف شخصاً معيناً، فإنه هو يكون المسؤول.

إن لم يعين، فالناظر هو الموقوف عليهم.

لكن يستثنى: إذا كان الموقوف عليهم لا يمكن حصرهم، كالمساكين، وطلاب العلم، فهنا يكون القاضي، وإذا كان الموقوف عليهم جهة لا تملك، كالمساجد.

•‌

‌ هل يصح تعليق الوقف. (كقول: إن دخل رمضان فداري وقف).

قيل: يصح.

وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية.

لعدم المانع من ذلك.

وقيل: لا يصح.

وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

قالوا: إن الوقف عقد يقتضي نقل الملك لله تعالى أو للموقوف عليه حالاً كالبيع والهبة فلا يصح إلا منجزاً.

والراجح الأول.

•‌

‌ هل يجب تعميم الموقوف عليهم بالتساوي؟

أولاً: إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم، وجب تعميمهم بالتساوي. مثال:

هذا وقف على عيال أحمد، وكانوا خمسة، فهنا يجب التعميم والتساوي.

ثانياً: إذا وقف على جماعة لا يمكن حصرهم، فيجوز أن يقتصر على صنف واحد. مثال:

الفقراء - طلاب العلم.

(وإن وقف على ولده أو ولد غيره فهو لذكر وأنثى بالسوية).

ص: 724

•‌

‌ هل يجوز أن يوقف على أولاده الذكور دون الإناث؟

المشهور من المذهب أنه يجوز أن يوقف على أولاده الذكور دون الإناث.

قال الشيخ ابن عثيمين: والصحيح أنه لا يجوز، لأنه ظلم وجور، وقال صلى الله عليه وسلم:(اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

•‌

‌ ما الحكم لو قال: هذا وقف على أولاد زيد الذكور دون الإناث؟

يصح. لأنه لا يجب العدل، لأنهم ليسوا أبناءه.

• ما الحكم لو أوقف على قبيلة؟

إن أوقف على قبيلة، فإنه يشمل الجميع الذكور والإناث، إلا أولاد النساء من غيرهم.

•‌

‌ ما حكم وقف المبهم؟

قيل: لا يصح.

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

قالوا: إذا كان المبهم لا يصح بيعه، فكذلك لا يصح وقفه.

وقيل: يصح.

وهذا اختيار البخاري.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- فضيلة الوقف.

- فضيلة ظاهرة لعمر.

- مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير.

- فضيلة صلة الرحم والإنفاق عليهم.

- أن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور.

- فضيلة الإنفاق من أحب المال.

- فضيلة الصدقة الجارية.

- أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءاً من ريع الموقوف، لأن عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف ولم يستثن.

ص: 725

927 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: - بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى اَلصَّدَقَةِ .. - اَلْحَدِيثَ، وَفِيهِ (وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ اِحْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

الحديث تقدم شرحه ولفظه كاملاً:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيراً فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَىَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا». ثُمَّ قَالَ «يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) متفق عليه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز وقف المنقولات، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: لا يصح وقفه.

وها قول أبي حنيفة.

لأن من شروط الوقف التأبيد، والمنقول لا يتأبد، لكونه قابلاً للفناء، فلا يجوز وقفه مقصوداً إلا إذا كان تابعاً للعقار.

القول الثاني: لا فرق بين العقار والمنقول في باب الوقف، والجميع يصح وقفه.

وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والمشهور في مذهب الحنابلة.

لحديث الباب.

قال الخطابي: وفي الحديث دليل على جواز إحباس آلات الحروب من الدروع والسيوف والحجف. وقد يدخل فيها الخيل والإبل لأنها كلها عتاد للجهاد. وعلى قياس ذلك الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها.

ب- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة) رواه البخاري.

قال ابن حجر: وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات، وأن الوقف لا يختص بالعقار، لعموم قوله: ما تركت بعد نفقة نسائي ....

ج- أن حقيقة الوقف: هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وهذا حاصل في المنقول، كما هو حاصل في العقار.

•‌

‌‌

‌ ما معنى قوله (

فَقَدْ اِحْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ)؟

قال النووي: قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْأَعْتَاد: آلَات الْحَرْب مِنْ السِّلَاح وَالدَّوَابّ وَغَيْرهَا.

وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ خَالِد زَكَاة أَعْتَادِهِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ، وَأَنَّ الزَّكَاة فِيهَا وَاجِبَة، فَقَالَ لَهُمْ: لَا زَكَاة لَكُمْ عَلَيَّ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَالِدًا مَنَعَ الزَّكَاة، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ; لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَوَقَفَهَا فِي سَبِيل اللَّه قَبْل الْحَوْل عَلَيْهَا، فَلَا زَكَاة فِيهَا.

وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد: لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاة لَأَعْطَاهَا وَلَمْ يَشِحَّ بِهَا; لِأَنَّهُ قَدْ وَقَف أَمْوَاله لِلَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّعًا فَكَيْف يَشِحّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؟ وَاسْتَنْبَطَ بَعْضهمْ مِنْ هَذَا وُجُوب زَكَاة التِّجَارَة، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف خِلَافًا لِدَاوُد.

ص: 726

•‌

‌ ما موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الثلاثة الذين منعوا الزكاة؟

في هذا الحديث أحوال ثلاثة من الصحابة:

الأول: ابن جميل.

فهذا منعها وقد ذمه رسول الله.

الثاني: خالد بن الوليد.

قال النبي: (فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدرعه

).

هذا الكلام يحتمل أحد أمرين كما تقدم:

أولاً: أنهم طلبوا من خالد زكاة اعتاده ظناً منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة فيها، لأنه أوقفها وحبسها في سبيل الله قبل الحول عليه.

ثانياً: يحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه الزكاة لأعطاها ولم يشح بها، لأنه وقف أمواله لله تعالى متبرعاً، فكيف يشح بواجب عليه؟

الثالث: عم النبي العباس، قال النبي فيه: فهي عليّ ومثلها. اختلف العلماء في ذلك:

جاء في رواية (فهي عليه ومثلها معها). فعلى هذه الرواية يكون النبي ألزمه بتضعيف صدقته، فالمعنى: فهي صدقة ثابتة عليه سيصدق بها ويضيف إليها مثلها كرماً.

وجاء في رواية كما في رواية الباب (فهي علي ومثلها) قال الشيخ ابن عثيمين: " المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن زكاته لكن ضاعفها، لأن الرجل من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فضاعف عليه الغرم، ونظير ذلك قول عمر حين ينهى الناس عن شيء يجمع أهله ويقول: إني نهيت الناس عن كذا وكذا فلا أرى أحداً منكم فعله إلا ضاعفت عليه العقوبة، وذلك لأن قريب السلطان قد يتجرأ على المعصية لقربه من السلطان ".

وقيل معنى (فهي عليّ) أي عندي قرض لأنني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه الترمذي من حديث علي وفي إسناده مقال أن النبي قال (إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين).

وهذا لو ثبت لكان رافعاً للإشكال.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة من ذوي الأموال.

- فضل عمر بن الخطاب حيث كان موضع الثقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- جواز شكاية من امتنع من دفعها وإن كبر مقامه.

- ذم من امتنع من دفع الزكاة.

- قبح من جحد نعمة الله عليه شرعاً وعقلاً.

ص: 727

‌بَابُ اَلْهِبَةِ

‌تعريفها:

قال ابن قدامة: تمليك في الحياة بلا عوض.

قولنا (تمليك) يخرج العارية، لأن العارية إباحة العين لا تمليكها، لأنه ينتفع بها ويردها.

وقولنا (في الحياة) هذا يخرج الوصية، لأن الوصية بعد الموت.

وقولنا (بلا عوض) وهذا يخرج البيع، لأنه تمليك بعوض معلوم.

قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بلا عوض، واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة.

وقال ابن حجر: والهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة هي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية هي ما يكرم به الموهوب له ومن خصها بالحياة أخرج الوصية، وهي أيضا تكون بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض. ا هـ.

فائدة: 1

‌والهبة من عقود التبرعات.

وهي العقود التي يقوم التمليك فيها على التبرع من غير مقابل؛ إذ إن أحد طرفي العقد فيها لا يطلب عوضا عما يدفعه إلى الطرف الآخر، ويقابلها عقود المعاوضات، وهذا من حيث الغرض من العقد.

فائدة: 2

‌اعلم أن تبرع الإنسان ماله لغيره بقع على أوجه:

أن يكون صدقة: وهي ما أريد بها ثواب الآخرة.

أن يكون هدية: وهي ما قصد بها التودد والتحبب للغير.

أن يكون هبة: وهي ما قصد بها مجرد النفع المحض. (والغالب تكون من الأعلى إلى الأدنى).

أن يكون عطية: وهي كالهبة، لكنها هي تكون في مرض الموت المخوف.

أن يكون وصية: هي التبرع بالمال بعد الموت.

أن يكون رشوة: وهي بذل المال للتوصل لأمر محرّم.

فائدة: 3

‌الفرق بين الهدية والصدقة.

أن من أعطى شيئاً ينوي به التقرب إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة، وإن حملت إلى المهدى إليه إكراماً وتودداً فهو هدية.

ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية، أو صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده فأكل معهم).

فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على الفرق بين الصدقة، والهدية، وأنهما متغايران، فمن أعطى للمحتاج شيئاً لوجه الله فهو صدقة، وإن حمل إلى المملك إكراماً وتودداً فهو هدية.

ص: 728

928 -

عَنْ اَلنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما (أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: - إِنِّي نَحَلْتُ اِبْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا"؟. فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَارْجِعْهُ).

وَفِي لَفْظٍ (فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي. فَقَالَ: "أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اِتَّقُوا اَللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ اَلصَّدَقَةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ (فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي) ثُمَّ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي اَلْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَلَا إِذًا).

===

(إِنِّي نَحَلْتُ اِبْنِي هَذَا) النِحلة بكسر النون: العطية بغير عوض.

(غُلَامًا كَانَ لِي) أي: رقيقاً.

(فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا) جاء في رواية (قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا) وفي رواية (فقال: أكلهم وهبت لهم مثل هذا؟ قال: لا).

(فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَارْجِعْه) أي: ارتجع الغلام، وقد جاء في رواية (فاردده) وفي رواية (لا تشهدني على جوْر) وفي رواية (فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جوْر) وفي رواية (فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) ولمسلم (اعدلوا بين أولادكم في النِّحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) ولأحمد (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن) ولأبي داود (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما لك عليهم من الحق أن يبروك).

قال الحافظ ابن حجر: واختلاف الألفاظ في هذه اللفظة الواحدة يرجع إلى معنى واحد.

(فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي) هذا للتوبيخ وليست للإباحة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: مشروعية العدل بين الأولاد [ذكوراً وإناثاً] في العطية، وهذا بالإجماع.

قال ابن قدامة: ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية وكراهة التفضيل.

•‌

‌ هل هذا واجب أم مستحب؟

واختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن المساواة واجبة في عطية الأولاد، ويحرم التفضيل.

فلا يجوز أن يعطي الولد دون البنت، أو البنت دون الولد، أو ولد دون ولد.

ص: 729

وهو مروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبه قال عبد الله بن شداد بن الهاد، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي، ومجاهد بن جبر، وعامر الشعبي، وطاووس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وهو رواية عن شريح، وسفيان الثوري.

وإليه ذهب الحنابلة، والظاهرية.

واختاره الشيخ المحدث أحمد بن عمر القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، والشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وابناه الشيخ حسين، والشيخ عبدالله، واختاره أيضاً الشيخ محمد بن علي الشوكاني، والشيخ صديق حسن خان (5) ·

قال الشوكاني: وبه صرح البخاري، وهو قول طاووس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية.

أ-لحديث الباب (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

وجه الدلالة من وجوه:

الأول: أمره بالعدل والأمر يقتضي الوجوب.

الثاني: بيانه أن تفضيل أحدهم أو تخصيصه دون الباقين ظلم وجور، إضافة إلى امتناعه عن الشهادة عليه وأمره برده وهذا كله يدل على تحريم التفضيل.

ب- واستدلوا أيضا بحجج عقلية فمنها: ما ذكره ابن حجر في (فتح الباري) حيث قال رحمه الله: ومن حجة من أوجب: أن هذا مقدمة الواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فما يؤدي إليهما يكون محرما والتفضيل مما يؤدي إلى ذلك ".

ويؤيد ذلك ما جاء في لفظ عند مسلم (قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ثُمَّ قَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً قَالَ بَلَى قَالَ فَلَا إِذًا).

ومنها: أن تفضيل بعضهم على بعض يورث العداوة والبغضاء فيما بينهم، وأيضاً فيما بينهم وبين أبيهم فمنع منه.

القول الثاني: أن التسوية مستحبة لا واجبة.

وهذا مذهب الجمهور.

وعلى هذا القول: فلو أعطى ولداً ولم يعط الآخر، فلا يحرم، وإذا أعطى ولداً دون بنت، فلا يحرم.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم (سووا بينهم).

وحملوا الأمر في حديث الباب على الاستحباب.

•‌

‌ بماذا أجابوا عن حديث الباب؟

أجابوا عن حديث الباب بأجوبة كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري:

منها: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، حكاه ابن عبد البر.

وتعقب:

بأن كثيراً من طرق الحديث مصرحة بالبعضية، كما في حديث الباب (تصدق علي أبي ببعض ماله).

ومنها: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا يفعل فترك. وتعقب:

بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالتنجيز.

ص: 730

ومنها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري) إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يحكم.

وتعقب:

أن الإذن المذكور المراد به التوبيخ، لما تدل عليه بقية الروايات.

وغيرها من الأجوبة الضعيفة.

والراجح القول الأول.

•‌

‌ ما كيفية التسوية بين الأولاد؟

اختلف العلماء في كيفية التسوية على قولين:

القول الأول: يعطي الأنثى قدر الذكر.

فإذا أعطى الذكر [10] يعطي الأنثى [10].

وهذا مذهب الأكثر.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (سوِّ بينهم)، وعلل ذلك بقوله (أيسرك أن يستووا في برك؟ قال: نعم، قال: فسوِّ بينهم). والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها.

لقوله صلى الله عليه وسلم (سووا بينهم).

القول الثاني: أن العدل أن يعطون على قدر ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.

ورجح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). قالوا: ولا أحد أعدل من الله، حيث قال (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن).

ولأن حاجة الأنثى ليست كحاجة الذكر.

قال ابن قدامة رحمه الله: إذا ثبت هذا، فالتسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين.

وبهذا قال عطاء، وشريح، وإسحاق، ومحمد بن الحسن. قال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه وقال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى.

ثم قال: ولنا: أن الله تعالى قسم بينهم، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وأولى ما اقتدى بقسمة الله، ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر منها مثل حظ الأنثيين، كحالة الموت، يعني الميراث .... (المغني)

قال ابن تيمية: ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم. وهو مذهب أحمد.

وهذا القول هو الراجح.

فإذا أعطى الذكر [10] أعطى الأنثى [5].

ص: 731

•‌

‌ ما الحكم إن فضل أو خص بعض الأولاد على بعض؟

إن فضل أو خص بعض الأولاد على بعض سوى بينهم.

التفضيل: أن يعطي بعضهم [100] والآخر يعطيه [50].

التخصيص: أن يعطي أحدهم [100] والآخر لا يعطه شيئاً، فهنا يجب التعديل.

فإذا أعطى أحدهم [100] والآخر [50] فيجب التعديل، ويكون كالتالي:

أولاً: أن يأخذ من صاحب المائة خمسين.

ثانياً: أن يعطي صاحب الخمسين خمسين أخرى.

ثالثاً: أن يأخذ من صاحب المائة خمس وعشرين يضعها على الناقص، فيكون نصيب كل واحد منهم خمس وسبعون.

قال ابن قدامة: يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها: أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فَضَّل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر، قال طاوس: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد، وعروة.

•‌

‌ ما الحكم إن مات الوالد قبل التسوية؟

قيل: تثبت الزيادة للمزيد، ولا يلزمه أن يرد الزائد في التركة.

قالوا: لأن المطالب بالرجوع الأب وقد مات.

وقيل: إنه إذا مات وجب على المفضّل أن يرد ما فضل به في التركة، فإن لم يفعل خصم من نصيبه.

وهذا الصحيح.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله ( ..... بين أولادكم)؟

نستفيد أن العدل بين الأقارب غير واجب.

•‌

‌ هل الأم كالأب في التسوية بين أولادها في العطية؟

نعم، فيجب عليها العدل في العطية لأولادها.

قال ابن قدامة: وَالأُمُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الأَوْلادِ كَالأب، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (اتَّقُوا اللَّهِ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ).

وَلأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَمُنِعَتْ التَّفْضِيلَ كَالأَبِ.

وَلأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِتَخْصِيصِ الأَبِ بَعْضَ وَلَدِهِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي تَخْصِيصِ الأُمِّ بَعْضَ وَلَدِهَا، فَثَبَتَ لَهَا مِثْلُ حُكْمِهِ فِي ذَلِك. (المغني).

•‌

‌ متى يجوز التفضيل؟

ذهب بعض العلماء إلى ن التفضيل إذا كان لسبب شرعي، فإنه يجوز.

واختار هذا القول ابن قدامة، وابن تيمية.

ص: 732

واستدل هؤلاء بما رواه مالك في الموطأ بسنده عن عائشة رضي الله عنهما الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا أَبَتِ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنْ الأُخْرَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَة). قال ابن حجر في الفتح (5/ 215) إسناده صحيح.

ووجه الدلالة منه ما ذكره ابن قدامة: " يحتمل أن أبابكر خصها بعطية لحاجتها وعجزها عن الكسب، مع اختصاصها بالفضل وكونها أم المؤمنين وغير ذلك من فضائلها.

وقال ابن عثيمين: الزواج من النفقة فمن احتاجه من الأولاد قام الوالد بحاجته فيه، ومن لم يحتجه فإنه لا يجوز له أن يعطيه شيئا، وعلى هذا فإذا كان للإنسان ثلاثة أبناء وزوج اثنين منهم في حياته، وبقي الصغير لم يصل إلى حد الزواج، ثم إن هذا الأب أوصى للصغير بمقدار المهر الذي أعطاه أخويه، فإن ذلك حرام، والوصية باطلة، فإذا مات فإن هذه الوصية ترد في التركة، إلا أن يسمح عنه بقية الورثة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث).

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- ينبغي أن يصدر المفتي ترغيبه أو ترهيبه بتقوى الله.

- أن من تقوى الله العدل بين الأولاد.

- وجوب تقوى الله في كل شيء.

- لا يجوز الإشهاد على المحرم.

- وجوب إنكار المنكر.

- سماحة الشريعة الإسلامية وحرصها على العدل وعدم الظلم.

- أن الشريعة جاءت بسد كل طريق يؤدي إلى التشاحن والتباغض.

- لا يجب العدل بين الأقارب.

ص: 733

929 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اَلْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ اَلسَّوْءِ، اَلَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ).

===

(اَلْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ) أي: الراجع في هبته التي أعطاها وأقبضها للموهوب له. (وهذا هو المشبه)

(كَالْكَلْبِ يَقِيءُ) هذا هو المشبه به، والقيء: إخراج ما بداخله.

(ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) أي: ثم يعود فيما تقيأه فيأكله. الغرض من هذا التشبيه: هو تقبيح حال المشبّه والتنفير منه، هنا وقع التقبيح من وجهين:

أولاً: التشبيه بالكلب.

ثانياً: التشبيه بالكلب الذي يقي ثم يعود في قيئه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم الرجوع في الهبة بعد قبضها.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: تحريم الرجوع في الهبة.

وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

قال ابن حجر: بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء.

أ-لحديث الباب (اَلْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) واستثنوا الوالد كما سيأتي.

قال الحافظ ابن حجر عن ترجمة البخاري: باب لا يحل لأحدٍ أن يرجع في هبته وصدقته، ثم ذكر البخاري حديث الباب (العائد في هبته

).

قال الحافظ: كذا بت الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده.

وقال أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم (ليس لنا مثل السوء) أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم مما لو قال مثلا: لا تعودوا في الهبة.

وقال النووي: هَذَا ظَاهِر فِي تَحْرِيم الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَالصَّدَقَة بَعْد إِقْبَاضهمَا. (شرح مسلم).

فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته في أقبح صورة، فإن الكلب من أخبث الحيوانات، ثم إن هذه الصورة من أبشع الصور، أن يقيء ثم يعود في قيئه.

ب- ولحديث ابن عمر وابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أبو داود.

القول الثاني: جواز الرجوع في الهبة.

وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول ضعيف.

ص: 734

•‌

‌ متى يحرم الرجوع في الهبة؟

تحريم الرجوع في الهبة محمول على الهبة التي تم قبضها من المتهب، قالوا: لأن القيء في الحديث بمنزلة إقباض الهبة.

أما إذا لم تقبض فإنها تكون غير لازمة، لكن الحنابلة يرون كراهة الرجوع ولو كانت لم تقبض، وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى تحريم الرجوع في الهبة ولو لم تقبض، لان هذا من إخلاف الوعد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (آية المنافق ثلاث: وإذا وعد أخلف .. ) فدل هذا على إن إخلاف الوعد حرام.

•‌

‌ ويستدل على جواز الرجوع قبل القبض؟

أ- ما ورد عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم صلى الله عليه وسلم.

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) والرجوع في الموهوب إنما يكون في حق الأعيان دون الأقوال، والهبة قبل القبض رجوع في قول فلا يدخل في هذا الحديث؛ لأن عقد الهبة لم يتم.

ج-ويمكن أن يستدل لذلك أيضاً: بأن عقد الهبة من عقد التبرعات التي لا تلزم باتفاق، وإلزام المتبرع بقوله الصادر منه مصير إلى اللزوم دون حاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن مجرد القول لم يترتب عليه استحقاق أو ظلم، وإنما هو مجرد وعد.

•‌

‌ من يستثنى من ذلك؟

الوالد، فإنه يجوز له أن يرجع في الهبة.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث ابن عباس - وسيأتي إن شاء الله - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أبو داود.

•‌

‌ هل تصح هبة المعدوم؟

جمهور العلماء على عدم الجواز.

قال ابن قدامة: ولا تصح هبة المعدوم، كالذي تثمر شجرته، أو تحمل أمته، لأن الهبة عقد تمليك لم تصح في هذا كله كالبيع.

وذهب بعض العلماء إلى جواز ذلك، واختاره ابن تيمية.

لأن الهبة من عقود التبرعات لا من عقود المعاوضات، فيتوسع فيها ما لا يتوسع في عقود المعاوضات.

وهذا الراجح.

•‌

‌ هل يجوز للأب أن يتملك من مال ولده؟

نعم، يجوز للأب أن يتملك من مال ابنه ما شاء.

لقوله صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك).

•‌

‌ لكن لتملك الأب من مال ولده شروط

هي:

الأول: أن لا يضر الولد.

لحديث (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه.

فلو كان الابن ليس عنده إلا سيارة يركبها، أو بيت يسكنه مثلاً، فليس للأب أن يتملكها، ويترك ولده بدون سيارة لحديث (لا ضرر ولا ضرار).

الثاني: أن لا يكون وسيلة للتفضيل.

فإذا كان الأب يمنع أن يخصص أحد أولاده من ماله، فكذلك يمنع كونه يتملكه من ابنه زيد ويعطيه عمراً، فهذا ممنوع من باب أولى.

الثالث: أن لا يكون في مرض أحدهما المخوف.

لأن الإنسان إذا مرض مرضاً مخوفاً لا يملك من ماله إلا الثلث، فهذا هو الذي يملك أن يتبرع به، وعلى هذا إذا مرض الأب مرضاً مخوفاً فليس له أن يتملك الآن، كذلك الابن إذا مرض مرضاً مخوفاً فليس للأب أن يتملك، لأننا لو قلنا يتملك، لكان تملك مال غيره، لأن هذا المال للورثة لانعقاد سبب الإرث.

ص: 735

930 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ اَلْعَطِيَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا; إِلَّا اَلْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ" - رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: جواز رجوع الوالد في هبته لولده.

•‌

‌ ما حكم رجوعه إذا كان رجوعه يؤدي إلى التفضيل؟

حرام.

مثال: أعطى أولاده كل واحد ألف ريال، ثم رجع إلى واحد منهم وأخذ الألف، فهذا رجوع في الهبة، لكن يترتب عليه التفضيل، فهذا الرجوع حرام لأنه يؤدي إلى محذور.

•‌

‌ اذكر شروط رجوع الوالد في هبته؟

يشترط لرجوعه شروطاً:

الشرط الأول: أن لا يسقط حقه من الرجوع.

كما لو قال: وهبتك هذه السيارة ولن أرجع فيها.

الشرط الثاني: أن تكون الهبة باقية في ملك الابن.

فلو أن الأب وهب ابنه سيارة، ثم الابن وهبها أو باعها، فالأب في هذه الحالة لا يملك الرجوع، لأنه يلزم من رجوعه إبطال حق الغير.

الشرط الثالث: ألا يكون ما وهبه له نفقة: فلو أعطاه (100) ليشتري ثوباً، فهنا ليس للأب أن يرجع في هبته، لأنه رجوع في أمر واجب.

الشرط الرابع: ألا يتعلق بها حق الغير كما لو رهنها.

الشرط الخامس: ألا يتعلق بها رغبة الغير للولد.

مثال: وهب الأب ابنه ألف ريال، فرغب بعض الناس بهذا الولد فزوجوه مثلاً أو أصبح يجد من يقرضه، فهل للأب أن يرجع أم لا؟ فيه خلاف:

قيل: ليس له أن يرجع.

لأنه تعلق به حق لغير الابن، لما في ذلك من الإضرار بالناس، لأن الناس ربما يكونوا قد أقرضوه أو بايعوه.

وقيل: للأب أن يرجع.

لعموم حديث الباب.

وقيل: ليس له أن يرجع بقدر الرغبة، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

وهذا اختيار ابن تيمية .... (مسائل مهمة في الهبة والهدية).

ص: 736

•‌

‌ هل الرجوع في الهبة خاصة بالأب، أم يجوز للأم أيضاً؟

المشهور من المذهب أن الرجوع في الهبة جائز للأب خاصة دون الأم.

لأن الأب هو الذي يتملك من مال ولده دون الأم.

وذهب بعض العلماء إلى العموم، وقالوا: لا فرق بين الأب والأم في جواز الرجوع.

أ-واستدلوا بعموم الأدلة كقوله (إلا الوالد فيما يعطي ولده).

ب-وكقوله صلى الله عليه وسلم (واعدلوا بين أولادكم) فيدخل فيه الأم، فإنها مأمورة بالتسوية والعدل، والرجوع في الهبة طريق التسوية.

ج-ولأنها دخلت في المعنى في حديث بشير فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (فأرجعه) أي: أن الهبة المذكورة كانت بمشورة من والدة النعمان كما سبق.

د- أنها لما ساوت الأب في تحريم التفضيل، وكلهم والد فيه البعضية وفضل الحنو فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع تخليصا لها من الإثم، وإزالته للتفضيل المحرم.

•‌

‌ ما حكم هبة المجهول؟

مثال: لو وهبت لشخص حمل في بطن، أو طيراً في هواء.

قيل: لا يجوز.

لأنه غرر.

وقيل: يجوز.

وهذا الصحيح.

لأنه لا يترتب عليه شيء، ولا ضرر، لأنه إما غانم أو سالم.

ص: 737

931 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ اَلْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.

932 -

وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: " رَضِيتَ"؟ قَالَ: لَا. فَزَادَهُ، فَقَالَ: "رَضِيتَ"؟ قَالَ: لَا. فَزَادَهُ. قَالَ: "رَضِيتَ"؟ قَالَ: نَعَمْ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: مشروعية قبول الهدية وعدم ردها إلا لعذر شرعي. لأمرين:

الأمر الأول: أن قبول الهدية هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: أن في قبولها فوائد متعددة منها: إرضاء المهدي، وجبر خاطره، وتقديراً لهديته، والنظر إليها بعين الاعتبار، ولأن في ردها: مخالفة للسنة، وفيه كسر لقلب المهدي وإساءة إليه.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لَو دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبتُ، وَلَو أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) رواه البخاري.

وَالْكُرَاع مِنْ الدَّابَّة مَا دُون الْكَعْب.

قَالَ اِبْن بَطَّال: هذا حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدي، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك.

وقال النووي: واختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب؟ على ثلاثة مذاهب والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحب.

قال ابن حجر: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ

وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى الْمُوَاصَلَةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لِمَا قَلَّ أَوْ كثر وَقبُول الْهَدِيَّة كَذَلِك .... (الفتح)

بل كان قبول الهدية إحدى علامات نبوته لدى أهل الكتب السابقة، حتى عرفه بها سلمان الفارسي رضي الله عنه في قصة إسلامه، كما في مسند أحمد.

وقد أهدت أم الفضل للنبي صلى الله عليه وسلم شربة لبن فقبلها. كما في البخاري ومسلم.

وأهدى له أبو طلحة ورك أرنب فقبله. رواه البخاري ومسلم.

ولا تكاد تحصى المواقف التي قبل النبي صلى الله عليه وسلم فيها هدايا الناس ولو صغرت.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) متفق عليه. فرسن الشاة: حافرها.

قال ابن حجر: وقال الكرماني: يحتمل أن يكون النهي للمعطية، ويحتمل أن يكون للمُهدَى إليها، قلت (أي ابن حجر): ولا يتم حمله على المهدى إليها إلا بجعل اللام في قوله (لجارتها) بمعنى مِنْ، ولا يمتنع حمله على المعنيين.

بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن رد الهدية:

فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ، وَلا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ) رواه أحمد.

قال ابن حبان (روضة العقلاء) زجر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر عن ترك قبول الهدايا بين المسلمين، فالواجب على المرء إذا أهديت إليه هدية أن يقبلها ولا يردها، ثم يثيب عليها إذا قدر، ويشكر عنها.

ص: 738

•‌

‌ ماذا يشترط لقبول الهدية؟

يشترط شروطاً:

أولاً: ألا يكون أهدى له حياء وخجلاً.

فإذا علم أنه وهب له حياء وخجلاً فلا يجوز له أن يقبلها.

ثانياً: ألا يتضمن محذوراً شرعياً.

كما لو وقعت موقع الرشوة، أو السكوت عن حق أو الدفاع عن باطل.

ثالثاً: ألا تكون محرمه (لعينها) مثل: الخنزير، والميتة، والدم (أو لحق الغير) مثل: المغصوب، والمسروق، والمختلس.

•‌

‌ أما المحرم لكسبه فإنه يجوز قبولها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية اليهودية، مع أن اليهود كانوا يتعاملون بالربا.

قال الشيخ ابن عثيمين: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع اليهود بالبيع و الشراء، ويقبل منهم الهدية مع أنهم يتعاملون بالربا.

قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِل).

ومع ذلك قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم هديّتهم. قَبِل هدية المرأة التي أهدت الشاة بخيبر وعاملهم ومات ودرعه مرهونة عند يهودي.

والقاعدة في هذا: أن ما حَرُمَ لكسبه فهو حرام على الكاسب فقط، دون من أخذه منه بطريق مباح، فعلى هذا يجوز قبل الهدية ممن يتعامل بالربا وأيضاً يجوز معه البيع والشراء إلا إذا كان في هجره مصلحة، يعني في عدم معاملته وعدم قبول هديته مصلحة فنعم. فنتبع هذا ابتغاء للمصلحة، أما ما حرم لعينه فهو حرام على الآخذ وغيره، فالخمر مثلاً لو أهداه إليّ يهودي مثلاً أو نصراني ممن يرون إباحة الخمر فلا يجوز لي قبوله لأنه حرام لعينه ولو أن إنساناً سرق مال شخص وجاء إليّ فأعطاني إياه، فهذا المال المسروق يحرم عليّ أخذه لأنه حرام لعينه.

هذه القاعدة تريحك من إشكالات كثيرة، ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب دون من أخذه بطريق الحلال إلا إذا كان في هجره وعدم الأخذ منه وعدم قبول هديّته وعدم المبايعة معه والشراء مصلحة تردعه عن هذا العمل فهذا يهجر من أجل المصلحة.

•‌

‌ ما حكم الهدية؟

حكمها بالنسبة للمهدي مستحبة.

لقوله تعالى (إن الله يحب المحسنين).

وقال صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد.

وقال صلى الله عليه وسلم (لو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) متفق عليه.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قولها (وَيُثِيبُ عَلَيْهَا)؟

نستفيد: استحباب الإثابة على الهدية.

ص: 739

933 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وَلِمُسْلِمٍ: (أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَياً وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ).

وَفِي لَفْظٍ: (إِنَّمَا اَلْعُمْرَى اَلَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا).

وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ (لَا تُرْقِبُوا، وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ).

===

•‌

‌ عرف العمرى؟

العمرى: هي أن يهب الإنسان لشخص شيئاً مدة عمره.

مثال: أن يقول لشخص: أعرتك داري تسكنها مدة حياتي، أو مدة حياتك.

وسميت بذلك: لأنها معلقة بالعمر، وكذا قيل لها، رقبى، لأن كلاً منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه.

•‌

‌ ما حكم العمرى؟

جائزة.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-لحديث جابر قال (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى، أنها لمن وهبت له) متفق عليه.

ب-ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (العمرى جائزة) رواه مسلم.

القول الثاني: عدم جوازها.

وهو قول بعض العلماء.

أ- لحديث الباب (أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَياً وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ).

ب- لحديث الباب (لَا تُرْقِبُوا، وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ).

والصحيح مذهب الجمهور.

•‌

‌ ما الجواب عن أحاديث القول الثاني؟

التخفيف في العمرى.

أو نقض ما كان عليه أهل الجاهلية من رد العُمَر. ففي الجاهلية: إذا أعمر الرجل الرجل داره، يعطونه مدة حياة العمر، فإذا مات رجع في عطيته.

•‌

‌ ما صور العمرى:

الصورة الأولى: أن يصرح بأنه لها ولعقبه.

فيقول: أعرتك هذا البيت لك ولعقبك.

ففي هذه الصورة تكون للمعمر ولعقبه، يجري فيها الميراث.

ص: 740

الصورة الثانية: أن يطلق فيقول: أعمرتك هذا البيت.

جمهور العلماء على أنها تكون للمعمَر ولعقبه، كالصورة الأولى، فلا ترجع إلى المعمِر.

لحديث جابر.

وهذا هو الموافق للقواعد العامة.

الصورة الثالثة: أن يشترط فيقول: هي لك ما عشت، وليس لعقبك منها شيء، أو قال: فإذا مت فهي لي.

فهذه اختلف العلماء فيها:

قيل: يصح الشرط.

وهذا قول مالك، وداود، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجحه ابن عثيمين.

لحديث (المسلمون على شروطهم).

وقيل: الشرط لاغ وفاسد، ولا ترجع للواهب.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة، منهم: إسحاق، وأبو ثور.

لحديث جابر.

وأما الشرط فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله

).

والراجح الأول.

•‌

‌ ماذا يشترط لصحة العمرى:

أولاً: أن يكون الموهوب ملكاً للمعمِر.

ثانياً: وجود الإيجاب والقبول.

أن يقول: أعمرتك داري تسكنها مدة حياتي، فقال: قبلت.

ثالثاً: أن يحصل القبض للمعمَر، لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض.

ص: 741

934 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: " لَا تَبْتَعْهُ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ

) اَلْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

(حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) قال القرطبي: يعني أنه تصدق به على رجل ليجاهد عليه، ويتملكه لا على وجه الحبس، إذ لو كان كذلك لما جاز له أن يبيعه، وقد وجده عمر في السوق يباع، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك) فدل على أنه ملّكه إياه على جهة الصدقة ليجاهد عليه في سبيل الله.

(فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ) معنى إضاعته له، أنه لم يحسن القيام عليه، وقصّر في مؤونته وخدمته، وقد جاء في رواية (فوجده عند صاحبه، وقد أضاعه، وكان قليل المال).

(فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ) أي: بثمن قليل.

قال القرطبي: إنما ظن ذلك، لأنه هو الذي كان أعطاه إياه، فتعلق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن، وحينئذ يكون رجوعاً في عين ما تصدق به في سبيل الله، ولما فهِم النبي صلى الله عليه وسلم هذا نهاه عن ابتياعه، وسمى ذلك عوْداً، فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك.

(لَا تَبْتَعْهُ) وفي الرواية الثانية (لا تشتره) وفي الرواية التالية (ولا تعد في صدقتك).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم رجوع الإنسان في صدقته.

أ- لحديث الباب.

ب- ولحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (مثَل الذي يرجِع في صدقته، كمثَل الكلب يقيء، ثم يعود في قَيئه فيأكله).

ج-قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال (مَنْ وهب هِبةً لصلة رحِم أو على وجه صدقة، فإنَّه لا يرجع فيها).

د-أنها خرجت عن مِلكه على طريق الثواب وابتغاء وجه الله تعالى، ولا يصلح الرُّجوع عن ذلك

•‌

‌ متى يجوز الرجوع في الصدقة؟

إذا لم يقبضها الفقير.

فلا حرج من الرجوع في الصدقة قبل أن يقبضها الفقير بنفسه أو عن طريق وكيله؛ لأن الفقير لا يملك الصدقة إلا إذا قبضها، فإذا لم يقبضها فلا تزال على ملك صاحبها.

لقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ص: 742

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسيره: ومن فوائد الآية: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ).

وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: (لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إِلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى إِلَّا هَدِيَّتِي مَرْدُودَةً عَلَيَّ فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ

) قال الحافظ في فتح الباري: إسناده حسن.

قال في "دقائق أولي النهى" ومن ميز شيئاً للصدقة به أو وكل فيه ثم بدا له أن لا يتصدق به سن له إمضاؤه مخالفة للنفس والشياطين، ولا يجب عليه إمضاؤه; لأنها لا تملك قبل القبض" انتهى.

وهذا قول أكثر الفقهاء.

أما بعد قبضها بنفسه أو عن طريق وكيله، فلا يجوز الرجوع فيها باتفاق أهل العلم رحمهم الله.

لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِه) وفي لفظ (الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ).

وروى مالك في الموطأ: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها

) وصحح إسناده الشيخ الألباني.

وقد بوب البخاري في صحيحه باب: (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته).

قال الحافظ ابن حجر:

وأما الصدقة، فاتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض.

ص: 743

935 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَهَادُوْا تَحَابُّوا). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ فِي " اَلْأَدَبِ اَلْمُفْرَدِ " وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَن.

936 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَهَادَوْا، فَإِنَّ اَلْهَدِيَّةَ تَسُلُّ اَلسَّخِيمَةَ) رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيف.

937 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا نِسَاءَ اَلْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

===

•‌

‌ ماذا نستفيد من هذه الأحاديث؟

نستفيد: جواز واستحباب الهبة والهدية.

قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرا، وفيه استحباب المودة وإسقاط التكليف.

وقد جاءت الأدلة على مشروعيتها:

قال تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحلَة فَإِنْ طِبنَ لَكُمْ عَنْ شَيء مِّنهُ نَفسا فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً).

قال الطبري في معنى الآية: إن وهب لكم أيها الرجال، نساؤكم شيئاً من صدقاتهن، طيبة بذلك أنفسهن، فكلوه هنيئاً مريئاً.

وأحاديث الباب:

(تهادوا تحابوا).

(يَا نِسَاءَ اَلْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ).

قال ابن بطال: قال المهلب: فيه الحض على التهادي والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء، واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهل على المهدى لإطراح التكليف.

ولما في التهادي من استعمال الكرم وإزالة الشح عن النفس، وإدخال السرور على قلب الموهوب له، وإيراث المودة والمحبة بينهما، وإزالة الضغينة والحسد.

•‌

‌ هل قول: الهدية لا تهدى ولا تباع صحيحة؟

ليست صحيحة، ومخالفة للشرع، بل من تملَّك هدية بطريق شرعي فإن له الحق في التصرف بها بيعاً وإجارة وإهداءً ووقفاً، ولا حرج عليه في ذلك، ومن منع شيئاً من ذلك لم يُصب، وقد جاء في السنَّة النبوية الصحيحة ما يدل على هذا.

عن عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ (شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِم). رواه البخاري ومسلم. (أُكَيْدِرَ دُومَةَ) هو أكيدر بن عبد الملك الكندي، واختلف في إسلامه والأكثر على أنه لم يُسلم.

(الخُمُر) جمع خمار، (الفواطم) هن ثلاث: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد، وهي أم علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.

ص: 744

وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أهدى ما أُهدي إليه، وعليه: فهو يدل على بطلان من منع من إهداء الهدية.

وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قَالَ (أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْجُبَّةِ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَك) متفق عليه.

وفي الحديث نصٌّ على جواز بيع الهدية، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في الهدية التي أهداه إياها: تبيعها.

وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: بِعْنِيهِ. فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْت) رواه البخاري.

(بَكر): ولد الناقة أول ما يُركب، (صعب) كثير النفور.

فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: (هُوَ لَكَ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ) يدل على أن من أهدي إليه شيء فقد صار ملكاً له، يتصرف فيه كما يشاء، بالبيع أو الهدية أو غير ذلك.

ص: 745

938 -

وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ وَهَبَ هِبَةً، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا) رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ اِبْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَوْلُه.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الصحيح أنه موقوف على عمر من قوله.

•‌

‌ ماذا نستفيد الحديث؟

نستفيد: أن من وهب هبة يريد بها العوض فإنه لابد من العوض أو ترد الهبة إليه، ويسمى هذا النوع من الهبة: هبة الثواب.

•‌

‌ ما هي هب الثواب؟

هي الهبة يدفعها الرجل يلتمس أفضل منها.

•‌

‌ هل يجوز الرجوع فيها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز للواهب أن يرجع بهبته إذا لم يعوّض.

القول الثاني: أنه لا يجوز الرجوع مطلقاً.

وهذا مذهب الشافعي، وأحمد.

للأدلة التي تقدمت في تحريم الرجوع بالهبة.

ص: 746

‌بَابُ اَللُّقَطَةِ

اللقطة هي: هي المال يوجد بالطريق ونحوه لا يعرف صاحبه.

وشرعاً: مال ضل عن صاحبه.

939 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: (مَرَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي اَلطَّرِيقِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

940 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ اَلْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: اِعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا.

قَالَ: فَضَالَّةُ اَلْغَنَمِ.

قَالَ: هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ.

قَالَ: فَضَالَّةُ اَلْإِبِلِ.

قَالَ: " مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ اَلْمَاءَ، وَتَأْكُلُ اَلشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) متفق عليه.

941 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا) رَوَاهُ مُسْلِم.

===

(عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ اَلْجُهَنِيِّ) الصحابي المشهور.

(فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ) ووقع في رواية البخاري (فسأله عما يلتقطه).

(اعْرِفْ عِفَاصَهَا) بكسر العين، والعفاص الوعاء الذي تكون فيه النفقة.

(وَوِكَاءَهَا) الوِكاء هو الخيط الذي يشد به العفاص.

(ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً) هذا أمر بالتعريف، وسيأتي تعريفه إن شاء الله.

(فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) جاء في رواية (فأدِّها إليه) وذلك بعد معرفة صفاتها.

(وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا) أي: وإن لم يأت صاحبها فتصرف فيها.

(قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ) أي: ما حكمها؟ الضالة: أكثر ما يطلق على الحيوان، والضال: المال الضائع.

(قَالَ: لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) أو هنا للتقسيم والتنويع، أي أن الشاة لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة، فهي إما لك: أيها المخاطب تأخذها وتنتفع بها. أو لأخيك: المراد أخوة الدين.

(قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ) أي ما حكمها؟

(قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا) هذا استفهام إنكاري، والمعنى: مالك ولها، لماذا تأخذها والحال أنها مستقلة بأسباب تمنعها من الهلاك، بدليل قوله (معها سقاؤها وحذاؤها

). ويدل على أن هذا الاستفهام إنكاري ما جاء في رواية (

فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجنتاه أو احمر وجهه فقال: مالك ولها)، وفي رواية للبخاري (فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم.

(مَعَهَا سِقَاؤُهَا) السقاء هو جوفها الذي يحمل الماء.

(وَحِذَاؤُهَا) الحذاء هو خفها.

ص: 747

قال العلماء: وفي هذا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإبل غير محتاجة إلى الحفظ بما ركب الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشيء.

(حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) أي صاحبها الذي أضلها.

•‌

‌ اللقطة من حيث الالتقاط على ثلاثة أضرب اذكرها؟

اللقطة باعتبار الشيء الملقوط هل يملك أو لا؟ وهل يُعرّف أو لا؟ ثلاثة اضرب؟

الضرب الأول: ما تقل قيمتُه ولا تتبعه همة أوساط الناس، كالسوط والرغيف والقلم إذا كان رخيصاً كقلم الرصاص ونحوهمِا، فيُملك بلا تعريف.

فهذا النوع يملك بلا تعريف، أي يملكه واجده بمجرد التقاطه، ويباح له الانتفاع به، ولا يحتاج إلى تعريف.

لحديث - الباب - أنس (مَرَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي اَلطَّرِيقِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا).

فهذا دليل على أن التمرة ونحوها مما لا تتبعه همة أوساط الناس، إذا وجدها الإنسان ملقاة في الطريق يأخذها ويأكلها إن شاء، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً، خشية أن تكون من الصدقة التي حرمت، لا لكونها مرمية في الطريق فقط، مما يدل على أنه ليس لها حكم اللقطة.

قال الحافظ ابن حجر: قوله (لأكلتها) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها مرمية في الطريق فقط، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفاً، فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف.

قال الصنعاني رحمه الله في "سبل السلام": دل الحديث على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به، ولا يجب التعريف به، وأن الآخذ يملكه بمجرد الأخذ له.

قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير والانتفاع به.

• لكن يشترط في هذا القسم أن لا يكون عالماً بصاحبه.

الضرب الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل، فلا تملك بالالتقاط مطلقاً.

فهذا يحرم التقاطه، ولا يملك بالتعريف.

صغار السباع: كالذئب والثعلب ونحوها.

والذي يمتنع من صغار السباع: إما لضخامته (كالإبل، والخيل، والبقر، والبغال)، وإما لطيرانه (كالطيور)، وإما لسرعة عدوها (كالظباء)، وإما لدفعها عن نفسها بنابها (كالفهد).

والدليل على تحريم أخذه حديث زيد بن خالد (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ضالة الإبل؟ فقال: مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها).

ص: 748

• يستثنى من ذلك ما إذا وجد الضالة في مهلكة لا ماء فيها ولا مرعى أو أرض مسبغة، أو قريباً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها، فإنه يردها أو يأخذها بقصد الإنقاذ لا الالتقاط، ولا ضمان عليه، لأن فيه إنقاذها من الهلاك، أشبه تخليصها من حريق ونحوه.

الضرب الثالث: بقية الأموال (كذهب ودراهم وأثاث ومتاع)، وما لا تمتنع من صغار السباع كالشاة ونحوها.

فهذا القسم يجوز التقاطه.

قال النووي: قَوْله: (فَضَالَّة الْغَنَم، قَالَ: لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ) مَعْنَاهُ الْإِذْن فِي أَخْذهَا، بِخِلَافِ الْإِبِل. وَفَرَّقَ صلى الله عليه وسلم بَيْنهمَا، وَبَيَّنَ الْفَرْق بِأَنَّ الْإِبِل مُسْتَغْنِيَة عَنْ مَنْ يَحْفَظهَا لِاسْتِقْلَالِهَا بِحِذَائِهَا وَسِقَائِهَا وَوُرُودهَا الْمَاء وَالشَّجَر، وَامْتِنَاعهَا مِنْ الذِّئَاب وَغَيْرهَا مِنْ صِغَار السِّبَاع، وَالْغَنَم بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَك أَنْ تَأْخُذهَا أَنْتَ أَوْ صَاحِبهَا، أَوْ أَخُوك الْمُسْلِم الَّذِي يَمُرّ بِهَا أَوْ الذِّئْب فَلِهَذَا جَازَ أَخْذهَا دُون الْإِبِل.

وقال في الفتح: قوله (لَك أَوْ لِأَخِيك .... ) فيه إشارة إلى جواز أخذها كأنه قال هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيه حث له على أخذها، لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها، ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة كما سيأتي بعد أبواب (فقال خذها فإنما هي لك الخ) وهو صريح في الأمر بالأخذ.

- إذا كانت اللقطة حيواناً مأكولة اللحم كالشاة.

فإنه يخير في الشاة بين ذبحها وعليه القيمة، أو بيعها ويحفظ ثمنها أو ينفق عليها من ماله بنية الرجوع.

فإن كانت اللقطة مما يخشى فساده. (كأن يجد كراتين موز).

فله بيعه وحفظ ثمنه، أو أكله بقيمته، أو تجفيف ما يمكن تجفيفه.

•‌

‌ ما حكم التقاط ضالة الإبل؟

حرام.

لحديث الباب (

قَالَ: فَضَالَّةُ اَلْإِبِلِ؟ قَالَ: " مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ اَلْمَاءَ، وَتَأْكُلُ اَلشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا).

وفي رواية للبخاري (فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَر).

وفي رواية لمسلم (وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا).

قال القرطبي: قوله في ضالَّة الإبل: (ما لك ولها؟) إلى آخر الكلام، وغضبه حين قال ذلك يدلُّ على تحريم التعرُّض لضالَّة الإبل؛ لأنَّها يؤمن عليها الهلاك لاستقلالها بمنافعها. وقد نصّ على ذلك بقوله في الرراية الأخرى (دعها عنك) ومقتضاه: المنع من التصرف فيها مطلقًا، وأن تترك حيث هي. لكن هذا إذا لم تكن بأرض مشبعة.

ص: 749

•‌

‌ هل الأفضل التقاط اللقطة أم لا؟

أولاً: إن علم من نفسه الخيانة، فهنا يحرم عليه الالتقاط.

لأنه بمنزلة الغاصب.

ولأن في أخذها تضييعاً لمال غيره فيحرم كإتلافه.

ثانياً: أن يثق بأمانة نفسه، ولا يخشى على اللقطة، فهنا لا يحرم، واختلفوا في الأفضل على أقوال:

القول الأول: الأفضل أخذها.

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية.

أ- واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( .... وقد جاء في هذا الحديث أسئلة عن الضالة، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: وسئل عن الضالة فقال: لك أو لأخيك أو للذئب، اجمعها إليك حتى يأتيَ باغيها) رواه أحمد.

فقالوا: فقوله (اجمعها .. ) دليل على استحباب التقاط القطة.

ب- وقالوا: إن الواجب على المسلم حفظ مال أخيه، وفي التقاط اللقطة حفظ لمال أخيك.

القول الثاني: الترك الأفضل.

وهذا مذهب الحنابلة.

قالوا: لأنه إذا التقط اللقطة يكون قد عرضه للحرام، لأنه قد يقصر في حقها وفي تعريفها.

قال ابن قدامة: الأفضل ترك الالتقاط، روي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر

ولا نعرف لهما مخالفاً في الصحابة.

القول الثالث: يكره أخذها.

القول الرابع: أنه مخير.

وهذا مذهب المالكية.

لحديث زيد بن خالد فإن ظاهره أن الملتقط مخير.

والراجح: إن أمِنَ من نفسه الخيانة، ووثق بأنه سيحفظها ويعرفها التعريف الشرعي، فالأفضل الالتقاط، لأن في ذلك حفظ مال الغير.

•‌

‌ ما حكم أخذها إن خاف عليها من الخونة؟

اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: يجب أخذها.

لأن في تركها تضييعاً لها.

وقيل: لا يجب أخذها.

ص: 750

•‌

‌ ما حكم تعريف اللقطة؟

واجب.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ثم عرفها سنة).

قال القرطبي: والتعريف واجبٌ؛ لأنَّه مأمورٌ به. ثمَّ يختص الوجوب بسنة في المال الكثير؛ الذى لا يفسد، ولا ينقص منها. وهو قول فقهاء الأمصار.

•‌

‌ كم مدة التعريف؟

سنة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ثم عرفها سنة).

قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَات حَدِيث زَيْد بْن خَالِد: (عَرِّفْهَا سَنَة)، وَفِي حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا (ثَلَاث سِنِينَ). وَفِي رِوَايَة: سَنَة وَاحِدَة) وَفِي رِوَايَة: أَنَّ الرَّاوِي شَكَّ قَالَ: (لَا أَدْرِي قَالَ حَوْل أَوْ ثَلَاثَة أَحْوَال) وَفِي رِوَايَة: (عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قِيلَ فِي الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَات قَوْلَانِ:

أَحَدهمَا: أَنْ يُطْرَح الشَّكّ، وَالزِّيَادَة، وَيَكُون الْمُرَاد سَنَة فِي رِوَايَة الشَّكّ، وَتُرَدّ الزِّيَادَة لِمُخَالَفَتِهَا بَاقِي الْأَحَادِيث.

وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، فَرِوَايَة زَيْد فِي التَّعْرِيف سَنَة مَحْمُولَة عَلَى أَقَلّ مَا يَجْزِي، وَرِوَايَة أُبَيّ بْن كَعْب فِي التَّعْرِيف ثَلَاث سِنِينَ مَحْمُولَة عَلَى الْوَرَع وَزِيَادَة الْفَضِيلَة، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى الِاكْتِفَاء بِتَعْرِيفِ سَنَة، وَلَمْ يَشْتَرِط أَحَد تَعْرِيف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُت عَنْهُ.

•‌

‌ ما كيفية التعريف؟

التعريف: هو أن ينادي في الموضع الذي وجدها فيه، وفي مجامع الناس، ويكون نهاراً.

قال القرطبي: تعريفها هو أن ينشدها في مجتمعات الناس، وحيث يظن: أن ربَّها هنالك، أو قربه، فيعرفها تعريفًا لا يضرُّ به، ولا يُخُفِي أمرها.

- وكيفيته: في الأسبوع الأول من التقاطها ينادي كل يوم، لأن مجيء صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى، ثم بعد الأسبوع ينادي عليها على حسب عادة الناس في ذلك.

قال ابن قدامة: إذا ثبت هذا، فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط، وتكون متوالية في نفسها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها حين سئل عنها، والأمر يقتضي الفور، ولأن القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها، وذلك يحصل بالتعريف عقيب ضياعها متوالياً، لأن صاحبها في الغالب إنما يتوقعها ويطلبها عقب ضياعها، فيجب تخصيص التعريف به.

•‌

‌ ماذا يذكر الملتقط حين تعريف اللقطة؟

يذكر الملتقط جنسها لا غير، فيقول من ضاع له ذهب مثلاً، من ضاع له ثياب.

لأنه لو وصفها لعلم من يسمعها فلا تبقى دليلاً على ملكها.

ص: 751

•‌

‌ ما الحكم إذا عرفها سنة؟

إذا عرف سنة كاملة فإنه يمتلكها قهراً، سواء كان الملتقط غنياً أو فقيراً، لكنه ملك مقيد بما إذا جاء صاحبها.

لحديث زيد ( .. ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة .. ).

وفي رواية (ثم عرفها سنة، فإذا جاء صاحبها وإلا شأنك بها). أي إن جاء صاحبها فأدها إليه، وإن لم يجيء فشأنك بها.

وفي رواية (فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها).

قال النووي: فَأَمَّا إِذَا عَرَّفَهَا سَنَة وَلَمْ يَجِد صَاحِبهَا، فَلَهُ أَنْ يُدِيم حِفْظهَا صَاحِبِهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكهَا، سَوَاء كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فَإِنْ أَرَادَ تَمَلُّكهَا فَمَتَى يَمْلِكهَا؟ فِيهِ أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهَا: لَا يَمْلِكهَا حَتَّى يَتَلَفَّظ بِالتَّمَلُّكِ بِأَنْ يَقُول: تَمَلَّكْتهَا، أَوْ اِخْتَرْت تَمَلُّكهَا.

وَالثَّانِي: لَا يَمْلِكهَا إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوه.

وَالثَّالِث يَكْفِيه نِيَّة التَّمَلُّك وَلَا يَحْتَاج إِلَى لَفْظ.

وَالرَّابِع يَمْلِك بِمُجَرَّدِ مُضِيّ السَّنَة. (شرح مسلم).

القول الأخير هو الصواب لظاهر الحديث.

•‌

‌ لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة صفات اللقطة؟

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة ذلك لأمرين:

أ- لأجل أن يميزها من بين ماله، فلا تلتبس بماله.

ب- لأجل أن يعرف صدق واصفها من كذبه.

قال القرطبي: هذا الأمر للملتقط بتعرف هذه الأمور الثلاثة يُفيد إباحة حل وكائها، والوقوف على عينها، وعددها للملتقط. وفائدة ذلك: أنَّه إذا جاء من عرف أولئك الأوصاف دفعت له، كما قال (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فادفعها إليه) وظاهره: اشتراط معرفة مجموع تلك الأوصاف، وأنها تدفع له بغير بيِّنة.

•‌

‌ ما الحكم إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها؟ هل يضمنها أم لا؟

الجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت.

لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية (ولتكن وديعة عندك).

وجاء عند مسلم (فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه).

قال ابن حجر: فإن ظاهر قوله (فإن جاء صاحبها

) بعد قوله: (كلها) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها، فيحمل على رد البدل.

قال ابن حجر: وأصرح من ذلك رواية أبي داود (فإذا جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه) فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور.

ص: 752

•‌

‌ اذكر أحوال تصرف الملتقط في اللقطة:؟

تصرف الملتقط في اللقطة له أحوال:

أولاً: أثناء الحول، لا يجوز أن يتصرف فيها، لأنها ليست ملكاً له.

ثانياً: بعد الحول، فله أن يتصرف فيها، لكن بعد أن يعرف صفاتها، من أجل إذا جاء صاحبها دفعها إليه

•‌

‌ ما الحكم إذا هلكت اللقطة؟

هلاك اللقطة له أحوال:

أولاً: إذا هلكت في حول التعريف من غير تعد ولا تفريط، فلا ضمان عليه.

ثانياً: إذا هلكت بعد تمام الحول، فلا ضمان عليه سواء فرط أو لم يفرط، لأنها دخلت في ملكه.

•‌

‌ ما الحكم إذا جاء من يدعي اللقطة، وعرف صفاتها، هل يطالب ببينة أم لا؟

تدفع إليه بدون بينة.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق وقال (فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فادفعها إليه).

ب- ولأن وصفها يكفي، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك.

قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أقول.

ورجحه القرطبي فقال: ولا يلزمه بينة عند مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له.

والأول أولى لنصّ الحديث على ذلك.

ولأنَّه لو كان إقامة البيِّنة شرطًا في الدَّفع لما كان لذكر العِفاص، والوكاء، والعدد معنًى؛ فإنَّه يستحقها بالبيِّنة على كل حال.

ولما جاز سكوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة. (المفهم).

•‌

‌ على من أجرة التعريف؟

على ربّ اللقطة.

هذا القول هو الصحيح، لأن التعريف من مصلحته.

•‌

‌ ما الحكم إذا التقطها ثم ردها؟

المشهور من المذهب: لا يملك ذلك لأنه لما التقطها أصبحت أمانة فكونه يردها إلى مكانها فيه تضييع لهذه الأمانة، فيقولون لا يملك أن يردها إلى مكانها.

وقيل بالتفصيل في هذه المسألة وهو: إن كان التقطها ليحفظها لصاحبها فإنه يملك أن يردها إلى مكانها، وإن كان التقطها ليتملك بع أن يعرفها فإنه لا يملك، وهذا قول الحنفية والمالكية.

والذي يظهر والله أعلم: أنه إذا التقطها فإنه لا يملك أن يردها إلى مكانها؛ لأنها أصبحت الآن أمانة في يده.

نعم يملك أن يردها إلى بيت المال أو الإمام أو الجهة إذا كانت جهة مسئولة تستقبل اللقطات، نقول هنا يملك أن يردها ما عدا ذلك لا يملك أن يردها

ص: 753

فائدة:

•‌

‌ ما تعريف اللقيط؟

هو طفل ضل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ.

لا يعرف نسبه: لأنه لو عرف نسبه ليس بلقيط.

ولا رقه: لأنه إذا علمنا رقه فليس بلقيط، لأنه مال فيكون لبيت مال المسلمين.

•‌

‌ ما حكم التقاطه؟

التقاطه والقيام به: فرض كفاية. (إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي).

لأنه آدمي محترم.

قال في المغني:

وجوبه على الكفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين، فإن تركه الجماعة أثموا إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه.

•‌

‌ ما حكم اللقيط؟

حكمه: حر مسلم.

في قول عامة أهل العلم.

لأن الأصل في الآدميين الحرية.

مسلم: وهذا إذا كان في دار إسلام خالصة أو بالأكثرية.

لقوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة .. ) متفق عليه.

(واختلف إن وجد في دار كافرة: فقيل: يعتبر كافر تبعاً للدار، وقيل: يعتبر مسلم والراجح: ..... ).

•‌

‌ ما الحكم إن تعذر بيت المال؟

فعلى من علم بحاله.

•‌

‌ كيف ينفق على اللقيط؟

إن وجد معه شيء صرف عليه منه، وكذلك ما وجد منه قريباً أو متصلاً به.

فإن لم يكن معه شيء من ذلك فإنه ينفق عليه من بيت المال. (كما هو الحال الآن).

فإن تعذر بيت المال فعلى من علم بحاله من المسلمين، لأنه طفل مسلم يجب حفظه ورعايته.

فائدة:

تكون حضانته لواجده بشرط أن يكون أميناً.

لأن عمر أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين علم أنه رجل صالح.

وميراثه لبيت المال.

وهذا قول أكثر العلماء.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن ميراثه لملتقطه لحديث واثلة بن الأسقع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه) رواه أبو داود.

ص: 754

942 -

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ، وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّان.

===

(ثُمَّ لَا يَكْتُمْ) أي: لا يخفي اللقطة، وذلك بأن يجحدها ولا يعرفها.

(وَلَا يُغَيِّبْ) أي: لا يجعلها غائبة.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: مشروعية الإشهاد لمن وجد اللقطة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

فقيل: يجب.

وقيل: لا يجب، بل مستحب.

قال في المغني: قَالَ أَحْمَدُ، رحمه الله: لَا أُحِبُّ أَنْ يَمَسّهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَيْهَا.

فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا ضَمِنَهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً، فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ، أَوْ ذَوِي عَدْلٍ) وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْهِدْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ.

ثم قال ابن قدامة مرجحاً عدم الوجوب:

أ- وَلَنَا خَبَرُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُمَا بِالتَّعْرِيفِ دُونَ الْإِشْهَادِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِيَّمَا وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حُكْمِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَكَرِ الْوَاجِبِ فِيهَا، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ.

أ- وَلِأَنَّهُ أَخْذُ أَمَانَةٍ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْإِشْهَادِ، كَالْوَدِيعَةِ.

ورجح الصنعاني الوجوب فقال: وأفاد هذا الحديث زيادة وجوب الإشهاد بعدلين على التقاطها.

وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، فقالوا يجب الإشهاد على اللقطة وعلى أوصافها.

وذهب الهادي ومالك وهو أحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجب الإشهاد.

قالوا لعدم ذكر الإشهاد في الأحاديث الصحيحة فيحمل هذا على الندب.

وقال الأولون هذه الزيادة بعد صحتها يجب العمل بها فيجب الإشهاد، ولا ينافي ذلك عدم ذكره في غيره من الأحاديث والحق وجوب الإشهاد. (سبل السلام)

•‌

‌ ما الحكمة من الإشهاد؟

قال ابن قدامة: وَفَائِدَةُ الْإِشْهَادِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الطَّمَعِ فِيهَا، ووَحِفْظُهَا مِنْ وَرَثَتِهِ إنْ مَاتَ، وَمِنْ غُرَمَائِهِ إنْ أَفْلَسَ.

فائدة:

وَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، لَمْ يَذْكُرْ لِلشُّهُودِ صِفَاتِهَا، لِئَلَّا يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فَيَدَّعِيَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَيَذْكُرَ صِفَاتِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي التَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ لِلشُّهُودِ مَا يَذْكُرُهُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ. (المغني).

ص: 755

•‌

‌ ما الحكم إذا أخّر التعريف؟

قال ابن قدامة: إذَا أَخَّرَ التَّعْرِيفَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، مَعَ إمْكَانِهِ أَثِمَ.

أ- لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ فِيهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.

ب-وَقَالَ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ (لَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ).

ج-وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْ لَا يَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَيْأَسُ مِنْهَا، وَيَسْلُو عَنْهَا، وَيَتْرُكُ طَلَبِهَا.

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (فهو مال الله يؤتيه من يشاء)؟

نستفيد: أن اللقطة بعد الحول تصير ملكاً للملتقط، ولا يضمنها لو جاء صاحبها بعد ذلك.

وأجاب الجمهور بأن هذا النص المطلق مقيد بما تقدم من إيجاب الضمان في حديث زيد بن خالد، ويكون المراد بقوله (يؤتيه من يشاء) إباحة الانتفاع باللقطة بعد مرور حول التعريف. (منحة العلام).

•‌

‌ ما الحكم إذا أخذ اللقطة ثم ردها إلى مكانها؟

قال في المغني: إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا، ضَمِنَهَا.

رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَلَنَا: أَنَّهَا أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا، فَإِذَا ضَيَّعَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ.

وَلِأَنَّهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ حِفْظُهَا، وَتَرْكُهَا تَضْيِيعُهَا.

ص: 756

943 -

وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ اَلْحَاجِّ) رَوَاهُ مُسْلِم.

===

•‌

‌ هل لقطة الحرم يختلف حكمها عن بقية البلاد أم كغيرها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يجوز التقاطها إلا لمن أراد ينشدها ويعرفها دائماً وأبداً.

وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن القيم وقال: هذا هو الصحيح.

أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (لَمَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلنَّاسِ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اَللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ اَلْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي،

وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ) متفق عليه. أي المعرّف على الدوام.

قال الحافظ ابن حجر: والمعنى: لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط، فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا.

وقال النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث لَا تَحِلّ لُقَطَتهَا لِمَنْ يُرِيد أَنْ يُعَرِّفهَا سَنَة ثُمَّ يَتَمَلَّكهَا كَمَا فِي بَاقِي الْبِلَاد، بَلْ لَا تَحِلّ إِلَّا لِمَنْ يُعَرِّفهَا أَبَدًا. وَلَا يَتَمَلَّكهَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَغَيْرهمْ، وَقَالَ مَالِك: يَجُوز تَمَلُّكهَا بَعْد تَعَرُّفهَا سَنَة، كَمَا فِي سَائِر الْبِلَاد، وَبِهِ قَالَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيث تَأْوِيلَات ضَعِيفَة.

ب-وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا) متفق عليه.

ب- ولحديث الباب (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ) رواه مسلم.

القول الثاني: أن لقطة الحرم والحل سواء.

وهذا قول الجمهور، فهو مذهب الحنفية، والمالكية، والمشهور عند الحنابلة.

أ-لحديث زيد بن خالد. قال (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ، أَوْ الْوَرِقِ؟ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا) فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لقطة الحرم وغيرها.

ب- وأنه أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة.

ج- ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم، كالوديعة. (المغني).

والراجح القول الأول.

والجواب عن حديث زيد بن خالد: أنه عام، مخصوص بلقطة مكة لحديث (لا تحل ساقطتها إلا لمنشد).

ص: 757

قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا الحكم حكم خاص في مكة ولو كان هو الحكم العام الذي يكون في مكة وغيرها لم يكن لتخصيصها بذلك فائدة، وعلى هذا القول فإن الإنسان إذا وجد لقطة بمكة، فإما أن يعرفها دائما حتى يجدها ربها، وإما أن يدفعها إلى المسؤولين عن الضائع، وإذا دفعها إليهم فقد برئت ذمته وقد رتب للُّقطِ التي حول الحرم رتب أناس يستقبلون هذه اللقط ويسمون فيما أظن لجنة حفظ الضائع أو كلمة نحوها.

فلقطة الحرم لها ثلاث أحوال:

أ-أن يأخذها للتملك من الآن، فهذا حرام.

ب-أن يأخذها للتملك بعد الإنشاد، فهذا حرام.

ج-أن يأخذها للإنشاد، فهذا حلال.

أما لقطة غير الحرم فيجوز أن يتملكها بعد الإنشاد الشرعي.

قال الشيخ ابن عثيمين: أما لقطة الحرم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تحل ساقطتها إلا لمنشد) يعني لا تأخذ لقطة الحرم إلا إذا كنت ضامناً على نفسك أن تبقى تبحث عن صاحبها إلى أن تموت وإذا مت فأوص بأن هذه لقطة الحرم تبحث عن صاحبها ومعلومٌ ما في هذا من المشقة إذاً لا تأخذها دعها فربما يرجع صاحبها ويجدها ونحن إذا قلنا لكل واحدٍ في مكة لا تأخذ اللقطة بقيت اللقطة حتى يأتيها صاحبها فتكون من جنس الإبل في غير مكة تترك ويأتي صاحبها ويجدها

•‌

‌ ما الحكمة من هذا الحكم الخاص بلقطة مكة؟

حتى تبقى الأموال محترمة في أماكنها فيأتيها أهلها فيجدوها.

•‌

‌ هل حرم المدينة كحرم مكة؟

جمهور الشافعية، وهم القائلون بتحريم لقطة حرم مكة، كما سبق: على أن الحكم السابق من خصائص حرم مكة، فلا يشركه حرم المدينة فيه.

واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين.

ص: 758

944 -

وَعَنْ اَلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا اَلْحِمَارُ اَلْأَهْلِيُّ، وَلَا اَللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الحديث صححه الألباني.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: أن اللقطة من مال المعاهد كاللقطة من مال المسلم، لأنه معصوم، فلا تؤخذ لقطته، بل تعرّف كغيرها، لأن له عهداً وذمة.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحريم كل حيوان ذي ناب من السباع.

- تحريم الحمار الأهلي.

- عدالة الإسلام.

بَابُ اَلْفَرَائِضِ

•‌

‌ تعريف الفرائض؟

الفرائض جمع فريضة، والفريضة في اللغة يأتي على معان متعددة، منها الإيجاب، والتقدير، والقطع.

واصطلاحاً: هي العلم بقسمة المواريث فقهاً وحساباً.

• وهذا العلم يسمى علم الفرائض، وعلم المواريث.

فيسمى علم الفرائض: لقوله تعالى (فريضة من الله) ولحديث (تعلموا الفرائض) وتغليباً لصاحب الفرض على التعصيب.

ويسمى علم المواريث: وهذا أعم.

•‌

‌ موضوعه:

التركات من حيث قسمتها، وبيان نصيب كل وارث منها.

•‌

‌ ثمرته:

إيصال ذوي الحقوق حقوقهم من التركة.

•‌

‌ حكم تعلمه:

فرض كفاية.

•‌

‌ فضله:

علم الفرائض من أفضل العلوم الشرعية، دل على فضله الكتاب والسنة وأقوال الصحابة:

فالكتاب دل على فضله من وجوه:

منها: أن الله تعالى تولى تقدير الفرائض بنفسه، فلم يتركها لنبي مرسل، ولا لِمَلَكٍ مقرب، بخلاف سائر الأحكام، كالصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها، فإن الآيات فيها مجملة، بينتها السنة.

ومنها: أن الله تعالى بعد أن بين الفرائض في كتابه، قال (تِلْكَ حُدُودُ اللّه) أي: هذه أحكام الله قد بينها لكم.

ص: 759

- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على فضل هذا العلم لكن لا يصح منها شيء:

منها: حديث أَبِي هُرَيْرَة. قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ يُنْسَى وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي) رواه ابن ماجه والدار قطني والحاكم والبيهقي، وضعفه الذهبي وابن الملقن والألباني.

ومنها: ومنها حديث عبد الله بن عمرو. قال: قال صلى الله عليه وسلم (العلم ثلاثة: وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة) رواه أبو داود.

•‌

‌ معنى كونه (نصف العلم)

أقوال:

فقيل: إن هذا الحديث من المتشابه، فلا نؤوله ولا نتكلم فيه، بل يجب علينا اتباعه.

وقيل: المراد المبالغة في فضله، كقوله (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) وقوله:(الْحَجُّ عَرَفَةُ).

وقيل: لأنه يُبتلى به الناس كلهم، قاله سفيان بن عيينة رحمه الله.

وقيل: لثبوته بالنص لا غير، وأما غيره فبالنص تارة، وبالقياس أخرى.

وقيل: لأن للإنسان حالتين، حالة حياة، وحالة موت، وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت.

وقيل: باعتبار سبب الملك، لأن أسباب الملك نوعان: اختياري وهو: ما يملك رَدّه، كالشراء والهبة ونحوهما، وقهري وهو: ما لا يملك ردّه، وهو الإرث.

•‌

‌ الحقوق المتعلقة بعين التركة:

أولاً: مؤون التجهيز للميت نفسه من كفن، وأجرة مغسل، وأجرة حافر قبر ونحو ذلك.

ثانياً: الديْن برهن.

ثالثاً: الدين المرسل، كحقوق الآدميين، وحقوق الله تعالى.

رابعاً: الوصية.

خامساً: الإرث.

الديْن مقدم على الوصية بالإجماع.

•‌

‌ فلماذا قدم الله الوصية كما قال تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)؟

أجاب العلماء بأجوبة:

للعناية بها والاهتمام، ولأن إخراج الوصية قد يكون شاقاً على الورثة وربما تساهلوا فيه، فبدأ الله بها، ولأن صاحب الدين غالباً يكون قوياً مطالباً لأنه يطالب بحق.

قال الرازي: واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين: الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بإدخال كلمة "أو" على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية.

• قال أبو السعود: وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين.

مثال: مات شخص وخلف (30) ألف ريال، وعليه دين (30) ألف وعنده وصية ألف ريال، فهنا نعطي المال لصاحب الدين وتسقط الوصية والورثة، لأن الدين استغرق التركة.

ص: 760

•‌

‌ أركان الإرث:

الركن لغة: جانب الشيء الأقوى

واصطلاحاً: جزء الشيء الذي يتوقف وجوده عليه، كالركوع والسجود في الصلاة في حق القادر عليهما.

وأركان الإرث ثلاثة:

الأول: المورِّث: وهو الميت حقيقة، أو الملحق به حكماً كالمفقود.

الثاني: الوارث: وهو المستحق للإرث حين موت المورث.

الثالث: الحق الموروث، وهو التركة.

•‌

‌ أسباب الإرث.

السبب لغة: ما يتوصل به إلى غيره.

واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.

وأسباب الإرث ثلاثة:

النكاح، والولاء - والنسب.

الأول: النكاح.

والمراد به: عقد النكاح الصحيح، فيتوارثان به الزوجان ولو لم يحصل بينهما لقاء.

لقوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم

).

الثاني: الولاء.

وهو عصوبة سببها نعمة المعتق على عتيقه بالعتق.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه. ويورث بهذا السبب من جانب واحد: وهو جانب الْمُعْتِق دون الْمُعتَق.

ويرث المعتِق عتيقه إجماعًا، لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (إنما الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَق) تفق عليه. ولا يرث المعتَق معتِقه اتفاقًا.

وقولهم (عصوبة) أي ارتباط بين المعتق والعتيق، كالارتباط بين الوالد والولد.

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولاء لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لا يُبَاعُ وَلا يُوْهَبُ) رواه الشافعي والحاكم والبيهقي، وصححه ابن حبان والحاكم والألباني. و (اللُّحْمة): القرابة.

ووجه التشبيه: أن السيد أخرج عبده بعتقه إياه، من حيز المملوكية، التي لا يَمْلِك فيها ولا يَتَصرَّف، إلى حيز المالكية، فأشبه بذلك الولادة، التي أخرجت المولود من العدم إلى الوجود

النسب:

وهي اتصال بين شخصين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة.

والقرابة ثلاثة أقسام:

فروع: وهم الذين تفرعوا من الميت، كالابن، والبنت، وابن الابن، وبنت الابن.

أصول: وهم الذين تفرع عنهم الميت، كالأب، والأم، والجد، والجدة.

حواشي: وهم الذين تفرعوا من أصول الميت، كالإخوة وأبناؤهم، والأعمام وأبناؤهم.

ص: 761

945 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَلْحِقُوا اَلْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(أَلْحِقُوا) أي: أعطوا.

(اَلْفَرَائِضَ) المراد بالفرائض هنا، الأنصاب المقدرة في كتاب الله، وهي: النصف، والربع، والثلث، والثلثان، والسدس، والثمن.

(بِأَهْلِهَا) أي من يستحقها بنص القرآن.

(فَمَا بَقِيَ) وفي رواية (فما تركت) أي: أبقت.

(فَهُوَ لِأَوْلَى) أي: لأقرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث. قال الخطابي: " المعنى أقرب رجل من العصبة.

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِأَوْلَى رَجُل: أَقْرَب رَجُل، مَأْخُوذ مِنْ الْوَلْي بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى وَزْن الرَّمْي، وَهُوَ الْقُرْب، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِأَوْلَى هُنَا أَحَقَّ، بِخِلَافِ قَوْلهمْ: الرَّجُل أَوْلَى بِمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ هُنَا عَلَى (أَحَقَّ) لَخَلَى عَنْ الْفَائِدَة، لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ الْأَحَقّ.

1 -

‌ معنى الحديث:

في هذا الحديث يأمر النبي صلى الله عليه وسلم القائمين على قسمة تركة الميت أن يوزعوها على مستحقيها بالقسمة العادلة الشرعية كما أراد الله، فيعطى أصحاب الفروض المقدرة فروضهم في كتاب الله، فما بقي يعطى الأقرب إلى الميت من الرجال.

قال النووي: وَهَذَا الْحَدِيث فِي تَوْرِيث الْعَصَبَات وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْد الْفُرُوض فَهُوَ لِلْعَصَبَاتِ يُقَدَّم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، فَلَا يَرِث عَاصِب بَعِيد مَعَ وُجُود قَرِيب، فَإِذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأَخًا وَعَمًّا، فَلِلْبِنْتِ النِّصْف فَرْضًا، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ، وَلَا شَيْء لِلْعَمِّ.

والفروض المقدرة في كتاب الله:

الثلثان - الثلث - السدس - النصف - الربع - الثمن.

الثلثان: قال تعالى (فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك).

النصف: قال تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم).

الربع: قال تعالى (فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن).

الثمن: قال تعالى (فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم).

الثلث: قال تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث).

السدس: قال تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه السدس).

2 -

‌ أن الإرث ينقسم إلى قسمين:

إرث بالفرض.

إرث بالتعصيب.

العصبة في اللغة: قرابة الرجل لأبيه، سموا بالعصبة لأنهم عصبوا به، أي أحاطوا.

واصطلاحاً: هو كل وارث ليس له سهم مقدر صريح في الكتاب والسنة، [يعني كل من يرث بلا تقدير].

الذين يرثون بالتعصيب:

الابن - وابن الابن - والأخ الشقيق - والأخ لأب - وابن الأخ الشقيق - وابن الأخ لأب - والعم الشقيق - والعم لأب - وابن العم الشقيق - وابن العم لأب.

ص: 762

الدليل على توريث العصبات:

حديث الباب.

ومعناه: أي أعطوا كل ذي فرض فرضه، وما بقي بعد ذلك من الميراث فادفعوه لأقرب عصبة من الذكور.

أحكام العصبة:

أ- إذا انفرد أحدهم أخذ كل المال.

ب- يأخذ الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم.

أمثلة:

- مات شخص عن ابن فقط، يأخذ المال كله، لأنه انفرد.

- هلك هالك عن زوجة وعم: للزوجة الربع، والعم الباقي، لأنه معصب.

- هلك هالك عن زوجة وابن: للزوجة الثمن، والابن الباقي.

ص: 763

946 -

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَرِثُ اَلْمُسْلِمُ اَلْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ اَلْكَافِرُ اَلْمُسْلِمَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

- في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم.

فاختلاف الدين من موانع الإرث.

ويمنع الشخص من الميراثِ

واحدةٌ من عللٍ ثلاثِ

رقٌ وقتلٌ واختلافُ دينِ

فافهمْ فليس الشك كاليقينِ

وموانع الإرث ثلاثة: قال في الرحبية:

والمانع: هو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود.

الأول: اختلاف الدين.

قال النووي: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِر لَا يَرِث الْمُسْلِم.

وَأَمَّا الْمُسْلِم فَلَا يَرِث الْكَافِر أَيْضًا عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ.

وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى تَوْرِيث الْمُسْلِم مِنْ الْكَافِر، وَهُوَ مَذْهَب مُعَاذ بْن جَبَل وَمُعَاوِيَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَسْرُوق وَغَيْرهمْ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء وَالشَّعْبِيّ وَالزُّهْرِيّ وَالنَّخَعِيِّ نَحْوه عَلَى خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيح عَنْ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِ الْجُمْهُور.

وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ (الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ).

وَحُجَّة الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح.

وَلَا حُجَّة فِي حَدِيث (الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْمُرَاد بِهِ فَضْل الْإِسْلَام عَلَى غَيْره، وَلَمْ يَتَعَرَّض فِيهِ لِمِيرَاثٍ، فَكَيْفَ يُتْرَك بِهِ نَصُّ حَدِيث (لَا يَرِث الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ) وَلَعَلَّ هَذِهِ الطَّائِفَة لَمْ يَبْلُغهَا هَذَا الْحَدِيث. (نووي).

وقال القرطبي: قوله (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) تضمَّن هذا الحديث أمرين:

أحدهما: مجمع على منعه؛ وهو: ميراث الكافر للمسلم.

والثاني: مختلف فيه؛ وهو: ميراث المسلم الكافر؛ فذهب إلى منعه الجمهور من السَّلف ومن بعدهم؛ فمنهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وجمهور أهل الحجاز والعراق: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وابن حنبل، وعامة العلماء ..

وذهب إلى توريث المسلم من الكافر معاذ، ومعاوية، وابن المسيب، ومسروق، وغيرهم. وروي عن أبي الدرداء، والشعبي، والنخعي، والزهري، وإسحاق.

والحديث المتقدِّم حجُّةٌ عليهم. ويَعْضُده حديث أسامة بن زيد؛ وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يتوارث أهل ملتين)، ونحوه في كتاب أبي داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه. (المفهم).

فلو مات أب مسلم عن ابن نصراني، فإنه لا يرثه.

لو مات ابن نصراني عن أب مسلم فإنه لا يرثه.

وهذا مذهب جماهير العلماء، أنه لا يرث المسلم من الكافر، ولا الكافر من المسلم.

لحديث الباب، فهو نص في محل النزاع.

ص: 764

•‌

‌ لو أسلم الكافر قبل قسمة التركة.

مثال: أن يموت ميت مسلم عن ابنين أحدهما مسلم يصلي، والثاني لا يصلي، وقبل أن تقسم التركة بين الابن المسلم وزوجة الميت، قبل ذلك صار الابن الثاني يصلي وتاب وعاد إلى الإسلام.

فهنا اختلف بعض العلماء هل يرث أم لا؟

والصحيح مذهب الجماهير من العلماء أنه لا يرث ولو أسلم قبل قسمة التركة.

لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) فنفى إرث الكافر للمسلم، وهو مطلق، فيشمل ما إذا أسلم قبل قسمة التركة.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يرث ترغيباً له في الإسلام، لكن هذا القول ضعيف.

المانع الثاني: الرق.

والرق في اللغة: العبودية والملك.

واصطلاحاً: عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله.

فالمملوك لا يرث.

مثال: رجل مات عن أب مملوك، فالأب هنا لا يرث.

وإنما كان الرق مانعاً من الإرث، لأن الرقيق لا يملك، فإذا كان لا يملك لم يستحق الإرث، لأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي من الميت.

المانع الثالث: القتل.

إذا كان القتل عمداً فلا يرث إجماعاً.

فلو أن ابناً قتل والده عمداً، فإنه لا يرث منه.

وأما إذا كان بحق فإنه يرث.

مثال: رجل محصن زنى، فرجمه الناس، وكان ممن رجمه وارثه، فلا يمنع من الإرث، لأن القتل بحق.

وأما إذا كان القتل خطأ ففيه خلاف:

فالمشهور من المذهب أن القاتل خطأ لا يرث، كحوادث السيارات.

والراجح أنه يرث، ورجحه ابن القيم في إعلام الموقعين.

ص: 765

947 -

وَعَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (فِي بِنْتٍ، وَبِنْتِ اِبْنٍ، وَأُخْتٍ - قَضَى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " لِلِابْنَةِ اَلنِّصْفَ، وَلِابْنَةِ اَلِابْنِ اَلسُّدُسَ - تَكْمِلَةَ اَلثُّلُثَيْنِ- وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

===

1 -

‌ الحديث دليل على ميراث البنت وأن ميراثها النصف بشرطين:

الشرط الأول: عدم المشاركة وهي أختها أو أخواتها.

لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

الشرط الثاني: عدم المعصب، وهو أخوها.

فإن وجد فقد قال تعالى (يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

- وإذا كن أكثر من واحدة فلهن الثلثان بشرطين:

الشرط الأول: عدم المعصب، وهو أخوهن، لقوله تعالى (يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

الشرط الثاني: تعددهن، ودليل ذلك حديث سعد بن الربيع، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى ابنتي سعد الثلثين.

2 -

‌ الحديث دليل على أن إرث بنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين.

فميراث بنت الابن السدس بشرطين:

أ-أن تكون مع بنت وارثة النصف فرضاً.

ب-عدم المعصب وهو أخوها.

مثال: توفي شخص عن بنت، وبنت ابن، وأخ لأب.

فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللأخ لأب الباقي تعصيباً.

3 -

‌ الحديث دليل على الأخوات الشقيقات أو لأب مع البنات عصبات.

فالأخت الشقيقة فأكثر ترث بالعصيب مع الغير بشروط:

الشرط الأول: عدم الأصل الوارث الذكر.

فإن وجد الأصل الوارث الذكر سقطت.

الشرط الثاني: عدم الفرع الوارث الذكر.

فإن وجد الفرع الوارث الذكر سقطت.

الشرط الثالث: وجود الفرع الوارث الأنثى (بنت فأكثر أو بنت ابن فأكثر).

الشرط الرابع: عدم وجود المعصب وهو الأخ الشقيق للميت.

مثال: توفي شخص عن زوجته وبنته وأخته الشقيقة.

فللزوجة الثمن، وللبنت النصف، وللأخت الشقيقة الباقي تعصيباً لوجود الفرع الوارث الأنثى.

ص: 766

948 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ.

وَأَخْرَجَهُ اَلْحَاكِمُ بِلَفْظِ أُسَامَةَ.

وَرَوَى النَّسَائِيُّ حَدِيثَ أُسَامَةَ بِهَذَا اَللَّفْظِ.

===

- الحديث دليل على أنه لا توارث بين أهل ملتين كافرتين، فاليهودي لا يرث قريبه النصراني ولا المجوسي وهكذا، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

وسبب الخلاف: اختلافهم في الكفر هل هو ملة واحدة أو ملل متعددة.

القول الأول: أن الكفر بجميع ملله ملة واحدة.

فعلى هذا القول: يتوارث الكفار فيما بينهم دون نظر إلى اختلافهم في الديانة.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، ورواية في مذهب أحمد.

أ-لقوله تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض).

القول الثاني: أنه لا توارث بين أهل كل ملة من أهل الملة الأخرى.

وهذا قول عند المالكية، ورجحه ابن قدامة.

لحديث الباب.

وأجاب. أصحاب القول الأول عن حديث الباب، قالوا: إن المراد بإحدى الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر، ليكون مساوياً لحديث (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)

ص: 767

949 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اِبْنَ اِبْنِي مَاتَ، فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟ فَقَالَ: " لَكَ اَلسُّدُسُ " فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "لَكَ سُدُسٌ آخَرُ" فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ. فَقَالَ: " إِنَّ اَلسُّدُسَ اَلْآخَرَ طُعْمَةٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ اَلْحَسَنِ اَلْبَصْرِيِّ عَنْ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذا الحديث من رواية الحسن عن عمران وقد اختلف في سماع الحسن من عمران.

وقد ذهب أحمد وأبو حاتم وابن المديني والبيهقي إلى أنه لم يسمع منه مطلقاً، فالحديث ضعيف.

- الحديث فيه ميراث الجد:

وميراثه كالتالي:

يرث السدس بشرطين:

الشرط الأول: وجود الفرع الوارث (ذكر).

وهذا دليله نفس دليل الأب، قال تعالى (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَد).

ومعلوم أن الجد أب فيأخذ ميراثه.

الشرط الثاني: عدم الأب.

ودليل هذا الشرط الإجماع، لأن الجد ينزل منزلة الأب فلا يرث مع وجوده.

مثال: توفي شخص عن جده وابنه.

فلجده السدس لوجود الفرع الوارث الذكر، ولابنه الباقي تعصيباً.

ويرث بالتعصيب فقط بشرطين:

الشرط الأول: عدم وجوب الأب، فإن وجد الأب سقط الجد.

الشرط الثاني: عدم وجود الفرع الوارث.

مثال: نوفي شخص عن أمه وجده.

فلأمه الثلث، ولجده الباقي تعصيباً.

ويرث بالفرض والتعصيب معاً بشرطين:

الشرط الأول: عدم وجود الأب كما تقدم.

الشرط الثاني: وجود فرع وارث أنثى.

إذا كان للميث فرع وارث أنثى لا ذكر معها.

مثال: أن يموت شخص عن جده وابنته، فللبنت النصف، وللجد السدس فرضاً، والباقي تعصيباً.

قاعدة:

كل وارث من الأصول يحجب من فوقه إذا كان من جنسه، فالأب يحجب الجد، والأم تحجب الجدة.

ص: 768

950 -

وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ; (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْجَدَّةِ اَلسُّدُسَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ، وَقَوَّاهُ اِبْنُ عَدِيٍّ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

سنده ضعيف، فيه عبيد الله بن عبد العتكي أبو المنيب، مختلف فيه والراجح أن روايته لا تقبل إذا انفرد.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد أن الجدة ميراثها السدس بشرط عدم وجود الأم، إذ لا ميراث للجدة مع وجود الأم.

ص: 769

951 -

وَعَنْ اَلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَى اَلتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ اَلرَّازِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

952 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: - كَتَبَ مَعِي عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ رضي الله عنهم صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

•‌

‌ ما صحة أحاديث الباب؟

حديث اَلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ حسن، لأجل علي بن أبي طلحة، وهو حسن الحديث.

•‌

‌ من هم ذوي الأرحام؟

كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة.

فكل قريب له صلة قرابة بالميت، ولا يرث بطريق الفرض أو التعصيب فهو من ذوي الأرحام.

كالخال، والخالة، والعمة، وأولاد البنات، وأولاد بنات الابن، وأبي الأم وغيرهم.

قال ابن قدامة - عند حديثه عن ذوي الأرحام -: وهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب.

وهم أحد عشر حيزاً: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وولد الإخوة من الأم، والعمات من جميع الجهات، والعم من الأم، والأخوال، والخالات، وبنات الأعمام، والجد أبو الأم، وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد. فهؤلاء، ومن أدلى بهم، يسمون ذوي الأرحام، وكان أبو عبد الله يورثهم إذا لم يكن ذو فرض، ولا عصبة، ولا أحد من الوارث، إلا الزوج، والزوجة " انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ذوو الأرحام كل قريب ليس له فرض ولا تعصيب.

وجميع الإناث سوى الأخوات، كالعمة والخالة وبنات الأخ وبنات الأخت وبنات العم من ذوي الأرحام.

•‌

‌ ما حكم توريث ذوي الأرحام؟

اختلف العلماء في توريث ذوي الأرحام على قولين:

القول الأول: أنهم يرثون.

وهو مذهب الحنفية، والحنابلة.

جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية) مِمَّنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَة بْنُ الْجَرَّاحِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ.

ص: 770

وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمِمَّنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ: الْحَنَفِيَّةُ وَالإْمَامُ أَحْمَدُ، وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ، وَأَهْل التَّنْزِيل رحمهم الله.

أ-لقوله تعالى (وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ

).

وجه الدلالة: أن الله تعالى ذكر الأقارب بأنهم أحق بميراث بعضهم من غيرهم، فإن لفظ (أولو الأرحام) عام يشمل جميع الأقارب سواء كانوا أصحاب فروض، أو عصبات، أو غير هؤلاء من الأقارب، فاللفظ يشمل الجميع دون تفريق بين ذوي الفروض أو العصبات أو سواهم.

ب-ولأحاديث الباب (الخال وارث من لا وارث له).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخال وارثاً عند عدم الوارث بفرض أو تعصيب، والخال من ذوي الأرحام فيلحق به غيره منهم.

ج-واستدلوا بالمعقول أيضاً فقالوا: إن ذوي الأرحام أحق بالميراث من بيت مال المسلمين، وذلك لأن بيت مال المسلمين تربطه بالميت رابطة واحدة هي رابطة الإسلام، وأما ذوو الأرحام فتربطهم رابطتان، رابطة الإسلام ورابطة الرحم، ومن كانت له قرابة من جهتين فإنه أقوى ممن له قرابة من جهة واحدة.

القول الثاني: أنهم لا يرثون.

جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية) وَمِمَّنْ قَال بِعَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَلَكِنْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّهُ حُكِيَ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ سَأَل أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَال أَبُو حَازِمٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الأْرْحَامِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ إِجْمَاعِهِمْ.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى لكل ذي حق حقه) رواه الترمذي وغيره.

وجه الدلالة: بيّن الحديث أن الله قد حدد الورثة والمواريث، بمعنى أن فيه إشارة إلى أن في القرآن كل المواريث، وليس في القرآن لذوي الأرحام شيء، فلا ميراث لهم حينئذ.

ب-عن عطاء بن يسار قال (أتى رجل من أهل العالية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ان رجلا هلك وترك عمة وخالة انطلق تقسم ميراثه فتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وقال يا رب رجل ترك عمة وخالة ثم سار هنية ثم قال يا رب رجل ترك عمة وخالة ثم سار هنية ثم قال يا رب رجل ترك عمة وخالة ثم قال لا أرى ينزل علي شيء لا شيء لهما) رواه الحاكم والبيهقي.

وجه الدلالة: أن العمة والخالة من ذوي الأرحام، وقد بيّن الحديث صراحة أن لا ميراث لهما.

والحديث ضعيف، ضعفه ابن حجر، والشوكاني.

ج-قالوا: إن الله نص في آيات المواريث على بيان أصحاب الفروض والعصبات ولم يذكر لذوي الأرحام شيئاً.

والراجح القول بتوريثهم.

•‌

‌ ما شرط توريثهم؟

عدم الوارث بفرض أو تعصيب.

قال ابن قدامة: فمتى خلّف الميت عصبة، أو ذا فرضٍ من أقاربه، أخذ المال كله، ولا شيء لذوي الأرحام، وهذا قول عامة من وَرَّث ذوي الأرحام.

فائدة:

لا خلاف بين الفقهاء القائلين بتوريث ذوي الأرحام، أن ذا الرحم إذا انفرد فإنه يرث كل المال تعصيباً سواء أكان ذكراً أم أنثى.

ص: 771

953 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا اِسْتَهَلَّ اَلْمَوْلُودُ وُرِّثَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

===

(إِذَا اِسْتَهَلَّ) الاستهلال الصراخ أو الصوت مطلقاً، كالعطاس والبكاء.

•‌

‌ اذكر أحكام ميراث الحمل؟

يشترط لإرث الحمل شرطان:

الشرط الأول: تحقق وجوده في الرحم حين موت المورث ولو نطفة.

وذلك يكون بأمرين:

الأول: أن تضع من فيه حياة مستقرة لدون ستة أشهر من موت مورثه مطلقاً.

الثاني: أن تضع من فيه حياة مستقرة لأربع سنين فأقل من موت مورثه بشرط أن لا توطأ بعد وفاته، فإن ولدته لأكثر من أربع سنين لم يرث مطلقاً على المذهب بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنين.

الشرط الثاني: أن يولد حياً حياة مستقرة (ويعرف ذلك بالصراخ، والبكاء، والعطاس، والحركة الكثيرة) وتُعْلَمُ حياته باستهلاله وعطاسه ورضاعه ونحوها، فأما الحركة اليسيرة والاضطراب والتنفس اليسير الذي لا يدل على الحياة المستقرة فلا عبرة به.

ومتى شك في وجود الحياة المستقرة لم يرث لأن الأصل عدمها.

فللحمل عند خروجه من بطن أمه ثلاث حالات:

الأولى: أن يخرج ميتاً.

ففي هذه الحالة لا يرث.

الثانية: أن يخرج بعضه وهو حي ثم يموت قبل خروج بقيته.

ففي هذه الحالة لا يرث عند الجمهور مطلقاً، لأنه لا يثبت له حكم الدنيا قبل انفصال جميعه.

الثالثة: إن استهل صارخاً.

ففي هذه الحالة يرث.

في الحديث أنه إذا استهل ورث، فهل يقوم غير الاستهلال مقامه؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا يقوم غير الاستهلال مقامه.

وهذا قول مالك، وطائفة من أهل العلم.

لمفهوم حديث الباب (إذا استهل

) فمفهومه أنه لا يرث بغير الاستهلال.

ولأن الاستهلال لا يكون إلا من حي يقيناً بخلاف غيره كالحركة، فإنها قد تكون من غير حي، وقد تكون من حي حياة غير مستقرة كحركة المذبوح.

القول الثاني: إذا عرفت حياة المولود بتحرك أو صياح أو رضاع فأحكامه أحكام الحي.

وهذا قول الشافعي، وأبي حنيفة.

لأنه حي فثبتت له أحكام الحي كالمستهل.

وهذا الصحيح.

ص: 772

•‌

‌ لماذا يشترط وجوده حين موت المورث؟

لأن الميراث خلافة عن الميت، والمعدوم لا يتصور أن يكون خليفة عن أحد - وأولى درجات الخلافة الوجود -.

•‌

‌ ما الحكم إن مات ميت عن ورثة فيهم حمل؟

إن رضوا بتأخير القسمة إلى وضع فهو أولى، خروجاً من الخلاف، ولتكون القسمة مرة واحدة.

وإن لم يرضوا وطالبوا بالقسمة فهل يمكنون من ذلك، اختلف العلماء على قولين:

قيل: إنهم لا يجابون إلى ذلك.

وهو المشهور عن الشافعي.

القول الثاني: أنهم يمكنون من ذلك.

وهذا قول الحنابلة والحنفية.

لأن في تأخير القسمة إضرار بهم.

وهذا القول هو الراجح.

•‌

‌ اذكر حكم إرث مع من الحمل؟

إرث من مع الحمل فلا يخلو من ثلاثة أحوال:

إحداها: أن لا يحجبه الحمل شيئاً فيعطى إرثه كاملاً.

الثانية: أن يحجبه عن بعض إرثه فيعطى اليقين وهو ما يرثه بكل حال.

الثالثة: أن يحجبه عن جميع إرثه فلا يعطى شيئاً.

فلو هلك هالك عن زوجة حامل وجدة وعم، فالجدة لا ينقصها الحمل شيئاً فتعطى إرثها السدس كاملاً والزوجة يحجبها الحمل عن بعض إرثها فتعطى اليقين وهو الثمن والعم يحجبه الحمل عن جميع إرثه فلا يعطى شيئاً.

ص: 773

954 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَوَّاهُ اِبْنُ عَبْدِ اَلْبَرِّ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ، وَالصَّوَابُ: وَقْفُهُ عَلَى عُمَرَ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

لا يصح رفعه.

•‌

‌ هل القتل مانع من موانع الإرث؟

من المتفق عليه بين عامة أهل العلم: أن القاتل عمداً لا يرث من المقتول شيئاً.

لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا)، رواه أبو داود

قال الإمام مالك: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا، وَلَا مِنْ مَالِهِ " انتهى

وقال ابن عبد البر: وأجمع العلماء على أن القاتل عمداً لا يرث شيئاً من مال المقتول، ولا من ديته.

وقال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ مِنْ الْمَقْتُولِ شَيْئًا

؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ يُفْضِي إلَى تَكْثِيرِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ رُبَّمَا اسْتَعْجَلَ مَوْتَ مَوْرُوثِهِ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ، كَمَا فَعَلَ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي قَتَلَ عَمَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ " انتهى من" المغني" (9/ 150).

وهذا الحكم يشمل من قام بالقتل، أو أعان القاتل وشاركه بمباشرة أو تسبب.

قال ابن قدامة: فَالْمُشَارِكُ فِي الْقَتْلِ فِي الْمِيرَاثِ كَالْمُنْفَرِدِ بِه.

•‌

‌ ما القتل الذي يمنع من الميراث؟

اختلف العلماء في القتل الذي يمنع من الإرث على أقوال:

القول الأول: أن القاتل لا يرث بحال.

لعموم لحديث الباب.

وعند أبي داود (ليس للقاتل شيء).

ولأن القاتل حرم الإرث حتى لا يجعل القتل ذريعة إلى استعجال الميراث، فوجب أن يحرم بكل حال لحسم الباب.

القول الثاني: أن القتل المانع من الإرث هو القتل بغير حق وهو المضمون بقود أو دية أو كفارة كالعمد وشبه العمد والخطأ وما جرى مجرى الخطأ كالقتل بالسبب والقتل من الصبي والمجنون والنائم، وما ليس بمضمون بشيء مما ذكرنا لا يمنع الميراث كالقتل قصاصاً أو حداً أو دفعاً عن نفسه.

القول الثالث: أن القاتل له حالتان.

الأولى: أن يكون قتل مورثه عمداً عدواناً، ففي هذه الحالة لا يرث.

الثانية: أن يكون قتله خطأ، ففي هذه الحالة: يرث من ماله ولا يرث من ديته.

ووجه كونه ورث من المال، لأنه لم يتعجله بالقتل.

ووجه كونه لم يرث من ديته لأنها واجبة عليه، ولا معنى لكونه يرث شيئاً وجب عليه.

وهذا الراجح.

ص: 774

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْقَاتِل لَا يَرِثُ، وَلأِنَّ الْقَتْل قَطَعَ الْمُوَالَاةَ، وَهِيَ سَبَبُ الإْرْثِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مُوَرِّثَهُ خَطَأً، فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنَ الْمَال، وَلَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْمَضْمُونَ بِقِصَاصٍ، أَوْ دِيَةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، لَا إرْثَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ، كَمَنْ قَصَدَ مُوَلِّيَهُ مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ مِنْ سَقْيِ دَوَاءٍ، أَوْ رَبْطِ جِرَاحَةٍ فَمَاتَ، فَيَرِثُهُ. اهـ.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " القول الراجح في مسألة القتل: أنه إذا تعمد الوارث قتل مورثه عمدا لا شك فيه، فإنه لا يرث. وإن كان خطأ فإنه يرث، ولكن هل يرث من الدية التي سيبذلها؟ لا يرث؛ لأن الدية غرم عليه، وقد جاء في حديث رواه ابن ماجه:(أنه يرث من تلاد ماله) يعني قديمه، فيرث من المال، لا من الدية.

ص: 775

954 -

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا أَحْرَزَ اَلْوَالِدُ أَوْ اَلْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ اَلْمَدِينِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ اَلْبَرِّ.

===

(مَا أَحْرَزَ اَلْوَالِدُ أَوْ اَلْوَلَدُ) أي: ما جمعه وحصله.

(فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ) أي: لعصبة ذلك المحرِز، والعصبة جمع عاصب: وهو من يرث المال بلا تقدير.

وعصبة الرجل: قرابته لأبيه.

(مَنْ كَانَ) أي: ذلك العاصب قرُبَ أو بعُد.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

سنده حسن.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد ميراث العصبة، وأن ما جمعه الوالد أو الولد فإنه يكون لعصبته، وهم قرابته الذكور.

لكن هذا بعد أخذ أهل الفروض حقوقهم كما تقدم في حديث (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر).

•‌

‌ اذكر أحكام العصبة بالنفس؟

التعصيب: هو الإرث بلا تقدير.

وهم:

الأب، الجد من قبل الأب وإن علا بمحض الذكور، الابن، ابن الابن وإن نزل، الأخ الشقيق، الأخ لأب، ابن الأخ الشقيق وإن نزل، ابن الأخ لأب وإن نزل، العم الشقيق وإن علا، العم لأب وإن علا، ابن العم الشقيق وإن نزل، ابن العم لأب وإن نزل؟

وأحكام العصبة بالنفس ثلاثة أحكام:

أولاً: من انفرد منهم أخد جميع المال.

ودليل هذا الحكم: قوله صلى الله عليه وسلم (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر).

وجه الاستدلال: أنه جعل للعاصب ما تُبقي الفروض، وإذا لم يكن هناك فروض كان كل المال باقياً، فيكون للعاصب.

ثانياً: أنهم يأخذون ما تبقيه الفروض.

للحديث السابق (ألحقوا الفرائض

) فإنه نص في تقديم أصحاب الفروض على العصبة، وأخذ العصبة جميع ما تبقيه الفروض.

ثالثاً: أنهم يسقطون إذا استغرقت الفروض المسألة.

أمثلة:

زوج وأب وابن، للزوج الربع، وللأب السدس، وللابن الباقي.

ص: 776

956 -

وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اَلْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ اَلنَّسَبِ، لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ) رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ: مِنْ طَرِيقِ اَلشَّافِعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَسَنِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ اَلْبَيْهَقِيُّ.

===

•‌

‌ ما الولاء؟

عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق.

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

معلول لا يصح.

وفي الصحيحين عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

تحريم بيع الولاء وهبته.

قال الصنعاني: ومعنى تشبيهه بلحمة النسب، أنه يجري الولاء مجرى النسب في الميراث كما تخالط اللحمة سدى الثوب حتى يصير كالشيء الواحد كما يفيده كلام النهاية.

والحديث دليل على عدم صحة بيع الولاء ولا هبته، فإن ذلك أمر معنوي كالنسب ولا يتأتى انتقاله كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالهما، وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك، وعليه جماهير العلماء، وروي عن بعض السلف جواز بيعه وعن آخرين منهم جواز هبته وكأنهم لم يطلعوا على الحديث أو حملوا النهي على التنزيه وهو خلاف أصله. (سبل السلام)

•‌

‌ ما كيفية الإرث بالولاء؟

يكون الإرث من جهة المعتق دون الرقيق، فلا يرث من سيده.

ودليله الإرث بالولاء قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق)

•‌

‌ ما حكم بيع الولاء؟

حرام.

مثال: لو أن شخصاً أعتق عبداً، ثبت له الولاء، فلو جاءه شخص وقال: بع علينا ولاء عبدك الذي أعتقت، فإن البيع لا يصح، كما لو جاء شخص إلى آخر وقال: بع عليّ نسب ابنك، فإن هذا لا يصح، كذلك الولاء، ولو أن المعتِق وهب الولاء لشخص آخر فكذلك لا يصح.

ص: 777

957 -

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

الصواب أنه مرسل.

فقد رجح الإرسال: الخطيب، والدارقطني، وابن عبد الهادي، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن تيمية،

، ومما يدل على ضعفه مع كلام هؤلاء الذين هم أعلم بالعلل ممن خالفهم فيه في الجملة: أن البخاري ومسلماً رويا الحديث بدون هذه الزيادة فإن هذه الزيادة جزء من الحديث، قلَّت زيادة يُعرِض عنها الشيخان - مع روايتهم الحديث نفسه بنفس الطريق - تسلم من قادح.

قال البخاري في صحيحه: باب مناقب أبي عبيدة.

قال الحافظ في الفتح: أورد الترمذي وابن حبان هذا الحديث من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء بهذا الإسناد مطولاً وأوله: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرأهم لكتاب الله أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ الا وإن لكل أمة أميناً

) الحديث، وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ قالوا إن الصواب في أوله الإرسال والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري والله أعلم.

قال ابن تيمية: (أفرضكم زيد) ضعيف لا أصل له، ولم يكن زيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالفرائض.

•‌

‌ ما معنى (أفرضكم زيد)؟

اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله صلى الله عليه وسلم (أفرَضُكُمْ زيد) عَلَى أقوالٍ خَمْسَة، ذكرهَا الماورديُّ فِي (حاويه).

أَحدهَا: أَنه قَالَ ذَلِك حثًّا عَلَى (مناقشته) وَالرَّغْبَة فِي تعلمه كَرَغْبَتِهِ؛ لِأَن زيدا كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْفَرَائِض.

ثَانِيهَا: أَنه قَالَ ذَلِك تَشْرِيفًا لَهُ، وإنْ شَاركهُ غيرُهُ فِيهِ.

ثَالِثهَا: أَنه أَشَارَ بذلك إِلَى جماعةٍ من الصَّحَابَة كَانَ زيدٌ أفرضَهُمْ، وَيرد هَذِه الرِّوَايَة السالفة (أفْرَضُ أُمَّتي زيد بن ثَابت).

رَابِعهَا: أَنه أَرَادَ بذلك أَنْ زيدا كَانَ أَشَّدهم عناية وحرصاً عليه.

خَامِسهَا: أَنه قَالَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ كَانَ أصحَّهُم حسابا وأسرعَهُمْ جَواباً.

فائدة:

قال الشيخ ابن عثيمين:

وأما حديث (أفرضكم زيد) فإنه ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى تقدير صحته فإنه يخاطب قوما محصورين وليس يخاطب جميع الأمة، وعلى تقدير أنه يخاطب جميع الأمة فلا يعني هذا أن زيداً معصوم من الخطأ وإن كان أفرض الأمة، لأنه لا معصوم من الخطأ إلا الرسول عليه الصلاة والسلام.

وإنما قلت ذلك لأن بعض العلماء قال: إن ما قاله زيد في الفرائض فإنه يجب المصير إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أفرضكم زيد).

ص: 778

فالجواب على هذا القول من وجوه ثلاثة:

أولا: ضعف الحديث، وهذا مهم، يعني أن صحة النقل المثبت للحكم أو النافي له هذه مهمة جدا.

الثانية: على تقدير صحته فهو يخاطب قوما خاصة.

الثالث: على تقدير صحته وعمومه فإنه لا يستلزم أن يكون زيد معصوما وإن كان أفرض الأمة، لأنه لا مصوم إلا رسول

الله صلى الله عليه وسلم.

وبناء على هذا نقول إن مذهب زيد رضي الله عنه في ميراث الجد والأخوة ليس ملزما لنا، وهو ضعيف كما سيأتي إن شاء الله، والصحيح أن الجد أب الأب بمنزلة الأب يحجب جميع الإخوة لا يرث معه أحد منهم.

بَابُ اَلْوَصَايَا

الوصايا جمع وصية هي الأمر بالتبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعد الموت.

قوله (بعد الموت) احترازاً من الهبة، فإنها تبرع في حال الحياة.

مثال تبرع بمال: أوصيت لفلان بعد موتي بـ (100) ريال.

مثال التصرف: وصيي على أولادي الصغار فلان.

ص: 779

958 -

عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا حَقُّ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(مَا حَقُّ اِمْرِئٍ) ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده.

(مُسْلِمٍ) هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فإن وصية الكافر جائزة عند أهل العلم.

(لَهُ شَيْءٌ) جاء في رواية في غير الصحيحين بلفظ (له مال). يتناول المال والقرض والكفارات والدين.

(يَبِيتُ) جاء عند أحمد (حق على كل مسلم ألا يبيت .... ).

(لَيْلَتَيْنِ) عند مسلم (يبيت ثلاث ليال) قال القرطبي: المقصود بذكر الليلتين، أو الثلاث: التقريب، وتقليل المدَّة ترك كتب الوصية. ولذلك لَمَّا سمعه ابن عمر ـ رضى الله عنه، لم يبت ليلة إلا بعد أن كتب وصيته، والحزم المبادرة إلى كتبها أول أوقات الإمكان، لإمكان بغتة الموت التي لا يأمنها العاقل ساعة، ويحتمل أن يكون إنما خصَّ الليلتين بالذكر فسحة لمن يحتاج إلى أن ينظر فيما له وما عليه، فيتحقق بذلك، ويروي فيها ما يوصي به، ولمن يوصي، إلى غير ذلك.

(مَكْتُوبَةٌ) سواء كتبها بنفسه أو كتبها له غيره.

جاء عند مسلم: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَىَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: مشروعية الوصية.

والوصية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين).

قال تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية).

وحديث الباب.

وقد أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية [قاله ابن قدامة].

•‌

‌ لكن اختلف العلماء هل هي واجبة أم مستحبة؟

القول الأول: أنها غير واجبة إلا من عليه حقوق للناس.

وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامة: وَلَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ يُوصِي بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ، وَطَرِيقُهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَصِيَّةُ، فَتَكُونُ مَفْرُوضَةً عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى أَحَدٍ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ.

وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، إلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَأَمَانَةٌ بِغَيْرِ إشْهَادٍ، إلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ فَأَوْجَبَتْهَا.

قال ابن قدامة: وَلَنَا، أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ وَصِيَّةٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ لِذَلِكَ نَكِيرٌ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُخِلُّوا بِذَلِكَ، وَلَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا ظَاهِرًا، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَا تَجِبُ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَعَطِيَّةِ الْأَجَانِبِ.

فَأَمَّا الْآيَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ.

وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.

ص: 780

القول الثاني: أنها واجبة.

وهو قول داود الظاهري، وابن حزم.

قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية وبه قال الزهري، وأبو مجلز، وعطاء، وطلحة بن مصرف في آخرين وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال إسحاق، وداود، واختاره أبو عوانة الاسفرايني وبن جرير وآخرون. (الفتح).

أ-لقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً

).

قالوا: معنى كتب يعني فرض.

ب-ولحديث الباب.

وجه الدلالة: قالوا معناه: ليس من حق المسلم أن يبيت ليلتين إلا وقد أوصى، ويؤيد معنى الحديث رواية عند الدارقطني (لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).

والأرجح القول الأول.

لكن تجب فقط: على من عليه دين، وفي ذمته حقوق ولديه أمانات وعهد، فإنه يجب أن يوضح ذلك كله بالكتابة الواضحة الجلية، التي تحدد الديون إن كانت حالة أو مؤجلة.

•‌

‌ لماذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة لكتابة الوصية؟

بياناً لها، وامتثالاً لأمر الشرع، واستعداداً للموت.

•‌

‌ ما الحكمة من مشروعيتها؟

فلأمور جليلة، ومقاصد شريفة، تجمع بين مصالح العباد في الدنيا، ورجاء الثواب والدرجات العلى في الآخرة، ففي الوصية يصل الموصي رحمه وأقرباءه الذين لا يرثون، ويُدخل السعة على المحتاجين، ويخفف الكرب على اليتامى والمساكين. وفي الوصية مصلحة للموصي حيث جعل الإسلام له جزءاً من ماله يبقى ثوابه عليه بعد وفاته، وبهذا يتدارك ما فاته من أعمال البر والإحسان في حياته.

•‌

‌ اذكر بعض الأمثلة على تطبيق السلف للعمل بالعلم؟

أ-عنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا». قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «عَجِبْتُ لَهَا فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ. رواه مسلم.

ب- عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِىَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ) رواه مسلم.

قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. وَقَالَ عَمْرٌو مَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. وَقَالَ النُّعْمَانُ مِثْلَ ذَلِكَ.

ص: 781

ج-عن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) متفق عليه.

قال سالم: (فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً).

د-ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة: (أن يسبحا ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين قبل النوم قال علي: ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قيل: ولا ليلة صفين: قال: ولا ليلة صفين) رواه مسلم.

هـ-حديث الباب (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ثلاث ليال، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه).

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَىَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.

و-وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ آية الكرسي عقيب كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت). رواه النسائي

قال ابن القيم: بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال: ما تركتها عقب كل صلاة إلا نسياناً أو نحوه.

قال البخاري: ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام.

وقال الإمام أحمد: ما كتبت حديثاً إلا قد عملت به، حتى مرّ بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبى طيبة ديناراً فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- الحديث دليل على أن الكتابة تكفي لإثبات الوصية والعمل بها ولا يحتاج إلى إشهاد.

- العمل بالعلم.

ص: 782

959 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ (قُلْتُ: - يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا اِبْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: " اَلثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ اَلنَّاسَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

===

(سعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص) أحد العشرة المبشرين بالجنة، مات بالعقيق سنة (55) هـ.

الحديث ذكره المصنف رحمه الله مختصراً ولفظة كاملاً:

عن سعد قَالَ (عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَني مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِيي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ «لَا». قَالَ قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ «لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي امْرَأَتِكَ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ». قَالَ رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ تُوُفِّىَ بِمَكَّة) متفق عليه.

(يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَنَا ذُو مَالٍ) وفي الحديث (جاءني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي) أي: يزوروني، وفي رواية للبخاري (من وجع أشفيتُ منه على الموت) أي: قاربت الموت من أجل شدته.

(عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ) وفي الرواية الأخرى (وأنا بمكة) وحجة الوداع كانت في العام العاشر للهجرة، وسميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، قال في الفتح: واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك في حجة الوداع إلا ابن عيينة فقال (في فتح مكة) أخرجه الترمذي وغيره من طريقه، واتفق الحفاظ على أنه وهِم فيه.

(وَأَنَا ذُو مالٍ) أي عندي مال كثير.

(وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي) أي ليس لي وارث إلا هذه البنت، قال النووي: معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة، أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات، لأنه من بني زهرة وكانوا كثيراً.

(أفأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي) أي اثنين من ثلاثة، والمراد الوصية، ففي الرواية الأخرى (أوصي بمالي كله).

(قَالَ: لا) أي: لا ينبغي لك أن تتصدق بثلثي مالك.

(قُلْتُ: فالشَّطْرُ) أي: في النصف.

(قُلْتُ: فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) أي: أتصدق بالثلث.

(قال: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ) وفي رواية عند البخاري (قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير).

(إنَّكَ إنْ تَذَرْ) أي: تترك.

(عَالَةً) أي: فقراء.

(يتكفَّفُونَ النَّاسَ) أي يسألون الناس بأكفِهم، قال القرطبي (يتكففون الناس) يسألون الصدقة من أكف الناس، أو يسألونهم بأكفهم.

ص: 783

الذي وقع، فإن سعداً عمر زمناً طويلاً، حتى ذكر العلماء أنه خلّف سبعة عشر ذكراً واثنتي عشرة بنتاً، وفي رواية (وعسى الله أن يرفعك) أي: يطيل عمرك، وكذلك اتفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، مات بمكة، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها لله مع حبهم لها.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم الوصية بأكثر من الثلث لغير الوارث.

وتحرم الوصية في حالتين:

الحال الأولى: بأكثر من الثلث لغير وارث.

لحديث الباب.

وإنما مُنع الموصي من الزيادة على الثلث لأمرين:

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسعد إلا بالثلث، فدل على أن الثلث هو النهاية وما زاد فهو ممنوع منه.

ب- أن ما زاد على الثلث داخل في المضارة التي قال الله فيها (من بعد وصية يوصى أو دين غير مضار).

الحال الثانية: لوارث بشيء.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) رواه أبو داود.

•‌

‌ ما حكم الوصية للفقير وورثته بحاجة؟

مكروهة.

لأن هذا يضر بالورثة.

لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد (

إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).

قال العلماء: والوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة:

أ- تحرم: وقد تقدم ذلك.

ب-وتكره: وقد تقدم ذلك.

ج-وتستحب: لمن ترك خيراً وهو المال الكثير.

لقوله تعالى (كتب عليكم إن حضر أحدكم الموت ..... ).

د- وتجب: على من عليه دين، وفي ذمته حقوق ولديه أمانات وعهد، فإنه يجب أن يوضح ذلك كله بالكتابة الواضحة الجلية، التي تحدد الديون إن كانت حالة أو مؤجلة.

هـ-وتجوز: بكل ماله، لمن لا وارث له، وهذا مذهب جمهور العلماء.

ص: 784

•‌

‌ ما الأفضل في مقدار الوصية؟

الأفضل الوصية بأقل من الثلث، وإن كان الثلث جائزاً.

لقوله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير).

قال العلماء: الأفضل أن يوصي بالخمس أو الربع، وإن أوصى بالثلث جاز.

لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد (الثلث والثلث كثير) مع إخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله.

ب-وقال أبو بكر (أرضى ما رضيه الله لنفسه). يعني الخمس.

قال ابن قدامة: فالأفضل للغني الوصية بالخمس، ونحو هذا يروى عن أبي بكر، وعلي بن أبي طالب، وهو ظاهر قول السلف.

قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله: ولهذا نعرف أن عمل الناس اليوم، وكونهم يوصون بالثلث خلاف الأولى، وإن كان هو جائزاً، لكن الأفضل أن يكون أدنى من الثلث، إما الربع، وإما الخمس.

وقد قال ابن عباس (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير).

•‌

‌ ماذا نستفيد من قوله (إنك أن تذر ورثتك أغنياء ....

نستفيد جواز الوصية بكل المال لمن لا وارث له.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنك أن تذر ورثتك أغنياء

).

ب-وقد صح ذلك عن بعض الصحابة كابن مسعود.

ولأن علة المنع من الوصية بما هو أكثر من الثلث هو حق المخلوق وهم الورثة، فإذا لم يوجد منهم أحد جازت.

وهذا اختيار جمع من المحققين كابن القيم.

•‌

‌ ما الحكمة من منع الوصية للوارث.

أشار قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) إلى الحكمة من منع الوصية للوارث، وهي: أنه يأخذ بذلك أكثر من الحق الذي جعله الله له في الميراث، فكان في الوصية للوارث زيادة على ما شرعه الله.

وذكر ابن قدامة رحمه الله في "المغني" حكمة أخرى، حاصلها: أن هذا التفضيل لبعض الورثة سيكون على حساب سائر الورثة، مما قد يكون سبباً لإيقاع العداوة والحسد بينهم.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: منع الإسلام الوصية للوارث لأنه من تعدي حدود الله عز وجل، فإن الله عز وجل حدد الفرائض والمواريث بحدود قال فيها (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين).

ص: 785

•‌

‌ ما الحكمة من منع الوصية بأكثر من الثلث لغير الوارث؟

أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى الحكمة من هذا المنع، وهي أن يترك المال للورثة، فلا يحتاجون معه لسؤال الناس، وأن هذا خير له من أن يوصي ثم يترك ورثته فقراء.

فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك: تحقيق العدل بين الوصية وبين حق الورثة في المال، وإذا كان الموصي يريد بالوصية الثواب، فإن تركه المال لورثته الفقراء المحتاجين إليه أكثر ثواباً، فإن إعطاء القريب الفقير أفضل من إعطاء من ليس قريباً.

ولهذا يستحب لمن كان ورثته فقراء، وكان ماله قليلاً بحيث لا يغني الورثة، يستحب له أن لا يوصي، ويترك المال لورثته.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لرجل أراد أن يوصي: إنك لن تدع طائلاً إنما تركت شيئاً يسيراً، فدعه لورثتك)، ذكره ابن قدامه رحمه الله في (المغني) ثم قال: متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة، فلا تستحب الوصية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع من الوصية بقوله: أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة.

ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان تركه لهم كعطيتهم إياه، فيكون ذلك أفضل من الوصية به لغيرهم. (المغني).

•‌

‌ هل يجب تنفيذ وصية الميت؟

نعم، يجب تنفيذ وصية الميت، وعدم تنفيذها أو تغيير حكمها، مع توفر شروط صحتها لا يجوز، ومرتكب ذلك آثم.

لقول الله تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

لكن إن كان تغييرها لأفضل مما أوصى به الموصي، فقد اختلف أهل العلم في جوازه.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

تغيير الوصية لما هو أفضل فيه خلاف بين أهل العلم:

فمنهم من قال: إنه لا يجوز.

لعموم قوله تعالى (فمن بدله بعد ما سمعه) ولم يستثن إلا ما وقع في إثم فيبقى الأمر على ما هو عليه لا يغير.

ومنهم من قال: بل يجوز تغييرها إلى ما هو أفضل.

لأن الغرض من الوصية التقرب إلى الله عز وجل، ونفع الموصى له، فكل ما كان أقرب إلى الله، وأنفع للموصى له، كان أولى أيضاً، والموصي بشر قد يخفى عليه ما هو الأفضل، وقد يكون الأفضل في وقت ما غير الأفضل في وقت آخر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل مع وجوب الوفاء به

والذي أرى في هذه المسألة: أنه إذا كانت الوصية لمعين، فإنه لا يجوز تغييرها، كما لو كانت الوصية لزيد فقط، أو وقف وقفاً على زيد، فإنه لا يجوز أن تُغير، لتعلق حق الغير المعين بها.

أما إذا كانت لغير معين - كما لو كانت لمساجد، أو لفقراء - فلا حرج أن يصرفها لما هو أفضل " انتهى.

ص: 786

960 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَجُلاً أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

===

(أَنَّ رَجُلاً أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هو سعد بن عبادة.

(إِنَّ أُمِّي) هي: عمرة بنت سعد بن عمرو.

(اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا) أي: ماتت فجأة، وأُخذتْ نفسُها فلْتة.

(وَلَمْ تُوصِ) تقدم في رواية النسائي سبب ذلك، وأن لا مال لها.

(وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ) أي: لو اتسع وقت مرضها، ولم يفجأها الموت.

(تَصَدَّقَتْ) أي: أوصت بالصدقة

(أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟) وفي رواية النسائي (هل ينفعها أن أتصدق عنها؟).

(قَالَ: نَعَمْ) في رواية النسائي (فتصدق عنها).

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد استحباب الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه.

ومن الأدلة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالا وَلَمْ يُوصِ فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ نَعَم). رواه النسائي

وعَنْ سَعْدِ ابْنِ عُبَادَةَ (قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ سَقْيُ الْمَاءِ) رواه النسائي.

وعن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ سَعدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنهم تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ (اسم لبستانه سمي بذلك لكثرة ثمره) صَدَقَة عَلَيْهَا) رواه البخاري.

قال النووي عن حديث الباب: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ الصَّدَقَة عَنْ الْمَيِّت تَنْفَع الْمَيِّت وَيُصَلِّهِ ثَوَابهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء، وَكَذَا أَجْمَعُوا عَلَى وُصُول الدُّعَاء وَقَضَاء الدِّين بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَة فِي الْجَمِيع.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين.

ومما يصل للميت: الدعاء والاستغفار له، وهذا مجمع عليه.

لقول الله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم).

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء).:

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ......... أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.

وحُفِظَ من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لحينا وميتنا).

ولا زال السلف والخلف يدعون للأموات ويسألون لهم الرحمة والغفران دون إنكار من أحد.

ص: 787

•‌

‌ هل ينتفع الميت بما يهدى من قرَب، كصلاة، وقراءة قرآن وغيرها؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يصل للميت شيء إلا ما ورد به النص.

قال النووي: وَأَمَّا قِرَاءَة الْقُرْآن وَجَعْل ثَوَابهَا لِلْمَيِّتِ وَالصَّلاة عَنْهُ وَنَحْوهمَا فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّهَا لا تَلْحَق الْمَيِّت.

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) أي: كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن وهذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم.

ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء.

ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.

وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما. (تفسير ابن كثير).

ورجحه ابن باز رحمه الله، وقال: أما قراءة القرآن فقد اختلف العلماء في وصول ثوابها إلى الميت على قولين لأهل العلم، والأرجح أنها لا تصل لعدم الدليل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها لأمواته من المسلمين، كبناته اللاتي متن في حياته عليه السلام، ولم يفعلها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فيما علمنا، فالأولى للمؤمن أن يترك ذلك ولا يقرأ للموتى ولا للأحياء ولا يصلي لهم، وهكذا التطوع بالصوم عنهم. لأن ذلك كله لا دليل عليه، والأصل في العبادات التوقيف إلا ما ثبت عن الله سبحانه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم شرعيته، أما الصدقة فتنفع الحي والميت بإجماع المسلمين، وهكذا الدعاء ينفع الحي والميت بإجماع المسلمين. (الفتاوى)

القول الثاني: أنه يصل للميت كل ما يهدى له.

وهذا المذهب، ورجحه ابن عثيمين.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- أن ترك الوصية جائز.

- ما كان عليه الصحابة من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين.

- أن بر الوالدين بعد موتهما يكون بالدعاء والصدقة.

ص: 788

961 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ اَلْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَحَسَّنَهُ أَحْمَدُ وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ.

962 -

وَرَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَزَادَ فِي آخِرِهِ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اَلْوَرَثَةُ) وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

حديث أبي أمامة سنده حسن من أجل إسماعيل بن عياش فروايته عن أهل بلده مفبولة.

وحديث ابن عباس سنده ضعيف، عطاء الخرساني لم يدرك ابن عباس.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: تحريم الوصية للوارث، وقد تقدم هذا.

•‌

‌ ما الحكمة من منع الوصية للوارث؟

أشار الحديث إلى الحكمة من منع الوصية للوارث، وهي: أنه يأخذ بذلك أكثر من الحق الذي جعله الله له في الميراث، فكان في الوصية للوارث زيادة على ما شرعه الله.

وذكر ابن قدامة رحمه الله في "المغني"(8/ 396) حكمة أخرى، حاصلها: أن هذا التفضيل لبعض الورثة سيكون على حساب سائر الورثة، مما قد يكون سبباً لإيقاع العداوة والحسد بينهم.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: منع الإسلام الوصية للوارث لأنه من تعدي حدود الله عز وجل، فإن الله عز وجل حدد الفرائض والمواريث بحدود قال فيها:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين).

•‌

‌ متى يجوز ذلك؟

يجوز ذلك برضاء بقية الورثة، وهذا قول جمهور العلماء.

قال ابن قدامة: إذا وصى لوارثه بوصية، فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصح، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على هذا. وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) وإن أجازها، جازت، في قول الجمهور من العلماء. (المغني)

وقال رحمه الله: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا وَصَّى لِوَارِثِهِ بِوَصِيَّةٍ، فَلَمْ يُجِزْهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، لَمْ تَصِحَّ. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا.

وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.

فَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

ص: 789

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ مِنْ عَطِيَّةِ بَعْضِ وَلَدِهِ، وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَقُوَّةِ الْمِلْكِ، وَإِمْكَانِ تَلَافِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ بِإِعْطَاءِ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ بَيْنَهُمْ، فَفِي حَالِ مَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَضَعْفِ مِلْكِهِ، وَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ، وَتَعَذُّرِ تَلَافِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَإِنْ أَجَازَهَا، جَازَتْ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، إلَّا أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً.

أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ:(لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ).

وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ، وَالْخَبَرُ قَدْ رُوِيَ فِيهِ: إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ. (المغني)

وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، ولا تصح لوارث، إلا أن يشاء الورثة المرشدون بنصيبهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).

•‌

‌ متى يعتبر رضا الورثة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن الوقت المعتبر لإجازة الورثة هو ما كان بعد موت الموصي، وأما ما كان قبله فغير معتبر.

وبهذا قال الجمهور، وهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

قالوا: أن حق الورثة في المال لا يثبت إلا بعد موت الموصي

القول الثاني: أن الوقت المعتبر هو ما كان بعد موت الموصي، أو ما كان في مرض موته.

وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.

قالوا: إن الإجازة تصح من الورثة في حال مرض الموصي، لأن حقهم قد تعلق بماله في هذه الحال، بخلاف حال الصحة.

وقول الجمهور أحوط.

•‌

‌ اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟

- تحريم الوصية لوارث كما تقدم.

- جواز الوصية لغير الوارث.

- أن تحريم الوصية للوارث إنما هو لحفظ حقوق الورثة.

- لابد من إجازة جميع الورثة حتى تنفذ الوصية، فإن أجاز بعضهم دون بعض نفذت الإجازة في نصيبه فقط دون نصيب الثاني.

ص: 790

963 -

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ; زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ.

964 -

وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي اَلدَّرْدَاءِ.

965 -

وَابْنُ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ قَدْ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

هذه الأحاديث كلها ضعيفة لا تصح.

لكن كما قال الحافظ باجتماعها قد تتقوى.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد: استحباب الوصية، لكن تقدم أن ذلك لمن ترك خيراً كثيراً.

قال ابن قدامة: وَتُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا.

لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)

فَنُسِخَ الْوُجُوبُ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ.

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا ابْنَ آدَمَ، جَعَلْت لَكَ نَصِيبًا مِنْ مَالِكِ حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِك، لِأُطَهِّركَ وَأُزَكِّيَكَ).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ) رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، فَلَمْ يَجُرْ، وَلَمْ يَحُفَّ، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا لَوْ أَعْطَاهَا وَهُوَ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ مُحْتَاجُونَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ (إنْ تَرَكَ خَيْرًا).

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ (إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ).

وَقَالَ (ابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ).

وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ: إنَّك لَنْ تَدَعَ طَائِلًا، إنَّمَا تَرَكْت شَيْئًا يَسِيرًا، فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ. (المغني).

•‌

‌ ما القدر الذي لا يستحب معه الوصية؟

قال ابن قدامة: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا تُسْتَحَبُّ لِمَالِكِهِ.

فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: إذَا تَرَكَ دُونَ الْأَلْفِ لَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ.

وَعَنْ عَلِيٍّ، أَرْبَعمِائَةِ دِينَارٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَا يُوصِي.

وَقَالَ: مَنْ تَرَكَ سِتِّينَ دِينَارًا، مَا تَرَكَ خَيْرًا.

وَقَالَ طَاوُسٌ: الْخَيْرُ ثَمَانُونَ دِينَارًا.

وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَلِيلُ أَنْ يُصِيبَ أَقَلُّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا خَمْسُونَ دِرْهَمًا.

وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي، أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَتْرُوكُ لَا يَفْضُلُ عَنْ غِنَى الْوَرَثَةِ، فَلَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ (أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً).

وَلِأَنَّ إعْطَاءَ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ خَيْرٌ مِنْ إعْطَاءِ الْأَجْنَبِيِّ، فَمَتَى لَمْ يَبْلُغْ الْمِيرَاثُ غِنَاهُمْ، كَانَ تَرْكُهُ لَهُمْ كَعَطِيَّتِهِمْ إيَّاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْوَرَثَةِ فِي كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، وَغِنَاهُمْ وَحَاجَتِهِمْ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ. (المغني).

ص: 791

‌بَابُ اَلْوَدِيعَةِ

966 -

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ) أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

===

•‌

‌ ما صحة حديث الباب؟

ضعيف كما قال المصنف رحمه الله.

•‌

‌ ماذا نستفيد من الحديث؟

نستفيد أن المودَع لا ضمان عليه إذا تلفت الوديعة بغير تعد ولا تفريط.

•‌

‌ عرف الوديعة؟

لغة: من ودع الشيء إذا تركه، سميت بذلك لأنها متروكة عند المودع.

وشرعاً: اسم للمال المودَع عند من يحفظه بلا عوض.

وعلى هذا فالشرط في الوديعة أن تكون على سبيل التبرع، فخرج بذلك الأجير على حفظ المال.

وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه أبوداود.

وأجمع علماء كل عصر على جواز الإيداع والاستيداع.

•‌

‌ ما حكمها؟

مستحبة، لمن كان أميناً وعلم من نفسه القدرة على حفظها.

•‌

‌ ما الواجب على من أُودِع وديعة؟

من أودع وديعة فعليه:

أولاً: حفظها.

ثانياً: وأن يكون هذا الحفظ في حرز مثلها.

لقال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها.

(حرز مثلها) المكان الذي تحفظ فيه عادة، فالغنم مثلاً تحفظ في الأحواش، الذهب في الصناديق.

•‌

‌ هل يسن للمودَع قبول الوديعة؟

نعم، يستحب أن يقبلها إذا علم من نفسه الثقة على حفظها.

لأن في ذلك ثواباً جزيلاً.

أ-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( .. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.

ب- وقال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).

ج- ولأن ذلك من باب إعانة المسلم.

أما من لا يقدر على حفظها فإنه لا يجوز أن يأخذها.

ص: 792

•‌

‌ ما الحكم إذا تلفت الوديعة عند المودَع؟

إن تلفت بغير تعد ولا تفريط فلا يضمن، لأنها أمانة عند المودَع.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، فَإِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُودَعِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، سَوَاءٌ ذَهَبَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمُودِعِ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ.

هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (المغني).

أ-لقوله تعالى (ما على المحسنين من سبيل)، والمودع محسن، فإذا كان محسناً فلا ضمان عليه.

قال السعدي: ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن على غيره، في [نفسه] أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان.

ب- ولقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانة

) والوديعة أمانة، والضمان ينافي الأمانة.

ج- ولأن المودع يحفظها لمالكها، فتكون يده كيده.

•‌

‌ متى يضمن المودَع؟

إذا تعدى أو فرط فإنه يضمن.

(التعدي: فعل ما لا يجوز). (والتفريط: ترك ما يجب).

قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ تَعَدَّى الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ. (المغني).

مثال التعدي: أودعت عند شخص إبريق، وكان عنده أباريق، فصار يستعمل إبريقي. (هذا تعدي).

أو أن يستعملها بغير إذن صاحبها، كأن يستعمل السيارة أو الدابة أو يقرأ الكتاب، فإنه يضمن، لأن فعله هذا تعدٍّ يستوجب الضمان.

مثال التفريط: جعل الإبريق الذي أودعته عنده عند باب الشارع. (هذا تفريط).

أن يحفظها بدون حرزها، كأن يحفظ الدراهم في السيارة بدلاً من الصندوق، فإنه يضمن، لأنه فرط حيث لم يحفظها في حرز مثلها.

•‌

‌ هل له أن يسافر بالوديعة؟

له أن يسافر بها إلا في حالتين:

الأولى: إذا نهاه ربها قال لا تسافر بها.

الثانية: إن كان عدم السفر بها أحفظ لها.

•‌

‌ ما الحكم إذا قال ربها: خذ الوديعة فاحفظها في مكان كذا وكذا، فخالف؟

إذا خالف المودَع فلا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يخالف إلى أعلى.

مثال: قال احفظها في صندوق الخشب، فحفظها في صندوق الحديد.

فلا ضمان عليه.

ص: 793

الحالة الثانية: أن يخالف إلى مساوٍ.

مثال: قال احفظها في صندوق الخشب الأول فحفظها في صندوق الخشب الثاني.

فإنه في هذه الحالة يضمن.

الحالة الثالثة: أن يخالف إلى أدنى.

قال احفظها في صندوق الحديد، فحفظها في صندوق الخشب ونحو ذلك.

فإنه يضمن.

•‌

‌ ما الحكم إذا دفع المودَع الوديعة لأجنبي؟

إذا دفع المودَع الوديعة لأجنبي فتلفت فإنه يضمن: لأنه خالف المودِع، فإنه أمره أن يحفظها بنفسه ولم يرض لها غيره.

•‌

‌ ما الحكم إذا قطع العلف عن الدابة حتى ماتت؟

الحكم أنه يضمن.

لأنه مفرط.

أ-لأن العرف يقتضي علفها وسقيها، فكأنه مأمور به عرفاً.

وقال أبو حنيفة: لا يلزمه، لأنه استحفظه ولم يأمره بعلفها.

•‌

‌ ما الحكم إن قال صاحبها لا تعلفها فماتت؟ فهل يضمن المودَع؟

قيل: لا يضمن.

وهذا مذهب الحنابلة، وهو أكثر أصحاب الشافعي.

لأنه متمثل لقول صاحبها.

وقيل: بل يضمن.

وهو قول ابن المنذر.

لأنها نفس محترمة تتألم، وحبس الطعام عنها إيذاء لها، فيجب الضمان.

وقول صاحبها في هذه الحال معصية لله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ص: 794