الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الحدود
باب حد الزنا - باب حد القذف - باب حد السرقة
باب حد الشارب - بَاب التَّعْزِيرِ وَحُكْمِ الصَّائِلِ
1/ 5/ 1437 هـ
تعريف الحدود:
الحدود جمع حد، والحد لغة: هو الحاجز بين الشيئين فيمنع اختلاطهما، والحد المنع، ومنه قيل: للبواب حداداً، لأنه يمنع الناس عن الدخول، وللسجان أيضاً؛ لأنه يمنع من الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود.
وسميت العقوبات حدوداً، لأنها موانع من ارتكاب أسبابها ومعاودتها، وحدود الله محارمه؛ لأنه ممنوع عنها.
واصطلاحاً: عقوبة مقدرة شرعاً لمنع الجناة من العود إلى المعاصي وزجر غيرهم وتكفير ذنب صاحبها.
قوله (مقدرة شرعاً) خرج به العقوبة التي قدرها القاضي كالتعزير.
• ف
الحكمة من الحدود:
أولاً: ردع العصاة ومنع انتشار الفساد.
ثانياً: التكفير والتطهير للعاصي.
- على من يجب إقامة الحد؟
يجب على كل مكلف عالم بالتحريم.
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ (أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُلْتُ: أَقْتُلُهُ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رواه النسائي.
فعُلِم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل من سبه ومن أغلظ له، وهو بعمومه يشمل المسلم والكافر.
فيشترط:
أولاً: أن يكون مكلفاً. (وهو البالغ العاقل).
قال في الشرح: أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الإقرار.
أ- لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق).
ب- وفي حديث ابن عباس - في قصة ماعز - (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس.
وفي رواية (أنه سأل عنه، أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس).
ج- ولأنهما لا قصد لهما.
ثانياً: ملتزم.
أي: ملتزم لأحكام المسلمين، وهو المسلم والذمي.
ودليل ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين لما زنيا) متفق عليه.
ثالثاً: عالم بالتحريم.
فإن كان جاهلاً، كحديث عهد بالإسلام، أو ناشئ في بادية بعيدة عن المسلمين فلا حدّ عليه.
أ- لأن الحد يدرأ بالشبهة، والجهل بالشبهة.
ب- وقد قال تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا). جاء في الحديث عن الله تعالى (قد فعلت).
ج- وقال عمر وعلي وعثمان (لا حد إلا على من علمه).
فمن كان جاهلاً بالحكم المنهيِّ عنه، وفعله، وكان في إتيانه حدٌّ أو كفارةٌ: فلا شيء عليه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن اعترف على نفسه بالزنا (فهلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟). رواه أبو داود، والحديث أصله في الصحيحين.
قال ابن القيم - وصحَّحَ رواية أبي داود - فيه: أنَّ الحدَّ لا يجب على جاهلٍ بالتحريم؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الزنى، فقال " أَتَيْتُ مِنْها حَرَاماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً. (زاد المعاد).
-
هل يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة؟
لا يشترط ذلك.
فلو سرق - وهو يعلم أنه حرام - لكنه لا يعلم أن في السرقة قطع اليد، فإنه يقام عليه الحد.
قال ابن القيم في فوائد حديث ماعز: فيه أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبته القتل، ولم يُسقط هذا الجهل الحد عنه.
- من الذي يقيم الحدود؟
لا يقيمه إلا الإمام أو نائبه.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته وخلفاؤه بعده.
ب- ولأن إقامة الحد من غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد.
ج- ولأجل أن يؤمن الحيْف في استيفائه.
ولا يلزم حضور الإمام: لقوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).
وأمر برجم ماعز ولم يحضر.
• وينبغي للإمام أن ينوي بإقامة الحد أموراً ثلاثة:
أولاً: الامتثال لأمر الله عز وجل في إقامة الحدود.
ثانياً: أن ينوي رفع الفساد.
ثالثاً: أن ينوي إصلاح الخلق.
-
هل تقام الحدود في المسجد؟
يحرم إقامتها في المساجد.
وهذا قول أكثر العلماء.
أ- لحديث ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل والد بولده) رواه الترمذي.
ويمكن أن يستدل أيضاً:
ب- بحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا رده الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم.
•
كيف يضرب الرجل في الحد؟
يضرب الرجل قائماً:
أ- لقول علي (لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج).
ب- ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب.
قال ابن قدامة: وإذا كان الزاني رجلاً أقيم قائماً، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له، سواء ثبت الزنى ببينة أو إقرار.
لا نعلم فيه خلافاً.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز.
قال أبو سعيد (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكنه قام لنا).
ولأن الحفر له، ودفن بعضه، عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه، فوجب أن لا تثبت. (المغني).
•
كيف تضرب المرأة في الحد؟
- تضرب جالسة، لأنه أستر لها.
- وتشد عليها ثيابها: لأنه ربما مع الضرب تضطرب وتتحرك وتنفك ثيابها.
- وتمسك يداها: لئلا تكشف.
وجاء في حديث عمران بن حصين قال (فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت) رواه مسلم.
•
بما يكون الجلد؟
• يكون بسوط.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا شرب فاجلدوه) والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط.
• ويكون بسوط لا جديد ولا خَلَق.
لأن الجديد يجرح الجلد، والقديم: لا يحصل به التأديب المطلوب.
قال علي (ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين) يعني وسطاً.
• ولا يمد ولا يربط ولا يجرد.
لا يمد: أي على الأرض.
ولا يربط: أي لا يقيد.
ولا يجرد من ثيابه.
قال ابن مسعود (ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد).
وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثبت عليه جريمة فلم ينقل عن أحد منهم شيء من ذلك.
• ما الذي يجب أن يُتقى في الجلد؟
يجب أن يُتقَى الوجه والرأس والفرج والمقاتل كالقلب والكبد.
الوجه: لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) متفق عليه.
تتقى هذه: لأنها مقاتل وليس القصد قتله، وإنما المقصود هو التأديب.
• ما الحكم لو مات في الحد؟
لا ضمان على من أقام الحد.
لأن الحق قتله.
بَابُ حَدِّ اَلزَّانِي
1205 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ اَلْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا مِنَ اَلْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَنْشُدُكَ بِاَللَّهِ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اَللَّهِ، فَقَالَ اَلْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ. فَاقَضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اَللَّهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ: "قُلْ". قَالَ: إنَّ اِبْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِاِمْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنْ عَلَى اِبْنِي اَلرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمَائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلَتُ أَهْلَ اَلْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي: أَنَّمَا عَلَى اِبْنِيْ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى اِمْرَأَةِ هَذَا اَلرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ ا للَّهِ صلى الله عليه وسلم "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اَللَّهِ، اَلْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى اِبْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، هَذَا وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
1206 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ اَلصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، اَلْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(أَنَّ رَجُلًا مِنَ اَلْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفي رواية عند البخاري (كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقام إليه رجلٌ، فَقَالَ: أنشدك بالله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله).
(أَنْشُدُكَ بِاَللَّهِ) بفتح أوله، ونون ساكنة، وضم الشين المعجمة-: أي أسألك بالله.
(إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اَللَّهِ) المراد بكتاب الله ما حكم به، وكتب عَلَى عباده. وقيل: المراد القرآن، وهو المتبادر، وَقَالَ ابن دقيق العيد: الأول أولى؛ لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين فِي القرآن، إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
(إنَّ اِبْنِي) وفي رواية عند البخاريّ (إن ابني هَذَا) قَالَ فِي "الفتح": وفيه أن الابن كَانَ حاضراً، فأشار إليه، وخلا معظم الروايات عن هذه الإشارة.
(كَانَ عَسِيفًا) هذه الإشارة لخصم المتكلم، وهو زوج المرأة، زاد شعيب فِي روايته:"والعسيف الأجير"، وهذا التفسير مدرج فِي الخبر، وكأنه منْ قول الزهريّ؛ لما عُرف منْ عادته أنه كَانَ يُدخل كثيراً منْ التفسير فِي أثناء الْحَدِيث، كما بيّنه الحافظ فِي مقدمة كتابه فِي المدرج، وَقَدْ فصله مالك، فوقع فِي سياقه:"كَانَ عسيفاً عَلَى هَذَا"، قَالَ مالك: والعسيف الأجير، وحذفها سائر الرواة.
(عَلَى هَذَا) ضَمَّنَ عَلَى معنى "عند" بدليل رواية عمرو بن شعيب، وفي رواية محمّد بن يوسف:"عسيفاً فِي أهل هَذَا"، وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته منْ الأمور، فكان ذلك سببًا لما وقع له معها.
(بِمَائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ) وفي رواية (بِمِائَةِ شَاةٍ، وَبِجَارِيةٍ لِي) وفي رواية سفيان: "بمائة شاة، وخادم"، والمراد بالخادم: الجارية المعدة للخدمة.
(فَسَأَلَتُ أَهْلَ اَلْعِلْمِ) وفي رواية (فسألت رجالاً منْ أهل العلم) وفي رواية معمر (ثم أخبرني أهل العلم) وفي رواية عمرو بن شعيب (ثم سألت منْ يعلم) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى أسمائهم، ولا عَلَى عددهم، ولا عَلَى اسم الخصمين، ولا الابن، ولا المرأة.
(وَتَغْرِيبُ عَامٍ) أي: إبعاده عن وطنه.
(عَلَيْكَ، وَعَلَى اِبْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هو محمول عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أن الابن كَانَ بكراً، وأنه اعترف بالزنا، ويحتمل أن يكون أضمر اعترافه، والتقدير:"وعلى ابنك إن اعترف"، والأول أليق، فإنه كَانَ فِي مقام الحكم، فلو كَانَ فِي مقام الإفتاء، لم يكن فيه إشكال؛ لأن التقدير: إن كَانَ زنى، وهو بكر، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه، وسكوته عما نسبه إليه، وأما العلم بكونه بكرا، فوقع صريحا منْ كلام أبيه، فِي رواية عمرو بن شعيب، ولفظه (كَانَ ابني أجيراً لامرأة هَذَا، وابني لم يحصن).
(وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) وفي رواية (فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها).
(خذوا عني) أي: تلقوْا عني حكم حد الزنا.
(خذوا عني) التكرار للتوكيد.
(قد جعل الله لهن سبيلاً) الضمير يعود على النساء الزواني.
(سبيلاً) السبيل: هو الخلاص من إمساكهن بالبيوت، وقد كانت الزانية تحبس في بيتها حتى تموت أو يجعل لها سبيلاً كما قال تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أن السبيل المراد بالآية: هو الحد الذي جاء بيانه بالنسبة للبكر وللثيب.
(البكر بالبكر) أي: البكر يزني بالبكر. [البكر الشاب الذي لم ينكح والشابة التي لم تُنكح].
(جلد مائة) أي: عليهما جلد مائة.
•
عرف الزنا؟
هو فعل الفاحشة في قُبُل ودبر وزاد بعضهم: من آدمي.
قوله (في قُبُل) المراد تغييب الحشفة أو قدرها، أي: تغييب الزاني حشفته، والحشفة: القسم المكشوف من رأس الذكر بعد الختان.
قوله (ودبر) أي: تغييب الحشفة في دبر امرأة أجنبية، فإن هذا يعتبر زنا.
قال ابن قدامة: والوطء في الدبر مثله - أي مثل الوطء في القبل - في كونه زنا.
وهذا مذهب الجمهور (أي وطء المرأة في دبرها يعتبر زنا).
قوله (من آدمي) احترازاً من غير الآدمي، بأن يطأ بهيمة فلا يعتبر زنا، لا لغة ولا شرعاً، ولا يجب فيه الحد، بل يعزر على القول الراجح، لأنه فعل محرماً مجمعاً عليه، فاستحق العقوبة.
•
ما حكم الزنا؟
حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
أ- قال تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً).
ب- وقال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).
ج- وعن ابن مسعود قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك). متفق عليه. (حليلة جارك: زوجة جارك).
د- وقال صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
هـ- وقال صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر). رواه مسلم
قال القرطبي: وقد أجمع أهل الملل على تحريمه، فلم يحل في ملة قط، ولذا كان حده أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب، وهو من جملة الكليات الخمس، وهي حفظ النفس والدين والنسب والعقل والمال.
وقال ابن القيم: ومن خاصيته أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.
ومن خاصيته أيضاً: أنه يشتت القلب، ويمرضه إن لم يمته، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان.
•
هل الزنا بعضه أشد من بعض؟
نعم، فالزنا بعضه أشد من بعض.
فالزنا بالجارة أعظم من الزنا بالبعيدة:
لحديث السابق (
…
قال: أن تزني بحليلة جارك).
ولحديث المقداد بن الأسود قال: قال صلى الله عليه وسلم (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) رواه أحمد.
قال النووي: حليلة جارك: أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً وأعظم جرماً، لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح.
والزنا بزوجات المجاهدين أعظم من غيرهن.
عن بريدة. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ في أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ) رواه مسلم.
وزنا الشيخ الكبير أعظم من زنا الشاب.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر). رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم (أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المحتال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر) رواه النسائي.
والزنا بالمحارم.
قال صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه الترمذي.
•
ما حد الزاني؟
حد الزاني: إذا كان محصناً الرجم حتى الموت [وسيأتي بعد قليل من هو المحصن].
وإن كان غير محصن: جلد مائة جلدة، وغرّب عن وطنه عاماً.
أ- لحديث الباب (
…
وَعَلَى اِبْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا).
ب- ولحديث عبادة (اَلْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْم).
ج ولحديث عمر الآتي (أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ اَلرَّجْمِ. قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ اَلرَّجْمَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اَللَّهُ، وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ، أَوْ اَلِاعْتِرَافُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
د- ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً – كما في حديث أبي هريرة الآتي (أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) متفق عليه.
هـ- ورجم اليهوديين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلاً زَنَيَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَك. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ: فَرَأَيْت الرَّجُلَ: يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ) متفق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: الَّذِينَ رَجَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الزِّنَا مَضْبُوطُونَ مَعْدُودُونَ، وَقِصَصُهُمْ مَحْفُوظَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَهُمْ: الْغَامِدِيَّةُ، وَمَاعِزٌ، وَصَاحِبَةُ الْعَسِيفِ، وَالْيَهُودِيَّان (الطرق الحكمية).
•
ما الحكمة من قتل الزاني المحصن بهذه الطريقة؟
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: شرع في حق الزاني المحصن القتل بالحجارة:
ليصل الألم إلى جميع بدنه حيث وصلت إليه اللذة بالحرام.
ولأن تلك القتلة أشنع القتلات والداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع، فجعلت غلظة هذه العقوبة في مقابلة قوة الداعي.
ولأن في هذه العقوبة تذكيراً لعقوبة الله لقوم لوط بالرجم بالحجارة على ارتكاب الفاحشة. (الصلاة وحكم تاركها).
•
ما الدليل على أن الرجم خاص بالمحصن؟
قال ابن قدامة: الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم.
أ- قال عمر (إن الرجم حق على من زنا وقد أحصن).
ب- وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث:
…
والزاني الثيب)، وفي رواية (أو زنا بعد إحصان).
•
من هو المحصن؟
الشروط التي يكون الإنسان فيها محصناً:
الشرط الأول: الوطء في القبل.
قال ابن قدامة: وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ).
وَالثِّيَابَةُ تَحْصُلُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ. (المغني).
فلابد من الوطء في القبل، فلو وطئها في الدبر أو بين الفخذين فإنه لا يكون محصناً.
قال في المغني: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ الْخَالِيَ عَنْ الْوَطْءِ، لَا يَحْصُلُ بِهِ إحْصَانٌ؛ سَوَاءٌ حَصَلَتْ فِيهِ خَلْوَةٌ، أَوْ وَطْءٌ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، أَوْ لَمْ يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا، وَلَا تَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْأَبْكَارِ.
الشرط الثاني: أَنْ يَكُونَ فِي نِكَاحٍ.
لِأَنَّ النِّكَاحَ يُسَمَّى إحْصَانًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ) يَعْنِي الْمُتَزَوِّجَاتِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الزِّنَى، وَوَطْءَ الشُّبْهَةِ، لَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاطِئُ مُحْصَنًا.
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَلَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. (المغني).
الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.
احترازاً من النكاح الباطل.
فلو تبين بعد أن تزوجها وجامعها أنها أخته من الرضاع، فإنه لا يكون محصناً، لأن النكاح غير صحيح.
الشرط الرابع: أن يكون حراً.
قال ابن قدامة: الحرية، وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا أبا ثور. (المغني).
فإذا تزوج وهو عبد رقيق ووطئ، ثم طلقها ثم أعتق ثم زنى، فإنه لا يكون محصناً، لأنه حين النكاح ليس حراً.
خامساً: البلوغ، العقل.
فلو وطئ وهو صغير أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصناً.
• والراجح من أقوال أهل العلم أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان.
فالذمي يحصن الذمية، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ورجحه ابن القيم.
ويدل عليه حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين كما سبق.
• فلو عقد على امرأة وباشرها لكنه لم يجامعها، ثم زنى، فإنه لا يرجم، وهي لو زنت فإنها لا ترجم، إلا إذا كانت قد تزوجت من زوج قبله وحصل الجماع، فإنها ترجم.
• لو تزوجها وهي صغيرة لم تبلغ وجامعها، ثم زنى فإنه لا يرجم، لأنه ليس بمحصن، لأنها لم تبلغ.
• لو تزوج مجنونة وجامعها، ثم زنى، فإنه لا يرجم، لأنه ليس بمحصن.
• هل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات؟
اختلف العلماء على قولين:
قيل: لا بد أن تكون متساوية.
وهذا المذهب.
فلو تزوج صغيرة أو مجنونة أو أمَة، فإنه لا يكون بذلك محصناً، لابد أن تكون المرأة مساوية له في هذه الصفات.
وقيل: لا يشترط ذلك.
•
هل يشترط للإحصان الاستمرار؟
لا يشترط للإحصان استمرار.
فلو أن رجلاً تزوج ثم بعد ذلك طلق، فإن زنى فإنه يعتبر محصناً.
وكذلك لو أن امرأة مطلقة، فإنها تعتبر محصنة، فلو زنت فإنها ترجم.
جاء في الموسوعة الفقهية (2/ 227) وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَقَاءُ النِّكَاحِ لِبَقَاءِ الْإِحْصَانِ، فَلَوْ نَكَحَ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً ثُمَّ طَلَّقَ وَبَقِيَ مُجَرَّدًا، وَزَنَى رُجِمَ " انتهى.
وقال الشيخ سيد سابق رحمه الله: ولا يلزم بقاء الزواج لبقاء صفة الإحصان، فلو تزوج مرة زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته، ثم انتهت العلاقة الزوجية، ثم زنى وهو غير متزوج فإنه يرجم، وكذلك المرأة إذا تزوجت، ثم طلقت فرنت بعد طلاقها، فإنها تعتبر محصنة وترجم.
•
اختلف العلماء فيمن وجب عليه الرجم، هل يجلد أولاً أم لا؟
القول الأول: أن الزاني المحصن يرجم فقط ولا يجلد.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ- لحديث الباب (فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد.
ب- والنبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ولم يجلده.
ج- ورجم الغامدية ولم يجلدها.
د- ورجم اليهوديين ولم يجلدهما.
هـ- ولأن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم.
القول الثاني: الجمع بين الجلد والرجم، فيجلد مائة ثم يرجم.
وهذا القول مروي عن علي وابن عباس.
أ- لحديث الباب - عبادة - (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
ب- ومن الأدلة: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
والراجح القول الأول.
وأما الجواب عن حديث عبادة: أنه منسوخ.
فإن الأدلة التي بها الرجم فقط كلها متأخرة عن حديث عبادة، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(قد جعل الله لهن سبيلاً) فهو دليل على أن حديث عبادة هو أول نص ورد في الزنا.
قال الشنقيطي: وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ لِأُمُورٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ رِوَايَاتِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّجْمِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَالْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْيَهُودِيِّيْنِ، كُلَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ بِلَا شَكٍّ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَقَدْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهَا الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ مَعَ تَعَدُّدِ طُرُقِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيح (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)، تَصْرِيحٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا رَجْمُهَا، وَالَّذِي يُوجَدُ بِالشَّرْطِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الرَّجْمُ فَقَطْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَسْخِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى أَدْنَى الِاحْتِمَالَاتِ لَا تَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَطَأَ فِي تَرْكِ عُقُوبَةٍ لَازِمَةٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي عُقُوبَةٍ غَيْرِ لَازِمَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالرَّجْمِ أَعْظَمُ الْعُقُوبَاتِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ عُقُوبَةٌ، فَلَا دَاعِيَ لِلْجَلْدِ مَعَهُ; لِانْدِرَاجِ الْأَصْغَرِ فِي الْأَكْبَرِ. (أضواء البيان).
•
ما حد الزاني غير المحصن؟
حد الزاني الغير المحصن هو الجلد 100 جلدة والتغريب.
أما الجلد فلا خلاف فيه. لقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
وعليه تغريب عام بالنسبة للذكر.
وهذا قول أكثر العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.
أ- لحديث الباب - عبادة - (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة).
ب- ولحديث أبي هريرة وزيد - حديث الباب - (وعلى ابنِك جلد مائة وتغريب عام).
وذهب الحنفية إلى أن الزاني البكر لا يغرّب إلا إذا رأى الإمام.
واستدلوا بالآية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) فقالوا: إن الحد هو الجلد ولم تذكر الآية التغريب.
والراجح مذهب الجمهور.
•
هل تغرب المرأة إذا زنت وهي غير محصنة؟
اختلف العلماء على أقوال:
القول الأول: تغرب مع محرمها.
وهذا قول الشافعية والحنابلة.
لعموم حديث عبادة السابق.
قال النووي في شرحه لحديث عبادة السابق: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر (ونفي سنة) ففيه حجة للشافعي والجماهير: أنه يجب نفيه سنة، رجلاً كان أو امرأة.
القول الثاني: لا تغرب.
وهذا قول المالكية.
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ.
وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ التَّغْرِيبِ بِمَحْرَمٍ أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، لَا يَجُوزُ التَّغْرِيبُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ).
وَلِأَنَّ تَغْرِيبَهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ إغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ، وَتَضْيِيعٌ لَهَا، وَإِنْ غُرِّبَتْ بِمَحْرَمٍ، أَفْضَى إلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِنْ كُلِّفَتْ أُجْرَتَهُ، فَفِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى عُقُوبَتِهَا بِمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، كَمَا لَوْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ.
وَالْخَبَرُ الْخَاصُّ فِي التَّغْرِيبِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَالْعَامُّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُمُومِهِ مُخَالَفَةُ مَفْهُومِهِ، فَإِنَّهُ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّانِي أَكْثَرُ مِنْ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْمَرْأَةِ يَلْزَمُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَفَوَاتُ حِكْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ زَجْرًا عَنْ الزِّنَا، وَفِي تَغْرِيبِهَا إغْرَاءٌ بِهِ، وَتَمْكِينٌ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَصَّصُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ بِإِسْقَاطِ الْجَلْدِ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، فَتَخْصِيصُهُ هَاهُنَا أَوْلَى.
ورجح هذا القول ابن قدامة.
القول الثالث: أن التغريب ليس من تمام الحد، وإنما هو عقوبة تعزيرية راجعة إلى رأي الإمام حسب المصلحة.
والراجح إن وجد محرم متبرعاً بالسفر معها فإنها تغرب عملاً بأحاديث التغريب، وإن لم يوجد فلا تغرب عملاً بأحاديث النهي عن السفر بدون محْرَم.
•
ما فوائد التغريب؟
أولاً: أنه يبتعد عن محل الفاحشة لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها.
ثانياً: أن التغريب يكون منشغل البال غير مطمئن.
•
ما حكم الزناة في أول الإسلام؟
قال الله تعالى في سورة النساء: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ولهذا قال: "واللاتي يأتين الفاحشة" يعني الزنا "من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً.
فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.
وكذا رُوِيَ عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة وهو أمر متفق عليه.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام .. قاله ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه .. غير أن ذلك الحكم كان ممدوداً إلى غاية .. وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .. وقد قال بعض العلماء: أن الأذى والتعيير باق مع الجلد، لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع .. والله أعلم.
•
ما حكم من كرر الزنا عدة مرات؟
اتفق الفقهاء علي أن من زنا مرة وأقيم عليه الحد ثم زنا أخرى أنه يجب عليه حد آخر.
واختلفوا فيما إذا تكرر منه الزنا ولم يقم عليه الحد، هل يقام حد واحد أو يقام عليه لكل مرة حد؟
والذي عليه جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة: أن من زنا مراراً ولم يقم عليه الحد فلا يجب عليه إلا حد واحد.
قال ابن قدامة: قد أجمعوا أنه إذا تكرر الحد قبل إقامته أجزأ حد واحد.
ومن المعقول: أن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل وهو حاصل بالحد الواحد، لأن الغرض هنا من جنس واحد فوجب التداخل كالكفارات.
•
ما الحكم إذا أكرهت المرأة على الزنا؟
لا حد عليها.
•
ما الحكم إذا أكرِه الرجل على الزنا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: عليه الحد.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.
قالوا: بأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار والإكراه ينافيه.
القول الثاني: لا حد عليه.
وهذا مذهب الشافعية.
لعموم الأدلة التي ترفع الحرج عن المكرَه.
وهذا أصح.
جاء في (الموسوعة الفقهية) واختلف الفقهاء في حكم الرجل إذا أكره على الزنى: فذهب صاحبا أبي حنيفة، والمالكية في المختار والذي به الفتوى، والشافعية في الأظهر: إلى أنه لا حد على الرجل المكره على الزنى
…
لشبهة الإكراه.
وذهب الأكثر من المالكية - وهو المشهور عندهم -، والحنابلة: إلى وجوب الحد على المكره، وذلك لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث بالاختيار.
وفرق أبو حنيفة بين إكراه السلطان وإكراه غيره، فلا حد عليه في إكراه السلطان
…
والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين" انتهى بتصرف يسير.
•
بما خص الزنا من بين سائر الحدود؟
قال ابن القيم: وَخَصَّ سُبْحَانَهُ حَدَّ الزِّنَى مِنْ بَيْنِ الْحُدُودِ بِثَلَاثِ خَصَائِصَ:
أَحَدُهَا: الْقَتْلُ فِيهِ بِأَشْنَعِ الْقَتَلَاتِ، وَحَيْثُ خَفَّفَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْبَدَنِ بِالْجَلْدِ وَعَلَى الْقَلْبِ بِتَغْرِيبِهِ عَنْ وَطَنِهِ سَنَةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ فِي دِينِهِ، بِحَيْثُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ شَرَعَ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ؛ فَهُوَ أَرْحَمُ بِكُمْ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ رَحْمَتُهُ مِنْ أَمْرِهِ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَمْنَعْكُمْ أَنْتُمْ مَا يَقُومُ بِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرَّأْفَةِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُمَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُمَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي مَصْلَحَةِ الْحَدِّ، وَالْحِكْمَةُ الزَّجْرُ، وَحَدُّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ مُشْتَقٌّ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْمِ لُوطٍ بِالْقَذْفِ بِالْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ فِي الْفُحْشِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَسَادٌ يُنَاقِضُ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِه.
قال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) مع أن ذلك مشروع في سائر الحدود؟
قال ابن القيم: وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ - وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي حَدِّ الزِّنَى خَاصَّةً لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَجِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الزَّانِي مَا يَجِدُونَهُ عَلَى السَّارِقِ وَالْقَاذِفِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ، فَقُلُوبُهُمْ تَرْحَمُ الزَّانِيَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْحَمُ غَيْرَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَنُهُوا أَنْ تَأْخُذَهُمْ هَذِهِ الرَّأْفَةُ وَتَحْمِلَهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ حَدِّ اللَّهِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ: أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ يَقَعُ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالْأَوْسَاطِ وَالْأَرَاذِلِ، وَفِي النُّفُوسِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، وَالْمُشَارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الْعِشْقُ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ إِلَى رَحْمَةِ الْعَاشِقِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعُدُّ مُسَاعَدَتَهُ طَاعَةً وَقُرْبَةً، وَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ الْمَعْشُوقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَنْكِرُ هَذَا الْأَمْرَ، فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ، وَلَقَدْ حَكَى لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا نُقَّاصُ الْعُقُولِ كَالْخُدَّامِ وَالنِّسَاءِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا ذَنْبٌ غَالِبًا مَا يَقَعُ مَعَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ وَالِاغْتِصَابِ مَا تَنْفُرُ النُّفُوسُ مِنْهُ
وَفِي النُّفُوسِ شَهْوَةٌ غَالِبَةٌ لَهُ فَيُصَوِّرُ ذَلِكَ لَهَا، فَتَقُومُ بِهَا رَحْمَةٌ تَمْنَعُ إِقَامَةَ الْحَدِّ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَكَمَالُ الْإِيمَانِ أَنْ تَقُومَ بِهِ قُوَّةٌ يُقِيمُ بِهَا أَمْرَ اللَّهِ، وَرَحْمَةٌ يَرْحَمُ بِهَا الْمَحْدُودَ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ. (الجواب الكافي).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الرجوع إلى كتاب لله نصاً أو استنباطاً.
- جواز القسم عَلَى الأمر لتأكيده، والحلف بغير استحلاف.
- أنه استدل به عَلَى أن حضور الإِمام الرجم ليس شرطاً، وسيأتي الكلام على المسألة إن شاء الله.
- أن فيه تركَ الجمع بين الجلد والتغريب.
- أن فيه الاكتفاءَ بالاعتراف بالمرة الواحدة؛ لأنه لم يُنقل أن المرأة تكرر اعترافها، وسيأتي بحث المسألة إن شاء الله.
والاكتفاء بالرجم منْ غير جلد؛ لأنه لم يُنقل فِي قصتها أيضاً.
- حسن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وحلمه عَلَى منْ يخاطبه بما الأَوْلَى خلافه، وأن منْ تأسى به منْ الحكام فِي ذلك يحمد، كمن لا ينزعج لقول الخصم مثلاً: احكم بيننا بالحق.
- استحباب استئذان المدعي، والمستفتي الحاكم، والعالم فِي الكلام، ويتأكد ذلك إذا ظن أن له عذراً.
- أن منْ أقر بالحد، وجب عَلَى الإِمام إقامته عليه، ولو لم يعترف مشاركه فِي ذلك.
- أن السائل يذكر كل ما وقع فِي القصة؛ لاحتمال أن يَفهَم المفتي، أو الحاكم منْ ذلك، ما يَستدل به عَلَى خصوص الحكم فِي المسألة؛ لقول السائل (إن ابني كَانَ عسيفاً عَلَى هَذَا) وهو إنما جاء يسأل عن حكم الزنا، والسر فِي ذلك أنه أراد أن يقيم لابنه معذرةً مّا، وأنه لم يكن مشهورا بالعَهْر، ولم يَهجُم عَلَى المرأة مثلاً، ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس، والإدلال، فيستفاد منه الحثّ عَلَى إبعاد الأجنبي منْ الأجنبية، مهما أمكن؛ لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد، ويتسور بها الشيطان إلى الإفساد.
- أن الحد لا يَقبل الفداء، وهو مجمع عليه فِي الزنا، والسرقة، والحرابة، وشرب المسكر، واختُلف فِي القذف، والصحيح أنه كغيره، وإنما يجري الفداء فِي البدن، كالقصاص فِي النفس والأطراف.
- جواز الاستنابة فِي إقامة الحد.
- أن حال الزانيين إذا اختلفا، أقيم عَلَى كل واحد حده؛ لأن العسيف جُلِدَ، والمرأة رُجمت.
1207 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (أَتَى رَجُلٌ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ- فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ. دَعَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "أَبِكَ جُنُونٌ؟ " قَالَ. لَا. قَالَ: "فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اِذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1208 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْت؟ " قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اَللَّهِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
(أَتَى رَجُلٌ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفي رواية (إن رجلاً من أسلم)، وفي حديث جابر بن سمرة (رأيت ماعز بن مالك الأسلمي).
(وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ) جملة حالية، أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد النبوي.
(فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أي: حول النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إلى جهة أخرى، كراهية لما قاله.
(حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) أي: كرر، وفي رواية (حتى ردد).
(فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) وفي رواية (أربع مرات) وفي حديث بريدة (حتى إذا كانت الرابعة قال: فيم أطهرك؟) وفي حديث جابر بن سمرة (فشهد على نفسه أربع شهادات).
•
بما يثبت الزنا؟
أولاً: بالإقرار والاعتراف.
ثانياً: بالبينة.
•
اذكر الدليل على أن الاعتراف يثبت به الزنا؟
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم- (
…
وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ).
•
هل يشترط أن يقر أربع مرات أم يكفي مرة واحدة؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا بد أن يقر أربع مرات.
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث الباب؛ حديث ماعز.
وجه الدلالة: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عليه الحد حتى شهد أربع مرات.
القول الثاني: يثبت الزنا بإقراره مرة واحدة، ولا يشترط التكرار أربعاً.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، ورجحه الشوكاني.
أ-لحديث (واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر تكراراً.
ب- وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر عليهما الإقرار.
ج- والنبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة. رواه مسلم
قالوا: فلو كان تربيع الإقرار شرطاً لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم.
وأجاب هؤلاء عن حديث الباب:
قال الشوكاني: وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك في قصة جابر لقصد التثبت، كما يشعر بذلك قوله:(أبك جنون) ثم بسؤاله بعد ذلك لقومه، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك، وإقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفاً بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات.
•
هل يشترط أن يصرح بذكْر حقيقة الوطء؟
نعم يشترط.
أ- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (أنكْتَها؟ قال: نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب الميل في المكحلة أو الرِّشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً).
وفي حديث ابن عباس: (فقال: أنكتها؟ قال: نعم، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرني، فأمر به فرجم).
ب- التعليل: لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً موجباً للحد، فاشترط فيه التصريح.
•
ما الأمر الثاني الذي يثبت به الزنا؟
البينة، وهو شهادة أربعة رجال.
فالشهود لا بد أن يكونوا أربع رجال يشهدون بأنهم رأوا الزنا نفسه، ولا تقبل شهادة النساء.
قال تعالى: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ).
•
ماذا يشترط في هؤلاء الشهود؟
يشترط:
أولاً: أن يكونوا عدولاً.
قال ابن قدامة: فلا خلاف في اشتراطها.
ثانياً: وأن يكونوا أحراراً.
فلا تقبل شهادة العبد، قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً.
- وهل يشترط أن يكون مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد؟
المذهب: يشترط أن يكون في مجلس واحد دون الحضور، وقيل: لا يشترط، لأن النصوص عامة.
- ويشترط: أن يصرحوا بشهادتهم، فيصرحون بالزنا فيقولون: رأينا ذكره في فرجها، فلو قالوا: رأيناه عليها متجردين فلا يقبل.
فوائد عامة:
•
اختلف العلماء هل يحفر للمرجوم أم لا؟
على أقوال:
القول الأول: أنه يحفر له.
فقد جاء في رواية لمسلم من حديث بريدة: (فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم).
فذهب بعض العلماء إلى أنه يحفر للمرجوم لهذه الرواية.
القول الثاني: أنه لا يحفر له.
لحديث اليهوديين حيث لم يحفر لهما.
ولحديث: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر حفراً، وهذا يدل على عدم الحفر.
القول الثالث: يحفر للمرأة دون الرجل.
والراجح القول الثاني، وهو أنه لا يحفر للمرجوم.
وأما رواية: (فحفر له) في قصة ماعز، فأكثر الروايات في قصة ماعز على عدم الحفر، ومن ثَمّ حكم بعض العلماء على هذه الرواية بالشذوذ.
•
اختلف العلماء: هل المقر بالزنا إذا رجع عن إقراره يقبل أم لا؟
على قولين:
القول الأول: أن المقر بالزنا إذا رجع، فإنه يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد.
وهذا قول أكثر العلماء.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند أبي داود: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه).
فقالوا: هذا دليل على جواز رجوع المقر، وأنه إذا رجع في إقراره حرم إقامة الحد عليه.
القول الثاني: لا يقبل الرجوع عن الإقرار.
وهذا مذهب الظاهرية.
قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: (واغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل ما لم ترجع.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: وأما قولكم إن ماعزاً رجع عن إقراره، فإن ماعزاً لم يرجع عن إقراره أبداً، وهربه لا يدل على رجوعه إطلاقاً، نعم ماعز هروبه قد يكون عن طلب إقامة الحد عليه، فهو في الأول يريد أن يقام عليه الحد، وفي الثاني أراد أن لا يقام عليه الحد وتكون التوبة بينه وبين الله، ولهذا قال:(ألا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) فدل هذا على أن حكم الإقرار باقي، فنحن نقول إن قصة ماعز ما فيها دليل إطلاقاً على رجوع الإقرار، ولكن فيها دليل على أنه رجع عن إقامة طلب الحد عليه، ولهذا إذا جاءنا رجل يقر بأنه زنى ويطلب إقامة الحد، ولما هيأنا الآلة لنقيم عليه الحد وآتينا بالحصى لأجل أن نرجمه، فلما نظر إلى الحصى قال: دعوني أتوب إلى الله، ما ذا نقول له؟ يجب أن ندعه يتوب إلى الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) حينئذٍ ندعه يتوب فيتوب الله عليه.
وأما لو قال: إنه ما زنى، فلا يقبل، لأن هذا الرجل يريد أن يدفع عن نفسه وصفاً ثبت عليه بإقراره.
- والحد الذي ثبت بالإقرار: فإنه لا يجب على الحاكم أن يبادر إليه؛ بل يستحب له أن يُعَرِّض للمقر ليرجع عن إقراره، فإن أصر المقر على إقراره، أقام الإمام عليه الحد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن قصة ماعز: فتضمنت هذه الأقضية رجم الثيب
…
وأن الإمام يستحب له أن يعرض للمقر بأن لا يقر.
قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:
وقد ذكر بعض العلماء أنه يستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار التعريض له بالرجوع، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعرض عن ماعز حين أقر عنده، ثم جاء من الناحية الأخرى فأعرض عنه، حتى تم إقراره أربعاً. ثم قال:(لعلك لمست). وفي "المغني" لابن قدامة (12/ 466): قال الإمام أحمد: لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره، وهذا قول عامة الفقهاء" انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (12/ 466).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"إذَا جَاءَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ وَجَاءَ تَائِبًا فَهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الإمام أَحْمَد، نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا الْقَاضِي بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ: (أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ
…
إلخ الحديث) يَدْخُلُ فِي هَذَا، لِأَنَّهُ جَاءَ تَائِبًا.
1209 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه (أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ اَلرَّجْمِ. قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ اَلرَّجْمَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اَللَّهُ، وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ، أَوْ اَلِاعْتِرَافُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ) قدم عمر هذا الكلام قبل ما أراد أن يقوله توطئة له، ليتيقظ السامع لما يقول.
(وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ اَلرَّجْمِ) وهي كما ذكره بعض العلماء (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة).
(قَرَأْنَاهَا) أي: تلوناها.
(وَوَعَيْنَاهَا) أي: حفظناها.
(وَعَقَلْنَاهَا) أي: تدبرناها.
(وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ) أي: في قوله تعالى (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فبيّن النبي أن المراد به رجم الثيب وجلد البكر. قاله في الفتح.
(إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ) قال القرطبي: يعني بالبينة، الأربعة الشهداء العدول.
(أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ) أي: وجدت المرأة الخلية من زوج أو سيد حبلى، ولم تذكر شبهة ولا إكراهاً.
أَوْ اَلِاعْتِرَافُ) أي: الإقرار بالزنا.
•
هل يقام الحد بالقرينة الظاهرة (الحمل)؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إقامة حد الزنا بالحبل بشرط أن لا تدع شبهة موجبة لدرء الحد كدعوى أنها مكرهة.
وهذا قول عمر، وهو مذهب مالك.
لقول عمر (وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ).
فجعل عمر مجرد وجود الحمل موجباً لإقامة حد الزنا كإيجابه بالبينة أو الاعتراف.
قال ابن القيم: وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد.
ولأن وجود الحمل أمارة ظاهرة على الزنا أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر.
القول الثاني: أنها لا تحد بمجرد الحبل.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، ورجحه الشوكاني.
لحديث (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً) رواه ابن ماجه.
قالوا: والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة:
فيحتمل أنه من وطء إكراه، والمستكرهة لا حد عليها.
ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نوم وهي ثقيلة النوم.
ويحتمل أنه من وطء شبهة.
ويحتمل أنه حصل الحبل بإدخال ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها.
والراجح القول الأول.
1210 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا اَلْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا اَلْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ اَلثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
1211 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَقِيمُوا اَلْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
===
(إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ) الأمَة هي المملوكة.
(فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا) أي: ظهر، قال النووي: معنى تبيّن زناها: تحققه، إما بالبينة، وإما برؤية.
(فَلْيَجْلِدْهَا اَلْحَدَّ) الواجب عليها.
(وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا) التثريب: التوبيخ واللوم.
(فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) أي: ولو كان البيع بثمن قليل، كالحبل من الشعر.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: وجوب إقامة الحد على الأمة إذا زنت.
قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى وُجُوب حَدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاء وَالْعَبِيد.
•
كم حد الأمة إذا زنت؟
(50)
جلدة سواء كانت بكراً أو محصنة.
قال تعالى (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ).
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ خَمْسُونَ جَلْدَةً بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ.
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَالْعَنْبَرِي.
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ) ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، ثُمَّ إنَّ الْمَنْطُوقَ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. (المغني).
وقال النووي: وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَبْد وَالْأَمَة لَا يُرْجَمَانِ، سَوَاء كَانَا مُزَوَّجَيْنِ أَمْ لَا، لِقَوْله صلى الله عليه وسلم (فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ) وَلَمْ يُفَرِّق بَيْن مُزَوَّجَة وَغَيْرهَا.
وقال الشنقيطي:
…
أَمَّا إِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَإِنَّهَا تُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْحَرَائِرُ وَالْعَذَابُ الْجَلْدُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ الزَّانِيَةِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالْأَمَةُ عَلَيْهَا نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ «النِّسَاءِ» هَذِهِ، وَهُوَ خَمْسُونَ; فَآيَةُ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّانِيَةِ الْأُنْثَى.
وَعُمُومُ الزَّانِي فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى، بِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ خَاصًّا بِالزَّانِي الْحُرِّ، أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ.
وَوَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ: إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ فِي تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى بِالرِّقِّ; لِأَنَّ مَنَاطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلَا شَكٍّ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُدُودِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَنَّ الرِّقَّ مَنَاطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحُدُود.
•
هل تغرب الأمة؟
لا تغرب.
قال ابن قدامة: وَلَا تَغْرِيبَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ) وَحَدَّ ابْنُ عُمَرَ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَنَفَاهَا إلَى فَدَكَ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام (الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ).
أ- وَلَنَا، الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي حُجَّتِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَغْرِيبًا، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ.
ب- وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ؛ فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ غَرَّبَهَا.
وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ مِائَةُ جَلْدَةٍ لَا غَيْرُ، فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى تَنْصِيفِ الرَّجْمِ.
ج- وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عُقُوبَةٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ، فَلَمْ يَجِبْ فِي الزِّنَى، كَالتَّغْرِيمِ، بَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ الْعَبْدَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَغْرِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُتْرِفُهُ بِتَغْرِيبِهِ مِنْ الْخِدْمَةِ، وَيَتَضَرَّرُ سَيِّدُهُ بِتَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ، وَالْخَطَرِ بِخُرُوجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَالْكُلْفَةِ فِي حِفْظِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْهُ، فَيَصِيرُ الْحَدُّ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الزَّانِي، وَالضَّرَرُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي.
•
من يقيم حد الجلد على الرقيق؟
يقيمه سيده.
لحديث الباب.
قال النووي: وَفِي الحديث: أَنَّ السَّيِّد يُقِيم الْحَدّ عَلَى عَبْده وَأَمَته، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رضي الله عنه فِي طَائِفَة: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الدَّلَالَة لِلْجُمْهُورِ.
قال ابن قدامة: وَلِلسَّيِّدِ إقَامَةُ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ عَلَى رَقِيقِهِ الْقِنِّ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
لِأَنَّ الْحُدُودَ إلَى السُّلْطَانِ.
وَلِأَنَّ مِنْ لَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْحُرِّ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْعَبْدِ، كَالصَّبِيِّ.
وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيُفَوَّضُ إلَى الْإِمَام.
ثم قال ابن قدامة: وَلَنَا ثم ذكر أحاديث الباب ثم قال:
وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ أَمَتِهِ وَتَزْوِيجَهَا، فَمَلَكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهَا، كَالسُّلْطَانِ، وَفَارَقَ الصَّبِيَّ. (المغني).
•
هل للسيد أن يقيم حد القتل والسرقة على عبده؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين والجمهور على عدم جواز ذلك.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْقَتْلُ فِي الرِّدَّةِ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ، فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا الْإِمَامُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
•
ما حكم من زنى مراراَ؟
اتفق الفقهاء علي أن من زنا مرة وأقيم عليه الحد ثم زنا أخرى أنه يجب عليه حد آخر.
قال النووي: الزَّانِي إِذَا حُدَّ ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا يَلْزَمهُ حَدٌّ آخَر، فَإِنْ زَنَى ثَالِثَة لَزِمَهُ حَدّ آخَر، فَإِنْ حُدَّ ثُمَّ زَنَى لَزِمَهُ حَدّ آخَر، وَهَكَذَا أَبَدًا.
واختلف العلماء فيما إذا تكرر منه الزنا ولم يقم عليه الحد، هل يقام حد واحد أو يقام عليه لكل مرة حد؟ على قولين:
جمهور العلماء على أن من زنا مراراً ولم يقم عليه الحد فلا يجب عليه إلا حد واحد.
قال النووي: فَأَمَّا إِذَا زَنَى مَرَّات وَلَمْ يُحَدّ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَيَكْفِيه حَدّ وَاحِد لِلْجَمِيعِ.
واستدلوا بالإجماع والمعقول:
أما الإجماع:
أ- فقد قال ابن قدامة: قد أجمعوا أنه إذا تكرر الحد قبل إقامته أجزأ حد واحد.
أما المعقول:
ب- أن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل وهو حاصل بالحد الواحد، لأن الغرض هنا من جنس واحد فوجب التداخل كالكفارات.
ج- أنها طهارة سببها واحد فتداخلت.
د- أن تكرار الزنا كتكرار الإيلاج و الاجتراع جرعة بعد جرعة لأن ذلك كالأحداث إذا تواترت قبل الطهارة.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أَنَّهُ لَا يُوَبَّخ الزَّانِي، بَلْ يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ فَقَطْ.
قال القرطبي: قوله (ولا يُثَرِّب عليها) أي: لا يُوبِّخ، ولا يُعيِّر، ولا يُكْثِر من اللَّوم، فإنَّ الإكثار من ذلك يزيل الحياء والحشمة، ويُجزئ على ذلك الفعل. وأيضًا: فإن العبد غالب حاله: أنَّه لا ينفعه اللوم والتوبج، ولا يؤثر، فلا يظهر له أثر، وإنما يظهر أثره في حق الحر. ألا ترى قول الشاعر:
واللَّوم للحرِّ مُقيمٌ رادِعٌ والعبدُ لا يَرْدَعُهُ إلا العصا
وأيضًا: فإن التوبيخ واللَّوم عقوبة زائدة على الحد الذي نصّ الله تعالى عليه فلا ينبغي أن يلتزم ذلك. ولا يدخل في ذلك الوعظ والتخويف بعقاب الله تعالى.
- قوله (فَلْيَبِعْهَا) وَهَذَا الْمَأْمُور بِهِ يَلْزَم صَاحِبه أَنْ يُبَيِّنْ حَالهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ عَيْب، وَالْإِخْبَار بِالْعَيْبِ وَاجِب، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكْرَه شَيْئًا وَيَرْتَضِيه لِأَخِيهِ الْمُسْلِم؟ فَالْجَوَاب: لَعَلَّهَا تَسْتَعِفّ عِنْد الْمُشْتَرِي بِأَنْ يُعِفّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَصُونَهَا بِهَيْبَتِهِ أَوْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَالتَّوْسِعَة عَلَيْهَا أَوْ يُزَوِّجهَا أَوْ غَيْر ذَلِكَ. (نووي).
- فيه دليل على إبعاد أهل المعاص واحتقارهم.
1212 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصِينٍ رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا. فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا» فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدَتْ أَفَضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ) وهي قبيلة معروفة.
(وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا) اعتراف منها بالزنا.
(فَإِذَا وَضَعَتْ) أي: ولدت.
(فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (فَشُكَّتْ)، وَفِي بَعْضهَا (فَشُدَّتْ) بِالدَّالِ بَدَل الْكَاف، وَهُوَ مَعْنَى الْأَوَّل.
(ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ) أي: أمر الناس.
(ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا) أي: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على تلك المرأة.
(لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً) عظيمة.
(لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ) أي: لكفتهم.
(وَهَلْ وَجَدَتْ) بتاء الخطاب، والخطاب لعمر.
(أَفَضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ) من الجود، كأنها تصدقت بنفسها لله تعالى، حيث أقرت عليها بما أدى إلى موتها.
•
هل هذه المرأة هي الغامدية المذكورة في حديث بريدة؟
اختلف العلماء في ذلك:
فذهب بعض العلماء إلى أن هذه المرأة هي المعروفة بالغامدية التي روى حديثها بريدة.
عن بُرَيْدَةَ (أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأَسْلَمِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَزَنَيْتُ وَإِنّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي. فَرَدَّهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ. فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ «أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا» . فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إِلاَّ وَفِىَّ الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.
قَالَ فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. قَالَ «إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِى» . فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِىِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ. قَالَ «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ» . فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِىِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. فَدَفَعَ الصَّبِىَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ «مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ).
ورجح هذا النووي.
وقيل: هما قصتان، للاختلاف الشديد بينهما.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن الحد لا يقام على الحامل حتى تضع.
قال النووي رحمه الله: فِيهِ أَنَّهُ لَا تُرْجَمُ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُقْتَلَ جَنِينُهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ تُجْلَدْ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى تَضَع. (نووي).
وقال ابن قدامة: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَوْ غَيْرِهِ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا
…
وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا إتْلَافًا لَمَعْصُومٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ وَالْقَطْعِ، وَرُبَّمَا سَرَى إلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ، فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِه. (المغني).
•
ماذا نستفيد من قوله (فشكت عليها ثيابها)؟
قال النووي: وَفِي هَذَا اِسْتِحْبَاب جَمْع أَثْوَابهَا عَلَيْهَا وَشَدّهَا بِحَيْثُ لَا تَنْكَشِف عَوْرَتهَا فِي تَقَلُّبهَا وَتَكْرَار اِضْطِرَابهَا، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا تُرْجَم إِلَّا قَاعِدَة، وَأَمَّا الرَّجُل فَجُمْهُورهمْ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَم قَائِمًا، وَقَالَ مَالِك: قَاعِدًا، وَقَالَ غَيْره: يُخَيَّر الْإِمَام بَيْنهمَا.
•
ماذا نستفيد من قوله (ثم أمر بها فرجمت)؟
نستفيد أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم.
قال النووي: قوْله فِي بَعْض الرِّوَايَات (فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ)، وَفِي بَعْضهَا (وَأَمَرَ النَّاس فَرَجَمُوهَا) وَفِي حَدِيث مَاعِز (أَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمهُ) وَنَحْو ذَلِكَ فِيهَا كُلّهَا دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَمُوَافِقِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَم الْإِمَام حُضُور الرَّجْم، وَكَذَا لَوْ ثَبَتَ بِشُهُودٍ لَمْ يَلْزَمهُ الْحُضُور.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد: يَحْضُر الْإِمَام مُطْلَقًا، وَكَذَا الشُّهُود إِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، وَيَبْدَأ الْإِمَام بِالرَّجْمِ إِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالشُّهُودِ بَدَأَ الشُّهُود، وَحُجَّة الشَّافِعِيّ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْضُر أَحَدًا مِمَّنْ رُجِمَ، وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي).
•
لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليها في قوله (فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا. فَقَالَ: أَحْسِنْ إِلَيْهَا)؟
قال النووي: هذا الْإِحْسَان لَهُ سَبَبَانِ:
أَحَدهمَا: الْخَوْف عَلَيْهَا مِنْ أَقَارِبهَا أَنْ تَحْمِلهُمْ الْغَيْرَة وَلُحُوق الْعَار بِهِمْ أَنْ يُؤْذُوهَا، فَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَمَرَ بِهِ رَحْمَة لَهَا إِذْ قَدْ تَابَتْ، وَحَرَّضَ عَلَى الْإِحْسَان إِلَيْهَا لِمَا فِي نُفُوس النَّاس مِنْ النُّفْرَة مِنْ مِثْلهَا، وَإِسْمَاعهَا الْكَلَام الْمُؤْذِي وَنَحْو ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ هَذَا كُلّه.
•
هل يصلي الإمام على المرجوم؟
نعم، يصلي الإمام كما يصلي عليه بقية المسلمين.
فحديث الباب نص على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليها.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الاعتراف تثبت به الحد.
- أنه يكتفى به مرة واحدة.
- الرجم خاص بمن أحصن.
- شد ثياب المرأة عليها عند رجمها، لئلا تنكشف عند اضطرابها.
1213 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مَنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنَ اليَهُودِ، وَامْرَأَةً) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1214 -
وَقِصَّةُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
===
•
اذكر لفظ حديث ابن حديث ابن عمر؟
عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَ يَهُودَ فَقَالَ «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى». قَالُوا نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُحَمِّلُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا. قَالَ «فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِى يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهْوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ).
(نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُحَمِّلُهُمَا) قال النووي: هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (نَحْمِلهُمَا) بِالْحَاءِ وَاللَّام، وَفِي بَعْضهَا (نُجَمِّلهَا) بِالْجِيمِ، وَفِي بَعْضهَا (نُحَمِّمهُمَا) بِمِيمَيْنِ وَكُلّه مُتَقَارِب، فَمَعْنَى الْأَوَّل: نَحْمِلهُمَا عَلَى الْحَمْل، وَمَعْنَى الثَّانِي: نُجَمِّلهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْجَمَل، وَمَعْنَى الثَّالِث: نُسَوِّد وُجُوههمَا بِالْحُمَمِ - بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الْمِيم - وَهُوَ الْفَحْم، وَهَذَا الثَّالِث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْله: نُسَوِّد وُجُوههمَا.
(وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا) بأن يُجعل قفا أحدهما مقابل قفا الآخر.
(وَيُطَافُ بِهِمَا) أي: بين الناس حتى يفضحا بينهم.
•
هل الإسلام شرط في الإحصان؟ (لو تزوج مسلم ذمية هل يعتبر محصناً)؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الإسلام شرط في الإحصان.
فلا يكون الكافر محصناً، ولا تحصن الذمية مسلماً.
وهذا مذهب المالكية.
لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من أشرك بالله فليس بمحصن) رواه الدارقطني، وهو ضعيف.
القول الثاني: أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان.
فالذمي يحصن الذمية، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
واختاره ابن القيم وقال: تضمنت هذه الحكومة أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان وأن الذمي يحصن الذمية وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي. (زاد المعاد).
لحديث الباب.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله تعالى كما في قوله تعالى (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا).
وحكم الزاني المحصن في شريعة الإسلام الرجم بالحجارة، وهما محصنان كما وقع التصريح به في بعض روايات الحديث بلفظ
(إن أخيار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أحصنت) - فحكم صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين وهما كافران ليسا من أهل الإسلام، فدل ذلك على أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان، إذ لو كان شرطاً فيه لما كان حكمهما الرجم، وعليه: فإن الذمي محصن الذمية وأن المسلم إذا تزوج ذمية ووطئها صار محصناً والله أعلم.
وهذا القول هو الراجح.
•
ما الجواب عن من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بينهما بحكم التوراة؟
هذا جواب غير صحيح، بل حكم بينهم بحكم الله.
قال الخطابي: وهذا تأويل غير صحيح: لأن الله سبحانه يقول (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) وإنما جاءه القوم مستفتين طمعاً في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة، فأشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كتموه من حكم التوراة، ثم حكم عليهم بحكم الإسلام على شرائطه لواجبة فيه، وليس يخلو الأمر فما صنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك عن أن يكون موافقاً لحكم الإسلام
أو مخالفاً له، فان كان مخالفاً فلا يجوز أن يحكم بالمنسوخ ويترك الناسخ، وإن كان موافقاً له فهو شريعته، والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون مضافاً إلى غيره ولا يكون فيه تابعاً لمن سواه.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر جواب الخطابي وأيده وذكر الجواب عما في رواية أبي هريرة (فأني أحكم بما في التوراة) بأن في سند هذه الرواية رجل مبهم ثم قال الحافظ، ومع ذلك فلو ثبت لكان معناه لإقامة الحجة عليهم.
وقال ابن القيم: وهذا مما لا يجدي عنهم شيئاً البتة، فإنه حكم بينهم بالحق المحض فيجب اتباعه بكل حال فماذا بعد الحق إلا الضلال.
•
اذكر بعض الفوائد من هذا الحديث؟
- وجوب الحد على الكافر الذمي إذا زنى، وهو قول الجمهور، وَأَنَّهُ يَصِحّ نِكَاحه لِأَنَّهُ لَا يَجِب الرَّجْم إِلَّا عَلَى مُحْصَن، فَلَوْ لَمْ يَصِحّ نِكَاحه لَمْ يَثْبُت إِحْصَانه، وَلَمْ يُرْجَم.
- وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّار مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْع وَهُوَ الصَّحِيح، وَقِيلَ: لَا يُخَاطَبُونَ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالنَّهْيِ دُون الْأَمْر.
- وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّار إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمْ بِحُكْمِ شَرْعنَا.
- وَقَالَ مَالِك: لَا يَصِحّ إِحْصَان الْكَافِر. قَالَ: وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا أَهْل ذِمَّة، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل، لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْل الْعَهْد، وَلِأَنَّهُ رَجَمَ الْمَرْأَة، وَالنِّسَاء لَا يَجُوز قَتْلهنَّ مُطْلَقًا.
- في الحديث الاقتصار على الرجم دون الجلد.
- قوْله صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة؟) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا السُّؤَال لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْم مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي كِتَابهمْ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْدِيهمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ كَمَا غَيَّرُوا أَشْيَاء، أَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِين كَتَمُوهُ.
1215 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبَثَ بِأَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«اضْرِبُوهُ حَدَّهُ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» ، فَفَعَلُوا) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِه.
===
(رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ) تصغير رجل.
(فَخَبَثَ) أي: زنا وفجر.
(فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ) هو سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي سيد الخزرج.
(خُذُوا عِثْكَالًا) العِثكال هو عذق النخل.
(شِمْرَاخٍ) بالكسر هي فروع العثكال، وهي غصون دقيقة تنبت على أصل العثكال في أعلى الغصن الغليظ.
•
ما صحة حديث الباب؟
رجح النسائي، والدارقطني، والبيهقي الإرسال.
•
هل يقام الحد على المريض؟
الْمَرِيضُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرْجَى بُرْؤُهُ.
فهذا يؤخر الحد حتى يبرأ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِي.
عن عَلِى قَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «أَحْسَنْتَ) رواه مسلم قال النووي: فِيهِ أَنَّ الْجَلْد وَاجِب عَلَى الْأَمَة الزَّانِيَة، وَأَنَّ النُّفَسَاء وَالْمَرِيضَة وَنَحْوهمَا يُؤَخَّر جَلْدهمَا إِلَى الْبُرْء.
فائدة:
تضمن التأخير لفائدتين:
أولاً: سلامة المحدود من أن يصيبه مضاعفات.
ثانياً: أنه لا يتعطل حق الله تعالى.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.
فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ، وَشِمْرَاخِ النَّخْلِ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جُمِعَ ضِغْثٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
أ- لحديث أبي أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَهَشَّ لَهَا، فَوَقَعَ بِهَا، فَسُئِلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ.
ب- وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَوْ لَا يُقَامَ أَصْلًا، أَوْ يُضْرَبَ ضَرْبًا كَامِلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يَجُوزُ جَلْدُهُ جَلْدًا تَامًّا، لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إتْلَافِهِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ. (المغني).
1216 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
هذا الحديث مشتمل على حديثين:
قال أبو داود في سننه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ، وَالْمَفْعُولَ بِهِ).
وقال رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ).
وقد جمعهما الحافظ ابن حجر في سياق واحد لاتحاد الصحابي والسند. (منحة العلام).
والحديث ضعيف لا يصح.
- وقد جاء: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ منْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
قال الترمذي: وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الأَوَّلِ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
•
ما حكم اللواط:
قال في المغني: أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وقد ذمه الله في كتابه وعاب على من فعله، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).
وقد نقل الذهبي الاتفاق عل أنه من كبائر الذنوب.
وجريمة اللواط لم يعملها أحد من العالمين قبل قوم لوط، وقد ذكر الله تعالى السور التي فيها عقوبة اللوطية وما حل بهم من البلاء في عشر سور من القرآن الكريم.
قال ابن القيم: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:(اقتلوا الفاعل والمفعول به).
•
ما عقوبة جريمة اللواط؟
اختلف العلماء في عقوبة اللواط على أقوال:
القول الأول: أنه عقوبته كالزاني (الرجم إن كان محصناً والجلد لغير المحصن).
قال ابن القيم: وذهب الحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه إلى أن عقوبته وعقوبة الزنا سواء.
أ-قالوا: لأن الله سماه فاحشة (أتأتون الفاحشة) كما سمى الزنا فاحشة في قوله (وَلا تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) واشتراكهما في الاسم يدل على اشتراكهما في الحكم.
ب- ولأن كلاً منهما إيلاج محرم في فرج محرم، فيعطى حكمه.
القول الثاني: أن فيه التعزير.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
قالوا: لأنه معصية من المعاصي لم يُقدِّر الله ولا رسوله فيه حداً مقدراً فكان فيه التعزير.
القول الثالث: أن عقوبته القتل مطلقاً (محصناً أم غير محصن).
وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال ابن القيم: إنها أصح الروايتين، وهو مذهب مالك.
قال ابن القيم: فذهب أبو بكر الصديق وعلي وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وجابر بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وربيعة الرأي ومالك وإسحاق بن راهوية
…
إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل بكل حال، محصناً كان أو غير محصن.
لحديث الباب (مَنْ وَجَدتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَومِ لُوطٍ فَاقتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ به).
قال ابن القيم: إن الإمام أحمد احتجَّ بهذا الحديث.
وقد نقل ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم إجماع الصحابة على قتله.
قال ابن القيم: اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله، ولم يختلف فيه منهم رجلان، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله، فظن بعض الناس أن ذلك اختلاف منهم في قتله، فحكاها مسألة نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم، وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع.
والراجح أن عقوبته القتل مطلقاً.
•
واختلف الصحابة في كيفية قتله:
فقيل: يحرق.
وهذا قول أبي بكر وعلي وابن الزبير.
قال ابن القيم: حرق باللوطية أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعلي، وعبد الرحمن بن الزبير، وهشام بن عبد الملك.
وقيل: يرجم بالحجارة حتى الموت.
وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس.
وقيل: يرمى من أعلى بناء في البلد ثم يتبع بالحجارة.
وهو مروي عن أبي بكر، وابن عباس.
والأظهر أن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، حسب مصلحة الردع والزجر.
•
من زنى بذات محرم (كعمته أو خالته) فجمهور العلماء أن حكمه حكم الزنا
(يرجم إن كان محصناً، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن).
استدلالاً بالأدلة العامة في حكم الزاني، وأنها تشمل بعمومها من زنا بأجنبية أو بذات محرم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يقتل بكل حال واختاره ابن القيم.
لحديث البراء قال (لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله) رواه النسائي وأحمد.
وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه).
قال ابن القيم: إنه مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
•
ما عقوبة من وقع على بهيمة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه يعزر ولا حد عليه.
وهذا قول الجمهور.
قال ابن القيم: وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة، وأحمد في رواية فإن ابن عباس رضي الله عنهما أفتى بذلك وهو راوي الحديث.
وقال في موضع آخر: أنه يؤدب ولا حد عليه، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، وهو قول إسحاق.
واستدل هؤلاء: أنه لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعقوبات المقدرة لا بد فيها من دليل مثبت ولا دليل هنا ثابت فلا حد إذاً.
قال ابن القيم: ومن لم ير عليه حداً قالوا: لم يصح فيه الحديث، ولو صح لقلنا به، ولم يحل لنا مخالفته.
القول الثاني: أنه يقتل بكل حال.
وهذا مذهب أبي سلمة ابن عبد الرحمن والرواية الثانية عن الإمام أحمد حكى ذلك ابن القيم عنهما. وقال الشافعي إن صح الحديث قلت به.
لحديث الباب (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه).
وجه الاستدلال من هذا الحديث على هذا القول واضح فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أتى بهيمة وقتل البهيمة معه، وليس فيه تفصيل في الفرق بين المحصن وغيره بل يفيد قتله مطلقاً.
القول الثالث: أن حده حد الزاني، يجلد إن كان بكراً ويرجم إن كان محصناً.
وهو قول الحسن البصري، وأحد أقوال الشافعي.
واستدل هؤلاء بالقياس على الزنى بجامع أن كلا منهما وطء في فرج محرم ليس له فيه شبهة فيكون حده كالزنا.
والراجح القول الأول.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما نصه:
ذهب جماهير الفقهاء إلى أنه لا حد على من أتى بهيمة لكنه يعزر.
لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال (من أتى بهيمة فلا حد عليه) ومثل هذا لا يقوله إلا عن توقيف، ولأن الطبع السليم يأباه، فلم يحتج إلى زجر بحد، وعند الشافعية قول: إنه يحد حد الزنى وهو رواية عن أحمد، وعند الشافعية قول آخر: بأنه يقتل مطلقاً محصناً كان أو غير محصن.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فلو أولج الإنسان في بهيمة عزّر، وقتلت البهيمة على أنها حرام جيفة، فإن كانت البهيمة له فاتت عليه، وإن كانت لغيره وجب عليه أن يضمنها لصاحبها.
وقيل إن من أتى بهيمة قتل لحديث ورد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) وهذا عام أخذ به بعض أهل العلم، وقالوا: إن فرج البهيمة لا يحل بحال، فيكون كاللواط، ولكن الحديث ضعيف، ولهذا عدل أهل العلم لمّا ضعف الحديث عندهم إلى أخف الأمرين، وهو قتل البهيمة، وأما الآدمي فلا يقتل؛ لأن حرمته أعظم، ولكن يعزر لأن ذلك معصية، والقاعدة العامة أن التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. (الشرح الممتع).
•
ما الحكمة من قتل البهيمة؟
قال ابن قدامة: واختلف في علة قتلها.
فقيل: إنما قتلت لئلا يعير فاعلها، ويذكر برؤيتها.
وقيل: لئلا تلد خلقا مشوها.
وقيل: لئلا تؤكل. وإليها أشار ابن عباس في تعليله. (المغني).
وجاء في تحفة الأحوذي: قيل: لِئَلَّا يَتَوَلَّدَ مِنْهَا حَيَوَانٌ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ يَلْحَقَ صَاحِبُهَا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا لِإِبْقَائِهَا.
1217 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ.
===
•
لماذا أتى المصنف رحمه الله بهذا الحديث؟
أتى المصنف رحمه الله بهذا ليبين أن جلد الزاني البكر وتغريبه لم ينسخ.
وقد تقدمت المسألة وحكمها.
1218 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُم) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
===
(الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ) جمع مخنث، وهو الرجل الذي يتشبه بالنساء في أخلاقه وحركاته وكلامه.
(وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) جمع مترجلة، وهي المرأة التي تتشبه بالرجال في أخلاقها وحركاتها وكلامها.
•
ما حكم تشبه الرجال بالنساء والعكس؟
حرام.
أ- لحديث الباب.
ورواه البخاري بلفظ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ).
ب- وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ) رواه أبو داود وصححه النووي في (المجموع).
ج- وقالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ مِنْ النِّسَاء) رواه أبو داود.
قال المناوي رحمه الله:
قال المناوي رحمه الله: فيه كما قال النووي: حرمة تشبه الرجال بالنساء وعكسه؛ لأنه إذا حرم في اللباس ففي الحركات والسكنات والتصنع بالأعضاء والأصوات أولى بالذم والقبح، فيحرم على الرجال التشبه بالنساء وعكسه في لباس اختص به المشبه، بل يفسق فاعله للوعيد عليه باللعن. (فيض القدير).
•
هل التحريم مختص بالقصد؟
لا.
قال ابن تيمية: كذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد، فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها مالا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وليُعلم أن التشبه لا يكون بالقصد، وإنما يكون بالصورة، بمعنى: أن الإنسان إذا فعل فعلاً يختص بالكفار وهو من ميزاتهم وخصائصهم فإنه يكون متشبهاً بهم، سواء قصد بذلك التشبه أم لم يقصده، وكثير من الناس يظن أن التشبه لا يكون تشبهاً إلا بالنية، وهذا غلط، لأن المقصود هو الظاهر.
وقال: فإذا قصت المرأة رأسها حتى يكون كرأس الرجل صارت متشبهة بالرجل سواء قصدت التشبه أو لم تقصد؛ لأن ما حصل به التشبه لا يشترط فيه نية التشبه، إذ التشبه تحصل صورته ولو بلا قصد، فإذا حصلت صورة التشبه كانت ممنوعة، ولا فرق في هذا بين التشبه بالكفار، أو تشبه المرأة بالرجل، أو الرجل بالمرأة، فإنه لا يشترط فيه نية التشبه ما دام وقع على الوجه المشبه.
•
اذكر بعض من نهينا عن التشبه بهم؟
جاءت الشريعة بالنهي عن التشبه بكل ناقص، فمما جاءت في النهي عن الشبه بهم: الكفار، والأعاجم، وأهل الجاهلية، والشيطان، والنساء، والأعراب، والحيوانات.
1219 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ادْفَعُوا الْحُدُودَ، مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
1220 -
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِلَفْظ (ادْرَأُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُم) وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضاً.
1221 -
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ بِلَفْظِ: «ادْرَأُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَات).
===
(ادْرَأُوا) أي: ادفعوا.
(بِالشُّبُهَات) أي: فلا تحدوا إلا بأمر متيقن لا يتطرق إليه تأويل.
•
ما صحة أحاديث الباب؟
ضعيفة كما قال المصنف رحمه الله.
• ماذا نستفيد من أحاديث الباب؟
أن الحدود تدرأ بالشبهات، كدعوى الإكراه، أو أنها أتيت وهي نائمة.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الحدود تدرأ بالشبهات.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
واستدلوا بالسنة والإجماع والمعقول.
أما السنة، فاستدلوا بأحاديث الباب.
وأما الإجماع، فقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ من أهل العلم عنه على أن الحدود تدرأ بالشبهة.
أما المعقول فمن جهتين:
الأولى: أن الحد عقوبة كاملة فتستدعي جناية كاملة ووجود الشبهة ينفي تكامل الجناية.
الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن ماعزاً رضي الله عنه لعلك لمست، لعلك قبلت، لعلك كذا، لعلك كذا، وفعل علي رضي الله عنه ذلك مع شراحة، أفلا يكون مقصوداً به الاحتيال للدرء بعد الثبوت لأنه كان بعد صريح الإقرار، وأن لم يكن هذا فلا فائدة إذن من التلقين.
القول الثاني: أنه لا يجوز أن تدرأ الحدود بالشبهات.
وهذا قول الظاهرية.
واستدلوا بالكتاب والسنة والمعقول.
أ- أما الكتاب: فقوله تعالي (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وجه الدلالة: في الآيات دلالة علي النهي عن تعدي أوامر الله و نواهيه، التي منع الشرع من مجاوزتها، فالحدود إذا درأت فهذا تعدٍ وقد نهي عنه.
ب- أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا .... ).
وجه الدلالة: في الحديث دلالة علي أن الحدود لا تثبت مع شبهة؛ لأن الدماء والأعراض و الأبشار مبناها علي التحريم.
ج- أما المعقول: فإن درء الحدود إن استعمل أدي إلي إبطال الحدود جملة، وهذا خلاف إجماع أهل الإسلام، وخلاف الدين وخلاف القرآن والسنن، لأن كل واحد مستطيع أن يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه، فبطل أن يستعمل هذا اللفظ وسقط أن تكون فيه حجة، خاصة والشبهة خاضعة لتقدير العقول.
1222 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلِيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عز وجل) رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّإِ» مِنْ مُرْسَلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَم.
===
(الْقَاذُورَاتِ) أي: المعاصي.
•
ما صحة حديث الباب؟
الحديث: صححه الحاكم وابن السكن وابن الملقن.
انظر: " التلخيص الحبير "(4/ 57) و" خلاصة البدر المنير " لابن الملقِّن.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن من ألمّ بذنب فالمستحب له أن يستتر ويتوب إلى الله.
قال صلى الله عليه وسلم (لَا يَسْتُر اللَّه عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة)
قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنْ يَسْتُر مَعَاصِيه وَعُيُوبه عَنْ إِذَاعَتهَا فِي أَهْل الْمَوْقِف. وَالثَّانِي تَرْك مُحَاسَبَته عَلَيْهَا، وَتَرْك ذِكْرهَا. قَالَ: وَالْأَوَّل أَظْهَر لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر "يُقَرِّرهُ بِذُنُوبِهِ يَقُول: سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم. (نووي)
قال الشيخ ابن عثيمين: ولا نقول بالوجوب، لأنه لو كان واجباً لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقرار الذين أقروا عنده بالزنا.
•
اذكر بعض الأدلة على وجوب اجتناب المعاصي؟
قال تعالى (وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).
وقال تعالى (وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً).
قال صلى الله عليه وسلم (ما نهيتكم عنه فانتهوا) متفق عليه.
كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (
…
والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (والمهاجر من هجر السيئات).
قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: ما عُبد الله بشيء قط أحب إليه من ترك المعاصي.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: أعمال البر يعملها البر والفاجر ولا يتجنب المعاصي إلا صديق.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ولو أن شخصًا ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك وكذلك إذا فعل طاعة.
•
هل هذا حديث: (إذا ابتليتم فاستتروا)؟
جاء معناه في حديث فيه ضعف مرسل عن زيد بن أسلم أنه
…
قال: (من أصاب شيئاً من هذه القاذورات - يعني المعاصي - فليتب إلى الله وليستتر بستر الله) وهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يستتر بستر الله، ولا يفضح نفسه، ولهذا لما جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول أنه زنى أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم مرات لعله يتوب ويستغفر ويرجع حتى لا يتظاهر بهذا الأمر العظيم. فالمقصود أن الإنسان مأمور بالستر والتوبة إلى الله، وعدم إبراز معصيته وإظهارها للناس، ومن تاب تاب الله عليه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فالمؤمن يستر نفسه ولا يعلن معصيته، لكن متى أعلنها إلى ولي الأمر وجب أن يقام عليه الحد إذا كان فيها حد، وإن كان فيها تعزير وجب التعزير، لكن هو مشروع له أن لا يبديها للناس، وأن لا يذهب إلى الحاكم، بل يستتر بستر الله، وليتب إلى الله، وليستغفر الله، ويكفي والحمد لله، هذا هو المشروع. (ابن باز)
…
الأربعاء: 15/ 5/ 1437 هـ
بَابُ حَدِّ اَلْقَذْفِ
تعريفه:
لغة: الرمي.
واصطلاحاً: الرمي بالزنا وباللواط ونحوه مثل قول: يا زاني، يا لوطي.
1223 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اَلْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا اَلْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَاِمْرَأَةٍ فَضُرِبُوا اَلْحَدَّ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.
1224 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (أَوَّلَ لِعَانٍ كَانَ فِي اَلْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بْنُ سَمْحَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِاِمْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اَلْبَيِّنَةَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك) اَلْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَي، وَرِجَالُهُ ثِقَات.
1225 -
وَهُوَ فِي اَلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ.
===
•
ما صحة حديث عائشة؟
حسنه الترمذي، وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه، لكن صرح بالتحديث عند الطحاوي.
والحديث رواه البخاري ومسلم في قصة الإفك مطولة ولم يرد ذكر لجلد الرامين.
•
ما حكم قذف المحصن؟
حرام ومن كبائر الذنوب.
أ- قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ب- وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
قال السعدي رحمه الله: ذكر الله تعالى الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: العفائف عن الفجور (الْغَافِلاتِ) التي لم يخطر ذلك بقلوبهن (الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير.
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن رحمته، وأحل بهم شدة نقمته.
ج- وعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات: .. وذكر منها: وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات). متفق عليه
وقال ابن قدامة: وهو محرم بإجماع الأمة.
•
ما عقوبة من قذف محصناً؟
إذا قذف المكلف محصناً - وسيأتي تعريف المحصن - جلد ثمانين جلدة للحر.
لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فتضمنت هذه الآية ثلاثة أحكام في القاذف:
الأول: جلده ثمانين جلدة.
الثاني: رد شهادته أبداً.
الثالث: فسقه.
قال ابن كثير رحمه الله: فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها: أن يُجلد ثمانين جلدة، الثاني: أنه ترد شهادته أبداً، الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله، ولا عند الناس.
• في قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
…
) هذا الاستثناء يرفع الحكم الأخير، ولاشك في ذلك، وهو الفسق، فإذا تابوا زال عنهم وصف الفسق إلى العدالة، وهل يرجع الاستثناء إلى ما قبل الأخير وهو أنه إذا تاب قبلت شهادته؟
فيه تفصيل:
- إذا أقيم عليه الحد ولم يتب فإنه لا تقبل شهادته.
- وأما بعد توبته، فقد اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب.
وهذا قول أبي حنيفة.
أ- واستدلوا بقوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً .. ) وجه الدلالة: بأن الله أبّد المنع من قبول شهادتهم، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده.
ب- ولأن رد شهادة القاذف ولو تاب عقوبة من تمام الحد، فلا تسقط هذه العقوبة بالتوبة.
القول الثاني: قبول شهادة القاذف إذا تاب.
وهذا قول الشافعي وأحمد ومالك.
أ- واستدلوا بالاستثناء في آية القذف وهو قوله تعالى (
…
إلا الذين تابوا .. ) عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ب- ولأن الصحابة قبلوا شهادة القاذف كما ذكر ذلك ابن القيم.
ج- وقال ابن القيم: وأعظم موانع الشهادة: الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت اتفاقاً، والتائب من القذف أولى بالقبول.
د- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
هـ- أنه ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن قذفوا المغيرة بن شعبة بعدما جلدهم الحد، قال:(من تاب قبلت شهادته) رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به.
وتوبته: أن يكذب نفسه في اتهام المقذوف بالزنى، ولهذا جاء لفظ عمر عند ابن جرير:(من كذب نفسه قبلت شهادته)
فإذا تاب القاذف واستقام قُبلت شهادته، كغيره من المسلمين العدول.
وهذا القول هو الصحيح.
•
ما الحكمة من مشروعية حد القذف
أولاً: منع الترامي بالفاحشة.
ثانياً: صيانة أعراض الناس عن الانتهاك، وحماية سمعتهم من التدنيس.
ثالثاً: لئلا تحصل عداءات وبغضاء، وربما تحصل حروب بسبب الاعتداء على العرض وتدنيسه.
رابعاً: تنزيه الرأي العام من أن يسري فيه هذا القول، ويسمعه الناس بآذانهم.
خامساً: منع إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فإن كثرة الترامي بها، وكثرة سماعها، وسهولة قولها، يجرئ السفهاء على ارتكابها.
•
من هو المحصن الذي يجب بقذفه الحد؟
المحصن: هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف.
الحر.
فلو قذف عبداً فلا حد عليه، لأن الإحصان يطلق على الحرية كما في قوله تعالى (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) أي: الحرائر، فالرقيق ليس محصناً بهذا المعنى على قول الجمهور، وقالت الظاهرية: يقام الحد على قاذف العبد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام) ولم يفرق في ذلك بين الحر والعبد.
البالغ.
بأن يكون المقذوف بالغاً، فإن كان صبياً لم يجب الحد على القاذف وإنما يعزّر، لأن زنا الصبي لا يوجب عليه الحد فلا يجب الحد بالقذف كزنا المجنون، وقيل: لا يشترط البلوغ، وهذا قول مالك، لأنه حر عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير، والأول أظهر، وهو أن من قذف غير بالغ لا يُحد، ولكنه يعزر.
المسلم.
فالكافر ليس بمحصن، فمن أشرك بالله فلا حد على قاذفه على قول الجمهور.
أ- لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
ب- ولأنه لا يتورع عن الزنا، إذ ليس هناك ما يردعه عن ارتكاب الفاحشة.
ج- ولأن عِرْض الكافر لا حرمة له، كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه، بل الكافر أولى، لزيادة الكفر على المعلن بالفسق، فلو قذف كافراً فلا حد عليه.
العاقل.
بأن يكون المقذوف عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يجب الحد على القاذف ولكنه يعزز.
العفيف.
أي: أن يكون عفيفاً عن الزنا لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: العفيفات عن الزنا، وقال تعالى (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي: عفت.
فمن قذف المعروف بفجوره أو المشتهر بالعبث والمجون فلا يحد، لأن القذف إنما شرع لحفظ كرامة الإنسان الفاضل، ولا كرامة للفاسق الماجن، لكن كما سبق في قذف غير المحصن التعزير.
أمثلة: مكلف قذف صغيراً فلا حد عليه.
امرأة بالغة قذفت رجلاً بالغاً فإنه يقام عليها الحد.
حر قذف عبداً فلا يقام عليه الحد.
مكلف عاقل قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد.
•
هل هناك فرق بين أن يكون المقذوف رجلاً أو امرأة؟
لا فرق بين أن يكون القاذف أو المقذوف رجلاً أو امرأة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء.
فإن قيل: ما الحكمة من ذكر المحصنات في الآية وكذلك في الحديث؟
فقيل: إنما ذكر النساء دون الرجال لأن قذفهن أكثر وأشنع.
قال ابن جزي رحمه الله: والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى، إذ لا فرق بينهم، وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد.
وقيل: المراد بالمحصنات في الآية (الأنفس المحصنات)؛ فتعم بذلك الرجال والنساء.
وقيل: تخصيص النساء هنا لخصوص الواقعة، ومراعاة قصة كانت سبب نزول الآية، ثم يكون الحكم بالعلة الجامعة والمعنى المشترك الذي يمنع تخصيص النساء دون الرجال.
•
ماذا يشترط في القاذف؟
أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً (سواء كان ذكراً أو أنثى).
فلو أن امرأة قذفت رجلاً فإنه يقام عليها الحد.
•
ما الدليل على أن قذف الصبي والمجنون لا يعتبر؟
أ- قواعد الشريعة المأخوذة من النصوص العامة، كحديث (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَة).
ب- وحديث (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ).
ج- ولأن القذف جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بأنه جناية.
د- فإذا كان القاذف صبياً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حد عليه، لأن العقل مدار التكليف ومناطه، والمجنون لا يعتد بكلامه، فلا يؤثر قذفه، فإن كان الصبي مراهقاً بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزر تعزيراً مناسباً، لكن لا يُحدّ ما دام أنه لم يبلغ.
•
ما ألفاظ القذف؟
الألفاظ التي يقذف بها نوعان: صريحة، وكناية.
أما اللفظ الصريح، فهو الذي لا يفهم منه إلا القذف بالزنى أو اللواط، ولا يقبل من القاذف أن يدعي أنه أراد به معنى آخر غير القذف.
مثاله: يا زاني، زنيتَ، زنيتِ، يا لوطي.
ولا يقبل منه إذا قال: أردت بقولي له: "يا لوطي" أنه على دين لوط عليه السلام، أو أنه يعمل عمل قومه إلا إتيان الفاحشة، لأن هذا اللفظ "يا لوطي" لا يفهم منه عند الإطلاق إلا القذف بالفاحشة.
قال في الروض المربع: وصريح القذف" قول: يا زاني يا لوطي ونحوه، كـ يا عاهر أو قد زنيت أو زنى فرجك ويا منيوك ويا منيوكة إن لم يفسره بفعل زوج أو سيد.
وأما الكناية.
فهو اللفظ الذي يحتمل أن يكون قذفاً، ويحتمل غير ذلك احتمالاً قوياً.
فهذا يُسأل القاذف عما أراد ويجب عليه أن يصدق، لأن إقامة الحد عليه في الدنيا أهون عليه من عقوبته في الآخرة، فإن قال: أردت القذف، فهو قذف، وإن قال: أردت غير القذف، فلا حد عليه، ولكن يعزر لسبه الناس.
مثال ذلك: يا خبيث، يا خبيثة، يا فاجر، يا فاجرة
…
وينبغي أن يُعلم أنه يرجع في معاني الألفاظ إلى العرف، وذلك يختلف باختلاف البلاد والأزمان، فقد يكون اللفظ كناية عند قوم، صريحاً عند آخرين، فيجب أن يراعى ذلك.
•
هل حد القذف يجوز العفو عنه من قبل المقذوف؟
نعم.
حد القذف حق للمقذوف، فإن أسقطه: سقط.
قال ابن قدامة: ويعتبر لإقامة الحد [حد القذف] مطالبة المقذوف، لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه، كسائر حقوقه
…
فلو طلب [يعني: إقامة الحد] ثم عفا عن الحد، سقط، وبهذا قال الشافعي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَلَا يُحَدُّ الْقَاذف إلَّا بِالطَّلَبِ إجْمَاعاً.
وقال في (زاد المستقنع) وَهُوَ حَقٌّ لِلْمَقْذُوفِ" انتهى.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وبناء على أنه حق للمقذوف: يسقط بعفوه، فلو عفا بعد أن قذفه بالزنا فإن حد القذف يسقط؛ لأنه حق له، كما لو كان عليه دراهم، فعفا عنها: فإنها تسقط عنه، ولا يُستوفى بدون طلبه.
•
ما الحكم إن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا؟
لا يحد ولكنه يعزر.
لأنه لا عار عليهم به، للقطع بكذبه.
•
متى يسقط حق القذف عن القاذف؟
يسقط حد القذف عن القاذف في عدة حالات:
الأولى: أن يأتي بأربعة شهود فيشهدون على المقذوف بأنه زنى، لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
الثانية: أن يقر المقذوف على نفسه بالزنى، باتفاق العلماء. (المغني).
الثالثة: إذا كان القاذف هو الزوج وقد قذف زوجته، فله أن يسقط الحد عن نفسه باللعان، لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ).
ولما قذف هلال بن أمية امرأته لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ولم يحد هلالاً حد القذف. رواه مسلم.
الرابعة: أن يعفو المقذوف عن حقه، ولا يطالب بإقامة الحد على القاذف.
فائدة:
قذف عائشة كفر بالاتفاق.
قال الإمام النووي رحمه الله: براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين.
وقال ابن القيم رحمه الله: واتفقت الأمة على كفر قاذفها.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن.
وقال بدر الدين الزركشي: فمن قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها.
فائدة:
قال المرداوي الحنبلي: من تاب من الزنى، ثم قُذف: حُدَّ قاذفه، على الصحيح من المذهب. (الإنصاف).
•
هل جلد النبي صلى الله عليه وسلم ممن تكلم في عائشة في قصة الإفك؟
قال ابن القيم: وَلَمّا جَاءَ الْوَحْيُ بِبَرَاءَتِهَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ صَرّحَ بِالْإِفْكِ فَحُدّوا ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ وَلَمْ يَحُدّ الْخَبِيثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ مَعَ أَنّهُ رَأْسُ أَهْلِ الْإِفْكِ.
فَقِيلَ: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد.
وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَسْتَوْشِي الْحَدِيثَ وَيَجْمَعُهُ وَيَحْكِيهِ وَيُخْرِجُهُ فِي قَوَالِبِ مَنْ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْحَدّ لَا يَثْبُتُ إلّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِبَيّنَةٍ وَهُوَ لَمْ يُقِرّ بِالْقَذْفِ وَلَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَإِنّهُ إنّمَا كَانَ يَذْكُرُهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: حَدّ الْقَذْفِ حَقّ الْآدَمِيّ لَا يُسْتَوْفَى إلّا بِمُطَالَبَتِهِ وَإِنْ قِيلَ إنّهُ حَقّ لِلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَعَائِشَةُ لَمْ تُطَالِبْ بِهِ ابْنَ أُبَيّ.
وَقِيلَ بَلْ تَرَكَ حَدّهُ لِمَصْلَحَةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ إقَامَتِهِ كَمَا تَرَكَ قَتْلَهُ مَعَ ظُهُورِ نِفَاقِهِ وَتَكَلّمِهِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ مِرَارًا وَهِيَ تَأْلِيفُ قَوْمِهِ وَعَدَمُ تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ كَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تُؤْمَنْ إثَارَةُ الْفِتْنَةِ فِي حَدّهِ وَلَعَلّهُ تُرِكَ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ كُلّهَا.
فجلد مسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيراً لهم وتكفيراً. وترك عبد الله ابن أبي إذا: فليس هو من أهل ذاك.
والحافظ ابن حجر يقف على هذه الوجوه من الحكمة التي أبداها ابن القيم في ترك حد عبد الله ابن أبي فيتعقبه بأن الرواية قد وردت بإقامة الحد على عبد الله ابن أبي فيقول: وأبدى صاحب (الهدى) الحكمة في ترك الحد على عبد الله ابن أبي، وفاته أنه ورد ذكره أيضا فيمن أقيم عليه الحد، ووقع ذلك في رواية أبي أويس عن الحسن بن زيد عن عبد الله ابن أبي بكر أخرجه الحاكم في (الإكليل).
1226 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ (لَقَدْ أَدْرَكَتُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، وَمِنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ اَلْمَمْلُوكَ فِي اَلْقَذْفِ إِلَّا أَرْبَعِينَ) رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ فِي "جَامِعِهِ".
===
•
كم حد المملوك إذا قذف حراً؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن حد المملوك ذكراً أم أنثى إذا قذف حراً أربعون جلدة.
لفعل الصحابة.
قال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ; لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ كَحَدِّ الزِّنَى.
القول الثاني: أن حد المملوك إذا قذف حراً ثمانون جلدة كحد الحر.
وهذا قول ابن مسعود، واختاره ابن حزم.
لعموم الآية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
ورجحه الشنقيطي فقال: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا جُلِدَ ثَمَانِينَ لَا أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا جَلْدَهُ ثَمَانِينَ.
لِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَشْطِيرِ الْحَدِّ عَنِ الْأَمَةِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَأَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ بِهَا الْعَبْدَ بِجَامِعِ الرِّقِّ، وَالزِّنَى غَيْرُ الْقَذْفِ.
أَمَّا الْقَذْفُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ فِي خُصُوصِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُ الْقَذْفِ عَلَى الزِّنَى فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ; لِأَنَّ الْقَذْفَ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، وَالرَّدْعُ عَنِ الْأَعْرَاضِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَيُرْدَعُ الْعَبْدُ كَمَا يُرْدَعُ الْحُرُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. (أضواء البيان).
1227 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مِنْ قَذْفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ اَلْحَدُّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(مِنْ قَذْفَ مَمْلُوكَهُ) عند مسلم (وهو بريء مما قال).
•
هل يحد الحر إذا قذف عبداً؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
لقول الأول: أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا وإنما عليه التعزير.
أ-لحديث الباب (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال).
وجه الدلالة: أنه لو وجب على السيد حد في الدنيا إذا قذف عبده لذكره كما ذكره في الآخرة، فلما لم يذكره دل على أنه لا حد عليه.
قال النووي معلقاً على هذا الحديث: فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعرز قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن فيه، سواء من هو كامل الرق أو فيه شائبة حرية.
ب- الإجماع.
وقد حكاه على هذا الحكم بالتفريق غير واحد من أهل العلم منهم النووي، والقرطبي، وابن قدامة، والحافظ ابن حجر.
القول الثاني: أن الحر إذا قذف العبد أقيم عليه الحد.
وهو قول الظاهرية وانتصر له ابن حزم
أ- لعموم آية القذف وهي قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى رتب حكم الذين يرمون المحصنات أي العفائف على الإحصان وهو العفة، وهذا يشمل الحر والعبد لأن (المحصنات) جمع معرف بـ (أل) فيفيد العموم، كما أن لفظ (الذين) اسم موصول عام، فيشمل الذين يرمون الأحرار أو العبيد بناء على تفسير المحصنات بالعفائف، فيجب إذا حد قاذف العبد كقاذف الحر.
ب- أن العبد يحد للزنا، فيحد القاذف له بالزنا؛ كالحر.
ج-أن الحكمة من الحد هي منع الترامي بالفاحشة وتنزيه الرأي العام من أن يسري فيه هذا القول، وتلك حكمة تتحقق في رمي العبيد وغيرهم.
ج-أن للعبد كرامته فيجب أن تصان عن الابتذال؛ كما تصان كرامة الأحرار.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن السيد إذا قذف عبده بالزنا لم يحد للقذف في الدنيا.
- أن مرتبة العبد دون مرتبة الحر.
- إثبات القصاص يوم القيامة.
بَابُ حَدِّ اَلسَّرِقَةِ
تعريفها:
لغة: مأخوذة من الاستخفاء والتستر.
وشرعاً: أخذ المال على وجه الخفية والاستتار.
1228 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم. وَلَفْظُ اَلْبُخَارِيِّ: (تُقْطَعُ اَلْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا).
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ (اِقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ).
1229 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍ، ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
•
ما حكم السرقة؟
حرام، ومن كبائر الذنوب.
قال تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكن هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده).
•
لماذا قدم تعالى الرجل في قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا .. ) وفي الزنا قال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) فقدم المرأة؟
لأن مقام السرقة يكون الأكثر فيه الرجل، فلديه من القوة والشجاعة والإقدام ما ليس عند المرأة، ومن ثم قدمه في الذكر، بينما في موضع الزنا، قدم الأنثى لأن المرأة عندها من التفنن في الافتتان ما ليس عند الرجل، ولذا قد يخرج الرجل يريد الزنا ولا يجد شيئاً، بينما المرأة لو خرجت تريد الزنا وجدته، فلذلك قدمها على الرجل.
وقال بعض العلماء: قُدِّمَ ذِكْرُ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي لِلِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْبَاعِثُ (أي السبب) عَلَى زِنَى الرَّجُلِ وَبِمُسَاعَفَتِهَا الرَّجُلَ يَحْصُلُ الزِّنَى وَلَوْ مَنَعَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مَا وَجَدَ الرَّجُلُ إِلَى الزِّنَى تَمْكِينًا، فَتَقْدِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي تَحْذِيرِهَا.
فقدمت المرأة في الزنا لأنها هي من تعرض نفسها، فهي سلعة معروضة، فإذا فقدت السلعة فقد الطالب لها، فلما كانت معروضة كانت مطلوبة، ولو بقيت محجوبة متعففة لما حصل بها فتنة.
فدور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه، وتفتنه لذلك أمر الحق تبارك وتعالى الرجال بغَضِّ البصر وأمر النساء بذلك أيضاً وبعدم إبداء الزينة، وعدم التبرج، والمكوث في البيت كل ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها.
قال الحافظ في الفتح: وقدم السارق وقدمت الزانية على الزاني لوجود السرقة غالباً في الذكورية، ولأن داعية الزنا في الإناث أكثر، ولأن الأنثى سبب.
وقال الشيخ محمد السريّع: وأما السؤال الثاني: فقد يتردد على ألسنة المفسرين كثيراً، وذكروا له عدة أجوبة، والذي يظهر لي هو أن الابتداء بالمذكر في المائدة هو الأصل، ومع ذلك فله مناسبة وهي أن السرقة في الرجال قد تكون أكثر.
وأما تقديم المؤنث في قوله (الزانية والزاني) فلأمور منها:
أن الزنا لا يحصل إلا بمساعفة المرأة وتمكينها من نفسها، بل وتعرضها للرجل وإغوائها وإغرائها له، ولذا قدمت زجراً لها.
الوجه الثاني وهو أظهر: أنها لما كان الزنا في حق المرأة أشنع، وعاقبته أفظع، وتبعاته عليها أضر، مِنْ فقد البكارة، والتلبس بالحبل، وما يتبعه من الولد واشتباه النسب، وزيادة العار المتعدي، وكانت هذه الأمور وغيرها مما يبقى أثره ومعرفته على المرأة بخلاف الرجل الذي لا يلحقه من ذلك شيء، ولذلك يقل إقبال الأزواج على المرأة الزانية، وتضعف رغبتهم فيها .. لهذا كله ولغيره -والله أعلم- قدم لفظ (الزانية).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد وجوب قطع يد السارق.
كما في الآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
…
).
قال ابن قدامة: بَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا).
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
فِي أَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ، نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ.
•
الحديث دليل لشرط من شروط قطع يد السارق؛ فما هو؟
الشرط هو: أن يكون المسروق نصاباً.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال النووي: وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: وَلَا تُقْطَع إِلَّا فِي نِصَاب لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشترط النصاب، بل تقطع اليد في القليل والكثير.
قال النووي:
…
فَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: لَا يُشْتَرَط نِصَاب بَلْ وَيُقْطَع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير، وَبِهِ قَالَ اِبْن بِنْت الشَّافِعِيّ مِنْ أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْخَوَارِج وَأَهْل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى (وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهمَا) وَلَمْ يَخُصُّوا الْآيَة. (نووي).
واستدلوا بالحديث الآتي (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده،
…
) وسيأتي الجواب عنه.
والراجح مذهب الجمهور.
•
كم مقدار النصاب؟
اختلف القائلون بشرطية النصاب في مقداره على أقوال:
وقد ذكر النووي الخلاف فقال:
فَقَالَ الشَّافِعِيّ النِّصَاب رُبْع دِينَار ذَهَبًا، أَوْ مَا قِيمَته رُبْع دِينَار، سَوَاء كَانَتْ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر، وَلَا يُقْطَع فِي أَقَلّ مِنْهُ.
وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ.
وَهُوَ قَوْل عَائِشَة وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْث وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ دَاوُدَ.
وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: تُقْطَع فِي رُبْع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته أَحَدهمَا، وَلَا تُقْطَع فِيمَا دُون ذَلِكَ، وَقَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن شُبْرُمَةَ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن فِي رِوَايَة عَنْهُ: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي خَمْسَة دَرَاهِم، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي عَشَرَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته ذَلِكَ.
وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّ النِّصَاب أَرْبَعَة دَرَاهِم.
وَعَنْ عُثْمَان الْبَتِّيّ أَنَّهُ دِرْهَم.
وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ دِرْهَمَانِ.
وَعَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَة دَنَانِير.
ثم قال: وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ.
لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِبَيَانِ النِّصَاب فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ لَفْظه وَأَنَّهُ رُبْع دِينَار، وَأَمَّا بَاقِي التَّقْدِيرَات فَمَرْدُودَة لَا أَصْل لَهَا مَعَ مُخَالَفَتهَا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيث.
وَأَمَّا رِوَايَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم) فَمَحْمُولَة عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْر كَانَ رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا، وَهِيَ قَضِيَّة عَيْن لَا عُمُوم لَهَا، فَلَا يَجُوز تَرْك صَرِيح لَفْظه صلى الله عليه وسلم فِي تَحْدِيد النِّصَاب لِهَذِهِ الرِّوَايَة الْمُحْتَمَلَة، بَلْ يَجِب حَمْلهَا عَلَى مُوَافَقَة لَفْظه، وَكَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى:(لَمْ يَقْطَع يَد السَّارِق فِي أَقَلّ مِنْ ثَمَن الْمِجَنّ) مَحْمُولَة عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبْع دِينَار، وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِيُوَافِق صَرِيح تَقْدِيره صلى الله عليه وسلم. (نووي).
•
ما الشرط الثاني من شروط قطع يد السارق؟
الشرط الثاني: أن يكون هناك عملية سرقة.
قال ابن قدامة: وَمَعْنَى السَّرِقَةِ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخِفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ.
وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، وَمُسَارَقَةُ النَّظَرِ، إذَا كَانَ يَسْتَخْفِي بِذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَطَفَ أَوْ اخْتَلَسَ، لَمْ يَكُنْ سَارِقًا، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ غَيْرَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: أَقْطَعُ الْمُخْتَلِسَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْفِي بِأَخْذِهِ، فَيَكُونُ سَارِقًا، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ).
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ) رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ.
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَهَذَا غَيْرُ سَارِقٍ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ نَوْعٌ مِنْ الْخَطْفِ وَالنَّهْبِ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْفِي فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلَاسِهِ، بِخِلَافِ السَّارِقِ. (المغني).
• فلا قطع على المنتهب: وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنمة معتمداً على قوته.
ولا على المختلس: وهو الذي يأخذ المال خطفاً.
ولا على الغاصب: وهو الذي يأخذ المال قهراً بغير حق.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس على خائن ولا متتهب ولا مختلس قطع) رواه أبوداود.
• واختلف في جاحد العارية هل تقطع يده أم لا؟ على قولين، سيأتي ذكر الخلاف إن شاء الله.
• فائدة: من الشروط أيضاً:
أن يكون المسروق مالاً محترماً:
المال المحترم: مثل الثياب والطعام والدراهم والكتب وغيرها.
فلا قطع في سرقة آلة لهو كالمزمار والعود والربابة لتحريمها.
وانتفاء الشبهة. [والشبهة: هي كل ما يمكن أن يكون عذراً للسارق في الأخذ].
فلو سرق الابن من مال أبيه فلا قطع، لوجود شبهة إنفاق، لأن نفقة كل واحد منهما تجب في مال الآخر.
ولو سرق الأب من مال ابنه فلا قطع، لوجود شبهة، وهي شبهة التملك والتبسط به.
فالأصول والفروع لا يقطع بعضهم بالسرقة من مال بعض.
وذهب بعض العلماء: إلى أن كل قريب سرق من قريبه يقطع، إلا الأب إذا سرق من مال ولده فلا يقطع.
لعموم الأدلة الدالة على وجوب القطع، واستثني الأب لحديث (أنت ومالك لأبيك).
وهذا مذهب الشافعي.
وذهب بعض العلماء: أن من وجبت نفقته لم يقطع بالسرقة منه وإلا قطع.
وهذا القول فيه قوة وكذلك الذي قبله.
• ولا يقطع أحد من الزوجين بسرقتهِ من مال الآخر.
لأن كل منهما يرث صاحبه بغير حجب، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد والولد.
وقيل: يقطع لعموم الآية.
وقيل: يقطع الزوج ولا تقطع الزوجة، لأن لها النفقة في مال زوجها.
1230 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ اَللَّهُ السَّارِقَ؛ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا.
===
•
بما استدل بعض العلماء بهذا الحديث؟
استدل به بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به، سواء كان قليلاً أو كثيرًا.
ولعموم الآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) فلم يعتبروا نصابًا ولا حِرْزًا، بل أخذوا بمجرد السرقة.
•
تقدم أنه يشترط للقطع النصاب، اذكر كلام العلماء في معنى حديث الباب؟
اختلف العلماء في معنى الحديث:
قال جماعة: المراد بها بيضة الحديد، وحبل السفينة، وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار، وأنكره المحققون وضعفوه.
وقيل: المراد التنبيه على عظم ما خسر، وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة.
وقيل: أراد جنس البيض وجنس الحبل.
وقيل: إنه إذا سرق البيضة فلم تقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع، فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه.
قال النووي: وَالصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد التَّنْبِيه عَلَى عَظِيم مَا خَسِرَ، وَهِيَ يَده فِي مُقَابَلَة حَقِير مِنْ الْمَال وَهُوَ رُبْع دِينَار، فَإِنَّهُ يُشَارِك الْبَيْضَة وَالْحَبْل فِي الْحَقَارَة، أَوْ أَرَادَ جِنْس الْبَيْض وَجِنْس الْحَبْل، أَوْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ الْبَيْضَة فَلَمْ يُقْطَع جَرَّهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَة مَا هُوَ أَكْثَر مِنْهَا فَقُطِعَ، فَكَانَتْ سَرِقَة الْبَيْضَة هِيَ سَبَب قَطْعه، أَوْ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ قَدْ يَسْرِق الْبَيْضَة أَوْ الْحَبْل فَيَقْطَعهُ بَعْض الْوُلَاة سِيَاسَة لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا عِنْد نُزُول آيَة السَّرِقَة مُجْمَلَة مِنْ غَيْر بَيَان نِصَاب، فَقَالَهُ عَلَى ظَاهِر اللَّفْظ؛ وَاللَّهُ أَعْلَم.
وقال ابن كثير: وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة (يَسْرقُ البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) بأجوبة:
أحدها: أنه منسوخ بحديث عائشة، وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.
والثاني: أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.
والثالث: أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده.
ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة. (تفسير ابن كثير).
1231 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الْلَّهِ»؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ
…
) الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ الْنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا.
===
•
اذكر لفظ الحديث كاملاً؟
عَنَ عَائِشَةَ (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ». ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
(أَنَّ قُرَيْشًا) أي القبيلة المشهورة.
(أَهَمَّهُمْ) أي: أجلبت إليهم همّاً أو صيرتهم ذوي همّ بسبب ما وقع منها.
وسبب همهم خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص في الحدود، وكان قطع السارق معلوماً عندهم قبل الإسلام
(الَّتِي سَرَقَتْ) جاء في رواية (في عهد رسول الله في غزوة الفتح) وجاء في رواية عند ابن ماجه تعيين المسروق، عن ابن مسعود بن الأسود قال:(لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله أعظمن ذلك فجئنا إلى رسول الله نكلمه) وسنده حسن
(فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّه) أي: من يشفع عنده فيها ألا تقطع إما عفواً وإما فداءً، وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود ولفظه بعد قوله (أعظمنا ذلك)(فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا نحن نفديها بأربعين أوقية فقال تطهر خير لها) وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف الذي زنى بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة، ووجدت لحديث مسعود هذا شاهداً عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو (أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قومها نحن نفديها). (الفتح).
(فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ) بسكون الجيم وكسر الراء، أي من يتجاسر عليه.
(إِلاَّ أُسَامَةُ) بن زيد.
(حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بكسر المهملة، بمعنى محبوب.
قال ابن حجر: وكان السبب في اختصاص أسامة بذلك، ما أخرجه بن سعد من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة:(لا تشفع في حد وكان إذا شفع شفّعه) بتشديد الفاه أي قبِل شفاعته.
(إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُم) جاء عند النسائي (إنما هلك بنوا إسرائيل) قال ابن دقيق العيد: الظاهر أن هذا الحصر ليس عاماً، فإن بني إسرائيل كان فيهم أموراً كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود، فلا ينحصر ذلك في حد السرقة.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.
قال ابن قدامة رحمه الله: ولا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَب).
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ، لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطُ حَقٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَقَالَ:(أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى)، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِه. (المغني).
وقال النووي: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الشَّفَاعَة فِي الْحَدّ بَعْد بُلُوغه إِلَى الْإِمَام، لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَعَلَى أَنَّهُ يَحْرُم التَّشْفِيع فِيهِ، فَأَمَّا قَبْل بُلُوغه إِلَى الْإِمَام فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَة فِيهِ أَكْثَر الْعُلَمَاء إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فِيهِ صَاحِب شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْفَع فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَوَاجِبهَا التَّعْزِير فَتَجُوز الشَّفَاعَة وَالتَّشْفِيع فِيهَا، سَوَاء بَلَغَتْ الْإِمَام أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا أَهْوَن، ثُمَّ الشَّفَاعَة فِيهَا مُسْتَحَبَّة إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فِيهِ صَاحِب أَذًى وَنَحْوه. (نووي).
وقد ترجم البخاري - بباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان.
ويؤيد هذا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لأسامة لما تشفع (لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة).
وأخرج أبو داود حديث عمرو بن شعيب عَنْ أَبِيِهِ عن جده يرفعه (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) وصححه الحاكم، ترجم له أبو داود: العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان.
وأخرج أبو داود والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر، قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول (من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضاد اللَّه في أمره).
وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قَالَ: (لقي الزبير سارقاً فشفع فيه فقيل: حتى يبلغ الإمام، فقال: إذا بلغ الإمام فلعن اللَّه الشافع والمشفع).
فلا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه إذا وصل الأمر إلى الحاكم.
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن الجارود، والحاكم، عن صفوان بن أمية رصي اللَّه تعالى عنه: أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟).
•
هل جاحد العارية تقطع يده أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن جاحد العارية تقطع يده.
وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم، وابن القيم.
لرواية مسلم (كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ الْنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا).
وهي صريحة في أن جاحد العارية يجب عليه القطع.
القول الثاني: أن جاحد العارية لا قطع عليه.
وهذا مذهب جمهور العلماء: المالكية، والحنفية، والشافعية، واختاره ابن قدامة.
أ- لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) رواه أبو داود.
وجاحد العارية خائن للأمانة فلا قطع عليه.
ب-أن شرط السرقة الأخذ من الحرز وهتكه، وليس في جحد العارية هتك لحرز فلا قطع عليه.
ج-أن جاحد العارية غير السارق في المعنى، لأن السارق يأخذ المال خفية بخلاف الجاحد، فإنه مؤتمن خائن لأمانته، والقطع واجب على السارق لا على الجاحد.
قال ابن قدامة: وَعَنْهُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ
…
، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا قَطْعَ عَلَى الْخَائِنِ)، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَالْجَاحِدُ غَيْرُ سَارِقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَائِنٌ، فَأَشْبَهَ جَاحِدَ الْوَدِيعة. (المغني).
وأجابوا على رواية: (كانت تستعير المتاع فتجحده) بأجوبة:
أولاً: أن هذه المرأة لم تقطع لجحدها العارية، وإنما قطعت لكونها قد سرقت، ويدل على ذلك أمران:
أ- الروايات الأخرى (أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت
…
).
ب- أن الروايات في قصة المخزومية قد عللت سبب قطعها بالسرقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
…
وقال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فهذا دليل على أن قطعها كان لسرقتها.
ثانياً: أن الرواية التي فيها استعارتها للمتاع، وجحدها له، هذا لأنها كانت معروفة بهذه الصفة فسميت بها في هذه الرواية.
قال القرطبي: يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها: قوله في آخر الحديث التي ذكرت فيه العارية: (لولا أن فاطمة سرقت) فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغياً، ولقال: لو أن فاطمة جحدت العارية ".
• أن رواية (القطع في العارية) ضعيفة. [لكن هذا فيه نظر].
وقال ابن قدامة: وَالْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ إنَّمَا قُطِعَتْ لِسَرِقَتِهَا، لَا بِجَحْدِهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ:(إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ)، وَقَوْلَهُ:(وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَة بِنْت مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْت يَدَهَا)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ رِوَايَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَذَكَرَتْ الْقِصَّةَ. (المغني).
وجاء في (طرح التثريب).
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ
وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ، فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِجَمَاهِيرِ الرُّوَاةِ، وَالشَّاذَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ رَوَى أَنَّهَا سَرَقَتْ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْحَدُ الْمَتَاعَ، وَانْفَرَدَ مَعْمَرٌ بِذِكْرِ الْجَحْدِ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِحِفْظِهِ .....
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَطْعَها إنَّمَا كَانَ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْعَارِيَّةُ تَعْرِيفًا لَهَا، وَوَصْفًا؛ لَا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ. وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَة.
وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالنَّوَوِيِّ عَنْ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ السَّرِقَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا عِنْدَ الرَّاوِي ذِكْرُ مَنْعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ، لَا الْإِخْبَارِ عَنْ السَّرِقَةِ انْتَهَى " انتهى.
والراجح القول الثاني.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- وجوب القطع بالسرقة.
- إقامة الحد على السارق شريفاً كان أو وضيعاً.
- الإنكار على من شفع في الحدود بعد وصولها للإمام.
وقد جاء في الحديث (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره) رواه أبو داود.
- فيه أن من سبب هلاك الأمم عدم إقامة حدود الله على جميع الناس، ففيه التحذير من هذا العمل.
- عدل النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يفرق بين غني وفقير، ولا عظيم ولا حقير.
- عظم منزلة فاطمة عند أبيها.
- مساواة الشريف وغيره في أحكام اللَّه تعالى وحدوده وعدم مراعاة الأهل، والأقارب في مخالفة الدين.
- ينبغي للعالم أو القدوة أن يخطب بالناس إذا احتاج الأمر إلى ذلك.
- أن خطب النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين:
قسم راتب: كخطب الجمعة. وقسم عارض: كخطبة الكسوف، وخطبته في قصة بريرة.
- أن الذنوب والمعاصي سبب لهلاك الأمم.
- أن عقوبة الله للأمم لا تختلف بالنسبة للأمم، لأنه ليس بين الله وبين الخلق نسب حتى يراعيهم.
- أن حد السرقة ثابت في الأمم الماضية.
- جواز الحلف من غير استحلاف.
- فضل أسامة ومنزلته عند الله.
- دخول النساء مع الرجال في حد السرقة.
- ترك المحاباة في إقامة الحد.
- الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم.
- الإنكار على من فعل ما يُنكر عليه.
- أن إقامة الحدود سبب للنجاة.
1232 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وِلَا مُخْتَلِسٍ، قَطْع) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.
===
(لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ) الخائن: هو الآخذ مما فِي يده منْ الأمانة، وَقَالَ فِي "المرقاة": الخيانة: أن يؤتمن عَلَى شيء بطريق العارية، أو الوديعة، فيأخذه، ويدّعي ضَيَاعه، أو يُنكر أنه كَانَ عنده وديعةٌ، أو عاريةٌ. انتهى.
جاء في تحفة الأحوذي: قال ابن الهمام: خائن ـ اسم فاعل من الخيانة وهو أن يؤتمن على شيء بطريق العارية والوديعة فيأخذه ويدعي ضياعه، أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية.
(وَلَا مُنْتَهِبٍ) اسم فاعل منْ الانتهاب، افتعالٌ، منْ النَّهْبِ، وهو أخذ المال عَلَى وجه الغلبة، والقهر، وهو بمعنى الغاصب، إلا أن الغصب أعم.
(وِلَا مُخْتَلِسٍ) اسم فاعل منْ الاختلاس، وهو أخذ الشيء بسرعة عَلَى غفلة.
•
ما صحة حديث الباب؟
اختلف العلماء في هذا الحديث.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأعله الإمام أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائي، بأنَّ ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير.
• ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أنه لا قطع على خائن ولا منتهب ولا مختلس.
وهذا قول جماهير العلماء.
فمن شروط القطع: أن يكون هناك سرقة.
لأن القطع خاصة بالسرقة، والخائن والمختلس والمنتهب ليس بسارق.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقَطْعِ لَا يَجِبُ إلَّا بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ؛ أَحَدُهَا: السَّرِقَةُ، وَمَعْنَى السَّرِقَةِ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخِفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ.
وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، وَمُسَارَقَةُ النَّظَرِ، إذَا كَانَ يَسْتَخْفِي بِذَلِكَ.
فَإِنْ اخْتَطَفَ أَوْ اخْتَلَسَ، لَمْ يَكُنْ سَارِقًا، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ غَيْرَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: أَقْطَعُ الْمُخْتَلِسَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْفِي بِأَخْذِهِ، فَيَكُونُ سَارِقًا، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ).
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ) رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ.
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَهَذَا غَيْرُ سَارِقٍ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ نَوْعٌ مِنْ الْخَطْفِ وَالنَّهْبِ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْفِي فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلَاسِهِ، بِخِلَافِ السَّارِقِ. (المغني).
•
ما الحكمة من عدم قطع هؤلاء؟
قال النووي: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رضي الله عنه: صَانَ اللَّه تَعَالَى الْأَمْوَال بِإِيجَابِ الْقَطْع عَلَى السَّارِق، وَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ فِي غَيْر السَّرِقَة كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَاب وَالْغَصْب؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَة؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِن اِسْتِرْجَاع هَذَا النَّوْع بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى وُلَاة الْأُمُور، وَتَسْهُل إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّرِقَة فَإِنَّهُ تَنْدُر إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهَا، فَعَظُمَ أَمْرهَا، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتهَا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الزَّجْر عَنْهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَطْع السَّارِق فِي الْجُمْلَة، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي فُرُوع مِنْهُ.
وقال ابن القيم: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق النَّاس بعضُهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسرَّاق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلِّصوا حقَّ المظلوم، أويشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلةٍ من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريطٍ يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه.
وأيضاً: فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخلِّيك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب؛ وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال. (إعلام الموقعين).
•
هل يقطع من سرق من بيت المال؟
قال ابن قدامة: لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلماً، ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، وأصحاب الرأي.
وقال حماد ومالك وابن المنذر: يقطع، لظاهر الكتاب .... اهـ.
وقد انتصر ابن حزم في المحلى لمذهب مالك في القطع.
والسبب في عدم قطع السارق من المال العام عند الجمهور هو شبهة الملك، والحدود تدرأ بالشبهات، وقد اشترطوا في القطع ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك أو شبهته.
1233 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَر) رَوَاهُ الْمَذْكُورُونَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.
===
(فِي ثَمَرٍ) بفتحتين، قَالَ فِي (النهاية) الثمر الرُّطَب ما دام فِي رأس النخلة، فإذا قُطع فهو الرُّطَب، فإذا كُنِزَ فهو التمر. قَالَ: وواحد الثمر ثمرةٌ، ويقع عَلَى كلّ الثمار، ويغلب عَلَى ثمر النخل. انتهى.
وَقَدْ فُسّر الثمر هنا بما كَانَ معلّقًا بالشجر قبل أن يُجذّ ويُحرز، قَالَ الخطّابيّ: قَالَ الشافعيّ: هو ما عُلّق بالنخل قبل جذّه وحرزه.
(وَلَا كَثَر) بفتح الكاف، والمثلّثة: هو جُمّار النخل، وهو شحمه الذي فِي وسط النخلة.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أنه لا قطع إلا إذا كان المسروق سرق من حرز. (وسيأتي مباحث الحرز إن شاء الله).
ففي هذا الحديث أنه لا قطع في سرقة الثمر من على رؤوس الشجر.
والجمهور من العلماء على وجوب القطع في كل محرز، لا فرق بين الطعام والثمار، واليابس منها والرطب.
جاء في تحفة الأحوذي: قال في شرح السنة: ذهب أبو حنيفة إلى ظاهر هذا الحديث، فلم يوجب القطع في سرقة شيء من الفواكه الرطبة سواء كانت محرزة أو غير محرزة، وقاس عليه اللحوم والألبان والأشربة والخبوز.
وأوجب الآخرون القطع في جميعها إذا كان محرزاً.
وهو قول مالك والشافعي.
وتأول الشافعي الحديث على الثمار المعلقة غير المحرزة. وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها، والدليل عليه حديث عمرو بن شعيب، وفيه دليل على أن ما كان منها محرزاً يجب القطع بسرقته انتهى.
وقال في سبل السلام: والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز القطع في سرقة الثمر والكثر، وظاهره سواء كان على ظهر المنبت له، أو قد جذ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، قال في نهاية المجتهد: قال أبو حنيفة لا قطع في طعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش وعمدته في منعه القطع في الطعام الرطب قوله صلى الله عليه وسلم (لا قطع في ثمر ولا كثر).
وعند الجمهور أنه يقطع في كل محرز سواء كان على أصله باقياً أو قد جذ، سواء كان أصله مباحاً كالحشيش ونحوه أولا.
قالوا: لعموم الآية والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب.
وأما حديث (لا قطع في ثمر ولا كثر) فقال الشافعي: إنه أخرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها فترك القطع لعدم الحرز فإذا أحرزت الحوائط كانت كغيرها. (سبل السلام).
1234 -
وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ رضي الله عنه قَالَ (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ» ، قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ، وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ:«اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
1235 -
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ:(اذْهَبُوا بِهِ، فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوه). وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ.
===
(بِلِصٍّ) أي: بسارق.
(اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا) أي أقرّ إقرارًا صحيحاً.
(وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ) أي: منْ المسروق.
(مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ) أي: ما أظنك سرقت شيئاً، قاله دَرْأً للقطع.
(فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ) أي: لثبوت سرقته بإقراره.
•
ما صحة حديث الباب؟
حديث ضعيف؛ لجهالة أبي المنذر مولى أبي ذرّ رضي الله عنه.
•
بما تثبت السرقة؟
أ- تثبت السرقة بشهادة عدلين.
وهذا متفق عليه عند أهل العلم كما حكاه ابن رشد وابن قدامة.
فلا تثبت عقوبة القطع بشهادة رجل واحد، ولا بشهادة النساء.
ب- وتثبت بالاقرار.
وهل يشترط أن يكون مرتين أم يكفي مرة واحدة؟ قولان للعلماء:
الصحيح أنه يكفي الإقرار مرة واحدة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قياساً على القصاص وحد القذف، فإنه يكفي فيه الإقرار مرة واحدة.
وذهب الحنابلة إلى أنه لابد من الإقرار مرتين.
أ- لحديث الباب.
ب- ولأنه يتضمن إتلافاً في حد، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا.
والقول أصح، والحديث - على فرض صحته - فالمراد به الاستثبات.
•
ما وجه قوله صلى الله عليه وسلم (مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ)؟
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى:
قيل: أراد صلى الله عليه وسلم تلقينه الرجوع عن الاعتراف، وللإمام ذلك فِي السارق، إذا اعترف.
ومن لا يقول به يقول: لعله ظنّ بالمعترف غفلة عن معنى السرقة، وأحكامها، أو لأنه استبعد اعترافه بذلك؛ لأنه ما وُجِد معه متاع، واستدلّ به منْ يقول: لابدّ فِي السرقة منْ تعدّد الإقرار. انتهى.
وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وجه هَذَا الْحَدِيث عندي -والله أعلم- أنه ظنّ بالمعترف بالسرقة غَفْلَةً، أو يكون قد ظنّ أنه لا يعرف معنى السرقة، ولعله قد كَانَ مالا له، أو اختلسه، أو نحو ذلك، مما يخرج منْ هَذَا الباب عن معاني السرقة، والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستثبت الحكم فيه، إذ كَانَ منْ سنّته: أن الحدود تُدرأ بالشبهات، ورُوي عنه أنه قال (ادرؤا الحدود ما استطعتم) وأمرنا بالستر عَلَى المسلمين، فكره أن يهتكه، وهو يجد السبيل إلى ستره، فلما تبيّن وجود السرقة منه يقينًا، أقام الحدّ عليه، وأمر بقطعه.
•
لماذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتوبة مع أن الحدود كفارات؟
قَالَ السنديّ: لعل المراد بالاستغفار، والتوبة منْ سائر الذنوب، أو لعله قَالَ ذلك ليعزم عَلَى عدم العود إلى مثله، فلا دليل لمن قَالَ: الحدود ليست كفّارات لأهلها، مع ثبوت كونها كفّارات بالأحاديث الصحاح التي كادت تبلغ حدّ التواتر، كيف والاستغفار مما أُمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وَقَدْ قَالَ تعالى (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ)، لمعان ومصالح ذكروا فِي محله، فمثله لا يصلح دليلا عَلَى بقاء ذنب السرقة. والله تعالى أعلم.
•
ماذا يفعل بعد قطع يد السارق؟
حسمها. والحسم في اللغة القطع، والمراد حسم الدم، أي: قطعه.
وذلك بأن يغلى زيت، أو دهن، أو نحوهما، ثم تغمس فيه وهو يغلي، فإذا غمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق، وإنما وجب حسمها؛ لأنها لو تركت لنزف الدم ومات، والحد لا يراد به موته وإتلافه، إنما يراد به تأديبه.
والحكمة من قطعها دون سائر الأعضاء هو أنه لما كانت اليد هي آلة الأخذ في الغالب صار القطع خاصاً بها؛ ولهذا اختص باليمين دون اليسار؛ لأنها هي التي يؤخذ بها غالباً، حتى لو فُرض أنه أعسر لا يعمل إلا باليد اليسرى.
1236 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (لَا يَغْرَمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدد) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ.
===
(لَا يَغْرَمُ) بتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول، منْ التغريم: أي لا يُلزم بالغرامة، ويحتمل أن يكون بتخفيف الراء، مبنيًّا للفاعل، منْ باب تَعِبَ، قَالَ الفيّوميّ: غَرِمت الدية، والدين.
(إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدد) يعني: أنه لا يُجمع عَلَى السارق بين العقوبة، وهو قطع يده، والغرامة، وهو ضمان ما سرقه إذا تلف، وأما إذا كانت العين قائمة، فلا خلاف فِي وجوب ردّها.
•
ما صحة حديث الباب؟
قَالَ النسائي: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
•
هل يغرم السارق ما سرق؟
اختلف العلماء فِي تضمين السارق بعد قطع يده.
قَالَ ابن قدامة: لا يختلف أهل العلم فِي وجوب رد العين المسروقة عَلَى مالكها، إذا كانت باقية.
فأما إن كانت تالفة:
فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قُطِع، أو لم يُقطَع، موسراً كَانَ، أو معسرًا.
وهذا قول الحسن، والنخعي، وحماد، والْبَتّيّ، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وَقَالَ الثوري، وأبو حنيفة: لا يجتمع الغُرْم والقطع، إن غَرِمها قبل القطع، سقط القطع، وإن قُطع قبل الغرم سقط الغرم.
وَقَالَ عطاء، وابن سيرين، والشعبي، ومحكول: لا غَرْم عَلَى السارق إذا قُطع، ووافقنا مالك فِي المعسر، ووافقهم فِي الموسر.
وَقَالَ أبو يوسف: لا يغرم شيئا؛ لأنه قُطع بالكل، فلا يغرم شيئاً منه، كالسرقة الأخيرة.
واحتج بما رُوي عن عبد الرحمن بن عوف، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ (إذا أقيم الحد عَلَى السارق، فلا غُرْم عليه) ولأن التضمين يقتضي التمليك، والملك يمنع القطع، فلا يجمع بينهما.
قَالَ: ولنا أنها عين يجب ضمانها بالرد، لو كانت باقية، فيجب ضمانها إذا كانت تالفة، كما لو لم يُقطع.
ولأن القطع والغرم حقان، يجبان لمستحقين، فجاز اجتماعهما، كالجزاء، والقيمة فِي الصيد الحرمي المملوك.
وحديثهم يرويه سعد بن إبراهيم، عن منصور، وسعد بن إبراهيم مجهول، قاله ابن المنذر، وَقَالَ ابن عبد البرّ: الْحَدِيث ليس بالقوي، ويحتمل أنه أراد ليس عليه أجرة القاطع، وما ذكروه فهو بناءٌ عَلَى أصولهم، ولا نسلمها لهم. (المغني).
قال في سبل السلام: وذهب الشافعي وأحمد وآخرون ورواية عن أبي حنيفة إلى أنه يغرم.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).
وحديث عبد الرحمن هذا لا تقوم به حجة مع ما قيل فيه.
ب- ولقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل).
ج- ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه).
د- ولأنه اجتمع في السرقة حقان حق لله تعالى وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه.
هـ- ولأنه قام الإجماع أنه إذا كان موجوداً بعينه أخذ منه، فيكون إذا لم يوجد في ضمانه قياساً على سائر الأموال الواجبة.
ولا يخفى قوة هذا القول .... (سبل السلام)
1237 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
===
(أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ) بفتح الثاء المثلّثة، والميم: هو اسم جامع للرطب، واليابس، منْ التمر، والعنب، وغيرهما.
(الْمُعَلَّقِ) اسم مفعول منْ التعليق: أي المتدلّي منْ الشجر.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم.
(مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ) أي: الفم.
(مِنْ ذِي حَاجَةٍ) أي: محتاجاً.
(غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً) بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحّدة، ونون- قَالَ الخطّابيّ: الخُبْنة: ما يأخذه الرجل فِي ثوبه، فيرفعه إلى فوقُ، ويقال للرجل إذا رفع ذيله فِي المشي: قد رفع خُبْنته. انتهى.
وَقَالَ فِي (النهاية) الْخُبْنة: مِعْطف الإزار، وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه فِي ثوبه، يقال: أخبن الرجل: إذا خبأ شيئًا فِي خُبْنة ثوبه، أو سراويله.
(فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أي: عَلَى المصيب، ولابدّ منْ تقدير "فيه": أي فِي ذلك الثمر. قاله السنديّ.
(وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ) أي: منْ الثمر المعلق.
(فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ) هذا من باب التعزير بالمال.
(وَالْعُقُوبَةُ) أي: التعزير، وجاء عند النسائي (بأنها جَلَدَات نَكَال).
(وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ) وعند النسائي (وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ) الإيواء الضم.
(الْجَرِينُ) بفتح الجيم، وكسر الراء: موضعٌ يُجمع فيه التمر، للتجفيف، وهو له كالبيدر للحنطة، ويُجمع عَلَى جُرُن -بضمتين- كذا فِي (النهاية)
(فَعَلَيْهِ الْقَطْع) أي: قطع يده، لسرقته نصابًا منْ الحرز.
•
ما صحة حديث الباب؟
الحديث صحيح.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن من شروط القطع في السرقة أن تكون السرقة من حرز، فإن سرق من غير حرز فلا قطع.
وهذا قول جماهير العلماء
قال ابن قدامة: الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ، وَيُخْرِجَهُ مِنْهُ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
لحديث الباب (
…
وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْع).
ففرَّق الرسول صلى الله عليه وسلم بين من أخذ من التمر وهو على الشجر ومن أخذ منه بعد نقله إلى الجرين، فالأول لا قطع عليه، وإنما يعزر، والثاني عليه القطع، والفرق بينهما: أن الأول أخذ التمر من غير حرز، والثاني أخذه من الحرز.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل عند جمهور أهل العلم في مراعاة الحرز واعتباره في القطع
…
قال أبو عبيد: الثمر المعلق هو الذي في رؤوس النخل لم يُجَذْ ولم يحرز في الجرين " انتهى. (التمهيد).
وقال الصنعاني: أُخِذَ مِنْهُ اِشْتِرَاط الْحِرْز فِي وُجُوب الْقَطْع؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (بَعْد أَنْ يَأْوِيه الْجَرِين).
وقال القرطبي: تنبيه: آيةُ السَّرقة وردت عامة مطلقة، لكنها مخصَّصة مقيَّدة عند كافة العلماء؛ إذ قد خرج من عموم السَّارق من سرق أقل من نصاب، وغير ذلك. وتقيَّدت باشتراط الحِرز، فلا قطع على من سرق شيئًا من غير حرز بالإجماع، إلا ما شذَّ فيه الحسن، وأهل الظاهر، فلم يشترطوا الحِرز. (المفهم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَلَا يَكُونُ السَّارِقُ سَارِقًا حَتَّى يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِرْزٍ. فَأَمَّا الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ صَاحِبِهِ وَالثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّجَرِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا حَائِطٍ، وَالْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ عِنْدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْآخِذُ وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ " انتهى
• وحرز المال ما العادة حفظه فيه [حرز كل شيء ما حفظ فيه عادة]، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره، فحرز النقود غير حرز الماشية، وكذا حرز الأطعمة والأمتعة وغيرها.
•
هل يجوز لمن مر ببستان أن يأكل منه؟
يجوز بشروط:
عدم الحمل، وأن يصوّت ثلاثاً.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً) ورواه ابن ماجه بلفظ: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً).
وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعٍ فَنَادِهِ ثَلاثَ مِرَارٍ فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلا فَاشْرَبْ فِي غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ، وَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ فَنَادِ صَاحِبَ الْبُسْتَانِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلا فَكُلْ فِي أَنْ لا تُفْسِدَ)
فدلت هذه الأحاديث على جواز أن يأكل الإنسان من ثمر غيره، دون أن يحمل معه، بشرط أن ينادي صاحبه أولا ثلاثا، فإن أجابه استأذنه، وإن لم يجبه أكل.
واشترط بعضهم: ليس عليه حائط.
فإن كان عليه حائط فإنه لا يأكل منه؛ لأن تحويط صاحبه عليه دليل على أنه لا يرضى أن يأكله أحد.
قال الشيخ ابن عثيمين: اشتراط انتفاء الحائط فيه نظر؛ لأن لفظ الحديث (من دخل حائطاً) والحائط هو المحوطُ بشيء، وعلى هذا فلا فرق بين الشجر الذي ليس عليه حائط، وبين الشجر الذي عليه حائط.
فالذي تبين من السنة أن الشرط هو أن يأكل بدون حمل، وألا يرمي الشجر، بل يأخذ بيده منه، أو ما تساقط في الأرض، وأيضاً يشترط أن ينادي صاحبه ثلاثاً، إن أجابه استأذن، وإن لم يجبه أكل.
هذا الذي دل عليه الحديث هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله. (الشرح الممتع).
وذهب جمهور العلماء إلى أن ذلك ليس بجائز.
قَالَ النوويّ فِي "شرح المهذب": اختلف العلماء، فيمن مر ببستان، أو زرع، أو ماشية، قَالَ الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئا، إلا فِي حال الضرورة، فيأخذ، وَيغرَم عند الشافعيّ، والجمهور. (المجموع).
لأن الأصل في مال المسلم التحريم، فلا يجوز بغير إذنه.
وأجابوا عن أحاديث الجواز:
بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يُعمل به.
وبأنه معارِضٌ للقواعد القطعية، فِي تحريم مال المسلم، بغير إذنه، فلا يُلتفت إليه.
ومنهم منْ جمع بين الحديثين بوجوه منْ الجمع، منها: حمل الإذن عَلَى ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي عَلَى ما إذا لم يعلم.
ومنها: تخصيص الإذن بابن السبيل، دون غيره، أو بالمضطرّ، أو بحال المجاعة مطلقاً، وهي متقاربة.
وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه: أن حديث الإذن كَانَ فِي زمنه صلى الله عليه وسلم وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده منْ التشاح، وترك المواساة. (الفتح).
قال الشوكاني في (نيل الأوطار) عند كلامه على هذا الحديث: وأحاديث في الباب بمعناه: ظاهر أحاديث الباب جواز الأكل من حائط الغير، والشرب من ماشيته بعد النداء المذكور من غير فرق بين أن يكون مضطراً إلى الأكل أو لا .. إلى أن يقول: والممنوع إنما هو الخروج بشيء من ذلك من غير فرق بين القليل والكثير.
•
ما حكم من أخذ من الشجر وأخرجه معه قبل وضعه بالجرين؟
الحديث يدل أنه يغرم مثلي ما أخذ ويؤدب من غير قطع.
لأخذه مال الغير بغير إذنه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن من سرق من غير حرز فإنه يضاعف عليه الضمان.
وهذا المذهب، واختيار ابن تيمية.
لحديث الباب.
فهو صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بمضاعفة الضمان في سرقة الثمر من غير حرزه.
القول الثاني: أنه لا يضاعف الضمان مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية.
لأن الله أمر بالمماثلة في معاقبة المعتدي، قال تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ).
قَالَ ابن عبد البر: لا أعلم أحداً منْ الفقهاء قَالَ بوجوب غرامة مثليه.
قالَ الموفق: واعتذر بعض أصحاب الشافعيّ عن هَذَا الخبر، بأنه كَانَ حين كانت العقوبة فِي الأموال، ثم نسخ ذلك.
قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو حجة، لا تجوز مخالفته، إلا بمعارضة مثله، أو أقوى منه، وهذا الذي اعتذر به هَذَا القائل، دعوى للنسخ بالاحتمال، منْ غير دليل عليه، وهو فاسد بالإجماع، ثم هو فاسد منْ وجه آخر؛ لقوله:"ومن سرق منه شيئا بعد أن يُؤيه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع"، فقد بَيَّن وجوب القطع، مع إيجاب غرامة مثليه، وهذا يبطل ما قاله، وَقَدْ احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بَلْتَعَة حين انتحر غلمانه ناقة رجل منْ مزينة، مثلي قيمتها. (المغني).
1238 -
وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ -لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ-: هَلَّا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْحَاكِمُ.
===
•
اذكر لفظ الحديث؟
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ (كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ الرَّجُلُ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا؟ قَالَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِه).
(فَقُلْتُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا) وفي رواية (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ) وفي رواية الأوزاعيّ (يا رسول الله، هو له) وفي رواية عكرمة (ما كنت أردت أن تُقطع يده فِي ردائي).
(قَالَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِه) أي: قبل أن ترفعه إليّ متحاكمًا، يعني أنه لو تركه قبل إحضاره عنده صلى الله عليه وسلم ليحكم به لنفعه ذلك، وأما بعد رفعه، وثبوت السرقة عليه، فالحقّ للشرع، لا للمالك.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
أن تجاوز المسروق منه عن السارق بعد رفعه إلى الإمام لا يجوز.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: لا أعلم بين أهل العلم اختلافاً فِي الحدود، إذا بلغت إلى السلطان، لم يكن فيها عفو، لا له ولا لغيره، وجائز للناس أن يتعافوا الحدود ما بينهم، ما لم يبلغ السلطان، وذلك محمود عندهم.
- هل يشترط في السرقة مطالبة المسروق منه بماله؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: اشتراط ذلك.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
أ-أن الجناية على مال الغير لا تثبت إلا بالخصومة والمطالبة، فإذا لم يطالب المسروق منه بماله فلا خصومة، وحينئذ فلا يقام الحد.
ب-أن قطع السارق شرع لصيانة مال الآدمي فله به تعلق وحق، فلم يستوف من غير مطالبته به.
القول الثاني: لا تشترط المطالبة.
وهذا مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ- أن النصوص التي توجب إقامة حد السرقة عامة ليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله، كقوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).
ب-ولحديث الباب.
وجه الدلالة: أن المسروق منه - وهو صفوان بن أمية - لم يطالب بالمسروق، ومع ذلك أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد السرقة، وبيّن أن عدم المطالبة إنما ينفع قبل رفع أمر السارق إليه، فهذا دليل صريح على أنه لا يشترط مطالبة المسروق منه.
ج- أن قطع السارق حق لله، فوجب أن يقام على من ثبت عليه من دون انتظار المسروق منه ومطالبته كحد الزنا، فإنه يقام على الزاني، وإن لم يحضر المزني بها.
وهذا القول هو الصحيح، لما في ذلك من حفظ الأموال واستتاب الأمن.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- جواز العفو عن السارق قبل الرافع إلى الإمام.
- وجوب قطع يد السارق إذا ثبتت السرقة.
- جواز طي الثياب وتوسدها.
- أن ما جعله الإنسان تحت رأسه، فهو حرز له، فإذا سُرق وجب القطع؛ لأنه حرزه، وما سُرق منْ الحرز ففيه القطع.
1239 -
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ (جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: «اقْطَعُوهُ» فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ» فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الْخَامِسَةَ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَاسْتَنْكَرَهُ.
1240 -
وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ نَحْوَهُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَتْلَ فِي الْخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
الحديث لا يصح.
•
هل يقتل السارق في المرة الخامسة؟
ذهب جماهير العلماء إلى أن من تكرر منه السرقة للمرة الرابعة وما بعدها أنه يعزر بالحبس ونحوه ولا يقتل.
فهذا مذهب المالكية، والحنابلة، والمشهور من مذهب الحنفية، والشافعية.
•
بما أجابوا عن حديث الباب؟
أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا الحديث بعدة مسالك:
المسلك الأول: أنه حديث لا يصح.
قَالَ النسائي: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ.
وقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث فِي بعض إسناده مقال، وَقَدْ عارض الْحَدِيث الصحيح، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يحلّ دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس"، والسارق ليس بواحد منْ الثلاثة، فالوقوف عن دمه واجبٌ، ولا أعلم أحدا منْ الفقهاء، يبيح دم السارق، وإن تكررت منه السرقة مرّة بعد أخرى.
ومنهم ابن حجر إذ تعقب أسانيده بالتضعيف.
ومنهم الزيلعي حيث تعقب أسانيده بالتضعيف أيضاً.
ومنهم ابن عبد البر إذ قال (حديث القتل منكر لا أصل له).
وهذا المسلك هو الذي تقتضيه قواعد النقد وأصول المنهج في البحث والله أعلم .... (الحدود عند ابن القيم).
المسلك الثاني: أن هذا الحديث جاء في حق رجل مستحق للقتل.
قال ابن القيم: ومنهم من يحسنه ويقول: هذا حكم خاص بذلك الرجل وحده لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المصلحة في قتله.
وقال ابن حجر: وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة.
المسلك الثالث: أن هذا الحديث منسوخ.
وهذا محكي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
حكاه ابن حجر، والآبادي، ومن قبلهما البيهقي رحمهم الله تعالى.
المسلك الرابع: حمل الحكم بقتله على أنه كان من المفسدين في الأرض.
حكى، الخطابي، وابن حجر، والآبادي، على أن هذا الحديث قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء، وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض، فيكون هذا من باب العقوبة التعزيرية للمفسدين في الأرض، وهذا يعزى للإمام مالك رحمه الله تعالى.
•
هل قال أحد بموجب الحديث؟
نعم.
قال ابن القيم: وطائفة ثالثة تقبله وتقول به، وأن السارق إذا سرق خمس مرات قتل في الخامسة وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية.
وقال ابن حجر: وقيل يقتل في الخامسة قاله: أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك.
وهذا المسلك مبني على القول بقبول الحديث وصحته.
•
ما الذي يقطع من السارق أولاً؟
يقطع أولاً اليد اليمنى.
لقوله تعالى (فاقطعوا أيهما).
وقد روي عن ابن مسعود أنه قرأ: فاقطعوا أيمانهما.
قال ابن كثير: وهي قراءة شاذة، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقاً لها، لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر.
وقال ابن قدامة: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ السَّارِقَ أَوَّلُ مَا يُقْطَعُ مِنْهُ، يَدُهُ الْيُمْنَى، مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ، وَهُوَ الْكُوعُ.
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) وَهَذَا إنْ كَانَ قِرَاءَةً وَإِلَّا فَهُوَ تَفْسِيرٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ، فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنْ الْكُوعِ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى، فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِإِعْدَامِ آلَتِهَا. (المغني)
قال القرطبي: لا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولاً.
•
ما الذي يقطع ثانياً؟
رجله اليسرى.
قال ابن قدامة: وَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَبِذَلِكَ قَالَ الْجَمَاعَةُ إلَّا عَطَاءً، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ، فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ، وَدَاوُد.
وَهَذَا شُذُوذٌ، يُخَالِفُ قَوْلَ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
ثم قال ابن قدامة:
…
وَلِأَنَّ قَطْعَ يَدَيْهِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، فَلَا تَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا، وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يَسْتَطِيبُ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ كَالْهَالِكِ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ الَّذِي لَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى.
وَلِأَنَّ قَطْعَ الْيُسْرَى أَرْفَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَى خَشَبَةٍ، وَلَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ بِحَالٍ.
•
ما الحكم إذا سرق ثالثة ورابعة؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه لا يقطع في الثالثة بعد قطع اليد والرجل بل يحبس.
وهذا هو مذهب الحنفية والمعتمد لدى الحنابلة.
قال ابن قدامة: يَعْنِي إذَا عَادَ فَسَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَحُبِسَ.
وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
القول الثاني: أنه يقطع في الثالثة يسري يديه وفي الرابعة يمنى رجليه فإن سرق خامسة عزر.
وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
والله أعلم.
•
من أين تقطع الرجِل؟
قال ابن قدامة: وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه.
وقال القرطبي: فقال الكافة: تقطع (يعني اليد) من الرسغ، والرجِل من المفصل، ويحسم الساق إذا قطع.
•
هل يجوز رد اليد بعد قطعها؟
لا يجوز.
لأن هذا خلاف مقصود الشارع، فليس مقصود الشارع الإيلام فقط حتى نقول: إنه حصل بقطعها، وإنما مقصود الشارع أن يبقى، وليس له يد. (الشرح الممتع).
•
هل يجوز أن يبنج محل القطع حتى لا يحس به المقطوع؟
نعم يجوز ذلك.
لأن المقصود هو إتلاف اليد، وهو حاصل سواء بنج أم لم يبنج.
•
هل يجوز ذلك في اليد المقطوعة قصاصاً؟
لا يجوز.
لأننا لو بنجناها لم يتم القصاص. (شرح البلوغ لابن عثيمين)
فائدة:
وَيُسَنُّ تَعْلِيقُ الْيَدِ فِي عُنُقِهِ.
لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَارِقٍ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
وَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه؛ وَلِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا. (المغني).
لكن الحديث ضعيف لا يصح.
وقال النسائي عقب روايته لهذا الحديث: " الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ ".
وكذلك ضعفه الألباني.
لكن ثبت هذا من فعل علي رضي الله عنه.
فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِه).
فذهب طائفة من أهل العلم إلى استحباب تعليق يد السارق المقطوعة في عنقه؛ ردعا لأمثاله، وقيد بعضهم ذلك بما إذا رأى
الإمام المصلحة فيه.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَيُسَنُّ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - تَعْلِيقُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، رَدْعًا لِلنَّاسِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ، وَقَدْ حَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُدَّةَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ التَّعْلِيق.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْيَدِ لَا يُسَنُّ، بَلْ يُتْرَكُ الأْمْرُ لِلإمَامِ، إِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَعَلَهُ، وَإِلاَّ فَلَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ شَيْئًا عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ " انتهى.
بَابُ حَدِّ الشَّارِبِ وَبَيَانِ الْمُسْكِرِ
بَابُ حَدِّ الشَّارِبِ
أي: شارب الخمر، وسيأتي إن شاء الله تعريف الخمر.
1241 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ) قال الحافظ: الرجل المذكور لَم أقف على اسمه صريحاً، لكن جاء ما يؤخذ منه، أنه النعيمان.
(قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ) الخمر لغة: ما خامر العقل وستره، وسمي بذلك لأنها تغطي العقل وتستره.
وهو يطلق على كل ما أسكر العقل من عصير كل شيء أو نقيعه، سواء كان من العنب أم التمر أم غيرهما.
(فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ) أي: تولى الخلافة، وفي رواية (فَلَمَّا كَانَ عُمَر وَدَنَا النَّاس مِنْ الرِّيف وَالْقُرَى).
(أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ) أي: اجعله مثل أخف الحدود ثمانين وهو حد القاذف.
قال النووي: يعْنِي الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن، وَهِيَ حَدّ السَّرِقَة بِقَطْعِ الْيَد، وَحَدّ الزِّنَا جَلْد مِائَة، وَحَدّ الْقَذْف ثَمَانِينَ، فَاجْعَلْهَا ثَمَانِينَ كَأَخَفّ هَذِهِ الْحُدُود.
(فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ) وللبخاري عن السّائب بن يزيد، قال: كنّا نؤتى بالشّارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمْرةِ أبي بكرٍ وصدراً من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتّى كان آخر إمْرَة عمر، فجلد أربعين، حتّى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين.
•
لماذا سميت الخمر خمراً؟
ذكر علماء اللغة في ذلك خلافاً على أقوال ثلاثة:
الأول: سميت خمراً لأنها تغطى حتى تدرك أي حتى تغلي.
حكاه النووي، والقرطبي، والحافظ بن حجر، والرازي، وعزاه لابن الأعرابي.
الثاني: أنها لما كانت تستر العقل وتغطيه سميت بذلك.
حكاه القرطبي، والحافظ بن حجر، والفيروز آبادي، والنووي، وعزاه للكسائي.
الثالث: سميت خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه.
حكاه الفيروز آبادي، والقرطبي، وابن حجر، والنووي، وعزاه لابن الأنباري.
وهذه المعاني الثلاثة يجدها الناظر متقاربة بل هي متشابكة لأن أصلها الستر فلا مانع إذا أن تكون سميت الخمر خمراً لهذه الأمور الثلاثة ولا منافاة.
وهذا هو ما جنح إليه جمع منهم العلامة القرطبي إذ قال: فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت، وخمرت حتى أدركت ثم خالطت العقل، ثم خمرته والأصل الستر.
ومنهم الحافظ بن حجر إذ قال بعد حكايته: ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان.
قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة، لأنها تركت حتى أدركت وسكنت فإذ شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. (الحدود عند ابن القيم).
•
ما عقوبة شارب الخمر؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أن مقدار حد الخمر ثمانين جلدة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: إحداهما: أنه ثمانون، وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة ومن تبعهم.
لحديث الباب: (فلما كان عهد عمر استشار الناس
…
).
وجه الدلالة: أن هذا الأثر نص صريح في أن الصحابة وافقوا عمر وأجمعوا على أن عقوبة الشارب ثمانون جلدة.
قال الصنعاني مبيناً وجه الاستدلال لهم: قالوا: لقيام الإجماع عليه في عهد عمر فإنه لم ينكر عليه أحد.
قال ابن قدامة: لإجماع الصحابة.
القول الثاني: الحد أربعون، وأن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين تعزيرية.
وهذا مذهب الشافعي، وهو قول داود، ورجحه ابن تيمية وابن القيم.
قال ابن قدامة: والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي.
وقال النووي:
…
فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر وَآخَرُونَ: حَدّه أَرْبَعُونَ، قَالَ الشَّافِعِيّ رضي الله عنه: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغ بِهِ ثَمَانِينَ، وَتَكُون الزِّيَادَة عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرَات عَلَى تَسَبُّبه فِي إِزَالَة عَقْله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا أوجه القولين.
أ- ولحديث علي – الآتي – قال (جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)
ب- لحديث الباب، (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْر).
قال ابن قدامة: وَفِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْلَ النَّبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، فَتُحْمَلُ الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا إذَا رَآهُ الْإِمَامُ.
قال أصحاب هذا القول: فيحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الحد الشرعي، وما ثبت عن الصحابة على أنه زيادة تعزيرية تفعل عند الحاجة والمصلحة ولهذا قال علي (جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي).
قال ابن القيم: ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير، وقد اتفق عليه الصحابة
القول الثالث: ذهب بعض العلماء إلى أن الخمر لا حد فيها، وإنما فيها التعزير.
قال: الحافظ ابن حجر: إن الطبري وابن المنذر حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها، وإنما فيها التعزير.
واستدلوا بأحاديث الباب؛ فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس، ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه.
وورد أنه لم يضربه أصلاً وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا). (الفتح).
•
بما نوقش دليل الجمهور؟
أولا: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام- ذكر هذا الوجه ابن قدامة.
ثانيا: أن علياً أشار على عمر بذلك، ثم رجع علي عن ذلك واقتصر على الأربعين؛ لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار به فقد تبين من سياق قصته أنه أشار بذلك؛ ردعاً للذين انهمكوا؛ لأن في بعض طرق القصة - كما تقدم - أنهم احتقروا العقوبة.
•
اذكر الأدلة على تحريم الخمر؟
قال تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ).
عن أَبي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَزْنِى الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) متفق عليه.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ أَنْ يَتُوب) متفق عليه.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خمر حَرَامٌ) رواه مسلم.
وعنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْه) رواه أبو داود.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة). متفق عليه
وعن أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ. أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) رواه أبو داود.
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَن) رواه ابن ماجه.
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل الجنة مُدمن خمر) رواه ابن ماجه.
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (إن عَلَى اللَّهِ عز وجل عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ قَالَ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّار) رواه مسلم.
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ قَالَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّار) رواه ابن ماجه.
وليس معنى عدم قبول الصلاة أنها غير صحيحة، أو أنه يترك الصلاة، بل المعنى أنه لا يثاب عليها. فتكون فائدته من الصلاة أنه يبرئ ذمته، ولا يعاقب على تركها.
قال النووي: وَأَمَّا عَدَم قَبُول صَلاته فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لا ثَوَاب لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَة فِي سُقُوط الْفَرْض عَنْهُ، وَلا يَحْتَاج مَعَهَا إِلَى إِعَادَة.
وأجمعت الأمة على تحريمه.
- وقد جاء تحريم الخمر في القرآن الكريم متدرجاً في ثلاث مراحل.
وكان الناس يشربونها حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكثر سؤال الناس عن حكمها.
فأنزل الله- سبحانه وتعالى قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا).
ثم جاءت المرحلة الثانية فحرم شربها عن الدخول في الصلاة.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ).
ثم جاءت المرحلة الثالثة والقاطعة وفيها نزل حكم الله سبحانه وتعالى بتحريم الخمر نهائياً فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) الآيَةَ، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا.
•
متى حرمت الخمر؟
اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد السنة التي حرمت فيها الخمر.
فقيل: في السنة الثالثة بعد غزوة أحد.
وهذا القول هو أشهر أقوال أهل العلم في المسألة.
وقيل: عام الفتح في السنة الثامنة. وقيل: غير ذلك من الأقوال.
قال القرطبي رحمه الله: وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهجرة. (تفسير القرطبي).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكان تحريمها [يعني: الخمر] بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة
…
".
انتهى. (مجموع الفتاوى).
وقال ابن عاشور: والمشهور: أن الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد.
•
ما سبب استشارة عمر الناس؟
جاء في رواية عند مسلم (فَلَمَّا كَانَ عُمَر وَدَنَا النَّاس مِنْ الرِّيف وَالْقُرَى).
قال النووي: الرِّيف: الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا الْمِيَاه، أَوْ هِيَ قَرِيبَة مِنْهَا، وَمَعْنَاهُ: لَمَّا كَانَ زَمَن عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه وَفُتِحَتْ الشَّام وَالْعِرَاق وَسَكَنَ النَّاس فِي الرِّيف وَمَوَاضِع الْخِصْب وَسَعَة الْعَيْش وَكَثْرَة الْأَعْنَاب وَالثِّمَار أَكْثَرُوا مِنْ شُرْب الْخَمْر، فَزَادَ عُمَر فِي حَدّ الْخَمْر تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنْهَا
•
هل يقام الحد على السكران أثناء سكره؟
لا يقام.
قال ابن قدامة: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ حَتَّى يَصْحُوَ.
رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَالتَّنْكِيلُ، وَحُصُولُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي صَحْوِهِ أَتَمُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ إلَيْهِ. (المغني).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- قال ابن قدامة: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ خَمْرٌ حُكْمُهُ حُكْمُ عَصِيرِ الْعِنَبِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهِ.
وَرُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
عن ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ).
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قَالَ: وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، فَأَشْبَهَ عَصِيرَ الْعِنَبِ. (المغني).
- جَوَاز الْقِيَاس.
- وَاسْتِحْبَاب مُشَاوَرَة الْقَاضِي وَالْمُفْتِي أَصْحَابه وَحَاضِرِي مَجْلِسه فِي الْأَحْكَام.
1242 -
وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ- (جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا).
===
•
اذكر لفظ الحديث كاملاً؟
عن حضين بْن الْمُنْذِرِ. قَالَ (شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَأُتِىَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ أَزِيدُكُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ فَقَالَ عُثْمَانُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا فَقَالَ يَا عَلِىُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ. فَقَالَ عَلِىٌّ قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا - فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ - فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قُمْ فَاجْلِدْهُ. فَجَلَدَهُ وَعَلِىٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ أَمْسِكْ. ثُمَّ قَالَ جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيّ).
(شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَأُتِىَ بِالْوَلِيدِ) والوليد هو ابن عقبة بن أبي معيْط، ظهر عليه أنه شرب الخمر، فكثر على عثمان فيه، فلما شُهد عنده بأنه شربها أقام عليه الحد.
(قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ أَزِيدُكُمْ) لأنه سكران.
(فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ) بضم الحاء ابن أبان مولى عثمان.
(فَقَالَ عُثْمَانُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا) هذا بيان صريح في كون عثمان جلد الوليد لثبوت شرب الخمر منه.
(فَقَالَ يَا عَلِىُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ
…
) قال النووي: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْحَدّ عَلَى الْوَلِيد بْن عُقْبَة، قَالَ عُثْمَان رضي الله عنه وَهُوَ الْإِمَام لِعَلِيٍّ عَلَى سَبِيل التَّكْرِيم لَهُ وَتَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ فِي اِسْتِيفَاء الْحَدّ: قُمْ فَاجْلِدْهُ، أَيْ أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدّ بِأَنْ تَأْمُر مَنْ تَرَى بِذَلِكَ. فَقَبِلَ عَلِيّ رضي الله عنه ذَلِكَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَامْتَنَعَ الْحَسَن، فَقَالَ لِابْنِ جَعْفَر، فَقَبِلَ فَجَلَدَهُ، وَكَانَ عَلِيّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّفْوِيض إِلَى مَنْ رَأَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْله:(وَجَدَ) عَلَيْهِ أَيْ غَضِبَ عَلَيْهِ.
(وَلِّ حَارّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارّهَا) الْحَارّ الشَّدِيد الْمَكْرُوه، وَالْقَارّ: الْبَارِد الْهَنِيء الطَّيِّب، وَهَذَا مَثَل مِنْ أَمْثَال الْعَرَب، قَالَ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره مَعْنَاهُ: وَلِّ شِدَّتهَا وَأَوْسَاخهَا مَنْ تَوَلَّى هَنِيئَهَا وَلَذَّاتهَا. الضَّمِير عَائِد إِلَى الْخِلَافَة وَالْوِلَايَة، أَيْ كَمَا أَنَّ عُثْمَان وَأَقَارِبه يَتَوَلَّوْنَ هَنِيء الْخِلَافَة وَيَخْتَصُّونَ بِهِ، يَتَوَلَّوْنَ نَكِدهَا وَقَاذُورَاتهَا. وَمَعْنَاهُ: لِيَتَوَلَّ هَذَا الْجَلْد عُثْمَان بِنَفْسِهِ أَوْ بَعْض خَاصَّة أَقَارِبه الْأَدْنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
(ثُمَّ قَالَ جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيّ) قال النووي: معْنَاهُ أَنَّ فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْر سُنَّة يُعْمَل بِهَا، وَكَذَا فِعْل عُمَر، وَلَكِنَّ فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْر أَحَبّ إِلَيَّ.
وَقَوْله: (وَهَذَا أَحَبّ إِلَيَّ)
إِشَارَة إِلَى الْأَرْبَعِينَ الَّتِي كَانَ جَلَدَهَا، وَقَالَ لِلْجَلَّادِ: أَمْسِكْ، وَمَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي قَدْ جَلَدْته، وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الثَّمَانِينَ. وَفِيهِ: أَنَّ فِعْل الصَّحَابِيّ سُنَّة يُعْمَل بِهَا، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " وَاَللَّه أَعْلَم.
•
بما يثبت حد الخمر؟
يثبت بالإقرار، أو البينة.
قال ابن قدامة: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ شُرْبُهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ.
وَيَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ.
فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، فَأَشْبَهَ حَدَّ الْقَذْفِ.
أمَّا الْبَيِّنَةُ: فَلَا تَكُونُ إلَّا رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، يَشْهَدَانِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ.
وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى بَيَانِ نَوْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِلَى مَا لَا يُوجِبُهُ، بِخِلَافِ الزِّنَا، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّرِيحِ وَعَلَى دَوَاعِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) فَلِهَذَا احْتَاجَ الشَّاهِدَانِ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسَمَّى غَيْرُ الْمُسْكِرِ مُسْكِرًا، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ذِكْرِ نَوْعِهِ.
•
هل يجب الحد بوجود رائحة الخمر أو تقيأها؟
قال ابن قدامة: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ فِيهِ.
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي وَجَدْت مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلَاءَ. فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ.
وَلِأَنَّ الرَّائِحَةَ تَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ، فَجَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا، أَوْ حَسِبَهَا مَاءً، فَلَمَّا صَارَتْ فِي فِيهِ مَجَّهَا، أَوْ ظَنَّهَا لَا تُسْكِرُ، أَوْ كَانَ مُكْرَهًا، أَوْ أَكَلَ نَبْقًا بَالِغًا، أَوْ شَرِبَ شَرَابَ التُّفَّاحِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ، كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَحَدِيثُ عُمَرَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحُدَّهُ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ، لَبَادَرَ إلَيْهِ عُمَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - (المغني).
1243 -
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ (إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْأَرْبَعَةُ.
===
•
ما حكم من كرر شرب الخمر للمرة الرابعة وما بعدها؟
اتفق العلماء على أن من شرب الخمر للمرة الأولى والثانية والثالثة فإنه يحد بالجلد في كل مرة، واختلفوا في عقوبته إذا كرر الشرب للمرة الرابعة وما بعدها على أقوال:
القول الأول: أن من كرر الشرب للمرة الرابعة فإنه يحد بالجلد ولا يقتل مطلقاً لا حداً ولا تعزيراً.
وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاضْرِبُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاضْرِبُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاضْرِبُوهُ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُعَيْمَانَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ رُفِع) رواه النسائي في الكبرى.
ب- وعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، وَرَفَعَ الْقَتْلَ، وَكَانَتْ رُخْصَةٌ) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: ظاهر في كونه يفيد نسخ القتل، والاكتفاء بجلد الشارب في المرة الرابعة.
ج- وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَه) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن ظاهر الحديث يدل على كثرة إقامة الحد بالجلد على هذا الرجل، فدل ذلك على أن قتل الشارب في الرابعة منسوخ.
د- وعَنْ عَبْدِ اللهِ قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَة) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل على حصر القتل في هذه الأمور الثلاثة، وشر الخمر في المرة الرابعة ليس منها، بل قد يكون هذا الحديث ناسخاً لقتل الشارب في الرابعة.
وأجاب هؤلاء عن حديث الباب بأجوبة؟
أولاً: أنه منسوخ.
قال النووي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَل بِشُرْبِهَا، وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاع فِيهِ التِّرْمِذِيّ وَخَلَائِق، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - عَنْ طَائِفَة شَاذَّة أَنَّهُمْ قَالُوا: يُقْتَل بَعْد جَلْده أَرْبَع مَرَّات، لِلْحَدِيثِ الْوَارِد فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْل بَاطِل مُخَالِف لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَل وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ أَكْثَر مِنْ أَرْبَع مَرَّات، وَهَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ، قَالَ جَمَاعَة: دَلَّ الْإِجْمَاع عَلَى نَسْخه، وَقَالَ بَعْضهمْ: نَسَخَهُ قَوْله صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: النَّفْس بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّب الزَّانِي، وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَة. (نووي).
قال الشافعي: القتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته.
قال ابن حجر عن حديث - عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ - قال: وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة.
القول الثاني: أن للحاكم أن يقتله تعزيراً لا حداً إذا رأى المصلحة في ذلك.
وهذا اختيار ابن تيمية.
قال رحمه الله: لكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك.
• هل يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر؟
قال ابن قدامة: أنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَرِبَ قَلِيلًا مِنْ الْمُسْكِرِ أَوْ كَثِيرًا.
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي ذَلِكَ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِهَا، فَذَهَبَ إمَامُنَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَكُلِّ مُسْكِرٍ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُحَدُّ، إلَّا أَنْ يَسْكَرَ؛ مِنْهُمْ أَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَنْ شَرِبَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ حُدَّ، وَمَنْ شَرِبَهُ مُتَأَوِّلًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، فَيَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ.
وَلِأَنَّهُ شَرَابٌ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، فَوَجَبَ الْحَدُّ بِقَلِيلِهِ، كَالْخَمْرِ.
وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهَا؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهَا. (المغني).
1244 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
•
ما حكم ضرب الوجه؟
حرام.
لحديث الباب (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وفي رواية له بلفظ (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُم
…
).
قال النووي: هَذَا تَصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ ضَرْب الْوَجْه; لِأَنَّهُ لَطِيف يَجْمَع الْمَحَاسِن، وَأَعْضَاؤُهُ نَفِيسَة لَطِيفَة، وَأَكْثَر الْإِدْرَاك بِهَا; فَقَدْ يُبْطِلهَا ضَرْب الْوَجْه، وَقَدْ يُنْقِصُهَا، وَقَدْ يُشَوِّه الْوَجْه، وَالشَّيْن فِيهِ فَاحِش; وَلِأَنَّهُ بَارِز ظَاهِر لَا يُمْكِن سَتْره، وَمَتَى ضَرَبَهُ لَا يَسْلَم مِنْ شَيْن غَالِبًا.
وقال الحافظ: ويدخل في النهي كل من ضرب في حد أو تعزير أو تأديب، وقد وقع في حديث أبي بكرة وغيره عند أبي داود وغيره في قصة التي زنت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وقال (ارموا واتقوا الوجه) وإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه فمن دونه أولى. (الفتح)
وقال الصنعاني: وهذا النهي عام لكل ضرب ولطم من تأديب أو غيره. (سبل السلام).
•
ما الحكمة من النهي عن ضربه؟
قال النووي: قال العلماء: إنما نُهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه، فيخشى من ضربه أن تبطل أو تتشوه كلها أو بعضها، والشين فيها فاحش لظهورها وبروزها بل لا يسلم إذا ضرب غالباً من شين.
وقال الشيخ ابن عثيمين: ولأن الوجه أشرف ما في الإنسان، وهو واجهة البدن كله، فإذا ضُرب كان أذل للإنسان مما لو ضرب غير وجهه.
وقال في الفتح في خصوص دلالة النهي الوارد في الحديث: لم يتعرض النووي لحكم هذا النهي، وظاهره التحريم، ويؤيده حديث سويد بن مقرن الصحابي: أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لطم غلاماً فقال (أو ما علمت أن الصورة محترمة).
•
ما الجواب عن فعل امرأة الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو ما جاء في قوله تعالى:(فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)؟
فالجواب عنه من خمسة أوجُه:
الوجه الأول: معناه ضَرَبَتْ وجهها. قال ابن عباس: لَطَمَتْ، وهذا مما يفعله الذي يرد عليه أمر يَستهوله. أفاده ابن عطية.
والوجه الثاني: أن هذا الفعل للتعجّب
قال سفيان والسدي ومجاهد: معناه ضربت بِكَفِّها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن
وقال البغوي: أي ضَرَبَتْ وَجْهها تَعجُّباً.
وقال ابن كثير: جَرَتْ به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب.
والوجه الثالث: أنه ضرب خفيف
فقيل: إنها ضَرَبَتْ جبينها بأصابعها تعجباً.
ومعلوم أن مَنْ ضَرَب نفسه لا يكون ضرب إهانة ولا ضَرْب إيلام.
والوجه الرابع: أنه هو لو صحّ أنه من ضَرْب الوجه فهو مِنْ شَرْع مَنْ قَبْلَنا.
وقد جاء شرعنا بخلافه.
الوجه الخامس: أن المنهي عنه ضَرْب الإنسان وجْه غيره، وهذا من ضرب النفس.
1245 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِد) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.
===
الحديث ذكره المصنف رحمه الله في كتاب المساجد من حديث حكيم بن حزام الآتي.
•
ما حكم إقامة الحدود في المساجد؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال؟
القول الأول: المنع.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ-لحديث الباب.
ب-ولشواهده، كحديث حكيم بن حزام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُقَامُ اَلْحُدُودُ فِي اَلْمَسَاجِدِ، وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيف.
ج-ولحديث أبي هريرة قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فنادى فقال: يا رسول الله، إني زنيت
…
اذهبوا به فارجموه) متفق عليه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج من وجب عليه الحد من المسجد لأجل إقامة الحد.
د-ويمكن أن يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المساجد لم تبنَ لهذا).
هـ-ولأن إقامة الحدود في المسجد لا يؤمن تلويث المسجد.
القول الثاني: يجوز التأديب في المسجد بخمسة أسواط أو نحوها.
وهذا مذهب مالك وأبي ثور.
ويمكن أن يستدل بأن هذا الضرب الخفيف يؤمن معه تضرر المسجد.
والقول الأول هو الصحيح.
1246 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَمْرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
1247 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1248 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما; عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام) أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ.
1249 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَام) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
===
•
ماذا نستفيد من هذه الأحاديث؟
هذه الأحاديث دليل على أن اسم الخمر يطلق على كل ما أسكر، سواء كان مشروباً أو مشموماً، وسواء كان من العنب أو من التمر أم من غيرهما.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَصْرِيح بِتَحْرِيمِ جَمِيع الْأَنْبِذَة الْمُسْكِرَة، وَأَنَّهَا كُلّهَا تُسَمَّى خَمْرًا، وَسَوَاء فِي ذَلِكَ الْفَضِيخ وَنَبِيذ التَّمْر وَالرُّطَب وَالْبُسْر وَالزَّبِيب وَالشَّعِير وَالذُّرَة وَالْعَسَل وَغَيْرهَا، وَكُلّهَا مُحَرَّمَة، وَتُسَمَّى خَمْرًا.
هَذَا مَذْهَبنَا وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَالْجَمَاهِير مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف.
واحْتَجَّ الْجُمْهُور بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّة.
أَمَّا الْقُرْآن فَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ عِلَّة تَحْرِيم الْخَمْر كَوْنهَا تَصُدّ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة، وَهَذِهِ الْعِلَّة مَوْجُودَة فِي جَمِيع الْمُسْكِرَات، فَوَجَبَ طَرْد الْحُكْم فِي الْجَمِيع.
الثَّانِيَة: الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْكَثِيرَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَغَيْره.
كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (كُلّ مُسْكِر حَرَام).
وَقَوْله (نَهَى عَنْ كُلّ مُسْكِر).
وَحَدِيث (كُلّ مُسْكِر خَمْر).
وَحَدِيث اِبْن عُمَر رضي الله عنهما الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم هُنَا فِي آخِر كِتَاب الْأَشْرِبَة: (أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلّ مُسْكِر خَمْر وَكُلّ مُسْكِر حَرَام).
وَفِي رِوَايَة لَهُ (كُلّ مُسْكِر خَمْر وَكُلّ خَمْر حَرَام).
وَحَدِيث النَّهْي عَنْ كُلّ مُسْكِر أَسْكَرَ عَنْ الصَّلَاة. (نووي).
وقال ابن قدامة: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ خَمْرٌ حُكْمُهُ حُكْمُ عَصِيرِ الْعِنَبِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهِ.
وَرُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاق. (المغني).
وقال القرطبي:
…
وعلى هذا يدلّ قوله في أوَّل الرواية الأخرى (وكانت عامة خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر).
وهذه الأحاديث على كثرتها تبطل مذهب أبي حنيفة، والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب. وما كان من غيره لا يُسمَّى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يُسمى نبيذًا. وهذا مخالف للُّغة، والسُّنَّه، ألا ترى: أنه لما نزل تحريم الخمر فهمت الصحابة جميعهم من ذلك تحريم كل ما يُسكر نوعه؛ فسَوَّوا في التحريم بين المعتصر من العنب وغيره، ولم يتوقفوا في ذلك، ولا سألوا عنه؛ لأنَّهم لم يشكل عليهم شيء من ذلك، فإنَّ اللِّسان لسانهم، والقرآن نزل بلغتهم. ولو كان عندهم في ذلك شكٌّ، أو توهُّم لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا، ويسألوا، لا سيما وكان النبيذ عندهم مالاً محترمًا منهيًّا عن إضاعته قبل التحريم، فلما فهموا التحريم نصًّا ترجَّح عندهم مقتضى الإراقة والإتلاف على مقتضى الصيانة والحفظ، ثم كان هذا من جميعهم من غير خلاف من أحد منهم، فصار القائل بالتَّفريق سالكًا غير سبيلهم، ثم إنَّه قد ثبتت أحاديث نصوصٌ في التسوية بين تلك الأشياء، وأن كلَّ ذلك خمر على ما يأتي بعد هذا.
وقد خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فقال: ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل. والخمر: ما خامر العقل. وهذه الخطبة بمحضر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللسان، ولم ينكر ذلك عليه أحد، وهو الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه.
وقال ابن تيمية: ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة من خمر العنب شيء، فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب، وإنما كان عندهم النخل فكان خمرهم من التمر، ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر، وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم، فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصاً بعصير العنب، وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول، أو كانوا عرفوا التعميم ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه المبين عن الله مراده، فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة وتارة فيما هو أخص.
وقال ابن رجب:
…
وإلى هذا القول ذهب جمهورُ علماء المسلمين مِنَ الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من عُلماء الأمصار، وهو مذهبُ مالك، والشافعي، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلهم.
وخالف فيه طوائفُ مِنْ عُلماء أهل الكوفة، وقالوا: إنَّ الخمرَ إنَّما هو خمرُ العنب خاصّةً، وما عداها، فإنَّما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر، ولا يحرم ما دُونَه، وما زال علماءُ الأمصار يُنكرون ذلك عليهم، وإنْ كانوا في ذلك مجتهدين مغفوراً لهم، وفيهم خَلقٌ مِنْ أئمَّة العلمِ والدين.
ومما يدلُّ على أن كُلَّ مسكر خمر: أنَّ تحريم الخمر إنَّما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عمّا عندهم من الأشربة، ولم يكن بها خمرُ العنب، فلو لم تكن آية تحريم الخمر شاملةً لِما عِندهم، لما كان فيها بيانٌ لِما سألوا عنه، ولكانَ محلُّ السبب خارجاً مِنْ عُموم الكلام، وهو ممتنع، ولمَّا نزل تحريمُ الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة، فدلَّ على أنَّهم فَهِمُوا أنَّه منَ الخمر المأمور باجتنابه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (الخمرُ مِنْ هَاتَينِ الشَّجرتين: النخلة والعِنبة)، وهذا صريح في أنَّ نبيذ التمر خمر.
وقال ابن عثيمين: كل ما أسكر فهو خمر سواء كان من العنب أو من التمر أو من الشعير أو من البر أو من غير ذلك، كل ما أسكر فهو خمر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، والإسكار هو تغطية العقل على وجه اللذة والطرب ليس مجرد تغطية العقل، ولهذا البنج ليس مسكراً وإن كان يغطي العقل، والمبنج لا يدري ماذا حصل له، لكن الخمر ـ نسأل الله العافية ـ يجد الإنسان من السكر لذة وطرباً ونشوى حتى يتصور أنه ملك من الملوك وأنه فوق الثريا وما أشبه ذلك. انتهى.
- قوله (كل مسكر خمر) كل من أقوى ألفاظ العموم، فكل مسكر يسمى خمراً كما هو قول الجمهور، وهو ما تدل عليه الأدلة.
قوله (وكل مسكر حرام) فكل ما أسكر فهو حرام قل أم كثر؛ لحديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام).
• قوله (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُه حرام) جمهور أهل العلم على أن أي طعام أو شراب حصل الإسكار بشرب كمية منه فإنه يصير محرماً، لا فرق بين كثيره المسكر وقليله الذي لا يسكر، وخالف في هذا الحنفية وهم محجوجون بالأحاديث السابقة، وهي صحيحة.
قال الشيخ ابن عثيمين:
…
ولا تظن أن أي نسبة من الخمر تكون في شيء تجعله حراماً بل النسبة إذا كانت تؤثر بحيث إذا شرب الإنسان من هذا المختلط بالخمر سكر صار حرماً أما إذا كانت نسبة ضئيلة تضاءلت وانمحى أثرها ولم تؤثر فإنه يكون حلالاً.
وقال رحمه الله
…
وقد ظن بعض الناس أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ). أن معناه ما خلط بيسير فهو حرام ولو كان كثيراً، وهذا فهم خاطئ فالحديث: ما أسكر كثيرة فقليله حرام، يعني أن الشيء الذي إذا أكثرت منه حصل السكر، وإذا خففت منه لم يحصل السكر، يكون القليل والكثير حراماً، لأنك ربما تشرب القليل الذي لا يسكر، ثم تدعوك نفسك إلى أن تكثر فتسكر، وأما ما اختلط بمسكر ونسبة المسكر فيه قليلة لا تؤثر فهذا حلال ولا يدخل في الحديث " اهـ.
•
فائدة:
يجب التفريق بين نوعين من البيرة:
الأول: البيرة المسكرة التي تباع في بعض البلاد، فهذه البيرة خمر، حرام بيعها وشراؤها وشربها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).
ويحرم شرب الكثير والقليل منها، ولو قطرة واحدة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) رواه الترمذي صححه الألباني في صحيح الترمذي.
الثاني: البيرة غير المسكرة، إما لكونها خالية تماماً من الكحول، أو موجود بها نسبة ضئيلة من الكحول لا تصل إلى حد الإسكار مهما أكثر الإنسان من الشرب منها، فهذه هي التي أفتى العلماء بأنها حلال.
1250 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَاقَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ) أي: يتخذ له النبيذ من الزبيب، وهو العنب المجفف بأن يطرح في الماء وينقع.
(فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَاقَهُ) جاء عند مسلم رواية (فإن فضل منه شيء سقاه الخادم أو صبه) والمعني: أنه إن بدا في طعمه بعض تغير ولم يشتد سقاه الخادم، وإن اشتد أمر به فأهريق، فتكون (أو) للتنويع حسب حال النبيذ.
قال القرطبي: ثم سقاه الخادم. وفي الرواية الأخرى (ثم أمر به فأهريق)، وظاهر هاتين الروايتين: أنهما مرَّتان. فأما الأولى: فإنَّه لم يظهر فيه ما يقتضي إراقته، وإتلافه، لكن اتَّقاه في خاصَّة نفسه أخذًا بغاية الورع، وسقاه الخادم؛ لأنَّه حلال جائز، كما قال في أجرة الحجَّام (اعلفه ناضحك) يعني: رقيقك. وأما في المرة الأخرى: فتبين له فساده فأمر بإراقته. (المفهم)
وقال النووي: وَقَوْله (سَقَاهُ الْخَادِم أَوْ صَبَّهُ) مَعْنَاهُ تَارَة: يَسْقِيه الْخَادِم، وَتَارَة يَصُبّهُ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَاف لِاخْتِلَافِ حَال النَّبِيذ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَظْهَر فِيهِ تَغَيُّر وَنَحْوه مِنْ مَبَادِئ الْإِسْكَار سَقَاهُ الْخَادِم وَلَا يُرِيقهُ؛ لِأَنَّهُ مَال تَحْرُم إِضَاعَته، وَيَتْرُك شُرْبه تَنَزُّهًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ شَيْء مِنْ مَبَادِئ الْإِسْكَار وَالتَّغَيُّر أَرَاقَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْكَرَ صَارَ حَرَامًا وَنَجِسًا فَيُرَاق وَلَا يَسْقِيه الْخَادِم؛ لِأَنَّ الْمُسْكِر لَا يَجُوز سَقْيه الْخَادِم كَمَا لَا يَجُوز شُرْبه، وَأَمَّا شُرْبه صلى الله عليه وسلم قَبْل الثَّلَاث فَكَانَ حَيْثُ لَا تَغَيُّر، وَلَا مَبَادِئ تَغَيُّر وَلَا شَكّ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: جواز شرب النبيذ وهو الماء يلقى فيه التمر أو الزبيب ليحلو به الماء وتذهب ملوحته، بشرط ألا يصل إلى درجة الإسكار وإلا حرم.
قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة عَلَى جَوَاز الِانْتِبَاذ، وَجَوَاز شُرْب النَّبِيذ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَغْلِ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة.
وَأَمَّا سَقْيه الْخَادِم بَعْد الثَّلَاث وَصَبّه، فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن بَعْد الثَّلَاث تَغَيُّره، وَكَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَتَنَزَّه عَنْهُ بَعْد الثَّلَاث.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هل يَحْرُم عصير العنب وعصير البرتقال وما أشبه ذلك أم لا؟.
الجواب: هذا حلال ليس فيه شك، إلا إذا غلا - أي: تخمَّر - بأن يكون فيه زَبَد، صار حراماً، أو إذا أتى عليه ثلاثة أيام على المشهور من المذهب، وإن لم يغلِ: فإنه يكون حراماً، قالوا: لأن ثلاثة الأيام يغلي فيها العصير غالباً، ولما كان الغليان قد يخفى أنيط الحكم بالغالب لظهوره وهو ثلاثة أيام.
والصحيح: خلاف ذلك، فالصحيح: أنه لا يحرم إذا أتى عليه ثلاثة أيام، لا سيما في البلاد الباردة، أما إذا كان في البلاد الحارة فإنه بعد ثلاثة أيام ينبغي أن ينظر فيه، والاحتياط أن يتجنب وأن يعطى البهائم أو ما أشبه ذلك؛ لأنه يخشى أن يكون قد تخمر وأنت لا تعلم به. (الممتع).
1251 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم) أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.
1252 -
وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ، (أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ رضي الله عنهما، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا.
===
•
ما صحة حديث أم سلمة؟
لا يصح.
ويغني عنه ما جاء عن ابن مسعود أنه قال (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم) ذكره البخاري تعليقاً، وأخرجه ابن أبي شيبة.
•
ما حكم التداوي بالخمر؟
لا يجوز التداوي بالخمر.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-لحديث الباب (إنه ليس بدواء ولكنه داء).
قال النووي: فيه التصريح بأنها ليست بدواء، فيحرم التداوي بها.
وقال الخطابي: في الحديث بيان أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وهو قول أكثر الفقهاء.
ب- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ) رواه ابو داود.
ج- وعن ابن مسعود قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام عليكم) رواه البخاري تعليقاً.
•
ما حكم شرب الخمر لإزالة الغصة إذا لم يجد غيرها؟
ذهب عامة العلماء إلى جواز ذلك.
قال ابن تيمية: وكذلك الخمر يباح لدفع الغصة بالاتفاق.
وقال النووي: لو غص بلقمة ولم يجد شيئاً يسيغها به إلا الخمر فله إساغتها به بلا خلاف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، بل قالوا يجب عليه ذلك، لأن السلامة من الموت بهذه الإساغة قطعية بخلاف التداوي وشربها للعطش.
أ- لقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).
وجه الدلالة: أن الآية نفت الإثم حال الضرورة إذا لم يكن بغي ولا عدوان، وإزالة الغصة ليست بغي ولا عدوان.
ب- ولقوله تعالى (وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
وجه الدلالة: أن الله تعالى بيّن لنا أن المحرمات مفصلة في كتابه واستثنى منها حال الضرورة، وإزالة الغصة ضرورة فتكون مستثناة بنص القرآن.
ج- ولقوله تعالى (وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
وجه الدلالة: أن الآية نهت المسلمين عن الإلقاء بأيديهم في التهلكة، وترك إزالة الغصة بالخمر إلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو لا يجوز.
د- لأنه إحياء للنفس وهو متحقق النفع.
•
ما حكم شرب الخمر لسد العطش والجوع عند الضرورة؟
اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: لا يجوز شربها لذلك.
وهذا قول جماهير العلماء.
أ-لأن شربها للضرورة قد يدعو على التعود على شربها في غير الضرورة.
ب- ولأن شربها لا يدفع العطش بل يزيده.
وذهب الحنفية إلى جواز شربها عند الضرورة القصوى.
لأن المعنى الذي أبيحت من أجله الميتة وما في حكمها وهو إنقاذ النفس من الهلاك موجود في الخمر، فتباح لذلك.
فائدة:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والمعالجة بالمحرمات قبيحة شرعاً وعقلاً.
أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها.
وأما العقل، فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)؛ وإنما حرَّم على هذه الأمة ما حرَّم لخبثه، وتحريمه له حِمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يُطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثَّر في إزالتها، لكنه يُعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المُدَاوَى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب. (زاد المعاد). الجمعة/ 16/ 6/ 1437 هـ
بَاب التَّعْزِيرِ وَحُكْمِ الصَّائِلِ
تعريفه.
التعزير: لغة: التأديب.
واصطلاحاً: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
(لا حد فيها) فالزنا لا تعزيز فيه، لأن فيه حداً، وكذلك السرقة.
(ولا كفارة) مثل الوطء في نهار رمضان، لا تعزير فيه لأن فيه كفارة.
1253 -
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّه) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
•
كم أقل التعزير؟
لا حد لأقل التعزير.
قال ابن قدامة: لأنه لو تقدر لكان حداً.
•
كم أكثره؟
اختلف العلماء في أكثر التعزير على أقوال:
القول الأول: لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط.
وهذا هو المعتمد في المذهب الحنبلي، وهو مذهب الظاهرية، وبه قال إسحاق والليث، وبعض الشافعية.
قال في المغني: واختلف عن أحمد في قدره فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات، نص أحمد على هذا في مواضع، وبه قال إسحاق ....
وقال ابن حزم: وقالت طائفة: أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل لا يجوز به أكثر من ذلك، وهو قول الليث بن سعد وقول أصحابنا.
واختاره ابن دقيق العيد، والصنعاني، والشوكاني.
واستدلوا بحديث.
وجه الدلالة: أن الحديث صريح في أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في الحدود الشرعية، والتعزير ليس حداً فلا يزاد فيه على العشر.
القول الثاني: أن التعزير بالجلد ليس له حد معين، بل هو موكول إلى اجتهاد القاضي حسب المصلحة.
وهو مذهب المالكية، وقول لأبي يوسف اختاره الطحاوي.
القول الثالث: أن لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود.
وهو مذهب الحنفية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة.
أ- لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين). رواه البيهقي
ونوقش بأن البيهقي قال عنه المحفوظ مرسل، وكذلك رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن الضحاك بن مزاحم.
ب- أن العقوبة على قدر المعصية، والمعاصي المنصوص على حد عقوبتها أعظم من غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها.
ويناقش هذا بأن خطورة المعصية وضررها على المجتمع يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، فترك تقدير عقوبتها للقاضي، وقد يكون ضرر معصية أصغر من معصية الحد كبيراً في زمن أو حال، بحيث يكون أشد من ضرر معصية الحد.
القول الرابع: أن لا يبلغ في التعزير على معصية حداً مشروعاً في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، وعلى هذا فالتعزير الذي سببه الوطء لا يجوز أن يبلغ المائة (حد الزنا) وما كان سببه الشتم والسب لا يجوز أن يبلغ الثمانين (حد القذف) وهكذا.
وهذا قول للشافعية، ورواية للحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تنازع العلماء في مقدار أعلى التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال: أحدها: وهو أحسنها
…
أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة وفي السرقة المحرمة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف ولا يبلغ بذلك الرجم.
•
ما الجواب عن حديث الباب؟
الجواب الأول: أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة، كتأديب الأب لولده ونحوه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: الصحيح أن المراد بالحد هنا حكم الله عز وجل، وقد سمى الله أحكامه حدوداً فقال:
(وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه).
الجواب الثاني: أن هذا الحديث منسوخ.
ذهب جماعة من الحنفية والشافعية إلى أن هذا الحديث منسوخ، ودليل النسخ عندهم هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخلافه من غير نكير.
قال الحافظ ابن حجر: ومنها أنه منسوخ دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار.
وقال النووي: وَأَجَابَ أَصْحَابنَا عَنْ الْحَدِيث بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَة رضي الله عنه جَاوَزُوا عَشْرَة أَسْوَاط.
الجواب الثالث: أن الحديث مقصور على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر.
قال العلامة ابن دقيق العيد: وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وهذا في غاية الضعف أيضاً، لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص.
وقال النووي: وَهَذَا التَّأْوِيل ضَعِيف.
•
بعض الأمثلة لما يجب التعزير بها:
الاستمناء باليد، إتيان البهيمة، مساحقة النساء.
1254 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُود) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِي.
===
(أَقِيلُوا) من الإقالة، والمراد: التجاوز وعدم المؤاخذة.
(ذَوِي الْهَيْئَاتِ) أصحاب المروءات والخصال الحميدة.
(عَثَرَاتِهِمْ) أي: زلاتهم.
(إِلَّا الْحُدُود) إلا ما يوجب حداً.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: استحباب ترك مؤاخذة ذي الهيئة إذا وقع في زلة، أو هفوة لم تعهد منه، إلا ما كان حداً من حدود الله.
قال ابن القيم: قال ابن عقيل، المراد بهم الذين دامت طاعاتهم وعدالتهم فزلت في بعض الأحايين أقدامهم بورطة.
قلت: ليس ما ذكره بالبين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبر عن أهل التقوى والطاعة والعبادة بأنهم ذوو الهيئات ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمطيعين المتقين، والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع التكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عصب صبره، وأديل عليه شيطانه فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله، فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع فإن النبي قال: لو أن فاطمه بنت محمد سرقت لقطعت يدها، وقال: إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالم وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد. (بدائع الفوائد).
•
هل يستحب الستر على المسلم؟
نعم، فيستحب الستر على المسلم غير المعلن للفجور والفسق.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير، وقد نقل ابن عبد البر وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب الستر على المسلم، وهي محمولة على ما لم يبلغ الإمام.
- أن الإسلام يحفظ لأهل الفضل كرامتهم، ويقيل عثرتهم، وتشفع لهم سابقتهم في الخير والإسلام، وقد وقع مثل هذا لبعض من السابقين في الإسلام وقعت منهم هفوات فاعتبروا من أهل الفضل وأقيلت عثراتهم لهذا السبب كما وقع مع سيدنا حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وغيره، والله أعلم.
- ظاهر الحديث قد يفهم منه البعض أنه مُعارِضٌ لمبدأ العدل والمساواة الذي أقره الإسلام بين الناس، وليس الأمر كذلك؛ وذلك أن من كثرت عثراته، وتكررت زلاته لا يستوي ومَن قلَّت عثراته، وندرت زلاته، وغاية ما يرمي إليه الحديث هو رفع المؤاخذة بالخطأ والذنب إذا صدر عمَّن لم يكن من عادته ذلك، وعُرِفَ بالاستقامة والصلاح، إلا ما كان حداً من حدود الله تعالى وبلغ الحاكم فيجب إقامته.
قال الذهبي: إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلِم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلته، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
1255 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ (مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا، فَيَمُوتُ، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي، إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ; فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي.
===
(فَأَجِدُ فِي نَفْسِي) الوجد هنا الحزن.
(إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ) أي: غرمت ديته لمن يستحق قبضها، وفي رواية مسلم (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه) تعليل لأدائه الدية لمن مات من حد الشرب.
•
ما حكم من مات بسبب إقامة الحد عليه؟
ليس فيه دية ولا كفارة. (الحق قتله).
قال النووي: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدّ فَجَلَدَهُ الْإِمَام أَوْ جَلَّاده الْحَدّ الشَّرْعِيّ فَمَاتَ فَلَا دِيَة فِيهِ وَلَا كَفَّارَة، لَا عَلَى الْإِمَام، وَلَا عَلَى جَلَّاده وَلَا فِي بَيْت الْمَال.
وقال القرطبي: حديث علي (مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا، فَيَمُوتُ
…
) يدلُّ على أن ما كان فيه حدٌّ محدود فأقامه الإمام على وجهه، فمات المحدود بسببه؛ لم يلزم الإمام شيء، ولا عاقلته، ولا آل بيت المال. وهذا مجتمعٌ عليه.
لأنَّ الإمام قام بما وجب عليه، والميت قتيل الله.
وأمَّا حدّ الخمر فقد ظهر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدّ فيه حدًّا، فلما قصرته الصحابة رضي الله عنه على عدد محدود، وهو الثمانون، وجد علي رضي الله عنه في نفسه من ذلك شيئًا، فصرَّح بالتزام الدِّية إن وقع له موت المجلود احتياطًا، وتوقيًّا، لكن ذلك- والله أعلم - فيما زاد على الأربعين إلى الثمانين. وإمَّا الأربعون: فقد صرَّح هو على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جلداها، وسمى ذلك سنة. فكيف يخاف من ذلك؟
وهذا هو الذي فهمه الشافعي من فعل علي هذا، فقال: إن حدّ أربعين بالأيدي، والنعال، والثياب فمات؛ فالله قتله، وإن زِيدَ على الأربعين بذاك، أو ضرب أربعين بسوط فمات؛ فديته على عاقلة الإمام. (المفهم).
•
ما الحكم لو مات من التعزير؟
لا ضمان فيه ولا كفارة أيضاً.
قال النووي: وَأَمَّا مَنْ مَاتَ مِنْ التَّعْزِير:
فَمَذْهَبنَا وُجُوب ضَمَانه بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَة،
…
هَذَا مَذْهَبنَا.
وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا ضَمَان فِيهِ لَا عَلَى الْإِمَام وَلَا عَلَى عَاقِلَته وَلَا فِي بَيْت الْمَالِ.
وقال القرطبي: وجمهور العلماء على أنه لا شيء عليه.
1256 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيد) رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِي.
1257 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (تَكُونُ فِتَنٌ، فَكُنْ فِيهَا عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنِ الْقَاتِل) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
1258 -
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ نَحْوَهُ: عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ.
===
•
اذكر بعض الأحاديث الأخرى التي تتحدث عن موضوع هذا الحديث؟
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ - يَعْنِي - عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ) رواه أبو داود، وصححه من الائمة: الترمذي، و ابن حبان، وابن دقيق العيد، وابن حجر، وابن الملقن، و الالباني، و الارناءوط، و الوادعي وغيرهم.
ب- وعن سَعْد بْن أَبِى وَقَّاص. قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي». قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَىَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَىَّ لِيَقْتُلَنِي. قَالَ «كُنْ كَابْنِ آدَم) رواه الترمذي.
ج- وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِه) متفق عليه.
د- وعن أَبَي بَكْرَة. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ قَالَ «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِئ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي قَالَ «يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّار) رواه مسلم.
•
ما المراد بالفتنة الواردة في هذه الأحاديث؟
قد ذكر الخلاف الإمام النووي رحمه الله فقال: وَهَذَا الْحَدِيث وَالْأَحَادِيث قَبْله وَبَعْده مِمَّا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْقِتَال فِي الْفِتْنَة بِكُلِّ حَال.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قِتَال الْفِتْنَة:
فَقَالَتْ طَائِفَة: لَا يُقَاتِل فِي فِتَن الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَيْته، وَطَلَبُوا قَتْله، فَلَا يَجُوز لَهُ الْمُدَافَعَة عَنْ نَفْسه؛ لِأَنَّ الطَّالِب مُتَأَوِّل.
وَهَذَا مَذْهَب أَبِي بَكْرَة الصَّحَابِيّ رضي الله عنه وَغَيْره.
وَقَالَ اِبْن عُمَر وَعِمْرَان بْن الْحُصَيْن رضي الله عنهم وَغَيْرهمَا: لَا يَدْخُل فِيهَا، لَكِنْ إِنْ قُصِدَ دَفَعَ عَنْ نَفْسه. فَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَرْك الدُّخُول فِي جَمِيع فِتَن الْإِسْلَام.
وَقَالَ مُعْظَم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّة عُلَمَاء الْإِسْلَام: يَجِب نَصْر الْمُحِقّ فِي الْفِتَن، وَالْقِيَام مَعَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْبَاغِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى
(فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
…
) الْآيَة. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَتُتَأَوَّل الْأَحَادِيث عَلَى مَنْ لَمْ يَظْهَر لَهُ الْحَقّ، أَوْ عَلَى طَائِفَتَيْنِ ظَالِمَتَيْنِ لَا تَأْوِيل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ لَظَهَرَ الْفَسَاد، وَاسْتَطَالَ أَهْل الْبَغْي وَالْمُبْطِلُونَ. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: لو تحاربت طائفتان - في فتنة - وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، و هذا قول الجمهور.
وقال الطبري: والصواب أن يقال أن الفتنة أصلها الابتلاء وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.
وقال الصنعاني: وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحملوا هذه الأحاديث على من ضعف عن القتال، أو قصر نظره عن معرفة الحق، وقال بعضهم بالتفصيل وهو أنه إذا كان القتال بين طائفتين لا إمام لهم فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث على هذا وهو قول الأوزاعي، وقال الطبري إنكار المنكر واجب على من يقدر عليه فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المبطل أخطأ وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها، وقيل إن النهي إنما هو في آخر الزمان حيث تكون المقاتلة لطلب الملك. (سبل السلام).
كِتَابُ الْجِهَادِ
•
ما تعريف الجهاد؟
الجهاد لغة: استفراغ الوسع والطاقة من قول أو فعل.
واصطلاحاً: قال الحافظ ابن حجر: بذل الجهد في قتال الكفار.
•
ما الحكمة من الجهاد؟
إعلاء كلمة الله تعالى، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد.
قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).
وقال: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
قال ابن جرير رحمه الله: فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة ويكون الدين كله لله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها خالصة دون غيره ".
وقال ابن كثير رحمه الله: أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان".
وقال صلى الله عليه وسلم (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ). رواه أحمد.
قال الشيخ ابن باز:
…
وفي هذه الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة الدلالة الظاهرة علي وجوب جهاد الكفار والمشركين وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام، وإصرارهم على الكفر حتى يعبدوا الله وحده ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعوا ما جاء به، وأنه لا تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بذلك وهي تعم جهاد الطلب، وجهاد الدفاع، ولا يستثني من ذلك إلا من التزم بالجزية بشروطها إذا كان من أهلها عملا بقول الله عز وجل (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء الأصناف الثلاثة من الكفار وهم اليهود، والنصارى، والمجوس، ثبت بالنص أخذ الجزية منهم.
فالواجب أن يجاهدوا ويقاتلوا مع القدرة حتى يدخلوا في الإسلام، أو يودوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أما غيرهم فالواجب قتالهم حتى يسلموا في أصح قولي العلماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ولم يطلب منهم الجزية، ولو كان أخذُها منهم جائزاً تحقنُ به دماؤهم و أموالهم لبينَه لهم ولو وقع ذلك لنقل.
وذهب بعض أهل العمل إلى جواز أخذها من جميع الكفار لحديث بريدة المشهور في ذلك المخرج في صحيح مسلم.
•
اذكر بعض فضائل الجهاد؟
أولاً: أن الروحة في سبيل الله خير من الدنيا بما فيها.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) متفق عليه.
قوله (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) قولان:
قيل: فَضْل الْغَدْوَة وَالرَّوْحَة فِي سَبِيل اللَّه وَثَوَابهمَا خَيْر مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا كُلّهَا لَوْ مَلَكهَا الْإِنْسَان، وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمه بِهَا كُلّهَا؛ لِأَنَّهُ زَائِل وَنَعِيم الْآخِرَة بَاقٍ.
وقيل: أن ثواب الغدوة والروحة أفضل من الدنيا وما فيها لو ملكها مالك، فأنفقها في وجوه البر والطاعة غير الجهاد.
قال ابن دقيق العيد: والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى.
قلت - ابن حجر - ويؤيد هذا الثاني ما رواه بن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم عبد الله بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم، والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد. (الفتح).
ثانياً: أنه من أفضل الأعمال.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُور) متفق عليه.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِه) متفق عليه.
قال ابن حجر: وفي الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان.
وعَنْ عَائِشَةَ. أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) رواه البخاري.
فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أقر عائشة على قولها: نرى الجهاد أفضل العمل، ثم بيّن أن الحج بالنسبة إلى النساء هو أفضل من الجهاد.
ثالثاً: أن المجاهد أفضل الناس.
عن أَبَي سَعِيد الْخُدْرِي. قَالَ (قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّه) متفق عليه.
رابعاً: الجهاد لا يعدله شيء.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل قَالَ «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ». وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالى) متفق عليه.
ولفظ البخاري: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: لَا أَجِدُهُ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ، وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ، وَلَا تُفْطِرَ قَالَ، وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ).
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (مَثَل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه كَمَثَلِ الصَّائِم الْقَائِم الْقَانِت بِآيَاتِ اللَّه
…
إِلَى آخِره) مَعْنَى الْقَانِت هُنَا: الْمُطِيع. وَفِي هَذَا الْحَدِيث عَظِيم فَضْل الْجِهَاد؛ لِأَنَّ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْقِيَام بِآيَاتِ اللَّه أَفْضَل الْأَعْمَال، وَقَدْ جَعَلَ الْمُجَاهِد مِثْل مَنْ لَا يَفْتُر عَنْ ذَلِكَ فِي لَحْظَة مِنْ اللَّحَظَات، وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَسْتَطِيعُونَهُ" وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي)
خامساً: للمجاهدين مائة درجة في الجنة.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) رواه البخاري.
سادساً: الجهاد سبب للنجاة من النار.
عن أَبي عَبْس. أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ) رواه البخاري.
وفي لفظ (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ).
(ما اغبرت) جاء عند أحمد (ساعة من نهار)، (في سبيل الله) لا من أجل وطنية أو قبلية أو رياء.
قال الحافظ ابن حجر: وفي ذلك إشارة إلى عظم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مسّ الغبار للقدم يحرم عليها النار، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه؟.
سابعاً: من أسباب دخول الجنة.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
عن أبَي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ) متفق عليه.
وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى. قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوف) متفق عليه.
والمعنى:
…
وَالسَّبَب الْمُوَصِّل إِلَى الْجَنَّة عِنْد الضَّرْب بِالسُّيُوفِ فِي سَبِيل اللَّه، وَمَشْي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّه، فَاحْضُرُوا فِيهِ بِصِدْقِ وَاثْبُتُوا.
وقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة تَحْت ظِلَال السُّيُوف) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: إِنَّ الْجِهَاد وَحُضُور مَعْرَكَة الْقِتَال طَرِيق إِلَى الْجَنَّة وَسَبَب لِدُخُولِهَا.
قال القرطبي: قوله (
…
الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوف) هذا الكلام من النفيس البديع الذي جمع ضروب البلاغة مع جزالة اللفظ وعذوبته وحسن استعارته، وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المقبولة الوجيزة بحيث يعجز الفصحاء اللسن البلغاء عن إيراد مثله، وأن يأتوا بنظيره وشكله، فإنه استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه.
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يلجُ النارَ رجلٌ بكى من خشية الله، حتَّى يعودَ اللَّبَنُ في الضّرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنَّم) رواه الترمذي.
ثامناً: المجاهد يكون الله في عونه.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِى يُرِيدُ الأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ الْعَفَاف) رواه الترمذي.
تاسعاً: الجهاد ذروة سنام الإسلام.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ
…
ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَاد) رواه الترمذي.
ذروة الشيء: أعلاه.
عاشراً: نفى سبحانه التسوية بين المؤمنين المجاهدين وغير المجاهدين.
قال تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).
الحادي عشر: أن الجهاد سبب لمغفرة الذنوب.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
•
ما حكم الجهاد؟
فرض كفاية في قول أكثر أهل العلم.
قال ابن قدامة: والجهاد من فروض الكفايات في قول عوام أهل العلم.
وقال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية.
وقال ابن رشد: أجمع العلماء على أنها فرض كفاية لا فرض عين إلا عبد الله بن الحسن فإنه قال: إنها تطوع.
وقال ابن حزم: وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَامَ بِهِ مِنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ وَيَغْزُوهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَيَحْمِي ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُهُ، عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَلَا.
الأدلة:
أ- قال تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
قال الجصاص: وهذا دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه، لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل، ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحاً إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب، وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه.
ب- وقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
قال القرطبي: الجهاد ليس على الأعيان، وأنه فرض كفاية، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق منهم يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم ....
ج- عن أبي سعيد الخدري. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعْثاً إلى بني لحيان من هذيْل فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما).
د- قال بعض العلماء: ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره، ويكتفي ببعض المسلمين، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله، وإلى كونه فرض كفاية ذهب جمهور العلماء.
•
متى يجب الجهاد:؟
يجب الجهاد في حالات:
الحالة الأولى: إذا حضر الإنسان الصف.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات:
…
التولي يوم الزحف.
قال ابن قدامة: إذا التقى الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام.
الحالة الثانية: إذا استنفر الإمام.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام.
الحالة الثالثة: إذا حضر بلده العدو.
قال ابن قدامة: النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال.
وقال النووي: قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعيّن عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية.
وقال شيخ الإسلام: إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة.
الحالة الرابعة: إذا احتيج إليه.
فمثلاً هناك آلات أو طائرات لا يعرف قيادتها إلا هذا الرجل، فحينئذ يجب عليه الجهاد، لأن الناس محتاجون إليه.
•
ما شروط الجهاد؟
أولاً: الإسلام.
لأن النصوص الشرعية حضت المؤمنين في التكليف بالجهاد.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ).
وقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ).
الثاني: البلوغ.
لحديث عَبْدِ اللَّه بْن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي) متفق عليه.
قال النووي: هذا الحديث دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة، وأنه باستكماله يصير مكلفاً وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيره ويستحق سهم الرجل من الغنيمة، ويقتل إن كان من أهل الحرب وهو مذهب الشافعي وأحمد.
ولحديث (رفع القلم عن ثلاثة:
…
).
الثالث: العقل.
للحديث السابق (رفع القلم عن ثلاثة
…
).
والتعليل: قال ابن قدامة: والمجنون لا يتأتى منه الجهاد.
الرابع: الحرية.
قال تعالى (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ولا مال للعبد، ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب.
الخامس: الذكورة، فالمرأة لا يجب عليها الجهاد.
عن عائشة (أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: جهادكن الحج) رواه البخاري.
قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء ولكن ليس في قوله [جهادكن الحج] أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن، من الستر ومجانبة الرجال.
سادساً: سلامة البدن والقدرة على الجهاد.
قال ابن قدامة: معناه السلامة من العمى والعرض والمرض وهو شرط لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ).
1259 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(وَلَمْ يَغْزُ) أي: لم يخرج للجهاد في سبيل اللَّه تعالى.
(وَلَمْ يُحَدِّث نَفْسَهُ بِغَزْوٍ) من التحديث، قيل: بأن يقول في نفسه: يا ليتني كنت غازيًا، أو المراد: ولم ينو الجهاد، وعلامته إعداد الآلات، كما قال اللَّه تعالى (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً).
(مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق) بضمّ الشين المعجمة، وسكون العين المهملة-: أي خلق من أخلاق المنافقين. قيل: أشبه المنافقين المتخلّفين عن الجهاد.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أهمية الجهاد، وأن تركه من صفات المنافقين.
قال ابن تيمية: ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين.
وقال النووي: الْمُرَاد أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجِهَاد فِي هَذَا الْوَصْف، فَإِنَّ تَرْك الْجِهَاد أَحَد شُعَب النِّفَاق.
ذكر مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بعد إخراج الحديث: ما نصّه: قال ابن سهم. قال عبد اللَّه بن المبارك: فنُرَى أن ذلك كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- مفسّرًا كلام ابن المبارك هذا: ما نصّه: يعني حيث كان الجهاد واجبًا، وحمله على النفاق الحقيقيّ، ويحتمل أن يحمل على جميع الأزمان، ويكون معناه: أن كلّ من كان كذلك أشبه المنافقين، وإن لم يكن كافراً.
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "نُرى" -بضمّ النون- أي نظن. وهذا الذي قاله ابن المبارك محتملٌ. وقد قال غيره: إنه عامٌ، فحمل الحديث على العموم هو الأولى.
قال ابن تيمية: ومن هذا الباب - أي النفاق الأصغر- الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين قال النبي صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يغز
…
).
•
ما المراد بتحديث النفس في الحديث؟
قال القاري: قوله (وَلَمْ يُحَدِّث نَفْسَهُ) المعنى لم يعزم على الجهاد، ولم يقل: يا ليتني كنت مجاهداً، وقيل: لم يرد الخروج.
وقال ابن تيمية: ولا بد لكل مؤمن أن يعتقد أنه مأمور به، وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله، فمن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك، فمات على شعبة من نفاق.
وقال الشيخ ابن عثيمين: هذا الحديث يدل على أنه يجب على الإنسان أن يكون مستعداً لنصرة الله، فإما أن يباشر ذلك بنفسه، وإما أن يحدث نفسه بأنه متى حصل جهاد في سبيل الله جاهد، وإلا مات على شعبة من النفاق، ولم يقل (مات منافقاً) بل قال (على شعبة) ومعلوم أن الشعبة لا تخرج الإنسان من دين الإسلام.
•
ما عواقب ترك الجهاد:
أولاً: سبب للهلاك في الدنيا والآخرة.
فأما في الدنيا فإن الجبان الرعديد الذي لا همة له في قتال الأقران ولا طاقة له في الذود عن حياضه يكون ذليلاً مستعبداً تابعاً غير متبوع.
وأما في الآخرة: فهو يهلك إن لم يتغمده الله برحمته، بترك فريضة محكمة أنزلها الله في كتابه بها عز الإسلام والمسلمين وإذلال الشرك والمشركين.
ثانياً: سبب للذل والهوان.
عن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود.
وقد بوّب البخاري باباً على هذا المعنى في الصحيح فقال:
باب مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاِشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ، أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ.
ثم ذكر حديثاً:
…
، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَّ أُدْخِلَهُ الذُّلُّ.
قال العيني: المقصود الترغيب والحث على الجهاد.
وقد جاء عند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا).
الضيعة: التجارة والصناعة والزراعة وغير ذلك. (النهاية).
وقد وفق العلماء بين هذا الحديث [حديث أبي أمامة] والأحاديث المتقدمة [ما من مسلم يغرس غرساً فيأكل منه طير .... ] بوجهين اثنين:
أولاً: أن المراد بالذل ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج أو عشر، فمن أدخل نفسه في ذلك فقد عرضها للذل.
ثانياً: أنه محمول على من شغله الحرث و الزرع عن القيام بالواجبات كالحرب ونحوه، وإلى هذا ذهب البخاري حيث ترجم للحديث بقوله: باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحد الذي أمر به، فإن من المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب و يحمله على التكالب على الدنيا والإخلاد إلى الأرض والإعراض عن الجهاد، كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء، ويؤيد هذا الوجه قوله صلى الله عليه وسلم: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
ثالثاً: سبب للبلاء.
قال صلى الله عليه وسلم (من لم يغزو أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة) رواه أبو داود.
رابعاً: سبب لعذاب الله وبطشه.
قال تعالى (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير).
خامساً: سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم.
قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).
سادساً: ترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين،
منها الأجر والثواب والشهادة والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد ودفع شر الكفار وإذلالهم.
قال ابن تيمية: فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمْ الْفِتْنَةُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَ بَأْسَهُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِم.
- من كلمات ابن تيمية في الجهاد وفضله:
قال ابن تيمية: الجهاد في سبيل الله مقصوده أن يكون الدين كلّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.
وقال رحمه الله: نفع الجهاد عامٌ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتملٌ من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله، وسائر أنواع العمل: على ما لا يشتمل عليه عملٌ آخر.
وقال رحمه الله:
…
ولمّا كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلاّ بالشجاعة والكرم: بيّن سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال (يا أيها الذين آمنوا! ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل. إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً، والله على كلّ شيء قدير). وقال تعالى (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم لفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل السابقين، فقال (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى). وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه، فقال (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).
وقال: الأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة: أكثر من أن يحصر. ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دلّ عليه الكتاب والسنة.
وقال: لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.
وقال رحمه الله: الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في كتابه (قل هل تربصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين) يعني: إمّا النصر والظفر، وإمّا الشهادة والجنة. فمن عاش من المجاهدين كان كريماً له ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة.
وقال: وما في القرآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء وذم من ترك ذلك: كله ذم للبخل، وما في القرآن من الحظ على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له: كله ذم للجبن، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك.
وقال: فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد، فتدبر هذا فإن هذا مقام خطر.
وقال: ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضاً يقول: اللهم اشف عبدك، يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدواً.
وقال: ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معه، لأن الله يقول:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه حقيقة الإخلاص، وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود ....
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- في الحديث دليل على أنه قد يجتمع في المسلم شعبة نفاق (عملي) وشعبة إيمان وفيه رد على الخوارج والمعتزلة. قال ابن تيمية (إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج: أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب على حسناته، ويعاقب على سيئاته.
- وبهذا يعلمُ كل من له أدنى بصيرة أن قول من قال من كتاب العصر وغيرهم إن الجهاد شرع للدفاع فقط قول غير صحيح. (ابن باز).
- وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْل عِبَادَة فَمَاتَ قَبْل فِعْلهَا لَا يَتَوَجَّه عَلَيْهِ مِنْ الذَّمّ مَا يُتَوَجَّه عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَنْوِهَا.
1260 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُم) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم.
===
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحث على مجاهدة المشركين بالمال والنفس واللسان.
كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)
وقال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
وقال تعالى (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
قال الصنعاني: الْحَدِيث دَلِيل عَلَى وُجُوب الْجِهَاد بِالنَّفْسِ، وَهُوَ بِالْخُرُوجِ وَالْمُبَاشَرَة لِلْكُفَّارِ، وَبِالْمَالِ وَهُوَ بَذْله لِمَا يَقُوم بِهِ مِنْ النَّفَقَة فِي الْجِهَاد وَالسِّلَاح وَنَحْوه، وَبِاللِّسَانِ بِإِقَامَةِ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ وَدُعَائهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وبالأصوات عند اللقاء وَالزَّجْر وَنَحْوه مِنْ كُلّ مَا فِيهِ نِكَايَة لِلْعَدُو.
وقال الشوكاني: فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن. وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع، وظاهر الأمر الوجوب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله، فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله.
وعلى هذا: فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إن احتيج إليها كما تجب النفقات والزكاة، فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً.
•
ما الحكمة في أكثر الآيات الآمرة بالجهاد بالنفس والمال، فيها تقديم المال على النفس؟
كقوله تعالى (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُون).
وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
).
وقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون).
وجاء في موضع واحد تقديم النفس على المال.
كما في قوله تعالى (إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ).
قال الآلوسي رحمه الله: لعل تقديم الأموال على الأنفس لِمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة؛ حيث لا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع؛ فالجهاد ب (المال) لنحو التأهب للحرب، ثم الجهاد بالنفس.
وقال صاحب البرهان: وجه التقديم أن الجهاد يستدعي تقديم إنفاق الأموال أولاً؛ فهو من باب السبق بالسببية.
وقال ابن القيم رحمه الله في حكمة تقديم المال على النفس:
أولاً: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، فإذا داهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً وجب عليه أن يكتري بماله.
وفائدة ثانية: على تقدير عدم الوجوب؛ وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتَها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته، فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحبَّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها؛ وهي بذل نفوسهم له؛ فهذا غاية الحب؛ فإن الإنسان لا شيء أحبَّ إليه من نفسه، فإذا أحب شيئاً بذل له محبوبه من نفسه وماله، فإذا آل الأمر إلى بَذْلِ نفسه ضنَّ بنفسه وآثرها على محبوبه.
هذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية، ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده، فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فرَّ وتركهم، فلم يرضَ الله من محبيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتهم.
وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب، فإن العبد يبذل ماله أولاً يقي به نفسه، فإذا لم يبقَ له ماله بذل نفسه؛ فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع.
وقال الشنقيطي: وَحَقِيقَةُ الْجِهَادِ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَالُ هُوَ عَصَبُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ، فَبِالْمَالِ يُشْتَرَى السِّلَاحُ، وَقَدْ تُسْتَأْجُرُ الرِّجَالُ كَمَا فِي الْجُيُوشِ الْحَدِيثَةِ مِنَ الْفِرَقِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَبِالْمَالِ يُجَهَّزُ الْجَيْشُ، وَلِذَا لَمَّا جَاءَ الْإِذْنُ بِالْجِهَادِ أَعْذَرَ اللَّهُ الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءَ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَجْهِيزَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُجَهِّزُهُمْ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون).
وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، قَدْ يُجَاهِدُ بِالْمَالِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ بِالسِّلَاحِ كَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزا).
وفي سؤال لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قال فيه السائل: نجد أن الله عز وجل في كثير من آيات الجهاد يقدِّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ فما الحكمة من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: يظهر والله أعلم لأن الجيش الإسلامي قد يحتاج إلى المال أكثر من حاجته إلى الرجال؛ ولأن الجهاد بالمال أيسر من الجهاد بالنفس.
•
اذكر بعض صور الجهاد بالمال؟
إنفاق المال في تجهيز المجاهد بالسلاح.
إنفاق المال لكفالة أُسَر المجاهدين الذين استجابوا لنداء الجهاد تاركين خلفهم أولادهم ونسائهم:
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- وجوب جهاد الكفار بكل وسيلة وطريقة.
- إذا كان المجاهد مديناً وتعيَّن الجهاد لدفع الضرر، قُدِمَ الجهاد بالمال على سداد الدين. قال ابن تيمية رحمه الله: فإِنْ كَانَ الْجِهَادُ المُتَعَيِّنُ لِدَفْعِ الضَّرَر؛ كَمَا إذَا حَضَرَهُ الْعَدُوُّ، أَوْ حَضَرَ الصَّفَّ قُدِّمَ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلى.
1261 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلَى النِّسَاءِ جِهَاد؟ قَالَ (نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.
===
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن الجهاد لا يجب على المرأة.
والحديث كما في البخاري لفظه:
عَنْ عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
وفي لفظ: عَنْ عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، قَالَتِ اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ فَقَالَ جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ.
قال ابن قدامة: ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها.
•
هل يجوز خروج النساء للغزو لمساعدة الجيش فيما ينوبهم من آثار الحرب كسقي الماء؟
نعم.
عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ (كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ وَنَرُدُّ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ) رواه البخاري.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ - وَقَالَ غَيْرُهُ تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ - عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْم) متفق عليه.
وعن عَائِشَةَ. قَالَتْ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ يَخْرُجُ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ) متفق عليه.
وعَنْ أَنَسٍ (أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا هَذَا الْخَنْجَرُ». قَالَتِ اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ .... ) رواه مسلم.
وعنه. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى) رواه مسلم.
وعنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ وَأُدَاوِى الْجَرْحَى وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى) رواه مسلم.
قال ابن عبد البر: وخروجهن مع الرجال في الغزوات وغير الغزوات مباح، إذا كان العسكر كبيراً يُؤمن عليه الغلبة.
وقال في تحفة الأحوذي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ
وَالْجِهَادُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى النِّسَاءِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ
قال ابن عبد البر: وخروجهن مع الرجال في الغزوات وغير الغزوات مباح، إذا كان العسكر كبيراً يُؤمن عليه الغلبة.
وقال في تحفة الأحوذي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ
وَالْجِهَادُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى النِّسَاءِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ قَالَ بن بَطَّالٍ دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النِّسَاءِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس لهن أن يتطوعن بِالْجِهَادِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُغَايَرَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُنَّ مِنَ السَّتْرِ وَمُجَانَبَةِ الرِّجَالِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُنَّ مِنَ الْجِهَادِ.
وقال النووي: فِيهِ خُرُوج النِّسَاء فِي الْغَزْوَة وَالِانْتِفَاع بِهِنَّ فِي السَّقْي وَالْمُدَاوَاة وَنَحْوهمَا، وَهَذِهِ الْمُدَاوَاة لِمَحَارِمِهِنَّ وَأَزْوَاجهنَّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِغَيْرِهِمْ لَا يَكُون فِيهِ مَسّ بَشَرَة إِلَّا فِي مَوْضِع الْحَاجَة.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- حكمة الشرع في عدم وجوب الجهاد على المرأة.
- حكمة الشرع في التفريق بين الرجال والنساء في بعض الأحكام.
1262 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي اَلْجِهَادِ. فَقَالَ: أحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1263 -
وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ (اِرْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ; وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا).
===
(فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) أي: ابلُغ جهدك في برّهما، والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو. أو خصّصهما بجهاد النفس في رضاهما. قاله في "الفتح". وقال السنديّ: أي جاهد نفسك، أو الشيطان في تحصيل رضاهما، وإيثار هواهما على هواك. وقيل: المعنى: فاجتهد في خدمتهما.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه لا يجوز للإنسان أن يجاهد جهاد التطوع إلا بإذن الوالدين إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما.
أ-لحديث الباب.
ب-وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا) رواه أبو داود.
ج- وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. (أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ قَالَ: أَبَوَايَ، قَالَ: أَذِنَا لَكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا) رواه أبو داود
د- وعنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ. (أَنَّ جَاهِمَةَ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَال: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا) رواه النسائي.
هـ- أن الجهاد في هذه الحالة فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره، وبر الوالدين فرض يتعين عليه لا ينوب عنه فيه غيره، فلا يترك فرض عين للقيام بما فرض على الكفاية.
قال في الفتح: قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية.
وقال الصنعاني: ذهب الجماهير من العلماء إلى أنه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا.
•
فإن قيل: بر الوالدين فرض عين أيضاً والجهاد عند تعينه فرض عين فهما مستويان فما وجه تقديم الجهاد؟
قلت: لأن مصلحته أعم إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين فمصلحته عامة مقدمة على غيرها وهو يقدم على مصلحة حفظ البدن. (سبل السلام).
وقال في المغني: وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه أن لا يُقاتل، فحضر القتال تعيّن عليه وسقط شرطهما. كذلك قال الأوزاعي وابن المنذر؛ لأنه صار واجباً عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة.
فائدة:
قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، فَلَا إذْنَ لَهُمَا.
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَغْزُو إلَّا بِإِذْنِهِمَا؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ.
وَلَنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُجَاهِدُونَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ كَافِرَانِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عَتَبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبُوهُ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَتَلَ أَبَاهُ فِي الْجِهَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (لَا تَجِدُ قَوْمًا). الْآيَةَ.
وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ مُخَصَّصٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ. (المغني).
ثم قال:
فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ رَقِيقَيْنِ:
فَعُمُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ اسْتِئْذَانِهِمَا.
لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُمَا أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ، فَأَشْبَهَا الْحُرَّيْنِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ إذْنُهُمَا.
لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا. (المغني).
•
هل يشترط رضاهما إذا تعين الجهاد؟
لا يشترط.
قال ابن حجر: فإذا تعيّن الجهاد فلا إذن.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ).
ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ).
وجه الدلالة من الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالثبات عند قتال الكفار وعدم الفرار عنهم، والآية عامة تشمل جميع المؤمنين ومنهم الولد.
ب- قال صلى الله عليه وسلم (لا طاعة في معصية الله) متفق عليه.
وجه الدلالة: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بعدم الطاعة في معصية الله، والجهاد هنا فرض عين وتركه معصية، فلا معنى لاستئذان الوالدين في هذه الحالة، إذ لا طاعة لهما إذا لم يأذنا.
ج- قياس الجهاد في هذه الحالة على الصلاة المكتوبة، بجامع أن كلاً منهما عبادة تعيّنت عليه، فكما أن أداء الولد للصلاة المكتوبة لا يتوقف على إذن الوالدين فكذلك الجهاد.
د- ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدي إلى الهلاك فقدّم على حق الأبوين. (أحكام إذن الإنسان).
• وهل يُلحق الجدّ والجدّة بالأبوين في ذلك؟
الأصحّ عند الشافعيّة نعم.
•
اذكر حالات رجوع الأبوين عن إذنهما لولدهما بالجهاد؟
الحالة الأولى: أن يرجع الأبوان قبل حضور الولد الصف في القتال.
ففي هذه الصورة اتفقت الشافعية والحنابلة على أنه يجب على الولد أن يرجع.
واستدلوا بأن عدم الإذن عذر يمنع وجوب الجهاد ابتداء فكذلك إذا طرأ في أثنائه كسائر الموانع من العمى أو المرض.
الحالة الثانية: أن يرجع الأبوان عن إذنهما بعد حضوره الصف.
فالأظهر هنا أنه لا عبرة برجوعهما عن الإذن، ويحرم على الولد الانصراف عن القتال.
لأن الجهاد تعيّن عليه بحضوره الصف، فلم يبق لهما إذن.
•
هل يخرج للجهاد وعليه ديْن؟
هذه المسألة لها أحوال:
أولاً: اتفق الفقهاء على عدم اشتراط إذن الدائن لجهاد المدين إذا كان الجهاد متعيناً عليه، سواء كان المدين معسراً أم موسراً.
لأن الخروج هنا فرض عين على كل قادر، وهو لا يحتمل التأخير، أما قضاء الدَّين فيحتمل التأخير، والضرر في ترك الخروج أعظم من الضرر في الامتناع من قضاء الدين، لأن الضرر في ترك الخروج يرجع إلى كافة المسلمين، فالواجب عليه أن يشتغل بدفع أعظم الضررين.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لا إذْنَ لِغَرِيمِه.
ثانياً: اتفق الفقهاء على أنه ليس للمدين الموسر أن يخرج للجهاد إذا كان الدين حالاً بغير إذن الدائن إلا إذا ترك وفاء، ولم يخالف فيه إلا الأوزاعي.
واستدلوا: بأن فرض الدين متعين عليه، فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه.
واستدلوا لجواز الجهاد إن ترك وفاءً أو أقام كفيلاً:
بفعل عبد الله بن عمرو بن حرام – والد جابر – حيث خرج إلى أحد وعليه ديْن كثير، فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه، وقال: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها.
قال ابن قدامة: وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْغَزْوِ إلا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، إلا أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً، أَوْ يُقِيمَ بِهِ كَفِيلا، أَوْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
…
ودليل ذلك أَنَّ رَجُلا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ولأَنَّ الْجِهَادَ تُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ بِهَا النَّفْسُ، فَيَفُوتُ الْحَقُّ بِفَوَاتِهَا.
وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلا إذْنَ لِغَرِيمِهِ; لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ فُرُوضِ الأَعْيَانِ
…
وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، أَوْ أَقَامَ كَفِيلا، فَلَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إذْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَنْ تَرَكَ وَفَاءً.
لأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَرَامٍ أَبَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، فَاسْتُشْهِدَ، وَقَضَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَذُمَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ، بَلْ مَدَحَهُ، وَقَالَ:(مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ). وَقَالَ لابْنِهِ جَابِرٌ: أَشَعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاك، وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. (المغني).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للمدين الموسر أن يخرج إلى الجهاد بغير إذن الدائن، إذا كان الدين لم يحل بعد.
وبه قالت الحنفية، والمالكية.
قالوا: إن الدائن قبل حلول الدين لا حق له على المدين، فليس له مطالبة المدين بالدين، وإذا لم يكن له مطالبته فليس له منعه من الخروج.
لكن يجاب عن هذا: بأن الدائن وإن لم يكن له حق على المدين قبل حلول الدين، إلا أن الجهاد يقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها، وهذا فيه ضرر على الدائن فلا يجوز بغير إذنه.
ثالثاً: إذْن الدائن للمدين بالجهاد إذا لم يكن متعيناً عليه والدين حال والمدين معسر؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
قيل: لا يشترط إذن الدائن لخروج المدين إلى الجهاد إذا كان معسراً ولم يتعين عليه.
وبهذا قال المالكية، والشافعية.
لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).
قالوا: إن الله أمر بإنظار المعسر إلى حين الميسرة، فلا يجوز مطالبته قبل ذلك، وإذا لم تكن هناك مطالبة فللمدين الخروج بغير إذن الدائن.
وقيل: يشترط إذن الدائن.
وبهذا قالت الحنفية، والحنابلة.
أ- لحديث أَبِى قَتَادَةَ. عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ «أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ» . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَيْفَ قُلْتَ» . قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِي ذَلِك) رواه مسلم.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إلا الديْن) فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الشهادة والجهاد وغيرهما من أعمال البر لا يكفّر حقوق الآدميين، فإذا كانت حقوقهم بهذه الأهمية فلا يجوز تعريضها للخطر بغير إذن أصحاب تلك الحقوق.
ب- لأن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس، وبفواتها يفوت الحق، فلا يجوز بغير إذن صاحب الحق.
وهذا الراجح.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- فضل برّ الوالدين، وتعظيم حقّهما، وكثرة الثواب على برّهما.
- تحريم السفر بغير إذن الوالدين؛ لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته، فالسفر المباح أولى، نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين حيث يتعيّن السفر طريقًا إليه، فلا منع، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف.
- أن برّ الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد.
- أن المستشار يشير بالنصيحة المحضة.
-أنه يؤخذ منه أن كلّ شيء يتعب النفس يسمّى جهادًا.
- أن المكلّف يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد، فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه، فَدُلَّ على ما هو أفضل منه في حقّه، ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك.
1264 -
وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ اَلْمُشْرِكِينَ) رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ اَلْبُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
في إسناده ضعف، رجح البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والداقطني إرساله.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
تحريم الإقامة في بلاد الكفار.
لحديث الباب.
عَنْ أَبِي نُخَيْلَةَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ:(أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ). رواه النسائي
•
ما حكم الإقامة في بلاد الكفار؟
الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه، وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فُسّاقًا، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهويّ في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسين:
الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ وأن يكون مضمراً العداوة للكافرين وبغضهم مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان.
قال الله تعالى (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن من أحب قومًا فهو منهم)، وأن (المرء مع من أحب).
ومحبة أعداء الله عن أعظم ما يكون خطرًا على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحب قومًا فهو منهم ".
الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، ....
وقال الشيخ ابن عثيمين - في بيان أقسام الناس من حيث الإقامة هناك:
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الشيخ -في آخر الفتوى-:
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
1265 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ اَلْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) وَمَعْنَاهُ: لا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ لأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إِسْلامٍ.
(وَلكنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أي بقي الجهاد في سبيل الله، والنية الخالصة في أعمال الخير من جهاد وطلب علم وغيرهما.
وعند مسلم (وَإِذَا اسْتُنْفرِتُمْ) أي: طلب منكم الخروج إلى الجهاد (فانْفِرُوا) أي: اخرجوا.
•
ما الجمع بين حديث الباب (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) وما ورد أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة؟
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث أن الهجرة انقطعت بفتح مكة، كما في حديث الباب:(لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا).
وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام).
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الهجرة لا تنقطع ما قوتل العدو).
وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والتوفيق بينها مسالك:
قال البغوي رحمه الله: الأولى أن يجمع بينهما من وجه آخر: وهو أن قوله (لا هجرة بعد الفتح) أراد به من مكة إلى المدينة، وقوله (لا تنقطع الهجرة) أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الديار، ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين) وعن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله). (شرح السنة).
وقال النووي: قَوْله (قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْم الْفَتْح فَتْح مَكَّة: لَا هِجْرَة وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة)
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (لَا هِجْرَة بَعْد الْفَتْح) قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: الْهِجْرَة مِنْ دَار الْحَرْب إِلَى دَار السَّلَام بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث تَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدهمَا: لَا هِجْرَة بَعْد الْفَتْح مِنْ مَكَّة لِأَنَّهَا صَارَتْ دَار إِسْلَام، فَلَا تُتَصَوَّر مِنْهَا الْهِجْرَة.
وَالثَّانِي: هُوَ الْأَصَحّ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْهِجْرَة الْفَاضِلَة الْمُهِمَّة الْمَطْلُوبَة الَّتِي يَمْتَاز بِهَا أَهْلهَا اِمْتِيَازًا ظَاهِرًا اِنْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّة، وَمَضَتْ لِأَهْلِهَا الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْل فَتْح مَكَّة، لِأَنَّ الْإِسْلَام قَوِيَ وَعَزَّ بَعْدَ فَتْح مَكَّة عِزًّا ظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا قَبْله. (نووي).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن الجهاد باق لإعلاء كلمة الله ونشر دينه.
- الإشارة إلى أن مكة ستبقى بلد إسلام.
- أن النية تقوم مقام الفعل لقوله (ونية) وعلى هذا فتكون الواو بمعنى (أو) يعني: أنه جهاد لمن قدر، أو نية لمن لم يقدر، لكن النية لا تقوم مقام الفعل إلا بشروط:
الشرط الأول: أن تكون النية صادقة، بمعنى أنه ينوي نية صادقة من قلبه أنه لولا المانع لفعل.
الشرط الثاني: أن يكون قد شرع في العمل، ولكن عجز عن إتمامه، أما إذا نوى بدون أن يشرع في العمل فله أجره النية فقط.
- فضل النية الصالحة.
- أن الإمام إذا طلب الخروج للجهاد فإنه يجب النفير.
لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا).
1266 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اَللَّهِ هِيَ اَلْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اَللَّهِ هِيَ اَلْعُلْيَا) لفظ الحديث كاملاً:
عن أبي موسى. قَالَ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذلِكَ في سبيلِ الله؟ فقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهوَ في سبيلِ الله) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً) وفي الرواية الأخرى (فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَباً) أي: لأجل حظ نفسه، ويحتمل أن يفسّر القتال للحميّة بدفع المضرة، والقتال غضباً بجلب المنفعة.
(وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً) أي: لمن يُقاتِل لأجله من أهل، أو عشيرة، أو صاحب،
(ويُقَاتِلُ رِيَاءً) أي: ليراه الناس، ولذلك جاء عند البخاري في التوحيد (ويقاتل رياء) وفي رواية للمصنف في الجهاد (الرجل يقاتِل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكْر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه) فقوله (والرجل يقاتل للذِّكْر) أي: ليذكره الناس فيما بينهم بالشجاعة، قال الحافظ: فمرجع قوله (يقاتل ليُذكر) إلى السمعة، ومرجع قوله (ويقاتل ليُرَى مكانه) إلى الرياء، وكلاهما مذموم.
(مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) قال في الفتح: المراد بـ (بكلمة الله) دعوة الله إلى الإسلام.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه يشترط لقبول العبادة والعمل: الإخلاص لله تعالى، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله.
أ- لحديث الباب.
ب-ولحديث أبي أُمامة، قال (جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيءَ له، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ الله لا يقبلُ من العملِ إلاَّ ما كانَ خالصاً، وابتُغي به وجهُهُ).
ج- ولحديث أبي هريرة (أنَّ رجلاً قال: يا رسول اللهِ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ وهو يبتغي عَرَضاً مِنْ عَرَضِ الدُّنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجر له، فأعاد عليه ثلاثاً، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له) رواه أبو داود.
•
وهل يدخل في سبيل الله إذا قصد المغنم ضمناً لا أصلاً مقصوداً؟
نعم.
وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور.
لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أمامة بإسناد جيد، قال: جاء رجل فقال يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال: لا شيء له، فأعاده ثلاثاً كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه).
ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد، فلا يخالف المرجّح أولاً.
قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه.
ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي، ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم فرجعنا، ولم نغنم شيئاً، فقال: اللهم لا تكلهم
إليّ
…
). (فتح الباري).
قال ابن رجب: فإنْ خالطَ نيَّةَ الجهادِ مثلاً نيّة غير الرِّياءِ، مثلُ أخذِ أجرة للخِدمَةِ، أو أخذ شيءٍ مِنَ الغنيمةِ، أو التِّجارة، نقصَ بذلك أجرُ جهادهم، ولم يَبطُل بالكُلِّيَّة، وفي (صحيح مسلم) عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ الغُزَاةَ إذا غَنِموا غنيمةً، تعجَّلوا ثُلُثي أجرِهِم، فإنْ لم يغنَمُوا شيئاً، تمَّ لهُم أجرُهم).
وقد ذكرنا فيما مضى أحاديثَ تدلُّ على أنَّ مَنْ أراد بجهاده عَرَضاً مِنَ الدُّنيا أنَّه لا أجرَ له، وهي محمولةٌ على أنَّه لم يكن له غرَضٌ في الجهاد إلاَّ الدُّنيا. (جامع العلوم).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الحديث دليل على أنه يجب أن يكون الدين كله لله تعالى.
قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).
قال ابن تيمية: وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لَهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ) فَكُلُّ مَا كَانَ لِأَجْلِ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لِصَاحِبِهِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: مَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْجَنَّةِ. وَمَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ؛
وقال: فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ أَنْ لَا يُعْبَدَ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ.
وقال رحمه الله
…
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة، وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله ....
-في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع.
- الحديث دليل على أن الفضل الوارد للمجاهدين يختص بمن قاتل لإعلاء كلمة الله.
- ذم الحرص على الدنيا.
- حرص الصحابة على العلم.
- ذم الحمية الجاهلية.
1267 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلسَّعْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَنْقَطِعُ اَلْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ اَلْعَدُوُّ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
===
(عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلسَّعْدِيِّ) نسبة إلى بني سعد؛ قيل له ذلك؛ لأنه كَانَ مسترضعًا فِي بني سعد.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة؛ لأن مقاتلة الكفّار مستمرّة إلى ذلك الوقت، فكلّ منْ لم يتمكن منْ إقامة دينه فِي وطنه لسيطرة الكفّار عليه، وجب عليه أن يهاجر إلى دار الإِسلام، إن تمكّن منْ الهجرة.
وأما حديث ابن عباس السابق (لا هجرة بعد الفتح) فقد تقدم الجمع بينه وبين حديث الباب.
قال الشوكاني: وأما حديث (لا هجرة بعد الفتح) فالمراد به الهجرة من مكة إلى المدينة، أو لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. وهذا لابد منه للجمع بين الأحاديث.
•
اذكر حكم الهجرة؟
قال ابن قدامة رحمه الله مبيناً أصناف الناس في حكم الهجرة: فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة.
لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً).
وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب. ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
الثاني: من لا هجرة عليه. وهو من يعجز عنها، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف; من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه.
لقول الله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً). ولا توصف باستحباب; لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه. وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحب له، ليتمكن من جهادهم، وتكثير المسلمين، ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم. ولا تجب عليه; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة. وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه. (المغني).
1268 -
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ (أَغَارُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِيَّ اَلْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(أَغَارُ رَسُولُ اَللَّهِ) أي: هجم عليهم على غرة، أي: غَافِلُونَ.
(عَلَى بَنِيَّ اَلْمُصْطَلِقِ) بضم الميم وسكون الصاد وكسر اللام، اسم قبيلة شهيرة بطن من خزاعة.
(وَهُمْ غَارُّونَ) أي: غافلون.
•
ما حكم دعوة الكفار للإسلام قبل قتالهم؟
القول الصحيح أن من بلغتهم الدعوة من قبل فلا يجب، ومن لم تبلغه فيجب الإنذار قبل.
لحديث الباب.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الْإِغَارَة عَلَى الْكُفَّار الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَة مِنْ غَيْر إِنْذَار بِالْإِغَارَةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي:
أَحَدهَا: يَجِب الْإِنْذَار مُطْلَقًا، قَالَهُ مَالِك وَغَيْره. وَهَذَا ضَعِيف.
وَالثَّانِي: لَا يَجِب مُطْلَقًا وَهَذَا أَضْعَف مِنْهُ أَوْ بَاطِل.
وَالثَّالِث: يَجِب إِنْ لَمْ تَبْلُغهُمْ الدَّعْوَة، وَلَا يَجِب إِنْ بَلَغَتْهُمْ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِهِ قَالَ نَافِع مَوْلَى اِبْن عُمَر، وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر وَالْجُمْهُور، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى مَعْنَاهُ، فَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيث، وَحَدِيث قَتْل كَعْب بْن الْأَشْرَف، وَحَدِيث قَتْل أَبِي الْحُقَيْق. (نووي).
•
ما الجواب عن حديث بريدة الآتي (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ)، فإنه يدل على وجوب الإنذار قبل؟
يحمل على من لم تبلغهم الدعوة، حتى تجمتع الأدلة.
•
ما حكم استرقاق العرب؟
جائز.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال النووي: وفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز اِسْتِرْقَاق الْعَرَب؛ لِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِق عَرَب مِنْ خُزَاعَة، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَهُوَ الصَّحِيح، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: لَا يُسْتَرَقُّونَ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم. (نووي).
1269 -
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:(كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ خَيْراً، ثُمَّ قَالَ: "اُغْزُوا بِسْمِ اَللَّهِ، فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إِلَى اَلْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى اَلتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ اَلْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبَرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ اَلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي اَلْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ اَلْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ اَلْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اَللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ اِجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ; فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنَّ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اَللَّهِ، وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اَللَّهِ، فَلَا تَفْعَلْ، بَلْ عَلَى حُكْمِكَ; فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اَللَّهِ أَمْ لَا) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(إِذَا أَمَّرَ) أي: جعله أميراً.
(اُغْزُوا بِسْمِ اَللَّهِ، فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) أي: اغزوا مستعينين بالله، في سبيل الله.
(وَلَا تَغُلُّوا) الغلول: السرقة من الغنيمة.
(وَلَا تَغْدُرُوا) بنقض العهد.
(وَلَا تُمَثِّلُوا) التمثيل: التشويه بالقتيل، كجدع أنفه وأذنه.
(وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً) أي: طفلاً صغيراً.
(ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى اَلتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ) دار الكفر.
(إِلَى دَارِ اَلْمُهَاجِرِينَ) أي: إلى دار الإسلام.
قال القرطبي: قوله (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)؛ يعني: المدينة. وكان هذا في أول الأمر، في وقت وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام. أو على أهل مكة خاصة. في ذلك خلاف، وهذا يدل على أن الهجرة كانت واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرها.
(فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبَرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ اَلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي اَلْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ اَلْمُسْلِمِينَ) قال النووي: معْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَة، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا كَالْمُهَاجِرِينَ قَبْلهمْ فِي اِسْتِحْقَاق الْفَيْء وَالْغَنِيمَة وَغَيْر ذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُمْ أَعْرَاب كَسَائِرِ أَعْرَاب الْمُسْلِمِينَ السَّاكِنِينَ فِي الْبَادِيَة مِنْ غَيْر هِجْرَة وَلَا غَزْو، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَام الْإِسْلَام، وَلَا حَقّ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة وَالْفَيْء، وَإِنَّمَا يَكُون لَهُمْ نَصِيب مِنْ الزَّكَاة إِنْ كَانُوا بِصِفَةِ اِسْتِحْقَاقهَا.
فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) أي: الإسلام.
(فَاسْأَلْهُمْ اَلْجِزْيَةَ) سيأتي معناها إن شاء الله.
(وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اَللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ) أي: عهدهما وأمانهما.
(فَلَا تَفْعَلْ) لا بالاجتماع ولا بالانفراد.
(وَلَكِنْ اِجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ) ثم علل ذلك بقوله:
(فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ) أي: أن تنقضوا عهودكم.
•
اذكر خلاف العلماء فيمن تؤخذ منهم الجزية من الكفار؟
القول الأول: أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس فقط.
وبهذا قال الشافعية، والحنابلة، وهو قول ابن حزم.
قال ابن قدامة: مَنْ سِوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقَرُّونَ بِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وقال النووي:
أ-لقوله تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
وجه الدلالة: أنه جعل الكتاب شرطاً في قبولها، فلم يجز - لعدم الشرط - قبولها من غيرهم.
ب- عن عَبْد الرَّحْمَن بْنُ عَوْف (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَر) رواه البخاري.
القول الثاني: أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس ومشركي العجم خاصة دون مشركي العرب.
وهذا قول الحنفية.
القول الثالث: أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار دون استثناء.
وهذا قول المالكية، واختيار ابن تيمية، وابن القيم.
قال القرطبي: وقال الأوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن، أو نار، أو جاحد، أو مكذب، كذلك مذهب مالك.
أ- لحديث الباب (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ
…
).
وجه الدلالة: أن لفظ المشركين يعم الكفار جميعاً، من اليهود، والنصارى، والمجوس، وعباد الأوثان من العرب وغيرهم.
ب- ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر كما تقدم.
والله أعلم.
•
ما حكم التمثيل بجثث العدو؟
جاءت عدة أحاديث في النهي عن ذلك:
منها: حديث الباب (وَلَا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا
…
).
ومنها: عن عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ) رواه البخاري.
وقد اختلف العلماء في حكم المثلة على أقوال:
القولُ الأولُ: أن المُثْلةَ حرامٌ بعد القدرةِ عليهم سواءٌ بالحي أو الميتِ، أما قبل القدرةِ فلا بأس به.
بل ذهب بعضهم إلى أنهُ لا خلاف في تحريمهِ كالزمخشري في تفسيره (2/ 503) فقال: " لا خلاف في تحريمِ المُثْلةِ "،
وحكى الصنعاني الإجماعَ في " سبل السلامِ "(4/ 200) فقال: " ثُمَّ يُخْبِرُهُ بِتَحْرِيمِ الْغُلُولِ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَتَحْرِيمِ الْغَدْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ وَتَحْرِيمِ قَتْلِ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ مُحَرَّمَاتٌ بِالْإِجْمَاعِ.
ولا يُسلمُ للإمامِ الصنعاني بالإجماعِ لأن المسألةَ خلافيةٌ كما سيأتي.
واستدل أصحاب هذا القول:
أ - بحديث الباب - حديث بريدة -.
ب - قال الإمام الترمذي: وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ.
ت - وعلق المباركفوري على عبارةِ الترمذي فقال: " أَيْ حَرَّمُوهَا فَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمُ وَقَدْ عَرَفْت فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ السَّلَفَ رحمهم الله يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا الْحُرْمَةَ ". ا. هـ.
ث - قال الإمامُ الشوكاني: قَوْلُهُ: " وَلَا تُمَثِّلُوا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ. ا. هـ.
ب- وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ نَهَى عَنْ النُّهْبَةِ، وَالْمُثْلَة) رواه البخاري.
النُّهْبَى: أَيْ أَخْذ مَال الْمُسْلِم قَهْرًا جَهْرًا.
القولُ الثاني: أن المُثْلةَ مكروهةٌ.
واستدل أصحابُ بما استدل به أصحابُ القولِ الأولِ ولكنهم حملوا حديثَ بُرَيْدَةَ الآنف على الكراهةِ وليس على التحريمِ قال
الإمامُ النووي: قال بعضُهم: النهي عن المثلةِ نهي تنزيهٍ، وليس بحرام.
وقال ابنُ قدامةَ: يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُم.
القولُ الثالث: يمثلُ بالكفارِ إذا مثلوا بالمسلمين معاملةً بالمثلِ.
لقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين).
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَقَدْ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما: "مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ حَتَّى الْكُفَّارُ إذَا قَتَلْنَاهُمْ فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا إنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ بِنَا فَنَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا". وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ ". ا. هـ.
وقال ابنُ مفلح في " الفروعِ "(6/ 218): " وَيُكْرَهُ نَقْلُ رَأْسٍ، وَرَمْيُهُ بِمَنْجَنِيقٍ بِلَا مَصْلَحَةٍ، وَنَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ فِي رَمْيِهِ: لَا يَفْعَلُ وَلَا يُحَرِّقُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ، وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ شَيْخُنَا " يعني ابنَ تيميةَ ": الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ، فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلِاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ، وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي التَّمْثِيلِ بِهِمْ زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَكُونُ نَكَالًا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ هُنَاكَ وَاجِبٌ، كَمَا يَجِبُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِصَارُ، وَيَحْرُمُ الْجَزَعُ، هَذَا كَلَامُهُ وَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنْ مَثَّلَ الْكَافِرُ بِالْمَقْتُولِ جَازَ أَنْ يُمَثَّلَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ خِصَاءَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ وَالتَّمْثِيلَ بِهِمْ حَرَامٌ ". ا. هـ.
وقال الإمامُ ابنُ القيمِ في حاشيته على سنن أبي داود (12/ 278): وَقَدْ أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِالْكَفَّارِ إِذَا مَثَّلُوا بِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُثْلَة مَنْهِيًّا عَنْهَا. فَقَالَ تَعَالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه) وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَة بِجَدْعِ الْأَنْف وَقَطْع الْأُذُن، وَبَقْر الْبَطْن وَنَحْو ذَلِكَ هِيَ عُقُوبَة بِالْمِثْلِ لَيْسَتْ بِعُدْوَانٍ، وَالْمِثْل هُوَ الْعَدْل ". ا. هـ.
قال الشيخ أبو عمر محمد السيف -حفظه الله- في (هداية الحيارى في قتل الأسارى): "وقد وصلنا عندما كنا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مفادها، عندما سئل عن التمثيل بجثث العدو، فقال إذا كانوا يمثلون بقتلاكم فمثلوا بقتلاهم لا سيما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم والله تعالى يقول: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.
وبعد عرضِ الأقوالِ في المسألةِ، الذي تميلُ إليهِ النفس - واللهُ أعلم - ما قررهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، وتلميذهُ ابنُ القيم، والشيخُ ابنُ عثيمين رحمهم الله.
•
ماذا نستفيد من قوله (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ اَلْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم)؟
وجوب وقت القتال ضد أهل الحرب إذا دفعوا الجزية.
أ- لحديث الباب.
فهذا الحديث نص في وجوب الكف عن قتال أهل الحرب إذا استجابوا إلى الالتزام بأداء الجزية.
ب- قال تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
فهذه الآية تنص على أن الغاية التي ينبغي عندها وقف القتال ضد الكفار هي إعطاؤهم الجزية.
قال القرطبي: جَعَل للقتال غاية، وهي إعطاء الجزية بدلاً عن القتل.
وقال ابن قدامة: جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجُز قتالهم.
ج- وجاء في صحيح البخاري. أن المغيرة بن شعبة قال لعامل كسرى بين يدي معركة نهاوند في بلاد فارس (
…
فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُم).
فهذا الحديث ينص على الأمر بقتال الكفار إلى أن يصيروا إلى أحد أمرين: إما عبادة الله وحده، أي: الدخول في الإسلام، وإما أن يؤدوا الجزية.
قال ابن قدامة: إذا بذلوا الجزية لزم قبولها، وحرم قتالهم.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- استحباب تأمير الأمام الأمراء على البعوث، ووصيتهم بآداب الغزو.
- الحث على تقوى الله.
- أهمية تقوى الله في تحقيق النصر والعز.
- تحريم الغدر.
- تحريم الغلول.
- تحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا.
- النهي عن المثلة.
- استحباب الهجرة من البادية.
1270 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(وَرَّى بِغَيْرِهَا) قال الصنعاني ورَّى: أي سترها بغيرها.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: جواز فعل مثل هذا العمل مع الأعداء.
•
كيف كانت توريته؟
قال الصنعاني: وكانت توريته أنه إذا قصد جهة سأل عن طريق جهة أخرى إيهاماً أنه يريدها، وإنما يفعل ذلك لأنه أتم فيما يريده من إصابة العدو وإتيانهم على غفلة من غير تأهبهم له.
وفيه دليل على جواز مثل هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة. (سبل السلام).
وقال الشيخ ابن عثيمين: وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة -ورى بغيرها- أي أظهر خلاف ما يريد، وهذا من حكمته وحنكته في الحرب، لأنه لو أظهر وجهه تبين ذلك لعدوه فربما يستعد له أكثر وربما يذهب عن مكانه الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
فكان مثلاً إذا أراد أن يخرج إلى الجنوب ورى وكأنه يريد أن يخرج إلى الشمال أو أراد أن يخرج إلى الشرق ورى وكأنه يريد أن يخرج إلى الغرب حتى لا يطلع العدو على أسراره إلا في غزوة تبوك فإنه قد بين أمرها ووضحها وجلاها لأصحابه وذلك لأمور:
أولاً: لأنها كانت في شدة الحر حين طابت الثمار والنفوس مجبوله على الركون إلى الكسل وإلى الرخاء.
ثانياً: أن المدى بعيد من المدينة إلى تبوك ففيها مفاوز ورمال وعطش وشمس.
ثالثاً: أن العدو كبير وهم الروم اجتمعوا في عدد هائل حسب ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أوضح أمر الغزوة وأخبر أنه خارج إلى تبوك إلى عدو كثير وإلى مكان بعيد حتى يتأهب الناس فخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (شرح رياض الصالحين).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- حنكة النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب.
- على القائد أن ينظر في المصلحة في أمور الحرب، ولذلك جاء الاستثناء في ذلك بلفظ (إلا في غزوة تبوك إنه أظهر لهم مراده).
- أن الحرب خدعة.
1271 -
وَعَنْ مَعْقِلٍ; أَنَّ اَلنُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَالَ (شَهِدْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ اَلنَّهَارِ أَخَّرَ اَلْقِتَالِ حَتَّى تَزُولَ اَلشَّمْسُ، وَتَهُبَّ اَلرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ اَلنَّصْرُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ.
===
- (وَعَنْ مَعْقِلٍ) ابن يسار.
(أَنَّ اَلنُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ) بضم الميم وكسر الراء المشددة.
(وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ) لفظه في البخاري:
(قَالَ النُّعْمَانُ: وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَان إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب اختيار الأوقات المناسبة للقتال.
•
ما الحكمة من اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأوقات؟
قال ابن حجر: قوله - أي البخاري - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس.
أي لأن الرياح تهب غالباً بعد الزوال فيحصل بها تبريد حدة السلاح والحرب وزيادة في النشاط.
أورد فيه حديث عبد الله بن أبي أوفى بمعنى ما ترجم به لكن ليس فيه إذا لم يقاتل أول النهار وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه فعند أحمد من وجه آخر عن موسى بن عقبة بهذا الإسناد (أنه كان صلى الله عليه وسلم يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس).
ولسعيد بن منصور من وجه آخر عن بن أبي أوفى (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمهل إذا زالت الشمس ثم ينهض إلى عدوه).
وللمصنف في الجزية من حديث النعمان بن مقرن (كان إذا لم يقاتل أول النهار أنتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات).
وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وبن حبان من وجه آخر وصححاه وفي روايتهم (حتى تزول الشمس وتهب الأرواح وينزل النصر).
فيظهر أن فائدة التأخير لكون أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب فصار مظنة لذلك والله أعلم.
1272 -
وَعَنْ اَلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلدَّارِ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(عَنْ اَلدَّارِ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ) وفي رواية البخاري (عن أهل الدار) وفي رواية مسلم (عن الذراري من المشركين يبيّتون). والذراري جمع ذرية، وهم الأطفال من أولاد المشركين.
(يُبَيِّتُونَ) أي: يغار عليهم بالليل بحيث لا يُعرف الرجل من المرأة من الصبي.
(فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) أي: هم في تلك الحالة كحكم آبائهم في جواز القتل، وليس المراد: إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد: إذا لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم. (الفتح).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
جواز قتل النساء والأطفال في حال تبييت العدو والهجوم عليهم ليلاً.
•
اذكر بعض الفوائد من الحديث؟
- تحريم قصد قتل النساء والأطفال من المشركين، وسيأتي مزيد بحث في الحديث التالي إن شاء الله.
- أنه دليل على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص، لأن الصحابة تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، فخص ذلك العموم.
- جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك.
1273 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى اِمْرَأَةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ اَلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(فَأَنْكَرَ قَتْلَ اَلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ) وفي رواية (فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان)، وعند أبي داود قال صلى الله عليه وسلم لما رأى امرأة مقتولة: ما كانت هذه لتقاتل.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب.
أ-لحديث الباب.
ب- ولحديث بريدة - السابق - (ولا تقتلوا وليداً).
ج- وعن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ، قَالَ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ) قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلاً. فَقَالَ: قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا) رواه أبو داود.
د- وفي رواية لابن ماجه (لا تقتلنّ ذريةً، ولا عسيفاً).
قال ابن الأثير: العسيف: الأجير.
قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا ".
واختلفوا في قتل الضعفاء والرهبان.
فذهب كثير من العلماء إلى عدم قتلهم.
لورود النهي عن ذلك في بعض الأحاديث:
كحديث (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً) أي أجيراً.
وحديث (لا تقتلوا شيخاً فانياً).
وحديث (لا تقتلوا أصحاب الصوامع)[وهذه الأحاديث مختلف في صحتها عند العلماء]
قال ابن قدامة: إن الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبياً لم يبلغ بغير خلاف، ولا تقتل امرأة، ولا شيخ فانٍ.
وقال الشوكاني: قوله (ولا عسيفاً) بمهملتين وفاء (كأجير) وزناً ومعنى، وفيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان مع القوم أجيراً ونحوه لأنه من المستضعفين.
•
متى يجوز قتل هؤلاء؟
أولاً: إذا قاتلوا وحملوا السلاح أو قاموا بأعمال تعتبر من الأعمال القتالية.
وهذا واضح من تعليل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المرأة مقتولة في بعض المغازي قال:[ما كانت هذه لتقاتل] فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت.
قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا يقتلون وبذلك قال جماهير العلماء.
وقال القرطبي: والصحيح: أنها إذا قاتلت بالسِّلاح، أو بالحجارة، فإنه يجوز قتلها لوجهين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم (ما كانت هذه تقاتل) فهذا تنبيه على المعنى الموجب للقتل، فيجب طرده إلا أن يمنع منه مانع.
والثاني: قتل النبي صلى الله عليه وسلم لليهودية التي طرحت الرَّحى على رجل من المسلمين فقتلته، وذلك بعدما أسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وكلا الحديثين مشهور. (المفهم).
الحالة الثانية: حين شن الغارات على الأعداء.
لحديث الصعب بن جَثّامة السابق قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يُبَيَّتون، فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم).
قوله (هم منهم) أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم.
ومعنى البيات المراد في الحديث: أن يغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم. [قاله الحافظ ابن حجر].
وقال النووي: ومعنى البيات ويبيتون: أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي، وأما الذراري فبتشديد الياء والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان.
•
ماذا نفهم من قوله صلى الله عليه وسلم في حق المرأة المقتولة (ما كانت هذه لتقاتل)؟
يفهم بأنها إذا قاتلت قُتلت، وأن علة النهي عن قتلها أنها لا تقاتل
…
إذاً: فكل من كان على مثل ما عليه المرأة من رجال أهل الحرب، ممن شأنهم أنهم لا يُرجى نفعهم للعدو، ولا ضرهم للمسلمين على الدوام، فهم ملحقون بالنساء على طريق القياس، في تحريم رفع السلاح عليهم، وإن كانوا في صفوف الأعداء.
1274 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ (اِرْجِعْ. فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
•
ما حكم الاستعانة بالمشركين على المشركين؟
جاءت أحاديث تنهى عن ذلك:
كحديث الباب، ولفظه كاملاً:
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قَالَ لَا قَالَ «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَانْطَلِقْ» .
ب- وحديث الْبَرَاء رضي الله عنه. قال (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أُقَاتِلُ وَأُسْلِمُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا) رواه البخاري.
ج- وعن خُبَيْبُ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:(أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَلَمْ نُسْلِمْ فَقُلْنَا: إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، قَالَ: " أَوَ أَسْلَمْتُمَا؟ " قُلْنَا: لَا، قَالَ: " فَلَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِين) رواه أحمد.
وجاءت أحاديث تبيح ذلك:
أ- روى ابن أبي شيبة عن الزهري (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو باليهود فيسهم لهم كسهام المسلمين).
قال الألباني: وهذا ضعيف لإرسال الزهري أو إعضاله.
ب-روى البيهقي عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع فرضخ لهم).
قال البيهقي: تفرد بهذا الحسن بن عمارة، وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح.
ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية في حنين.
د- حديث عائشة. في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الليثي ليدله على الطريق في هجرته إلى المدينة، وكان مشركاً على دين قومه.
هـ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِر). متفق عليه
و- وعن ذِي مِخْبَرٍ، رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُم) رواه أبو داود.
قال ابن القيم معلقاً على صلح الحديبية: وَمِنْهَا: أَنّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَأْمُونِ فِي الْجِهَادِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِأَنّ عَيْنَهُ الْخُزَاعِيّ كَانَ كَافِرًا إذْ ذَاكَ وَفِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَنّهُ أَقْرَبُ إلَى اخْتِلَاطِهِ بِالْعَدُوّ وَأَخْذِهِ أَخْبَارَهُم.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أقوال:
فمنهم: من منع الاستعانة بالمشركين.
للأحاديث المانعة من ذلك كما تقدمت.
وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَشْبَهَ الْمُخَذِّلَ وَالْمُرْجِفَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاَلَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِمْ غَيْرُ ثَابِتٍ.
ومنهم: من أجاز ذلك.
ومنهم: من أجاز ذلك إذا دعت الحاجة والمصلحة، وهو ممن يوثق به.
قال ابن قدامة: وَلَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ.
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ.
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَخَبَرِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِمْ، لَمْ تُجْزِئْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ؛ لِأَنَّنَا إذَا مَنَعْنَا الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ الْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى. (المغني).
وقال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ).
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: (أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم اِسْتَعَانَ بِصَفْوَانَ بْن أُمَيَّة قَبْل إِسْلَامه).
فَأَخَذَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء بِالْحَدِيثِ الْأَوَّل عَلَى إِطْلَاقه.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: إِنْ كَانَ الْكَافِر حَسَن الرَّأْي فِي الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَتْ الْحَاجَة إِلَى الِاسْتِعَانَة بِهِ اُسْتُعِينَ بِهِ، وَإِلَّا فَيُكْرَه، وَحَمَلَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْن .... (شرح مسلم).
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمُنْذِرِ، وَابْنَ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ مَالِكٍ إِلَى: جَوَازِ الاِسْتِعَانَةِ بِأَهْل الْكِتَابِ فِي الْقِتَال عِنْدَ الْحَاجَةِ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِك.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الإْمَامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَأْمُونِينَ لَمْ تَجُزِ الاِسْتِعَانَةُ بِهِمْ؛ لأِنَّنَا إِذَا مَنَعْنَا الاِسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْل الْمُخْذِل وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى.
كَمَا شَرَطَ الإْمَامُ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ، بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُونَهُمْ، أَمْكَنَهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا.
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُوزَجَانِيُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِمُشْرِكٍ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونُوا فِي غَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ، بَلْ فِي خَدَمَاتِ الْجَيْشِ. (الموسوعة الفقهية).
قال الشيخ ابن باز: وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر الاستعانة بأفراد منهم، أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها عملا بالأدلة كلها.
فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية.
لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بالمطعم بن عدي لما رجع من الطائف، ودخل في مكة بجواره، واستعان بعبد الله بن أريقط الديلي ليدله على طريق المدينة وكلاهما مشرك، وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار.
واستعان بدروع من صفوان بن أمية يوم حنين وهو كافر، وقال في حديث عائشة رضي الله عنها للذي أراد أن يخرج معه في بدر وهو مشرك: ارجع فلن نستعين بمشرك، وأقر اليهود بخيبر بعد ذلك، واستعان بهم في القيام على مزارعها ونخيلها لحاجة المسلمين إليه واشتغال الصحابة بالجهاد، فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر رضي الله عنه، والأدلة في هذا كثيرة.
والواجب على أهل العلم الجمع بين النصوص وعدم ضرب بعضها ببعض. (مجموع الفتاوى).
فائدة:
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء، والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعان بالمطعم بن عدي، أو بعبد الله بن أريقط، أو بيهود خيبر موالياً لأهل الشرك، ولا متخذاً لهم بطانة، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم.
وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم. فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه، وأن ينزل الأدلة منازلها، والله سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه. (فتاوى ابن باز).
فائدة:
قد ذكر البيهقي وجهاً للجمع بين أحاديث الجواز وأحاديث المنع فقال: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "لَعَلَّهُ رَدَّهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ، وَذَلِكَ وَاسِعٌ لِلْإِمَامِ، وَقَدْ غَزَا بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَشَهِدَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ حُنَيْنًا بَعْدَ الْفَتْحِ، وَصَفْوَانُ مُشْرِك.
فائدة:
وفي الموسوعة الفقهية: اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الاِسْتِعَانَةِ بِالْكُفَّارِ فِي قِتَال الْبُغَاةِ؛ لأِنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ لَا قَتْلُهُمْ، وَالْكُفَّارُ لَا يَقْصِدُونَ إِلاَّ قَتْلَهُم.
1275 -
وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اُقْتُلُوا شُيُوخَ اَلْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
===
(شُيُوخَ اَلْمُشْرِكِينَ) جمع شيخ، وهو من كبُرت سنه.
(شَرْخَهُمْ) الشرْخ: جمع شارخ، وهم الصغار.
•
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف.
•
ما الجمع بين حديث الباب (اُقْتُلُوا شُيُوخَ اَلْمُشْرِكِينَ) وبين حديث (لا تقتلوا شيخاً فانياً)؟
أن الشيخ الكبير الفاني الذي لا يقاتل لا يُقتل، وأما حديث الباب فالمراد بهم: الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال، ومعونة عليه برأي أو تدبير، وبهذا تجتمع الأدلة.
قال الشوكاني: قوله: (لا تقتلوا شيخاً فانياً) ظاهره أنه لا يجوز قتل شيوخ المشركين، ويعارضه حديث (اقتلوا شيوخ المشركين).
وقد جمع بين الحديثين: بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الأول: هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار، ولا مضرة على المسلمين، وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله (شيخاً فانياً).
والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني: هو من بقي فيه نفع للكفار وهو بالرأي كما في دريد بن الصمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله أبو عامر، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى والقصة معروفة. (نيل الأوطار).
وقال ابن قدامة: ولَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فِي سُنَنِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ وَصَّى يَزِيدَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا هَرِمًا
وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ وَصَّى سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا شَيْخًا هَرِمًا. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلْ، كَالْمَرْأَةِ.
وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ، فَقَالَ (مَا بَالُ هَذِهِ قُتِلَتْ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ).
وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ عُمُومِهَا الْمَرْأَةُ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ فِي مَعْنَاهَا، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَأَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْمَعُونَةٌ عَلَيْهِ، بِرَأْيِ أَوْ تَدْبِيرٍ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ فِي الْهَرِمِ، وَحَدِيثَهُمْ عَامٌّ فِي الشُّيُوخِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْعَجُوزِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا. (المغني).
1276 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلاً.
===
(أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ) لفظ الحديث عند البخاري:
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قَالَ هُمُ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ، أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْحَارِثِ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَة).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: جواز المبارزة قبل القتال.
قال ابن قدامة: وَأَمَّا الْمُبَارَزَةُ، فَتَجُوزُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَكَرِهَهَا.
وَلَنَا، أَنَّ حَمْزَةَ، وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، بِإِذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَبَارَزَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَقَتَلَهُ.
وَبَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ حُنَيْنٍ.
وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُبَارِزُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، بَارَزُوا عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةُ بَارَزْت رَجُلًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَتَلْته. (المغني).
قال القرطبي: وقد فهم بعض العلماء من هذا الحديث (لا تتمنوا لقاء العدو) كراهة المبارزة. وبهذا قال الحسن.
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه على جواز المبارزة، والدَّعوة إليها. (المفهم).
قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث (لا تتمنوا لقاء العدو) على منع طلب المبارزة، وهو رأي الحسن البصري وكان علي يقول لا تدع إلى المبارزة فإذا دعيت فأجب تنصر لأن الداعي باغ.
•
ماذا يشترط لها؟
يشترط إذن الأمير.
وهذا القول هو الصحيح.
قال ابن المنذر: وشرط بعضهم فيها إذن الإمام، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال ابن حجر: وشرط الأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق للجواز إذن الأمير على الجيش.
قال ابن قدامة: وَلَنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِفُرْسَانِهِ وَفُرْسَانِ الْعَدُوِّ، وَمَتَى بَرَزَ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ، كَانَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، فَيَكْسِرُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، لِيَخْتَارَ لِلْمُبَارَزَةِ مَنْ يَرْضَاهُ لَهَا، فَيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الظَّفَرِ وَجَبْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَحْتُمْ لَهُ أَنْ يَنْغَمِسَ فِي الْكُفَّارِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِقَتْلِهِ.
قُلْنَا: إذَا كَانَ مُبَارِزًا تَعَلَّقَتْ قُلُوبُ الْجَيْشِ بِهِ، وَارْتَقَبُوا ظَفَرَهُ، فَإِنْ ظَفِرَ جَبَرَ قُلُوبَهُمْ، وَسَرَّهُمْ، وَكَسَرَ قُلُوبَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ بِالْعَكْسِ، وَالْمُنْغَمِسُ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، لَا يَتَرَقَّبُ مِنْهُ ظَفَرٌ وَلَا مُقَاوَمَةٌ فَافْتَرَقَا. (المغني).
•
اذكر متى تكون المبارزة مستحبة، ومتى تكون مباحة، ومتى تكون مكروهة؟
قال ابن قدامة: الْمُبَارَزَةُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ.
أَمَّا الْمُسْتَحَبَّةُ: فَإِذَا خَرَجَ عِلْجٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، اُسْتُحِبَّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ مُبَارَزَتُهُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ.
لِأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ.
وَالْمُبَاحُ: أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ بِطَلَبِهَا، فَيُبَاحُ وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُغْلَبَ، فَيَكْسِرَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُجَاعًا وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ غَالِبٌ.
وَالْمَكْرُوهُ: أَنْ يَبْرُزَ الضَّعِيفُ الْمِنَّةِ، الَّذِي لَا يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ، فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَارَزَةُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِ ظَاهِرًا. (المغني).
•
هل يعان المبارز أم لا؟
أجازها أحمد وإسحاق.
ومنعها الأوزاعي.
وفسر الشافعي فقال: إن شرط المبارز عدمها لم يجز، وإن لم يشترط جاز. (المفهم).
1277 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ (إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ اَلْأَنْصَارِ، يَعْنِي (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ) قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِ اَلرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ) رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
===
•
اذكر لفظ الحديث كاملاً؟
عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ (غَزَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَظْهَرَ الإِسْلَامَ قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَالإِلْقَاءُ بِالأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ، قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) رواه أبو داود.
•
اذكر سبب نزول الآية (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ)؟
اختلف في سبب نزولها على أقوال:
القول الأول: أنها في ترك النفقة في سبيل الله.
روى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة.
القول الثاني: نزلت في ترك الجهاد.
كما في حديث الباب.
عن أبي أيوب الأنصار قال (نزلت الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منا، فأنزل الله يرد علينا
…
).
فكانت التهلكة الإقامة على أموالنا وصلاحها وتركنا الغزو.
القول الثالث: أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر لي، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي يستكثر من الذنوب فيهلك.
وما ورد عن أبي أيوب أقوى شيء.
- التهلكة والهلاك نوعان: حسي بالموت، وهلاك معنوي: بالكفر والمعاصي، وترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله والعمل للآخرة، والتعرض لعذاب الله، والحرمان من ثوابه، وهذا أشد وأعظم، وهذا هو المراد بالتهلكة في الآية، كما قال أبو أيوب في سبب نزول الآية (فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد).
وقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود.
ولا يمتنع أن يشمل النهي في الآية أيضاً المعنى الأول وهو التسبب لإهلاك النفس بالموت، بقتل الإنسان نفسه بأي سبب من الأسباب.
عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً .. ) متفق عليه.
ومع ذلك، فإن العلماء - من المتقدمين والمتأخرين - يستدلون بهذه الآية أيضاً على النهي عن قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلكة بأي طريقة من طرق التهلكة، آخذين بعموم لفظ الآية، وبالقياس
الجلي، مقررين بذلك القاعدة الأصولية القائلة (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأما قصرها عليه - يعني قصر الآية على موضوع ترك النفقة في سبيل الله - ففيه نظر، لأن العبرة بعموم اللفظ.
وقال الشوكاني: أي: لا تأخذوا فيما يهلككم، وللسلف في معنى الآية أقوال. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري.
ويدل على ذلك أيضاً تنوع تفسيرات السلف لهذه الآية، فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اعتبر من يذنب الذنب ثم ييأس من رحمة الله: أنه ألقى بيده إلى التهلكة، قال ابن حجر: أخرجه ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح.
ورجح ابن حجر الأول فقال: والأول أظهر لتصدير الآية بذكر النفقة فهو المعتمد في نزولها وأما قصرها عليه ففيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ.
•
ما حكم حمْل الرجل نفسه على العدو؟
قال ابن حجر: وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين.
وروى بن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف قال (إني لعند عمر فقلت: إن لي جاراً رمى بنفسه في الحرب فقتل، فقال ناس ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبوا لكنه اشترى الآخرة بالدنيا. (فتح الباري).
وقال النووي - بعد ذكر قصة صاحب التمرات - فِيهِ: جَوَاز الِانْغِمَار فِي الْكُفَّار، وَالتَّعَرُّض لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ جَائِز بِلَا كَرَاهَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء.
وقال القرطبي: وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. (تفسير القرطبي).
وقال ابن تيمية: وأما قوله: أريد أن أقتل نفسي في الله فهذا كلام مجمل؛ فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضي ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك، مثل من يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين، وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن
…
ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب أن رجلاً حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر لا و لكنه ممن قال الله فيه (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَاد).
1278 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (حَرَقَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي اَلنَّضِيرِ، وَقَطَعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(حَرَقَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: أمر أصحابه.
قال النووي: (حرّق) بِتَشْدِيدِ الرَّاء.
(نَخْلَ بَنِي اَلنَّضِيرِ) هم قبيلة كبيرة من اليهود.
(وَقَطَعَ) وفي رواية (وهي البويْرة) تصغير بئر، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وتيماء.
قال النووي: (الْبُوَيْرَة) بِضَمِّ الْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَهِيَ مَوْضِع نَخْل بَنِي النَّضِير.
وفي رواية (فأنزل الله: مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
•
ما حكم تحريق وقطع شجر الكفار؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: الجواز.
قال النووي: وَبِهِ قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم وَنَافِع مَوْلَى اِبْن عُمَر وَمَالك وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْجُمْهُور.
القول الثاني: عدم الجواز.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَاللَّيْث بْن سَعْد وَأَبُو ثَوْر وَالْأَوْزَاعِيُّ رضي الله عنه فِي رِوَايَة عَنْهُمْ: لَا يَجُوز.
قال الحافظ في الفتح: ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو.
وكرهه الأوزاعي والليث.
واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه ألا يفعلوا أشياء من ذلك.
وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال، كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم ونحو ذلك القتل بالتغريق، وقال غيره إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلاد ستفتح فأراد إبقاءها على المسلمين. انتهى.
وقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَخْلَهُمْ وَشَجَرَهُمْ، وَيَسْتَهْلِكَ عَلَيْهِمْ زَرْعَهُمْ وَثَمَرَهُمْ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
وَهَذَا فَسَادٌ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى الشَّامِ وَنَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ شَجَرِهَا، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَصِيرُ دَارَ إِسْلَامٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ بَنِي النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ بِالْبُوَيْرَةِ حِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ فَقَطَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ عَدَدًا مِنْ نَخْلِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرَاهُمْ إِمَّا بِأَمْرِهِ وَإِمَّا لِإِقْرَارِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ قَطْعِهَا (أي نخل بني النضير)؟
فَقِيلَ: لِإِضْرَارِهِمْ بِهَا.
وَقِيلَ: لِتَوْسِعَةِ مَوْضِعِهَا لِقِتَالِهِمْ فِيهِ. (الحاوي لماوردي).
•
اذكر أقسام قطع شجر العدو من حيث الجواز وعدمه؟
قال الماوردي: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ نَخْلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ فِي مُحَارَبَتِهِمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أي المشركين في حال القتال:
أَحَدُهَا: أَنْ نَعْلَمَ أَنْ لَا نَصِلَ إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ إِلَّا بِقَطْعِهَا، فَقَطْعُهَا وَاجِبٌ: لِأَنَّ مَا أَدَّى إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَاجِبٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَبِهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعِهَا، فَقَطْعُهَا مَحْظُورٌ: لِأَنَّهَا مَغْنَمٌ، وَاسْتِهْلَاكُ الْغَنَائِمِ مَحْظُورٌ، وَعَلَى هَذَا حَمْلُ نَهْيِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه عَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ بِالشَّامِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَنْفَعَهُمْ قَطْعُهَا، وَيَنْفَعَنَا قَطْعُهَا، فَقَطْعُهَا مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: لَا يَنْفَعُهُمْ قَطْعُهَا، وَلَا يَنْفَعُنَا قَطْعُهَا، فَقَطْعُهَا مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي هَدْمِ مَنَازِلِهِمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ.
وقال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إتْلَافِهِ كَاَلَّذِي يَقْرُبُ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَيَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ، أَوْ يُسْتَرُونَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِهِ لِتَوْسِعَةِ طَرِيقٍ، أَوْ تَمَكُّنٍ مِنْ قِتَالٍ، أَوْ سَدِّ بَثْقٍ، أَوْ إصْلَاحِ طَرِيقٍ، أَوْ سِتَارَةِ مَنْجَنِيقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا، فَيُفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ، لِيَنْتَهُوا، فَهَذَا يَجُوزُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
الثَّانِي: مَا يَتَضَرَّرُ الْمُسْلِمُونَ بِقَطْعِهِ، لِكَوْنِهِمْ يَنْتَفِعُونَ بِبَقَائِهِ لِعَلُوفَتِهِمْ، أَوْ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ، أَوْ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِهِ، أَوْ تَكُونُ الْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا، فَإِذَا فَعَلْنَاهُ بِهِمْ فَعَلُوهُ بِنَا، فَهَذَا يَحْرُمُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ.
الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَفْعٌ سِوَى غَيْظِ الْكُفَّارِ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَوَصِيَّتِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ.
وَبِهَذَا قَالَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَالَ إِسْحَاقُ: التَّحْرِيقُ سُنَّةٌ، إذَا كَانَ أَنْكَى فِي الْعَدُوِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهُوَ الْبُوَيْرَةُ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ). (المغني)
1279 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ اَلصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَغُلُّوا; فَإِنَّ اَلْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
===
•
عرف الغلول؟
الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم.
قال النووي رحمه الله: (الْغُلُول) الْخِيَانَة، وَأَصْله السَّرِقَة مِنْ مَال الْغَنِيمَة قَبْل الْقِسْمَة.
•
ما حكم الغلول مع الأدلة؟
حرام، ومن كبائر الذنوب.
أ-قال تعالى (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
- قال القرطبي: قوله تعالى (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة) أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، مُعذّباً بحمله وثِقَله، ومَرعُوباً بصوته، ومُوَبَّخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد.
وهذه الفضيحة التي يُوقعها الله تعالى بالغالّ نظيرُ الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن يُنصب له لِواء عند استه بقدر غَدْرَته، وجعل الله تعالى هذه المعاقبَات حَسْبَما يَعْهَدَهُ البَشرَ ويَفْهَمُونه
ب- عن ابْن عُمَر. قَالَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) رواه مسلم.
ج- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ) متفق عليه.
د-وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قَالَ (كَانَ عَلَى ثَقَل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((هُوَ في النَّارِ)) فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْه، فَوَجَدُوا عَبَاءةً قَدْ غَلَّهَا) رواه البخاري.
هـ- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً وَلَا وَرِقاً غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِى الضُّبَيْبِ فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِىَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَقُلْنَا هَنِيئاً لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلاَّ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَاراً أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ». قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ). رواه مسلم
و-وعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلاَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ» . قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ «أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ) رواه مسلم.
والغلول ذنب عظيم ولو كان شيئاً يسيراً.
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ) رواه أبو داود.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الغلول يمنع من إطلاق الشهادة على الغالّ؛ فلا يستحق بذلك غفران كل الذنوب.
قال النووي رحمه الله: الغُلُول يَمْنَع مِنْ إِطْلَاق اِسْم الشَّهَادَة عَلَى مَنْ غَلَّ إِذَا قُتِل.
قال القاري رحمه الله: وفِيهِ بَحْثٌ، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَهَادَتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهِيدِ ألّا يَكُونُ عَلَيْهِ ذَنَبٌ أَوْ دَيْنٌ بِالْإِجْمَاع. (مرقاة المفاتيح).
وقد يقال: إن الغلول يحرم الشهيد من الوصول إلى مقام الشهادة العليا، والذي به يُغفر له كل الذنوب، وإن كان لا يحرمه من أصل الشهادة وفضيلتها.
•
ما حكم من تاب من الغنيمة؟
الحال الأولى: أن يتوب قبل القسمة، فيجب رده.
قال ابن قدامة: إذَا تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمُقْسَمِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ.
لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إلَى أَهْلِهِ.
الحال الثانية: فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؟
فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ خُمُسَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي.
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ لِلصَّدَقَةِ وَجْهًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْغَالِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا أَقْبَلُهُ مِنْك، حَتَّى تَجِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وَلَنَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
وَلِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لَهُ، وَتَعْطِيلٌ لِمَنْفَعَتِهِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَلَا يَتَخَفَّفُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ إثْمِ الْغَالِّ.
وَفِي الصَّدَقَةِ نَفْعٌ لِمَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَذْهَبُ بِهِ الْإِثْمُ عَنْ الْغَالِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى .... (المغني).
1280 -
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِم.
1281 -
وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه فِي - قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ - قَالَ (فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا، فَقَال: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلْبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْجَمُوحِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(بِالسَّلَبِ) بالتحريك: ثياب المقتول وسلاحه، ومركوبه من دابة وغيرها.
(وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِم) قَالَ عَوْفٌ فَقُلْتُ يَا خَالِدُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّى اسْتَكْثَرْتُهُ.
(قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ) هذه كنيته، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، أحد سادات قريش، قتل يوم بدر مشركاً.
(فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا) أي: تسابقا إلى أبي جهل بسيفيهما، والضمير يعود على الغلامين من الأنصار (مُعَاذ بْن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذ ابْن عَفْرَاءَ).
والقصة كاملة:
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْف. قَالَ (بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا. فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. قَالَ فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا - قَالَ - فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِى تَسْأَلَانِ عَنْهُ قَالَ فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ». فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُ. فَقَالَ «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا». قَالَا لَا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ». وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن سلب المقتول يكون لقاتله.
ومن الأحاديث في ذلك:
أ-حديث الباب في لفظ مسلم (قَالَ عَوْفٌ فَقُلْتُ يَا خَالِدُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ).
ب- وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَيْنٍ - وَذَكَرَ قِصَّةً - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) قَالَهَا ثَلاثاً) متفق عليه.
ج- وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِي سَفَرِهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ).
فِي رِوَايَةٍ (فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ فَقَالُوا: ابْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ).
وظاهر الأحاديث سواء قاله قائد الجيش قبل القتال أو بعده.
وهذا مذهب الجمهور.
قال النووي: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَابْن جَرِير وَغَيْرهمْ: يَسْتَحِقّ الْقَاتِل سَلَب الْقَتِيل فِي جَمِيع الْحُرُوب سَوَاء قَالَ أَمِير الْجَيْش قَبْل ذَلِكَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبه أَمْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ؛ قَالُوا: وَهَذِهِ فَتْوَى مِنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِخْبَار عَنْ حُكْم الشَّرْع، فَلَا يَتَوَقَّف عَلَى قَوْل أَحَد.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَمَنْ تَابَعَهُمَا - رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى -: لَا يَسْتَحِقّ الْقَاتِل بِمُجَرَّدِ الْقَتْل سَلَب الْقَتِيل، بَلْ هُوَ لِجَمِيعِ الْغَانِمِينَ كَسَائِرِ الْغَنِيمَة، إِلَّا أَنْ يَقُول الْأَمِير قَبْل الْقِتَال: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبه.
وَحَمَلُوا الْحَدِيث عَلَى هَذَا، وَجَعَلُوا هَذَا إِطْلَاقًا مِنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ بِفَتْوَى وَإِخْبَار عَامّ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الْقِتَال وَاجْتِمَاع الْغَنَائِم. وَاَللَّه أَعْلَم.
•
هل السلب للقاتل أو أمره مفوض للإمام يعطيه من شاء؟
الصواب أن السلب للقاتل، كما في الأحاديث الواردة في هذا الباب.
•
هل يشترط لاستحقاق القاتل السلب البيّنة أم لا؟
ذهب بعض العلماء إلى ذلك.
لقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ
…
).
قال النووي فيه دليل لمذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتله، ولا يقبل قوله بغير بينة.
وقال القرطبي: قال بظاهره الليث، والشافعي، وبعض أصحاب الحديث، فلا يستحق القاتل السلب إلا بالبيّنة، أو بشاهد ويمين.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يعطى بقوله بلا بيّنة.
قال النووي: وَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُعْطَى بِقَوْلِهِ بِلَا بَيِّنَة، قَالَا: لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ السَّلَب فِي هَذَا الْحَدِيث بِقَوْلِ وَاحِد، وَلَمْ يُحَلِّفهُ.
وَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ الْقَاتِل بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُق، وَقَدْ صَرَّحَ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تُلْغَى.
•
هل في حديث عبد الرحمن بن عوف دليل على أن الإمام مخيّر يعطي السلب من يريد؟
ذهب بعض العلماء إلى ذلك.
لقوله (أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا، فَقَال: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلْبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْجَمُوحِ).
قَالَ أَصْحَاب مَالِك: إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِمَام مُخَيَّر فِي السَّلَب يَفْعَل فِيهِ مَا شَاءَ.
لكن الصواب أن السلب للقاتل، كما هو صريح الأدلة.
وأما حديث الباب:
فقد قال النووي: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ أَصْحَابنَا: اِشْتَرَكَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي جِرَاحَته، لَكِنَّ مُعَاذ بْن عَمْرو بْن الْجَمُوح ثَخِنَهُ أَوَّلًا فَاسْتَحَقَّ السَّلَب، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْآخَر مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ مُشَارَكَة فِي قَتْله، وَإِلَّا فَالْقَتْل الشَّرْعِيّ الَّذِي يَتَعَلَّق بِهِ اِسْتِحْقَاق السَّلَب وَهُوَ الْإِثْخَان وَإِخْرَاجه عَنْ كَوْنه مُتَمَنِّعًا إِنَّمَا وُجِدَ مِنْ مُعَاذ بْن عَمْرو بْن الْجَمُوح، فَلِهَذَا قَضَى لَهُ بِالسَّلَبِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَخَذَ السَّيْفَيْنِ لِيَسْتَدِلّ بِهِمَا عَلَى حَقِيقَة كَيْفِيَّة قَتْلهمَا، فَعَلِمَ أَنَّ اِبْن الْجَمُوحِ أَثْخَنَهُ، ثُمَّ شَارَكَهُ الثَّانِي بَعْد ذَلِكَ وَبَعْد اِسْتِحْقَاقه السَّلَب، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقّ فِي السَّلَب. هَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث. (نووي).
•
هل يخمّس السلب أو يدفع كله للقاتل؟
الصواب أنه لا يخمس، بل يدفع كله للقاتل.
وهذا ظاهر الأحاديث:
كحديث أَبِي قَتَادَةَ - السابق - (مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) قَالَهَا ثَلاثاً).
وجاء عند أبي داود في حديث عوف بن مالك (ولم يُخمّس السلب) وهذا نص.
قال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيس السَّلَبِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ الصَّحِيح مِنْهُمَا عِنْد أَصْحَابه: لَا يُخَمَّس.
هُوَ ظَاهِر الْأَحَادِيث، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَابْن جَرِير وَابْن الْمُنْذِر وَآخَرُونَ.
•
متى يستحق القاتل السلب؟
قال ابن قدامة: أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَأَمَّا إنْ قَتَلَ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ شَيْخًا فَانِيًا، أَوْ ضَعِيفًا مَهِينًا، وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ.
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُ، اسْتَحَقَّ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَمَنْ قَتَلَ أَسِيرًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ؛ لِذَلِكَ.
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ فِيهِ مَنَعَةٌ، غَيْرَ مُثْخَنٍ بِالْجِرَاحِ، فَإِنْ كَانَ مُثْخَنًا بِالْجِرَاحِ، فَلَيْسَ لِقَاتِلِهِ شَيْءٌ مِنْ سَلَبِهِ. (المغني).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- إعطاء السلب لقاتل الكافر من باب المكافأة والمجازاة على إقدامه وفعله الطيب، وتقديراً وتشجيعاً لبطولته وبلائه في سبيل الله تعالى.
- تشجيع الإنسان على العمل الصالح بأمر دنيوي، وعلى هذا فالجوائز التي تجعل على المسابقات الشرعية إذا دخل الإنسان المسابقة لا يحرم الأجر ما دام يريد الوصول إلى العلم، لكنه جعل هذا العوض الذي في المسابقة حافزاً له على الدخول في البحث والمراجعة.
- حسن تدبير النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يجعل المحفزات عند الحاجة إلى ذلك.
- مشروعية بعث السرايا إلى العدو لاستنزاف قوته وعدته.
- أن ما تغنمه السرايا المستقلة عن جيش الكفار هو خاص لها لا يشاركها المسلمون فيه، وإنما يؤخذ منه الخمس الذي يصرف مصرف الفيء.
- إن الغنيمة وإن كثرت تكون بين غزاة السرية بقدر سهمانهم، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه.
- جواز تنفيل مقاتلة السرية زيادة على سهمانها بما يراه الإمام تقديراً لجهادهم وإخلاصهم، وتشجيعاً لهم ولغيرهم على الجهاد.
1282 -
وَعَنْ مَكْحُولٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ اَلْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ اَلطَّائِفِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "اَلْمَرَاسِيلِ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَوَصَلَهُ الْعُقَيْلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح، مرسل.
وحديث علي أيضاً لا يصح.
وقصة حصار الطائف رواها البخاري ومسلم وليس فيها ذكر المنجنيق.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه يجوز قتل الكفار إذا تحصنوا بالمنجنيق ويقاس عليه غيره من المدافع ونحوها.
قال ابن قدامة: وَيَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمْ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ.
وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة.
وَلِأَنَّ الْقِتَالَ بِهِ مُعْتَادٌ، فَأَشْبَهَ الرَّمْيَ بِالسِّهَام .... (المغني).
1283 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ اَلْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ اَلْكَعْبَةِ، فَقَالَ: "اُقْتُلُوهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ) وفي الرواية الأخرى (دخل مكة عام الفتح).
(وَعَلَى رَأْسِهِ اَلْمِغْفَرُ) المغفر بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الفاء: زرد يُنسج من الدروع على قدر الرأس، يبلس تحت القلنسوة.
(فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله. وقد جزم الفاكهيّ في "شرح العمدة"، بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلميّ، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأى أنه هو الذي جاء مخبرًا بقصّته، ويرجحه قوله في رواية يحيى بن قَزَعَة في "المغازي":"فقال: اقتله" بصيغة الإفراد.
(ابْنُ خَطَلٍ) هو عبد العزى بن خطل، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فقتل مولى كان معه يخدمه، ثم ارتدّ مشركاً واتخذ قينتين تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز قتل الأسير صبرًا، وهو استدلال واضح؛ لأن القدرة على ابن خطل صيّرته كالأسير في يد الإمام، وهو مخيّرٌ فيه بين القتل وغيره. لكن قال الخطابيّ: إنه صلى الله عليه وسلم قتله بما جناه في الإسلام. وقال ابن عبد البرّ: قتله قوَدًا من دم المسلم الذي غدر به، وقتله، ثم ارتدّ، كما تقدّم.
واستدلّ به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام، ترجم بذلك أبو داود.
•
ما حكم دخول مكة بدون إحرام لمن لا يريد النسك؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز دخولها مطلقاً إلا بإحرام، إلا للمترددين عليها كثيراً كالحطابين.
وهذا قول المالكية والحنابلة.
لما رواه البيهقي عن ابن عباس أنه قال: (لا يدخل مكة أحد من أهلها إلا بإحرام).
قال الحافظ ابن حجر: رواه البيهقي وإسناده جيد.
وقالوا: إن دخول مكة بغير إحرام مناف للتعظيم اللازم لها.
القول الثاني: يجوز دخولها بغير إحرام لمن لم يرد نسكاً.
وهذا قول الشافعية.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة).
فمفهومه أن من لم يرد الحج والعمرة لا إحرام عليه ولو دخل مكة.
ولحديث الباب: حيث أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر
…
فهذا دليل على أنه دخل مكة بغير إحرام.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم). رواه مسلم
وفي رواية: (الحج مرة، وما زاد فهو تطوع).
قال الشيخ ابن عثيمين: قوله: (مرة) دليل على أنه من مرّ بالميقات، وقد أدى الفريضة من قبل، فإنه لا يلزمه الإحرام، وإن بَعُدَ مجيئه إلى مكة، لأن الحج يجب مرة واحدة، ولو ألزمناه بالإحرام لألزمناه بزائد عن المرة، وهذا خلاف النص.
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة:
قال الشنقيطي رحمه الله: وأما قول من قال من المالكية وغيرهم، أن دخول مكة بغير إحرام من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فهو لا تنهض به حجة، لأن المقرر أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يختص حكمه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
•
ما حكم إقامة الحدود في مكة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
فقيل: يحرم ويضيق عليه حتى يخرج.
لقوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً). (آل عمران: من الآية 97)
وقيل: يجوز.
وهذا مذهب مالك والشافعي.
لعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود بالقصاص في كل زمان ومكان.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وهذا القول هو الصحيح.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الأخذ بأسباب الوقاية، وأنه لا ينافي التوكل.
وقد ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يوم أحد، ولم يحضر الصف قط عرياناً، واستأجر دليلاً مشركاً على دين قومه يدله على طريق الهجرة، وكان يدخر لأهله قوت سنة - وهو سيد المتوكلين - وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة، حمل الزاد والمزاد.
- عظم الكعبة وحرمها في النفوس.
1284 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً صَبْراً) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "اَلْمَرَاسِيلِ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
1285 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
===
(قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ) أي: يوم غزوة بدر.
(ثَلَاثَةً) من الأسارى.
(صَبْراً) القتل صبراً: أن يحبس المقتول ويوثق ثم يرمى حتى يموت.
وهم النضر بن الحارث، و عقبة بن أبي معيط و طعيمة بن عدي.
(وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ (كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِى عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِى عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي الْوَثَاقِ قَالَ يَا مُحَمَّدُ. فَأَتَاهُ فَقَالَ «مَا شَأْنُكَ». فَقَالَ بِمَ أَخَذْتَنِي وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ إِعْظَامًا لِذَلِكَ «أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ». ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ «مَا شَأْنُكَ». قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ. قَالَ «لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ». ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ فَقَالَ «مَا شَأْنُكَ». قَالَ إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي. قَالَ «هَذِهِ حَاجَتُكَ». فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ).
(فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ) أي: أعطي فداء للصحابيين اللذين أسرتهما ثقيف.
•
ما حكم الأسير في الإسلام؟
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.
فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَيَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عليه السلام يَسْتَرِقُّهُمْ إذَا سَبَاهُمْ.
الثَّانِي: الرِّجَالُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس الَّذِينَ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ.
فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ الْقَتْلُ، وَالْمَنُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْمُفَادَاةُ بِهِمْ، وَاسْتِرْقَاقُهُمْ.
وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).
وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَأَبِي عَزَّةَ الشَّاعِرِ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ.
وَقَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَي، لَأَطْلَقْتهمْ لَهُ.
وَفَادَى أُسَارَى بَدْرٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَفَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، وَصَاحِبَ الْعَضْبَاءِ بِرَجُلَيْنِ.
وَأَمَّا الْقَتْلُ؛ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمْ بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ وَالسَّبْعِمِائَةِ.
وَقَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، صَبْرًا.
وَقَتَلَ أَبَا عَزَّةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَذِهِ قَصَصٌ عَمَّتْ وَاشْتَهَرَتْ، وَفَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّاتٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا.
وَلِأَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ قَدْ تَكُونُ أَصْلَحَ فِي بَعْضِ الْأَسْرَى، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَنِكَايَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَبَقَاؤُهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، فَقَتْلُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ الضَّعِيفُ الَّذِي لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَفِدَاؤُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، يُرْجَى إسْلَامُهُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعُونَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَخْلِيصِ أَسْرَاهُمْ، وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ، فَالْمَنُّ عَلَيْهِ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْتَفَعُ بِخِدْمَتِهِ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، فَاسْتِرْقَاقُهُ أَصْلَحُ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالْإِمَامُ أَعْلَم .... (المغني).
•
ما حكم من أُسِر فادعى أنه كان مسلماً؟
قال ابن قدامة: وَمَنْ أُسِرَ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا الظَّاهِرُ خِلَافُهُ، يَتَعَلَّقُ بِهِ إسْقَاطُ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ.
فَإِنْ شَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ، حَلَفَ مَعَهُ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ.
وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ (لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَنْ يُفْدَى، أَوْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ) فَقَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَحْدَهُ .... (المغني).
فائدة:
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم لِلْأَسِيرَيْنِ حِين قَالَ: إِنِّي مُسْلِم: (لَوْ قُلْتهَا وَأَنْتَ تَمْلِك أَمْرك أَفْلَحْت كُلّ الْفَلَاح) إِلَى قَوْله (فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ) مَعْنَاهُ: لَوْ قُلْت كَلِمَة الْإِسْلَام قَبْل الْأَسْر حِين كُنْت مَالِك أَمْرك أَفْلَحْت كُلّ الْفَلَاح، لِأَنَّهُ لَا يَجُوز أَسْرك لَوْ أَسْلَمْت قَبْل الْأَسْر، فَكُنْت فُزْت بِالْإِسْلَامِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْأَسْر، وَمِنْ اِغْتِنَام مَالِك، وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمْت بَعْد الْأَسْر فَيَسْقُط الْخِيَار فِي قَتْلك، وَيَبْقَى الْخِيَار بَيْن الِاسْتِرْقَاق وَالْمَنّ وَالْفِدَاء.
وَفِي هَذَا جَوَاز الْمُفَادَاة، وَأَنَّ إِسْلَام الْأَسِير لَا يُسْقِط حَقّ الْغَانِمِينَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْل الْأَسْر.
•
هل هذا التخيير تخيير مصلحة أو تخيير تشهي؟
تخيير مصلحة.
والقاعدة: أن من خُيِّر بين شيئين ويتصرف لغيره وجب عليه فعل الأصلح، وإن كان لنفسه فله أن يعدل إلى الأسهل سواء كان أصلح أو غير أصلح.
مثال: من عليه كفارة يمين فهو مخير بين أيها شاء: عتق رقبة أو الكسوة أو الإطعام، حتى لو اختار الأقل، وهو الإطعام ـ في الغالب ـ فله ذلك.
ومثال تخيير المصلحة: إذا قيل لولي اليتيم: بع مال اليتيم، أو ضارب به، فيجب يختار الأصلح.
وقوله تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ)، فهذا التخيير تخيير مصلحة على القول بأن الآية للتخيير.
فائدة:
قوله (فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ، قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ).
ظاهر هذا اللفظ أنه صار مسلماً بدخوله في دين الإسلام، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ) أنه لم يقبل منه ذلك، مع أنه يصح إسلام الأسير.
قال بعض العلماء: يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله أنه لم يصدق في ذلك بالوحي.
وقال بعضهم: بل إسلامه صحيح، وليس فيه ما يدل على أنه ردَّ إسلامه. فأمَّا قوله (لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) أي: لو قلت كلمة الإسلام قبل أن تؤسر لبقيت حرًّا من أحرار المسلمين، لك ما لهم من الحرية في الدُّنيا، وثواب الجنة في الآخرة. وأمَّا إذا قلتها وأنت أسير، فإن حكم الرق لا يزول عنك بإسلامك.
ورجح ابن حبان الأول في صحيحه القول الأول.
فقال صحيحه: قول الأسير: إني مسلم وترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، كان لأنه صلى الله عليه وسلم علم منه بإعلام الله جل وعز إياه أنه كاذب في قوله، فلم يقبل ذلك منه في أسره، كما كان يقبل مثله من مثله إذا لم يكن أسيراً، فأما اليوم فقد انقطع الوحي، فإذا قال الحربي: إني مسلم قبل ذلك منه ورفع عنه السيف سواء كان أسيراً أو محارباً.
1286 -
وَعَنْ صَخْرِ بْنِ اَلْعَيْلَةِ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اَلْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا؛ أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف. ويغني عنه حديث ابن عمر الآتي (أمرت أن أقاتل
…
).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن من أسلم من الكفار فقد حرم دمه وماله.
وقد جاء هذا المعني في حديث ابن عمر في الصحيحين:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ).
(أمرت) أمرني الله.
(الناس) عبدة الأوثان والمشركين.
(حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ) جُعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه أن من شهد وأقام وآتى عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام؟ والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث
(إلا بحق الإسلام) يدخل فيه جميع ذلك.
(وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي: يؤدوها بخشوعها وأركانها وسننها.
(ويؤتوا الزكاة) يدفعوها إلى مستحقيها.
(فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ) أي: ما ذكِر من الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
(عصموا) حفظوا ومنعوا.
(إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلَامِ) وفي رواية (إلا بحقها) أي: بحق الدماء والأموال، وأراد بحق الدماء ما جاء في حديث ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس
…
) وبحق الأموال الزكاة ونحوها من الحقوق المتعلقة بها.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) أي: يعاملون بالظاهر وأما الباطن فإلى الله، قال ابن رجب: يعني أن الشهادتين مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا، إلا أن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة فحسابه على الله، فإن كان صادقاً أدخله الله الجنة، وإن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين.
- في هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمران:
الأول: ما يثبت به الإسلام، وهو الشهادتان، فمن جاء بهما ثبت له عقد الإسلام وصار مسلماً معصوم الدم والمال.
والثاني: ما يبقى به الإسلام وأعظمه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فليس معنى الحديث أن العبد يُقاتَل حتى يأتي بالشهادتين ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وأنه لا يكف عنه إلا بعد اجتماعها، وذلك لأن دلائل الوحيين ظاهرة في الاكتفاء بالشهادتين لعصمة الدم والمال، ولكنه إذا جاء بهما عصمته حالاً ثم لزمه ما بقي وراء الشهادتين من أحكام الدين المعظمة.
فالاقتصار على النطق بالشهادتين كافٍ لعصمة النفس والمال ..
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً، ويؤيد هذا أحاديث قولية صحيحة لم يذكر فيها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله).
وفي رواية لمسلم (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به).
وروى مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبدُ من دون الله، حرم الله دمه وماله وحسابه على الله).
وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد قتله لمن قال: لا إله إلا الله، واشتد نكيره عليه.
- قوله صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
…
) أي: صارت دماؤهم وأموالهم حراماً غير حلال لمَا علِم من ظاهرهِم دون اعتداد بباطنهم.
وهذه العصمة نوعان:
أحدهما: عصمة الحال.
ويُكتفَى فيها بالشهادتين، فمن أقر بالشهادتين عُصِم دمه وماله حالاً.
والثاني: عصمة المآل.
ولا يكتفَى فيها بالشهادتين، بل لابد من الإتيان بحقوقهِما من أركان الإسلام وغير ذلك من الشرائع، وعندئذ يُحكم ببقاء إسلامه وامتداد ما ثبت له من العصمة ابتداءً.
- الحديث دليل على وجوب مقاتلة الكفار (مع القدرة) حتى يسلموا وينطقوا بالشهادتين، وحتى لا يبقى شرك.
قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(لا تكون فتنة) أي لا يبقى شرك، لأن الدين لا يكون كله لله ما دام في الأرض مشرك.
ولقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
…
).
-الحديث دليل على أن أول واجب على المكلف هو النطق بالشهادتين لا النظر والاستدلال.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
- عظم التوحيد وأنه سبب لحقن الدم.
- فضل الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار، وأنه ينقسم إلى قسمين:
قسم طلب، وقسم دفاع.
- أن الأحكام تجري على الظاهر والله يتولى السرائر لقوله صلى الله عليه وسلم (وحسابهم على الله) فمن أظهر لنا الإسلام وقام بما يجب عليه عصم دمه وماله وعومل معاملة المسلمين.
- قوله (إلا بحقها) كأن يرتكب ما يبيح دم المسلم: كالقتل - أو الزنا للمحصن - أو الردة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة). متفق عليه
- أهمية الصلاة وأنها تأتي بالمرتبة الثانية بعد الشهادتين.
- أهمية الزكاة، وأنها تأتي بالمرتبة الثالثة بعد الصلاة.
- إثبات الحساب والجزاء يوم القيامة.
فائدة: كثيراً ما يقرن الله تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة:
فقيل: إن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين: إخلاصه لمعبوده، وسعيه في نفع الخلق.
وقيل: الصلاة رأس العبادات البدنية، والزكاة رأس العبادات المالية.
وقيل: الصلاة طهارة للنفس والبدن، والزكاة طهارة للمال.
1287 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ (لَوْ كَانَ اَلْمُطْعمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ اَلنَّتْنَي لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
(أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ) أي: من المشركين.
(لَوْ كَانَ اَلْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا) هو المطعم بن عدي بن نوفل القرشي النوفلي، وهو أحد المشركين الذين كانوا يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
(ثُمَّ كَلَّمَنِي) شفاعة.
(فِي هَؤُلَاءِ اَلنَّتْنَي) جمع نتن بالتحريك بمعنى منتن كزمن وزمنى، وإنما سماهم نتنى إما لرجسهم الحاصل من كفرهم على التمثيل أو لأن المشار إليه أبدانهم وجيفهم الملقاة في قليب بدر.
(لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) أي: لتركتهم لأجله بدون فداء.
وإنما قال صلى الله عليه وسلم كذلك لأنها كانت للمطعم عنده يد، وهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل في جواره لما رجع من الطائف وذب المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأحب أنه إن كان حيا فكافأه عليها بذلك، والمطعم المذكور هو والد جبير الراوي لهذا الحديث. (عون المعبود).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز المنّ على الأسير وإطلاقه بدون فداء.
قال الخطابي: في الحديث إطلاق الأسير والمن عليه بغير فداء.
قال بن بطال: وجه الاحتجاج به أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز، فدل على أن للإمام أن يمن على الأسارى بغير فداء خلافاً لمن منع ذلك كما تقدم. (الفتح).
•
على ماذا يدل هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
يدل على حسن خلقه ورده للجميل، ومكافأة من أسدى إليك معروفاً.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ) وفي رواية (مكارم الأخلاق) رواه أحمد.
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) رواه أبوداود.
والإسلام جاء بحفظ الجميل والمعروف.
كحديث الباب.
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاس) رواه أحمد.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوما من الأيام، فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا، فقد أبدلك الله عز وجل خيرا منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال:«لا والله ما أخلف الله لي خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني من مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل الأولاد منها، إذ حرمني أولاد النساء» قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: بيني وبين نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً.
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا ذبح الشاة قال (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة، فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها) وفي رواية (إني رزقت حبها).
وروت عائشة رضي الله عنها قالت (جاءت عجوز إلى النبي عليه السلام وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أنت؟)، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) أخرجه الحاكم.
ولقد أعطى صلى الله عليه وسلم عمه العباس قميصه لما جئ به أسيراً يوم بدر، رداً للجميل ووفاء لمواقفه معه وبخاصة في بيعة العقبة.
وليس ذلك خلقاً منه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته وعشيرته بل مع جميع أصحابه فها هو صلى الله عليه وسلم يذكر فضل أبي بكر ومواقفه الطيبة معه فيقول: مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِى بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ. رواه الترمذي.
كان عبد الله بن سلام متآخيا لأبي الدرداء، بينهما أخوة ومحبة ومودة، فلما مات عبدالله بن سلام ذهب ولده يوسف إلى الشام ليسأل عن أبي الدرداء لم يذهب إلا تجديداً للعهد، ورعاية للحرمة والألفة وتأدية للحقوق، فإن أبا الدرداء كان محباً لعبد الله بن سلام. فجاءه يوسف وهو يحتضر، قد قارب مفارقة الدنيا، ففرح به أبو الدرداء.
وكان ابن عمر يمشي في الصحراء على دابته فقابله أعرابي فتوقف ابن عمر ونزل، ووقف معه، وقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى، ثم ألبسه عمامة كانت عليه وقال له: اشدد به رأسك، ثم أعطاه دابته وقال: اركب هذا، فتعجب أصحاب ابن عمر، وقالوا له: إن هذا من الأعراب، وهم يرضون بالقليل، فقال: إن أبا هذا كان وِدّاً لعمر. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي. رواه مسلم.
1288 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَتَحَرَّجُوا، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(أَصَبْنَا سَبَايَا) بفتح السين المهملة، جمع سَبيّة، مثل عَطيّة وعَطَايا، وهي فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي مسِبيّة.
(يَوْمَ أَوْطَاسٍ) قال النوويّ: أوطاس": موضع عند الطائف.
(لَهُنَّ أَزْوَاجٌ) أي: الذين قاتلوهم، وانتصروا عليهم.
(فَتَحَرَّجُوا) وفي رواية (من غشيانهن) يعني أنهم خافوا الوقوع في الحرج، وهو الإثم بسبب غشيانهنّ، أي وطئهنّ، من أجل أنهنَّ ذوات أزواج، والمزوّجة لا تحلّ لغير زوجها. زاد في رواية مسلم:"من أجل أزواجهنّ من المشركين". قال القرطبيّ: أي ظنّوا أن نكاح أزواجهنّ لم تنقطع عصمته.
(فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وفي رواية أخرى (أي: فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهن).
قوله (وَالْمُحْصَنَاتُ) بالرفع عطف على المحرّمات السابقة في قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) الآية أي حرّمت عليكم نكاح المحصنات، أي ذوات الأزواج، فإنهنّ حرام على غير أزواجهنّ، إلا ما ملكتم بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح أزواجهن الكفار، وتحلّ لكم، إذا انقضى استبراؤها.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز وطء المسبية بعد استبرائها، إما بوضع الحمل إن كانت حاملاً أو بحيضة واحدة إن كانت إن كانت غير حامل.
لقوله (: فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهن).
قال النووي: وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ (إِذَا اِنْقَضَتْ عِدَّتهنَّ) أَيْ: اِسْتِبْرَاؤُهُنَّ، وَهِيَ بِوَضْعِ الْحَمْل عَنْ الْحَامِل، وَبِحَيْضَةٍ مِنْ الْحَائِل كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
فلا يجوز وطء حامل مسبيّة حتى تضع.
فقد أخرج مسلم عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَتَى بامرأة مُجِحٍّ على باب فُسطاط، فقال:"لعله يُريد أن يُلِمَّ بها؟ "، فقالوا: نعم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن ألعنه، لعنا يدخل معه قبره، كيف يُوَرِّثُهُ، وهو لا يحل له؟، كيف يستخدمه، وهو لا يحل له؟)
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن نكاح المشركين ينفسخ إذا سُبيت زوجاتهم؛ لدخولها في ملك سابيها.
-بيان سبب نزول هذه الآية، وبيان المعنى المراد منها.
- أن فيه دلالة على وجوب توقّف الإنسان، وبحثه، وسؤاله عما لا يتحقّق وجهه، ولا حكمه، وهو دأب من يخاف اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يُختَلَف في أن ما لا يتبيّن حكمه لا يجوز الإقدام عليه. قاله القرطبيّ.
- أن فيه دلالةً للمذهب المختار، وهو مذهب جماهير العلماء أن العرب يجري عليهم الرقّ كما يجري على العجم، وأنهم إذا كانوا مشركين، وسُبُوا، جاز استرقاقهم؛ لأن الصحابة سبوا هوازن، وهم عبدة الأوثان، وقد استرقّوهم، ووطئوا سباياهم،. وبهذا قال مالك، والشافعيّ في قوله الصحيح الجديد، وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة، والشافعيّ في قوله القديم: لا يَجري عليهم الرّقّ؛ لشرفهم.
- أن المراد بعدّة المسبيّات تحقّق براءة رحمهنّ، وذلك بوضع حملها، إن كانت حاملًا، وبحيضة إن كانت غير حامل.
1289 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةٍ وَأَنَا فِيهِمْ، قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلاً كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اِثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً، وَنُفِّلُوا بَعِيراً بَعِيراً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعث: أي أرسل.
(سَرِيَّةٍ) بفتح السين المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة: هي القطعة من الجيش، فَعِيلةٌ بمعنى فاعلة، سُمّيت بذلك؛ لأنها تَسرِي فِي خُفية، والجمع سَرَايا، وسَرِيّات، مثلُ عطيّة، وعطايا، وعطيّات.
(قِبَلَ نَجْدٍ) أي: جهة نجد، وهي قلب الجزيرة العربية.
(فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اِثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً) بضم السين جمع سهم هي نصيبهم من الغنيمة، والمراد أنه بلغ نصيب كل واحد منهم هذا القدر، وتوهّم بعضهم أن ذلك جميع الأنصباء، قال النووي: وهو غلط، فقد جاء في بعض روايات أبي داود أن الاثني عشر بعيراً كانت سهمان كل واحد من الجيش والسرية، ونفّل السرية سوى هذا بعيراً بعيراً.
(وَنُفِّلُوا) التنفيل: هي زيادة يزاد الغازي على نصيبه من المغنم.
قال القرطبي: هذه السرية خرجت من جيش بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، فلما غنمت قسم ما غنمت على الجيش والسرية، فكانت سهمان؛ كل واحد من الجيش والسَّرية اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ثم زيد أهل السَّرية بعيرًا بعيرًا، فكان لكل إنسان من أهل السَّريه ثلاثة عشر بعيرًا، ثلاثة عشر بعيرًا، بيّن ذلك ونصّ عليه أبو داود من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، عن ابن عمر، ولهذا قال مالك، وعامة الفقهاء: إن السَّرية إذا خرجت من الجيش فما غنمته كان مقسومًا بينها وبين الجيش. ثم إن رأى الإمام أن ينفلهم من الخمس جاز عند مالك، واستُحبّ عند غيره. وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: إلى أن النفل من جملة الغنيمة بعد إخراج الخمس، وما بقي للجيش، وحديث ابن عمر يرد على هؤلاء، فإنه قال فيه: فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد مشروعية التنفيل، وذلك بتخصيص من له أثر في الحرب بشيء من المال زيادة على نصيبه من الغنيمة.
جاء في بداية المجتهد: اتفق العلماء على جواز تنفيل الإمام من الغنيمة.
•
ما فائدة النفل؟
التحريض على القتال، والتحريض على القتال مأمور به أمير الجيش (القائد) قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ). وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل من قام مقامه من أمته.
جاء في بدائع الصنائع: الحاجة تدعو إلى التنفيل لاختصاص بعض الغزاة بزيادة شجاعة، لأنه لا ينقاد طبعه لإظهارها إلا بالترغيب بزيادة من المصاب بالتنفيل.
فيحسن بالإمام أو قائده أن ينفل من الغنيمة ما يرى أن فيه مصلحة للمسلمين. والله أعلم.
•
هل التنفيل يكون من كل الغنيمة أم من بعضها؟
الصحيح أن التنفيل يكون في كل الغنيمة، وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال النووي: ثُمَّ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّ التَّنْفِيل يَكُون فِي كُلّ غَنِيمَة، سَوَاء الْأُولَى وَغَيْرهَا، وَسَوَاء غَنِيمَة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغَيْرهمَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَة مِنْ الشَّامِيِّينَ: لَا يُنَفَّل فِي أَوَّل غَنِيمَةِ وَلَا يُنَفَّل ذَهَبًا وَلَا فِضَّة. (نووي).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- مشروعية بعث السرايا في الجهاد.
- بيان أن الجيش إذا انفرد منه قطعة، فغنموا شيئاً كانت الغنيمة للجميع، قال ابن عبد البر: لا يختلف الفقهاء في ذلك، أي: إذا خرج الجيش جميعه، ثم انفردت منه قطعة.
وقال القرطبي: دل حديث ابن عمر على أن السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أن العسكر شركاؤهم. (التفسير).
- حل الغنيمة لهذه الأمة.
1290 -
وَعَنْهُ قَالَ (قَسَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ: (أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْماً لَهُ).
===
(لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ) زيادة على سهم صاحبه، فيكون للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، كما في رواية أبي داود.
وفي رواية للبخاري (جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً) فيصير للفارس ثلاثة أسهم.
(وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) الراجل: هو الماشي على رجليه.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد كيفية تقسيم الغنائم بين المجاهدين، والذي يقسم من الغنيمة للمجاهدين أربعة أخماس، ويكون:
للفرس سهمين ولصاحبه سهم، فيكون المجموع ثلاثة أسهم.
وللراجل سهم واحد.
وهذا ما عليه أكثر العلماء.
قال ابن قُدامة: أكثر أهل العلم على أن الغنيمة للفارس منها ثلاثة أسهم، سهمٌ له، وسهمان لفرسه، وللراجل سهم.
قال ابن المنذر: هذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعوامّ علماء الإسلام في القديم والحديث، منهم: مالك، ومن تبعه من أهل المدينة، والثوريّ، ومن وافقه من أهل العراق، والليث بن سعد، ومن تبعه من أهل مصر، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد. (المغني).
وقال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَهْم الْفَارِس وَالرَّاجِل مِنْ الْغَنِيمَة؛ فَقَالَ الْجُمْهُور: يَكُون لِلرَّاجِلِ سَهْم وَاحِد وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَة أَسْهُم، سَهْمَانِ بِسَبَبِ فَرَسه وَسَهْم بِسَبَبِ نَفْسه.
مِمَّنْ قَالَ بِهَذَا اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَابْن جَرِير وَآخَرُون. (نووي).
•
هل هذا يشمل لكل فرس؟
نعم يشمل كل فرس، سواء كان الفرس هجيناً - وهو غير العربي - أو كان عربياً فإن للفرس سهمين.
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ) وَهَذِهِ مِنْ الْخَيْلِ.
وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ فَرَسٍ.
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَرَبِيُّ وَغَيْرُهُ، كَالْآدَمِيِّ.
وقال بعض العلماء: الفرس الهجين أو البرذون له سهم واحد لا سهمان.
قال في عمدة الفقه: وإن كان الفرس غير عربي، فله سهم ولصاحبه سهم. (العمدة).
واستدلوا بما رواه أبوداود في مراسيله عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين والهجين سهماً.
وله شاهد مرسل من حديث خالد بن معدان في مراسيل أبي دواد.
وله شاهد عن ابن عباس كما في المجمع.
•
هل يسهم لأكثر من فرس؟
ذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم لأكثر من فرس.
قال النووي: وَلَوْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُسْهَم إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِد. هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور مِنْهُمْ الْحَسَن وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن رضي الله عنهم.
قال ابن قدامة: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرِ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ.
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَمْ يُسْهَمْ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا، كَالزَّائِدِ عَنْ الْفَرَسَيْنِ. (المغني).
•
ما الحكمة من هذه القسمة؟
أن فعل الفارس أقوى من فعل الراجل في الكر والفر.
قال القرطبي: وقد روي من طريق صحيح عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم، سهمًا له، وتفرسه سهمين. ذكره أبو داود. وفي البخاري عن ابن عمر: جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا.
ومن جهة المعنى: إن مؤن الفارس أكثر، وغناؤه أعظم، فمن المناسب أن يكون سهمه أكثر من سهم الرَّاجل. (المفهم).
•
هل يسهم لغير الخيل من البهائم إذا حضرت القتال؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا شيء لها.
قال ابن قدامة:
…
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ.
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ.
كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِغَيْرِ الْخَيْلِ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَلَمْ تَخْلُ غَزَاةٌ مِنْ غَزَوَاتِهِ مِنْ الْإِبِلِ، بَلْ هِيَ كَانَتْ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهَا، وَلَوْ أَسْهَمَ لَهَا لَنُقِلَ، وَكَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُلَفَائِهِ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ غَزَوَاتِهِمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ، وَلَوْ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. (المغني).
ثم قال ابن قدامة: وَمَا عَدَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، مِنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفِيَلَةِ وَغَيْرِهَا، لَا يُسْهَمُ لَهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ عَظُمَ غَنَاؤُهَا، وَقَامَتْ مَقَامَ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُسْهِمْ لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهَا، كَالْبَقَرِ.
•
هل يسهم للنساء والصبيان؟
لا يسهم لهم، وإنما يرضخ لهم.
وهذا قول أكثر العلماء.
أ- عن ابن عباس قال (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ). رواه مسلم
ب- وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ (شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاع). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
قال ابن قدامة: قوله (وَيُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ، وَلَا تَقْدِيرَ لِمَا يُعْطُونَهُ، بَلْ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَإِنْ رَأَى التَّفْضِيلَ فَضَّلَ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.
ثم ذكر الأدلة السابقة ثم قال:
ج- وَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا، كَالصَّبِيِّ.
وقال الشوكاني: وقد اختلف أهل العلم هل يسهم للنساء إذا حضرت.
فقال الترمذي: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِىِّ. وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِي.
ثم قال: والظاهر أنه لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد والذميين، وما ورد من الأحاديث مما فيه إشعار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لأحد من هؤلاء فينبغي حمله على الرضخ وهو العطية القليلة جمعاً بين الأحاديث.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الحض على اكتساب الخيل واتخاذها للغزو.
- إعطاء كل ذي حق حقه.
- فضل هذه الأمة حيث أبيحت لهم الغنائم، وهي من خصائص هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي:
…
وأحلت لي الغنائم) متفق عليه.
قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوا وجاءت نار فأحرقته.
1291 -
وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ اَلْخُمُسِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلطَّحَاوِيُّ.
===
•
ما معنى (لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ اَلْخُمُسِ)؟
المعنى: أنه لا يزاد الغازي على سهمه من الغنيمة إلا بعد إخراج الخُمس من الغنيمة.
فالتنفيل يكون من أربعة أخماس الغنيمة.
1292 -
وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةٍ رضي الله عنه قَالَ (شَهِدْتُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ اَلرُّبْعَ فِي اَلْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي اَلرَّجْعَةِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ اَلْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
===
(نَفَّلَ اَلرُّبْعَ) أي: أعطى ربع الغنيمة نفلاً بعد الخمس.
(وَالثُّلُثَ فِي اَلرَّجْعَةِ) أي: وأعطى ثلث الغنيمة حين رجوعهم.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش، فتغير على العدو، وتغنم منه، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم، تقديرًا لأعمالهم، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزاة، لكن إن كانت غارة السرية في ابتداء سفر الغزو، والمجاهدين، فتعطى ربع ما غنمت، وإن كانت غارة السرية بعد عودة المجاهدين، فتعطى ثلث ما غنمت. (توضيح الأحكام).
•
ما معنى الحديث؟
قال الخطابي بعد نقله كلام ابن المنذر في تفسير الحديث
…
والبدأة إنما هي ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فإذا وقعت بطائفة من العدو فما غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفول أشد لكون العدو على حذر وحزم انتهى وما قاله هو الأقرب. (سبل السلام).
قال ابن قدامة: النَّفَلُ فِي الْغَزْوِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ مِنْ شَيْءٍ، أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَهُمْ، وَهُوَ رُبْعُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خُمُسٌ آخَرُ، ثُمَّ قَسَمَ مَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ.
فَإِذَا قَفَلَ، بَعَثَ سَرِيَّةً تُغِيرُ، وَجَعَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَسَمَ سَائِرَهُ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ. (المغني).
•
ما الحكمة من هذا التفريق؟
قال البسام: ووجه زيادة أفراد السرية في حالة القفول على حالة البدء، أنَّها في حالة القفول قد فقدت السند الذي تتقوى به، والجيش الذي تأوي إليه، والفئة التي تنحاز إليها، بخلاف حال البدء، فإنَّ الجيش يسندها، ويقويها، ويؤمها، كما أنَّ الغزو في حالة القفول في حال شوق ورغبة إلى أهله ووطنه، ومتشوف لسرعة الأوبة، لهذا -والله أعلم- استحقت السرية زيادة التنفيل في حالة الرجعة. (توضيح الأحكام).
•
هل للإمام أن ينفل أكثر من الثلث؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ،
قال ابن قدامة: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
لأن نَفْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى إلَى الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُ.
القول الثاني: لَا حَدَّ لِلنَّفْلِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وهو قول الشافعي.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ مَرَّةً الثُّلُثَ، وَأُخْرَى الرُّبُعَ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ.
فَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْلِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ الْإِمَامُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِهِ.
قال الصنعاني: وقال آخرون للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمت لقوله تعالى (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ففوضها إليه صلى الله عليه وسلم والحديث لا دليل فيه على أنه لا ينفل أكثر من الثلث.
•
ما صفة التنفيل؟
صفة التنفيل: أنَّ السرية التي تنهض في جملة العسكر، إذا أوقعت بالعدو، فما غنموا في البداءة، كان لهم فيه الربع، وما غنموا في القفول، كان لهم فيه الثلث، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة الأرباع، أو في الثلثين.
1293 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ اَلسَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ اَلْجَيْشِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش فتغير على العدو وتغنم منه، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم تقديراً لأعمالهم، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزو.
ونستفيد أن التنفيل ليس أمراً حتمياً، ولكنه راجع إلى رأي الإمام، والإمام يجب أن يراعي المصلحة إن اقتضى التنفيل فعل وإلا فلا.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- فيه بعث السرايا.
- الترغيب في تحصيل مصالح القتال.
1294 -
وَعَنْهُ قَالَ (كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا اَلْعَسَلَ وَالْعِنَبَ، فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ (فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ اَلْخُمُسُ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
1295 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ (أَصَبْنَا طَعَاماً يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ اَلرَّجُلُ يَجِيءُ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ اَلْجَارُودِ، وَالْحَاكِمُ.
===
(فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ) قال ابن حجر: أي: ولا نحمله على سبيل الادخار، ويحتمل أن يريد ولا نرفعه إلى متولى أمر الغنيمة أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا نستأذنه في أكله، اكتفاء بما سبق منه من الإذن. (الفتح).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز الأكل من الفاكهة والطعام الذي يصيبه المجاهدون في أرض الحرب، ولا يحتاج ذلك إلى إذن الإمام.
ومن الأدلة أيضاً:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا وَعَسَلاً فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ) رواه أبو داود.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ (أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ - قَالَ - فَالْتَزَمْتُهُ فَقُلْتُ لَا أُعْطِى الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا - قَالَ - فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَسِّمًا) متفق عليه.
قال الخطابي: لا أعلم خلافاً بين الفقهاء في أن الطعام لا يخمس في جملة ما يخمس من الغنيمة، وأن لواجده أكله ما دام الطعام في حد القلة، وعلى قدر الحاجة، وما دام صاحبه مقيماً في دار الحرب، وهو مخصوص من عموم الآية ببيان النبي صلى الله عليه وسلم كما خص منها السلب وسهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي.
ورخص أكثر العلماء في علف الدواب، ورأوه في معنى الطعام للحاجة إليه. (معالم السنن).
وقال النووي: أَمَّا (الْجِرَاب) فَبِكَسْرِ الْجِيم وَفَتْحهَا لُغَتَانِ الْكَسْر أَفْصَح وَأَشْهَر، وَهُوَ وِعَاء مِنْ جِلْد.
وَفِي هَذَا إِبَاحَة أَوَّل طَعَام الْغَنِيمَة فِي دَار الْحَرْب، قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز أَكْل طَعَام الْحَرْبِيِّينَ مَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَار الْحَرْب، فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ قَدْر حَاجَاتهمْ، وَيَجُوز بِإِذْنِ الْإِمَام وَبِغَيْرِ إِذْنه، وَلَمْ يَشْتَرِط أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء اِسْتِئْذَانه إِلَّا الزُّهْرِيّ، وَجُمْهُورهمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُخْرِج مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى عِمَارَة دَار الْإِسْلَام، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَزِمَهُ رَدّه إِلَى الْمَغْنَم، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَلْزَمهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع شَيْء مِنْهُ فِي دَار الْحَرْب وَلَا غَيْرهَا، فَإِنْ بِيعَ مِنْهُ شَيْء لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ كَانَ بَدَله غَنِيمَته، وَيَجُوز أَنْ يُرْكَب دَوَابّهمْ، وَيُلْبَس ثِيَابهمْ، وَيُسْتَعْمَل سِلَاحهمْ فِي حَال الْحَرْب بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَفْتَقِر إِلَى إِذْن الْإِمَام، وَيَشْرِط الْأَوْزَاعِيُّ إِذْنه، وَخَالَفَ الْبَاقِينَ. (نووي).
1296 -
وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ اَلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ اَلْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيه) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ.
===
(حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا) أي: أتعبها.
(حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ) أي: أتلفه.
•
ما صحة حديث الباب؟
إسناده حسن، من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح بالسماع عند أحمد.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم أخذ الأشياء التي من أعيان الغنيمة، وما سيقسم بين الغانمين، ولو كان ذلك على وجه الاستعمال، ثم يرده إلى الغنيمة.
وذلك مثل أخذ دابة. من الغنيمة، أو من الفيء، فيستغلها، ثم يعيدها، أو يأخذ ثوبًا، أو فراشًا من الفيء، أو الغنيمة: فيستعمله، ثم يرده في الغنيمة، فهذا لا يجوز؛ لأنَّه من أنواع الغلول، فهو اغتصاب لمنافع مشتركة. (توضيح الأحكام).
قال الخطابي: أما في حال الضرورة وقيام الحرب فلا أعلم بين أهل العلم اختلافاً في جواز استعمال سلاح العدو ودوابهم، فأما إذا انقضت الحرب فإن الواجب ردها في المغنم، فأما الثياب والخُرثيّ والأدوات فلا يجوز أن يستعمل شيء منها إلاّ أن يقول قائل الثياب أنه إذا احتاج إلى شيء منها حاجة ضرورة، كان له أن يستعمله مثل أن يشتد البرد فيستدفي بثوب ويتقوى به على المقام في بلاد العدو مرصداً لقتالهم. (معالم السنن).
وقال ابن حجر: واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم في حال الحرب ورد ذلك بعد انقضاء الحرب. (فتح الباري).
1297 -
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ اَلْجَرَّاحِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (يُجِيرُ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
1298 -
وَلِلْطَيَالِسِيِّ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِوِ بْنِ الْعَاصِ (يُجِيرُ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ).
1299 -
وَفِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ (ذِمَّةُ اَلْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بهَا أَدْنَاهُمْ).
1300 -
زَادَ اِبْنُ مَاجَه مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ).
1301 -
وَفِي "اَلصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثٍ أَمِ هَانِئٍ (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ).
===
(يُجِيرُ) بضم الياء، من الإجارة، وهي إعطاء الأمان.
(يَسْعَى بهَا أَدْنَاهُمْ) أي: أضعفهم.
قَالَ فِي (النهاية) الذمّة، والذّمام: بمعنى: العهد، والأمان، والضمان، والحرمة، والحق: أي إذا أعطى أحدٌ لجيش العدوّ أمانًا جاز ذلك عَلَى جميع المسلمين، وليس لهم أن يُخْفِرُوه، ولا أن ينقضوا عليه عهده.
وَقَالَ السنديّ: أي ذمّتهم فِي يد أقلّهم عددًا، وهو الواحد، أو أسفلهم رُتْبةً، وهو العبد، يمشي به، يَعقده لمن يرى منْ الكفرة، فإذا عقد حصل له الذمّة منْ الكلّ. انتهى.
ودخل فِي قوله (أدناهم) كلّ وضيع بالنصّ، وكلّ شريف بالفحوى، فدخل فِي أدناهم المرأة، والعبد، والصبيّ، والمجنون. قاله فِي الفتح
(ذِمَّةُ اَلْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) الذمة الأمان والعهد.
(أَقْصَاهُمْ) أي: أبعدهم داراً.
(قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ) أي: أجزنا جواركِ.
•
ما صحة أحاديث الباب؟
حديث أبي عبيدة في سنده ضعف كما قال المصنف رحمه الله.
وحديث عمرو بن العاص سنده ضعيف، فيه رجل مبهم.
•
ماذا نستفيد من هذه الأحاديث؟
نستفيد صحة الأمان للكافر إذا صدر من أي مسلم كان، رجلاً أو امرأة، حراً أو عبداً.
فجماهير العلماء على صحة أمان المرأة والعبد.
قال ابن قدامة: أَنَّ الْأَمَانَ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ.
وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا.
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ.
لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ، كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ مَصْلَحَتِهِمْ.
أ- وَلَنَا، مَا رُوِيَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ب- وَرَوَى فُضَيْلٍ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، قَالَ: جَهَّزَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشًا، فَكُنْت فِيهِ، فَحَصَرْنَا مَوْضِعًا، فَرَأَيْنَا أَنَّا سَنَفْتَحُهَا الْيَوْمَ، وَجَعَلْنَا نُقْبِلُ وَنَرُوحُ، فَبَقِيَ عَبْدٌ مِنَّا، فَرَاطَنَهُمْ وَرَاطَنُوهُ، فَكَتَبَ لَهُمْ الْأَمَانَ فِي صَحِيفَةٍ، وَشَدَّهَا عَلَى سَهْمٍ، وَرَمَى بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهَا، وَخَرَجُوا، فَكُتِبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ.
رَوَاهُ سَعِيدٌ.
ج- وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْحُرِّ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التُّهْمَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أُذِنَ لَهُ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَبِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّ أَمَانَهَا يَصِحُّ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا
قَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ.
وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجَرْت أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمَّ هَانِئٍ، إنَّمَا يُجْهِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ).
وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (المغني).
•
هل يصح أمان الصبي المميز؟
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، كَالْمَجْنُونِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ أَمَانُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَصِحُّ أَمَانُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَنْعِ عَلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ.
وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ.
وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُمَيِّزٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْبَالِغِ، وَفَارَقَ الْمَجْنُونَ، فَإِنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَصْلًا. (المغني).
وقال ابن حجر: قَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى جواز أمان المرأة، إلا شيئا ذكره عبد الملك -يعني ابن الماجشون، صاحب مالك- لا أحفظ ذلك عن غيره، قَالَ: إن أمر الأمان إلى الإِمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك، عَلَى قضايا خاصة، قَالَ ابن المنذر: وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم (يسعى بذمتهم أدناهم) دلالة عَلَى إغفال هَذَا القائل. انتهى.
وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون، فَقَالَ: هو إلى الإِمام، إن أجازه جاز، وأن رده رد.
وأما العبد، فأجاز الجمهور أمانه، قاتل أو لم يقاتل.
وَقَالَ أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه، وإلا فلا. وَقَالَ سحنون: إذا أذن له سيده فِي القتال صح أمانه، وإلا فلا.
وأما الصبي، فَقَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى أن أمان الصبي غير جائز. قَالَ الحافظ: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة.
وأما المجنون، فلا يصح أمانه بلا خلاف، كالكافر.
•
هل يصح أمان الكافر؟
لا يصح.
قال ابن قدامة: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) فَجَعَلَ الذِّمَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ.
وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ.
وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ مَجْنُونٍ، وَلَا طِفْلٍ، لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ.
وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ زَائِلِ الْعَقْلِ، بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ إغْمَاءٍ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ.
وَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْإِقْرَارِ. (المغني).
•
اذكر أنواع الأمان كما ذكره ابن قدامة؟
قال ابن قدامة:
أ- وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ.
لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
ب- وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ.
لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
ج- وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلْوَاحِدِ، وَالْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ.
لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا حَدِيثَهُ.
وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ، وَرُسْتَاقٍ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. (المغني).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- يجوز للمسلم أن يعطي الكافر الأمان ولو بغير إذن الإمام.
- تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل الدليل على خلافه.
- قوله (قد أجرنا من أجرتِ
…
) قال النووي: اسْتَدَلَّ بَعْض أَصْحَابنَا وَجُمْهُور الْعُلَمَاء بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى صِحَّة أَمَان الْمَرْأَة.
- تعظيم الإسلام للعقود حتى مع الكفار.
1302 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَأَخْرِجَنَّ اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ اَلْعَرَبِ، حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِماً) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(لأُخْرِجَنَّ) وعند أحمد (لئن عشت)، وقد جاء الأمر بذلك في حديث ابن عباس الآتي إن شاء الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .....
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم إقامة الكفار في جزيرة العرب، ووجوب إخراجهم، وقد جاءت عدة نصوص بذلك.
أ- حديث الباب.
ب- وعن أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه قال: آخرُ ما تكلَّم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم (أخرجوا يهودَ أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه أحمد.
ج- وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى. فَقُلْتُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ قَالَ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ. فَقَالَ «ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِى» . فَتَنَازَعُوا وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ. وَقَالُوا مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ. قَالَ «دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» . قَالَ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتُهَا).
•
اذكر بعض كلام العلماء في ذلك؟
قال النووي: وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيث مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْعُلَمَاء، فَأَوْجَبُوا إِخْرَاج الْكُفَّار مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب، وَقَالُوا: لَا يَجُوز تَمْكِينهمْ مِنْ سُكْنَاهَا. وَلَكِنَّ الشَّافِعِيّ خَصَّ هَذَا الْحُكْم بِبَعْضِ جَزِيرَة الْعَرَب وَهُوَ الْحِجَاز، وَهُوَ عِنْده مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَأَعْمَالهَا دُون الْيَمَن وَغَيْره مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب بِدَلِيلٍ آخَر مَشْهُور فِي كُتُبه وَكُتُب أَصْحَابه. قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يُمْنَع الْكُفَّار مِنْ التَّرَدُّد مُسَافِرِينَ فِي الْحِجَاز، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَة فِيهِ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام. قَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ: إِلَّا مَكَّة وَحَرَمهَا فَلَا يَجُوز تَمْكِين كَافِر مِنْ دُخُوله بِحَالٍ، فَإِنْ دَخَلَهُ فِي خُفْيَة وَجَبَ إِخْرَاجه، فَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ فِيهِ نُبِشَ وَأُخْرِجَ مَا لَمْ يَتَغَيَّر. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْفُقَهَاء. (نووي).
وقال ابن قدامة: ولا يجوز لأحدٍ منهم سُكنى الحجاز، وبهذا قال مالكٌ و الشافعي؛ إلاَّ أنَّ مالكاً قال: أرى أن يُجلوا من أرض العرب كلِّها؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، وروى أبو داود بإسناده عن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلماً) قال الترمذي: حديث حسنٌ صحيح، وعن ابن عباس قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء: قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) وسكت عن الثالثة، رواه أبو داود.
وقال الحافظ ابن حجر: لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور.
وقال المناوي: وقد أخذ الأئمة بهذا الحديث، فقالوا: يخرج من جزيرة العرب من دان بغير ديننا، ولا يمنع من التردد إليها في السفر فقط. (فيض القدير).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: يجب أن يعلم أنه لا يجوز استقدام الكفرة إلى هذه الجزيرة، لا من النصارى، ولا من غير النصارى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكفرة من هذه الجزيرة، وأوصى عند موته صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من هذه الجزيرة، وهي المملكة العربية السعودية واليمن ودول الخليج، كل هذه الدول داخلة في الجزيرة العربية، فالواجب ألا يقر فيها الكفرة من اليهود، والنصارى، والبوذيين، والشيوعيين، والوثنيين.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "يجب أن نعلم أنه لا يجوز إقرار اليهود والنصارى أو المشركين في جزيرة العرب على وجه السكنى، أمَّا على وجه العمل فلا بأس، بشرط أن لا نخشى منهم محظوراً". (الشرح الممتع على زاد المستقنع: 8/ 82)
•
من الذي يخرج من جزيرة العرب؟
كل من لم يكن مسلماً.
ويدل عليه حديث (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ).
وحديث الباب (لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ).
وفي حديث عائشة. قالت: قال صلى الله عليه وسلم (لا يترك في جزيرة العرب دينان) رواه أحمد والطبراني.
•
هل يدخل فيهم من له عهد أو أمان؟
لا شك أن أصحاب العهد أو الأمان غير داخلين في هذا الحكم، وذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الأمر بالإخراج نص عام والأمر بحفظ دم صاحب العهد نص خاص، فيبقى الخاص مستثناً من هذا العموم، قال صلى الله عليه وسلم (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) رواه البخاري.
الوجه الثاني: أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحاجات بدخول جزيرة العرب، فقد قال لرسولي مسيلمة: " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما) رواه أبو داود.
الوجه الثالث: أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يقوموا بإخراج الأجراء والعبيد، فقد كان قتل عمر رضي الله عنه بالمدينة وكان قاتله عبداً مملوكاً للمغيرة بن شعبة وهو (أبو لؤلؤة المجوسي)، فهذا إجماع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فهم الحديث.
لذا .. فمن اعتدى على أصحاب العهد والأمان واستند على هذا الحديث فقد أخطأ في فهم الحديث وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
•
هل المراد منع دخولهم مطلقاً أم أمر آخر؟
المراد بالأمر بإخراجهم أحد أمرين:
الأول: ألا تكون لهم إقامة دائمة في جزيرة العرب.
والثاني: ألا يكون في جزيرة العرب دين ظاهر بشعائره غير دين الإسلام.
فالأمر الأول: يعني جواز الإقامة المؤقتة غير الدائمة.
والأمر الثاني: يعني جواز بقاء من يدين بغير دين الإسلام في خاصة نفسه بحيث لا يظهر شعائر دينه.
والدليل على هذا من وجهين:
الوجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: " لا يُترك في جزيرة العرب دينان "، مع إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض الكفار بالبقاء في جزيرة العرب حيث عامل يهود خيبر على أموالهم وقال:" نقركم ما أقركم الله "(البخاري 2528)، كما كان يأذن للرسل بدخول الجزيرة، وقد قال الله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربط الأسير الكافر في المسجد.
الوجه الثاني: لم يقم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بإخراج الأجراء والرقيق من جزيرة العرب.
- المخاطب بهذا الأمر هو ولي أمر المسلمين، وليس كل فرد من أفراد المسلمين.
•
ما المراد بجزيرة العرب في الحديث؟
اختلف العلماء في تحديد المراد بجزيرة العرب، إلا أنهم متّفقون على أنها ليست هي الجزيرة العربية التي في اصطلاح الجغرافيين.
فقال الإمام الزهري: جزيرة العرب: المدينة.
وقال المغيرة بن عبد الرحمن: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمن وقرياتها.
وقال مالك: هي مكة والمدينة واليمامة واليمن.
ومنهم من قال: إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصَّة. انتهى. انظر: التمهيد لابن عبد البر (1/ 172)، وفتح الباري (6/ 171)
وألَّف الحسين بن محمد بن سعيد اللاعي المعروف بالمغربي، قاضي صنعاء ومحدثها رسالة في حديث:(أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) رجح فيها: أنه إنما يجب إخراجهم من الحجاز فقط محتجاً بما في رواية بلفظ: (أخرجوا اليهود من الحجاز) البدر الطالع (1/ 230)، والأعلام للزركلي (2/ 256 (.
وقال النووي رحمه الله: لكن الشافعي خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو: الحجاز، وهو [أي: الحجاز]- عنده -: مكة والمدينة واليمامة وأعمالها، دون [أي: ما عدا] اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب).
بل قال ابن حجر عن قول الشافعي رحمهما الله: إنه مذهب الجمهور.
وفي اختيارات ابن تيمية رحمه الله: ويُمنعون من المقام في الحجاز، وهو [أي: الحجاز]: مكة والمدينة واليمامة وينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحني، وهو عقبة الصوان من الشام كمعان) (اختيارات البعلي ص 264).
وقال ابن تيمية رحمه الله: وقد أمر النبي في مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب - وهي الحجاز - فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد) (الفتاوى 28/ 630).
•
ما الدليل على بطلان حمل الحديث على جزيرة العرب التي في اصطلاح الجغرافيِّين؟
ما حكاه ابن حجر رحمه الله من اتّفاق العلماء على إخراج اليمن من الحكم النبوي، مع أنها داخلة في جزيرة العرب عند الجغرافيين.
قال رحمه الله عن جزيرة العرب: لكن الذي يُمنع المشركون من سُكناه منها: الحجاز خاصّة؛ وهو: مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يُطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ لاتّفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها مع أنها مِنْ جُملة جزيرة العرب) (الفتح)
1303 -
وَعَنْهُ قَالَ (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي اَلنَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ اَلْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي اَلْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، عُدَّةً فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي اَلنَّضِيرِ) بنو النضير: إحدى طوائف اليهود الذين سكنوا قرب المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صالحهم، فنقضوا العهد، وغدروا به، فهمُّوا باغتياله، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم على أن يجلوا عن المدينة، ويحقنون دماءهم، أمّا أموالهم فصارت فيئًا.
(مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) الفيء: ما أخذ من أموال الكفار بلا قتال.
(مِمَّا لَمْ يُوجِفْ) أي: لم يسرع.
(وَلَا رِكَابٍ) بكسر الراء هي الإبل.
(فِي اَلْكُرَاعِ) الكُراع: بضم الكاف، وفتح الراء، ثم ألف، آخره عين مهملة بزنة غُراب- هو اسم للخيل، والسلاح.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن أموال بني النضير كانت بالصلح، من الفيء الذي يصرف في مصالح المسلمين، وليس من الغنيمة، التي تقسم بعد أخذ الخُمس منها على المجاهدين.
قال تعالى في أموال بني نضير (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير).
•
اذكر بعض الأمثلة لأموال الفيء؟
(الجزية) وهي ما يوضع على أفراد أهل الذمة من يهود ونصارى، وغيرهم على القول الراجح.
(وخراج) الخراج وهو المال المضروب على الأرض الخراجية التي غنمت ثم وقفت على المسلمين.
(وما تركوه فزعاً) أي: ما تركه الكفار فزعاً منا، يعني لما علموا بأن المسلمين أقبلوا عليهم هربوا وتركوا الأموال، فهذه الأموال أخذت بغير قتال فتكون فيئاً؛ وذلك لأن المقاتلين لم يتعبوا في تحصيلها فلا تقسم بينهم، بل تكون فيئاً يصرف في مصالح المسلمين العامة، كرَزْقِ القضاة، والمؤذنين، والأئمة، والفقهاء، والمعلمين، وغير ذلك من مصالح المسلمين.
(وخمس خمس الغنيمة) فهذا فيء يصرف في مصالح المسلمين.
•
ماذا نستفيد من قوله (فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ)؟
نستفيد جواز ادخار الإنسان لأهله قوت سنة.
فإن قيل: ما الجمع بينه وبين حديث أنس (أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئاً لغد)؟
فالجواب أن هذا الحديث ضعيف.
ولو صح الحديث، فالجمع بينه وبين حديث الباب ما قاله ابن دقيق العيد فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح، أن يحمل حديث (لا يدّخر شيئًا لغد) على الادخار لنفسه، وحديث (ويحبس لأهله قوت سنتهم) على الادخار لغيره.
1304 -
وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا، فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا فِي اَلْمَغْنَمِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
حسن. قال ابن عبد الهادي: رجاله ثقات، قاله ابن القطان.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز تنفيل أمير الغزو بعض المجاهدين بشيء من الغنيمة، ثم رد الباقي في الغنيمة على عامة أفراد الجيش.
وهذا ما ذهب إليه بعض العلماء، إلى أن المراد بالحديث التنفيل.
قال الصنعاني: الحديث من أدلة التنفيل وقد سلف الكلام فيه فلو ضمه المصنف رحمه الله إليها لكان أولى.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحديث، أنه يجوز للإمام أن يقسم بين المجاهدين من الغنم ونحوها من الأنعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب.
قال الشوكاني: فيه دليل على أن الإمام يقسم بين المجاهدين من الغنم ونحوها من الأنعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب ويترك الباقي في جملة المغنم، وهذا مناسب لمذهب الجمهور المتقدم، فإنهم يصرحون بأنه يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به وكل طعام يعتاد أكله على العموم من غير فرق بين أن يكون حيواناً أو غيره. (نيل الأوطار).
1305 -
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ اَلرُّسُلَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
===
(إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ) قال الخطابي: معناه لا أنقض العهد ولا أفسده.
(وَلَا أَحْبِسُ اَلرُّسُلَ) لفظ أبي داود (ولا أحبس البُرُد) جمع بريد وهو الرسول.
•
ما صحة حديث الباب؟
إسناده صحيح.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد وجوب حفظ العهد والوفاء به ولو مع كفار، وتحريم نقضه.
•
اذكر بعض الأمثلة لوفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعهد مع عدوه؟
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام.
أ- فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا: نقول: إنه رسول الله، لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما.
وثبت عنه أنه قال لأبي رافع، وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقام عنده، وأنه لا يرجع إليهم فقال: إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إلى قومك، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع، وثبت عنه أنَّه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم، أن يردَّ إليهم من جاءه منهم مسلماً).
- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم.
•
اذكر الأدلة على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار؟
أ- عن نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُود. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُمَا حِينَ قَرَأَ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ: مَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا) رواه أبو داود.
ب- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ (جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا:" أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟، قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: آمنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا "قَالَ عَبْدُ اللهِ: " قَالَ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ) رواه أحمد.
قال الشوكاني: والحديثان يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين.
فائدة:
جاء حديث في تحريم الغدر:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إذَا جَمَعَ اللَّهُ عز وجل الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ: يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ) متفق عليه.
(لكل غادر) الغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْغَدْر: تَرْكُ الْوَفَاء، (لواء) أي راية.
- ففي الحديث تحريم الغدر وهو حرام بالاتفاق.
- وقوله (لكل غادر لواء) قال النووي: معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك.
قال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف ".
- وفي الحديث غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء.
- ولما كان الغدر من الأمور الخفية، ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب.
- وفي الحديث دليل على أن الإنسان ينسب إلى أبيه في الموقف العظيم.
- وفي الحديث رد لمن قال: إنهم ينسبون لأمهاتهم ستراً عليهم، وقد ورد حديث في هذا الشأن رواه الطبراني وهو قوله صلى الله عليه وسلم (إن الناس يدعون باسم أمهاتهم يوم القيامة ستراً عليهم) وهو حديث ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر.
1306 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا، فَأَقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتْ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنْ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(فَأَقَمْتُمْ فِيهَا) أي: حاصرتموها، فهربوا بدون قتال، فهذه لها حكم الفيء، أما القرية التي عصت، وقام بينكم وبينها قتال، واستوليتم عليها، فلها حكم الغنيمة.
•
ما معنى الحديث؟
قالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأُولَى الْفَيْء الَّذِي لَمْ يُوجِف الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب، بَلْ جَلَا عَنْهُ أَهْله أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ، فَيَكُون سَهْمهمْ فِيهَا، أَيْ: حَقّهمْ مِنْ الْعَطَايَا كَمَا يُصْرَف الْفَيْء، وَيَكُون الْمُرَاد بِالثَّانِيَةِ مَا أُخِذَ عَنْوَة، فَيَكُون غَنِيمَة يُخْرَج مِنْهُ الْخُمُس، وَبَاقِيه لِلْغَانِمِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله:(ثُمَّ هِيَ لَكُمْ) أَيْ بَاقِيهَا.
وَقَدْ يَحْتَجّ مَنْ لَمْ يُوجِب الْخُمُس فِي الْفَيْء بِهَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّافِعِيّ الْخُمْس فِي الْفَيْء كَمَا أَوْجَبُوهُ كُلّهمْ فِي الْغَنِيمَة، وَقَالَ جَمِيع الْعُلَمَاء سِوَاهُ: لَا خُمُس فِي الْفَيْء، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: لَا نَعْلَم أَحَدًا قَبْل الشَّافِعِيّ قَالَ بِالْخُمُسِ فِي الْفَيْء. وَاَللَّه أَعْلَم.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- هذا الحديث يبيِّن الفرق بين الأموال، التي تؤخذ من الكفار بحق، فنوع يؤخذ بلا قتال فهذا فيء، ونوع يؤخذ بقتال فهذا غنيمة، ولكل منهما حكمه.
- فما أخذه المسلمون من مال الكفار بحق، ولكن بغير قتال، وإنما تركوه فزعًا منا، وكذا الجزية، والخراج، ومال المرتد إذا مات على ردته بقتل أو غيره، فهذا فيء يصرف في مصالح المسلمين العامة، ومرافقهم النافعة، ومِن أهمها الجهاد في سبيل الله بالسلاح، أو بالدعوة إلى الله.
- وما أخذه المسلمون من أموال الكفار بحق، وحصل منهم قهرًا بقتال، فهذا غنيمة، يقسمها الأمير خمسة أقسام، قسم منها يكون تابعًا للفيء، فيكون مصرفه على الصالح العالم للمسلمين، والأربعة الأخماس الباقية تقسم بين الغانمين: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه.
بَاب اَلْجِزْيَةَ وَالْهُدْنَةَ
الجزية:
قال ابن قدامة: الجزية هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام.
والهدنة: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره.
1307 -
عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا - يَعْنِي: اَلْجِزْيَةُ - مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.
وَلَهُ طَرِيقٌ فِي "اَلْمَوْطَأِ" فِيهَا اِنْقِطَاع.
===
(مِنْ مَجُوسِ) المجوس قوم يعبدون النور والنار والظلمة، والشمس والقمر.
(هَجَرَ) اسم لجميع أرض البحرين، ومنها الأحساء.
(وَلَهُ طَرِيقٌ فِي "اَلْمَوْطَأِ" فِيهَا اِنْقِطَاع) روى مالك في "الموطأ" عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه. أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب، قال الحافظ في الفتح: هذا منقطع مع ثقة رجاله.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن الجزية تؤخذ من المجوس كما تؤخذ من اليهود والنصارى.
1308 -
وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْثٍ خَالِدُ بْنُ اَلْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فَأَخَذُوهُ، فَحَقَنَ دَمِهِ، وَصَالَحَهُ عَلَى اَلْجِزْيَةِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
===
(دُومَةَ) بضم الدال وسكون الواو، هي دومة الجندل، وهي الآن مدينة عامرة.
•
ما صحة حديث الباب؟
إسناده حسن.
•
ماذا نستفيد من حديث؟
استدل به من قال من العلماء إن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، ومنهم كفار العرب.
وقد تقدمت المسألة في حديث بريدة، وخلاصتها:
القول الأول: أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس فقط.
وبهذا قال الشافعية، والحنابلة، وهو قول ابن حزم.
القول الثاني: أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس ومشركي العجم خاصة دون مشركي العرب.
وهذا قول الحنفية.
القول الثالث: أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار دون استثناء.
وهذا قول المالكية، واختيار ابن تيمية، وابن القيم.
•
اذكر ما تعرفه عن أكيدر دومه؟
قال ابن القيم: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَكَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَالِدٍ إنّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَافِيَةٍ وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطّ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ. قَالَتْ فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ؟ قَالَ لَا أَحَدَ فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ حَسّانُ فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ فَلَمّا خَرَجُوا تَلَقّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوّصٍ بِالذّهَبِ فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ ثُمّ إنّ خَالِدًا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ فَرَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ. (زاد المعاد).
- عَنْ عَلِىٍّ (أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ حَرِيرٍ فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا فَقَالَ «شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ) متفق عليه.
قَالَ فِي الفتح (وأكيدر دومة) هو أكيدر تصغير أكدر، ودومة بضم المهملة، وسكون الواو: بلد بين الحجاز والشام، وهي دومة الجندل، مدينة بقرب تبوك، بها نخل، وزرع، وحصن عَلَى عشر مراحل منْ المدينة، وثمان منْ دمشق، وكان أكيدر ملكها، وهو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن -بالجيم والنون- ابن أعباء بن الحارث ابن معاوية، ينسب إلى كندة، وكان نصرانيا، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل إليه خالد بن الوليد فِي سرية، فأسره، وقتل أخاه حسان، وقدم به المدينة، فصالحه النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الجزية، وأطلقه.
ورَوَى أبو يعلى بإسناد قوي، منْ حديث قيس بن النعمان: أنه لَمّا قَدِم أخرج قباء منْ ديباج، منسوجاً بالذهب، فرَدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ثم إنه وجد فِي نفسه منْ رد هديته، فرجع به، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم ادفعه إلى عمر
…
الْحَدِيث.
وفي حديث عليّ عند مسلم: أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه علياً، فَقَالَ: شققه خمراً بين الفواطم.
فيستفاد منه أن الحلة التي ذكرها عليّ رضي الله عنه فِي حديثه السابق هي هذه التي أهداها أُكيدر. (الفتح).
- الأكثر على أنه لم يسلم.
قال النووي: وَأَمَّا (أُكَيْدِرُ) فَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَفَتْح الْكَاف، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْن عَبْد الْمَلَك الْكِنْدِيّ. قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه الْمُبْهَمَات: كَانَ نَصْرَانِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ. قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَ اِبْن مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْم الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابَيْهِمَا فِي مَعْرِفَة الصَّحَابَة: إِنَّ أُكَيْدِرًا هَذَا أَسْلَمَ، وَأَهْدَى إِلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم حُلَّة سِيَرَاء. قَالَ اِبْن الْأَثِير فِي كِتَابه مَعْرِفَة الصَّحَابَة. أَمَّا الْهَدِيَّة وَالْمُصَالَحَة فَصَحِيحَانِ، وَأَمَّا الْإِسْلَام فَغَلَط. قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِم بِلَا خِلَاف بَيْن أَهْل السِّيَر، وَمَنْ قَالَ أَسْلَمَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأ فَاحِشًا. قَالَ: وَكَانَ أُكَيْدِرُ نَصْرَانِيًّا، فَلَمَّا صَالَحَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَادَ إِلَى حِصْنه، وَبَقِيَ فِيهِ، ثُمَّ حَاصَرَهُ خَالِد بْن الْوَلِيد فِي زَمَان أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رضي الله عنه، فَقَتَلَهُ مُشْرِكًا نَصْرَانِيًّا، يَعْنِي لِنَقْضِهِ الْعَهْد قَالَ: وَذَكَرَ الْبَلَاذُرِيّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَعَادَ إِلَى (دَوْمَة)، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم اِرْتَدَّ أُكَيْدِرُ، فَلَمَّا سَارَ خَالِد مِنْ الْعِرَاق إِلَى الشَّام قَتَلَهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَيْضًا عَدّه فِي الصَّحَابَة. هَذَا كَلَام اِبْن الْأَثِير. (شرح مسلم).
1309 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ (بَعَثَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اَلْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَاراً، أَوْ عَدْلَهُ معافرياً) أَخْرَجَهُ اَلثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
===
(مِنْ كُلِّ حَالِمٍ) أي: بالغ.
(أَوْ عَدْلَهُ) العَدْل ما يساوي قيمة الشيء ومقداره.
(معافرياً) قال ابن الأثير: هي بُرُود باليمن، منسوبة إلى معافر، وهي قبيلة باليمن، والميم زائدة.
•
ما صحة حديث الباب؟
صحح الحديث ابن حبّان، والحاكم، وأقرّه الذهبيّ، وحسّنه الترمذيّ.
وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد"، و"الاستذكار": إسناده متّصلٌ، صحيح، ثابت. وكذا قال ابن بطّال، كما في "الفتح".
وأعلّه عبد الحقّ في "أحكامه"، فقال: مسروق لم يلق معاذًا. وقال الحافظ في "الفتح": في الحكم بصحّته نظر، لأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وإنما حسّنه الترمذيّ لشواهده.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن الجزية لا تؤخذ إلا من بالغ، فلا جزية على صبي ولا امرأة.
قال ابن قدامة: قَوله (وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ، وَلَا امْرَأَةٍ).
لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا:
أ- أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَا تَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي رَوَاهُ سَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَثْرَمُ.
ب- وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ (خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ.
ج- وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَهَؤُلَاءِ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا. (المغني).
قال القرطبي: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لأنه تعالى قال (قَاتِلُوا الَّذِينَ) إلى قوله (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل. ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلاً، لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال (حَتَّى يُعْطُوا) ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني. (تفسير القرطبي).
وممن لا تؤخذ منهم الجزية:
- الفقير الْعَاجِزَ عَنْ أَدَائِهَا.
وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ.
قال ابن قدامة:
وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، جَعَلَ أَدْنَاهَا عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا).
وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ، كَالزَّكَاةِ وَالْعَقْلِ.
وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَجِبُ عَلَيْهِ.
لِقَوْلِهِ عليه السلام (خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا).
وَلِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ.
- والعبد.
لأنه لا مال له، فلا يملك.
وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ الْعَبْدَ إنَّمَا يُؤَدِّيه سَيِّدُهُ، فَيُؤَدِّي إيجَابُهُ عَلَى عَبْدِ الْمُسْلِمِ إلَى إيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى مُسْلِمٍ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَبْدُ لِكَافِرٍ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ.
وَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ، فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، أَوْ لَا مَالَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ.
فائدة:
من صار أهلاً لها من هؤلاء أخذت منه في آخر الحول، كصبي بلغ، وعبد عتق، وفقير اغتنى.
•
كم مقدار الجزية؟
ذهب بعض العلماء إلى أن أقلها دينار.
لحديث الباب.
وذهب بعض العلماء إلى أن الجزية غير مقدرة، بل يرجع فيها إلى رأي الإمام.
جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ - نَقَلَهَا عَنْهُ الأْثْرَمُ -: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إِلَى الإْمَامِ، فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَعَلَى مَا يَرَاهُ.
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَال الْمِرْدَاوِيُّ فِي الإْنْصَافِ، وَقَال الْخَلاَّل: الْعَمَل فِي قَوْل أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلإْمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الآْيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، غَيْرَ أَنَّ الإْمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ عَقْدًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأِنَّ تَصَرُّفَ الإْمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْل نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ.
وَجَعَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّكَاةِ.
فَهَذَا الاِخْتِلَافُ يَدُل عَلَى أَنَّهَا إِلَى رَأْيِ الإِمَامِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْل الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْل الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَال: جُعِل ذَلِكَ مِنْ أَجَل الْيَسَارِ.
وَلأِنَّ الْمَال الْمَأْخُوذَ عَلَى الأْمَانِ ضَرْبَانِ: هُدْنَةٌ وَجِزْيَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً.
•
متى وقت وجوب أداء الجزية؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الأْدَاءِ آخِرُ الْحَوْل.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِزْيَةِ، فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَالْمَجُوسِ بَعْدَ نُزُول آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَال، بَلْ كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْل لِجِبَايَتِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الأْنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْل الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ.
وَتَدُل سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالأْمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجباية الْجِزْيَةِ. فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ.
وَلأِنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْل، فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ.
وَلأِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُول السَّنَةِ.
وَلأِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. (الموسوعة الفقهية).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- مشروعية بعث السعاة والدعاة.
- فضل معاذ.
1310 -
وَعَنْ عَائِذٍ بْنُ عَمْرِوِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْإِسْلَام يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى) أَخْرَجَهُ اَلدَّارَقُطْنِي.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
إسناده ضعيف.
وصح عن ابن عباس موقوفاً.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن أخذ الجزية من الكفار نوع من علو الإسلام.
• اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- علو الإسلام وأهله على سائر الملل.
قال تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
- يستدل العلماء بهذا الحديث لمسائل كثيرة توضح معنى هذا الحديث، منها:
لا يجوز لمسلمة أن تتزوج بكافر.
منع أن يتولى كافر على مسلم.
منع أهل الذمة من مساواة المسلمين في البناء أو العلو عليهم.
ومنعهم من صدور المجالس.
لا يقتل مسلم بكافر.
منع بيع العبد المسلم لكافر.
1311 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم ابتداء الكافر بالسلام.
وهذا قول جمهور العلماء.
ومما يدل على تحريم ذلك أيضاً:
حديث أَبَي بصْرَة قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّا غَادُونَ إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُم). رواه أحمد
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم.
فقوله (بينكم) يعني على المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر في الاستدلال بالحديث: المسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي مودته ومحبته.
قال ابن القيم: قَدْ اخْتَلَفَ السّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسّلَامِ.
قال النووي: واختَلَفَ الْعُلَمَاء فِي رَدّ السَّلَام عَلَى الْكُفَّار وَابْتِدَائِهِمْ بِهِ، فَمَذْهَبنَا تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَوُجُوب رَدّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُول: وَعَلَيْكُمْ، أَوْ عَلَيْكُمْ فَقَطْ، وَدَلِيلنَا فِي الِابْتِدَاء قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ) وَفِي الرَّدّ قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ) وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَذْهَبنَا قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء وَعَامَّة السَّلَف.
وقال في الأذكار: وأما أهل الذمة فاختلف أصحابنا فيهم، فقطع الأكثرون بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام، وقال آخرون: ليس هو بحرام، بل هو مكروه، وحكى أقضى القضاة الماوردي وجها لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، وهذان الوجهان شاذان ومردودان.
•
فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى في قصة إبراهيم (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)؟
الجواب:
قال القرطبي: والجمهور على أن المراد بسلامه: المسالمة التي هي المتاركة لا التحية.
•
ما الحكمة من النهي؟
لأن السلام نوع إكرام، والكافر ليس أهلاً لذلك.
ولأن السلام أيضاً يستدعي المودة والمحبة، والمسلم مأمور بمعاداة الكافر.
•
هل يشرع الرد على الكافر إذا سلم؟
نعم يشرع.
أ-لعموم قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية
…
).
ب-ولعموم الأدلة الدالة على مشروعية رد السلام.
ج- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُم) متفق عليه.
قال ابن القيم: وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الرّدّ عَلَيْهِمْ:
فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ الصّوَابُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجِبُ الرّدّ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَوْلَى.
وَالصّوَابُ الْأَوّلُ وَالْفَرْقُ أَنّا مَأْمُورُونَ بِهَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَعْزِيرًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذّمّة.
•
ما كيفية الرد على أهل الكتاب.
إذا قال أحدهم (السام عليكم) - أي: الموت عليكم -، أو لم يظهر لفظ السلام واضحاً من كلامه: فإننا نجيبه بقولنا: وعليكم.
لِما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل: عليك) متفق عليه.
فإذا تحققنا من سلام الكفار علينا باللفظ الشرعي، فإن ابن القيم يرى أنه يرد بالرد الشرعي.
قال ابن القيم رحمه الله: فلو تحقق السامع أن الذمي قال له (سلام عليكم) لا شك فيه، فهل له أن يقول وعليك السلام أو يقتصر على قوله وعليك؟
فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية، وقواعد الشريعة: أن يقال له: (وعليك السلام) فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان
…
ولا ينافي هذا شيئاً مِنْ أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الرادّ "وعليكم" بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها، فقال: ألا ترَيْنني قلت وعليكم لمّا قالوا السام عليكم، ثم قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.
وقال بعض العلماء: بل يقال: وعليكم.
قال النووي:
…
لَكِنْ لَا يُقَال لَهُمْ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام، بَلْ يُقَال: عَلَيْكُمْ فَقَطْ، أَوْ وَعَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا (مُسْلِم)(عَلَيْكُمْ)(وَعَلَيْكُمْ) بِإِثْبَاتِ الْوَاو وَحَذْفهَا، وَأَكْثَر الرِّوَايَات بِإِثْبَاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، فَقَالُوا: عَلَيْكُمْ الْمَوْت، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاء، وَكُلّنَا نَمُوت. وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاو هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيك، وَتَقْدِيره: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمّ. وَأَمَّا حَذْف الْوَاو فَتَقْدِيره بَلْ عَلَيْكُمْ السَّام. قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَارَ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ حَذْف الْوَاو لِئَلَّا يَقْتَضِي التَّشْرِيك، وَقَالَ غَيْره: بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات. قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: يَقُول: عَلَيْكُمْ السِّلَام بِكَسْرِ السِّين أَيْ الْحِجَارَة، وَهَذَا ضَعِيف. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَامَّة الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَ هَذَا الْحَرْف (وَعَلَيْكُمْ) بِالْوَاوِ، وَكَانَ اِبْن عُيَيْنَةَ يَرْوِيه بِغَيْرِ وَاو. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ (الْوَاو) صَارَ كَلَامهمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّة، وَإِذَا ثَبَتَ (الْوَاو) اِقْتَضَى الْمُشَارَكَة مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيِّ. وَالصَّوَاب أَنَّ إِثْبَات الْوَاو وَحَذْفهَا جَائِزَانِ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَات، وَأَنَّ الْوَاو أَجْوَد كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات، وَلَا مَفْسَدَة فِيهِ، لِأَنَّ السَّام الْمَوْت، وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَلَا ضَرَر فِي قَوْله بِالْوَاوِ.
•
ما الحكم إذا مر واحد على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار؟
فالسنة أن يسلم عليهم يقصد المسلمين أو المسلم.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام المسلمين.
•
ما حكم ابتداء الكافر بتحية غير السلام؟
اختلف العلماء بابتداء الكافر بتحية غير السلام، كقول: مرحباً، أهلاً ونحوها؟
القول الأول: لا يجوز.
وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
لحديث الباب (لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَام
…
).
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بدئهم بالسلام، والتحية جنس يشمل السلام وغيره، فالنهي عن السلام نهي عن جنسه، قال الإمام أحمد: وهذا عندي أكثر من السلام.
القول الثاني: يكره.
وهذا قول الحنفية.
لحديث الباب، وحملوا النهي على الكراهة.
القول الثالث: يجوز مع الحاجة.
وهذا قول الشافعية.
القول الرابع: يجوز.
وهذا اختيار ابن تيمية.
لأنه لم يرد نهي في التحية، بل أحاديث النهي هي في السلام الذي هو من خواص هذه الأمة، فتبقى بقية التحايا على أصلها من الإباحة.
والله أعلم.
•
ماذا نستفيد من قوله (وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)؟
نستفيد أن الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق، فإن المسلم لا يفسح له، لأن هذا من إكرامه، بل يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون وسط الطريق وسعته للمسلم، وهذا مقيد عند العلماء بقيدين:
الأول: أن هذا عند الزحام، فيركب المسلمون صدر الطريق، ويكون الذمي في أضيقه.
الثاني: أن هذا التضييق مقيد بحيث لا يقع الذمي في ضرر، كأن يقع في حفرة أو يصدمه جدار ونحوه. (منحة العلام).
1312 -
وَعَنْ اَلْمِسْوَرِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمَرْوَانُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ .... فَذَكِّرْ اَلْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: " هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِوٍ: عَلَى وَضْعِ اَلْحَرْبِ عَشْرِ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا اَلنَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
وَأَصْلِهِ فِي اَلْبُخَارِي.
1313 -
وَأَخْرُجَ مُسْلِمٍ بَعْضِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيه (أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدْهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا: أَنَكْتُبُ هَذَا يَا رَسُولُ اَللَّهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ. إِنَّهُ مِنْ ذَهَبٍ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اَللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ، فَسَيَجْعَلُ اَللَّهُ لَهُ فَرَجاً وَمُخْرِجاً).
===
(عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ) أي: سافر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصداً العمرة زمن الحديبية.
قال في الفتح: الحديبية بئر، سمي المكان بها، وقيل: شجرت حدباء صغّرت، وسمي المكان بها.
وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم: 1400 أو 1500.
قال ابن حجر: وكان توجهه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست، فخرج قاصداً إلى العمرة، فصده المشركون عن الوصول إلى البيت، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل، وجاء عن هشام بن عروة عن أبيه أنه خرج في رمضان واعتمر في شوال وشذ بذلك. (الفتح).
(عَلَى وَضْعِ اَلْحَرْبِ عَشْرِ سِنِينَ) تحديد المدة تفرد به ابن إسحاق عن أصحاب الزهري.
قال في الفتح: هذا القدر الذي ذكره بن إسحاق أنه مدة الصلح هو المعتمد، وبه جزم بن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي نفسه، ووقع في مغازي بن عائذ في حديث بن عباس وغيره أنه كان سنتين، وكذا وقع عند موسى بن عقبة، ويجمع بينهما بأن الذي قاله بن إسحاق هي المدة التي وقع الصلح عليها، والذي ذكره بن عائذ وغيره هي المدة التي انتهى أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش، وأما ما وقع في كامل بن عدي ومستدرك الحاكم والأوسط للطبراني من حديث بن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. (الفتح).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز عقد هدنة مع الكفار عند الحاجة مدة معلومة عند ما يراها الإمام.
وفي الصحيحين:
عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ (لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ. وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ).
قال النووي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلِيل لِجَوَازِ مُصَالَحَة الْكُفَّار إِذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَة، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ عِنْد الْحَاجَة، وَمَذْهَبنَا أَنَّ مُدَّتهَا لَا تَزِيد عَلَى عَشْر سِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَام مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَظْهِرًا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعَة أَشْهُر، وَفِي قَوْل يَجُوز دُون سَنَة، وَقَالَ مَالِك: لَا حَدّ لِذَلِكَ، بَلْ يَجُوز ذَلِكَ قَلَّ أَمْ كَثُرَ بِحَسَبِ رَأْي الْإِمَام.
وقال ابن قدامة: وَمَعْنَى الْهُدْنَةِ، أَنْ يَعْقِدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَقْدًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً، بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً، وَذَلِكَ جَائِزٌ.
بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ).
وَقَالَ سبحانه وتعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا).
وَرَوَى مَرْوَانُ، وَمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ، سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ).
وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَيُهَادِنُهُمْ حَتَّى يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ.
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمْ ضَعْفٌ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي إسْلَامِهِمْ بِهُدْنَتِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ.
وقال ابن حجر: قوله تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) جنحوا طلبوا السلم فاجنح لها، أي: أن هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين؛ وتفسير جنحوا بطلبوا هو للمصنف
…
ثم قال: ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة أما إذا كان الإسلام ظاهراً على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا. (الفتح).
•
ما الجمع بين قوله تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) وبين الآيات الداعية لقتال الكفار كقوله تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ)؟
لا تعارض بين الآيات، لأن الآيات الآمر بقتال الكفار، تحمل على أن بالمسلمين قوة ولا مصلحة في الصلح، والآيات التي فيها مصالحة تحمل على حال القلة والضعف والحاجة.
قال ابن كثير: (وَإِنْ جَنَحُوا) أي: مالوا (لِلسَّلْمِ) أي: المسالمة والمصالحة والمهادنة، (فَاجْنَحْ لَهَا) أي: فمل إليها، واقبل منهم ذلك؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر.
وقول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) فيه نظر أيضًا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفًا، فإنه تجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم. (التفسير).
وقال الجصاص: وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها فحكم حكم ثابت أيضاً، وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين، فالحال التي أمر فيها بالمسألة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم، وقد قال تعالى (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم.
•
هل تجوز المهادنة مطلقاً دائماً؟
لا تجوز.
قال ابن قدامة:
…
فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُهَادَنَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ.
•
واختلف العلماء في مقدار المدة؟
فقيل: لا يجوز أكثر من عشر سنين.
لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرًا، فَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ.
وقيل: يجوز أكثر من عشر سنين لكن تحدد المدة.
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ فِي الْعَشْرِ، فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْعَامُّ مَخْصُوصٌ فِي الْعَشْرِ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الصُّلْحِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الْحَرْبِ.
جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ أَهْل الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، كَمَا وَادَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْل مَكَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَقَل مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ دُونَ تَحْدِيدٍ، مَا دَامَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأْعْلَوْنَ).
وَيَرَى الإْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا يُرْوَى عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْهُدْنَةُ مُنْتَقَضَةٌ؛ لأِنَّ الأْصْل فَرْضُ قِتَال الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.
•
هل تجوز مهادنتهم على غير مال؟
قال ابن قدامة: وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَادَنَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهَا إذَا جَازَتْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَعَلَى مَالٍ أَوْلَى.
وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ، فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلَاكَ أَوْ الْأَسْرَ، فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ، فَكَذَا هَا هُنَا، وَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَالْأَسْرُ، وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ. (المغني).
•
من الذي يتولى عقد الهدنة؟
الإمام أو نائبه.
قال ابن قدامة: وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَلَا الذِّمَّةِ إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعَ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ، لَمْ يَصِحَّ. (المغني).
•
ما الحكم إذا خاف أن ينقضوا العهد؟
قال ابن قدامة: وَإِنْ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ، جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ).
يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَكْفِي وُقُوعُ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَنْ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَا خَافَهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِقِتَالٍ وَلَا غَارَةٍ قَبْلَ إعْلَامِهِمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ؛ لِلْآيَةِ، وَلِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْعَهْدِ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَلَا أَخْذُ مَالِهِمْ. (المغني).
وقال القرطبي: والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فانبذ إليهم العهد، أي: قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
ويقول ابن كثير بصدد ذكر الخيانة هنا (أي: حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً).
•
ما حكم الوفاء بهذه المعاهدات؟
واجب.
قال ابن قدامة: إِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
وَقَالَ تَعَالَى (فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ).
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفِ بِهَا، لَمْ يُسْكَنْ إلَى عَقْدِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهَا.
• متى ينتهي وجوب الالتزام بالهدنة؟
أولاً: حين تنتهي مدة المعاهدة مع العدو.
قال تعالى (فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ) إذ المفهوم من هذا النص أنه بعد انتهاء مدة العهد أو المعاهدة تعود حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم.
ثانياً: إذا نقض العدو المعاهدة.
قال ابن قدامة: فَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، جَازَ قِتَالُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).
وَقَالَ تَعَالَى (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).
وَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمْ، وَفَتَحَ مَكَّةَ.
ثالثاً: إذا ظاهروا أحداً على المسلمين.
كما قال تعالى (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا
…
).
•
لماذا النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم على هذه الشروط مع أن في ظاهرها غضاضة على المسلمين؟
لما فيها من المصلحة العظيمة للمسلمين.
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَافَقَهُمْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْك كِتَابَة بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَأَنَّهُ كَتَبَ بِاسْمِك اللَّهُمَّ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، وَتَرَكَ كِتَابَة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا دُونَ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا وَافَقَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُور لِلْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّة الْحَاصِلَة بِالصُّلْحِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَة فِي هَذِهِ الْأُمُور، أَمَّا الْبَسْمَلَة وَبِاسْمِك اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَكَذَا قَوْله: مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه هُوَ أَيْضًا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ فِي تَرْك وَصْف اللَّه سبحانه وتعالى فِي هَذَا الْمَوْضِع بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم مَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَلَا فِي تَرْك وَصْفه أَيْضًا صلى الله عليه وسلم هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفِيهَا، فَلَا مَفْسَدَة فِيمَا طَلَبُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمَفْسَدَة تَكُون لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكْتُب مَا لَا يَحِلّ مِنْ تَعْظِيم آلِهَتهمْ وَنَحْو ذَلِكَ، وَأَمَّا شَرْط رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ، وَمَنْع مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْحِكْمَة فِيهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيث بِقَوْلِهِ:(مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّه وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّه لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) ثُمَّ كَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ اللَّه لِلَّذِينَ جَاءُونَا مِنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِلَّهِ الْحَمْد، وَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَات، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْمَصْلَحَة الْمُتَرَتِّبَة عَلَى إِتْمَام هَذَا الصُّلْح مَا ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَاته الْبَاهِرَة، وَفَوَائِده الْمُتَظَاهِرَة، الَّتِي كَانَتْ عَاقِبَتهَا فَتْح مَكَّة، وَإِسْلَام أَهْلهَا كُلّهَا، وَدُخُول النَّاس فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْل الصُّلْح لَمْ يَكُونُوا يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَظَاهَر عِنْدهمْ أُمُور النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَمَا هِيَ، وَلَا يَحِلُّونَ بِمَنْ يُعْلِمهُمْ بِهَا مُفَصَّلَة، فَلَمَّا حَصَلَ صُلْح الْحُدَيْبِيَة اِخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّة، وَحَلُّوا بِأَهْلِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَسْتَنْصِحُونَهُ، وَسَمِعُوا مِنْهُمْ أَحْوَال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مُفَصَّله بِجُزْئِيَّاتِهَا، وَمُعْجِزَاته الظَّاهِرَة، وَأَعْلَام نُبُوَّته الْمُتَظَاهِرَة، وَحُسْن سِيرَته، وَجَمِيل طَرِيقَته، وَعَايَنُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَلَّتْ نُفُوسهمْ إِلَى الْإِيمَان حَتَّى بَادَرَ خَلْق مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَام قَبْل فَتْح مَكَّة فَأَسْلَمُوا بَيْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة وَفَتْح مَكَّة، وَازْدَادَ الْآخَرُونَ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح أَسْلَمُوا كُلّهمْ لِمَا كَانَ قَدْ تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنْ الْمَيْل، وَكَانَتْ الْعَرَب مِنْ غَيْر قُرَيْش فِي الْبَوَادِي يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ إِسْلَام قُرَيْش، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ قُرَيْش أَسْلَمَتْ الْعَرَب فِي الْبَوَادِي. قَالَ تَعَالَى (إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّه وَالْفَتْح وَرَأَيْت النَّاس يَدْخُلُونَ فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا).
وقال رحمه الله ك وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِد الصُّلْح عَلَى مَا رَآهُ مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَر ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاس فِي بَادِئ الرَّأْي.
وَفِيهِ: اِحْتِمَال الْمَفْسَدَة الْيَسِيرَة لِدَفْعِ أَعْظَم مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَة أَعْظَم مِنْهَا إِذَا لَمْ يُمْكِن ذَلِكَ إِلَّا بِذَلِكَ.
فائدة: تألم عمر وبعض الصحابة من شروط صلح الحديبية، ورأوا أنه فيها استكانة أمام الكفار.
فقد جاء في الصحيحين:
عنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ (قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِى كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ «بَلَى». قَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ «بَلَى». قَالَ فَفِيمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا». قَالَ فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؛ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. قَالَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْحِ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ «نَعَمْ». فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ).
قَوْله: (قَامَ سَهْل بْن حُنَيْفٍ يَوْم صِفِّينَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النَّاس اِتَّهِمُوا أَنْفُسكُمْ
…
إِلَى آخِره):
قال النووي: أَرَادَ بِهَذَا تَصْبِير النَّاس عَلَى الصُّلْح، وَإِعْلَامهمْ بِمَا يُرْجَى بَعْده مِنْ الْخَيْر، فَإِنَّهُ يُرْجَى مَصِيره إِلَى خَيْر، وَإِنْ كَانَ ظَاهِره فِي الِابْتِدَاء مِمَّا تَكْرَههُ النُّفُوس، كَمَا كَانَ شَأْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة، وَإِنَّمَا قَالَ سَهْل هَذَا الْقَوْل حِين ظَهَرَ مِنْ أَصْحَاب عَلِيّ رضي الله عنه كَرَاهَة التَّحْكِيم، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا جَرَى يَوْم الْحُدَيْبِيَة مِنْ كَرَاهَة أَكْثَر النَّاس الصُّلْح، وَأَقْوَالهمْ فِي كَرَاهَته، وَمَعَ هَذَا فَأَعْقَبَ خَيْرًا عَظِيمًا، فَقَرَّرَهُمْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصُّلْح مَعَ أَنَّ إِرَادَتهمْ كَانَتْ مُنَاجَزَة كُفَّار مَكَّة بِالْقِتَالِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَر رضي الله عنه: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّة فِي دِيننَا.
قوله (فَفِيمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا):
قال النووي: هِيَ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء، أَيْ: النَّقِيصَة، وَالْحَالَة النَّاقِصَة، قَالَ الْعُلَمَاء: لَمْ يَكُنْ سُؤَال عُمَر رضي الله عنه وَكَلَامه الْمَذْكُور شَكًّا؛ بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَال الْكُفَّار وَظُهُور الْإِسْلَام كَمَا عُرِفَ مِنْ خُلُقه رضي الله عنه، وَقُوَّته فِي نُصْرَة الدِّين وَإِذْلَال الْمُبْطِلِينَ.
قَوْله (فَنَزَلَ الْقُرْآن عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَر فَأَقْرَأهُ إِيَّاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَوَ فَتْح هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَطَابَتْ نَفْسه وَرَجَعَ):
الْمُرَاد أَنَّهُ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى (إِنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا) وَكَانَ الْفَتْح هُوَ صُلْح يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فَقَالَ عُمَر: أَوَ فَتْح هُوَ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَعَمْ. لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَوَائِد الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرهَا.
وَفِيهِ إِعْلَام الْإِمَام وَالْعَالِم كِبَار أَصْحَابه مَا يَقَع لَهُ مِنْ الْأُمُور الْمُهِمَّة، وَالْبَعْث إِلَيْهِمْ لِإِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم. (نووي)
قال ابن حجر: لم يذكر عمر أنه راجع أحداً في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق، وذلك لجلالة قدره وسعة علمه عنده، وفي جواب أبي بكر لعمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى، وقد وقع التصريح في هذا الحديث بأن المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك، وظهر من هذا الفصل أن الصديق لم يكن في ذلك موافقا لهم، بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء. (الفتح).
1314 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِو. عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ قَتَلَ مُعَاهِداً لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ اَلْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَد مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامّاً) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيّ.
===
•
ما المراد بالمعاهد في قوله (مَنْ قَتَلَ مُعَاهِداً)؟
المراد بالمعاهد هنا، يشمل الذمي والمعاهد والمستأمن.
قالَ فِي (النهاية) يجوز أن يكون بكسر الهاء، وفتحها، عَلَى الفاعل والمفعول، وهو فِي الْحَدِيث بالفتح أشهر وأكثر، والمعاهد منْ كَانَ بينك وبينه عهدٌ، وأكثر ما يُطلق فِي الْحَدِيث عَلَى أهل الذّمّة، وَقَدْ يُطلق عَلَى غيرهم، منْ الكفّار إذا صولحوا عَلَى ترك الحرب مدّةً مّا. انتهى.
وقال ابن حجر: وَالْمُرَاد بِهِ مَنْ لَهُ عَهْد مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاء كَانَ بِعَقْدِ جِزْيَة أَوْ هُدْنَة مِنْ سُلْطَان أَوْ أَمَان مِنْ مُسْلِم.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم قتل المعاهدين بغير حق، وأن هذا من كبائر الذنوب.
قال ابن قدامة: أَنَّ الْأَمَانَ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ.
• ما معنى (لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ اَلْجَنَّةِ) وفي حديث أبي بكرة عند النسائي (حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)؟
قَالَ فِي (عون المعبود) أي: لا يدخلها مع أول منْ يدخلها منْ المسلمين الذين لم يقترفوا الكبائر.
وَقَالَ الحافظ فِي الفتح: والمراد بهذا النفي، وإن كَانَ عاماً التخصيص بزمانٍ مّا، لِمَا تعاضدت الأدلة العقلية والنقلية، أن منْ مات مسلماً، ولو كَانَ منْ أهل الكبائر، فهو محكوم بإسلامه، غير مخلد فِي النار، ومآله إلى الجنة، ولو عُذِّبَ قبل ذلك. انتهى.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- جواز معاهدة الكفّار، وعقد الذّمّة لهم.
- بيان عظمة الإِسلام، ورفعة مكانته، حيث إنه يُراعي حقوق كلّ النَّاس، ولو كانوا غير مسلمين، ما داموا مسالمين لأهل الإِسلام، واعتباره الاعتداء عليهم جريمة كبرى، بحيث يستحقّ به المسلم، إذا ارتكبه حرمان الجنّة التي ثبتت له بإسلامه، فلما اعتدى فِي الإِسلام، ولم يحترم حدوده عاقبه الله تعالى بمنعه عن مقامه الرفيع.
باب اَلسَّبْقِ وَالرَّمْيِ
تعريف السبق.
السبَق بفتح الباء: قال البغوي هو المال المشروط للسابق على سبقه.
وقال الخطابي: هو ما يُجعل للسابق من الجعل.
وأما السبْق بسكون الباء، هو عقد بين متعاقدين على عمل يعملونه لمعرفة الأحذق منهم فيه.
1315 -
عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (سَابَقَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْلِ اَلَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ، مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعِ. وَسَابَقَ بَيْنَ اَلْخَيْلِ اَلَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ اَلثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ اِبْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
زَادَ اَلْبُخَارِيُّ، قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعُ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةَ، وَمِنْ اَلثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيل.
1316 -
وَعَنْهُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْقَ بَيْنَ اَلْخَيْلِ، وَفَضَّل اَلْقَرْحُ فِي اَلْغَايَةِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
(قَدْ أُضْمِرَتْ) الإضمار: المراد به أن تُعلف الخيل حتى تسمن، وتقوى، ثم يقلّل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتاً، وتغشى بالجلال، حتى تحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها، وقويت على الجري، وأما الخيل التي لم تضمر فهي ضدها، التي لم يعمل بها هذا العمل.
(مِنَ الْحَفْيَاءِ) موضع بظاهر المدينة.
(وَأَمَدُهَا) أي: غايتها.
(ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ) الثنية لغة: الطريقة إلى العقبة، وثنية الوداع: موضع بالمدينة، سمي بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودّعون إليها.
(إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ) بطن من الأنصار من الخزرج.
(سَبّقَ) بفتح السين وتشديد الباء، أي: التزم السبَق، وهو ما يعطى من الجوائز للسابق على سبقه.
(وَفَضل اَلْقَرْحُ فِي اَلْغَايَةِ) القُرّح: بضم القاف وتشديد الراء جمع قارح، وهو من الخيل ما دخل في السنة الخامسة، والمعنى: جعل مسافة سباقها أبعد وأطول من مسافة ما دونها.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد مشروعية المسابقة.
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
أ-قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
فأمر سبحانه وتعالى بإعداد القوة ورباط الخيل، ومن طرق ووسائل إعدادها المسابقة، فدل على مشروعيتها.
قال الجصاص: وهذا يدل على أن جميع ما يقوي على العدو فهو مأمور بإعداده.
ب- وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا
…
).
قال السعدي: نستبق إما على الأقدام أو بالرمي والنضال.
ج – ولحديث الباب.
ففيه تشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم للسباق بالخيل، وفيه دلالة أكيدة على مشروعية السباق.
قال ابن حجر: وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة.
د- وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لَا تُسْبَقُ- قَالَ حُمَيْدٌ، أَوْ لَا تَكَادُ تُسْبَقُ - فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ فَقَالَ حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ) رواه البخاري.
قال ابن حجر: وفي الحديث اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها.
هـ- وعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها (أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) رواه أبو داود.
و- وعن سَلَمَة بْن الأَكْوَع رضي الله عنه قَالَ (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ قَالُوا كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) رواه البخاري.
ز- وعن رُكانة (أنه صَارَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.
وحكى الإجماع، ابن قدامة، وابن القيم وغيرهما على جواز المسابقة في الجملة.
•
اذكر الشروط المتعلقة بأداة السباق؟
الشرط الأول: أن تكون الأداة المسابق بها أو عليها يجوز فيها المسابقة، نحو خيل وأقدام وإبل.
الشرط الثاني: تعيين الآلتين – من مركوبين ونحو ذلك – برؤية أو صفة.
الشرط الثالث: أن يكون المركوبان من جنس واحد.
وهذا مذهب الحنابلة، وبعض الشافعية.
فلا تجوز المسابقة بين جنسين مختلفين كفرس وبعير.
لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس، فلا يحصل الغرض.
وقال بعض الشافعية وجمهور المالكية، بالتقارب في السبق، فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز.
الشرط الرابع: إمكان سبق كل من المتسابقين عادة.
وهذا اشترطه الحنفية، وبعض المالكية، وأكثر الشافعية.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسابق بين المضمرات وغيرها، بل جعل كل صنف منها مع ملائمه، لأن غير المضمرة لا تساوي المضمرة.
ولأن عقد السبق يراد به التنافس وعلم السابق، فإذا علم أن أحدهم لا يستطيع السبق لم يتوصل حينئذ إلى جديد في سباقهما. ولأن موضوع المسابقة: توقع كل منهما سبق نفسه ليسعى، فيعلم أو يتعلم.
•
ماذا نستفيد من قوله (
…
مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعِ)؟
نستفيد أنه يشترط في المسابقة تحديد المسافة، وتعيين المبتدأ والغاية.
لأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصل بتحديد المسافة.
وفي حديث الباب حدد النبي صلى الله عليه وسلم المبتدأ والمنتهى.
لأنه مع عدم تعيينهما تحصل المنازعة، ولا يتحقق غرض المسابقة.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- قوله (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ) بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَابَقَةُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَرْكُوبَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إرْسَالَ الْفَرَسَيْنِ لِيَجْرِيَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُسَابَقَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَا تَهْتَدِي لِقَصْدِ الْغَايَةِ بِغَيْرِ رَاكِبٍ، وَرُبَّمَا نَفَرَتْ بِخِلَافِ الطُّيُورِ إذَا جُوِّزَتْ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَهْتَدِي لِلْمَقْصِدِ.
- مشروعية المسابقة على الخيل، وتنويع مسافات السباق بحسب درجات الخيل في قوتها وجلادتها.
- جواز إضمار الخيل، قال في الفتح: ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدة للغزو.
- مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة. (الاثنين: 29/ 11/ 1433 هـ).
- الحديث دليل على جواز قول: مسجد بني فلان.
قال ابن حجر: والجمهور على الجواز.
والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي لقوله تعالى (وأن المساجد لله).
وجوابه: أن الإضافة في مثل هذا إضافة تمييز لا تمليك. (الفتح).
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَفِيهِ جَوَازُ إضَافَةِ أَعْمَالِ الْبِرِّ إلَى أَرْبَابِهَا وَنِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لَهُمْ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ، وَلَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُقَالَ مُصَلَّى بَنِي فُلَانٍ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا مُصَلًّى وَمَسْجِدٌ.
وقال ابن العربي: المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً، فإنها قد نسبت إلى غيره تعريفاً، فيقال: مسجد فلان.
وقال النووي في (المجموع) ولا بأس أن يقال مسجد فلان، ومسجد بني فلان على سبيل التعريف. والله أعلم.
1317 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
(لَا سَبَقَ) بفتح الباء، وهو العوض ما يجعل من الجوائز للسابق.
(إِلَّا فِي خُفٍّ) هذا كناية عن الإبل لأنها هي ذات الخف.
(أَوْ نَصْلٍ) هي حديدة السهم والرمح.
(أَوْ حَافِرٍ) كناية عن الخيل لأنها هي ذات الحافر.
•
ما معنى الحديث؟
معناه: أي لا أخذ عوض إلا في هذه الثلاثة، وأنه اذا حصل سباق في غير هذه الثلاثة فإنه يجوز لكن بدون عوض، ويكون أكل المال بهذه الثلاثة مستثنى من جميع أنواع المغالبات.
قال الخطّابي (السبق) بفتح الباء: هو ما يُجعل للسابق على سَبْقه من جُعْل، ونوال، فأما السبْقُ بسكون الباء، فهو مصدر سبقت الرجل أسبُقه سَبْقًا، والرواية الصحيحة في هذا الحديث السّبَقُ مفتوحة الباء، يريد أن الجعل والعطاء لا يُستحقّ إلا في سباق الخيل، والإبل، وما في معناهما، وفي النصل، وهو الرمي،
•
ما الحكمة من إباحة أخذ العوض في هذه الثلاثة؟
لأن في بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد وتحريض عليه.
قال الخطابي: وذلك لأن هذه الامور عُدّة في قتال العدوّ، وفي بذل الْجُعْل عليها ترغيبٌ في الجهاد، وتحريض عليه.
وقال ابن قدامة: وأما المسابقة بعوض، فلا تجوز إلا بين الخيل، والإبل، والرمي، قال: وبهذا قال الزهريّ، ومالك.
لحديث (لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر) فنفى السبق في غير هذه الثلاثة.
ولأن غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها، فلم تجز المسابقة عليها بعوض. (المغني).
•
ما حكم أخذ العوض في المسابقة على غير هذه الثلاثة (كالبغال والحمير)؟
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: المنع.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وقول ابن حزم وكثير من السلف والخلف.
أ- لان غير هذه الثلاثة لا يساويها فيما تضمنته من الفروسية، وتعلم أسباب الجهاد.
ب- ولأن هذه الثلاثة هي التي عهدت عليها المسابقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسابق قط على بغل ولا على حمار مع وجودها عندهم.
القول الثاني: الجواز في كل ذات حافر من البغال والحمير.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية.
لأنها ذوات حوافر، وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجائها، لأنها تحمل أثقال العساكر، وتكون معها في المغازي.
والقول الأول أرجح.
•
هل يجوز أخذ العوض في المسابقات العلمية؟
اختلف العلماء في المسابقات العلمية على قولين:
القول الأول: المنع.
وهذا قول جمهور العلماء.
فهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
أ- للحديث (لا سبق
…
) فالحديث فيه الحصر.
ب- أن الرهان في العلم لا يحتاج إليه في الجهاد.
القول الثاني: الجواز.
وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم.
أ- استدلوا بقصة مراهنة أبي بكر للمشركين بفوز الروم، وهذه مراهنة في العلم.
ب- القياس على ما ورد به النص في الأمور الثلاثة، بجامع أن العلة نصرة الدين وقيامه، فكما يقوم بالجهاد فهو كذلك يقوم بالعلم.
قال ابن القيم: فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز.
والله أعلم.
• القمار: قيل: كل لعب على مال يأخذه الغالب من المغلوب، أو هو الذي لا يخلو أن يكون الداخل فيه غانماً إن أخذ أو غارماً إن أعطى.
•
ماذا نستفيد من قوله (لا سبق
…
)؟
نستفيد جواز المسابقات بغير هذه الثلاثة بغير عوض.
كالسباق على الأقدام، والمصارعة، وحمل الأثقال وغيرها.
فهذا النوع يجوز بلا عوض ويحرم بعوض.
فهذا يحرم أخذ المال فيه حتى لا يتخذ عادة وصناعة ومتجراً، وأبيح بدون مال لما فيه من إجمام للنفس وترويح لها، وتقوية للبدن.
وقد تقدم دليله:
كحديث عائشة قالت (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة) رواه أبوداود.
وعن ركانة (أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبوداود.
وهذا النوع لا يجوز بعوض من الطرفين: لأن في بذل السبق من المسابقين قمار، لأن كل واحد من المتسابقين يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه.
•
ما الحكم إذا كان الجُعل من غير المتسابقين (طرف ثالث)؟
يجوز من غير خلاف.
قال النووي: فأما المسابقة بعوض فجائزة بالإجماع لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين.
وقال الصنعاني: فإذا كان الجعل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق حل ذلك بلا خلاف.
ويدل ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وأعطى السابق) رواه أحمد.
•
ما الحكم إذا كان الجعل من أحد المتسابقين؟
وصورته: أن يقول أحد المتسابقين للآخر: سابقني فإن سبقتني فأعطيك سبقاً وجعْلاً مقداره كذا، ولا يُخرج الآخر شيئاً من ماله البتة.
وهذه الصورة جمهور العلماء على جوازها لانتفاء شبهة القمار.
فهو مذهب الحنابلة، والحنفية، والشافعية.
الخلاصة:
الجعل في المسابقات ينقسم إلى أقسام:
أولاً: إما أن يكون من المتسابقين جميعاً:
فهنا لا يجوز لأنه قمار، إلا في الثلاثة المنصوص عليها. (الخيل والإبل والسهام).
ثانياً: وإما أن يكون من أحدهما:
فهذا جائر.
ثالثاً: وإما أن يكون من أجنبي:
فهذا جائز في كل مسابقة مباح.
1318 -
وَعَنْهُ، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَدْخُلُ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُسْبِقَ - فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف.
===
(مَنْ أَدْخُلُ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ) أي: من أجرى فرساً في السباق مع فرسين، وهذا الفرس يسمى المحلل.
(وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُسْبقَ) بضم الياء
(فَلَا بَأْسَ بِهِ) أي: فلا مانع.
(وَإِنْ أَمِنَ) أن يُسبق.
(فَهُوَ قِمَارٌ) سيأتي إن شاء الله تعريفه.
•
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف.
•
على ماذا يدل الحديث؟
هذا الحديث يستدل به من قال باشتراط محلل إذا كان الجعل من الطرفين، لإخراج العقد من القمار.
وهذا مذهب أكثر الحنابلة، وجميع الحنفية، والشافعية.
قالوا: لا يجوز أن يكون بذل العوض من جميع المتسابقين إلا أن يُدخل في السباق محلل.
والمحلل: اسم فاعل من حلل: جعله حلالاً، لأنه حلل الجعل بدخوله، والمقصود به هنا: الفرس الثالث من خيل الرهان، وذلك بأن يضع الرجلان رهنين بينهما، ثم يأتي رجل سواهما فيرسل معهما فرسه، ولا يضع رهناً.
أ- واستدلوا بحديث الباب (من أدخل فرساً بين فرسين
…
).
ب- قالوا: بدون محلل قمار، وبالمحلل ينتفي القمار، لأن الثالث (المحلل) لا يغرم قطعاً ويقيناً، وإنما يحتمل أن يأخذ أو لا يأخذ، فخرج بذلك من أن يكون قماراً.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشترط وجود محلل.
هذا اختيار ابن تيمية، وابن القيم.
للحديث السابق (لا سبق إلا في خف
…
) ولم يشترط محللاً.
و لو كان المحلل شرطاً لصرح به.
وعلى هذا فإخراج الجعل من الطرفين قمار في الأصل، ولكنه في هذه المسألة ليس قماراً محرماً، بل هو مستثنى منه، لأن فيه مصلحة، وهي التمرن على آلات القتال، وهي مصلحة عظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر.
قال السعدي: الصحيح جواز المسابقة على الخيل، والإبل، والسهام بعوض، ولو كان المتسابقان كل منهما مخرجًا العوض، ولأنَّه لا يشترط المحلل، وتعليلهم لأجل أن يخرج عن شبه القمار تعليل فيه نظر، فإنَّه لا يشترط أن يخرج عن شبه القمار، بل هو قمار جائز.
وقال رحمه الله تعالى: المغالبات بالنسبة لأخذ العوض ثلاثة أقسام:
الأول: يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، وهذا هو الأصل والأغلب، فدخل في هذه المسابقة على الأقدام، والسفن، والمصارعة، ومعرفة الأشد في غير ما فيه تهلكة.
الثاني: لا يجوز بعوض، ولا بغير عوض؛ وذلك كالشطرنج، والنرد، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو دخلت في محرم، والحكمة منها ظاهرة.
الثالث: تجوز بعوض، وهي المسابقة، والمغالبة بين السهام، والإبل، والخيل، لصريح الحديث المبيح.
•
عرف القمار؟
قال ابن قدامة: القمار ألا يخلو كل واحد منهما - أي المتسابقين - من أن يغنم أو يغرم.
وقال الخطابي: معنى القمار الذي إنما هو: مواضعة بين اثنين على مال يدور بينهما في الشقين، فيكون كل واحد منهما إما غانماً أو غارماً.
وقال الشوكاني: كل ما لا يخلو اللاعب فيه من غنم أو غرم فهو ميسر.
•
اذكر أدلة تحريمه؟
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).
ب- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ) متفق عليه.
ودلالة الحديث على الحرمة واضحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مجرد الدعوة إلى القمار موجباً للكفارة بالصدقة.
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ تَكْفِيرًا لِخَطِيئَةٍ فِي كَلَامه بِهَذِهِ الْمَعْصِيَة، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَ أَنْ يُقَامِر بِهِ، وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُ لَا يَخْتَصّ بِذَلِكَ الْمِقْدَار؛ بَلْ يَتَصَدَّق بِمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَنْطَلِق عَلَيْهِ اِسْم الصَّدَقَة، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مَعْمَر الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم (فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ).
وقال ابن حجر: القمار من جملة اللهو، ومن دعا إليه دعا إلى المعصية، فلذلك أمر بالتصدق ليكفر عنه تلك المعصية، لأن من دعا إلى معصية وقع بدعائه إليها في معصية.
1319 -
وَعَنْ عَقَبَةِ بْنُ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ عَلَى اَلْمِنْبَرِ يَقْرَأُ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ) أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد آلات الحرب لمقاتلة أعدائهم حسب الطاقة والإمكان.
(مَا اِسْتَطَعْتُمْ) أي: مهما أمكنكم.
(مِنْ قُوَّةٍ) ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة.
(أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ) قال القرطبي: القوَّة: التقوى بإعداد ما يحتاج إليه من الدروع، والمجان، والسيوف، والرِّماح، وسائر آلات الحرب، والرَّمي، إلا أنه لما كان الرَّمي أنكاها في العدو، وأنفعها فسرها وخصصها بالذكر وأكدها ثلاثًا، ولم يرد أنها كل العدّة، بل أنفعها.
ووجه أنفعيتها: أن النكاية بالسِّهام تبلغ العدو من الشجاع وغيره، بخلاف السيف والرمح، فإنه لا تحصل النكاية بهما إلا من الشجعان الممارسين للكرِّ والفرِّ، وليس كل أحد كذلك. ثم: إنها أقرب مؤنة، وأيسر محاولة وإنكاء. ألا ترى أنه قد يرمي رأس الكتيبة فينهزم أصحابه؛ إلى غير ذلك مما يحصل منه من الفوائد، والله تعالى أعلم. (المفهم).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الرمي وتعلمه، وأنه من أعظم أسباب القوة لمواجهة العدو.
وقد جاءت نصوص في فضل الرمي:
أ- كحديث الباب.
ب- وعن عُقْبَةُ. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى) رواه مسلم.
قال النووي: هَذَا تَشْدِيد عَظِيم فِي نِسْيَان الرَّمْي بَعْد عِلْمه، وَهُوَ مَكْرُوه كَرَاهَة شَدِيدَة لِمَنْ تَرَكَهُ بِلَا عُذْر.
ج- وعنه. قال قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ، ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ، وَارْمُوا، وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا) رواه أبو داود.
د- وعنه. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ). رواه مسلم
هـ-وعن سَلَمَةَ بْن الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ) رواه البخاري.
قال القرطبي: وفضل الرمي عظيم، ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين، قال صلى الله عليه وسلم: يا بني إسماعيل ارموا، فإن أباكم كان رامياً .... (التفسير).
•
ما الأفضل الرمي أم ركوب الخيل؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
قيل: الرمي أفضل. وقيل: ركوب الخيل أفضل.
قال ابن كثير: وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي، وقول الجمهور أقوى للحديث، والله أعلم.
فائدة:
قال الرازي: وقوله صلى الله عليه وسلم (القوة هي الرمي) لا ينفي كون غير الرمي معتبراً، كما أن قوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) و (الندم توبة) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ههنا، وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات.
وقال الجصاص: وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ) أَنَّهُ مِنْ مُعْظَمِ مَا يَجِبُ إعْدَادُهُ مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَنْفِ بِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْقُوَّةِ، بَلْ عُمُومُ اللَّفْظِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ.
فائدة: قال الرازي: قوله تعالى (ترهبون به عدو الله وعدوكم) وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة:
أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام.
وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية.
وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان.
ورابعها: أنهم لا يعينون سائر الكفار.
وخامسها: أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلام.
كِتَاب اَلْأَطْعِمَةِ
الطعام في اللغة يطلق في الغالب على ما يؤكل، وقد يطلق على ما يشرب بقلة كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). وقال صلى الله عليه وسلم في زمزم (إنها طعام طُعْم).
الأصل في الأطعمة الحل.
أ-لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
قال في تفسير المنار: وهذه نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة.
ب- وقال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).
دلت هذه الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في (مَنْ) للإنكار، ومن هذا يعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في هذه الأشياء التي هي من أنواع الزينة وكل ما يتجمل به ومن الطيبات من الرزق هو الحل.
ج- وقال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ).
وجه الدلالة: أنه إذا كان ما في الأرض مسخراً لنا، جاز استمتاعنا به، وهذا معنى الإباحة.
د- وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدار قطني.
1320 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ اَلسِّبَاعِ، فَأَكَلَهُ حَرَامٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1321 -
وَأَخْرَجَهُ: مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ: نَهَى. وَزَادَ (وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ اَلطَّيْرِ).
===
(كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ اَلسِّبَاعِ) أي: يفترس به.
(وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ اَلطَّيْرِ) أي: له ظفر يصيد به كالصقر والعقاب.
قال ابن حجر في الفتح (والمخلب) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام بعدها موحدة وهو للطير كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ وأحد، فهو له كالناب للسبع.
ولفظ حديث ابن عباس:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ).
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم أكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
السباع: كَالأْسَدِ، وَالنِّمْرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفِيلِ، وَالْفَهْدِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالنِّمْسِ، وَالْقِرْدِ، وَالدُّبِّ
والطيور: كَالْعُقَابِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالبَاشِقِ، وَالحِدَأَةِ، وَالْبُومَةِ.
أ-لحديث - الباب - حديث أبي هريرة.
ب-ولحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) رواه مسلم.
ج- وعَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) متفق عليه.
وهذا قول جماهير العلماء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وإحدى الروايتين عن مالك.
قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَدَاوُد وَالْجُمْهُور أَنَّهُ يَحْرُم أَكْل كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر.
وقال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي نَابٍ قَوِيٍّ مِنْ السِّبَاعِ، يَعْدُو بِهِ وَيَكْسِرُ، إلَّا الضَّبُعَ.
وقال الشوكاني: وفي الحديث دليل على تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وإلى ذلك ذهب الجمهور.
-
ما الحكمة من تحريم أكلها؟
قال ابن القيم: السبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي.
وقال ابن عثيمين: ولأن الحكمة تقتضيه؛ لأن للغذاء تأثيراً على المُتَغَذِّي به، فالإنسان ربما إذا اعتاد التغذِّي على هذا النوع من اللحوم صار فيه محبة العدوان على الغير؛ لأن ذوات الناب من السباع تعتدي، فإن الذئب مثلاً إذا رأى الغنم عدى عليها، ومع ذلك فإن بعض الذئاب إذا دخل في القطيع ما يكتفي بقتل واحدة ويأكلها، بل يمر على القطيع كله فيقتله كله، ويأكل ما شاء ثم يخرج.
-
ما الجواب عن قوله تعالى (قُلْ لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) حيث استدل ب
ها بعض العلماء على الكراهة دون التحريم؟
الجواب: أن الآية مكية نزلت قبل الهجرة، قصد بها الرد على أهل الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أمور كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، فالآية ليس فيها إلا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرماً إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع. (أحكام الأطعمة الفوزان).
وقال النووي: وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيث قَالُوا: وَالْآيَة لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَار بِأَنَّهُ لَمْ يَجِد فِي ذَلِكَ الْوَقْت مُحَرَّمًا إِلَّا الْمَذْكُورَات فِي الْآيَة، ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتَحْرِيمِ كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع، فَوَجَبَ قَبُوله وَالْعَمَل بِهِ.
وقال الشنقيطي: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِطَرِيقٍ صَحِيحَةٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُّنَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَيُزَادُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلْقُرْآنِ; لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَزِيدَةَ عَلَيْهَا حُرِّمَتْ بَعْدَهَا،
…
فَوَقْتُ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَحَصْرُهَا صَادِقٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ غَيْرِهَا بِلَا شَكٍّ، فَإِذَا طَرَأَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ آخَرَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ.
-
هناك حيوانات اختلف في حكمها هل هي من السباع أم لا؟
الضبع.
وسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله.
والثعلب.
فقيل: بإباحته. وقيل: بتحريمه.
وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وبه قال الظاهرية.
لحديث الباب، والثعلب ذو ناب فيدخل في عموم النهي ويكون محرماً.
والدب.
وهو حرام عند جماهير العلماء.
لأن له ناب يفترس فيه.
1322 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ اَلْأَهْلِيَّةِ، وَأْذَنْ فِي لُحُومِ اَلْخَيْلِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ اَلْبُخَارِيِّ (وَرَخَّصَ).
===
(يَوْمَ خَيْبَرَ) عام 7 هـ.
(اَلْحُمُرِ اَلْأَهْلِيَّةِ) وهي الحمر الإنسية، وهي التي تألف البيوت.
(وَأْذَنْ فِي لُحُومِ اَلْخَيْلِ) وفي رواية البخاري (رخص). (في لحوم الخيل) أي: أكل لحمها.
-
ما حكم أكل لحم الحمر الأهلية؟
حرام.
قال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، قَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِهُوهَا.
وقال النووي: فَقَالَ الْجَمَاهِير مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ بِتَحْرِيمِ لُحُومهَا لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَعَنْ مَالِك ثَلَاث رِوَايَات: أَشْهَرهَا أَنَّهَا مَكْرُوهَة كَرَاهِيَة تَنْزِيه شَدِيدَة، وَالثَّانِيَة: حَرَام، وَالثَّالِثَة: مُبَاحَة، وَالصَّوَاب التَّحْرِيم كَمَا قَالَهُ الْجَمَاهِير لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَة.
أ- لحديث الباب.
ب-ولحديث أنس قال (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُر اَلْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْس) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ج- وعن ابن عمر رضي الله عنه قال (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية) متفق عليه.
د- وعن علي رضي الله عنه قال (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية) متفق عليه.
هـ- وعن ابن أبي أوفى قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر) رواه البخاري.
فهذه الأحاديث فيها النهي الصريح عن لحوم الحمر الأهلية.
قال ابن القيم: أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم علي، وجابر، والبراء، وابن أبي أوفى، و
…
، والعرباض، وأبو ثعلبة، وابن عمر، وأبو سعيد، وسلمة، ....
-
ما العلة في النهي عنها؟
قيل: لحاجتهم إليها.
فقد جاء في حديث ابن عمر (
…
وكان الناس قد احتاجوا إليها).
لكن يرد هذا القول حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل) فلو كان النهي من أجل أنها حمولة الناس لكان النهي عن لحوم الخيل أولى.
وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة.
عَنْ غَالِب بْن أَبْجَرَ قَالَ (أَصَابَتْنَا سَنَة فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي شَيْء أُطْعِم أَهْلِي إِلَّا شَيْء مِنْ حُمُر، وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة، فَأَتَيْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُول اللَّه أَصَابَتْنَا السَّنَة فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِم أَهْلِي إِلَّا سِمَان حُمُر، وَإِنَّك حَرَّمْت لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة، فَقَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَك مِنْ سَمِين حُمُرك، فَإِنَّمَا حَرَّمْتهَا مِنْ أَجْل جَوَّال الْقَرْيَة). (يَعْنِي بِالْجَوَّالِ الَّتِي تَأْكُل الْجُلَّة، وَهِيَ الْعُذْرَة).
قال النووي: فَهَذَا الْحَدِيث مُضْطَرِب مُخْتَلَف الْإِسْنَاد شَدِيد الِاخْتِلَاف، وَلَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى الْأَكْل مِنْهَا فِي حَال الِاضْطِرَار وَاللَّهُ أَعْلَم.
وقال الشنقيطي: قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ يُخْتَلَفُ فِي إِسْنَادِهِ، يَعْنُونَ مُضْطَرِبًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا.
وقيل: إنه إنما حرمت لأنها رجس في نفسها.
قال ابن القيم: وهذا أصح العلل، فإنها هي التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه في الصحيحين.
(إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمر اَلْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْس).
•
ما حكم أكل البغل؟
حرام.
لحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ (حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ، لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) أَصْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ، بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالشَّوْكَانِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تفسيره: وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ (ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِغَالِ وَالْحُمُرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْخَيْلِ).
قال الشنقيطي: وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ عَنِ الْحَمِيرِ وَهِيَ حَرَامٌ قَطْعًا; لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِتَحْرِيمِهَا وقال ابن قدامة: وَالْبِغَالُ حَرَامٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ حَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهَا، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ.
قَالَ قَتَادَةُ: مَا الْبَغْلُ إلَّا شَيْءٌ مِنْ الْحِمَارِ.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ (ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ الْخَيْلِ).
قال ابن قدامة رحمه الله: والبغال حرام (أي: أكلها) عند كل من حرم الحمر الأهلية; لأنها متولدة منها، والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم.
جاء في (الموسوعة الفقهية): مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَالثَّانِي حَلَالٌ مَعَ الإْباحَةِ أَوْ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الصِّنْفِ: الْبِغَال:
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْبَغْل وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّدَاتِ يَتْبَعُ أَخَسَّ الأْصْلَيْنِ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ يَتْبَعُ أَخَسَّ الأصْلَيْنِ، أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُمَا فَيَجْتَمِعُ فِيهِ حِلٌّ وَحُرْمَةٌ، فَيُغَلَّبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي، أَوِ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ، غُلِّبَ جَانِبُ الْمَانِعِ الْحَاظِرِ احْتِيَاطًا.
•
ما حكم أكل الحمر الوحشية؟
حلال.
فقد جاء في حديث جابر قال (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي) رواه مسلم.
وفي حديث أبي قتادة قال: (قلت: يا رسول الله، أصبت حمار وحش وعندي منه فاضلة، فقال للقوم: كلوا، وهم محرمون) متفق عليه.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم الصحابة بالأكل من حمار الوحش وهم محرمون، وهذا دليل على حله.
•
ما حكم أكل لحم الخيل؟
حلال عند جماهير العلماء.
قال النووي: فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَالْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف أَنَّهُ مُبَاح لَا كَرَاهَة فِيهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَفَضَالَة بْن عُبَيْد وَأَنَس بْن مَالِك وَأَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر وَسُوَيْد بْن غَفَلَة وَعَلْقَمَة وَالْأَسْوَد وَعَطَاء وَشُرَيْح وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ وَحَمَّاد بْن سُلَيْمَان وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَدَاوُد وَجَمَاهِير الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرهم. (شرح مسلم)
وقال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه حلال لا كراهة فيه وبه قال أكثر العلماء.
أ- لحديث الباب (وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ).
ب-عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ (نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ).
وَفِي رِوَايَةٍ (وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ).
ج- وعن جابر رضي الله عنه قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا نأكل لحم الخيل ونشرب ألبانها) رواه الدارقطني والبيهقي. قال النووي: بإسناد صحيح.
ج- وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ مُسْتَطَابٌ، لَيْسَ بِذِي نَابٍ وَلَا مِخْلَبٍ، فَيَحِلُّ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمُبِيحَةِ. (المغني).
وذهب بعض العلماء إلى أنها حرام. وهذا مذهب أبي حنيفة، والأشهر عند مالك.
أ- لقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً).
وجه الدلالة من الآية: (ذكرها ابن حجر في الفتح).
أَحَدهَا: أنَّ اللام لِلتَّعْلِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّها لَمْ تُخْلَق لغَيْرَ ذَلِكَ، لأَنَّ الْعِلَّة المَنْصُوصَة، تُفِيد الْحَصْر، فَإِبَاحَة أَكْلهَا تَقْتَضِي خِلَاف ظَاهِرِ الآيَة.
ثَانِيهَا: عَطْف الْبِغَال، وَالْحَمِير، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكهَا مَعَهَا فِي حُكْم التَّحْرِيم، فَيَحْتَاجُ مَنْ أَفْرَدَ حُكْمهَا عَنْ حُكْم مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيل.
ثَالِثهَا: أَنَّ الآية سِيقَتْ مَسَاق الامْتِنَان، فَلَوْ كَانَتْ يُنْتَفَع بِها فِي الأَكْل، لَكَانَ الامْتِنَان بهِ أَعْظَم؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّق بِهِ بَقَاء الْبنْيَة، بِغَيْرِ وَاسِطَة، وَالْحَكِيم لا يَمْتَنّ بِأَدْنَى النِّعَم، وَيَترُكَ أَعْلاهَا، وَلاسِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ الامْتِنَان بِالأَكْلِ فِي المَذْكُورَات قَبْلهَا.
رَابِعِهَا: لَوْ أُبِيحَ أَكْلهَا، لَفَاتَتِ الْمَنْفَعَة بِهَا، فِيْمَا وَقَعَ بِهِ الامْتِنَان، مِنْ الرُّكُوب، وَالزِّينَة، هَذَا مُلَخَّص مَا تَمَسَّكُوا بِهِ منْ هَذِهِ الآيَة. (الفتح).
ب- ولحديث خالد بن الوليد قال (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد شرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع). رواه أبو داود
والصحيح الأول.
وأما الجواب عن الآية:
فإنها نزلت في مكة اتفاقاً، والإذن في أكل لحوم الخيل يوم خيبر، كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين.
وأما الحديث فلا يصح.
قال النووي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث وَغَيْرهمْ عَلَى أَنَّهُ حَدِيث ضَعِيف وَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ مَنْسُوخ، رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ مُوسَى بْن هَارُون الْحَمَّال (بِالْحَاءِ) الْحَافِظ قَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، قَالَ: وَلَا يُعْرَف صَالِح بْن يَحْيَى وَلَا أَبُوهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ: هَذَا الْحَدِيث فِيهِ نَظَر، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَاد مُضْطَرِب، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي إِسْنَاده نَظَر، قَالَ: وَصَالِح بْن يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه لَا يُعْرَف سَمَاع بَعْضهمْ مِنْ بَعْض، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدِيث الْإِبَاحَة أَصَحّ، قَالَ: وَيُشْبِه إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا أَنْ يَكُون مَنْسُوخًا. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَحَادِيث الْإِبَاحَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَغَيْره، وَهِيَ صَحِيحَة صَرِيحَة، وَبِأَحَادِيث أُخَر صَحِيحَة جَاءَتْ بِالْإِبَاحَةِ، وَلَمْ يَثْبُت فِي النَّهْي حَدِيث. (نووي).
وقال ابن حجر: من حجج من منع أكل الخيل حديث خالد بن الوليد المخرج في السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل) وتعقب بأنه شاذ منكر لأن في سياقه أنه شهد خيبر وهو خطأ فإنه لم يسلم الا بعدها على الصحيح والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح. (الفتح).
وقَالَ رحمه الله فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ " لُحُومِ الْخَيْلِ " مَا نَصُّهُ: وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ خَالِدٍ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَآخَرُونَ.
فائدة:
قَالَ فِي "الفتح": قَالَ الطَّحَاويُّ: وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة إِلَى كَرَاهَة أَكْلِ الخَيل، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، وَغَيْرهمَا، وَاحْتَجوا بِالأخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَة فِي حِلِّهَا، وَلَو كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا منْ طَرِيق النَّظَر، لَمَا كَانَ بَيْن الْخَيْل وَالْحُمُر الأَهْلِيَّة فَرْق، وَلَكِن الآثَارُ إِذَا صَحَّتْ عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلَى أنْ يُقَال بِهَا، مِمَّا يُوجِبهُ النَّظَر، وَلاسِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ جَابِر، أنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لَهُمْ لُحُوم الْخَيْل، فِي الْوَقْت الَّذِي مَنَعَهُمْ فِيهِ منْ لُحُوم الحُمُر، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَاف حُكْمهمَا.
قَالَ الحافظ وَقَدْ نَقَلَ الحِلّ بَعْضُ التَّابِعِين عن الصَّحَابَة، منْ غَيْر اسْتِثْنَاء أَحَدٍ.
1323 -
وَعَنْ اِبْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ اَلْجَرَادَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(الْجَرَادَ) هو بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء كالحمامة، ويقال: إنه مشتق من الجَرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرّده.
ويقال: جرّده من ثوبه عرّاه، وجرد الجلد: نزع عنه الشعر، وجرد الجراد الأرض: أكل ما عليه من النبات وأتى ما عليه فلم يبق منه شيئا، وجرد القحط الأرض أذهب نباتها، والسيف من غمده سله، والقطن حلجه، وجرد القوم: سألهم فمنعوه أو أعطوه كارهين، وجرد ما في المخزن أو الحانوت: أحصى ما فيه من البضائع.
(نَأْكُلُ اَلْجَرَادَ) وفي رواية البخاري (فكنّا نأكل معه الجراد) فَقَالَ فِي الفتح: يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو، دون ما تبعه منْ أكل الجراد. ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل عَلَى الثاني، أنه وقع فِي رواية أبي نعيم فِي الطب (ويأكل معنا).
قَالَ الحافظ: رحمه الله تعالى: وهذا إن صحّ، يرد عَلَى الصيمري، منْ الشافعية، فِي زعمه أنه صلى الله عليه وسلم عافه كما عاف الضب. ثم وقفت عَلَى مستند الصيمري، وهو ما أخرجه أبو داود، منْ حديث سلمان رضي الله عنه، سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد؟، فَقَال: لا آكله، ولا أحرمه، والصواب مرسل، ولابن عدي فِي ترجمة ثابت بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب، فَقَالَ: لا آكله، ولا أحرمه، وسئل عن الجراد، فَقَالَ: مثل ذلك. وهذا ليس ثابتاً، لأن ثابتاً، قَالَ فيه النسائيّ: ليس بثقة.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حل أكل الجراد، وهذا بالإجماع كما حكاه النووي وغيره.
قال النووي: فِيهِ إِبَاحَة الْجَرَاد، وَأَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَته. (شرح مسلم).
وقال القرطبي: ولم يختلف العلماء في أكله على الجملة. (التفسير).
وجه الدلالة من حديث الباب: أن كون هذا الصحابي يأكل الجراد مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المدة المذكورة، دليل على حل الجراد، لأنه لو كان حراماً لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكمه ولم يسكت عنه.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد). رواه أبو داود، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح وله حكم الرفع.
فهذا فيه التصريح بأن الجراد حلال.
•
هل يجوز أكله بدون ذكاة؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز أكل الجراد بدون ذكاة (يجوز أكل ميتته).
لحديث ابن عمر السابق: (ميتتان
…
).
ففيه أن مما أحله الله لنا ميتتيْ السمك والجراد، وهذا دليل على حل ميتة الجراد بدون تفصيل.
قال النووي:
…
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة، وَأَحْمَد وَالْجَمَاهِير: يَحِلّ، سَوَاء مَاتَ بِذَكَاةٍ أَوْ بِاصْطِيَادِ مُسْلِم أَوْ مَجُوسِيّ، أَوْ مَاتَ حَتْف أَنْفه، سَوَاء قُطِعَ بَعْضه أَوْ أُحْدِثَ فِيهِ سَبَب.
فائدة: ورد ذكر الجراد في القرآن في موضعين:
الموضع الأول كان ذكره كجندي من جنود الله أرسله الله على العصاة من عباده عقاباً لهم فقال تعالى (فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِين).
فهو إذن عقاب وابتلاء يسلطه الله سبحانه على من يشاء بأمره، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: وهو جند من جنود الله ضعيف الخلقة عجيب التركيب فيه خلق سبع حيوانات فإذا رأيت عساكره قد أقبلت أبصرت جنداً لا مرد له ولا يحصى منه عدد ولا عدة فلو جمع الملك خيله ورجله ودوابه وسلاحه ليصده عن بلاده لما أمكنه ذلك فانظر كيف ينساب على الأرض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ويسد وجه السماء بأجنحته ويبلغ من الجو إلى حيث لا يبلغ طائر أكبر جناحين منه، فسل المعطل من الذي بعث هذا الجند الضعيف الذي لا يستطيع أن يرد عن نفسه حيواناً رام أخذه بلية على العسكر أهل القوة والكثرة والعدد والحيلة فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه بل ينظرون إليه يستبد بأقواتهم دونهم ويمزقها كل ممزق ويذر الأرض قفراً منها وهم لا يستطيعون أن يردوه ولا يحولوا بينه وبينها وهذا من حكمته سبحانه أن يسلط الضعيف من خلقه الذي لا مؤنة له على القوى فينتقم به منه وينزل به ما كان يحذره منه حتى لا يستطيع لذلك رداً ولا صرفاً.
والموضع الثاني جاء ذكره في سياق وصف يوم الحشر وحال الناس حين يخرجون من قبورهم وهم في فزع عظيم وأمر مريج كأنهم الجراد المنتشر بكل اتجاه.
فقال عز من قائل (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر).
أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق، منتشر في كثرتهم وتفرقهم في كل جهة والجراد مثل في الكثرة والتموج، ويقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض جاءوا كالجراد.
فائدة: قال القرطبي: واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد.
فقيل: لا يقتل. وقال أهل الفقه كلهم: يقتل.
احتج الأولون بأنه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم. وبما روي (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم).
واحتج الجمهور بأن في تركها فساد الأموال، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ مال؛ فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها. ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب؟ لأنهما يؤذيان الناس فكذلك الجراد .... (تفسير القرطبي)
1324 -
وَعَنْ أَنَسٍ - فِي قِصَّةِ اَلْأَرْنَبِ - قَالَ (فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا) بفتح الواو وهو ما فوق الفخذ.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حل أكل الأرنب.
قال النووي: وَأَكْل الْأَرْنَب حَلَال عِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِي وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَابْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا كَرِهَاهَا. دَلِيل الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث مَعَ أَحَادِيث مِثْله، وَلَمْ يَثْبُت فِي النَّهْي عَنْهَا شَيْء.
وقال ابن قدامة: وَالْأَرْنَبُ مُبَاحَةٌ، أَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَائِلًا بِتَحْرِيمِهَا، إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ (أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتهَا، فَجِئْت بِهَا إلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا - أَوْ قَالَ - فَخِذِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّهَا حَيَوَانٌ مُسْتَطَابٌ، لَيْسَ بِذِي نَابٍ؛ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ. (المغني). (مَعْنَى اِسْتَنْفَجْنَا: أَثَرْنَا وَنَفَرْنَا).
وقال ابن حجر: وفي الحديث جواز أكل الأرنب وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمرو من الصحابة، وعن عكرمة من التابعين، وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء.
واحتج بحديث خزيمة بن جزء (قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله ولا أحرمه، قلت فإني أكل ما لا تحرمه ولم يا رسول الله قال نبئت أنها تدمى) وسنده ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة.
1325 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أَرْبَعِ مِنْ اَلدَوَابِّ: اَلنَّمْلَةُ، وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ، وَالصُّرَدُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
===
-
ما صحة حديث الباب؟
سنده صحيح.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم أكل هذه الدواب، لأنه لو حلّ أكلها لما نهي عن قتلها.
فمن الأشياء التي يحرم أكلها: ما نهى الشرع عن قتله، فكل شيء نهى الشرع عن قتله فأكله حرام.
لحديث الباب (ونهى عن قتل أربع من الدواب: النملة
…
).
ولأنا لو قتلناه لوقعنا فيما نهى الشارع عنه.
ولأنه لو كان حلال الأكل لما نهىَ عن قتله.
-
اذكر قاعدة أخرى من قواعد باب الأطعمة؟
القاعدة: كل حيوان أمر الشارع بقتله فهو محرم الأكل.
لأنه لو كان الانتفاع بأكلها جائزاً لما أذن صلى الله عليه وسلم بقتلها.
ولما فيها من الإيذاء والتعدي.
الحيوانات التي أمر بقتلها: قال صلى الله عليه وسلم (خمس يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والحدأة والفأر والكلب العقور). متفق عليه
وكذلك الوزغ (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها) متفق عليه.
1326 -
وَعَنْ اِبْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ (قُلْتُ لِجَابِرٍ: اَلضَّبُعُ صَيْدُ هِيَ؟ قَالَ: نِعْمَ. قُلْتُ: قَالَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نِعْمَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةَ وَصَحَّحَهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
===
(اَلضَّبُع) هو الواحد الذكر والأنثى ضبعان ولا يقال ضبعة، ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكراً، وسنة أنثى فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم. (نيل الأوطار).
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حل أكل الضبع، وقد اختلف العلماء في حكم أكله على قولين:
القول الأول: أنه حرام.
وهو قول الحنفية وجماعة من العلماء.
واستدلوا بعموم حديث (نهى عن كل ذي ناب من السباع).
قالوا: والضبع لها ناب تصيد به فتدخل تحت الحديث.
القول الثاني: أنها حلال.
وهو قول الشافعية والحنابلة.
وروى ابن أبي شيبة في (المصنف) وعبد الرزاق في (المصنف) هذا القول عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم جميعاً.
وعزاه ابن المنذر في (الأوسط) لأكثر أهل العلم.
قال ابن المنذر: وقد اختلف أهل العلم في أكل الضبع فرخص أكثر أهل العلم فيه.
لحديث الباب.
ولفظ أبي داود عن جابر قال (هو صيد ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم).
وجه الدلالة من الحديث: أن جعل الضبع صيداً.
وهذا القول هو الصحيح.
-
ما الجواب عن حديث (نهى عن كل ذي ناب من السباع)؟
أجابوا بجوابين:
الأول: قالوا بتخصيص الضبع من عموم حديث تحريم كل ذي ناب من السباع، ودليل التخصيص هو حديث جابر رضي الله عنه، فيحرم كل ذي ناب من السباع إلا الضبع.
الثاني: أجاب بعضهم بأن الضبع لا يشمله حديث التحريم أصلاً، لأنه ليس من السباع العادية.
قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم إنما حرم ما اشتمل على الوصفين، أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد، والذئب، والنمر، والفهد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين؛ وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية، ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمتغذي، ولا ريب أن القوة السبعية في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم، ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفاً. (إعلام الموقعين).
وقال رحمه الله: فَحرم على الأمة أكلها (أي السباع ذوات الأنياب) وَلم يحرم عَلَيْهِم الضبع وان كَانَ ذَا نَاب فَإِنَّهُ لَيْسَ من السبَاع عِنْد أحد من الأمم، وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ لما تضمن الوصفين أن يكون ذَا نَاب وأن يكون من السبَاع. (مفتاح دار السعادة).
فائدة:
استدل بعضهم على تحريم أكل الضبع بما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال أو يأكل الضبع أحد) وفي رواية (ومن يأكل الضبع) فيجاب بأن هذا الحديث ضعيف لأن في إسناده عبد الكريم بن أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. (نيل الأوطار).
1327 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اَلْقُنْفُذِ، فَقَالَ (قُلْ لَا أَجدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ) فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: - ذُكِرَ عِنْدَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (خِبْيثَة مِنْ اَلْخَبَائِثِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
===
-
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف كما قال المصنف رحمه الله.
-
ما حكم أكل القنفذ؟
اختلف العلماء في حكم القنفذ على قولين:
القول الأول: أنه حلال.
وهذا مذهب الشافعي.
لأن العرب تستطيبه لطيب أكله.
القول الثاني: أنه حرام.
وهذا قول الحنفية والحنابلة.
لحديث الباب، حيث جعل القنفذ من جملة الخبائث. والله أعلم.
1328 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةِ إِلَّا النَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
===
-
ما صحة حديث الباب؟
صحيح وله شواهد:
عن ابن عباس رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَة) رواه الترمذي، صححه النووي، وقال ابن حجر: على شرط البخاري، وصححه الألباني.
وعَنْ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَعَنْ الْجَلَّالَةِ، وَعَنْ رُكُوبِهَا، وَعَنْ أَكْلِ لَحْمِهَا) رواه النسائي وحسنه ابن حجر في الفتح.
-
ما تعريف الجلالة؟
الجلالة: هي التي أكثر علفها النجاسة، قد تكون بعيراً، وقد تكون بقرة، وقد تكون دجاجة.
والْجَلالَة هِيَ الَّتِي تَأْكُل الجِلَّة، والجلة: البَعر. ينظر: "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/ 78)، و "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 276).
وقال أبو داود رحمه الله: " الْجَلَّالَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الْجَلَّالَةُ: مَا أَكَلَتِ الْعَذِرَةَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ" انتهى من " مسائل الإمام أحمد " رواية أبي داود.
فالجلالة: اسم يشمل أي حيوان يتغذى على النجاسات، سواء كان من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج، أو الإوز، أو غيرها من الحيوانات المأكولة.
قال النووي رحمه الله: وَتَكون الْجَلالَة: بَعِيرًا، وبقرةً، وشَاةً، ودجاجةً، وإوزة، وَغَيرهَا " انتهى من " تحرير ألفاظ التنبيه "
-
ما حكم أكل الجلالة؟
يحرم أكلها لظاهر النهي في الحديث.
وهذا مذهب الحنابلة.
وذهب بعض العلماء بإباحة أكلها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَفَّالُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَأَلْحَقُوا بِلَبَنِهَا وَلَحْمِهَا: بَيْضَهَا. (الفتح).
-
متى تعتبر جلالة؟
قيل: إذا كان أكثر علفها النجاسة.
وهذا مذهب الحنابلة.
قال ابن قدامة رحمه الله: فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ، حُرُمَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا الطَّاهِرَ، لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا وَلَا لَبَنُهَا.
وقيل: الاعتبار بالرائحة والنتن.
قال النووي رحمه الله: لَا اعْتِبَارَ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالرَّائِحَةِ وَالنَّتْنِ، فَإِنْ وُجِدَ فِي عَرَقِهَا وَغَيْرِهِ رِيحُ النَّجَاسَةِ فَجَلَّالَةٌ، وَإِلَّا فَلَا. (المجموع شرح المهذب).
قال البيهقي رحمه الله: وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْجَلَّالَةِ، وَمَا قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: إِذَا ظَهَرَ رِيحُ الْقَذَرِ فِي لَحْمِهَا. (شعب الإيمان).
قال الشيخ خالد المشيقح حفظه الله: فالصواب في هذه المسألة أنه إذا كان للنجاسة أثر في طعم اللحم أو رائحته، أو اللبن، أو يسبب أمراضاً، ونحو ذلك، فإنه محرم، وأما إذا لم يكن لها أثر فإنه جائز؛ لأن النجاسات تطهر بالاستحالة، وهذه الأشياء قد استحالت إلى دم، ولحم، وحليب، ونحو ذلك، هذا هو الصواب الأقرب من قولي العلماء رحمهم الله فيما يتعلق بالجلالة.
-
متى يزول عنها حكم الجلالة؟
تزول حُرمة أكْل لحم الجلَّالة بمنعها من النَّجاسات، وحبسها على العلف الطاهر.
قال ابن قدامة: وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِحَبْسِهَا اتِّفَاقًا.
وقال النووي: وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ ظُهُورِ النَّتْنِ، وَعُلِفَتْ شَيْئًا طَاهِرًا، فَزَالَتْ الرَّائِحَةُ، ثُمَّ ذُبِحَتْ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا قَطْعًا
لأن أنَّ المانع من الحِلِّ - وهو أكْل النَّجاسة - قد زال بحبسها على العلف الطَّاهر، والحُكم إذا عُلِّق بعِلَّة، زال بزوالها.
-
واختلف في مقدار حبسها لكي تحل؟
قيل: تحبس ثلاثة أيام، سواء كانت طائراً أو بهيمة، وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً.
وقيل: التفصيل: فيحبس الطائر ثلاثاً والشاة سبعاً وما عدا ذلك يحبس أربعين يوماً.
روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ الْجَلَّالَةَ ثَلَاثًا) انتهى من مصنف ابن أبي شيبة، وسنده صحيح كما قال الحافظ في (الفتح).
والراجح: أنها لا تتقدر، بل متى غلب على الظن ذهاب أثر النجاسة عنها حلت، لأن التحديد لا دليل عليه، والمقصود زوال المحذور.
وهذا مذهب الحنفيّة، والشَّافعيَّة، واختاره ابن حزم.
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ العِبرة بزوال الوصف الذي أدَّى إلى كراهتها وهو النَّجاسة، وهو شيءٌ محسوس؛ فإذا زالت النَّجاسة، زال حُكمها.
ثانيًا: أنَّه لا يتقدَّر بالزَّمان لاختلاف الحيوانات في ذلك؛ فيُصار فيه إلى اعتبار زوال المضرّ.
قال السرخسي من الحنفية: الأصح أنها تحبس إلى أن تزول الرائحة المنتنة، لأن الحرمة لذلك، وهو شيء محسوس، ولا يتقدر بالزمان لاختلاف الحيوانات في ذلك، فيصار فيه إلى اعتبار زوال المضر، فإذا زال بالعلف الطاهر حل تناوله والعمل عليه بعد ذلك.
وقال النووي: وَلَيْسَ لِلْقَدْرِ الَّذِي تُعْلفُهُ مِنْ حَدٍّ، وَلَا لِزَمَانِهِ مِنْ ضَبْطٍ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا يُعْلَمُ فِي الْعَادَةِ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ تَزُولُ بِه، وَلَوْ لَمْ تُعْلَفْ لَمْ يَزُلْ الْمَنْعُ بِغَسْلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا بِالطَّبْخِ وَإِنْ زَالَتْ الرَّائِحَةُ بِه. (المجموع).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى تَطِيبَ كَانَتْ حَلَالًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي لَبَنِهَا وَبَيْضِهَا وَعَرَقِهَا، فَيَظْهَرُ نَتْنُ النَّجَاسَةِ وَخُبْثُهَا، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ طَاهِرَةً، فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ: زَوَالُ رَائِحَةِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ أَنْ تُعْلَفَ بِالشَّيْءِ الطَّاهِرِ عَلَى الصَّحِيح.
-
ما الحكمة في النهي عن أكل لحم الجلالة؟
الحكمة – والله أعلم – ترفع الإسلام بأهله عن تناول الخبائث ولو من طريق غير مباشر، لما لذلك من تأثير سيء على صحة الإنسان وسلوكه، لأن المتغذي يشبه ما تغذى به فينتقل الخبث من المأكول إلى الآكل ويكتسب من أخلاقه. [أحكام الأطعمة للشيخ صالح الفوزان حفظه الله].
-
لماذا نهي عن ألبانها وعن ركوبها؟
قال الإمام إبراهيم الحربي: وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ أَلْبَانِهَا، لِأَنَّ آكِلَهُ يَجِدُ فِيهِ طَعْمَ مَا أَكَلَتْ، وَكَذَلِكَ فِي لُحُومِهَا، وَنُهِيَ عَنْ رُكُوبِهَا، لِأَنَّهَا تَعْرَقُ، فَتُوجَدُ رَائِحَتُهُ فِي عَرَقِهَا، وَرَاكِبُهَا لَا يَخْلُو أَنْ يُصِيبَهُ ذَلِكَ، أَوْ يَجِدَ رَائِحَتَهُ، فَإِنْ تَحَفَّظَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ رُكُوبُهَا، وَلَمْ يَجُزْ شُرْبُ أَلْبَانِهَا، وَلَا أَكْلُ لُحُومِهَا إِلَّا أَنْ يَصْنَعَ بِهَا مَا يُزِيلُهَا. (غريب الحديث).
-
ما الحكم إذا كان يتغذى بالنجاسة قليلاً وأكثر طعامه من الطيبات؟
هذا لا يشمله حكم الجلالة.
قال الخطابي رحمه الله: فأما إذا رعت الكلأ، واعتلفت الحَبَّ، وكانت تنال مع ذلك شيئاً من الجِلَّة، فليست بجلالة، وإنما هي كالدجاج ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها، وغالب غذائه وعلفه من غيرها: فلا يكره أكله.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإذا كانت تأكل الطيب والقبيح، وأكثر علفها الطيب، فإنها ليست جلالة، بل هي مباحة، ومن هذا ما يفعله بعض أرباب الدواجن يعطونها من الدم المسفوح من أجل تقويتها أو تنميتها فلا تحرم بهذا ولا تكره؛ لأنه إذا كان الأكثر هو الطيب، فالحكم للأكثر. (شرح رياض الصالحين).
1329 -
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةٌ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ اَلْحِمَارِ اَلْوَحْشِيِّ- (فَأَكَلَ مِنْهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حل الحمار الوحشي.
وقد روى مسلم في صحيحه عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّه قال (أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ وَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ)
-
اذكر لفظ حديث الباب كاملاً؟
عن أَبِى قَتَادَة رضي الله عنه قَالَ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا وَخَرَجْنَا مَعَهُ - قَالَ - فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ «خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي، قَالَ فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أَبَا قَتَادَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا - قَالَ - فَقَالُوا أَكَلْنَا لَحْمًا وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ - قَالَ - فَحَمَلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِ الأَتَانِ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا فَقُلْنَا نَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ. فَحَمَلْنَا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا. فَقَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ». قَالَ قَالُوا لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا). متفق عليه
وفي رواية (فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالُوا مَعَنَا رِجْلُهُ. قَالَ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا).
1330 -
وَعَنْ أَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ (نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَساً، فَأَكَلْنَاهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
===
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حل لحوم الخيل، وقد تقدمت المسألة.
1331 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (أَكُلَّ اَلضَّبِّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
-
ما حكم أكل الضب؟
الراجح أنه حلال.
أ- لحديث الباب، ولفظه كاملاً:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) متفق عليه.
(محنوذ) أي مشوي بالحجارة المحماة، (لم يكن بأرض قومي) جاء في رواية:(هذا لحم لم آكله قط).
وجه الدلالة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لخالد على أكله، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على الجواز.
ب- وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الضب لست آكله ولا أحرمه).
وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال: لست بآكله ولا محرمه).
وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي).
وهذا نص صريح على عدم الحرمة الشرعية، وإشارة إلى الكراهة الطبيعية.
قال النووي: ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَغَيْره
…
وَأَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الضَّبّ حَلَال لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة مِنْ كَرَاهَته، وَإِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ حَرَام، وَمَا أَظُنّهُ يَصِحّ عَنْ أَحَد، وَإِنْ صَحَّ عَنْ أَحَد فَمَحْجُوج بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاع مَنْ قَبْله. (شرح مسلم).
-
اذكر بعض أدلة من قال بحرمته أو كراهته؟
أ- ما روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له ضب فلم يأكله، فقام عليهم سائل فأرادت أن تعطيه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتعطين ما لا تأكلين).
ب- أن الضب من جملة الممسوخ، والممسوخ محرم، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال عليه السلام:(إن أمة مسخت في الأرض، وإني أخاف أن يكون منها) رواه أحمد وأبو داود.
-
ما الجواب عن هذه الأدلة؟
أولاً: أما قولهم بأن الضب من الممسوخ فقد قال الحافظ ابن حجر: قال الطبري: ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ، وإنما خشي أن يكون منه فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله نبيه أن الممسوخ لا ينسل.
ثانياً: وأما حديث عائشة فيجاب عنه: بأنه لا يتعين أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع التصرف به لأجل حرمته، بل يحتمل أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى:(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام.
-
ماذا نستفيد من قوله (وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي)؟
نستفيد بيان علة عدم أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الضب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (لم يكن بأرض قومي).
قال ابن حجر: وقد ورد سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر نص حديث ابن عباس وفي آخره (قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا - يعني لخالد بن الوليد، وعباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة).
قال المازري: يعني الملائكة، وكأن للحم الضب ريحاً فترك أكله لأجل ريحه، وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان. (فتح الباري).
-
هل الإقرار حجة شرعية؟
نعم. وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
هَذَا تَصْرِيح بِمَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء، وَهُوَ إِقْرَار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الشَّيْء وَسُكُوته عَلَيْهِ إِذَا فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ يَكُون دَلِيلًا لِإِبَاحَتِهِ، وَيَكُون بِمَعْنَى قَوْله: أَذَنْت فِيهِ وَأَبَحْته، فَإِنَّهُ لَا يَسْكُت عَلَى بَاطِل، وَلَا يُقِرّ مُنْكَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
-
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- ذكاء ورجحان عقل ميمونة.
- أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤاكل أصحابه.
1332 -
وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْقُرَشِيُّ رضي الله عنه (أَنَّ طَبِيباً سَأَلَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلضِّفْدَعِ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
-
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
-
ما حكم أكل الضفدع؟
حرام.
وهذا قول الجمهور.
للنهي عن قتله كما في حديث الباب.
قَالَ الخطابي رحمه الله تعالى: فِي هَذَا دليل عَلَى أن الضفدع مُحَرَّم الأكل، وأنه غير داخل فيما أبيح منْ دواب الماء، وكل منهي عن قتله منْ الحيوان، فإنما هو لأحد أمرين: إما لحرمة فِي نفسه، كالآدمي، وإما لتحريم لحمه، كالصرد، والهدهد، ونحوهما، وإذا كَانَ الضفدع ليس بمحرم، كالآدمي، كَانَ النهي فيه منصرفا إلى الوجه الآخر، وَقَدْ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان، إلا لمأكله.
وقال الشنقيطي: وَالظَّاهِرُ مَنْعُ أَكْلِ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا; لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ: أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا. والله أعلم.
باب اَلصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ
الصيد: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مقدور عليه.
• وفي هذا الباب ذكر أحكام الذكاة.
تعريفها:
لغة: تمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل.
وشرعاً: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر ممتنع.
وقيل: إنهار الدم من بهيمة تحل، إما في العنق إن كان مقدوراً عليها، أو في أي محل من بدنه إن كان غير مقدور عليها.
•
والذكاة شرط لحل الحيوان المباح.
أجمع العلماء على أنه لا يحل الحيوان المأكول اللحم غير السمك والجراد إلا بذكاة.
لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) فاشترط الله الذكاة.
والحكمة منها: تطييب الحيوان المذكى، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طِيب، لأنه يسارع إليه التجفف.
والميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل.
1333 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً، إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، اِنْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
===
(مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً) وفي رواية (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا) قَالَ القرطبيّ: اقتنى، واتّخذ، واكتسب كلّها بمعنى واحد.
(قِيرَاطٌ) قَالَ النوويّ: القيراط هنا مقدار معلوم عند الله تعالى، والمراد نقص جزء منْ أجزاء عمله.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم اقتناء الكلاب - إلا ما استثني - وأن من فعل ذلك نقص من أجره كل يوم قيراط.
عن أبي طلحة. قال: قَال صلى الله عليه وسلم (لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فِيهِ كَلْب وَلَا صُورَة) رواه مسلم.
قال النووي: وَسَبَب اِمْتِنَاعهمْ مِنْ بَيْت فِيهِ كَلْب لِكَثْرَةِ أَكْله النَّجَاسَات، وَلِأَنَّ بَعْضهَا يُسَمَّى شَيْطَانًا كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيث، وَالْمَلَائِكَة ضِدّ الشَّيَاطِين، وَلِقُبْحِ رَائِحَة الْكَلْب وَالْمَلَائِكَة تَكْرَه الرَّائِحَة الْقَبِيحَة، وَلِأَنَّهَا مَنْهِيّ عَنْ اِتِّخَاذهَا؛ فَعُوقِبَ مُتَّخِذهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُول الْمَلَائِكَة بَيْته، وَصَلَاتهَا فِيهِ، وَاسْتِغْفَارهَا لَهُ، وَتَبْرِيكهَا عَلَيْهِ وَفِي بَيْته، وَدَفْعهَا أَذًى لِلشَّيْطَانِ. (شرح مسلم)
ونستفيد من الحديث: أنه يجوز اقتناء الكلاب لهذه الأغراض الثلاثة المذكورة في الحديث.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: فِي هَذَا الْحَدِيث إِبَاحَة اِتِّخَاذ الْكِلَاب لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَة، وَكَذَلِكَ الزَّرْع.
•
ماذا نستفيد من قوله (إِلَّا صَيْدٍ)؟
نستفيد جواز الصيد.
•
اذكر متى يباح الصيد، ومتى يكره، ومتى يحرم؟
أ- يباح إذا قصد منه دفع الحاجة والانتفاع بلحمه.
ب- يكره إذا كان القصد منه التلهي به واللعب والمفاخرة.
لأنه يشغل عما هو أنفع منه من الأعمال الدينية والدنيوية.
ج-: يحرم إذا ترتب عليه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم وبساتينهم وأموالهم.
فإن قيل: ما الجواب عن حديث (من اتبع الصيد غفل) رواه الترمذي.
فالجواب: المراد الإكثار منه حتى يشغله.
•
ما الجمع بين حديث الباب في قوله (اِنْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) وفي رواية أخرى (نقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَان)؟
قال الحافظ العيني رحمه الله:
أ- يجوز أنْ يكونا في نوعين مِنْ الكلاب، أحدُهما أشدُّ إيذاءً.
ب- وقيل: القيراطان في المدن والقرى، والقيراط في البوادي.
جـ- وقيل: هما في زمانين، ذكر القيراط أولاً، ثم زاد التغليظ، فذكر القيراطين. (عمدة القارئ).
•
هل يجوز اقتناء الكلب لحراسة البيوت؟
قال النووي: اختلف في جواز اقتنائه لغير هذه الأمور الثلاثة كحفظ الدور والدروب، والراجح: جوازه قياساً على الثلاثة عملاً بالعلَّة المفهومة من الحديث وهي: الحاجة. (شرح مسلم).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وعلى هذا فالمنزل الذي يكون في وسط البلد لا حاجة أنْ يتخذ الكلب لحراسته، فيكون اقتناء الكلب لهذا الغرض في مثل هذه الحال محرماً لا يجوز وينتقص من أجور أصحابه كل يوم قيراط أو قيراطان، فعليهم أنْ يطردوا هذا الكلب وألا يقتنوه، وأما لو كان هذا البيت في البر خالياً ليس حوله أحدٌ فإنَّه يجوز أنْ يقتني الكلب لحراسة البيت ومَن فيه، وحراسةُ أهلِ البيت أبلغُ في الحفاظ مِنْ حراسة المواشي والحرث. (مجموع فتاوى ابن عثيمين).
•
هل الكلاب التي يباح اقتناؤها تمنع دخول الملائكة للبيت؟
قيل: لا تمنع.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فِيهِ كَلْب أَوْ صُورَة مِمَّا يَحْرُم اِقْتِنَاؤُهُ مِنْ الْكِلَاب وَالصُّوَر، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحِرَامٍ مِنْ كَلْب الصَّيْد وَالزَّرْع وَالْمَاشِيَة وَالصُّورَة الَّتِي تُمْتَهَن فِي الْبِسَاط وَالْوِسَادَة وَغَيْرهمَا فَلَا يَمْتَنِع دُخُول الْمَلَائِكَة بِسَبَبِهِ.
وقيل: تمنع.
قال النووي: وَالْأَظْهَر أَنَّهُ عَامّ فِي كُلّ كَلْب، وَكُلّ صُورَة، وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْجَمِيع.
لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيث.
وَلِأَنَّ الْجِرْو الَّذِي كَانَ فِي بَيْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَحْت السَّرِير كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْر ظَاهِر؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَم بِهِ، وَمَعَ هَذَا اِمْتَنَعَ جِبْرِيل صلى الله عليه وسلم مِنْ دُخُول الْبَيْت، وَعَلَّلَ بِالْجِرْوِ، فَلَوْ كَانَ الْعُذْر فِي وُجُود الصُّورَة وَالْكَلْب لَا يَمْنَعهُمْ لَمْ يَمْتَنِع جِبْرِيل. وَاللَّه أَعْلَم.
1334 -
وَعَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَرْسَلَتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اَللَّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قُتِلَ فَلَا تَأْكُلْ: فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اَللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي اَلْمَاءِ، فَلَا تَأْكُل) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِم.
===
(إِذَا أَرْسَلَتَ كَلْبَكَ) وفي رواية (إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ).
(وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ) أي: الكلب.
(قَدْ قتِلَ) أي: الصيد.
(وَلَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ) أي: ولم يأكل الكلب من ذلك الصيد الذي قتله.
(فَكُلْهُ) فقد جاء في رواية أخرى (وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ، فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ) أي: لأجلك.
وجاء في رواية ( .... إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِه).
1 -
قوله (إِذَا أَرْسَلَتَ
…
) فيه دليل على أنه يشترط أن يكون الصائد له عقل يميز.
فمن شروط الصيد: أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وذلك بأن يتوفر فيه الشرطان:(العقل والدين).
فالعقل يعني به أن يكون مخيراً غير سكران ولا مجنون، لأنه لا قصد لهما (وكذلك إذا كان طفل دون التمييز).
والدين يعني به أن يكون مسلماً أو كتابياً، فلا يحل صيد الوثني والمجوسي والمرتد.
2 -
(قوله (إِذَا أَرْسَلَتَ
…
) فيه دليل على أنه يشترط لحل الصيد أن يرسل الآلة قاصداً للصيد.
لأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة بل لا بد من الاستعمال، وذلك فيهما: بالإرسال مع القصد.
قال ابن قدامة الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يُرْسِلَ الْجَارِحَةَ عَلَى الصَّيْدِ، فَإِنْ اسْتَرْسَلَتْ بِنَفْسِهَا فَقَتَلَتْ، لَمْ يُبَحْ.
وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك، وَسَمَّيْت، فَكُلْ).
وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْجَارِحَةِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرْت التَّسْمِيَةُ مَعَهُ.
• إذا استرسل الكلب بنفسه فقتل صيداً، لم يحل لفقدان الشرط، وهو الإرسال، لأن الإرسال يقوم مقام التذكية.
• إذا استرسل الكلب بنفسه على صيد فزجره صاحبه وسمى فزاد في عدوه وقتل، فهل يحل؟
قيل: يحل.
وهو مذهب الحنفية، والحنابلة.
قالوا: لأن زجره أثّر في عدوه فصار كما لو أرسله.
وقيل: لا يحل.
وهو مذهب الشافعي.
لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح، فتغلب جانب المنع.
•
ما حكم من أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره؟
يحل.
وهذا قول الجمهور.
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (كل ما أمسك عليك).
وقال مالك: لا يحل.
والراجح الأول.
3 -
قوله (كَلْبَكَ) فيه نوع من أنواع آلة الصيد، وآلة الصيد نوعان:
أولاً: ما يرمى به الصيد من كل محدد.
كالرماح، والسيوف، والسهام وما جرى مجراها مما يجرح بحده كرصاص البنادق اليوم.
ثانياً: الجوارح، وهي الكواسر من السباع، كالكلاب والطير.
لقوله (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ).
(وهو نوعان: ما يصيد بنابه: كالكلب والفهد، وما يصيد بمخلبه: الصقر والبازي).
4 -
قوله (كَلْبَكَ الْمُعَلَّم) فيه دليل أنه يشترط في إباحة صيد الكلب أن يكون معلماً، وهذا الشرط لا خلاف فيه.
قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ مُعَلَّمًا.
وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ.
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ.
•
وكيفية التعليم:
بالنسبة ما يصيد بنابه كالكلاب، فيتبين تعلمه بأمور:
أولاً: أن يسترسل إذا أرسله صاحبه في طلب الصيد.
ثانياً: أن ينزجر إذا زجره [وهذا يكون لأحد غرضين: يكون بطلب وقوفه وكفه عن العدو، ويكون الزجر لإغراء الجارح بزيادة العدو في طلب الصيد].
وهذان الشرطان اتفقت المذاهب الأربعة على اعتبارهما.
ثالثاً: أن لا يأكل من الصيد إذا أمسكه، فإن أكل لم يبح.
وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يشترط أن لا يأكل من الصيد، فإن أكل لم يبح.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
قال النووي: وبه قال أكثر العلماء.
أ-لحديث عدي - فقد جاء في رواية - (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِه). وهذا نص.
ب-ولقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه.
القول الثاني: أنه يحل.
وهو قول مالك.
واستدلوا بحديث أبي ثعلبة قال (يا رسول الله، إن لي كلاباً مكلبة، فأفتني في صيدها؟ قال: كل مما أمسكن عليك، قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه) رواه أبو داود، وقال الحافظ: لا بأس بسنده.
والراجح القول الأول.
وأما الجواب عن حديث أبي ثعلبة:
- أن حديث عدي مقدم عليه، لأنه أصح.
- ومنهم من حمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه، فهذا لا يضر.
- وأيضاً رواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأن الأصل في الميتة التحريم.
•
وأما تعليم الطير فإنه يتبين بأمور:
أولاً: أن يسترسل إذا أرسل.
ثانياً: أن ينزجر إذا زجر.
ثالثاً: واختلفوا هل يشترط أن لا يأكل أم لا؟
قيل: يشترط، وهذا مذهب الشافعي قياساً على جارحة الكلب.
وقيل: لا يشترط، وهذا قول الحنفية والحنابلة. والله أعلم.
5 -
قوله (كَلْبَكَ الْمُعَلَّم) في إطلاقه دليل لإباحة الصيد بجميع أنواع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها.
قال النووي: وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء.
لعموم النص (إذا أرسلت كلبك المعلم).
القول الثاني: يحرم الصيد بالكلب الأسود البهيم.
قال النووي: وبه قال الحسن البصري، والنخعي، وقتادة، وأحمد، وإسحاق.
لأنه شيطان.
والأول أرجح.
5 -
قوله (فَاذْكُرِ اسْمَ اَللَّهِ
…
) فيه دليل على مشروعية التسمية عند الصيد.
قال النووي: وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال.
وقد اختلف العلماء في حكم التسمية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها شرط لا تسقط مطلقاً، حتى لو تركها نسياناً أو جاهلاً فلا تحل.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله عليه في غير موضع.
أ-لقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).
قالوا: وهذا عام، ففيه النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وتسميته فسقاً.
ب- ولحديث رافع بن خديج. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) متفق عليه.
فقرن بين إنهار الدم وذكر اسم الله على الذبيحة في شرط الحل، فكما أنه لو لم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً لم تحل الذبيحة، فكذلك إذا لم يسم، لأنهما شرطان قرن بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة، فلا يمكن التفريق بينهما إلا بدليل.
القول الثاني: أنها واجبة في حال الذكر دون حال النسيان.
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والمشهور في مذهب الحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.
القول الثالث: أنها سنة مطلقاً.
وهذا مذهب الشافعي.
أ- لقوله تعالى (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ).
قال النووي: فأباح التذكي من غير اشتراط التسمية.
ب-ولقوله تعالى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) وهم لا يسمون.
والجواب عن الآية: بأن المراد (إلا ما ذكيتم) وذكرتم اسم الله عليه، لما ثبت من الأدلة الأخرى على الأمر بالتسمية
وأما آية (وطعام الذين أوتوا الكتاب
…
) أن المراد بذبائح أهل الكتاب المباحة هي ما ذبحوها بشرطها كذبائح المسلمين
ج- ولحديث (ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله) وهو حديث ضعيف.
والصحيح الأول وأنها لا تسقط مطلقاً، واختاره ابن عثيمين رحمه الله.
• يشترط أن يكون بلفظ: بسم الله.
فلو قال: بسم الرحمن أو باسم رب العالمين:
فقيل: لا يجزئ.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة.
لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى: بسم الله.
وقيل: يجزئ.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
قالوا: المراد بالتسمية ذكر الله من حيث هو، لا خصوص: بسم الله، وهذا الراجح.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية، وأما تغيير الآلة فلا يضر، فلو سمى وبيده سكين ثم ألقاها وذبح بغيرها فلا بأس.
أما في الصيد، لو سمى على صيد فأصاب غيره حل، مثال: أرسل كلبه على أرنب، ثم إن الكلب صاد غزالاً فإنه يحل.
والفرق: أن التسمية في باب الصيد تقع على الآلة، والتسمية في باب الذكاة تقع على عين المذبوح.
6 -
قوله (فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحه).
قال النووي: هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ ذَكَاته وَجَبَ ذَبْحه، وَلَمْ يَحِلّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَن وَالنَّخَعِيِّ خِلَافه فَبَاطِل، لَا أَظُنّهُ يَصِحّ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة بِأَنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ حُلْقُومه وَمُرَّيْهِ، أَوْ أَجَافَهُ أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ، أَوْ أَخْرَجَ حَشْوَته. فَيَحِلّ مِنْ غَيْر ذَكَاة بِالْإِجْمَاعِ. (شرح مسلم).
7 -
قوله (وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قتلَ فَلَا تَأْكُلْ: فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ).
قال النووي: فِيهِ بَيَان قَاعِدَة مُهِمَّة، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الشَّكّ فِي الذَّكَاة الْمُبِيحَة لِلْحَيَوَانِ لَمْ يَحِلّ؛ لِأَنَّ الْأَصْل تَحْرِيمه، وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ، وَفِيهِ تَنْبِيه عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ حَيًّا وَفِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة فَذَكَّاهُ حَلَّ، وَلَا يَضُرّ كَوْنه اِشْتَرَكَ فِي إِمْسَاكه كَلْبه وَكَلْب غَيْره لِأَنَّ الِاعْتِمَاد حِينَئِذٍ فِي الْإِبَاحَة عَلَى تَذْكِيَة الْآدَمِيّ لَا عَلَى إِمْسَاك الْكَلْب.
قال الشيخ ابن عثيمين: ظاهر الحديث العموم، لكنه يقيد بما إذا كان الكلب الثاني لم يرسله صاحبه ولم يسم عليه، فإن كان الكلب الثاني قد أرسله صاحبه وسمى عليه، فإن الصيد يحل، لأنه صِيدَ بكلبٍ معلم مرسل من قبل صاحبه، لكن بقى النظر لمن يكون هذا الصيد؟ الظاهر أقرب الاحتمالات أن يقسم بينهما.
8 -
قوله (وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اَللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْت).
قال النووي: هَذَا دَلِيل لِمَنْ يَقُول: إِذَا أَثَّرَ جُرْحه فَغَابَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا، وَلَيْسَ فِيهِ أَثَر غَيْر سَهْمه، حَلَّ، وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَمَالك فِي الصَّيْد وَالسَّهْم، وَالثَّانِي: يَحْرُم، وَهُوَ الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا، وَالثَّالِث يَحْرُم فِي الْكَلْب دُون السَّهْم، وَالْأَوَّل أَقْوَى وَأَقْرَب إِلَى الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. وَأَمَّا الْأَحَادِيث الْمُخَالِفَة لَهُ فَضَعِيفَة، وَمَحْمُولَة عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَكَذَا الْأَثَر عَنْ اِبْن عَبَّاس: كُلْ مَا أَصْمَيْت، وَدَعْ مَا أَنْمَيْت. أَيْ كُلْ مَا لَمْ يَغِبْ عَنْك دُون مَا غَابَ.
9 -
قوله (وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي اَلْمَاءِ، فَلَا تَأْكُل) هَذَا مُتَّفَق عَلَى تَحْرِيمه.
وجاء السبب في نفس الحديث (فإنك لا تدري الماء قتله، أو سهمك).
•
هل يلحق بالكلب غيره ممن يقبل التعليم؟
نعم.
قال القرطبي: وقد ألحق الجمهور بالكلب كلَّ حيوان مُعَلَّم يتأتى به الاصطياد.
تمسُّكًا بالمعنى.
وبما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: (ما أمسك عليك فَكُل) على أن في إسناده مجالدًا، ولا يُعرف إلا من حديثه، وهو ضعيف. والمعتمد: النظر إلى المعنى، وذلك أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلاً، فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير، وهذا هو القياس في معنى الأصل.
وقد خالف في ذلك قوم، فقصروا الإباحة على الكلاب خاصة. ومنهم من يستثني الكلب الأسود، وهو الحسن، والنخعي، وقتادة؛ لأنَّه شيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، متمسكين بقوله (مكلِّبين)، وبأنَّه ما وقع في الصحيح إلا ذكر الكلاب، وهذا لا حجَّة لهم فيه؛ لأنَّ ذكر الكلاب في هذه المواضع إنما كان لأنها الأغلب والأكثر. (المفهم).
وقال ابن قدامة: وَكُلُّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَيُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، كَالْفَهْدِ، أَوْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَلْبِ فِي إبَاحَةِ صَيْدِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ) هِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، وَكُلُّ طَيْرٍ تَعَلَّمَ الصَّيْدَ، وَالْفُهُودُ وَالصُّقُورُ وَأَشْبَاهُهَا.
وَبِمَعْنَى هَذَا قَالَ طاووس، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ إلَّا بِالْكَلْبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين) يَعْنِي كَلَّبْتُمْ مِنْ الْكِلَابِ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَدِيٍّ، قَالَ (سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْبَازِي، فَقَالَ: إذَا أَمْسَكَ عَلَيْك، فَكل).
وَلِأَنَّهُ جَارِحٌ يُصَادُ بِهِ عَادَةً، وَيَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، فَأَشْبَهَ الْكَلْب .... (المغني).
11 -
جواز الاصطياد وأنه من الأمور المباحة.
12 -
جواز اقتناء الكلب للصيد.
13 -
اشتراط أن يكون الكلب معلماً.
1335 -
وَعَنْ عَدِيٍّ قَالَ: - سَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ اَلْمِعْرَاضِ فَقَالَ (إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ، فَقُتِلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.
===
(صَيْدِ اَلْمِعْرَاض) قال النووي: بكسر الميم، هي خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، هذا هو الصحيح في تفسيره.
وفي رواية (إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ).
(إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ) أي: بأن نفذ في اللحم، وقطع شيئاً من الجلد.
(فَكُلْ) لأنه قد ذكي ذكاة شرعية.
(وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ) أي: بغير طرفه المحدد.
(فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ) أي: فهو حرام، لعدّ الله تعالى الموقوذة منْ المحرّمات. و"الوقيذ": -بِالْقَافِ، وآخِره ذال مُعْجَمة، وَزْن عَظِيم، فعِيل بِمعنى مفْعُول، وهُوَ مَا قُتِل بِعصًا، أو حَجَر، أوْ مَا لا حَدّ لهُ، والموْقُوذَة: هي الَّتِي تُضْرب بِالخَشَبةِ حتَّى تَمُوت.
قال النووي: وَالْوَقْذ وَالْمَوْقُوذ هُوَ الَّذِي يُقْتَل بِغَيْرِ مُحَدَّد مِنْ عَصًا أَوْ حَجَر وَغَيْرهمَا.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن المعراض وغيره من السلاح إن قتل الصيد بحده ونفوذه فهو مباح، لحصول المقصود وهو إنهار الدم، وإن قتله بصدمه وثقله فلا يباح، لأنه وقيذ محرم.
قال النووي: وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجَمَاهِير: أَنَّهُ إِذَا اِصْطَادَ بِالْمِعْرَاضِ فَقَتَلَ الصَّيْد بِحَدِّهِ حَلَّ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلّ لِهَذَا الْحَدِيث.
وَقَالَ مَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرهمَا مِنْ فُقَهَاء الشَّام: يَحِلّ مُطْلَقًا. (شرح مسلم).
قال ابن حجر: وَحَاصِله أنَّ السَّهْم، وما فِي معناهُ، إِذَا أصَابَ الصَّيد بِحدِّهِ حَلَّ، وكانت تِلك ذكاته، وإِذَا أصَابهُ بِعَرْضِهِ لمْ يحِلّ؛ لِأنَّهُ فِي مَعْنى الخَشَبة الثَّقِيلة، والحَجَر، وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ المُثَقَّل.
1336 -
وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
(مَا لَمْ يُنْتِنْ) بضم الياء، وفتحها، وكسر التاء، من أنتن الرباعي، ومعناه: ما لم تتغير رائحته، وتخبث.
جاء في رواية (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ، بَعْدَ ثَلَاثٍ: فَلْيَأْكُلْهُ إِلاَّ أَنْ يُنْتِن).
•
ماذا نستفيد من حديث الباب؟
نستفيد أن الصيد إذا غاب ثم وجده الصائد فإنه يحل أكله إلا إذا أنتن.
قال في الفتح: وهذا الحديث صريح فِي كون الصيد حلالاً، وإن غاب أكثر منْ ثلاثة أيّام، إذا لم ينتن، حيث جَعَلَ الغَايَة أتى يُنْتِن الصَّيد، فَلَوْ وَجَدَهُ مَثَلاً بَعد ثَلاث، وَلَمْ يُنْتِن حَلَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ بدونَهَا وَقد أَنْتَنَ فَلا، هَذَا ظَاهِر الْحَدِيث. وَأَجَابَ النَّوَوِي بأَنَّ النَّهْي عَنْ أَكْله إِذَا أَنْتَنَ لِلتَّنْزِيهِ، إلا إن خيف منه الضرر، فيحرم، وهذا مذهب الشافعيّة، وأما المالكية، فحملوا النهي عَلَى التحريم مطلقًا، قَالَ فِي "الفتح": وهو الظاهر.
واستدلّ منْ حمل النهي عَلَى التنزيه بقصّة الحوت الذي أكل منه الجيش مع أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه نصف شهر.
ووجهه أنهم أكلوا منْ لحم الحوت نصف شهر، وأكل منه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالباً بلا نتن فِي تلك المدة، لاسيما فِي الحجاز، مع شدّة الحرّ.
لكن يحتمل -كما قَالَ فِي "الفتح"- أن يكونوا ملّحوه، وقدّدوه، فلم يدخله نتن، وبهذا لا يتمّ الاستدلال به عَلَى صرف النهي عن التحريم إلى التنزيه.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- حرص الإسلام على صحة الإنسان.
- تحريم أكل اللحم المنتن، ورجحه الحافظ والشوكاني.
1337 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ قَوْماً يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا اَللَّهَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ، وَكُلُوهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.
===
(لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟) وفي رواية أبي داود (أم لم يذكروا، أفنأكل منها؟).
(فَقَالَ: سَمُّوا اَللَّهَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ، وَكُلُوهُ) وفي رواية للبخاري (قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر) وفي رواية أبي داود (بجاهليّة) وزاد مالك فِي آخره (وذلك فِي أول الإِسلام).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن حكم ذبيحة منْ لم يُعرف، هل سمّى الله تعالى عليها، أم لا؟ وهو الحلّ؛ حملاً لحال المسلم عَلَى الصلاح.
فإذا ذبح المسلم أو الكتابي ذبيحة، ولم يُدر أذكر اسم الله عليها أم لا، فيجوز الأكل منها، ويسمي من أكل.
قال ابن قدامة: فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَسَمَّى الذَّابِحُ أَمْ لَا؟ أَوْ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ أَمْ لَا؟ فَذَبِيحَتُهُ حَلَالٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا أَكْلَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّنَا لَا نَقِفُ عَلَى كُلِّ ذَابِحٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَوْمًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا؟ قَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ، وَكُلُوا) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. (المغني).
وقال ابن حزم: وَكُلُّ مَا غَابَ عَنَّا مِمَّا ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ فَاسِقٌ، أَوْ جَاهِلٌ، أَوْ كِتَابِيٌّ فَحَلَالٌ أَكْلُهُ،
…
ثم ذكر حديث الباب.
وقال ابن تيمية: وَلَكِنْ إذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ لَحْمًا قَدْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ لِحَمْلِ أَمْرِ النَّاسِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نَاسًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ وَلَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ولا يلزم السؤال عما ذبحه المسلم أو الكتابي كيف ذبحه، وهل سمى عليه أو لا؟ بل ولا ينبغي، لأن ذلك من التنطع في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم أكل مما ذبحه اليهود ولم يسألهم. وفي صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال:(سموا عليه أنتم وكلوه) قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأكله دون أن يسألوا مع أن الآتين به قد تخفى عليهم أحكام الإسلام، لكونهم حديثي عهد بكفر.
•
بماذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث؟
استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن التسمية سنة وليست واجبة.
قال ابن كثير: واحتج البيهقي أيضًا بحديث عائشة - ثم ذكر حديث الباب - .... قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها، والله أعلم.
لكن أجاب الشيخ ابن عثيمين عن هذا بقوله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم في أكله، لأن الأصل في الفعل الواقع من أهله أنه واقع على السلامة والصحة، لا لأن التسمية ليست شرطاً.
وقد تقدم الخلاف في حكم التسمية.
قال ابن تيمية: وَ " التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ " مَشْرُوعَةٌ.
لَكِنْ قِيلَ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَقِيلَ: وَاجِبَةٌ مَعَ الْعَمْدِ وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ.
كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَقِيلَ: تَجِبُ مُطْلَقًا؛ فَلَا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ بِدُونِهَا سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ.
وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ.
فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ عَلَّقَ الْحَلَّ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ).
وَقَوْلِهِ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا).
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لَعَدِيٍّ (إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَقَتَلَ فَكُلْ وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابُ آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِه).
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقَالَ (لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ) قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ) فَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبِحْ لِلْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكَيْفَ بِالْإِنْسِ. (مجموع الفتاوى)
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- قال ابن عبد البرّ: فيه أن ما ذبحه المسلم يؤكل، ويُحمَل عَلَى أنه سَمَّى؛ لأن المسلم لا يُظَن به فِي كل شيء إلا الخير، حَتَّى يتبين خلاف ذلك.
- ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ الورع، حيث إنهم لم يكتفوا بظاهر الحال، بل تورّعوا عن أكل ما أتى به منْ لم يُعرف حاله، حَتَّى سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبيّن لهم أنه حلال.
- أن الفعل إذا وقع من أهله فإنه لا يسأل عنه، لأن الأصل السلامة.
- يسر الشريعة الإسلامية.
1338 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اَلْخَذْفِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ اَلسِّنَّ، وَتَفْقَأُ اَلْعَيْنَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم.
===
(نَهَى عَنِ اَلْخَذْفِ) وَهُوَ رَمْي الْإِنْسَان بِحَصَاةٍ أَوْ نَوَاة وَنَحْوهمَا يَجْعَلهَا بَيْن أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ أَوْ الْإِبْهَام وَالسَّبَّابَة.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد النَّهْي عَنْ الْخَذْف.
•
ما العلة في النهي عنه؟
لأنه لا مصلحة فيه، وفيه مضرة.
بيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:
(إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا) لأنه ليس له نفوذ، بل المضروب بها (أي بالحصاة) إن مات فهو وقيذ.
(وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا) أي: لا تجرح عدواً، لأن العدو إنما ينكأ بالسهام لا بالحصى الصغيرة.
(وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ اَلسِّنَّ، وَتَفْقَأُ اَلْعَيْنَ) وهذا ضرر.
فالخذف لَا مَصْلَحَة فِيهِ وَيُخَاف مَفْسَدَته، وَيَلْتَحِق بِهِ كُلّ مَا شَارَكَهُ فِي هَذَا. وَفِيهِ: أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَة أَوْ حَاجَة فِي قِتَال الْعَدُوّ وَتَحْصِيل الصَّيْد فَهُوَ جَائِز، وَمِنْ ذَلِكَ رَمْي الطُّيُور الْكِبَار بِالْبُنْدُقِ إِذَا كَانَ لَا يَقْتُلهَا غَالِبًا بَلْ تُدْرَك حَيَّة وَتُذَكَّى فَهُوَ جَائِز.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- النهي عن الخذف.
- أن من مات بحصى الخذف فإنه لا يحل، لكن لو أدركه حياً فذكاه حلّ.
- أن إظهار القوة والشجاعة أمام الأعداء مطلب مرغوب للإسلام.
قال ابن تيمية: وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَكَانَ إذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ (اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَشْهَدُ لَك صَلَاةً وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا).
- تجنب كل ما فيه ضرر.
1339 -
وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَتَّخِذُوا شَيْئاً فِيهِ اَلرُّوحُ غَرَضًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(لَا تَتَّخِذُوا شَيْئاً فِيهِ اَلرُّوحُ) أي: الحيوان الحي.
(غَرَضًا) بغين معجمة، وراء مفتوحتين، آخره ضاد معجمة: أي هَدَفًا منصوبًا للرمي.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم اتخاذ الحيوان هدفاً يرمى إليه.
قال النووي: أَيْ لَا تَتَّخِذُوا الْحَيَوَان الْحَيّ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ، كَالْغَرَضِ مِنْ الْجُلُود وَغَيْرهَا، وَهَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَة اِبْن عُمَر الَّتِي بَعْد هَذِهِ:(لَعَنْ اللَّه مَنْ فَعَلَ هَذَا) وَلِأَنَّهُ تَعْذِيب لِلْحَيَوَانِ وَإِتْلَاف لِنَفْسِهِ، وَتَضْيِيع لِمَالِيَّتِهِ، وَتَفْوِيت لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مُذَكًّى، وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى. (شرح مسلم).
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل هذا:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ (مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِنَفَرٍ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا) متفق عليه.
قَالَ فِي "الفتح": فيه دليل عَلَى تحريم التمثيل بالحيوان؛ لأن اللعن منْ دلائل التحريم، وأخرج أحمد منْ طريق أبي صالح الحنفيّ، عن رجل منْ الصحابة، أراه عن ابن عمر، رفعه (منْ مثل بذي رُوح، ثم لم يتب، مثل الله به يوم القيامة) رجاله ثقات. انتهى.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- عظمة الإسلام في احترام الحيوان.
- الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون للرماة غرضاً يترامون إليه، لأن هذا هو الذي يحصل به تعلم الرمي.
1340 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.
===
(أَنّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ) وفي لفظ للبخاري: عَنْ نَافِعٍ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ (أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا فَقَالَ لأَهْلِهِ لَا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ، أَوْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بَعَثَ إِلَيْهِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا).
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حل ذبيحة المرأة ولو كانت حائضاً.
وقد بوب البخاري على الحديثين: باب ذبيحة المرأة والأمَة.
قال ابن حجر: كأنه يشير إلى الرد على من منع ذلك وقد نقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته وفي المدونة جوازه وفي وجه للشافعية يكره ذبح المرأة الأضحية وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي لا بأس إذا أطلق الذبيحة وحفظ التسمية وهو قول الجمهور. (الفتح).
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الذَّبْحُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، إذَا ذَبَحَ، حَلَّ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى إبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ.
وَقَدْ رُوِي (أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ سَبْعٌ:
أَحَدُهَا: إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ
وَالثَّانِيَة: إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْأَمَةِ.
وَالثَّالِثَةُ: إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ.
وَالرَّابِعَةُ: إبَاحَةُ الذَّبْحِ بِالْحَجَرِ.
وَالْخَامِسَةُ: إبَاحَةُ ذَبْحِ مَا خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ.
وَالسَّادِسَةُ: حِلُّ مَا يَذْبَحُهُ غَيْرُ مَالِكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَالسَّابِعَةُ: إبَاحَةُ ذَبْحِهِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ. (المغني).
فائدة: قَالَ الإمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، وما أصابها مرض، فماتت به محرمة، إلا أن تدرك ذكاتها؛ لقول الله تعالى (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)، وفي حديث جارية كعب: أنها أصيبت شاة منْ غنمها، فأدركتها، فذبحتها بحجر، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالَ: "كلوها. متَّفقٌ عليه.
1341 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا أُنْهِرَ اَلدَّمُ، وَذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ لَيْسَ اَلسِّنَّ وَالظُّفْرَ; أَمَّا اَلسِّنُّ; فَعَظْمٌ; وَأَمَّا اَلظُّفُرُ: فَمُدَى اَلْحَبَشِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(مَا أُنْهِرَ اَلدَّمُ) أي: أساله، وصبه بكثرة، ووزنه أفعل، منْ النهر، شُبِّهَ خُروج الدم بجري الماء فِي النهر، والذي ينهر الدم ما له نفوذ في البدن، وهو المحدد كالسهم والحديد والخشب الذي له حد والزجاج.
(وَذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ) كذا هو عند البخاريّ فِي "الذبائح"، وعند مسلم أيضًا بحذف قوله (عليه) قَالَ الحافظ: وثبتت هذه اللفظة فِي هَذَا الْحَدِيث عند البخاريّ، فِي (الشركة) وكلام النوويّ فِي "شرح مسلم" يوهم أنها ليست فِي البخاريّ، إذ قَالَ: هكذا هو فِي النسخ كلها -يعني منْ مسلم- وفيه محذوف: أي ذُكر اسم الله عليه، أو معه، ووقع فِي رواية أبي داود وغيره (وذكر اسم الله عليه) انتهى، فكأنه لما لم يرها فِي "الذبائح" منْ البخاريّ أيضًا، عزاها لأبي داود، إذ لو استحضرها منْ البخاريّ، ما عدل عن التصريح بذكرها فيه.
(فَكُلْ لَيْسَ اَلسِّنَّ وَالظُّفْرَ) أي: ليس السنّ والظفر مباحًا، أو مجزئًا، وفي رواية:(غير السنّ، والظفر) وفي رواية: (إلا سنًّا، أو ظفراً).
(أَمَّا اَلسِّنُّ; فَعَظْمٌ) وكل عظم لا يحل الذبح به.
قال في الفتح: وَقَالَ النوويّ: معنى الْحَدِيث: لا تذبحوا بالعظام، فإنها تنجس بالدم، وَقَدْ نهيتكم عن تنجيسها؛ لأنها زاد إخوانكم منْ الجن. انتهى. وهو محتمل، ولا يقال: كَانَ يمكن تطهيرها بعد الذبح بها؛ لأن الاستنجاء بها كذلك، وَقَدْ تقرر أنه لا يجزئ. وَقَالَ ابن الجوزي فِي "المشكل": هَذَا يدل عَلَى أن الذبح بالعظم، كَانَ معهودا عندهم، أنه لا يجزئ، وقررهم الشارع عَلَى ذلك، وأشار إليه هنا. وأخرج الطبراني فِي "الأوسط" منْ حديث حذيفة، رفعه (اذبحوا بكلّ شيء فرى الأوداج، ما خلا السنّ والظفر)، وفي سنده عبد الله بن خراش، مختلفٌ فيه، وله شاهد منْ حديث أبي أُمامة نحوه. قاله فِي (الفتح).
(وَأَمَّا اَلظُّفُرُ: فَمُدَى اَلْحَبَشِ) أي: وهم كفار، وَقَدْ نُهيتم عن التشبه بهم. قاله ابن الصلاح، وتبعه النوويّ. وقيل: نهى عنهما؛ لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالباً إلا الخنق، الذي ليس هو عَلَى صورة الذبح، وَقَدْ قالوا: إن الحبشة تُدمي مذابح الشاة بالظفر، حَتَّى تُزهق نفسها خَنْقًا.
واعترض عَلَى التعليل الأول، بأنه لو كَانَ كذلك؛ لامتنع الذبح بالسكين، وسائر ما يَذبح به الكفار.
وأجيب، بأن الذبح بالسكين، هو الأصل، وأما ما يلتحق بها، فهو الذي يعتبر فيه التشبّه؛ لضعفها، ومن ثَمَّ كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها.
•
عرف الذكاة؟
لغة: تمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل.
وشرعاً: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر ممتنع.
والذكاة شرط لحل الحيوان المباح.
أجمع العلماء على أنه لا يحل الحيوان المأكول اللحم غير السمك والجراد إلا بذكاة.
لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) فاشترط الله الذكاة.
والحكمة منها: تطييب الحيوان المذكى، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طِيْب، لأنه يسارع إليه التجفف.
والميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل.
•
اذكر شروط الذكاة التي ذكرت في هذا الحديث، والتي لم تذكر؟
الشرط الأول: أن يكون الذبح بمحدّد ينهر الدم.
قال ابن قدامة: ويشترط فِي الآلة شرطان: [أحدهما]: أن تكون محددة تقطع، أو تخرق بحدها لا بثقلها. [والثاني]: أن لا تكون سناً ولا ظفراً، فإذا اجتمع هذان الشرطان فِي شيء، حل الذبح به، سواء كَانَ حديدا، أو حجرا، أو بِلِطَة، أو خشباً لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا ما، لم يكن سنا أو ظفراً. (المغني).
لحديث الباب (
…
مَا أُنْهِرَ اَلدَّمُ
…
).
ولحديث أبي يعلى شداد بن أوس الآتي قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم.
ولأن الذبح بغير المحدد فيه إيلام للبهيمة، بخلاف المحدد ففيه إراحة لها وتعجيل بزهوق النفس.
فكل ما أنهر الدم فإن التذكية به صحيحة مجزئة كالحديد والحجر والخشب.
فإن ذبحها بغير محدد مثل أن يقتلها بالخنق، أو بالصعق الكهربائي، أو غيره، أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه حتى تموت لم تحل، وإن ذبحها بالسن أو بالظفر لم تحل وإن جرى دمها بذلك.
•
…
يستثنى السن والظفر فلا يجوز التذكية بهما.
لحديث الباب (ليس السن والظفر، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة) متفق عليه.
- لا فرق في السن والظفر أن يكونا متصلين أو منفصلين من آدمي أو غيره لظاهر حديث الباب.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقالت الحنفية: تجوز الذكاة بالسن والظفر المنفصلين، وإنما تحرم الذكاة بهما إذا كانا متصلين، وأجابوا عن حديث رافع السابق، بأن المراد به النهي عن الذبح بالسن القائم والظفر القائم، لأن الحبشة إنما كانت تفعل لإظهار الجلادة وذلك بالقائم لا بالمنزوع.
والصحيح مذهب جمهور العلماء وهو عدم صحة التذكية بالسن والظفر مطلقاً لعموم الحديث.
قال في المغنى رداً عليهم: ولنا عموم حديث رافع، ولأن مالم تجز الذكاة به متصلاً لم تجز به منفصلاً.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: والأقرب عندي أن الأصل في ذلك أن الحبشة كانوا يذبحون بأظافرهم فنهى الشارع عن ذلك لأنه يقتضي مخالفة الفطرة من وجهين:
أحدهما: أنه يستلزم توفير الأظافر ليذبح بها وهذا مخالف للفطرة التي هي تقليم الأظافر.
الثاني: أن في القتل بالظفر مشابهة لسباع البهائم والطيور التي فضلنا عليها ونهينا عن التشبه بها.
•
علل النبي صلى الله عليه وسلم منع الذكاة بالسن بأنه عظم.
فاختلف العلماء: هل الحكم خاص في محله وهو السن، أو عام في جميع العظام؟
القول الأول: أنه خاص في محله وهو السن، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد العموم لقال غير العظم والظفر، لكونه أخصر وأبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ومفاتيح البيان.
ولأننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم، فكيف نعدي الحكم مع الجهل.
القول الثاني أن الحكم عام في جميع العظام.
وهذا قول الشافعي.
لعموم العلة، لأن النص على العلة يدل على أنها مناط الحكم متى وجدت وجد الحكم.
•
وقد اختلف العلماء في قطع ما يجب قطعه من الحيوان:
فإن في رقبة الحيوان أربعة عروق:
الحلقوم: وهو مجرى النفس خروجاً ودخولاً.
المريء: وهو مجرى الطعام والشراب.
والودجان: وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء.
إذا قطع هذه الأشياء الأربعة حلت المذكاة بإجماع العلماء.
ثم اختلفوا إذا قطع بعض هذه الأربعة هل يجزاء أم لا؟
القول الأول: لا بد من قطع الأربعة، فلا يكفي قطع بعضها فقط.
واختاره ابن المنذر.
القول الثاني: لا بد من قطع ثلاثة بدون تعيين.
وهذا مذهب أبي حنيفة (وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية).
القول الثالث: أنه لا بد من قطع ثلاثة معينة وهي: الحلقوم والودجان.
وهذا مذهب مالك.
القول الرابع: أنه لابد من قطع اثنين معينين وهما: المريء والحلقوم.
وهذا مذهب الحنابلة.
وسبب الخلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما أنهر الدم
…
) ولم يحدد، فلذلك اختلفوا.
والراجح الله أعلم.
الشرط الثاني: التسمية على الذبيحة.
وقد تقدم الخلاف في حكمها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها شرط لا تسقط مطلقاً، حتى لو تركها نسياناً أو جاهلاً فلا تحل.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله عليه في غير موضع.
واستدلوا بقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) قالوا: وهذا عام، ففيه النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وتسميته فسقاً.
وبحديث رافع بن خديج. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) متفق عليه.
فقرن بين إنهار الدم وذكر اسم الله على الذبيحة في شرط الحل، فكما أنه لو لم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً لم تحل الذبيحة، فكذلك إذا لم يسم، لأنهما شرطان قرن بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة، فلا يمكن التفريق بينهما إلا بدليل.
القول الثاني: أنها واجبة في حال الذكر دون حال النسيان.
القول الثالث: أنها سنة مطلقاً.
واستدلوا بحديث (ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله) وهو حديث ضعيف.
والصحيح الأول وأنها لا تسقط مطلقاً، واختاره ابن عثيمين رحمه الله.
الشرط الثالث: أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً.
أما المسلم فظاهر.
ولو امرأة أو أعمى تحل تذكيتهم، للحديث السابق (أن امرأة ذبحت شاة بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها).
وأما الكتابي: (وهو اليهودي والنصراني) فتحل بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم.
وعن أنس. (أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها) رواه أحمد.
وعنه أيضاً (أن يهودياً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز وشعير وإهالة سنخة فأجابه) رواه أحمد.
[الإهالة السنخة] الشحم المذاب إذا تغيرت رائحته.
قال شيخ الإسلام: ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
فغير الكتابي لا تحل ذبيحته: كالمجوسي والوثني والمرتد والعلماني والرافضي وغيرهم من المشركين.
اختلف العلماء: هل يشترط لحل ما ذكاه الكتابي أن يكون أبواه كتابيين أو أن المعتبر هو بنفسه؟ الصحيح أن ذلك ليس بشرط وأن المعتبر هو بنفسه، فإذا كان كتابياً حل ما ذكاه وإن كان أبواه أحدهما من غير أهل الكتاب، كأن يكونا من الوثنيين أو المجوس.
وهذا مذهب المالكية، والحنفية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم في ذلك بينهم نزاعاً.
الشرط الرابع: أن يكون عاقلاً.
وهذا قول جماهير العلماء.
لأن الذكاة يعتبر لها قصد كالعبادة، ومن لا عقل له لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق الشاة فذبحتها.
فلا تصح تذكية المجنون والسكران أو الطفل غير المميز لعدم إمكان القصد منهم.
الشرط الخامس: أن يقصد التذكية.
لأن الله تعالى قال (إلا ما ذكيتم) فأضاف الفعل إلى المخاطبين.
فلو لم يقصد التذكية لم تحل الذبيحة: مثل أن تصول عليه البهيمة فيذبحها للدفاع عن نفسه فقط.
1342 -
وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ اَلدَّوَابِّ صَبْرًا) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
•
ما معنى قتل الحيوان صبراً؟
(صَبْرًا) أصل الصبر الحبس. قَالَ النوويّ رحمه الله: قَالَ العلماء: صَبْرُ البهائم أن تُحبَسَ، وهي حيّةٌ لتُقتل بالرمي، ونحوه.
وقال ابن الأثير: هو أن يمسك شيء من ذوات الروح حياً، ثم يرمَى بشيء حتى يموت.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم قتل الحيوان صبراً.
•
ما الحكمة من النهي؟
لأن في ذلك تعذيباً للحيوان، وإفساد للمال، لأن هذه الذبيحة لا تحل بالرمي، لأنه مقدور عليها، والمقدور عليه لا يحل إلا بتذكيته بالإجماع، لأن الرمي بالسهم إنما هو لما لا يقدر عليه.
•
ما حكم الحيوان الذي هرب ولا يمكن إدراكه؟
الحيوان الذي هرب ولا يمكن إدراكه من الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها من الحيوانات المستأنسة، فإنه يكفي إنهار دمه من أي مكان.
لحديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلاً وَغَنَماً، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ. فَقَالَ: إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) متفق عليه.
(فأصاب الناسَ جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا) قَالَ فِي "الفتح": كأن الصحابيّ قَالَ هَذَا ممهّدًا لعذرهم فِي ذبحهم الإبل، والغنم التي أصابوا. وفي رواية:"وتقدّم سَرَعان النَّاس، فأصابوا منْ المغانم"، وفي رواية:(فأصبنا نَهْب إبل وغنم).
(وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ) جمع أخرى، وفي رواية:"فِي آخر النَّاس"، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم، يَفعَل ذَلِكَ؛ صَوْنًا للْعَسْكَر، وَحِفْظًا؛ لِأَنَّه لو تَقَدَّمَهُم لَخَشِيَ أَنْ يَنقَطِع الضَّعِيف مِنْهُمْ دُونه، وَكَانَ حِرْصِهمْ عَلَى مُرَافَقَته شَدِيدًا، فَيَلْزَم مِنْ سَيْره فِي مَقَام السَّاقَة، صَوْن الضُّعَفَاء؛ لِوُجُودِ مَنْ يَتَأَخَّر مَعَهُ قَصْدًا منْ الأَقْوِيَاء.
(فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ) يعني مِنْ الجُوع الَّذِي كَانَ بهِمْ، فَاستَعجَلُوا، فَذَبَحُوا الَّذِي غَنِمُوهُ، وَوَضَعُوهُ فِي القُدُور، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة (فَانْطَلَقَ نَاس، منْ سَرَعَان النَّاس، فَذَبَحُوا، وَنَصَبُوا قُدُورهمْ، قَبل أن يُقْسَم) وَفِي رِوَايَة (فَأَغْلَوْا القُدُور) أَي أَوْقَدُوا النَّار تَحْتهَا، حَتَّى غَلَتْ.
(فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ) -بِضَم الهَمْزَة، وَسُكُون الكَاف- أَي قُلِبَتْ، وَأُفْرغَ مَا فِيهَا.
(ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ) قَالَ القرطبيّ: يعني أنه صلى الله عليه وسلم قسم ما بقي منْ الغنيمة عَلَى الغانمين، فجعل عشرة منْ الغنم بإزاء جَزور، ولم يَحتج إلى القرعة؛ لرضا كلّ منهم بما صار إليه منْ ذلك، ولم يكن بينهم تشاحّ فِي شيء منْ ذلك. قَالَ: وكأن هذه الغنيمة لم يكن فيها إلا الإبل، والغنم، ولو كَانَ فيها غيرهما، لقُوّم جميع الغنيمة، ولَقُسم عَلَى القِيَم.
(فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ) بفتح النون، وتشديد الدال المهملة: أي هرب منْ تلك الإبل المقسومة بعيرٌ نافرًا.
(وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ) فِيهِ تَمهِيد لِعُذْرِهِم فِي كَوْن الْبَعِير الَّذِي نَدَّ أَتْعَبَهُم، وَلَمْ يَقدِرُوا عَلَى تَحْصِيله، فَكَأنَّهُ يَقُول: لَوْ كَانَ فِيهِمْ خُيُول كَثِيرَة؛ لأَمكَنَهُمْ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، فَيَأخُذُوهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عند البخاريّ":"وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُم خَيل": أَي كَثِيرَة، أَوْ شَدِيدَة الْجَرْي، فَيَكون النَّفْي لِصِفَةٍ فِي الْخَيْل، لا لِأَصْلِ الْخَيْل، جمَعًا بَين الرِّوَايَتَينِ.
(فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ) أَي أَتْعَبَهُم، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تحَصِيلِه.
(فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْم) أي: قصد نحوه، ورماه. قَالَ الحافظ: ولم أقف عَلَى اسم هَذَا الرامي.
(فَحَبَسَهُ اللهُ) أي أصابه السهم، فوقف.
(إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ) وفِي رِوَايَة: (إِنَّ لِهَذِه الإبِل).
(أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ) جَمْع آبِدَة -بِالْمَدِّ، وَكَسْر المُوَحَّدَة-: أَيْ غَرِيبَة، يُقَال: جَاءَ فُلَان بِآبِدَةٍ: أَي بِكَلِمَةٍ، أَوْ فَعْلَة مُنَفِّرَة، ويُقَال: أَبَدَتْ -بِفَتْح المُوَحَّدَة- تَأبُدُ -بِضَمِّهَا- وَيَجُوز الكَسْر، أُبُودًا، وَيُقَال: تَأَبَّدَتْ: أَيْ تَوَحَّشَتْ، وَالمُرَاد أنَّ لَهَا تَوَحُّشًا. قاله فِي "الفتح"
(فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) وَفِي رِوَايَة لَه (فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا، فَافعَلُوا مِثْل هَذَا) وفي رواية الطبرانيّ (فَاصْنَعُوا بِهِ ذَلِكَ، وَكُلُوهُ).
هذا الحديث دليل على أن البهائم الإنسيّة، إذا توحّشت، ونفرت، تُعْطَى حُكْم المُتَوَحِّش الأصليّ، فيجوز عَقْر النَّادّ منها لِمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَبحِهِا، كَالصَّيْدِ البَرِّيّ، وَيَكُون جمَيع أَجْزَائِها مَذْبَحًا، فَإِذَا أُصِيبَت فَمَاتَت مِنْ الإصَابَة حَلَّت، أمَّا المَقْدُور عَلَيْهِ، فَلا يُبَاح إِلَّا بِالذَّبْحِ، أَوْ النَّحْر إِجْمَاعًا، وبهذا قَالَ الجمهور.
قَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب ما ندّ منْ البهائم، فهو بمنزلة الوحش"، وأجازه ابن مسعود، وَقَالَ ابن عباس: ما أعجزك منْ البهائم، مما فِي يديك، فهو كالصيد، وفي بعير تردّى فِي بئر، منْ حيث قدرتَ عليه، فذكّه. ورأى ذلك عليّ، وابن عمر، وعائشة -رضي الله تعالى عنهم-. انتهى.
وَقَدْ نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم فِي ذلك مالكٌ، والليث. ونقل أيضاً عن سعيد بن المسيب، وربيعة، فقالوا: لا يحلّ أكل الإنسيّ إذا توحّش، إلا بتذكيته فِي حلقه، أو لبّته، وحجة الجمهور حديث رافع رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب. أفاده فِي (الفتح).
وقال ابن قدامة: وَكَذَلِكَ إنْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَذْكِيَتِهِ، فَجَرَحَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، أُكِلَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ، فَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ.
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَلَنَا، ثم ذكر حديث الباب.
وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الذَّكَاةِ بِحَالِ الْحَيَوَانِ وَقْتَ ذَبْحِهِ، لَا بِأَصْلِهِ، بِدَلِيلِ الْوَحْشِيِّ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَكَذَلِكَ الْأَهْلِيُّ إذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ رَأْسُ الْمُتَرَدِّي فِي الْمَاءِ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ، فَيَحْصُلُ قَتْلُهُ بِمُبِيحٍ وَحَاظِرٍ، فَيَحْرُمُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ. (المغني).
قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم: الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان:
مقدور على ذبحه ومتوحش.
فالمقدور عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة كما سبق، وهذا مجمع عليه.
وأما إذا توحش إنسي، بأن ند بعير أو بقرة أو فرس أو شردت شاة أو غيرها، فهو كالصيد، فيحل بالرمي إلى غير مذبحه، وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه، وكذا لو تردى بعير أو غيره في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه ومريئه، فهو كالبعير الناد في حله بالرمي.
ثم قال النووي: قال أصحابنا: وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات، بل متى تيسر لحوقه بعد ولو باستعانة بمن يمسكه ونحو ذلك، فليس متوحشاً ولا يحل حينئذٍ إلا الذبح في المذبح.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: إنهار الدم له حالات:
الحالة الأولى: أن يكون المذكى غير مقدور عليه، مثل أن يهرب أو يسقط في بئر أو في مكان سحيق لا يمكن الوصول إلى رقبته أو نحو ذلك، فيكفي في هذه الحال إنهار الدم في أي موضع كان من بدنه حتى يموت، لحديث الباب.
الحالة الثانية: أن يكون مقدوراً عليه، بحيث يكون حاضراً أو يمكن إحضاره بين يدي المذكي، فيشترط أن يكون الإنهار في موضع معين وهو الرقبة.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن الإنسان جاء بالرفق بالحيوان.
- النهي عن إضاعة المال.
1343 -
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَللَّهَ كَتَبَ اَلْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا اَلْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا اَلذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
===
(إِنَّ اَللَّهَ كَتَبَ) الكتابة هنا تحتمل نوعين اثنين:
أن تكون الكتابة قدرية: ويكون المعنى أن الأشياء جارية على الإحسان بتقدير الله الذي ألهمها ذلك.
أو أن الكتابة شرعية: المعنى: إن الله كتب على عباده الإحسان إلى كل شيء، أي: أمرهم به.
(اَلْإِحْسَانَ) قَالَ القرطبي: والإحسان" هنا: بمعنى الإحكام، والإكمال، والتحسين فِي الأعمال المشروعة، فحقّ منْ شرع فِي شيء منها أن يأتي به عَلَى غاية كماله، ويُحافظ عَلَى آدابه المصحّحة، والمكمّلة، وإذا فعل ذلك قُبل عمله، وكثُر ثوابه.
(عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)"عَلَى" هنا بمعنى "فِي"، كما فِي قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ): أي فِي ملكه، ويقال: كَانَ كذا عَلَى عهد فلان: أي فِي عهده. حكاه الْقُتبيّ
(فَإِذَا قَتَلْتُمْ) أي: أردتم قتل من يجوز قتله.
(فَأَحْسِنُوا اَلْقِتْلَةَ) أي: هيئة القتل، وإحسانها: اختيار أسهل الطرق وأخفها إيلاماً.
(وَإِذَا ذَبَحْتُمْ) أي أردتم ذبح ما يحل ذبحه من الحيوان.
(فَأَحْسِنُوا اَلذِّبْحَةَ) أي: هيئة الذبح، بأن يكون بسكين حادة، وأن يعجل إمرارها.
(وَلْيُحِدَّ) أي: ليسن.
(شَفْرَتَهُ) أي: السكين.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الأمر بالإحسان عند ذبح الذبيحة.
فإن قيل: كيف الإحسان عند ذبح الذبيحة؟
فالجواب: بإيقاع ذلك وفق الصفة الشرعية.
قالَ القرطبيّ: وإحسان الذبح فِي البهائم: الرفقُ بالبهيمة، فلا يصرعها بعنف، ولا يجُرّها منْ موضع إلى موضع، وإحداد الآلة، وإحضار نيّة الإباحة والقربة، وتوجيهها إلى القبلة، والتسمية، والإجهاز، وقطع الودجين، والحلقوم، وإراحتها، وتركها إلى أن تبرُد، والاعتراف لله تعالى بالمنّة، والشكر له عَلَى النعمة بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرّمه علينا.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً للإحسان:
أولاً: الإحسان بالقتل.
فإذا قتلت شيئاً يباح قتله فأحسن القتلة، فلو أن شخصاً آذاه كلب من الكلاب وأراد أن يقتله، فهناك طرق لقتله، لكن عليه أن يختار أسهلها وأيسرها كالصعق الكهربائي.
أيضاً من استحق القتل، قتل بضرب عنقه بالسيف من دون تمثيل.
ثانياً: الإحسان بالذبح:
وذلك بأن نذبحها على الوجه المشروع ومن ذلك.
حد الشفرة لأن ذلك أسهل للذبيحة. فلا يجوز أن يذبحها بآلة كالة [أي ليست بجيدة].
ولا يحد الشفرة أمام الذبيحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم.
والإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي إلى ذلك.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- وجوب إراحة الذبيحة.
- من أجل أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل.
قال تعالى (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم).
- الحث والرحمة والشفقة بالحيوان، وقد قال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله).
- النهي عن المثلة بالإنسان بعد قتله.
- حسن التعامل مع المخلوقات.
فائدة: فضائل الإحسان:
أولاً: أن من أحسن إلى الناس أحسن الله إليه.
قال تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
ثانياً: لهم في الدنيا حسنة.
قال تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة).
ثالثاً: رحمة الله قريبة من المحسنين.
قال تعالى (إن رحمت الله قريب من المحسنين).
رابعاً: لهم الجنة ونعيمها.
قال تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة).
خامساً: تبشير المحسنين.
قال تعالى (وبشر المحسنين).
سادساً: أن الله معهم.
قال تعالى (وإن الله لمع المحسنين).
سابعاً: إن الله يحب المحسنين.
قال تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
ثامناً: إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
قال تعالى (إن الله لا يضيع أجر المحسنين).
تاسعاً: الإحسان سبب في دخول الجنة.
قال تعالى: (
…
آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين).
عاشراً: الكافر إذا رأى العذاب تمنى أن لو أحسن في الدنيا.
قال تعالى (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين).
1344 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ذَكَاةُ اَلْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
الحديث صححه النووي في "المجموع"(2/ 562)، وابن دقيق العيد في "الإلمام"(2/ 432) والألباني في "الإرواء"(8/ 256) وغيرهم، وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 76): "بأسانيد حسان.
وقَالَ التّرمِذيّ: " وَفِي الْبَاب عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ " انتهى ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن ذكاة الجنين ذكاة له، بمعنى أنه لا يحتاج إلى ذكاة مستقلة.
فالحديث دليلٌ على أنَّ الجنينَ إذا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّه ميتًا بعد ذكاتِها فهُو حلالٌ مُذَكّى بِذَكاةِ أُمِّه، وهو قولُ الجُمهور.
قال الخطَّابي في "معالم السُّنن": في هذا الحديث بيانُ جوازِ أكْلِ الجنين إذا ذُكِّيَتْ أمُّه، وإنْ لم تُجَدَّد لِلجنينِ ذكاة" ا هـ.
فمعنى الحديث: أن الجنين إذا خرج ميتاً من بطن أمه بعد ذبحها، أو وجد ميتاً في بطنها، فهو حلال، لا يحتاج إلى استئناف ذبح؛ لأنه جزء من أجزائها، فذكاتها ذكاة له.
وقال في تحفة الأحوذي: قَوْلُهُ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّه) مَرْفُوعَانِ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ بِأَنَّهَا ذَكَاةُ أُمِّهِ، فَيَحِلُّ بِهَا كَمَا تَحِلُّ الْأُمُّ بِهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَذْكِيَةٍ.
وقال ابن القيم رحمه الله: سأَلُوا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَنِين الَّذِي يُوجَد فِي بَطْن الشَّاة: أَيَأْكُلُونَهُ أَمْ يُلْقُونَهُ؟ فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُمْ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ كَوْنه مَيْتَة: بِأَنَّ ذَكَاة أُمّه ذَكَاة لَهُ، لِأَنَّهُ جُزْء مِنْ أَجْزَائِهَا كَيَدِهَا وَكَبِدهَا وَرَأْسهَا، وَأَجْزَاء الْمَذْبُوح لَا تَفْتَقِر إِلَى ذَكَاة مُسْتَقِلَّة، وَالْحَمْل مَا دَامَ جَنِينًا فَهُوَ كَالْجُزْءِ مِنْهَا، لَا يَنْفَرِد بِحُكْمٍ، فَإِذَا ذُكِّيَتْ الْأُمّ أَتَتْ الذَّكَاة عَلَى جَمِيع أَجْزَائِهَا الَّتِي مِنْ جُمْلَتهَا الْجَنِين، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاس الْجَلِيّ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَة نَصّ.
وَالصَّحَابَة لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ كَيْفِيَّة ذَكَاته، لِيَكُونَ قَوْله (ذَكَاته كَذَكَاةِ أُمّه) جَوَابًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ أَكْل الْجَنِين الَّذِي يَجِدُونَهُ بَعْد الذَّبْح، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ حَلَالًا بِجَرَيَانِ ذَكَاة أُمّه عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاج إِلَى أَنْ يَنْفَرِد بِالذَّكَاةِ
قَالَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك " كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: إِذَا أَشْعَرَ الْجَنِين فَذَكَاته ذَكَاة أُمّه " وَهَذَا إِشَارَة إِلَى جَمِيعهم.
وَمَعْلُوم أَنَّ الْجَنِين لَا يُتَوَصَّل إِلَى ذَبْحه بِأَكْثَر مِنْ ذَبْح أُمّه، فَتَكُون ذَكَاة أُمّه ذَكَاة لَهُ، وهو مَحْض الْقِيَاس. (تهذيب السنن).
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- هذا الحكم خاص بما إذا خرج الجنين ميتاً من بطن أمه بعد ذبحها، وكانت قد نفخت فيه الروح قبل خروجه، وأما إذا لم يكن قد نفخت فيه الروح، فهو ميتة، لا يحله ذبح أمه.
ومثله: لو خرج ميتاً، وعلمنا أن موته قبل ذبح أمه؛ فإنه لا يحل اتفاقاً
فإذا خرج حيا حياة مستقرة بعد ذبح أمه: لم يبح أكله إلا بذبحه أو نحره؛ لأنه نفس أخرى، وهو مستقل بحياته.
- رغب بعض أهل العلم عن أكل الجنين، من ناحية الطب.
قال ابن القيم رحمه الله: " لحوم الأجِنَّة غير محمودة لاحتقان الدم فيها، وليست بحرام لقوله صلى الله عليه وسلم (ذَكَاةُ الجَنِين ذَكَاةُ أُمِّهِ). (زاد المعاد).
ولتفادي ذلك، كان ابن عمر رضي الله عنهما يرى ذبحه قبل أكله، لإخراج ما تبقى فيه من الدم، وليس لأجل الذكاة الشرعية.
روى الإمام مالك في (الموطأ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِذَا نُحِرَتْ النَّاقَةُ فَذَكَاةُ مَا فِي بَطْنِهَا فِي ذَكَاتِهَا إِذَا كَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعَرُهُ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ذُبِحَ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ مِنْ جَوْفِه.
- تيسير هذه الشريعة، لأن كل ما كان الأمر شاقاً حل التخفيف.
1345 -
وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اِسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيُسَمِّ، ثُمَّ لِيَأْكُلْ) أَخْرَجَهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بنُ يَزِيدَ بنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ اَلْحِفْظ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى اِبْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفًا عَلَيْه.
1346 -
وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي "مَرَاسِيلِهِ" بِلَفْظِ (ذَبِيحَةُ اَلْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ) وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُون.
===
ذكر المصنف رحمه الله هذه الأحاديث، لأنه استدل بها من يقول: إن التسمية على الذبيحة ليست واجبة.
ولكن هذه الأحاديث ضعيفة لا تصح.
وأثر ابن عباس موقوف عليه، وصححه ابن حجر.
فهذه الأحاديث لا تنهض لمخالفة الأحاديث الصحيحة الآمرة بالتسمية، وقد تقدمت المسألة.
بَاب اَلْأَضَاحِيِّ
الأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله.
وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر).
قال ابن كثير: الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك، وهو ذبح البدن ونحوها.
وقال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) المنسك المراد به هنا هو الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى.
وقد ذكر ابن كثير عند هذه الآية أن هذه الآية تدل على أن ذبح المناسك مشروعة في جميع الملل.
وأما السنة:
فالأحاديث كثيرة وسيأتي بعضها في الشرح ومنها:
حديث البراء رضي الله عنه قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له). متفق عليه
وأجمع المسلمون على مشروعيتها.
قال في المغني: أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.
قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الأضحية.
الحكمة من مشروعيتها:
أولاً: تعظيم الله بذبح الأضاحي تقرباً إليه. (اراقة الدماء بنية الأضحية هذا من تعظيم الله).
ثانياً: إظهار شعائر الله تعالى.
ثالثاً: التوسعة على الأهل والفقراء والإهداء للجيران والأقرباء.
ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها، لأمرين:
أولاً: أن إراقة الدم والذبح عبادة مقصودة، فإخراج القيمة فيه تعطيل لهذه الحكمة العظيمة.
ثانياً: أن الأضحية سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل المسلمين إلى يومنا هذا، ولم ينقل أن أحداً منهم أخرج القيمة.
ثالثاً: اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان حريصا على الأضحية، حتى إنه ضحى، لما أدركه الأضحى في سفره.
روى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ:(يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ)، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
قال النووي رحمه الله:
" فِيهِ أَنَّ الضَّحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسَافِرِ، كَمَا هِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ " انتهى.
وهذا دليل على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الأضحية.
1347 -
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، وَيُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) وَفِي لَفْظٍ (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وَفِي لَفْظِ: (سَمِينَيْنِ) وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي "صَحِيحِهِ"(ثَمِينَيْنِ) بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ اَلسِّين.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، وَيَقُولُ (بِسْمِ اَللَّهِ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ).
1348 -
وَلَهُ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ; لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ: "اِشْحَذِي اَلْمُدْيَةَ، ثُمَّ أَخَذَهَا، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، وَقَالَ: بِسْمِ اَللَّهِ، اَللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمّةِ مُحَمَّدٍ).
===
(بِكَبْشَيْنِ) الكبش فحل الضأن.
(أَمْلَحَيْنِ) الأملح: هو الذي بياضه أكثر منْ سواده. وقيل: هو النقيّ البياض. وقيل: هو الذي يُخالط بياضه. وقيل: هو الأسود، تعلوه حمرة.
(أَقْرَنَيْنِ) الأقرن: هو الذي له قرنان معتدلان، قال النووي: أَيْ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا قَرْنَانِ حَسَنَانِ.
(وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) أي: صفحة عنق كل منهما، قال في النهاية: صفحة كل شيء وجهه وجانبه، والمراد هنا صفائح أعناقهما.
قَالَ فِي (الفتح) قوله (عَلَى صفاحهما) أي عَلَى صفاح كلّ منهما عند ذبحه، والصفاح بكسر الصاد المهملة، وتخفيف الفاء، وآخره حاء مهملة: الجوانب، والمراد الجانب الواحد منْ وجه الأضحيّة، وإنما ثنّي إشارة إلى أنه فعل فِي كلّ منهما، فهو منْ إضافة الجمع إلى المثنّى بإرادة التوزيع. انتهى.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يضع رجله عَلَى جانب عنق كلّ منهما، وإنما فعل ذلك؛ ليكون أثبت وأمكن، لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فتمنعه منْ إكمال الذبح، أو تؤذيه. والله تعالى أعلم.
(يَطَأُ فِي سَوَادٍ) يعني أنه أسود القوائم.
(وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ) يعني أن ما يلي الأرض منه إذا برك أسود.
(وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ) يعني أن حدقته سوداء.
(اِشْحَذِي) بالشين المعجمة أي: حدديها.
(اَلْمُدْيَةَ) وهي السكين.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد مشروعية الأضحية، ولا خلاف في مشروعيتها واستحبابها وإنما الخلاف في وجوبها وسيأتي إن شاء الله
قال ابن قدامة: الأصل فِي مشروعية الأضحية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب، فقول الله سبحانه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قَالَ بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية، بعد صلاة العيد.
وأما السنة: ثم ذكر حديث الباب.
وأجمع المسلمون عَلَى مشروعية الأضحية. (المغني).
ونستفيد أيضاً: أن المستحب أن تكون الأضحية بهذه الصفات التي كانت عليها أضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فالأفضل منها صفة: الأسمن، الأكثر لحماً، الأكمل خِلقة، الأحسن منظراً.
أ-ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ).
ب- وأيضاً (أملحين) والأملح الذي بياضه أكثر من سواده.
ج- وعن أبي داود عن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين)، [موجوءين] أي خصيين.
قال الشيخ ابن عثيمين الله: يجوز الأضحية بالخصي؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين موجوءين - يعني: مقطوعي الخصيتين- ووجه ذلك أن الخصي يكون لحمه أطيب، فالخصاء لن يضره شيئاً.
د- وعند أبي داود أيضاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين فحيلين). [الكبش الفحيل] هو القوي في الخلقة
هـ- وجاء عند أبي عوانة (سمينين).
قال النووي: وَأَجْمَعُوا عَلَى اِسْتِحْبَاب اِسْتِحْسَانهَا وَاخْتِيَار أَكْمَلهَا.
من أي الحيوان تكون الأضحية؟
ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا تجزئ الأضحية إلا من بهيمة الأنعام وهي (الإبل والبقر والغنم).
وذلك لقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَام).
قال القرطبي: والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم.
ولم تنقل الأضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير بهيمة الأنعام. قال النووي: وكل هذا مجمع عليه.
واختلف العلماء في أفضل الأضاحي على قولين:
القول الأول: أن الأفضل في الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وبه قال بعض المالكية.
قال ابن قُدامة: وأفضل الأضاحي البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، ثم شرك فِي بقرة، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً .. ) متفق عليه.
قال النووي: وفيه أن التضحية بالإبل أفضل من البقرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدَّمَ الإبل، وجعلَ البقرة في الدرجة الثانية.
ب-قال ابن قدامة: ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى، فكانت البدنةُ فيه أفضل، كالهدي فإنه قد سلَّمَه.
ج- ولأنها أكثر ثمناً ولحماً وأنفع.
القول الثاني: أن الأفضل الجذع من الضأن.
وهذا قول مالك.
لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله خيرا منه، لَفَدَى إسحاق به.
قال ابن دقيق العيد: وقد يستدل للمالكية باختيار النبي صلى الله عليه وسلم في الأضاحي للغنم، وباختيار الله تعالى في فداء الذبيح.
والراجح الأول.
ما الأفضل في الأضحية لوناً؟
البياض.
قال الإمام النووي: أفضلها، البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء، وهي التي لا يصفو بياضها ثم البلقاء، وهي التي بعضها أبيض وبعضها أسود ثم السوداء.
وقال ابن قدامة: والأفضل في الأضحية من الغنم في لونها البياض.
لحديث الباب (بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ).
قال الحافظ ابن حجر: الأملح: هو الذي فيه سواد وبياض والبياض أكثر، ويقال هو الأغبر وهو قول الأصمعي.
وزاد الخطابي: هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود. ويقال الأبيض الخالص قاله ابن الأعرابي، وبه تمسك الشافعية في تفضيل الأبيض في الأضحية.
ماذا نستفيد من قوله (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ)؟
نستفيد: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَان ذَبْح أُضْحِيَّته بِنَفْسِهِ، وَلَا يُوَكِّل فِي ذَبْحهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْهَد ذَبْحهَا، وَإِنْ اِسْتَنَابَ فِيهَا مُسْلِمًا جَازَ بِلَا خِلَاف، وَإِنْ اِسْتَنَابَ كِتَابِيًّا كُرِهَ كَرَاهِيَة تَنْزِيه وَأَجْزَأَهُ وَوَقَعَتْ التَّضْحِيَة عَنْ الْمُوَكِّل، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَالِكًا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْه. (نووي).
ماذا نستفيد من قوله (وَيُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ)؟
نستفيد إِثْبَات التَّسْمِيَة عَلَى الضَّحِيَّة وَسَائِر الذَّبَائِح، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ لَكِنْ هَلْ هُوَ شَرْط أَمْ مُسْتَحَبّ؟ تقدم الخلاف في باب الصيد.
فقوْله: (وَكَبَّرَ) فِيهِ اِسْتِحْبَاب التَّكْبِير مَعَ التَّسْمِيَة فَيَقُول بِسْمِ اللَّه وَاللَّهُ أَكْبَر.
ما الحكمة من وضع الرجِل على صفحة عنق الذبيحة عند الذبح؟
قال النووي: وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِيَكُونَ أَثْبَت لَهُ وَأَمْكَنَ لِئَلَّا تَضْطَرِب الذَّبِيحَة بِرَأْسِهَا فَتَمْنَعهُ مِنْ إِكْمَال الذَّبْح أَوْ تُؤْذِيه، وَهَذَا أَصَحّ مِنْ الْحَدِيث الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ هَذَا.
ما الأفضل في الضحية ذبحها أو التصدق بثمنها؟
ذبحها أفضل من التصدق بثمنها.
وهذا مذهب جماهير العلماء، لأمور:
أولاً: أن إراقة الدم والذبح عبادة مقصودة، فإخراج القيمة فيه تعطيل لهذه الحكمة العظيمة.
ثانياً: أن الأضحية سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل المسلمين إلى يومنا هذا، ولم ينقل أن أحداً منهم أخرج القيمة.
ثالثاً: اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام.
قال الحافظ ابن عبد البر: الضحية عندنا أفضل من الصدقة. وذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب مالك وأصحابه.
قال ابن قدامة: وَالْأُضْحِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ.
وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أُضَحِّيَ إلَّا بِدِيكٍ، وَلَأَنْ أَضَعَهُ فِي يَتِيمٍ قَدْ تَرِبَ فُوهُ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ، لَعَدَلُوا إلَيْهَا.
وَلِأَنَّ إيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ يُفْضِي إلَى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام النووي: مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع، للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية، ولأنها مختلف في وجوبها، بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به، والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة.
هل تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته؟
نعم تجزئ.
لحديث الباب – حديث عائشة - (
…
ثم قال: بسم الله اللهم تقبل عن محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى).
فهذا يدل على أن الأضحية بالشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته.
قال النووي: واستدل بهذا من جوَّز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته واشتراكهم معه في الثواب، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور.
وقال الخطابي: وفي قوله (تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد.
ب- وأيضاً حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أحدهما عنه وعن آل محمد والآخر عن أمة محمد.
ج- وأيضاً حديث أبي أيوب رضي الله عنه قال (كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون) رواه ابن ماجه.
قال الإمام النووي: هذا حديث صحيح. والصحيح أن هذه الصيغة تقتضي أنه حديث مرفوع.
قال العلامة ابن القيم: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم، ثم ذكر حديث أبي أيوب السابق.
وقال الشوكاني: قوله (يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت، لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم والظاهر اطلاعه فلا ينكر عليهم
…
والحق أنها تجزئ عن أهل البيت، وإن كانوا مئة نفس أو أكثر كما قضت بذلك السنة.
لو كان عنده أكثر من بيت كما لو كان له زوجتان أو ثلاث وعنده بيوت متعددة فإن ظاهر السنة أنه يكتفي بشاة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده تسعة أبيات ومع ذلك لم يعدد النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية.
ما الحكم لو كان الأب له أولاد متزوجون، وكل واحد منهم في منزل لوحده؟
إذا كانوا عائلة في بيت واحد كفتهم أضحية واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بأضحية واحدة عنه وعن أهل بيته، وكان نساؤه اللاتي معه تسع نساء، ومع ذلك ضحى عنهن بأضحية واحدة، أما إذا كان هؤلاء الأبناء كل واحد في بيت منفردٍ عن الآخر، فإن على كل واحد منهم أضحية، ولا تكفي أضحية الوالد عنهم.
ما الأصل في الأضحية عن الأحياء أم الأموات؟
الأصل فيها أنها عن الأحياء، وللمضحي أن يشرك في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات.
ما حكم الأضحية عن الميت استقلالاً؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنها مشروعة.
لأنها نوع من الصدقة فما دام أن الصدقة تصح عن الميت بالإجماع فلتكن الأضحية تصح عن الميت كذلك.
القول الثاني: غير مشروعة.
لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن الأموات وقد ماتت زوجته خديجة وهي أحب النساء ومات عمه حمزة وهو أحب أعمامه إليه ولم ينقل أنه ضحى عن واحد منهما.
وأما إذا أوصى الميت بأضحية بثلث ماله فانه يجب على القائم على الوصية أن ينفذها.
1349 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، لَكِنْ رَجَّحَ اَلْأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَه.
===
ما صحة حديث الباب؟
صححه الحاكم وحسنه الألباني.
وروي موقوفاً على أبي هريرة. ورجحه الترمذي، والطحاوي، والبيهقي، وابن عبد الهادي، والحافظ ابن حجر في الفتح.
اذكر الخلاف هل الأضحية واجبة أم لا؟
بعد أن أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية [كما سبق] اختلفوا في وجوبها على قولين:
القول الأول: أنها واجبة.
وهذا مذهب أبي حنيفة واختيار ابن تيمية رحمه الله.
أ- لقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالنحر، والأمر يفيد الوجوب.
ب- ولحديث الباب (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا).
وجه الدلالة: أنه قد خرج مخرج الوعيد على ترك الأضحية، والوعيد إنما يكون على ترك الواجب، مما يدل على أن الأضحية واجبة.
ج-ولحديث جندب قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن يذبح فليذبح على اسم الله) متفق عليه، فلو لم تكن الأضحية واجبة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الذبح لمن ذبح قبل الصلاة.
القول الثاني: أنها غير واجبة.
وهذا مذهب الجمهور. [وقد قال كثير من أصحاب القول يقولون: يكره للقادر تركها].
قال ابن قدامة: أكثر أهل العلم، يرون الأضحية سنة مؤكدة، غير واجبة.
أ- لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ شيئاً من شعره وأظفاره). رواه مسلم
قال الإمام الشافعي: هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم (وأراد)، فجعله مفوضاً إلى إرادته ولو كان واجباً لقال صلى الله عليه وسلم (فلا يمس من شعره وبشره حتى يضحي).
قال ابن قدامة: علقه على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة، فلو كانت واجبة لاقتصر على قوله (إذا دخل العشر فلا يمس من شعره وبشره شيئاً).
ب- عن جابر رضي الله عنهم قال (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى فلما انصرف أتي بكبش فذبحه وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)
فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته فهي تجزئ عمن تمكن منها ومن لم يتمكن منها.
ج- ما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يرى ذلك واجباً، مما يدل على أنهما لم يكونا يريان الوجوب.
د-عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ثلاث هن عليَّ فرائض ولكم تطوع، النحر والوتر وركعتا الضحى) رواه أحمد والبيهقي، والحديث ضعيف كما قال الإمام النووي.
والراجح مذهب الجمهور.
وأما أدلة أصحاب القول الأول:
أما الآية فهي محتملة لوجوب النحر يوم العيد، وتحتمل معنى آخر كوضع اليدين عند النحر في الصلاة، ولو سلم أن المقصود بالنحر الذبح فالآية تدل على وقت النحر لا وجوبه.
وقيل: المراد بالآية تخصيص الرب سبحانه وتعالى بالنحر له لا لغيره.
وأما الحديث، فقال عنه ابن قدامة: ضعفه أصحاب الحديث، ولو صح فيحمل على تأكيد الاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
أما الحديث الآخر فلا يدل على وجوب الأضحية ابتداء، بل يدل على وجوب الأضحية إذا نوى أن يضحي وذبح قبل الصلاة فقد انقلب التطوع إلى فرض.
فبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور.
ما حكم إذا اجتمعت الأضحية والعقيقة؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا تجزئ الأضحية عن العقيقة.
وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد رحمهم الله.
وحجة أصحاب هذا القول: أن كلاً منهما - أي: العقيقة والأضحية - مقصود لذاته فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى.
ولأن كل واحدة منهما لها سبب مختلف عن الآخر، فلا تقوم إحداهما عن الأخرى، كدم التمتع ودم الفدية.
القول الثاني: تجزئ الأضحية عن العقيقة.
وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الأحناف، وبه قال الحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة رحمهم الله.
وحجة أصحاب هذا القول: أن المقصود منهما التقرب إلى الله بالذبح، فدخلت إحداهما في الأخرى، كما أن تحية المسجد تدخل في صلاة الفريضة لمن دخل المسجد.
هل يجوز الذبح ليلاً؟
نعم يجوز الذبح من غير كراهة.
وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهته.
واستدلوا بحديث رواه الطبراني.
والصحيح أنه لا يكره وهو قول الجماهير لعدم الدليل على الكراهة، وأما الحديث الوارد فهو لا يصح، وقد عزاه الهيثمي للطبراني وقال: فيه راوٍ متروك.
1350 -
وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ (شَهِدْتُ اَلْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ، نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اَللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(شَهِدْتُ اَلْأَضْحَى) أي: صلاة عيد الأضحى.
(فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أي: سلم منها.
(نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ) وفي رواية (فإذا ناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة).
(مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا) أي: بدلها، لعدم إجزائها، حيث وقعت قبل وقتها.
(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اَللَّهِ) وفي رواية (فليذبح باسم الله) أي: فليذبح قائلاً باسم الله.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن وقت ذبح الأضحية يكون بعد صلاة العيد.
فمن شروط الأضحية: أن تكون في الوقت المحدد لها، وهو بعد صلاة العيد.
والأفضل أن يؤخر حتى تنتهي الخطبة.
أ-ففي حديث الباب (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا).
ب-وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا نُصَلِّى ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) متفق عليه.
ج- وعنْ جُنْدَبٍ قَالَ (صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ ذَبَحَ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ) رواه البخاري.
إلى متى يستمر الذبح؟
اختلف العلماء متى ينتهي وقت الذبح على أقوال:
القول الأول: أن النحر خاص بيوم العيد.
وهو قول ابن سيرين.
القول الثاني: أن النحر ينتهي بانتهاء اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيامه ثلاثة.
وهذا قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث.
وجه الدلالة: أنه لا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، فمن ذبح في اليوم الرابع وقع في هذا المحظور بحصول اللحم زمن النهي عن أكله.
ب- أن اليوم الرابع لا يجب فيه الرمي فيه، فلم تجز الأضحية فيه كالذي بعده.
ج- أنه قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس.
قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة، عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أخرى عنه قال: خمسة من أصحاب رسول الله.
قال ابن قدامة: ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي رضي الله عنه، وقد روي عنه مثل مذهبنا.
القول الثالث: أن أيام الذبح أربعة، يوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة.
وهو قول الشافعية، واختيار ابن تيمية، فينتهي بغروب شمس اليوم 13 من ذي الحجة.
قال ابن القيم: وقد قال علي بن أبي طالب: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن، وإمام أهل الكوفة عطاء بن أبي رباح، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، واختاره ابن المنذر، ولأن الثلاثة تختص بكونها: أيام منى، وأيام النحر، وأيام التشريق، ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. [زاد المعاد 2/ 291]
أ- جاء في حديث (كل أيام التشريق ذبح) لكن مختلف في صحته.
ب-حديث نبيْشة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) رواه مسلم.
وهذا الراجح.
إذا كان المضحي في مكان لا يُصلى فيه العيد كالبادية، فإن وقت الأضحية يبدأ فيما يمضي من قدر صلاة العيد.
ماذا نستفيد من قوله (من ذبح قبل الصلاة
…
)؟
نستفيد أنه لا يشترط أن يكون الذبح بعد خطبة الإمام، وإنما العبرة بالصلاة.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن من ذبح قبل الصلاة وجب عليه أن يضمن بدلها.
- أن العبادة إذا فعلت قبل وقتها فإنها لا تقبل.
1351 -
وَعَنِ اَلْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي اَلضَّحَايَا: اَلْعَوْرَاءُ اَلْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ اَلْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ اَلْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ اَلَّتِي لَا تُنْقِي) رَوَاهُ اَلْخَمْسَة. وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّان.
===
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن من شروط الأضحية، وهي أن تكون سليمة من العيوب.
والعيوب تنقسم إلى قسمين:
عيوب غير مجزئة - وعيوب مجزئة لكنها مكروهة.
العيوب الغير المجزئة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء الذي ذكره المصنف:
(اَلْعَوْرَاءُ اَلْبَيِّنُ عَوَرُهَا) وهي التي انخسفت عينها أو برزت.
(وَالْمَرِيضَةُ اَلْبَيِّنُ مَرَضُهَا) هي التي ظهر عليها آثار المرض، مثل: الحمى التي تقعدها عن المرعى، والجرب الظاهر المفسد للحمها، أو المؤثر على صحتها.
(إن كان فيها فتور أو كسل يمنعها من المرعى والأكل، أجزأت لكن السلامة منها أولى).
(وَالْعَرْجَاءُ اَلْبَيِّنُ ظَلْعُهَا) وهي التي لا تستطيع معانقة السليمة في المشي.
(فإن كان فيها عرج يسير لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت والسلامة منها أولى).
(وَالْكَسِيرَةُ اَلَّتِي لَا تُنْقِي) يعني الهزيلة التي لا مخ فيها.
(فإن كانت هزيلة فيها مخ أو كسيرة فيها مخ أجزأت).
هذه الأربع المنصوص عليها وعليها أهل العلم.
قال في المغني: لا نعلم خلافاً في أنها تمنع الإجزاء.
وقال ابن عبد البر: أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها، ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرجل أو التي لا رجل لها المقعدة أحرى ألا تجوز، وهذا كله واضح لا خلاف فيه.
ويلحق بهذه الأربع ما كان في معناها أو أولى:
العمياء: فهي أولى بعدم الإجزاء من العوراء البين عورها.
الزمنى: وهي العاجزة عن المشي لعاهة، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين عرجها.
مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين: لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين عرجها.
القسم الثاني: عيوب مجزئة لكنها مكروهة.
وسيأتي ذكرها إن شاء الله في حديث قادم.
ما حكم لو طرأ على الذبيحة عيب مخل بها بعد تعيينها أضحية؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يذبحها وتجزئ.
نقل هذا القول عن عطاء، والحسن، والنخعي، والزهري، والثوري، والشافعي، وأحمد، واسحق.
القول الثاني: لا تجزؤه، ولا بد أن يذبح بدلها.
وهو قول الحنفية، والمالكية.
من فوائد الحديث: أن العوراء الذي لا يبين عورها تجزاء، وأن المريضة التي مرضها خفيف تجزاء.
1352 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ اَلضَّأْنِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
(لَا تَذْبَحُوا) أي: في الأضاحي.
(إِلَّا مُسِنَّةً) أي: ثنيّة، وسيأتي ما هو الثني إن شاء الله.
(إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ) أي: إلا أن يصعب عليكم ذبحها بأن لا توجد أو لا يوجد ثمنها.
(فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ اَلضَّأْنِ) وهو ما تم له ستة أشهر.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن من شروط الأضحية: أن تبلغ السن المعتبرة. بأن يكون ثنياً إن كان من الإبل أو البقر أو المعز، وجذعاً إن كان من الضأن.
الثني من الإبل: ما تم له خمس سنين.
الثني من البقر: ما تم له سنتان.
الثني من الغنم: ما تم له سنة.
الجذع: ما تم له ستة أشهر.
جاء في (الموسوعة الفقهية) في ذكر شروط الأضحية: الشرط الثاني: أن تبلغ سن التضحية، بأن تكون ثنية أو فوق الثنية من الإبل والبقر والمعز، وجذعة أو فوق الجذعة من الضأن، فلا تجزئ التضحية بما دون الثنية من غير الضأن، ولا بما دون الجذعة من الضأن
…
وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في تفسير الثنية والجذعة " انتهى.
قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً أن الجذع من المعز ومن كل شيء يضحى به غير الضأن لا يجوز، وإنما يجوز من ذلك كله الثني فصاعداً، ويجوز الجذع من الضأن بالسنة المسنونة.
وقال النووي: أجمعت الأمة على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني، ولا من الضأن إلا الجذع، وأنه يجزئ هذه المذكورات إلا ما حكاه بعض أصحابنا ابن عمر والزهري أنه قال: لا يجزئ الجذع من الضأن. وعن عطاء والأوزاعي أنه يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن. (المجموع).
ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة: إذا مضت الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني
…
وأما البقرة فهي التي لها سنتان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تذبحوا إلا مسنة) ومسنة البقر التي لها سنتان.
وقال الإمام النووي: قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه. (شرح مسلم).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (أحكام الأضحية) فالثني من الإبل: ما تم له خمس سنين، والثني من البقر: ما تم له سنتان. والثني من الغنم: ما تم له سنة، والجذع: ما تم له نصف سنة، فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجذع من الضأن " انتهى.
هل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( ..... إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ اَلضَّأْنِ) على ظاهره؟
ظاهر الحديث أنه لا يجوز التضحية بالجذع من الضأن إلا إذا عسُر على المضحي وجود المسنة، لكن الجمهور أن هذا الحديث على الاستحباب.
قال النووي: وَأَمَّا الْجَذَع مِنْ الضَّأْن فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة يُجْزِي سَوَاء وَجَدَ غَيْره أَمْ لَا، وَحَكَوْا عَنْ اِبْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُجْزِي، وَقَدْ يُحْتَجّ لَهُمَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث.
قَالَ الْجُمْهُور: هَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالْأَفْضَل، وَتَقْدِيره يُسْتَحَبّ لَكُمْ أَلَّا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّة فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَة ضَأْن، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِمَنْعِ جَذَعَة الضَّأْن، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِي بِحَالٍ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِره؛ لِأَنَّ الْجُمْهُور يُجَوِّزُونَ الْجَذَع مِنْ الضَّأْن مَعَ وُجُود غَيْره وَعَدَمه، وَابْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُود غَيْره وَعَدَمه، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْحَدِيث عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحْبَاب. وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي).
وقال الحافظ في (التلخيص) ظاهر الحديث يقتضي أن الجذع من الضأن لا يجزئ إلا إذا عجز عن المسنة، والإجماع على خلافه، فيجب تأويله بأن يحمل على الأفضل، وتقديره: المستحب ألا يذبحوا إلا مسنة " انتهى.
وقال في "عون المعبود: هذا التَّأْوِيل هُوَ الْمُتَعَيِّن.
ويدل على جواز الجذع من الضأن ولو مع وجود الثنية:
أ-عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، فَقَالَ: ضَحِّ بِهَا) متفق عليه.
ب-وعنه صلى الله عليه وسلم قال (ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِجِذَعٍ مِنْ الضَّأْن) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، قَالَ الْحَافِظ سَنَده قَوِي.
ج- وعَنِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ (كُنَّا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الأَضْحَى، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَشْتَرِي الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ لَنَا رَجُلٌ، مِنْ مُزَيْنَةَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ هَذَا الْيَوْمُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ) رواه أبو داود.
1353 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ (أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ اَلْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقاءَ، وَلَا ثَرْمَاءَ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَة، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
===
(أَنْ نَسْتَشْرِفَ اَلْعَيْنَ وَالْأُذُنَ) أي: نتأمّل سلامتهما منْ آفة تكون بهما. وقيل: هو منْ الشُّرْفة، وهي خيار المال: أي أُمِرْنا أن نتخيّرها. قاله فِي (النهاية).
وَقَالَ السنديّ: قوله (أن نستشرف العين والأذن) أي: نبحث عنهما، ونتأمّل فِي حالهما، لئلّا يكون فيهما عيب.
(وَلَا مُقَابَلَةٍ) أي: ولا نضحي بمقابلة، وهي التي يُقطع منْ طرف أذنها شيء، ثم يُترك معلّقًا كأنه زَنَمَةٌ، واسم تلك السمة القُبْلَة، والإقبالة. قاله فِي (النهاية).
(وَلَا مُدَابَرَةٍ) وهي ما قطع من مؤخر إذنها قطعة وتدلت ولم تنفصل وهي عكس المقابلة.
(وَلَا خَرْقاءَ) وهي التي في أذنها ثقب يسير، وفي بعض النسخ (ولا خرماء).
(وَلَا ثَرْمَاءَ) هي التي سقطت ثنيتها، وفي بعض النسخ (ولا شرقاء) وهي التي شقت أذنها طولاً.
ما حكم الأضحية بالعيوب التي ذكرت بالحديث؟
يجوز مع الكراهة.
عند المالكية والشافعية والحنابلة.
ومثل ذلك:
الشرقاء: وهي مشقوقة الأذن وتسمى عند أهل اللغة أيضاً عضباء.
وهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة وهو الأولى. وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة.
الخرقاء: وهي التي في إذنها خرق وهو ثقب مستدير.
وهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة.
وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة، والنهي الوارد في الحديث عن الخرقاء، يحمل على الخرق الكثير دون القليل. وقول الجمهور أولى أيضاً.
قال ابن قدامة رحمه الله: وتكره المشقوقة الأذن والمثقوبة وما قطع شيء منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء. قال زهير: قلت لأبي إسحاق: ما المقابلة؟ قال: تقطع طرف الأذن، قلت: فما المدابرة؟ قال: تقطع من مؤخرة الأذن، قلت: ما الخرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق أذنها للسمة. رواه أبو داود والنسائي، قال القاضي: الخرقاء التي انثقبت أذنها، وهذا نهي تنزيه ويحصل الإجزاء بها ولا نعلم فيه خلافاً ولأن اشتراط السلامة من ذلك يشق إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله. انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء، قال مالك والليث: المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. انتهى.
ما حكم الأضحية بمقطوعة الأذن؟
مقطوعة الأذنين أو مقطوعة الأذن لا تجزئ عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
هذا إذا كان القطع لجميع الأذن.
وأما إذا قُطِعَ بعضُ الأذن، فقال الحنفية والحنابلة إذا قطع أكثر الأذن لا تجزئ، ويؤيد قولهم حديث علي السابق:(نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن. وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب ما الأعضب؟ قال: النصف فما فوقه).
قال الشوكاني في نيل الأوطار عند كلامه على حديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب القرن
…
إلخ فيه دليل على أنها لا تجزئ التضحية بأعضب القرن والأذن وهو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه، وذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور إلى أنها تجزئ التضحية بمكسور القرن مطلقاً، وكرهه مالك إذا كان يدمي، وجعله عيباً. انتهى
الحولاء: وهي التي في عينها حول، وهذه تجزئ لأن الحول لا يؤثر عليها ولا يمنعها من الرعي.
التي في عينها بياض: تجزئ في الأضحية نص على ذلك المالكية والحنابلة.
- الجماء: التي لم يخلق لها قرن وتسمى جلحاء أيضاً، وهذه مجزئة في الأضحية باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة.
- المخلوقة بلا ألية أصلاً: تجزئ عند أبي حنيفة والشافعية والحنابلة ولا تجزئ عند المالكية.
وأما مقطوعة الألية وهي التي كانت لها ألية فقطعت، فلا تجزئ عند الفقهاء، لأنها فقدت عضواً مأكولاً.
وأما إن قطع بعض أليتها فاختلف الفقهاء فيها.
- الخصي: من الخصاء وهو سلُّ خصيتي الفحل.
وقد قال أكثر الفقهاء إن الخصي والموجوء يجزئان في الأضحية.
قال ابن قدامة: ويجزئ الخصي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجؤين
…
وبهذا قال الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً.
قال الخطابي معلقاً على حديث جابر السابق: وفي هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو، وهذا نقص ليس بعيب لأن الخصاء يفيد اللحم طيباً، وينفي منه الزهومة وسوء الرائحة.
وقال ابن قدامة: ولأن الخصاء ذهاب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن.
1354 -
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ (أَمَرَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَقْوَمَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أُقَسِّمَ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا عَلَى اَلْمَسَاكِينِ، وَلَا أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئاً) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(أَنَّ أَقْوَمَ عَلَى بُدْنِهِ) بضمتين، أو بضمة فسكون، جمع بدنة، أي: إبله التي أهداها إلى البيت وكانت مائة.
(وَأَنْ أُقَسِّمَ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا عَلَى اَلْمَسَاكِينِ) جلالها بكسر الجيم: ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه، وقاية له.
(وَلَا أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئاً) أي: وأمرني بعدم إعطاء أجرة الجزار منها.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أنه لا يجوز أن يُعطى الجزَّار شيئاً من الأضحية مقابل ذبحها وسلخها.
لحديث الباب.
قال القرطبي: (ولا أعطي الجازر منها) يدل على أنه لا تجوز المعاوضة على شيء منها، لأن الجزار إذا عمل عمله استحق الأجرة على عمله، فإن دفع له شيء منها كان ذلك عوضًا على فعله، وهو بيع ذلك الجزء منها بالمنفعة التي عملها، وهي الجزر.
والجمهور: على أنه لا يعطى الجازر منها شيئًا، تمسُّكًا بالحديث. وكان الحسن البصري، وعبدالله بن عبيد بن عمير لا يريان بأسًا أن يعطى الجزار الجلد. (المفهم).
جاء في رواية (نحن نعطية من عندنا) مبالغة في سد الذريعة، وتحقيق للجهة التي تجب عليها أجرة الجازر؛ لأنه لما كان الهدي منفعته له تعينت أجرة الذي تتم به تلك المنفعة عليه. (المفهم).
قال ابن حجر: قال ابن خزيمة: والنهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطى منها عن أجرته، وكذا قال البغوي في شرح السنة قال: وأما إذا أعطي أجرته كاملة ثم تصدق عليه إذا كان فقيراً كما يتصدق على الفقراء فلا بأس بذلك، وقال غيره: إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، وأما إعطاؤه صدقة أو هدية أو زيادة على حقه فالقياس الجواز، ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة، لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة. (الفتح).
فإذاً لا يجوز إعطاء الجزَّار منها، لأن عطيته عوض عن عمله، فيكون في معنى بيع جزء منها وذلك لا يجوز.
وأما إن كان الجزَّار فقيراً أو صديقاً فأعطاه منها لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها. (المغني).
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها ولا أطرافها واجبة كانت أو تطوعاً.
قال الإمام أحمد: لا يبيعها ولا يبيع شيئاً منها.
وقال أيضاً: سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى؟
- يجوز أن ينتفع بالجلد بأن يجعله سقاءً أو فرواً أو نعلاً أو غير ذلك.
فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت (يجعل من جلد الأضحية سقاء ينبذ فيه).
- جواز الإنابة في نحر الهدي وتفرقته، ومثله الأضحية.
1355 -
وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَحَرْنَا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ: اَلْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: جواز الاشتراك في البدنة والبقرة وأنهما يجزيان عن سبعة أشخاص.
وروى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْجَزُورُ - أي: البعير - عَنْ سَبْعَةٍ).
قال النووي: فِي هَذِهِ الأَحَادِيث دَلالَة لِجَوَازِ الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاة لا يَجُوز الاشْتِرَاك فِيهَا. وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيث أَنَّ الْبَدَنَة تُجْزِئ عَنْ سَبْعَة، وَالْبَقَرَة عَنْ سَبْعَة، وَتَقُوم كُلّ وَاحِدَة مَقَام سَبْع شِيَاه، حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الْمُحْرِم سَبْعَة دِمَاء بِغَيْرِ جَزَاء الصَّيْد، وَذَبَحَ عَنْهَا بَدَنَة أَوْ بَقَرَة أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَمِيع. (شرح مسلم).
وقال ابن قدامة: وهذا قول أكثر أهل العلم.
روي ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء، وطاووس، وسالم، والحسن وعمرو بن دينار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
هل هناك قول آخر قال به بعض العلماء؟
نعم.
قال بعض أهل العلم تجزئ البدنة عن عشرة أيضاً.
وبه قال سعيد بن المسيب وإسحاق وابن خزيمة.
لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضرنا النحر - وفي رواية الأضحى - فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.
ورجح الشوكاني هذا القول وقال: إنه الحق فتجزئ البدنة والبعير عن عشرة في الأضحية دون الهدي فلا تجزئ إلا عن سبعة.
وقد رجح الحافظ ابن عبد البر حديث جابر على حديث ابن عباس فقال: وحديث (نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة) واضح لا مدخل فيه للتأويل، وحسبك بقول جابر (سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البدنةَ عن سبعةٍ والبقرةَ عن سبعة).
وقال أبو جعفر الطبري: أجمعت الأمة على أن البدنة والبقرة لا تجزئ عن أكثر من سبعة.
قال وفي ذلك دليل على أن حديث ابن عباس وما كان مثله خطأٌ ووهمٌ أو منسوخ.
وقال البيهقي: إن حديث جابر أصح من حديث ابن عباس.
ورجح ابن قدامة حديث جابر أيضاً على حديث ابن عباس.
ومذهب الجمهور هو الراجح لقوة أدلتهم.
فائدة:
لا حرج في إعطاء لحم الأضحية لغير المسلم، وخاصةً إن كان من الأقارب أو الجيران أو الفقراء.
ويدل على ذلك قوله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
وإعطاؤه لحم الأضحية من البر الذي أذن الله لنا به
وعَنْ مُجَاهِدٍ: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
قال ابن قدامة: "وَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا كَافِرًا،
…
؛ لِأَنَّهُ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، فَجَازَ إطْعَامُهَا الذِّمِّيَّ وَالْأَسِيرَ، كَسَائِرِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. (المغني)
وفي فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 424): "يجوز لنا أن نطعم الكافر المعاهد، والأسير من لحم الأضحية، ويجوز إعطاؤه منها لفقره، أو قرابته، أو جواره، أو تأليف قلبه
…
؛ لعموم قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن تصل أمها بالمال وهي مشركة في وقت الهدنة ". انتهى
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: الكافر الذي ليس بيننا وبينه حرب، كالمستأمن أو المعاهد: يعطى من الأضحية، ومن الصدقة.
بَابُ اَلْعَقِيقَةِ
تعريفها:
قال ابن حجر: (العقيقة) بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة، وَهُوَ اسْم لِمَا يُذْبَح عن الْمَوْلُود. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقهَا:
فَقَالَ أَبُو عُبَيْد، وَالْأَصْمَعِيّ: أَصْلهَا الشَّعْر الَّذِي يخْرُج عَلَى رَأْس الْمَوْلُود، وَتَبِعهُ الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيْره، وسُمِّيَتْ الشَّاة الَّتِي تُذْبِح عَنْهُ، فِي تِلْكَ الْحَالَة عَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ يُحْلَق عَنْهُ ذَلِك الشَّعْر عِنْد الذَّبْح.
وَعَنَ أَحْمَد أنَّها مَأْخُوذَة مِنْ الْعَقِّ، وَهُوَ الشَّقّ وَالْقَطْع، وَرَجَّحَهُ ابْن عَبْد الْبَرّ، وَطَائِفَة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَقِيقَة اسْم الشَّاة الْمَذْبُوحَة عَنْ الْوَلَد، سُمِّيتْ بِذَلِكَ؛ لِأنَّها تُعَقّ مَذَابِحهَا: أَيْ تُشَقّ، وَتَقْطَع.
قال ابن عبد البر: وَقَدْ أنكر أحمد بن حنبل تصير أبي عُبيد هَذَا للعقيقة، وما ذكره عن الأصمعيّ، وغيره فِي ذلك، وَقَالَ: إنما العقيقة: الذبح نفسه. قَالَ: ولا وجه لما قَالَ أبو عبيد، واحتجّ بعض المتأخّرين لأحمد بأن قَالَ ما قَالَ أحمد منْ ذلك، فمعروفٌ فِي اللغة؛ لأنه يقال: عقّ: إذا قطع، ومنه يقال: عقّ والديه: إذا قطعهما.
وشرعاً: العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه.
1356 -
عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ اَلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ اَلْجَارُودِ، وَعَبْدُ اَلْحَق لَكِنْ رَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَه.
1357 -
وَأَخْرَجَ اِبْنُ حِبَّانَ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَه.
1358 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُمْ; أَنْ يُعَقَّ عَنْ اَلْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنْ اَلْجَارِيَةِ شَاةٌ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَه.
1359 -
وَأَخْرَجَ اَلْخَمْسَة عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ نَحْوَه.
===
ما صحة أحاديث الباب؟
حديث ابن عباس مختلف في وصله ووقفه، والأصح أنه مرسل كما قال أبو حاتم.
اذكر بعض الأدلة على مشروعية العقيقة؟
أ- عن سَلْمَان بْن عَامِرٍ الضَّبِّي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى). رواه أبو داود
…
(أميطوا الأذى: المقصود بإماطة الأذى هنا حلق الرأس وتطييبه بطيب طيب).
ب- ولحديث سَمُرَةَ الآتي أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى) رَوَاه أبو داود.
ج- وعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ) قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْت أَحْمَدَ قَالَ: مُكَافِئَتَانِ: أَيْ مُسْتَوِيَتَانِ أَوْ مُقَارِبَتَانِ.
د-ولحديث الباب - حديث عائشة - (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُمْ; أَنْ يُعَقَّ عَنْ اَلْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنْ اَلْجَارِيَةِ شَاةٌ).
هـ_ وعنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:(سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَقِيقَةِ؟ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ. كَأَنَّهُ كَرِهَ الاِسْمَ وَقَالَ: مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ). رواه أبو داود
ما حكم العقيقة؟
اختلف العلماء في حكمها على قولين:
القول الأول: أنها واجبة.
وهو قول الحسن البصري، وهو قول الظاهرية.
أ- لحديث سَلْمَان بْن عَامِرٍ الضَّبِّي. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى) رواه أبو داود .... (أميطوا الأذى: المقصود بإماطة الأذى هنا حلق الرأس وتطييبه بطيب طيب).
ب- ولحديث سَمُرَةَ - الآتي - أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّاى).
فقوله مرتهن يدل على الوجوب لأن الرهن شيء لازم.
القول الثاني: أنها مستحبة غير واجبة.
وهذا مذهب الجمهور.
قال ابن قدامة: وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَفُقَهَاءُ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ، إلَّا أَصْحَابَ الرَّأْيِ، قَالُوا لَيْسَتْ سُنَّةً، وَهِيَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أُرَاهُ عَنْ جَدِّهِ - السابق - (مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاة).
قال الشوكاني: احتج الجمهور بقوله (من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل) وذلك يقتضي عدم الوجوب لتفويضه في الاختيار.
وهذا الراجح.
كم مقدار العقيقة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: عَنْ اَلْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنْ اَلْجَارِيَةِ شَاةٌ.
وهذا قول جمهور العلماء.
للأحاديث السابقة.
أ-كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - السابق - (من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة).
ب- وحديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم: أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة) رواه الترمذي.
ج- وحديث أم كرز (عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ).
قال الحافظ ابن حجر: وهذِهِ الأحادِيث حُجَّة لِلجُمهُورِ، فِي التَّفْرِقَة بين الغُلامِ والْجَارِية.
القول الثاني: يذبح عن الغلام شاة، وعن الجارية شاة.
وهذا قول مالك.
لحديث الباب (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ اَلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا).
والراجح قول الجمهور.
ما الجواب عن الحديث الذي استدلوا به (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ اَلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا).
قال الحافظ: ولا حُجَّة فِيهِ، فَقَدْ أخرجهُ أبُو الشَّيْخ مِنْ وَجْه آخر، عن عِكْرِمة، عن ابن عَبَّاس بِلفظِ:"كَبْشَيْنِ، كَبْشَينِ". وأخرج أيْضًا منْ طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدّه مِثله. وعلى تَقْدِير ثُبُوت رِواية أبِي دَاوُد، فَلَيْسَ فِي الحدِيث مَا يُرَدّ بِهِ الأحَادِيث المُتَوَارِدة فِي التَّنْصِيص عَلَى التَّثنِية لِلْغُلامِ، بَلْ غَايته أن يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار، وهُوَ كَذَلِك، فإِنَّ العَدَد لَيْسَ شَرطًا، بل مُستَحَبّ.
هل تجوز العقيقة بالإبل والبقر أم فقط بالغنم؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: جواز العقيقة بهما.
وهذا قول الجمهور.
جاء في (الموسوعة الفقهية) يجزئ في العقيقة الجنس الذي يجزئ في الأضحية، وهو الأنعام من إبل وبقر وغنم، ولا يجزئ غيرها، وهذا متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو أرجح القولين عند المالكية، ومقابل الأرجح أنها لا تكون إلا من الغنم.
ما الحكمة في العقيقة عن الذكر شاتين وعن الأنثى شاة؟
قال ابن القيم رحمه الله: هَذِه قَاعِدَة الشَّرِيعَة؛ فَإِنْ الله سُبْحَانَهُ فَاضل بَين الذّكر وَالْأُنْثَى، وَجعل الْأُنْثَى على النّصْف من الذّكر: فِي الْمَوَارِيث، والديات، والشهادات، وَالْعِتْق، والعقيقة "، ثم قال فجرت المفاضلة فِي الْعَقِيقَة هَذَا المجرى لَو لم يكن فِيهَا سنة، كَيفَ وَالسّنَن الثَّابِتَة صَرِيحَة بالتفضيل؟.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ الْأُنْثَى عَلَى النِّصْفِ مِنَ الذَّكَرِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِبْقَاء النَّفس، فَأَشْبَهت الدِّيَة، وَقواهُ ابن الْقَيِّمِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ ذَكَرًا أَعْتَقَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ، وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَيْنِ كَذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ.
هل يجوز أن يعق عن ولده الذكر بشاة واحدة؟
نعم يجوز لكن الأفضل بشاتين.
وقال الشيرازي رحمه الله في (المذهب) السُّنَّةُ أَنْ يَذْبَحَ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةً؛ وَإِنْ ذَبَحَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةً جَاز.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإن لم يجد الإنسان، إلا شاة واحدة أجزأت وحصل بها المقصود، لكن إذا كان الله قد أغناه، فالاثنتان أفضل " انتهى.
في حق من تشرع العقيقة؟
الأصل أن العقيقة مشروعة في مال والد المولود، وليس في مال أمه، ولا في مال المولود نفسه، إذ الأب هو المخاطب الأول في الأحاديث الواردة في مشروعية العقيقة
ولكن الفقهاء قالوا: يجوز لغير الأب أن يعق عن المولود في الحالات الآتية:
أولاً: إذا قصر الأب وامتنع عن ذبح العقيقة.
ثانياً: أو إذا استأذن من الأب أن ينوب عنه في ذبح العقيقة فأذن له.
واستدلوا بحديث الباب (عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ).
قالوا: فتولي النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة عن حفيده الحسن والحسين رضي الله عنهما دليل على جواز تولي العقيقة قريب غير الأب إذا كان بإذنه ورضاه
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث (كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى).
قوله: (يذبح) بالضم على البناء للمجهول، فيه أنه لا يتعين الذابح، وعند الشافعية يتعين من تلزمه نفقة المولود، وعن الحنابلة يتعين الأب إلا أن تعذر بموت أو امتناع.
قال الرافعي: وكأن الحديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين مؤول.
قال النووي: يحتمل أن يكون أبواه حينئذ كانا معسرين أو تبرع بإذن الأب، أو قوله:" عق " أي: أمر، أو هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم، كما ضحى عمن لم يضح من أمته، وقد عده بعضهم من خصائصه. (الفتح).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: العقيقة سنة مؤكدة للذكر اثنتان وللأنثى واحدة، وإذا اقتصر على واحدة للذكر فلا حرج، وهي سنة في حق الأب، فإذا جاء وقت العقيقة وهو فقير فليس عليه شيء؛ لقول الله تعالى:(فاتقوا الله ما استطعتم)، وإذا كان غنياً فهي باقية على الأب وليس على الأم ولا على الأولاد شيء منها.
قال ابن قدامة: وَالْعَقِيقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعُقُّ، فَاسْتَقْرَضَ، رَجَوْت أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إحْيَاءَ سُنَّةٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: صَدَقَ أَحْمَدُ، إحْيَاءُ السُّنَنِ وَاتِّبَاعُهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مِنْ التَّأْكِيدِ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا.
وَلِأَنَّهَا ذَبِيحَةٌ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا، فَكَانَتْ أَوْلَى، كَالْوَلِيمَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ.
هل تأخذ العقيقة حكم الأضحية، فيصح الاشتراك في بقرة أو بعير؟
والأقرب: أنه لا يصح فيها الاشتراك.
وهو مذهب المالكية والحنابلة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: العقيقة لا يجزئ فيها الاشتراك، فلا يجزئ البعير عن اثنين، ولا البقرة عن اثنين، ولا تجزئ عن ثلاثة ولا عن أربعة من باب أولى. ووجه ذلك:
أولاً: أنه لم يرد التشريك فيها، والعبادات مبنية على التوقيف.
ثانياً: أنها فداء، والفداء لا يتبعض، فهي عن فداء عن النفس، فإذا كانت فداء عن النفس فلا بد أن تكون نفساً، والتعليل الأول لا شك أنه الأصوب، لأنه لو ورد التشريك فيها بطل التعليل الثاني، فيكون مبنى الحكم على عدم ورود ذلك " انتهى.
هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية من اعتبار السن، والسلامة من العيوب؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يشترط.
وهذا قول جمهور أهل العلم، فيشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، من حيث كونها من الأنعام، ومن حيث السن، ومن حيث السلامة من العيوب.
قال النووي: المجزئ في العقيقة هو المجزئ في الأضحية فلا تجزئ دون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز والإبل والبقر هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور.
وقال ابن قدامة: وَيُجْتَنَبُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُجْتَنَبُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حُكْمَ الْعَقِيقَةِ حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ؛ فِي سَنِّهَا، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُمْنَعُ فِيهَا.
القول الثاني: أنه لا يشترط.
ورجحه الشوكاني.
قال الشوكاني: هل يشترط فيها ما يشترط في الأضحية؟ وفيه وجهان للشافعية، وقد استدل بإطلاق الشاتين على عدم الاشتراط وهو الحق، لكن لا لهذا الإطلاق، بل لعدم ورود ما يدلّ ههنا على تلك الشروط والعيوب المذكورة في الأضحية، وهي أحكام شرعية لا تثبت بدون دليل .... والله أعلم.
هل تسقط العقيقة ببلوغ الولد؟
لا تسقط العقيقة ببلوغ الولد، فإذا كان الأب قادراً استحب له أن يعق عن أبنائه الذين لم يعق عنهم.
وإذا لم يعق الوالد عن ولده، فهل يشرع للولد أو لغيره أن يعق عن نفسه؟
فيه خلاف بين الفقهاء.
قال ابن قدامة: وإن لم يعق أصلاً، فبلغ الغلام، وكسب، فلا عقيقة عليه. وسئل أحمد عن هذه المسألة، فقال: ذلك على الوالد. يعني لا يعق عن نفسه; لأن السنة في حق غيره.
لأنها مشروعة في حق الوالد، فلا يفعلها غيره، كالأجنبي، وكصدقة الفطر.
وقال عطاء والحسن: يعق عن نفسه; لأنها مشروعة عنه، ولأنه مرتهن بها، فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه.
قال الشيخ ابن باز: يستحب أن يعق عن نفسه؛ لأن العقيقة سنة مؤكدة، وقد تركها والده فشرع له أن يقوم بها إذا استطاع؛ ذلك لعموم الأحاديث ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم (كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) أخرجه الإمام أحمد.
1360 -
وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِي.
===
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن وقت ذبح العقيقة هو اليوم السابع.
قال الإمام الترمذي بعد أن ساق حديث سَمُرة: والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع
…
ما كيفية معرفة اليوم السابع؟
قال الشيخ ابن عثيمين: يسن أن تذبح في اليوم السابع، فإذا ولد يوم السبت فتذبح يوم الجمعة يعني قبل يوم الولادة بيوم هذه هي القاعدة، وإذا ولد يوم الخميس فهي يوم الأربعاء وهلم جرا.
ما الحكمة من ذبحها في اليوم السابع؟
أن اليوم السابع تختم به أيام السنة كلها فإذا ولد يوم الخميس مرَّ عليه الخميس والجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء فبمرور أيام السنة يُتفاءل أن يبقى هذا الطفل ويطول عمره. (ابن عثيمين).
ما حكم ذبح العقيقة قبل اليوم السابع؟
في المسألة قولان:
القول الأول: أنه يجوز.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
قال ابن القيم: والظاهر أن التقييد بذلك - السابع - استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت.
القول الثاني: لا يجوز ذبح العقيقة قبل اليوم السابع.
وهو قول المالكية.
وهو قول ابن حزم الظاهري.
لأنه خلاف النص لأن قوله (تُذبح عنه يوم سابعه) فيه تحديد لوقتها فلا تشرع قبله.
ما حكم العقيقة إذا مات قبل اليوم السابع؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تستحب العقيقة عن المولود إذا مات قبل اليوم السابع.
وهذا قول الشافعية.
القول الثاني: تجب.
وهذا قول ابن حزم.
القول الثالث: لا تستحب.
وهذا قول المالكية والحنابلة.
ورجح الشيخ ابن عثيمين أن العقيقة تسن ولو مات المولود قبل اليوم السابع.
والله أعلم.
ما معنى قوله (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ)؟
اختلف العلماء في معناه على أقوال:
قيل: الإمساك عن تفسيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسرها ولا يجوز القول على الله بغير علم فهو مرتهن فالله أعلم بكيفية هذا الارتهان، اختاره ابن باز رحمه الله.
وقيل: إن نشأة المولود الصحيحة وكمال الانتفاع به رهينة بالعقيقة كما أن الرهن لا ينتفع به كمال الانتفاع إلا بعد فكه، قالوا: هكذا المولود لا يتم الانتفاع به كمال الانتفاع حتى يفك عنه هذه الرهينة التي هي العقيقة.
وقيل: أن المولود مرهون ومحبوس لا يشفع لوالديه يوم القيامة حتى يعق عنه وهذا مروي عن الإمام أحمد.
وقد قال به قبله عطاء الخُراساني ومحمد بن مطرف.
وضعف ابن القيم هذا المعنى، وضعفه كذلك الشيخ ابن باز رحم الله الجميع.
والراجح هو الإمساك.
قال ابن القيم: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد مَعْنَاهُ أَنّهُ مَحْبُوسٌ عَنْ الشّفَاعَةِ فِي أَبَوَيْهِ وَالرّهْنُ فِي اللّغَةِ الْحَبْسُ قَالَ تَعَالَى (كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنّهُ رَهِينَةٌ فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مَحْبُوسٌ عَنْ خَيْرٍ يُرَادُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ حُبِسَ بِتَرْكِ أَبَوَيْهِ الْعَقِيقَةَ عَمّا يَنَالُهُ مَنْ عَقّ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَقَدْ يَفُوتُ الْوَلَدَ خَيْرٌ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ الْأَبَوَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا أَنّهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ إذَا سَمّى أَبُوهُ لَمْ يَضُرّ الشّيْطَانُ وَلَدَهُ وَإِذَا تَرَكَ التّسْمِيَةَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَلَدِ هَذَا الْحِفْظُ. وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا إنّمَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا لَازِمَةٌ لَا بُدّ مِنْهَا، فَشَبّهَ لُزُومَهَا وَعَدَمَ انفكاك المولود عنها بالرهن، وقد يستدل بهذا من يرى وجوبها كَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، وَأَهْلِ الظّاهِرِ. وَاَللّهُ أَعْلَمُ. (زاد المعاد).
وقال الحافظ ابن حجر -نقلاً عن الخطابيّ-: "اخْتَلفَ النَّاس في هذا، وأجودُ ما قيل فيه: ما ذَهَب إليه أحمد بن حنبل، قال: هذا في الشفاعة؛ يريد: أنه إذا لم يُعقَّ عنه فمات طِفلاً، لم يشفعْ في أبويه، وقيل: معناه: أنَّ العقيقة لازمةٌ لا بدَّ منها، فشبَّه المولود في لزومها، وعدم انفكاكه منها بالرَّهْن في يدِ المرتهن، وهذا يُقوِّي قولَ مَنْ قال بالوجوب، وقيل: المعنى: أنَّه مرهون بأذَى شَعْرِه؛ ولذلك جاء: "فأميطوا عنه الأذى.
-
متى تكون تسمية المولود؟
جاء ما يدل على استحباب التسمية في اليوم السابع.
كحديث الباب (
…
في اليوم السابع وَيُسَمَّى).
وكحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ، وَالْعَق) رواه الترمذي
وجاء ما يدل على التسمية في أول يوم الولادة:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (ولد لي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ) رواه مسلم.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الأَوْلَى التسمية في اليوم السابع، قالوا: وحديث أنس بن مالك يدل على جواز التسمية في يوم الولادة فقط، وليس على الاستحباب. (المغني).
وقال بعض المالكية والنووي ووجه عند الحنابلة باستحباب التسمية في أول يوم، وكذا استحبابها في اليوم السابع.
يقول النووي في (الأذكار) السنة أن يُسَمَّى المولودُ في اليوم السابع من ولادته، أو يوم الولادة.
وذهب البخاري إلى أنَّ من يريد أن يَعُقَّ أَخَّرَ التسميةَ إلى حينِ العقيقةِ في اليومِ السابع، أما من لم يكن يريد العقيقة فَيُسَمِّي في أول يوم.
قال ابن حجر: وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري.
يقول العراقي في "طرح التثريب" وَبِهَذَا (يعني باستحباب اليوم السابع) قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَمَّى قَبْلَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إذَا وُلِدَ وَقَدْ تَمَّ خَلْقُهُ سَمَّى فِي الْوَقْتِ إنْ شَاءُوا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: تَسْمِيَتُهُ يَوْمَ السَّابِعِ حَسَنٌ، وَمَتَى شَاءَ سَمَّاهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يُسَمَّى يَوْمَ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ أُخِّرَتْ تَسْمِيَتُهُ إلَى السَّابِعِ فَحَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُهَلِّبِ: يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ حِينَ يُولَدُ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعَقِيقَةَ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، فَالسُّنَّةُ تَأْخِيرُهَا إلَى السَّابِعِ، وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي تَبْوِيبِهِ (بَابُ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ) " انتهى.
وعلى كل حال، فإن جميع ما سبق يدل على أن الأمر يدور بين الاستحباب والجواز، وليس ثمة ما يفرض ويوجب التسمية في اليوم السابع، فلو أخر التسمية عن السابع فلا بأس ولا حرج في ذلك.
يقول النووي رحمه الله في "المجموع"(8/ 415):
" قال أصحابنا وغيرهم: يستحب أن يسمى المولود في اليوم السابع، ويجوز قبله، وبعده، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في ذلك " انتهى.
ماذا نستفيد من قوله (وَيُحْلَقُ)؟
نستفيد أنه يستحب حلق رأس الصبي يوم سابعه.
قال ابن قدامة: ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن.
وقال الإمام النووي: يستحب حلق رأس المولود يوم سابعه قال أصحابنا ويستحب أن يتصدق بوزن شعره ذهباً فإن لم يفعل ففضة.
ما حكم تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث إلى كراهة تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة، لأن ذلك من عادة أهل الجاهلية، وهو قول الزهري وإسحاق وابن المنذر وداود.
القول الثاني: ذهب الحسن البصري وقتادة من التابعين وابن حزم الظاهري إلى أن ذلك مستحب فيلطخ رأس المولود بدم العقيقة ثم يغسل بعد ذلك، ونقله ابن حزم عن ابن عمر وهو قول عند الحنابلة.
واحتج هؤلاء - بحديث الباب -
…
عن رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق ويدمَّى).
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال وبينوا أن هذا القول شاذ وأن الرواية المحفوظة لحديث سمرة (يسمَّى) وليست (يدمَّى):
قال أبو داود صاحب السنن بعد روايته للحديث المذكور: خولف همام في هذا الكلام وهو وهم من همام وإنما قالوا: يسمَّى. فقال: همام: يدمَّى. قال أبو داود وليس يؤخذ بهذا.
وأكد الجمهور قولهم بأن التدمية منسوخة أنها كانت من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطلها ويدل على نسخها وإبطالها ما يلي:
أ- حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت أبي - بريدة - يقول (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران).
ب- عن عائشة رضي الله عنها في حديث العقيقة قالت: (وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله (أن يجعل مكان الدم خلوقاً) رواه البيهقي وهذا لفظه، وقال النووي بإسناد صحيح. وقال الحافظ ابن حجر: وزاد أبو الشيخ (ونهى أن يمس رأس المولود بدم).
هل يكره تسمية العقيقة بهذا الاسم؟
ذهب بعض أهل العلم إلى كراهة تسمية العقيقة بهذا الاسم - عقيقة - وقالوا الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة.
واستدلوا بحديث: عنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَقِيقَةِ؟ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ. كَأَنَّهُ كَرِهَ الاِسْمَ وَقَالَ: مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ
…
).
قال الإمام الباجي: قوله (لا أحب العقوق) ظاهره كراهية الاسم لما فيه من مشابهة لفظ العقوق وآثر أن يسمى نسكاً.
وقال الحافظ ابن عبد البر: وكان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يقال للذبيحة عن المولود في سابعه نسيكة، ولا يقال عقيقة، إلا أني لا أعلم خلافاً بين العلماء في تسمية ذلك عقيقةً - فدل على أن ذلك منسوخ، واستحباب واختيار. فأما النسخ، فإن في حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم (الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى).
وفي حديث سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى).
ففي هذين الحديثين لفظ العقيقة، فدل ذلك على الإباحة لا على الكراهة في الاسم، وعلى هذا كُتب الفقهاء في كل الأمصار، ليس فيها إلا العقيقة لا النسيكة، على أن حديث مالك هذا ليس فيه التصريح بالكراهة. وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيهما فكأنه كره الاسم؛ وقال: من أحب أن ينسك عن ولده.
كِتَاب اَلْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ
تعريف الأيمان:
الأيْمان: بفتح الهمزة- جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأُطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخَذَ كلّ بيمين صاحبه. وقيل: لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسُمّي الحلف بذلك لحفظ المحلوف عَلي
وعُرِّفت شرعًا: بأنها توكيد الشيء بذكر اسم، أو صفة للَّه تعالى. وهذا أخصر التعاريف، وأقربها. قاله في (الفتح).
قال ابن قدامة: الأصل في مشروعيّة الأيمان الكتاب، والسنّة، والإجماع.
أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ).
وقال تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)، وقال تعالى:(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)، والثالث (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ).
وأما السنّة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم (إني واللَّه إن شاء اللَّه، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحلّلتها) متّفقٌ عليه.
وكان أكثر قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومُصَرِّفِ القلوب، و مقلّب القلوب.
وأجمعت الأمة على مشروعيّة اليمين، وثبوت حكمها، ووضعُها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه.
- الحكمة من تشريع اليمين:
أ- تأكيد صحة الخبر.
ب- تقوية عزم الحالف على فعل شيء يخشى إحجام نفسه عنه، أو ترك شيء يخشى إقدامها عليه.
ج-تقوية الطلب من المخاطب، وحثه على فعل شيء، أو منعه منه.
1361 -
عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، - عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَعُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا إِنَّ اَللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1362 -
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاَللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ).
===
(فَمَنْ كَانَ حَالِفاً) أي: مريداً للحلف، وفي حديث ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ) وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ).
(وَلَا بِالْأَنْدَادِ) المراد به الأصنام والأوثان، وكل ما عبد من دون الله.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم الحلف بغير الله تعالى.
أ- لحديث الباب (
…
أَلَا إِنَّ اَللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
…
).
قال عمر (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي ذاكراً أو آثراً).
[ذاكراً] أي عامداً [آثراً] أي حاكياً عن الغير، والمعنى: أي ما حلفت بها، ولا حكيت ذلك عن غيري. (الفتح).
ب-ولحديث الباب الثاني (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ).
ج- وعن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه أبوداود.
ج-وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِى وَلَا بِآبَائِكُم) رواه مسلم.
د- وعن ابن مسعود قال (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ أن أحلف بغيره صادقاً) رواه عبدالرزاق.
لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله محرم إذا كان الحالف كاذباً.
قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله إجماعاً.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشايخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة.
•
لماذا خص حديث عمر النهي عن الحلف بغير الله بالآباء؟
وإنما خصّ في حديث عمر بالآباء لأمرين:
الأول: لوروده على سبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم مرّ به، وهو يحلف بأبيه، فقال له ذلك.
الثاني: أو خصّ لكونه غالبًا عليهم، كما بيّنه في هذه الرواية بقوله (وكانت قريش تحلف بآبائها) ويدلّ على التعميم قوله: من كان حالفًا، فلا يحلف إلا باللَّه.
•
ما الحكمة من النهي عن الحلف بغير الله؟
لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده.
قال ابن حجر: قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة لله وحده.
وقال ابن قدامة: وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ عَظَّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعْظِيمًا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ تبارك وتعالى، وَلِهَذَا سُمِّيَ شِرْكًا؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْظِيمِهِ بِالْقَسَمِ بِهِ.
•
متى يعتبر الحلف بغير الله شركاً أكبر؟
إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في العظمة.
قال الشيخ ابن باز: وقد يكون الشرك الأصغر شركاً أكبر إذا اعتقد صاحبه أن من حلف بغير الله أو قال: ما شاء الله وشاء فلان، فإن له التصرف في الكون، أو أن له إرادة تخرج عن إرادة الله وعن مشيئته سبحانه، أو أن له قدرة يضر وينفع من دون الله، أو اعتقد أنه يصلح أن يعبد من دون الله وأن يستغاث به، فإنه يكون بذلك مشركاً شركاً أكبر بهذا الاعتقاد.
أما إذا كان مجرد حلف بغير الله من دون اعتقاد آخر، لكن ينطق لسانه بالحلف بغير الله؛ تعظيماً لهذا الشخص، يرى أنه نبي أو صالح أو لأنه أبوه أو أمه وتعظيمها لذلك، أو ما أشبه ذلك فإنه يكون من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر.
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ فَقَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ. وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ [وأَبِيهِ] إِنْ صَدَقَ) رواه مسلم.
كيف حلف بأبيه مع أن الحلف بغير الله شرك؟
قد أجاب العلماء عن هذا بعدة أجوبة:
قيل: يحتمل أن هذا قبل النهي.
ورجحه الطحاوي، وقاله الماوردي، وقال السبكي: أكثر الشراح عليه.
ونصره الشيخ سليمان بن عبد الله واحتمله الخطابي، والبيهقي، والقرطبي.
قال ابن عبد البر: وهذه لفظة إن صحت فهي منسوخة.
وقال ابن قدامة: ثم لو ثبت - يعني حديث أفلح وأبيه - فالظاهر أن النهي بعده.
وقيل: إن هذا ليس حلفاً وإنما كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة حقيقة الحلف، ورجحه النووي.
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَفْلَحَ وَأَبِيهِ) لَيْسَ هُوَ حَلِفًا إِنَّمَا هُوَ كَلِمَة جَرَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ تُدْخِلَهَا فِي كَلَامهَا غَيْرَ قَاصِدَةٍ بِهَا حَقِيقَةَ الْحَلِفِ. وَالنَّهْي إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ قَصَدَ حَقِيقَة الْحَلِف لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْظَام الْمَحْلُوفِ بِهِ وَمُضَاهَاتِهِ بِهِ اللَّهَ سبحانه وتعالى. فَهَذَا هُوَ الْجَوَاب الْمَرْضِيُّ. وَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُون هَذَا قَبْل النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وهذا الجواب: جنح إليه البغوي، والمازري، وقال عنه النووي: إنه الجواب المرضي، وقواه ابن حجر.
وقيل: أن ذلك كان جائزاً ثم نسخ.
قال في الفتح: قاله الماوردي وحكاه البيهقي، وقال السبكي أكثر الشراح عليه حتى قال ابن العربي: وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك.
وقيل: إن في الجواب حذفاً تقديره: أفلح ورب أبيه، ذكره البيهقي.
وقيل: إن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. (الفتح).
•
ما الجواب عن القسم بغير الله الوارد في القرآن؟
قال في (الفتح) وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير اللَّه، ففيه جوابان:
أحدهما: أن فيه حذفاً، والتقدير ورب الشمس، ونحوه.
والثاني: أن ذلك يختصّ باللَّه تعالى، فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك.
•
ما حكم الإكثار من الحلف؟
مكروه.
لأن كثرة الحلف يدل على الاستخفاف وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي التوحيد الواجب أو كماله. ويستدل لذلك:
أ- بقوله تعالى (ولا تطع كل حلاف مهين).
قال الطبري: ولا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف بالباطل.
وقال القرطبي: الحلاف: كثير الحلف.
ب- قوله تعالى (واحفظوا أيمانكم).
فقد ورد في تفسير هذه الآية جملة أقوال أحدها: أن المراد بحفظ اليمين هو عدم الإكثار منها.
ج - قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم).
فقد ورد في تفسيرها عدة أوجه، من هذه الأوجه ما يفيد أن المقصود منها عدم الإكثار من الحلف.
قال ابن الجوزي:
…
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال، الثالث: أن معناها لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين مصلحين، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه.
1363 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ). وَفِي رِوَايَةٍ (اَلْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ اَلْمُسْتَحْلِفِ) أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
===
•
ما معنى الحديث؟
قال النووي رحمه الله: هذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى الْحَلِف بِاسْتِحْلَافِ الْقَاضِي، فَإِذَا ادَّعَى رَجُل عَلَى رَجُل حَقًّا فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي، فَحَلَفَ، وَوَرَّى فَنَوَى غَيْر مَا نَوَى الْقَاضِي، اِنْعَقَدَتْ يَمِينه عَلَى مَا نَوَاهُ الْقَاضِي وَلَا تَنْفَعهُ التَّوْرِيَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، وَدَلِيله هَذَا الْحَدِيث وَالْإِجْمَاع " انتهى
يعني: أنك إذا حلفت لشخص وأظهرت خلاف الواقع من باب التورية، فاليمين على حسب نية المستحلف.
مثال: إذا ادعى عليك شخص مائة ريال، وأنت تعلم أنه صادق، فقلت: والله ما عندي لك مائة، تريد أن (ما) بمعنى (الذي)، يعني: الذي عندي لك مائة، هو سيفهم النفي وأنت الآن تثبت أن له عندك مائة، لكن نيتك غير معتبرة، بل النية على حسب ما يصدقك به صاحبك، ولا يبرأ الإنسان عند الله ولا ينفعه هذا التأويل، أما عند القاضي فإنه يبرأ ظاهراً لأن القاضي يقضي بنحو ما يسمع.
1364 -
وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ (فَائِت اَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ).
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ (فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ اِئْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ.
===
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الحنث في اليمين والتكفير عنه إذا كان الحنث خيراً من التمادي، وهذا متفق عليه بين العلماء.
قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلَالَة عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل شَيْء أَوْ تَرْكه، وَكَانَ الْحِنْث خَيْرًا مِنْ التَّمَادِي عَلَى الْيَمِين، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْث، وَتَلْزَمهُ الْكَفَّارَة وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ. (شرح مسلم)
والخيرية في الحنث تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة، فإن كانت خيرية واجبة كان الحنث واجباً، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً.
مثال:
قال: والله لا أصلي اليوم، فهذا حلف على ترك واجب، فالحنث واجب.
قال: والله ما أوتر، هنا الأفضل أن يحنث، فنقول أوتر وكفر عن يمينك.
•
ما حكم التكفير قبل الحنث؟
الكفارة لها ثلاث حالات:
أولاً: أن تكون قبل اليمين، فهذه لا تجزئ بالإجماع.
قال النووي: وأجمعوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَقْدِيمهَا عَلَى الْيَمِين.
وقال ابن قدامة: فَأَمَّا التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْيَمِينِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْجَرْحِ.
جاء في (الموسوعة الفقهية) لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التكفير قبل اليمين؛ لأنه تقديم الحكم قبل سببه، كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب، وكتقديم الصلاة قبل دخول وقتها.
ثانياً: أن تكون بعد الحلف والحنث، فهذه تجزئ اتفاقاً.
ثالثاً: أن تكون بعد الحلف وقبل الحنث.
فهذه موضع خلاف، وجماهير العلماء على جواز ذلك.
قال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازهَا بَعْد الْيَمِين وَقَبْل الْحِنْث:
فَجَوَّزَهَا مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيّ وَأَرْبَعَة عَشَر صَحَابِيًّا وَجَمَاعَات مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِير الْعُلَمَاء، لَكِنْ قَالُوا: يُسْتَحَبّ كَوْنهَا بَعْد الْحِنْث.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَشْهَب الْمَالِكِيّ: لَا يَجُوز تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث بِكُلِّ حَال.
وَدَلِيل الْجُمْهُور ظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَالْقِيَاس عَلَى تَعْجِيل الزَّكَاة. (نووي).
وقال ابن قدامة: فَأَمَّا كَفَّارَةُ سَائِرِ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ، صَوْمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ رضي الله عنهم، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ (وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
وَلِأَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَقَبْلَ الزَّهُوقِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). (المغني).
فائدة:
هذا الحديث مطابقٌ لقول الله تعالى (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم)، قال البغوي رحمه الله: معنى الآية: لا تجعلوا الحلف بالله سببًا مانعًا لكم من البرِّ والتقوى، يُدعَى أحدكم إلى صلة رحمٍ أو برٍّ فيقول: حلفت بالله ألا أفعلَه، فيعتلّ بيمينه في ترك البرِّ.
1365 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ حَلِفِ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اَللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
===
- (فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) الحنث: أن يفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن اليمين إذا علقها الحالف بالمشيئة لم بحنث ولم تلزمه كفارة.
قال ابن قدامة: وَإِذَا حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْيَمِينِ كَلَامٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَهَذَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً.
فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال (مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً، وَأَنَّهُ مَتَى اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ لِمَ يَحْنَثْ فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد (مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) وَلِأَنَّهُ مَتَى قَالَ: لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَتَى شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. (المغني).
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث قوله: (لم يحنث) فيه دليل على أن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والأفضل لكل حالف أن يعلق يمينه بالمشيئة لأن في ذلك فائدتين:
الأمر الأول: تيسير الأمر كما قال تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً).
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا حنث لم تلزمه الكفارة.
قال في "زاد المستقنع": " ومن قال في يمين مكفرة: إن شاء الله، لم يحنث.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه: " وقوله: «يمين مكفرة» أي: تدخلها الكفارة، مثل اليمين بالله، والنذر، والظهار، فهذه ثلاثة أشياء كلها فيها كفارة، وخرج بذلك الطلاق والعتق فلا كفارة فيهما.
فإن قال في اليمين المكفرة: (إن شاء الله) لم يحنث، أي: ليس عليه كفارة، وإن خالف ما حلف عليه.
مثال في اليمين بالله: قال: والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله، ثم لبسه فليس عليه شيء؛ لأنه قال: إن شاء الله، ولو قال:
الله لألبسن هذا الثوب اليوم إن شاء الله، فغابت الشمس ولم يلبسه، فليس عليه شيء.
والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه.
مثال النذر: لو قال: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر إن شاء الله، فلا شيء عليه لو ترك، وكذلك لو قال: لله علي نذر أن لا أكلم فلاناً إن شاء الله، ثم كلمه فلا شيء عليه.
وقال رحمه الله: " لو علق النذر بالمشيئة فقال: لله علي نذر أن أفعل كذا إن شاء الله.
ففي النذر الذي حكمه حكم اليمين: ليس عليه حنث.
وإذا كان فعل طاعة، نظرنا إذا كان قصده التعليق فلا شيء عليه، وإذا كان قصده التحقيق أو التبرك وجب عليه أن يفعل، حسب نيته. (الشرح الممتع)
•
ماذا يشترط في الاستثناء؟
أولاً: يشترط في الاستثناء أن يكون بلسانه فلو استثنى بقلبه لم ينفعه بالإجماع.
قال ابن قدامة: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْقَلْبِ.
فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْث، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ).
وَالْقَوْلُ هُوَ النُّطْقُ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. (المغني).
ثانياً: وأن يكون متصل بيمينه حقيقة وحكماً:
حقيقة: والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله [هذا اتصال حقيقي].
حكماً: لو قال والله لا ألبس هذا الثوب - فأخذه عطاس وجلس ربع ساعة وهو يعاطس - فلما هدأ قال: إن شاء الله [هذا اتصال حكماً لأنه منعه مانع من اتصال الكلام].
قال ابن قدامة: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ، بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ، وَلَا يَسْكُتُ بَيْنَهُمَا سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، فَأَمَّا السُّكُوتُ لِانْقِطَاعِ نَفَسِهِ أَوْ صَوْتِهِ، أَوْ عَيٍّ، أَوْ عَارِضٍ، مِنْ عَطْسَةٍ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ الرَّأْيِ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى) وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَقِيبَهُ.
وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ، فَاعْتُبِرَ اتِّصَالُهُ بِهِ، كَالشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا، وَلِأَنَّ الْحَالِفَ إذَا سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ يَمِينِهِ، وَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ.
1366 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (كَانَتْ يَمِينُ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا، وَمُقَلِّبِ اَلْقُلُوبِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
(كَانَتْ يَمِينُ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وفي رواية (أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ)، ولابن ماجه (كان أكثر أيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا، ومصرف القلوب).
(لَا) إما زائدة لتأكيد القسم، كما في قوله تعالى (لَا أُقْسِمُ)، أو لنفي ما تقدّم من الكلام، مثل أن يقال له: هل الأمر كذا، فيقول: لا، ومقلّب القلوب. قاله السنديّ.
(وَمُقَلِّبِ اَلْقُلُوبِ) هذا هو المقسَم به.
والمرادَ بتقليبَ القلوب تقليب أعراضها، وأحوالها، لا تقليب ذات القلب. فالمعنى أنه تعالى متصرّف في قلوب عباده بما شاء، لا يمتنع عليه شيء منها، ولا تفوته إرادة.
• اذكر بعض أيمان النبي صلى الله عليه وسلم؟
أولاً: ومقلب القلوب.
لحديث الباب.
ثانياً: والله.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي) متفق عليه.
ثالثاً: رب الكعبة.
عنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ (انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قُلْتُ مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ مَا شَأْنِي فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهْوَ يَقُولُ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) متفق عليه.
رابعاً: وايْم الله.
عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ، ...... وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) متفق عليه.
خامساً: وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) متفق عليه.
سادساً: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ فَقَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) متفق عليه.
سابعاً: فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
عنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) متفق عليه.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
قال الحافظ: أن في الحديث حجةً لمن أوجب الكفّارة على من حلف بصفة من صفات اللَّه تعالى، فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك، وإنما الخلاف في أيُّ صفة تنعقد بها اليمينُ؟، والتحقيق أنها مختصّة بالتي لا يُشاركه فيها غيره، كمقلّب القلوب.
•
ما حكم الحلف بصفات الله؟
جائز، وهذا قول جماهير العلماء.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: " وقوله صلى الله عليه وسلم (من كان حالفًا فليحلف بالله) لا يُفهم منه قَصْرُ اليمين الجائزة على الحلف بهذا الاسم فقط، بل حكم جميع أسماء الله تعالى حكم هذا الاسم. فلو قال: والعزيز، والعليم، والقادر، والسميع، والبصير؛ لكانت يمينًا جائزة. وهذا متفق عليه. وكذلك الحكم في الحلف بصفات الله تعالى؛ كقوله: وعزة الله، وعلمه، وقدرته، وما أشبه ذلك مما يَتَمَحَّضُ فيه الصفة لله، ولا ينبغي أن يختلف في هذا النوع أنها أيمان كالقسم الأول.
وقال ابن قدامة: والقسم بصفات الله تعالى كالقسم بأسمائه.
جاء في الروض مع حاشيته لابن قاسم في بيان ما يجوز الحلف به: أو بصفة من صفاته تعالى كوجه الله، وعظمته، وكبريائه، وجلاله وعزته وعلوه، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن اليمين منعقدة بجميع صفات الله تعالى كعزة الله وجلاله، إلا أبا حنيفة استثنى علم الله، فلم يره يمينا. اهـ
وفي الفتح للحافظ ابن حجر: وقال ابن هبيرة في كتاب الإجماع: أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته كعزته وجلاله وعلمه وقوته وقدرته واستثنى أبو حنيفة علم الله فلم يره يمينا وكذا حق الله .. وقال عياض: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الحلف بأسماء الله وصفاته لازم إلا ما جاء عن الشافعي من اشتراط نية اليمين في الحلف بالصفات وإلا فلا كفارة وتعقب إطلاقه ذلك عن الشافعي وإنما يحتاج إلى النية عنده ما يصح إطلاقه عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره وأما ما لا يطلق في معرض التعظيم شرعا إلا عليه تنعقد اليمين به وتجب الكفارة إذا حنث كمقلب القلوب وخالق الخلق ورازق كل حي
…
انتهى
وقال الشيخ ابن عثيمين: (أو صفة من صفاته) سواء أكانت هذه الصفة خبرية، أم ذاتيةً معنوية، أم فعلية، مثل أقسم بوجه الله لأفعلن، فيصح؛ لأن الوجه صفة من صفات الله عز وجل. ولو قال: أقسم بعظمة الله لأفعلن يصح.
ولو قال: أقسم بمجيء الله للفصل بين عباده لأعدلن في القضاء بينكما، فيصح؛ لأنه قسم بصفة فعلية لله عز وجل. انتهى
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " القسم بقول الإنسان: "وحياة الله" لا بأس بها؛ لأن القسم يكون بالله سبحانه وتعالى، وبأي اسم من أسمائه، ويكون كذلك بصفاته: كالحياة، والعلم، والعزة، والقدرة، وما أشبه ذلك، فيجوز أن يقول الحالف: وحياة الله، وعلم الله، وعزة الله، وقدرة الله، وما أشبه هذا مما يكون من صفات الله سبحانه وتعالى.
أ- قال تعالى (فبعزتك لأغوينهم أجمعين).
ب-وحديث أنس مرفوعاً (وفيه قول النار: قط قط وعزتك) رواه البخاري.
ج- وفي حديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها) متفق عليه.
د- وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً، وفيه قول الذي يخرج من النار (وعزتك لا أسألك غيرها). متفق عليه.
•
هل يجوز الحلف بآيات الله؟
الحلف بآيات الله ينقسم إلى قسمين:
الآيات الكونية: كالليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال والأشجار.
فهذا لا يجوز الحلف بها لأنها قَسَم بالمخلوق.
الآيات الشرعية: كالقرآن فهذا يجوز.
•
اذكر بعض الفوائد العامة؟
- أن فيه دلالة على مشروعيّة الحَلِفِ على الشيء؛ تأكيدًا له.
- استحباب الحلف بقوله: "لا، ومقلّب القلوب.
- أن القلوب بيد الله.
1367 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! مَا اَلْكَبَائِرُ؟ .... فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ، وَفِيهِ قُلْتُ: وَمَا اَلْيَمِينُ اَلْغَمُوسُ؟ قَالَ: "اَلَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ") أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
•
اذكر لفظ الحديث كاملاً؟
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، رضي الله عنهما، قَالَ (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قُلْتُ وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قَالَ الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ) رواه البخاري.
وفي لفظ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ).
•
ما هي اليمين الغموس؟
اليمين الغموس: هي اليَمين الكاذِبة الفاجرة، كالتي يَقْتَطِع بها الحالفُ مالَ غيره، سُمِّيت غَمُوسا لأنها تَغْمِس صاحِبَها في الإثْمِ ثم في النار. كذا قال ابن الأثير في "النهاية".
قال الشيخ ابن عثيمين: والاقتطاع نوعان: إما أن يدعي ما ليس له، أو ينكر ما ثبت عليه، أما الأول فظاهر، مثل: أن يقول: هذه السيارة ملكي، فيقول من هي بيده: إنها لي ليست ملكا لك، فيقيم هذا المدعي شاهدا ويحلف معه، وإذا أقام شاهدا وحلف معه حكم له بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، هذا الرجل الآن اقتطع مال امراء مسلم بيمين هو فيها كاذب والذي شهد معه شاهد زور.
الثاني: أن يجحد ما يجب عليه، مثل: أن يقول له شخص في ذمتك لي مائة ريال، فيقول: لا، ثم يحلف بأنه ليس في ذمته له مائة ريال، فحينئذ يكون اقتطع من ماله؛ لأن الأصل: أن ما في ذمة هذا المطلوب للطالب، فإذا أنكره وجحده وحلف عليه فقد اقتطعه.
تنبيه:
أن اليمين الغموس من كبائر الذنوب وهي التي يقتطع بها مال امراء مسلم، فإن لم يقتطع بها مال امراء مسلم ولكنه كاذب فيها فهل تكون غموسا؟ الجواب: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص اليمين الغموس بالتي يحلفها ويقتطع بها مال امراء مسلم وهو كاذب، ولكن إذا حلف على شيء ماض هو فيه كاذب فهل عليه كفارة؟ لا، لأن الكفارة إنما تكون في اليمين على المستقبل. (ابن عثيمين)
•
لماذا سميت بذلك؟
لأنها تغمس صاحبها في النار.
وقيل: تغمسه في الإثم، ولا منافاة بينهما.
•
ما حكمها؟
حرام وكبيرة من الكبائر.
أ- لحديث الباب.
ب-وعنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ).
ج-عن ابْن مَسْعُودٍ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ [وفي رواية هو فيها فاجر] لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
•
هل فيها كفارة؟
لا كفارة فيها.
وهذا قول جمهور العلماء.
جاء في (الموسوعة الفقهية) " اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في اليمين الغموس، على قولين:
القول الأوّل: عدم وجوب الكفّارة في اليمين الغموس:
وإليه ذهب جمهور الفقهاء: الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة.
القول الثّاني: وجوب الكفّارة في اليمين الغموس: وإليه ذهب الشّافعيّة.
وقد استدلّ كل فريقٍ بأدلّة تؤيّد ما ذهب إليه. انتهى.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نعد من الذنب الذي ليس له كفارة اليمين الغموس قيل: وما اليمين الغموس؟ قال: الرجل يقتطع بيمينه مال الرجل) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن سعيد بن المسيب قال: هي من الكبائر وهي أعظم من أن تُكفّر.
1368 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)
قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ اَلرَّجُلِ: لَا وَاَللَّهِ. بَلَى وَاَللَّهِ - أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ. وَأَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعاً.
===
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن من أنواع اليمين: لغو اليمين.
والمراد بها: ما يجري على لسان المتكلم بلا قصد كقول الرجل في معرض كلامه: لا والله لن أذهب، بلى والله سأذهب ونحو ذلك. فهذه لا كفارة فيها.
للآية (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).
قالت عائشة. (هي قول الرجل: لا والله، وبلى والله) رواه البخاري.
فلغو اليمين أن يتلفظ بالقسم وهو لا ينوي ولا يريد القسم.
•
هل فيها كفارة؟
لا كفارة فيها.
قال ابن جزي في (القوانين الفقهية) فاللغو لا كفارة فيه بالاتفاق.
قال ابن قدامة المقدسي: وجملته أن اليمين اللغو لا كفارة فيها في قول أغلب أهل العلم.
وجه ذلك قول الله تَعَالَى (لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ).
فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ الَّتِي يُؤَاخَذُ بِهَا، وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِاللَّغْوِ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا إيجَابَ الْكَفَّارَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَأْثَمَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا فِي اللَّغْوِ، فَلَا تَجِبُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، وَبَيَانِ الْأَيْمَانِ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ، خَرَجَ مِنْهَا تَفْسِيرًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ.
•
اذكر نوع آخر من أنواع لغو اليمين؟
من حلف على شيء وهو يغلب على ظنه أنه صادق، فبان بخلاف ما حلف عليه: فلا شيء عليه، وهذا داخل في لغو اليمين الذي عفا الله تعالى عنه، عند جمهور الأئمة: أبي حنيفة ومالك وأحمد.
قال الخرقي: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ: فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ.
قال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِر.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: وفي المراد باللغو في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان:
الأول: أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، كقوله (لا والله) و (بلى والله).
وذهب إلى هذا القول الشافعي، وعائشة في إحدى الروايتين عنها، وروي عن ابن عمر، وابن عبّاس في أحد قوليه ....
القول الثاني: أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه.
وهذا هو مذهب مالك بن أنس، وقال: إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو، وهو مروي أيضاً عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس في أحد قوليه.
والقولان متقاربان، واللغو يشملهما.
لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني لم يقصد إلا الحقّ والصواب، واللغو في اللُّغة: هو الكلام بما لا خير فيه، ولا حاجة إليه، ومنه حديث:(إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة انصت، فقد لغوت أو لغيت).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: لغو اليمين هي اليمين التي لم يعقد عليها قلبه، ولم يقصدها بل جرت على لسانه من غير قصد، في عرض كلامه، لا والله، والله، في عرض الكلام، من غير قصد اليمين، والمراد من غير قصد عقدها، فهذه اليمين تكون لاغية، ومثلها لو أنه حلف على أمر يظنه، فبان غير مصيب، كأ ن يقول: والله لقد رأيت فلانًا ثم تبين أنه شبيه له، ليس هو فلانًا، هو يعتقد أنه مصيب فهذا من لغو اليمين.
1369 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اِسْماً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ اَلْجَنَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَسَاقَ اَلتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ اَلْأَسْمَاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ اَلرُّوَاةِ.
===
•
هل أسماء الله كلها حسنى؟
نعم.
كلها حسنى بالغة الحسن غايته، فليس فيها نقص بوجه من الوجوه ولا بحال من الأحوال.
وقد ذكر سبحانه أن له الأسماء الحسنى في أربعة مواضع من القرآن الكريم:
قال تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقال تعالى: (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى).
وقال تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى).
وقال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى).
مثال: (الحي) من أسماء الله متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال.
مثال: (العليم) اسم من أسماء الله تعالى متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان.
والحسن في أسماء الله تعالى: يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.
مثال ذلك (العزيز الحكيم) فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيراً، فيكون كل منهما دالاً على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم، والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلماً وجوراً وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم، فيظلم ويجور ويسيء التصرف. وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل.
•
هل أسماء الله محصورة؟
لا، غير محصورة.
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما قال عبد قط إذا أصابه هَمُّ وحَزَنٌ: اللهمِ إني عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أَمَتك، ناصيتي بيدكِ، ماضٍ فيَّ حُكْمُك، عدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ به نفسَك أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدِاً من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذَهَاب هَمِّي، إلاَّ أذهب الله عز وجل هَمَّه، وأبدله مكان حُزْنه فَرَحاً"، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟، قال: أجَلْ، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنّ) رواه أحمد.
وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به.
فقوله صلى الله عليه وسلم (أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) دليل على أن من أسماء الله تعالى الحسنى ما استأثر به في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، وهذا يدل على أنها أكثر من تسعة وتسعين.
قال شيخ الإسلام عن هذا الحديث: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً فَوْقَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ.
وقال أيضاً: قَالَ الخطابي وَغَيْرُهُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَنَّ فِي أَسْمَائِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَعْدَدْتهَا لِلصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) فَأَمَرَ أَنْ يُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُطْلَقًا، وَلَمْ يَقُلْ: لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى إلا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا.
وقال الشيخ ابن عثيمين: أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك
…
إلى أن قال: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك).
وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يُعلم به، وما ليس معلوماً ليس محصوراً.
•
فإن قيل: ما الجواب عن حديث الباب: إن لله تسعة وتسعين اسماً
…
)؟
قال العلماء: هذا لا يدل على الحصر بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة.
قال النووي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَيْسَ فِيهِ حَصْر لِأَسْمَائِهِ سبحانه وتعالى، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَسْمَاء غَيْر هَذِهِ التِّسْعَة وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُود الْحَدِيث أَنَّ هَذِهِ التِّسْعَة وَالتِّسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة، فَالْمُرَاد الْإِخْبَار عَنْ دُخُول الْجَنَّة بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَار بِحَصْرِ الْأَسْمَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر:" أَسْأَلك بِكُلِّ اِسْم سَمَّيْت بِهِ نَفْسك أَوْ اِسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْم الْغَيْب عِنْدك "،
وقال الشيخ ابن عثيمين: وأما قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة).
فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله (مَنْ أَحْصَاهَا) تكميل للجملة الأولى وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول العرب: عندي مائة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله. فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المائة؛ بل هذه المائة معدة لهذا الشيء" اهـ.
•
ما معنى الإحصاء في قوله (مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة)؟
اخْتَلَفُ العلماء فِي الْمُرَاد بِإِحْصَائِهَا على أقوال:
القول الأول: معناه حفظها.
قال النووي: فَقَالَ الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ: مَعْنَاهُ: حَفِظَهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَر؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (مَنْ حَفِظَهَا). (شرح مسلم)
وقال في (الأذكار) وهو قول الأكثرين.
القول الثاني: أي: أَطَاقَهَا أَيْ: أَحْسَن الْمُرَاعَاة لَهَا، وَالْمُحَافَظَة عَلَى مَا تَقْتَضِيه، وَصَدَّقَ بِمَعَانِيهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الْعَمَل بِهَا وَالطَّاعَة بِكُلِّ اِسْمهَا، وَالْإِيمَان بِهَا لَا يَقْتَضِي عَمَلًا.
قال الشيخ ابن عثيمين: معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين الذي يترتب عليه دخول الجنة، ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ فقط، ولكن معنى ذلك:
أولاً: الإحاطة بها لفظا.
ثانياً: فهمها معنى.
ثالثاً: التعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان:
الوجه الأول: أن تدعو الله بها؛ لقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور، وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.
الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء؛ فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالبا لرحمة الله، ومقتضى الغفور المغفرة، إذا افعل ما يكون سببا في مغفرة ذنوبك، هذا هو معنى إحصائها.
•
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء؟
لا، لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء والحديث المروي في تعيينها ضعيف، وقد رواه الترمذي وغيره.
قال ابن تيمية: تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه.
وقال ابن كثير: والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد: أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي: أنهم جمعوها من القرآن كما رود عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي.
وقال الصنعاني: اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة.
فائدة:
أسماء الله توقيفية، فليس لنا أن نسمي الله بما لم يسمي به نفسه.
لقوله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). وإثبات اسم لله لم يسم به نفسه هذا من القول عليه بلا علم.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وإثبات اسم لله لم يسم به نفسه من قفو ما ليس لنا به علم.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) والحسنى البالغة في الحسن كماله، وأنت إذا سميت الله باسم، فليس عندك أنه بلغ كمال الحسن، بل قد تسميه باسم تظن أنه حسن، وهو سيء ليس بحسن.
فائدة:
أسماء الله مشتقة، أي أن كل اسم يتضمن الصفة التي اشتق منها، ولولا ذلك لم تكن حسنى.
الخلاق: يضمن صفة الخلق.
العليم: يتضمن صفة العلم.
السميع: يتضمن صفة السمع.
فائدة:
اختلف العلماء ما هو الاسم الأعظم الذي ورد فيه الحديث (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى).
القول الأول: هو الله.
لأن جميع الأسماء ترجع إليه.
ولأنه الاسم الذي تكرر في الأحاديث الواردة ومنها:
أن رجلاً قال (اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى) رواه أبو داود.
وكحديث أنس قال (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات
…
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) رواه أبو داود.
ولأن هذا الاسم لم أطلق على غير الله.
القول الثاني: إن اسم الله الأعظم: الحي القيوم.
واستدل لهذا القول ببعض الأحاديث التي فيها مقال مثل حديث (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وفاتحة آل عمران (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وهما عند أبي داود.
وهذان القولان أقوى الأقوال، والأول أقوى من الثاني.
وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: باب كفران العشير وهو الزوج وهو الخليط من المعاشرة.
وفي هذا الحديث وعيدٌ على كفران العشير - الزوج - وهذا الوعيد يدل على أن كفران العشير كبيرةٌ من الكبائر.
• لما حث الإسلام على مكافأة من صنع معروفاً؟
1370 -
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكِ اَللَّهُ خَيْراً. فَقَدْ أَبْلَغَ فِي اَلثَّنَاءِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
حديث صحيح.
•
ما المشروع لمن صنع إليه معروفاً.
مشروعية مكافأة من صَنع لك معروفاً، وأن شكر من أحسن إليك مبدأ إسلامي ومن مكارم الأخلاق.
لحديث (وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ).
وقد جاءت الأحاديث في ذلك:
أ- الحديث السابق (من صنعَ إليكم معروفاً فَكَافِئُوهُ،
…
).
ب-ولحديث الباب (من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد بالغ في الثناء) رواه الترمذي.
ج- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أُتي إليه معروفٌ فليكافئ به، فإن لم يستطع فليذكره، فمن ذكره فقد شكره) رواه أحمد والطبراني.
د-وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أُولي معروفاً، فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره) رواه الطبراني.
هـ- وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أُعطي عطاءً فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثنِ، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يُعط كان كلابس ثوبي زور) رواه الترمذي.
و- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا قال الرجلُ لأخيه: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء) رواه عبد الرزاق في المصنف.
قال المباركفوري (جزاك الله خيراً) أي خير الجزاء أو أعطاك خيراً من خيري الدنيا والآخرة. (فقد أبلغ في الثناء) أي بالغ في أداء شكره، وذلك أنه اعترف بالتقصير، وأنه ممن عجز عن جزائه وثنائه، ففوض جزاءه إلى الله ليجزيه الجزاء الأوفى. قال بعضهم إذا قصرت يداك بالمكافأة، فليطل لسانك بالشكر والدعاء.
وقال عمر رضي الله عنه: لو يعلم أحدكم ما له في قوله لأخيه: جزاك اللهُ خيراً، لأكثرَ منها بعضُكم لبعض. رواه ابن أبي شيبة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير) متفق عليه.
أولاً: تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.
ثانياً: أن يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه.
وقدْ أشارَ شيخُ الإسلامِ إلى مَشْرُوعِيَّةِ المكافأةِ؛ لأنَّ القلوبَ جُبِلَتْ على حُبِّ مَنْ أحسنَ إليها، فهوَ إذا أحسنَ إليهِ ولمْ يُكَافِئْهُ يَبْقَى في قلبِهِ نوعُ تَأَلُّهٍ لِمَنْ أحسنَ إليهِ، فشرعَ قطعَ ذلكَ بالمكافأةِ؛ فهذا معنى كلامِهِ.
وقالَ غيرُهُ: (إنَّما أمرَ بالمكافأةِ لِيَخْلُصَ القلبُ منْ إحسانِ الخَلْقِ ويتَعَلَّقَ بالحق.
• ما المشروع إذا لم نجد ما نكافئ به صاحب المعروف؟
نكافئه بالدعاء والثناء.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له).
يعني من أحسن إليكم أي إحسان فكافئوه بمثله، فإن لم تقدروا فبالغوا في الثناء والدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة.
وفي حديث الباب (من صنع إليكم معروفاً، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء).
•
هل ورد هذا الدعاء (جزاك الله خيراً) من قول النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
نعم ورد.
جاء في حديث طويل وفيه قوله (
…
وَأَنْتُمْ مَعشَرَ الأَنصَارِ! فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيرًا، فَإِنَّكُم أَعِفَّةٌ صُبُرٌ) رواه ابن حبان.
كما كانت هذه الجملة من الدعاء معتادة على ألسنة الصحابة رضوان الله عليهم:
جاء في مصنف ابن أبي شيبة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لو يعلم أحدكم ما له في قوله لأخيه: جزاك الله خيراً، لأَكثَرَ منها بعضكم لبعض).
وهذا أسيد بن الحضير رضي الله عنه يقول لعائشة رضي الله عنها: (جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة) متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه، وقالوا: جزاك الله خيراً. فقال: راغب وراهب). أي راغب فيما عند الله من الثواب والرحمة، وراهب مما عنده من العقوبة.
ومعنى (جزاك الله خيراً) أي: أطلب من الله أن يثيبك خيرا كثيراً.
1371 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ اَلنَّذْرِ وَقَالَ (إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ اَلْبَخِيلِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ) أي: لا يردّ شيئًا من القدر، كما بينته الرواية الأخرى (لا يأتي النذر على ابن آدم شيئًا، لم أقدّره عليه) وقال في "الفتح": أي أن عقباه لا تُحمَد، وقد يتعذر الوفاء به. وقد يكون معناه: لا يكون سببًا لخير لم يُقدّر، كما في الحديث، وبهذا الاحتمال الأخير صدّر ابن دقيق العيد كلامه، فقال: يحتمل أن تكون الباء للسببيّة، كأنه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر، وطبعه في طلب القربة، والطاعة من غير عِوَض يحصل له، وإن كان يترتّب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه.
(وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ اَلْبَخِيلِ) وفي الرواية الأخرى (من الشحيح) وفي رواية ابن ماجه: "من اللئيم"، ومدار الجميع على منصور بن المعتمر، عن عبد اللَّه ابن مرّة، فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرواة عن منصور، والمعاني متقاربة؛ لأن الشح أخصّ، واللؤم أعمّ، قال الراغب الأصفهانيّ: البخل إمساك الْمُقْتَنَيات عمّا لا يَحِقُّ حبسها، والشخ بخلٌ مع حرص، واللزم فعل ما يلام عليه. انتهى، وقال البيضاويّ: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة، أو دفع مضرّة، فنُهي عنه؛ لأنه فعل البخلاء، إذ السخي إذا أراد أن يتقرّب بادر إليه، والبخيل لا تُطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض، يستوفيه أوْلًا، فليلتزمه في مقابلة ما يحصُل له، وذلك لا يُغني من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه خيرًا لم يُقدّر له، ولا يردّ عنه شرًّا قُضي عليه، لكن النذر قد يوافق القدر، فيُخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليُخرِجه. ذكره في "الفتح".
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد النهي عن النذر.
وقد اختلف العلماء في حكم النذر على أقوال:
القول الأول: أنه حرام.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
لحديث الباب (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر).
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل). متفق عليه
القول الثاني: أنه مكروه.
وهذا قول أكثر العلماء.
للأحاديث السابقة في النهي عنه، قالوا: والصارف عن التحريم أن الله أثنى على الموفين فقال (يوفون بالنذر).
القول الثالث: أنه مستحب، والذي ورد النهي عنه هو نذر المجازاة.
ونذر المجازاة هو: أن يعلق فعل الطاعة على وجود النعمة أو دفع النقمة كما لو قال: إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أصوم شهراً، قالوا: هذا هو المنهي عنه، أما ماعدا ذلك كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، فهذا مستحب.
واختار هذا القول النووي.
ويؤيد هذا: آخر الحديث، حيث قال (إنه لا يرد شيئًا) وقال أيضًا (لا يأتي النذر على ابن آدم شيئًا لم أقدره عليه) وقال أيضًا (النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره) فكل هذه النصوص تدُلّ دلالة واضحة على أن النذر المنهي عنه هو الذي كان في مقابلة حصول شيءَ، أو دفع شيء.
وقد اختار القرطبي في المفهم حيث قال: الذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك. انتهى.
قال الحافظ في الفتح: وهو تفصيلٌ حسن، ويؤيّده قصَّة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، قال: كانوا ينذرون طاعة اللَّه من الصلاة والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض اللَّه عليهم، فسمّاهم اللَّه أبرارًا. وهذا صريحٌ في أن الثناء وقعَ في غير نذر المجازاة. وقد يُشعر التعبير بالبخيل أن المنهيّ عنه من النذر ما فيه مال، فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة، كما في الحديث المشهور:"البخيل من ذُكرتُ عنده، فلم يُصلّ عليّ". أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان. (الفتح).
والأرجح أنه مكروه مطلقاً.
•
ما الحكمة من النهي؟
الحكمة: خشية أن يعتقد بعض الناس أنه يرد القدر، أو يظن أن النذر يوجب حصول غرضه الخاص، أو إنما يحسب أن الله يحقق له غرضه من أجل ذلك النذر، ولهذا قال في الحديث:(إن النذر لا يرد شيئاً) أو (لا يأتي بخير).
وهناك خطر آخر يتمثل في نذر المجازاة كقوله: إن رزقني الله ذكراً، أو إن شفى الله ولدي، أو إن ربحت تجارتي لأتصدق على الفقراء، أو لأنشئن مسجداً أو نحو ذلك، ومعنى ذلك أنه رتب فعل القربة المذكورة من الصدقة أو بناء المسجد على حصول غرضه الشخصي، فإذا لم يحصل غرضه لم يتصدق ولم يبن مسجداً.
وهذا يدل على أن نيته في التقرب إلى الله لم تكن خالصة ولا متمحضة، فحالته في الحقيقة هي حالة البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض يزيد على ما غرمه.
ولهذا قال في الحديث (وإنما يستخرج من البخيل).
وسر ثالث في كراهة الالتزام بالنذر، وهو ما فيه من تضييق على النفس وإلزامها بما كان لها عنه مندوحة، وقد يغلبه الكسل أو الشح أو الهوى فلا يفي به، وقد يؤديه كارهاً مستثقلاً له بعد إن لم يعد له خيار في شأنه.
قال القرطبيّ: هذا النذر محلّه أن يقول: إن شفى اللَّه مريضي، أو قَدِم غائبي فعليّ عتق رقبة، أو صدقة كذا، أو صوم كذا.
ووجه هذا النهي:
هو أنه لَمّا وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل، ظهر أنه لم يتمحّض له نية التقرّب إلى اللَّه تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ألا ترى أنه لو لم يحصل غرضه لم يفعل؟ وهذه حال البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربّي على ما أخرج، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم إنما يُستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه.
ثم يُضاف إلى هذا، اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن اللَّه تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوده صلى الله عليه وسلم (فإن النذر لا يردّ من قدر اللَّه شيئاً) وهاتان جهالتان، فالأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صُراح. (المفهم)
وقال النووي: قَالَ الْمَازِرِيّ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَبَب النَّهْي عَنْ كَوْن النَّذْر يَصِير مُلْتَزَمًا لَهُ، فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاط، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَبَبه كَوْنه يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي اِلْتَزَمَهَا فِي نَذْره عَلَى صُورَة الْمُعَاوَضَة لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ فَيَنْقُص أَجْره، وَشَأْن الْعِبَادَة أَنْ تَكُون مُتَمَحِّضَة لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَيَحْتَمِل أَنَّ النَّهْي لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنّ بَعْض الْجَهَلَة أَنَّ النَّذْر يَرُدّ الْقَدَر، وَيَمْنَع مِنْ حُصُول الْمُقَدَّر فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِل يَعْتَقِد ذَلِكَ، وَسِيَاق الْحَدِيث يُؤَيِّد هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الحثّ على الإخلاص في عمل الخير.
- أن فيه ذمّ البخل.
- أن من اتّبع المأمورات، واجتنب المنهيّات لا يُعد بخيلًا.
1372 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَفَّارَةُ اَلنَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ فِيهِ (إِذَا لَمْ يُسَمِّ) وَصَحَّحَه.
1373 -
وَلِأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعاً (مِنْ نَذَرَ نَذْراً لَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْراً فِي مَعْصِيَةٍ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْراً لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ; إِلَّا أَنَّ اَلْحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ.
1374 -
وَلِلْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اَللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ).
1375 -
وَلِمُسْلِمٍ: مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ (لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ).
===
•
ما معنى حديث (كَفَّارَةُ اَلنَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)؟
أن كفارة النذر - إذا لم يسم - كفارة يمين، بأن قال الإنسان: لله عليّ نذر وسكت، فعليه كفارة يمين.
قال النووي: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِهِ، فَحَمَلَهُ جُمْهُور أَصْحَابنَا عَلَى نَذْر اللِّجَاج، وَهُوَ أَنْ يَقُول إِنْسَان يُرِيد الِامْتِنَاع مِنْ كَلَام زَيْد مَثَلًا: إِنْ كَلَّمْت زَيْدًا مَثَلًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّة أَوْ غَيْرهَا، فَيُكَلِّمهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْن كَفَّارَة يَمِين وَبَيْن مَا اِلْتَزَمَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا.
وَحَمَلَهُ مَالِك وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى النَّذْر الْمُطْلَق، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْر.
وَحَمَلَهُ أَحْمَد وَبَعْض أَصْحَابنَا عَلَى نَذْر الْمَعْصِيَة، كَمِنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَب الْخَمْر.
وَحَمَلَهُ جَمَاعَة مِنْ فُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث عَلَى جَمِيع أَنْوَاع النَّذْر، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّر فِي جَمِيع النُّذُورَات بَيْن الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمَ، وَبَيْن كَفَّارَة يَمِين. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم)
قال الشوكاني: والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذي لم يسم لأن حمل المطلق على المقيد واجب.
•
اذكر أنواع النذر؟
النول الأول: النذر المطلق.
وهو نذر ما لم يُسم.
فلو نذر المسلم نذرا ولم يسم المنذور بل تركه مطلقا من غير تسمية أو تعيين كأن يقول: عليَّ نذر إن شفى الله مرضي ولم يُسمّ شيئاً كان عليه كفارة يمين.
لحديث الباب (كفارة النذر كفارة اليمين).
قال النووي: حمله مالك والكثيرون- بل الأكثرون - على النذر المطلق كقوله عليَّ نذر.
النوع الثاني: نذر الطاعة.
وحكمه يجب الوفاء به، سواء كان مطلقاً أو معلقاً.
لحديث عائشة (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
مثال المطلق: لله عليّ أن أصلي ركعتين.
مثال المعلق: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أصوم شهر.
النوع الثالث: النذر المباح.
كأن يقول الرجل: لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب.
فهنا يخير بين فعله وبين كفارة اليمين.
فنقول هو بالخيار: إن شئت البس الثوب وإن شئت كفر.
النوع الرابع: نذر اللجاج والغضب.
[اللجاج: الخصومة].
أي النذر الذي سببه الخصومة أو المنازعة، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب.
فهذا يخير بين فعله أو كفارة يمين.
[أن يقصد المنع منه] كأن يقول: لله علي نذر أن أصوم سنة إن فعلت كذا.
[أن يقصد الحمل عليه] كأن يقول: إن لم أصل في الجماعة في المسجد فلله علي صوم سنة.
[أو تصديق خبره] كرجل قيل له - لما أخبر بخبر - أنت كاذب، فقال: إن كنت كاذباً فلله علي صوم سنة.
[أو تكذيبه] كأن يقول السامع: إن كنت صادقاً فلله علي أن أصوم سنة.
فإذا كان المراد منه المنع أو الحمل على الفعل أو التصديق أو التكذيب فقد جرى مجرى اليمين فيخير بين فعله وبين كفارة اليمين
فإذا قال مثلاً: إن زرت فلاناً فعليّ صيام سنة، فنقول: إن شئت أن تزوره وعليك كفارة يمين وإن شئت ألا تزوره.
مثال آخر: لو قال: إن لم أسافر اليوم إلى مكة فعليّ صيام شهر، ولم يسافر، فحكمه هنا حكم اليمين، فهو مخير، إن سافر فلا شيء عليه، وإن لم يسافر فعليه كفارة يمين.
ودليل ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من نذر في غضب فعليه كفارة يمين) رواه أبوداود.
لكن الحديث إسناده ضعيف لكنه ثابت عن عمر، وعن عائشة كما في موطأ مالك.
النوع الخامس: نذر المعصية.
وهذا لا يجوز الوفاء به.
لحديث عائشة (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
ولحديث عمران بن حصين. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا وفاء لنذر في معصيةٍ) رواه مسلم.
مثال: رجل قال: لئن حدث كذا وكذا فلله علي نذر أن أشرب الخمر، فهذا لا يجوز أن يشرب الخمر.
لكن هل عليه كفارة يمين؟ قولان للعلماء:
القول الأول: أنه عليه الكفارة.
وهذا قول المذهب.
لحديث عائشة. قالت: قال صلى الله عليه وسلم (لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين) رواه أبوداود، واحتج به أحمد وكذا إسحاق وصححه الطحاوي.
القول الثاني: أنه لا كفارة عليه.
وهذا قول جماهير العلماء.
لحديث عائشة -السابق- ( .. ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، قالوا: لو كانت الكفارة واجبة لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على عدم وجوبها.
والراجح والأحوط القول الأول.
النوع السادس: نذر المستحيل.
وهوالذي لا يمكن الوفاء به.
قال بعض أهل العلم: إنه لا ينعقد أصلاً، وبالتالي فلا يلزم منه شيء.
وقال بعضهم: إنه منعقد، وفيه كفارة يمين، واستدلوا بحديث الباب (كفارة النذر كفارة اليمين).
وهذا القول الأخير هو الراجح.
•
ما حكم من نذر أن يتصدق بجميع ماله؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: يكفي أن يخرج ثلث ماله.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ.
وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ.
وَلَنَا (قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي لُبَابَةَ، حِينَ قَالَ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ.
فَقَالَ: يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ).
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ (قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي دَاوُد (يُجْزِئُ عَنْك الثُّلُثُ).
القول الثاني: أنه يتصدق بجميع ماله.
وَهذا قول الشَّافِعِيُّ.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ).
وَلِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَنَذْرِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
قال الشنقيطي: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ جَمِيعَ مَالِهِ لِلَّهِ لِيُصْرَفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُ يَكْفِيهِ الثُّلُثُ وَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ الْجَمِيعِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعُلَمَاءِ عَشَرَةُ مَذَاهِبَ أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا: هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَيَلِيهِ فِي الظُّهُورِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ كُلُّهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ.
ثم ذكر رحمه الله حديث كعب (إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) ثم قال: فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ كَعْبًا غَيْرُ مُسْتَشِيرٍ بَلْ مُرِيدُ التَّجَرُّدِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ، كَمَا فِي تَرْجَمَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُمْسِكَ بَعْضَ مَالِهِ، وَصَرَّحَ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي يُمْسِكُهُ بِالثُّلُثَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ، فَيَسْتَدِلُّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِيفَائِهِ بِنَذْرِهِ، وَلَوْ أَتَى عَلَى كُلِّ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ مَا قَبْلَهُ أَخَصُّ مِنْهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ.
فائدة:
قال ابن قدامة رحمه الله: وإذا نذر الصدقة بمعيّن من ماله أو بمقدّر، كألف، فروي عن أحمد أنه يجوز ثلثه؛ لأنه مالٌ نَذَرَ الصدقة به، فأجزأه ثلثه، كجميع المال. والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه؛ لأنه منذور، وهو قربة، فيلزمه الوفاء به، كسائر المنذورات، ولعموم قوله تعالى:(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).
وإنما خولف هذا في جميع المال للأثر فيه، ولما في الصدقة بجميع المال من الضرر اللاحق به، اللهم إلا أن يكون المنذور هاهنا يستغرق جميع المال، فيكون كنذر ذلك.
فائدة:
إن نذر صيام أيام لم يلزمه التتابع إلا بشرط أو نية.
فإذا قال: لله علي نذر أن أصوم ثلاثة أيام، لم يلزمه التتابع، فيجوز أن يصومها متتابعة أو متفرقة.
إلا أن يشترط أو ينوي.
يشترط: كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام متتابعة فهنا يلزمه التتابع.
ينوي: كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام، وينوي أنها متتابعة فيلزمه التتابع.
فائدة:
من نذر صوم شهر معيناً لزمه التتابع. كأن يقول: لله علي نذر أن أصوم شهراً، فيلزمه التتابع، وذلك لأن هذا هو مقتضى إطلاق اللفظ.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزمه التتابع إلا بنية أو شرط.
وهذا القول هو الصحيح لقوله تعالى في الكفارة (فصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فلو كان إطلاق الشهر يقتضي التتابع لما احتيج أن يقيده الله تعالى بالتتابع.
فائدة:
إذا نذر شخص الصلاة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الوفاء بنذره.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) متفق عليه.
لو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز أن يصليها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي.
لو نذر الصلاة في المسجد النبوي جاز أن يصليها في المسجد الحرام ولم يجز أن يصليها في المسجد الأقصى.
لو نذر أن يصلي في المسجد الحرام فإنه لا يجوز له أداؤها إلا فيه لعدم جواز الانتقال من الأفضل إلى المفضول.
ويدل لذلك:
ما جاء في حديث جابر (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله! إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذاً) رواه أبوداود.
•
مسألة نقل النذر،
هذه المسألة لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ينقله من المفضول إلى الفاضل: فهذا لا بأس به.
مثال: لو نذر أن يصوم يوم الثلاثاء، ثم صام يوم الإثنين، فهنا لا يحنث، لأنه نقل نذره من مفضول إلى فاضل، فهو أتى بالمفضول وزيادة.
الحالة الثانية: أن ينقله من مساوٍ إلى مساو: فهذا تلزمه كفارة يمين.
مثال: لو نذر أن يصوم يوم الأربعاء فصام يوم الثلاثاء.
الحالة الثالثة: أن ينقل من فاضل إلى مفضول.
مثال: لو نذر صيام يوم الإثنين، ثم صام يوم الثلاثاء، فليس له ذلك، وعليه أن يصوم يوم الإثنين، لأن النذر لم يقع موقعه.
1376 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اَللَّهِ حَافِيَةً، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
1377 -
وَلِلْخَمْسَةِ فَقَالَ (إِنَّ اَللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئاً، مُرْهَا: [فَلْتَخْتَمِرْ]، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ).
===
(نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اَللَّهِ حَافِيَةً) أي: بدون نعل، جاء في رواية (أن تحج ماشية).
وعند أحمد وأصحاب السنن (أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة)، وعند أبي داود (أن عقبة سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها).
(فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) قال النووي: مَعْنَاهُ تَمْشِي فِي وَقْت قُدْرَتهَا عَلَى الْمَشْي، وَتَرْكَب إِذَا عَجَزَتْ عَنْ الْمَشْي أَوْ لَحِقَتْهَا مَشَقَّة ظَاهِرَة فَتَرَكَّبَ.
(إِنَّ اَللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئاً) أي: بتعبها أو مشقتها، وفي حديث أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَأَىَ شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ «مَا بَالُ هَذَا». قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِىَ. قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِىٌّ». وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).
(وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ذكر الصيام لم يأت من طريق صحيح.
•
ماذا نستفيد من حديث الباب؟
نستفيد: أن من نذر المضي إلى بيت الله الحرام فإنه يلزمه.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).
•
ما حكم من نذر المشي إلى بيت الحرام، هل يلزمه المشيء أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه لا يلزمه المشيء، وله أن يركب، ولا شيء عليه.
القول الثاني: أنه يلزمه المشيء، فإن عجز ركب وعليه كفارة يمين.
وهذا مذهب الحنابلة.
أ- لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ يَعْنِي أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا) رواه أبو داود.
ب- ولحديث (من نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين).
فالخلاصة: في هذا الحديث نذرت هذه المرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرم حافية، فاشتمل هذا النذر على أمرين:
الأمر الأول: أن تقصد المسجد الحرام.
الأمر الثاني: أن تذهب للمسجد الحرام حافية.
وحيث إن النذر إذا اشتمل على عبادة وعلى أمر غير عبادة، فلكل واحد حكمه:
فنذر العبادة (وهو قصد البيت الحرم) يجب الوفاء به.
ونذر المباح (أن تمشي حافية) فإنها تكفر عن يمينها، لأن نذر الذهاب للمسجد حافية ليس من مقصود العبادة.
ففي هذا الحديث حكم من نذر طاعة وغير طاعة:
- فما كان طاعة فإنه يجب الوفاء به.
لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري.
- وما كان غير طاعة [مباح] فهو مخير وإن تركه فعليه كفارة يمين
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- جواز الاستنابة في الفتيا.
- حرص السلف على الخير.
- وجوب الوفاء بنذر الطاعة.
- أن الله مستغن عن تعذيب الإنسان نفسه.
- رحمة الإسلام وعدم مشقته.
- في الحديث بعض العلل من النهي عن النذر: وهو العجز عن القيام بالمنذور.
1378 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (اِسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلِ أَنْ تَقْضِيَهُ؟ فَقَالَ: اِقْضِهِ عَنْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(اِسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) أي: طلب الفتيا.
(فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ) قيل: إن هذا النذر كان عتقاً، وقيل: صوماً، وقيل: صدقة.
(تُوُفِّيَتْ قَبْلِ أَنْ تَقْضِيَهُ) أي: قبل أن تؤدي ذلك النذر الذي نذرته.
(فَقَالَ: اِقْضِهِ عَنْهَا) هذا أمر للاستحباب لا للوجوب كما هو مذهب الجماهير.
•
ما هو نذر أم سعد؟
اختلف العلماء في تعيين نذر أم سعد:
فقيل: كان صوماً.
لحديث ابن عباس عند مسلم قال: (جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها. قال: نعم).
وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة.
وقيل: كان عتقاً. قاله ابن عبد البر.
وقيل: كان نذرها صدقة.
والله أعلم.
قال ابن حجر: واختلف في تعيين نذر أم سعد:
فقيل: كان صوماً.
لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن بن عباس جاء رجل فقال: (يا رسول الله ان أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم). الحديث.
وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة.
وقيل: كان عتقاً، قاله بن عبد البر.
واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد ان سعد بن عبادة قال يا رسول الله ان أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها، قال نعم.
وتعقب بأنه مع إرساله ليس فيه التصريح بأنها كانت نذرت ذلك.
وقيل: كان نذرها صدقة وقد ذكرت دليله من الموطأ وغيره من وجه آخر عن سعد بن عبادة أن سعداً خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لأمه أوص، قالت: المال مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم فقال يا رسول الله هل ينفعها أن اتصدق عنها قال نعم.
وعند أبي داود من وجه آخر نحوه وزاد (فأي الصدقة أفضل قال الماء) الحديث وليس في شيء من ذلك التصريح بأنها نذرت ذلك.
قال عياض: والذي يظهر انه كان نذرها في المال او مبهماً، قلت بل ظاهر حديث الباب أنه كان معيناً عند سعد والله أعلم. (الفتح)
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن من مات وعليه نذر فإنه يقضي عنه وليه.
فإن كان النذر مالياً - وخلّف تركة - فإنه يجب قضاؤه.
وأما إذا كان النذر مالياً - ولم يخلف تركة - أو كان صوماً فإنه يستحب قضاؤه عن الميت استحباباً لا وجوباً.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
استحباباً لحديث (من مات وعليه صوم صام عنه وليه).
لكن لا يجب لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزرى أخرى).
وذهب أهل الظاهر إلى الوجوب لحديث سعد هذا.
قال النووي: حديث سعد يحمل أنه قضاه من تركتها، أو تبرع به، وليس في الحديث تصريح بإلزامه بذلك.
[وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام].
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- وجوب الوفاء بالنذر.
- فضل بر الوالدين.
- استفتاء الأعلم.
- فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم.
1379 -
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ اَلضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَالَ (نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ: فَقَالَ: "هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: "فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ; فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اَللَّهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ اِبْنُ آدَمَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحُ اَلْإِسْنَادِ.
1380 -
وَلَهُ شَاهِدٌ: مِنْ حَدِيثِ كَرْدَمٍ. عِنْدَ أَحْمَدَ.
===
(ببُوانة) قال البغوي: موضع في أسفل مكة.
(وثن من أوثانهم) الوثن: كل ما عبد من دون الله من شجر أو حجر.
(عيد) قال شيخ الإسلام: العيد اسم لما يعود ـ من الاجتماع العام ـ على وجه معتاد.
(نذر) النذر هو: إلزام المكلف نفسه شيئاً غير واجب عليه أصلاً.
•
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
قال النووي: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين. (المجموع).
•
ما المعنى الإجمالي للحديث؟
يذكر الراوي أن رجلاً التزم لربه أن ينحر إبلاً في موضع معين على وجه الطاعة والقربة، وجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التنفيذ فاستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك المكان هل سبق أن وجد فيه شيء من معبودات المشركين أو سبق أن المشركين يعظمونه ويجتمعون فيه فلما علم صلى الله عليه وسلم بخلو هذا المكان أفتى بتنفيذ النذر.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ تَقَرُّبًا لِلَّهِ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَا بَأْسَ بِإِيفَائِهِ بِنَذْرِهِ، بِأَنْ يَنْحَرَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمُعَيَّنِ، إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ وَثَنٌ يُعْبَدُ، أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ فِيهِ وَثَنًا يُعْبَدُ، أَوْ عِيدًا مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّحْرُ فِيهِ. (الشنقيطي)
أن فيه المنع من الذبح في المكان الذي فيه وثن من أوثان الجاهلية أو فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أنه لو وجد في مكان النذر مانع شرعي لم يجز الوفاء بالنذر في ذلك المكان.
- جواز تخصيص النذر بمكان إذا كان خالياً من معصية.
- استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
- أنه لا يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، والحكمة من ذلك أنه يؤدي إلى التشبه بالكفار.
- المنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله.
- ينبغي للمسلم أن يبتعد عن أماكن الجاهلية، ولا يخصصها بعبادة حتى لا يتشبه بهم وينسب إليهم.
- أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
- سد الذريعة وترك مشابهة الكفار.
- وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يقصد مشابهة الكفار.
- تحريم الوفاء بنذر المعصية، كأن يقول: نذرت لله أن أشرب الخمر، فلا يوفي بنذره هذا بالإجماع.
واختلف العلماء هل فيها الكفارة على قولين، وتقدمت المسألة.
أنه لا وفاء لنذر فيما لا يملكه ابن آدم، كأن يقول: لله علي نذر أن أعتق عبد فلان، فنذره هذا باطل.
تقرر في الشريعة أنه لا يجوز للمسلم أن يتشبه بالكفار، سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم وهذه قاعدة عظيمة لها أدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة:
من الكتاب: قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد
…
}.
قال ابن كثير: (نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية).
من السنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم). رواه أبو داود عن ابن عمر
قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم). أ. هـ
فتبين من ذلك أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها وجاء بها القرآن الكريم، وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
وأذكر نتفاً قليلة لتقف على أهمية هذا الأمر، حيث أنه لم يقتصر على العادات بل تعداها إلى غيرها من العبادات والآداب:
أولاً: الصلاة.
عن جندب بن عبد الله قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك). رواه مسلم
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم). رواه أبو داود
وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى رجلاً وهو جالس معتمداً على يده اليسرى في الصلاة، فقال: "إنها صلاة اليهود"). رواه البخاري
وعن مسروق عن عائشة: (أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته، وتقول إن اليهود تفعله) رواه البخاري
ثانياً: الصوم.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر). رواه مسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الدين ظاهراً ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون). رواه أبو داود
وعن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: (أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: " إنما يفعل ذلك النصارى "). رواه أحمد
ثالثاً: الجنائز.
ما رواه جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا). رواه أبو داود وأحمد
وفي رواية لأحمد: (والشق لأهل الكتاب).
رابعاً: اللباس والزينة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال: (إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها). رواه مسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم). متفق عليه
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا النصارى). رواه أحمد والترمذي
خامساً: الآداب والعادات.
عن جابر بن عبد الله مرفوعاً: (لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة). رواه الترمذي
1381 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَوْمَ اَلْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ، فَقَالَ: صَلِّ هَا هُنَا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "صَلِّ هَا هُنَا". فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "شَأْنُكَ إِذًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
•
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أنه يجوز الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه.
لو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز أن يصليها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي.
ولو نذر الصلاة في المسجد النبوي جاز أن يصليها في المسجد الحرام ولم يجز أن يصليها في المسجد الأقصى.
ولو نذر أن يصلي في المسجد الحرام فإنه لا يجوز له أداؤها إلا فيه لعدم جواز الانتقال من الأفضل إلى المفضول.
قال ابن تيمية: وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ: قَالُوا: إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَجْزَأَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
فمسألة نقل النذر لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ينقله من المفضول إلى الفاضل: فهذا لا بأس به.
مثال: لو نذر أن يصوم يوم الثلاثاء، ثم صام يوم الإثنين، فهنا لا يحنث، لأنه نقل نذره من مفضول إلى فاضل، فهو أتى بالمفضول وزيادة.
الحالة الثانية: أن ينقله من مساوٍ إلى مساو: فهذا تلزمه كفارة يمين.
مثال: لو نذر أن يصوم يوم الأربعاء فصام يوم الثلاثاء.
الحالة الثالثة: أن ينقل من فاضل إلى مفضول.
مثال: لو نذر صيام يوم الإثنين، ثم صام يوم الثلاثاء، فليس له ذلك، وعليه أن يصوم يوم الإثنين، لأن النذر لم يقع موقعه.
-
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: عمن نذر أن يعمر والدته كل سنة يوم العيد، فهل يجوز له أن يعمرها في رمضان أو غيره بدل يوم العيد بدون كفارة، وإذا لم ترغب ذلك فماذا يلزمه؟
فأجابوا: إن أعمرت والدتك في رمضان فلا شيء عليك؛ لأنك أديت ما هو أفضل من وقت المنذور، كما لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فصلى في المسجد الحرام أو المسجد النبوي؛ لكونه أداها في مكان أفضل، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه لا شيء عليه في هذه المسألة الأخيرة، وهو عن جابر رضي الله عنه،
…
[وذكروا الحديث المتقدم]
•
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- صحة النذر المعلق.
قال ابن قدامة رحمه الله عن نذر الطاعة: وهو ثلاثة أنواع، أحدها: التزام طاعة في مقابل نعمة استجلبها أو نقمة استدفعها، كقوله: إن شفاني الله فلله علي صوم شهر، فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع، كالصوم والصلاة والصدقة والحج، فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم.
- وجوب الوفاء بالنذر المعلق إذا تحقق الشرط.
- وجوب الوفاء بالنذر.
1382 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِد اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
===
الحديث تقدم شرحه في كتاب الصوم.
(لَا تُشَدُّ) بضم أوله، بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصت به.
(اَلرِّحَالُ) جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وشده كناية عن السفر، لأنه لازمه غالباً.
(اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ) أي: المحرم.
(وَمَسْجِدِي هَذَا) أي: المسجد النبوي.
(وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى) سمي بذلك لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقال الزمخشري: سمي أقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد.
•
ماذا نستفيد من هذا الحديث؟
نستفيد: استحباب شد الرحال والسفر لقصد هذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام - والمسجد النبوي - والمسجد الأقصى.
•
ما حكم من نذر الصلاة في أحد هذه المساجد الثلاثة؟
من نذر الصلاة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الوفاء بنذره، ولو لزم من ذلك شد الرحال، لأن هذه المساجد تشد إليها الرحال قال ابن حجر: اختلف أهل العلم فيمن نذر إتيان هذه المساجد الثلاثة:
فقال بوجوب الوفاء: مالك، وأحمد، والشافعي، والبويطي رحمهم الله، واختاره أبو إسحاق المروزي رحمه الله (الفتح).
لأن هذه المساجد تشد إليها الرحال، ومن نذر أن يطيع الله في المشروع لزمه الوفاء به، لما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
•
ما حكم من نذر إتيان غير هذه المساجد لصلاة أو غيرها؟
لا يلزمه الوفاء به.
لأنه لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أي مسجد كان.
قال النووي رحمه الله لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء به. وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين، ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به، كرباط لزم، وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد.
ويدل لذلك:
أولاً: بأن الشارع الحكيم لم يعين موضعاً خاصاً للعبادات فلا تتعين.
ثانياً: أنه لو ألزمناه بما نذر للزم من ذلك أن تشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فلو نذر أن يعتكف في مسجد خارج بلدته للزمه أن يشد الرحال إلى هذا المسجد. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
القول الثاني في هذه المسألة:
أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين فإنه يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا لزم من ذلك شد الرحال فلا يلزمه.
والقول الثالث: أن من نذر الاعتكاف في مسجد معين فلا يلزمه إلا إذا كان نذر ذلك لمزية شرعية في المسجد ككثرة الجماعة أو قدم المسجد أو أي مزية شهد لها الشارع بالاعتبار، وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية. (شرح الزاد للحمد).
•
اذكر بعض مميزات هذه المساجد؟
أولاً: استحباب شد الرحال والسفر إليها للعبادة فيها، وبالنسبة للمسجد الحرام فالسفر له واجب وغيره مستحب.
قال ابن القيم: وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيه غيرها.
ثانياً: أن هذه المساجد أفضل البقاع.
ثالثاً: مضاعفة الصلاة فيها.
فالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والمسجد النبوي بألف صلاة، والمسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وقيل: بمائتين وخمسين صلاة.
رابعاً: أن هذه المساجد بناها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالكعبة المشرفة بناها إبراهيم وإسماعيل.
والمسجد الأقصى بناه يعقوب.
ومسجد المدينة بناه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكل مسجد فضائل خاصة نذكرها إن شاء الله في موضعها.
•
ما حكم السفر لزيارة القبور؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجوز.
ذهب طائفة من المتأخرين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز ذلك.
استدل هؤلاء بأدلة فضل زيارة القبور، ولم يفرقوا بين زيارة القبور مع السفر إليها وبين الزيارة بدون سفر، بل أطلقوا دلالة الأحاديث على الاستحباب.
ب- واستدلوا بحديث ابن عمر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكباً وماشياً).
أورد هذا الحديث ابن قدامة، ولعل وجه الدلالة منه: جواز زيارة المواضع الفاضلة من المساجد وغيرها كالقبور والمشاهد، وعدم حصر ذلك في المساجد الثلاثة.
ج- استدلوا بأحاديث تدل على استحباب السفر لأجل زيارة القبور، وأكثر ما ذكروه من الأحاديث هي في زيارة قبر
النبي صلى الله عليه وسلم:
كحديث (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي).
وحديث (من زارني بعد مماتي كنت له شفيعاً يوم القيامة).
وحديث (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).
وغيرها من الأحاديث، وكلها ضعيفة واهية لا تصح.
القول الثاني: أن السفر لزيارة القبور غير مشروع، بل هو حرام ولا يجوز.
وهذا قول مالك وأكثر أصحابه، واختار هذا القول ابن تيمية، وابن القيم.
أ- واستدلوا بحديث الباب، ففيه النهي عن السفر لغير المساجد الثلاثة.
وهذا عام يشمل كل شيء من المساجد والمشاهد لمن زارها تعبداً وتقرباً ما عدا المساجد الثلاثة المذكورة بالحديث.
ب- ولأن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين لم يكن موجوداً في الإسلام وقت القرون الثلاثة -قرن الصحابة والتابعين وأتباعهم- التي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا السفر جائزاً فلا بد أن يقع من أحدهم، ولم يحدث هذا السفر إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة.
ج-أن شد الرحال إلى مقابر الأنبياء والصالحين يؤدي إلى اتخاذها أعياداً واجتماعات عظيمة، كما هو مشاهد، (ولا فرق بين شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره).
وهذا القول هو الصحيح.
•
اذكر أحوال زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
-:
أولاً: تستحب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لمن بالمدينة.
ثانياً: تستحب زيارة قبره لمن زار مسجده.
ثالثاً: السفر وشد الرحل لقصد زيارة القبر فقط دون المسجد، وهذه وقع فيها خلاف بين العلماء والصحيح أنه لا يجوز وغير مشروع ورجحه ابن تيمية.
1383 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي نَذَرْتُ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ; أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ. قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ اَلْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ (فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً).
===
(فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ) المراد بالجاهليّة هنا جاهليّة عمر رضي الله عنه، وهو ما قبل إسلامه، لا أنه أراد ما قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن جاهليّة كلّ أحد بحسبه، ووهم من قال: الجاهليّة في كلامه زمن فترة النبوّة، والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فان هذا يتوقّف على النقل، وقد ثبت أنه نذر قبل أن يسلم، وبين البعثة، وإسلامه مدّة. قاله في "الفتح".
•
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد صحة النذر من الكافر.
فإن وفى به حال كفره برئت ذمته، وإن لم يف به لزمه أن يوفي به بعد إسلامه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: صحة نذره.
القول الثاني: لا يصح نذره حال كفره.
والراجح الأول لحديث الباب.
قال النووي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي صِحَّة نَذْر الْكَافِر:
فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُور أَصْحَابنَا: لَا يَصِحّ.
وَقَالَ الْمُغِيرَة الْمَخْزُومِيّ وَأَبُو ثَوْر وَالْبُخَارِيّ وَابْن جَرِير وَبَعْض أَصْحَابنَا: يَصِحّ.
وَحُجَّتهمْ ظَاهِر حَدِيث عُمَر.
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب، أَيْ: يُسْتَحَبّ لَك أَنْ تَفْعَل الْآن مِثْل ذَلِكَ الَّذِي نَذَرْته فِي الْجَاهِلِيَّة.
وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وفي حديث عمر رضي الله عنه دليلٌ على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعيّ.
وعند الجمهور: لا ينعقد النذر من الكافر.
وحديث عمر رضي الله عنه حجة عليهم.
وقد أجابوا عنه:
بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا عرف أن عمر صلى الله عليه وسلم قد تبرع بفعل ذلك أذن له به، لأن الاعتكاف طاعة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب.
وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء استحبابًا، لا وجوبًا.
وُيردّ بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادّعى عدم الانعقاد. انتهى كلام الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
•
ماذا نستفيد من قوله (أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ)؟
قال في "الفتح": قوله (أن أعتكف ليلةً) استُدلّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم به، وتُعُقّب بأن في رواية شعبة عن عبيد اللَّه عند مسلم (يومًا) بدل (ليلة) فجمع ابن حبّان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته، وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما صريحًا، لكن إسنادها ضعيف. (الفتح)
وقال القرطبي: يحتج به من يُجيز الاعتكاف بالليل، وبغير صوم، ولا حجة له فيه؛ لأنه قد قال في الرواية الأخرى (أنه نذر أن يعتكف يومًا) والقصّة واحدة، فدلّ مجموع الراويتين على أنه نذر يومًا وليلةً، غير أنه أفرد أحدهما بالذكر لدلالته على الآخر من حيث إنهما تلازما في الفعل، ولهذا قال مالكٌ: إن أقلّ الاعتكاف يومٌ وليلة، فلو نذر أحدهما لزمه تكميله بالآخر، ولو سلّمنا أنه لم يجاء لليوم ذكرٌ لما كان في تخصيص الليلة بالذكر حجة؛ لإمكان حمل ذلك الاعتكاف على المجاورة؛ فإنها تُسمّى اعتكافًا لغةً، وهي تصحّ بالليل والنهار، وبصوم، وبغير صوم. انتهى.
وقد اختلف العلماء هل يشترط لصحة الاعتكاف الصوم أم لا على قولين:
القول الأول: يشترط للاعتكاف صوم.
وهذا قول أبي حنيفة ومالك، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.
قال ابن القيم: القول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ- لقوله تعالى (
…
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
وجه الاستدلال: أنّ الله تعالى ذكر الاعتكاف إثر الصوم فوجب أن لا يكون الاعتكاف إلا بصوم.
ب- لقول عائشة: (من السنة
…
ولا اعتكاف إلا بصوم).
جما روته عائشة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني.
القول الثاني: لا يشترط الصوم للاعتكاف.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوال.
فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الاِعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ فَقَالَ «آلْبِرَّ تُرِدْنَ». فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الاِعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ في الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ) رواه مسلم.
قال البغوي: وفي اعتكافه في أوَّل شوال دليلٌ على أنّ الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف؛ لأنّ يوم العيد غير قابل للصوم.
ب-ولحديث الباب (
…
أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك).
والليل ليس محلاً للصوم، ولو كان الصوم شرطاً لما صح اعتكاف الليل؛ لأنه لا صيام فيه.
قال الخطابي: وفيه دليل على أنّ الاعتكاف جائز بغير صوم؛ لأنه كان نذرَ اعتكافَ ليلة، والليل ليس بمحل للصوم.
وهذا الحديث أيضًا قد بوّب له ابن خزيمة بقوله: باب الخبر الدال على إجازة الاعتكاف بلا مقارنة للصوم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر باعتكاف ليلة، ولا صوم في الليل.
ج- حديث ابن عَبَّاسٍ - أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيْسَ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ) وتقدم أنه ضعيف.
د-ولأنه عبادة تصح في الليل، فلم يشترط له الصيام كالصلاة، ولأنه عبادة تصح في الليل، فأشبه سائر العبادات.
هـ-ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع، ولم يصح فيه نص، ولا إجماع، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف.
قال الشوكاني: استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن الليل ليس بوقت صوم.
وهذا القول هو الراجح.
•
ما الجواب عن أدلة القول الأول؟
أما قوله تعالى (
…
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
فليس فيها ما يدلُّ على تلازمهما وإلا لكان لا صوم إلا باعتكاف، ولا قائل به.
وأما قول عائشة: (من السنة
…
ولا اعتكاف إلا بصوم).
قال البيهقي: قد ذهب كثيرٌ من الحفاظ إلى أنّ هذا الكلام من قول من دون عائشة، وأنّ من أدرجه في الحديث وهم فيه.
وقال أيضًا: قد أخرج البخاري ومسلم صدر هذا الحديث في الصحيح إلى قوله: «والسنة في المعتكف أن لا يخرج» ، ولم يُخرجا الباقي؛ لاختلاف الحفاظ فيه: منهم من زعم أنه من قول عائشة، ومنهم من زعم أنه من قول الزهري، ويشبه أن يكون من قول مَنْ دون عائشة.
وقال ابن عبد البر: لم يَقل أحدٌ في حديث عائشة هذا «السنة» إلا عبد الرحمن بن إسحاق، ولا يصح الكلام عندهم إلا من قول الزهري، وبعضه من كلام عروة.
وأما ما روته عائشة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني.
فهذا ضعيف لا يصح.
فيه سويْد بن عبد العزيز، قال ابن حجر: ضعيف جداً.
وأيضاً قد رواه غير واحد عن الزهري موقوفاً على عائشة.
قال البيهقي: رفعُه وهم، والصحيح موقوف.
أما حديث وأما قول عائشة (لا اعتكاف إلا بصوم)، فلا يصح مرفوعاً، وعلى فرض صحته فالمعنى أنه لا اعتكاف كامل إلا بصوم.
قال النووي: لو ثبت لوجب حمله على الاعتكاف الأكمل، جمعًا بين الأحاديث.
وقال ابن قدامة: ولو صحَّ فالمراد به الاستحباب، فإنّ الصوم فيه أفضل.
•
اذكر بعض الفوائد من الحديث؟
- أن الاعتكاف يجب بالنذر.
- وجوب الوفاء بالنذر ولو عقد في حال الكفر.
فائدة: 1
النذر لا يصح الرجوع فيه.
لقول عمر: (أربع جائزة في كل حال [أي ماضية نافذة]: العتق والطلاق والنكاح والنذر) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 82).
وعن علي رضي الله عنه: (أربع لا رجوع فيهن إلا بالوفاء: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر) ذكره ابن حزم في المحلى.
فائدة: 2
•
ما عقوبة عدم الوفاء بالنذر؟
يخشى عليه من النفاق.
قال تعالى (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
قال ابن القيم: إذَا قَالَ: إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ تَصَدَّقْت، أَوْ لأَتَصَدَّقَنَّ، فَهُوَ وَعْدٌ وَعَدَهُ اللَّهَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَإِلا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ:(فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) فَوَعْدُ الْعَبْدِ رَبَّهُ نَذْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِهِ; والنذر المعلق أَوْلَى بِاللُّزُومِ مِنْ أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً: " لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا "وَإِخْلَافُهُ يُعْقِبُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ.
ذَمَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم الذين ينذرون ولا يوفون.
عن عِمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ -قَالَ عِمْرَانُ: فَلا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً - ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَن) متفق عليه.
قال النووي: فِيهِ وُجُوب الْوَفَاء بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاجِب بِلا خِلَاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب القضاء
تعريفه:
القضاء لغة: إحكام الشيء والفراغ منه.
واصطلاحاً: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات.
(تبيين الحكم الشرعي) جنس يشمل القاضي والمفتي.
(والإلزام به) هذا قيد يخرج المفتي، لأنه لا يلزم بالحكم الشرعي.
(وفصل الخصومات) فيه بيان الغرض من القضاء وهو قطع الخصومة بين المتخاصمين.
والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
قال تعالى (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وقال سبحانه (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
وعن عمرو بن العاص. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) متفق عليه
وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس.
وعقلاً: لأن القضاء من ضرورات الاجتماع، به ينتشر العدل، ويعم الأمن، ويُدفع القوي عن الضعيف، ويُنصف المظلوم من الظالم، لولا الفضاء لعمت الفوضى، واختل الأمن، وفسد النظام.
وهو فرض كفاية.
إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الجميع.
لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه.
وكان صلى الله عليه وسلم يتولاه بنفسه، وبعث علياً إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً قاضياً.
ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم).
قال الإمام أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟
فائدة:
قال ابن قدامة: وَالنَّاسُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ:
وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ شُرُوطُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا قَضَى بَيْنَ النَّاسَ بِجَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ).
وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ الْحَقَّ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ وَيَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَمِنْهُمْ، مَنْ يَجُوزُ لَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ:
وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالِاجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلَاحِيَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ، وَفِي تَرْكِهِ مِنْ السَّلَامَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ وَالذَّمِّ، وَلِأَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَالتَّوَقِّي، وَقَدْ أَرَادَ عُثْمَانُ رضي الله عنه تَوْلِيَةَ ابْنِ عُمَرَ الْقَضَاءَ فَأَبَاهُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ رَجُلًا خَامِلًا، لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا يُعْرَفُ فَالْأَوْلَى لَهُ تَوَلِّيهِ، لِيُرْجَعَ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَقُومَ بِهِ الْحَقُّ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي النَّاسِ بِالْعِلْمِ، يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى، فَالْأَوْلَى الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ الْغَرَرِ.
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إذَا كَانَ ذَا حَاجَةٍ، وَلَهُ فِي الْقَضَاءِ رِزْقٌ، فَالْأَوْلَى لَهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْمَكَاسِبِ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ طَلَبُهُ، وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ:
لِأَنَّ أَنَسًا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ، وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ، وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَلَا يُوجَدُ سِوَاهُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَأْثَمُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا يَأْثَمُ.
فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِضْرَارُ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ غَيْرُك.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ، لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ. (المغني)
يكون القضاء فرض عين، وذلك بأمور:
أولاً: إذا طلب منه، فإذا لم يطلب منه فلا يكون فرض عين عليه، لأن المسؤول عن تولية القضاة هو الإمام.
ووجه ذلك:
أ-أنه من طاعة ولي الأمر وهي في غير المعصية واجبة.
ب-أنه لو لم يدخل فيه لتعطل مرفق القضاء وذلك لا يجوز كسائر فروض الكفاية.
ثانياً: ولم يوجد أهلٌ يوثق به، فإن وجِد لم يتعين.
ووجه ذلك:
أنه من تغيير المنكر، وتغيير المنكر واجب وهو متوقف عليه فيجب عليه.
وقد تقدم كلام ابن قدامة بقوله: مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَلَا يُوجَدُ سِوَاهُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَأْثَمُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا يَأْثَمُ.
فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِضْرَارُ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ غَيْرُك.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ، لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ. (المغني)
1384 -
عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الجَنَّةِ. وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ) رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
1385 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
===
ما صحة أحاديث الباب؟
حديث بريدة، فيه خلف بن خليفة وهو حسن الحديث لكنه اختلط في آخر عمره.
وللحديث عن ابن بريدة متابعات، منها:
ما أخرجه الترمذي وغيره من طريق شريك القاضي وفيه ضعف.
ومنها: ما أخرجه وكيع في أخبار القضاة (1/ 15) من طريق إسحاق بن عبد الرحمن لؤلؤ عن داود بن عبد الحميد وهو ضعيف.
وقد صحح الحديث: الحاكم في المستدرك (4/ 101، 102)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار ح (152)، وقال ابن عبد الهادي في المحرر في الحديث لابن عبد الهادي (2/ 637):"إسناده جيد"، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة: حديث حسن.
اذكر ما ورد في تولي القضاء؟
القضاء ورد فيه ترغيب وترهيب:
الترغيب:
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله .. ).
الترهيب:
كأحاديث الباب.
ففيه أجرٌ عظيم لمن قامَ به وعدل.
كما في حديث الباب ( .... رَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي اَلْجَنَّةِ. وَرَجُل).
قال ابن قدامة: وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ:
وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ.
وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ.
وَلِأَنَّ فِيهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنُصْرَةَ الْمَظْلُومِ، وَأَدَاءَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَرَدًّا لِلظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصًا لَبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْقُرَبِ.
وَلِذَلِكَ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، فَكَانُوا يَحْكُمُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، وَبَعَثَ أَيْضًا مُعَاذًا قَاضِيًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَجْلِسَ قَاضِيًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَة. (المغني)
وجاء في (الموسوعة الفقهية) وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، قَال رَسُول اللَّهِ رضي الله عنه (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنَّمَا أُجِرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَبَذْل وُسْعِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ).
وفيه الإثم العظيم لمن لم يقُم به: لمن جار وظلم، أو حكم بغير علم.
لحديث الباب (اَلْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اِثْنَانِ فِي اَلنَّارِ
…
وَرَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي اَلْحُكْمِ، فَهُوَ فِي اَلنَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ اَلْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي اَلنَّار).
وحديث (مَنْ وَلِيَ اَلْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُحْجِمُ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَنْهُ أَشَدَّ الاِمْتِنَاعِ حَتَّى لَوْ أُوذِيَ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ عَظِيمِ خَطَرِهِ كَمَا تَدُل عَلَيْهِ الأْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَالَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْوَعِيدُ وَالتَّخْوِيفُ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ، كَحَدِيثِ (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ) وَحَدِيثُ (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِل قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) وَحَدِيثُ (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ).
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأْحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
فَالأْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ.
وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإْسْلَامِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ.
وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ فَضْلِهِمْ وَصَلَاحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلَامَةِ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ الاِشْتِغَال بِهِ الإْقْلَال مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ.
وَمِمَّنِ امْتَنَعَ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ طُلِبَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. (الموسوعة).
روى مسلم عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال (إنَّك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزي وندامة، إلاَّ مَنْ أخَذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه منها).
قال النووي: هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيَّما من كان فيه ضَعْف، وهو في حقِّ مَنْ دخَل فيها بغير أهليَّة، ولَم يَعدل؛ فإنه يَندم على ما فرطَ منه إذا جُوِزي بالخِزي يوم القيامة، وأمَّا مَنْ كان أهلاً وعدَل فيها، فله فضلٌ عظيم، تظاهَرت به الأحاديث الصحيحة.
في الحديث (لا حسدَ إلاَّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسَلَّطه على هَلَكته في الحقِّ، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويُعلِّمها).
قال ابن حجر: وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لِمَنْ استجمَع شروطه، وقَوِي على أعمال الحقِّ، ووجَد له أعوانًا؛ لِما فيه من الأمر بالمعروف، ونَصْر المظلوم، وأداء الحقِّ لِمُستحقه، وكفِّ يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكلُّ ذلك من القُربات؛ فلذلك تولاَّه الأنبياء ومَن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومِن ثَمَّ اتَّفقوا على أنَّه من فروض الكفاية؛ لأن أمرَ الناس لا يستقيم دونه، وإنما فرَّ مَنْ فرَّ منه؛ خشية العجز عنه، وعند عدم المُعين عليه. هـ؛ الفتح.
ما معنى (فقد ذبح نفسه بغير سكين)؟
قال الصنعاني: دلَّ الحديث على التحذير من ولاية القضاء، والدخول فيه، والمراد مِنْ ذَبْح نفسه: إهلاكها؛ فإنه إنْ حكَم بغير الحقِّ مع عِلمه به، أو جَهْله له، فهو في النار، وهو إن أصاب الحق، أتعَب نفسه في الدنيا؛ لاستقصاء ما يجب عليه رعايته.
قال ابن فرحون في تَبصرة الحُكام: "وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم (من وُلِّي القضاء، فقد ذُبِح بغير سكين) فقد أورَده أكثر الناس في مَعرض التحذير من القضاء"
وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث دليلٌ على شرف القضاء وعظيم منزلته، وأن المتولي له مجاهدٌ لنفسه وهواه، وهو دليل على فضيلة مَنْ قضى بالحقِّ؛ إذ جعَله ذبيحَ الحقِّ امتحانًا؛ لتَعظم له المثوبة امتنانًا، فالقاضي لَمَّا استَسْلَم لحكم الله، وصبَر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتها، فلم تأْخُذه في الله تعالى لومة لائمٍ؛ حتى قادَهم إلى مُرِّ الحق وكلمة العدل، وكفَّهم عن دواعي الهوى والعناد - جُعِل ذبيحَ الحقِّ لله، وبلَغَ به حال الشهداء الذين لهم الجنة"؛ انتهى كلامه - رحمه الله تعالى.
1386 -
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
===
(إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ) أي: سيكون من بعضكم حرص بالطلب وغيره.
(الإِمَارَة): يدخل فيه الإمارة العظمى وهي الخلافة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد.
(فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ) لما يكون فيها في الدنيا من الجاه والمال ونفاذ الكلمة.
(وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) أي: بعد الموت.
الحديث دليل على ذم طلب الإمارة، وأنها ستكون خزي وندامة يوم القيامة،
أي: لمن لم يعمل فيها بما ينبغي.
ويوضح ذلك:
ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ (أولها ملامة; وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل).
وفي الطبراني الأوسط من رواية شريك عن عبد الله بن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك: لا أدري رفعه أم لا، قال (الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة). " وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ أولها ملامة وثانيها ندامة أخرجه الطبراني وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه: نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله، ويقيده أيضا ما أخرج مسلم عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف. وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم.
سبب ذم طلب الإمارة:
أولاً: ليس من صفات أهل الآخرة.
قال تعالى (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
وطالب الإمارة يريد أن يكون أرفع على الناس.
ثانياً: لكثرة تبعاتها ومقشتها وعظيم مسؤوليتها.
لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (بئست الفاطمة).
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة) رواه مسلم.
ثالثاً: لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) متفق عليه.
قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة (لا تسأل الإمارة) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن بين اثنين) رواه مسلم.
عن مسألة: أي سؤال.
قوله (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام، ومعنى المخفف أي صرف إليها ومن وكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء " ولا تكلني إلى نفسي " ووكل أمره إلى فلان صرفه إليه; ووكله بالتشديد استحفظه، ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه.
وقال النووي رحمه الله: (لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا):
فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: كَرَاهَةُ سُؤَالِ الْوِلَايَةِ، سَوَاءٌ وِلَايَةُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْحِسْبَةِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ لَا يَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ فيه كفاية لذلك العمل؛ فينبغي أن لا يُوَلَّى؛ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:(لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ). ا. هـ
وقال -أيضًا- رحمه الله: (قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَا يُوَلَّى مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَةَ، أَنَّهُ يُوكَلُ إِلَيْهَا، وَلَا تَكُونُ مَعَهُ إِعَانَةٌ؛ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ السَّابِقِ؛ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ إِعَانَةٌ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا وَلَا يُوَلَّى غَيْرُ الْكُفْءِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً لِلطَّالِبِ وَالْحَرِيصِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وأما الجمع بين تلك الأحاديث التي فيها النهي عن طلب الإمارة، وبين قول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ([يوسف: 55].
فقد قال القرطبي رحمه الله: (وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِنْسَانُ عَمَلًا يَكُونُ لَهُ أَهْلًا، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ
…
[وذكر الأحاديث السالفة الذكر].
فَالْجَوَابُ:
أَوَّلًا: أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام إِنَّمَا طَلَبَ الْوِلَايَةَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ وَتَوْصِيلِ الْفُقَرَاءِ إِلَى حُقُوقِهِمْ، فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ الْيَوْمَ؛ لَوْ عَلِمَ إِنْسَانٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْحَقِّ فِي الْقَضَاءِ أَوِ الْحِسْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَتَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا وَيَسْأَلُ ذَلِكَ، وَيُخْبِرُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عليه السلام. فَأَمَّا لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَصْلُحُ لَهَا وَعَلِمَ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَطْلُبَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ:«لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ» .
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي سُؤَالِهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا مَعَ العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها، دليل عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَغْرَاضِهِ؛ وَمَنْ كَانَ هَكَذَا يُوشِكُ أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَهْلِكُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«وُكِلَ إِلَيْهَا» وَمَنْ أَبَاهَا لِعِلْمِهِ بِآفَاتِهَا، وَلِخَوْفِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهَا فَرَّ مِنْهَا، ثُمَّ إِنِ ابْتُلِيَ بِهَا فَيُرْجَى لَهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:«أُعِينَ عَلَيْهَا» .
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: "إِنِّي حَسِيبٌ كَرِيمٌ" وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ؛ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» وَلَا قَالَ: "إِنِّي جَمِيلٌ مَلِيحٌ" إِنَّمَا قَالَ: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فَسَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، لَا بِالنَّسَبِ وَالْجَمَالِ.
لثَّالِثُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَأَرَادَ تَعْرِيفَ نَفْسِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ).
الرَّابِعُ: أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ غَيْرُهُ؛ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
فائدة:
خطورة الولاية، ولذلك امتنع الأكابر من الدخول فيها. قال عمر (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ) قال ذلك يوم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
فائدة:
أن دخل فيها وعدل واجتهد ولم يطلبها وقام بحقها فله أجر عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها) رواه مسلم.
وفي الحديث (سبعة يظلهم الله في ظله:
…
وذكر منها: إمام عادل).
قال العز بن عبد السلام على هذا بقوله: "وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلامٍ يسير وأجرٍ كبير.
قال النووي معلقاً على حديث (يَا أَبَا ذَرّ إِنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبّ لَك مَا أُحِبّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اِثْنَيْنِ، وَلَا تُوَلَّيَنَّ مَال يَتِيم).
هَذَا الْحَدِيث أَصْل عَظِيم فِي اِجْتِنَاب الْوِلَايَات، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف عَنْ الْقِيَام بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَة، وَأَمَّا الْخِزْي وَالنَّدَامَة فَهُوَ حَقّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِل فِيهَا فَيُخْزِيه اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَفْضَحهُ، وَيَنْدَم عَلَى مَا فَرَّطَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، وَعَدَلَ فِيهَا، فَلَهُ فَضْل عَظِيم، تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَحَدِيثِ:" سَبْعَة يُظِلّهُمْ اللَّه " وَالْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا عَقِب هَذَا (أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور) وَغَيْر ذَلِكَ، وَإِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِد عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَر فِيهَا حَذَّرَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاء، وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِق مِنْ السَّلَف، وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِين اِمْتَنَعُوا.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
لا ينبغي لمسلم أن يحرص على الإمارة، لما يعقبها من الحسرات، وما فائدة لذة تعقبها حسرات وتبعات.
الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض.
قال ابن حجر: هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بالشيء قبل وقوعه فوقع كما أخبر.
1387 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
- (حكم) الحكم اصطلاحاً: تبين الحكم الشرعي والإلزام به.
(فاجتهد) الاجتهاد اصطلاحاً: بذل الفقيه وسعه في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط.
(أخطأ) الخطأ اصطلاحاً: هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصد.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن الحاكم إذا اجتهد في قضية ما، وبذل وسعه فيها ثم حكم، فإن كان حكمه صواباً فله أجران، أجر الاجتهاد - وأجر الصواب، وإذا اجتهد ولكن لم يصل إلى الصواب فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد، لأن اجتهاده في طلب الحق عبادة.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- قوله: إذا حكم الحاكم، المراد بذلك القاضي وغير القاضي ممن يقضي بين الناس.
- يجب معرفة الحكم الشرعي، لأن من لا يعرف الحكم الشرعي فإنه لا يمكن أن يجتهد، لأنه لو اجتهد وحكم وهو لا يعرف الحكم الشرعي سيكون حاكماً برأيه لا بالشرع.
- فضل الاجتهاد وإصابة الحق، وإنما كان المصيب للحق له أجران، لأن إصابته للحق تستلزم ظهور الحق للناس وبيانه.
- أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، لأن من اجتهد وأخطأ فله أجر لاجتهاده.
- أن المصيب واحد، ولا يمكن أن يصيب اثنان الحق في قولين مختلفين.
- أن القاضي إذا حكم من غير اجتهاد ولا إمعان ولا تدبر فهو آثم، لأنه حكم بين الناس وهو لا يعرف الحق فهذا في النار.
فائدة:
من يعطى أجره مرتين:
قال تعالى (ومن يقنت منكم لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين).
وقال صلى الله عليه وسلم (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران) متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب لما سألته عن الصدقة على الزوج (لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجرهم شيء) رواه مسلم
عن أبي بُردةً عن أبيه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ (يَطَؤُهَا) فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ) متفق عليه.
عن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله، فله أجره مرتين) متفق عليه.
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (للعبد المملوك المصلح أجران) متفق عليه.
وعن أبي موسى. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المملوك الذي يحسن عبادة ربه، ويؤدي إلى سيده الذي عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران) رواه البخاري.
1388 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (لا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
تحريم أن يقضي القاضي وهو غضبان.
لحديث الباب.
وَفِي رِوَايَةٍ (لا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ).
وقد اختلف في النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ والراجح أنه للتحريم.
قال في المغني: لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان.
ما الحكم لو حكم القاضي وهو غضبان وأصاب الحق، فهل ينفذ حكمه أم لا؟
لو أن القاضي خالف فحكم وهو في حال غضب ونحوه، وأصاب الحق، فإنه ينفذ الحكم.
وهذا قول الجمهور.
قال النووي في حديث اللقطة: فيه جواز الفتوى في حال الغضب، وكذلك الحكم، وينفذ ولكنه مع الكراهة في حقنا ولا يكره في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينفذ قضاؤه.
لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
والراجح قول الجمهور.
فإن قال قائل: كيف ينفذ وهو محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، أفليست القاعدة أن مثل هذا يوجب بطلان الحكم، كما لو عقد على امرأة عقداً محرماً فإن العقد يبطل؟
فالجواب: أن يقال: إنه إنما نهي عن ذلك خوفاً من مخالفة الصواب، فإذا وقعت الإصابة فهذا هو المطلوب، إذاً هنا نقول: هذا لم يخرج عن القاعدة، وهي أن الشيء المحرم لا ينفذ ولا يصح؛ لأن العلة التي من أجلها حرم انتفت، حيث إنه أصاب الصواب، فإن لم يصب الحق فإنه لا ينفذ؛ لأنه على غير حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .... (الشرح الممتع)
ما الحكمة من النهي؟
لأن الغضب يمنع من تصور المسألة أولاً ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها.
قال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب، لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه.
وهل مثله الحاقن أو شديد الجوع؟
نعم، مثله الحاقن أو في شدة جوع أو عطش أو همٍ أو ملل.
قال ابن دقيق: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقاً يشغله عن استيفاء النظر.
وقال ابن قدامة: وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح، فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي بمعنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه.
1389 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ، فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ، حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي». قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ المدِينِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
===
ما صحة حديث الباب؟
الحديث فيه ضعف.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أنه يحرم على القاضي أن يقضي لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الآخر.
لقوله (إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي).
هل يجوز أن يحكم القاضي للمدعي إذا كان المدعَى عليه غائباً؟ (كأن يكون مسافراً)؟
ذهب بعض العلماء إلى الجواز.
قال ابن قدامة: أَنَّ مَنْ ادَّعَى حَقًّا عَلَى غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَطَلَبَ مِنْ الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ، إذَا كَمُلَتْ الشَّرَائِطُ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةُ وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَسَوَّارٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
أ-لحديث عَائِشَة قَالَتْ (دَخَلَتْ بِنْتُ عُتْبَةَ -اِمْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ اَلنَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيك) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وجه الدلالة: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان لزوجته وهو غائب.
قال ابن المنذر: هذا حكم منه بالنفقة، وأبو سفيان ليس بحاضر ولم ينتظر حضوره.
ب- صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم على الغائب، كما حدث في حادثة العرنيين الذين قتلوا الرعاء، وسملوا أعينهم، وفروا، فأرسل إليهم القائف يتبعهم وهم غيب، حتى أدركوا، واقتص منهم.
ج-صح عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما القضاء على الغائب، ولا مخالف لهما من الصحابة.
د- المدعي له بينة مسموعة عادلة فجاز الحكم بها، كما لو كان الخصم حاضراً.
وذهب بعض العلماء: إلى عدم جواز ذلك.
أ-لحديث أُمّ سَلَمةَ أَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ).
قال ابن رشد: هذا الحديث عمدة من منع القضاء على الغائب.
وجه الدلالة: قوله (فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ) وهذا يدل على أن القاضي لا يحكم إلا بما يسمع من الخصمين.
ب- ولحديث الباب (إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ، فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ، حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ اَلْآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي) قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا بَعْدُ).
وجه الدلالة: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحكم لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، والحكم على الغائب حاله هكذا، يقضَى للمدعِي في غيبة المدعى عليه، فهو قضاء لأحدهما قبل سماع كلام الآخر، وهذا منهي عنه.
والراجح الأول.
تنبيه:
الاستدلال بحديث هند في قصة أبي سفيان فيه نظر من وجهين:
الوجه الأول: أن أبا سفيان لم يكن غائباً عن مكة بل كان في مكة اثناء هذا القضاء، وهم لا يقولون بالقضاء على الغائب في البلد.
الوجه الثاني: أن هذا من باب الفتوى وليس من باب القضاء بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة.
قال ابن القيم: وَقَدْ احْتَجّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْأَلْهَا الْبَيّنَةَ وَلَا يُعْطَى الْمُدّعِي بِمُجَرّدِ دَعْوَاهُ وَإِنّمَا كَانَ هَذَا فَتْوَى مِنْهُ صلى الله عليه وسلم. (زاد المعاد).
فائدة:
ذهب جمهور العلماء إلى عدم صحة القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا كان غيابه داخل البلد.
فهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والمشهور من مذهب الشافعية، والحنابلة.
أ-أن الغائب خارج البلد غيبته تطول غالباً، أما من كان في البلد فلا تطول، ولذا لزم حضوره مجلس القاضي، فلعله يجد مطعناً ودفعاً لما ادعي عليه.
ب-أن إحضار من كان غائباً داخل البلد فيه تسهيل للقضاء، وسلوك أقرب الطرق واجب في القضاء.
1391 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(إنكم تختصمون إليّ) أي: تتحاكمون إلي.
(ولعل) لعل هنا بمعنى عسى.
(ألحن بحجته من بعض) أي: أفطن وأبلغ في حجته من الآخر.
(فمن قطعت له من حق أخيهِ شيئاً) معنى قطعت له: أي: أعطيته بهذا الحكم.
(فإنما أقطع له قطعة من النار) إذا كان الذي قضيت له بحسب الظاهر، لا يستحقه باطناً فهو عليه حرام.
(قطعة من النار) أي: يؤول به إلى النار.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن القاضي يقضي ويحكم على حسب ما يسمع من الخصمين، لأنه مأمور بالحكم بالظاهر، والإثم والتبعة على من كسب القضية بأمر باطل.
ونستفيد: أن حكم القاضي لا يغير حكماً شرعياً في الباطن فلا يحل حراماً.
مثال: لو شهدا شاهدا زور لإنسان بمال، فحكم القاضي بهذا المال لهذا الشخص فإنه لا يحل له بناء على هذه الشهادة، وهذا مذهب
جماهير العلماء، وعلى هذا فيكون قضاء القاضي نافذاً ظاهراً لا باطناً.
وجه الدلالة: لأنه توعد من حكم له بأنه يقتطع له قطعة من نار.
قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير عُلَمَاء الْإِسْلَام وَفُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ أَنَّ حُكْم الْحَاكِم لَا يُحِيل الْبَاطِن، وَلَا يُحِلّ حَرَامًا، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدًا زُور لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِم؛ لَمْ يَحِلّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَال، وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلّ لِلْوَلِيِّ قَتْله مَعَ عِلْمه بِكَذِبِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا بِالزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته لَمْ يَحِلّ لِمَنْ عَلِمَ بِكَذِبِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجهَا بَعْد حُكْم الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رضي الله عنه: يُحِلّ حُكْم الْحَاكِم الْفُرُوج دُون الْأَمْوَال، فَقَالَ: يَحِلّ نِكَاح الْمَذْكُورَة، وَهَذَا مُخَالِف لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَلِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْله، وَمُخَالِف لِقَاعِدَةٍ وَافَقَ هُوَ وَغَيْره عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاع أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ الْأَمْوَال. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم)
هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه؟
لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه.
وهذا قول مالك وأحمد ونصره ابن القيم.
لحديث الباب (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّارِ).
لقوله صلى الله عليه وسلم (فأقضي له نحو ما أسمع) فدل على أنه يقضي فيما يسمع لا فيما يعلم.
قال القرطبي: قوله تعالى (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ
…
).
هَذِهِ الْآيَةُ تَمْنَعُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ الْحُكَّامَ لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِعِلْمِهِمْ لَمْ يَشَأْ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْفَظَ وَلِيَّهُ وَيُهْلِكَ عَدُوَّهُ إِلَّا ادَّعَى عِلْمَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَا أَخَذْتُهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَقَالَتْ لَهُ: احْكُمْ لِي عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَرَدْتِ أَنْ أَشْهَدَ لَكِ فَنَعَمْ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ وَقَالَ:"مَنْ يَشْهَدُ لِي "فَقَامَ خُزَيْمَةُ فَشَهِدَ فَحَكَمَ. خَرَّجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُه
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك.
وهو قول أبي يوسف وأبي ثور واختاره المزني وهو قول الظاهرية.
واستدلوا بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ) متفق عليه.
فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها.
وقالوا: إن علم القاضي أقوى من الشهادة، لأن علمه يقين، والشهادة قد تكون كذباً.
والراجح الأول.
قال ابن قدامة: فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره، ولو كان حكماً عليه لم يحكم عليه في غيبته.
وقال ابن القيم: ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة ولا يُعطى المدعي بمجرد دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه وسلم.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن حكم القاضي لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً.
- عقوبة من أخذ مالاً بدون حق أنه يقتطع قطعة من النار.
- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب. قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).
- أن الرسول يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على غيره، لأنه صلى الله عليه وسلم يحكم على الناس بأمور الظاهر.
- مشروعية وعظ الخصوم وتحذيرهم من عاقبة الكذب.
1392 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ
1393 -
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ البَزَّارِ.
1394 -
وَآخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَه.
===
(كَيْفَ تُقَدَّسُ) بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال، أي: كيف تُطَهّر أمة وتنزه من الذنوب لا يُنتصف لضعيفها من قويها.
ما صحة حديث الباب؟
صحيح لشواهده.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد وجوب نصرة المظلوم حتى يؤخذ حقه من القوي.
عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم (انْصُرْ أخَاكَ ظَالماً أَوْ مَظْلُوماً) فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ، أنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُوماً، أرَأيْتَ إنْ كَانَ ظَالِماً كَيْفَ أنْصُرُهُ؟ قَالَ: تحْجُزُهُ - أَوْ تمْنَعُهُ - مِنَ الظُلْمِ فَإِنَّ ذلِكَ نَصرُه) رواه البخاري.
وفي حديث البراء قَالَ (أمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعِيَادَةِ الْمَريضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ) متفقٌ عَلَيْهِ.
وماذا نستفيد أيضاً؟
نستفيد أيضاً: عاقبة الظلم وخاصة ظلم الغني للفقير.
ففي هذا الحديث: ينفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم القداسة والطهارة عن الأمة التي تتسامح مع الظالم، ولا تنتصر للضعيف، وأن الأمة التي تنتصر للضعيف وتأخذ الحق له يُثنَي عليها ولو لم تكن مسلمة، ولهذا قال ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
وقال ابن عثيمين: فالمظلوم يستجيب الله دعاءه حتى ولو كان كافراً، فلو كان كافراً وظُلِم ودعا على من ظلمه أجاب الله دعاءه، لأن الله حكم عدل عز وجل، يأخذ بالإنصاف والعدل لمن كان مظلوماً ولو كان كافراً، فكيف إذا كان مسلماً؟! "
لقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف وأحاديث كثيرة: أن الظلم عاقبته وخيمة، وأن الله عز وجل يأخذ من الظالم للمظلوم حقه يوم القيامة، فلا يدخل أحدٌ الجنة ولأحدٍ من أهل النار عنده مظلمة، ولا يدخل أحدٌ النار ولأحدٍ من أهل الجنة عنده مظلمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء). وقال صلى الله عليه وسلم (من كانت عنده مَظْلَمَةٌ لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه).
والسيرة النبوية مليئة بالأحاديث والمواقف التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم ـ من خلالها على بيان خطورة الظلم، فلا قوة ولا أمان لأمة وهي ظالمة، ولا علو لمجتمع بغير العدل.
قال الله تعالى (وكم قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِين).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، قال: ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
قال المناوي: وفيه تسلية للمظلوم في الحال، ووعيد للظالم لئلا يغتر بالإمهال، كما قال تعالى (ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار).
وفي مقابل الظلم أكد النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة العدل مع القريب والبعيد، والمساواة في إقامة الحدود بين الناس غنيهم وفقيره، وشريفهم ووضيعهم، وفي قصّة المرأة المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح دليل واضع على ذلك.
فخيرية الأمة وقداستها في عدم معاونة الظالم والتبرأ من صنيعه:
قال صلى الله عليه وسلم (ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكونن عريفًا ولا شرطيًا ولا جابيًا ولا خازناً).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة ووزراء فسقة، وقضاة خونة وفقهاء كذبة، فمن أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكونن لهم كاتبًا ولا عريفًا ولا شرطياً).
1395 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (يُدْعَى بِالقَاضِي العَادِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمْرِهِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ: «فِي تَمْرَةٍ»).
===
ما صحة حديث الباب؟
سنده ضعيف.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: شدة حساب القضاة العادلين، فكيف حال الجائرين.
وقد تقدم أنه جاءت أحاديث في الترهيب من القضاء، وأحاديث في الترعيب.
فأحاديث الترغيب تحمل لمن وليه بلا طلب، وقام بحقه وعدل ولم تأخذه في الله لومة لائم.
وأحاديث الترهيب محمولة على من طلب القضاء ولم يعدل ولم يقم بحقه.
فائدة:
ولخطر وظيفة القضاء هرب منها كثير من العلماء:
في ترجمة عبدالله بن وهب في الغربال أنه كتب إليه الخليفة فاختفى في بيته، فاطلع عليه بعضهم يوماً فقال: يا ابن وهب ألا تخرج فتحكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين؟.
وهرب أبو قِلابة إلى مصر لما طلب للقضاء فلقيه أيوب فأشار إليه بالترغيب فيه، وقال له: لو ثبتَّ لنلتَ أجراً عظيماً، فقال له أبو قلابة: الغريق في البحر إلى متى يسبح؟!
جاء في موقع (الإسلام س ج): قد عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء، بل وقبَل بعضهم بالضرب والسجن على توليه، وهرب بعضهم من بلده من أجل أن لا يتولى القضاء، ويمكن إجمال أسباب عزوف أولئك الأئمة عن القضاء بالأسباب التالية:
أ-أنه يرى نفسه ليس أهلاً للقضاء، فالمعروف عن القضاء أنه يحتاج لسعة بال، وذكاء، وفطنة، وقد يرى الإمام العازف عن القضاء نفسه غير محقق لتلك الشروط.
ب-أنه يرى أنه غير واجب عليه، ولا مستحب، بل إن قولاً للإمام أحمد يحتمل أن يكون معناه: أنه لا يجب عليه حتى لو تعيَّن الأمر عليه، ولم يوجد غيره.
ج- أن فيه خطراً في الحكم بخلاف الحق، فيخشى العالِم على نفسه من تولي القضاء من أجل ذلك.
قال ابن قدامة: وفيه - أي: القضاء - خطر عظيم، ووزر كبير، لمن لم يؤدِّ الحق فيه، ولذلك كان السلف رحمة اللّه عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره".
وفي (الموسوعة الفقهية) كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه؛ وذلك خشيةً من عظيم خطره، كما تدلّ عليه الأحاديث الكثيرة والتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه.
د- عدم القدرة على تحمل بلاء القضاء
قال الشيخ أبو الحسن النباهي: ولما تقرر من بلاء القضاء: فرَّ عنه كثير من الفضلاء، وتغيبوا، حتى تركوا، وسُجن بسببه عند الامتناع آخرون، منهم أبو حنيفة، وهو النعمان بن ثابت، دعاه عمر بن هبيرة للقضاء، فأبى؛ فحبسه، وضربه أياماً، كل يوم عشرة أسواط، وهو متماد على إبايته، إلى أن تركه.
هـ- انشغالهم بما هو أهم، كانشغالهم بالرحلة في طلب العلم، وتعليم الناس
.
1396 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن المرأة لا يجوز لها أن تتولى القضاء.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
فهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وبعض الحنفية.
أ-لقوله الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
فالرجل قيم على المرأة، بمعنى أنه رئيسها وكبيرها والحاكم عليها، فالآية تفيد عدم ولاية المرأة، وإلا كانت القوامة للنساء على الرجال، وهو عكس ما تفيده الآية.
ب- ولقوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
فمنح الله تعالى الرجال درجة زائدة على النساء، فتولي المرأة لمنصب القضاء ينافي الدرجة التي أثبتها الله تعالى للرجال في هذه الآية لأن القاضي حتى يحكم بين المتخاصمين لا بد أن تكون له درجة عليهما.
- وعن أَبِي بَكْرَة قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً) رواه البخاري.
استدل الفقهاء بهذا الحديث على عدم جواز تولي المرأة القضاء، لأن عدم الفلاح ضرر يجب اجتناب أسبابه، والحديث عام في جميع الولايات العامة، فلا يجوز أن تتولاها امرأة، لأن لفظ (أمرهم) عام فيشمل كل أمر من أمور المسلمين العامة.
قال ابن حجر: قال ابن التين: استدل بحديث أبي بكرة من قال: لا يجوز أن تولى المرأة القضاء، وهو قول الجمهور.
وقال الشوكاني: فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد، ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عز وجل، فدخوله فيها دخولاً أولياً
قال ابن قدامة: وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ يَحْضُرُ مَحَافِلَ الْخُصُومِ وَالرِّجَالِ، وَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَمَالِ الرَّأْيِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ، وَالْمَرْأَةُ نَاقِصَةُ الْعَقْلِ، قَلِيلَةُ الرَّأْيِ، لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْحُضُورِ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَلْفُ امْرَأَةٍ مِثْلِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِنَّ وَنِسْيَانِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلَا لِتَوْلِيَةِ الْبُلْدَانِ.
وَلِهَذَا لَمْ يُوَلِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، امْرَأَةً قَضَاءً وَلَا وِلَايَةَ بَلَدٍ، فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ جَمِيعُ الزَّمَانِ غَالِبًا. (المغني)
اذكر بعض شروط القاضي؟
أن يكون بَالِغاً عاقلاً:
هذا الشرط الأول من شروط القاضي: أن يكون بالغاً عَاقِلاً.
لأنه بفواتهما تفوت القوة التي هي أحد ركني الكفاءة، ولأنهما هما بأنفسهما يحتاجان إلى ولي، فلا يمكن أن يكونا وليين على غيرهما.
أن يكون ذَكَراً:
هذا الشرط الثاني من شروط القاضي: أن يكون ذكراً. وقد تقدم.
أن يكون حُرّاً:
هذا الشرط الثالث من شروط القاضي: أن يكون حراً.
فلا يكون العبد قاضياً.
وهذا مذهب جمهور العلماء، يشترط أن يكون حراً.
قالوا: لأن القضاء منصب شريف، فلا يجوز أن يتولاه عبد، كالإمامة العظمى.
ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوع للفصل بين الخصوم، فحال الرقيق ينافي حال الولاية.
ولأنه مشغول بخدمة سيده.
أن العبد لا يصح أن يتولى الإمامة العظمى، فيقاس عليها عدم صحة توليه القضاء.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز أن يكون الرقيق قاضياً.
وهذا قول ابن حزم، ورجحه ابن تيمية، لعموم الأدلة، بشرط أن يأذن له سيده.
أن يكون مُسْلِماً:
هذا الشرط الرابع من شروط القاضي: أن يكون مسلماً.
فلا يُولّى الكافر.
لقوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).
ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقاضي يجب احترامه، وبينهما منافاة.
ولأن الإسلام شرط في الشهادة، فلأن يكون شرطاً في القضاء بطريق الأولى.
أن يكون عَدْلاً:
هذا الشرط الخامس من شروط القاضي: أن يكون عدلاً.
فلا يجوز تولية فاسق.
لأن الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) والحاكم يجيء بقول، فلا يجوز قبوله مع فسقه.
ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً، فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً بطريق الأولى.
ولأنه لا يؤمن أن يحيف لفسقه.
والعدل هنا: من كان قائماً بالواجبات، مبتعداً عن المحرمات، بعيداً عن الريب، ظاهر الأمانة، مأموناً في الغضب والرضا.
أن يكون سَمِيعاً:
هذا الشرط السادس من شروط القاضي: أن يكون سميعاً.
فلا يكون أصم.
لأن الْأَصَم لَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْخَصْمَيْنِ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني أقضي بنحو ما أسمع
…
).
أن يكون بَصِيرَاً:
هذا الشرط السابع من شروط القاضي: أن يكون بصيراً.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والمشهور من مذهب الشافعية، والحنابلة.
فالأعمى لا يصح أن يكون قاضياً.
أ-لأنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرَّ لَهُ، وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ. (المغني).
ب-أن عدم الإبصار يؤثر في قبول الشهادة، فكذلك يؤثر في تولي القضاء.
ج- أن الأعمى ربما خُدع من أحد الخصوم أو الشهود.
وقيل: لا يشترط.
بل يصح قضاء الأعمى، ونسبه ابن قدامة لبعض الشافعية.
أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم - وهو رجل أعمى - على المدينة، مما يدل على صحة تولي الأعمى للقضاء.
ونوقش هذا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استخلفه إماماً في الصلاة لا قاضياً، أو أن هذا خاص بابن أم مكتون.
ب- أن نبي الله شعيباً عليه السلام كان أعمى، والقضاء من وظائف الأنبياء عليهم السلام.
ونوقش هذا: أن هذا لم يثبت.
1397 -
وَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ الأَزْدِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَفَقِيرِهِم، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
===
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
قال ابن حجر في الفتح: إسناده جيد.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الوعيد الشديد لمن كان حاكماً بين الناس فاحتجب عنهم بغير عذر، لما في ذلك من تأخير الحقوق أو تضييعها.
ما حكم اتخاذ القاضي حاجباً؟
ذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينبغي للقاضي أن يتخذ حاجباً.
لحديث الباب.
وذهب آخرون: إلى أنه ينبغي للقاضي أن يتخذ حاجباً يدخل الخصوم إلى القاضي بالترتيب.
وأجابوا عن حديث الباب:
بأن المراد به الاحتجاب الذي يؤدي إلى تأخير القضاة النظر في حاجات الناس وفض الخصومات بينهم. (منحة العلام)
1398 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا النَّسَائِيَّ.
===
- (الراشي) هو دافع الرشوة.
(والمرتشي) هو آخذها.
عرف الرشوة؟
الرشوة: هي ما يدفع من مال ونحوه كمنفعة، ليتوصل به إلى ما لا يحل.
قال ابن حجر: الرشوة: بضم الراء وكسرها ويجوز الفتح وهي ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه.
وقال ابن العربي: الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عوناً على ما لا يحل، والمرتشي قابضه، والراشي معطيه والرائش الواسطة. (الفتح).
وقال الصنعاني: والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل، مأخوذ من الرشا وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر.
وقال أيضاً: وفي النهاية لابن الأثير قال: الراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ والرائش هو الذي يمشي بينهما وهو السفير بين الدافع والآخذ، وإن لم يأخذ على سفارته أجراً فإن أخذ فهو أبلغ (أي بالإثم والحرمة). (سبل السلام)
ما حكم الرشوة؟
حرام وكبيرة من كبائر الذنوب.
أ- لحديث الباب.
ب-ولحديث ثوبان رضي الله عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما) رواه أحمد، وهو ضعيف بهذه الزيادة.
ج-وقال تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت) قال الحسن وسعيد بن جبير: هو الرشوة.
د-وقوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون).
قال الشيخ ابن عثيمين: وهي محرمة لما يلي:
أولاً: للحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.
ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.
ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عز وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله عز وجل.
رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً؛ لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.
خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل المال بالباطل، لأنه ليس من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؛ لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على الحكم بالحق، والحكم بالحق لا يجوز أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها أعانةً لأكل المال بالباطل.
سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.
-
متى يجوز دفع الرشوة؟
يجوز دفع الرشوة، إذا لم يتمكن الإنسان من الوصول إلى حقه إلى بها، وتكون حينئذ حراماً على الآخذ دون المعطي.
قال ابن حزم رحمه الله: ولا تحل الرشوة: وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل، أو ليولي ولاية، أو ليظلم له إنسان، فهذا يأثم المعطي والآخذ.
فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي، وأما الآخذ فآثم. (المحلى).
وقال ابن تيمية رحمه الله: إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه، أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراماً على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً، قيل: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل) ومثل ذلك: إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو كان ظالماً للناس فإعطاء هؤلاء جائز للمعطي، حرام عليهم أخذه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " أما الرشوة التي يتوصل بها الإنسان إلى حقه، كأن لا يمكنه الحصول على حقه إلا بشيء من المال، فإن هذا حرام على الآخذ وليس حراماً على المعطي، لأن المعطي إنما أعطى من أجل الوصول إلى حقه، لكن الآخذ الذي أخذ تلك الرشوة هو الآثم لأنه أخذ ما لا يستحق " انتهى نقلا عن "فتاوى إسلامية"(4/ 302).
قال الخطابي: الراشي: المعطي، والمرتشي: الأخذ، وإنما تلحقهما العقوبة معًا إذا استويا في القصد والإرادة، فرشا المعطي لينال به باطلًا، ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا رشا ليتوصل به إلى حق، أو يدفع به عن نفسه ظلمًا، فإنه غير داخل في هذا الوعيد، وقد روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله.
ومما يدل على ذلك: واستدلوا ما رواه أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا، وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلا نَارٌ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي هؤلاء المال مع أنه حرام عليهم، حتى يدفع عن نفسه مذمة البخل.
1399 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
===
ما صحة حديث الباب؟
سنده ضعيف.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد وجوب العدل بين الخصمين.
قال الفقهاء: وعليه أن يَعْدلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ.
أي: ويجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما عليه.
لحظه: أي النظر، فلا ينظر إلى أحد الخصمين نظرة غضب وللآخر نظرة رضا.
لفظه: أي كلامه، فلا يلين لأحدهما ويغلظ للآخر.
لقوله تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).
وقال تعالى (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).
قال ابن رشد: "اجمعوا على أنه واجب على القاضي أن يسوي بين الخصمين في المجلس.
ما الحكم إن ترافع إليه مسلم وكافر؟
قيل: يرفع مجلس المسلم على الكافر.
وقيل: لا فرق بين مجلس المسلم ومجلس الكافر، بل يجب العدل.
وهذا الصواب.
بَابُ اَلشَّهَادَاتِ
تعريفها:
الشهادة لغة: تطلق الشهادة في اللغة على معان منها:
الحضور، ومنه قوله تعالى:(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
والمعاينة، ومنه قوله تعالى:(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ).
والقسم، ومنه قوله تعالى:(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ).
والخبر القاطع، ومنه قوله:(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا).
واصطلاحاً: إخبار بحق يعلمه للغير على الغير.
قولنا (يعلمه) فلا بد من علمه بالشيء، فلا يمكن أن يشهد بالظن.
والأصل فيها:
قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِنْ لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء).
وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ).
وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ).
وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالإشهاد، والأمر دليل المشروعية.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:
عن الأشْعَث بْنَ قَيْس قال (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ). رواه مسلم
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الشهادة صراحة فقال: شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
وقَدِ انْعَقَدَ الإْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِثْبَاتِ الدَّعَاوَى.
أَمَّا الْمَعْقُول: فَلأِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُول التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
1400 -
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ اَلْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ اَلشُّهَدَاءِ؟ اَلَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) رَوَاهُ مُسْلِم.
1401 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ اَلسِّمَن) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
إلى كم قسم تنقسم الشهادة؟
الشهادة تنقسم إلى قسمين:
تحمل، وأداء.
تحمل: ويكون ذلك بشهود الواقعة (التزام الإنسان بالشهادة).
وأداء: ويكون ذلك عند الحاكم وهو الإخبار عن الواقعة المشهود بها.
مثال: لو أردت أن أبيع بيتي على شخص، وقلت لشخصين تعالا فاشهدا، فهذا يسمى تحملاً، ولو وصل الأمر إلى القاضي بسبب عيب أو غير ذلك، وطلب منهما الشهادة عنده، فشهادتهما تسمى أداءً.
ما حكم كل منهما؟
تحمل الشهادة: في حقوق الآدميين فرض كفاية (إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي).
لقوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) أي: إذا دعوا.
وعلى هذا فإذا طلب منك شخص أن تشهد على إقرار دين بحق له، فالشهادة فرض كفاية، إن قام بها من يكفي سقطت عن الباقي وإلا وجبت عليك.
- فإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه (فرض عين).
مثال: دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك، فيجب أن تجيب، لأنه لايوجد من يقوم بالكفاية. [الشرح الممتع]
- وجه تعين تحمل الشهادة إذا لم يوجد إلا الكفاية: أن الواجب لا يتم إلا بهم فتكون المسؤولية على جميعهم.
وَأَدَاؤُهَا: فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَهَا، مَتَى دُعِيَ إِلَيْهِ.
أي: وأداء الشهادة - على من تحملها - عند القاضي فرض عين.
أ-لقوله تعالى (ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)، [وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها].
ب-ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات.
ج-ولأن امتناعه من أداء الأمانة التي تحملها قد يكون سبباً في ضياع الحقوق.
لكن بشرط أن يدعى إليها، فإن لم تطلب منه الشهادة فلا تجب، إلا في حالة واحدة وهي: إذا كان صاحب الحق لا يعلم عن هذه الشهادة، أو نسي البينة، ففي هذه الحال تتعين الشهادة.
مثاله: تبايع رجلان، وكان هناك رجل ثالث أو رابع يسمعان هذا العقد، ثم إنه حصل منازعة عند القاضي بين هذين المتبايعين، فهنا صاحب الحق لا يعلم بشهادة الشهود، فيجب عليهما أن يأتيا ويشهدا.
وكذلك لو أن صاحب الحق نسي الشاهد، فهنا يجب أن يأتي ويشهد.
جاء في (الموسوعة الفقهية) تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) وقَوْله تَعَالَى (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) وَقَوْلُهُ (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
وَلأِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأْمَانَاتِ. فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي سَقَطَ الإْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَع.
إذاً كان لا يجب أداء الشهادة إلا إذا دعي إليها كما سبق، فما الجواب عن حديث الباب (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ اَلشُّهَدَاءِ؟ اَلَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا).
هذا الحديث محمول على: إن كان المشهود له لا يعلم بالشهادة، فإن الشاهد يؤديها وإن لم يسألها، وإن كان المشهود له عالماً ذاكراً فإنه لا يشهد حتى تطلب منه الشهادة.
قال الحافظ ابن حجر: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى اَلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَأَجَابُوا بِأَجْوِبَة:
أَحَدُهَا: أَنَّ اَلْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْد: مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَة لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا اَلْعَالِمُ بِهَا وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي اَلشَّاهِدُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ اَلْأَجْوِبَةِ، وَبِهَذَا أَجَابَ يَحْيَى بْن سَعِيد شَيْخُ مَالِك، وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا.
وقال النووي: وَفِي الْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ .... ) تأْوِيلَانِ:
أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهُمَا: تَأْوِيل مَالِك وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ عِنْده شَهَادَة لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ، وَلَا يَعْلَم ذَلِكَ الْإِنْسَان أَنَّهُ شَاهِد، فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرهُ بِأَنَّهُ شَاهِد لَهُ.
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ)؟
قيل في معناه:
أ-أنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ مَعَهُ شَهَادَة لِآدَمِيِّ عَالِم بِهَا فَيَأْتِي فَيَشْهَد بِهَا قَبْل أَنْ تُطْلَب مِنْهُ.
ب-أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى شَاهِد الزُّور فَيَشْهَد بِمَا لَا أَصْل لَهُ وَلَمْ يُسْتَشْهَد.
ج- أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَنْتَصِب شَاهِدًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْل الشَّهَادَة.
د- أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَشْهَد لِقَوْمٍ بِالْجَنَّةِ أَوْ النَّار مِنْ غَيْر تَوَقُّف وَهَذَا ضَعِيف. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم)
فائدة:
قوله في حديث عمران (ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ اَلسِّمَن).
(وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ) قال النووي: وَمَعْنَاهُ يَخُونُونَ خِيَانَة ظَاهِرَة بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهَا أَمَانَة، بِخِلَافِ مَنْ خَانَ بِحَقِيرٍ مَرَّة وَاحِدَة؛ فَإِنَّهُ يَصْدُق عَلَيْهِ أَنَّهُ خَانَ، وَلَا يَخْرُج بِهِ عَنْ الْأَمَانَة فِي بَعْض الْمَوَاطِن.
قوله (وَيَنْذِرُونَ، وَلَا يَفُونَ).
أي: لا يؤدون ما وجب عليهم.
فِيهِ وُجُوب الْوَفَاء بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاجِب بِلَا خِلَاف، وَإِنْ كَانَ اِبْتِدَاء النَّذْر مَنْهِيًّا عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فِي بَابه.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَائِل لِلنُّبُوَّةِ، وَمُعْجِزَة ظَاهِرَة لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ كُلّ الْأُمُور الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ.
ففي هذا وجوب الوفاء بالنذر، وفي الحديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
وفيه مدح الوفاء بالنذر.
- قوله (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ).
فبكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون، أي: يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن بالتشديد، قال بن التين: المراد ذم محبته وتعاطيه لا من تخلق بذلك، وقيل المراد يظهر فيهم كثرة المال، وقيل: المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف، ويحتمل: أن يكون جميع ذلك مراداً.
وقد رواه الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين بلفظ (ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن) وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب وإنما كان مذموماً، لأن السمين غالباً بليد الفهم ثقيل عن العبادة كما هو مشهور. (الفتح).
قال النووي: السَّمَانَة بِفَتْحِ السِّين هِيَ السِّين هِيَ السِّمَن، قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: الْمُرَاد بِالسِّمَنِ هُنَا كَثْرَة اللَّحْم، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَكْثُر ذَلِكَ فِيهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَمَحَّضُوا سِمَانًا، قَالُوا: وَالْمَذْمُوم مِنْهُ مَنْ يَسْتَكْسِبُهُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِيهِ خِلْقَة فَلَا يَدْخُل فِي هَذَا، وَالْمُتَكَسِّب لَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّع فِي الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب زَائِدًا عَلَى الْمُعْتَاد، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالسِّمَنِ هُنَا أَنَّهُمْ يَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَيَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الشَّرَف وَغَيْره، وَقِيلَ: الْمُرَاد جَمْعهمْ الْأَمْوَال.
1402 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ اَلْقَانِعِ لِأَهْلِ اَلْبَيْتِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
1403 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه.
===
(لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ) أي: لا تقبل، والمراد بالخائن من يخون فيما ائتمن عليه.
(وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ) قال الخطابي: الغِمْر: هو الذي بينه وبين الشهود عداوة ظاهرة.
(وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ اَلْقَانِعِ لِأَهْلِ اَلْبَيْتِ) القانع: هو الخادم الذي ينفق عليه أهل البيت.
ما صحة حديث الباب؟
حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. واللفظ لأحمد، وزاد: "وتجوز شهادته لغيرهم).
وحديث أبي هريرة صحيح.
ماذا نستفيد من الأحاديث؟
نستفيد أن هناك من لا تقبل شهادتهم: الخائن، لأنه يشترط في الشاهد العدالة.
فمن شروط الشهادة: العدالة فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ.
جاء في (الفقه الإسلامي) اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَشْهَدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ لِذَلِكَ.
وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فَأَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ).
وَلِأَنَّ دِينَ الْفَاسِقِ لَمْ يَزَعْهُ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتِ الدِّينِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ لَا يَزَعَهُ عَنْ الْكَذِبِ، فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِخَبَرِهِ. (المغني)
فائدة:
والعدل: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ: وَهُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ بِأَنْ لَا يَأْتِي كَبِيرَةً، وَلَا يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرة واسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُجَمِّلُهُ، وَيَزِينُهُ، وَاجْتِنابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
هذا هو العدل.
واختار ابن تيمية، واختاره بعض العلماء: من رضيه الناس.
للآية (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ). فكل مرضيٍّ عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته فهو مقبول.
قال السعدي: وهذا أحسن الحدود، ولا يسع الناس العمل بغيره.
قال ابن تيمية: بَابُ الشَّهَادَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مَرْضِيًّا أَوْ يَكُونَ ذَا عَدْلٍ يَتَحَرَّى الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ هَذَا مَعَ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَات.
وممن لا تقبل شهادته: شهادة العدو على عدوه.
لقوله (وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ).
كمن شهد على من قذفه، أو قطع الطريق عليه.
جاء في (حاشية الروض) وهو مذهب مالك، والشافعي، وحجتهم قوله (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين) رواه أبو داود، وقال ابن القيم: منعت الشريعة، من قبول شهادة العدو على عدوه، لئلا تتخذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه، بالشهادة الباطلة.
وقد أجمع الجمهور، على تأثيرها في الأحكام الشرعية. (الحاشية)
جاء في (الموسوعة الفقهية) تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لِتُهْمَةِ قَصْدِ الإْضْرَارِ وَالتَّشَفِّي إِذَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ دُنْيَوِيَّةً عِنْدَ الأْكْثَرِ؛ لأِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ، وَهُوَ التَّشَفِّي مِنَ الْعَدُوِّ فَيَصِيرُ مُتَّهَمًا كَشَهَادَةِ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ. أَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ فَلَا تَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ اتِّفَاقًا. (الموسوعة)
فإذا قذف رجل شخصاً بالزنا، ثم في يوم من الأيام شهد المقذوف على من قذفه بالزنا، فإن الشهادة لا تقبل؛ لأن قذفه إياه بالزنا سببٌ للعداوة، أما من شهد بأن فلاناً قذفه فليس هذا مراد، لأن هذا ليس بشاهد ولكنه مدعٍ.
وإذا شهد رجل على من قطع الطريق عليه، نقول: إن شهادته لا تقبل؛ من أجل التهمة. (الشرح الممتع)
فائدة:
ضابط العداوة:
(مَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ شَخْصٍ، أَوْ غَمَّهُ فَرَحُهُ فَهُوَ عَدُوُّهُ).
هذا ضابط العدو: هو الذي يفرح بحزنك، ويغمه فرحك.
ماذا نستفيد من قوله (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ اَلْقَانِعِ لِأَهْلِ اَلْبَيْتِ)؟
نستفيد عدم قبول شهادة الشاهد إذا كان فيه وصف يخشى معه أن يميل فيشهد بخلاف الحق، كالخادم لأهل البيت، لأنه مظنة تهمة دفع الضرر عنهم وجلب الخير لهم.
هل تقبل شهادة الوالد لولده، والولد لوالده؟
أكثر العلماء على عدم قبولها. فلا تقبل شهادة الوالد لولده وإن نزل، وشهادة الولد لوالده وإن نزل.
العلة: للتهمة بقوة القرابة.
لحديث عَائِشَة، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ).
وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالْأَبُ يُتَّهَمُ لِوَلَدِهِ.
قال ابن تيمية: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَل.
وقال الشوكاني: اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَكْسُ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَعَلَّلُوا بِالتُّهْمَةِ فَكَانَ كَالْقَانِعِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَشُرَيْحٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْعِتْرَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: إنَّهَا تُقْبَلُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: (ذَوَيْ عَدْلٍ)، وَهَكَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَلْآخَرِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَابَةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةٌ لَلتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا الْمُحَابَاة. (نيل الأوطار)
هل تقبل شهادة الزوجين للآخر؟
لا تقبل.
لوجود الصلة بينهم، وهي مظنة النهمة.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ تُهْمَةِ الْمَحَبَّةِ وَالإْيثَارِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ.
وَقَالُوا: لأِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ الآْخَرَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ وَتَتَبَسَّطُ الزَّوْجَةُ فِي مَال الزَّوْجِ، وَتَزِيدُ نَفَقَتُهَا بِغِنَاهُ فَلَمْ تُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ بِتُهْمَةِ جَرِّ النَّفْع.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل شَهَادَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ؛ لأِنَّ الأْمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا فَلَا تُهْمَة.
هل تقبل شهادة البدوي على الحضري؟
ذهب بعض العلماء إلى عدم قبولها.
لحديث الباب (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ).
وذهب الأكثر إلى قبولها.
لحديث ابن عباس (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال
…
).
فقد قبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي في إثبات دخول رمضان، وهو في الصوم، فيقاس عليه غيره من الأحكام.
وأما حديث الباب: محمول على من لا تعرف عدالته من أهل البادية.
قال أبو بكر اِلْجَصَّاص: اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ هِيَ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا.
وقال الإمام الشوكاني: ذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم ا. هـ. وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدوياً غير مناسب لقواعد الشريعة لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطاً شرعياً ولعدم انضباطه فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها يعدم ولم يذكر صلى الله عليه وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة وإلا فقد قبل صلى الله عليه وسلم في الهلال شهادة بدوي .... (نيل الأوطار)
وقال القرطبي:
…
فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلاً مرضياً وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو -أي البدوي- من رجالنا وأهل ديننا. وكونه بدوياً ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي، قال الله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ) وقال تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فمنكم خطاب للمسلمين. (تفسير القرطبي)
فائدة:
أما الذين لم يجيزوا شهادة البدوي على الحضري فيرون أن لذلك أسباباً منها أنه يغلب على أهل البادية الجهل بأحكام الدين عامة والشهادة خاصة.
قال الخطابي: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها عن وجهها.
1404 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ (إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ اَلْوَحْيَ قَدْ اِنْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُم اَلْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.
===
(كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ) أي: يعرف الصادق فيهم من الكاذب بإعلام الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بواسطة الوحي في زمنه صلى الله عليه وسلم.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد قبول شهادة من لم تظهر منه ريبة، نظراً إلى ظاهر حاله.
-
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
إجراء الأحكام الإسلامية على ظواهر الناس وما يصدر منهم من أعمال.
الحساب يوم الجزاء يكون على ما أخفى العبد من سريرته، فإن كانت حسنة فحسن، وإن كانت شرا فجزاؤه من جنس عمله.
لا تُسوِّغ النية الحسنة فعل المعصية، ولا تسقط إقامة الحدود والقصاص.
إخبار عمر رضي الله عنه عن أحوال الناس في فترة النبوة وما بعدها.
1405 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَدَّ شَهَادَةَ اَلزُّورِ فِي أَكْبَرِ اَلْكَبَائِرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيث.
===
لفظ الحديث كاملاً:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ).
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
فيه تحريم شهادة الزور وأنها من الكبائر.
تعريفها:
وهي الكذب متعمداً في الشهادة، فكما أن شهادة الزور سبب لإبطال الحق، فكذلك كتمان الشهادة سبب لإبطال الحق.
قال القرطبي: شهادة الزور: هي الشهادة بالكذب؛ ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مالٍ، أو تحليل حرامٍ، أو تحريم حلال.
-
لماذا كانت من أكبر الكبائر؟
لأنها يتوصل بها إلى إتلاف النفوس والأموال، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فلا شيء في الكبائر أعظم ضرراً ولا أكثر فساداً منها بعد الشرك.
فشهادة الزور هي: أن يشهد الإنسان أمام حاكم أو نحوه بغير علم، ويتحرى الباطل ويكذب، وهذه الشهادة يترتب عليها:
ضياع الحقوق.
وطمس معالم العدل.
وإعانة الظالم.
وإعطاء المال أو الحقوق لغير مستحقيها.
وتقويض أركان الأمن؛ إذ يجرؤ الناس على ارتكاب الجرائم، واقتراف الآثام؛ اتِّكالاً على وجود أولئك الفسقة العصاة الآثمين المجرمين.
قال الإمام الذهبي: إن شاهد الزور قد ارتكب عظائم:
أحدها: الكذب والافتراء.
ثانيها: أنه ظلَمَ الذي شهد عليه حتى أخذ بشهادته مالَه وعرضه، وروحه (أحيانًا).
ثالثها: أنه ظلم الذي شهد له بأن ساق إليه المال الحرام، فأخذه بشهادته، فوجبت له النار؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قضيت له من مال أخيه بغير حق، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار.
رابعها: أنه أباح ما حرَّم الله تعالى وعصمه من المال والدم والعرض" اهـ.
قال بعض العلماء: وإن في شهادة الزور ثلاثة آثام:
الإثم الأول: كونها معصية، وإثمًا من أكبر الآثام والكبائر، فبها يظلم الإنسان نفسه لكذبه وافترائه.
الإثم الثاني: إعانة الظالم على ظلمه؛ حيث يشهد له ويساعده على أكل أموال الناس بالباطل، وإباحة ما حُرِّمَ عليه من حقوقهم.
الإثم الثالث: خذلان المظلوم؛ حيث يؤخذ بهذه الشهادة ماله، وعرضه، ودمه، فيبني القاضي عليه حكمه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنما أنا بشر مثلكم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له في مال أخيه بغير حق فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار).
-
اذكر الأدلة على تحريمها؟
جاءت الأدلة الكثيرة بتحريم ذلك:
قال تعالى (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور): " (مِنْ) هنا لبيان الجنس؛ أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بقول الزور كقوله (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون)، ومنه شهادة الزور.
وقال تعالى (والَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وقيل المراد بقوله تعالى (لَا يَشْهَدُونَ الزُّور) أي: شهادة الزور، وهي الكذب مُتَعَمِّدًا على غيره"؛ اهـ.
فهذا لما فيه من ضياع للحقوق، أو ظلم لبريء، أو تبرئة لظالم، وهذا كذب وزور، فينبغي أن تكون الشهادة كما ورد في كتاب الله تعالى (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا).
وأما الأحاديث:
فحديث الباب.
وعن أنس رضي الله عنه قال (سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر؟ فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور) رواه البخاري.
وكثرة شهادة الزور من علامات الساعة:
جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (إن بين يدي الساعة
…
شهادة الزور وكتمان شهادة الحق) رواه أحمد.
ومن صفات عباد الرحمن التي ذكرها الله في القرآن في آخر سورة الفرقان أنهم لا يشهدون الزور.
كما في قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَاذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).
وتدبر قوله تعالى في سورة الحج (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ففي هذه الآية أمر الله تعالى باجتناب الشرك واجتناب قول الزور.
ومن شناعة شهادة الزور أو قول الزور أنه يخدش صيام الصائم.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
ما الدليل على شدة تحريم شهادة من الحديث؟
في الحديث شدة تحريم شهادة الزور، لقوله (وكان صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فما زال يكررها).
قال الحافظ: قَوْلُهُ (وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اهْتَمَّ بِذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمَ قُبْحِهِ.
وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ الزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ أَسْهَلَ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ وَالتَّهَاوُنِ بِهَا أَكْثَرَ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ وَالْعُقُوقَ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعُ وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا فَاحْتِيجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَةِ الزُّورِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى غَيْرِ الشَّاهِدِ بِخِلَافِ الشِّرْكِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ قَاصِرَةٌ غَالِباً. (الفتح).
وقوله (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ: شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْه.
وقال النووي: وَأَمَّا قَوْله: (فَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) فَجُلُوسه صلى الله عليه وسلم لِاهْتِمَامِهِ بِهَذَا الْأَمْر، وَهُوَ يُفِيد تَأْكِيد تَحْرِيمه، وَعِظَم قُبْحه.
وَأَمَّا قَوْلهمْ (لَيْتَهُ سَكَتَ) فَإِنَّمَا قَالُوهُ وَتَمَنَّوْهُ شَفَقَة عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَكَرَاهَة لِمَا يُزْعِجهُ وَيُغْضِبهُ.
وجاء في (سبل السلام) وَإِنَّمَا اهْتَمَّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْبَارِهِمْ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَجَلَسَ، وَأَتَى بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَكَرَّرَ الْإِخْبَارَ؛ لِكَوْنِ قَوْلِ الزُّورِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ: أَسْهَلَ عَلَى اللِّسَانِ، وَالتَّهَاوُنِ بِهَا أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّ الْحَوَامِلَ عَلَيْهِ (قول الزور) كَثِيرَةٌ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا، فَاحْتِيجَ إلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ، فَإِنَّهُ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَتَعَدَّى مَفْسَدَتُهُ إلَى غَيْرِ الْمُشْرِكِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الزُّورِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى مَنْ قِيلَ فِيه. (سبل السلام)
فائدة:
وليعلم: أن من شهادة الزور أن يشهد الشاهد من غير تثبت ولا تبيّن.
والدليل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ان جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ان تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
لأن في الشهادة من غير تثبت ظلما للناس، وضياعاً لحقوقهم، وتشويهاً لسمعتهم، وقد تصل درجة الضرر ببعض من شهد عليهم بالباطل أن تسفك دماؤهم أو تتلطخ أعراضهم أو تختلط انسابهم أو يحصل لهم غير ذلك من الأضرار والمفاسد الكثيرة بسبب شهادة الزور وعدم التثبت بها.
1406 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: "تَرَى اَلشَّمْسَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ) أَخْرَجَهُ اِبْنُ عَدِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ فَأَخْطَأ.
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح كما قال المصنف.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن الشاهد لا يجوز له أن يشهد إلا على ما يعلمه يقيناً كما تُعلم الشمس بالمشاهدة، فلا يجوز أن يشهد أحد بالقرينة أو بغلبة الظن بل لا بد بما يعلمه يقيناً.
لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
قال المفسرون هنا: وهو يعلم ما شهد به؛ عن بصيرة وإيقان.
ولأن الشهادة خبر عن أمر واقع فلا بد أن يعلم هذا الأمر الواقع.
ولحديث الباب، وهو ضعيف، لكن معناه صحيح، فهو يدل على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على ما يعلمه يقيناً، كما تُعلم الشمس بالمشاهدة.
ويؤيد ذلك قوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) فإن معنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به.
فائدة:
فإن شهد الشاهد بما لم يتيقنه: كان آتيا بشهادة زور.
ما هي طرق العلم؟
أ-رؤية المشهود به.
كما سبق لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
قال الشيخ ابن عثيمين: لا يشترط علم المشهود عليه بوجود الشاهد، فلو أن صاحب الحق أتى بالمطلوب في مكان وجعل واحداً يشهد مختبئاً، فإن ذلك يجوز، لأن هذا الذي عليه الحق إذا كان منفرداً صاحب الحق أقر له وإذا كان عنده أحد أنكر، فتحيّل صاحب الحق وفعل ذلك، وهذه حيلة لكنها حيلة جائزة للتوصل للحق.
ب-أَوْ سَمَاعٍ:
هذه الطريقة الثانية: وهي السماع من المشهود عليه.
مثل: أن يسمعه وهو يطلق امرأته أو يسمعه وهو يبيع أو ينكح، أو يسمعه يقر أن لفلان عليه ديناً، أو استأجر منه داره أو اشترى منه سيارة وما أشبه ذلك.
ج-أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ فِيْمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ بِدُونِهَا:
هذه الطريقة الثالثة من طرق العلم: وهي الاستفاضة.
وهي انتشار الخبر وشيوعه بأن يشتهر المشهود به بين الناس فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضاً، فيشهد الشاهد على واقعة لم يشهدها ببصره ولم يدركها بسمعه.
- والاستفاضة لا تقبل إلا فيما يتعذر علمه في الغالب بدونها، كالنسب والولادة والموت والرضاع.
لأنه لو منع من الشهادة بالاستفاضة فيما ذكر لوقع الناس في حرج عظيم، لأن مثل هذه الأمور تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدة أسبابها.
1407 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَبُو دَاوُدَ. وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: إِسْنَادُ [هُ] جَيِّد.
1408 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِثْلَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن للقاضي أن يحكم بالشاهد الواحد ويمين المدعي، وذلك إذا أقام المدعي شاهداً وعجز عن الإتيان بشاهد آخر.
وهذا المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء:
تحرير محل النزاع:
أ- اتفق الفقهاء على أنه لا يُقضى باليمين مع الشاهد في الحقوق الجزائية، وبشكل خاص جرائم الحدود.
ب- اتفق الفقهاء على أنه لا يُقضى باليمين مع الشاهد في الدماء والقصاص، وشذَّ في ذلك الظاهرية.
جـ- انحصرَ خلاف الفقهاء في الحقوق المالية، هل تثبت بشهادة الشاهد الواحد ويَمين المدَّعي، أم لا؟
القول الأول: يقبل القضاء بشاهد مع يمين المدعي.
وبه قال: المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
أ-لحديث الباب.
ب-آثار وردت عن عدة من الصحابة.
روي أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد، ويمين المدعي.
رُوي عن سعد بن عبادة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما: جواز القضاء بالشاهد واليمين.
وجه الاستدلال بهذه الآثار: تفيد هذه الآثار بوضوح أن كبار الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقضون باليمين مع الشاهد الواحد، وهم لا يفعلون ذلك إلا عن توقيف وسَماع من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا مدخل للرأي في ذلك، وهذا دليل واضح على جواز القضاء بالشاهد واليمين.
ج- المعقول:
إن اليمين تُشرع في حق من قوي جانبه في الدعوى؛ ولذلك شرعت في حق المُنكِر؛ لأن موقفه في الدعوى أقوى من موقف المدعي؛ لأنَّ الظاهر يؤيد المُنكِر، وكذلك الأمر في حق المدعي؛ لأن جانبه في الدعوى يقوى بشهادة الشاهد على جانب المدَّعى عليه، فتُشرع اليمين في حقه، تأكيدًا لرجحان موقفه في الدعوى، ونفيًا للتهمة، وهذا يكفي في إثبات الدعوى.
القول الثاني: لا يقبل القضاء بالشاهد مع اليمين.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
ويُنسب هذا الرأي إلى الثوري والنخعي والأوزاعي وابن شبرمة والليث بن سعد، وبه قال بعض المالكية.
واستدلُّوا على ذلك، بما يلي:
أ- قال تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).
وجه الاستدلال: أن الآية نص صريح في اشتراط العدد في الشهود، فلا يجوز أقل من هذا العدد بمفهوم المخالفة.
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (البيِّنة على المدَّعي واليمين على المدعى عليه).
جـ- عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه، وجعْلها على المدعي مخالفة لهذا الحديث.
أيضاً: الأحاديث لم تُشر إلى شهادة الشاهد مع يمين المدَّعي، فدلَّ ذلك على عدم جواز القضاء بالشاهد واليمين.
والقول الأول أرجح.
بَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ
الدعاوى: جمع دعوى، وهي: أن يضيف الإنسان إلى نفسه حقاً على غيره.
والبينات جمع بينة: وهي ما يَبين الحق ويظهره كالشهود.
1409 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح (الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ).
===
- (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) أي: بمجرد دعواهم وطلبهم دون ما يثبت ذلك.
(وَلَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وهو من عليه الحق.
عرف المدعِي والمدعَى عليه؟
المدعي: هو الذي يدعي الحق فيضيف الشيء إلى نفسه.
والمدعَى عليه: هو الذي عليه الحق.
اذكر منزلة هذا الحديث؟
قال القرطبيّ: وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام، يقتضي ألا يُحكَم لأحد بدعواه - وإن كان فاضلًا شريفًا - في حقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقَرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوّي دعواه، وإلا فالدَّعاوي متكافئة، والأصل: براءة الذمم من الحقوق، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة، وتترجَّحُ به الدعوى.
وقال النووي: وهذا الحديث قاعدة كبيرةٌ من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنَّه لا يُقْبَل قول الإنسان فيما يدّعيه بمجرد دعواه، بل يَحتاج إلى بيّنة، أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعَى عليه فله ذلك، وقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يُعْطَى بمجرد دعواه؛ لأنه لو كان أُعطي بمجردها لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح، ولا يمكن المدعَى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة. انتهى.
وقال السعدي: هذا الحديث عظيم القدر، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع، هذا يدعي على هذا حقاً من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه، فبين صلى الله عليه وسلم أصلاً بفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل، فمن ادعى عيناً من الأعيان، أو ديناً، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع المنكر، فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكمَ له به، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمين.
ما معنى هذا الحديث؟
معناه: أن من ادعى مالاً ونحوه فعليه البينة، فإن لم يكن له بينة - ولم يقر المدعَى عليه - حلف المدَّعَى عليه وبرئ وخَلّى سبيلَه
أي: أن من ادعى مالاً ونحوه على شخص فعليه البينة، أي: يطالب أن يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة، وهي البينة.
والبينة. ما يظهر به الحق ويبين به، كالشهود وغيرهم.
فإن جاء بالبينة سمعها وكان ذات عدل: حكم بمقتضاها.
فإن لم يكن للمدعِي بينة - لا رجلان، ولا رجل وامرأتان، ولا رجل ويمين - ولم يقر بالحق، فإن القاضي يطلب من المدعى عليه أن يحلف على البراءة فيقول: والله ما له عندي شيء، ويبرأ ويخلي سبيله.
لحديث الباب (البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
فالبينة على المدعي، أي يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة، ومن البينة الشهود، الذين يشهدون على صدقه.
قال النووي:
…
وهذا الحديث قاعدة كبيرةٌ من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنَّه لا يُقْبَل قول الإنسان فيما يدّعيه بمجرد دعواه، بل يَحتاج إلى بيّنة، أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعَى عليه فله ذلك.
فائدة: 1
الحكمة في كون البينة على المدعي.
لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك.
فائدة: 2
أنه إذا لم يجد المدعي بينة ولا شهوداً، فإن القاضي يطلب من المدعَى عليه أن يحلف أن ما ادعاه عليه المدعي غير صحيح ويكون الحكم له بيمينه.
ما الحكم إن نكل ورفض المدعى عليه الحلف؟
إن رفض المدعَى عليه أن يحلف، فإنه يقضَى عليه بالنكول، بمعنى أنه يحكم عليه بما ادعي عليه به.
والنكول: هو الامتناع عن اليمين الموجهة من الحاكم إلى المدعى عليه، أو المدعي.
أ- لورود ذلك عن عثمان.
ب- ولأن امتناعه عن اليمين قرينة ظاهرة تدل على صدق المدعِي، فإنه لولا صدقه لدفع المدعىَ عليه دعواه باليمين، فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة دالة على صدق المدعِي، فقدمت على أصل براءة الذمة.
فيقضى عليه بالنكول بمجرد رفضه الحلف ولا ترد على المدعي.
مثال: ادعى زيد على عمرو (100) ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بيّنة، وطلب أن يحلف المُنكر - الذي هو عمرو - فقال عمرو: لا أحلف، فعلى هذا القول: يحكم عليه بالنكول ولا نقول لزيد - المدعي - احلف أنك تطلبه كذا وكذا.
لقوله صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فلم يجعل في جانب المدعي إلا البينة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن اليمين ترد على المدعي (وهو طالب الحق)، وهو إن كان صادقاً في دعواه فالحلف لا يضره، وإن كان كاذباً فقد يهاب الحلف ولا يحلف. [الشرح الممتع: 15/ 321]
وفي هذه الحالة: إذا حلف أخذ ما ادعى به واستحق المتنازع عليه.
واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق) رواه الدارقطني وهو حديث ضعيف [معنى رد الحق: تنقل من المدعَى عليه إلى المدعِي].
ولأنه إذا رفض المدعي عليه أن يحلف ظهر صدق المدعي، فقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه كما كانت تشرع في حق المدعى عليه قبل نكولهِ. [اليمين في حق من جانبه أقوى دائماً].
ما الحكمة البينة على المدعي؟
الحكمة في كون البينة على المدعِي، واليمين على المدعَى عليه، هو ما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو يُعطَى الناس بدعواهم لادَّعَى ناس دماء رجال، وأموالهم.
وقال العلماء: الحكمة في ذلك أن جانب المدعِي ضعيف؛ لأنه يقول خلاف الظاهر، فكُلّف الحجة القوية، وهي البينة؛ لأنها لا تجلُب لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضررًا، فيقوى بها ضَعف المدعِي، وجانب المدعَى عليه قويّ؛ لأنَّ الأصل فراغ ذمته، فاكتُفي منه باليمين، وهي حجة ضعيفة؛ لأنَّ الحالف يجلب لنفسه النفع، ويدفع الضرر، فكان ذلك في غاية الحكمة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم: في هذا الحديث بيّن الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولإدعى رجال دماء قوم وأموالهم.
1410 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ، أَيُّهُمْ يَحْلِفُ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
===
(أَنْ يُسْهَمَ) أن يقرع.
ما معنى الحديث؟
معنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أفاده الحافظ -تخاصم إليه اثنان تنازعا عيناً ليست في يد واحدٍ منهما، ولا بينة لواحد منهما، وكانت تلك العين في يد شخص ثالث غيرهما، فعرض عليهما النبي صلى الله عليه وسلم اليمين، فتسارعا إليه، وبادر كل منهما لأدائه.
قال: فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف أي فأجرى صلى الله عليه وسلم بينهما قرعة، فأيهم خرج سهمه وجه إليه اليمين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه إذا تداعى رجلان متاعاً في يد ثالث، ولم يكن لهما بينة، أو لكل منهما بينة، وقال الثالث: لا أعلم إن كان هذا المتاع لهذا أو ذاك، فالحكم أن يقرع بين المتداعيين، فأيهما خرجت له القرعة يحلف ويعطى له.
وهو قول علي رضي الله عنه.
وقال الشافعي: يترك في يد الثالث.
وقال أبو حنيفة: يجعل بين المتداعيين.
وقال أحمد والشافعي في قول: يقرع بينهما في اليمين كقول على .... (منار القارئ)
قال الخطابي: قوله (يسهم) معناه: يقرع
…
وإنما يفعل ذلك إذا تساوت درجاتهم في أسباب الاستحقاق، مثل أن يكون الشيء في يدي اثنين؛ كل واحد منهما يدعيه كله، فيريد أحدهما أن يحلف عليه، ويستحقهن فيريد الآخر مثل ذلك فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة خلف واستحقه.
1411 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحَارِثِيُّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبٌ مِنْ أَرَاكٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1412 -
وَعَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(من اقتطع) أي من أخذ، لأن من أخذ شيئاً لنفسه فقد قطعه عن مالكه.
(بيمنيه) أي بسبب يمينه الكاذبة.
(قضيباً) القضيب الغصن المقطوع.
أراك: شجر يستاك بقضبانه.
(فيها فاجر) أي في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه: وهو الكذب.
ماذا نستفيد من الحديث.
الوعيد الشديد لمن اقتطع وأخذ حق امرئ مسلم بيمينه الكاذبة، وأنه من كبائر الذنوب. (لأنه رتبت عليه هذه العقوبة العظيمة، وكل ذنب رتبت عليه عقوبة دينية أو دنيوية، فإنه من كبائر الذنوب).
وهذا له صورتان:
الصورة الأولى: أن يدعي شيئا ويأتي بشاهد ويحلف معه وهو يعلم أنه كاذب، فهنا اقتطع حقا؛ لأنه استباح ماله بيمين كاذبة.
والصورة الثانية: في مقام الدفاع بأن يكون على شخص حق ثم ينكره وليس للمدعي بينة، فهنا سوف يحلف المدعى عليه ويخلى سبيله، فيكون قد اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق.
إذاً: لها صورتان الصورة الأولى في دعوى ما ليس له، والصورة الثانية في إنكار ما يجب عليه. (ابن عثيمين)
وأن عقوبته:
قد أوجب الله له النار.
وحرم عليه الجنة.
لقي الله وهو عليه غضبان.
لقي الله وهو عنه معرض، قال صلى الله عليه وسلم (لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ).
وعند أبي داود: (إلا لقي الله وهو أجذم).
وعند أبي داود أيضاً: (فليتبوأ مقعده من النار).
وفي هذا: تحريم مال المسلم مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً، وتعظيم انتهاك عظمة الله، فهذا استحق هذا الوعيد الشديد مع أنه لم يحلف إلا على قضيب من أراك، مع أنه لو غصب قضيب من أراك أو ما هو أعظم منه ما استحق هذا الوعيد، لكنه هنا استحق هذا الوعيد بسبب اليمين الكاذبة.
فالوعيد على مجموع الأمرين:
الأول: ظلم أخيه، الثاني: انتهاك عظمة الله باليمين الكاذبة.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- التحذير من ظلم العباد.
- الرد على المرجئة.
- أن اليمين الغموس من الكبائر.
- الأصل في مال المسلم الحرمة.
- الاستدلال بالقرآن على المسائل.
- إثبات الغضب لله تعالى.
- الإيمان بالجنة والنار.
1413 -
وَعَنْ أَبَى مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّد.
===
(أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ) أي: ملكها، بأن ادّعى كلّ منهما أنها ملكه. ولفظ أبي داود: أن رجلين ادّعيا بعيرًا، أو دابّة.
(لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ) أي: لا بينة لهما أصلاً.
(فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) قسمها بينهما نصفين.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه إذا ادعى اثنان عيناً كبعير أو شاة، وليس لواحد منهما بيّنة، فإن العين بينهما.
وذلك لاستوائهما في الملك باليد، لأن ظاهر الحديث أن العين بيدهما معاً كدابة يركبانها أو أرضاً بينهما، وذلك لأن يد كل واحد منهما على نصفه.
قَالَ الخطّابيّ: يُشبه أن يكون هَذَا البعير، أو الدّابّة كَانَ فِي أيديهما معًا، فجعله النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لاستوائهما فِي الملك باليد، ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقّانه لو كَانَ الشيء فِي يد غيرهما. انتهى. قَالَ القاري: أو فِي يد ثالث، غير منازع لهما.
وقال ابن قدامة: إذا تنازع رجلان فِي عين فِي أيديهما، فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه، ولم تكن لهما بينة، حَلَف كل واحد منهما لصاحبه، وجُعلت بينهما نصفين، لا نعلم فِي هَذَا خلافا؛ لأن يد كل واحد منهما عَلَى نصفها، والقول قول صاحب اليد مع يمينه.
1414 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ اَلنَّارِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد عظم إثم من حلف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذباً في يمينه، لأن هذا المكان محل تعظيم ومحل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هل يشرع تغليظ اليمين بالمكان؟
فيه خلاف:
قيل: التغليظ بالمكان جائز لا مستحب
وهذا مذهب الحنابلة، وإليه ذهب الإمام البخاري، ورجحه الشوكاني.
قالوا: لأن الأحاديث الواردة في أحكام اليمين لم تخص مكاناً دون مكان.
كحديث: اليمين على المدعى عليه.
وحديث: شاهداك أو يمينه.
وقالوا: إن حديث الباب ليس فيه ما يدل على جواز التغليظ بالمكان، وإنما يدل على تعظيم ذنب الحالف على منبره صلى الله عليه وسلم كاذباً.
وقيل: يجب تغليظ اليمين بالمكان.
وهو قول مالك.
والقول بالوجوب هو أحد قولي الإمام الشافعي، واختيار ابن تيمية إذا رآه الحاكم وطلبه.
لحديث الباب.
ولآثار وردت عن الخلفاء الراشدين تدل على وجوب تغليظ اليمين بالمكان.
وقيل: لا تغلظ اليمين في المكان مطلقاً.
وهو قول ابن حزم.
وحجته: أن غاية ما ورد في الحلف عند منبره صلى الله عليه وسلم إنما فيه تعظيم اليمين عند منبره صلى الله عليه وسلم فقط وليس فيه أمر أن لا يحلف المطلوب إلا عنده.
وأنه لو وجبت اليمين في مكان دون مكان، وفي حال دون حال لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يبين فلا يخص باليمين مكان دون مكان ولا حال دون حال.
وقيل: يشرع التغليظ في اليمين في المكان على الكافر، أما في حق المسلم فلا يشرع. والله أعلم.
فائدة:
المراد بتغليظ اليمين في المكان الاحلاف بمكان معظم كالركن والمقام في مكة، وعند منبره صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي غيرهما في الجامع عند المنبر.
فائدة:
وكذلك اختلف العلماء في تغليظ اليمين في الزمان؟
والتغليظ بالزمان هو تحليف المحلف في زمان فاضل: كتحليفه بعد عصر يوم الجمعة، ورمضان أو ليلة القدر ويوم عرفة وعاشوراء ونحو ذلك.
فقيل: تغلظ اليمين في الزمان في اللعان والدماء، أما الأموال فلا تغلظ اليمين فيها.
وبهذا قال أكثر المالكية.
جاء في بداية المجتهد: وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان وكذلك بالزمان.
وقيل: مستحب.
وهو أحد القولين في المذهب الشافعي، واختاره أبو الخطاب.
وقيل: جائز.
وهو المذهب عند الحنابلة.
وقيل: واجب إذا رآه الحاكم وطلبه.
واختاره ابن تيمية.
ما حكم تغليظ اليمين بالألفاظ؟
تغليظ اليمين بالألفاظ على الحالف: أن يذكر مع اسم الله تعالى من صفات ذاته الخارجة عن العرف المألوف في اليمين ما يكون أزجر وأردع.
مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم،
اختلف العلماء في مشروعية التغليظ بالألفاظ إلى قولين:
القول الأول: أن اليمين يشرع تغليظها بالألفاظ إذا رأى ذلك الحاكم.
وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة
جاء في الإنصاف: وإن رأى الحاكم تغليظها -يعني اليمين - بلفظ أو زمن أو مكان جاز، وهو المذهب.
واستدلوا:
أ-عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا فَدَعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ» . قَالُوا نَعَمْ. فَدَعَا رَجُلاً مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ «أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ» . قَالَ لَا وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ نَجِدُهُ الرَّجْمَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ قُلْنَا تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ». فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ اليمين بالألفاظ على اليهودي لينزجر عن الكذب، فيقاس عليه المسلم، ليحصل له الانزجار كذلك.
ب- أن الناس متفاوتون في العتو، فمنهم من يحجم عن اليمين إذا غلظت عليه، ومنهم من يتجاسر إذا لم تغلظ عليه، فكانت المصلحة في مراعاة ذلك، لتغلظ على من رأى الحاكم الفائدة في تغليظها عليه.
القول الثاني: أن اليمين لا تغلظ بالألفاظ.
وبه قال المالكية.
مستدلين بأن الصفات والألفاظ التي تغلظ بها اليمين عند من يرى ذلك لا غاية لها، وليس بعضها بأولى من بعض، فكان الاقتصار على اسمه تعالى وصفته الأخص متعيناً.
1415 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اَللَّهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ، يَمْنَعُهُ مِنْ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ; وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ اَلْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاَللَّهِ: لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ; وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا، لَمْ يَفِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(رجل على فضل ماء) أي على ماء فاضل، أي فاضل عن كفايته التي يستحقها السابق للماء، فإنه أحق من غيره، حتى يأخذ حاجته، فإذا منع المستحق بعد أخذه كفايته عما زاد عن حاجته، فقد استحق هذا الوعيد.
(بالفلاة) هي المفازة.
(يمنعه) أي فضل الماء.
(من ابن السبيل) أي المسافر، والسبيلُ: الطريق، وسمِّي المسافرُ بذلك؛ لأنَّ الطريقَ تُبْرِزه وتُظْهِره، فكأنَّها وَلَدَتْهُ، وقيل: سمِّي بذلك؛ لملازمتِهِ إياه.
(وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بسلعة) أي عقد البيع معه.
(بَعْدَ الْعَصْرِ) أي بعد صلاة العصر.
(فَحَلَفَ لَهُ) أي: للذي بايعه.
(بِاللَّهِ لأَخَذَهَا) أي لقد أخذ السلعة، يعني أنه اشتراها.
(بِكَذَا وَكَذَا من الثمن) قال القرطبي: يعني أنه كذب، فزاد في الثمن الذي اشترى به فكذب واستخف باسم الله.
(فَصَدَّقَهُ) أي صدق المحلوف له الحالف.
(وهو على غير ذلك) أي: والحال أن الواقع خلاف ما ذكره.
(ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا) أي من أجل الدنيا.
(فإن أعطاه منها) أي من أغراضه من تلك الدنيا.
(وفّى) أي ما عليه من الطاعة، مع أن الوفاء واجب عليه مطلقاً.
ماذا نستفيد من الحديث؟
استدل بعض الفقهاء بهذا الحديث على تغليظ اليمن في الزمان كبعد العصر، وقد تقدمت المسألة.
لما خص بعد العصر؟
قيل: لشرف هذا الوقت بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار فيه، واختاره النووي.
وقيل: لأنها الصلاة الوسطى وخصها الله بالمحافظة بعد عموم الصلوات الأخرى.
وقيل: لأن العصر وقت ختام الأعمال، واختاره الخطابي.
قال الخطابي:
…
وهو يوم وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغُلّظتْ العقوبة فيه، لئلا يُقدِم عليها تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه اعتادها في غيره.
وقيل: لأنه وقت ارتفاع الأعمال، واختاره ابن حجر.
ورد ابن حجر -في الفتح- القول الأول، وهو لكونه اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار، وكذلك رده القرطبي -في المفهم- وبين القرطبي أنه وجه بعيد لسببين:
أ-لأن الملائكة أيضًا تجتمع في الفجر.
ب- أن حضور الملائكة واجتماعهم إنما هو في حال فعل هاتين الصلاتين لا بعدهما، كما هو ظاهر نص الحديث، فإنه فيه (ثم يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر) وتقول الملائكة (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون).
اذكر الأعمال التي عقوبتها: لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؟
الأولى: منع فضل الماء.
في الحديث دلالة على تحريم منع فضل الماء، وأن من منع منه ابن السبيل دخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، وهذا إذا كان ابن السبيل غير مضطر، وإذا كان مضطرًّا ومنعه فالحال أشد.
والسبب دخوله في هذا الإثم: لأن الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (شركاء في ثلاث: الماء، والنار، والكلأ).
وقد تقدمت المسألة في كتاب البيوع.
ثانياً: الحلف بالله كذباً لترويج سلعته.
كأن يحلف بأن هذه السلعة جيدة وهي ليست كذلك.
أو يحلف بأنه اشتراها بكذا، أو رأس مالها كذا، وهو اشتراها بأقل.
أو كأن يعرض سلعة مخفضة ويحلف بأن سعرها قبل التخفيض كذا وهي ليست كذلك، وما أشبه هذا من الأيمان التي تزيد في قيمة السلعة.
واستحق هذه العقوبة:
أ-استهانته باليمين ومخالفته أمر الله عز وجل بحفظ اليمين.
ب-كذبه.
ج- أكله المال الذي أخذه على هذه اليمين بالباطل.
د- أن يمينه من أعظم الأيمان جرمًا؛ فهي تسمى اليمين الغموس؛ فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان
ثالثاً: مبايعة الإمام من أجل الدنيا.
في الحديث دلالة على أن من جعل مبايعته لإمام المسلمين من أجل مصالح وأغراض دنيوية فإن أعطي منها وفى ما للإمام من طاعة، وإن لم يعط منها خرج عليه، فإنه يدخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، والعلة في دخوله في هذا الوعيد الشديد؛ لأنه غاشٌّ لإمام المسلمين، والغش للإمام غش للرعية؛ لأن في ذلك سببًا لإثارة الفتن.
ومما جاء فيمن يستحق هذه العقوبة:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ - وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِر) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ).
شَيْخٌ زَانٍ: أي: من طعن في السن واستطال فيه.
وَمَلِكٌ كَذَّابٌ: أي: الإمام الكاذب.
وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِر: أي: فقير متكبر.
وسبب استحقاقهم هذه العقوبة:
قال القرطبي: وإنما غلَّظ العقابَ على هؤلاءِ الثلاثة؛ لأنَّ الحاملَ لهم على تلك المعاصي مَحْضُ المعاندة، واستخفافُ أمرِ تلك المعاصي التي اقتحموها؛ إذْ لم يَحْمِلْهم على ذلك حاملٌ حَاجِيٌّ، ولا دعتهم إليها ضرورةٌ كما تدعو مَنْ لم يكنْ مثلهم.
وبيانُ ذلك: أنَّ الشَّيْخَ لا حاجةَ له ولا داعية تدعوه إلى الزنا؛ لضعفِ داعيةِ النكاحِ في حقِّه، ولكمالِ عَقْلِه، ولقربِ أجله؛ إذ قد انتهى إلى طَرَفِ عمره. ونحوٌ من ذلك:"المَلِكُ الكَذَّابُ"؛ إذْ لا حاجةَ له إلى الكذب؛ فإنه يمكنه أنْ يُمَشِّيَ أغراضَهُ بالصِّدْق، فإنْ خاف من الصدق مفسدةً، وَرَّى.
وأما "العَائِلُ المُسْتَكْبِرُ": فاستحقَّ ذلك؛ لغلبة الكِبْرِ على نفسه؛ إذْ لا سببَ له مِنْ خارجٍ يحملُهُ على الكبر؛ فإنَّ الكِبْرَ غالبًا إنما يكونُ بالمالِ والخَوَلِ والجاه، وهو قد عَدِمَ ذلك كلَّه؛ فلا مُوجِبَ له إلا غلبةُ الكِبْرِ على نفسه، وقِلَّةُ مبالاتِهِ بتحريمِهِ وتوعيدِ الشرعِ عليه، مع أنَّ اللائقَ به والمناسبَ لحالِهِ: الذُّلُّ والتواضُعُ؛ لفقره وعجزه.
وقال القاضي عياض: سبب تخصيص هؤلاء بهذا الوعيد أن كلاً منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق اللّه تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها.
الْمُسْبِلُ: المراد خيلاء.
لأنه من الخيلاء والتكبر.
وَالْمَنَّانُ: الذي لا يعطي شيئاً إلا منّه.
قال القرطبي: وإنَّما كان المَنُّ كذلك؛ لأنَّه لا يكونُ غالبًا إلا عن البُخْلِ، والعُجْبِ، والكِبْر، ونسيانِ مِنَّةِ الله تعالى فيما أنعَمَ به عليه؛ فالبخيلُ: يعظِّمُ في نفسه العَطِيَّةَ وإنْ كانتْ حقيرةً في نفسها، والعُجْبُ: يحمله على النظرِ لنفسه بعين العَظَمة، وأنَّه مُنْعِمٌ بمالِهِ على المعطَى له، ومتفضِّلٌ عليه، وأنَّ له عليه حَقًّا تجبُ عليه مراعاتُهُ،، والكِبْرُ: يحمله على أن يحتقر المُعْطَى له وإنْ كان في نفسه فاضلاً، ومُوجِبُ ذلك كلِّه: الجهلُ، ونِسْيانُ مِنَّةِ الله تعالى فيما أنعَمَ به عليه؛ إذْ قد أنعَمَ عليه بما يُعْطِي، ولم يَحْرِمْهُ ذلك، وجعله ممَّنْ يُعْطِي، ولم يجعلْهُ ممَّن يَسْأَل، ولو نظَرَ ببصره، لعَلِمَ أنَّ المِنَّةَ للآخذ؛ لِمَا يُزِيلُ عن المعطي مِنْ إثمِ المنعِ وذَمِّ المانع، ومن الذنوب، ولِمَا يحصُلُ له من الأجرِ الجزيل، والثناءِ الجميل
وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ. يعني يحلف وهو كاذب ليزيد ثمن السلعة، فيقول: والله إني اشتريتها بعشرة، وهو لم يشترها إلا بثمانية.
تقدم سبب ذلك.
1416 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ نُتِجَتْ عِنْدِي، وَأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ).
===
ما صحة حديث الباب.
ضعيف. رواه الدارقطني. وقال الحافظ في "التلخيص" إسناده ضعيف.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
أنه إذا تداعى اثنان عيناً كدابة وكانت العين بيد واحد منهما، وأقام كل واحد منهما بينة على أن العين له، فإن العين تكون لمن هي في يده.
قال الشيخ البسام:
…
أمَّا إنْ أقام كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنَّها له -كما في هذا الحديث- فقد اختلف العلماء فيمن تقدَّم بينته، وتكون العين له:
فمذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: أنَّها للدَّاخل، وهو صاحب اليد؛ وذلك عملاً بما يلي:
أ- حديث الباب.
ب- أنَّ الدَّاخل عنده زيادة على بينته؛ لأَنَّ يده على العين.
ج- جانبه أقوَى من الآخر.
أمَّا تقديم بينة الخارج، فهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو من مفرداته.
ولكن القول الأوَّل -قول الجمهور- أرجح؛ ولذا اختاره جمعٌ من علمائنا، منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز ابن باز مفتيا الدِّيار السعودية سابقاً، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي أحد علماء الدِّيار السعودية وصاحب المؤلَّفات النَّافعة، والله أعلم .... (توضيح الأحكام).
1417 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ اَلْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ اَلْحَقِّ) رَوَاهُمَا اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِمَا ضَعْف.
===
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف كما قال المصنف رحمه الله.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
صورة المسألة: إذا ادَّعى المدَّعي شيئاً، وأنكر المدَّعَى عليه تلك الدعوى، وليس عند المدَّعِي بينةً تثبت دعواه، فإنَّ له اليمينَ على المدَّعَى عليه على نفي الدَّعوَى، فإنْ نَكَلَ عن اليمين.
فهل يحكم عليه بالنكولِ وحده، أو يحكم به مع ردِّ اليمين على المدَّعِي فيحلف على صحَّة دعواه ويحكم له بما ادَّعاه؟ فيها قولان لأهل العلم:
القول الأول: لا ترد اليمين على المدعي.
مثال: ادعى زيد على عمرو (100) ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بيّنة، وطلب أن يحلف المُنكر - الذي هو عمرو - فقال عمرو: لا أحلف، فعلى هذا القول: يحكم عليه بالنكول ولا نقول لزيد - المدعي - احلف أنك تطلبه كذا وكذا.
لقوله صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فلم يجعل في جانب المدعي إلا البينة.
القول الثاني: ترد اليمين على المدَّعِي، فإنْ حلف، قُضِيَ له.
وهو قول علي بن أبي طالب، وشُرَيّح، وابن سيرين، والأوزاعي، والنخعي، واختاره وشيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.
أ-لحديث الباب.
ب-ولأنه إذا رفض المدعي عليه أن يحلف ظهر صدق المدعي، فقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه كما كانت تشرع في حق المدعى عليه قبل نكولهِ. [اليمين في حق من جانبه أقوى دائماً].
1418 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ أَقْدَامٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(مسروراً) أي فرحاً.
(تبرق) بفتح التاء وضم الراء، أي تضيء وتستنير من السرور.
(أسارير) أي الخطوط التي في الجبهة.
(مُجَزِّرَاً) بضم الميم، ثم جيم مفتوحة، ثم زاي مشددة، وهو من بني مدلج، بضم الميم وإسكان الدال وكسر اللام. قال العلماء: وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد تعترف لهم العرب بذلك.
(نظر أنفاً) أي قريباً.
(هَذِهِ أَقْدَامٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) وفي رواية (يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَىَّ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) وعند مسلم (كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا).
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد العمل بقول القائف في إلحاق النسب، بشرط عدم ما هو أقوى منه كالفراش.
وجه الدلالة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم هذا القائف على قوله (هذه أقدام بعضها من بعض) وسروره بذلك، ولا يسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحق، والإقرار حجة شرعية.
وهذا قول جماهير العلماء. (العمل بقول القائف).
ومن الأدلة اشتهار العمل بها عن عمر وعلي.
ما يشترط في القائف:
أن يكون عدلاً.
قال النووي: واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة ".
أن يكون خبيراً بهذا مجرباً.
قال النووي: واتفقوا على أنه يشترط أن يكون خبيراً بهذا مجرباً.
واختلف هل يكتفى فيه بواحد:
فقيل: يكفي واحد. لحديث الباب.
وقيل: يشترط اثنان. والأول أصح.
قال ابن قدامة: وَالْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الْإِنْسَانَ بِالشَّبَهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْإِصَابَةُ، فَهُوَ قَائِفٌ.
وَقِيلَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ رَهْطِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِي الَّذِي رَأَى أُسَامَةَ وَأَبَاهُ زَيْدًا قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
وَكَانَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيّ قَائِفًا، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي شُرَيْحٍ.
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، عَدْلًا، مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ، حُرًّا.
لِأَنَّ قَوْلَهُ حُكْمٌ، وَالْحَكَمُ تُعْتَبَرُ لَهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ. (المغني)
ما سبب فرح النبي صلى الله عليه وسلم
-:
قال النووي: وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود وشديد السواد، وكان زيد أبيض، فلما قضى هذا القائف نسبه مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف، فرح النبي صلى الله عليه وسلم لكونه زاجراً لهم عن الطعن في النسب.
كِتَابُ اَلْعِتْقِ
تعريفه.
الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُوصُ.
وَمِنْهُ عَتَاقُ الْخَيْلِ وَعِتَاقُ الطَّيْرِ، أَيْ خَالِصَتُهَا، وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ عَتِيقًا؛ لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ.
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنْ الرِّقِّ.
يُقَالُ: عَتَقَ الْعَبْدُ، وَأَعْتَقْته أَنَا، وَهُوَ عَتِيقٌ، وَمُعْتَقٌ.
- سواء كان التخليص من مالك أو من غيره.
من مالك: كأن يكون عنده رقاب فأعتقها.
أو من غيره: كما لو اشترى رقبة وأعتقها.
- وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَكُّ رَقَبَةٍ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: الحديث الآتي، فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَا.
وَأَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ، وَحُصُولِ الْقُرْبَةِ بِهِ .... (المغني)
1419 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِماً، اِسْتَنْقَذ اَللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّار) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1420 -
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ; عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّار).
1421 -
وَلِأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ (وَأَيُّمَا اِمْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ اِمْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ اَلنَّارِ).
===
- (أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري (أيما رجل). [مسلم] يخرج الكافر.
(أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِماً) هذا قيد في الرقبة المعتقة، فهذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق الرقبة المسلمة.
(اِسْتَنْقَذ اَللَّهُ) أي: خلّصه.
(بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ) أي: من المعتَق.
(عُضْوًا مِنْهُ) أي: من المعتِق.
(فكاكه) أي: خلاصه.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل عتق الرقاب وتخليصها من الرق وأن ذلك من أجل الطاعات وأعظم القربات.
ففي عتق الرقاب: العتق من النار، ودخول الجنة. لأنه من أسباب العتق من النار.
عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه) رواه أحمد.
وهذا الفضل - والله أعلم - لكون الرقيق قبل العتق كان في حكم المعدوم، إذ لا تصرف له في نفسه، بل هو يُتصرف فيه.
فالعتق من أعظم القرب التي يتقرب بها إلى الله، وهو من أفضل العبادات.
قال ابن قدامة: وَالْعِتْقُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
أ-لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَالْأَيْمَانِ.
ب- وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِكَاكًا لِمُعْتِقِهِ مِنْ النَّارِ.
ج- وَلِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصًا لِلْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَمِلْكَ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، وَتَمَكُّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ، عَلَى حَسْبِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ .... (المغني).
ماذا نستفيد من قوله (أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِماً)؟
نستفيد أن هذا الفضل خاص بمن أعتق مسلماً.
قال القرطبيّ: فيه ما يدل على أن هذا الفضل العظيم إنما هو في عتق المؤمن، ولا خلاف في جواز عتق الكافر تطوّعًا، فلو كان الكافر أغلى ثمنًا، فرُوي عن مالك: أنه أفضل من المؤمن القليل الثمن؛ تمسكًا بحديث أبي ذر رضي الله عنه.
وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم؛ نظرًا إلى حرمة المسلم، وإلى ما يحصل منه من المنافع الدينية، كالشهادات، والجهاد، والمعونة على إقامة الدين، وهو الأصح، والله تعالى أعلم.
وقال النووي: أَمَّا التَّقْيِيد بِالرَّقَبَةِ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَة فَيَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَضْل الْخَاصّ إِنَّمَا هُوَ فِي عِتْق الْمُؤْمِنَة. وَأَمَّا غَيْر الْمُؤْمِنَة فَفِيهِ أَيْضًا فَضْل بِلَا خِلَاف وَلَكِنْ دُون فَضْل الْمُؤْمِنَة، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي عِتْق كَفَّارَة الْقَتْل كَوْنهَا مُؤْمِنَة، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك: أَنَّ الْأَعْلَى ثَمَنًا أَفْضَل وَإِنْ كَانَ كَافِرًا. وَخَالَفَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ أَصْحَابه وَغَيْرهمْ قَالَ: وَهَذَا أَصَحّ.
ماذا نستفيد من قوله (اِسْتَنْقَذ اَللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّار)؟
نستفيد أن إعتاق كامل الأعضاء أفضل من عتق ناقصها، ليحصل الاستيعاب المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم (استنقذ الله من كل عضو منه
…
).
قال النووي: فِيهِ اِسْتِحْبَاب عِتْق كَامِل الْأَعْضَاء فَلَا يَكُون خَصِيًّا وَلَا فَاقِد غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء وَفِي الْخَصِيّ وَغَيْره أَيْضًا الْفَضْل الْعَظِيم لَكِنْ الْكَامِل أَوْلَى وَأَفْضَله أَعْلَاهُ ثَمَنًا وَأَنْفَسه.
وقال ابن حجر: إن في قوله: "أعتق الله بكل عضو منه عضوًا" إشارةً إلى أنه لا ينبغي أن يكون في الرقبة نقصان؛ ليحصل الاستيعاب.
أيهما أفضل بالعتق الذكر أم الأنثى؟
الحديث دليل على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى، لأنه جعل عتق الأنثى على النصف من عتق الذكر.
فالرجل إذا اعتق الذكر أو اعتق امرأتين كان فكاكه من النار.
وذلك لأن جنس الرجال أفضل من جنس النساء.
ولأن عتق الذكر فيه من المنافع ما ليس في عتق الأنثى من الجهاد وتولي القضاء وتولي الإمامة ونحو هذا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيّمَا أَفْضَل عِتْق الْإِنَاث أَمْ الذُّكُور؟
فَقَالَ بَعْضهمْ: الْإِنَاث أَفْضَل لِأَنَّهَا إِذَا عَتَقَتْ كَانَ وَلَدهَا حُرًّا سَوَاء تَزَوَّجَهَا حُرّ أَوْ عَبْد.
وَقَالَ آخَرُونَ: عِتْق الذُّكُور أَفْضَل لِهَذَا الْحَدِيث وَلِمَا فِي الذِّكْر مِنْ الْمَعَانِي الْعَامَّة الْمَنْفَعَة الَّتِي لَا تُوجَد فِي الْإِنَاث مِنْ الشَّهَادَة وَالْقَضَاء وَالْجِهَاد وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَخُصّ بِالرِّجَالِ إِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَة، وَلِأَنَّ مِنْ الْإِمَاء مَنْ لَا تَرْغَب فِي الْعِتْق وَتَضِيع بِهِ بِخِلَافِ الْعَبِيد. وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح. (شرح مسلم)
من الذي يستحب عتقه؟
يستحب عتق من له كسب، ويكره إن كان لا قوة له.
قال ابن قدامة: وَالْمُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ دِينٌ وَكَسْبٌ يَنْتَفِعُ بِالْعِتْقِ.
فَأُمًّا مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالْعِتْقِ، كَمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ، تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، فَيَضِيعُ، أَوْ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ عِتْقُهُ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ، كَعَبْدٍ يُخَافُ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ وَاحْتَاجَ سَرَقَ، وَفَسَقَ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ جَارِيَةٍ يُخَافُ مِنْهَا الزِّنَى وَالْفَسَادُ، كُرِهَ إعْتَاقُهُ.
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إفْضَاؤُهُ إلَى هَذَا، كَانَ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ التَّوَسُّلَ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ .... (المغني).
بما يحصل العتق؟
يحصل العتق: بالقول: وهو لفظ العتق وما في معناه.
فيحصل العتق بالصيغة القولية، وهي نوعان: صريح وكناية.
أ- الصريح: ما لا يحتمل إلا العتق، مثل: أعتقتك، حررتك، أنت عتيق، أنت حر.
لِأَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَرَدَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْعِتْقِ عُرْفًا، فَكَانَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ، فَمَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، حَصَلَ بِهِ الْعِتْقُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، عَتَقَ أَيْضًا .... (المغني).
ب- الكناية: كل لفظ يحتمل المعنى وغيره. أي: يحتمل العتق ويحتمل غيره، فلا يقع العتق به إلا بالنية.
قال ابن قدامة: وَأَمَّا الْكِنَايَةُ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك، وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك، وَأَنْتَ سَائِبَةٌ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْت، وَقَدْ خَلَّيْتُك.
فَهَذَا إنْ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ، عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ بِهِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ.
وَلَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ. (المغني).
قال ابن قدامة: وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، كَسَائِرِ الْإِزَالَةِ.
تنبيه:
ويحصل العتق بملك ذا رحم - وبالسراية كما سيأتي في الأحاديث القادة إن شاء الله.
اذكر بعض الأمور التي فيها الأنثى على النصف من الذكر؟
العقيقة.
الثاني: العتق.
وَالثّالِثُ: الشّهَادَةُ فَإِنّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ.
وَالرّابِعُ: الْمِيرَاثُ.
وَالْخَامِسُ: الدّيَةُ.
1422 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ (سَأَلْتُ اَلنَّبي صلى الله عليه وسلم أَيُّ اَلْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِاَللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ". قُلْتُ: فَأَيُّ اَلرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَعْلَاهَ ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
لفظ الحديث كاملاً:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الْأَعْمَالِ أفضَلُ؟ قَالَ:"الإيمانُ بِالله، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ"، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أفضَلُ؟ قَالَ: "أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَكثَرُهَا ثَمَنًا"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أفعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاس، فَإنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِك).
(الإيمان بالله والجهاد في سبيله) ولفظ البخاريّ: (إيمان بالله، وجهاد في سبيله) والواو هنا بمعنى "ثمّ"، كما قاله ابن حبّان، رحمه الله تعالى.
قال العيني: إنما قرن الجهاد بالإيمان، لأنه كان عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا.
(أي الرقاب أفضل) أي للعتق، حتى يكون ثوابها أكثر عند الله تعالى، والمراد بالرقبة الرقيق، وسمي رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، والمعنى: أي المماليك أحب في العتق إلى الله.
(أنفسها عند أهلها) أي أجودها وأرفعها عندهم، والمال النفيس: هو المرغوب فيه.
(وأكثرها ثمناً) أي من حيث الثمن.
(فإن لم أفعل) أي لم أقدر عليه، ولا تيسر لي، لأن من المعلوم من أحوالهم أنهم لا يمتنعون من فعل مثل هذا إلا إذا تعذر عليهم.
(أو) للتنويع لا للشك.
(تصنع لأخرق) الأخرق هو الذي لا يحسن العمل.
(أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل) أي من الصناعة أو الإعانة، أي فماذا أفعل.
(قال تكف شرَّك عن الناس) أي تمنع وصول شرّك.
(فإنها) أي كف شرك عن الناس.
(صدقة منك على نفسك) أي تتصدق بهذه الصدقة على نفسك.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن أفضل الرقاب التي يراد إعتاقها ما كان أكثرها قيمة وأكثرها نفاسة عند أهلها لحسن أخلاقها وكثرة منافعها.
لماذا أنفسها أفضل؟
لأنه علامة الإيمان والإخلاص.
لأن عتق مثل ذلك ما يقع غالبًا إلا خالصًا، وهو كقوله تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
فائدة:
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في الرقاب (أفضلها أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً) فالمراد به والله أعلم إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما اذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشترى بها رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان أفضل وهذا بخلاف الأضحية فان التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن.
قال في "الفتح" بعدما ذكر نحو هذا: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فربّ شخص واحد إذا أُعتق انتفع بالعتق، وانتفع به أضعاف ما يَحصُل من النفع بعتق أكثر عددًا منه، وربّ محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم.
فالضابط أن ما كان أكثر نفعًا كان أفضل، سواء قلّ أو كثر، واحْتُجّ به لمالك في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أغلى ثمنًا من المسلمة أفضل، وخالفه أصبغ وغيره، وقالوا: المراد بقوله: "أغلى ثمنًا" من المسلمين.
ويؤيّد ما قالوه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "أيما رجل أعتق امرءًا مسلمًا، استنقذ الله بكلّ عضو منه عضوًا منه من النار. (الفتح)
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن الإيمان أفضل الأعمال على الإطلاق.
- فضل الجهاد وأنه من أفضل الأعمال وهو بعد الإيمان، قال ابن حبان: الواو في حديث أبي ذر هذا بمعنى (ثم)، وقد تقدم الجمع بين الأحاديث المختلفة في تفضيل الأعمال.
- أن الأعمال الصالحة بعضها أفضل من بعض.
- حرص الصحابة على الخير، حيث كانوا يسألون من أجل العمل.
- علو الهمة، لسؤالهم أي العمل أفضل؟
- أن أفضل الرقاب عتقاً ما كان نفيساً غالياً عند أهله.
قال الحافظ ابن حجر: فإن عتق مثل ذلك ما يقع غالباً إلا خالصاً وهو كقوله تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
- فضل الثقة بوعد الله وأجره العظيم.
- من علامات قوة الإيمان بذل المال في سبيل الله ثقة بوعد الله بالخلف.
- فضل الكرم والسخاء.
- مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
1423 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ اَلْعَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ اَلْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
1424 -
وَلَهُمَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ).
وَقِيلَ: إِنَّ اَلسِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ فِي اَلْخَبَر.
===
(شركاً) بكسر الشين أي حصة ونصيباً.
(عدل) بفتح العين وسكون الدال: أي من غير زيادة في قيمته ولا نقصان.
(شقصاً) قال ابن الأثير: الشقص السهم في الملك والشركة فيه، قليلاً كان أو كثيراً.
(استسعيَ العبد) قال العلماء: معنى الاستسعاء أن العبد يكلف الاكتساب والطلب.
ماذا نستفيد من الحديث؟
هذه الأحاديث تتكلم عن العبد إذا كان بين شركاء.
الحديث الأول: معناه أن العبد له عدة مالكين، وأعتق واحد منهم نصيبه [شِركه]، فيكون هذا المعتِق [الذي أعتق نصيبه] إن كان له مال فإنه يدفع للآخرين قيمة أنصبائهم ويعتق جميع العبد [يسري العتق على جميع العبد]، وإذا لم يكن له مال، فإنه يعتق نصيب المعتق، ويكون هذا العبد مبعضاً، يعني بعضه حر وبعضه عبد.
الحديث الثاني: معناه نفس الحديث السابق لكن فيه زيادة تسعية العبد [أي يستسعى ويقال له اعمل] لكي يعطى بقية الشركاء حقهم.
فالمعتق إذا أعتق نصيبه فإنه يعتق نصيبه مباشرة، وأما نصيب شريكه فإنه يعتق أيضاً، ويُقوّم عليه نصيب شريكه.
لظاهر حديث الباب [ابن عمر].
هذا إذا كان المعتِق موسراً.
أما إذا كان المعتق معسراً، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: ينفذ العتق في نصيب المعتِق فقط ولا يطالب المعتق بشيء ولا يستسعى العبد، بل يبقى نصيب الشريك رقيقاً كما كان.
وهذا مذهب جمهور العلماء: كمالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد.
لحديث الباب (ابن عمر).
وجعلوا قوله في الحديث الثاني (فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عدل ثم استُسعيَ العبد) مدرجة.
وقد جزم ابن المنذر والخطابي بأنه من فتيا قتادة.
القول: يستسعى العبد في حصة الشريك.
وهذا مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى
واستدلوا بالحديث الثاني (فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عدل ثم استُسعيَ العبد).
وهذا القول هو الراجح.
فائدة:
حرص الإسلام وتشوفه للعتق، وجعل له من السراية والنفوذ ما يفوت على مالك الرقيق رقه بغير اختياره في بعض الأحوال، التي منها ما ذكر في هذا الحديث، ومن هذه السراية:
لو أن الإنسان ملك العبد كله، ثم أعتق بعضه، فإنه يعتق كله في الحال بغير استسعاء، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة.
1425 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيُعْتِقَهُ) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
(لَا يَجْزِي) بفتح أوله، من الجزاء الذي هو بمعنى المجازاة؛ أي: لا يكافئ.
(وَلَدٌ وَالِدًا) أي: إحسان والد، يعني أنه لا يقوم بما له عليه من الحقوق حتى يفعل معه ذلك.
(فَيُعْتِقَهُ) الذي في الصحيح (فيشتريه فيعتقه).
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنَّ فضلَ برٍّ بِالوَالدَيْنِ، أو أحدهما: هو أنْ يجد أباه أو أمه رقيقًا مملوكًا، فيشتريه ويعتقه؛ لأَنَّه خلَّصه من الرق، الَّذي حَرَمَه من الحرية، والاستقلال بالنفس، والكسب.
وفي إعتاق الإنسان أباه، أو أُمَّه مجازاةٌ على إحسانهما إلى ولدهما؛ ذلك أنَّهما سبب وجوده من العدم، وهو بإعتاقهما أو إعتاقِ أحدهما -كأنَّه أخرجهما من العدم إلى الوجود؛ فإنَّ الرَّقيق مملوك المنافع والمكاسب .... (توضيح الأحكام).
هل يعتق الوالد بمجرد الشراء أم لا بد من إعتاقه؟
اختلف العلماء:
قيل: لا يعتق بمجرد الشراء
وهذا مذهب أهل الظاهر.
وقيل: يعتق بمجرد الشراء.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْق الْأَقَارِب إِذَا مَلَكُوا.
فَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: لَا يَعْتِق أَحَد مِنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْمِلْك سَوَاء الْوَالِد وَالْوَلَد وَغَيْرهمَا بَلْ لَا بُدّ مِنْ إِنْشَاء عِتْق.
وَاحْتَجُّوا بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث.
وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: يَحْصُل الْعِتْق فِي الْآبَاء وَالْأُمَّهَات وَالْأَجْدَاد وَالْجَدَّات وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَوْنَ، وَفِي الْأَبْنَاء وَالْبَنَات وَأَوْلَادهمْ الذُّكُور وَالْإِنَاث وَإِنْ سَفَلُوا بِمُجَرَّدِ الْمِلْك سَوَاء الْمُسْلِم وَالْكَافِر وَالْقَرِيب وَالْبَعِيد وَالْوَارِث وَغَيْره.
وَتَأْوِيل الْجُمْهُور الْحَدِيث الْمَذْكُور عَلَى أَنَّهُ لَمَّا تَسَبَّبَ فِي شِرَاء الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ عِتْقه أُضِيفَ الْعِتْق إِلَيْهِ وَاَللَّه أَعْلَم.
1426 -
وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَة. وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوف.
===
(ذا رَحِم) بفتح الرَّاء، وكسر الحاء، وأصله: موضع تكوين الولد، ثمَّ استعمل للقرابة؛ فالمراد بها هنا: كل من كان بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح.
(مَحْرَم) بفتح الميم، وسكون الحاء، وفتح الرَّاء المخففة، ويُقال:"مُحَرَّم" بصيغة المفعول من التحريم، والمحرم: من لا يحل نكاحه من الأقارب.
ما صحة حديث الباب؟
سنده ضعيف، اختلف في وصله وإرساله، ورفعه ووقفه وغيرها من العلل.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن من أسباب العتق: أنَّ القريب إذا ملك قريبه (من بينه وبينه رحم محرمة للنكاح) فإنَّه يعتق، عليه بمجرد ملكه له ويكون حراً.
قال ابن رشد: جمهور العلماء على أنَّه يعتق عليه بالقرابة؛ فقد أجمع الأئمة الأربعة على هذا الحكم، على اختلاف بينهم في تحديد ذلك، وتفصيله.
فالحديث دليل على أن ملك من بينه وبينه رحِم محرمة للنكاح فإنه يعتق عليه بمجرد ملكهِ له فيكون حراً، فإذا ملك أباه أو أمه أو أخته أو خالته، ملكها بشراء أو بهبة أو بغنيمة فإنه بمجرد دخوله في ملكه فإنه يعتق عليه، فيدخل في الحديث الآباء وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات لا أولادهم، لأنهم ليسوا من ذي الرحِم المحرّم.
قال ابن قدامة: ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ: الْقَرِيبُ الَّذِي يَحْرُمُ نِكَاحُهُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً.
وَهُمْ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ دُونَ أَوْلَادِهِمْ. فَمَتَى مَلَكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَتَقَ عَلَيْهِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ. (المغني)
الشافعي: لا يعتق بالملك إلا الآباء والأبناء.
مالك: قصره على الأصول، والفروع، والإخوة، والأخوات فقط.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
أنَّ ذا الرحم يعتق بمجرد الملك أو الشراء.
أن الشَّارع الحكيم الرحيم جَعَلَ للعتق عدَّةَ أسباب، ومن تلك الأسباب: أنَّ القريب إذا ملك قريبه، فإنَّه يعتق عليه.
إذا ملك قريبا من أقاربه لا يحرم عليه فإنه لا يلزمه العتق.
1427 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ، عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
(أَنَّ رَجُلاً) لا يُعرف اسمه، ولا عبيده الذين أعتقهم، وفي الرواية التالية (أن رجلًا من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين).
(أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ) وفي رواية أبي داود (ستة أعبد له).
(عِنْدَ مَوْتِهِ) أي: عند مرض موته، وظاهر هذا أنه نجّز عنقهم في هذه الحال.
(لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفي رواية النسائيّ (فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فغَضِبَ من ذلك، وقال: لقد هممتُ أن لا أصلي عليه) وفي رواية أبي داود (لو شهدته قبل أن يدفن، لم يُدفن في مقابر المسلمين).
(فَجَزَّأَهُمْ) أي: قسّمهم.
(أَثْلَاثًا) أي: ثلاث حصص، كل عبدين على حدة.
(ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ) القرعة: استهام يتعين به نصيب الإنسان.
(فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً) أي: أبقى حكم الرق على الأربعة.
(وَقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا) أي: غلظ له بالقول والذم والوعيد.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن العتق في مرض الموت يأخذ حكم الوصية، فلا ينفذ إلا فيما أذن فيه الشرع وهو الثلث فأقل.
وهذا قول جمهور العلماء.
مثال: لو أن شخصاً وهو في مرض الموت تبرع بنصف ماله، نقول: ليس لك أن تتبرع إلا بالثلث إلا أن يجيز الورثة.
قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جَرِير وَالْجُمْهُور فِي إِثْبَات الْقُرْعَة فِي الْعِتْق وَنَحْوه، وَأَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَض مَوْته أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُث أَقْرَعَ بَيْنهمْ، فَيُعْتِق ثُلُثهمْ بِالْقُرْعَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: الْقُرْعَة بَاطِلَة لَا مَدْخَل لَهَا فِي ذَلِكَ؛ بَلْ يُعْتِق مِنْ كُلّ وَاحِد قِسْطه، وَيُسْتَسْعَى فِي الْبَاقِي لِأَنَّهَا خَطَر، وَهَذَا مَرْدُود بِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَأَحَادِيث كَثِيرَة. (شرح مسلم)
فالمرض ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المرض غير المخوف.
هذا حكمه حكم الصحيح، فللإنسان أن يتبرع من كل ماله.
جاء في (الملخص الفقهي)
…
مرض غير مخوف، أي: لا يخاف منه الموت في العادة، كوجع ضرس، وعين، وصداع يسير؛ فهذا القسم من المرض يكون تصرف المريض فيه لازماً كتصرف الصحيح، وتصح عطيته من جميع ماله، ولو تطور إلى مرض مخوف ومات منه، اعتبارًا بحاله حال العطية، لأنه في حال العطية في حكم الصحيح.
القسم الثاني: المرض مرضاً مخوفاً (يخشى منه الهلاك)، ومن كان في حكمه كالواقف بين الصفين، ومن قدم ليقتل قصاصاً وكراكب البحر حال هيجانه.
فهذا ليس له من ماله تبرعاً إلا الثلث (كأنه مات) فحكمه: حكم الوصية.
فلا تجوز بزيادة على الثلث ولا لوارث بشيء ولو أقل من الثلث إلا بإجازة الورثة.
لحديث الباب (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته
…
فجزأهم أثلاثاً، فأعتق اثنين وأرق أربعة).
-
لماذا قال له قولاً شديداً؟
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله (وقال له قولًا شديدًا) أي: غلّظ له بالقول، والذم، والوعيد؛ لأنه أخرج كل ماله عن الورثة، ومنعهم حقوقهم منه، ففيه دليل على أن المريض محجور عليه في ماله، وأن المدبَّر، والوصايا، إنما تُخرج من الثلث، وأن الوصية إذا مَنَع من تنفيذها على وجهها مانعٌ شرعي استحالت إلى الثلث، كما يقوله مالك. انتهى.
وقال النوويّ: وَأَمَّا " قَوْله: (وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا) فَمَعْنَاهُ: قَالَ فِي شَأْنه قَوْلًا شَدِيدًا كَرَاهِيَة لِفِعْلِهِ، وَتَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى تَفْسِير هَذَا الْقَوْل الشَّدِيد: قَالَ (لَوْ عَلِمْنَا مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ) وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَحْده كَانَ يَتْرُك الصَّلَاة عَلَيْهِ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْل فِعْله
…
وَأَمَّا أَصْل الصَّلَاة عَلَيْهِ فَلَا بُدّ مِنْ وُجُودهَا مِنْ بَعْض الصَّحَابَة.
-
عرف القرعة وما دليل ثبوتها؟
القرعة: استهام يتعين به نصيب الإنسان.
وتشرع: عند التساوي وعدم معرفة المستحق.
فالقرعة يعمل بها: عند التساوي في الاستحقاق وعدم إمكان الجمع، قال ابن القيم: الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز بينها إلا بالقرعة صح استعمالها فيها.
قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جَرِير وَالْجُمْهُور فِي إِثْبَات الْقُرْعَة فِي الْعِتْق وَنَحْوه. (نووي).
والأدلة على مشروعيتها والعمل بها كثيرة جداً.
قال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيهِم إِذْ يُلقُونَ أَقلَامَهُم أَيُّهُمْ يَكفُلُ مَريَمَ).
وقال تعالى (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدحَضِينَ) أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين.
وعن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا) متفق عليه.
قال النووي: معناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقاً يحصلونه، لضيق الوقت، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحداً لاقترعوا في تحصيله.
وعن عائشة. قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه) رواه البخاري.
وعن النعمان بن بشير. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا
…
).
وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَوْ تَعْلَمُونَ - أَوْ يَعْلَمُونَ - مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً) رواه مسلم.
قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع وهي في القرآن في موضعين.
قال ابن القيم: والشارع جعل القرعة معينة في كل موضع تتساوى فيه الحقوق، ولا يمكن التعيين بها، إذ لولاها للزم أحد باطلين: إما الترجيح بمجرد الاختيار والشهوة وهو باطل في تصرفات الشارع، وإما بالتعطيل ووقف الأعيان، وفي ذلك تعطيل الحقوق وتضرر المكلفين بما لا تأتي به الشريعة الكاملة بل ولا السياسة العادلة.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لأجنبي، إلاَّ بإجازة الورثة لها بعد الموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد:"الثلث والثلث كثير"، والأجنبي هنا من ليس بوارث.
- أنَّ التبرعات في مرض الموت حكمها حكم الوصية، فينفذ منها ما يجوز تنفيذه في الوصية، ويمنع منها ما يمنع فيها.
- الحكمة لا ينفذ إلا الثلث: لأنه في حال المرض المخوف يغلب موته به، فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالوارث، فردت إلى الثلث كالوصية.
1428 -
وَعَنْ سَفِينَةَ رضي الله عنه قَالَ (كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ، وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدِمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ.
===
ما صحة حديث الباب؟
حديث حسن، فيه سعيد بن جمهان - وهو حسن الحديث - عن سفينة، به. وزادوا إلا أحمد (قال: قلت: لو أنك لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت. قال: فأعتقتني، واشترطت علي أن أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت).
ما حكم تعليق العتق على أمر؟
يجوز.
فإذا قال لعبده: أنت حر في وقت سماه (كقوله أنت حر إذا جاء رمضان).
أو علق عتقه على شرط (كقوله أنت حر إن قدم زيد) عتق إذا جاء الوقت أو وجد الشرط.
لأنه عتق بصفة فجاز كالتدبير. (لكن بشرط أن يكون في ملكه عند حصول الشرط).
ولا يعتق قبل وجود ذلك: لأنه حق علق على شرط فلا يثبت قبله كالجعل في الجعالة.
قال ابن قدامة: ويجوز تعليق العتق بصفة، نحو قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، أو: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، لأنه عتق بصفة، فجاز، كالتدبير، ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها، لأنه حق علق على شرط، فلا يثبت قبله، كالجعل في الجعالة. وإن قال ذلك في مرض موته، اعتبر من الثلث، لأنه لو أعتقه، اعتبر من الثلث، فإذا عقده، كان أولى. (الكافي)
فائدة:
لا يبطل التعليق بقوله: أبطلت ما علقت عليه العتق، لأنه صفة لازمة ألزمها نفسه.
وللسيد بيع العبد المعلق عتقه على شرط قبل حصول الشرط وله التصرف فيه بهبة وبيع وجعالة.
ومتى عاد العبد المعلق عتقه على شرط أو صفة إلى سيده عاد إليه الشرط، كأن يبيعه أو يهبه ثم يعود إلى سيده بعد بيعه فإنه يعود إليه بشرطه.
جمهور العلماء على أن من علق عتق عبده على شرط ثم باعه قبل وقوع الشرط أو وهبه، فإن وقع الشرط بعد ذلك، فإن البيع لا ينفسخ ولا تبطل الهبة ولا يعتق العبد. وبه يقول أبو حنيفة والشافعي. وهو مذهب أحمد، وقال النخعي وابن أبي ليلى: ينتقض البيع ويعتق العبد.
-
اذكر بعض الفوائد من الحديث؟
- جواز تنجيز العتق مع اشتراط نفعه للمعتِق، أو اشتراط نفعه لغير المعتِق.
- صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق، وأنه يصح تعليق العتق بشرط، فيقع بوقوع الشرط.
- فيه جواز اشتراط الخدمة على المعتَق مدة معلومة بعد العتق أو قبله.
1429 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ.
===
-الحديث تقدم شرحه (790).
وفيه أن الولاء لمن أعتق.
فائدة:
عن عَائِشَة قَالَتْ (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا وَيَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ». قَالَتْ وَعَتَقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وكان زوجها عبداً. قَالَتْ وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا وَتُهْدِى لَنَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَكُمْ هَدِيَّةٌ فَكُلُوهُ). رواه مسلم
1430 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ اَلنَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ) رَوَاهُ اَلشَّافِعِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم وَأَصْلُهُ فِي "اَلصَّحِيحَيْنِ" بِغَيْرِ هَذَا اَللَّفْظ.
===
(اَلْوَلَاءُ) المراد به هنا ولاء العتاقة،
ما معنى قوله (لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ اَلنَّسَبِ)؟
وقال الزرقاني (في شرح الموطأ) الوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» قَالَ الْأُبِّيُّ: هَذَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم تَعْرِيفٌ لِحَقِيقَةِ الْوَلَاءِ شَرْعًا، وَلَا تَجِدُ تَعْرِيفًا أَتَمَّ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْعَتِيقِ نِسْبَةً تُشْبِهُ نِسْبَةَ النَّسَبِ وَلَيْسَتْ بِهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْعَبْدَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ كَالْمَعْدُومِ فِي نَفْسِهِ وَالْمُعْتِقُ صَيَّرَهُ مَوْجُودًا، كَمَا أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَعْدُومًا فَتَسَبَّبَ الْأَبُ فِي وُجُودِهِ، انْتَهَى. وَأَصْلُهُ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَى: "الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ" أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَهُ بِالْحُرِّيَّةِ إِلَى النَّسَبِ حُكْمًا كَمَا أَنَّ الْأَبَ أَخْرَجَهُ بِالنُّطْفَةِ إِلَى الْوُجُودِ حِسًّا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا يَقْضِي وَلَا يَلِي وَلَا يَشْهَدُ، فَأَخْرَجَهُ سَيِّدُهُ بِالْحُرِّيَّةِ إِلَى وُجُودِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ عَدَمِهَا، فَلَمَّا شَابَهَ حُكْمَ النِّسَبِ أُنِيطَ بِالْعِتْقِ فَلِذَا جَاءَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَأُلْحِقَ بِرُتْبَةِ النَّسَبِ، فَنَهَى عَنْ بَيْعِهِ وَعَنْ
هِبَتِه.
وقال الشيخ ابن جبرين: .... والمراد به أن الرجل إذا كان يملك عبداً فأعتقه، فذلك العبد العتيق يصير مولىً لذلك المعتق، وكأنه أحد أسرته وأحد أقاربه، ينتمي إلى تلك القبيلة التي هي قبيلة المعتق، وينتسب إليهم، ويكون كأحد أفرادهم، فلا يجوز أن تباع قرابته ولا أن توهب ولا أن تورث، بل تصير منة المعتق عليه أنه يلحق بنسبه ويكون كأحد أفراد النسب، هذا المراد بالولاء.
ولهذا شبه بالنسب: (لحمة كلحمة النسب) والنسب لا يجوز أن يباع ولا يجوز أن يوهب، فلو أن إنساناً مثلاً من قبيلة مشهورة أراد أن يخرج عن هذه القبيلة ويقول: أنا أبرأ من هذه القبيلة، وأنا أنتسب إلى قبيلة أخرى، كما لو كان مثلاً من قبيلة تميم وأراد أن ينتسب إلى غطفان، هل يجوز له ذلك؟ لا يجوز، هل يجوز لبني تميم أن يبيعوا واحداً منهم، ويقولون: نبيعكم يا غطفان، نبيعكم يا بني حنظلة، نبيعكم يا رباب هذا الرجل الذي كان منا ويكون واحداً منكم وينتسب إليكم؟ نقول: هذا أيضاً لا يجوز.
فإذا لم يجز بيع النسب فكذلك بيع الولاء.
يقول: (نهى عن بين الولاء وهبته) البيع: أخذ العوض على المبيع، والهبة: الهدية بلا عوض أو بلا عوض مسمى.
بمعنى أنه لا يجوز للمعتق أن يقول لإنسان أجنبي: بعتك قرابتي من هذا العبد الذي أعتقته بكذا وكذا، أو أهديتك قرابتي منه أو ولايتي منه، كما لا يجوز أن يبيع أولاده، فلا يجوز أن يقول: بعتك ولدي هذا، أو قرابتي من هذا الولد، أو أهديتك قرابتي من هذا الولد، أو قرابتي من هذا الأخ أو من هذا العم، أو نحو ذلك .... (شرح عمدة الأحكام)
ماذا نستفيد من الحديث؟
تحريم بيع الولاء وعن هبته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب، والنسب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض.
وقد تقدم ذلك في كتاب البيوع: في حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
بَابُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ
المدبر: تعليق العتق بالموت.
قال النووي: أي قال له أنت حر بعد موتي، وسمي هذا تدبيراً لأنه يحصل العتق فيه في دبر الحياة.
والمكاتَب: شراء العبد نفسه من سيده.
وأم الولد: هي التي ولدت من سيدها في ملكه، بأن يطأها السيد فتضع ما تبين فيه خلق إنسان، فتعتق بموته من رأس ماله.
1431 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ (فَاحْتَاجَ).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ (وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ وَقَالَ: اقْضِ دَيْنَكَ).
===
(دبّر) قال النووي: أي قال له أنت حر بعد موتي، وسمي هذا تدبيراً لأنه يحصل العتق فيه في دبر الحياة.
(لم يكن له مال غيره) جاء في رواية (وعليه دين) وفي رواية (وكان محتاجاً وعليه دين فباعه النبي صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم وأعطاه وقال: اقض دينك).
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد جواز التدبير.
قال النووي: وأجمع المسلمون على صحة التدبير.
ما سبب بيع النبي صلى الله عليه وسلم للعبد المدبر في حديث الباب؟
بيّنة الروايات سبب ذلك:
في رواية البخاري (لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ) ففي هذه الرواية دلالة على أن سبب بيعه أنه لا يملك غيره.
وفي رواية للبخاري أخرى (
…
فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني) ففي هذه الرواية التصريح أن سبب بيعه هو
احتياجه لثمنه.
وجاء في رواية النسائي (
…
وكان محتاجاً، وعليه ديْن، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي هذه الرواية أن سبب بيعه هو الديْن.
ما حكم بيع المدبّر؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: الجواز مطلقاً.
قال النووي: وممن جوزه عائشة وطاووس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود.
قياساً على الموصَى بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع. (قاله النووي).
وقالوا: إن قوله (وكان محتاجاً) لا مدخل له في الحكم، وإنما ذُكر لبيان السبب في المبادرة لبيعه.
القول الثاني: لا يجوز بيعه.
لحديث (لا يُباع مدبّر ولا يُوهب).
القول الثالث: يجوز بيعه للحاجة.
وهذا قول عطاء والحسن.
واختار هذا القول ابن دقيق العيد.
والراجح الجواز للحاجة.
قال الشوكاني: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْفِسْقِ وَالضَّرُورَةِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مُطْلَقًا.
وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا لَا الْمُدَبَّرُ تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَفُلَانٌ حُرٌّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.
ثم قال رحمه الله: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْبَيْعِ لِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ عَطَاءٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَالَ: مَنْ مَنَعَ الْبَيْعَ مُطْلَقًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ يُنَاقِضُهُ الْجَوَازُ الْجُزْئِيُّ، وَمَنْ أَجَازَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: قُلْت بِالْحَدِيثِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَهُ مُطْلَقًا بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ: " وَكَانَ مُحْتَاجًا " لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي الْمُبَادَرَةِ لِبَيْعِهِ لِيُبَيِّنَ لِلسَّيِّدِ جَوَازَ الْبَيْع. (نيل الأوطار).
هل المدبر يعتق من كل المال أم من الثلث؟
الجمهور يحسب من الثلث قياساً على الوصية.
قال الشوكاني: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ يَنْفُذُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ الثُّلُثِ؟
فَذَهَبَ الْفَرِيقَانِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ وَالْعِتْرَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ أَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ.
وَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَدَاوُد وَمَسْرُوقٌ إلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قِيَاسًا عَلَى الْهِبَةِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُخْرِجُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ
وَاعْتَذَرُوا عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَلَكِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهِبَةِ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمُشَابَهَةِ التَّامَّةِ (نيل الأوطار)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا قال الإنسان لعبده: أنت حر بعد موتي، صح، فإذا مات عتق، ولكن لا يعتق إلا بعد الديْن ومن الثلث فأقل، فحكمه حكم الوصية.
فإذا مات السيد والعبد مدبر، قيمته عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ عشرة آلاف، فإن العبد لا يعتق، لأن الدين مقدم عليه، ولهذا باع النبي صلى الله عليه وسلم العبد المدبر لقضاء دين سيده.
وإذا دبّر سيد عبده وقيمة العبد عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال، وليس له سوى هذا العبد، فنصفه للدين ويعتق ثلث النصف الباقي، أي سدس جميعه، والباقي للورثة، فيباع العبد على أن سدسه حر، فيوفى الدين، والباقي من الثمن يكون ثلثه للعبد، لأنه كسبَه بجزئه الحر، والباقي للورثة.
فائدة:
جمهور الفقهاء بل عامتهم على أنه لا فرق في حكم بيع المدبر بين أن يكون عبدًا وبين أن يكون أمة.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- في الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمرهم إياهم بما فيه الرفق بهم وإبطالهم ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.
- أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بنفسه وبمن يعول قبل الصدقة والتبرع.
- العتق بالتدبير أقل أجراً من العتق حال الحياة، لأن عتق التدبير يكون بعد الموت، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) أي الوارث.
- وكذلك العتق في مرض الموت أقل من العتق في الصحة.
- وجوب الاهتمام بسداد الديون وما على الإنسان من حقوق.
1432 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ
===
ما صحة حديث الباب؟
حسن كما قال المصنف رحمه الله.
عرف الكتابة، وما حكمها؟
الكتابة، هي: أن يشتري الرقيق نفسه من سيده بثمن مؤجل.
قال ابن قدامة: الْكِتَابَةُ: إعْتَاقُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدَّى مُؤَجَّلًا، سُمِّيَتْ كِتَابَةً؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَكْتُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كِتَابًا بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كِتَابَةً مِنْ الْكَتْبِ، وَهُوَ الضَّمُّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَضُمُّ بَعْضَ النُّجُومِ إلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْخَرَزُ كِتَابًا؛ لِأَنَّهُ يَضُمُّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ بِخَرْزِهِ .... (المغني)
فالكتابة: هو شراء العبد نفسه من سيده بأن يقع بين الرقيق وسيده عقد اتفاق على أن الرقيق يدفع لسيده مبلغاً من المال وتكون هذه المال نجوماً موزعة على مدد معينة. فإذا أداها العبد لسيده عتق العبد وصار حراً.
- قوله (بثمن مؤجل) أي: لا بد أن يكون المال مؤجلاً فلا تصح بمال حال.
لأن العبد ليس عنده مال ولو ملَّكه أحد مالاً فماله لسيده.
ولو قال قائل: العبد ليس عنده مال، ولكن لو فرض أن أحداً من الناس قال له: اشترِ نفسك من سيدك، وأنا أعطيك المال نقداً، ولهذا إن أراد المؤلف أنه لا بد من التأجيل فهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد تكون القضية كقضية بريرة مع عائشة رضي الله عنهما فإن بريرة كاتبت أهلها على تسع أواقٍ، ثم جاءت تستعين عائشة رضي الله عنها، فقالت: إن أراد أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت.
فهذا دليل على أن الكتابة يجوز أن تكون بحالٍ إذا كان من غير العبد، أما من العبد فهذا متعذر؛ لأنه لا يملك. (الشرح الممتع)
- والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
ومن السنة:
حديث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ (جَاءَتْ بَرِيرَةُ إِلَىَّ فَقَالَتْ يَا عَائِشَةُ إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ
…
). متفق عليه
وحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ) رواه أبو داود.
وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِى يُرِيدُ الأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ الْعَفَاف) رواه الترمذي.
وأجمع العلماء على مشروعية الكتابة.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن المكاتب لا يعتق ويكون له حكم الأحرار حتى يؤدي ما عليه من مال الكتابة، فإن بقي عليه شيء ولو قليلاً فهو عبد، تجري عليه أحكام الرقيق.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
قال النووي: أَنَّ الْمُكَاتَب لَا يَصِير حُرًّا بِنَفْسِ الْكِتَابَة بَلْ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَم كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء.
1433 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ..
===
ما صحة حديث الباب؟
إسناده ضعيف. نَبْهان مُكاتَب أم سلمة مقبول حيث يتابع، ولم يتابع على هذا الحديث وتفرد به.
قال الإِمام أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين، يعني هذا الحديث وحديث أفعمياوان أنتُما.
ماذا نستفيد من الحديث؟
الحديث يدل على أن المكاتب إذا كان معه من المال ما يفي بما عليه من دين الكتابة فإن مولاته تحتجب منه لأنه قد صار حراً، وإن لم يكن سلم هذا المال إليها.
لكن الحديث ضعيف، وهو معارض:
أولاً: بالحديث السابق. (الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ درهم).
ثانياً: عمل عائشة بخلافه:
فقد روى البيهقي في "سننه" بإسناد صحيح عن سليمان بن يسار قال (استأذنت على عائشة، فقالت: مَنْ هذا؟ فقلتُ: سليمان، قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك، قال: قلت: عشر أواقٍ، قالت: ادخُل، فإنك عبد ما بقي عليك درهم).
فائدة:
استدل بالحديث من قال أن المرأة لا تحتجب عن عبدها الذي تملكه.
جاء في موقع (الإسلام س ج):
اتفقوا - أي العلماء - على وجوب احتجاب المرأة أمام العبيد الأجانب الذين لا تملكهم، لكن وقع الخلاف في وجوب احتجاب المرأة من عبدها الذي تملكه على أقوال منها
القول الأول: جواز أن تظهر المرأة أمام مملوكها بما تظهر به عادة أمام المحارم.
وإلى ذلك ذهب بعض الشافعية والمالكية والحنابلة.
واستدلوا لذلك بقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ .. ) إلى قوله (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ).
وبما روي عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ كَانَ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، قَالَ: وَعَلَى فَاطِمَةَ رضي الله عنها ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا تَلْقَى قَالَ:(إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ) أخرجه أبو داود.
ولحديث الباب (إِنْ كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ).
وقالوا أن هذا الحديث دل بمفهومه على عدم وجوب احتجابها منه إذا لم يكاتب ولم يجد مال الكتابة.
قال ابن العربي في "أحكام القرآن" وأطلق علماؤنا المتأخرون القول بأن غلام المرأة في ذوي محارمها يحل منها ما يحل لذي المحرم، وهو صحيح في القياس " انتهى
وقال المرداوي في الإنصاف: " والصحيح من المذهب (أي الحنبلي) أن للعبد النظر من مولاته إلى ما ينظر إليه الرجل من ذوات محارمه " انتهى.
القول الثاني: أن المرأة يجب أن تحتجب أمام مملوكها وأنه لا يجوز له النظر إليها.
وإلى هذا ذهب فريق من العلماء منهم جمهور السلف كابن مسعود ومجاهد وعطاء والحسن وابن سيرين وطاووس وسعيد بن المسيب والشعبي وهو قول أبي حنيفة وأحمد والشافعي في رواية.
واستدلوا بعموم الأدلة على منع الرجال من النظر إلى النساء، ووجوب احتجاب المرأة منهم.
وقالوا: إن العبيد رجال فحول والشهوةُ متحققة فيهم، وهم ليسوا أزواجًا ولا محارم، بل أجانب؛ فحرمة زواج المرأة من مملوكها لا تجعله محرمًا لها؛ لأن هذه الحرمة ليست على التأبيد وإنما هي حرمة مؤقتة عارضة بسبب الرق؛ بدليل أنه يجوز له أن يتزوجها إن تحرر؛ ومن ثم فلا يحل للعبد النظر إلى مولاته، ولا يجوز لها التكشف وإبداء الزينة أمامه.
وتأولوا آية سورة النور بأنها في حق الإماء الإناث فقط دون الذكور، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: " لا تغرنكم آية النور فإنما عني بها الإماء، ولم يعن بها العبيد.
قال الجصاص في " أحكام القرآن ": " قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته، وهو مذهب أصحابنا، إلا أن يكون ذا محرم.
وتأولوا قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) على الإماء؛ لأن العبد والحر في التحريم سواء، فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها، فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها، وكمن عنده أربع نسوة سائر النساء محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن، فلما لم يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريمًا مؤبدًا كان العبد بمنزلة سائر الأجنبيين.
وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم).
والعبد ليس بذي محرم منها، فلا يجوز أن يسافر بها، وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع؟
قيل له: ليس كذلك لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) وأراد بهن الحرائر المسلمات، فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها، فأبان تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء، وإنما خص نساءهن بالذكر في هذا الموضع لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله:(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنّ .. ) إلى آخر ما ذكر، فكان جائزًا أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم، فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات محارم، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله:(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) يقتضي الحرائر دون الإماء، كما كان قوله:(وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ .. ) النور/ 32، على الحرائر دون المماليك، وقوله:(شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) الأحرار؛ لإضافتهم إلينا، كذلك قوله:(أَوْ نِسَائِهِنَّ) على الحرائر، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر " انتهى.
وأجاب أصحاب القول الثاني كذلك عن حديث أنس بأنه واقعة حال، وبأن قوله صلى الله عليه وسلم:(وغلامك) يدل بظاهره على أن هذا المملوك كان صغيرًا.
وأجابوا عن حديث أم سلمة بأنه ضعيف لا يصح لجهالة نبهان مولى أم سلمة راوي الحديث، وقد نقل البيهقي في سننه (10/ 327) عن الشافعي قوله:" لم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث " انتهى.
القول الثالث: أجاز فريق من العلماء أن ينظر المملوك إلى الوجه والكفين من مولاته للحاجة فقط، وأنه بذلك لا يعد كمحارمها، فلا يجوز له الخلوة بها ولا السفر معها.
ولعل هذا هو أعدل الأقوال وأوسطها وأقربها جمعًا للنصوص. انتهى.
1434 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يُودَى الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ، وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْد) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
===
(يُودَى) بضم الياء أي: يعطى دية.
(بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ) أي: بحصة ما صار منه حراً بأداء بعض نجوم الكتابة.
(وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْد) أي: ويعطى المكاتب دية العبد بقدر ما بقي منه عبداً.
ما صحة حديث الباب؟
هذا الحديث اختلف فيه اختلافاً كبيراً ومداره على عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس، واختلف في وصله وإرساله وسيأتي كلام البيهقي فيه إن شاء الله.
ما معنى الحديث؟
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم حكم للمكاتب إذا قُتِل أنه يُعطى دية الحر بقدر ما أدّى منْ مال الكتابة؛ لأنه حر بقدر ذلك، ويُعطى دية العبد بقدر ما بقي، فلو أدّى نصفه مثلاً، يعطى نصف دية الحرّ، ونصف دية العبد.
ماذا نستفيد من الحديث؟
هذا الحديث يدل على أن المكاتب إذا أدى بعض أقساط دين الكتابة، أنه يكون مبعضاً، بعضه حر وبعضه رقيق.
فإذا قتل المكاتب فإن فيه دية حر ودية رقيق، بقدر ما فيه من الحرية وما بقي فيه من الرق، فعلى قاتله نصف دية حر ونصف قيمته.
وهذا الحديث معارض بالحديث الذي تقدم (أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم).
فالراجح مذهب الجمهور أنه لا يثبت له شيء من أحكام الأحرار حتى يستكمل حريته.
قَالَ فِي "المغني": قَالَ الخطّابيّ: أجمع عوام الفقهاء، عَلَى أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فِي جنايته، والجناية عليه، إلا إبراهيم النخعي، فإنه قَالَ فِي المكاتب يُؤدي بقدر ما أدى منْ كتابته دية الحر، وما بقي دية العبد، ورُوي فِي ذلك شيء عن علي رضي الله عنه، وَقَدْ رَوَى أبو داود فِي "سننه"، والإمام أحمد فِي "مسنده"، قَالَ: حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا هشام بن أبي عبد الله، قَالَ: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي المكاتب، يُقتل أنه يُودَى ما أدى منْ كتابته دية الحر، وما بقي دية العبد، قَالَ الخطّابيّ: وإذا صح الْحَدِيث وجب القول به، إذا لم يكن منسوخًا، أو معارضا بما هو أولى منه. (المغني)
قال البيهقي: حديث عكرمة إذا وقع فيه الاختلاف وجب التوقف فيه، وهذا المذهب إنما يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أنه يعتق بقدر ما أدى وفي ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر والله أعلم. (السنن الكبرى)
1435 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ اَلْحَارِثِ- أَخِي جُوَيْرِيَةَ أُمِّ اَلْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما قَالَ (مَا تَرَكَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ اَلْبَيْضَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
- (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ اَلْحَارِثِ) هو عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، روى عمرو عن أخته جويرية، وعن أبيه الحارث، وعن ابن مسعود رضي الله عنه.
أَخِي جُوَيْرِيَةَ) بنت الحارث، سباها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، ماتت سنة: 56 هـ.
قال ابن القيم: وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ السّبْيِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيّدِ الْقَوْمِ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَكَاتَبَهَا فَأَدّى عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَزَوّجَهَا فَأَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ هَذَا التّزْوِيجِ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مَنْ بُنِيَ الْمُصْطَلِقِ قَدْ أَسْلَمُوا وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
(إِلَّا بَغْلَتَهُ اَلْبَيْضَاءَ) وفي رواية (إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها).
(وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) وفي رواية (وأرضا بخيبر جعلها صدقة) وفي رواية (وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة).
ماذا نستفيد من الحديث؟
فيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا والتقلل منها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
قال ابن القيم رحمه الله: " وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الزهد على ثلاثة أوجه، الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين.
وقد تكفَّل الله لمن لا يجعل الدنيا أكبر همه بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت الآخرة هَمّهُ جعل الله كفاه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له .... (وسيأتي كلام عن الزهد في كتاب الجامع)
كرم النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث إشارة إلى اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكرم.
قال القسطلاني رحمه الله على قول عمرو بن الحارث في الحديث (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة) فيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إمَّا مات وإمَّا أعتقه.
وقال العيني: وقد ذكرنا في تاريخنا الكبير أنه كان له عبيد ما ينيف على ستين، وكانت له عشرون أمة، فهذا يدل على أن منهم من مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعتقهم، ولم يبق عبد بعده ولا أمة وهو في الرِّقيّة. (العمدة)
وهذا يدل على كرمه صلى الله عليه وسلم: فعن أنس رضي الله عنه قال (ما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: "فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة). (وسيأتي كلام عن الكلام إن شاء الله في كتاب الجامع).
الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى، فقد دل الحديث على الإِعداد للجهاد والتأهب له.
قال القسطلاني رحمه الله في شرحه لهذا الحديث (إلا سلاحه) أي الذي أعده لحرب الكفار: كالسيوف.
وقال ابن الأثير: السلاح ما أعددته للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحاً.
أهمية الوقف، فقد دل مفهوم الحديث وما في معناه من الأحاديث الأخرى على أن الوقف له أهمية بالغة؛ ولهذا اعتنى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث (وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة) وقال صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
لم يوص النبي صلى الله عليه وسلم وصية المال لأحد؛ لأنه لا يورث، وأوصى بأشياء أخرى.
المؤمن يأخذ من الدنيا بقدر ما يعينه على الآخرة، ويقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.
1436 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ) أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيف.
وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ وَقْفَهُ عَلَى عُمَر.
===
ما صحة حديث الباب؟
الراجح وقفه على عمر، وهو الصواب، فقد رواه البيهقي في «الكبرى» بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال (إذا ولدت أم الولد من سيدها، فقد عتقت وإن كان سقطاً). وقد ضعَّف الحافظ في «التلخيص» المرفوع، وصحَّح الموقوف. وهو الصواب.
ماذا نستفيد من الحديث؟
أن أم الولد (هي التي ولدت لسيدها في ملكه) أن يطأ سيد أمته فتضع ما يتبين فيه خلق إنسان سواء وضعته حياً أو ميتاً فإنها تعتق بموته من رأس ماله.
بشرط أن تضع ما يتبين فيه خلق إنسان سواء ولدته حياً أو ميتاً، وتكون حرة بعد موت سيدها وتعتق عتقاً قهرياً من رأس المال.
قال الشيخ ابن عثيمين: يعني إذا ولدت ولو ميتاً أو حياً فإنه لا بد أن يتبين فيه خلق إنسان، يتبين فيه اليدان والرجلان والرأس، وهذا إنما يكون بعد بلوغ الحمل ثمانين يوماً، أما قبل ذلك فلا يمكن أن يُخَلَّق؛ لأن الجنين في بطن أمه يكون في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، ثم في الثالثة يكون مضغة مخلقة وغير مخلقة، إذاً لا يمكن أن يبدأ التخطيط إلا بعد الثمانين، فبعد الثمانين يمكن أن يخلق، وفي التسعين الغالب أنه مخلَّقٌ.
1437 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اَللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم.
===
ما صحة حديث الباب؟
إسناده ضعيف؛ فيه عبد الله بن سهل بن حنيف وهو مجهول، وكذلك عبد الله بن محمد بن عقيل لا يقبل منه إذا تفرد.
-
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد إثبات الكتابة - كما تقدم أدلتها - وفضل من أعان مكاتباً على كتابته.
وقد تقدم تعريف الكتابة: وهي: أن يشتري الرقيق نفسه من سيده بثمن مؤجل.
ما حكم الكتابة إذا طلبها الرقيق؟
تسن الكتابة إذا طلب العبد ذلك من سيده.
لقوله تعالى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
لكن الله اشترط أن يعلم أسيادهم فيهم خيراً، وهو:
أ- الصلاح في الدين. ب- والقدرة على الاكتساب.
لأنه لو كان غير صالح في دينه ازداد بعد عتقه فساداً، ويخشى أن يميل بعاطفته إلى الكفر، ولو كان غير قادر على الاكتساب كمريض صار كَلاًّ على الناس.
وهذا الأمر للاستحباب.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ مُكَاتَبَتَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إجَابَتُهُ، إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ.
فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْم .... (المغني)
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب إجابته، إن علمنا فيه خيراً. (صلاح في الدين - وقدرة على الكسب).
لظاهر الآية (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
وهذا أمر، والأمر للوجوب.
والراجح مذهب الجمهور.
لأن العبد مال للسيد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد.
-
اذكر بعض أحكام الكتابة؟
فائدة: 1
قال ابن قدامة: وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَدَاءِ عِوَضِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ أَقْوَى جِهَاتِ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ.
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيُعْطِيَ، فِيمَا فِيهِ الصَّلَاحُ لِمَالِهِ، وَالتَّوْفِيرُ عَلَيْهِ.
وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ؛ فِي مَأْكَلِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَكُسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا لَا غَنَاءَ لَهُ عَنْهُ، وَعَلَى رَقِيقِهِ، وَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ.
وَلَهُ تَأْدِيبُ عَبِيدِهِ، وَتَعْزِيرُهُمْ، إذَا فَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ، فَمَلَكَهُ، كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ. (المغني).
فائدة: 2
ويجوزُ بيعُ المكاتَب، ومُشْتريهِ يقومُ مَقامَ مُكاتِبِه.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (جاءَتني بريرة فقالت: كاتَبْتُ أَهلي عَلى تسعِ أوَاقٍ، في كلِّ عَامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني. فقلت: إن أحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أعُدَّها لَهُم، ويَكُونَ وَلَاؤُكِ لي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِهَا، فقالت لَهُمْ، فأبَوْا عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِم، ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فقالت: إنِّي عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فأبَوْ إلاَّ أنْ يكُونَ لَهُمْ الْوَلاءُ، فأخْبَرَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالَ: (خُذِيَها، وَاشْتَرطِي لهُم الوَلَاءَ، فإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ) فَفَعَلَتْ عائشة، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ، فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال:(أما بعد: ما بالُ رجالٍ يشترطونَ شرُوطاً لَيْسَتْ في كتابِ اللهِ ما كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ في كتاب اللهِ فَهُوَ باطلٌ وَإنْ كانَ مَائَةَ شَرْط، فقضاءُ الله أحق، وَشَرْطُهُ أوْثَقُ، فإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه.
قال ابن الملقن: اختلف العلماء في جواز بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب:
أحدها: جوازه.
وهو قول عطاء والنخعي وأحمد ومالك في رواية الشافعي في أحد قوليه.
استدلالاً بهذا الحديث.
وعليه بوب البخاري بيع المكاتبة إذا رضي المكاتب.
فإن بريرة كانت مكاتبة وباعتها الموالي واشترتها عائشة وأمر صلى الله عليه وسلم ببيعها وعليه بوب البخاري بيع المكاتب إذا رضي المكاتب. (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)
فائدة: 3
الكتابة عقد لازم، فليس للآخر فسخ الكتابة إلا بإذن صاحبه.
فائدة: 4
ولا تنفسخ بموت السيد وجنونه، لأنها عقد لازم أشبه البيع، فإذا مات السيد أدى المكاتب ما عليه لورثة السيد.
قال ابن قدامة:
…
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى فَسْخِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُؤَدِّي نُجُومَهُ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لِمَوْرُوثِهِمْ، وَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. (المغني).
فائدة: 4
إذا حلّ نجم فلم يؤده فلسيده الفسخ، لأن السيد رضي بالكتابة على أن يسلم له مال الكتابة على الوجه الذي كاتبه عليه، فإذا لم يف فله الحق في فسخ العتق.
فائدة: 5
قال ابن قدامة: وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ، وَيَمُوتُ عَبْدًا، وَمَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ.
فائدة: 6
ليس للمكاتب أن يتزوج من غير إذن سيده.
قال ابن قدامة: هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَهُوَ عَاهِرٌ).
وَلِأَنَّ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ نَاقِصَ الْقِيمَةِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ مِنْ كَسْبِهِ، فَيَعْجِزُ عَنْ تَأْدِيَةِ نُجُومِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَالتَّبَرُّعِ بِهِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ .... (المغني)
ما المراد بالظل في قوله (أظله الله في ظله)؟
اختلف العلماء في المراد في هذا الظل:
القول الأول: المراد في ظل عرشه.
وإلى هذا ذهب الطحاوي، وابن رجب، والقرطبي، وابن حجر، وهو ظاهر صنيع ابن منده، والسيوطي، وحافظ حكمي.
ويدل عليه:
أ-حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه
…
) وحسن إسناده ابن حجر، والعيني، والسيوطي.
ب- أن الظل جاء مضافاً إلى العرش في عدة أحاديث غير هذا:
كحديث (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه
…
) رواه الترمذي.
وحديث (المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله).
القول الثاني: المراد بالظل المضاف إلى الله في الحديث رحمته.
وإلى هذا ذهب ابن عبد البر في أحد قوليه، وذكره البغوي، والبيهقي وغيرهما.
وأصحاب هذا القول، منهم من يفسر الرحمة بدخول الجنة كابن عبد البر، ومنهم من يفسرها بالرعاية والكرامة والحماية، كما يقال: أسبل الأمير أو الوزير ظله على فلان، بمعنى الرعاية والحماية.
وممن فسرها بهذا: عيسى بن دينار، والبيهقي، والبغوي، والقاضي عياض.
القول الثالث: أن المراد بالظل في الحديث: ظل يخلقه الله، لأنه في ذلك الوقت لا يوجد شيء يظل الخلائق من الشمس، فلا بناء ولا شجر ولا رمال ولا حجر، إلا ما يخلقه الله تعالى.
وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين.
والراجح الأول.
اذكر بعض الخصال والطاعات الموجبة لهذا الفضل (في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله)؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) متفق عليه.
قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّه) رواه مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه
…
) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم (المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله).
وعن أبي هريرة. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي) رواه مسلم.
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قَالَ اللَّهُ عز وجل الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي فِي ظِلِّ عَرْشِي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) رواه أحمد.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ) رواه أحمد.
فائدة:
هناك آخرون يظلّهم الله في ظلّه -غير السبعة المذكورين في الحديث السابق- جاء ذكرهم في أحاديث أخرى، نظمهم ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري وهم: "إِظْلال الْغَازِي، وعَوْن الْمُجَاهِد، وإِنْظَار الْمُعْسِر وَالْوَضِيعَة عَنْهُ وَتَخْفِيف حِمْلِهِ، وَإِرْفَادَ ذِي غُرْم، وَعَوْن الْمَكَاتِب، وتَحْسِين الْخُلُق، والمَشْي إلى المساجد، والتَّاجِر الصَّدُوق، وَآخِذ حَقّ، والبَاذِل، والكَافِل.
ماذا نستفيد من قوله (من أعان
…
)؟
فضل إعانة المسلم لأخيه المسلم.
عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (والله في عَونِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ في عَونِ أخِيهِ) رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَال (
…
ومَنْ كَانَ في حَاجَة أخِيه، كَانَ اللهُ في حاجته) متفق عليه.
وفي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل) رواه مسلم.
قال ابن رجب: وخرَّج الطبراني من حديث عمر مرفوعاً (أفضلُ الأعمال إدخالُ السُّرور على المؤمن: كسوت عورته، أو أشبعت جَوْعَتُه، أو قضيت له حاجة).
وبعث الحسنُ البصريُّ قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مرُّوا بثابت البناني، فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمش أما تعلم أنَّ مشيك في حاجةِ أخيك المسلم خير لك مِنْ حجة بعد حَجَّةٍ؟ فرجعوا إلى ثابتٍ، فترك اعتكافه، وذهب معهم.
وخرَّج الإمام أحمد من حديث ابنةٍ لخبَّاب بن الأرت، قالت: خرج خبَّاب في سريَّةٍ، فكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعاهدُنا حتى يحلُب عنْزةً لنا في جَفْنَةٍ لنا، فتمتلئ حتّى تفيضَ، فلمَّا قدم خبَّابٌ حلبَها، فعادَ حِلابها إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه يحلبُ للحيِّ أغنامهم، فلمَّا استخلف، قالت جاريةٌ منهم: الآن لا يحلُبُها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلتُ فيه عن شيءٍ كنتُ أفعلُه، أو كما قال.
وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل، ورآه طلحةُ بالليل يدخلُ بيتَ امرأةٍ، فدخلَ إليها طلحةُ نهاراً، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ، فسألها: ما يصنعُ هذا الرَّجلُ عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يُصلِحُني، ويخرج عنِّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمُّكَ طلحةُ، عثراتِ عمر تتبع؟
وكان أبو وائل يطوفُ على نساء الحيِّ وعجائزهم كلَّ يوم، فيشتري لهنَّ حوائجهنّ وما يُصلِحُهُنَّ.
وقال مجاهد: صحبتُ ابنَ عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدُمُني. (جامع العلوم)
قال ابن القيم رحمه الله في وصف شيخ الإسلام ابن تيميه: كان شيخ الإسلام يسعى سعياً شديداً لقضاء حوائج الناس.
قال الذهبي عن شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: وله محبون من العلماء، والصلحاء، ومن الجند، والأمراء، ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
كان علي بن الحسين رحمه الله يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك، كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل.
ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجعله مفاتحاً للخير والإحسان.
عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (عِنْدَ اللَّهِ خَزَائِنُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، مَفَاتِيحُهَا الرِّجَالُ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، وَمِغْلاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ، وَمِغْلاقًا لِلْخَيْر) رواه ابن ماجه.
وأن يسخره لقضاء حوائج الناس.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِم) أخرجه الطبراني.
كِتَابُ اَلْجَامِعِ
بَابُ اَلْأَدَبِ
تعريفه:
قال ابن حجر: استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً.
وقال ابن القيم: استعمال الخلق الجميل.
أقوال في الأدب:
قال الإمام مالك: كانت أمي تعمِّمني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
وقال ابن المبارك: كانوا يطلبون الأدب ثم العلم.
وقال أيضاً: كاد الأدب يكون ثلثي العلم.
وقال أيضاً: تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة.
وقال أيضاً: مَنْ تهاون بالأدب عوقب بحرمان السُّنن، ومَن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومَن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة ..
وقال سفيان الثوري: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة.
وقال ابن سِيرين: كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلم.
وقال بعض السلف لابنه: يا بني لأن تتعلم بابا من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين بابا من أبواب العلم.
وقال الحسن البصري: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال الذهبي: يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف، خمسمائة يكتبون، والباقون يستمدون من سمته وخلقه وأدبه.
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
وقال بعض الحكماء: الأدب في العمل علامةُ قَبول العمل.
قال أبو حنيفة: صحِبْتُ حماد بن أبي سليمان ثمانيَ عَشْرةَ سنة.
وقال رحمه الله: ما صليتُ صلاة منذ مات حماد إلا استغفرتُ له مع والديَّ، وإني لأستغفرُ لمَن تعلَّمت منه علمًا، أو علَّمته علماً.
و قال مالكُ بن أنس: كان الرجلُ يختلَّف إلى الرجل ثلاثين سنةً يتعلَّم منه.
وقال رحمه الله: جالس نُعَيم المُجِمر أبا هريرةَ عشرين سنة.
وقال ثابتٌ البُناني: صحِبْتُ أنس بن مالكٍ أربعين سنةً، ما رأيتُ أعبَدَ منه.
قال نافعُ بن عبدالله: جالستُ مالكًا أربعين سنةً، أو خمسًا وثلاثين سنةً، كل يومٍ أبكِّر وأهجِّر وأروح.
قال الإمام ابن القيم: أدب المرء: عنوانُ سعادته وفلاحه، وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبَوَارِه، فما استُجلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلِب حرمانُهما بمثل قلة الأدب.
قال الخطيبُ البغدادي: الواجب أن يكون طلبةُ الحديث أكملَ الناس أدبًا، وأشد الخَلْق تواضعًا، وأعظمهم نزاهةً وتديُّنًا، وأقلَّهم طيشًا وغضبًا؛ لدوام قرعِ أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابه، وسيرة السلف الأخيار مِنْ أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدِّثين، ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، ويَصدِفوا (يبتعدوا) عن أرذلِها وأدونها.
1438 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (حَقُّ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اِسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اَللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ) رَوَاهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن للمسلم على أخيه المسلم حقوقاً ينبغي مراعاتها:
أولاً: إِذَا لَقيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ.
فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه.
ففي حديث أبي هريرة (
…
إِذَا لَقيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ).
وفي حديث البراء (
…
وَإِفْشَاءِ السَّلامِ).
وابتداء السلام سنة، ورد السلام واجب.
قال النووي رحمه الله: نَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اِبْتِدَاء السَّلَام سُنَّة، وَأَنَّ رَدَّهُ فَرْض. (نووي).
جاء في (الموسوعة الفقهية) ابتدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) وَيَجِبُ الرَّدُّ إِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ أَثِمُوا لِخَبَرِ؛ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَام.
الذي يجب عليه رد السلام هو المُسَلَّم عليه، أي: المقصود بإلقاء السلام؛ فإن كان شخصاً واحداً، وجب عليه وجوباً عينياً، وإن كانوا جماعة، وجب عليهم وجوباً كفائياً أن يردوا السلام؛ فمتى رد واحد منهم، حصل المقصود، ولو ردوا جميعاً فهو أفضل.
- وينبغي أن يسلم على من يعرف ومن لا يعرف:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو م أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) متفق عليه.
قال النووي: أي تسلم على كل مَنْ لقيته عرفته أم لم تعرفه، ولا تخُص به من تعرفه كما يفعله كثير من الناس.
- وفي قوله (وتقرأ السلام
…
) هذا عام مخصوص بالكفار فلا يجوز ابتداء الكافر بالسلام.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام) متفق عليه.
ثانياً: وَعِيَادَةُ المَريض.
وقد اختلف العلماء في حكم عيادة المريض:
القول الأول: أنها سنة مؤكدة.
وهذا قول جمهور العلماء.
للأحاديث الكثيرة التي وردت في فضلها.
عن ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قَال (إنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَادَ أخَاهُ المُسْلِمَ، لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ)) قِيلَ: يَا رَسولَ الله، وَمَا خُرْفَةُ الجَنَّةِ؟ قَالَ:(جَنَاهَا) واه مسلم.
وعن رضي الله عنه عليّ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ مُسْلِم يَعُودُ مُسْلِماً غُدْوة إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِي، وَإنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ في الْجَنَّة) واه الترمذي، وقال:((حديث حسن)).
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضاً أو زار أخاً له، قيل له: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) رواه الترمذي.
وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَومَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلَاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أطْعِمُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أسْقِيكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي) رواه مسلم
القول الثاني: أنها فرض كفاية.
وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله، وهذا القول هو الراجح، للأمر بها:
كما في حديث البراء قال (أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبعٍ: بِعَيادَةِ المريض).
وفي حديث أبي هريرة (حَقُّ المُسْلِم عَلَى المُسْلِم ستٌّ
…
وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ).
وعن أَبي موسى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (عُودُوا المَريضَ، وَأطْعِمُوا الجَائِعَ، وَفُكُّوا العَانِي) رواه البخاري.
- في عيادة المريض فوائد: منها: يؤدي حق أخيه المسلم - أنه لا يزال في خرفة الجنة - أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه في الصحة - أن فيها جلباً للمحبة والمودة. (قاله الشيخ ابن عثيمين)
ثالثاً: وَإِذَا دَعَاكَ فَأجبْهُ.
فإن كانت دعوة عرس، فقد ذهب جماهير العلماء إلى وجوبها، بل نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك كابن عبد البر، والقاضي عياض وغيرهما.
قال ابن حجر: وقد نقل ابن عبد البر، ثم عياض، ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس، وفيه نظر.
أ- للأمر بها كما في حديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى اَلْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُجِبْ; عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ).
وفي رواية (ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُم).
وفي رواية (أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا).
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث: أنها تضمنت الأمر بإجابة الدعوة لوليمة العرس، والأمر للوجوب، والخطاب عام لكل من عُيّن بالدعوة، فكانت الإجابة فرض عين على من دعي إليها.
ب-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (شَرُّ اَلطَّعَامِ طَعَامُ اَلْوَلِيمَةِ: يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ اَلدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اَللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فهذا ظاهر على الوجوب، لأنه حكِمَ بالعصيان على من ترك الإجابة، ولا يحكم بالعصيان إلا على ترك واجب.
قال الشوكاني: والظاهر الوجوب، للأوامر الواردة بالإجابة من غير صارف لها عن الوجوب، ولجعْل الذي لم يجب عاصياً، وهذا في وليمة النكاح في غاية الظهور.
وقيل: مستحبة.
وإليه ذهب بعض المالكية والشافعية والحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قالوا: لأن الأصل في الوليمة أنها مندوبة فيكون الحضور مندوباً.
وقالوا: لأن الوليمة تمليك مال، وتمليك المال ليس بواجب
وقيل: فرض كفاية.
قالوا: لأن المقصود من حضور الوليمة إظهار الزواج وإعلانه، وهذا يحصل ببعض الناس.
والراجح القول الأول وهو الوجوب.
ولهذا قال ابن عبد البر: وفي قوله في هذا الحديث (فقد عصى الله ورسوله) ما يرفع الإشكال، ويغني عن الإكثار.
- وأما إجابة دعوة غير العرس، فقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: مستحبة.
وعزاها ابن حجر للجمهور.
أ- لحديث ابن عمر (إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب) قالوا: فلما خص الوجوب بوليمة العرس دل على أن غيرها لا يجب.
ب-ولحديث أنس (أن جاراً فارسياً لرسول صلى الله عليه وسلم كان طيب المرق فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول وهذه [لعائشة]؟ فقال الفارسي: لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فعاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه [لعائشة] قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه، قال: نعم، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله) رواه مسلم
قال العلماء: وإنما أبى الفارسي من حضور عائشة: أن هذا المرق كان قليلاً لا يكفي اثنين، فأراد أن يؤثر به النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: الوجوب كالعرس.
وهذا مذهب ابن عمر وهو قول أهل الظاهر وبعض الشافعية ونصره ابن حزم.
أ- لرواية مسلم (
…
عرساً كان أو نحوه) فهذا دليل على وجوب إجابة الدعوة مطلقاً.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله).
ج- ولحديث أبي هريرة – حديث الباب - (حق المسلم على المسلم: وإذا دعاك فأجبه)
د- ولقوله صلى الله عليه وسلم (عودوا المريض وأجيبوا الداعي). والله أعلم.
رابعاً: وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَشَمِّتْهُ.
فيشرع للمسلم أن يشمت العاطس إذا حمد الله.
قال النووي: وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوع، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي إِيجَابه. (نووي).
وقد اختلف العلماء في حكم تشميت العاطس إذا حمد الله على أقوال:
فقيل: واجب.
قال النووي: فَأَوْجَبَهُ أَهْل الظَّاهِر، وَابْن مَرْيَم مِنْ الْمَالِكِيَّة عَلَى كُلّ مَنْ سَمِعَهُ.
أ- لحديث الباب – أبي هريرة – (وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَشَمِّتْهُ).
ب- ولحديث البراء قال (أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمَرَنَا بعيَادَة المَرِيض، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وتَشْمِيتِ العَاطسِ،
…
).
ج- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاوُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاع
…
) رواه البخاري.
قال ابن حجر: وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر وقال بن أبي جمرة قال جماعة من علمائنا إنه فرض عين وقواه بن القيم في حواشي السنن فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبلفظ على الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء.
وقال ابن القيم: فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَبْدُوءِ بِهِ: أَنَّ التَّشْمِيتَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَلَا يُجْزِئُ تَشْمِيتُ الْوَاحِدِ عَنْهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ ابن أبي زيد، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيَّانِ، وَلَا دَافِعَ لَه. (زاد المعاد).
وقيل: فرض كفاية.
ورجحه أبو الوليد بن رشد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة.
وقيل: مستحب.
وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية. (الفتح).
قال النووي: وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَآخَرِينَ أَنَّهُ سُنَّة وَأَدَب، وَلَيْسَ بِوَاجِب.
قال ابن حجر: والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض
- يشرع تشميت العاطس إذا حمد الله، فإن لم يحمد الله فلا يشمت، قال ابن العربي: وهو مجمع عليه.
أ- لحديث أبي هريرة السابق (فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ).
ب- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقَالَ الَّذِى لَمْ يُشَمِّتْهُ عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّتَّهُ وَعَطَسْتُ أَنَا فَلَمْ تُشَمِّتْنِي. قَالَ: إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ) متفق عليه.
ج- وعن أَبِى مُوسَى قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ) رواه مسلم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة الْحَمْد:
فَقِيلَ: يَقُول: الْحَمْد لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، وَقِيلَ: الْحَمْد لِلَّهِ عَلَى كُلّ حَال، وَقَالَ اِبْن جَرِير: هُوَ مُخَيَّر بَيْن هَذَا كُلّه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَأْمُور بِالْحَمْدِ لِلَّهِ. (نووي).
وَاخْتَلَفُوا فِي رَدّ الْعَاطِس عَلَى الْمُشَمِّت، فَقِيلَ: يَقُول: يَهْدِيكُمْ اللَّه وَيُصْلِح بَالكُمْ، وَقِيلَ: يَقُول: يَغْفِر اللَّه لَنَا وَلَكُمْ، وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ: يُخَيَّر بَيْن هَذَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقَدْ صَحَّتْ الْأَحَادِيث بِهِمَا. (نووي).
خامساً: وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ.
قال النووي: مَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْك النَّصِيحَة، فَعَلَيْك أَنْ تَنْصَحهُ، وَلَا تُدَاهِنهُ، وَلَا تَغُشّهُ، وَلَا تُمْسِك عَنْ بَيَان النَّصِيحَة.
وحكمها: واجبة على الكفاية.
قال ابن مفلح رحمه الله: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ وُجُوبُ النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِخْبَارِ (الآداب الشرعية)
وقال الملا علي القاري رحمه الله: (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصيحة (فانصح له) وجوباً، وكذا يجب النصح وإن لم يستنصحه. (مرقاة المفاتيح).
سادساً: وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْه.
ففي رواية لمسلم (خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيه .... )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية.
1439 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي: في أمور الدنيا من مسكن وجاه ومال.
(وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ) فيها.
(فَهُوَ أَجْدَرُ) أي: أحرى.
(أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ) أي: أن لا تحتقروا.
ماذا من نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه ينبغي للمسلم أن ينظر في أمور الدنيا - من جاه ومال ومسكن - إلى من هو أقل منه ودونه.
وقد جاء في الصحيحين: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ).
قال الحافظ العراقي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ أَدَّبَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ مَصْلَحَةُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَعُقُولِنَا وَأَبْدَانِنَا وَرَاحَةِ قُلُوبِنَا فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ نَصِيحَتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى بِهِ نَبِيّاً.
وقال السعدي: فيالها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية.
ونستفيد: أن نظر الإنسان إلى من فضّل عليه في المال والرزق والأولاد سبب لعدم شكر الله تعالى، واحتقار نعمة الله عليه.
ما الفائدة التي يستفيدها المسلم من نظره إلى من هو أقل منه؟
في ذلك فوائد:
أولاً: شكر الله على نعمه، فهذا التوجيه النبوي من أعظم أسباب تحقيق عبودية الشكر لله تعالى.
ثانياً: عدم احتقاره نعمة الله على العبد.
قال النووي: قَالَ اِبْن جَرِير وَغَيْره: هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ. هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس. وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر.
وقال السعدي: ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع: استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)، فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها
…
وكلما طال تأمل العبد بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيرا كثيرا ودفع عنه شرورا متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور. انتهى.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارزقني حب المساكين.
قال ابن رجب رحمه الله: اعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة:
منها: أنها توجب إخلاص العمل لله.
لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله تعالى، لأن نفعهم في الدنيا لا يرجى غالباً.
ومنها: أنها تزيل الكبْر.
لأن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين، كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب.
ومنها: أنه يوجب صلاح القلب وخشوعه.
ففي حديث أبي هريرة (أن رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له: إن أحببتَ أن يلين قلبُك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم) رواه أحمد.
ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضى من يجالسهم برزق الله عز وجل، وتعظم عنده نعمة الله، ومجالسة الأغنياء توجب التسخط بالرزق ومد العين إلى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال تعالى (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وقال صلى الله عليه وسلم (انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقَكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم).
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بحب المساكين.
قال أبو الدرداء (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى دوني، ولا أنظر إلى من فوقي، وأوصاني أن أحب المساكين وأن أدنو منهم).
وكان عون بن عبد اله يجالس الأغنياء فلا يزال في غم، لأنه لا يزال يرى من هو أحسن منه لباساً ومركباً وطعاماً ومسكناً، فتركهم وجالس المساكين فاستراح.
وفي الحديث (اللهم إني أسألك فعل الخيرات
…
وحب المساكين).
ويروى أن داود كان يجالس المساكين ويقول: مسكين بين مساكين.
قال ابن رجب: وحب المساكين مستلزم لإخلاص العمل لله تعالى، والإخلاص هو أساس الأعمال الذي لا تثبت الأعمال إلا عليه.
ولم يزل السلف يوصون بحب المساكين.
كتب الثوري إلى بعض إخوانه: عليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه حب المساكين.
ويروى عن أبي هريرة قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين.
وكانت زينب بنت خزيمة تسمى أم المساكين لكثرة إحسانها إليهم، وتوفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومر الحسن بن علي على مساكين يأكلون، فدعوه فأجابهم وأكل معهم وتلا (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).
وكان ابن عمر لا يأكل غالباً إلا مع المساكين، وكان يقول: لعل بعض هؤلاء أن يكون ملكاً يوم القيامة.
وكان سفيان الثوري يعظم المساكين، ويجفو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء والأغنياء هم الفقراء.
وقال سليمان التيمي: كنا إذا طلبنا علية أصحابنا وجدناهم عند الفقراء والمساكين.
وقال الفضيل: من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين.
اذكر بعض الأسباب التي تحقق شكر الله؟
أولاً: سؤال الله ذلك.
كما قال تعالى عن سليمان: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ).
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (يا معاذ، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). رواه أبو داود
ثانياً: أن يعلم الإنسان أن النعم إذا شكرت قرت وزادت.
قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
ثالثاً: أن يعلم الإنسان أن الله سيسأله يوم القيامة عن شكر نعمه.
قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).
قال ابن كثير: أي ثم لتسألن عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما ذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة.
رابعاً: أن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا، فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله.
كما في حديث الباب.
بالنسبة إلى أمور الآخرة إلى من ينظر؟
ينظر إلى من هو فوقه.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا ذكر حكماً ذكر علته.
أن الله خلق الناس متفاوتين في كل شيء.
أهمية شكر الله تعالى.
خطر النظر إلى أهل الدنيا وما متعوا به، كما قال تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
1440 -
وَعَنْ اَلنَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ (سَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: - اَلْبِرُّ: حُسْنُ اَلْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ اَلنَّاسُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
(عَنْ اَلْبِرّ) اسم جامع للخير.
(حُسْنُ اَلْخُلُقِ) التحلي بالفضائل وترك الرذائل.
(وَالْإِثْمُ) الذنب.
(مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ) أي: لم يسكن إليه القلب.
تنبيه:
جاء في مسند أحمد: عن وابصة بن معبدٍ رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئتَ تسأل عن البر؟ قلت: نعم، فقال: استفتِ قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوْك.
اذكر منزلة هذا الحديث؟
هذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وعليه مدار الإسلام؛ لأنه يبحث في أمرين عظيمين، الأول: عن الخلق الحسن، والثاني: عن الخلق السيء.
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، بل من أوجزها؛ إذ البر كلمة جامعة لجميع أفعال الخير، وخصال المعروف، والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشر والقبائح كبيرها وصغيرها.
وقال المناوي رحمه الله: وذا من جوامع الكلم؛ لأن البر كلمة جامعة لكل خير، والإثم جامع للشر.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحث على حسن الخلق، وأنه من أعظم خصال البر، ولحسن الخلق فضائل كثيرة:
فهو من أسباب دخول الجنة.
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الجنة فقال (تقوى الله وحسن الخلق) رواه الترمذي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به.
كان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه لصلاة الليل (واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت .... ).
وكان يقول (اللَّهم كما أحسنت خلْقي فحسّن خُلُقي).
وهو أثقل شيء في الميزان.
قال صلى الله عليه وسلم (ما من شيء أثقل في الميزان يوم القيامة من حسن الخلق) رواه الترمذي.
وحسن الخلق من كمال الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه أحمد.
والنبي صلى الله عليه وسلم حصر دعوته في حسن الخلق.
قال صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه أحمد.
الخلق الحسن من أسباب النجاة من النار.
عن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ على كُلِّ قريب هيّن سهل) رواه الترمذي.
ويدرك المؤمن بحسن خلقه درجة الصائم القائم.
قال صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود.
وتكَفَّل النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه.
قال صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه أبو داود.
ولخلق الحسن ذو أهمية بالغة.
لأن اللَّه عز وجل أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظّم شأنه الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.
قال اللَّه تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
وقال تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم).
وأقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق الحسن.
قال صلى الله عليه وسلم (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً) رواه الترمذي.
وخير الناس أحسنهم خلقاً.
كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا).
ويحصل بالخلق الحسن: جوامع الخيرات والبركات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (البر حسن الخلق).
الخلق الحسن خير من الدنيا وما فيها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللَّه بن عمرو (أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة) رواه أحمد.
والخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة.
ولهذا من تتبَّع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين اللَّه أفواجاً بفضل اللَّه تعالى ثم بفضل حسن خلقه صلى الله عليه وسلم فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم.
فهذا يُسلم ويقول (واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إلي).
وذاك يقول (اللَّهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً) تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركه على تحجيره رحمة اللَّه التي وسعت كل شيء، بل قال له (لقد تحجَّرت واسعاً).
والآخر يقول (فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه).
والرابع يقول (يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة).
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به.
عن أبي ذر جُنْدُب بنِ جُنادَةَ وأبي عبدِ الرحمانِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنهما، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ (اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ وَأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رواه الترمذي.
قال ابن رجب رحمه الله: هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما أفرد بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده
…
إلى أن قال: والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً، ولا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين.
من أقوال السلف:
قال الحسن: حسن الخلق: الكرم، والبذلة، والاحتمال.
وقال ابن المبارك: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى.
وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد شعراً فقال:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غيرُ روحهِ لجاد بها فليتق اللهَ سائلُه
هو البحرُ من أي النواحي أتيتَه فلجته المعروفُ والجودُ ساحلُه
وقال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
قال ابن القيم: حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصوّر قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.
في الحديث بعض علامات الإثم اذكرها؟
أولاً: قلق القلب واضطرابه، لقوله (والإثم ما حاك في صدرك).
ثانياً: كراهة اطلاع الناس عليه، لقوله (وكرهت أن يطلع عليه الناس).
قال ابن رجب: في قوله (الإثم ما حاك في
…
): إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً واضطراباً فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكر الناس فاعله وغير فاعله.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن صاحب القلب السليم، يضطرب قلبه ويخاف عند فعل الحرام أو الشك به.
- أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه.
- أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم.
قال ابن رجب رحمه الله: وهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكراً عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضاً إثماً، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، أما إذا كان فتوى المفتي تستند إلى دليل شرعي فيجب على المرء أن يتقيد بها وإن لم يطمئن قلبه، قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
- أنه كلما كان الإنسان أتقى لله فسيضيق صدره ذرعاً بالإثم.
- أن الدين وازع ومراقب داخلي.
- أن الدين يمنع من اقتراف الإثم.
- طمأنينة القلب السليم للخير.
- نفور القلب السليم من الشر.
- بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم.
- المؤمن يكره أن يطلع الناس على عيوبه.
- أنه متى أمكن الاجتهاد، فإنه لا يعدل إلى التقليد؛ لقوله: وإن أفتاك الناس وأفتوك.
- معجزة واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر الصحابيَّ وابصةَ بما في نفسه قبل أن يتكلم به.
فائدة:
قوله (جئت تسأل عن البر؟) قلت: نعم، فقال:(استفت قلبك).
قال العلماء: ولا يقال لكل إنسان: استفت قلبك، وإنما يقال ذلك لمن كان في مثل الصحابي وابصة في قوة الفهم، وصفاء النفس، وسَعة العلم، والحرص على تحري الخير، فمثله لا يرجع لفتوى رضي الله عنه، أما عامة الناس فلا يقال لأحدهم: استفت قلبك، وإنما يقال له: استفت العلماء الذين يميل قلبك إلى أمانتهم في العلم، فاسأل واعمل بفتواهم، وإن خالفت فتواهم ما في قلبك؛ لقوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون).
1441 -
وَعَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُونَ اَلْآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ; مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
===
(فَلَا يَتَنَاجَى) أي: لا يتكلما سراً بينهما.
(حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ) أي حتى يختلط الثلاثة بالناس.
(مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ) تعليل للنهي.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أدب من آداب المجلس، وهو النهي عن تناجي اثنين دون الثالث.
النهي الوارد في الأحاديث السابقة ظاهره التحريم، فيحرم أن يتناجى اثنان دون الثالث، أو مجموعة من الناس دون واحد منهم.
قال النووي رحمه الله: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث النَّهْي عَنْ تُنَاجِي اِثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِث، وَكَذَا ثَلَاثَة وَأَكْثَر بِحَضْرَةِ وَاحِد، وَهُوَ نَهْي تَحْرِيم، فَيُحَرِّم عَلَى الْجَمَاعَة الْمُنَاجَاة دُون وَاحِد مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَأْذَن. (شرح مسلم).
ما الحكمة من ذلك؟
بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ).
قال القرطبي: وقد نبَّه في هذه الزيادة على التعليل بقوله (فإنَّ ذلك يحزنه) أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله، وذلك: بأن يقدر في نفسه: أن الحديث عنه بما يكره، أو أنَّهم لم يروه أهلاً ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان، وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده.
هل مثل ذلك لو تناجى عشرة دون واحد؟
نعم.
قال القرطبي:
…
وعلى هذا: يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد، ولا عشرة، ولا ألفٌ مثلاً؛ لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن، وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خصَّ الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتأتى فيه ذلك المعنى.
وقال النووي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث النَّهْي عَنْ تُنَاجِي اِثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِث، وَكَذَا ثَلَاثَة وَأَكْثَر بِحَضْرَةِ وَاحِد.
هل الحديث يعم الحضر والسفر، وكل زمن وكل وقت؟
نعم، لأن هذا ظاهر الحديث، فيعم الحضر والسفر.
وهذا قول الجمهور.
قال القرطبي: وظاهر هذا الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال.
وإليه ذهب ابن عمر، ومالك، والجمهور.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى أن ذلك كان في أول الإسلام؛ لأنَّ ذلك كان حال المنافقين، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الاسلام؛ سقط ذلك.
وقال بعضهم: ذلك خاصٌّ بالسفر، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه. فأمَّا في الحضر، وبين العمارة: فلا.
قلت: وكل ذلك تحكُّم، وتخصيصٌ لا دليل عليه. والصحيح: ما صار إليه الجمهور. والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. (المفهم)
وقال النووي: وَمَذْهَب اِبْن عُمَر رضي الله عنه وَمَالِك وَأَصْحَابنَا وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء أَنَّ النَّهْي عَامّ فِي كُلّ الْأَزْمَان، وَفِي الْحَضَر وَالسَّفَر.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّمَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ الْمُنَاجَاة فِي السَّفَر دُون الْحَضَر، لِأَنَّ السَّفَر مَظِنَّة الْخَوْف.
وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ وَأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَام، وَأَمِنَ النَّاس سَقَطَ النَّهْي. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُحْزِنُوهُمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَة، فَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون اِثْنَيْنِ فَلَا بَأْس بِالْإِجْمَاعِ. وَاللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
هل دخول الحزن على المسلم منهي عنه؟
نعم، فلا يجوز إدخال الحزن على المسلم، لأن ذلك يفرح الشيطان.
قال تعالى (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ).
ماذا يستثنى من النهي الوارد في الحديث؟
يستثنى مسائل:
المسألة الأولى: إذا تناجى الاثنان بإذن الثالث، فأذن لهم جاز.
لما روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُه).
المسألة الثانية: إذا كان العدد أكثر من ثلاثة، فيجوز أن يتناجى اثنان دون البقية.
لما روى أبو داود، وفيه: قَالَ أَبُو صَالِحٍ، فَقُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: فَأَرْبَعَةٌ؟ قَالَ: (لَا يَضُرُّك).
قال النووي: أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً فَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُونَ اِثْنَيْنِ، فَلَا بَأْسَ بِالْإِجْمَاعِ " انتهى.
وقال الشيخ محمد بن عبد الهادي السندي رحمه الله: " قَوْله (إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَة) يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوز ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة؛ لِأَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يَأْتَنِس الثَّالِث بِالرَّابِعِ، وَأَيْضًا بِوُجُودِ الرَّابِع لَا يَخَاف الثَّالِث عَلَى نَفْسه مِنْهُمَا الشَّرّ " انتهى من " حاشية السندي على سنن ابن ماجة ".
المسألة الثالثة: إذا كانت هناك حاجة أو مصلحة راجحة على مفسدة التناجي، فيجوز في هذه الحال أن يتناجى اثنان دون الثالث.
قال النووي رحمه الله في " رياض الصالحين ": باب النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إلا لحاجة.
وقال الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله في - ذكر صورة من صور التناجي المباح -: " ومن هذه الصور مثلاً: أحياناً يأتيك ضيف أنت وهو في المجلس فيأتي إليك ولدك أو خادمك فتضطر أن تسر في أذن الولد أو الخادم كلاماً عن تجهيز الطعام مثلاً، أو عن تفريغ طريق مثلاً، أو أحياناً يقول لك ولدك: إن أمي تقول كذا وكذا، وفي هذه الحالة فقد درجت مروءة الناس على عدم الجهر بهذه الأشياء أمام الضيوف، فهذه المسألة هي مصلحة راجحة تقاوم المفسدة المشكوك بها، لأن الضيف سوف يقدر أن ولدك هذا عندما تسر إليه بكلام لن تقول كلاماً سيئاً عنه، وإنما سوف ترتب أنت وإياه أمراً يتعلق بالضيافة، أو يتعلق بداخل أهلك بداخل البيت، فلذلك لن يحزن، هذا مثال على التناجي الجائز "انتهى من" شريط: كيف تكون مجالسنا إسلامية.
ماذا نستفيد من قوله (حتى تختلطوا)؟
نستفيد أن غاية المنع أن يجد الثالث من يتحدث معه.
قال القرطبي: وقد زاد في الرواية الأخرى زيادة حسنة، فقال (حتى يختلطوا بالناس)، فبيَّن غاية المنع، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك: أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجه حتى دعا رابعًا، فقال له وللأول: تأخرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة
ما أعظم مقاصد الشيطان؟
من أعظم مقاصده إدخال الحزن على المسلم.
قال تعالى (إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا
…
).
وقال صلى الله عليه وسلم (الرؤيا ثلاث: تحزين الشيطان، .... ).
ماذا نستفيد من قوله (من أجل أن ذلك يحزنه)؟
نستفيد عدم إدخال الحزن على المسلم.
قال ابن القيم: والمقصود أن النبي جعل الحزن مما يستعاذ منه وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم ويضر الإرادة ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن قال تعالى (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا) فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره كالمرض والألم ونحوهما. (طريق الهجرتين).
وقال رحمه الله: وَلَمْ يَأْتِ الْحُزْنُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ مَنْفِيًّا.
فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) وَقَوْلِهِ (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَوْلِهِ (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وَالْمَنْفِيُّ كَقَوْلِهِ: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْقَلْبِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَحْزَنَ الْعَبْدُ لِيَقْطَعَهُ عَنْ سَيْرِهِ، وَيُوقِفَهُ عَنْ سُلُوكِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّلَاثَةَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ مِنْهُمْ دُونَ الثَّالِثِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ. فَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ، وَلَا مَقْصُودٍ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» فَهُوَ قَرِينُ الْهَمِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، إِنْ كَانَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْرَثَهُ الْهَمَّ، وَإِنْ كَانَ لِمَا مَضَى أَوْرَثَهُ الْحُزْنَ، وَكِلَاهُمَا مُضْعِفٌ لِلْقَلْبِ عَنِ السَّيْرِ، مُقَتِّرٌ لِلْعَزْمِ. (مدارج).
ونستفيد أن من أعظم مقاصد الشريعة إسعاد المؤمن.
ما فائدة قرن الحكم بعلته؟
فائدة قرن الحكم بالعلة ثلاثة:
أولاً: بيان أن الشريعة سامية عالية، فما تحكم بشيء إلا وله حكمه.
ثانياً: اقتناع النفوس بالحكم، لأن النفس إذا علمت علة الحكم اطمأنت، وإن كان المؤمن سيطمئن على كل حال لكن هذه زيادة طمأنينة.
ثالثاً: شمول الحكم بشمول هذه العلة، بمعنى أن ما ثبت فيه هذه العلة ثبت له هذا الحكم المعلل. [قاله الشيخ ابن عثيمين].
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- حرص الإسلام على الآداب الإسلامية.
- شمول الإسلام بتوجيهاته وتنظيماته كل جوانب الحياة.
- الحكمة من النهي ذكرت في نفس الحديث: أن ذلك يحزنه ويظهر الشك فيه.
- هذا الحكم في التناجي في الخير، أما التناجي بالشر فحرام وإن لم يكن معهما ثالث قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول).
- قطع الإسلام لكل سبب ربما يوجد التباغض والتحاسد بين الناس.
1442 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يُقِيمُ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(لَا يُقِيمُ) وفي لفظ لمسلم (لا يقيمنّ).
(اَلرَّجُلُ الرجلَ مِنْ مَجْلِسِهِ) وعند مسلم (من مقعده).
(وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا) قال ابن أبي جمرة: معنى الأول: أن يتوسعوا فيما بينهم، ومعنى الثاني: أن ينضم بعضهم إلى بعض حتى يفضل من الجمع مجلس للداخل.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم أن يقيم الرجل غيره من مكانه ثم يقعد فيه، ولا فرق في ذلك بين مسجد أو مجلس علم، أو مجلس عام.
لأن الأصل في النهي التحريم.
وقيل: على الكراهة، والأول أولى. (القرطبي).
قال النووي: هَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مُبَاح فِي الْمَسْجِد وَغَيْره يَوْم الْجُمُعَة أَوْ غَيْره لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إِقَامَته لِهَذَا الْحَدِيث.
ما الحكمة من النهي؟
لأن ذلك عدواناً على الغير.
جاء في رواية تخصيص ذلك بيوم الجمعة (لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ لْيُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدَ فِيهِ)؟ فما الجواب عن ذلك؟
هذا القيد ليس معتبراً، كما بينته الروايات الأخرى، ولكن هذا الأمر يكثر يوم الجمعة بسبب ضيق المكان، لكثرة الناس فيه.
قال الشوكاني: وَذَكَر يَوْم الْجُمُعَة فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ بَاب التَّنْصِيص عَلَى بَعْض أَفْرَاد الْعَامّ لَا مِنْ بَابِ التَّقْيِيد لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَة، وَلَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيص لِلْعُمُومَاتِ، فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِع مُبَاح سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ غَيْره فِي يَوْم جُمُعَة أَوْ غَيْرهَا لِصَلَاةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَات فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إقَامَته مِنْهُ وَالْقُعُود فِيهِ.
ما الحكم لو قام الجالس للداخل باختياره؟
جايز.
ما الجواب عن فعل ابن عمر (أنه كان إِذَا قَامَ لَهُ رَجُل عَنْ مَجْلِسه لَمْ يَجْلِس فِيهِ)؟
قال النووي: فَهَذَا وَرَع مِنْهُ، وَلَيْسَ قُعُوده فِيهِ حَرَامًا إِذَا قَامَ بِرِضَاهُ، لَكِنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا اِسْتَحَى مِنْهُ إِنْسَان فَقَامَ لَهُ مِنْ مَجْلِسه مِنْ غَيْر طِيب قَلْبه، فَسَدَّ اِبْن عُمَر الْبَاب لِيَسْلَم مِنْ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيثَار بِالْقُرْبِ مَكْرُوه أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى، فَكَانَ اِبْن عُمَر يَمْتَنِع مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرْتَكِب أَحَد بِسَبَبِهِ مَكْرُوهًا، أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى بِأَنْ يَتَأَخَّر عَنْ مَوْضِعه مِنْ الصَّفّ الْأَوَّل وَيُؤْثِرهُ بِهِ وَشِبْه ذَلِكَ.
ما المشروع للحاضرين في حق الداخل ولم يجد مكاناً؟
التوسع والتفسح. وفي ذلك ثواب عظيم.
قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ).
قال السعدي: هذا تأديب من الله لعباده المؤمنين، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، واحتاج بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود.
وليس ذلك بضار للجالس شيئاً، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو، والجزاء من جنس العمل، فإن من فسح فسح الله له، ومن وسع لأخيه، وسع الله عليه.
ما تفسير قوله تعالى (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)؟
قال ابن حجر: اختلف في معنى الآية:
فقيل: إن ذلك خاص بمجلس النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن البصري المراد بذلك مجلس القتال قال ومعنى قوله انشزوا انهضوا للقتال.
وذهب الجمهور إلى أنها عامة في كل مجلس من مجالس الخير وقوله افسحوا يفسح الله أي وسعوا يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة. (الفتح).
1443 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ، حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب لعق الأصابع مما علق بها من الطعام قبل مسحها بالمنديل.
قال القرطبي: .... هذا كله يدلّ على استحباب لعق الأصابع إذا تعلَّق بها شيء من الطعام، كما قدَّمناه. لكنه في آخر الطعام، كما نص عليه، لا في أثنائه؛ لأنَّه يمس بأصابعه بزاق في فيه إذا لعق أصابعه ثم يعيدها، فيصير كأنه يبصق في الطعام، وذلك مستقذر، مستقبح.
ما الحكمة من ذلك؟
جاء في حديث جابر بيان العلة:
عن جابر. (أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: ((إنَّكُمْ لا تَدْرونَ في أَيِّها البَرَكَةُ)) رواه مسلم.
وفي رواية لَه (إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأخُذْهَا، فَليُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أذىً، وَلْيَأكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيطَانِ، وَلا يَمْسَحْ يَدَهُ بالمنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أصَابعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي في أيِّ طَعَامِهِ البَرَكَة).
قال الحافظ: قال بن دقيق العيد جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق لكن إذا صح الحديث بالتعليل لم يعدل عنه.
قلت: الحديث صحيح أخرجه مسلم في آخر حديث جابر ولفظه من حديث جابر (إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما اصابها من أذى وليأكلها ولا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها فإنه لا يدري في أي طعامه البركة).
زاد فيه النسائي من هذا الوجه (ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها).
ولأحمد من حديث ابن عمر نحوه بسند صحيح وللطبراني من حديث أبي سعيد نحوه بلفظ (فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له)
ولمسلم نحوه من حديث أنس ومن حديث أبي هريرة أيضاً والعلة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشيخ فقد يكون للحكم علتان فأكثر والتنصيص على واحدة لا ينفي غيرها. (الفتح)
قال النووي: وَقَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَدْرُونَ فِي أَيّه الْبَرَكَة) مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَم أَنَّ الطَّعَام الَّذِي يَحْضُرهُ الْإِنْسَان فِيهِ بَرَكَة وَلَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَة فِيمَا أَكَلَهُ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعه أَوْ فِي مَا بَقِيَ فِي أَسْفَل الْقَصْعَة أَوْ فِي اللُّقْمَة السَّاقِطَة، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظ عَلَى هَذَا كُلّه؛ لِتَحْصُل الْبَرَكَة، وَأَصْل الْبَرَكَة الزِّيَادَة وَثُبُوت الْخَيْر وَالْإِمْتَاع بِهِ، وَالْمُرَاد هُنَا - وَاللَّهُ أَعْلَم - مَا يَحْصُل بِهِ التَّغْذِيَة وَتَسْلَم عَاقِبَته مِنْ أَذًى، وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى وَغَيْر ذَلِكَ.
فائدة:
من السنة أن يأكل بثلاث أصابع.
عن كَعْب بْن مَالِكٍ. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا) رواه مسلم.
وهذا محمول على الطعام الذي تكفي فيه ثلاثة أصابع، كالتمر والعنب.
قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَكْلُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ الشَّرَهِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لِذَلِكَ لِجَمْعِهِ اللُّقْمَةَ وَإِمْسَاكِهَا مِنْ جِهَاتِهَا الثَّلَاثِ، وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى الْأَكْلِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، لِخِفَّةِ الطَّعَامِ وَعَدَمِ تَلْفِيقِهِ بِالثَّلَاثِ يَدْعَمُهُ بِالرَّابِعَةِ أَوْ الْخَامِسَةِ.
1444 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لِيُسَلِّمْ اَلصَّغِيرُ عَلَى اَلْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى اَلْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى اَلْكَثِيرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ (وَالرَّاكِبُ عَلَى اَلْمَاشِي)(وَالْمَارُّ عَلَى اَلْقَاعِدِ) ولفظ البخاري (والمار على القاعد).
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أدب من آداب السلام، وهو أن الصغير يسلم على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي.
ما الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء؟
قال ابن بطال: قال المهلب:
…
وأما وجه تسليم الصغير على الكبير فمن أجل حق الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير، وتسليم المار على القاعدة هو من باب الداخل على القوم فعليه أن يبدأهم بالسلام.
وتسليم القليل على الكثير من باب التواضع أيضًا، لأن حق الكثير أعظم من حق القليل.
وسلام الراكب على الماشي لئلا يتكبر بركوبه على الماشي فأمر بالتواضع.
وقال ابن العربي: حاصل ما هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل.
ما الحكم لو سلم صبي على بالغ، فهل يجب عليه الرد؟
نعم يجب عليه الرد، ورجحه النووي.
قال النووي: وَلَوْ سَلَّمَ الصَّبِيّ عَلَى رَجُل لَزِمَ الرَّجُل رَدّ السَّلَام. وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: لَا يَجِب، وَهُوَ ضَعِيف أَوْ غَلَط. (شرح مسلم).
قال في الأذكار: الصحيح من الوجهين وجوب ردّ السلام لقول الله تعالى (وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها).
هل يسن السلام على الصبيان؟
نعم.
قال النووي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب السَّلَام عَلَى الصِّبْيَان.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) متفق عليه.
1445 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يُجْزِئُ عَنْ اَلْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنْ اَلْجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه يجزئ الواحد في السلام عن الجماعة، كما يجزئ الواحد في رد السلام عن الجماعة.
قال النووي: اعلم أن ابتداء السَّلامِ سنَّةٌ مستحبّة ليس بواجب، وهو سنّةٌ على الكفاية، فإن كان المسلِّم جماعة كفى عنهم تسليمُ واحد منهم، ولو سلَّموا كلُّهم كان أفضل، وأما ردّ السلام، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا تعيَّنَ عليه الردّ، وإن كانوا جماعةً كان ردّ السلام فرضُ كفايةٍ عليهم، فإن ردّ واحد منهم سقطَ الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلُّهم أثموا كلُّهم، وإن ردّوا كلُّهم فهو النهاية في الكمال والفضيلة، وكذا قاله أصحابنا، وهو ظاهر حسن. واتفق أصحابنا على أنه لو ردّ غيرُهم لم يسقط الردّ عنهم، بل يجب عليهم أن يردّوا، فإن اقتصروا على ردّ ذلك الأجنبيّ أثموا.
هل من آداب السلام أن يسلم ثلاثاً؟
نعم، إذا لم يُسمع سلامه.
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثاً) رواه البخاري.
معنى الحديث:
قال النووي في رياض الصالحين: هذا محمول على ما إذا كان الجمع كثيراً.
قال ابن القيم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يسلم ثلاثاً، ولعل هذا كان هديه في السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغهم سلام واحد، أو هديه في إسماع السلام الثاني والثالث، إن ظن أن الأول لم يحصل به الإسماع، وإلا فلو كان هديه الدائم التسليم ثلاثاً لكان أصحابه يسلمون عليه كذلك، وكان يسلم على كل من لقيه ثلاثاً، وإذا دخل بيته ثلاثاً، ومن تأمل هديه، علم أن الأمر ليس كذلك، وأن تكرار السلام كان منه أمراً عارضاً في بعض الأحيان.
وقال الشيخ ابن عثيمين: يتكلم ثلاثاً إذا لم تفهم عنه، وأما إذا فهمت عنه فلا يكرر، لو لم تفهم لكون المخاطب ثقيل السمع، أو لكثرة الضجة حوله أو ما أشبه ذلك فليعد مرتين، وكذلك إذا سلّمت ولم يسمع المسلَّم عليه، أعِد مرة ثانية وثالثة.
ما الحكم لو سَلم على رجال وصبيان فرد السلام صبي منهم، هل يسقط فرض الرد على الرجال؟
قال النووي: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى رِجَال وَصِبْيَان فَرَدَّ السَّلَام صَبِيّ مِنْهُمْ هَلْ يَسْقُط فَرْض الرَّدّ عَنْ الرِّجَال؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا يَسْقُط.
1446 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقَيْتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم ابتداء الكافر بالسلام.
وهذا قول جمهور العلماء.
ومما يدل على تحريم ذلك أيضاً:
حديث أَبَي بصْرَة قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّا غَادُونَ إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُم) رواه أحمد.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم.
فقوله (بينكم) يعني على المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر في الاستدلال بالحديث: المسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي مودته ومحبته.
قال ابن القيم: قَدْ اخْتَلَفَ السّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسّلَامِ.
قال النووي: واختَلَفَ الْعُلَمَاء فِي رَدّ السَّلَام عَلَى الْكُفَّار وَابْتِدَائِهِمْ بِهِ، فَمَذْهَبنَا تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَوُجُوب رَدّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُول: وَعَلَيْكُمْ، أَوْ عَلَيْكُمْ فَقَطْ، وَدَلِيلنَا فِي الِابْتِدَاء قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ) وَفِي الرَّدّ قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ) وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَذْهَبنَا قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء وَعَامَّة السَّلَف.
وقال في الأذكار: وأما أهل الذمة فاختلف أصحابنا فيهم، فقطع الأكثرون بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام، وقال آخرون: ليس هو بحرام، بل هو مكروه، وحكى أقضى القضاة الماوردي وجها لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، وهذان الوجهان شاذان ومردودان.
فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى في قصة إبراهيم (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)؟
الجواب:
قال القرطبي: والجمهور على أن المراد بسلامه: المسالمة التي هي المتاركة لا التحية.
ما الحكمة من النهي؟
لأن السلام نوع إكرام، والكافر ليس أهلاً لذلك.
ولأن السلام أيضاً يستدعي المودة والمحبة، والمسلم مأمور بمعاداة الكافر.
هل يشرع الرد على الكافر إذا سلم؟
نعم يشرع.
أ-لعموم قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية
…
).
ب-ولعموم الأدلة الدالة على مشروعية رد السلام.
ج- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُم) متفق عليه.
قال ابن القيم: وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الرّدّ عَلَيْهِمْ:
فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ الصّوَابُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجِبُ الرّدّ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَوْلَى.
وَالصّوَابُ الْأَوّلُ وَالْفَرْقُ أَنّا مَأْمُورُونَ بِهَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَعْزِيرًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذّمّة.
ما كيفية الرد على أهل الكتاب.
إذا قال أحدهم (السام عليكم) - أي: الموت عليكم -، أو لم يظهر لفظ السلام واضحاً من كلامه: فإننا نجيبه بقولنا: وعليكم.
لِما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل: عليك) متفق عليه.
فإذا تحققنا من سلام الكفار علينا باللفظ الشرعي، فإن ابن القيم يرى أنه يرد بالرد الشرعي.
قال ابن القيم رحمه الله: فلو تحقق السامع أن الذمي قال له (سلام عليكم) لا شك فيه، فهل له أن يقول وعليك السلام أو يقتصر على قوله وعليك؟
فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية، وقواعد الشريعة: أن يقال له: (وعليك السلام) فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان
…
ولا ينافي هذا شيئاً مِنْ أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الرادّ "وعليكم" بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها، فقال: ألا ترَيْنني قلت وعليكم لمّا قالوا السام عليكم، ثم قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.
وقال بعض العلماء: بل يقال: وعليكم.
قال النووي:
…
لَكِنْ لَا يُقَال لَهُمْ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام، بَلْ يُقَال: عَلَيْكُمْ فَقَطْ، أَوْ وَعَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا (مُسْلِم)(عَلَيْكُمْ)(وَعَلَيْكُمْ) بِإِثْبَاتِ الْوَاو وَحَذْفهَا، وَأَكْثَر الرِّوَايَات بِإِثْبَاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، فَقَالُوا: عَلَيْكُمْ الْمَوْت، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاء، وَكُلّنَا نَمُوت. وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاو هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيك، وَتَقْدِيره: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمّ. وَأَمَّا حَذْف الْوَاو فَتَقْدِيره بَلْ عَلَيْكُمْ السَّام. قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَارَ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ حَذْف الْوَاو لِئَلَّا يَقْتَضِي التَّشْرِيك، وَقَالَ غَيْره: بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات. قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: يَقُول: عَلَيْكُمْ السِّلَام بِكَسْرِ السِّين أَيْ الْحِجَارَة، وَهَذَا ضَعِيف. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَامَّة الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَ هَذَا الْحَرْف (وَعَلَيْكُمْ) بِالْوَاوِ، وَكَانَ اِبْن عُيَيْنَةَ يَرْوِيه بِغَيْرِ وَاو. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ (الْوَاو) صَارَ كَلَامهمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّة، وَإِذَا ثَبَتَ (الْوَاو) اِقْتَضَى الْمُشَارَكَة مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيِّ. وَالصَّوَاب أَنَّ إِثْبَات الْوَاو وَحَذْفهَا جَائِزَانِ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَات، وَأَنَّ الْوَاو أَجْوَد كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات، وَلَا مَفْسَدَة فِيهِ، لِأَنَّ السَّام الْمَوْت، وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَلَا ضَرَر فِي قَوْله بِالْوَاوِ.
ما الحكم إذا مر واحد على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار؟
فالسنة أن يسلم عليهم يقصد المسلمين أو المسلم.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام المسلمين.
ما حكم ابتداء الكافر بتحية غير السلام؟
اختلف العلماء بابتداء الكافر بتحية غير السلام، كقول: مرحباً، أهلاً ونحوها؟
القول الأول: لا يجوز.
وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
لحديث الباب (لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَام
…
).
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بدئهم بالسلام، والتحية جنس يشمل السلام وغيره، فالنهي عن السلام نهي عن جنسه، قال الإمام أحمد: وهذا عندي أكثر من السلام.
القول الثاني: يكره.
وهذا قول الحنفية.
لحديث الباب، وحملوا النهي على الكراهة.
القول الثالث: يجوز مع الحاجة.
وهذا قول الشافعية.
القول الرابع: يجوز.
وهذا اختيار ابن تيمية.
لأنه لم يرد نهي في التحية، بل أحاديث النهي هي في السلام الذي هو من خواص هذه الأمة، فتبقى بقية التحايا على أصلها من الإباحة.
والله أعلم.
ماذا نستفيد من قوله (وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)؟
نستفيد أن الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق، فإن المسلم لا يفسح له، لأن هذا من إكرامه، بل يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون وسط الطريق وسعته للمسلم، وهذا مقيد عند العلماء بقيدين:
الأول: أن هذا عند الزحام، فيركب المسلمون صدر الطريق، ويكون الذمي في أضيقه.
الثاني: أن هذا التضييق مقيد بحيث لا يقع الذمي في ضرر، كأن يقع في حفرة أو يصدمه جدار ونحوه. (منحة العلام).
1447 -
وَعَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ يَرْحَمُكَ اَللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اَللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اَللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن العاطس يسن له أن يقول الحمد لله بعد عطاسه.
ما حكم تشمست العاطس؟
يشرع للمسلم أن يشمت العاطس إذا حمد الله.
قال النووي: وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوع، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي إِيجَابه. (نووي).
وقد اختلف العلماء في حكم تشميت العاطس إذا حمد الله على أقوال:
القول الأول: واجب.
قال النووي: فَأَوْجَبَهُ أَهْل الظَّاهِر، وَابْن مَرْيَم مِنْ الْمَالِكِيَّة عَلَى كُلّ مَنْ سَمِعَهُ.
أ- لحديث الباب أبي هريرة -وقد تقدم- (وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَشَمِّتْهُ).
ب- ولحديث البراء قال (أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمَرَنَا بعيَادَة المَرِيض، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وتَشْمِيتِ العَاطسِ،
…
)
ج- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاوُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاع
…
) رواه البخاري.
قال ابن حجر: وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر وقال بن أبي جمرة قال جماعة من علمائنا إنه فرض عين وقواه بن القيم في حواشي السنن فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبلفظ على الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء.
وقال ابن القيم: فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَبْدُوءِ بِهِ: أَنَّ التَّشْمِيتَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَلَا يُجْزِئُ تَشْمِيتُ الْوَاحِدِ عَنْهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ ابن أبي زيد، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيَّانِ، وَلَا دَافِعَ لَه. (زاد المعاد).
وقيل: فرض كفاية.
ورجحه أبو الوليد بن رشد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة.
وقيل: مستحب.
وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية. (الفتح).
قال النووي: وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَآخَرِينَ أَنَّهُ سُنَّة وَأَدَب، وَلَيْسَ بِوَاجِب.
قال ابن حجر: والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض
متى يشرع تشميت العاطس؟
إذا حمد الله، فإن لم يحمد الله فلا يشمت، قال ابن العربي: وهو مجمع عليه.
أ- لحديث أبي هريرة السابق (فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ).
ب- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقَالَ الَّذِى لَمْ يُشَمِّتْهُ عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّتَّهُ وَعَطَسْتُ أَنَا فَلَمْ تُشَمِّتْنِي. قَالَ: إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ) متفق عليه.
ج- وعن أَبِى مُوسَى. قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ) رواه مسلم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة الْحَمْد:
فَقِيلَ: يَقُول: الْحَمْد لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، وَقِيلَ: الْحَمْد لِلَّهِ عَلَى كُلّ حَال، وَقَالَ اِبْن جَرِير: هُوَ مُخَيَّر بَيْن هَذَا كُلّه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَأْمُور بِالْحَمْدِ لِلَّهِ. (نووي).
وَاخْتَلَفُوا فِي رَدّ الْعَاطِس عَلَى الْمُشَمِّت، فَقِيلَ: يَقُول: يَهْدِيكُمْ اللَّه وَيُصْلِح بَالكُمْ، وَقِيلَ: يَقُول: يَغْفِر اللَّه لَنَا وَلَكُمْ، وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ: يُخَيَّر بَيْن هَذَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقَدْ صَحَّتْ الْأَحَادِيث بِهِمَا. (نووي).
1448 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
ما حكم الشرب قائماً؟
وردت أحاديث تدل على النهي عن ذلك:
أ- كحديث الباب.
ب- وحديث أَنَسٍ (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا) رواه مسلم.
ج- وحديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا).
ووردت أحاديث أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً، منها:
أ-حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم) متفق عليه.
ب- وعن عَلِيّ رضي الله عنه أنه شَرِبَ قَائِمًا ثم قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْت) رواه البخاري.
ج- وروى أحمد (أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه شَرِبَ قَائِمًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ فَقَالَ: مَا تَنْظُرُونَ! إِنْ أَشْرَبْ قَائِمًا فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِمًا، وَإِنْ أَشْرَبْ قَاعِدًا فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَاعِدًا).
فاختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث:
فذهب قوم إلى أن أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الجواز، فقالوا بتحريم الشرب قائماً.
وهذا قول ابن حزم، ورجحه الصنعاني.
قالوا: الأصل الإباحة فتحمل أحاديث الشرب عليها ثم ورد النهي عن الشرب قائماً فنسخت الإباحة.
وذهب قوم إلى أن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي.
وهذه طريقة أبي بكر الأثرم.
دليلهم: شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً من زمزم وذلك في حجة الوداع.
وذهب قوم فقالوا: تعارضت الأحاديث والآثار فتسقط والأصل إباحة الشرب قائماً فيتمسك به حتى يثبت خلافه.
قال بذلك ابن عبد البر، وأبو الوليد بن رشد.
وقال قوم: بحمل أحاديث الشرب قائماً على حال الحاجة وأحاديث النهي مع عدمها.
قال به شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.
والرد من وجهين:
الأول: ظاهر أكثر الأحاديث شرب النبي صلى الله عليه وسلم من غير حاجة.
الثاني: شرب الصحابة رضي الله عنهم قياماً وأفتوا بجوازه من غير أن يقيدوه بالحاجة وهم أعلم الناس بالشرع.
وقال قوم: النهي عن الشرب قائماً للتنزيه وشرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يدل على الجواز.
وهذا قول جمهور العلماء.
قال بذلك الطبري، والبيهقي، والخطابي، والمازري، وأبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، والنووي، وابن حجر، وابن الجوزي، والسخاوي، ومحمد بن أحمد السفاريني، وابن مفلح.
قال ابن حجر: وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه وهي طريقة الخطابي وبن بطال في آخرين وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض. (الفتح).
وقال النووي: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى إِشْكَال، وَلَا فِيهَا ضَعْف، بَلْ كُلّهَا صَحِيحَة، وَالصَّوَاب فِيهَا أَنَّ النَّهْي فِيهَا مَحْمُول عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه. وَأَمَّا شُرْبه صلى الله عليه وسلم قَائِمًا فَبَيَان لِلْجَوَازِ، فَلَا إِشْكَال وَلَا تَعَارُض، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ نَسْخًا أَوْ غَيْره فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْف يُصَار إِلَى النَّسْخ مَعَ إِمْكَان الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخ وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكُون الشُّرْب قَائِمًا مَكْرُوهًا وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَالْجَوَاب: أَنَّ فِعْله صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ لَا يَكُون مَكْرُوهًا، بَلْ الْبَيَان وَاجِب عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم. (شرح مسلم).
ما حكم الأكل قائماً؟
لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يحرم الأكل قائما، وإنما اختلفوا في ذلك: هل هو مكروه، أو خلاف الأولى؟
القول الأول: يكره الأكل قائما لغير حاجة؛ قياسا على الشرب.
ويؤيده تتمة حديث أنس في النهي عن الشرب قائما " قَالَ قَتَادَةُ لأنس: فَقُلْنَا فَالْأَكْلُ، فَقَالَ: "ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ ".
قال ابن حجر: قيل وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَكْلُ أَشَرَّ لِطُولِ زَمَنِهِ بِالنِّسْبَةِ لِزَمَنِ الشُّرْب.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله: ويكره الأكل والشرب قائما لغير حاجة.
وقال به الشيخ ابن باز، وابن عثيمين رحمهما الله. ينظر "فتاوى ابن باز"(25/ 276)، و"شرح رياض الصالحين لابن عثيمين".
والقول الثاني: يباح الأكل قائما، ولا يكره؛ وهو ظاهر مذهب الحنابلة، وقال به ابن حزم الظاهري.
لعدم ورود دليل على منع الأكل، والكراهة إنما وردت في الشرب.
وأما القياس فقالوا: إنه قياس مع الفارق بين الأكل والشرب، واحتمال الضرر فيه غير ظاهر.
قال المرداوي: قال صاحب الفروع: وظاهر كلامهم: لا يكره أكله قائما. ويتوجه أنه كالشرب. وقاله الشيخ تقي الدين رحمه الله.
قلت: إن قلنا: إن الكراهة في الشرب قائما لما يحصل له من الضرر، ولم يحصل مثل ذلك في الأكل: امتنع الإلحاق " انتهى من "الإنصاف.
وأما ما ورد عن أنس (ذاك أشر أو أخبث) فموقوف على أنس.
قال ابن حزم: "ولم يأت في الأكل نهي؛ إلا عن أنس من قوله.
قال النووي رحمه الله: مسألة: هل يكره الأكل والشرب قائمًا، وما الجواب عن الأحاديث في ذلك؟
الجواب: يكره الشرب قائمًا من غير حاجة، ولا يحرم.
وأما الأكل قائمًا فإن كان لحاجة: فجائز.
وإِن كان لغير حاجة: فهو خلاف الأفضل. ولا يقال: إِنه مكروه.
وثبت في صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنهم كانوا يفعلونه، وهذا مقدم على ما في صحيح مسلم عن أنس: أنه كرهه.
وأما الشرب قائمًا ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وفي صحيح البخاري وغيره، أحاديثُ صحيحةٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. فأحاديث النهي تدل لكراهة التنزيه، وأحاديث فعله تدل لعدم التحريم. " انتهى، من "فتاوى النووي"
1449 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا اِنْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْتَكُنْ اَلْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ).
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب البدء بالرجل اليمنى عند لبس النعل، والبدء بخلع نعل الرجِل اليسرى قبل اليمنى.
ومما يدل على ذلك:
حديث عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ اَلتَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ما القاعدة في ذلك؟
قال النووي: هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب وتقليم الأظافر وقص الشارب وترجيل الشعر
…
وغير ذلك مما هو في فعله يستحب التيامن فيه، وأما ما كان بضده، كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب
…
فيستحب التياسر فيه.
أمثلة: الخروج من الخلاء، ولبس النعال، ولبس الثوب ونحو ذلك باليمين.
ودخول الخلاء، والاستنجاء، وخلع الثوب، هذه بالشمال.
اذكر بعض الأحاديث التي وردت في البداءة باليمين؟
أ- حديث الباب (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا انتزع فيبدأ بالشمال) متفق عليه.
ب- وحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا توضأتم وإذا لبستم فابدؤوا باليمين) رواه الترمذي.
ج- وحديث جابر. قال قال صلى الله عليه وسلم (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه) متفق عليه.
د- وعن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البُدن فنحرَها، والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه، فحلق شقه الأيمن فقَسَمه فيمن يليه) رواه مسلم.
وفي رواية (
…
قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر
…
).
1450 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد النهي أن يمشي الرجل في نعل أو خف واحدة.
وقد جاء عنْ جَابِرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلَ بِشِمَالِهِ أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ).
وجمهور العلماء على الكراهة.
وقد جاء في الصحيحين: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا).
ما الحكمة من النهي؟
اختلف في الحكمة من النهي:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَة فِي النَّهْي: أَنَّ النَّعْل شُرِعَتْ لِوِقَايَةِ الرِّجْل عَمَّا يَكُون فِي الْأَرْض مِنْ شَوْك أَوْ نَحْوه، فَإِذَا اِنْفَرَدَتْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ اِحْتَاجَ الْمَاشِي أَنْ يَتَوَقَّى لِإِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا لَا يَتَوَقَّى لِلْأُخْرَى، فَيَخْرُج بِذَلِكَ عَنْ سَجِيَّة مَشْيه، وَلَا يَأْمَن مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْعِثَار.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِل بَيْن جَوَارِحه، وَرُبَّمَا نُسِبَ فَاعِل ذَلِكَ إِلَى اِخْتِلَال الرَّأْي أَوْ ضَعْفه.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: قِيلَ: الْعِلَّة فِيهَا أَنَّهَا مِشْيَة الشَّيْطَان، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خَارِجَة عَنْ الِاعْتِدَال. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْكَرَاهَة فِيهِ لِلشُّهْرَةِ فَتَمْتَدّ الْأَبْصَار لِمَنْ تَرَى ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْي عَنْ الشُّهْرَة فِي اللِّبَاس، فَكُلّ شَيْء صَيَّرَ صَاحِبه شُهْرَة فَحَقّه أَنْ يَجْتَنِب. (الفتح).
وقال النووي: يُكْرَه الْمَشْي فِي نَعْل وَاحِدَة أَوْ خُفّ وَاحِدَة أَوْ مَدَاس وَاحِد لَا لِعُذْرٍ، وَدَلِيله هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم. قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَبه أَنَّ ذَلِكَ تَشْوِيه وَمِثْله، وَمُخَالِف لِلْوَقَارِ، وَلِأَنَّ الْمُنْتَعِلَة تَصِير أَرْفَع مِنْ الْأُخْرَى، فَيَعْسُر مَشْيه، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْعِثَارِ.
وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة). أخرجه الطحاوي
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير الربيع بن سليمان
المرادي و هو ثقة.
والحديث في " الصحيحين " و غيرهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج به بلفظ
" لا يمش أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعا، أو ليخلعهما جميعا ".
وله شاهد من حديث جابر مرفوعا بلفظ (لا تمش في نعل واحدة) أخرجه مسلم (6/ 154) وأحمد (3/ 322) وغيرهما.
قلت: فالحديث في النهي عن المشي في نعل واحدة صحيح مشهور، و إنما خرجت حديث الطحاوي هذا لتضمنه علة النهي، فهو يرجح قولاً واحداً من الأقوال التي قيلت في تحديدها، فجاء في " الفتح "
…
فذكر ما تقدم من الفتح، ثم قال الالباني:
فأقول: الصحيح من هذه الأقوال، هو الذي حكاه ابن العربي أنها مشية الشيطان، وتصديره إياه بقوله:" قيل " مما يشعر بتضعيفه، وذلك معناه أنه لم يقف على هذا الحديث الصحيح المؤيد لهذا "القيل"، ولو وقف عليه لما وسعه إلا الجزم به.
كذلك سكوت الحافظ عليه يشعرنا أنه لم يقف عليه أيضاً، و إلا لذكره على طريقته في جمع الأحاديث وذكر أطرافها المناسبة للباب، لاسيما و ليس في تعيين العلة و تحديدها سواه.
فخذها فائدة نفيسة عزيزة ربما لا تراها في غير هذا المكان، يعود الفضل فيها إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي، فهو الذي حفظها لنا بإسناد صحيح في كتابه دون عشرات الكتب الأخرى لغيره. (السلسلة الصحيحة)
تنبيه:
أما الحديث الذي رواه ليث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. قالت (ربما مشى النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة).
فهو ضعيف لا يحتج به، أخرجه الترمذي.
- قال الحافظ رحمه الله: قَدْ يَدْخُل فِي هَذَا كُلّ لِبَاس شَفْع كَالْخُفَّيْنِ وَإِخْرَاج الْيَد الْوَاحِدَة مِنْ الْكُمّ دُون الْأُخْرَى والتَّرَدِّي [أي لبس الرداء] عَلَى أَحَد الْمَنْكِبَيْنِ دُون الْآخَر. قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. قُلْت: وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن مَاجَهْ حَدِيث الْبَاب مِنْ رِوَايَة مُحَمَّد بْن عَجْلَان عَنْ سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بلفظ: (لَا يَمْشِ أَحَدكُمْ فِي نَعْل وَاحِدَة وَلَا خُفّ وَاحِد) وَهُوَ عِنْد مُسْلِم أَيْضًا مِنْ حَدِيث جَابِر، وَعِنْد أَحْمَد مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد، وَعِنْد الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس، وَإِلْحَاق إِخْرَاج الْيَد الْوَاحِدَة مِنْ الْكُمّ وَتَرْك الْأُخْرَى بِلُبْسِ النَّعْل الْوَاحِدَة وَالْخُفّ الْوَاحِد بَعِيد، إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ الْأَمْر بِالْعَدْلِ بَيْن الْجَوَارِح وَتَرْك الشُّهْرَة، وَكَذَا وَضْع طَرَف الرِّدَاء عَلَى أَحَد الْمَنْكِبَيْنِ، وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى.
وعليه؛ فإنْ لعب الإنسان بالشراب دون لبس النعلين، لزمه أن يلبس الشرابين معاً أو أن يخلعهما معاً، لأنهما في حكم الخف المذكور في الحديث.
1451 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَنْظُرُ اَللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(لَا يَنْظُرُ اَللَّهُ) أي: نظر رحمة.
(إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ) أي: أسبله ثوبه.
(خُيَلَاءَ) الخيلاء الكبر، والعجب.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم جر الإزار خيلاء، وأن هذا من كبائر الذنوب، وهو حرام بالإجماع.
أ- لحديث الباب.
ب- ولحديث أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ) متفق عليه.
وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من جر ثوبه مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة) رواه البخاري.
فهذه الأحاديث صريحة في تحريم جر الرجل ثوبه خيلاء، وأن ذلك من الكبائر.
قال الذهبي: الكبيرة الخامسة والخمسون: إسبال الإزار والثوب واللباس والسراويل تعززاً وعجباً وفخراً وخيلاء.
ونستفيد أن من جر ثوبه لغير الخيلاء، فإنه لا يستحق هذا الوعيد، لأن تقييد الحكم بوصف يستلزم انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف. (ابن عثيمين).
ما حكم الإسبال لغير الخيلاء؟
اختلف العلماء في حكم الإسبال لغير الخيلاء على قولين:
القول الأول: أنه حرام.
واختاره القاضي عياض، والذهبي، ورجحه ابن حجر، وبه قال الصنعاني.
ورجحه ابن باز، وابن عثيمين، والألباني.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد المسبل من غير تفريق بين خيلاء وغيره.
قال الخطابي: قوله (فهو في النار) يُتأول على وجهين:
أحدهما: ما دون الكعبين من قدم صاحبه في النار عقوبة له على فعله.
والآخر: إنّ فعله ذلك في النار، أي هو معدود من أفعال أهل النار.
ب- وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من الكعبين هو في النار، يقولها ثلاث مرات) رواه أحمد.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد المسبل ثيابه بالنار من غير تفريق بين خيلاء وغيره، فدل على تحريم الإسبال مطلقاً.
وممن رجح التحريم: ابن العربي، والحافظ ابن حجر.
قال الحافظ ابن حجر: وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضاً.
وقال ابن العربي رحمه الله: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء، لأن النهي تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول لا أمتثله، لأن العلة ليس فيَّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره) انتهى.
وقد نقله ابن حجر رحمه الله، وعلق عليه بقوله: وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه (وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة).
وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك، حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل) الحديث.
وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته:"عن عمرو بن فلان" وأخرجه الطبراني أيضاً فقال: عن عمرو بن زرار، وفيه ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أصابع تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار، الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمراً المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنته.
وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال (أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك" فقال إني أحنف تصطك ركبتاي، قال: ارفع إزارك فكل خلق الله حسن، وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم وفي آخره: "وذاك أقبح مما بساقيك" انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
القول الثاني: أنه مكروه.
وحملوا الأدلة الناهية عن الإسبال مطلقاً على الأدلة المقيدة للتحريم بالخيلاء، وحينئذ فإن الإسبال المحرّم المنهي عنه إنما هو الإسبال للخيلاء والكبر والبطر، وأما الإسبال الخالي عن هذه الصفة والهيئة فلا يصل إلى درجة التحريم، بل هو محمول على الكراهة، وقد دل على حمل المطلق على المقيد بالخيلاء في الإسبال ما يلي:
حديث ابن عمر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جر ثوبَه خيلاء لم ينظرِ الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: إن أحد شقَّيْ ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك لست تصنعُ ذلك خيلاء) متفق عليه.
قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إنك لست تصنع ذلك خيلاء، تصريح بأن مناط التحريم هو الخيلاء، وأن الوعيد المذكور إنما هو لمن جرها خيلاء، وأما من جر ثيابه لغير الخيلاء فإنه لا يدخل في الوعيد.
وبحديث ابن عمر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المَخِيلة فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة) رواه مسلم.
قالوا: دل بمفهومه على أن من أسبل ثيابه لا يريد بذلك المخيلة لا يلحقه الوعيد المذكور.
قال ابن قدامة: ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برفع الإزار، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرام.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء، وقد يكون لغيره، فلابد من حمل قوله"فإنها من المخيلة" في حديث جابر بن علي أنه خرج مخرج الغالب، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهاً إلى من فعل ذلك اختيالاً، والقول: بأن كل إسبال من ا لمخيلة أخذاً بظاهر حديث جابر ترده الضرورة، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله.
ثم قال: وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين.
ثم قال: وحمل المطلق على المقيد واجب، وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة 4/ 363: وهذه نصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة، والمطلق منها محمول على المقيد، وإنما أطلق ذلك؛ لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة.
ثم قال: ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه، وما سوى ذلك فهو باقٍ على الإباحة، وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة.
ثم قال: وبكل حال فالسنة تقصير الثياب، وحدِّ ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب، فما كان فوق الكعب فلا بأس به، وما تحت الكعب في النار. انتهى.
والراجح القول الأول: وأن إسبال الثوب لغير الخيلاء حرام.
وما ذهبوا إليه من حمل المطلق على المقيد مردود: بأنّ حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة ممتنع لا يصح، لأنه مخالف لما اتفق عليه الأصوليون من أنه لا يصح حمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحدا في الحكم، وأما إذا اختلفا فلا خلاف بين الأصوليين في امتناع حمل أحدهما على الآخر: وتوضيح ذلك:
أن الحكم المرتب على حالتي الإسبال كليهما مختلف، فمن أسبل للخيلاء فإن الله تعالى لا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، ولا يكلمه، وله عذاب أليم، ومن أسبل لغير الخيلاء فإن ما أسفل من الكعبين في النار.
فائدة: أما فعل أبي بكر رضي الله عنه فتوجيهه كما قال الذهبي رحمه الله في (سير أعلام النبلاء).
وكذلك نرى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية -نوع من اللباس- تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار" يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء وأنا لا أفعله خيلاء. فنراه يكابر ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق:(إنه يا رسول الله يسترخي إزاري) فقال: "لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء" فقلنا: أبو بكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولا على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعدُ يسترخي. وقال عليه الصلاة والسلام:"إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين" ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس، وقد يعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة) انتهى كلام الذهبي رحمه الله.
فائدة: 2
ذكر ابن حجر رحمه الله أن رواية الترمذي فيها زيادة بعد قوله صلى الله عليه وسلم (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبراً، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن؛ قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه. قال ابن حجر: فهمت - أي أم سلمة - الزجر عن الإسبال مطلقاً سواء كان عن مخيلة أو لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهنّ إلى الإسبال من أجل ستر العورة
…
ثم قال رحمه الله: وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها. (فتح الباري).
فائدة: 3
وقال - أي ابن حجر- رحمه الله: وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه. ثم قال: وإن كان الثوب زائداً على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، وقد يتجه المنع من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به. (الفتح).
فائدة: 4
أن الإسبال مظنة الخيلاء. قال ابن حجر رحمه الله: الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه (وإيّاك وجر الإزار، فإن جر الإزار من المخيلة). (الفتح).
فائدة: 5
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عند حديث (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) وحديث (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) فلما اختلفت العقوبتان امتنع أن يحمل المطلق على المقيد لأن قاعدة حمل المطلق على المقيد من شرطها اتفاق النصين في الحكم، أما إذا اختلف الحكم فإنه لا يقيد أحدهما بالآخر، ولهذا لم نقيد آية التيمم التي قال الله تعالى عنها (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) لم نقيدها بآية الوضوء التي قال الله تعالى عنها (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) فلا يكون التيمم إلى المرافق.
فائدة: 6
قال الشيخ مشهور آل سلمان - حفظه الله -: وأفاد شيخنا الألباني رحمه الله في بعض مجالسه أنه لا يجوز للمسلم أن يتعمد إطالة ثوب بدعوى أنه لا يفعل ذلك خيلاء، ويتعلق بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر (إنك لا تفعل ذلك خيلاء)؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يتخذ ثوباً طويلاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إنك لا تفعل ذلك خيلاء)، وإنما كان قوله صلى الله عليه وسلم جواباً لقوله بأنه يسقط الثوب عنه، فيصبح كما لو أطال ذيله، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا أمر لا تؤاخذ عليه؛ لأنك لا تفعله قصداً ولا تفعله خيلاء، فلذلك لا يجوز أن نُلحق بأبي بكر ناساً يتعمدون إطالة الذيول، ثم يقولون: نحن لا نفعل ذلك خيلاء. فحادثة أبي بكر لا تشهد لهؤلاء مطلقاً.
فائدة: 7
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتاً أو سراويل أو إزارا أو قميصاً فهو داخل في الوعيد، وليس معذوراً في إسباله ملابسه لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال تعمه بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- إثبات النظر لله تعالى.
- كل ذنب ختم بوعيد فهو من كبائر الذنوب.
1452 -
وَعَنْهُ. أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد مشروعية الأكل اليمين وعدم الأكل بالشمال.
وقد اختلف العلماء في حكم ذلك على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
اختاره ابن أبي موسى، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، ومحمد بن صالح العثيمين غيرهم.
أ-لحديث جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ; فَإِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وجه الدلالة: دل الحديث على النهي عن الأكل بالشمال، بدلالة قوله (لا تأكلوا) وهذا نهي، والأصل في النهي إذا ورد مجرداً عن القرائن فإنه يقتضي التحريم.
ب- ولحديث الباب (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ).
قال ابن القيم: ومقتضى هذا تحريم الأكل بها، وهو الصحيح، فإن الآكل بها، إما شيطان، وإما مشبه به.
ج- ولحديث عمر بن أبي سلمة وفيه (يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك) متفق عليه.
وجه الدلالة:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين.
قال العيني: وأما الأكل باليمين فقد ذهب بعضهم إلى أنه واجب لظاهر الأمر.
د- وعن سَلمة بنِ عمرو بنِ الأكوع رضي الله عنه (أنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينكَ) قَالَ: لا أسْتَطيعُ. قَالَ: (لا استَطَعْتَ) مَا مَنَعَهُ إلاَّ الكِبْرُ فمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيه) رواه مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين: فيه استعمال الاستطاعة بمعنى الإرادة، فقوله (لا أستطيع) أي: لا أريد، ومنه قول الحواريين (هل يستطيع ربك) أي: هل يريد ربك.
(قَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ) هذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم عليه، لأنه لم له في ترك الأكل باليمين عذر، وإنما قصد المخالفة.
(قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ) أي: أن ذلك الرجل لم يستطع بعد ذلك اليوم أن يرفع يده اليمنى إلى فيه، وهو كناية أنها شلّت بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه.
قال الصنعاني في شرح حديث الباب: وفي الحديث دليل على وجوب الأكل باليمين للأمر به أيضاً، ويزيده تأكيداً أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وفعل الشيطان يحرم على الإنسان ويزيده تأكيداً أن رجلاً أكل عنده صلى الله عليه وسلم بشماله فقال:"كل بيمينك" فقال: لا أستطيع قال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر" فما رفعها إلى فيه، أخرجه مسلم، ولا يدعو صلى الله عليه وسلم إلا على من ترك الواجب، وأما كون الدعاء لتكبره فهو محتمل أيضاً، ولا ينافي أن الدعاء عليه للأمرين معاً. (سبل السلام)
القول الثاني: أنه مستحب.
وهذا قول جمهور العلماء.
فهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، اختاره ابن المنذر.
استدلوا بالأحاديث السابقة الآمر بالأكل باليمين، وحملوا الأمر بالأكل باليمين على الاستحباب والندب، والنهي عن الأكل بالشمال على الكراهة والتنزيه؛ لأن الصارف لذلك هو قصد الإرشاد والأدب والفضيلة.
وأجاب أيضاً عن أدلة من قال بالوجوب:
قالوا: وأما التشبيه بالشيطان فلا يفيد الحرمة، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن المجلس بين الظل والشمس مجلس الشيطان. رواه أحمد. وأخبرنا صلى الله عليه وسلم في أمر القيلولة بقوله: قيلوا فإن الشيطان لا يقيل. رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني بتعدد طرقه وإن ضعفه غيره.
وفي سنن ابن ماجه: وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله. قال المنذري: إسناده صحيح. وصححه المناوي، والجماهير من العلماء على عدم وجوب القيلولة، وعدم وجوب المناولة باليمين، إلى غير ذلك.
وأما حديث (سلمة بن الأكوع) فأجابوا عنه:
أولاً: قيل إن الرجل منافق، بدليل رده أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرًا واستعلاءً. جزم بذلك القاضي عياض.
ثانياً: وقيل أن الدعاء عليه لمخالفة الحكم الشرعي عمومًا. جزم بذلك الإمام النووي.
وقيل: أن الدعاء عليه لكبره. قال المناوي في فيض القدير: ودعاؤه على الرجل إنما هو لكبره الحامل له على ترك الامتثال، كما هو مبين.
1453 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ اَلْبُخَارِي.
===
(كُلْ، واشرب) أي جميع أنواع الطيّبات، فحذف المفعول لإرادة التعميم، فهو كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) والأمر للإباحة.
(وَالْبَسْ) أي الحلال، من أنواع الملابس.
(وَتَصَدَّقْ) أي: على المحتاجين، من الفقراء والمساكين، فحذف المفعول أيضًا؛ لما ذُكر.
(فِي غَيْرِ سَرَفٍ) الإسراف: مجاوزة الحد في كل فعل وقول وهو في الإنفاق أشهر.
(وَلَا مَخِيلَةٍ) بفتح الميم، وكسر الخاء المعجمة: بمعنى الْخُيَلاء، أي من غير تكبر، وفخر، وتطاول على الناس.
ما صحة حديث الباب؟
إسناده حسن.
ماذا نستفيد من الحديث؟
إباحة الأكل والأكل واللبس بشرط عدم السرف والمخيلة.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كُلْ مَا شِئْتَ، وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَة.
فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي تَدْبِيرِ الْمَعِيشَةِ، وَتَرْشِيدِ الاسْتِهْلَاكِ، وَضَبْطِ الْإِنْفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُهِمَّاتِ الْأَشْيَاءِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَهِيَ: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَاللِّبَاسُ وَالصَّدَقَةُ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى هِيَ أَكْثَرُ مَا تُنْفَقُ فِيهِ الْأَمْوَالُ؛ لَأَنَّهُ لَا عَيْشَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَلَا ظُهُورَ لَهُ أَمَامَ النَّاسِ إِلَّا بِلِبَاسٍ، فَكَانَ أَكْثَرُ الْإِنْتَاجِ مُتَّجِهًا إِلَيْهَا؛ لِكَثْرَةِ اسْتِهْلَاكِهَا.
قَالَ المُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِفَضَائِلِ تَدْبِيرِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَدْبِيرُ مَصَالِحِ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ السَّرَفَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَضُرُّ بِالْجَسَدِ، وَيَضُرُّ بِالمَعِيشَةِ؛ فَيُؤَدِّي إِلَى الْإِتْلَافِ، وَيَضُرُّ بِالنَّفْسِ إِذْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْجَسَدِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَالمَخِيلَةُ تَضُرُّ بِالنَّفْسِ حَيْثُ تُكْسِبُهَا الْعُجْبَ، وَتَضُرُّ بِالْآخِرَةِ حَيْثُ تُكْسِبُ الْإِثْمَ، وَبِالدُّنْيَا حَيْثُ تُكْسِبُ المَقْتَ مِنَ النَّاس.
وَوَرَدَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَكَانَ قَدْ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -: «كَيْفَ نَفَقَتُكَ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: حَسَنَةٌ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ» ، وَقَدِ انْتَزَعَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْآيَة.
وقد قيل: ما عال من اقتصد.
وقيل: الاقتصاد نصف المعيشة.
وقيل: حسن التدبير نصف المعيشة.
وقيل يونس بن عبيد لرجل: آمرك بثلاث:
بالتودد إلى الناس: فإنه نصف العقل.
والاقتصاد في المعيشة: فإنه ثلث الكسب.
وحسن المسألة: فإنه نصف العلم.
ما حكم الإسراف؟
حرام.
فالإسراف والترف مذموماً شرعاً.
فالله لا يحب المسرفين.
قال تعالى (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
قوله (وَلَا تُسْرِفُوا) في ذلك، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام.
- وأصل الإسراف في لغة العرب: هو مجاوزة الحد.
- قال الشنقيطي: والإسراف المنهي عنه هنا فيه للعلماء وجهان:
أحدهما: أن المعنى لا تسرفوا في الأكل والشرب فتأكلوا فوق الحاجة، وتشربوا فوق الحاجة، لأن الإسراف في الأكل والشرب يثقل البدن، ويعوق صاحبه عن طاعة الله، والقيام بالليل، فيجعل صاحبه كلما كانت بطنه ملأى من الأكل والشرب كان ثقيل الجسم، لا ينهض لطاعة الله، فنهاهم الله عن الإسراف في الأكل، وكذلك يسبب الأمراض.
والوجه الثاني: أن معنى (وَلَا تُسْرِفُوا) أي: لا تجاوزوا حدود الله، فتحرِّمُوا ما أحلّ الله كالودك للمُحْرِم، وكاللباس للطَّائِف، فهذه أمورٌ لم يحرمها الله، ولا تسرفوا في التحريم والتحليل بأن تحرموا ما أحلَّ الله، وتحللوا ما حرَّم الله، وكلا الإسرافين إسراف. ولا مانع من أن تشمل الآية الجميع. فلا يجوز الإسراف بتحريم ما أحلَّ الله، وتحليل ما حرَّم الله، كما لا يجوز الإسراف الكثير بملء البطن مِلْئاً شديداً من الأكل والشرب حتى يتكاسل الإنسان ولا يتنشط لطاعة الله.
ومن صفات عباد الرحمن القصد وعدم الإسراف.
قال تعالى (وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
قال ابن كثير: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (المؤمن يأكل في معيٍ واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) متفق عليه.
ذكر الله عاقبة البخل والإسراف.
قال تعالى (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).
قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل ناهيًا عن السَّرَف (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) أي: لا تكن بخيلاً منوعًا، لا تعطي أحدًا شيئًا، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي نسبوه إلى البخل، تعالى وتقدس الكريم الوهاب، وقوله (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) أي: ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا.
وهذا من باب اللف والنشر أي: فتقعد إن بخلت ملومًا، يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك، ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا فإنها تسمى الحسير. (ابن كثير).
المبذرين إخوان الشياطين.
قال تعالى (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ (فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لاِمْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ) رواه مسلم.
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَة فَاِتِّخَاذه إِنَّمَا هُوَ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاخْتِيَال وَالِالْتِهَاء بِزِينَةِ الدُّنْيَا، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَة فَهُوَ مَذْمُوم، وَكُلّ مَذْمُوم يُضَاف إِلَى الشَّيْطَان؛ لِأَنَّهُ يَرْتَضِيه، وَيُوَسْوِس بِهِ، وَيُحَسِّنهُ، وَيُسَاعِد عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَة. (شرح مسلم).
ولأن الشيطان لا يدعو إلا إلى خصلة ذميمة، إما البخل والإمساك، فإن عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى عدم الإسراف:
فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَة).
وحذَّر من الإسراف في الطعام والشراب مبيناً الحدود المعقولة والمقبولة من ذلك.
فعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِه).
والإسراف هو إضاعة للمال، والله يكره إضاعة المال.
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُول (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَال).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحبُّ اللهَ إضاعةَ المالَ، ولا كثرةَ السؤالِ، ولا قِيْلَ وقَال).
فالله لا يحب المسرفين، لأنه يضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات.
اذكر بعض الأقوال في ذم الشبع؟
قال الفضيل بن عياض: شيئان يقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
لأن الشّبَع مذموم، فهو يكسل عن العبادة، فعلى العبد أن لا يكثر الأكل والشرب حتى لا يغلبه النوم ويثقل عليه القيام.
ولذلك قيل: لا تأكل كثيراً، فتشرب كثيراً، فتنام كثيراً، فتتحسر كثيراً؟
قال عمر: إياكم والبطنة، فإنها ثقل في الحياة ونتن في الممات.
وقال لقمان لابنه: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقال أبو سليمان الداراني: من شبع دخل عليه ست آفات: فقْد حلاوة المناجاة، وتعذر عليه حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلْق، لأنه إذا شبع ظن الخلق كلهم شباعاً، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات.
وقال محمد بن واسع: من قلّ طُعْمه فهِم وأفْهم وصفَى ورقّ.
وقال عمرو بن قيس: إياكم والبطنة، فإنها تقسي القلب.
وقال الحسن البصري: كانت بلية أبيكم آدم أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إذا أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل.
وقال إبراهيم بن أدهم: من ضبط بطنه ضبط دينه.
ما حكم الخيلاء؟
حرام.
قال تعالى (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا).
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللهُ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة) رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ما كيفية الإسراف في الصدقة؟
وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ فِي تَطَوُّعٍ، وَيَتْرُكَ وَاجِبًا، كَمَنْ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَيُضَيِّعُ مَنْ يَعُولُ، وَقَدْ أَرَادَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنْ يُوصِي بِمَالِهِ كُلِّهِ، فَخَفَّضَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الثُّلُثِ، وَقَالَ (وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك).
فإن قيل: ما الجواب عن حديث (إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، وَمِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَالاِخْتِيَالُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالاِخْتِيَالِ الَّذِي يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، الْخُيَلَاءُ فِي الْبَاطِل).
فالجواب: أن المراد أن تَهُزّه سجية السخاء، فيُعطيها المستحقّ بطيب نفس، وانشراح صدر، وانبساط وجه، فلا يَمُنُّ، ولا يستكثر كثيرًا، ولا يُبالي بما أعطى، ولا يُعطي منها شيئًا، إلا وهو مستقلّ؛ وذلك لأنه يكون سببًا للاستكثار، والرغبة في الزيادة منها.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- إباحة أكل الطيّبات، والمستلذّات، بشرط أن لا يصل إلى حدّ الإسراف.
- إباحة التجمّل باللباس، إذا لم يؤدّ إلى الإسراف أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
فائدة:
قال ابن القيّم: الأفعال الطبيعية: كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرت نقصًا، فمن أشرف العلوم وأنفعها علمُ الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي، فأَعلمُ النَّاس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها.
بَابُ اَلْبِرِّ وَالصِّلَةِ
البر: اسم جامع للطاعات، والمراد به هنا: بر الوالدين.
والصلة: ضد القطيعة.
1454 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
===
(مَنْ أَحَبَّ) وفي رواية (من سره).
(أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ) أي: يوسع.
(وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ) أن يؤخر.
(فِي أَثَرِهِ) في أجله.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل صلة الرحم، وأن ذلك سبب لبسط الرزق وطول العمر.
ماذا تعني صلة الرحم؟
صلة الرحم تعني الإحسان إلى الأقربين وإيصال ما أمكن من الخير إليهم ودفع ما أمكن من الشر عنهم.
اذكر فضائل صلة الرحم؟
الحديث دليل على فضل صلة الرحم، وأنها من أسباب دخول الجنة، ولصلة الرحم فضائل:
أولاً: سبب في زيادة العمر.
كما في حديث الباب (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه).
وقال صلى الله عليه وسلم (صلة الرحم، وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار) رواه أحمد.
وعند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم (تعلَّموا من أنسابِكم ما تصِلُون به أرحامَكم؛ فإن صِلَة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، مثْرَاةٌ في المال، منسَأةٌ في الأثَر).
وأخرج الطيالسي عن عمرو بن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل، منسأة في الأجل).
ثانياً: من وصلها وصله الله.
كما في الحديث: (من وصلني وصله الله).
ثالثاً: من أسباب دخول الجنة.
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ الْقَوْمُ مَالَهُ مَالَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَبٌ مَالَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا قَالَ كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس أفشوا السلام أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) رواه الترمذي.
رابعاً: أن مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الدعوة إلى صلة الرحم.
كما جاء في قصة هرقل، أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا يأمركم به؟ قال: يقول (اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة). متفق عليه
خامساً: صلة الرحم من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه).
سادساً: صلة الرحم فيها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
-.
وفي قصة بدايةِ الوحي لما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم خائفاً قالت له زوجته خديجة (كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم).
سابعاً: أفضل الصدقة الصدقة على الأرحام.
قال صلى الله عليه وسلم (أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح) رواه ابن خزيمة.
ثامناً: صلة الرحم من أفضل الطاعات.
عن عُقْبَة بن عامر قال: قلت يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الأَعْمَالِ. فَقَالَ (يَا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَك) رواه حمد.
تاسعاً: صلة الرحم طاعة لله.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ).
عاشراً: شيوع المحبة والألفة بين الأقارب.
فبسببها تشيع المحبة، وبهذا يصغو عيشهم وتكثر مسراتهم.
ما معنى صلة الرحم؟
بالإحسان إلى الأقارب وزيارتهم، وإدخال السرور عليهم، وبالقول.
ما المراد بالرحم المطلوب صلتها؟
اختلف العلماء في حدّ الرحم التي يجب وصلها إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن حد الرحم هو: الرحِم المَحرَم.
والقول الثاني: أنهم الرحم من ذوي الميراث.
والقول الثالث: أنهم الأقارب من النسب سواء كانوا يرثون أم لا.
والصحيح من أقوال أهل العلم هو القول الثالث، وهو: أن الرحم هم الأقارب من النسب – لا من الرضاع – من جهة الأب والأم.
أما أقارب الزوجة فليسوا أرحاماً للزوج، وأقارب الزوج ليسوا أرحاماً للزوجة.
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
من هم الأرحام وذوو القربى حيث يقول البعض إن أقارب الزوجة ليسوا من الأرحام؟
فأجاب:
" الأرحام هم الأقارب من النسب من جهة أمك وأبيك، وهم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال والأحزاب:(وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).
وأقربهم: الآباء والأمهات والأجداد والأولاد وأولادهم ما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الإخوة وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله سائل قائلاً: من أبر يا رسول الله؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أباك، ثم الأقرب فالأقرب) خرجه الإمام مسلم في صحيحه، والأحاديث في ذلك كثيرة.
أما أقارب الزوجة: فليسوا أرحاماً لزوجها إذا لم يكونوا من قرابته، ولكنهم أرحام لأولاده منها، وبالله التوفيق.
قال الصنعاني: وَاعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا:
فَقِيلَ: هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي يَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا حَرُمَ عَلَى الْآخَرِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَلَا أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ. وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ التَّقَاطُعِ.
وَقِيلَ هُوَ مَنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمِيرَاثٍ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك ".
وَقِيلَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ قَرَابَةٌ سَوَاءٌ كَانَ يَرِثُهُ أَوْ لا. (سبل السلام)
بما تكون الصلة؟
صلة الرحم تكون بأمور متعددة، منها: الزيارة، والصدقة، والإحسان إليهم، وعيادة المرضى، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وغير ذلك.
قال النووي: صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارة، والسلام، وغير ذلك " انتهى.
وقال الشيخ محمد الصالح العثيمين: وصلة الأقارب بما جرى به العرف واتّبعه الناس؛ لأنه لم يبيّن في الكتاب ولا السنة نوعها ولا جنسها ولا مقدارها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيده بشيء معين
…
بل أطلق؛ ولذلك يرجع فيها للعرف، فما جرى به العرف أنه صلة فهو الصلة، وما تعارف عليه الناس أنه قطيعة فهو قطيعة " انتهى.
وقال ابن أبي جمرة: صلة الرحم بالمال وبالعون على الحوائج ودفع الضرر وطلاقة الوجه والدعاء والمعنى الجامع إيصاله ما أمكن من خير ودفع ما أمكن من شر بقدر الطاقة.
من هو الواصل؟
الواصل عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) رواه البخاري
ما المراد بزيادة العمر في قوله (وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ) مع أن الأرزاق والأعمار مكتوبة، قال تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب توفيق صاحبه إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة.
ورجح هذا النووي، والطيبي.
قال النووي: وَأَمَّا التَّأْخِير فِي الْأَجَل فَفِيهِ سُؤَال مَشْهُور، وَهُوَ أَنَّ الْآجَال وَالْأَرْزَاق مُقَدَّرَة لَا تَزِيد وَلَا تَنْقُص (فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) وَأَجَابَ الْعُلَمَاء بِأَجْوِبَةٍ الصَّحِيح مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْره، وَالتَّوْفِيق لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَة أَوْقَاته بِمَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة، وَصِيَانَتهَا عَنْ الضَّيَاع فِي غَيْر ذَلِكَ.
القول الثاني: أن الزيادة الواردة في الأحاديث هي بالنسبة لعلم الملَك الموكل بالعمر، وأما ما ورد في الآيات فهو بالنسبة لعلم الله، فيكون معنى الحديث: أن التأخير يكون في أثره المكتوب في صحف الملائكة، وأما أثره المعلوم عند الله فلا تقديم ولا تأخير.
وهذا قول البيهقي، وابن تيمية، وابن حجر، والسعدي.
قال ابن تيمية: وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ: أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ. وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ
…
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا، فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ. وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَه.
أ- قال تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت
قال السعدي عند تفسير الآية:
(يمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ) من الأقدار (وَيُثْبِتُ) ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله، أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع له وشعب.
فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا، لا تتعدى تلك الأسباب، ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.
ب- ما روي عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني من أهل السعادة القول الثالث: أَنَّ الْمُرَاد بَقَاء ذِكْره الْجَمِيل بَعْده، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.
قال النووي: حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ ضَعِيف أَوْ بَاطِل.
القول الرابع: أن المراد بالزيادة ما يكون للواصل من ذرية صالحة يدعون له بعد موته.
واختاره حافظ حكمي.
اذكر بعض أسباب الرزق؟
أولاً: صلة الرحم.
لحديث الباب.
ثانياً: التوكل.
عن عُمَر رضي الله عنه، قَالَ: سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقول (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً) رواه الترمذي.
ثالثاً: الاستغفار والتوبة.
قال تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).
وقال تعالى (ويَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ).
قال القرطبي: في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار.
رابعاً: التقوى.
قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).
وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
خامساً: التفرغ للعبادة.
عن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك) رواه الترمذي.
سادساً: المتابعة بين الحج والعمرة.
عن عبد الله بن مسعود. قال: قال صلى الله عليه وسلم (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) رواه الترمذي.
سابعاً: الإنفاق في سبيل الله تعالى.
قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
قال ابن كثير: أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث.
وقال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).
قال ابن عباس في تفسير الآية: اثنان من الله، واثنان من الشيطان (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) يقول: لا تنفق مالك وأمسكه لك فإنك تحتاج إليه، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) على هذه المعاصي (وَفَضْلاً) في الرزق.
ثامناً: المهاجرة في سبيل الله.
قال تعالى (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).
ففي هذه الآية وعد الله تعالى أن من هاجر في سبيله سيجد أمرين: أولهما: مراغماً كثيراً، وثانيهما: سعة.
والمراد بالأمر الأول كما يقول الرازي: (مراغماً) ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية.
والمراد بالأمر الثاني (سعة) السعة في الرزق.
1455 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ قَاطِعٌ) يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم قطيعة الرحم وأنه من أسباب عدم دخول الجنة.
قال النووي: هذا الْحَدِيث يُتَأَوَّل تَأْوِيلَيْنِ سَبَقَا فِي نَظَائِره فِي كِتَاب الْإِيمَان:
أَحَدهمَا: حَمْله عَلَى مَنْ يَسْتَحِلّ الْقَطِيعَة بِلَا سَبَب وَلَا شُبْهَة مَعَ عِلْمه بِتَحْرِيمِهَا، فَهَذَا كَافِر يُخَلَّد فِي النَّار، وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة أَبَدًا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ وَلَا يَدْخُلهَا فِي أَوَّل الْأَمْر مَعَ السَّابِقِينَ، بَلْ يُعَاقَب بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْر الَّذِي يُرِيدهُ اللَّه تَعَالَى.
اذكر بعض عقوبات قطيعة الرحم؟
أولاً: عدم دخول الجنة.
كما في حديث الباب.
ثانياً: حصول اللعنة.
قال تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).
قال علي بن الحسين لولده: يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواطن.
ثالثاً: عدم قبول عمل قاطع رحم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ) رواه أحمد.
رابعاً: عقوبة قاطع الرحم تعجل في الدنيا قبل الآخرة.
عنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) رواه الترمذي.
خامساً: قطع الرحم قطع للوصل مع الله.
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله) متفق عليه.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى. قَالَ فَذَاكَ لَكِ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) متفق عليه.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنَا الرَّحْمَنُ وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَاشْتَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ) رواه أحمد.
سادساً: أن عدم صلة الرحم من الكبائر.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)
1456 -
وَعَنْ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اَللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ اَلْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ اَلْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ اَلسُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ اَلْمَالِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(عقوق الأمهات) العقوق بضم العين مشتق من العق، والمراد به القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم عقوق الأمهات، وقد جاءت الأدلة على تحريم العقوق.
عن أَبي بكرة نُفَيع بن الحارث رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» - ثلاثًا - قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ:«الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» ، وكان مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ:«ألَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ». رواه البخاري.
وعنه أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ!» ، قالوا: يَا رَسُولَ الله، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ:«نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ!» ، قِيلَ: يَا رَسُول الله، كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟! قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر) رواه أحمد.
وعن أبي بكرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه) رواه أحمد.
وعن علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لعن الله من لعن والديه) رواه مسلم.
وعن المغيرة بن شعبة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: إنما خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك.
وهل الأب مثل الأم؟
نعم.
لماذا خص الأمهات؟
قال الحافظ ابن حجر: إنما خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك.
قال حكيم: من عق والديه عقّه ولده.
وقال النووي: قوله (عُقُوق الْأُمَّهَات) فَحَرَام، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى عَدِّهِ مِنْ الْكَبَائِر، وَكَذَلِكَ عُقُوق الْآبَاء مِنْ الْكَبَائِر، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ هُنَا عَلَى الْأُمَّهَات لِأَنَّ حُرْمَتهنَّ آكَد مِنْ حُرْمَة الْآبَاء، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم حِين قَالَ لَهُ السَّائِل: مَنْ أَبَرّ؟ قَالَ: "أُمّك ثُمَّ أُمّك" ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَة: "ثُمَّ أَبَاك". وَلِأَنَّ أَكْثَر الْعُقُوق يَقَع لِلْأُمَّهَاتِ، وَيَطْمَع الْأَوْلَاد فِيهِنَّ.
ما معنى (عقوق الوالدين)؟
أي عصيانهما، وقطع البرّ الواجب عنهما، وأصل العقّ: الشّقّ والقطع، ومنه قيل للذبيحة عن المولود: عقيقة؛ لأنه يُشقّ حلقومها. قاله الهرويّ، وغيره.
قال القرطبي: العقوق: مصدر عق، يعق، عقوقًا؛ أي: قطع وشقَّ. فكأنَّ العاقَّ لوالديه يقطع ما أمره الله تعالى به من صلتهما، ويشق عصا طاعتهما. ولا خلاف أن عقوقهما من أكبر الكبائر
ما معنى (وَوَأْدَ اَلْبَنَاتِ)؟
وهُوَ دَفْنهنَّ فِي حَيَاتهنَّ؛ فَيَمُتْنَ تَحْت التُّرَاب، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر الْمُوبِقَات، لِأَنَّهُ قَتْل نَفْس بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَتَضَمَّن أَيْضًا قَطِيعَة الرَّحِم، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَى الْبَنَات، لِأَنَّهُ الْمُعْتَاد الَّذِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ.
ما معنى (وَمَنْعًا وَهَاتِ)؟
قال النووي: مَعنَاهُ: مَنْعُ مَا وَجَب عَلَيهِ، وَ «هَاتِ»: طَلَبُ مَا لَيْسَ لَهُ.
وقال القرطبي: ومعناهما واحد، وهو أن يمنع ما يجب عليه بذله، أو يطلب شيئًا يحرم عليه طلبه
قال الحافظ: الحاصل من النهي منع ما أُمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق.
ما معنى قوله (وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ)؟
قال النووي: «قيلَ وَقالَ» مَعْنَاهُ: الحَديث بكُلّ مَا يَسمَعهُ، فيَقُولُ: قِيلَ كَذَا، وقَالَ فُلانٌ كَذَا مِمَّا لا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَلا يَظُنُّهَا، وَكَفَى بالمَرْءِ كذِبًا أَنْ يُحَدّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ.
وقال القرطبي: ومعناه أن الله تعالى حرَّم الخوض في الباطل، وفيما لا يعني من الأقوال، وحكايات أحوال الناس التي لا يسلم فاعلها من الغيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب. و (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كانت النار أولى به).
ما معنى (وَإِضَاعَةَ اَلْمَالِ)؟
قال النووي: «إضَاعَةُ المَال» تَبذِيرُهُ وَصَرفُهُ في غَيْرِ الوُجُوهِ المأذُونِ فِيهَا مِنْ مَقَاصِدِ الآخِرةِ وَالدُّنْيَا، وتَرْكُ حِفظِهِ مَعَ إمكَانِ الحِفظِ.
وقال في شرح مسلم: فَهُوَ صَرْفه فِي غَيْر وُجُوهه الشَّرْعِيَّة، وَتَعْرِيضه لِلتَّلَفِ.
قال ابن حجر:
…
تقدم أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها، وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة انفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخروياً أهم منه.
ما سبب النهي عن إضاعة المال؟
قال النووي: وَسَبَب النَّهْي أَنَّهُ إِفْسَاد، وَاَللَّه لَا يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ.
وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَ مَاله تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاس.
ما معنى (وكَثْرَةُ السُّؤَال)؟
قال النووي: فَقِيلَ: الْمُرَاد بِهِ الْقَطْع فِي الْمَسَائِل، وَالْإِكْثَار مِنْ السُّؤَال عَمَّا لَمْ يَقَع، وَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَة، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّلَف يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَهُ مِنْ التَّكَلُّف الْمَنْهِيّ عَنْهُ. وَفِي الصَّحِيح: كَرِهَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِل وَعَابَهَا.
وَقِيلَ: الْمُرَاد بِهِ سُؤَال النَّاس أَمْوَالهمْ، وَمَا فِي أَيْدِيهمْ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد كَثْرَة السُّؤَال عَنْ أَخْبَار النَّاس، وَأَحْدَاث الزَّمَان، وَمَا لَا يَعْنِي الْإِنْسَان.
وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ هَذَا مِنْ النَّهْي عَنْ قِيلَ وَقَالَ.
وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد كَثْرَة سُؤَال الْإِنْسَان عَنْ حَاله وَتَفَاصِيل أَمْره، فَيَدْخُل ذَلِكَ فِي سُؤَاله عَمَّا لَا يَعْنِيه، وَيَتَضَمَّن ذَلِكَ حُصُول الْحَرَج فِي حَقّ الْمَسْئُول، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُؤَثِّر إِخْبَاره بِأَحْوَالِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْإِخْبَار أَوْ تَكَلَّفَ التَّعْرِيض لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّة، وَإِنْ أَهْمَلَ جَوَابه اِرْتَكَبَ سُوء الْأَدَب. (شرح مسلم).
وقال ابن حجر: قوله: (وكثرة السؤال) هل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك؟ الأولى حمله على العموم.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكره المسئول غالباً، وقد ثبت النهي عن الأغلوطات. أخرجه أبو داود من حديث معاوية، وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جداً، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ .... (الفتح)
وقال القرطبي رحمه الله: يحتمل وجوهاً:
أحدها: أن يريد به كثرة سؤال الناس الأموال، والحوائج إلحاحًا، واستكثارًا.
وثانيها: أن يكثر من المسائل الفقهية تنطُّعًا وتكلُّفًا فيما لم ينزل. وقد كان السَّلف يكرهون ذلك، ويرونه من التكلُّف.
وثالثها: أن يكثر من السؤال عمَّا لا يعنيه من أحوال النَّاس، بحيث يُؤدِي ذلك إلى كشف عوراتهم، والإطلاع على مساوئهم.
قلت: والوجه: حمل الحديث على عمومه، فيتناول جميع تلك الوجوه كلِّها. (المفهم).
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن التحريم والتحليل إلى الله.
- ذم سؤال الناس.
- الحث على سؤال الله تعالى.
1457 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (رِضَا اَللَّهِ فِي رِضَا اَلْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اَللَّهِ فِي سَخَطِ اَلْوَالِدَيْنِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل بر الوالدين والعمل على رضاهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل رضا الرب ومحبته لعبده في رضا والديه.
من المقدم في البر الأم أم الأب؟
الأم.
قال النووي في سرح حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ «أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أَبُوكَ).
الصَّحَابَة هُنَا بِفَتْحِ الصَّاد بِمَعْنَى الصُّحْبَة.
وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى بِرّ الْأَقَارِب، وَأَنَّ الْأُمّ أَحَقّهمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدهَا الْأَب، ثُمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الْأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْهِ، وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا، وَمُعَانَاة الْمَشَاقّ فِي حَمْله، ثُمَّ وَضْعه، ثُمَّ إِرْضَاعه، ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه، وَغَيْر ذَلِكَ. وَنَقَلَ الْحَارِث الْمُحَاسِبِيّ إِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْأُمّ تُفَضَّل فِي الْبِرّ عَلَى الْأَب، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض خِلَافًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْجُمْهُور بِتَفْضِيلِهَا، وَقَالَ بَعْضهمْ: يَكُون بِرّهمَا سَوَاء. قَالَ: وَنَسَبَ بَعْضهمْ هَذَا إِلَى مَالِك، وَالصَّوَاب الْأَوَّل لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُور.
قَالَ الْقَاضِي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأُمّ وَالْأَب آكَد حُرْمَة فِي الْبِرّ مِمَّنْ سِوَاهُمَا. قَالَ: وَتَرَدَّدَ بَعْضهمْ بَيْن الْأَجْدَاد وَالْإِخْوَة لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك قَالَ أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ تُقَدَّم فِي الْبِرّ الْأُمّ، ثُمَّ الْأَب، ثُمَّ الْأَوْلَاد، ثُمَّ الْأَجْدَاد وَالْجَدَّات، ثُمَّ الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات، ثُمَّ سَائِر الْمَحَارِم مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام كَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّات، وَالْأَخْوَال وَالْخَالَات، وَيُقَدَّم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب. (نووي)
وقال الصنعاني: إذا تعارض حق الأب وحق الأم: فحق الأم مقدم.
لحديث: (قال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي قال أمك ثلاث مرات ثم قال أبوك).
فإنه دل على تقديم رضا الأم على رضا الأب.
قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب، قال: وكأن ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع.
قلت: وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها) ومثلها (حملته أمه وهنا على وهن).
قال القاضي عياض: ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل على الأب في البر، ونقل الحارث المحاسبي الإجماع على هذا. (سبل السلام)
جاء في (الموسوعة الفقهية) أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِيصَال الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً:
فَقَدْ قَال الْجُمْهُورُ: طَاعَةُ الأْمِّ مُقَدَّمَةٌ؛ لأِنَّهَا تَفْضُل الأْبَ فِي الْبِرِّ.
وَقِيل: هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لِمَالِكٍ: وَالِدِي فِي السُّودَانِ، كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ، وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ، فَقَال لَهُ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصِ أُمَّكَ. يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ، وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِل عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا قَال: أَطِعْ أُمَّكَ، فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ.
وَنَقَل الْمُحَاسِبِيُّ الإْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الأْمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الأْب.
وقال القرطبي: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الْأُمِّ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ مَحَبَّةِ الْأَبِ، لِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأُمَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذِكْرِ الْأَبِ فِي الرَّابِعَةِ فَقَطْ. وَإِذَا تَوَصَّلَ هَذَا الْمَعْنَى شَهِدَ لَهُ الْعَيَانُ. وَذَلِكَ أَنَّ صُعُوبَةَ الْحَمْلِ وَصُعُوبَةَ الْوَضْعِ وَصُعُوبَةَ الرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ تَنْفَرِدُ بِهَا الْأُمُّ دُونَ الْأَبِ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَنَازِلَ يَخْلُو مِنْهَا الْأَبُ.
اذكر بعض الأسباب التي تنال بها رضا الله تعالى؟
أولاً: رضا الوالد.
لحديث الباب.
ثانياً: الصدق.
قال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
ثالثاً: اتباع السابقين من الصحابة والتابعين بإحسان.
قال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه).
رابعاً: حمد الله بعد الشرب والأكل.
لحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها
…
) رواه مسلم.
خامساً: السواك.
قال صلى الله عليه وسلم (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) رواه أحمد.
سادساً: الشكر.
قال تعالى (وإن تشكروا يرضه لكم).
سابعاً: الإخلاص.
قال تعالى (وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِنْ نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى).
ثامناً: الولاءُ والبراءُ أساسُ رِضوان الله،
وهو: أن يُحبَّ المسلمُ لله، ويُحبَّ من أحبَّ الله وأحبَّ دينَه، ويُبغِضَ من أبغَضَ اللهَ ومن حارَبَ دينَه، يُوالِي المؤمنين وينصُرُهم، يكرَه المُنافقين ويُبغِضُهم.
قال الله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
تاسعاً: الكلمة الطيبة.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إن العبدَ ليتكلَّم بالكلمة من رِضوان الله لا يُلقِي لها بالاً، يرفعُه الله بها درجات).
عاشراً: من رضي الله عنه نالَ السعادةَ والطُّمأنينة.
قال الله تعالى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
الحادي عشر: ومن رضي الله عنه نالَ الشفاعةَ يوم القيامة.
قال الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا).
1458 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْه
===
(لا يؤمن أحدكم) أي الإيمان الكامل.
(ما يحب لنفسه) من الخير، كما ثبت في رواية النسائي، والخير: كلمة جامعة تعم الطاعات، والمباحات الدنيوية والأخروية.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن من علامات الإيمان الكامل أن يحب الإنسان لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير.
وقد جاء في الحديث عن يزيد بن أسد: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحب الجنة؟ قلت: نعم، قال: فأحب لأخيك ما تحب لنفسك) رواه أحمد.
اذكر بعض الأمثلة؟
عن أبي ذر. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على اثنين) رواه مسلم.
قال ابن رجب: وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف.
قال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليّ منه شيء. فقوله [وددت] دليل على محبته الخير للناس.
قال ابن عباس: إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.
وحكي أن بعضهم شكا كثرة الفأر في بيته، فقيل له: اقتني هرة، فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهرة فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببتُ لهم ما لا أحبه لنفسي.
وفي كلام بعضهم: ارضَ للناس ما لنفسك ترضى.
قيل للأحنف وكان أحلم الناس، ممن تعلمت الحلم؟ قال: من نفسي، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا كرهت شيئاً من غيري لم أفعل بأحد مثله.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن من كره لأخيه الخير فليس بمؤمن الإيمان الكامل.
- المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فيحب لها ما يحب لنفسه من حيث أنها نفس واحدة، كقوله صلى الله عليه وسلم:(المسلمون كالجسد الواحد).
- الحث على التواضع ومحاسن الأخلاق، حيث بحبه لأخيه الخير كما يحب لنفسه دليل على تواضعه، وأنه لا يحب أن يكون أفضل من غيره.
- الحث على ترك البغضاء والغل.
- الترغيب في محبة المسلمين بعضهم بعضاً وائتلافهم، لأن ذلك يؤدي إلى التعاضد والتناصر.
- الحرص على الأعمال التي تؤدي إلى زيادة الإيمان كحب الخير للمسلمين.
- التحذير من الأعمال التي تؤدي إلى نقصان الإيمان كعدم محبة الخير للمسلمين.
- ذم الأنانية والحسد والكراهية.
- العمل بمضمون الحديث يؤدي إلى نشر المحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي، ويؤدي أيضاً إلى تماسكه.
1459 -
وَعَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ اَلذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
- (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَم) أي: أشد عقوبة، وفي رواية (أي الذنب عند الله أكبر؟).
(نِدًّا) الند المثل والشبيه.
(أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ) أي: أن يطعم معك: أي لأجل أن يأكل معك، كقوله تعالى في الإسراء (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)، وخص الطعام بالذكر لأنه كان الأغلب من حال العرب، وكذا تقييده بخشية الأكل معه، لكون عادتهم أنهم يقتلون أولادهم لخشيتهم ذلك.
(أَنْ تُزَانِي: الزنا الوطء المحرم.
(حَلِيلَةَ جَارِك) قال الحافظ بفتح الحاء على وزن عظيمة، أي زوجته، سميت بذلك: لأنه يحل له وطؤها.
ماذا نستفيد من الحديث؟
أن الشرك بالله هو أعظم الذنوب وأكبرها ولا خلاف في ذلك لأنه هضم للربوبية وتنقص للذات الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، وهو أقبح المعاصي، لأنه تسوية المخلوق الناقص بالخالق الكامل من جميع الوجوه. وأي ذنب أعظم من أن يجعل مع الله شريك في ألوهيته أو ربوبيته أو أسمائه وصفاته، ولذلك رتب الله عليه أموراً كبيرة تقدم ذكرها.
أولاً: أن الله أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه.
قال تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
ثانياً: أن الله حرم الجنة على المشرك، وأنه مخلد في النار.
قال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
ثالثاً: أن الشرك يحبط جميع الأعمال.
قال تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون).
رابعاً: أن المشرك حلال الدم والمال.
خامساً: أن الشرك أكبر الكبائر.
قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم).
عن أبي بكرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ) متفق عليه.
وحديث (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين،
…
).
- والشرك ينقسم إلى قسمين:
أولاً: شرك أكبر:
وهو أن يسوي غير الله بالله في ما هو من خصائص الله.
وهو الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، وصاحبه إن لقي الله به فهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين، قال تعالى:(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
ثانياً: شرك أصغر:
هو ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر.
وصاحبه إن لقي الله به فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه، ولكن مآله إلى الجنة.
ما أعظم الذنوب بعد الشرك؟
قتل النفس بغير حق.
قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً).
وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس). رواه البخاري
وعن بريدة قال: قال رسول الله: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا) رواه النسائي.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً) رواه البخاري.
قال ابن القيم: هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهد وأمانة، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟ وإذا كانت امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً وعطشاً، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها، فكيف عقوبة من حبس مؤمناً حتى مات بغير جرم؟
والقتل يكون أعظم إذا قتل ولده خشية أن يطعم معه.
لأن في ذلك: ضعف دين، وقسوة قلب، وقلة رحمة، وشك بالله، وجهل، وخبث طبع، وبخل.
قال تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) أي فقر (نحن نرزقهم وإياكم).
ما حكم الزنا؟
حرام ومن الكبائر.
قال تعالى (وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً).
وقال تعالى (ولا يزنون).
وقال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جلدة).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يزني حين يزني وهو مؤمن).
وقال (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر) رواه مسلم.
وخطر الزنا معروف:
زنا المرأة: إذا زنت المرأة أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن حملته على الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبياً ليس منهم.
وأما زنا الرجل: فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين.
خصائص الزنا:
يورث الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.
ويشتت القلب ويمرضه إن لم يمتْه، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها.
هل الزنا بعضه أشد من بعض؟
نعم.
فالزنا بالجارة أعظم من الزنا بالبعيدة:
لحديث الباب.
ولحديث المقداد بن الأسود قال: قال صلى الله عليه وسلم (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) رواه أحمد.
قال النووي: حليلة جارك: أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً وأعظم جرماً، لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل ها كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح.
والزنا بزوجات المجاهدين أعظم من غيرهن.
لقوله صلى الله عليه وسلم (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقّف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم) رواه مسلم.
وزنا الشيخ الكبير أعظم من زنا الشاب.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر) رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم (أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المحتال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر) رواه النسائي.
والزنا بالمحارم.
قال صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه الترمذي.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أن الذنوب بعضها أشد من بعض.
- أن أعظم الذنوب بعد الشرك بالله قتل النفس بغير الحق.
- قال القاضي عياض: قدم هذه الثلاثة الأشياء، لاعتياد الجاهلية بها من الكفر بالله، وفاحشة الزنا، ووأد البنات.
- نبه بقوله (حليلة جارك) إلى عظيم حقه، وأنه يجب له عليك من الغيرة عليه من الفاحشة ما يجب لحليلتك.
- وجوب التوكل على الله.
- أن الخالق هو الله.
- ذم من ينكر نعمة الله.
- أن المستحق للعبادة هو الله لأنه هو الخالق.
- الرد على من يقللون النسل بحجة الفقر أو الخوف من الفقر.
- عظم حق الجار.
- ذم الخيانة.
- وجوب النفقة على الولد.
- أن الذنوب تعظم وتكبر حسب ما يقارنها من أسباب ودوافع.
- معرفة الشر وطرقه لتجنبه.
- تحريم إفساد المرأة على زوجها بأي طريقة من الطرق.
1460 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مِنْ اَلْكَبَائِرِ شَتْمُ اَلرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ اَلرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. يَسُبُّ أَبَا اَلرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) أي: الذنوب الكبيرة لا الصغيرة.
قال القرطبي: لأن شتم المسلم الذي ليس بأب كبيرة، فشتم الآباء أكبر منه.
(أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) جاء في رواية (شتم الرجل والدية).
(قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) هو استبعاد من السائل، لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك.
(قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أَمَّهُ) أي: يقع شتم الرجل والديه وذلك أن الشخص يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه).
ماذا نستفيد من الحديث؟
تحريم سب الوالدين. كما قال صلى الله عليه وسلم (لعن الله من لعن والديه) رواه مسلم.
ما معنى الحديث؟
الحديث دليل على أن من سب الوالدين تعريضهما للسب والشتم، وذلك بأن يأتي إلى شخص فيشتم والدي الشخص، فيقابله الشخص الآخر بالمثل ويشتم والديه، ولا يعني ذلك أنه يجوز للثاني أن يشتم والدي الرجل، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولكنه في العادة والطبيعة أن الإنسان يجازي غيره بمثل ما فعل به، فإذا سبه سبه.
قال النووي: فَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ جَازَ أَنْ يُنْسَب إِلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْء، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا عُقُوقًا لِكَوْنِهِ يَحْصُل مِنْهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِد تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْعُقُوقِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وقال القرطبي: دليلٌ على أنَّ سبب الشيء قد ينزله الشرعُ منزلةَ الشيء في المَنْع؛ فيكونُ حُجَّةً لمن منَعَ بيعَ العنبِ ممَّن يعصره خمرًا، ومنَعَ بيعَ ثيابِ الحرير ممَّن يلبسها، وهي لا تَحِلُّ له، وهو أحدُ القولَيْن لنا.
وفيه: حُجَّةٌ لمالكٍ على القولِ بِسَدِّ الذرائع، وهو مِنْ نحو قوله تعالى (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)
والذريعةُ: هي الامتناعُ مما ليس ممنوعًا في نفسه؛ مخافةَ الوقوعِ في محظور. (المفهم).
اذكر الأدلة على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر؟
أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف [قاله ابن القيم].
قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وقال تعالى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ).
والجمهور على أن المراد بـ (اللمم) ما دون الكبائر وهي صغائر الذنوب.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم.
ثانياً: اختلفوا في حد الكبيرة:
فقيل: ما فيه حد، وهذا ضعيف.
لأن بعض الكبائر - كالربا - لا حد فيها.
وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه. وهذا ضعيف،
لأنه يقتضي أن شرب الخمر والفرار من الزحف والتزوج ببعض المحارم ليس من الكبائر.
وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن الذنوب لا تنقسم إلى صغائر وكبائر.
وقيل: سبعة عشر.
وقيل: ما ترتب عليه حد، أو تُوُعد عليه بالنار أو اللعنة، ويرجح هذا القول أمور:
أنه المأثور عن السلف.
أن هذا الضابط يمكن التفريق به بين الكبائر والصغائر.
ج- أن الله تعالى قال (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم
…
) فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره.
ذ- أن هذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره.
جاءت الشريعة بسد الذرائع، اذكر أمثلة على ذلك؟
في الحديث سد الذرائع، وهذا أصل عظيم.
والذرائع جمع ذريعة: وهو ما أفضى إلى محرّم.
قال ابن القيم: وإذا تأملت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات.
وقال: والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرّم، لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟
فنهي الله عن سب آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة.
وأمسك عن قتل المنافقين، مع ما فيه من المصلحة، لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها، حتى كأنه ينظر إليها.
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس.
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور.
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم.
ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين، لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب.
ونهى عن ضرب المرأة لرجلها لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير الشهوة.
وحرم الشرع الخلوة بالمرأة الأجنبية، سداً لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
ونهى الشرع عن بناء المساجد على القبور لئلا يكون ذريعة إلى اتخاذها أوثاناً.
ونهى الشارع أن يخطب الرجل على خطبة أخيه لئلا يكون ذريعة إلى التباغض والتحاسد.
ونهى عن الجلوس في الطرقات سداً لذريعة النظر إلى المحرم.
ونهى عن قتال الأمراء والخروج عليهم سداً لذريعة الفساد العظيم.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
عظم حق الوالدين.
يأبى الطبع المستقيم غالباً أن يسب الرجل والديه، ولكنه قد تسبب في ذلك بسب والديّ غيره.
خطر السباب والشتائم.
مراجعة الطالب لشيخه فيما يقوله مما يشكل عليه.
1461 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا اَلَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(لا يحل) لا يجوز.
(يهجر أخاه) أي يعتزل أخاه المسلم ويقاطعه دون عذر.
(يعرض هذا) أي يتنحى ويصرف وجهه عنه.
ماذا نستفيد من الحديث؟
تحريم هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاث.
فالمسلم أخو المسلم، كما قال تعالى (إنما المؤمنون إخوة) ومن مقتضيات ذلك ألا يظلمه ولا يكذبه، ولا يغشه، ولا يخونه، ولا يخذله، ولا يحقره.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً) قال الحافظ: هذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخواناً، ومفهومه: إذا لم تتركوها تصيروا أعداء.
فقوله (وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً) يحتمل معنيين:
أحدهما: إنه إنشاء يراد به الخبر، أي: إذا تركتم الحسد والتدابر .... فستكونون يا عباد الله إخواناً.
الثاني: أن المراد به حقيقة الأمر، أي: كونوا عباد الله إخواناً فيه.
اذكر خطورة الهجر؟
أولاً: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
قال صلى الله عليه وسلم (لا تقاطعوا ولا تدابروا .. ) رواه مسلم.
ثانياً: لا ترفع أعمال المتهاجرين.
عن أبي هُرَيْرَة قال: قال صلى الله عليه وسلم (تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِى كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عز وجل فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم.
ثالثاً: أن التهاجر يفرح الشيطان.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ -قَالَ- فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ) رواه مسلم.
رابعاً: أنه من أسباب دخول النار.
قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) رواه أبو داود.
قال الحافظ العراقي رحمه الله في (تخريج الإحياء) أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد صَحِيح
وقال النووي رحمه الله في (رياض الصالحين) رواه أَبُو داود بإسناد عَلَى شرط البخاري ومسلم.
خامساً: الهجر كسفك الدم.
قال صلى الله عليه وسلم (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) رواه أبو داود.
لماذا أبيح الهجر دون ثلاث؟
قال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث تَحْرِيم الْهَجْر بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَكْثَر مِنْ ثَلَاث لَيَالٍ، وَإِبَاحَتهَا فِي الثَّلَاث الْأُوَل بِنَصِّ الْحَدِيث، وَالثَّانِي بِمَفْهُومِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاث لِأَنَّ الْآدَمِيّ مَجْبُول عَلَى الْغَضَب وَسُوء الْخُلُق وَنَحْو ذَلِكَ؛ فَعُفِيَ عَنْ الْهِجْرَة فِي الثَّلَاثَة لِيَذْهَب ذَلِكَ الْعَارِض.
متى يجوز الهجر فوق ثلاث؟
قد اعتبر السلف وجمهور الأئمة الابتداع في العقائد من الأسباب المشروعة للهجر، وأوجبوا هجران أهل الأهواء من المبتدعة، الذين يجاهرون ببدعهم أو يدعون إليها.
وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه. فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية.
ومن أسباب الهجر الشرعي فوق ثلاث هجران أصحاب المعاصي المجاهرين بها.
كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم المتخلفين عن غزوة تبوك من غير عذر، كما في قصة كعب بن مالك، وصاحبيه رضي الله عنهم.
ويجوز الهجر فوق ثلاث للزوجة الناشز إلا أن هجرها لا يكون إلا في المضجع، وليس في كل الأحول.
كما قال تعالى (واهجروهن في المضاجع) بعد العظة والنصيحة وبالجملة فإن الهجر علاج، ولا يصار إليه إلا إذا تحقق أو غلب على الظن أن هجر المهجور أنفع - في الجملة - من وصله، فإن كان العكس لم يشرع الهجر، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً.
والهجران كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إنما هو دواء يجب أن يستخدم في وقته وبمقداره، فلا يجوز أن يستخدم في غير وقته وبغير مقداره.
ماذا نستفيد من قوله (وَخَيْرُهُمَا اَلَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)؟
قال النووي:
…
وَفِيهِ دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَمَنْ وَافَقَهُمَا أَنَّ السَّلَام يَقْطَع الْهِجْرَة، وَيَرْفَع الْإِثْم فِيهَا، وَيُزِيلهُ، وَقَالَ أَحْمَد وَابْن الْقَاسِم الْمَالِكِيّ: إِنْ كَانَ يُؤْذِيه لَمْ يَقْطَع السَّلَام هِجْرَته. قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ عِنْد غَيْبَته عَنْهُ هَلْ يَزُول إِثْم الْهِجْرَة؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا لَا يَزُول لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمهُ، وَأَصَحّهمَا يَزُول لِزَوَالِ الْوَحْشَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وقال ابن حجر: قال أكثر العلماء تزول الهجرة بمجرد السلام ورده
…
واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن بن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- التعبير في الحديث بالإخوة إشارة واضحة إلى الحث على التواصل والتحذير من الهجران والتقاطع.
- أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجر دون ثلاثة أيام، لأن الإنسان ربما يكون بينه وبين أخيه شيء فيكون في القلب شيء، فبعد الثلاثة أيام يذهب ما في القلب من الأحقاد وغيرها.
- الهجر حرام، لكن إذا كان الهجر لمصلحة دينية، فإنه لا بأس به، بل ربما يكون مستحباً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر كعب بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
- أن إنهاء التهاجر يكون بالسلام.
- فضيلة ظاهرة لمن يبدأ بالسلام من المتهاجريْن.
- أن السلام من أسباب المحبة وتأليف القلوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم).
- ينبغي على المسلم أن يتناسى الأحقاد ويسرع إلى الصلح ليفوز بالفضل.
- حرص الشريعة في النهي عن كل ما يؤدي إلى التهاجر والتقاطع.
- ينبغي على المسلمين أن يكون إخوة متحابين، كما قال تعالى [إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم].
- أن الشيطان يحرص كل الحرص على إيجاد العداوات والبغضاء والتهاجر بين المسلمين.
1462 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
===
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)؟
أي: كل شيء عُرف شرعاً بأنه من أعمال البر، فله حكم الصدقة بالمال في الثواب، فلا ينبغي أن يحتقر الإنسان شيئاً من المعروف، ولا أن يبخل به.
قال ابن بطال: دل هذا الحديث على أن كل شيء يفعله المرء، أو يقوله من الخير، يكتب له به صدقة.
وقال الصنعاني: وَالإِخْبَارُ بِأَنَّهُ صَدَقَةٌ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَهُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّدَقَةِ فِي الثَّوَابِ، وَأَنَّهُ لا يَحْتَقِرُ الْفَاعِلُ شَيْئاً مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَلا يَبْخَلُ بِهِ.
وقد أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن ابن المنكدر مثله وزاد في آخره (وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة، وما وقى به المرء عرضه فهو صدقة).
وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " من طريق محمد بن المنكدر عن أبيه كالأول وزاد (ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تلقي من دلوك في إناء أخيك).
وقد جاء في الحديث (بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة،
…
).
هل الصدقة مقتصرة على المال؟
لا.
قال ابن رجب: في شرح قوله صلى الله عليه وسلم (أوليسَ قد جعلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحةٍ صَدقةً، وكُلِّ تَكبيرةٍ صَدقَةً، وكُلِّ تَحْمِيدةٍ صَدقةً، وكُلِّ تَهْليلَةٍ صدقةً، وأمْرٌ بِالمَعْروفِ صَدقَةٌ، ونَهْيٌ عَنْ مُنكَرٍ صَدقَةٌ).
معنى هذا أنَّ الفقراء ظنُّوا أنْ لا صدقةَ إلاَّ بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ جميعَ أنواع فعلِ المعروف والإحسّان صدقة. وفي صحيح مسلم عن حذيفة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (كلُّ معروفٍ صدقةٌ) وخرَّجه البخاري من حديث جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالصدقة تُطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسّان.
والصدقة بغير المال نوعان:
أحدهما: ما فيه تعدية الإحسّان إلى الخلق، فيكون صدقةً عليهم، وربما كان أفضلَ من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنَّه دُعاءٌ إلى طاعة الله، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النَّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطريق، والسعيُ في جلب المنافع للناس.
والنَّوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعُه قاصرٌ على فاعله، كأنواع الذِّكر: مِنَ التَّكبير، والتَّسبيح، والتَّحميد، والتَّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجدِ صدقة، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصَّلاة والصيام والحج والجهاد أنَّه صدقة، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنَّه إنَّما ذكر ذلك جواباً لسؤالِ الفُقراء الَّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوَّع الأغنياء بأموالهم.
وقال الماوردي: المعروف نوعان: قول، وعمل:
فالقول: طيب الكلام وحسن البشر، والتودد بجميل القول، والباعث عليه حسن الخلق ورقة الطبع.
والعمل: بذل الجاه، والإسعاف بالنفس، والمعونة في النائبة، والباعث عليه حب الخير للناس وإيثار الصلاح لهم، وهذه الأمور تعود بنفعين نفع على فاعلها في اكتساب الأجر وجميل الذكر، ونفع على المعان بها في التخفيف والمساعدة فلذلك سماه هنا صدقة.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- في الحديث: الحث على فعل الخير مهما أمكن، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يحتقر شيئاً من المعروف.
- يسر الشريعة واستيعابها للناس كافة، ففعل المعروف وتحصيل الثواب لا يختص بأهل اليسار بل كل مسلم قادر على أن يفعل أنواعاً من المعروف، من ذكر وتسبيح ودعاء، ونصيحة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد ضال، ومواساة محزون إلى غير ذلك من صنوف المعروف.
- على المسلم أن يجتهد في فعل المعروف مما يستطيعه ولا يشق عليه، فبفعل المعروف يطيب عيشه، وتطمئن نفسه، وتتوثق صلته بمن حوله، مع ماله إن صلحت نيته من الأجر الجزيل والثواب العظيم.
فائدة:
قال الشيخ ابن أبي حمزة: ولا يلهم الصدقة إلا من سبقت له سابقة خير.
1463 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ اَلْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ).
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه لا ينبغي للمسلم أن يستصغر فعل معروف مهما صغر، ولو أن يلقى أخاه بوجه مبتسم.
لأن الإنسان لا يدري أي أعماله أخلص لله تعالى، فإن العمل يعظم بالإخلاص لله تعالى والإحسان.
وقد ورددت النصوص من القرآن والسنة تحض على فعل الخير وإن كان هذا الخير قليلاً.
كما قال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
قال السعدي رحمه الله: وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلاً، والترهيب من فعل الشر ولو حقيراً.
وحديث الباب (لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْق).
قال النووي رحمه الله: فيهِ الْحَثّ عَلَى فَضْل الْمَعْرُوف، وَمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ، حَتَّى طَلَاقَة الْوَجْه عِنْد اللِّقَاء.
قال ابن تيمية: وفي الصحيحين (إن امرأة بغيا رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته به فغفر لها) وفي لفظ في الصحيحين (أنها كانت بغياً من بغايا بني إسرائيل).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له).
فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها.
وكذلك هذا الذي نحَّى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك. فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحَّى غصن شوك عن الطريق يغفر له.
والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة، بل لحقائقها التي في القلوب، والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلاً عظيماً .... (منهاج السنة).
وقد قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).
وسبب جمع صحيح البخاري أن الإمام البخاري لما كان في شبابه جلس مع أحد شيوخه فقال الشيخ للتلاميذ: لو أن أحدا جمع الحديث الصحيح فتحركت هذه العبارة اليسيرة بقلب البخاري فأخرج لنا الخير الكثير.
ومحدِّث الشام البرزالي أطلَقَ كلمةً عابرة لتلميذه الذهبي، فقال له: إنَّ خطَّك يُشبِه خَطَّ المحدِّثين، ففعَلتْ هذه الكلمة فِعلَها في نفْس الإمام الذهبي، فأقبَلَ على طلَب الحديث، حتى عُدَّ رأسًا من رؤوس المحدِّثين.
ماذا نستفيد من قوله (وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ).
نستفيد استحباب التبسم وطلاقة الوجه عند اللقاء.
وفي الحديث (تبسمك في وجه أخيك صدقة).
الابتسامة في الوجوه أسرع طريق إلى القلوب، وأقرب باب إلى النفوس، وهي من الخصال المتفق على استحسانها وامتداح صاحبها، وقد فطر الله الخَلْقَ على محبة صاحب الوجه المشرق البسَّام، وكان نبينا صلى صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تبسُّمًا، وطلاقة وجهٍ في لقاء من يلقاه، وكانت البسمة إحدى صفاته التي تحلّى بها، حتى صارت عنواناً له وعلامةً عليه، وكان لا يُفَرِّق في حُسْن لقائه وبشاشته بين الغنيّ والفقير، والأسود والأبيض، حتى الأطفال كان يبتسم في وجوههم ويُحسِن لقاءهم، يعرف ذلك كل من صاحبه وخالطه.
كما قال عبد الله بن الحارث رضي الله عنه (ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي).
وتصف عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول (كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكًا بسّاماً).
وعن أبي ذر. قال: قال صلى الله عليه وسلم تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة) رواه الترمذي.
قال المناوي: بسُّمك في وجه أخيك) أي في الإسلام، (لك صدقة) يعني: إظهارك له البَشَاشَة، والبِشْر إذا لقيته، تؤجر عليه كما تؤجر على الصَّدقة
وقال ابن بطَّال: " فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم، وطلاقة الوجه، من أخلاق النُّبوة، وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة "
ومما ثبت أيضا في استحباب البشاشة وطلاقة الوجه عند اللقاء:
قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ لا تَسَعون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْط الْوَجْه، وَحُسْنُ الْخُلُق) رواه البيهقي في الشعب.
وعن جابر بن سليم الْهُجَيْمِىُّ رضي الله عنه (قال: قلت يا رسول الله إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَة، فَعَلِّمْنَا شَيْئاً يَنْفَعُنَا الله تبارك وتعالى بِه، قال: لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوف شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إناء الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاك ووجْهُك إليه مُنْبَسِط) رواه ابن حبان.
قال الإمام ابن عيينة: والبشاشة مصيدة المودة، والبر شيء هين: وجه طليق وكلام لين.
عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء.
- قال عبد الله بن المبارك: حسن الخلق: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى.
قال ابن القيّم: طلاقة الوجه والبِشْر المحمود وسط بين التَّعبيس والتَّقطيب، وتصعير (4) الخدِّ، وطيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال مع كلِّ أحد بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أنَّ الانحراف الأوَّل يوقع الوحشة، والبغضة، والنُّفرة في قلوب الخَلْق، وصاحب الخُلُق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبيِّنا: من رآه بديه هابه، ومن خالطه عشرة أحبَّه.
- قال بعض الحكماء: الْقَ صاحب الحاجة بالبِشْر، فإنْ عدمت شكره، لم تعدم عذره.
- قيل للأوزاعي رحمه الله: ما كرامة الضَّيف؟ قال: طلاقة الوجه، وطيب الحديث
- قال ابن حبان: البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي.
- وقال أبو جعفر المنصور: إنْ أحببت أنْ يكثر الثَّناء الجميل عليك من النَّاس بغير نائل، فالْقَهُمْ ببِشْر حسن.
وقيل: حسن البِشْر اكتساب الذِّكر
وقال أبو حاتم: لا يجب للسُّلطان أن يفرط البَشَاشَة والهَشَاشَة للنَّاس، ولا أن يقلَّ منهما؛ فإنَّ الإكثار منهما يؤدِّي إلى الخفَّة والسَّخف، والإقلال منهما يؤدِّي إلى العجب والكبر.
قال الحارث المحاسبي: ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة: حسن الوجه مع الصِّيانة، وحسن الخلق مع الدِّيانة، وحسن الإخاء مع الأمانة.
- قال الأحنف: رأس المروءة: طلاقة الوجه، والتودُّد إلى النَّاس.
كان يقال: حسن البِشْر واللِّقاء رقٌّ للأشراف والأكفا.
اذكر بعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر؟
قال صلى الله عليه وسلم (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها) رواه مسلم.
يا أبا ذر! استعذ بالله من شر شياطين الجن والإنس.
يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر فصم 13 و 14 و 15.
يا أبا ذر! إنما الغنى غنى القلب.
يا أبا ذر! إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة فإنها عشر أمثالها.
يا أبا ذر! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
يا أبا ذر! إني أرك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم.
قال أبو ذر: أوصاني خليلي عليه الصلاة والسلام بسبع:
أمرني بحب المساكين والدنو منهم.
وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني
وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً.
وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت.
وأمرني أن أقول الحق ولو كان مراً.
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم.
وأمرني أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
1464 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
===
(مَرَقَةً) المرَق: هو الذي يُؤتَدَم به.
(فَأَكْثِرْ مَاءَهَا) لأنه إذا كثر الماء كثر الائتدام به.
(وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) أي: أعطهم منه شيئاً.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد حرص الإسلام على الجار والإحسان إليه.
اذكر ما ورد في التحذير من إيذاء الجار؟
أولاً: أن إيذاء الجار ليس من الإيمان.
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ، وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَه) رواه البخاري.
ثانياً: أن عدم إيذاء الجار من الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) متفق عليه.
ثالثاً: أن إيذاء الجار سبب في عدم دخول الجنة.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) رواه مسلم.
رابعاً: أن أذى الجار سبب في دخول النار.
عن أبي هريرة. قال (قال رجل: يا رسول الله! إن فلانة تكثر من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: هي في النار) رواه أحمد.
ولعظم حق الجار: أخبر صلى الله عليه وسلم أن إثم إيذاء الجار يزيد على إثم العموم:
(لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارَه).
وقال عبد الله بن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيّ ذنب أعظم؟ قال (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ أيّ؟: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك).
اذكر بعض فضائل الإحسان إلى الجار؟
أولاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعاهده بالطعام.
لحديث الباب.
ثانياً: الإحسان إلى الجار من الإيمان.
لحديث أبي شريح السابق (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ
…
).
وفي رواية (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِى جَارَهُ).
ثالثاً: المحسن إلى الجار من خير الناس.
قال صلى الله عليه وسلم (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) رواه الترمذي.
رابعاً: الجار الصالح من السعادة.
عن نافع بن الحارث. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع) رواه ابن حبان.
خامساً: الإحسان إلى الجار من كمال الإيمان.
عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً) رواه الترمذي.
سادساً: الإحسان إلى الجار سبب لمحبة الله.
قال صلى الله عليه وسلم (إن أحببتم محبة الله ورسوله؛ فأدوا إذا ائتمنتم، واصدُقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار مَنْ جاوركم).
سابعاً: الإحسان إلى الجار سبب لدخول الجنة.
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يُدخل الجنة فقال: كن محسناً، قال: متى أكون محسناً؟ قال: إن أثنى عليك جيرانك فأنت محسن.
ثامناً: أن حسن الجوار سبب لعمار الديار وطول الأعمار.
قال صلى الله عليه وسلم (
…
وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَار).
ما أنواع الجيران؟
قال العلماء: الجيران ثلاثة:
الأول: جار قريب مسلم، فهذا له حق الجوار والقرابة والإسلام.
الثاني: جار مسلم غير قريب، فهذا له حق الجوار والإسلام.
الثالث: جار كافر، فهذا له حق الجوار، وإن كان قريباً فله حق القرابة أيضاً.
ما معنى قوله ( .. حتى ظننت أنه سيورثه)؟
قيل: يُجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب.
وقيل: المراد أنه يُنزّل منزلة من يرث في البر والصلة.
والأول أرجح، ويؤيده (حتى ظننت أنه يَجعل له ميراثاً).
قوله (فاكثر ماءها") فيه تنبيه لطيف، ما هو؟
قال القرطبي: فيه تنبيه لطيفت على تيسير الأمر على البخيل؟ إذ الزيادة المأمور بها إنما هي فيما ليس له ثمن، وهو الماء. ولذلك لم يقل إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها، أو طبيخها؟ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد
قوله (فأكثر ماءها) هل الأمر للوجوب أم للندب؟
قال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب، والحض على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها لما يترتب عليه من المحبة، وحسن العشرة، والألفة، ولما يحصل به من المنفعة، ودفع الحاجة والمفسدة، فقد يتاذى الجار بقُتار قِدْر جاره، وعياله، وصغار أولاده، ولا يقدر على التوصل إلى ذلك، فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكُلفة، وربما يكون يتيماً، أو أرملة ضعيفة، فتعظم المشقة، ويشتد منهم الألم والحسرة، وكل ذلك يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يُدفع إليهم، فلا أقبح من منع هذا النذر اليسير الذي يترتب عليه هذا الضرر الكبير.
(بقُتار) أي: دخان.
وقال المناوي: الأمر فيه للندب عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية.
اذكر حدود الجوار؟
اختلفت عبارات أهل العلم اختلفت في حد الجوار المعتبر شرعًا، على أقوال:
القول الأول: إن حد الجوار المعتبر شرعًا: أربعون دارًا من كل جانب.
وقد جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها كما جاء ذلك عن الزهري والأوزاعي.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا
…
) رواه أبو يعلى وهو ضعيف.
القول الثاني: الجار هو الملاصق فقط.
وبه قال أبو حنيفة وزفر.
قالوا: لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة، والاتصال بين الملكين بلا حائل بينهما، فأما مع الحائل فلا يكون مجاوراً حقيقة.
القول الثالث: أن الجار هو الملاصق وغيره ممن يجمعهم المسجد إذا كانوا أهل محلة واحدة.
وبه قال القاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني.
القول الرابع: الجار هو من قاربت داره دار جاره، ويرجع في ذلك إلى العرف.
وهذا اختيار ابن قدامة، وصوبه في الإنصاف.
وهذا القول هو الراجح.
قال الألباني: وقد اختلف العلماء في حد الجوار على أقوال ذكرها في "الفتح"(10/ 367)، وكل ما جاء تحديده عنه صلى الله عليه وسلم بأربعين ضعيف لا يصح، فالظاهر أن الصواب تحديده بالعرف.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
عناية الإسلام بالجار.
عدم احتقار شيء من المعروف.
حث الإسلام على كل ما يؤدي إلى المحبة وحسن العشرة.
1465 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ اَلدُّنْيَا، نَفَّسَ اَللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اَللَّهُ عَلَيْهِ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ اَلْعَبْدِ مَا كَانَ اَلْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
(مَنْ نَفَّسَ) أي: فرج.
(كُرْبَةً) الشدة العظيمة.
(وَمَنْ يَسَّرَ) أي: سهل.
(عَلَى مُعْسِرٍ) المعسر: من أثقلته الديون وعجز عن وفائها.
(وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ) إعانته وتسديده.
(مَا كَانَ الْعَبْدُ) أي: ما دام.
(وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) يشمل الطريق الحسي والمعنوي.
(السَّكِينَةُ) الطمأنينة.
(وَحَفَّتْهُمُ) أي: أحاطت بهم.
(الملائكة) عالم غيبي خلقوا من نور عملهم عبادة الله.
(وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ) أي: أخر.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل تنفيس الكرب عن المؤمنين، وهذا يشمل كل كربة سواء في البدن أو في المال.
كإقراضه مال، أو فك أسره، أو الوقوف معه في محنته.
ونستفيد: فضل التيسير على المعسر.
ونستفيد: ستر المسلم.
الحديث دليل على أن التنفيس والتفريج عن المسلمين من أسباب التنفيس والنجاة من كرب يوم القيامة، اذكر بعض أسباب النجاة من كرب يوم القيامة؟
منها: التنفيس عن المسلمين.
لحديث الباب (من نفس عن مؤمن كربة
…
).
ومنها: إنظار المعسر أو الوضع عنه.
قال صلى الله عليه وسلم (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر معسر أو يضع عنه) رواه مسلم
ومنها: الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لله.
قال تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا).
الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، وضح ذلك؟
في الحديث أن من نفس عن مسلم في الدنيا، جزاه الله أن نفس عنه كربة من كرب يوم القيامة.
وهذه قاعدة عظيمة في الشرع وهي أن الجزاء من جنس العمل، وأدلتها كثيرة.
قال تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ).
وقال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
وقال تعالى (َأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (احفظ الله يحفظك).
وقال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من وصل صفاً وصله الله) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة) رواه أبو داود.
لماذا سمي يوم القيامة بذلك؟
سمي بذلك:
أولاً: لقيام الناس من قبورهم.
كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
ثانياً: لقيام الأشهاد.
كما قال تعالى (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
ثالثاً: لقيام الروح والملائكة.
كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً).
اذكر بعض الأدلة على أن في يوم القيامة كرباً كثيرة؟
قال تعالى (وكان يوماً على الكافرين عسيراً).
وقال تعالى (على الكافرين غير يسير).
وقال سبحانه (يقول الكافرون هذا يوم عسر).
وقال صلى الله عليه وسلم (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم) رواه مسلم.
قال القحطاني رحمه الله:
يوم القيامة لو علمتَ بهوله
…
لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
يومٌ تشققت السماء لهوله
…
وتشيب منه مفارق الولدان
يوم عبوس قمطريرٌ شرهُ
…
في الخلقِ منتشرٌ عظيم الشأنِ
ما فضل التيسير على المسلمين، وخاصة المعسرين؟
الحديث فيه فضل لذلك لقوله (وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اَللَّهُ عَلَيْهِ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
أي: أن من يسر على معسر جازاه الله بأمرين:
التيسير في الدنيا - والتيسير في الآخرة.
والتيسير على المعسر الذي لا يملك شيئاً واجب، ولا يجوز مطالبته.
لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
ما فضل الستر على المسلم؟
مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته) رواه ابن ماجه.
وقال صلى الله عليه وسلم (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أبو داود.
قال الإمام مالك: أدركت بهذه البلدة _ يعني المدينة _ أقواماً ليس لهم عيوب، فعابوا الناس فصارت لهم عيوب، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيتْ عيوبهم.
هل يستر على كل أحد؟
قال ابن رجب رحمه الله: واعلم أن الناس على ضربين:
أحدهما: من كان مستوراً لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها، لأن ذلك غيبة محرمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص.
ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً، وأقر بحده، لم يفسره ولم يستفسره، بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية.
والثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لتقام عليه الحدود، ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ ولو لم يبلغ السلطان، بل يترك حتى يقام عليه الحد، ليكشف ستره، ويرتدع به أمثاله.
في الحديث فضل عظيم لمن أعان غيره من المسلمين؟
لقوله صلى الله عليه وسلم (وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ اَلْعَبْدِ مَا كَانَ اَلْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَال (
…
ومن مَنْ كَانَ في حَاجَة أخِيه، كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ).
وفي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل) رواه مسلم.
قال ابن رجب: وخرَّج الطبراني من حديث عمر مرفوعاً (أفضلُ الأعمال إدخالُ السُّرور على المؤمن: كسوت عورته، أو أشبعت جَوْعَتُه، أو قضيت له حاجة).
وبعث الحسنُ البصريُّ قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مرُّوا بثابت البناني، فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمش أما تعلم أنَّ مشيك في حاجةِ أخيك المسلم خير لك مِنْ حجة بعد حَجَّةٍ؟ فرجعوا إلى ثابتٍ، فترك اعتكافه، وذهب معهم.
وخرَّج الإمام أحمد من حديث ابنةٍ لخبَّاب بن الأرت، قالت: خرج خبَّاب في سريَّةٍ، فكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعاهدُنا حتى يحلُب عنْزةً لنا في جَفْنَةٍ لنا، فتمتلئ حتّى تفيضَ، فلمَّا قدم خبَّابٌ حلبَها، فعادَ حِلابها إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه يحلبُ للحيِّ أغنامهم، فلمَّا استخلف، قالت جاريةٌ منهم: الآن لا يحلُبُها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلتُ فيه عن شيءٍ كنتُ أفعلُه، أو كما قال.
وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل، ورآه طلحةُ بالليل يدخلُ بيتَ امرأةٍ، فدخلَ إليها طلحةُ نهاراً، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ، فسألها: ما يصنعُ هذا الرَّجلُ عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يُصلِحُني، ويخرج عنِّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمُّكَ طلحةُ، عثراتِ عمر تتبع؟
وكان أبو وائل يطوفُ على نساء الحيِّ وعجائزهم كلَّ يوم، فيشتري لهنَّ حوائجهنّ وما يُصلِحُهُنَّ.
وقال مجاهد: صحبتُ ابنَ عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدُمُني.
وكان كثيرٌ من الصَّالِحين يشترطُ على أصحابه في السفر أنْ يخدُمَهم .... (جامع العلوم).
قال ابن القيم رحمه الله في وصف شيخ الإسلام ابن تيميه: كان شيخ الإسلام يسعى سعياً شديداً لقضاء حوائج الناس.
قال الذهبي عن شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: وله محبون من العلماء، والصلحاء، ومن الجند، والأمراء، ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
كان علي بن الحسين رحمه الله يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك، كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل.
ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجعله مفاتحاً للخير والإحسان.
عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (عِنْدَ اللَّهِ خَزَائِنُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، مَفَاتِيحُهَا الرِّجَالُ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، وَمِغْلاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ، وَمِغْلاقًا لِلْخَيْر) رواه ابن ماجه.
وأن يسخره لقضاء حوائج الناس.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِم) أخرجه الطبراني.
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والنموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان، وفي سعيه لقضاء حوائج الناس وبخاصة للضعفاء والأيتام، والأرامل
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا) رواه مسلم.
والسعي في قضاء حوائج الناس من الشفاعة الحسنة التي أمرنا الله تعالى بها.
فقال (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا).
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قال (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ. قال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويقْضِي الله عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاء) متفق عليه.
قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُم
…
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وكُنْ على الدّهرِ مِعْوَانًا لذي أملٍ
…
يرجو نَداكَ فإنّ الحُرَّ مِعْوانُ
واشْدُدْ يديك بحبلِ اللهِ معتصمًا
…
فأنّه الرّكنُ إنْ خانتك أركانُ
من كان للخير منّاعًا فليس له
…
على الحقيقة إخوانٌ وأخْدانُ
من جاد بالمال مالَ النّاسُ قاطبةً
…
إليه والمالُ للإنسان فتّانُ
قيل لابن المنكدر أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. قيل أي الدنيا أحب إليك؟ قال الإفضال على الإخوان. أي التفضل عليهم والقيام بخدمتهم.
وقال وهب بن منبه: إن أحسن الناس عيشاً من حسن عيش الناس في عيشه وإن من ألذ اللذة الإفضال على الإخوان.
وكان خال القسري يقول: على المنبر أيها الناس عليكم بالمعروف فإن فاعل المعروف لا يعدم جوازيه.
قال ابن عباس: إن لله عباداً يستريح الناس إليهم في قضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم أولئك هم الآمنون من عذاب يوم القيامة.
وقال الضحاك في قوله تعالى (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِين) في قصة يوسف عليه السلام كان إحسانه إذا مرض رجل بالسجن قام عليه، وإذا ضاق عليه المكان وسع له إذا احتاج جمع سأل له.
قال عمرو بن العاص: في كل شيء سَرَفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع المعروف، أو إظهار مروءة.
وقد قيل: صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
قال ابن عباس: صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئاً.
من آداب قضاء حوائج الناس: الإخلاص في الأعمال وعدم المن بها.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لا يتم العمل إلا بثلاث تعجيله وتصغيره وستره، فإنه إذا عجله هنَّأه، وإذا صغَّره عظمه وإذا ستره تممه.
قيل: المنة تهدم الصنيعة.
في الحديث فضل عظيم لمن طلب العلم وهو دخول الجنة، اذكر بعض فضائل طلب العلم؟
لقوله (وَمَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى الجَنَّةِ).
ففيه أن سلوك طريق العلم مؤد إلى الجنة، وهذا الطريق يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية إلى حصول العلم، مثل: حفظه، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته.
وللعلم فضائل كثيرة:
أولاً: أنه من أسباب دخول الجنة.
لحديث الباب.
ثانياً: من أسباب الرفعة.
قال تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
ثالثاً: أن الله لم يأمر نبيه بالاستزادة إلا من العلم.
قال تعالى (وقل رب زدني علماً).
قال ابن القيم: وكفى بهذا شرفاً للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه.
رابعاً: أن الله استشهدهم وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة.
قال تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط).
قال القرطبي: هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء.
خامساً: أن العلم دليل على الخير.
قال صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: يفقهه: أي يفهمه، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين _ أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع _ فقد حرم الخير.
سادساً: أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.
قال صلى الله عليه وسلم (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) رواه أبو داود.
قال ابن القيم: ووضع الملائكة أجنحتها له تواضعاً له وتوقيراً وإكراماً لما يحمله من ميراث النبوة.
قال الخطابي: وفي معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بسط الأجنحة. الثاني: أنه بمعنى التواضع تعظيماً لطالب العلم. الثالث: أنه المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران.
سابعاً: العلماء ورثة الأنبياء.
قال صلى الله عليه وسلم (وإن العلماء ورثة الأنبياء) رواه أبو داود.
ثامناً: فضل العلم أفضل من فضل العبادة.
قال صلى الله عليه وسلم (فضل العلم خير من فضل العبادة) رواه الطبراني.
من أقوال السلف.
قال علي: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه.
وقال معاذ: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح.
وقال الشافعي: ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم.
وقال سهل بن عبد الله: من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء.
وقال الزهري: ما عبد الله بمثل الفقه.
وقال الثوري: ما من عملٍ أفضل من طلب العلم إذا صحت النية.
قال ابن القيم: من طلب العلم ليحيي به الإسلام فهو من الصديقين، ودرجته بعد درجة النبوة.
1466 -
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل من دل خير، وأنه له مثل أجر فاعله.
وقد روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يَسْتَحْمِلُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ فَدَلَّهُ عَلَى آخَرَ فَحَمَلَهُ.
فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ «إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ).
قال النووي: فِيهِ: فَضِيلَة الدَّلَالَة عَلَى الْخَيْر وَالتَّنْبِيه عَلَيْهِ، وَالْمُسَاعَدَة لِفَاعِلِهِ، وَفِيهِ: فَضِيلَة تَعْلِيم الْعِلْم وَوَظَائِف الْعِبَادَات، لَا سِيَّمَا لِمَنْ يَعْمَل بِهَا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرهمْ، وَالْمُرَاد بِمِثْلِ أَجْر فَاعِله. أَنَّ لَهُ ثَوَابًا بِذَلِكَ الْفِعْل كَمَا أَنَّ لِفَاعِلِهِ ثَوَابًا، وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُون قَدْر ثَوَابهمَا سَوَاء.
اذكر فضائل الدعوة والدلالة على الخير:
أولاً: أن له مثل أجر فاعله.
لحديث الباب.
وللحديث الآتي (مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه
…
).
ثانياً: استجابة لأمر الله.
لقوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر).
ثالثاً: استجابة لأمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ.
قال صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري.
والمبلغ لكلام النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بنضارة الوجه في قوله (نضر الله امرءاً سمع شيئاً فبلغه كما سمع فرُبَّ مبلغٍ أوعى من سامع) رواه الترمذي.
رابعاً: سبب للفلاح.
قال تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
خامساً: أنها أفضل الأعمال وأحسن الأقوال.
قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً).
قال السعدي: هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلاما وطريقة، وحالة (ممن دعا إلى الله) بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
سادساً: الدعوة إلى الخير مهمة سيد البشر.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا).
سابعاً: الداعية ينجو من عقوبة الدنيا بالظالمين.
قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
ثامناً: أنها سبب للفوز بخيرية الأمة.
قال تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
قال ابن كثير: فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم، كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون).
تاسعاً: أن فيها تهذيب للنفوس وتزكيةٌ لها.
كما قال تعالى في الحكمة من إرسال نبيه صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
…
). إذن يجب أن نعلم أن من أعظم واجبات الدعاة تزكية النفوس وتربيتها على المعاني الإيمانية والتربوية التي جاءت في الشريعة الإسلامية.
عاشراً: أنها سبب لثناء الرب عز وجل واستغفار الملائكة وسائر المخلوقات.
قال صلى الله عليه وسلم (إن الله و ملائكته حتى النملة في جحرها و حتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).
قال العلماء: الصلاة من الله تعني (الثناء) ومن الملائكة وغيرهم من المخلوقات تعني (الاستغفار)، وما أعجب هذا الحديث لمن تأمله، أن تفوز بثناء الرب تعالى، واستغفار الملائكة الذين لا يعلم عددهم إلا الله تعالى.
الحادي عشر: أنها سبب للفوز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم
-.
حيث قال صلى الله عليه وسلم (نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن.
اذكر ثمرات الدعوة والدلالة على الخير؟
أولاً: تحقيق الحكمة والغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، وهي عبادته وحده لا شريك له ومعرفته بأسمائه وصفاته.
قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وفي الدعوة توضيح وشرح لهذه العبادة وحث للناس على التزامها وترك ما يخلفها جزءاً أو كلاً، وبيان للأجور العظيمة المرتبة على القيام بهذه العبادة، وهذا هو المقصود الأعظم من الدعوة إلى الله.
ثانياً: ومن ثمرات الدعوة أيضاً: بلوغ الدعوة الإسلامية إلى الناس وظهور أحكام الشريعة ومعرفة الخير من الشر.
وفي ذلك قيام للحجة على العباد قال سبحانه (رُّسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
ثالثاً: ومن ثمراتها أيضاً: تكثير الأمة المحمدية الذي هو تحقيق لما تمناه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يكون أكثر الأنبياء أتباعاً.
كما في الحديث المخرج في الصحيحين (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
رابعاً: ومنها حل المشكلات المتعلقة بالمجتمعات فكرياً واجتماعياً وخلقياً وسلوكياً وغيرها التي بقاؤها هو من أسباب الدمار والهلاك.
لأن الإنسان إذا سار بعقله وهواه وعزل نفسه عن الوحي السماوي فإنه لابد هالك، والدعوة هي: بيان لطريق النجاة للبشر جميعاً، ودين الله هو الهادي إلى كل خير، وهو الدواء الناجع لكل أمراض البشر الفكرية والسلوكية وغيرها.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
وقال سبحانه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).
خامساً: ومن ثمرات الدعوة الوصول إلى بناء مجتمع تتمثل فيه جميع صفات المثالية والقدوة قدر الإمكان.
قال صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
سادساً: ومن ثمرات الدعوة أيضاً دلالة الناس على الخير والفلاح وهدايتهم إلى طريق السعادة الذي نهايته الجنة، وتحذيرهم من الشر والبوار والخسران الذي نهايته النار.
قال الله سبحانه (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا).
وقال جل وعلا (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقال سبحانه (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجَا «1» قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً «2» مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً «3» وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً).
سابعاً: وفي الدعوة جلب للمصالح وتكثيرها ودفع للمفاسد وتقليلها في المجتمعات بقدر الإمكان.
ثامناً: وفي الدعوة حياة للقلوب، ففيها تنشيط للخاملين وتذكير للغافلين وزيادة إيمان المؤمنين، وفيها كبت لأهل الأهواء والمبطلين وإغاظة للكافرين.
تاسعاً: وفي القيام بالدعوة إلى الله تعالى واستمرارها على جميع الوجوه وفي كل الأحوال ثبات للحق، ونصرة للدين، وبقاء للطائفة المنصورة الموعودة بالظهور والغلبة على كل من خالف الدين الحق من أهل البدع والملل وأصحاب الشهوات والشبهات في كل زمان ومكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المخرج في الصحيحين:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
1467 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مِنْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ) أَخْرَجَهُ اَلْبَيْهَقِي.
===
(مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا): أَيْ: أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ إِحْسَانًا قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا.
(فَكَافَئُوهُ) أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَيْهِ مِثْل مَا أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوه) أَيْ: بِالْمَالِ.
(فَادْعُوَا لَهُ حَتَّى تَرَوْا): بِضَمِّ التَّاء أَيْ تَظُنُّوا، وَبِفَتْحِهَا أَيْ تَعْلَمُوا.
(أنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ): أَيْ: كَرِّرُوا الدُّعَاء حَتَّى تَظُنُّوا أَنْ قَدْ أَدَّيْتُمْ حَقّه.
ما معنى قوله (مِنْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ).
أي: من طلب منكم أن تدفعوا عنه شرّكم، أو شرّ غيركم باللَّه، مثل أن يقول: يا فلان باللَّه عليك، أو أسألك باللَّه أن تدفع عنّي شرّك، أو شرّ فلان، أو احفظني من فلان، فأجيبوه، واحفظوه تعظيمًا لاسم اللَّه تعالى.
(فأعيذوه) أي امنعوه مما استعاذ منه وكفّوه عنه، لتعظيم اسم الله.
ولهذا قالت الجونية للنبي صلى الله عليه وسلم لما أدخلت عليه: (أعوذ بالله منك، قال: لقد عذت بعظيم، إلحقي بأهلك). رواه البخاري
فمن استعاذ فيجب إعاذته.
لكن لو استعاذ لكي لا يقام عليه الحد حرم إعاذته.
لحديث علي عند مسلم: (لعن الله من آوى محدثاً).
ما الحكم لو استعاذ بالله من شيء واجب عليه؟
الحكم: أننا لا نعيذه، لأننا نعلم أن الله لا يعيذه، لأنه ظالم.
مثال: أن آتي إلى شخص أطلبه مالاً، فأقول: أعطني حقي، وهو قادر، فقال: أعوذ بالله منك، فهنا لا نعيذه.
ما معنى (وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوه)؟
لفظ أبي داود (ومن سأل باللَّه)(فَأَعْطُوهُ) تعظيمًا لاسم اللَّه تعالى، وشفقةً على عباده.
وظاهر الحديث وجوب إعطائه ما سأل ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم.
فظاهر الأمر الوجوب لكن هذا مشروط بأمرين:
أولاً: أن يكون قادرًا عليه.
للأدلة الأخرى، كقوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وقوله (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا).
وقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه (ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فافعلوا منه ما استطعتم).
ثانياً: أن يكون السائل باللَّه محتاجًا، لا يسأل تكثّرًا، وإلا كان سؤاله محرمًا، فيكون إعطاؤه إعانةً على الإثم، وقد قال اللَّه تعالى:(وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
ما حكم ابتداء السؤال؟
ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسألك علماً.
فهو واجب في الواجبات والمحرمات، ومستحب إن سأل عن المسنونات.
القسم الثاني: أن يسأل مالاً.
فهذا الأصل فيه التحريم.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم). متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر). رواه مسلم
لكن إذا اضطر الإنسان فيجوز أن يسأل.
ماذا نستفيد من قوله (وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ)؟
نستفيد مشروعية مكافأة من صَنع لك معروفاً، وأن شكر من أحسن إليك مبدأ إسلامي ومن مكارم الأخلاق.
وقد جاءت الأحاديث في ذلك:
أ- حديث الباب (من صنعَ إليكم معروفاً فَكَافِئُوهُ، ..... ).
ب-وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد بالغ في الثناء) رواه الترمذي.
ج- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أُتي إليه معروفٌ فليكافئ به، فإن لم يستطع فليذكره، فمن ذكره فقد شكره). رواه أحمد والطبراني
د-وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أُولي معروفاً، فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره) رواه الطبراني.
هـ- وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أُعطي عطاءً فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثنِ، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يُعط كان كلابس ثوبي زور) رواه الترمذي.
و- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا قال الرجلُ لأخيه: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء) رواه عبد الرزاق في المصنف.
قال المباركفوري (جزاك الله خيراً) أي خير الجزاء أو أعطاك خيراً من خيري الدنيا والآخرة. (فقد أبلغ في الثناء) أي بالغ في أداء شكره، وذلك أنه اعترف بالتقصير، وأنه ممن عجز عن جزائه وثنائه، ففوض جزاءه إلى الله ليجزيه الجزاء الأوفى. قال بعضهم إذا قصرت يداك بالمكافأة، فليطل لسانك بالشكر والدعاء.
وقال عمر رضي الله عنه: لو يعلم أحدكم ما له في قوله لأخيه: جزاك اللهُ خيراً، لأكثرَ منها بعضُكم لبعض. رواه ابن أبي شيبة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير) متفق عليه.
وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: باب كفران العشير وهو الزوج وهو الخليط من المعاشرة.
وفي هذا الحديث وعيدٌ على كفران العشير - الزوج - وهذا الوعيد يدل على أن كفران العشير كبيرةٌ من الكبائر.
لما حث الإسلام على مكافأة من صنع معروفاً؟
أولاً: تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.
ثانياً: أن يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه.
وقدْ أشارَ شيخُ الإسلامِ إلى مَشْرُوعِيَّةِ المكافأةِ؛ لأنَّ القلوبَ جُبِلَتْ على حُبِّ مَنْ أحسنَ إليها، فهوَ إذا أحسنَ إليهِ ولمْ يُكَافِئْهُ يَبْقَى في قلبِهِ نوعُ تَأَلُّهٍ لِمَنْ أحسنَ إليهِ، فشرعَ قطعَ ذلكَ بالمكافأةِ؛ فهذا معنى كلامِهِ.
وقالَ غيرُهُ: (إنَّما أمرَ بالمكافأةِ لِيَخْلُصَ القلبُ منْ إحسانِ الخَلْقِ ويتَعَلَّقَ بالحق.
ما المشروع إذا لم نجد ما نكافئ به صاحب المعروف؟
نكافئه بالدعاء والثناء.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له).
يعني من أحسن إليكم أي إحسان فكافئوه بمثله، فإن لم تقدروا فبالغوا في الثناء والدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة، وقد روى الترمذي وصححه عن أسامة بن زيد مرفوعاً:(من صنع إليكم معروفاً، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء).
هل ورد هذا الدعاء (جزاك الله خيراً) من قول النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
نعم ورد.
جاء في حديث طويل وفيه قوله (
…
وَأَنْتُمْ مَعشَرَ الأَنصَارِ! فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيرًا، فَإِنَّكُم أَعِفَّةٌ صُبُرٌ) رواه ابن حبان.
كما كانت هذه الجملة من الدعاء معتادة على ألسنة الصحابة رضوان الله عليهم:
جاء في مصنف ابن أبي شيبة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لو يعلم أحدكم ما له في قوله لأخيه: جزاك الله خيرا، لأَكثَرَ منها بعضكم لبعض).
وهذا أسيد بن الحضير رضي الله عنه يقول لعائشة رضي الله عنها: (جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة) متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه، وقالوا: جزاك الله خيرا. فقال: راغب وراهب). أي راغب فيما عند الله من الثواب والرحمة، وراهب مما عنده من العقوبة.
ومعنى (جزاك الله خيراً) أي: أطلب من الله أن يثيبك خيرا كثيراً.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- أنه لا يرد من سأل بالله إجلالاً لله وتعظيماً.
- أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته ودفع الشر عنه.
- مشروعية إجابة دعوة المسلم لوليمة أو غيرها.
- مشروعية مكافأة المحسن عند القدرة.
- مشروعية الدعاء للمحسن عند العجز عن مكافأته.
بَابُ اَلزُّهْدِ وَالْوَرَعِ
تعريف الزهد والورع:
تعريف الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
تعريف الورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
قال ابن القيم: سعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الزهد ترك مالا ينفع في
الآخرة والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها .... (مدارج السالكين).
1468 -
عَنْ اَلنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ- وَأَهْوَى اَلنُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: (إِنَّ اَلْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ اَلْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ اَلنَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى اَلشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي اَلْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ اَلْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اَللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي اَلْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ اَلْقَلْب) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
(بيّن) ظاهر.
(مشتبهات) جمع مشتبه، وهي المشكل لما فيه من عدم الوضوح في الحل أو الحرمة.
(لا يعلمهن) لا يعلم حكمها.
(اتقى الشبهات) ابتعد عنها.
(لدينه) أي عن النقص.
(الحمَى) المحمي.
(يرتع) أي تأكل ماشيته منه.
(محارمه) المعاصي.
إلى كم قسم، قسّم النبي عليه الصلاة والسلام الأمور؟
قسمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حلال واضح لا يخفى حله، كأكل الخبز، والمشي.
القسم الثاني: حرام واضح، كالخمر والزنا والغيبة.
القسم الثالث: مشتبه: يعني ليست بواضحة الحل أو الحرمة.
فهذه لا يعرفها كثير من الناس، أما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس.
قال ابن رجب: معنى الحديث: أن الحلال المحض بيّن لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ أما الراسخون في العلم فلا تشتبه عليهم ذلك، ويعلمون من أيّ القسمين هي.
فقوله صلى الله عليه وسلم في المشتبهات (لا يعلمهن كثير من الناس) دليل على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعرفها، وليست مشتبهة في نفس الأمر.
ما الأفضل لمن اشتبه عليه أمر من الأمور؟
الحديث دليل على أن من اشتبه عليه أمر من الأمور فالأفضل والأكمل أن يتقي هذا الأمر المشتبه فيه.
لأن ذلك أسلم لدينه وعرضه.
ومعنى (استبرأ) أي: طلب البراءة لدينه من النقص، ولعرضه من الشيْن.
الحديث قسّم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين اذكرهما؟
الأول: من يتقي هذه الشبهات، لاشتباهها عليه.
فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه.
والثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده.
فهذا قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد وقع في الحرام.
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ وَقَعَ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي اَلْحَرَامِ)؟
اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) على قولين:
الأول: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدرج والتسامح.
ويعضد هذا المعنى ما روي في الصحيحين (ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان).
والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام.
ويعضد هذا ما في رواية ابن عمر للحديث، وفيه:(فمن اتقاها - أي المشتبهات - كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام).
بما شبه النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقع في الشبهات؟
شبه النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقع في الشبهات بالراعي يرعى بغنمه وإبله حول الحمى، أي حول المكان المحمي، يوشك ويقرب أن يقع فيه، لأن البهائم إذا رأت الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها.
ما حكم من عرّض نفسه للشبهات؟
الحديث دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عرضه نفسه للقدح فيه والطعن.
كما قال بعض السلف: من عرّض نفسه للتهم، فلا يلومن من أساء الظن به.
وعند الترمذي (فمن تركها، استبراءً لدينه وعرضه، فقد سلِم) والمعنى: أنه يتركها بهذا القصد - وهو براءة دينه وعرضه من النقص - لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه.
على ماذا يدل الابتعاد عن الشبهات؟
على الورع.
اذكر فضائل الورع؟
أولاً: أنه سبب لاستبراء العرض والدين.
كما في قال صلى الله عليه وسلم (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
ثانياً: أنه خير خصال الدين:
قال صلى الله عليه وسلم (وخير دينكم الورع) رواه الحاكم.
ثالثاً: من علامات العبادة.
قال صلى الله عليه وسلم (كن ورعاً تكن أعبد الناس) رواه الترمذي وفيه ضعف.
رابعاً: أنه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه.
عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه.
خامساً: أنه سبب للنجاة.
قال صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه الترمذي.
من أقوال السلف في الورع:
قال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
وقال حسان بن أبي سنان: ما من شيء أهون من الورع، إذا رابك شيء فدعه.
وقال عمر: كنا نترك تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.
وقال العسكري: لو تأمل الحذاق في هذا الحديث لتيقنوا أنه قد استوعب كل ما قيل في تجنب الشبهات.
وقال شيخ الإسلام: الورع من قواعد الدين.
وقال ابن المبارك: ترك فلس من حرام أفضل من مائة ألف فلس أتصدق بها.
وقال الضحاك: لقد أدركت أصحابي وما يتعلمون إلا الورع.
وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه.
وكان الإمام الورع سعيد بن المسيب لا يقبل من أحد شيئاً لا ديناراً ولا درهماً ولا شيئاً.
وقال إدريس الحداد: كان أحمد بن حنبل إذا ضاق به الأمر آجر نفسه من الحاكة، فلما كان أيام المحنة وصرف إلى بيته، حمِل إليه مال فرده وهو محتاج إلى رغيف، فجعل عمه إسحاق يحسب مارد فإذا هو نحو 500 ألف، قال، فقال: يا عم لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه.
وقال الحسن بن عرفة: قال لي ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام فذهب عليّ أن أرده إلى صاحبه، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت يا أبا علي إلى أرض الشام حتى رددته على صاحبه.
ما أهمية القلب؟
أنه إذا صلح صلح سائر الجسد.
-الحديث دليل على أنه يجب على الإنسان أن يهتم بقلبه، لأن مدار الصلاح والفساد عليه، فإذا صلح صلح سائر الجسد وإذا فسد فسد سائر الجسد.
قال ابن حجر: وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثراً فيه.
وصلاح القلب يكون باستقامة على طاعة الله.
قال ابن القيم: استقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله وحب غيره، سبق حب الله حب ما سواه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل ....
الثانية: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر والناهي ....
فعلامة تعظيم الأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها.
وعلامات تعظيم المناهي: الحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها.
وأن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً وكسرة إذا عصى الله في أرضه.
وأن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط. [الوابل الصيب].
ويجب دعاء الله بإصلاحه وتثبيته.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك.
وكان قسم النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ومقلب القلوب.
وتتفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها ....
وينبغي التحذير من التساهل في أمر القلب.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) رواه مسلم.
ولا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم.
قال تعالى (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).
القلب السليم: هو السالم من الشرك والبدعة والآفات والمكروهات، وليس فيه إلا محبة الله وخشيته.
وينبغي الدعاء بسلامة القلب.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد.
وأهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله.
قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه).
اذكر بعض أسباب رقة ولين القلب؟
أولاً: ذكر الله.
قال تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
ثانياً: العطف على المسكين.
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا أحببت أن يلين قلبك فامسح راس اليتيم وأطعم المسكين) رواه أحمد.
ثالثاً: زيارة المقابر.
قال صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة، وترق القلب) رواه أحمد.
رابعاً: التحذير من قسوة القلب.
قال تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله).
قال بعض السلف: خصلتنا تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
وقال بعضهم: البدن إذا عري رق، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته.
قال ابن القيم: مفسدات القلب: كثرة النوم، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام.
وقال بعض العلماء: صلاح القلب بخمسة أشياء: قراءة القرآن بتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع بالسحر، ومجالسة الصالحين، وأكل الحلال.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- الحديث دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين.
وقد جاء في رواية في الصحيحين في هذا الحديث (فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك).
يعني: أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه، وعدم تحققه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم.
- الحديث دليل على أن من أسباب النجاة من الوقوع في الحرام الورع والابتعاد عن الشبهات.
قال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي العبد ربه، حتى يتقيه من مثقال ذرة.
وقال الحسن البصري: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الوقوع بالحرام.
وقال الثوري: إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
- حكمة الله في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص.
- أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمه الناس كلهم.
- حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأمثال المحسوسة ليتبين بها المعاني المعقولة.
- فضل العلم والرسوخ فيه.
- أن المحارم هي حمى الله في الأرض.
- وفيه الإشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.
- أن المشبهات والدخول فيها يكون لها تأثيراً على القلوب.
- وفيه دليل لقاعدة سد الذرائع.
1469 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَعِسَ عَبْدُ اَلدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
===
(تَعِسَ) هو بكسر العين، ويجوز بفتحها، أي سقط، والمراد هنا: هلك. [قاله الحافظ ابن حجر]
وقال في موضع آخر: هو ضد سَعِدَ، أي شقي.
(عبد الدينار) الدينار من الذهب.
سماه عبداً لكونه هو المقصود بعمله، فكل من توجه بقصده لغير الله، فقد جعله شريكاً لله في عبوديته، كما هو حال الأكثر.
(تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)(الخميصة) كساء يلبس لونه أسود. (الخميلة) القطيفة، سميت بذلك لأنها ذات أخمل.
(إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط) يحتمل أن يكون المعطي هو الله، أي إن قدّر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقوله وقلبه.
تنبيه:
لفظ الحديث كاملاً:
قال صلى الله عليه وسلم (تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميل، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شَفَعَ لم يُشفع).
(تعس وانتكس) أي خاب وهلك (انتكس) أي: انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له.
(وإذا شيك فلا انتقش) أي إذا أصابته شوكة. (فلا انتقش) أي فلا يقدر على انتقاشها، وهو إخراجها بالمنقاش.
وقال الحافظ: أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها.
وهذه الجمل الثلاث يحتمل أن تكون خبراً منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه تعاسة وانتكاس، وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله، لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه.
(طوبى) اختلف المفسرون في معنى: {طوبى لهم وحسن مآب}
فروي عن ابن عباس أن معناه: " فرح وقرة عين، وعن قتادة: " أصابوا خيراً "، وقال ابن عجلان: " دوام الخير "، وقيل الجنة، وقيل شجرة في الجنة، وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد ذم من كانت الدنيا من مال أو غيرها شغله الشاغل، وهمه الأكبر، وأن من كانت الدنيا غاية أمره ومنتهى قصده فقد عبدها واتخذها شريكاً مع الله.
قال ابن تيمية: وفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ) فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الدِّرْهَمِ وَعَبْدَ الدِّينَارِ وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ وَعَبْدَ الْخَمِيصَةِ. وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ (تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) وَالنَّقْشُ إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ مِنْ الرِّجْلِ وَالْمِنْقَاشُ مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ وَلَمْ يُفْلِحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ وَقَدْ وُصِفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ (إذَا أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسَخَطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةِ أَوْ بِصُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ.
وَلِهَذَا يُقَالُ: الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ.
وَقَالَ الْقَائِلُ: أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَكُنْت حُرًّا.
وَيُقَالُ: الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ.
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: الطَّمَعُ فَقْرٌ وَالْيَأْسُ غِنًى وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ وَلَا يُبْقِ قَلْبَهُ فَقِيرًا إلَيْهِ وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ.
وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ؛ وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَلِيلُ صلى الله عليه وسلم: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وقال رحمه الله أيضاً:
وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ:
منها: مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَمَسْكَنِهِ ومنكحه وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ فَيَكُونُ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.
وَمِنْهَا: مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا؛ فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَة.
اذكر معايب جمع المال وجعله همه وغايته؟
أولاً: سبب للطغيان.
كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَى).
وقال تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ).
وقال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) فهذا دأب الإنسان، يبدأ في الطغيان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الناس.
وقال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).
وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(التغابن: 15)
وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).
وفرعون لما أغناه الله وملّكه مصر قال: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ).
وقارون لما أنعم الله عليه قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي).
والأبرص والأقرع لما آتاهما الله مالاً جحدا نعم الله عليهما.
أولاً: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
كما في حديث الباب.
ثانياً: سبب لفساد دين العبد.
قال صلى الله عليه وسلم (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
قال ابن رجب: هذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاربين باتا في الغنم، قد غاب عنها رعاؤها ليلاً، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم.
فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.
ثالثا: المال فتنة.
قال تعالى (اعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
قال تعالى (إنما أموالكم.
وقال صلى الله عليه وسلم (لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) رواه الترمذي.
جاء في الصحيحين: عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُّرَابُ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ) مُتَّفَقٌ عليه.
ففي هذا الحديث دليل على عظم حب الإنسان للمال، وأنه يحرص على جمعه من جميع الوجوه، وأنه فتنة، وأنه من أعظم الفتن، لأنه يحمل صاحبه على الإعراض عن طريق الله تعالى، ويحمله أيضاً على الطغيان والبغي.
والمال - أيضاً - فتنة، لأنه يشغل القلب ويلهي عن الطاعة وينسي الآخرة.
قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
وقال تعالى (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
وقال تعالى (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (يهرم ابن آدم ويهرم معه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتن، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِى الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ) رواه البخاري.
غوائل المال:
أولاً: أنه يجر إلى المعاصي غالباً، لأن من استشعر القدرة على المعصية انبعث داعيته إليها.
ثانياً: أنه يجر إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات.
ثالثاً: أنه يلهيه عن ذكر الله، وهذا الدال العضال، فإن صاحب المال يمسي ويصبح متفكراً في ماله وحفظه وزيادته.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- ذم الحرص على الدنيا.
- أن من كانت الدنيا أكبر همه أصبح عبداً لها، يحب من أجلها، ويسخط من أجلها.
- أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تتقلب عليه الأمور ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية، وهي الشوكة.
- استحباب الاستعداد للجهاد.
- فضل الحراسة في سبيل الله.
- أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس لا يستلزم دنو مرتبته عند الله.
- فيه ترك حب الرياسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع.
- الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
- أن عبد الله هو الذي يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب الله ورسوله.
1470 -
وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: - كُنْ فِي اَلدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ - وَكَانَ اِبْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ اَلصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ اَلْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِك، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
===
(أخَذَ) أمسك.
(بِمَنْكِبِي) المنكب: مجتمع رأس العضد والكتف.
(كأنك غريب) أي: مثل الغريب، والغريب هو البعيد عن وطنه.
(أو عابر سبيل): قيل: أو للتخير، وقيل بمعنى: بل.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحث على الزهد في الدنيا وقصر الأمل.
والزهد في الدنيا: هو ترك مالا ينفع في الآخرة والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين.
قال ابن القيم: أفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ .... (الفوائد).
ما معنى الحديث؟
قال النووي في شرح الحديث: معناه: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بماء يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله
ففي هذا الحديث التزهيد في الدنيا، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذها وطناً يركن إليها، وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر.
اذكر كيف زهّد الله في الدنيا وبيّن خستها؟
زهد الله في الدنيا وبيّن خستها وحقارتها:
فقال تعالى (ما عندَكم يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ).
وقال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
وقال تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وقال تعالى (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
وقال تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقال تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقال تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا).
والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار
وقال ابن رجب: فأمَّا الزُّهد في الدُّنيا، فقد كثُر في القُرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذمّ الرغبة في الدُّنيا.
قال تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقال تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ).
وقال تعالى في قصة قارون (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ) إلى قوله (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ).
وقال (قُلْ مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنَّه قال لقومه (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
وقد ذمَّ الله مَنْ كان يُريد الدُّنيا بعمله وسعيه ونيَّته.
وقال رحمه الله: وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل.
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول (مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها).
ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها.
ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً.
ودخل رجلٌ على أبي ذرٍّ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرٍّ، أين متاعُكم؟ قالَ: إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه، قالَ: إنَّه لابدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا، قالَ: إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه.
ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طرداً.
وكان عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.
قال بعضُ الحكماء: عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه، والآخرة مقبلةٌ إليه، يشتغلُ بالمدبرة، ويُعرِض عن المقبلة.
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَّعَن، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَبُ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِنْ النقلة، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين:
أ-إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه.
ب- أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة، بل هو ليله ونهارَه، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة.
فلهذا وصّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين.
فأحدهما: أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ، لكن في بلد غُربةٍ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ جهازه إلى الرجوع إلى وطنه.
قال الفضيلُ بن عياض: المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين، همُّه مَرَمَّةُ جهازه.
ومن كان في الدنيا كذلك، فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم.
قال الحسن: المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها، ولا يُنافِسُ في عِزِّها، له شأنٌ، وللناس شأن.
الحال الثاني: أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره، وهو الموت.
ومن كانت هذه حالَه في الدنيا، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا.
ولهذا أوصى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب.
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة؟
وقال الحسن: إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك.
وقال: ابنَ آدم إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ، يُوضِعُك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً.
وقال: الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِنْ ورائكم.
قال داود الطائي: إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها، فافعل، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك.
وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجَّهٌ إليك، والدنيا تُطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن.
قال بعضُ الحكماء: كيف يفرحُ بالدنيا من يومُه يَهدِمُ شهرَه، وشهرُه يهدِمُ سنَتَه، وسنته تَهدِمُ عُمُرَه، وكيف يفرح من يقوده عمرُه إلى أجله، وتقودُه حياتُه إلى موته.
وقال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ، فقال الرجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيلُ: أتعرف تفسيرَه تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد، وأنَّه إليه راجع، فليعلم أنَّه موقوفٌ، ومن علم أنَّه موقوف، فليعلم أنَّه مسؤول، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلةُ؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي.
قال الحسن: لم يزل الليلُ والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريبِ الآجال، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً، فأصبحوا قَدِموا على ربِّهم، ووردوا على أعمالهم، وأصبح اللَّيلُ والنَّهارُ غضَّيْنِ جديدين، لم يُبلِهُما ما مرَّا به، مستعدِّين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى.
وكتب الأوزاعيُّ إلى أخٍ له: أما بعد، فقد أُحيطَ بك من كلّ جانب، واعلم أنَّه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فاحذرِ الله، والمقام بين يديه، وأنْ يكونَ آخر عهدك به، والسَّلام.
ترحَّل من الدُّنيا بزادٍ من التُّقى
===
فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قَلائِلُ .... (جامع العلوم والحكم).
وقد جاءت أحاديث كثيرة في التزهيد في الدنيا:
قال صلى الله عليه وسلم (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) رواه الترمذي.
قال بعض العلماء: فتأمل هذا المثال، ومطابقته للواقع سواء، فإنها في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئاً فشيئاً كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُم) رواه مسلم.
وعن المُسْتَوْرِد. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِع) رواه مسلم.
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) رواه الترمذي.
اذكر فضائل الزهد في الدنيا؟
أولاً: راحة للقلب والبدن.
قال الحسن: الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن.
ثانياً: سبب لمحبة الله.
كما في الحديث (ازهد في الدنيا يحبك الله) رواه ابن ماجه.
وفي هذا الحديث يقول الإمام الغزالي-رحمه الله فجعل الزهد سببا للمحبة فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات ومفهومه أيضاً أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى.
ثالثاً: أن الله زهدنا فيها.
فقال تعالى (وما الحياة الدنيا إلا متاع).
وقال سبحانه (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً).
قال القرطبي: متاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها، وسماه قليلاً لأنه لا بقاء له.
رابعاً: سبب لهوان المصائب.
قال علي: من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.
اذكر علامة تدل على زهد صاحبها؟
من علامات الزهد أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق.
قال ابن رجب: وهذا من علامات الزُّهد في الدُّنيا، واحتقارها، وقلَّةِ الرَّغبة فيها، فإنَّ من عظُمتِ الدُّنيا عنده أحبَّ المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ، فربما حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحق خشيةَ الذَّمِّ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدح، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود: اليقين أنْ لا تُرضي النَّاسَ بسخط الله، وقد مدح الله الذين يُجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
متى يحسن ذم الدنيا؟
قال ابن القيم: يحسن إعمال اللسان في ذم الدنيا في موضعين:
أحدهما: موضع التزهيد فيها للراغب.
والثاني: عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها، ولا يأمن إجابة الداعي، فيستحضر في نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد.
وقال رحمه الله:
ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زهداً.
كيف تحقيق الزهد؟
قال ابن القيم: والذي يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء ثلاثة أشياء:
أحدها: علم العبد أنها ظل زائل، وخيال زائر، وأنها كما قال تعالى (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .. ).
الثاني: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً، وأجل خطراً، وهي دار البقاء.
الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها ..
فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها وتثبت قدمه في مقامه والله الموفق لمن يشاء. (طريق الهجرتين)
من أقوال السلف:
قال عيسى ابن مريم: من ذا الذي يبني على موج البحار داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً ".
وقال موسى عليه السلام: اعبروها ولا تعمروها.
وقال أبو الدرداء لأهل الشام: يا أهل الشام! ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤمّلون ما لا تدركون، إن الذين قبلكم بنوا مشيداً وأملوا بعيداً وجمعوا عتيداً، فأصبح أملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً ".
قال عمر بن عبد العزيز: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها.
وقال علي: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
وقال ابن السماك: إن الموتى لم يبكوا من الموت، ولكنهم يبكون من حسرة الفوات، فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها، ودخلوا داراً لم يتزودوا لها.
وقال بعض العلماء: أيها الإنسان إنما أنت نازل من الدنيا في منزل تعمره أيام عمرك، ثم تخليه عند موتك لمن ينزله بعدك ".
قال الشاعر:
إن لله عباداً فطنا
…
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا إليها فلما علموا
…
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
…
صالح الأعمال فيها سفنا
فائدة:
امتثل ابن عمر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً.
أما قولاً، فإنه كان يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
وأما في الفعل: فقد كان رضي الله عنه على جانب كبير من الزهد فيها والقناعة منها باليسير الذي يقيم صلبه ويستر بدنه، وما سوى ذلك يقدمه لغده.
قال جابر بن عبد الله: ما رأينا أحداً إلا قد مالت به الدنيا أو مال بها إلا عبد الله بن عمر.
وقالت عائشة: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر.
1471 -
وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، فَهُوَ مِنْهُمْ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
===
ما صحة حديث الباب؟
صحح إسناده العراقي، وجوّد إسناده ابن تيمية.
وقال الذهبي في السير: إسناده صحيح.
وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
هذا النَّصُّ النَّبويُّ يشير إلى أصل في الشَّريعة عظيم، وهو النَّهي عن التَّشبُّه بغير المسلمين، فلا يجوز التَّشبُّه بالكفَّار والمنافقين والمبتدعة والعصاة والفسَّاق، وأنَّ التَّشبُّه المطلوب إنَّما هو بأهل الصَّلاح والخير والسَّداد ظاهرًا وباطنًا.
قال ابن رجب رحمه الله: هذا يدلُّ على أمرين:
أحدهما: التَّشبُّه بأهل الشَّرِّ مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وبَّخ الله من تشبَّه بهم في شيء من قبائحهم، فقال تعالى (فاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) وقد نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن التَّشبُّه بالمشركين وأهل الكتاب ....
الثَّاني: التَّشبُّه بأهل الخير والتَّقوى والإيمان والطَّاعة، فهذا حسنٌ مندوبٌ إليه، ولهذا يُشرع الاقتداء بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه، وذلك مقتضَى المحبَّة الصَّحيحة، فإنَّ المرء مع من أحبَّ، ولا بدَّ من مشاركتِه في أصلِ عمله، وإن قصَّر المحبُّ عن دَرجته.
وقال شيخ الإسلام: وهذا الحديث أقلُّ أحواله أن يقتضي تحريم التَّشبُّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كُفرَ المتشبِّه بهم، كما في قوله:(وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم).
قال ابن كثير رحمه الله: فيه دلالة على النَّهي الشَّديد والتَّهديد والوعيد على التَّشبُّه بالكفَّار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم الَّتي لم تُشرع لنا ولا نُقرّر عليها.
اذكر بعض المفاسد الَّتي عدَّدها العلماء من جرَّاء التشبه بالكفار بالظاهر؟
أولاً: أنَّ المشابهة في الهدي الظَّاهر ـ وهو المظهر والسُّلوك ـ تُورِثُ المشابهة في الباطن.
قال ابن القيِّم رحمه الله: وَسِرُّ ذلك: أَنَّ المشَابَهَةَ في الهدي الظَّاهِرِ ذَرِيعَةٌ إلَى الموَافَقَةِ في القَصْدِ وَالعَمَل.
وقال السَّعدي: فإنَّ التَّشبُّه الظَّاهر يدعو إلى التَّشبُّه الباطن، والوسائل والذَّرائع إلى الشُّرور قَصَد الشَّارعُ حَسمها من كلِّ وجه.
ثانياً: أنَّ المشابهة في الظَّاهر تولِّد في نفس المتشَبِّه حبًّا للمتشبَّه به ومودَّةً، وهذا يخدش في أصل عظيم من أصول عقيدة المؤمن وهو قاعدة الولاء والبراء.
ثالثاً: أنَّ المشاركة في الهدي الظَّاهر تورث تناسبًا وتشَاكُلاً بين المتشابهين تعود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس؛ فإنَّ لابس ثياب الرِّياضيِّين مثلاً يجد من نفسِه نوعَ انضمام إليهم، ولابس ثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلُّق بأخلاقهم، وتصير طبيعته منقادة لذلك إلاَّ أن يمنعه مانع.
رابعاً: أنَّ المخالفة في الهدي الظَّاهر تُوجب مبايَنةً ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجباتِ الغضب وأسباب الضَّلال والانعطاف على أهل الهدى والرِّضوان.
خامساً: أنَّ مشاركتهم في الهدي الظَّاهر تُوجب الاختلاطَ الظَّاهر حتَّى يرتفعَ التَّمييز ظاهرًا بين أهل الإسلام المهديِّين المرضيِّين، وبين أهل الكفر المغضوب عليهم والضَّالِّين.
سادساً: أنَّ نفس المخالفة لهم في الهدي الظَّاهر مصلحةٌ ومنفعةٌ لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة الَّتي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم.
اذكر بعض الأمثلة على النهي عن التشبه بالكفار؟
أولاً: الصلاة.
عن جندب بن عبد الله قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم.
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم) رواه أبو داود.
وعن ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى رجلاً وهو جالس معتمداً على يده اليسرى في الصلاة، فقال: إنها صلاة اليهود). رواه البخاري
وعن مسروق عن عائشة: (أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته، وتقول إن اليهود تفعله) رواه البخاري.
ثانياً: الصوم.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الدين ظاهراً ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون) رواه أبو داود.
وعن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: (أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: " إنما يفعل ذلك النصارى "). رواه أحمد
ثالثاً: الجنائز.
ما رواه جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا) رواه أبو داود وأحمد.
وفي رواية لأحمد: (والشق لأهل الكتاب).
رابعاً: اللباس والزينة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال (إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) رواه مسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم). متفق عليه
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا النصارى) رواه أحمد والترمذي.
خامساً: الآداب والعادات.
عن جابر بن عبد الله مرفوعاً (لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة) رواه الترمذي.
اذكر أنواع التشبه بالكفار؟
التشبه بالكفار ينقسم إلى قسمين:
تشبه محرَّم، وتشبه مباح.
القسم الأول: التشبه المحرّم:
وهو فعل ما هو من خصائص دين الكفار مع علمه بذلك، ولم يرد في شرعنا .. فهذا محرّم، وقد يكون من الكبائر، بل إن بعضه يصير كفراً بحسب الأدلة.
سواء فعله الشخص موافقة للكفار، أو لشهوة، أو شبهة تخيل إليه أنّ فعله نافع في الدنيا والآخرة.
فإن قيل هل من عمل هذا العمل وهو جاهل يأثم بذلك، كمن يحتفل بعيد الميلاد؟
الجواب: الجاهل لا يأثم لجهله، لكنه يعلّم، فإن أصر فإنه يأثم.
القسم الثاني: التشبه الجائز:
وهو فعل عمل ليس مأخوذاً عن الكفار في الأصل، لكن الكفار يفعلونه أيضاً. فهذا ليس فيه محذور المشابهة لكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة.
"التشبه بأهل الكتاب وغيرهم في الأمور الدنيوية لا يباح إلا بشروط:
أن لا يكون هذا من تقاليدهم وشعارهم التي يميّزون بها.
أن لا يكون ذلك الأمر من شرعهم ويثبت ذلك أنه من شرعهم بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله أو بنقل متواتر مثل سجدة التحية الجائزة في الأمم السابقة.
أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص بالموافقة أو المخالفة استغنى عن ذلك بما جاء في شرعنا.
أن لا تؤدي هذه الموافقة إلى مخالفة أمر من أمور الشريعة.
أن لا تكون الموافقة في أعيادهم.
أن تكون الموافقة بحسب الحاجة المطلوبة ولا تزيد عنها. "
(انظر كتاب السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار لسهيل حسن ص 58 - 59.)
1472 -
وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ (يَا غُلَامُ! اِحْفَظِ اَللَّهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اَللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اَللَّهَ، وَإِذَا اِسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيح.
===
ما صحة حديث الباب؟
إسناده صحيح.
ما معنى (اِحْفَظِ اَللَّهَ يَحْفَظْكَ)؟
أي: أن من حفظ الله وذلك بإقامة أوامره وترك نواهيه حفظه الله في الدنيا والآخرة، ويحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله.
اذكر بعض الأمثلة لحفظ الله لمن حفظه؟
كان العبد الصالح أبو الطيب الطبري رحمه الله، قد جاوز المائة، وهو متمتع بعقله وقوته وكافة حواسه، حتى أنه سافر ذات مرة مع رفقة له، فلما اقتربت السفينة من الشاطئ وثب منها إلى الأرض وثبة شديدة، عجز عنها بقية الذين كانوا معه على السفينة، فاستغرب بعضهم هذه القوة الجسدية التي منحها الله إياه مع كبر سنه وشيخوخته، فقال لهم الطبري: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
وكان العبد الصالح شيبان الراعي رحمه الله، يرعى غنماً له في البرية، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطاً، ثم ذهب وشهد الجمعة والخطبة مع جماعة المسلمين، ثم عاد إليها، فيجدها كما هي لم تتحرك منها شيء، ولم تجاوز الخط منها أي غنمة، فسبحان الحافظ المعين.
وقال عروة بن الزبير: بلغت أسماء بنت أبي بكر مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده:
كما قيل في قوله تعالى (وكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) إنهما حفظا بصلاح أبيهما.
قال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ الله وستر.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس.
كما قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قالت عائشة: يكفيه غم الدنيا وهمها.
وكتبت عائشة إلى معاوية: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً.
كتب بعض السلف إلى أخيه: فإنه من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه.
قال ابن رجب: ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى:
كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه.
وكان العبد الصالح إبراهيم بن أدهم نائماً ذات مرة في بستان، فجاءته حية في فمها نرجس، فما زالت تذب عنه الحيات التي تريد به سوءاً وتدافع عنه، حتى استيقظ من نومه.
قال مسروق بن الأجدع: من راقب الله في خطرات قلبه، عصمه الله في حركات جوارحه.
وقال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية: وكان أبوهما صالحاً.
ومن أعظم الحفظ حفظه تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإسلام.
ثبت في الصحيحين من حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول عند منامه (اللهم إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
وفي حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمه أن يقول (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً) رواه ابن حبان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودّع من يريد السفر يقول له: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
وكان عمر يقول في خطبته: اللهم اعصمنا بحفظك، وثبتنا على أمرك.
وهذا كما حفظ يوسف عليه السلام قال (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
فمن أخلص لله خلصه الله من السوء والفحشاء منها من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة.
وسمع عمر رجلاً يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحُل بيني وبين معاصيك، فأعجب ذلك عمر ودعا له بخير.
راود رجل امرأة عن نفسها وأمرها بغلق الأبواب ففعلت، وقالت له: قد بقي باب واحد، قال: وأي باب هو؟ قالت: الباب الذي بيننا وبين الله، فلم يتعرض لها.
وراود رجل أعرابية، قال لها: ما يرانا إلا الكوكب، قالت: فأين مكوكبها؟
وهذا كله من ألطاف الله وحيلولته بين العبد ومعصيته.
ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه: أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدنيا، إما بالولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهته لذلك.
وأعجب من هذا أن العبد قد يطلب باباً من أبواب الطاعات، ولا يكون فيه خيرة، فيحول الله بينه وبينه صيانة له وهو لا يشعر.
وكان بعض السلف يدور على المجالس ويقول: من أحب أن تدوم له العافية فليتق الله.
وقال بعض السلف:
من حفظ الله فقد حفظ نفسه.
ماذا نستفيد من هذه الجملة؟
نستفيد: أن من لم يحفظ الله لم يحفظه الله.
قال تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك)؟
أي: من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في جميع الأحوال، يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدده، فإنه قائم على كل نفس بما كسبت، وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإن كان عليك فمن ترجو؟ والسلام.
ماذا نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم (إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ)؟
نستفيد أنه يجب على العبد أن يسأل ربه دون المخلوقين.
وقد أمر الله بسؤاله فقال (واسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ).
وفي الترمذي عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من لم يسأل الله يغضب عليه).
واستحق الغضب لأمرين:
الأول: لأنه ترك محبوباً لله، فإن الله يحب أن يسأل، ذكر ذلك المناوي.
والثاني: لأن ترْك الدعاء دليل على الاستغناء عن الله، ذكر ذلك المباركفوي.
وفي النهي عن سؤال المخلوق أحاديث كثيرة أيضاً.
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم: أبو بكر، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله.
لماذا سؤال الله دون خلقه هو المتعين؟
واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً وذلك من وجوه متعددة:
منها: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، وهذا هو حقيقة العبادة التي يختص بها الإله الحق.
كان الإمام أحمد يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك.
ولهذا كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم كما ثبت في الصحيحين، لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدنيا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي، فيصير عظماً بغير لحم، ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي، فلا يبقى له عند الله وجاهة.
ومنها: أن في سؤال الله عبودية عظيمة، لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها، فكيف يقدر على ذلك لغيره.
قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو يملكها فكيف أسألها ممن لا يملكها؟ يعني المخلوق.
ومنها: أن الله يحب أن يُسأل، ويغضب على من لا يسأل، فإنه سبحانه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، والمخلوق غالباً يكره أن يُسأل لفقره وعجزه.
قال أبو العتاهية:
الله يغضب إن تركتَ سؤاله وبُنيّ آدم حين يسأل يغضب
فاجعل سؤالك للإله فإنما في فضل نعمة ربنا نتقلب.
اذكر مفاسد سؤال المخلوقين؟
قال ابن تيمية: سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
الأولى: مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي نوع من الشرك.
والثانية: مفسدة إيذاء المسؤول وهي نوع من ظلم الخلق.
والثالثة: فيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة ....
ماذا نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ)؟
وجوب الاستعانة بالله وحده تعالى.
وهذا منتزع من قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهي كلمة عظيمة جامعة يقال: إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها.
وفي استعانة الله فائدتان:
إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات.
والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول.
وفي الحديث (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا (الحمد لله نستعينه ونستهديه).
وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
ما أعظم شيء يجب حفظه من أوامر الله؟
أولاً: الصلاة.
قال تعالى (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
ثانياً: الطهارة.
قال صلى الله عليه وسلم (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) رواه أحمد.
ثالثاً: الأيْمان.
قال تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ).
رابعاً: حفظ الرأس والبطن.
قال صلى الله عليه وسلم (الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى) رواه الترمذي
خامساً: حفظ الفرج.
قال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ).
الحديث دليل على قاعدة شرعية فما هي؟
الجزاء من جنس العمل، فمن حفظ الله حفظه الله، وهذه قاعدة شرعية جاءت نصوص كثيرة تدل عليها:
قال تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ).
وقال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
وقال تعالى (َأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (احفظ الله يحفظك).
وقال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من وصل صفاً وصله الله) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة) رواه أبو داود.
1473 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اَللَّهُ، وَأَحَبَّنِي اَلنَّاسُ. [فـ] قَالَ: اِزْهَدْ فِي اَلدُّنْيَا يُحِبُّكَ اَللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ اَلنَّاسِ يُحِبُّكَ اَلنَّاسُ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَه، وَسَنَدُهُ حَسَن
===
(دلني) أرشدني.
ازهد: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
المحرمات المكروهات - المشتبهات لمن لم يتبينها - فضول المباحات.
الدنيا: سميت بذلك لدناءتها، أو لدنوها قبل الآخرة.
ما صحة حديث الباب؟
سنده ضعيف.
ماذا نستفيد من الحديث؟
أن الزهد سبب لمحبة الله تعالى.
وقد تقدم فضائل الزهد في حديث ابن عمر (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
لأن الإنسان لا يزهد في الدنيا حقيقة إلا من أيقن بالجنة.
وقد ذكر العلماء أموراً تعين على الزهد في الدنيا:
أولاً: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها.
ثانياً: النظر في الآخرة، وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات.
ثالثاً: أن ذلك سبب لراحة البدن والقلب.
كما قال الحسن: الزهد في الدنيا يريح البدن والقلب.
وقد كثر في القرآن مدح الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها.
فأخبر سبحانه أنها متاع قليل.
فقال تعالى (وما الحياة الدنيا إلا متاع).
وقال سبحانه (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً).
قال القرطبي: متاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها، وسماه قليلاً لأنه لا بقاء له.
وتوعد سبحانه لمن رضي بالدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته.
فقال تعالى (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين.
فقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل).
وأخبر سبحانه عن خسة الدنيا وزهد فيها ودعا إلى دار السلام.
فقال تعالى (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
وأخبر سبحانه أن الدنيا زائلة والآخرة خير وأبقى.
فقال تعالى (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى).
قال ابن كثير: " أي تقدمونها على أمر الآخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم ".
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الدنيا حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) رواه الترمذي.
اذكر ما ورد في حث الشريعة على الاستغناء عن الناس؟
حديث الباب.
ففيه فضل الاستغناء عما في أيدي الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سبباً لمحبة الناس لك.
لأنهم منهمكون على محبتها بالطبع، فمن زاحمهم عليها أبغضوه، ومن زهد فيها وتركها لهم أحبوه.
وقد جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعاً (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) رواه الطبراني.
وقال الحسن: لا تزال كريماً على الناس، أو لا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك.
وقال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم.
وكان عمر يقول في خطبته: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه.
وقال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
قال ابن رجب رحمه الله: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه، لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه، كرهوه لذلك.
وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ).
قال السعدي: وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقاً به دون المخلوقين، فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبداً لله حقاً حراً من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعمر (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشْرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففاً وترفعاً عن من الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.
وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا.
وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.
اذكر فضائل العفة؟
أولاً: أنّها من خصال أهل الإيمان:
قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. والَذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين).
ثانياً: أنّها من أسباب الفوز بظلّ الله يوم القيامة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (سبعةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه). متفق عليه
ثالثاً: أنّ أهل العفّة ينالون عون الله.
ففي سنن التّرمذي وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (ثلاثةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُم: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَاف) رواه الترمذي.
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها.
عن ابن مسعود قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.
خامساً: أنّها من أسباب سعادة المرء.
كما قال بعض السّلف: والله للذّة العفّة أعظم من لذّة الذّنب.
وقال الغزالي: ولا معيشة أهنأ من العفّة، ولا عبادة أحسن من الخشوع، ولا زهد خير من القنوع، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.
قال حكيم: إذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه الطاعة، وألزمه القناعة، وأكساه العفاف.
عن وهب بن منبه أنّه قال: الإيمان عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله العفّة.
وقال الحسن: لا تزالُ كريماً على الناس ما لم تَعاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلتَ ذلك استخفُّوا بكَ، وكرهوا حديثك، وأبغضوك.
وقال أيوب السَّختياني: لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان: العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس، والتجاوزُ عمّا يكون منهم.
وقال أعرابيٌّ لأهل البصرة: من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن. قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
قال ابن القيم: أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت.
ما كيفية السبيل إلى التعلق بالله والتعفف عن الناس؟
أولاً: بالصبر ومجاهدة النفس.
لحديث (ومن يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغن يغنِه الله).
ثانياً: بالدعاء.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى).
1474 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْعَبْدَ اَلتَّقِيَّ، اَلْغَنِيَّ، اَلْخَفِيَّ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد محبة الله لمن كان متصفاً بهذه الصفات.
أولاً: أن يكون تقياً.
والتقي: من كان قائماً بأوامر الله مجتنباً لنواهيه.
قال الصنعاني: والتقي هو الآتي بما يجب عليه المجتنب لما يحرم عليه.
قال تعالى (إن الله يحب المتقين).
ثانياً: أن يكون غنياً.
قال النووي: الْمُرَاد بِالْغِنَى غِنَى النَّفْس، هَذَا هُوَ الْغِنَى الْمَحْبُوب لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس) وَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ الْمُرَاد الْغِنَى بِالْمَال.
وقال المناوي: (الغني) غنى النفس كما جزم به في الرياض وهو الغني المحبوب، وأشار البيضاوي وعياض والطيبي إلى أن المراد غنى المال، والمال غير محذور لعينه بل لكونه يعوق عن الله، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله، فالتحقيق أنه لا يطلق القول بتفضيل الغني على الفقير وعكسه.
كيف يحصل غنى النفس؟
وغنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره؛ علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى، قال ابن حجر:«وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره؛ فيتحقق أنه المعطي المانع؛ فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تعالى»
ثالثاً: أن يكون خفياً.
قال ابن الأثير: الخفي هو المعتزل عن الناس، الذي يُخفي عليهم مكانه.
قال النووي: (الخفي) فَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي النُّسَخ، وَالْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَات، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ بَعْض رُوَاة مُسْلِم رَوَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ.
فَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ الْخَامِل الْمُنْقَطِع إِلَى الْعِبَادَة وَالِاشْتِغَال بِأُمُورِ نَفْسه.
وَمَعْنَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ الْوُصُول لِلرَّحِمِ، اللَّطِيف بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاء، وَالصَّحِيح بِالْمُعْجَمَةِ.
وقال المناوي: (الخفي) بخاء معجمة، أي: الخامل الذكر المعتزل عن الناس الذي يخفي عليهم مكانه ليتفرغ للتعبد.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: الإشارة بالخفي إلى خمول الذكر، والغالب على الخامل السلامة.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (الخفي) هو الذي لا يظهر نفسه، ولا يهتم أن يظهر عند الناس أو يشار إليه بالبنان أو يتحدث الناس عنه، تجده من بيته إلى المسجد، ومن مسجده إلى بيته، ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه، يخفي نفسه.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: إن قدرت أن لا تُعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك ألا يثنى عليك؟ وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله عز وجل؟
اذكر بعض ما ورد في فضل الخمول وعدم الشهرة؟
وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشعر بمكانه.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.
قال الذهبي معلقًا عليه: علامة المخلص الذي قد يحب شهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد (أي: لا يغضب)، ولا يُبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، ولا يكن معجبًا بنفسه، لا يشعر بعيوبها، فإن هذا داء مزمن.
وقال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك فإني قد بُليت بالشهرة.
قال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد.
وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أُبي بن كعب نمشي خلفه، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال: إن هذه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع.
وقال الثوري: كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة، والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعًا.
وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك.
قال الذهبي: إيثار الخمول، والتواضع، وكثرة الوجل، من علامات التقوى والفلاح.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
بيان أن التقوى سبب لمحبة الله.
فضل الاستغناء عن الناس.
لا يستغني الإنسان عن الناس إلا وثق بربه وبعطائه وكرمه.
الحث على الخمول.
1475 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ اَلْمَرْءِ، تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَن.
===
(من حسن) أي من كمال وجمال.
(إسلام المرء) أي استسلامه وانقياده.
(تركه) يشمل الأقوال والأعمال.
(ما لا يعنيه) أي: ما لا تتعلق به عنايته ويهتم به.
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف.
اذكر عظم منزلة هذا الحديث؟
هذا الحديث عظيم، وهو أصل كبير في تأديب النفس وتهذيبها، وصيانتها عن الرذائل والنقائص، وترك ما لا جدوى فيه ولا نفع.
قال ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصل من أصول الأدب.
قال حمزة الكناني رحمه الله: هذا الحديث ثلث الإسلام.
قال ابن عبد البر رحمه الله: كلامه هذا صلى الله عليه وسلم من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، وهو ما لم يقُلْه أحد قبله، والله أعلم.
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: وهذا الحديث ربع الإسلام على ما قاله أبو داود، وأقول: بل هو نصف الإسلام، بل هو الإسلام كله.
وذكر الصنعاني رحمه الله: أن هذا الحديث من جوامع الكلم النبوية، يعمُّ الأقوال، ويعمُّ الأفعال.
ما المراد بالإسلام في الحديث؟
المراد بالإسلام هنا اسم لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.
وله مرتبتان:
الأولى: مطلق الإسلام.
وهو القدر الذي يثبت به عقد الإسلام، فمتى التزم به العبد صار مسلماً داخلاً في جملة أهل القبلة، وحقيقته: التزام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والقيام بحقوقهما.
والأخرى: حسن الإسلام.
وحقيقته: امتثال شرائع الإسلام ظاهراً وباطناً باستحضار مشاهدة الله أو مراقبته للعبد.
وهذا القيام تحقق بمرتبة الإحسان المذكورة في حديث جبريل المتقدم.
وحديث الباب يتعلق بالمرتبة الثانية.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن من حسن وكمال إيمان الإنسان تركه ما لا يهمه ولا يعنيه في دنياه وآخرته من أقوال أو أعمال.
والذي لا يعني العبد: هو ما لا يحتاج إليه في القيام بما أمِرَ به من عبادة الله.
والذي لا يعني العبد أفراده كثيرة لكن يمكن ردها إلى أربعة أصول:
أولها: المحرمات، وثانيها: المكروهات، وثالثها: المشتبهات لمن لم يتبينها، ورابعها: فضول المباحات وهي ما زاد عن حاجة العبد منها.
قال ابن رجب: وإذا حسُن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم، إذا كمُل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، فمن عبد الله عن استحضار قربه ومشاهدته بقلبه أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله، وترك كل ما يستحيى منه.
وقال ابن القيم: قد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
قال ابن تيمية رحمه الله: ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه.
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: إن من لم يترك ما لا يعنيه، فإنه مسيء في إسلامه.
اذكر بعض أقوال السلف؟
قال الغزالي: علاج ترك ما لا يعني أن يعلم أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة تكلم بها، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكته يقدر على أن يقتنص - أي يصطاد- بها الحور العين، فإهماله وتضييعه فيما لا يعنيه خسران مبين.
وقال الحسن: من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.
وقال معروف الكرخي: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله تعالى.
وقال مالك بن دينار: إذا رأيت قساوة في قلبك، وضعفاً في بدنك، وحرماناً في رزقك، فاعلم أنك قد تكلمت فيما لا يعنيك.
وقيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وقال يونس بن عبيد: ترك كلمة فيما لا يعني أفضل من صوم يوم.
وقال الشافعي: ثلاثة تزيد في العقل: مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعني.
وقال أيضاً: من أراد أن ينور الله قلبه فليترك الكلام فيما لا يعنيه.
ماذا نستفيد من الحديث بالمفهوم؟
أن من لم يترك ما يعنيه فإسلامه ليس بحسن.
وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام.
كما في قوله تعالى (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
وقال تعالى (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
وقال تعالى (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
قال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذْكر سمع الله لك، وإذا سكت فاذكر نظره إليك.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- ينبغي للمسلم أن ينشغل بما يعنيه وينفعه.
- اغتنام الحياة بالعمل الصالح.
- أن الإيمان يزيد وينقص.
- ينبغي للإنسان أن يدع ما لا يعنيه؛ لأن ذلك أحفظ لوقته، وأسلم لدينه.
- ترك اللغو والفضول دليل على كمال إسلام المرء.
- الحث على استثمار الوقت بما يعود على العبد بالنفع.
- البُعد عن سفاسف الأمور ومرذولها.
- التدخل فيما لا يعني يؤدي إلى الشقاق بين الناس.
- الحديث أصل عظيم للكمال الخلقي، وزينة للإنسان بين ذويه وأقرانه.
1476 -
وَعَنْ اَلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
===
(شَرًّا مِنْ بَطْنٍ) أي: أشد ضرراً عليه من ملء بطنه.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد ذم الشبع.
قال الصنعاني: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّوَسُّعِ فِي الْمَأْكُولِ وَالشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَرٌّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ فُضُولَ الطَّعَامِ مَجْلَبَةٌ لِلسَّقَامِ وَمُثَبِّطَةٌ عَنْ الْقِيَامِ بِالْأَحْكَام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٍ يُقِمْنِ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاْ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ).
وعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ! لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُول (المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) رواه البخاري ومسلم.
يقول النووي في شرح هذا الحديث: قال العلماء: ومقصود الحديث التقليل من الدنيا، والحث على الزهد فيها والقناعة، مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجل، وكثرة الأكل بضده، وأما قول ابن عمر فى المسكين الذى أكل عنده كثيرا:" لا يدخلن هذا علي "، فإنما قال هذا لأنه أشبه الكفار، ومن أشبه الكفار كرهت مخالطته لغير حاجة أو ضرورة؛ ولأن القدر الذى يأكله هذا يمكن أن يسد به خلة جماعة " انتهى.
اذكر بعض الأقوال في ذم الشبع؟
الشّبَع مذموم، فهو يكسل عن العبادة، فعلى العبد أن لا يكثر الأكل والشرب حتى لا يغلبه النوم ويثقل عليه القيام.
ولذلك قيل: لا تأكل كثيراً، فتشرب كثيراً، فتنام كثيراً، فتتحسر كثيراً؟
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع في الآخرة).
قال عمر: إياكم والبطنة، فإنها ثقل في الحياة ونتن في الممات.
وقال لقمان لابنه: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقال أبو سليمان الداراني: من شبع دخل عليه ست آفات: فقْد حلاوة المناجاة، وتعذر عليه حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلْق، لأنه إذا شبع ظن الخلق كلهم شباعاً، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات.
وقال أيضاً: إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت، عمي القلبُ.
وقال: مفتاحُ الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وأصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله.
وقال محمد بن واسع: من قلّ طُعْمه فهِم وأفْهم وصفَى ورقّ.
وقال عمرو بن قيس: إياكم والبطنة، فإنها تقسي القلب.
وقال الحسن البصري: كانت بلية أبيكم آدم أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إذا أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل.
وقال إبراهيم بن أدهم: من ضبط بطنه ضبط دينه.
وقال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل وكثرة النوم.
وقال مالك بن دينار قال: ما ينبغي للمؤمن أنْ يكونَ بطنه أكبرَ همه، وأنْ تكونَ شهوته هي الغالبة عليه.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان يُقال: قِلة الطعام عونٌ على التسرُّع إلى الخيرات.
وعن قثم العابد قال: كان يُقال: ما قلَّ طعمُ امرئٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه، ونديت عيناه.
وقال الشافعي: ما شبعتُ منذ ستَّ عشرةَ سنة إلا شبعة اطرحتها؛ لأنَّ الشبع يُثقِلُ البدن، ويُزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
وقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا امْتَلَأَتْ الْمِعْدَةُ نَامَتْ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتْ الْحِكْمَةُ وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَة.
قَالَ ذُو النُّونِ: مَا شَبِعْت قَطُّ إلَّا عَصَيْت أَوْ هَمَمْت بِمَعْصِيَةٍ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشِّبَعُ.
اذكر بعض فوائد الجوع؟
قال ابن رجب: وأما منافِعُه بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإنَّ قلةَ الغذاء توجب رِقَّة القلب، وقوَّة الفهم، وانكسارَ النفس، وضعفَ الهوى والغضب، وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك.
وقال الصنعاني:
…
فَفِي الْجُوعِ صَفَاءُ الْقَلْبِ وَإِيقَادُ الْقَرِيحَةِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةِ وَيُعْمِي الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الْبُخَارَ فِي الْمَعِدَةِ وَالدِّمَاغِ كَشَبَهِ السُّكْرِ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ فَيَثْقُلُ الْقَلْبُ بِسَبَبِهِ عَنْ الْجَرَيَانِ فِي الْأَفْكَارِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ كَسْرُ شَهْوَةِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَإِنَّ مَنْشَأَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَوَاتُ.
وَيُقَالُ: الْجُوعُ خِزَانَةٌ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ وَأَوَّلُ مَا يَنْدَفِعُ بِالْجُوعِ شَهْوَةُ الْفَرْجِ وَشَهْوَةُ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْجَائِعَ لَا تَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ فُضُولِ الْكَلَامِ، فَيَتَخَلَّصُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَلَا يَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ الْفَرْجِ فَيَخْلُصُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
وَمِنْ فَوَائِدِهِ قِلَّةُ النَّوْمِ، فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ طَوِيلًا وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ خُسْرَانُ الدَّارَيْنِ وَفَوَاتُ كُلِّ مَنْفَعَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّة.
1477 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ اَلْخَطَّائِينَ اَلتَّوَّابُونَ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ ..
===
ما صحة حديث الباب؟
سنده قوي كما قال المصنف رحمه الله.
وقد ضعف الحديث جماعة.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه لا يسلم أحد من الخطأ والذنب، لكن أفضل هؤلاء من يتوب ويرجع إلى الله.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (لو لم تذنبوا لذهب بكم ولجاء بقوم
…
).
وقد قال تعالى (يا عبادي إنكم تذنبون بالليل
…
).
ما الحكمة من وقوع الإنسان في المعصية؟
قال ابن تيمة: وإذا ابتلى العبد بالذنب، وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه، ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده:
أن ذلك يزيده عبودية وتواضعاً وخشوعاً وذلاً ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
وذلك أيضاً يدفع عنه العُجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان.
وهو أيضاً يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة.
وهو أيضاً يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم).
وهو أيضاً يبين قوة حاجة العبد إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته، وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له، فإن من ذاق مرارة الابتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته، كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك. ولهذا قال بعضهم كان داود صلى الله عليه وسلم بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة. وقال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.
ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب.
وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائباً من الذنب، كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) ثم قال (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة. 2/ 431 - 433
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين مبيناً الحكمة في ذلك:
السابع: مشهد الحكمة:
هو أن يشهد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئته أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه، وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة، لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها: أنه يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها، قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية: قضى له بالتوبة.
الثاني: تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع: استجلابه من العبد استعانته به، واستعاذته به من عدوه، وشر نفسه، ودعاءه، والتضرع إليه، والابتهال بين يديه.
الخامس: إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته، شمخ بأنفه وظن أنه وأنه .. فإذا ابتلاه بالذنب: تصاغرت عنده نفسه، وذلّ، وتيقن، وتمنى أنه وأنه.
السادس: تعريفه بحقيقة نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير: فمن الله، منَّ به عليه، لا من نفسه.
السابع: تعريفه عبده سعة حلمه، وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يَصْفُ له معهم عيش.
الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه، ومغفرته.
التاسع: تعريفه كرمه في قبول توبته، ومعرفته له، على ظلمه وإساءَته.
العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذبته فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه.
الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلاتهم معه، بما يحب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه، ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمر الله فيهم، فيقيم أمره فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر: أن يعريه من رداءِ العجب بعمله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا، لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ؛
الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك، ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية، وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر: أن يعرف مقداره، مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته، فإن من تربى في العافية، لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا، لا يحصل بدون التوبة، وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله، لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير، على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله، لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه: أضعاف، أضعاف ما يفعله؛ فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان، ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافياً.
العشرون: أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.
الثاني والعشرون: أنه يرفع عنه حجاب الدعوى، ويفتح له طريق الفاقة، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب.
الثالث والعشرون: أن تكون في القلب أَمراض مزمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها، فيَمُن عليه اللطيف الخبير، ويقضي عليه بذنب ظاهر، فيجد أَلم مرضه، فيحتمى، ويشرب الدواءَ النافع، فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها.
ما شروط التوبة؟
أحَدُها: أنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ.
قال ابن القيم: فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
والثَّانِي: أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا.
قال ابن القيم: فأما الندم، فإنه لا تتحقق التوبة إلا به، إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به، وإصراره عليه، وفي المسند (الندم توبة).
والثَّالثُ: أنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَداً. فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ.
يعزم عزماً مؤكداً أن لا يعود إليها مرة أخرى في المستقبل.
اذكر فضائل التوبة؟
أولاً: أنها سبب لمحبة الله.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
ثانياً: أنها طاعة ومرادة لله تعالى.
قال تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ).
ثالثاً: أن التوبة سبب الفلاح، والفوز بسعادة الدارين:
قال تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه.
رابعاً: بالتوبة تكفر السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
خامساً: بالتوبة تبدل السيئات حسنات: فإذا حسُنت التوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات.
قال تعالى (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).
وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فَرِحَ بشيء فَرَحَهُ بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ).
سادساً: التوبة سبب للمتاع الحسن، ونزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين.
قال تعالى (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).
وقال تعالى على لسان هود عليه السلام (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِين).
وقال على لسان نوح عليه السلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).
سابعاً: سبب لفرح الله تعالى.
عن أنس. قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ) مُتَّفَقٌ عليه.
1478 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلصَّمْتُ حِكْمَةٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ) أَخْرَجَهُ اَلْبَيْهَقِيُّ فِي" اَلشُّعَبِ" بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ اَلْحَكِيمِ.
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح كما قال المصنف رحمه الله.
ما تعريف الصمت؟
قال الكفوي: والصمت إمساك عن قوله الباطل دون الحق.
السكوت إمساك عن الكلام حقًّا كان أو باطلًا، أما الصمت فهو إمساك عن قول الباطل دون الحق.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الصمت، وأنه من الحكمة.
ما المراد بالصمت في الحديث؟
المراد الصمت المحمود، وهو الصمت عن الباطل.
قال ابن عبد البر: وإنما الصمت المحمود الصمت عن الباطل.
وقال العيني: الصمت المباح المرغوب فيه ترك الكلام الباطل، وكذا المباح الذي يجرُّ إلى شيء من ذلك.
وليعلم أن الكلام الصادر من الإنسان ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يكون خيراً، فإنه يقوله بعد تفكر وتأمل.
الثاني: أن يكون شراً، فإنه لا يقوله.
الثالث: أن يكون مباحاً، فالصمت أفضل، لأنه قد يجر الكلام المباح إلى حرام.
قال ابن عبد البر: الكلام بالخير من ذكر الله وتلاوة القرآن وأعمال البر أفضل من الصمت، وكذلك القول بالحق كله، والإصلاح بين الناس وما كان مثله.
وقال أيضًا: مما يبين لك أنَّ الكلام بالخير والذكر أفضل من الصمت أن فضائل الذكر الثابتة في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحقها الصامت.
وقال النيسابوري: والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة، لأنَّه أمر عدمي، والنطق في نفسه فضيلة، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل، فيرجع الحق إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأً قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم.
وقال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم، كما لا خير في الكلام عن الجهل.
وقال ابن تيمية: فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها.
اذكر ما ورد في فضل الصمت؟
من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر أن يقول خيراً أو ليسكت.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ) متفق عليه.
ومن أسباب النجاة.
قال صلى الله عليه وسلم (من صمت نجا) رواه الترمذي.
قال القاري: من صمت): أي: سكت عن الشرِّ. (نجا): أي: فاز وظفر بكل خير، أو نجا من آفات الدارين.
قال الغزالي: (من تأمل جميع
…
آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم، وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم:(من صمت نجا) لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب، وهي على طريق المتكلم، فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه، إلا أن يوافقه لسان فصيح، وعلم غزير، وورع حافظ، ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام؛ فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم، فكن ممن سكت فسلم، فالسلامة إحدى الغنيمتين).
والصمت هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ، قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ، وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَيَضْحَكُونَ، وَرُبَّمَا تَبَسَّم).
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاه).
عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ، وَمَنْ كَثُرَ مِزَاحُهُ اسْتُخِفَّ بِهِ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ، وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُه.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الْكَلَامِ بِحَسْبِ الرَّجُلِ أَنْ يَبْلُغَ حَاجَتَه.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: "إِنَّ حَقَّ مَا طَهَّرَ الْإِنْسَانُ لِسَانَه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أفضل العبادة الصمت، وانتظار الفرج.
وعن عقيل بن مدرك يرفعه إلى أبي سعيد (أن رجلًا أتاه، فقال: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وعليك بالصمت، فإنك به تغلب الشيطان)(9).
وعن أبي الذيَّال، قال: تعلَّم الصمت كما تعلم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك، ألا في الصمت خصلتان: تدفع به جهل من هو أجهل منك، وتعلم به من علم من هو أعلم منك (10).
وعن حبيب بن عيسى، قال: كان ابن مريم يقول: ابن آدم الضعيف؛ علم نفسك الصمت كما تعلمها الكلام، وكن مكينًا) حتى تسمع، ولا تكن مضحاكًا في غير عجبٍ، ولا هشًّا في غير أربٍ.
وقال لقمان لابنه: يا بني، إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، إني ندمت على الكلام مرارًا، ولم أندم على الصمت مرة واحدة. (4).
وتكلم أربعة من حكماء الملوك بأربع كلمات كأنها رمية عن قوس: فقال ملك الروم: أفضل علم العلماء السكوت. وقال ملك الفرس: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها. وقال ملك الهند: أنا على ردِّ ما لم أقل أقدر مني على ردِّ ما قلت. وقال ملك الصين: ندمت على الكلام، ولم أندم على السكوت (15).
وقد قال بعض الصالحين: الزم الصمت يكسبك صفو المحبة، ويأمنك سوء المغبة، ويلبسك ثوب الوقار، ويكفك مؤنة الاعتذار. وقيل: الصمت آية الفضل، وثمرة العقل، وزين العلم، وعون الحلم؛ فالزمه تلزمك السلامة.
ما هو الصمت المذموم؟
قال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم، كما لا خير في الكلام عن الجهل.
وقال ابن تيمية: والصمت عما يجب من الكلام حرام، سواء اتخذه دينًا أو لم يتخذه.
وقال أيضًا: فقول الخير وهو الواجب أو المستحب خير من السكوت عنه.
وقال الباجي: وأما الصمت عن الخير وذكر الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليس بمأمور به، بل هو منهي عنه نهي تحريم، أو نهي كراهة.
وقال العيني: والصمت المنهي عنه ترك الكلام عن الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح الذي يستوي طرفاه.
بَابُ اَلرَّهَبِ مِنْ مَسَاوِئِ اَلْأَخْلَاقِ
1479 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ اَلْحَسَدَ يَأْكُلُ اَلْحَسَنَاتِ، كَمَا تَأْكُلُ اَلنَّارُ اَلْحَطَبَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
1480 -
وَلِابْنِ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ ..
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح.
عرف الحسد.
الحسد: تمني زوال نعمة الله عن الغير، سواء تمنى كونها له أو لغيره، أو مجرد زوالها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحسد كراهة نعمة الله على الغير.
ما حكم الحسد؟
حرام.
قال صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا).
قال ابن رجب: قوله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا) يعني: لا يحسُدْ بعضُكم بعضاً، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر، وهو أنَّ الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ منْ جنسهِ في شيءٍ من الفضائل.
وهو كان ذنبَ إبليس حيث حسدَ آدم عليه السلام لمَّا رآه قد فاق على الملائكة بأنْ خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكتَه، وعلَّمه أسماء كلِّ شيءٍ، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنَّة حتَّى أخرج منها، ويروى عن ابن عمرَ أنَّ إبليسَ قال لنوح: اثنتان بهما أُهلك بني آدم: الحسد، وبالحسد لُعِنتُ وجُعلتُ شيطاناً رجيماً، والحرص وبالحرص أُبيح آدمُ الجنةَ كلَّها، فأصبتُ حاجتي منه بالحرص. خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا.
وقد وصف الله اليهودَ بالحسد في مواضع من كتابه القرآن، كقوله تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ).
وقوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). (جامع العلوم).
اذكر مفاسد الحسد؟
أولاً: أنه من صفات اليهود.
كما قال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
وكما في قوله تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
ثانياً: أنه من الإيذاء وتعد على المسلم.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
قال صلى الله عليه وسلم (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا) متفق عليه.
رابعاً: أنه اعتراض على قضاء الله وقدره وحكمته في تقسيمه الأرزاق بين عباده.
قال بعض السلف: تأملت هذه الآية (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
…
) فتركت الحسد.
خامساً: لا يعود على الحاسد إلا بالهم والغم.
وقد قيل: لله در الحسد ما أعدله .... عاد على صاحبه فقتله.
سادساً: أنه عدو لنعم الله.
قال ابن القيم:
…
فالحاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله تعالى، وعند الناس. ولا يسود أبدا، ولا يواسى فإن الناس لا يسوّدون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم. فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسوّدونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها. فهم يبغضونه وهو يبغضهم.
سابعاً: أن الحسد سبب لإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس.
ثامناً: أنه كبيرة من الكبائر، ومن صفات إبليس لعنه الله فهو الذي حسد آدم لشرفه.
ما فضل السلامة من الحسد؟
أولاً: أن تركه من علامة كمال الإيمان.
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل؟ قال (المؤمن النقي القلب، ليس فيه غل ولا حسد) رواه ابن ماجه.
ثانياً: أن الله أثنى على الأنصار بذلك.
قال تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أوتوا).
اذكر بعض أقوال السلف في الحسد؟
قال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك. فقال: تركتُ الحسد فبقيت.
وقال معاوية: كل إنسان أقدر على أن أرضيه، إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: غم دائم ونفس متتابع.
وقيل رأى موسى عليه السلام، رجلاً عند العرش فغبطه، فقال: ما صفته؟ فقيل: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، يَعْنِي حَسَدَ إبْلِيسَ لِآدَمَ عليه السلام، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي حَسَدَ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ حَتَّى قَتَلَهُ.
وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ فِي خِصَالِ الشَّرِّ أَعْدَلُ مِنْ الْحَسَدِ، يَقْتُلُ الْحَاسِدَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَحْسُودِ.
وقال لابنه: يا بني! إياك والحسد، فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.
وعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً، قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم.
وقيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: لا أم لك، أنسيت إخوة يوسف، لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه.
وقال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار.
قال الشاعر:
كل العداواة قد تُرجَى إماتتها إلا عداوةَ من عاداك من حسدِ.
وقال الخليل بن أحمد: لا شيء أشبه بالمظلوم من الحاسد.
وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً، يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي.
وقال عون بن عبد الله: إياك والكبْر، فإنه أول ذنب عصيَ الله به ثم قرأ (وإذ قلنا للملائكة
…
) وإياك والحرص، فإنه أخرج آدم من الجنة ثم قرأ (اهبطوا منها) وإياك والحسد، فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق).
قال بعض العلماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أولها: قد أبغض كل نعمة قد ظهرت على غيره، والثاني: سخط لقسمته كأنه يقول لربه: لم قسمت هكذا؟ والثالث: أنه ضن بفضله، يعني أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله، والرابع: خذل ولي الله، لأنه يريد خذلانه وزوال النعمة عنه، والخامس: أعان عدوه يعني إبليس لعنه الله.
قال بعض العلماء: ليس شيء من الشر أضر من الحسد، لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه:
أولها: غم لا ينقطع.
والثاني: مصيبة لا يؤجر عليها.
والثالث: مذمة لا يحمد عليها.
والرابع: يسخط عليه الرب.
والخامس: تغلق عليه أبواب التوفيق.
قال القرطبي: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيَتْبَع مساوئه ويطلب عَثَراته، قال صلى الله عليه وسلم: " إِذا حَسَدت فلا تَبْغِ
…
" الحديث، والحسد أوّل ذنب عُصِي الله به في السماء، وأول ذنب عُصِي به في الأرض، فحسَدَ إبليس آدَمَ، وحسد قابيلُ هابيل، والحاسد ممقوت مبْغوض مطرود ملعون.
وقال رحمه الله: وأمر نبيُّه صلى الله عليه وسلم أن يتعوَّذ من جميع الشرور، فقال:(مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) وجعل خاتمة ذلك الحسد تنبيهًا على عِظَمه، وكثرة ضرره.
وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لَعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جَزَعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حُزْناً واحتراقاً، ولا ينال من الله إلا بعداً ومقتاً .... (الجامع للقرطبي).
الحسد ثلاث مراتب اذكرها؟
أحدها: أن يحسد ويقوم بمقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم.
والثاني: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبداً إلا قهراً.
والثالث: حسد الغبطة، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها الناس) فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
وقال ابن رجب: ثم ينقسم الناس [أي في الحسد] بعدَ هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل، ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه، ومنهم من يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثهما، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه.
وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ. وقد رُوي عن الحسن أنَّه لا يأثمُ بذلك، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين:
أحدهما: أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه، فيكون مغلوباً على ذَلِكَ، فلا يأثمُ به.
والثاني: من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية، وفي العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء، وربما يُذكر في موضعٍ آخر إنْ شاء الله تعالى، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم بذلك.
وقسم آخر إذا حسد لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنَّى أنْ يكونَ مثله.
فإن كانتِ الفضائلُ دنيويَّةً، فلا خيرَ في ذلك، كما قال الَّذينَ يُريدُونَ الحياةَ الدُّنيا (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ).
وإنْ كانت فضائلَ دينيَّةً، فهو حسن.
وقد تمنَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّهادة في سبيل الله عز وجل وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال (لا حسدَ إلاَّ في اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ مالاً، فهو يُنفقه آناء الليل وآناء النَّهار، ورجلٌ آتاهُ اللهُ القرآن، فهو يقومُ به آناء اللَّيل وآناءَ النَّهار)، وهذا هو الغبطة، وسماه حسداً من باب الاستعارة.
وقسم آخر إذا وجدَ من نفسه الحسدَ سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداءِ الإحسان إليه، والدُّعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وَجَدَ له في نفسه مِنَ الحسدِ حتّى يبدلَه بمحبَّة أنْ يكونَ أخوه المسلمُ خيراً منه وأفضلَ، وهذا مِنْ أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمنُ الكاملُ الذي يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ
لنفسه، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). (ابن رجب).
ما كيفية السلامة الحسد؟
إخفاء النعمة.
قال ابن القيم: إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له.
وقد قال يعقوب ليوسف (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم. (بدائع الفوائد).
وقال رحمه الله: ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره واللجوء والتحصن به واللجوء إليه وهو المقصود بهذه السورة.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً).
السبب الثالث: الصبر على عدوه وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه.
السبب الرابع: التوكل على الله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه بل انعزل عنه لم يقدر عليه فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر.
السبب السادس: وهو الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه فإن الله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه فإن لذلك تأثيرا عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد وكانت له فيه العاقبة الحميدة فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية وحصن حصين وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز وجل (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقال (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم "أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك " صحيح فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلا واشتغالا به عن غيره. (بدائع الفوائد)
1481 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ اَلشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا اَلشَّدِيدُ اَلَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ اَلْغَضَبِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
ما معنى (لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ)؟
أي: الذي يصرع الناس كثيراً بقوته، وقد جاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال ما هذا قالوا فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه قال أفلا أدلكم على من هو أشد منه رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه. رواه البزار بسند حسن
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد التحذير من الغضب، وأن الشديد حقيقة هو من يملك نفسه عند الغضب.
وقد جاءت الأحاديث في التحذير من الغضب.
عن سُلَيْمَانَ بن صُرَدٍ رضي الله عنه، قَالَ (كُنْتُ جالِساً مَعَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ، وَأَحَدُهُمَا قدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذ باللهِ منَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، ذَهَبَ منْهُ مَا يَجِدُ)). فَقَالُوا لَهُ: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((تَعَوّذْ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيم)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وعن معاذِ بنِ أَنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَال (مَنْ كَظَمَ غَيظاً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ سبحانه وتعالى عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ العِينِ مَا شَاء) رواه أَبو داود والترمذي، وَقالَ: حديث حسن.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه (أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني. قَالَ: ((لا تَغْضَبْ)) فَرَدَّدَ مِراراً، قَالَ:((لَا تَغْضَب) رواه البخاري.
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب)؟
قال السعدي: والنهي عن الغضب في قوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب) يتضمن أمرين عظيمين:
أحدهما: الأمر بفعل الأسباب، والتمرن على حسن الخلق، والحلم والصبر. (النهي عن تعاطي الأسباب الموصلة إليه من كل ما يحمل الغضي ويهيجه).
والثاني: الأمر - بعد الغضب - أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه.
اذكر أقسام الغضب؟
الغضب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مذموم.
وهو الغضب الدنيوي الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث السابقة.
القسم الثاني: وهو محمود.
ما كان لله وللحق.
قالت عائشة (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله) متفق عليه.
وغضب صلى الله عليه وسلم لما شكيَ إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه، غضب واشتد غضبه ووعظ الناس وأمر بالتخفيف.
ما علاج الغضب؟
أولاً: الاستعاذة بالله من الشيطان.
لحديث سُلَيْمَانَ بن صُرَدٍ رضي الله عنه السابق قَالَ صلى الله عليه وسلم (إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذ باللهِ منَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، ذَهَبَ منْهُ مَا يَجِدُ).
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله، سكن غضبه).
ثانياً: السكوت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا غضب أحدكم فليسكت) رواه أحمد.
قال ابن رجب: وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيراً، من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله: ما امتلأتُ غضباً قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت.
ثالثاً: السكون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) رواه أحمد.
قال العلامة الخطابي رحمه الله في شرحه على أبي داود: (القائم متهيئ للحركة والبطش، والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد).
رابعاً: تذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: لا تغضب.
كما في حديث أبي هريرة السابق (لا تغضب).
وقد جاء في رواية قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم، ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
خامساً: تجنبه من أسباب دخول الجنة.
فقد جاء في رواية لحديث أبي هريرة (لا تغضب ولك الجنة) وعزاه ابن حجر إلى الطبراني.
سادساً: الأجر العظيم لمن كظم غيظه.
للحديث السابق (من كظم غيظاً وهو قادر على
…
).
سابعاً: معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه.
لحديث الباب (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وقال صلى الله عليه وسلم (الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه، ويقشعر شعره فيصرع غضبه) رواه الإمام أحمد.
وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضّح هذا الأمر.
فعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال: أفلا أدلكم على من هو أشد منه، رجلٌ ظلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه). رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن
ثامناً: التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب.
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهو أسوتنا وقدوتنا، واضحة في أحاديث كثيرة، ومن أبرزها:
حديث أنس رضي الله عنه قال (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم (ما بين العنق والكتف) وقد أثرت بها حاشية البرد، ثم قال: يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء) متفق عليه.
تاسعاً: معرفة أن رد الغضب من علامات المتقين.
قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين).
ومن أخلاقهم أنهم (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).
عاشراً: دعاء الله.
كان من دعائه عليه السلام (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى
…
).
قال الحافظ ابن رجب: وأما قوله (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا) فعزيز جداً، وقد مدح الله من يغفر عند غضبه فقال (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) لأن الغضب يحمل صاحبه على أن يقول غير الحق، ويفعل غير العدل، فمن كان لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، دل ذلك على شدة إيمانه وأنه يملك نفسه.
ثم قال رحمه الله: فإن من لا يملك نفسه عند الغضب إذا غضب قال فيمن غضب عليه ما ليس فيه من العظائم، وهو يعلم أنه كاذب.
اذكر بعض أقوال السلف في ذم الغضب؟
قال أحد السلف: إياك والغضب، فإنه يصيرك إلى ذل الاعتذار.
وقال بعضهم: عجباً لمن قيل فيه السوء وهو فيه كيف يغضب!، وعجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح!
وقال مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئاً إلا ندمت عليه في الرضا.
وكان الشعبي ينشد:
ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب
وكان ابن عون إذا اشتد غضبه على أحد قال: بارك الله فيك ولم يزد.
وقال الفضيل بن عياض: أنا منذ خمسين سنة أطلب صديقاً إذا غضب لا يكذب عليّ ما أجده.
وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر.
وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة: قال: ترك الغضب.
وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل منهم فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه.
وممن اشتهر بالحلم وعدم الغضب الأحنف بن قيس وكان يقال: أحلم من أحنف.
فائدة:
نبذة من أقوال وقصص الأحنف بن قيس:
قال ابن المبارك: قيل للأحنف بم سودوك؟ قال: لو عاب الناس الماء لم أشربه.
وقال خالد بن صفوان: كان الأحنف يفر من الشرف والشرف يتبعه.
وقيل للأحنف: إنك كبير والصوم يضعفك. قال: إني أعده لسفر طويل.
قال مغيرة: ذهبت عين الأحنف فقال: ذهبت من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد.
قال الحسن: ذكروا عن معاوية شيئاً فتكلموا، والأحنف ساكت. فقال: يا أبا بحر! مالك لا تتكلم؟ قال: أخشى الله إن كذبت، وأخشاكم إن صدقت.
وعن الأحنف: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر.
قيل: عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة.
قال سليمان التيمي: قال الأحنف: ثلاث فيّ ما أذكرهن إلا لمعتبر: ما أتيت باب سلطان إلا أن أدعى، ولا دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما، وما أذكر أحداً بعد أن يقوم من عندي إلا بخير.
وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت أمري بأمور: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وقال لست بحليم ولكني أتحالم.
وقيل: إن رجلاً خاصم الأحنف، وقال: لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً، فقال: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدة.
وقيل: إن رجلاً قال للأحنف: بم سدت؟ وأراد أن يعيبه، قال الأحنف: بتركي ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وعن الأحنف قال: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: شريف من دنيء، وبر من فاجر، وحليم من أحمق.
وسئل ما المروءة؟ قال: كتمان السر، والبعد عن الشر، والكامل من عدت سقطاته.
وعنه قال: رأس الأدب آلة المنطق، لا خير في قول بلا فعل، ولا في منظر بلا مخبر، ولا في مال بلا جود، ولا في صديق بلا وفاء، ولا في فقه بلا ورع، ولا في صدقة إلا بنية، ولا في حياة إلا بصحة وأمن.
ورأى الأحنف في يد رجل درهماً، فقال: لمن هذا؟ قال لي، قال: ليس هو لك حتى تخرجه في أجر أو اكتساب شكر .. وتمثل:
أنت للمال إذا أمسكته *** فإذا أنفقته فالمال لك
وقيل: كان الأحنف إذا أتاه رجل وسع له، فإن لم يكن له سعة أراه كأنه يوسع له.
وعنه قال: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام؛ إني أبغض الرجل يكون وصافاً لفرجه وبطنه.
وقيل: إنه كلم مصعباً في محبوسين قال: أصلح الله الأمير! إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل يسعهم، وإن كانوا حبسوا في الحق فالعفو يسعهم.
وعنه قال: لا ينبغي للأمير الغضب، لأن الغضب في القدرة مفتاح السيف والندامة.
وعنه قال: لا يتم أمر السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفة.
1482 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1483 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اِتَّقُوا اَلظُّلْمَ، فَإِنَّ اَلظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا اَلشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
- (اتَّقُوا الظُّلْمَ) أي: اجعلوا بينكم وبينه وقاية تمنعكم من الوقوع فيه.
(فَإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ) هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه، لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم.
(فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) وفي رواية (وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُم)(حَمَلَهُمْ) أي: أغراهم الشح. (عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُم) هذا هو الهلاك الذي حمل عليه الشح.
(وَاتَّقُوا الشُّحَّ) وهو أشد من البخل، وأبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم الظلم.
والظلم ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق وهو التفريط، والثاني: فعل ما يضر به وهو العدوان.
وقد جاءت نصوص كثيرة تبين تحريم الظلم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الظلم ظلمات يوم القيامة) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى:
…
فلا تظالموا).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يأخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه) رواه البخاري.
فيحرم على الإنسان أن يظلم غيره حقوقه.
قال ابن رجب: فظلمُ العباد شرٌّ مكتسب؛ لأنَّ الحق فيه لآدمي مطبوع عَلَى الشُّح، فلا يترك من حقه شيئًا، لاسيما مع شدة حاجته يوم القيامة، فإنَّ الأم تفرحُ يومئذ إذا كان لها حقٌّ عَلَى ولدها، لتأخذه منه.
ومع هذا، فالغالبُ أنَّ الظالم تُعجَّل له العقوبة في الدُّنْيَا وإنْ أُمهل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ).
قال بعضُ أكابر التابعين لرجل: يا مُفلس. فابتُلي القائل بالدَّين والحبس، بعد أربعين سنة.
وضَرب رجلٌ أباه وسحبه إِلَى مكان، فَقَالَ الَّذِي رآه: إِلَى ها هنا! رأيتُ هذا المضروب قد ضَرب أباه، وسحبه إِلَيْهِ.
ما وجه تحريم الظلم من قوله تعالى (إني حرمن الظلم وجعلته بينكم محرماً)؟
من وجهين:
الأول: أن الله عز وجل حرمه على نفسه، فإذا كان محرماً على الله مع كمال قدرته وسعة ملكه فحرمته على العبد أولى لظهور عجزه ونقص ملكهِ.
والآخر: أن الله جعله بيننا محرماً، فنهى عنه نهي تحريم.
ماذا نستفيد من قوله (واتقوا الشح)؟
نستفيد التحذير من الشح.
فهو سبب للظلم.
كما في حديث الباب.
قال صلى الله عليه وسلم (حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
وعند أبي داود (أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا).
وأخبر تعالى أن من وقي شح نفسه فقد أفلح.
فقال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والشُّح يُهلك صاحبه، وإذا شاع في المجتمعات مزقها وأهلكها.
قال صلى الله عليه وسلم (
…
وأما المهكات: فشحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه) رواه أحمد.
وهو مُنافٍ للإيمان.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا) رواه النسائي.
وهو شر خصال الرجل.
قال صلى الله عليه وسلم (شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع) رواه أبو داود.
وانتشاره من علامات الساعة.
قال صلى الله عليه وسلم (يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج).
قال ابن حجر-رحمه الله-عند قوله (ويلقى الشح) إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم؛ حتى يبخل العالم بعلمه فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير.
قال ابن القيم رحمه الله: الشح: هو شدّة الحرص على الشيء، والإخفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه.
والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله.
فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس؛ فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووُقِي شره، وذلك هو المفلح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وقال أيضاً: «الاقتصاد خلق محمود، يتولد من خلقين: عدل وحكمة
…
وهو وسط بين طرفين مذمومين، .... والشح: خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعاً، والهلع: شدة الحرص على الشيء والشره به .... » ا. هـ
قال ابن رجب: قال طائفةٌ من العُلَمَاء: الشحُّ هو الحرصُ الشديدُ الَّذِي يحمل صاحبَه عَلَى أن يأخذَ الأشياءَ من غير حلِّها ويمنعها من حقوقها.
والشح مغروز في النفس.
قال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وقال تعالى (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ).
وإضافتُهُ إلى النفسِ لأنَّه غريزةٌ فيها مقتضيةٌ للحرصِ على المنعِ الذي هو البخلُ، ولهذا قال تعالى (وأحضرت الأنفس الشح).
قال ابن عاشور: في قوله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأضيف في هذه الآية إلى النفس لأنه غريزة لا تسلم منها نفس.
قال الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأنفس أحضرت الشح أي: جعل شيئاً حاضراً لها كأنه ملازم لها لا يفارقها. لأنها جبلت عليه
…
وأشار في موضع آخر: أنه لا يفلح أحد إلا إذا وقاه الله شح نفسه وهو قوله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون) ومفهوم الشرط أن من لم يوق شح نفسه لم يفلح وهو كذلك، وقيده بعض العلماء بالشح المؤدي إلى منع الحقوق التي يلزمها الشرع، أو تقتضيها المروءة، وإذا بلغ الشح إلى ذلك، فهو بخل وهو رذيلة والعلم عند الله.
1484 -
وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اَلشِّرْكُ اَلْأَصْغَرُ: اَلرِّيَاءُ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
===
إلى كم قسم ينقسم الشرك؟
ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر.
ما الدليل على هذا التقسيم؟
ما صح عن شداد بن أوس قال (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرياء) رواه البزار وسنده حسن.
عرف الشرك الأكبر والأصغر؟
الأكبر: هو أن يسوي غير الله بالله في ما هو من خصائص الله.
والأصغر: هو ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر.
وقيل: هو جعل شيء من حقوق الله لغيره لا يخرج به العبد من الملة.
وقيل: هو كل وسيلة تكون ذريعة إلى الشرك الأكبر، قاله السعدي.
وقيل: ما ثبت شرعاً إطلاق اسم الشرك أو الكفر عليه، وعُلم من دلالات الشرع عدم خروج صاحبه من الدين.
ما الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر؟
الشرك الأكبر يخرج من الملة، والأصغر لا يخرج من الملة.
الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، والأصغر لا يخلد صاحبه فيها إن دخلها.
الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، والأصغر يحبط العمل الذي قارنه.
هل قوله (الشرك الأصغر) دليل على قلة أهميته؟
قد يفهم بعض الناس - من تسمية هذا الشرك أصغر - أنه سُميَ بذلك لقلة أهميته، وليس كذلك، ولكن لما كان بمقابل الأكبر سُميَ أصغر، وإلا فهو أعظم من الكبائر.
ما وجه الدلالة على شدة الخوف من الوقوع في الشرك الأصغر؟
من وجهين:
أ-الرسول صلى الله عليه وسلم تخوف من وقوعه تخوفاً شديداً.
ب-أنه صلى الله عليه وسلم تخوف من وقوعه في الصالحين الكاملين فمن دونهم من باب أولى.
قوله (الرياء) هل هذا من باب الحصر؟
قوله (الرياء) هذا من باب المثال لا من باب الحصر، إذ الشرك الأصغر أنواعه متعددة كالحلف بغير الله، وإنما اقتصر على الرياء لكثرة وقوعه ومشقة دفعه.
ماذا نستفيد من قوله (الرياء)؟
نستفيد خطر الرياء، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين، لأن النفوس مجبولة على حب الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلمه الله وعصمه.
عرف الرياء؟
قال ابن حجر: الرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية والمد وهو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها.
والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشتقة من سمع والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر.
اذكر خطر الرياء؟
أولاً: أنه محبط للعمل.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ
…
).
وقال سبحانه (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً)
قال ابن كثير: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرًا عن الصلاة التي لا يُرون فيها غالبًا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه). رواه مسلم وفي رواية ابن ماجه: (فأنا منه بريء وهو للذي أشرك).
فدل الحديث على بطلان العمل الذي وقع فيه شرك، ومن الشرك الرياء.
ثانياً: هو من صفات المنافقين.
قال تعالى في المنافقين (يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).
وقال سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
قال ابن كثير في قوله تعالى (فليعمل عملاً صالحاً) أي: ما كان موافقًا لشرع الله، وقوله (ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) وهو الذي يُراد به وجه الله تعالى وحده لا شريك له.
وقال جل شأنه (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).
قال مجاهد في معنى هذه الآية: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.
ثالثاً: هدد تعالى المرائين.
قال سبحانه موضحًا عقوبة المرائين يوم القيامة (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ).
رابعاً: أول من يقضى عليه يوم القيامة المرائي بعمله.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقَرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِي النَّارِ) رواه مسلم.
خامساً: أن الله يفضح المرائين.
كما في حديث سمرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ) رواه مسلم.
سادساً: يقال للمرائين يوم القيامة: اذهبوا اطلبوا الثواب ممن كنتم تراءون لهم.
عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) رواه الترمذي.
سابعاً: خافه النبي صلى الله عليه وسلم علينا.
عن أبي سعيد مرفوعاً (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) رواه أحمد.
ثامناً: لا يدخل الجنة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو داود.
تاسعاً: ليس له في الآخرة نصيب.
عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب) رواه احمد.
قال ابن تيمية: وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نِيَّاتُ الْأَعْمَالِ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. و " النِّيَّةُ " هِيَ مِمَّا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ رِيَاءَ النَّاسِ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)(الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)(الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) وَقَالَ (وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ فِي الَّذِي تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ قَارِئٌ وَاَلَّذِي قَاتَلَ لِيُقَالَ جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ. وَاَلَّذِي تَصَدَّقَ لِيُقَالَ جَوَادٌ وَكِرِيمٌ فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَدْحَ النَّاسِ لَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ لَهُمْ وَطَلَبَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ؛ لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُوَرُ أَعْمَالِهِمْ صُوَرًا حَسَنَةً فَهَؤُلَاءِ إذَا حُوسِبُوا كَانُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ فَلَهُ مِنْ عَمَلِهِ النَّارُ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ (مَنْ طَلَبَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَطْلُبُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسمِائَةِ عَامٍ) وَفِي " الْجُمْلَةِ " الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ خَبُثَتْ جُنُودُهُ. (الفتاوى).
وقال رحمه الله: وإذا كَانَتْ جَمِيعُ الْحَسَنَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَيْئَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ؛ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلشَّرِيعَةِ. فَهَذَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ؛ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إنَّ أَوَّلَ ثَلَاثَةٍ تُسْجَرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ: رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأهُ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ عَالِمٌ وَقَارِئٌ. وَرَجُلٌ قَاتَلَ وَجَاهَدَ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ شُجَاعٌ وَجَرِيءٌ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ وَأَعْطَى لِيَقُولَ النَّاسُ: جَوَادٌ سَخِيٌّ) فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ هُمْ بِإِزَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ كَانَ صِدِّيقًا، وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ تَصَدَّقَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ كَانَ صَالِحًا، وَلِهَذَا يَسْأَلُ الْمُفْرِطُ فِي مَالِهِ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أُعْطِيَ مَالًا فَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
قال ابن قدامة: اعلم أن أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وإذا فُصل رجع إلى ثلاثة أصول:
أولاً: حب لذة الحمد.
ثانياً: الفرار من ألم الذم.
ثالثاً: الطمع فيما في أيدي الناس.
اذكر بعض أقوال السلف في التحذير من الرياء؟
قال شداد بن أوس قال عند موته: إن أخوف ما أخاف عليكم: الرياء، الشهوة الخفية.
وقال سهل: لا يعرف الرياء إلا مخلص.
وقال ابن القيم: وكل ما لم يكن لله فبركته منزوعة.
وكان عكرمة يقول: أكثروا من النية الصالحة فإن الرياء لا يدخل النية.
وكان الثوري يقول: كل شيء أظهرته من عملي فلا أعده شيئاً.
وعن عبدة قال: إن أقرب الناس من الرياء آمنهم منه.
وقال الربيع بن خثيم: كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
وقال بشر بن الحارث: قد يكون الرجل مرائياً بعد موته، يحب أن يكثر الخلق بعد موته.
قال ابن رجب: ما ينظر المرائي إلى الخلق في عمله إلا لجهله بعظمة الخالق .. المرائي يزور التواقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه ويوهم أنه من خاصة الملك وهو ما يعرفه بالكليه
…
نقش المرائي على الدرهم الزائد اسم الملك ليروج والبهرج ما يجوز إلا على غير الناقد.
قال ابن القيم: أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص.
وقال: كل نفس يخرج في غير ما يقرب إلى الله، فهو حسرة على العبد في معاده، ووقفة له في طريق سيره، أو نكسة إن استمر، أو حجاب إن انقطع به
اذكر بعض أقوال ابن قدامة في التحذير من الرياء؟.
قال رحمه الله: اعلم أن أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وإذا فُصل رجع إلى ثلاثة أصول:
أولاً: حب لذة الحمد.
ثانياً: الفرار من ألم الذم.
ثالثاً: الطمع فيما في أيدي الناس
وقال رحمه الله: واعلم أن أكثر الناس إنما هلكوا لخوف مذمة الناس، وحب مدحهم، فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضى الناس، رجاء المدح، وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات.
وقال: ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي، يجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم.
وقال أيضاً: ومن الدواء النافع (في علاج الرياء) أن يعود نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها، كما نغلق الأبواب دون الفواحش، فإنه لا دواء في الرياء مثل إخفاء الأعمال. (مختصر منهاج القاصدين).
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: ثم تأملت العلماء والمتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة؛ لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب إما ليأخذ قضاء مكان، أو ليصير قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه، ثم يكتفي.
وقال ابن رجب: ومن علامات العلم النافع أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع.
فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.
وقال الذهبي: ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
وحكى الذهبي - رحمه الله تعالى - عن أبى الحسن القطان - رحمه الله تعالى - قوله: أُصبت ببصري، وأظن أنى عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة.
قال الذهبي: صدق والله، فقد كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام، وإظهار المعرفة، واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم، وسوء القصد ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص.
وقال أبو قلابة لأيوب السختياني: يا أيوب إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث لله عبادة، ولا يكونن همك أن تحدث به الناس.
وفي ترجمة ابن جريج: قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جريج: لمن طلبتم العلم؟!! كلهم يقول: لنفسي. غير أنَّ ابن جريج فإنَّه قال: طلبته للناس.
قال الذهبي رحمه الله تعليقًا على هذا الخبر: " قلت: ما أحسن الصدق، واليوم تسأل الفقيه الغبي لمن طلبت العلم؟ فيبادر ويقول: طلبته لله، ويكذب إنَّما طلبه للدنيا، ويا قلة ما عرف منه.
وقال عبد الله بن المعتز: علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله.
قال عمر بن الخطاب: من خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.
وكان من دعاء عمر: اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.
وقال ابن القيم: العمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجائهم للضر والنفع منهم: لا يكون من عارف بهم البتة، بل جاهل بشأنهم، وجاهل بربه، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله.
وقال: إن كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده، وقع في باطل مُقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده، حتى في الأعمال، من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن العمل لمن ضَره ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتليَ بالعمل لمن لا يملك له شيئاً من ذلك.
وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتُليَ بإنفاقه لغير الله وهو راغم.
وقال: الوقوف عند مدح الناس وذمهم: علامة انقطاع القلب وخلوه من الله وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه.
ما حكم العمل إذا خالطه الرياء؟
العبادة إذا اتصل بها الرياء لها أحوال:
أ-أن يكون الباعث على العبادة مراعاة الناس من الأصل، فهذا مبطل للعبادة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) رواه مسلم.
ب- أن يكون مشاركاً للعبادة في أثنائها، بمعنى: أن يكون الحامل له في أمره الإخلاص لله، ثم طرأ الرياء في أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالات:
الحالة الأولى: أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها، فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل، مثاله: رجل عنده مائة ريال، يريد أن يتصدق بها، فتصدق بخمسين منها صدقة خالصة ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقي، فالأولى صدقة صحيحة مقبولة، والخمسون الثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص.
الحالة الثانية: أن يرتبط أول العبادة بآخرها، فلا يخلو الإنسان حينئذٍ من أمرين:
أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه، فإنه لا يؤثر شيئاً.
أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه، فحينئذً تبطل جميع العبادة، لأن أولها مرتبط بآخرها.
الحالة الثالثة: أن يطرأ الرياء بعد انتهاء العبادة، فإنه لا يؤثر عليها ولا يبطلها، لأنها تمت صحيحة.
1485 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (آيَةُ اَلْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1486 -
وَلَهُمَا: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ: - وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ -.
===
(أربع) أي أربع خصال.
(منافقاً خالصاً) أي: شديد الشبه بالمنافقين بهذه الخصال.
(من كانت فيه خَلة) بفتح الخاء: هي الخصلة.
(كذب) الكذب الإخبار بخلاف الواقع.
(غدر) الغدر ترك الوفاء به.
(أخلف) أي لم يفعل ما وعد به.
(خاصم) أي: جادل.
(فجر) أي: مال عن الحق، والمراد هنا الشتم والرمي بالأشياء القبيحة والبهتان.
ما المراد بالنفاق في قوله (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ)؟
النفاق إظهار الإسلام وإخفاء الكفر.
وقد اختلف العلماء ما المراد بالنفاق في هذا الحديث، لأن هذه الصفات موجودة في كثير من المسلمين:
فقيل: معناه أن صاحب هذه الخصال شبيه بالمنافقين.
وقيل: المراد بالنفاق هنا النفاق العملي ورجحه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم فيّ شيئاً من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر إنما أراد نفاق العمل.
وقيل: المراد التحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد.
والراجح أن المراد بهذا النفاق في هذا الحديث النفاق العملي.
اذكر صفات المنافقين الواردة في حديث الباب؟
أولاً: الكذب في الحديث.
والكذب: الإخبار بخلاف الواقع، وهو محرم.
قال النووي: قد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على تحريم الكذب، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، وإجماع الأمة متفقة على تحريمه.
قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً).
ثانياً: إخلاف الوعد.
وهذا يدل على أن إخلاف الوعد محرم، لأنه من صفات المنافقين.
وقد تعالى (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ).
ثالثاً: الخيانة في الأمانة.
مثال: إذا أودعه إنساناً شيئاً، وطلب منه أن يحفظها، فيأتي هذا المودع عنده ويستعمل هذا الشيء أو يهملها فلا يحفظها، أو بأخذ ماله.
مثال آخر: يكون الإنسان ولياً على مال يتيم، فلا يقوم بالواجب، بل يهمل ماله، وربما يأخذه لنفسه.
رابعاً: إذا عاهد غدر.
أي حالف وعاهد على أمر غدر به، وهي قريبة من معنى (وإذا وعد أخلف).
خامساً: إذا خاصم فجر، أي إذا تخاصم مع شخص عند القاضي أو غيره.
والفجور في الخصومة على نوعين:
أولاً: أن يدعي ما ليس له.
والثاني: أن ينكر ما يجب عليه.
مثال: ادعى شخص على آخر عند القاضي: أنا أطلب هذا الرجل ألف ريال - وهو كاذب - وحلف على هذه الدعوى، وأتى بشاهد زور، فحكم له القاضي، فهذا خاصم ففجر، لأنه ادعى ما ليس له، وحلف عليه.
هناك صفات أخرى للمنافق غير هذه الصفات ذكرت في مواضع أخرى اذكرها؟
أولاً: الكسل عن الصلاة.
قال تعالى: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى).
ثانياً: التخلف عن صلاتي الفجر والعشاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر). متفق عليه
ثالثاً: قلة ذكر الله.
قال تعالى: (ولا يذكرون الله إلا قليلاً).
رابعاً: عدم الفقه في الدين.
قال تعالى: (ولكن المنافقين لا يفقهون).
خامساً: الاهتمام بالظاهر وإهمال الباطن.
قال تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم).
سادساً: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
قال تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف).
لماذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بصفات المنافقين؟
لأمرين:
الأول: أن نحذر من هذه الصفات الذميمة.
الثاني: لنحذر من يتصف بهذه الصفات.
إلى كم قسم ينقسم النفاق؟
إلى قسمين:
نفاق عملي: وهو الموجود بهذا الحديث، وهو ذنب عظيم.
نفاق اعتقادي: وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم - تكذيب بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - بغض الرسول - بغض بعض ما جاء به الرسول - المسرة لانخفاض دين الرسول - الكراهية لانتصار دين الرسول - وصاحبه في النار مخلد في الدرك الأسفل من النار.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
- التحذير من الاتصاف بصفات المنافقين.
- أن من النفاق ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة.
- الرد على الخوارج.
- الرد على المرجئة.
- النفاق شعب كما أن الإيمان شعب.
- أن الإيمان يزيد وينقص.
- ينبغي للمسلم أن يعرف صفات المنافقين لكي يتجنبها.
قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه
…
ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
- إنما كانت هذه من علامات المنافق، لأن أصل النفاق مبني على التورية والستر، يستر الخبيث ويظهر الطيب.
- فضيلة الصدق في الحديث.
- وفي الحديث (لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا).
- فضيلة الوفاء بالوعد ووجوبه.
- وقد أثنى الله على إسماعيل بذلك فقال تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً).
- الرد على من يقول إذا أراد أن يعد أحداً (يقول: أعدك وعداً غربياً) أي أعدك ولا أخلفك، وهذا كلام خطير، لأن الإيفاء بالوعد من أخلاق الإسلام وليس من أخلاق الغربيين.
- التحذير الشديد من هذه الخصال الأربع.
- أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق.
- أن الإيمان يزيد وينقص.
- أن النفاق شعب كما أن الإيمان شعب.
- أن عمل الباطن له علامات في الظاهر.
- وجوب الصدق في الحديث وتحريم الكذب.
- تحريم الخيانة والغش ووجوب النصح وتأدية الأمانة.
1487 -
وَعَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (سِبَابُ اَلْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(سباب) السباب بمعنى السب وهو الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه.
(فسوق) الفسق في اللغة الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله، وهو أشد من العصيان، قال تعالى (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
ماذا نستفيد من الحديث؟
تحريم سباب المسلم وشتمه وقتاله.
اذكر خطر اللعن؟
أن لعن المؤمن كقتله.
قال صلى الله عليه وسلم (ولعن المؤمن كقتله) متفق عليه.
وليس هو من صفات المؤمن.
قال صلى الله عليه وسلم (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي.
وسباب المسلم فسوق.
كما في حديث الباب (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
وكثرة اللعن من أسباب دخول النار.
قال صلى الله عليه وسلم (مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ! فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ).
واللعن ليس من صفات أهل الصدق والتقى.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا) رواه مسلم.
اللعن من أسباب عدم الشفاعة.
لحديث أَبِى الدَّرْدَاءِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم.
قال الصنعاني: والحديث إخبار بأن كثيري اللعن ليس لهم عند الله قبول شفاعة يوم القيامة، أي: لا يشفعون حين يشفع المؤمنون في إخوانهم.
ومعنى: ولا شهداء:
قيل: لا يكونون يوم القيامة شهداء على تبليغ الأمم رسلهم إليهم الرسالات.
وقيل: لا يكونون شهداء في الدنيا ولا تقبل شهادتهم لفسقهم لأن إكثار اللعن من أدلة التساهل في الدين.
وقيل: لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله. (سبل السلام).
اللعن - من حيث حكمه - ينقسم إلى أقسام اذكرها؟
أولاً: لعن المسلم الصالح: هذا حرام ومن الكبائر:
للأحاديث السابقة.
ثانياً: اللعن بالأوصاف العامة: مثل لعنة الله على الظالمين، لعنة الله على الفاسقين.
هذا جائز لا خلاف فيه.
قال تعالى (لعنة الله على الظالمين).
وقال تعالى (لعنة الله على الكاذبين).
ثالثاً: اللعن بالأوصاف الخاصة: مثل: لعن الله آكل الربا، لعن الله السارق.
هذا جائز بالإجماع.
رابعاً: لعن الكافر المعين الذي مات على الكفر، مثل فرعون، وأبي جهل وغيرهم.
هذا جائز لعنه بلا خلاف.
خامساً: لعن الكافر المعين الحي: فهذا مما وقع فيه خلاف بين العلماء:
فقيل: لا يلعن.
قالوا: ربما يسلم.
وممن ذهب إلى هذا الغزالي، وذكره الإمام النووي.
وقيل: جواز لعنه.
لحديث عمر بن الخطاب (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله) رواه البخاري.
قالوا: فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن.
والذي يظهر الجواز خاصة إذا كان ممن يؤذي المسلمين.
سادساً: لعن المسلم الفاسق.
لا يجوز لعنه.
للحديث السابق، حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعن عبد الله الذي كان يشرب الخمر.
ما حكم مقاتلة المسلم بغير حق؟
حرام وكبيرة من الكبائر.
ما المراد بالكفر في قوله (وقتاله كفر)؟
أي: من أعمال أهل الكفر.
و قال بعض العلماء: أطلق عليه لفظ الكفر مبالغة في التحذير لينزجر السامع عن الإقدام عليه.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
أن حرمة الكافر ليست كحرمة المسلم.
الرد على المرجئة.
أن سب المسلم من الكبائر.
أن المعاصي تقدح في الإيمان.
أنه يجتمع في المسلم خصال خير وخصال شر.
تحريم مقاتلة المسلم بغير حق.
أن مقاتلة المسلم بغير حق من الكبائر.
1488 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ اَلظَّنَّ أَكْذَبُ اَلْحَدِيثِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) أي: باعدوا أنفسكم عن ظن السوء.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
النهي عن الظن السيء.
لقوله (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) أي: باعدوا أنفسكم عن ظنّ السوء.
والظن الذي أمرنا باجتنابه هو بمعنى التهمة التي لا يعرف لها إمارات صحيحة ولا أسباب ظاهرة لا سيما إن كان المظنون به من أهل الأمانة ظاهراً والستر والصلاح، وهو - أي الظن - بهذا الاعتبار حرام لهذه الآية.
قال النووي: المراد النهي عن ظن السوء.
فسوء الظن هو: هو عدم الثقة بمن هو لها أهل.
وقال ابن القيم: سوء الظن: هو امتلاء القلب بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على اللسان والجوارح.
وقال ابن كثير: سوء الظن هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الظن هنا هو التهمة، ومحلّ التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتّهم شخصًا بالفاحشة، أو بشرب الخمر، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك.
ودليل كون الظنّ هنا بمعنى التهمة قوله بعد هذا: "ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا"، وذلك أنَّه قد يقع له خاطر التهمة ابتداءً، فيريد أن يتجسّس خبر ذلك، ويبحث عنه، ويتبصّر، ويتسمّع؛ ليحقق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد جاء في بعض الأحاديث:"إذا ظننت فلا تُحقّق"، وقال الله تعالى (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) وذلك أن المنافقين تطيّروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه حين انصرفوا إلى الحديبية، فقالوا: إن محمّدًا وأصحابه أكلة رأس، ولن يرجعوا إليكم أبدًا، فذلك ظنّهم السيّئ الذي وبّخهم الله تعالى عليه، وهو من نوع ما نَهَى الشرع عنه، إلا أنَّه أقبح النوع. (المفهم).
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا).
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب من الناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً فليجتنب كثيراً منه احتياطاً.
وقوله (إن بعض الظن إثم) وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي ويفعل ما لا ينبغي.
ما معنى قوله (فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)؟
قال الصنعاني: وإنما كان الظنُّ أكذب الحديث، لأنَّ الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وقبحه ظاهر لا يحتاج إلى إظهاره، وأما الظن فيزعم صاحبه أنه استند إلى شيء، فيخفى على السامع كونه كاذبًا بحسب الغالب، فكان أكذب الحديث، والحديث وارد في حقِّ من لم يظهر منه شتم ولا فحش ولا فجور.
اذكر خطر سوء الظن؟
حرمته الشريعة.
لحديث الباب (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ اَلظَّنَّ أَكْذَبُ اَلْحَدِيثِ).
قوله صلى الله عليه وسلم (يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته).
وسوء الظن سبب في وجود الأحقاد والعداوة:
فإن الظن السيئ: يزرع الشقاق بين المسلمين، ويقطع حبال الأخوة، ويمزق وشائج المحبة، ويزرع العداء والبغضاء والشحناء.
قال ابن القيم: أما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس، حتى يطفح على لسانه وجوارحه فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض، يبغضهم ويبغضونه ويلعنهم ويلعنونه ويحذرهم ويحذرون منه
…
ويلحقه أذاهم .. خارج منهم مع الغش والدغل والبغض.
قال الغزالي: من ثمرات سوء الظن التجسس، فإنَّ القلب لا يقنع بالظنِّ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضًا منهي عنه، قال الله تعالى 0 وَلا تَجَسَّسُوا). فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة، ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر؛ حتى ينكشف له ما لو كان مستورًا عنه كان أسلم لقلبه ودينه.
وهو سبب للمشكلات العائلية.
فمن أسباب المشاكل العائلية سوء الظن من أحدهما وغضبه قبل التذكر والتثبت؛ فيقع النزاع وربما حصل فراق ثم تبين الأمر خلاف الظن.
وقال ابن القيم: الغيرة مذمومة منها غيرة يحمل عليها سوء الظن، فيؤذى بها المحب محبوبه، ويغري عليه قلبه بالغضب، وهذه الغيرة يكرهها الله إذا كانت في غير ريبة، ومنها غيرة تحمله على عقوبة المحبوب بأكثر مما يستحقه.
وهو سبب في إضعاف الثقة بين المؤمنين.
فتنزع الثقة بين أفراد المجتمع المسلم.
وهو سبب في مرض القلب، وعلامة على خبث الباطن.
قال الغزالي: مهما رأيت إنسانًا يسيء الظن بالناس طالبًا للعيوب، فاعلم أنه خبيث الباطن وأنَّ ذلك خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو، فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق.
ويسبب عدم الثقة بالآخرين:
قال الزمخشري: قيل لعالم: من أسوأ الناس حالًا؟ قال: من لا يثق بأحد لسوء ظنَّه، ولا يثق به أحد لسوء فعله.
اذكر بعض أقوال السلف في سوء الظن؟
قال الغزالي: سوء الظن غيبة بالقلب.
وقال الخطابي: الظن منشأ أكثر الكذب.
وقال إسماعيل بن أمية: ثلاث لا يعجزن ابن آدم الطيرة وسوء الظن والحسد قال فينجيك من الطيرة ألا تعمل بها وينجيك من سوء الظن ألا تتكلم به وينجيك من الحسد ألا تبغي أخاك سوءاً.
وقال الحارث المحاسبي: احم القلب عن سوء الظن بحسن التأويل.
وقال المهلب: التباغض والتحاسد أصلهما سوء الظن، وذلك أن المباغض والمحاسد يتأول أفعال من يبغضه ويحسده على أسوأ التأويل.
ما أسباب سوء الظن؟
أولاً: سوء النية وخبث الطوية.
كأن ينشأ تنشئة غير صالحة.
ثانياً: اتباع الهوى.
ذلك أن الإنسان إذا اتبع هواه حتى صار الهوى إلهه الذي يعبده من دون الله، فإنه يقع لا محالة في الظنون الكاذبة التي لا دليل عليها ولا حجة.
كما قال تعالى: (فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ).
1489 -
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه[قَالَ] سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ عَبْدِ يَسْتَرْعِيهِ اَللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(مَعْقِل بْن يَسَارٍ) المزني، أسلم قبل الحديبية، وكان ممن بايع تحت الشجرة، قال البغوي: هو الذي حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر فنسب إليه ونزل البصرة وبنى بها داراً، ومات بها في خلافة معاوية. وهو راوي حديث: العبادة في الهرج كهجرة إلي.
والحديث له قصة:
عَنِ الْحَسَنِ قَالَ عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ. قَالَ مَعْقِلٌ إِنّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثاً سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
(عَنِ الْحَسَنِ) البصري.
(قَالَ عَادَ) أي زار.
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ) بن عبيد المعروف بابن زياد بن أبي سفيان، كانت فيه جرأة، وإقدام على سفك الدماء.
(يسترعية الله) أي يستحفظه ويجعله راعياً لهم.
(وهو غاش لرعيته) الغش ضد النصيحة.
(حرم الله عليه الجنة) أي لم يدخل مع أول الداخلين.
(ثم لا يجهد لهم) أي لم يبذل غاية جهده وطاقته من أجلهم.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم الغش في الرعية.
وفي رواية (مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِى أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ) وللطبراني (إلا أكبه الله على وجهه في النار).
وقال صلى الله عليه وسلم (من غش رعيته فهو في النار).
قال النووي: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رحمه الله: مَعْنَاهُ بَيِّن فِي التَّحْذِير مِنْ غِشّ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ قَلَّدَهُ اللَّه تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَمْرهمْ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَبَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينهمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَح فِيمَا قُلِّدَهُ إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفهمْ مَا يَلْزَمهُمْ مِنْ دِينهمْ، وَأَخْذهمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ مِنْ حِفْظ شَرَائِعهمْ وَالذَّبّ عَنْهَا لِكُلِّ مُتَصَدٍّ لِإِدْخَالِ دَاخِلَة فِيهَا أَوْ تَحْرِيف لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَال حُدُودهمْ، أَوْ تَضْيِيع حُقُوقهمْ، أَوْ تَرْك حِمَايَة حَوْزَتهمْ، وَمُجَاهَدَة عَدُوّهِمْ، أَوْ تَرْك سِيرَة الْعَدْل فِيهِمْ، فَقَدْ غَشَّهُمْ قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر الْمُوبِقَة الْمُبْعِدَة عَنْ الْجَنَّة.
وقال في الفتح: ويحصل ذلك بظلمه لهم بأخذ أموالهم أو سفك دمائهم أو انتهاك أعراضهم وحبس حقوقهم وترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم وباهمال إقامة الحدود فيهم وردع المفسدين منهم وترك حمايتهم ونحو ذلك.
اذكر خطورة غش الرعية ومن تحت يده كعائلته وأولاده وغيرهم؟
أولاً: الحرمان من الجنة.
لحديث الباب.
ثانياً: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه.
قال صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه).
ثالثاً: من احتجب عن الناس من الحكام احتجب الله عنه.
قال صلى الله عليه وسلم (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة) رواه أبو داود.
هل الحديث عام في كل من كُلف في حفظ أمانة؟
نعم.
قال القرطبي: الحديث هو لفظ عام في كل من كُلفَ حفظ غيره، كما قال صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، وهكذا الرجل في أهل بيته والولد والعبد، والرعاية الحفظ والصيانة.
قال صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله سائل كل راع أحفظ أم ضيع) رواه أحمد.
وقال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
وقال صلى الله عليه وسلم (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة) فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس. رواه أبو داود.
لماذا قال له معقل (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ)؟
سبب عدم تحديثه قبل ذلك هو ما وصفه به الحسن البصري من سفك الدماء، فكأنه يخشى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يكف بذلك بعض شره عن المسلمين ولذلك جاء في الرواية: لولا أني في الموت ما حدثتك.
قال النووي: وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (لَوْلَا أَنِّي فِي الْمَوْت لَمْ أُحَدِّثك) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رحمه الله: إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِأَنَّهُ عَلِمَ قَبْل هَذَا أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَنْفَعهُ الْوَعْظ كَمَا ظَهَرَ مِنْهُ مَعَ غَيْره ثُمَّ خَافَ مَعْقِل مِنْ كِتْمَان الْحَدِيث وَرَأَى تَبْلِيغه أَوْ فِعْله لِأَنَّهُ خَافَهُ لَوْ ذَكَرَهُ فِي حَيَاته لِمَا يُهَيِّج عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث وَيُثْبِتهُ فِي قُلُوب النَّاس مِنْ سُوء حَاله. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالِاحْتِمَال الثَّانِي هُوَ الظَّاهِر، وَالْأَوَّل ضَعِيف؛ فَإِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر لَا يَسْقُط بِاحْتِمَالِ عَدَم قَبُوله. وَاَللَّه أَعْلَم
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
أن الغش في المسؤولية من الكبائر.
وجوب النصح للمسلمين في كل شؤونهم.
الوعيد الشديد لأئمة الجور.
أن من تاب قبل موته قبل الله توبته لقوله (يموت يوم يموت .. ).
التحذير من الرئاسة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة (لا تسأل الإمارة).
حرص السلف على تبليغ العلم وخوف كتمان العلم.
الرد على المرجئة.
نصح ولاة الأمور سراً.
مشروعية عيادة المريض.
1490 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
- (فَشَقَّ عَلَيْهِ) أي: أدخل المشقة عليهم.
اذكر الحديث كاملاً؟
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِه).
الرفق: ضد العنف، ويتضمن لين الجانب ولطافة القول والفعل
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد التحذير الشديد لمن ولي أمراً من أمور المسلمين فأدخل المشقة عليهم.
اذكر فضائل الرفق؟
أولاً: أن الله يحبه.
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْق) متفق عليه.
ثانياً: الرفق يزين الأمور.
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَه) رواه مسلم.
ثالثاً: دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته.
كما في حديث الباب (اللهم من رفق بأمتي فارفق به).
رابعاً: البشارة النبوية لصاحب الرفق.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بقوم خيراً أدخل عليهم الرفق) رواه أحمد.
خامساً: أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاه) رواه مسلم.
قال القاضي عياض: معناه يتأتى به من الأغراض ويسهل به المطالب ما لا يتأتى بغيره.
سادساً: أن من يحرم الرفق يحرم الخير.
عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْر) رواه مسلم.
1491 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَجَنَّبِ اَلْوَجْهَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
===
ما حكم ضرب الوجه؟
حرام. لحديث الباب.
وفي لفظ (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُم
…
).
قال في الفتح في خصوص دلالة النهي الوارد في الحديث: لم يتعرض النووي لحكم هذا النهي، وظاهره التحريم.
ويؤيده حديث سويد بن مقرن الصحابي: أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لطم غلاماً فقال (أو ما علمت أن الصورة محترمة).
قال النووي: هَذَا تَصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ ضَرْب الْوَجْه؛ لِأَنَّهُ لَطِيف يَجْمَع الْمَحَاسِن، وَأَعْضَاؤُهُ نَفِيسَة لَطِيفَة، وَأَكْثَر الْإِدْرَاك بِهَا؛ فَقَدْ يُبْطِلهَا ضَرْب الْوَجْه، وَقَدْ يُنْقِصُهَا، وَقَدْ يُشَوِّه الْوَجْه، وَالشَّيْن فِيهِ فَاحِش؛ وَلِأَنَّهُ بَارِز ظَاهِر لَا يُمْكِن سَتْره، وَمَتَى ضَرَبَهُ لَا يَسْلَم مِنْ شَيْن غَالِبًا.
وقال الحافظ: ويدخل في النهي كل من ضرب في حد أو تعزير أو تأديب، وقد وقع في حديث أبي بكرة وغيره عند أبي داود وغيره في قصة التي زنت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وقال (ارموا واتقوا الوجه) وإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه فمن دونه أولى.
وقال الصنعاني: وهذا النهي عام لكل ضرب ولطم من تأديب أو غيره. (سبل السلام).
ما الحكمة من النهي عن ضربه؟
قال النووي: قال العلماء: إنما نُهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه، فيخشى من ضربه أن تبطل أو تتشوه كلها أو بعضها، والشين فيها فاحش لظهورها وبروزها بل لا يسلم إذا ضرب غالباً من شين.
وقال الشيخ ابن عثيمين: ولأن الوجه أشرف ما في الإنسان، وهو واجهة البدن كله، فإذا ضُرب كان أذل للإنسان مما لو ضرب غير وجهه.
ما الجواب عن فعل امرأة الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو ما جاء في قوله تعالى:(فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)؟
فالجواب عنه من خمسة أوجُه:
الوجه الأول: معناه ضَرَبَتْ وجهها. قال ابن عباس: لَطَمَتْ، وهذا مما يفعله الذي يرد عليه أمر يَستهوله. أفاده ابن عطية.
والوجه الثاني: أن هذا الفعل للتعجّب.
قال سفيان والسدي ومجاهد: معناه ضربت بِكَفِّها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن.
وقال البغوي: أي ضَرَبَتْ وَجْهها تَعجُّباً.
وقال ابن كثير: جَرَتْ به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب.
والوجه الثالث: أنه ضرب خفيف.
فقيل: إنها ضَرَبَتْ جبينها بأصابعها تعجباً.
ومعلوم أن مَنْ ضَرَب نفسه لا يكون ضرب إهانة ولا ضَرْب إيلام.
والوجه الرابع: أنه هو لو صحّ أنه من ضَرْب الوجه فهو مِنْ شَرْع مَنْ قَبْلَنا.
وقد جاء شرعنا بخلافه.
الوجه الخامس: أن المنهي عنه ضَرْب الإنسان وجْه غيره، وهذا من ضرب النفس.
1492 -
وَعَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: (يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا. قَالَ: لَا تَغْضَبْ). أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد النهي عن الغضب، وقد تقدمت مباحث الغضب قريباً.
ما معنى (لَا تَغْضَبْ)؟
قال السعدي: والنهي عن الغضب في قوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب) يتضمن أمرين عظيمين:
أحدهما: الأمر بفعل الأسباب، والتمرن على حسن الخلق، والحلم والصبر. (النهي عن تعاطي الأسباب الموصلة إليه من كل ما يحمل الغضب ويهيجه).
والثاني: الأمر - بعد الغضب - أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه.
ما المراد بالغضب المنهي عنه في بالحديث؟
الغضب المنهي ما كان انتقاماً للنفس، أما الغضب إذا انتهكت حرمات الله، فهو مأمور به، وهو دليل الإيمان.
1493 -
وَعَنْ خَوْلَةَ اَلْأَنْصَارِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ رِجَالاً يتخوَّضون فِي مَالِ اَللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ اَلنَّارُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
- (إنَّ رِجَالاً) من العمال وغيرهم.
(يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ الله بغَيرِ حَق) قال ابن حجر: قوله (يتخوضون) - بالمعجمتين- في مال الله بغير حق، أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم التصرف في مال المسلمين بغير حق.
وعند الترمذي وصححه، ولفظه:(إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّار).
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
شدة فتنة المال لأنَّ مِنْ طَبِيعَةِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ أَنَّهَا مَيَّالَةٌ إِلى المَالِ مُحِبَّةٌ لِجَمعِه.
قَالَ سُبحَانَه (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ).
وَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا). وَقَالَ عز وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيرِ لَشَدِيدٌ).
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (لَو أَنَّ لابنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَملأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَاب).
التحذير من صرف المال في غير حقه.
وجوب الأمانة في صرف الأموال.
1494 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ- قَالَ (يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ اَلظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَّالَمُوا) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم الظلم، وقد تقدم ذلك.
ووجه الدلالة من الحديث من وجهين:
الأول: أن الله عز وجل حرمه على نفسه، فإذا كان محرماً على الله مع كمال قدرته وسعة ملكه فحرمته على العبد أولى لظهور عجزه ونقص ملكهِ.
والآخر: أن الله جعله بيننا محرماً، فنهى عنه نهي تحريم.
وقد جاءت الأدلة الكثيرة في ذلك:
كما قال تعالى (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
وقال تعالى (ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ).
وقال تعالى (ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ).
وقال تعالى (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً).
وقال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).
الهضم: أن يُنقص من جزاء حسناته، والظلم: أن يعاقب بذنوب غيره.
لماذا نقول: إن الله لا يظلم مع قدرته عليه؟
قال ابن رجب: وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكنه لا يفعله فضلاً منه وجوداً، وكرماً وإحساناً إلى عباده.
وقال الشيخ ابن عثيمين: وإنما قلنا مع قدرته عليه، لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولا ثناءً، إذ لا يثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.
لماذا الله لا يظلم؟
لكمال عدله.
وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت ضده.
كقوله تعالى (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لكمال عدله.
وقوله تعالى (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) لكمال علمه، لا يعزب: لا يغيب.
وقوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لكمال قيوميته وحياته.
ما المراد بالظلم في هذا الحديث؟
تقدم أن الظلم ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: الشرك، وهو أعظم الظلم.
قال تعالى عن لقمان (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده وتألهه، فوضع الأشياء في غير موضعها، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون كما قال تعالى (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
القسم الثاني: ظلم العبد نفسه بالمعاصي.
قال تعالى {فمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِه} .
القسم الثالث: ظلم العباد بعضهم بعضاً، وهو المذكور في هذا الحديث.
قال تعالى (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وهذا القسم هو المقصود بالحديث لقوله (فلا تظالموا).
وقد جاءت نصوص كثيرة تبين تحريم الظلم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الظلم ظلمات يوم القيامة) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يأخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه) رواه البخاري.
والظلم ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق وهو التفريط، والثاني: فعل ما يضر به وهو العدوان.
الحديث دليل على عظيم رحمة الله بعباده ورفقه به، ما وجه ذلك؟
وجه ذلك: أنه ناداهم بهذا اللفظ (يا عبادي) المشعر بالرحمة والرفق.
ماذا نستفيد من لفظ (يا عبادي)؟
نستفيد التذكير للعباد بالحكمة التي من أجلها خلقوا وهي عبادة الله.
قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
وقد امتدح ربنا جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ووصفه في أشرف مقاماته بوصف العبودية:
فقال سبحانه في الإسراء) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).
وفي مقام الدعوة قال سبحانه (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).
وفي مقام التحدي قال سبحانه (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا).
1495 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَتَدْرُونَ مَا اَلْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اِغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
- (أَتَدْرُونَ مَا اَلْغِيبَة؟) الهمزة للاستفهام.
(فَقَدْ بَهَتَّهُ) البهتان: ذِكر المسلم بما ليس فيه وهو الكذب في القول عليه.
عرف الغيبة؟
عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ).
ما حكم الغيبة.
حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
قال ابن كثير: الغيبة محرمة بالإجماع.
وقال القرطبي: لا خلاف أن الغيبة من الكبائر.
اذكر الأدلة على تحريم الغيبة.
جاءت النصوص الكثيرة التي تدل على حرمة الغيبة وأنها من الكبائر.
قال تعالى (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).
وقال تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال) رواه أبو داود. (ردغة الخبال: عصارة أهل النار من صديد وقيح والعياذ بالله).
وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه يوم القيامة، فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً فيأكله فيكلح ويصيح " رواه أبو يعلي وابن حبان بسند صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) متفق عليه.
وهي تأكل الحسنات:
كما في حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ» . قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) رواه مسلم.
وهي من أسباب عذاب القبر.
كما جاء في حديث ابن عباس قال (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) وجاء في رواية (بالغيبة).
وهي ذنب عظيم كبير.
عن عائشة. قالت (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال بعض الرواة: تعني قصيرة: فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) رواه أبو داود.
وهي سبب من أسباب دخول النار.
كما في حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).
وفي رواية (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغَ ما بلغت، يكتبُ الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه مالك.
وهي سبب للعذاب قبل الآخرة.
كما في حديث أنس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم! فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم) رواه أبو داود.
ومن اغتاب الناس وفضحهم عاقبه بمثل ذلك وفضحه الله.
قال صلى الله عليه وسلم (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته).
اذكر بعض أقوال السلف في التحذير من الغيبة؟
قال يحيي بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
واغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس.
وقال الإمام مالك: أدركت بهذه البلدة - يعني المدينة - أقواماً ليس لهم عيوب فعابوا الناس فصارت لهم عيوب، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم.
ذكر أن عيسى قال لأصحابه: أرأيتم لو أتيتم على رجل نائم، قد كشف الريح عن بعض عورته؟ كنتم تسترون عليه؟ قالوا: نعم؟ قال: بل كنتم تكشفون البقية، قالوا: سبحان الله؟!! كيف نكشف البقية؟
قال: أليس يُذكر عندكم الرجل فتذكرونه بأسوأ ما فيه، فأنتم تكشفون بقية الثوب عن عورته.
ما حكم غيبة الكافر؟
الكافر على نوعين:
الكافر المحارب للإسلام.
وهذا لا حرمة له فيجوز ذكر نقائصه للتحذير منه وإضعاف هيبته
قال الله تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلا) يقال: نال منه إذا أصابه برزء ويدخل فيه كل ما يصيبهم وينقص من قوتهم وعزيمتهم ويزيد من قوة المسلمين عليهم حساً ومعنى ويدخل في ذلك ذكر نقائصهم وعيوبهم لعموم اللفظ.
وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان يوم قريظة: " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك.
ومعنى (اهجهم) فعل أمر من هجا يهجو هجوا وهو الذم ومعنى (هاجهم) من المهاجاة أي جازهم بهجوهم.
الكافر المعاهد بعقد ذمة أو أمان:
مثاله:
الكافر الذي يدخل إلى بلاد المسلمين بعقد وقانون يحفظ له حقوقه.
الكفار الذين يعيش المسلم بينهم في بلادهم أو يفد إليهم بعقد وقانون عمل أو دراسة أو علاج ونحو ذلك.
وأحكام غيبة هذا النوع من الكفار كأحكام غيبة المسلم وإن كان المسلم أشد حرمة من غيره على الصحيح لفضل الإسلام عليه.
وقيل: تجوز غيبته، لأنه لا حرمة له.
1496 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اَللَّهِ إِخْوَانًا، اَلْمُسْلِمُ أَخُو اَلْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، اَلتَّقْوَى هَا هُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، بِحَسْبِ اِمْرِئٍ مِنْ اَلشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ اَلْمُسْلِمَ، كُلُّ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ - أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم هذه الأمور المذكورة في الحديث وهي:
أولاً: (ولا تحاسدوا).
فيه تحريم الحسد، وقد تقدمت مباحثه.
ثانياً: (ولا تناجشوا).
فيه تحريم النجش.
وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها. وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع.
ثالثاً: (وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا).
فيه تحريم التباغض والتدابر.
فقوله (وَلَا تَبَاغَضُوا) أي: لا يُبغض بعضكم بعضاً، فلا تتخذوا أسباب البغض.
وقوله (وَلَا تَدَابَرُوا) أنْ يُعْرضَ عَنِ الإنْسَان ويَهْجُرَهُ وَيَجْعَلهُ كَالشَيءِ الَّذِي وَرَاء الظَّهْر وَالدُّبُر.
قال ابن رجب: نهى المسلمين عَنِ التَّباغض بينهم في غير الله، بل على أهواءِ النُّفوسِ، فإنَّ المسلمينَ جعلهمُ الله إخوةً، والإخوةُ يتحابُّونَ بينهم، ولا يتباغضون، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده، لا تدخُلُوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلمتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم) خرَّجه مسلم.
وقد حرَّم الله على المؤمنين ما يُوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون).
وامتنَّ على عباده بالتَّأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً).
وقال (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
ولهذا المعنى حرم المشي بالنَّميمة، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورُخِّصَ في الكذب في الإصلاح بين النَّاس، ورغَّب الله في الإصلاح بينهم، كما قال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُّ من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (ألا أخبركم بأفضلَ مِنْ درجة الصلاة والصيام والصَّدقة؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال (صلاحُ ذاتِ البينِ؛ فإنَّ فسادَ ذات البين هي الحالِقةُ).
وأمَّا البغض في الله، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلاً في النَّهي.
رابعاً: (وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ).
فيه: تحريم بيع المسلم على أخيه المسلم.
مثاله: أن يشتري شخص من إنسان سلعة بـ (10) ثم يأتيه آخر ويقول: أعطيك مثلها بـ (9)، أو يقول أعطيك أحسن منها بـ (10).
والحكمة من النهي: حصول التحاسد والتباغض.
وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع.
خامساً: أن المسلم أخو المسلم.
كما قال تعالى (إنما المؤمنون إخوة).
ومن مقتضيات ذلك ألا يظلمه ولا يكذبه، ولا يغشه، ولا يخونه، ولا يخذله، ولا يحقره.
ولذلك قال (وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً) قال الحافظ: هذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخواناً، ومفهومه: إذا لم تتركوها تصيروا أعداء.
فقوله (وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً) يحتمل معنيين:
أحدهما: إنه إنشاء يراد به الخبر، أي: إذا تركتم الحسد والتدابر .... فستكونون يا عباد الله إخواناً.
الثاني: أن المراد به حقيقة الأمر، أي: كونوا عباد الله إخواناً فيه.
ما حكم الظلم وخذلان المسلم؟
حرام، لقوله (لا يظلمه) وقد تقدمت مباحثه.
ولقوله (وَلَا يَخْذُلُهُ).
فإنَّ المؤمن مأمورٌ أنْ يَنصُرَ أخاه.
كما قال صلى الله عليه وسلم (انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسولَ الله، أنصُرُهُ مَظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه عنِ الظُّلم، فذلك نصرُك إيَّاه).
ما حكم احتقار المسلم لأخيه المسلم؟
حرام.
لقوله (ولا يَحقِرُه).
ولقوله (بِحَسْبِ اِمْرِئٍ مِنْ اَلشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ اَلْمُسْلِم).
وقال تعالى (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِنْ نِّسَاء عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا
مِّنْهُنَّ
…
).
ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، ثم بين الحكمة: فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه والمحتقر له (ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء، ففي الآية تحريم السخرية والاستهزاء بالناس واحتقارهم.
ما معنى (بِحَسْبِ اِمْرِئٍ مِنْ اَلشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ اَلْمُسْلِم).
قال ابن رجب: يعني: يكفيه مِنَ الشرِّ احتقارُ أخيه المسلم، فإنَّه إنَّما يحتقرُ أخاه المسلم لتكبُّره عليه، والكِبْرُ من أعظمِ خِصالِ الشَّرِّ، وفي صحيح مسلم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال (لا يدخلُ الجنَّة من في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْرٍ).
اذكر ماذا تستلزم السخرية؟
أولاً: أنها من أعظم الشرور.
قال صلى الله عليه وسلم (
…
بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم).
ثانياً: ربما يكون المسخور منه أفضل وأعظم عند الله من الساخر.
كما جاء في الآية (عسى أن يكونوا خيراً منهم).
وقال صلى الله عليه وسلم (ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).
ثالثاً: أن السخرية من صفات الكفار بالمؤمنين.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ).
وقال تعالى: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ).
رابعاً: دليل على الكبر والتعاظم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) أي احتقارهم.
خامساً: دليل على سوء الخلق.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المؤمن
…
).
سادساً: أنه مناف لقضاء الله.
لأن هذا إذا كان فقيراً أو ضعيفاً فهذا من قدر الله وقضائه.
سابعاً: دليل على ضعف الإيمان.
لأن المؤمن الكامل دائماً يتهم نفسه ويخاف أن لا يتقبل منه.
ثامناً: أن السخرية من تقديم أمر الدنيا على الآخرة.
لأن الساخر نظر إلى وضعه الدنيوي ولم ينظر أنه ربما يكون عند الله أعظم وأفضل.
ونستفيد: أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم لقوله (اَلتَّقْوَى هَا هُنَا).
قال ابن رجب: قوله (التَّقوى هاهنا يشير إلى صدره ثلاثَ مرَّاتٍ) فيه إشارةٌ إلى أنَّ كرم الخَلْق عند الله بالتَّقوى، فربَّ من يحقِرُه الناس لضعفه، وقلَّةِ حظِّه من الدُّنيا، وهو أعظمُ قدراً عند الله تعالى ممَّن له قدرٌ في الدُّنيا، فإنَّ الناسَ إنّما يتفاوتُون بحسب التَّقوى.
كما قال الله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم).
وسئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أكرمُ الناسِ؟ قال (أتقاهُم لله).
وفي حديث آخر (الكرمُ التَّقوى).
وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلا الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم (إنَّ الله لا ينظرُ إلى صُورِكُم وأموالِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم) وحينئذ، فقد يكونُ كثيرٌ ممَّن له صورةٌ حسنةٌ، أو مالٌ، أو جاهٌ، أو رياسةٌ في الدنيا، قلبه خراباً من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءاً مِنَ التَّقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً، كما في الصحيحين عن حارثةَ بن وهبٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (ألا أُخبِرُكم بأهل الجنَّةِ: كلُّ ضعيف متضعَّفٍ، لو أقسم على الله لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهل النَّارِ: كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستكبِرٍ).
وفي المسند عن أنس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (أمَّا أهلُ الجنَّة، فكلُّ ضعيفٍ متضعَّفٍ، أشعث، ذي طِمرين، لو أقسمَ على الله لأبرَّه؛ وأمَّا أهلُ النَّارِ، فكلُّ جَعْظَريٍّ جَوَّاظ جمَّاعٍ، منَّاعٍ، ذي تَبَع).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (تحاجَّت الجنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمتكبِّرينَ والمتجبِّرين، وقالتِ الجنَّةُ: لا يدخُلُني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم، فقال الله للجنَّةِ: أنت رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي، أعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي).
وخرَّجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيدٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (افتخرت الجنَّةُ والنَّارُ، فقالت النار: يا ربِّ، يدخُلُني الجبابرة والمتكبِّرون والملوكُ والأشرافُ، وقالت الجنَّةُ: يا ربِّ يدخُلُني الضُّعفاء والفقراءُ والمساكين) وذكر الحديث.
1497 -
وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ اَلْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَالْأَدْوَاءِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ وَاللَّفْظِ لَه.
===
- (وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ) بضم القاف وإسكان الطاء.
(اَللَّهُمَّ جَنِّبْنِي) أي: باعدني، أي: اجعلني في جانب وهي في جانب.
(مُنْكَرَاتِ اَلْأَخْلَاقِ) أي: الأخلاق المنكرة.، كالقتل، والشرك، والزنا وغيرها.
(وَالْأَعْمَالِ) أي: ومنكرات الأعمال.
(وَالْأَهْوَاءِ) أي: الأهواء المنكرة المضلة.
(وَالْأَدْوَاءِ) جمع داء، أي: وأعوذ بك من الأدواء المنكرة، وهي الأمراض
والمقصود بمنكرات الأدواء هو سيء الأسقام؛ كالاستسقاء والسل والمرض المزمن الطويل. إلخ.
وقد ورد في الحديث الشريف عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يقول: اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الدعاء بهذا الدعاء.
وعلى المؤمن أن يباعد عن كل خلق سيء من قول أو فعل.
كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح (اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ. اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ).
وقال تعالى عن إبراهيم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
قال ابن تيمية: فيه عبرتان:
إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي.
والثانية: طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلب وإلا صبا إلى الآمرين بالذنوب وصار من الجاهلين.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول (
…
وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لَا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ
أَنْتَ
…
) رواه مسلم.
لماذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأربع؟
لأن ابن آدم لا ينفكّ منها في تقلبه في ليله ونهاره.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
تضمَّنت هذه الاستعاذات المهمّة من كلّ الذنوب الظاهرة والباطنة.
أن الأخلاق تنقسم إلى منكر ومعروف.
أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر مفتقر إلى ربه.
على المسلم أن يحرص على محاسن الأخلاق.
1498 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ.
===
(لَا تُمَارِ أَخَاكَ) حقيقة المراء: طعنك في كلام غيرك لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله.
قال الشيخ ابن عثيمين: المماراة المجادلة انتصاراً للنفس.
وقيل: كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع.
ما صحة حديث الباب؟
ضعيف كما قال المصنف رحمه الله.
اذكر ما ورد في ذم المراء؟
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون).
قال القاري: والمعنى ما كان ضلالتهم ووقوعهم في الكفر إلا بسبب الجدال، وهو الخصومة بالباطل مع نبيهم، وطلب المعجزة منه عنادًا أو جحودًا، وقيل: مقابلة الحجة بالحجة، وقيل: المراد هنا العناد، والمراء في القرآن ضربُ بعضه ببعض؛ لترويج مذاهبهم، وآراء مشايخهم، من غير أن يكون لهم نصرة على ما هو الحق، وذلك محرم، لا المناظرة لغرض صحيح كإظهار الحقِّ فإنه فرض كفاية.
وقال المناوي: أي الجدال المؤدي إلى مراء ووقوع في شك، أما التنازع في الأحكام فجائز إجماعًا، إنما المحذور جدال لا يرجع إلى علم، ولا يقضى فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع للبرهان، ولا تأول على النصفة، بل يخبط خبط عشواء غير فارق بين حقٍّ وباطل.
وقال البيضاوي: المراد بهذا الجدل العناد، والمراء، والتعصب.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه الترمذي.
قال السندي: ومن ترك المراء: أي الجدال خوفًا من أن يقع صاحبه في اللجاج الموقع في الباطل.
اذكر بعض أقوال السلف في ذم المراء؟
قال عمر بن عبد العزيز: قد أفلح من عُصم من المراء والغضب والطمع.
وقال: من جعل دينه عرضة لخصومات أكثر التنقل.
وقال: احذر المراء، فإنه لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته.
وقال: إذا سمعت المراء فأقصر.
وقال ميمون بن مهران: لا تمارين عالماً ولا جاهلاً، فإنك إن ماريتَ عالماً خزن عنك علمه، وإن ماريتَ جاهلاً خشن صدرك.
وقال عبدالرحمن بن أبي ليلى: لا أماري صاحبي، فإما أن أكذبه وإما أن أُغضبه.
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شرًّا، فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل.
وقال عبد الكريم الجزري: ما خاصم ورع في الدين قط.
وقال مالك بن أنس: المراء يقسِّي القلوب، ويُورث الضغائن.
وقال أيضاً: كلما جاء رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد عليه السلام لجدله.
وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه فقد تمت خسارته.
وقال الشافعي: المراء في العلم يقسي القلوب، ويورث الضغائن.
وقال محمد بن الحسين: من صفة الجاهل: الجدل، والمراء، والمغالبة.
وعن الحسن قال: ما رأينا فقيهًا يماري.
وقال: إنما يخاصم الشاك في دينه.
وقال مسلم بن يسار: إيَّاكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته.
وقال جعفر بن محمد: إياكم والخصومة في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق.
وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الأعمال.
وقال محمد بن الحسين: وعند الحكماء: أنَّ المراء أكثره يغيِّر قلوب الإخوان، ويُورث التفرقة بعد الألفة، والوحشة بعد الأنس.
وقال محمد بن علي: لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: أنا أناظرك في الدين، قال الحسن: أنا قد عرفت ديني، فإن كان دينك قد ضل منك فاذهب فاطلبه.
ما أنواع المجادلة؟
قال ابن عثيمين: المجادلة والمناظرة نوعان:
النوع الأول: مجادلة مماراة: يماري بذلك السفهاء، ويجاري العلماء، ويريد أن ينتصر قوله؛ فهذه مذمومة.
النوع الثاني: مجادلة لإثبات الحق وإن كان عليه؛ فهذه محمودة مأمور بها.
هل قوله (ولا تمازحه) على إطلاقها؟
الجواب: لا.
لأن المزاح المنهي عنه هو المزاح الكثير حيث يداوم عليه صاحبه.
قال الإمام النووي رحمه الله: " المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى: ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنَّك تُدَاعِبُنَا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم، غير أنِّي لا أقولُ إلا حقاً) رواه الترمذي.
قال ابن حبَّان: والمزاح على ضربين:
أ- المزاح المحمود: وهو الذي لا يشوبه (يخالِطه) ما كَرِه اللهُ عز وجل، ولا يكون بإثمٍ ولا قطيعة رَحِم.
ب- المزاح المَذْموم: وهو الذي يثير العداوةَ، ويُذهب البهاءَ، ويقطع الصداقَة، ويجرِّئ الدنيءَ عليه، ويحقد الشريفَ به.
اذكر بعض أقوال السلف في ذم كثرة المزاح؟
قال عمر: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به.
وقال خالد بن صفوان: كان يقال: لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح.
وقال عمر بن عبد العزيز: اتقوا الله واتقوا المزاح، فإنه يورث الضغينة.
وقال: اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة.
وقال سعد بن أبي وقاص: اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرّئ عليك السفهاء.
وقيل في منثور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب.
وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن كثر خلافه طابت غيبته.
وقال بعض البلغاء: من قل عقله. كثر هزله.
فإياك إياك المزاح فإنه
…
يجرئ عليك الطفل والدنس النذلا
ويُذهب ماء الوجه بعد بهائه ويورثه من بعد عزته ذلاً
قال الغزالي: من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة
المزاح الخفيف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم اذكر بعض الأمثلة؟
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَا حَقًّا) رواه الترمذي.
ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ أسفارِه، وأنا جارِية لم أَحْمل اللَّحمَ ولم أبدن، فقال للنَّاس: تقدَّمُوا، فتقدَّمُوا، ثم قال لي: تعالي حتى أُسابِقَك، فسابقتُه فسبقتُه، فسكتَ عنِّي حتى إذا حملتُ اللَّحمَ وبدنتُ ونسيتُ، خرجتُ معه في بعض أَسْفاره، فقال للناس: تقدَّمُوا، فتقدَّمُوا، ثمَّ قال: تعالي حتَّى أسابِقَك، فسابقتُه فسبقَنِي، فجعل يضحك وهو يقول (هذه بتلك).
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وكان من أخلاقِه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العِشْرَة، دائم البِشْر، يداعِب أهلَه ويتلطَّف بهم، ويوسعُهُم نفقتَه، ويضاحك نساءَه حتى إنَّه كان يسابِق عائشة أمَّ المؤمنين يتودَّد إليها بذلك.
ج- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟).
قَالَ أَبُو عِيسَى: وَفِقْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُمَازِحُ وَفِيهِ أَنَّهُ كَنَّى غُلَامًا صَغِيرًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الصَّبِيُّ الطَّيْرَ لِيَلْعَبَ بِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ، فَحَزِنَ الْغُلَامُ عَلَيْهِ فَمَازَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟.
د- وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، (أَنَّ رَجُلاً اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلَا النُّوقُ)
هـ- ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم: ما رواه البخاريُّ ومسلم عن محمود بن الرَّبيع رضي الله عنه قال (عقلتُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا في وجهي وأنا ابنُ خمسِ سنين من دَلْو).
قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: المجُّ طرح الماءِ من الفم بالتزريق؛ وفي هذا مُلاطفة الصِّبيان، وتأنيسُهم، وإكرام آبائهم بذلك، وجواز المزاح.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأنس بن مالك رضي الله عنه (يَا ذَا الأُذُنَين (رواه الترمذي.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه (قُم أبا تُرابِ، قُم أبا تُراب).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لحذيفة رضي الله عنه (قم يا نَوْمَان) رواه مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأبي هريرة رضي الله عنه (يا أَبَا هِرّ) رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة رضي الله عنها (يا عائش (رواه البخاري ومسلم.
ما شروط المزاح؟
أولاً: عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة:
ثانياً: ألا يروِّع أخاه:
قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً) رواه أبو داود.
ثالثاً: أن يُنْزِل الناس منازلهم:
إن العالم والكبير لهم من المهابة والوقار منزلة خاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح معهما خشية الإخلال بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم.
ونقل طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "من السنة أن يوقَّر العالِم.
رابعاً: ألا يكون مع السفهاء:
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء.
خامساً: ألا يكون فيه غيبة.
لأن الغيبة حرام.
سادساً: عدم الكذب.
قال صلى الله عليه وسلم (ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له).
وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا).
سابعاً: السخرية والاستهزاء بالآخرين.
فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول ـ تعالى (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِنْ نِّسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
ثامناً: ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين.
فيعد هذا من نواقض الإسلام.
لقوله تعالى (ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكم).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي.
1499 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: اَلْبُخْلُ، وَسُوءُ اَلْخُلُقِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
===
(اَلْبُخْلُ) هو منع ما يجب بذله.
(وَسُوءُ اَلْخُلُقِ) ضد حسن الخلق.
ماذا نستفيد في الحديث؟
نستفيد ذم البخل، وأن من علامات المؤمن الحق لا يمكن أن يكون بخيلاً.
اذكر ما ورد في ذم البخل؟
البخل صفة ذميمة وقبيحة.
قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى).
وهو من صفات المنافقين.
قال تعالى (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ).
والله لا يحب من يبخل.
قال تعالى (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وأخبر تعالى أن من وقي شح نفسه فقد أفلح.
فقال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وهو من صفات أهل النار.
قال صلى الله عليه وسلم (إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع) رواه أحمد.
وهو شر ما في الرجل.
كما قال صلى الله عليه وسلم (شر ما رجل شح هالع وجبن خالع) رواه أحمد.
واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه.
عن أنس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل) متفق عليه.
وعن زيد بن أرقم قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) رواه مسلم.
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم داء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني سلمة؟ قلنا: جدُّ بن قيس إلا أنا نُبخِّله، قال: وأي داءٍ أدْوأ من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح) رواه البخاري في الأدب المفرد.
والملائكة تدعو على الممسك.
قال صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.
وهو من تصديق الشيطان.
قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).
وهو سبب للظلم.
قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا الظلم
…
واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) متفق عليه.
وهو سبب لضيق الصدر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال (ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشي أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة مكانها، قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: بإصبعه في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا توسع).
قال ابن القيم تعليقًا على هذا الحديث: (لما كان البخيل محبوسًا عن الإحسان، ممنوعًا عن البرِّ والخير، وكان جزاؤه من جنس عمله؛ فهو ضيق الصدر، ممنوع من الانشراح، ضيق العطن، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهمِّ والغمِّ والحزن، لا يكاد تقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب، فهو كرجل عليه جبة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه، بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة؛ لزمت كلُّ حلقة من حلقها موضعها، وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو.
1500 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (اَلْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى اَلْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ اَلْمَظْلُومُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
- (الْمُسْتَبَّانِ) أي: المتشاتمان، وهما اللذان سب كل منهما الآخر.
(مَا قَالَا) أي: إثم قولهما من السب والشتم.
(مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُوم) أي: مدة عدم اعتداء المظلوم، فإذا اعتدى المظلوم صار عليه الإثم، والمراد باعتدائه: تجاوزه حد الانتصار.
ما معنى الحديث؟
معناه: أَنَّ إِثْم السِّبَاب الْوَاقِع مِنْ اِثْنَيْنِ مُخْتَصّ بِالْبَادِئِ مِنْهُمَا كُلّه إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَز الثَّانِي قَدْر الِانْتِصَار، فَيَقُول لِلْبَادِئِ أَكْثَر مِمَّا قَالَ لَهُ.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
تحريم سباب المسلم.
وَفِي هَذَا جَوَاز الِانْتِصَار، وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِل الْكِتَاب وَالسُّنَّة.
قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَلَمَنْ اِنْتَصَرَ بَعْد ظُلْمه فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل).
وَقَالَ تَعَالَى (وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْي هُمْ يَنْتَصِرُونَ).
وقال تعالى (فمن اعتدى عليكم
…
).
لكن العفو أفضل.
قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْم الْأُمُور).
وقال تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
وقال تعالى (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ).
وقال تعالى (والعافين عن الناس).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (مَا زَادَ اللَّه عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ..... ).
إذا زاد المجيب المنتصر في مجازاته وآذى الظالم بأكثر مما قاله صار ظالماً ويتحمل إثم زيادته.
1501 -
وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اَللَّهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسَلِّمًا شَقَّ اَللَّهُ عَلَيْهِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَه.
===
(وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ) بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ اشْتَهَرَ بِكُنْيَتِهِ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَهُوَ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْمَشَاهِد.
(مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا) أي: أوصل ضرراً إلى مسلم.
(وَمَنْ شَاقَّ مُسَلِّمًا) أي: أوصل مشقة وألحقها بمسلم.
قيل: والضرر والمشقة متقاربان، لكن الضرر يستعمل في إتلاف المال، والمشقة في إيصال الأذية إلى البدن. (تحفة الأحوذي)
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد التحذير الشديد من إدخال الضرر أو المشقة على أحد من المسلمين.
وقد تقدم حديث عائشة في قوله صلى الله عليه وسلم (
…
فشق عليهم فاشقق عليه).
قال الصنعاني: أَيْ مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُسْلِمٍ مَضَرَّةً فِي مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ضَارَّهُ اللَّهُ أَيْ جَازَاهُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمَضَرَّةَ.
وَالْمُشَاقَّةُ الْمُنَازَعَةُ أَيْ مَنْ نَازَعَ مُسْلِمًا ظُلْمًا وَتَعَدِّيًا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَشَقَّةَ جَزَاءً وِفَاقًا. وَالْحَدِيثُ تَحْذِيرٌ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ بِأَيِّ شَيء.
قال السعدي: هذا الحديث دل على أصلين من أصول الشريعة:
أحدهما: أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، وهذا من حكمة الله التي يحمد عليها، فكما أن من عمل ما يحبه الله أحبه الله، ومن عمل ما يبغضه أبغضه الله، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه، كذلك من ضار مسلما ضره الله، ومن مكر به مكر الله به، ومن شق عليه شق الله عليه، إلى غير ذلك من الأمثلة الداخلة في هذا الأصل.
الأصل الثاني: منع الضرر والمضارة، وأنه «لا ضرر ولا ضرار» وهذا يشمل أنواع الضرر كله.
والضرر يرجع إلى أحد أمرين: إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه، فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه.
فيدخل في ذلك: التدليس والغش في المعاملات وكتم العيوب فيها، والمكر والخداع والنجش، وتلقي الركبان، وبيع المسلم على بيع أخيه، والشراء على شرائه. ومثله الإجارات، وجميع المعاملات والخطبة على خطبة أخيه، وخطبة الوظائف التي فيها أهل لها قائم بها. فكل هذا من المضارة المنهي عنها.
وكل معاملة من هذا النوع، فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضار مسلما ضاره الله، ومن ضاره الله، ترحل عنه الخير، وتوجه إليه الشر وذلك بما كسبت يداه.
ويدخل في ذلك: مضارة الشريك لشريكه، والجار لجاره، بقول أو فعل حتى إنه لا يحل له أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، فضلاً عن مباشرة الإضرار به.
ويدخل في ذلك: مضارة الغريم لغريمه، وسعيه في المعاملات التي تضر بغريمه، حتى إنه لا يحل له أن يتصدق ويترك ما وجب عليه من الدين إلا بإذن غريمه، أو يرهن موجوداته أحد غرمائه دون الباقين، أو يقف، أو يعتق ما يضر بغريمه، أو ينفق أكثر من اللازم بغير إذنه.
ماذا نستفيد من الحديث بالمفهوم؟
قال السعدي: وكما يدل الحديث بمنطوقه: أن من ضار وشاق ضره الله وشق عليه، فإن مفهومه يدل على: أن من أزال الضرر والمشقة عن المسلم فإن الله يجلب له الخير، ويدفع عنه الضرر والمشاق، جزاء وفاقاً، سواء كان متعلقاً بنفسه أو بغيره.
1502 -
وَعَنْ أَبِي اَلدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَللَّهَ يُبْغِضُ اَلْفَاحِشَ اَلْبَذِيءَ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
1503 -
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ مَسْعُودٍ -رَفَعَهُ- (لَيْسَ اَلْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اَللَّعَّانُ، وَلَا اَلْفَاحِشَ، وَلَا اَلْبَذِيءَ) وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، وَرَجَّحَ اَلدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَه.
===
- (الْفَاحِشَ) أي: ذو الفحش في كلامه وخصاله.
قال الراغب: الفحش، والفحشاء، والفاحشة: ما عظم قبحه، من الأفعال، والأقوال.
وقال الحرالي: ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة، كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع، فيتفق في حكمه آيات الله الثلاث، من الشرع، والعقل والطبع، وبذلك يفحش الفعل.
(اَلْبَذِيءَ) هو الفحش والقبح في المنطق وإن كان الكلام صدقًا.
وقال الكفوي: البذاء: التعبير عن الأمور المستقبحة، بالعبارات الصريحة. وقيل: من لا حياء له، كما قال بعض الشراح.
(بِالطَّعَّانِ) أي: عياباً للناس، وقّاع في أعراض الناس بالذم والغيبة.
ما صحة أحاديث الباب؟
حديث أبي الدرداء ضعيف.
وحديث ابن مسعود صحح إسناده العراقي في تخريج الإحياء، وصححه الألباني.
ماذا نستفيد من الحديثين؟
نستفيد ذم الفحش، وأنه ينبغي على المسلم أن يتجنب الفحش والتفحش والبذاءة.
حديث الباب
(إِنَّ اَللَّهَ يُبْغِضُ اَلْفَاحِشَ اَلْبَذِيءَ).
وحديث (لَيْسَ اَلْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اَللَّعَّانُ، وَلَا اَلْفَاحِشَ، وَلَا اَلْبَذِيءَ)
وعن عَائِشَة (أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ، أَوْ وَدَعَهُ - النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) رواه البخاري.
وعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها (أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيّ) متفق عليه.
وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ والشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ، فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ، فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ، فَفَجَرُوا) رواه أحمد.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما كان الفحش في شيء إلّا شانه، وما كان الحياء في شيء إلّا زانه) رواه الترمذي
1504 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَسُبُّوا اَلْأَمْوَاتَ; فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
===
(لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ) السب هو الشتم واللعن.
(أَفْضَوْا) أي: وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: تحريم سب الأموات.
هل هذا الحكم عام للمسلم والكافر أو فقط للمسلم؟
قال بعض العلماء: يشمل هذا الميت المسلم والكافر.
وقال بعضهم: هذا خاص بأموات المسلمين.
والراجح أن الكافر إذا كان مؤذياً للمسلمين ولا يتأذى قريبه الحي المسلم فإن ذلك لا بأس.
والمسلم إن كان فاسقاً أو مبتدعاً فإنه يسب للتحذير من شره، ولكن دون وجود أقاربه.
لماذا نهيَ عن سب الأموات؟
نهي عن سب الأموات لحكم، منها:
أولاً: لأنهم أفضوا وقدموا إلى ما عملوا.
ثانياً: أن في ذلك إيذاء لأقاربهم الأحياء.
ثالثاً: أن ذلك غيبة.
ما الجمع بين ما جاء في الصحيحين من حديث أنس قال: (مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت وجبت
…
فلما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار) وحديث الباب؟
الجمع:
أ-أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهورً بنفاق أو نحوه. [قاله النووي]
وقيل: يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه.
وقيل: يكون النهي العام متأخراً فيكون ناسخاً، وهذا ضعيف.
1505 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ قَتَّاتٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(قَتَّاتٌ) أي: نمام، كما في رواية أخرى (لا يدخل الجنة نمام).
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم النميمة، وأنها من كبائر الذنوب.
يقول الذهبي: النَّميمة من الكبائر، وهي حرام بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب والسُّنَّة، وقد أجاب عما يوهم أنها من الصغائر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (وما يعذَّبان في كبير) بأن المراد: ليس بكبيرٍ تركُه عليهما، أو ليس كبيرًا في زعمهما؛ ولهذا قيل في رواية أخرى: "بلى إنه كبير.
قال تعالى (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب).
قال بعض المفسرين: "والمقصود بالحطب في الآية السابقة: هي النَّميمة، وإنما سُمِّيت النَّميمة حطبًا؛ لأنها سببٌ لإشعال نار العداوة بين الناس، فصارت بمنزلة الحطب الذي يوقَد به النار.
وقد نزلت هذه الآية في امرأة أبي لهب، وفي الآية إشارةٌ إلى حملها الحديث بين الناس، ومشيِها بالنَّميمة.
وللنميمة عقوبات:
أولاً: لا يدخل الجنة صاحبها.
لحديث الباب.
ثانياً: من أسباب عذاب القبر.
كما في حديث ابن عباس قال (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة
…
) متفق عليه
ثالثاً: نهى الله عن طاعته.
قال تعالى (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم).
اذكر بعض أقوال السلف بالنميمة؟
قال علي: يعمل النمام في ساعة فتنة شهر.
وقال الشافعي: من نم لك نم عليك.
وقال يحيي بن أكتم: النمام شر من الساحر.
وقال الحسن: من نقل إليك حديثاً، فاعلم أنه ينقل إلى غيرك حديثك.
وقال يحيي بن أبي كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.
وكان يقال: "عمل النَّمَّام أضرُّ من عمل الشيطان؛ لأن عمل الشيطان بالخيال والوسوسة، وعمل النَّمَّام بالمواجهة".
وقال أَبُو حاتم رضي الله عنه هذا وأمثاله من ثمرة النميمة لأنها تهتك الأستار، وتفشي الأسرار، وتورث الضغائن، وترفع المودة، وتجدد العداوة، وتبدد الجماعة، وتهيج الحقد، وتزيد الصد.
قصة:
عن عمر بن عبد العزيز. أنه دخل عليه رجل، فذكر عنده وشاية في رجل آخر، فقال له عمر: إن شئت حققنا هذا الأمر الذي تقول فيه وننظر فيما نسبته إليه، فإن كنت كاذباً، فأنت من أهل هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا) وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية (هماز مشاء بنميم) وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إلى مثل ذلك أبداً.
ويقال: جاء رجل إلى الشافعي فقال له: إن فلاناً يذكرك بسوء، فقال له: إن كنت صادقاً فأنت نمام، وإن كنت كاذباً فأنت فاسق، فخجل وانصرف.
أخرى: قال رجل لوهب بن منبه: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا؟ قال: أما وجد الشيطان بريداً غيرك.
ماذا تفعل مع النمام؟
أولاً: عدم طاعته لأنه فاسق.
لقوله تعالى (
…
إن جاءكم فاسق بنبإ فتبنوا).
ثانياً: أن ينصحه ويذم فعله.
قال تعالى (وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر).
ثالثاً: أن تبغضه في الله.
رابعاً: أن لا تظن بأخيك الغائب سوءاً.
لقوله تعالى (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم).
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
حرص الشريعة على سد كل أمر يؤدي إلى التدابر والتقاطع بين المسلمين.
حرص الشريعة على سلامة المجتمع وتكاتفه وترابطه.
خطورة اللسان.
وجوب الإصلاح بين الناس.
الإيمان بالجنة.
1506 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، كَفَّ اَللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ) أَخْرَجَهُ اَلطَّبَرَانِيُّ فِي" اَلْأَوْسَطِ".
1507 -
وَلَهُ شَاهِدٌ: مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عُمَرَ عِنْدَ اِبْنِ أَبِي اَلدُّنْيَا.
===
ما صحة حديث الباب؟
إسناده ضعيف.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل من كف غضبه، والمراد منع ما يترتب على الغضب.
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب).
وقد تقدم ما يتعلق بالغضب.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
ذم الغضب.
أن الغضب قد يؤدي إلى أمور وأفعال لا تحمد عقباه.
أن الشيطان يقوى الإنسان عند غضبه.
1508 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ اَلصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ خِبٌّ، وَلَا بَخِيلٌ، وَلَا سَيِّئُ اَلْمَلَكَةِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَفَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
===
(لَا يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ خِبٌّ) أي: خداع.
(وَلَا سَيِّئُ اَلْمَلَكَةِ) أي: سيئ المعاملة، قال ابن الأثير: يقال: فلان حسن الملَكة إذا كان حسن الصنع إلى مماليكه، وسيئ الملكة: أي: الذي يسيء صحبة المماليك.
عرف الخداع؟
قال الرَّاغب: الخِدَاع: إنزال الغير عمَّا هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه.
وقال البقاعي: الخِدَاع: إظهار خيرٍ يُتَوَّسل به إلى إبطان شرٍّ، يؤول إليه أمر ذلك الخير المظْهَر.
وقال ابن القيِّم: والمخادعة: هي الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخَاِدع.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد التحذير من الخداع، وأن يكون الإنسان خداعاً.
قال تعالى (الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم).
قال السعدي: (يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه، مِنْ قبيح الصِّفات وشنائع السِّمات، وأنَّ طريقتهم مخادعة الله تعالى، أي: بما أظهروه مِنْ الإيمان وأبطنوه مِنْ الكفران، ظنُّوا أنَّه يروج على الله، ولا يعلمه، ولا يبديه لعباده، والحال أنَّ الله خادعهم، فمجرَّد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها، خداعٌ لأنفسهم. وأيُّ خِدَاعٍ أعظم ممَّن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذُّل والحرمان؟
متى يجوز الخداع؟
إذا كان لمصلحة شرعيَّة كالحرب، والإصلاح بين النَّاس.
فعن جابر بن عبد الله قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (الحرب خَدْعَة).
قال النَّووي: واتَّفق العلماء على جواز خِدَاع الكفَّار في الحرب، وكيف أمكن الخِدَاع، إلَّا أن يكون فيه نقض عهدٍ أو أمانٍ فلا يحلُّ، وقد صحَّ في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء، أحدها: في الحرب؛ قال الطَّبري: إنَّما يجوز مِنْ الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب، فإنَّه لا يحلُّ. هذا كلامه، والظَّاهر إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التَّعريض أفضل.
وقد استخدم الصَّحابة الخِدَاع في الحرب في مواقف عديد.
اذكر أنواع الخداع؟
قال ابن القيم: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم.
ومن النوع المحمود: قوله صلى الله عليه وسلم (الحرب خدعة).
وقوله في الحديث الذى رواه الترمذي وغيره (كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، إِلا ثَلاثَ خِصَالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اُثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُمَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ في خِدْعَةِ حَرْب).
ومن النوع المذموم قوله في حديث عياض بن جمار، الذى رواه مسلم في صحيحه (أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِى إِلا وَهْوَ يَخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمِالِك).
وقوله تعالى (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
وقوله تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ).
ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبى رافع، عَدُوَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قتلا، وقتل خالد بن سفيان الهذلى.
ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبى معبد الخزاعي لأبى سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، وردهم من فورهم.
ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بنى قريظة، ولكفار قريش والأحزاب حتى ألقى الخلْف بينهم، وكان سبب تفرقهم ورجوعهم. ونظائر ذلك كثيرة.
ما حكم إساءة الإنسان إلى مماليكه ومن تحت يده؟
حرام.
قال الصنعاني قوله (وَلَا سَيِّئُ الْمَلَكَةِ)، وَهُوَ مَنْ يَتْرُكُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْمَمَالِيكِ أَوْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عُقُوبَتِهِمْ، وَمِثْلُهُ تَرْكُهُ لِتَأْدِيبِهِمْ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تَعْلِيمِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ الْبَهَائِمُ سُوءُ الْمَلَكَةُ يَكُونُ بِإِهْمَالِهَا عَنْ الْإِطْعَامِ وَتَحْمِيلِهَا مَا لَا تُطِيقُهُ مِنْ الْأَحْمَالِ، وَالْمَشَقَّةِ عَلَيْهَا بِالسَّيْرِ وَالضَّرْبِ الْعَنِيفِ وَغَيْرِ ذَلِك.
1509 -
وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَسَمَّعَ حَدِيثَ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ اَلْآنُكُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) يَعْنِي: اَلرَّصَاصَ. أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
(مَنْ تَسَمَّعَ) لفظ البخاري (من استمع) أي: من قصد الاستماع إلى حديث قوم بحيث يكون مختفياً.
(صُبَّ) أي: أفْرِغ.
(اَلْآنُكُ) وهو الرصاص المذاب.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الوعيد الشديد لمن يتسمع لحديث قوم وهم كارهون، وأن ذلك من كبائر الذنوب.
اذكر بعض صور التجسس المشروع؟
من صور التجسس المشروع التجسس على أعداء الأمة لمعرفة عددهم وعتادهم.
فقد اتفق الفقهاء على أنَّ التجسس والتنصت على الكفار في الحرب مشروع وجائز لمعرفة عددهم، وعتادهم، وما يخطِّطون له، ويدبِّرون من المكائد للمسلمين، وهو الأمر الذي يكون بعلم الإمام، وتحت نظره ومعرفته.
فالتجسس على أعداء الأمة الإسلامية بتتبُّع أخبارهم، والاطِّلاع على مخططاتهم التي يعدُّونها للقضاء على الأمة الإسلامية، وإثارة الفتنة والقلاقل بين صفوفها، وزعزعة أمنها واستقرارها أمر مشروع، بل قد يكون واجبًا في حالة قيام حرب بينهم وبين المسلمين، وقد دلَّ على مشروعيته الكتاب والسنة وعمل الصحابة:
ما حكم إساءة الإنسان إلى مماليكه ومن تحت يده؟
حرام.
قال الصنعاني قوله (وَلَا سَيِّئُ الْمَلَكَةِ)، وَهُوَ مَنْ يَتْرُكُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْمَمَالِيكِ أَوْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عُقُوبَتِهِمْ، وَمِثْلُهُ تَرْكُهُ لِتَأْدِيبِهِمْ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تَعْلِيمِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ الْبَهَائِمُ سُوءُ الْمَلَكَةُ يَكُونُ بِإِهْمَالِهَا عَنْ الْإِطْعَامِ وَتَحْمِيلِهَا مَا لَا تُطِيقُهُ مِنْ الْأَحْمَالِ، وَالْمَشَقَّةِ عَلَيْهَا بِالسَّيْرِ وَالضَّرْبِ الْعَنِيفِ وَغَيْرِ ذَلِك.
قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُم).
فقد أمرت الآية المسلمين بإعداد ما يستطيعون من قوة لمواجهة الأعداء، ومن أسباب القوة التخطيط السليم، واليقظة والحذر، والتأهب الدائم؛ لإحباط مخططات الأعداء، ولا شكَّ أنَّ ذلك لا يتمُّ إلا بمعرفة أخبار الأعداء وخططهم، ورصد تحركاتهم، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، فدلَّت الآية على مشروعية التجسس على الأعداء بكلِّ وسيلة شريفة، وطريقة نبيلة.
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها:
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: إنَّ لكلِّ نبيٍّ حواريًّا، وإنَّ حواريَّ الزبير.
وعن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه قالا (خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة، قلَّد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، قال: إنَّ قريشًا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادُّوك عن البيت، ومانعوك. فقال: أشيروا أيها الناس عليَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدُّونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينًا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين. قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجَّه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله).
فهذه الأحاديث جميعها تدل على مشروعية جمع المعلومات عن الأعداء، وكشف مخططاتهم، وذلك بالطرق المشروعة والوسائل الشريفة، وأنَّه عليه السلام كان يتخير لهذه المهمة الأشخاص الذين كان يثق بهم حرصًا منه على صحة المعلومات التي تصله، ودقَّتها، لكي يبني عليها خططه العسكرية في مواجهة الأعداء.
ومن صور التجسس المشروع (تتبع المجرمين الخطرين وأهل الريب.
وقد عدَّه بعض الفقهاء من التجسس المشروع إذا كانت جرائمهم ذات خطر كبير على الأفراد، أو على الأمَّة بأسرها، وغلب على الظنِّ وقوعها بأمارات وعلامات ظاهرة، وذلك كالتجسس على إنسان يغلب على الظنِّ أنَّه يتربص بآخر ليقتله، أو بامرأة أجنبية ليزني بها، بل قد يكون واجبًا إذا خيف فوات تدارك الجريمة بدون التجسس.
قال الرملي: (وليس لأحد البحث والتجسس، واقتحام الدور بالظنون، نعم إذا غلب على ظنه وقوع معصية ولو بقرينة ظاهرة، كإخبار ثقة جاز له، بل وجب عليه التجسس إن فات تداركها كقتل وزنى، وإلا فلا.
الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، ما وجه ذلك؟
وجهه: أنه لما كان التسميع بالأذن كان العذاب على الأذن. ونظير ذلك:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أصحابه قد تهاونوا في غسل الأعقاب فقال (ويل للأعقاب من النار) فجعل العذاب على الأعقاب، لأنها هي التي حصل بها المخالفة.
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) فجعل العقوبة في ما كانت فيه المخالفة فقط.
1510 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبَهُ عَنْ عُيُوبِ اَلنَّاسِ) أَخْرَجَهُ اَلْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أنه ينبغي للمسلم أن ينشغل بعيبه عن عيوب الناس.
قال ابن القيم:
…
وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأَول علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة.
وقال: من عرف نَفسه اشْتغل بإصلاحها عَنْ عُيُوب النَّاس من عرف ربه اشْتغل بِهِ عَنْ هوى نَفسه.
وقال ابن حبان: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه وأن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمى قلبه وتعب بدنه وتعذر عليه ترك عيوب نفسه.
قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلاً ورعاً
…
أشغله عن عيوب غيره ورعه.
كما العليل السقيم أشغله
…
عن وجع الناس كلهم وجعه.
وإذا كان العبد بهذه الصفة، مشغولاً بنفسه عن غيره، ارتاحت له النفوس، وكان محبوباً من الناس، وجزاه الله تعالى بجنس عمله، فيستره ويكف ألسنة الناس عنه، أما من كان متتبعاً عيوب الناس متحدثاً بها مشنعاً عليهم فإنه لن يسلم من بغضهم وأذاهم، ويكون جزاؤه من جنس عمله أيضاً؛ فإن من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته.
وقال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكّلاً بعيوب الناس، ناسياً لعيوبه ـ فاعلموا أنه قد مُكِرَ به.
إن الانشغال بعيوب الناس يجر العبد إلى الغيبة ولابد، كما أن الانشغال بعيوب الناس يؤدي إلى شيوع العداوة والبغضاء بين أبناء المجتمع، فحين يتكلم المرء في الناس فإنهم سيتكلمون فيه، وربما تكلموا فيه بالباطل.
قالَ رَجُلٌ لِبَعضِ الحُكَماءِ يا قَبِيحَ الوَجهِ، فقَالَ ما كانَ خَلْقُ وجْهِي إليَّ فأُحَسّنَه.
وقالَ البيهقيُّ ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ الرّبِيع بنِ خَيثَم فقَالَ: مَا أنَا عن نَفسِي بِراضٍ فأَتفَرّغَ مِنها إلى ذَمّ غَيرِها، إنّ العِبادَ خَافُوا اللهَ على ذُنوبِ غَيرِهِم وأَمِنُوا على ذُنوبِ أَنفُسِهم.
وقالَ حَكِيمٌ: لا أحسِبُ أحَدًا يتَفَرَّغُ لِعَيبِ النّاسِ إلا عن غَفلَةٍ غَفِلَها عن نَفسِه، ولَو اهتَمَّ لِعَيبِ نَفسِه ما تفَرّغَ لِعَيبِ أَحَدٍ
قال ابن سيرين: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا، أفرغهم لذكر خطايا الناس.
وقال الفضيل: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير.
وقال عون بن عبد الله: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه.
وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس.
1511 -
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اَللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) أَخْرَجَهُ اَلْحَاكِمُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
===
- (مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ) أي: تكبر واعتقد أنه عظيم يستحق التعظيم.
(وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ) أي: تبختر وأظهر التكبر.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تحريم التعاظم والتكبر، وأنها من الصفات المذمومة.
وقد تَعَوّذ الصَّالِحُون مِنْ تَعَاظُم ذَواتهم في نُفوسهم.
قال عتبة بن غزوان: أعُوذ بالله أن أكون في نَفْسِي عَظيما، وعِند الله صَغيرا.
فالتَّعاظُم مِنْ طَبْعِ إبليس!
قال عليه السلام: لا تَقُلْ تَعِسَ الشيطان، فإنك إذا قُلْتَ تَعِس الشيطان تَعَاظَم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بِقُوّتي صَرَعْتُه! وإذا قُلْتَ بِسم الله تَصَاغَر حتى يصير مثل الذباب. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى.
اذكر ما ورد في ذم الكبْر؟
أولاً: من صفات أهل النار.
قال صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون) رواه مسلم.
ثانياً: لا يدخل الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
وقال صلى الله عليه وسلم (العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي) رواه مسلم.
ثالثاً: عقوبتهم يطأهم الناس يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم (المتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم) رواه مسلم.
رابعاً: لا يحب الله المستكبر.
قال تعالى (إنه لا يحب المستكبرين).
خامساً: لا ينظر الله للمتكبر في إزاره.
قال صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطراً) متفق عليه.
- لقمانُ يحذرُ ابنهُ من الكبر:
قال تعالى (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور).
قال ابنُ كثيرٍ: وَلَا تُصَعِّر خَدّك لِلنَّاسِ " يَقُول لَا تَتَكَبَّر فَتَحْتَقِر عِبَاد اللَّه وَتُعْرِض عَنْهُمْ بِوَجْهِك إِذَا كَلَّمُوك
…
وَقَوْله " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْض مَرَحًا ". أَيْ خُيَلَاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا لَا تَفْعَل ذَلِكَ يُبْغِضك اللَّه وَلِهَذَا قَالَ" إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَال فَخُور " أَيْ مُخْتَال مُعْجَب فِي نَفْسه فَخُور أَيْ عَلَى غَيْره وَقَالَ تَعَالَى " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْض مَرَحًا إِنَّك لَنْ تَخْرِق الْأَرْض وَلَنْ تَبْلُغ الْجِبَال طُولًا ". ا. هـ.
وقال ابنُ العربي: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك) يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ماذا حدث لقارونَ المتكبر؟
قال تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِين).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة) متفق عليه.
فهذه عقوبةُ الكبرِ في الثراءِ واللباسِ والتفاخر على الناسِ. فمن مَظَاهِرِ الْكِبْرِ الِاخْتِيَالُ فِي الْمَشْيِ: وَهُوَ يَعْنِي التَّبَخْتُرَ وَالتَّعَالِيَ فِي الْمِشْيَةِ وَكَمَا يَكُونُ الِاخْتِيَالُ بِاللِّبَاسِ الْفَاخِرِ يَكُونُ أَيْضًا بِفُرُشِ الْبُيُوتِ، وَبِرُكُوبِ السَّيَّارَاتِ الْفَاخِرَةِ.
ومما يدخلُ تحت هذه الآيةِ قولهُ تعالى (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا).
قَالَ قَتَادَة: تِلْكَ وَاَللَّه أُمْنِيَة الْفَاجِر كَثْرَة الْمَال وَعِزَّة النَّفَر.
اذكر بعض أقوال السلف؟
قال مسروق: كفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله.
وقال بعضهم: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته.
وعن محمد بن علي قال: ما دخل قلب امرئ من الكبر شيء إلا نقص من عقله مقدار ذلك.
قال مطرف بن عبد الله: لأن أبيت نائماً وأصبح نائماً أحب إليّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً.
قال الذهبي: لا أفلح والله من زكى نفسه أو أعجبته.
قال أبو سليمان الداراني: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
قال أبو بكر: لا يحقرن أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير.
وقال الأحنف بن قيس: ما تكبر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه.
وقال مالك بن دينار: كيف يتكبر من أوله نطفة مذِرَة، وآخره جيفة قَذِرَة، وهو فيما بين ذلك حامل عَذِرة.
وقال حاتم الأصم: أصل المصيبة ثلاثة أشياء: الكبر، والحرص، والحسد.
يا ابنَ الترابِ ومأكولَ الترابِ غداً
…
أقصِرْ فإنك مأكولٌ ومشروبُ.
وقال عمر بن عبد العزيز: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة.
درجات التكبر:
الأول: التكبر على الله.
وهو أفحش أنواع الكبر، مثل فرعون حين استكبر وقال: أنا ربكم الأعلى ولذلك قال تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين).
ثانياً: التكبر على الرسل.
كما فعلت الأقوام المكذبة مع رسلها، فترفعت عن الانقياد لهم كما حكى الله عنهم (أنؤمن لبشرين مثلنا) وقال تعالى عنهم (إن أنتم إلا بشر مثلنا).
وهذا الكبر قريب من الأول، وإن كان دونه.
الثالث: التكبر على العباد.
وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره.
وهذا دون الأول والثاني بكثير، لكنه عظيم لأمرين:
أ- أن الكبر والعز والعظمة لا تليق إلا بالملك القادر، فأما العبد الضعيف المملوك العاجز لا يليق به إلا الذل لله والانكسار.
ب- أنه يدعو إلى مخالفة الله في أوامره، لأن المتكبر إذا سمع الحق من عباد الله استنكف عن قبوله.
1512 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْعَجَلَةُ مِنَ اَلشَّيْطَانِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ.
===
ما صحة حديث الباب؟
إسناده ضعيف؛ فيه عبد المهيمن بن عباس، وهو ضعيف.
-ماذا نستفيد من الحديث؟
ذم العجلة والتسرع في الأمور دون تفكر أو روية.
قال المناوي: العجلة: فعل الشيء قبل وقته اللائق به.
ما معنى الحديث (العجلة من الشيطان)؟
قال المناوي: (التَّأنِّي مِنْ الله تعالى أي: ممَّا يرضاه ويثيب عليه، والعَجَلَة مِنْ الشَّيطان أي: هو الحامل عليها بوسوسته؛ لأنَّ العَجَلَة تمنع مِنْ التَّثبُّت، والنَّظر في العواقب.
وقال ابن القيِّم: العَجَلَة مِنْ الشَّيطان فإنَّها خفَّةٌ وطيشٌ وحدَّةٌ في العبد تمنعه مِنْ التَّثبُّت والوقار والحِلْم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشُّرور، وتمنع عنه أنواعًا من الخير.
قال الغزالي: الأعمال ينبغي أن تكون بعد التَّبصرة والمعرفة، والتَّبصرة تحتاج إلى تأمُّل وتمهُّل، والعَجَلَة تمنع مِنْ ذلك، وعند الاستعجال يروِّج الشَّيطان شرَّه على الإنسان مِنْ حيث لا يدري.
والعجلة: -صفة جُبِلَ الإنسان وفطر عليها إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد حذَّره منها.
كما قال ربنا تعالى (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).
ولأن العجلة من مقتضيات الشهوة فقد ذُمت في القرآن الكريم.
ومن ذلك قوله تعالى: - (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).
وقوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ).
وغيرهما من الآيات التي تبين قبح العجلة ..
بل إن الله تعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن العجلة بالقرآن (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)
وقوله تعالى أيضاً (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).
وبين تعالى أن العجلة من طبع الإنسان؛ لتنبيهه على ضرورة التعامل بضدها، فقال عز وجل (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً).
وأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتأني في جميع الأمور، والتثبت منها.
فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين).
قال أبو حاتم: العجل يقول قبل أن يعلم، ويجب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.
والعجل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة: أم الندامات، وإن الزلل مع العجل، والإقدام على العجل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه .. وهى تورث أمراضاً وآثاراً نفسية منها: القلق الذي ينتاب الإنسان في عجلته وسرعته، والارتباك والنسيان، والخوف من المجهول المترتب بسبب عدم وضوح الرؤية .. والمتطبع بالعجلة والسرعة في سلوكه الاجتماعي يكون حاداً متعصباً متكلفاً للأمور.
والاستعجال مذموم: عند الدعاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي). رواه البخاري
ومن الاستعجال المذموم: أن يستبطئ الإنسان الرزق فيستعجل، فيطلبه من طرق محرمة ووجوه غير مشروعة.
فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي روعِي أنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بِطَاعَتِه).
قال ابن حبان: لا يستحق أحد اسم الرئاسة حتى يكون فيه ثلاثة أشياء: العقل والعلم والمنطق، ثم يتعرى عن ستة أشياء: عن الحدة، والعجلة، والحسد، والهوى، والكذب، وترك المشورة.
قال مروان لابنه عبد العزيز- حين ولاه مصر-: يا بني مر حاجبك يخبرك من حضر بابك كل يوم فتكون أنت تأذن وتحجب، وآنس من دخل إليك بالحديث فينبسط إليك، ولا تعجل بالعقوبة إذا أشكل عليك الأمر، فإنك على ترك العقوبة أقدر منك على ارتجاعها.
قال إسحاق بن عيسى الطباع: عاب مالك العجلة في الأمور، وقال: قرأ ابن عمر البقرة في ثمان سنين (بمعنى أنه جمع فيها العلم والعمل معا كما هو منهج الصحابة رضي الله عنهم.
وقال أيضاً: العجلة نوع من الجهل والخرق.
قال خالد بن برمك: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به كبير مكروه: العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني.
فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذل.
قال الشاعر:
لا تعجلنّ فليس الرّزق بالعجل *** الرّزق في اللّوح مكتوب مع الأجل
فلو صبرنا لكان الرّزق يطلبنا *** لكنّه خلق الإنسان من عجل
قال ابن الأعرابيّ- رحمه اللّه تعالى: كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الملول ذا إخوان، ولا الحرّ حريصاً، ولا الشّره غنياً.
اذكر بعض الأمور يستحب بل ربما يجب في بعضها العجلة؟
أولاً: الاستعجال في التوبة إلى الله:
قال تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيماً).
فالتوبة من الأمور العاجلة التي لا تحتاج إلى تسويف؛ فلربما أتى الموت بغتةً فيحتاج الإنسان أن يتوب، ولكن قد أُغلق باب التوبة دونه!
ثانياً: الاستعجال في أداء الحقوق إلى أصحابها.
عن عقبة، قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصرَ، فسلم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقابَ الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: ذكرتُ شيئًا من تِبْرٍ عندنا؛ فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته) رواه البخاري.
ثالثاً: ومنها الاستعجالُ في أداء الدَّيْنِ؛ لخطورته.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أخذ أموال الناس يريد أداءَها، أدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافَها، أتلفه الله). رواه البخاري
ما العجلة المحمودة؟
هي العجلة في الطاعة فمحمودة مطلوبة.
قال تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
وقال: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين).
ومن قبل قال موسى (قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
وفي الحديث: (بادروا بالأعمال سبعاً: - هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر) رواه الترمذي.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التُّؤَدةُ في كل شيء إلا في عمل الآخرة) رواه أبو داود.
(إلَّا في عمل الآخرة) أي: لأنَّ في تأخير الخيرات آفات. ورُوِي أنَّ أكثر صياح أهل النَّار مِنْ تسويف العمل.
قال الطِّيبي: وذلك لأنَّ الأمور الدُّنيويَّة لا يعلم عواقبها في ابتدائها أنَّها محمودة العواقب حتى يتعجَّل فيها، أو مذمومة فيتأخر عنها، بخلاف الأمور الأخرويَّة؛ لقوله تعالى (فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ - وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
فائدة:
تأنَّى نبيُّ الله يوسف عليه السلام مِنْ الخروج مِنْ السِّجن حتى يتحقَّق الملك ورعيَّته براءة ساحته، ونزاهة عرضه، وامتنع عن المبادرة إلى الخروج ولم يستعجل في ذلك.
قال تعالى (وقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيم).
قال ابن عطيَّة: هذا الفعل مِنْ يوسف عليه السلام أناةً وصبرًا وطلبًا لبراءة السَّاحة.
1513 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلشُّؤْمُ: سُوءُ اَلْخُلُقِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
===
(اَلشُّؤْمُ) ضد اليمن والبركة.
(سوء الخلق) ضد حسن الخلق.
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح كما قال المصنف رحمه الله.
ماذا نستفيد من الحديث؟
أن الخلق السيء شؤم على صاحبه.
اذكر بعض أقوال السلف في التحذير من سوء الخلق؟
قال الفضيل بن عياض: لا تخالط سيئ الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر.
وقال أيضًا: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابدٌ سيئ الخلق.
وقال الحسن: من ساء خلقه عذب نفسه.
وقال يحيى بن معاذ: سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنةٌ لا تضر معها كثرة السيئات.
وقيل: من ساء خلقه ضاق رزقه.
وقال الأحنف: ألا أخبركم بادوأ الداء؟ قالوا: بلى، قال: الخلق الدني، واللسان البذي.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: الأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
وقال أيضًا: الأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس، إنها أمراض تفوت على صاحبها حياة الأبد.
وقال أيضًا: إن حسن الخلق هو الإيمانُ، وسوء الخلق هو النفاق.
اذكر مضار سوء الخلق؟
أولاً: سيئ الخلق مذكورٌ بالذكر القبيح، يمقته الله عز وجل، ويُبغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُبغضه الناس على اختلاف مشاربهم.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني في الآخرة أسْوَؤُكم أخلاقاً) رواه أحمد.
ثانياً: وسيئ الخلق هو من ملأ الله أُذُنَيْهِ من ثناء الناس شرًّا وهو يسمعهُ.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أهل الجنة من ملأ الله أُذنيه من ثناء الناس خيرًا، وهو يسمعُ، وأهل النار من ملأ أُذنيه من ثناء الناس شرًّا وهو يسمع) رواه ابن ماجه.
ثالثاً: سيئ الخلق يجلب لنفسه الهم والغم والكدر، وضيق العيش، ويجلب لغيره الشقاء.
قال أبو حازم سلمة بن دينار رحمه الله: السيئُ الخلق أشقى الناس به نفسُهُ التي بين جنبيه، هي مِنه في بلاء، ثم زوجتُهُ، ثم ولدُهُ، حتى أنه ليدخل بيته، وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته، فينفرون منه فرَقًا منه، وحتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى إن قِطَّهُ ليفرُّ منه.
1514 -
وَعَنْ أَبِي اَلدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد خطر اللعن وتحريم، وقد تقدمت مباحثه.
ما معنى (لَا يَكُونُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ
…
)؟
قال النووي: فَمَعْنَاهُ لَا يَشْفَعُونَ يَوْم الْقِيَامَة حِين يُشَفَّع الْمُؤْمِنُونَ فِي إِخْوَانهمْ الَّذِينَ اِسْتَوْجَبُوا النَّار.
(وَلَا شُهَدَاء) فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَصَحّهَا وَأَشْهَرهَا لَا يَكُونُونَ شُهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى الْأُمَم بِتَبْلِيغِ رُسُلهمْ إِلَيْهِمْ الرِّسَالَات.
وَالثَّانِي لَا يَكُونُونَ شُهَدَاء فِي الدُّنْيَا أَيْ لَا تُقْبَل شَهَادَتهمْ لِفِسْقِهِمْ.
وَالثَّالِث لَا يُرْزَقُونَ الشَّهَادَة وَهِيَ الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه.
وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُون لَعَّانًا، وَلَا يَكُون اللَّعَّانُونَ شُفَعَاء بِصِيغَةِ التَّكْثِير، وَلَمْ يَقُلْ: لَاعِنًا وَاللَّاعِنُونَ لِأَنَّ هَذَا الذَّمّ فِي الْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ كَثُرَ مِنْهُ اللَّعْن، لَا لِمَرَّةٍ وَنَحْوهَا، وَلِأَنَّهُ يَخْرُج مِنْهُ أَيْضًا اللَّعْن الْمُبَاح، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْع بِهِ، وَهُوَ لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ، لَعَنَ اللَّه الْيَهُود وَالنَّصَارَى، لَعَنَ اللَّه الْوَاصِلَة وَالْوَاشِمَة، وَشَارِب الْخَمْر وَآكِل الرِّبَا وَمُوكِله وَكَاتِبه وَشَاهِدَيْهِ، وَالْمُصَوِّرِينَ، وَمَنْ اِنْتَمَى إِلَى غَيْر أَبِيهِ، وَتَوَلَّى غَيْر مَوَالِيه، وَغَيَّرَ مَنَار الْأَرْض، وَغَيْرهمْ مِمَّنْ هُوَ مَشْهُور فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
1515 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ ..
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد التحذير من تعيير الناس وعيبهم بذنوبهم.
معنى الحديث، قال الشيخ المباركفوري:
قَوْلُهُ: (مَنْ عَيَّرَ) مِنْ التَّعْيِيرِ أَيْ عَابَ (أَخَاهُ) أَيْ فِي الدِّينِ (ِذَنْبٍ) أَيْ قَدْ تَابَ مِنْهُ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ (لَمْ يَمُتْ) الضَّمِيرُ لِمَنْ (حَتَّى يَعْمَلَهُ) أَيْ الذَّنْبَ الَّذِي عَيَّرَ بِهِ أَخَاهُ، وَكَأَنَّ مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ أَيْ عَابَهُ مِنْ الْعَارِ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَزِمَ بِهِ عَيْبٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ يُجَازَى بِسَلْبِ التَّوْفِيقِ حَتَّى يَرْتَكِبَ مَا عَيَّرَ أَخَاهُ بِهِ وَذَاكَ إِذَا صَحِبَهُ إِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ لِسَلامَتِهِ مِمَّا عَيَّرَ بِهِ أَخَاه. (تحفة الأحوذي)
والذي يقع منه الذنب أقسام:
منهم من يتوب ويرجع إلى ربه تعالى أو يقام عليه الحد.
فهذا لا يحل تعييره لأنه طهَّر نفسه بالتوبة أو بالحد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجه.
وقد حمل الإمام أحمد العقوبة التي في الحديث على من عيَّر من تاب من ذنبه كما نقل عنه الترمذي بعد تخريجه الحديث قال: قال أحمد: مِنْ ذنب قد تاب منه.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ.
ومنهم من يعمل الذنب ولا يجهر به، فيجب على من علم به نصحه والستر عليه.
ومنهم من يجهر بذنبه، فهذا ينصح كذلك، ويحذَّر منه حسب المقام الذي يقتضي التحذير.
قال ابن القيم: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: أَنَّ تَعْيِيرَكَ لِأَخِيكَ بِذَنْبِهِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ ذَنْبِهِ وَأَشَدُّ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَوْلَةِ الطَّاعَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَشُكْرِهَا، وَالْمُنَادَاةِ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَأَنَّ أَخَاكَ بَاءَ بِهِ، وَلَعَلَّ كَسْرَتَهُ بِذَنْبِهِ، وَمَا أَحْدَثَ لَهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مَرَضِ الدَّعْوَى، وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَوُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ نَاكِسَ الرَّأْسِ، خَاشِعَ الطَّرْفِ، مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ أَنْفَعُ لَهُ، وَخَيْرٌ مِنْ صَوْلَةِ طَاعَتِكَ، وَتَكَثُّرِكَ بِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِهَا، وَالْمِنَّةِ عَلَى اللَّهِ وَخَلْقِهِ بِهَا، فَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْعَاصِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ! وَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْمُدِلَّ مِنْ مَقْتِ اللَّهِ، فَذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْهِ، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّكَ أَنْ تَبِيتَ نَائِمًا وَتُصْبِحَ نَادِمًا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبِيتَ قَائِمًا وَتُصْبِحَ مُعْجَبًا، فَإِنَّ الْمُعْجَبَ لَا يَصْعَدُ لَهُ عَمَلٌ، وَإِنَّكَ إِنْ تَضْحَكْ وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ، وَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ الْمُدِلِّينَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَسْقَاهُ بِهَذَا الذَّنْبِ دَوَاءً اسْتَخْرَجَ بِهِ دَاءً قَاتِلًا هُوَ فِيكَ وَلَا تَشْعُرُ.
فائدة:
وقد ثبت النهي عن التعيير بالذنب، لأن ذلك يكون إعانة للشيطان على الإنسان.
قال صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم. رواه أحمد.
وعند البخاري:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ).
وقد ثبت النهي عن الردّ على من عيّر إنساناً بما فيه؟
قال صلى الله عليه وسلم (وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ، فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ) رواه أبو داود.
وقد جرت عادة الله أن من عير أخاه بذنب أنه لا يموت حتى يقع فيه ويرتكبه.
قال ابن القيم: من ضحك من الناس ضُحك منه، ومن عيّر أخاه بعمل ابتلي به ولا بد.
1516 -
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ، فَيَكْذِبُ; لِيَضْحَكَ بِهِ اَلْقَوْمُ، وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ) أَخْرَجَهُ اَلثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
===
(وَيْلٌ) كلمة تهديد ووعيد.
ما صحة حديث الباب؟
حديث صحيح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد التحذير الشديد من الكذب من أجل إضحاك الناس.
قال الصنعاني: الحديث دليل على تحريم الكذب لإضحاك القوم، وهذا تحريم خاص، ويحرم على السامعين سماعه إذا علموه كذبا؛ لأنه إقرار على المنكر بل يجب عليهم النكير أو القيام من الموقف، وقد عد الكذب من الكبائر. اهـ.
وقال المناوي: (يل للذي يحدث فيكذب) في حديثه (ليضحك به القوم ويل له ويل له) كرره إيذاناً بشدة هلكته وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة.
وقال ابن تيمية: أَمَّا الْمُتَحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ مُفْتَعَلَةٍ لِيُضْحِكَ النَّاسَ أَوْ لِغَرَضِ آخَرَ: فَإِنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ: وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ).
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جَدٍّ وَلَا هَزْلٍ وَلَا يَعِدُ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ وَضَرَرٌ فِي الدِّينِ: فَهُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِك.
وقال المباركفوي: ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِحَدِيثِ صِدْقٍ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا صَدَرَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مِزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُؤْذِي قَلْبًا وَلَا يُفْرِطُ فِيهِ. فَإِنْ كُنْت أَيُّهَا السَّامِعُ تَقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا وَعَلَى النُّدُورِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْك. وَلَكِنْ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ الْمِزَاحَ حِرْفَةً، وَيُوَاظِبَ عَلَيْهِ وَيُفْرِطَ فِيهِ ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ كَمَنْ يَدُورُ مَعَ الزُّنُوجِ أَبَدًا لِيَنْظُرَ إِلَى رَقْصِهِمْ، وَيَتَمَسَّكُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فِي النَّظَرِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَلْعَبُون. (تحفة الأحوذي).
1517 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَفَّارَةٌ مَنْ اِغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ) رَوَاهُ اَلْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن كفارة الغيبة أن يستغفر المغتاب لمن اغتابه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
قال ابن القيم: هذه المسألة فيها قولان للعلماء - هما روايتان عن الإمام أحمد - وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبة للاستغفار للمغتاب، أم لا بد من إعلامه وتحليله؟
والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
والذين قالوا لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة كالحقوق المالية.
والفرق بينهما ظاهر، فإن الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها.
وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع صلى الله عليه وسلم، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمى به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبداً، وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم لا يبيحه ولا يجوزه فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها. (الوابل الصيب).
وقال في مدارج السالكين: والمعروف في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك اشتراط الإعلام والتحلل هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم.
والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي: فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره فلا بد من إعلام مستحقه به لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره.
واحتجوا بالحديث المذكور وهو قوله (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم).
قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقا لله وحقا للآدمي فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه إن شاء اقتص وإن شاء عفا وكذلك توبة قاطع الطريق والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه بل يكفي توبته بينه وبين الله وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وقذفه بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه.
وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه.
واحتج أصحاب هذه المقالة:
بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقاً وغماً وقد كان مستريحا قبل سماعه فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله وأورثته ضرراً في نفسه أو بدنه، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به.
قالوا: وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل فلا يصفو له أبداً ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف والتحابب.
قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه فلا يجوز إخفاؤها عنه فإنه محض حقه فيجب عليه أداؤه إليه بخلاف الغيبة والقذف فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ولم تهج منه غضبا ولا عداوة بل ربما سره ذلك وفرح به بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا من أنواع القذف والغيبة والهجو فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت والله أعلم. (المدارج).
1518 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَبْغَضُ اَلرِّجَالِ إِلَى اَللَّهِ اَلْأَلَدُّ اَلْخَصِمُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
ما معنى (اَلْأَلَدُّ اَلْخَصِمُ)؟
قال النووي: (الْأَلَدّ) شَدِيد الْخُصُومَة مَأْخُوذ مِنْ لَدِيدَيْ الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ أَخَذَ فِي جَانِب آخَر. وَأَمَّا (الْخَصِم) فَهُوَ الْحَاذِق بِالْخُصُومَةِ. وَالْمَذْمُوم هُوَ الْخُصُومَة بِالْبَاطِلِ فِي رَفْع حَقٍّ، أَوْ إِثْبَات بَاطِل. وَاَللَّه أَعْلَم.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد ذم شدة الخصومة، والمراد به - كما قال النووي - الخصومة في دفع الحق أو إثبات باطل.
ما سبب ذم شدة المخاصمة؟
قال الحافظ:
…
وإن كان مسلماً فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تفضي غالباً إلى ما يذم صاحبه، أو يخص في حق المسلمين بمن خاصم في باطل.
ويشهد للأول حديث (كفى بك اثماً ان لا تزال مخاصماً) أخرجه الطبراني عن أبي امامة بسند ضعيف.
هل ورد الترغيب في ترك المخاصمة؟
نعم.
فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب عن أبي أمامة رفعه (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل.
والربض بفتح الراء والموحدة بعدها ضاد معجمة الأسفل. (الفتح).
لماذا خص الرجال؟
قال المناوي: وإنما خص الرجال، لأن اللدد فيهم أغلب، ولأن غيرهم لهم تبع في جميع المواطن.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
الترهيب من الشدة في الخصومة.
أن انتشار الجدل علامة على الضلال.
الجدل والخصومة بالباطل من آفات اللسان التي تسبب الفرقة والتقاطع والتدابر بين المسلمين، والبغض من الله تعالى.
أن الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، هو الشخص الذي يبغضه الله تعالى.
الألد هو المعوج عن الحق المولع بالخصومة والماهر بها ويدخل في ذلك كثير الجدل بالباطل.
الواجب على المسلم أن يتعلم فضيلة وخلق العفو والتسامح وأن لا يجعل الخصومة سبيلا إلى معاداة الناس ومحاولة الأذى لهم؛ فإن ذلك ليس من أخلاق الكرام.
بَابُ اَلتَّرْغِيبِ فِي مَكَارِمِ اَلْأَخْلَاقِ
1519 -
عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ اَلصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى اَلْبِرِّ، وَإِنَّ اَلْبِرَّ يَهْدِي إِلَى اَلْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى اَلصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اَللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ اَلْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى اَلْفُجُورِ، وَإِنَّ اَلْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى اَلنَّارِ، وَمَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى اَلْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اَللَّهِ كَذَّابًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
===
(يَهْدِي) أي: يرشد ويوصل.
(إِلَى البرِّ) البر كلمة جامعة لأعمال الخير، ومختلف الأعمال الصالحات، قال تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
(وإنَّ البر يَهدِي) أي: يقود ويوصل.
(إِلَى الجَنَّةِ) وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً) أي: يصير الصدق له سجية وخلقاً.
(وَإِنَّ الكَذِبَ) وهو الإخبار بخلاف الواقع.
(يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ) الفجور يشمل جميع الأعمال السيئة.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الصِّدْقِ.
قال ابن تيمية:
…
الصدق أَصْلُ الْخَيْرِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) وَقَالَ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا).
وَلِهَذَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ ذُنُوبٌ كَثِيرَةٌ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ: أَنَا آمُرُك بِخَصْلَةِ وَاحِدَةٍ فَاحْفَظْهَا لِي؛ وَلَا آمُرُك السَّاعَةَ بِغَيْرِهَا الْتَزِمْ الصِّدْقَ وَإِيَّاكَ وَالْكَذِبَ وَتَوَعَّدَهُ عَلَى الْكَذِبِ بِوَعِيدِ شَدِيدٍ فَلَمَّا الْتَزَمَ ذَلِكَ الصِّدْقَ دَعَاهُ إلَى بَقِيَّةِ الْخَيْرِ وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَاجِرَ لَا حَدَّ لَهُ فِي الْكَذِبِ. (مجموع الفتاوى: 15/ 246).
وقال ابن القيم: ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤة الصدق، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤة الكذب، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق؛ ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
وقال ابن تيمية: الصِّدْقُ أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ وَنِظَامُهَا وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ فَالْوَصْفُ الْمُقَوِّمُ لَهُ الْفَاصِلُ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ هُوَ الْمَنْطِقُ وَالْمَنْطِقُ قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ صِحَّتُهُ بِالصِّدْقِ وَفَسَادُهُ بِالْكَذِبِ فَالْكَاذِبُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ.
الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَةَ الْمُمَيِّزَةَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ. وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
الثَّالِثُ: أَنَّ الصِّفَةَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَعَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ).
الرَّابِعُ: أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ أَصْلُ الْبِرِّ، وَالْكَذِبَ أَصْلُ الْفُجُورِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ
…
).
الْخَامِسُ: أَنَّ الصَّادِقَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْكَاذِبَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ).
السَّادِسُ: أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبَيْنَ الْمُتَشَبَّهِ بِهِمْ مِنْ الْمُرَائِينَ وَالْمُسْمِعِينَ وَالْمُبْلِسِينَ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.
السابع: أَنَّ الْمَشَايِخَ الْعَارِفِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ إلَى اللَّهِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
وقَوْله تَعَالَى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوى لِلْكَافِرِينَ).
وقوله تعالى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
اذكر بعض فضائل الصدق؟
أولاً: أنه سبب للطمأنينة.
كما في الحديث (فإن الصدق طمأنينة).
ثانياً: هو المميز بين المؤمن والمنافق.
قال صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: وإذا حدث كذب
…
).
ثالثاً: لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق:
قال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).
رابعاً: الصدق أصل كل بر.
كما في حديث الباب (إن الصدق يهدي إلى البر).
خامساً: أن مجاهدة النفس على تحري الصدق توصلها إلى مرتبة الصديقية.
قال صلى الله عليه وسلم: (
…
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً).
سادساً: الصدق سبب للبركة.
كما قال صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار
…
فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما).
قال ابن تيمية: الله يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ؛ قَالَ تَعَالَى (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ). وَقَالَ (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَالَ تَعَالَى (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وَقَالَ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلَى قَوْلِهِ (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
وقال ابن تيمية: (الصدق يهدي إلى البر
…
) فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الصِّدْقَ أَصْلٌ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ، وَأَنَّ الْكَذِبَ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى (إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إذَا أَمَرَ بَعْضَ مُتَّبِعِيهِ بِالتَّوْبَةِ وَأَحَبَّ أَنْ لَا يُنَفِّرَهُ وَلَا يُشَعِّبَ قَلْبَهُ أَمَرَهُ بِالصِّدْقِ. وَلِهَذَا كَانَ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ مَشَايِخِ الدِّينِ وَأَئِمَّتِهِ ذِكْرُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ حَتَّى يَقُولُوا: قُلْ لِمَنْ لَا يَصْدُقُ: لَا يَتَّبِعْنِي. وَيَقُولُونَ: الصِّدْقُ سَيْفُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا قَطَعَهُ.
وَيَقُولُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُ: مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا صَنَعَ لَهُ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَإِنّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُونَ إلَى مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ، فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ؛ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ اللَّهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ نَعَتَهُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) إلَى قَوْلِهِ (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وَقَالَ تَعَالَى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَقَّبْ إيمَانَهُمْ رِيبَةٌ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين.
وقال: وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْكَذِبِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) وقَوْله تَعَالَى (إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) وقَوْله تَعَالَى (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وقال رحمه الله: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالتَّصْدِيقَ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَفِي الْأَعْمَالِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) وَيُقَالُ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً صَادِقَةً إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُمْ لِلْقِتَالِ ثَابِتَةً جَازِمَةً، وَيُقَالُ فُلَانٌ صَادِقُ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُرِيدُونَ بِالصَّادِقِ؛ الصَّادِقُ فِي إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَطَلَبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي عَمَلِهِ، وَيُرِيدُونَ الصَّادِقَ فِي خَبَرِهِ وَكَلَامِهِ وَالْمُنَافِقُ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ، أَوْ كَاذِبًا فِي عَمَلِهِ كَالْمُرَائِي فِي عَمَلِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) الْآيَتَيْنِ.
اذكر أقسام الصدق؟
قسم ابن القيم الصدق إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صدق في الأقوال:
ومعناه: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
والثاني: صدق في الأعمال.
ومعناه: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
والثالث: صدق في الأحوال.
ومعناه: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص.
اذكر بعض أقوال السلف في الصدق.
قال عمر بن الخطاب: عليك بالصدق وإن قتلك.
وقال بشر بن الحارث: مَنْ عامل الله بالصدق استوحش من الناس.
وقال جعفر بن محمد: الصدق هو المجاهدة، وأن لا تختار على الله غيره كما لم يختر عليك غيرك، فقال تعالى (هو اجتباكم).
وقال بعض العلماء: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة ولا يتم بعضها إلا ببعض: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله في الأعمال، وطيب المطعم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها.
قال ابن القيم: الصادق مطلوبه رضى ربه، وتنفيذ أوامره، وتتبع محابه، فهو متقلب فيها، يسير معها أينما توجهت ركائبها، ويستقل معها أينما استقلت مضاربها، فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع المنافع.
قال ابن تيمية: الصديقية: كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهراً وباطناً.
قال ابن القيم: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره.
وقال: كل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب.
وقال: أصل أعمال القلوب كلها: الصدق.
وقال: من ترك المألوفات والعوائد مخلصاً صادقاً من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو أم كاذب.
اذكر بعض علامات الصادق؟
أولاً: طمأنينة القلب واستقراره:
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في القلب، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه، يقول صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة).
ثانياً: الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل.
فالصادق مع الله عز وجل لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه، مستعداً لذلك بالأعمال الصالحة، والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعاً في ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: سلامة القلب.
إن من علامة الصدق سلامة القلب، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته.
رابعاً: حفظ الوقت وتدارك العمر.
إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه في الآخرة، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار، وإلى الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها، ثم قام وتركها، فبادر بالأعمال الصالحة فراغه وصحته، وشبابه، وحياته، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه، وتضيع عليه وقته، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع.
خامساً: الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك:
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس، والقناعة بما كتب الله عز وجل، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص، وهي تنبع أصلاً من صحة المعتقد، وكمال التوحيد لله عز وجل، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار.
سادساً: إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور.
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل، حرصه على إخفاء عمله، وكراهة اطلاع الناس عليه، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق، فكلما كان العبد صادقاً مع ربه عز وجل كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا الله عز وجل.
قال الحسن: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به.
سابعاً: الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين.
ثامناً: الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل.
إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم.
إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية. [كتاب وقفات مع آيات للشيخ الجليل حفظه الله].
قال ابن القيم رحمه الله: إن الصادق لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضا محبوبه، ويستكثر من الأسباب التي تقربه إليه وتدنيه منه، لا لعلة من علل الدنيا ولا لشهوة من شهواتها.
1520 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ اَلظَّنَّ أَكْذَبُ اَلْحَدِيثِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1521 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا; نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ" فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ، فَأَعْطُوا اَلطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: " غَضُّ اَلْبَصَرِ، وَكَفُّ اَلْأَذَى، وَرَدُّ اَلسَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ اَلْمُنْكَرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد تجنب الجلوس في الطرقات.
قال النووي: يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَب الْجُلُوس فِي الطُّرُقَات لِهَذَا الْحَدِيث، وَيَدْخُل فِي كَفّ الْأَذَى اِجْتِنَاب الْغِيبَة، وَظَنّ السُّوء، وَإِحْقَار بَعْض الْمَارِّينَ، وَتَضْيِيق الطَّرِيق، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مِمَّنْ يَهَابهُمْ الْمَارُّونَ، أَوْ يَخَافُونَ مِنْهُمْ، وَيَمْتَنِعُونَ مِنْ الْمُرُور فِي أَشْغَالهمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَا يَجِدُونَ طَرِيقًا إِلَّا ذَلِكَ الْمَوْضِع.
وفي الآخر (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ كُنَّا قُعُودًا بِالأَفْنِيَةِ نَتَحَدَّثُ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ «مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ». فَقُلْنَا إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَاسٍ قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ. قَالَ «إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا غَضُّ الْبَصَرِ وَرَدُّ السَّلَامِ وَحُسْنُ الْكَلَامِ).
وقال النووي:
…
وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَنَّهُ يُكْرَه الْجُلُوس عَلَى الطُّرُقَات لِلْحَدِيثِ وَنَحْوه، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عِلَّة النَّهْي مِنْ التَّعَرُّض لِلْفِتَنِ وَالْإِثْم بِمُرُورِ النِّسَاء وَغَيْرهنَّ، وَقَدْ يَمْتَدّ نَظَر إِلَيْهِنَّ أَوْ فِكْر فِيهِنَّ أَوْ ظَنّ سُوء فِيهِنَّ أَوْ فِي غَيْرهنَّ مِنْ الْمَارِّينَ، وَمِنْ أَذَى النَّاس بِاحْتِقَارِ مَنْ يَمُرّ، أَوْ غِيبَة أَوْ غَيْرهَا، أَوْ إِهْمَال رَدّ السَّلَام فِي بَعْض الْأَوْقَات، أَوْ إِهْمَال الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي لَوْ خَلَا فِي بَيْته سَلِمَ مِنْهَا.
ما حكم غض البصر عما حرم الله؟
واجب.
أ-قال تعالى (قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
…
).
ب-وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إياكم والجلوس في الطرقات
…
ثم قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام
…
).
ج-وعن جرير قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري) رواه مسلم.
د- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُه) متفق عليه.
اذكر فوائد غض البصر؟
في غض البصر فوائد:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
ثانيها: أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه.
ثالثها: أنه يورث حجة الفراسة.
فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته.
رابعها: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه.
خامسها: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، وفي الأثر: أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله.
سادسها: أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر.
سابعها: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة.
قال ابن القيم: فتنة النظر أصل كل فتنة.
وقال: من أطلق بصره دامت حسرته.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
الحديث دليل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن جلس بالطريق، فهو من حقوق الطريق لمن جلس بها.
وجوب كف الأذى عن كل مسلم.
قال النووي: وَيَدْخُل فِي الْأَذَى أَنْ يُضَيِّق الطَّرِيق عَلَى الْمَارِّينَ، أَوْ يَمْتَنِع النِّسَاء وَنَحْوهنَّ مِنْ الْخُرُوج فِي أَشْغَالهنَّ بِسَبَبِ قُعُود الْقَاعِدِينَ فِي الطَّرِيق، أَوْ يَجْلِس بِقُرْبِ بَاب دَار إِنْسَان يَتَأَذَّى بِذَلِكَ، أَوْ حَيْثُ يَكْشِف مِنْ أَحْوَال النَّاس النَّاس شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ.
الحديث دليل على وجوب رد السلام على المارين.
من حقوق الطريق حسن الكلام.
قال النوو: وَأَمَّا حُسْن الْكَلَام فَيَدْخُل فِيهِ حُسْن كَلَامهمْ فِي حَدِيثهمْ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ، فَلَا يَكُون فِيهِ غِيبَة، وَلَا نَمِيمَة، وَلَا كَذِب، وَلَا كَلَام يُنْقِص الْمُرُوءَة، وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام الْمَذْمُوم، وَيَدْخُل فِيهِ كَلَامهمْ لِلْمَارِّ مِنْ رَدّ السَّلَام، وَلُطْف جَوَابهمْ لَهُ، وَهِدَايَته لِلطَّرِيقِ، وَإِرْشَاده لِمَصْلَحَتِهِ، وَنَحْو ذَلِكَ.
على العالم أن يرشد الناس إلى الأصلح.
سد الذرائع.
الحذر من أمر قد يجر إلى ارتكاب منهيات.
حرص الشريعة على صلاح المجتمع.
1522 -
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ يُرِدِ اَللَّهُ بِهِ خَيْرًا، يُفَقِّهْهُ فِي اَلدِّينِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
ما معنى (يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)؟
أي: يفهمه في الدين.
قال العيني رحمه الله: قَوْله: (يفقهه) أَي: يفهمهُ، إِذْ الْفِقْه فِي اللُّغَة الْفَهم. قَالَ تَعَالَى:(يفقهوا قولي)، أَي: يفهموا قولي، من فقه يفقه، ثمَّ خُص بِهِ علم الشَّرِيعَة، والعالم بِهِ يُسمى فَقِيهاً. (عمدة القارئ)
فالفقه في الدين: معرفة أحكام الشريعة بأدلتها، وفهم معاني الأمر والنهي، والعمل بمقتضى ذلك، فيرث به الفقيه الخشية من الله تعالى ومراقبته في السر والعلن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الفِقْهُ فِي الدِّينِ: فَهْمُ مَعَانِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِيَسْتَبْصِرَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِه، أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى:(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فَقَرَنَ الْإِنْذَارَ بِالْفِقْهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَا وَزَعَ عَنْ مُحَرَّمٍ، أَوْ دَعَا إلَى وَاجِبٍ، وَخَوَّفَ النُّفُوسَ مَوَاقِعَهُ، الْمَحْظُورَة.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الفقه في الدين.
قال الحافظ ابن حجر: يفقهه: أي يفهمه.
قال النووي: فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه، وسببه أنه قائد إلى تقوى الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين، لَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، وَالدِّينُ: مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، تَصْدِيقًا عَامًّا، وَطَاعَةً عَامَّة.
وقال ابن القيم: من أراد الله به خيراً فقهه في الدين.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: هذا الحديث العظيم يدلنا على فضل الفقه في الدين.
على ماذا يدل مفهوم الحديث؟
أن من لم يرد الله به خيراً لم يفقهه في الدين.
قال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين - أي تعلم قواعد الإسلام وما يتصل به من الفروع - فقد حرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر وزاد في آخره: ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به، والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير.
قال الحافظ: (خيراً) ليشمل القليل والكثير، والتنكير للتعظيم لأن المقام يقتضيه.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
الحديث دليل ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس.
وفيه الحث على طلب العلم وكون الإنسان فقيهاً، لأن ذلك من علامة الخير.
وفيه ينبغي على الإنسان أن يحرص غاية الحرص على الفقه في الدين، لأن الله تعالى إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، ومن أسباب الفقه: أن تتعلم، وأن تحرص لتنال هذه المرتبة العظيمة.
وفيه أن المراد بالفقه العلم المقتضي للعمل، فمن تعلم دين ولم يعمل به فليس بفقيه.
وفيه على المسلم أن يعرف علامات الخير حتى يحرص عليها.
وفيه فضل العلم الشرعي.
أن العلم النافع علامة على سعا العبد، وأن الله أراد به خيراً.
1523 -
وَعَنْ أَبِي اَلدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ اَلْخُلُقِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
===
ما تعريف حسن الخلق؟
هو فعل الفضائل وترك القبائح.
وقد تقدمت فضائل حسن الخلق في حديث: 1439.
فائدة:
في الحديث إثبات الميزان.
وفيه مباحث:
أولاً: تعريفه: هو ميزان حقيقي له كفتان.
ثانياً: أدلة ثبوته.
قال تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وقال تعالى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وحديث (والحمد لله تملأ الميزان .. ).
والحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (كلمتان ثقيلتان في الميزان
…
).
ثالثاً: اختلف العلماء في الذي يوزن على أقوال:
القول الأول: أن الذي يوزن الأعمال نفسها.
وإلى هذا ذهب ابن حزم، والطيبي، وابن حجر.
قال ابن حجر: والصحيح أن الأعمال هي التي توزن.
أ- لحديث الباب (والحمد الله تملأ الميزان).
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان
…
: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) متفق عليه.
قالوا: هذان الحديثان صريحان في وزن الأعمال أنفسها.
ج- ولقوله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
القول الثاني: أن الذي يوزن العامل (أي: صاحب العمل).
أ- لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة). متفق عليه
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم في ابن مسعود (إن ساقيه أثقل من جبل أحد في الميزان) رواه أحمد.
القول الثالث: أن الذي يوزن صحائف الأعمال.
وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، والقرطبي.
لحديث البطاقة وفيه (
…
وتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء) رواه الترمذي.
القول الرابع: أن الجميع يوزن.
وإلى هذا ذهب ابن كثير، وابن أبي العز، وحافظ حكمي، وابن باز وغيرهم.
قال ابن أبي العز بعدما ساق بعض النصوص الواردة في ذلك: فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال.
وقال حافظ حكمي: الذي استظهر من النصوص -والله أعلم- أن العامل وعمله وصحيفة عمله كل ذلك يؤذن، لأن الأحاديث التي في بيان القرآن قد وردت بكل ذلك ولا منافاة بينها.
وقال الشيخ ابن باز: الجمع بين النصوص أنه لا منافاة بينها فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة.
وهذا القول هو الراجح.
رابعاً: كيف توزن الأعمال مع أنها أعراض، لأن الوزن يكون للأجسام؟
أجاب بعضهم: بأن الله تعالى يقلب الأعراض يوم القيامة أجساماً ثم توزن.
قال ابن كثير: قوله (والحمد لله تملأ الميزان) فيه دلالة على أن العمل نفسه وإن كان عرضاً قد قام بالفاعل، يحيله الله يوم القيامة فيجعله ذاتاً يوضع في الميزان.
وقال ابن أبي العز: فلا يلتفت إلى قول ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً.
خامساً: هل هو ميزان واحد أم متعدد؟
وردت نصوص تدل على أنه متعدد، كقوله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)، وقوله تعالى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
…
).
ووردت نصوص بالإفراد، كقوله صلى الله عليه وسلم (كلمتان ثقيلتان في الميزان).
والراجح أنه ميزان واحد، لكنه متعدد باعتبار الموزون.
سادساً: قال القرطبي: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديره ليكون الجزاء بحسبها.
1524 -
وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْحَيَاءُ مِنْ اَلْإِيمَانِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1525 -
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ اَلنَّاسُ مِنْ كَلَامِ اَلنُّبُوَّةِ اَلْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
(إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ اَلنَّاسُ مِنْ كَلَامِ اَلنُّبُوَّةِ اَلْأُولَى) أي: إن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن.
عرف الحياء
هو خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح.
اذكر فضائل الحياء؟
أولاً: أنه من علامات الإيمان.
عَنْ ابن عمر. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ [وفي رواية يعاتب] أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ [يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول قد أضر بك]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ) متفق عليه.
ثانياً: الحياء أبهى زينة.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه) رواه الترمذي.
ثالثاً: الحياء من صفات الرب.
عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر) رواه أبو داود.
رابعاً: الحياء خلق يحبه الله.
للحديث السابق (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء).
خامساً: الحياء خلق الإسلام.
عن زيد بن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) رواه مالك.
سادساً: الحياء خير كله.
لحديث عمران (الحياء خير كله) رواه مسلم.
سابعاً: الحياء مانع من فعل القبيح.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري.
ما معنى قوله (إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)؟
في معناه قولان:
أحدهما: أنه أمر تهديد، ومعناه الخبر: أي من لم يستح صنعَ ما شاء.
والثاني: أنه أمر إباحة، أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله، فإن كان مما لا يستحيَى منه فافعله، والأول أصح وهو قول الأكثرين. (ابن القيم)
هناك بعض الأمور يكون الحياء فيها مذموماً، اذكرها؟
أولاً: الحياء في طلب العلم.
قالت عائشة: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين). رواه مسلم
وقال مجاهد: لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر.
ثانياً: عدم قول الحق والجهر به.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).
قال ابن حجر: ولا يقال رب حياء يمنع من الحق، أو فعل الحق، لأن ذلك ليس شرعياً.
قال ابن رجب رحمه الله: إن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء فإنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة.
والحياء نوعان:
أحدهما: ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب، فهذا من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير) فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها.
الثاني: ما كان مكتسباً من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده واطلاعه عليهم، فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان.
اذكر بعض أقوال السلف في الحياء؟
قال الفضيل: خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
قال سليمان: إذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً.
وقال أبو موسى: إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياء من ربي.
أن من نزع منه الحياء فعل ما يشاء.
قال الشاعر:
إذا قلّ ماء الوجه قل حياؤه
…
فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما
…
يدل على وجه الكريم حياؤه
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
اتفاق النبوات على فعل الخير.
فضل التخلق بأخلاق الأنبياء.
أن الحياء مانع من الأفعال القبيحة.
الإسلام يدعو إلى الفضائل ويمنع من الرذائل.
1526 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْمُؤْمِنُ اَلْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ مِنْ اَلْمُؤْمِنِ اَلضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ; فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ اَلشَّيْطَانِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(المُؤْمِنُ القَوِيُّ) هو من يقوم بالأوامر، ويترك النواهي بقوة ونشاط، ويصبر على مخالطة الناس ودعوتهم، ويصبر على أذاهم. أي: القوي في إيمانه، وليس المراد القوي في بدنه.
(وَفي كُلٍّ خَيرٌ) يعني المؤمن القوي، والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل قوة الإيمان، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
قال السعدي: ودل الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية، والأقوال والأفعال، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة; فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: (لا إله إلا الله) وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة منه. وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. فمن قام بها حق القيام، وكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمل غيره بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان، ومن لم يصل إلى هذه المرتبة: فهو المؤمن الضعيف.
إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودل على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وأيضا تتفاضل. فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف.
ونستفيد الاحتراز عند التفاضل بين شيئين:
قال السعدي: ولما فاضل النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول، فقال (وفي كل خير) وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة، وهي أن على من فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل، وجهة التفضيل، ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكذلك في الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار، وذكر التفاوت بينهما، فينبغي بعد ذلك أن يذكر القدر المشترك بينهما من أسباب الخير أو الشر، وهذا كثير في الكتاب والسنة.
ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
وقوله تعالى (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
وقوله تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)؟
كلام جامع نافع، محتو على سعادة الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم: فالخير كله في الحرص علة ما ينفع.
والحرص: بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمور الدنيا والدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع، لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة.
والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية.
والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها. فمن لم يكن حريصاً على الأمور النافعة، بل كان كسلاناً، لم يدرك شيئاً. فالكسل هو أصل الخيبة والفشل، فالكسلان لا يدرك خيراً، ولا ينال مكرمة، ولا يحظى بدين ولا دنيا، ومتى كان حريصاً، ولكن على غير الأمور النافعة: إما على أمور ضارة، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة، وفوات الخير، وحصول الشر والضرر، فكم من حريص على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه إلا التعب والعناء والشقاء.
لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعانة بالله في قوله (واستعن بالله).
قال ابن القيم: لما كان حرص الإنسان وفعله هو بمعونة الله وتوفيقه، أمره أن يستعين به، ليجتمع له مقام (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولا تتم إلا بمعونته.
والاستعانة: طلب العون.
قال ابن رجب: وأما الاستعانة بالله عز وجل دونَ غيره من الخلق؛ فلأنَّ العبدَ عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضارّه، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله، فهو المُعانُ، ومن خذله فهو المخذولُ، وهذا تحقيقُ معنى قول (لا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله)، فإنَّ المعنى: لا تَحوُّلَ للعبد مِنْ حال إلى حال، ولا قُوَّة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ، وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبدُ محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه. وفي الحديث الصحيح عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (احرصْ على ما ينفعُكَ واستعن بالله ولا تعجزْ) ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيرِه، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولاً. كتب الحسنُ إلى عُمَرَ بنِ العزيز: لا تستعِنْ بغيرِ الله، فيكِلَكَ الله إليه. ومن كلام بعضِ السَّلف: يا ربِّ عَجبت لمن يعرفُك كيف يرجو غيرك، عجبتُ لمن يعرفك كيف يستعينُ بغيرك.
لماذا قال (ولا تعجز).
بكسر الجيم وهو الأفصح؛ أي لا تفرط في طلب ذلك ولا تضعف عن القيام به، ولا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه، بل استمر؛ لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت ما تم لك عمل.
اذكر حكم استعمال لو؟
استعمالها فيه تفصيل:
أولاً: إذا قيلت اعتراضاً على الشرع، فهذا حرام ولا يجوز.
مثل: لو قال: لو أن الله ما أوجب الحج، أو صلاة الفجر.
قال تعالى (لو أطاعونا ما قتلوا).
ثانياً: أن تقال اعتراضاً على المقدور، وهذا محرم.
كما لو سافر إنسان وأصابه شيء، فقال: لو أني لم أسافر لم يحصل كذا وكذا.
قال تعالى (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).
ثالثاً: أن تقال للندم والتحسر، وهذا حرام أيضاً.
مثال: رجل حرص أن يشتري شيئاً غيه ربحاً فخسر، فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة، فهذا ندم وتحسر.
رابعاً: أن تستعمل في التمني، وحكمه حكم المتمني، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة: (قال أحدهم: لو أن عندي مال فلان لعملت فيه عمل فلان، فهذا تمنى خيراً، وقال الثاني: لو أن عندي مال فلان الذي ينفقه في غير مرضات الله، فهذا تمنى شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول: فهو بنيته فهم بالأجر سواء، وقال في الثاني: فهم بنيته فهما بالوزر سواء). رواه أحمد
خامساً: أن تستعمل في الخير المحض. مثال: لو حضرت الدرس لاستفدت، فهذا جائز.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
وجوب الإيمان بالقدر.
تحريم التسخط عند حدوث مكروه.
1527 -
وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) أي: لا يعتدي أحد على أحد.
(وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) الافتخار: هو المباهاة بالمناقب كالمال والولد والقوة.
عرف التواضع؟
هو ضد الكبر.
قال الإمام الجنيد رحمه الله: التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب.
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن التواضع، فقال: التواضع: أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي قبله، ولو سمعه من أجهل الناس قبله.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحث على التواضع.
اذكر فضائل التواضع؟
أولاً: سبب للرفعة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (من تواضع لله رفعه) رواه مسلم.
ثانياً: من صفات عباد الرحمن.
قال تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
قال ابن كثير: هذه صفات عباد الله المؤمنين (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) أي: بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار، كما قال (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا). فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر.
قال السعدي: فوصفهم بأنهم (يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) أي: ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده.
ثالثاً: يورث المحبة.
قيل: التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة.
قال ابن حبان:
…
والتواضع يكسب السلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويذهب الصد، وثمرة التواضع المحبة، كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه، كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته.
رابعاً: التواضع من أخلاق الأنبياء وشِيَم النبلاء.
فهذا موسى عليه السلام رفع الحجرَ لامرأتين أبوهما شيخٌ كبير.
وداود عليه السلام كان يأكل من كَسب يده.
وزكريّا عليه السلام كان نجّارًا.
وعيسى عليه السلام يقول (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا).
وما مِنْ نبيّ إلاّ ورعى الغنم، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم كان رقيقَ القلب رحيمًا خافضَ الجناحِ للمؤمنين ليّن الجانب لهم، يحمِل الكلَّ ويكسِب المعدوم، ويعين على نوائبِ الدّهر، وركب الحمارَ وأردفَ عليه، يسلّم على الصبيان، ويبدأ من لقيَه بالسلام، يجيب دعوةَ من دعاه ولو إلى ذراعٍ أو كُراع، ولما سئِلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنَع في بيته؟ قالت: يكون في مهنة أهله ـ يعني: خدمتهم ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري.
خامساً: التواضعُ سبَب العدلِ والأُلفة والمحبّة في المجتمع.
لحديث الباب (حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ).
اذكر بعض أقوال السلف في فضل التواضع؟
قال الشافعي: لا يطلب هذا العلم أحد بالملك وعزة النفس فيفلح لكن من طلبه بذل النفس و ضيق العيش وخدمة العلم وتواضع النفس أفلح.
وقال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علمًا كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
وقال إبراهيم بن شيبان: الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرِّية في القناعة
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنكم لتغفلون، أفضل العبادة: التواضع.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ *** على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيعُ
قال ابن الحاج رحمه الله: "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى؛ فإن العزة لا تقع إلا بقدرِ النزولِ، ألا ترى أن الماءَ لما نزلَ إلى أصلِ الشجرةِ صعدَ إلى أعلاها فكأن سائلاً سأله: ما صعدَ بِكَ هنا -أعني في رأس الشجرة- وأنت تحت أصلها؟ فكأن لسان حاله يقول: من تواضع لله رفعه.
قال عروة بن الورد: التواضع أحد مصائد الشرف، وكل نعمة محسود عليها إلا التواضع.
فائدة:
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فيه وجهان:
أحدهما: يرفعه في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس، ويجل مكانه.
والثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة، ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا.
قال العلماء: وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخرة، والله أعلم. (شرح نووي).
اذكر بعض صور تواضعه صلى الله عليه وسلم
-؟
التواضع في التعامل مع الزوجة وإعانتها.
عن الأسود قال (سألتُ عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله -، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة).
قال الحافظ ابن حجر: وفيه: الترغيب في التواضع وترك التكبر، وخدمة الرجل أهله.
التواضع مع الصغار وممازحتهم
عن أنس قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خلُقاً، وكان لي أخ يقال له " أبو عمير " - قال: أحسبه فطيماً - وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النغير) متفق عليه.
قال النووي:
" النُّغيْر " وهو طائر صغير. و" الفطيم " بمعنى المفطوم.
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة جدّاً منها:
…
ملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من حسن الخلُق وكرم الشمائل والتواضع.
1528 -
وَعَنْ أَبِي اَلدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ، رَدَّ اَللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ اَلنَّارَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.
1529 -
وَلِأَحْمَدَ، مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوُهُ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الذب عن عرض المسلم في حال غيبته.
قال النووي: اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبةَ مسلم أن يردّها ويزجرَ قائلَها، فإن لم ينزجرْ بالكلام زجرَه بيده، فإن لم يستطع باليدِ ولا باللسان، فارقَ ذلكَ المجلس، فإن سمعَ غِيبَةَ شيخه أو غيره ممّن له عليه حقّ، أو كانَ من أهل الفضل والصَّلاح، كان الاعتناءُ بما ذكرناه أكثر.
وقد جاءت الأدلة الكثيرة في فضل الذب عن عرض المسلم:
وقد تقدم حديث (المسلم أخو المسلم:
…
ولا يخذله).
وحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).
وفي حديث عِتبان - الطويل المشهور - قال: (قام النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، فقالوا: أين مالك بن الدُّخْشُم؟ فقال رجل: ذلك منافق لا يُحِبّ اللَّهَ ورسولَه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تَقُلْ ذلكَ، ألا تَرَاهُ قَدْ قالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، يُرِيدُ بِذلكَ وَجْهَ اللَّهِ؟).
وعن الحسن البصري رحمه الله (أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلَ على عُبيد الله بن زياد فقال: أي بنيّ إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ شَرَّ الرِّعَاء الحُطَمَةُ، فإيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمُ، فقال له: اجلسْ، فإنما أنتَ من نُخالة أصحابِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال: وهل كانتْ لهم نخالةٌ: إنما كانت النُّخَالةُ بعدَهم وفي غيرِهم. رواه مسلم.
وعن كعب بن كالك في حديثه الطويل في قصة توبته قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في القوم بتبوك " ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ؟ " فقال رجلٌ من بني سَلمة: يا رسول الله حبسَه بُرداهُ والنظرُ في عِطْفَيْه، فقال له مُعاذُ بن جبل رضي الله عنه: بئسَ ما قلتَ، والله يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
[سَلِمة بكسر اللام، وعِطْفاه: جانباه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه].
وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من امرئ يخذل امرءاً مُسْلِماً في مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضَهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وما من امرئ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلا نَصَرَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِب نُصْرَتَهُ) رواه أبو داود.
1530 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اَللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحث الشديد على الصدقة، وأنها لا تنقص بل تزيده.
اذكر فضائل الصدقة؟
وللصدقة فضائل كثيرة منها:
أولاً: أنها برهان على صحة الإيمان.
كما في حديث أبي مالك الأشعري. قال: قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة برهان) رواه مسلم.
الحديث دليل على فضل الصدقة، وأنها دليل وبرهان على صحة إيمان صاحبها، والسبب في ذلك أن المال محبوب للنفوس، فإذا أنفقت منه فهذا دليل على صحة إيمانها بالله وتصديقها بوعده ووعيده.
ثانياً: أنها تطهير للنفس.
قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
ثالثاً: أنها تغفر الذنوب.
قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) رواه الترمذي.
رابعاً: أن الصدقة تزيد المال.
قال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.
خامساً: أنها تظلل صاحبها يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم (العبد في ظل صدقته يوم القيامة) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
…
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
سادساً: أنها وقاية النار.
قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم للنساء (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) متفق عليه.
سابعاً: دعاء الملائكة.
كما قال صلى الله عليه وسلم (ما من صباح إلا وينزل ملكان: يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه
ثامناً: أن فيها علاجاً من الأمراض.
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (داووا مرضاكم بالصدقة).
قال ابن شقيق (سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فأحفر بئراً في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبراً).
تاسعاً: أن الله يدفع بالصدقة أنواعاً من البلاء.
كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل (وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم).
فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه. (الوابل الصيب).
عاشراً: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به.
كما في قوله تعالى (ومَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُم).
ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة عن الشاة التي ذبحوها ما بقى منها: قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال (بقي كلها غير كتفها) رواه الترمذي.
الحادي عشر: أن يضاعف للمتصدق أجره.
كما في قوله عز وجل (إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم).
وقوله سبحانه (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون).
الثاني عشر: أن فيها انشراحاً للصدر.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدَيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تُغَشِّىَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا) متفق عليه.
فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلمَّا تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة.
الثالث عشر: أن الله يضاعفها ولو كانت قليلة.
كما قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوه) متفق عليه.
عن أبي هُرَيْرَةَ قال. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) متفق عليه.
الرابع عشر: درجة البر (الجنة) تنال بالإنفاق:
كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
وكان ابن عمر إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به.
الخامس عشر: صاحب الصدقة موعود بالخلف.
كما قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب.
السادس عشر: الفضل الكبير.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلَانٌ. لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتاً فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لاِسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالي ثُلُثاً وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَه) رواه مسلم.
متى أفضل وقت للصدقة؟
وقت الصحة والقوة.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ فَقَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَان) متفق عليه.
قال النووي رحمه الله: قَالَ الخطابي: فَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة، فَإِذَا شَحّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت وَآيَسَ مِنْ الْحَيَاة وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة، وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء وَخَوْف الْفَقْر .. فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصِيَّته كَبِير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَدَقَة الصَّحِيح الشَّحِيح.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَفِي الْحَدِيث أَنَّ تَنْجِيز وَفَاء الدَّيْن وَالتَّصَدُّق فِي الْحَيَاة وَفِي الصِّحَّة أَفْضَل مِنْهُ بَعْد الْمَوْت وَفِي الْمَرَض، وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" وَأَنْتَ صَحِيح حَرِيص تَأْمُل الْغِنَى الخ " لأَنَّهُ فِي حَال الصِّحَّة يَصْعُب عَلَيْهِ إِخْرَاج الْمَال غَالِبًا لِمَا يُخَوِّفهُ بِهِ الشَّيْطَان وَيُزَيِّن لَهُ مِنْ إِمْكَان طُول الْعُمْر وَالْحَاجَة إِلَى الْمَال كَمَا قَالَ تَعَالَى (الشَّيْطَان يَعِدكُمْ الْفَقْر) الآيَة.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء مَرْفُوعًا قَال (مَثَل الَّذِي يُعْتِق وَيَتَصَدَّق عِنْد مَوْته مِثْل الَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِع) وَهُوَ يَرْجِع إِلَى مَعْنَى حَدِيث الْبَاب.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا (لأَنْ يَتَصَدَّق الرَّجُل فِي حَيَاته وَصِحَّته بِدِرْهَمٍ خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته بِمِائة).
فائدة:
قال السمرقندي: عليك بالصدقة بما قلّ أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال محمودة خمس في الدنيا وخمس في الآخرة.
أما التي في الدنيا:
فأولها: تطهير المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة).
والثاني: أن فيها تطهير البدن من الذنوب، كما قال الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
…
).
والثالث: أن فيها دفع البلاء والأمراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة).
والرابع: أن فيها إدخال السرور على المساكين، وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين.
والخامس: أن فيها بركة في المال وسعة في الرزق، كما قال تعالى (ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).
وأما الخمس التي في الآخرة:
فأولها: أن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها في شدة الحر.
والثاني: أن فيها خفة الحساب.
والثالث: أنها تثقل الميزان.
والرابع: جواز على الصراط.
والخامس: زيادة الدرجات في الجنة.
ما الأفضل في صدقة التطوع أن تكون سراً أم علانية؟
فائدة:
الأفضل أن تكون سراً.
أ- لحديث (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
ب- ولقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
قال ابن الجوزي: وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين:
أحدهما: يرجع إلى المعطي وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية.
والثاني: يرجع إلى المعطَى، وهو دفع الذل عنه بإخفاء الحال، لأن في العلانية ينكر.
ثم قال: واتفق العلماء على إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها.
ماذا نستفيد من قوله (وَمَا زَادَ اَللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا)؟
نستفيد الفضل العظيم لمن يعفو ويصفح، وللعفو فضائل وثمرات:
أولاً: أن فيه استجابة لأمر الله تعالى وطاعة لله ورسوله.
قال تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).
وقال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).
وقال تعالى (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
ثانياً: وهو يورث العز في الدنيا والآخرة.
قال صلى الله عليه وسلم (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) رواه مسلم.
ثالثاً: وهو يورث محبة الله عزوجل.
قال تعالى (الذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
رابعاً: يجلب الأجر الجزيل من الله تعالى.
قال تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
قال السعدي: وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
خامساً: يوجب عفو الله عن العبد يوم القيامة.
ففي الحديث (كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه) متفق عليه.
سادساً: وهو من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما قال عبد اللّه بن عمرو: إني أرى صفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة (أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) رواه البخاري.
سابعاً: سبب لمغفرة الذنوب.
قال تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ثامناً: من صفات المتقين.
قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وأعظم سبب يقود للعفو عن الناس، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته النفيسة (قاعدة في الصبر) الأسباب التي تُعين المسلم على الصبر على أذى الناس قال: الثالث: أنْ يَشْهَدَ العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر، كما قال تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
اذكر بعض أقوال السلف في فضل العفو؟
قال عمر: كل الناس في حل مني.
قال الحسن: أفضل أخلاق المؤمن العفو.
وعن أيوب قال: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم.
وهذا زين العابدين بن علي-رضي الله عنه-أتت جاريته تصب الماء عليه فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فقالت: والكاظمين الغيظ فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنت حرة لوجه الله.
قال ابن حبان: الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة! إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماءِ الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلها.
وقال عمر بن عبد العزيز: أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة.
وراحت النفس في العفو: فقد قال أحد الشعراء:
لما عفوت، ولم أحقد على أحدٍ
…
أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند رؤيته
…
لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
…
كأنما قد حشى قلبي محبات.
1531 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ! أَفْشُوا اَلسَّلَام، وَصِلُوا اَلْأَرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا اَلطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
===
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحث على هذه الأعمال الصالحة وهي:
إفشاء السلام: وهو نشره وإذاعته على من تعرف ومن لا تعرف.
وصلة الأرحام: بالقول والفعل.
وإطعام الطعام: على القريب والبعيد.
وقيام الليل:
وأن ذلك سبب في دخول الجنة.
اذكر ما ورد في فضل إطعام الطعام؟
أولاً: مدح الله المطعمين للطعام.
فقال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).
ثانياً: من أسباب النجاة من كرب يوم القيامة.
قال تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).
ثالثاً: من أسباب دخول الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام،
…
تدخلوا الجنة بسلام). رواه الترمذي
رابعاً: خير خصال الإسلام.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) متفق عليه.
اذكر بعض الأحاديث في فضل إفضاء السلام؟
أ- حديث الباب (يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ! أَفْشُوا اَلسَّلَام
…
).
ب- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) متفق عليه.
ج- وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُم) رواه مسلم.
اذكر بعض فضائل قيام الليل؟
أولاً: أن الله تبارك وتعالى مدح أهله.
قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن كثير: تتجافي جنوبهم عن المضاجع: يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة.
يدعون ربهم خوفاً وطمعاً: أي خوفاً من وبال عقابهِ وطمعاً في جزيل ثوابهِ.
ومما رزقناهم ينفقون: فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية.
ثانيا: قيام الليل من علامات المتقين.
قال تعالى (إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
قال الحسن البصري في الآية: لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل.
وفي قوله سبحانه (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال الرازي في الآية: إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، فيستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم: يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به.
ثالثاً: قيام الليل من صفات عباد الرحمن. أولياء الله ومن أسباب دخول الجنة.
يقول تعالى في وصف عباد الرحمن (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا
…
أولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).
رابعاً: وفرق تعالى بين من قام الليل ومن لم يقمه، ممتدحاً صاحب القيام.
فقال تعالى (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
خامساً: قيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة.
عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) رواه مسلم.
قال ابن رجب: وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار، لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص، ولأن صلاة الليل أشق على النفوس، فإن الليلَ محل النومِ والراحة من التعب بالنهار، فترْك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدةٌ عظيمةٌ، ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر، فإنه تنقطع الشواغل بالليل، ويحضر القلب ويتواطأ هو واللسان على الفهم كما قال تعالى (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً).
سادساً: من أسباب دخول الجنة.
عن عبد الله بن سلام. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) رواه الترمذي.
سابعاً: قيام الليل سبب للنجاة من الفتن.
فالصلاة عموماً، وصلاة الليل خصوصاً سبب من أسباب النجاة من الفتن.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ (اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) رواه البخاري.
ففي هذا الحديث دليل وتنبيه على أثر الصلاة بالليل في الوقاية من الفتن.
ثامناً: أنه شرف للمؤمن.
فقد جاء في الحديث عن سهل قال: قال صلى الله عليه وسلم (جاءني جبريل! فقال يا محمد! اعمل ما شئت فإنك مجزي به،
…
واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) رواه الطبراني وحسنه الألباني.
فقيام الليل شرف للمؤمن، لأنه دليل على إخلاصه، ودليل على ثقته بربه، ودليل على قوة إيمانه، فيرفعه الله ويعزه ويرفع مكانته ويعلي درجته لأنه خلى بالله تعالى.
تاسعاً: لهم غرف في الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام) رواه أبو داود.
عاشراً: بقيام الليل يدرك المصلي وقت النزول الإلهي.
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له) متفق عليه
الحادي عشر: وصف النبي صلى الله عليه وسلم من يقوم الليل بنِعم الرجل.
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ غُلَاماً شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ - قَالَ - فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لي لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل يوصف بكونه نِعم الرجل.
الثاني عشر: قيام الليل من أسباب المغفرة والرحمة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ) رواه أبو داود.
الثالث عشر: من فضل قيام الليل أنه من مظان الإجابة.
عن جابر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة الا أعطاه وذلك كل ليلة) متفق عليه.
اذكر بعض ما ورد عن السلف في الحث على قيام الليل؟
قالت عائشة (يا عبد الله! لا تدع قيام الليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى وهو قاعد). متفق عليه
وجاء في موطأ الإمام عن ابن عمر قال (كان عمر يصلي في الليل حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله وقرأ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
وقال أبو عثمان النهْدي: تضيفت أبا هريرة سبعة أيام [أي نزلت عليه ضيفاً] فكان هو وزوجه وخادمه يقتسمون الليل أثلاثاً، الزوجة ثلثاً وخادمه ثلثاً وأبو هريرة ثلثاً.
وكان سليمان التيمي عنده زوجتان وكانوا يقتسمون الليل أثلاثاً.
والحسن بن صالح كان يقتسم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، فماتت أمه، فاقتسم الليل هو وأخوه علي، فمات أخوه فقام الليل بنفسه.
وكان محمد بن واسع إذا جنّ عليه الليل يقوم ويتهجد، يقول أهله: كان حاله كحال من قتل أهل الدنيا جميعاً.
وكان الإمام أبو سليمان الداراني يقول: والله لولا قيام الليل ما أحببت الدنيا، ووالله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيه طرباً بذكر الله فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي نعيم عظيم.
وكانت امرأة حبيب بن محمد الزاهد توقظه بالليل وتقول: ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قُدّامنا ونحن قد بقينا، وكانت تقول:
يا راقدَ الليلِ كم ترقدُ
…
قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
.. وخذ من الليلِ وأوقاتهِ
…
ورْداً إذا ما هجعَ الرُّقدُ
من نامَ حتى ينقضي ليلهُ
…
لم يبلغ المنزلَ أو يجهدُ
قل لأولي الألبابِ أهلِ التقى قَنطرةُ العَرْضِ لكم موعدُ
وقال أبو الدرداء: صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور.
وقال أحمد بن حرب: عجبت لمن يعلم أن الجنة تزين فوقَه، والنار تضرم تحته، كيف ينام بينهما.
وكان شداد بن أوس إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت النوم، فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وحين سألت ابنة الربيع بن خثيم أباها: يا أبتاه الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنية إن أباكِ يخاف السيئات.
ويروى أن طاووساً جاء في السحر يطلب رجلاً، فقالوا: هو نائم، قال: ما كنت أرى أن أحداً ينام في السحر.
وكان عبد الله بن داود يقول: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه، كان لا ينام الليل.
وذكر أن عامراً لما احتضر جعل يبكي، فقيل: ما يبكيك يا عامر؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكني أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الشتاء.
وقال محمد بن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة.
وقال الحسن البصري: ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال، وإن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
اذكر بعض أسباب دخول الجنة؟
أولاً: تقوى الله.
كما قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).
وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال (تقوى الله وحسن الخلق) رواه الترمذي.
ثانياً: المحافظة على صلاة العصر والفجر.
عن أَبِي مُوسَى. أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.
ثالثاً: التلفظ بالشهادتين مع العمل بمقتضاها.
قال صلى الله عليه وسلم (
…
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.
وفي حديث أبي هريرة الطويل وفيه (قال أبو هريرة، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ قَالَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة) متفق عليه.
رابعاً: إحصاء أسماء الله.
قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مِائَةً إِلاَّ وَاحِداً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.
خامساً: قراءة آية الكرسي بعد الفريضة.
قال صلى الله عليه وسلم (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) رواه النسائي.
سادساً: الذكر بعد الوضوء.
قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاء) رواه مسلم.
سابعاً: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال صلى الله عليه وسلم (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) متفق عليه.
ثامناً: سؤال الله الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم (من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة) رواه الترمذي.
تاسعاً: طلب العلم ابتغاء مرضات الله.
قال صلى الله عليه وسلم (من سلط طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) رواه مسلم.
عاشراً: السنن الرواتب.
قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعاً غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّة) رواه مسلم.
الحادي عشر: الحج المبرور.
قال صلى الله عليه وسلم (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه.
1532 -
وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم (اَلدِّينُ اَلنَّصِيحَةُ" ثَلَاثًا. قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اَللَّهِ؟ قَالَ: " لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(أئمة المسلمين) حكامهم.
(عامتهم) سائر المسلمين غير الحكام.
(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) البجلي، صحابي جليل.
(بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: عاهدت وعاقدت.
(عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ) أي: الإتيان بها على وجهها المطلوب.
(وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي: إعطاؤها لمستحقيها.
عرف النصيحة؟
قيل: هي كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له.
وقيل: قيام العبد بما لغيره من الحقوق، وهذا أصوب.
فالنصيحة لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم هي: القيام بحقوقهم.
وهي باعتبار منفعتها نوعان:
أحدهما: ما منفعتها مقصودة في الأصل للناصح، وهي النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله عز وجل.
والآخر: ما منفعتها مقصودة في الأصل للناصح والمنصوح معاً، وهي النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
ما كيفية النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
النصيحة لله: تكون بالإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه.
والنصيحة لكتابه: بقراءته وتدبره وحفظه والعمل به.
والنصيحة لرسوله: تكون بتصديق رسالته، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته.
والنصيحة لأئمة المسلمين: تكون بمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم، وأن يدعى لهم بالصلاح.
والنصيحة لعامة المسلمين: تكون بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، وتعليم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه.
اذكر بعض فضائل النصيحة؟
أولاً: أنها مهمة الرسل.
قال تعالى إخباراً عن نوح (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ).
ثانياً: أن منزلتها عظيمة.
كما في حديث الباب.
ثالثاً: أنها من علامات كمال الإيمان.
كما قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
رابعاً: أنها من حقوق المسلم على أخيه المسلم.
قال صلى الله عليه وسلم (للمؤمن على المؤمن ست خصال:
…
وينصح له إذا غاب أو شهد).
اذكر بعض أقوال السلف في النصيحة؟
ينبغي أن تسود النصيحة بين المسلمين، فإنها من أعظم مكملات الإيمان.
سئل ابن المبارك: أي الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله.
وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير.
وقال أيضاً: ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة.
قال أبو بكر المزني: ما فاق أبو بكر أصحاب رسول الله بصوم ولا بصلاة، ولكن بشيء كان في قلبه.
وقال ابن علية: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة في خلقه.
وقال أبو الدرداء: إن شئتم لأنصحن لكم: إن أحب عباد الله إلى الله، الذين يحبّبون الله تعالى إلى عباده ويعملون في الأرض نصحاً.
وقال حكيم: ودّك من نصحك.
وقال بعض السلف: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخَه.
قال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئاً يأمره في رفق فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره.
اذكر بعض آداب النصيحة؟
أولاً: الإخلاص لله عز وجل.
فلابد أن يقصد بنصحه وجه الله تبارك وتعالى كما في حديث عمر (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
ثانياً: ألا يقصد التشهير.
ثالثاً: أن يكون النصح سراً.
قال الشافعي: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً.
قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.
قال الشاعر:
تغمدني بنصحك في انفرادي
…
وجنّبي النصيحة في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ
…
من التوبيخِ لا أرضى استماعه
رابعاً: أن يكون النصح بلطف وأدب ورفق ولا يثقل على الناصح ولا يكثر عليه.
كما جاء في الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه).
خامساً: اختيار الوقت المناسب للنصيحة
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
هذا الحديث يفيد بعمومه ورواياته أنه يجب أن ينصح المسلم لأخيه المسلم في جميع جوانب الحياة وليس في جانب واحد بل دنيا وأخرى.
وجرير بن عبد الله قد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، قد طبق ذلك:
فقد ذكر النووي في شرح مسلم: أن جريراً أمر مولاه أن يشتري له فرساً، فاشترى له فرساً بثلاثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟ قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله. فقال: فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم؟ ثم لم يزل يزيد مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه بها. فقيل له بذلك فقال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
هكذا يفعل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في النصح للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم ولنا فيهم أسوة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى.
من أعظم النصح أن ينصح لمن استشاره في أمره.
كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه).
وكذلك النصح في الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فاطمة بنت قيس: قد خطبني أبو جهم ومعاوية، فقال لها: أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، فبين النبي صلى الله عليه وسلم حال الخاطبين للمرأة، فإن النصح في الدين أعظم من النصح في الدنيا، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نصح المرأة في دنياها فالنصيحة في الدين أعظم.
تحريم الغش والخديعة.
1533 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ اَلْجَنَّةَ تَقْوى اَللَّهِ وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
عرف التقوى؟
التقوى مأخوذة من الوقاية، وهي: أن يجعل الإنسان لنفسه وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وهذا من أجمع التعاريف، وقد جاء في معناها آثار عدة عن السلف كلها داخلة تحت هذا المعنى.
قال علي: التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وقال ابن مسعود: حقيقة تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله.
قال ابن القيم: وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى.
وروي أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى؟ فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.
قال ابن المعتز:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
كن مثل ماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
…
إن الجبال من الحصى
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل تقوى الله، وأنها من أسباب دخول الجنة.
اذكر ما ورد في الأمر بالتقوى؟
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وقال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته.
كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً.
ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم.
ولما وعظ الناس كأنها موعظة مودع قال: أوصيكم بتقوى الله.
وقال لمعاذ: اتق الله حيثما كنت.
اذكر بعض فضائل التقوى؟
أولاً: أنها سبب لتيسير الأمور.
قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).
ثانياً: أنها سبب لإكرام الله.
قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ثالثاً: العاقبة لأهل التقوى.
قال تعالى (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
رابعاً: أنها سبب في دخول الجنة.
قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
ولحديث الباب.
خامساً: أنها سبب لتكفير السيئات.
قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).
سادساً: أنها سبب لحصول البشرى لهم.
قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا).
سابعاً: أنها سبب للفوز والهداية.
قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
ثامناً: أنها سبب للنجاة يوم القيامة.
قال تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).
تاسعاً: أنها سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض.
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).
عاشراً: أنها سبب للخروج من المأزق.
قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
الحادي عشر: أنها سبب لمحبة الله.
قال تعالى (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
الثاني عشر: أنها سبب للاهتداء بالقرآن.
قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
الثالث عشر: بالتقوى تنال معية الله.
قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
الرابع عشر: أنها خير زاد.
قال تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
الخامس عشر: أنها من أسباب نيل الأجر العظيم.
قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).
السادس عشر: أن الآخرة خير من الدنيا للمتقين.
قال تعالى (والْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
السابع عشر: أنها سبب لقبول الأعمال.
قال تعالى (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
الثامن عشر: أن لباس التقوى خير لباس.
قال تعالى (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).
التاسع عشر: أنها من أسباب الرحمة.
قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).
العشرون: أنها من أسباب ولاية الله.
قال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
وقال تعالى (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).
اذكر مراتب التقوى؟
قال ابن القيم: مراتب التقوى:
التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، والثانية: حميّتها عن المكروهات، والثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته ....
فائدة:
تقدم ما يتعلق بحسن الخلق.
1534 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ اَلنَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ بَسْطُ اَلْوَجْهِ، وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ) أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
ما صحة حديث الباب؟
لا يصح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
الحديث دليل على فضل بسط الوجه وبشاشته عند اللقاء، وفضل حسن الخلق.
وقد تقدم ما يغني عن حديث الباب عند شرح حديث (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).
1535 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْمُؤْمِنُ مِرْآةُ اَلْمُؤْمِنِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
===
ما صحة حديث الباب؟
هذا الحديث اختلف العلماء في تحسينه وتضعيفه نظراً للخلاف في الراوي: كثير بن زيد الأسلمي.
وقد حسنه الحافظ ابن حجر هنا.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: أن المؤمن للمؤمن كالمرآة، وأن المؤمن يعلم عيب نفسه بإعلام أخيه له، كما يعلم خلل وجهه بالنظر إلى المرآة.
ففيه التناصح بين المسلمين.
ففي هذا الحديث: أن المسلم يعمل عمل المرآة لصاحبها، فماذا تعمل المرآة وكيف تعمل؟
المرآة تكشف الأدران البدنية التي تلحق بنا وكذا المسلم يكشف لأخيه ما به من عيوب وأدران معنوية وذلك من خلال المناصحة.
والمرآة تكشف الأدران الحسية بلطف، فليس لها عصا غليظة تشير بها إلي موضع الدرن في الجسد، وكذا المسلم يبين لأخيه العيوب بأسلوب حسن وكلام لطيف لأنه يرى أن عليه إصلاحه.
والمرآة لا تكشف العيوب لغير حاملها فلا تكشف الأدران لغير حاملها كذا المسلم لا يفضح أخاه، بل يناصحه في السر.
والمرآة لا تذهب بعد أن تكشف الأدران بل تبقي معينة علي إزالتها، وكذا المسلم يبقي معين لك علي إزالة ما أنت فيه من الأخطاء والعيوب، ولا ينتقد نقداً سلبياً هداماً لأجل النقد فحسب.
ثم إن المرآة لا تحدث بصورتك غيرك، ولا تعرضها لسواك في غيبتك، فلا تفشي سرك عند الآخرين، وكذلك ينبغي أن يكون الأخ المسلم.
بل إن المرآة لا تحفظ الصورة التي نكون عليها سابقاً، فإذا أتى أحد بعدُ لا يرى من وقف أمامها حال كونه متسخاً، أو حال إزالته الأوساخ عن جسده، وكذا المسلم فإنه ينسي ما بأخيه من العيوب بمجرد أن تزول عنه، وتبقى صورة أخيه خالية من العيوب في ذهنه، فضلاً عن أن يبث ما رأى من عيب.
وبقدر ما تكون المرآة نقية يكون كشفها للعيوب أوضح وشفافيتها في ذلك أكثر، وكذا المسلم بقدر ما تكون نفسه أنقى وقلبه لله أتقي يكون شعوره بالعيب والخطاء أكثر.
ولذا فإن على المسلم أن يصحب تقياً عارفاً يعرفه عيوب نفسه.
وقد قال عمر رضي الله عنه: "رحم الله عبداً أهدى إلي عيوبي". (مقال في موقع أنا المسلم).
فائدة:
قال الغزالي:
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا بَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَتْ بَصِيرَتُهُ نَافِذَةً لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ، فَإِذَا عَرَفَ الْعُيُوبَ أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ جَاهِلُونَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِهِمْ، يَرَى أَحَدُهُمُ الْقَذَى فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَلَا يَرَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِ نَفْسِهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ عُيُوبَ نَفْسِهِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ طُرُقٍ:
[الطَّرِيقُ] الْأَوَّلُ: أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخٍ بَصِيرٍ بِعُيُوبِ النَّفْسِ، مُطَّلِعٍ عَلَى خَفَايَا الْآفَاتِ وَيَتْبَعُ إِشَارَتَهُ فِي مُجَاهَدَتِهِ، وَهَذَا شَأْنُ التِّلْمِيذِ مَعَ أُسْتَاذِهِ، فَيُعَرِّفُهُ أُسْتَاذُهُ عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيُعَرِّفُهُ طَرِيقَ عِلَاجِهِ.
[الطَّرِيقُ] الثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَ صَدِيقًا صَدُوقًا بَصِيرًا مُتَدَيِّنًا يُلَاحِظُ أَحْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ، فَمَا كَرِهَ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ وَعُيُوبِهِ يُنَبِّهُهُ عَلَيْهِ، فَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ الْأَكَابِرُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ.
كَانَ عمر رضي الله عنه يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبي.
وَكَانَ يَسْأَلُ حذيفة وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ فَهَلْ تَرَى عَلَيَّ شَيْئًا مِنْ آثَارِ النِّفَاقِ؟ فَهُوَ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِ هَكَذَا كَانَتْ تُهْمَتُهُ لِنَفْسِهِ رضي الله عنه. فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَوْفَرَ عَقْلًا وَأَعْلَى مَنْصِبًا، كَانَ أَقَلَّ إِعْجَابًا وَأَعْظَمَ اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ وَفَرَحًا بِتَنْبِيهِ غَيْرِهِ عَلَى عُيُوبِهِ، وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ فِي أَمْثَالِنَا إِلَى أَنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْنَا مَنْ يَنْصَحُنَا وَيُعَرِّفُنَا عُيُوبَنَا، وَيَكَادُ هَذَا أَنْ يَكُونَ
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ مِنْ أَلْسِنَةِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا.
وَلَعَلَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِعَدُوٍّ مُشَاحِنٍ يَذْكُرُ عُيُوبَهُ أَكْثَرُ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِصَدِيقٍ مُدَاهِنٍ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَمْدَحُهُ، وَيُخْفِي عَنْهُ عُيُوبَهُ، إِلَّا أَنَّ الطَّبْعَ مَجْبُولٌ عَلَى تَكْذِيبِ الْعَدُوِّ وَحَمْلِ مَا يَقُولُهُ عَلَى الْحَسَدِ، وَلَكِنَّ الْبَصِيرَ لَا يَخْلُو عَنِ الِانْتِفَاعِ بِقَوْلِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ مَسَاوِيَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَنْتَشِرَ عَلَى أَلْسِنَتِه.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ، فَكُلُّ مَا رَآهُ مَذْمُومًا فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِهِ وَيَنْسُبْهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، فَيَرَى مِنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الطِّبَاعَ مُتَقَارِبَةٌ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَنْفَكُّ هُوَ عَنْ أَصْلِهِ أَوْ عَنْ أَعْظَمَ مِنْهُ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلْيَتَفَقَّدْ نَفْسَهُ وَيُطَهِّرْهَا عَنْ كُلِّ مَا يَذُمُّهُ مَنْ غَيْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا تَأْدِيبًا، فَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمُؤَدِّب.
1536 -
وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْمُؤْمِنُ اَلَّذِي يُخَالِطُ اَلنَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ اَلَّذِي لَا يُخَالِطُ اَلنَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ اَلتِّرْمِذِيِّ: إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ اَلصِّحَابِيَّ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن المؤمن الذي يخالط الناس ويجتمع بهم ويصبر على ما يصيبه منهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، بل ينفرد عن مخالطتهم.
وقد اختلف العلماء هل الأفضل الاختلاط أم العزلة على قولين:
القول الأول: العزلة أفضل.
أ- لحديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) رواه البخاري.
ب- ولحديث أبي سعيد قال (قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قالوا: ثم من؟ قال: مؤمن في شعبٍ من الشعاب يتقي الله ويدعُ الناس من شره) متفق عليه.
القول الثاني: الخلطة أفضل إذا أمن على دينه.
ونسبه الحافظ ابن حجر للجمهور.
أ- لحديث الباب (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
ب- ولأن ذلك هو فعل الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم.
قال الحافظ ابن حجر: قال الجمهور الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك.
وقال النووي: مذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، وأجابوا عن هذا الحديث [مؤمن في شعبٍ من الشعاب يتقي الله ويدعُ الناس من شره] بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، وهذا هو الراجح.
وفي هذا الزمن كثرت الفتن وتنوعت وقل الحياء وكثرت المجالس التي يجتمع فيها الناس على الملاهي والأغاني والمجون وغيرها، فالأولى للمسلم أن يعتزلها حتى لا يفتن بها، كما فتن الكثير، وأيضاً يسلم من الغيبة والنميمة وغيرها من الكلام الذي لا فائدة منه. والله المستعان.
كان داود الطائي من كبار أئمة الفقه والرأي، برع في العلم ثم أقبل على شأنه ولزم الصمت وآثر الخمول وفر بدينه.
كان الثوري يعظمه ويقول: أبصر داود أمره.
قال عبد الله بن داود: من أمكن الناس من كل ما يريدون أضروا بدينه ودنياه.
وقال أحمد بن حنبل: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس.
وقال سعيد بن الحداد: لا تعدلن بالوحدة شيئاً، فقد صار الناس ذئاباً.
وقال سفيان الثوري: كان طاووس يجلس في بيته، فقيل له في ذلك، فقال: حيف الأئمة، وفساد الناس.
وعن عبد الله - بن أحمد بن حنبل - قال: كان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة، أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق.
فائدة:
فوائد من حديث أبي سعيد السابق (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) رواه البخاري.
أ- أن فرار الإنسان بدينه من الفتن من الإيمان.
وقد مدح الله من فر بدينه:
قال تعالى (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ).
وقال تعالى (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً).
وقال صلى الله عليه وسلم (من سمع بالدجال فلينأ عنه) رواه أبو داود.
ب- أن أعظم ما يُحافظ عليه هو الدين.
ج- إثبات الفتن وكثرتها وقدومها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك:
فقال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم.
وعن أسامة بن زيد قال (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) رواه البخاري ....
أشرف: نظر وطلع. الأُطم: حصن مبني بالحجارة.
وقال صلى الله عليه وسلم (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشْرفهُ، ومن وجد فيها ملجأً فليَعُدْ به) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (إنها ستكون فتن) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يقبض وتظهر الفتن) رواه البخاري.
د-أهمية الهجرة في سبيل الله ولو كان فيها مشقة.
هـ-فضل العزلة إذا خاف الإنسان على دينه.
1537 -
وَعَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَللَّهُمَّ كَمَا أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَحَسِّنْ خُلُقِي) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
(خَلْقِي) بفتح الخاء صورة الإنسان الظاهرة.
(خُلُقِي) بضم الخاء الصورة الباطنة.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الدعاء بهذا الدعاء، وهو الدعاء بحسن الخلق.
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح الطويل الذي خرجه مسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ، وَالنِّفَاقِ، وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ).
فائدة:
هذا دعاء مطلق يدعو به المسلم في أي وقت شاء، وأما ما ورد في بعض طرق هذا الحديث من تخصيص هذا الدعاء عند النظر في المرآة، فهذا مما لم يصح.
بَابُ اَلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ
1538 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ اَللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ اَلْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.
1539 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلاً أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
===
(أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي) المراد المعية الخاصة التي مقتضاها الإعانة والهداية والتوفيق.
ما صحة أحاديث الباب؟
حديث أبي هريرة حديث صحيح.
وحديث معاذ ضعيف.
ماذا نستفيد من الحديثين؟
نستفيد فضل ذكر الله تعالى.
وذكر الله يكون بثلاث أشياء:
بالقلب: أن يتفكر في آيات الله وأسمائه وصفاته.
باللسان: كأن يقرأ القرآن أو يسبح أو يهلل.
بالجوارح: كالراكع والساجد.
اذكر فضائل الذكر؟
منها: أنه يورث العبد ذكر الله له.
كما في هذه الآية (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
قال ابن القيم: ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً.
وقال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خير منهم) متفق عليه.
ومنها: أنه سبب لنزول السكينة وغشيان الرحمن.
كما في حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.
ومنها: أنه غرس الجنة.
كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لقيت ليلة اسري بي إبراهيم الخليل فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي.
ومنها: أن دوام ذكر الرب يوجب الأمان من نسيانه وهو سبب شقاء العبد.
فإن نسيان الرب سبحانه يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ومنها: أن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال.
كما قال صلى الله عليه وسلم (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي
…
) متفق عليه.
ومنها: أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله.
كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل الرجل بيته، فقال بسم الله، وإذا أكل فقال بسم الله، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا طعام). رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت وهديت ووقيت، ويتنحى عنه الشيطان) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزاً من الشيطان) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله). رواه الترمذي.
قال ابن القيم: فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله.
كما في الحديث (
…
وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك رجل خرج العدو في أثرهِ سراعاً، حتى أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله
…
) رواه الترمذي.
قال ابن القيم: فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى.
وكما في الحديث السابق (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده
…
، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك).
ومنها: أن سيد المرسلين كان كثير الذكر.
كما في حديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم.
ومنها: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله فيه.
كما سبق في حديث (لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.
وكما في حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة فُضُلاً سيارة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادّوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا
…
) رواه مسلم.
ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته.
كما في حديث معاوية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تُهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني: أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) رواه مسلم.
ومنها: أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه.
كما في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة وعلياً أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، فعلمها صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: إنه خير لك من خادم) متفق عليه.
قال ابن القيم: قيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم.
ومنها: أن كثرة ذكر الله أمان من النفاق.
قال تعالى في المنافقين وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).
وقال كعب: من أكثر ذكر الله برئ من النفاق.
ومنها: أن العبادات إنما شرعت لذكر الله.
ومنها: أنه من أحب الأعمال إلى الله.
كما أوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً بقوله (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه الترمذي.
ومنها: أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل.
فإن العبد لابد أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى، وذكر أوامره، تكلم بهذه المحرمات أو بعضها.
اذكر بعض أقوال السلف في فضل ذكر الله تعالى؟
قال أبو الدرداء: لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله.
وقال معاذ: ما عمل العبد عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.
وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس.
وقال كعب: من أكثر من ذكر الله برأ من النفاق.
وقال ابن تيمية: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.
وقال ابن القيم: الذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم.
وقال: من أراد أن ينال محبة الله فليلهج بذكره.
وقال: وكل شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة.
وعن عكرمة: أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ويقول: أسبح بقدر ذنوبي.
وقال ابن السماك: رأيت مسعراً في النوم، فقلت: أي العمل وجدت أنفع؟ قال: ذكر الله.
وقال أحمد بن حنبل: صحبت هشيْماً أربع سنين أو خمس، ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبة له، وكان كثير التسبيح بين الحديث، يقول بين ذلك: لا إله إلا الله، يمد بها صوته.
وقال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنباً، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.
وقالت رابعة العدوية لصالح المري: يا صالح، من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
وعن ابن عون قال: ذكر الناس داء، وذكر الله دواء.
وعن ميمون بن سياه قال: إذا أراد الله بعبده خيراً: حبب إليه ذكره.
وعن ذي النون المصري: ما طابت الدنيا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنان إلا برؤيته.
1540 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
===
(مَجْلِسًا) نكرة في سياق النفي، فيعم جميع المجالس، المساجد وغيرها.
لكن
ما المراد بالسكينة؟
قيلَ: الْمُرَاد بِالسَّكِينَةِ هُنَا: الرَّحْمَة، وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاض، وَهُوَ ضَعِيف، لِعَطْفِ الرَّحْمَة عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الطُّمَأْنِينَة وَالْوَقَار وَهُوَ أَحْسَن. (نووي).
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل مجالس الذكر وشرفها عند الله تعالى حيث ينال من فعل ذلك بهذه الخصال العظيمة.
قال ابن رجب رحمه الله: هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته، وهذا إن حمل على تعلم القرآن وتعليمه فلا خلاف في استحبابه.
وفي صحيح البخاري عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: فذلك الذي أقعدني في مقعدي هذا.
وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج بن يوسف.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يأمر من يقرأ القرآن ليسمع قراءته، كما كان ابن مسعود يقرأ عليه، وقال:(إني أحب أن أسمعه من غيري).
وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يستمعون، فتارة يأمر أبا موسى، وتارة يأمر عقبة بن عامر.
وجاءت أحاديث تدل على فضل الاجتماع على ذكر الله مطلقاً:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا .. الحديث وفيه: فيقول الله: أشهدكم أني غفرت لهم).
وفي صحيح مسلم عن معاوية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للإسلام ومنّ علينا به، فقال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك، قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة).
قال ابن القيم رحمه الله: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله تعالى
فيه، ثم ذكر حديث (إن لله ملائكة سيارة).
وقال: فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم، فلهم نصيب من قوله: وجعلني مباركاً أينما كنت، فهكذا المؤمن مبارك أين حل، والفاجر مشؤوم أين حل.
وفي الحديث أن من جلس في بيت من بيوت الله لذكر الله وقراءة القرآن، فإنه يحصل على أربع مزايا:
الأولى: تتنزل عليهم السكينة.
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال (كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس، فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن).
الثانية: غشيان الرحمة.
الثالثة: أن الملائكة تحف بهم.
الرابعة: أن الله يذكرهم فيمن عنده.
قال ابن رجب رحمه الله: وهذه الأربع لكل مجتمعين على ذكر الله، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لأهل الذكر تعالى أربعاً: تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحف بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده). (لطائف المعارف).
قوله (مجلساً) هل يعم جميع المجالس أم خاص بالمساجد؟
يعم جميع المجالس.
فقد جاء في رواية تقييد ذلك بالمسجد (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُه).
لكن حديث الباب جاء مطلقاً (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا).
قال النووي: وَيُلْحَق بِالْمَسْجِدِ فِي تَحْصِيل هَذِهِ الْفَضِيلَة الِاجْتِمَاع فِي مَدْرَسَة وَرِبَاط وَنَحْوهمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَيَدُلّ عَلَيْهِ الْحَدِيث الَّذِي بَعْده فَإِنَّهُ مُطْلَق يَتَنَاوَل جَمِيع الْمَوَاضِع، وَيَكُون التَّقْيِيد فِي الْحَدِيث الْأَوَّل خَرَجَ عَلَى الْغَالِب، لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَان، فَلَا يَكُون لَهُ مَفْهُوم يُعْمَل بِهِ.
فائدة:
قوله (لَمْ أَسْتَحْلِفكُمْ تُهْمَة لَكُمْ) هِيَ بِفَتْحِ الْهَاء وَإِسْكَانهَا، وَهِيَ فُعْلَة وَفُعَلَة مِنْ الْوَهْم، وَالتَّاء بَدَل مِنْ الْوَاو، وَاتَّهَمْته بِهِ إِذَا ظَنَنْت لَهُ ذَلِكَ.
قَوْله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّه عز وجل يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَة) مَعْنَاهُ: يُظْهِر فَضْلكُمْ لَهُمْ، وَيُرِيهِمْ حُسْن عَمَلِكُمْ، وَيُثْنِي عَلَيْكُمْ عِنْدهمْ، وَأَصْل الْبَهَاء: الْحُسْن وَالْجَمَال، وَفُلَان يُبَاهِي بِمَا لَهُ، أَيْ: يَفْخَر وَيَتَجَمَّل بِهِمْ عَلَى غَيْرهمْ وَيُظْهِر حُسْنهمْ.
1541 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اَللَّهَ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد الحذر أن يجلس الإنسان مجلساً لم يذكر الله فيه أو لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَة) رواه أبو داود.
وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ).
رواه أبو داود وبوب عليه بقوله: باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله.
وروى نحوه ابن حبان في " صحيحه "(3/ 133) وبوب عليه بقوله: ذكر استحباب الذكر لله جل وعلا في الأحوال، حَذَرَ أن يكون المواضع عليه ترة في القيامة.
وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب "(2/ 262) تحت باب: " الترهيب من أن يجلس الإنسان مجلساً لا يذكر الله فيه، ولا يصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ". انتهى.
ولفظ الترمذي للحديث: (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ). ومعنى قوله: (ترة): يعني حسرة وندامة.
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم (ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا عن أنتن من جيفة) أخرجه الطيالسي وغيره، وصححه الإمام الألباني.
وفي رواية (إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار) أخرجه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
فائدة:
استدل العلماء بهذه الأحاديث على كراهة أن تخلو المجالس من ذكر الله، وليس على تحريم ذلك، فالحسرة لا يلزم أن تكون بسبب ترك الواجبات، بل يمكن أن تقع بسبب ترك المستحبات التي ترفع إلى أعلى الدرجات.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات. كما نقل ذلك الحافظ ابن رجب في (جامع العلوم والحكم).
وقوله في الحديث السابق (إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) يدل بظاهره على وجوب الذكر في كل مجلس، لأن العذاب والمغفرة لا يكون إلا عن ذنب، إما بترك واجب، وإما بفعل محرم.
قال ابن علان رحمه الله (فإن شاء عذبهم) جزاء ما قصروا في ذلك بتركها (وإن شاء غفر لهم) ذلك النقص. وهذا يقتضي وجوب وجود الذكر والصلاة على النبي في المجلس، لأنه رتب العذاب على ترك ذلك وهو آية الوجوب، ولم أر من ذكر عنه القول بوجوب ذلك في كل مجلس، والحديث يقتضيه " انتهى. دليل الفالحين شرح رياض الصالحين (6/ 127).
والذي حمل أهل العلم الحديث عليه هو كراهة إخلاء المجلس من ذكر الله تعالى.
قال الإمام النووي رحمه الله: يكره لمن قعد في مكان أن يفارقه قبل أن يذكر الله تعالى فيه، لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وذكر الحديث.
1542 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ) أي: لا معبود بحق إلا الله.
(مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) وإنما خص بالذكر ولد إسماعيل، لأن عتق من كان من ولده له فضل على عتق غيره، وذلك لأن محمداً صلى الله عليه وسلم وإسماعيل وإبراهيم بعضهم من بعض، فمن كان من أولادهم فله شرف عظيم، ففي عتقه فضل جسيم. (عمدة القارئ)
ولفظ الحديث كما عند مسلم:
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مِرَارٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ).
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل هذا الذكر، وأن من قاله عشر مرات صار له من الأجر مثل أجر من أعتق أربعة من المماليك من ذرية إسماعيل.
وقد ورد أيضاً فضل عظيم فيمن قالها مائة مرة في يومه.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ. كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) متفق عليه.
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (فِيمَنْ قَالَ فِي يَوْم: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير مِائَة مَرَّة، لَمْ يَأْتِ أَحَد بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَد عَمِلَ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ)
هَذَا فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيل أَكْثَر مِنْ مِائَة مَرَّة فِي الْيَوْم، كَانَ لَهُ هَذَا الْأَجْر الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث عَلَى الْمِائَة، وَيَكُون لَهُ ثَوَاب آخَر عَلَى الزِّيَادَة، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحُدُود الَّتِي نُهِيَ عَنْ اِعْتِدَائِهَا وَمُجَاوَزَة أَعْدَادهَا، وَإِنَّ زِيَادَتهَا لَا فَضْل فِيهَا أَوْ تُبْطِلهَا، كَالزِّيَادَةِ فِي عَدَد الطَّهَارَة، وَعَدَد رَكَعَات الصَّلَاة، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد الزِّيَادَة مِنْ أَعْمَال الْخَيْر، لَا مِنْ نَفْس التَّهْلِيل، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مُطْلَق الزِّيَادَة سَوَاء كَانَتْ مِنْ التَّهْلِيل أَوْ مِنْ غَيْره، أَوْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْره، وَهَذَا الِاحْتِمَال أَظْهَر. وَاَللَّه أَعْلَم.
هل الأجر الوارد في الحديث يحصل لمن قالها متوالية أو متفرقة أم لا بد متوالية؟
قال النووي: ظَاهِر إِطْلَاق الْحَدِيث أَنَّهُ يُحَصِّلُ هَذَا الْأَجْر الْمَذْكُور فِي هَذَا الْحَدِيث مَنْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيل مِائَة مَرَّة فِي يَوْمه، سَوَاء قَالَهُ مُتَوَالِيَة أَوْ مُتَفَرِّقَة فِي مَجَالِس، أَوْ بَعْضهَا أَوَّل النَّهَار وَبَعْضهَا آخِره، لَكِنَّ الْأَفْضَل أَنْ يَأْتِي بِهَا مُتَوَالِيَة فِي أَوَّل النَّهَار، لِيَكُونَ حِرْزًا لَهُ فِي جَمِيع نَهَاره.
1543 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اَللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ اَلْبَحْرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(سُبْحَانَ اَللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) التسبيح: تنزيه الله عن العيوب والنقائص، وبحمده: أي تسبيحاً مصحوباً بحمده، فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص، وإثبات الكمال لله بالحمد.
(حُطَّتْ) أي: محيت.
(وَإِنْ كَانَتْ) تلك الخطايا.
(مِثْلَ زَبَدِ اَلْبَحْرِ)(الزبَد) هو ما يعلو على وجه البحر عند هيجانه.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل قول هذا الذكر (سبحان الله وبحمده) مائة مرة. وأن جزاء من فعل ذلك أنه خطاياه تحط وتزول وتمحى.
وقد جاء في صحيح مسلم:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ. لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ).
ومما ورد في فضل هذه الكلمة:
أ- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول " سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ". قالت فقلت: يا رسول الله! أراك تكثر من قول " سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟ " فقال " خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه. فقد رأيتها. إذا جاء نصر الله والفتح. فتح مكة. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً).
ب- (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
ج- (من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
د- (أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ الكلامِ أفضلُ؟ قال " ما اصطفى اللهُ لملائكته أو لعبادِه: سبحان اللهِ وبحمدِه).
هـ- (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج من عندِها بُكرةً حين صلى الصبحَ، وهي في مسجدِها. ثم رجع بعد أن أَضحَى، وهي جالسةٌ. فقال " ما زلتُ على الحالِ التي فارقتُكِ عليها؟ " قالت: نعم. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لقد قلتُ بعدكِ أربعَ كلماتٍ، ثلاثَ مراتٍ. لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذُ اليومَ لوزَنَتهنَّ: سبحان اللهِ وبحمدِه، عددَ خلقِه ورضَا نفسِه وزِنَةِ عرشِه ومِدادَ كلماتِه).
و- (ألا أخبرُك بأحبِّ الكلامِ إلى اللهِ؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ! أخبرني بأحبِّ الكلامِ إلى اللهِ. فقال: إن أحبَّ الكلامِ إلى اللهِ، سبحانَ اللهِ وبحمدِه).
ز- (من قال سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة).
الأذكار المقدرة بعدد معين، هل يزاد عليها أم لا؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستنبط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال لهم: أضيفوا لها التهليل ثلاثا وثلاثين، وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد ....
وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) أما الأدعية والأذكار المأثورة، فالأصل فيها التوقيف، من جهة الصيغة والعدد، فينبغي للمسلم أن يراعي ذلك، ويحافظ عليه، فلا يزيد في العدد المحدد ولا في الصيغة ولا ينقص من ذلك ولا يحرف فيه، وبالله التوفيق. " انتهى".
ويدل على أنه يُقتصر على الوارد في الذكر المقيد: أنه عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه أنه زاد على الصيغة الواردة في بعض الأذكار، كأذكار أدبار الصلوات - مثلاً -، بل لما شكا له فقراء المهاجرون أن الأغنياء صاروا يقولون الذكر الوارد عقب الصلاة، لم يشرع لهم الزيادة على العدد (ثلاثا وثلاثين) بل قال (ذلك فضل الله يؤته من يشاء)، فدل ذلك على أن الذكر محصور بعدد معين.
وأما الجواب عن الحديث الذي جاء فيه: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ) فيقال: الحديث فيه احتمال أن تكون الزيادة من نفس الذكر، فيكون هذا الذكر مستثنى من جواز الزيادة على الوارد بهذا النص، واحتمال أن تكون الزيادة من الذكر عموماً، فيكون المعنى: قال ذلك الذكر الوارد ثم زاد عليه ذكراً آخر.
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم (فِيمَنْ قَالَ فِي يَوْم: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ، لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير مِائَة مَرَّة، لَمْ يَأْتِ أَحَد بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَد عَمِلَ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ) هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم، كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نهى عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وأن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها، كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة.
ويحتمل أن يكون المراد: الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة، سواء كانت من التهليل أو من غيره، أو منه ومن غيره، وهذا الاحتمال أظهر والله اعلم. (شرح مسلم).
1544 -
وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ اَلْحَارِثِ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ اَلْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اَللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ اَلْحَارِثِ) الخزاعية، من بني المصطلق، أم المؤمنين.
ولفظ الحديث كاملاً:
عنْ جُوَيْرِيَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِىَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِىَ جَالِسَةٌ فَقَالَ «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا». قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ).
(لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ) أي: بعد أن خرجت من عندك، أو بعدما فارقتك.
(لَوَزَنَتْهُنَّ) أي: عدلتهن في الميزان.
(عدَدَ خَلْقِهِ) أي: بعدد جميع مخلوقاته.
(وَرِضَا نَفْسِهِ) أي: حتى يرضى الله.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا لا يمكن أن يبلغه أحد، لكن المعنى: أنني مأمور بأني أسبح الله وأحمده حتى يرضى.
(وَزِنَةَ عَرْشِهِ) أي: قدْر وزْن عرشه، ولا يعلم وزنه إلا الله تعالى.
(وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم، قِيلَ: مَعْنَاهُ: مِثْلهَا فِي الْعَدَد، وَقِيلَ: مِثْلهَا فِي أَنَّهَا لَا تَنْفُذ، وَقِيلَ: فِي الثَّوَاب، وَالْمِدَاد هُنَا مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَدَد، وَهُوَ مَا كَثُرَتْ بِهِ الشَّيْء. قَالَ الْعُلَمَاء: وَاسْتِعْمَاله هُنَا مَجَاز؛ لِأَنَّ كَلِمَات اللَّه تَعَالَى لَا تُحْصَر بِعَدٍّ وَلَا غَيْره، وَالْمُرَاد الْمُبَالَغَة بِهِ فِي الْكَثْرَة؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْصُرهُ الْعَدّ الْكَثِير مِنْ عَدَد الْخَلْق، ثُمَّ زِنَة الْعَرْش، ثُمَّ اِرْتَقَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَم مِنْ ذَلِكَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا، أَيْ: مَا لَا يُحْصِيه عَدٌّ كَمَا لَا تُحْصَى كَلِمَات اللَّه تَعَالَى. (نووي).
ماذا نستفيد من حديث الباب؟
نستفيد استحباب هذا الذكر العظيم، وظاهره أنه يقال أول النهار.
وقد وردت هذه الصيغة في التسبيح، أيضا، ومعها زيادة التحميد، والتكبير، والتهليل، والحوقلة:
عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلُ ذَلِك) رواه أبو داود.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
أن بعض الأذكار مع وجازة ألفاظه يكون أكثر ثواباً من كثير من الألفاظ.
أن الكلام يتفضل، بعضه أفضل من بعض.
إثبات الرضا لله تعالى.
أن العرش له جرم وثقل.
عظمة العرش.
1545 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَسُبْحَانَ اَللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
===
(اَلْبَاقِيَاتُ) أي: الكلمات التي تبقى لصاحبها من حيث الثواب.
(اَلصَّالِحَاتُ) للتقرب إلى الله.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل هذا الذكر، وأن هذا الذكر من الباقيات الصالحات التي تبقى للعبد بعد موته.
وقد قال تعالى (المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً).
ووصفت بالباقيات لأنها تبقى لأهلها يوم القيامة، ذخراً وثواباً.
قال القاسمي: قوله تعالى (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل، فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال، وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي، لا يزول ولا يحول. (تفسير القاسمي).
وقد اختلف العلماء في المراد بالباقيات الصالحات على أقوال:
القول الأول: الباقيات الصالحات هذه الكلمات: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَر.
ونسبه بعض المفسرين للجمهور.
القول الثاني: أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس.
القول الثالث: أن الباقيات الصالحات هي الأعمال الصالحة كلها. وهذا اختيار ابن جرير.
قال الإمام الطبري رحمه الله وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير، كالذي رُوي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويُثاب، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) بعضاً دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشنقيطي: وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيءٍ واحدٍ وهو الأعمال التي ترضي الله سواء قلنا إنها "الصلوات الخمس" كما هو مروي عن جماعة من السلف منهم: ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو ميسرة وعمر بن شرحبيل، أو أنها:"سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
وعلى هذا القول جمهور العلماء.
وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة والنعمان بن بشير وعائشة رضي الله عنهم.
قال مقيده -عفا الله عنه- والتحقيق: أن الباقيات الصالحات: لفظ عام يشمل الصلوات الخمس والكلمات الخمس المذكورة وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى؛ لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا؛ ولأنها -أيضاً- صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. (الأضواء).
ويشهد لذلك ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها (أنهم ذبحوا شاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتصدقوا بها إلا كتفها، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا بَقِيَ مِنْهَا؟) قَالَتْ: عائشة: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا كَتِفُهَا، قَالَ:(بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِها).
قال المباركفوري رحمه الله: أي: ما تصدقتَ به: فهو باق، وما بقي عندك: فهو غير باق، إشارة إلى قوله تعالى (مَا عِنْدَكم يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ).
ماذا نستفيد من قوله (الباقيات الصالحات
…
)؟
نستفيد أن الذي يبقى للإنسان هو العمل الصالح.
أولاً: فالعمل الصالح هو الذي يدخل معك في قبرك.
عن أنس رضي الله عنه، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((يَتْبَعُ المَيتَ ثَلَاثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَملُهُ، فَيَرجِعُ اثنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَرجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبقَى عَملُهُ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ثانياً: وهو أنيسك وجليسك في القبر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد المؤمن إذا وضع في قبره يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر برضوان من الله وجنات، أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريع في طاعة الله بطيء في معصية الله).
ثالثاً: وهو الحسب الحقيقي.
قال صلى الله عليه وسلم (قال الله عز وجل: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وقال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئاً).
رابعاً: وهو الذي يتمناه الإنسان عند الاحتضار.
يقال تعالى (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا
…
).
يتمنى إذا احتضر وجاءت سكرة الموت، وجاء الموت، يتمنى أن يرجع ويعمل الأعمال الصالحة.
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَأَنفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
خامساً: وهو الذي يتمناه الكفار إذا دخلوا النار.
قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ. فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
سادساً: العمل الصالح سبب لتفريج الكروب.
وقد تقدم حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الغار، فتوسل كل واحد منهم بعمل صالح فانفرجت عنهم.
سابعاً: العمل الصالح هو الذي يبقى.
قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
ثامناً: أنه سبب للحياة الطيبة.
قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
تاسعاً: سبب للأمن والاستقرار والتمكين.
قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).
1546 -
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَحَبُّ اَلْكَلَامِ إِلَى اَللَّهِ أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اَللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب هذا الذكر، وأنه أحب الكلام إلى الله.
قيل: أحب الكلام، أي من كلام البشر، ورجحه النووي.
لأن القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق.
وقيل: المراد الكلام المتضمن للأذكار والدعاء، واختاره القرطبي.
لماذا كانت هذه الكلمات أحب الكلام إلى الله؟
وإنما كانت هذه الكلمات أحب الكلام إلى الله، لاشتمالها على أمور عظيمة، وهي تنزيه الله، ووصفه بكل ما يجب له من صفات الكمال، وإفراده بالوحدانية والأكبرية.
اذكر بعض فضائل هذه الكلمات؟
أولاً: أنها أحب الكلام إلى الله.
كما في حديث الباب.
ثانياً: أنها خير مما طلعت عليه الشمس.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) رواه مسلم.
ثالثاً: أنها الباقيات الصالحات (عند كثير من العلماء).
كما تقدم في الحديث السابق.
رابعاً: أنها غراس الجنة.
عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّى السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَر) رواه الترمذي.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
أن فضلها وحصول ثوابها لا يقتضي ترتيبها كما جاءت في الحديث، بل لا بأس بتقديم بعضها على بعض.
إثبات محبة الله تعالى.
الحث على لزوم هذه الكلمات.
1547 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ قَيْسٍ! أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ اَلْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
زَادَ النَّسَائِيُّ (وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ).
===
(يَا عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ قَيْسٍ) اسم أبي موسى الأشعري.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل هذه الكلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنها كنز من كنوز الجنة.
وعند التّرْمِذِيّ (أَنّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنّةِ).
قال ابن القيم: وَأَمّا تَأْثِيرُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّفْوِيضِ وَالتّبَرّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ إلّا بِهِ وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ كُلّهِ لَهُ وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَعُمُومُ ذَلِكَ لِكُلّ تَحَوّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ وَالْقُوّةِ عَلَى ذَلِكَ التّحَوّلِ وَأَنّ ذَلِكَ كُلّهُ بِاَللّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْءٌ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ إنّهُ مَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنْ السّمَاءِ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهَا إلّا بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي طَرْدِ الشّيْطَانِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قال ابن القيم: هذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمّل المشاق، والدخول على الملوك ومن يُخاف،
ركوب الأهوال.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: هذه الكلمة بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال.
ما معنى هذه الكلمة؟
معناها: اعتراف العبد بعجزه عن القيام بأي أمر إلا بتوفيق الله له وتيسيره، وأما حوله ونشاطه وقوته فمهما بلغت من العِظم فإنها لا تغني عن العبد شيئا إلا بعون الله الذي علا وارتفع على سائر المخلوقات، العظيم الذي لا يعظم معه شيء، فكل قوي ضعيف في جنب قوة الله، وكل عظيم صغير ضعيف في جنب عظمته سبحانه.
وتقال هذه الجملة إذا دهم الإنسان أمر عظيم لا يستطيعه، أو يصعب عليه القيام به.
قال النووي: قالَ أَهْل اللُّغَة: (الْحَوْل) الْحَرَكَة وَالْحِيلَة، أَيْ: لَا حَرَكَة وَلَا اِسْتِطَاعَة وَلَا حِيلَة إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا حَوْل فِي دَفْع شَرٍّ، وَلَا قُوَّة فِي تَحْصِيل خَيْر إِلَّا بِاَللَّهِ، وَقِيلَ: لَا حَوْل عَنْ مَعْصِيَة اللَّه إِلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَلَا قُوَّة عَلَى طَاعَته إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ اِبْن مَسْعُود رضي الله عنه، وَكُلّه مُتَقَارِب.
وقال ابن رجب رحمه الله: فإنّ المعنى: لا تحوّل للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلاّ بالله، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنّة.
ما المراد بالكنز في قوله (أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ)؟
قال النووي: وَمَعْنَى الْكَنْز هُنَا: أَنَّهُ ثَوَاب مُدَّخَر فِي الْجَنَّة، وَهُوَ ثَوَاب نَفِيس، كَمَا أَنَّ الْكَنْز أَنْفَس أَمْوَالكُم.
وقال في الفتح: سميت هذه الكلمة كنزاً، لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس.
وقال: كنز من كنوز الجنة من حيث أنه يدخر لصاحبها من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا، لأن من شأن الكانز أن يعد كنزه لخلاصه مما ينوبه والتمتع به فيما يلائمه.
وقال ابن القيّم رحمه الله: لما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر النّاس، وكان هذا شأن هذه الكلمة، كانت كنزاً من كنوز الجنة، فأوتيها النبي من كنز تحت العرش، وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمّة الأمور بيديه، وفوّض أمره إليه.
ما سبب في أن هذه الكلمة كنز؟
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب ذَلِكَ أَنَّهَا كَلِمَة اِسْتِسْلَام وَتَفْوِيض إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَاعْتِرَاف بِالْإِذْعَانِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا صَانِع غَيْره، وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَأَنَّ الْعَبْد لَا يَمْلِك شَيْئًا مِنْ الْأَمْر.
اذكر بعض الأحاديث الواردة في هذه الكلمة؟
أ- عن سعد. قَالَ (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ قَالَ «قُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ». قَالَ فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّى فَمَا لِي قَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي) رواه مسلم.
ب- وعن عُبَادَة بْن الصَّامِت، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ) رواه البخاري.
فائدة:
قال شيخ الإسلام: هذه الكلمة كلمة استعانة، لا كلمة اسْترجاع، وكثير من النّاس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعاً لا صبراً.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وليست هذه الكلمة كلمة استرجاع كما يفعله كثير من الناس إذا قيل له: حصلت المصيبة الفلانية، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن كلمة الاسترجاع أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ أما هذه الكلمة فهي كلمة استعانة، إذا أردت أن يعينك الله على شيء فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله.
1548 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اَلدُّعَاءَ هُوَ اَلْعِبَادَةُ) رَوَاهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
1549 -
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ (اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ).
1550 -
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ (لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اَللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ) وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
===
عرف الدعاء؟
الدعاء: سؤال العبد ربه على وجه الابتهال، وقد يطلق على التقديس والتحميد ونحوهما.
ماذا نستفيد من الأحاديث؟
نستفيد أن الدعاء عبادة جليلة عظيمة.
فالدعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلب بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلبِ النفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ الله قدير لا يُعجزه شيء، عليم لا يخفي عليه شيء، رحمن رحيم، حيّ قيّوم، جواد كريم، محسِن ذو المعروف الذي لا ينقطع أبداً، لا يُحَدُّ جودُه وكرمه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته. فلأجلِ هذه الصفات العظيمة وغيرِها يُرجى ربُّنا ويُدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتِهم باختلاف لغاتِهم.
فالدعاء من أعظم العبادات، فيه يتجلى الإخلاص والخشوع، ويظهر صدق الإيمان، وتتمحّص القلوب، وهو المقياس الحقيقي للتوحيد، ففي كلامٍ لشيخ الإسلام رحمه الله: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
الدعاء استعانة من عاجزٍ ضعيف بقويٍ قادر، واستغاثة من ملهوف برب قادر، وتوجه ورجاءٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفَ كُرْبَة، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَة.
قال ابن رجب: واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة.
ما أنواع الدعاء؟
النوع الأول: دعاء العبادة.
وهو طلب الثواب بالأعمال الصالحة: كالنطق بالشهادتين والعمل بمقتضاهما، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.
النوع الثاني: دعاء المسألة.
وهو دعاء الطلب: طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، وطلب الحاجات.
اذكر بعض ما جاء في فضل الدعاء؟
قال الله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
وقال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
وقال تعالى (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين، وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
وقال تبارك وتعالى (فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
وقال عز وجل (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس شيءٌ أكرَمَ على الله تعالى من الدعاء).
وعنه. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم قال (منْ لم يَسألِ الله يَغْضَبْ عليه) رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من مسلم يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". قالوا: إذاً نكثر. قال: "الله أكثر).
ـوعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ ربَّكُم تبارك وتعالى حييُّ كَرِيمٌ يستَحي مِنْ عبدهِ إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صِفراً).
والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات:
أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه.
أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن يخففه وإن كان ضعيفاً.
أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
وأنشد القائل:
لا تَسأَلنَّ بُنَيَّ آدم حاجةً وسلِ الذي أبوابه لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤاله وبُنيَّ آدم حين يُسأل يغضبُ.
لماذا الدعاء أكرم شيء على الله؟
قال الشوكاني: قيل وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله تعالى وعجز الداعي.
قال ابن حجر: كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه من لم يسئل الله تعالى يغضب عليه).
قال ابن قيم الجوزية: وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته وإذا رضى الرب تبارك وتعالى، فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه. (الجواب الكافي).
لماذا استحق الغضب من لم يسأل الله؟
استحق الغضب لأمرين:
الأول: لأنه ترك محبوباً لله، فإن الله يحب أن يسأل، ذكر ذلك المناوي.
والثاني: لأن ترْك الدعاء دليل على الاستغناء عن الله، ذكر ذلك المباركفوي.
فائدة:
قال العلامة السعدي رحمه الله: ومما ينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب أو دفع مرهوب أن لا يقتصر في قصده ونيته في حصول مطلوبه الذي دعا لأجله بل يقصد بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء وعبادته التي هي أعلى الغايات، ومن كان هذا قصده في دعائه "التقرب إلى الله" فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا حصول مطلوبة فقط، كحال أكثر الناس فهذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم.
1551 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلدُّعَاءُ بَيْنَ اَلْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد أن من مواطن الدعاء بين الأذان والأقامة، فينبغي للمسلم أن يحرص على التبكير للصلاة ليستغل هذا الوقت بالدعاء.
اذكر بعض المواضع التي يستحب فيها الدعاء؟
أ-بين الأذان والإقامة.
لحديث الباب.
ب-في السحر.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) متفق عليه.
ج-بعد العصر يوم الجمعة.
لقوله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة (وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها) متفق عليه.
وعند أبي داود (
…
آخر ساعة من العصر).
د-في السجود.
لقوله صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.
هـ-عند صياح الديكة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً) متفق عليه.
حديث الباب مقيد بماذا؟
مقيد إن لم يكن في الدعاء إثم أو قطيعة رحم.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاِسْتِعْجَالُ قَالَ؟ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاء) رواه مسلم.
قال ابن القيم: الدعاء من أقوى الأسباب، فليس شيء أنفع منه، فمتى أُلهِمَ العبد الدعاء حصلت الإجابة.
هل يستحب التقدم للمسجد مبكراً ليحصل هذا الوقت؟
نعم يستحب التقدم مبكراً ليحصل هذا الوقت.
وقد جاء في فضل التبكير قوله صلى الله عليه وسلم (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) متفق عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم أراد من هذا الخبر الحث على اغتنام هذا الوقت بالدعاء، فإنه حري بالإجابة.
هل الإنسان إذا دعا عليه شخص يخاف أم لا؟
الراد للدعاء والقابل له هو الله، وعليه، فالإنسان إذا دعا عليه آخر لا يخاف إلا إذا كان ظالماً، لأن الإنسان إذا دعا على غير ظالم، فإن الذي يجيبه هو الله عز وجل، ولو أجابه على دعائه لكان الله يعين الظالمين، وحاشاه من ذلك، بل الله يقول (إنه لا يفلح الظالمون)، وعلى هذا: فلا تخف من دعاء من يدعو عليك بغير حق. [قاله ابن عثيمين].
ما الحكم فيمن يستعجل بركعتي تحية المسجد التي بين الأذان والإقامة حتى يتمكن من الدعاء؟
هذا خطأ، لأن الدعاء في الصلاة أفضل من الدعاء خارج الصلاة. [قاله ابن عثيمين].
يقول بعض الناس: أدعو الله ولا يستجاب لي؟
قد يكون لوجود مانع.
ففي حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (
…
في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فأنَّى يستجاب له) رواه مسلم.
1552 -
وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفَرًا) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
(حَيِيٌّ) أي: ذو حياء، والله تعالى يوصف بالحياء على ما يليق بجلاله كسائر صفاته.
(صِفَرًا) أي: خاليتين.
ما صحة حديث الباب؟
حديث صحيح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب رفع اليدين في الدعاء، وأن ذلك من أسباب إجابة الدعاء.
وقد كثرة الأحاديث في رفع اليدين حال الدعاء من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله بلغت مبلغ التواتر المعنوي.
قال النووي: قد ثبت رفع يديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء، وهي أكثر من أن تحصر، وقد جمعتُ منها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين أو أحدهما.
وقال السيوطي: فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيها رفع يديه في الدعاء، قد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة.
وقال الصنعاني: في الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء والأحاديث فيه كثيرة .... انتهى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) رواه مسلم.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه. رواه البخاري.
عَنْ ابن عمر. قَالَ (بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ) رواه البخاري.
وعَن أَنَس (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْه) متفق عليه.
اذكر حالات رفع اليدين في الدعاء (متى ترفع ومتى لا ترفع)؟
القسم الأول: ما ثبت فيه رفع اليدين صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك في خطبة صلاة الاستسقاء وكذلك في صلاة الجمعة عند الاستسقاء.
كما في حديث الباب.
القسم الثاني: ما ثبت عدم الرفع فيه.
وذلك في الدعاء في خطبة الجمعة في غير استسقاء ولا استصحاء.
القسم الثالث: ما كان ظاهر السنة فيه عدم الرفع.
وذلك كالدعاء بين السجدتين وآخر التشهد.
القسم الرابع: ما سوى ذلك، فالأصل فيه الرفع، ولذلك كان من آداب الدعاء أن يرفع يديه في الدعاء.
- من المواضع التي لا ترفع فيها الأيدي: في الدعاء في خطبة الجمعة فير الاستسقاء.
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ قَالَ (رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ).
فهذا الحديث دليل على أنه لا يشرع رفع اليدين في الدعاء في خطبة الجمعة في غير الاستسقاء.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم في شرح حديث الباب: هَذَا فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنْ لَا يَرْفَع الْيَد فِي الْخُطْبَة وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض السَّلَف وَبَعْض الْمَالِكِيَّة إِبَاحَته؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فِي خُطْبَة الْجُمُعَة حِين اِسْتَسْقَى، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ هَذَا الرَّفْع كَانَ لِعَارض.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: ما حكم من يرفع يديه والخطيب يدعو للمسلمين في الخطبة الثانية مع الدليل، أثابكم الله؟
فأجاب: رفع اليدين غير مشروع في خطبة الجمعة ولا في خطبة العيد لا للإمام ولا للمأمومين، وإنما المشروع الإنصات للخطيب والتأمين على دعائه بينه وبين نفسه من دون رفع صوت، وأما رفع اليدين فلا يشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه في خطبة الجمعة ولا في خطبة الأعياد، ولما رأى بعض الصحابة بعض الأمراء يرفع يديه في خطبة الجمعة أنكر عليه ذلك، وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفعهما.
نعم، إذا كان يستغيث في خطبة الجمعة للاستسقاء، فإنه يرفع يديه حال الاستغاثة -أي طلب نزول المطر-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في هذه الحالة، فإذا استسقى في خطبة الجمعة أو في خطبة العيد فإنه يشرع له أن يرفع يديه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ ابن عثيمين: أما إذا دعا الإمام في الخطبة فإنه لا يسن للإمام ولا للمأمومين أن يرفعوا أيديهم إلا في حالين:
الحال الأولى: الاستسقاء إذا دعا خطيب الجمعة بالاستسقاء، أي بطلب نزول المطر فإنه يرفع يديه ويرفع الناس أيديهم.
الثاني: الاستصحاء يعني إذا دعا خطيب الجمعة بالصحو، وأن الله يبعد المطر عن البلد فإنه يرفع يديه كذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس - ثم ذكر حديث الباب - ففي هذين الموضعين يرفع الخطيب يديه في الدعاء: في الاستسقاء والاستصحاء، وأما في غير ذلك فلا يرفع يديه لأن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على بشر بن مروان حينما رفع يديه بالدعاء حال الخطبة، وكذلك الناس لا يرفعون أيديهم في خطبة يوم الجمعة، لأن ذلك ليس مشروعاً لهم، فهم تبعٌ لإمامهم، فإذا لم يكن مشروعاً للإمام الخطيب، فإن المستمعين كذلك لا يشرع لهم رفع اليدين في حال الخطبة.
1553 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي اَلدُّعَاءِ، لَمْ يَرُدَّهُمَا، حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا:
1554 -
حَدِيثُ اِبْنِ عَبَّاسٍ: عَنْ أَبِي دَاوُدَ. وَمَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
===
ما صحة حديث الباب؟
حديث عمر ضعيف.
وأما حديث ابن عباس فضعيف أيضاً.
هل يشرع مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء؟
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أنه لا يشرع.
لأنه لم يرد في حديث صحيح، وقد تواتر في السنة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه، ولم يثبت أنه كان يمسح وجهه بعد دعائه.
قال أحمد بن حنبل: لا يعرف هذا، أنه كان يَمسح وجهه بعد الدعاء إلا عن الحسن.
وقال ابن تيمية: وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء: فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان، لا تقوم بهما حُجة.
وقال العز بن عبد السلام: ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل. (فتاوى العز بن عبد السلام).
وقال النَّوويُّ في "المجموع:
…
لا يَمسَحُ؛ وهذا هو الصَّحيحُ صحَّحه البيهقيُّ والرافعيُّ وآخَرون من المحقِّقين
…
والحاصِلُ لأصحابِنَا ثلاثةُ أوْجُه: (الصحيح) يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يديْهِ دونَ مَسْحِ الوَجْه.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء الأقرب أنه غير مشروع؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنها لا تقوم بها الحجة، وإذا لم نتأكد أو يغلب على ظننا أن هذا الشيء مشروع فإن الأولى تركه؛ لأن الشرع لا يثبت بمجرد الظن إلا إذا كان الظن غالباً.
فالذي أرى في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء أنه ليس بسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف دعا في خطبة الجمعة بالاستسقاء ورفع يديه، ولم يرد أنه مسح بهما وجهه، وكذلك في عدة أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا ورفع يديه ولم يثبت أنه مسح وجهه " انتهى.
وقال الألبانيُّ في "الإرواء" بعد ما ضعَّف حديثَيِ المسْحِ، وبيَّن أنَّهما لا يتقوَّيان بِمَجموع طُرُقِهما؛ لشِدَّة الضَّعف الذي في الطُّرق: "ومِمَّا يؤيِّدُ عدمَ مشروعيَّتِه: أنَّ رفْعَ اليدَيْنِ في الدُّعاء قد جاء فيه أحاديثَ كثيرة صحيحةٍ وليس في شيءٍ مِنْهَا مسحُهُما بالوَجْهِ، فذلِكَ يدلُّ -إن شاءَ اللهِ- على نَكارَتِه، وعدَمِ مشروعيَّتِه.
القول الثاني: أنه مشروع.
لورود بعض الأحاديث - كأحاديث الباب - وهي وإن كانت ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضاً.
وقد صحح بعض أئمة العلم في الحديث بعضها، وبعضهم حسنها، مثل الحافظ ابن حجر والسيوطي والأمير الصنعاني وغيرهم.
1555 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
===
ما صحة حديث الباب؟
سنده ضعيف.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والإكثار منها.
اذكر فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
أولاً: أن من صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه بها عشراً.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَلَّى عَلَىَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْراً) رواه مسلم.
ثانياً: سبب لغفران الذنوب.
وعن أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ». قَالَ أُبَىٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي فَقَالَ «مَا شِئْتَ». قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ. قَالَ «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ النِّصْفَ. قَالَ «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ. قَالَ «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا. قَالَ «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ) رواه الترمذي.
ثالثاً: رفع الدرجات.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات) رواه أحمد.
رابعاً: الأمان من الحسرة يوم القيامة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ اللهَ عز وجل، وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَاب) رواه أحمد.
ما معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
القول الأول: صلاة الله على نبيه هي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
كما قال أبو العالية ونصره ابن القيم واختاره الحافظ ابن حجر.
قال الحافظ: أولى الأقوال ما يقدم عن أبي العالية، أن معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه.
القول الثاني: صلاة الله رحمته.
وهو قول الضحاك.
قال الحافظ بعد أن نقل قول الضحاك: وتعقب بأن الله غاير بين الصلاة والرحمة في قوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).
القول الثالث: أن صلاة الله مغفرته.
اذكر ما ورد من الترهيب من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
أ- عن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَي) رواه الترمذي.
ب- وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (البخيل من ذكرت عنه فلم يصل علي) رواه الترمذي.
ما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
قيل: يجب عند ذكره.
واختاره الطحاوي.
لقوله صلى الله عليه وسلم (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علي).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (رغم أنف ذكرتُ عنده فلم يصل علي).
وقيل: يجب في العمر مرة.
وهذا مذهب الجمهور.
لقوله صلى الله عليه وسلم (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علي).
ولأن الامتثال يحصل بذلك.
وقيل: سنة.
اذكر بعض المواطن التي تشرع فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
أولاً: بعد الأذان.
لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة) رواه مسلم.
ثانياً: عند دخول المسجد
عن أَبَي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ) رواه أبو داود.
ثالثاً: في التشهد الآخر.
عن بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ. قال (أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُصَلِّىَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ) متفق عليه.
رابعاً: عند الدعاء
عن فَضَالَة بْنَ عُبَيْدٍ قال (سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاء).
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَال (إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على الله بما هو أهله، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليسأل بعد فإنه أجدر أن ينجح.
خامساً: في المجلس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ) رواه الترمذي.
سادساً: عند ذكره صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ).
سابعاً: بعد التكبيرة الثانية من صلاة الجنازة.
عن الزهري قال. سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث بن المسيب قال (السنة في الصلاة على الجنازة أن تكبر ثم تقرأ بأم القرآن ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تخلص الدعاء للميت ولا تقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم تسلم في نفسه عن يمينه). أخرجه ابن الجارود
سابعاً: يوم الجمعة.
عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ - يَقُولُونَ: بَلِيتَ -؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاء) رواه أبو داود.
ثامناً: الصلاة عليه في كل مكان.
عن أبي هريرة. قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُم). رواه أبو داود
1556 -
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (سَيِّدُ اَلِاسْتِغْفَارِ، أَنْ يَقُولَ اَلْعَبْدُ: اَللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اِسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي; فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
===
(سَيِّدُ اَلِاسْتِغْفَارِ) وفي رواية (أفضل الاستغفار) أي الأكثر ثوابًا للمستغفر به منْ المستغفر بغيره.
والاستغفار: طلب مغفرة الذنوب بسترها في الدنيا والتجاوز عنها في الآخرة.
(أَنْ يَقُولَ اَلْعَبْدُ) وللترمذي منْ رواية عثمان بن ربيعة، عن شداد رضي الله عنه (ألا أدلك عَلَى سيد الاستغفار؟)، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند النسائي فِي "عمل اليوم والليلة" (تعلموا سيد الاستغفار
…
).
(وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اِسْتَطَعْتُ) قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: يريد أنا عَلَى ما عاهدتك عليه، وواعدتك بمن الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، ما استطعت منْ ذلك، ويحتمل أن يريد أنا مقيم عَلَى ما عهدت إليّ منْ أمرك، ومتمسك به، منتجز وعدك فِي المثوبة والأجر، واشتراطُ الاستطاعة فِي ذلك معناه: الاعتراف بالعجز، والقصور عن عنه الواجب منْ حقه تعالى.
(أَعُوذُ بِكَ) ألتجئ بك وأعتصم.
(مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ) أي: منْ عقابك لي بسبب الشر الذي عملته.
(أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ) أي: أعترف لك بنعمتك عليّ.
(وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي) أي: وأعترف لك بذنبي الذي يوجب استغفاراً.
لم يذكر الحافظ رحمه الله بقية الحديث: وهو:
(قَالَ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا) أي: مخلصاً منْ قلبه، مصدقا بثوابها.
وفي رواية الترمذيّ: "لا يقولها أحدكم حين يمسي، فيأتي عليه قَدَر قبل أن يصبح، أو حين يصبح، فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي
فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
لماذا قيل لهذا الدعاء سيد الاستغفار؟
قَالَ الطيبي رحمه الله تعالى: لما كَانَ هَذَا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم السيد، وهو فِي الأصل الرئيس الذي يُقصَد فِي الحوائج، ويُرجَع إليه فِي الأمور.
وقَالَ الكرمانيّ رحمه الله تعالى: [فإن قلت]: فما الحكمة فِي كونه أفضل الاستغفارات؟
قلت: هَذَا وأمثاله منْ التعبديات، والله أعلم بذلك، لكن لا شك أن فيه ذكر الله بأكمل الأوصاف، وذكر نفسه بأنقص الحالات، وهو أقصى غاية التضرع، ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو.
وقال: ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيث، منْ بديع المعاني، وحسن الألفاظ، ما يحق له أَنْ يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة منْ شر ما جنى العبد عَلَى نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته فِي المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد عَلَى ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كَانَ فِي ذلك عون منْ الله تعالى، وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة، فلو اتفق أن العبد خالف حَتَّى يجرى عليه ما قُدّر عليه، وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة، لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل، أو العفو بمقتضى الفضل.
اذكر فضائل الاستغفار؟
الاستغفار له فوائد كثيرة:
أولاً: تكفير السيئات ورفع الدرجات.
قال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً).
وفي الحديث القدسي (قال الله: من يستغفرني فأغفر له .. ) متفق عليه.
وتقدم قوله تعالى في الحديث القدسي (فاستغفروني أغفر لكم) رواه مسلم.
ثانياً: سبب لسعة الرزق والإمداد بالمال والبنين.
قال تعالى عن نوح أنه قال لقومه (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).
ثالثاً: سبب لحصول القوة في البدن.
قال هود لقومه (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).
رابعاً: سبب لدفع المصائب ورفع البلايا.
قال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
خامساً: سبب لبياض القلب.
قال صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه) رواه أحمد.
اذكر بعض أقوال السلف؟
قال بعض العلماء: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
وكان ابن عمر: يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول: إنكم لم تذنبوا.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار.
وقال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنباً، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.
وقال الحسن: لا تملُّوا من الاستغفار.
وقال بكر المُزَني: إن أعمال بني آدم تُرفع فإذا رُفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفعت بيضاء، وإذا رُفعت ليس فيها استغفار رفعت سوداء.
وعن الحسن قال: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرُقِكم، وفي أسواقكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
قال لقمان لابنه: أيْ بُنَيَّ عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي؛ فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً.
ورئي عمر بن عبد العزيز في النوم فقيل له: ما وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار.
فائدة:
قال تعالى (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ).
قال السعدي: وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة، وذلك أن العبد لا يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلاً، أو يفعله على وجه ناقص، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته فإنه هالك.
فائدة:
قال ابن تيمية: فَالْعَبْدُ دَائِمًا بَيْنَ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى شُكْرٍ وَذَنْبٍ مِنْهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاسْتِغْفَارِ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ لِلْعَبْدِ دَائِمًا فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَآلَائِهِ وَلَا يَزَالُ مُحْتَاجًا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
ماذا نستفيد من قوله (لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ)؟
قال ابن تيمية: فَقَوْلُهُ (لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ) فِيهِ إثْبَاتُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ إحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ "الْإِلَهَ" هُوَ الْمَأْلُوهُ وَالْمَأْلُوهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَكَوْنُهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبَ غَايَةَ الْحُبِّ الْمَخْضُوعَ لَهُ غَايَةَ الْخُضُوعِ؛ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ.
ماذا نستفيد من قوله (ما استطعت)؟
قالَ ابن بطال: وفي قوله (ما استطعت) إعلام لأمته أن أحداً لا يقدر عَلَى الإتيان بجميع ما يجب عليه لله، ولا الوفاء بكمال الطاعات، والشكر عَلَى النعم، فرفق الله بعباده، فلم يكلفهم منْ ذلك إلا وسعهم.
والاستطاعة: هي القدرة على الشيء.
[فإن قلت]: المؤمن وإن لم يقلها يدخل الجنة.؟
المراد أنه يدخلها ابتداء منْ غير دخول النار، ولأن الغالب أن المؤمن بحقيقتها، المؤمن بمضمونها لا يعصي الله تعالى، أو لأن الله تعالى يعفو عنه ببركة هَذَا الاستغفار.
ماذا نستفيد من قوله (أبوء لك بنعمتك عليّ)؟
الاعتراف بالنعمة من شكر الله، فالشكر يكون بثلاثةٍ: بالاعتراف بها باطناً، والتحدُّث بها ظاهراً، وتسخيرها في مرضاة مسديها.
فكل نعمة إنما هي من الله.
قال تعالى (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله)
وقال تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله).
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) متفق عليه.
ماذا نستفيد من قوله (وأبوء لك بذنبي)؟
الاعتراف بالذنب وأنه سبب لتكفيره.
اعترف آدم وزوجه عليهما السلام بالذنب (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
واعترف بذنبه الكليم عليه السلام فغفر الله له (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وقال تعالى عن داود عليه السلام (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ).
وقال عن يونس عليه السلام (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
ولما أرادت بلقيس أن تتوب قالت (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وفي صحيح مسلم لما جاء ماعز بن مالك تائباً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم قال له: "يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني.
هل يشرع الدعاء بالمغفرة؟
نعم.
لقوله (فاغفر لي).
قال سبحانه (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً).
وقال صلى الله عليه وسلم (أني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري.
والاستغفار يكون على وجهين:
الوجه الأول: طلب المغفرة بلفظ: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.
الوجه الثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك.
ماذا نستفيد من قوله (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي)؟
نستفيد أن يكون الإنسان الاعتراف بالنعمة، ومشاهدة عيبه ونقصه.
قال ابن القيم: قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي) مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً. (الوابل الصيب)
وقال ابن تيمية: فَقَوْلُهُ (أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي) اعْتِرَافٌ بِإِنْعَامِ الرَّبِّ وَذَنْبِ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنِّي أُصْبِحُ بَيْنَ نِعْمَةٍ تَنْزِلُ مِنْ اللَّهِ عَلَيَّ وَبَيْنَ ذَنْبٍ يَصْعَدُ مِنِّي إلَى اللَّهِ فَأُرِيدُ أَنْ أُحْدِثَ لِلنِّعْمَةِ شُكْرًا وَلِلذَّنْبِ اسْتِغْفَاراً.
وقال: إذْ الْوَاجِبُ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ وَلِلنَّفْسِ بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّنْبِ.
وقال رحمه الله: فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي نِعْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَقْتَضِي شُكْرًا وَفِي ذَنْبٍ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ. وَهُوَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ يَقُولُ {أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي.
ما الذي يجب على العبد أن يعتقده في توفيقه للحسنات؟
قال ابن تيمية: وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمِنْ نِعْمَتِهِ.
كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
وَقَالَ تَعَالَى (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
وَقَالَ تَعَالَى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وَقَالَ (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).
وَقَالَ تَعَالَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا).
وقال رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي) وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْحَسَنَاتِ، فَإِنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسَيِّئَاتُ الْعَبْدِ مِنْ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِه.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه " العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه.
بيان أفضل الاستغفار.
استحباب الاستعاذة منْ شرّ ما صنعه المرء.
1557 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ اَلْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ اَلْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اَللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
(اَلْعَافِيَةَ فِي دِينِي) أي: السلامة في ديني من المعاصي والآثام.
(وَدُنْيَايَ) من المصائب والشرور.
(وَأَهْلِي) من الأمراض والانحراف، والمراد بهم الزوجة والأولاد.
(اَللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي) أي: عيوبي وزلاتي.
(وَآمِنْ رَوْعَاتِي) أي: فزعاتي التي تخيفني.
(وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي) فسر الاغتيال من الجهة التحتية بالخسف.
قال ابن عثيمين: الاغتيال معناه: القتل غيلة على غير علم، بمعنى: أن يغتال إما بخسف به، أو بتسلط الجن عليه، أو ما أشبه ذلك، المهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أنه الله يحميه من كل جانب وقال: (أعوذ بك أن أغتال من تحتي.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب هذا الدعاء في الصباح والمساء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
لماذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال العافية؟
لأن العافيةُ لا يَعدِلُها شيءٌ، ومن أُعطي العافيةَ في الدنيا والآخرة فقد كَمُلَ نَصِيبُه من الخير.
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عمِّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال (قلتُ يا رسول الله، علِّمنِي شيئاً أسألُه اللهَ عز وجل، قال: سَلِ اللهَ العافيةَ، فمَكثْتُ أياماً، ثمَّ جِئتُ فقلت: يا رسول الله علِّمْنِي شيئاً أسأله اللهَ، فقال لي: يا عبَّاسُ يا عمَّ رسولِ الله، سَلُوا اللهَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرة) رواه الترمذي.
والعَفْوُ: مَحْوُ الذنوب وسترُها، والعافيةُ: هي تأمين الله لعبده مِنْ كلِّ نِقْمَةٍ ومِحنَة، بصرف السُّوء عنه ووقايته من البلايا والأسقام وحفظه من الشرور والآثام.
وأمَّا سؤال العافية في الدِّين فهو طلبُ الوقاية من كلِّ أمرٍ يَشِينُ الدِّينَ أو يُخِلُّ به.
وأمَّا في الدنيا فهو طَلَب الوقاية من كلِّ أمرٍ يَضُرُّ العبدَ في دنياه مِنْ مُصيبة أو بَلاء أو ضَرَّاء أو نحو ذلك.
وأمَّا في الآخرة فهو طَلَبُ الوقاية من أَهوال الآخرة وشدائدها وما فيها من أنواع العقوبات.
وأمَّا في الأهل فبِوِقَايَتِهم مِنْ الفتَن وحِمايَتِهم من البَلَايَا والمحن، وأمَّا في المال فبِحفظِه مِمَّا يُتْلِفُه مِنْ غَرَقٍ أو حَرْقٍ أو سَرِقَةٍ أو نحو ذلك، فجَمَع في ذلك سؤالَ الله الحفظَ من جَميع العَوارِض المُؤْذِيَة والأخطار المُضِرَّة.
وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَحَادِيث فِي الْأَمْر بِسُؤَالِ الْعَافِيَة، وَهِيَ مِنْ الْأَلْفَاظ الْعَامَّة الْمُتَنَاوِلَة لِدَفْعِ جَمِيع الْمَكْرُوهَات فِي الْبَدَن وَالْبَاطِن، فِي الدِّين وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك الْعَافِيَة الْعَامَّة لِي وَلِأَحِبَّائِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلاً إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أن يقول: اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ) رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) رواه الترمذي.
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عز وجل، قَالَ:"سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ" فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي: "يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) رواه الترمذي.
قال العلامة "المباركفوري: (سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ) فِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ بِالدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ بَعْدَ تَكْرِيرِ الْعَبَّاسِ سُؤَالَهُ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا يَسْأَلُ اللَّهَ بِهِ دَلِيلٌ جَلِيٌّ بِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعَافِيَةِ أَنَّهَا دِفَاعُ اللَّهِ عَنْ الْعَبْدِ، فَالدَّاعِي بِهَا قَدْ سَأَلَ رَبَّهُ دِفَاعَهُ عَنْ كُلِّ مَا يَنْوِيهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْزِلُ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ مَنْزِلَةَ أَبِيهِ وَيَرَى لَهُ مِنْ الْحَقِّ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ فَفِي تَخْصِيصِهِ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَقَصْرِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ تَحْرِيكٌ لِهِمَمِ الرَّاغِبِينَ عَلَى مُلَازَمَتِهِ وَأَنْ يَجْعَلُوهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إِلَى رَبِّهِمْ سبحانه وتعالى وَيُسْتَدْفَعُونَ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُهِمُّهُمْ، ثُمَّ كَلَّمَهُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:(سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ قَدْ صَارَ عُدَّةً لِدَفْعِ كُلِّ ضُرٍّ وَجَلْبِ كُلِّ خَيْرٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي عِدَّةِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ: لَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم دُعَاؤُهُ بِالْعَافِيَةِ وَوَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا وَمَعْنًى مِنْ نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ طَرِيقاً.
ما معنى (اَللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي)؟
أي: عيوبِي وخَلَلِي وتقصيري وكلُّ ما يُسوءُنِي كشفه، ويدخل في ذلك الحفظ من انكشاف العورة، وهي في الرَّجل ما بين السُّرَّة إلى الرُّكبة، وفي المرأة جَميع بدنها، وحَريٌّ بالمرأة أن تُحافظ على هذا الدُّعاء، ولا سيما في هذا الزمان الذي كَثُرَ فيه في أنحاء العالم تَهَتُّك النساء وعدَمُ عنايتِهِنَّ بالسَّتْرِ والحجاب
ما معنى قوله (وَآمِنْ رَوْعَاتِي)؟
هو مِنْ الأمن ضدُّ الخوف، والرَّوْعَاتُ جَمع رَوْعَة، وهو الخوفُ والحزن، ففي هذا سؤالُ الله أن يُجَنِّبَه كلَّ أمر يُخيفُه، أو يُحزنُه، أو يُقْلقُه، وذِكْرُ الرَّوْعات بصيغة الجمع إشارةٌ إلى كثرتها وتعدُّدِها.
اشرح قوله (وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي
…
)؟
فيه سؤالُ الله الحفظَ من المهالكِ والشُّرورِ التي تعرض للإنسان من الجهات السِّت، فقد يأتيه الشَّرُّ والبلايا من الأمام، أو من الخلف، أو من اليمين، أو من الشمال، أو من فوقه، أو من تحته، وهو لا يدري من أيِّ جهة قد يَفْجَأُه البلاءُ أو تَحُلُّ به المصيبة، فسأل ربَّه أن يَحفظَه من جميع جهاته، ثم إنَّ مِنْ الشَّرِّ العظيم الذي يحتاج الإنسانُ إلى الحفظ منه شرَّ الشيطان الذي يَتَرَبَّصُ بالإنسان الدوائر، ويأتيه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله؛ ليُوقِعَه في المصائب، وليَجُرَّه إلى البلايا والمهالك، وليُبْعِدَه عن سبيل الخير وطريق الاستقامة، كما في دعواه في قوله (ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين).
فالعَبدُ بحاجة إلى حِصن مِنْ هذا العدوِّ، ووَاقٍ له من كَيْده وشَرِّه، وفي هذا الدعاء العظيم تَحصينٌ للعبد من أن يَصِلَ إليه شَرُّ الشَّيطان من أيِّ جهة من الجهات؛ لأنَّه في حفظ الله وكَنَفِه ورعايته.
وقوله: "وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتِي" فيه إشارةٌ إلى عظم خُطورة البلاء الذي يَحلُّ بالإنسان من تحته، كأن تُخسَف به الأرض من تحته، وهو نوعٌ من العقوبة التي يُحِلُّها الله عز وجل ببعض مَنْ يَمشون على الأرض، دون قيام منهم بطاعة خالقها ومُبدعها، بل يَمشون عليها بالإثم والعدوان والشَّرِّ والعصيان، فيُعاقَبون بأن تُزَلْزَلَ من تحتهم أو أن تُخسَفَ بهم جزاءً على ذنوبهم، وعقوبةً لهم على عصيانهم كما قال الله تعالى: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون).
1558 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
(وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) أي: ما يؤدي إليه، يعني سائر الأسباب الموجبة لذلك.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الدهاء بهؤلاء الكلمات الجامعة.
ما معنى (اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ)؟
أي: ذهاب نعمك من غير بدل.
وقوله (نِعْمَتِكَ) مفرد في معنى الجمع، فيعم النعم الظاهرة والباطنة.
والاستعاذة من زوال النعم تتضمن الحفظ عن الوقوع في المعاصي، لأنها تزيلها.
قال الشاعر:
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تزيل النعم.
وقال الشوكاني: استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوال نعمته، لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها، وعدم مراعاة ما تستحقه النعم، وتقتضيه من تأدية ما يجب على صاحبها من الشكر والمواساة، وإخراج ما يجب إخراجه.
فتضمّنت هذه الاستعاذة المباركة التوفيق لشكر النعم، والحفظ من الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيل النعم.
قال اللَّه سبحانه وتعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد).
وقال تعالى (إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم).
وقال جلّ شأنه (وما أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير).
ما معنى (وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ)؟
أي: انتقال عافيتك عني بحصول المرض. بدل الصحة، والفقر بدل الغنى.
فمعنى زوال النعمة: ذهابها من غير بدل، إبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر، فكأنه سأل دوام العافية، وهي السلامة من الآلام والأسقام.
لأن بزوالها تسوء عيشة العبد، فلا يستطيع القيام بأمور دنياه ودينه، وما قد يصاحبه من التسخط وعدم الرضا وغير ذلك.
ما معنى (وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ)؟
أي: الأخذ بغتة.
وخُصَّ فجاءت النقمة بالاستعاذة؛ لأنها أشد و أصعب من أن تأتي تدريجياً، بحيث لا تكون فرصة للتوبة.
واستعاذ صلى الله عليه وسلم من ذلك لئلا تصيبه النقمة من حيث لا يكون له علم بها، ولا تكون له فرصة ومهلة للتوبة، لأنه إذا انتقم الله من العبد، فقد أحل به من البلاء ما لا يقدر على دفعه، ولا يستدفع بسائر المخلوقين.
ما معنى قوله (وجميع سخطك)؟
أي: ألتجئ وأعتصم إليك أن تعيذني من جميع الأسباب الموجبة لسخطك جلّ شأنك؛ فإنّ من سخطت عليه فقد خاب وخسر، ولو كان في أدنى شيء، وبأيسر سبب.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (وجميع سخطك) فهي استعاذة من جميع أسباب سبحانه وتعالى من الأقوال والأفعال والأعمال، وإذا انتفت الأسباب المقتضية للسخط حصلت أضدادها وهو الرضى.
1559 -
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ اَلدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ اَلْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ اَلْأَعْدَاءِ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الاستعاذة من الأمور المكورة في الحديث وهي:
(اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ اَلدَّيْنِ) أي: ثقله وشدته بحيث يعجز الإنسان عن قضائه.
لأن الدين همّ بالليل، وذلّ بالنهار، فإذا كَانَ غالبًا كَانَ أدهى وأمر.
فاستعاذ صلى الله عليه وسلم من شدة الدين، وثقله بحيث لا قدرة على وفائه سيما مع الطلب؛ لما فيه من الوقوع بالمحذورات الشرعية: كالخلف في الوعد والكذب كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والانشغال عن الطاعات؛ ولما فيه كذلك من الغم على القلب، وإتعاب العقل، ووهن الجسد، والنفس، وإنما استعاذ من غلبته؛ لأن الاستدانة بدون غلبة قد يحتاج إليها كثير من العباد، وقد مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في أصواع من شعير.
قَالَ بعض السلف: ما دخل هم الدين قلبًا إلا أذهب منْ العقل ما لا يعود إليه.
(وَغَلَبَةِ اَلْعَدُوِّ) أي: انتصاره علي وقهره وغلبته إياي.
لأن العدوّ إذا غلب يذيق أليم العذاب، وكآبة الذلّ والمهانة، ولاسيّما إذا كَانَ كافرًا، أو منافقًا، وربما يفتن عن الدين.
(وَشَمَاتَةِ اَلْأَعْدَاءِ) أي: فرح الأعداء بما يصيبني من أذى.
فإن في ذلك موقعاً عظيماً في القلب، وتأثيراً كبيراً في النفس.
فالشماتة: هي سرور العدو بما ينال عدوه الآخر من مكروه أو سوء.
قال القرطبي: والشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدِّين والدنيا، وهي محرّمة مَنْهِيٌّ عنها.
وقال ابن عاشور: والشماتة: سُرور النفس بما يصيب غيرها من الإضرار، وإنما تحصل من العداوة والحسد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وجهد البلاء، وشماتة الأعداء).
ولا يخفى أن الاستعاذة من كل الأمور السابقة لما فيها من المضار والمساوئ في الدين والدنيا.
1560 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: (سَمِعَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَقُولُ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، اَلْأَحَدُ اَلصَّمَدُ، اَلَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَال: لَقَدْ سَأَلَ اَللَّهُ بِاسْمِهِ اَلَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب استفتاح الدعاء بهذا الذكر الذي فيه الثناء على الله.
ما هو اسم الله الأعظم؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: هو الله.
حيث أن جميع الأسماء ترجع إليه.
ولأنه الاسم الذي تكرر في الأحاديث الواردة ومنها: أن رجلاً قال (اللهم إني أسألك أني اشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى). رواه أبو داود
وكحديث أنس قال (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات
…
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) رواه أبو داود.
ولأن هذا الاسم ما أطلق على غير الله.
القول الثاني: إن اسم الله الأعظم: الحي القيوم.
واستدل لهذا القول ببعض الأحاديث التي فيها مقال مثل حديث (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وفاتحة آل عمران (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وهما عند أبي داود.
1561 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ، يَقُولُ: اَللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ اَلنُّشُورُ - وَإِذَا أَمْسَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ; إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: - وَإِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب قول الذكر في الصباح والمساء.
فهذا دعاءٌ نبَوِيٌّ عظيمٌ، وذِكرٌ مُبَارَكٌ، يَجدُرُ بالمسلم أن يُحافظَ عليه كلَّ صباح ومساء، ويتأمَّلَ في معانيه الجليلة ودلالاته العظيمة، وكيف أنَّه قد اشتمل على تَذكير المسلم بعظيم فَضلِ الله عليه وواسِعِ مَنِّه وإكرَامِه، فنَوْمُ الإنسانِ ويقظَتُه، وحركتُه وسكونُه، وقيامُه وقعودُه إنَّما هو بالله عز وجل، فما شاء الله كان، وما لَم يشأ لَم يكن، ولا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله العظيم.
وقوله في الحديث (بك أصبحنا) أي: بنعمتك وإعانتك وإمدادِك أصبحنا أي أدركنا الصباح، وهكذا المعنى في قوله (وبك أمسينا)
وقوله (وبك نَحيا وبك نموت) أي: حالُنا مُستَمرٌّ على هذا في جميع الأوقات وسائر الأحوال، في حركاتنا كلِّها وشؤوننا جَميعها، فإنَّما نحن بك، أنت المعين وحدَك، وأَزِمَّةُ الأمور كلّها بيدك، ولا غِنَى لنا عنك طَرْفَة عَيْن.
وفي هذا من الاعتماد على الله واللُّجوء إليه والاعتراف بِمَنِّه وفَضله ما يُحقِّقُ للمرء إيمانَه ويُقوِّي يقينَه ويُعْظِمُ صِلتَه بربِّه سبحانه.
وقوله في الحديث (وإليك النشور) أي المَرجِع يوم القيامة، ببَعْثِ النَّاس من قبورهم، وإحيائهم بعد إماتَتِهم.
وقوله (وإليك المصير) أي المرْجِعُ والمآب، كما قال تعالى (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى).
وقد جعل صلى الله عليه وسلم قوله "وإليك النشور" في الصباح، وقوله:"وإليك المصير" في المساء رعايةً للتَّناسب والتشاكل؛ لأنَّ الإصباحَ يُشبه النشرَ بعد الموت، والنوم موتةٌ صغرى، والقيامَ منه يشبه النشرَ من بعد الموت، قال تعالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
والإمساءَ يُشبه الموتَ بعد الحياة؛ لأنَّ الإنسانَ يصير فيه إلى النَّوم الذي يشبه الموت والوفاة. فكانت بذلك خاتمةُ كلِّ ذِكرٍ متجانسةً غايةَ المجانسة مع المعنى الذي ذكر فيه.
ومِمَّا يُوَضِّح هذا ما ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول عند قيامه من النوم: "الحمدُ لله الَّذي أَحْيَانا بعد ما أمَاتَنَا وإليه النُّشور"، فسُمِّيَ النوم موتاً والقيامُ منه حياةً من بعد الموت، وسيأتي الكلامُ على هذا الحديث وبيانُ معناه عند الكلام على أذكار النوم والانتباه منه إن شاء الله.
وفي الحديث نعمة الحياة.
وفيه إثبات البعث والنشور والرجوع إلى الله.
متى وقت أذكار الصباح وأذكار المساء؟
الصحيح أن أذكار الصباح والمساء لها وقت محدد؛ بدليل التحديد الوارد في كثير من الأحاديث النبوية: " من قال حين يصبح. كذا وكذا، ومن قال حين يمسي كذا وكذا ".
لكن العلماء اختلفوا في تحديد وقت الصباح والمساء بداية ونهاية، فمن العلماء من يرى أن وقت الصباح يبدأ بعد طلوع الفجر، وينتهي بطلوع الشمس، ومنهم من يقول إنه ينتهي بانتهاء الضحى لكن الوقت المختار للذكر هو من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس. وأما المساء فمن العلماء من يرى أنه يبتدأ من وقت العصر وينتهي بغروب الشمس، ومنهم من يرى أن وقته يمتد إلى ثلث الليل، وذهب بعضهم إلى أن بداية أذكار المساء تكون بعد الغروب.
ولعل أقرب الأقوال أن العبد ينبغي له أن يحرص على الإتيان بأذكار الصباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فإن فاته ذلك فلا بأس أن يأتي به إلى نهاية وقت الضحى وهو قبل صلاة الظهر بوقت يسير، وأن يأتي بأذكار المساء من العصر إلى المغرب، فإن فاته فلا بأس أن يذكره إلى ثلث الليل، والدليل على هذا التفضيل ما ورد في القرآن من الحث على الذكر في البكور وهو أول الصباح، والعشي، وهو وقت العصر إلى المغرب.
قال ابن القيم رحمه الله: قال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)، وهذا تفسير ما جاء في الأحاديث: من قال كذا وكذا حين يصبح، وحين يمسي، أن المراد به: قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها وأن محل ذلك ما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب، وقال تعالى:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) غافر/ 55، والإبكار أول النهار، والعشي آخره. وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح، وبعد العصر.
كما أن هناك أذكاراً تقال في الليل كما ورد في الحديث من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه رواه البخاري ومسلم، ومعلوم أن الليل يبدأ من المغرب وينتهي بطلوع الفجر، فعلى المسلم أن يحرص على الإتيان بكل ذكر مؤقت بوقت في وقته، وأما إذا فاته الذكر فهل يقضيه أم لا؟
فقد قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: " وأما قضاؤها إذا نسيت فأرجو أن يكون مأجوراً عليه.
قال السفاريني: أذكار الصباح والمساء. اعلم أن أذكار طرفي النهار كثيرة جداً، والحكمة فيه افتتاح النهار واختتامه بالأذكار التي عليها المدار، وهي مخ العبادة وبها تحصل العافية والسعادة ونعني بطرفي النهار: ما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب، قال الله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. والأصيل هو: الوقت بين العصر إلى المغرب، قال الله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ. والإبكار: أول النهار، والعشي: آخره.
وذهب بعض العلماء إلى أذكر المساء تقال بعد المغرب.
لأن المساء هو المغرب.
واستدلوا بأن المساء يقابل الصباح، والصباح هو أول النهار، فيكون المساء هو أول الليل.
1562 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل الدعاء بهذا الكلمات العظيمة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة.
وقد قال تعالى (
…
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
وقد اختلف في المراد بحسنة الدنيا:
والصواب أنها تشمل كل خير الدنيا من التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، ومن المتاع الحسن في هذه الحياة، من صحة في البدن، وفسحة في السكن، وسعة في الرزق.
والحسنة في الآخرة: الجنة وما فيها من ألوان وأنواع النعيم، وأعلاها النظر إلى وجه الله الكريم.
- وهذا الدعاء من أعظم الأدعية وأجمعها وأكملها.
- قال ابن كثير: جمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام.
ما معنى قوله (وَقِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ)؟
أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، ولك بحفظنا من الذنوب الموجبة لها، وحفظنا أيضاً من دخولها.
- ومن صفات عباد الله الخوف منها.
كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً).
وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (من استعاذ بالله من النار ثلاثاً، قالت النار: اللهم أعذه من النار) رواه الترمذي.
فإن قيل: لم زاد في الدعاء (وقنا عذاب النار)؟
الجواب: إنما زاد في الدعاء (وقنا عذاب النار) لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار. (تفسير ابن عاشور)
1563 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلِي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ اَلْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
===
(اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي) أي: سيئتي، أو ذنبي.
(وَجَهْلِي) أي: ما صدر مني من أجل جهلي، والجهلُ ضدّ العلم، وقال القاري:"وجهلي"؛ أي: فيما يجب عليّ عِلمه، وعمله، وقيل: أي: ما لم أعلمه.
(اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي جِدِّي) بكسر الجيم، وهو الاجتهاد في الأمر، والتحقيق وضدّ الهزل.
(وَهَزْلِي) بفتح الهاء، وسكون الزاي، وهو المزاح؛ أي: ما وقع مني في الحالين، أو هو التكلم بالسخرية، والبطلان، والهذيان.
(وَخَطَئِي، وَعَمْدِي) الخطأ ما يقع بدون قصد، والعمد ما يقع عن قصد.
(اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) أي: قبل هذا الوقت.
(وَمَا أَخَّرْتُ) عنه.
(وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ) أي: ما أخفيت، وما أظهرت، أو ما حدّثتُ به نفسي، وما تحرّك به لساني.
وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) أي: من المعاصي والسيئات، هذا تعميم بعد تخصيص.
ما معنى (أَنْتَ اَلْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ)؟
قال المهلّب. أشار بذلك إلى نفسه؛ لأنه المقدَّم في البعث في الآخرة، والمؤخَّر في البعث في الدنيا. انتهى.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معناه المنزِّل للأشياء منازلها، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويُعزّ من يشاء، وُيذلّ من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات. وقيل: هو بمعنى الأول، والآخر، إن كلّ متقدّم على متقدّم فهو قبله، وكلّ متأخّر على متأخر فهو بعده، ويكون المقدم والمؤخّر بمعنى الهادي، والمضلّ، قدّم من شاء لطاعته، لكرامته، وأخر من شاء بقضائه، لشقاوته.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الدعاء بهذه الكلمات العظيمة الجامعة، المشتملة على طلب المغفرة من الله.
لماذا يستحب البسط في دعاء الله تعالى؟
مِنْ آداب الدعاء الإلحاحُ على الله وكثرةُ سؤاله وعدمُ السآمة والملل " والله يحبُّ الملِّحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ وذكر كلِّ معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه (اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلاَّ أنت).
ومعلومٌ أنَّه لو قيل: اغفر لي كلَّ ما صنعت كان أوجز، ولكن لفظ الحديث في مقام الدعاء والتضرُّع وإظهار العبودية والافتقار باستحضار الأنواع التي يتوب العبدُ منها تفصيلاً أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي كلَّه دقَّه وجُلَّه، سرَّه وعلانيته، أوَّلَه وآخره).
وفي الحديث (اللَّهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به منِّي، اللَّهمَّ اغفر لي جدي وهَزلي وخطئي وعمدي وكلُّ ذلك عندي).
وهذا كثيرٌ في الأدعية المأثورة، فإنَّ الدعاءَ عبوديةٌ لله وافتقارٌ إليه وتذلُّلٌ بين يديه، فكلَّما كثَّره العبدُ وطوَّله وأعاده وأبداه ونوَّع جُملَه كان ذلك أبلغَ في عبوديته وإظهار فقره وتذلُّلِه وحاجته، وكان ذلك أقربَ له من ربِّه وأعظمَ لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنَّك كلَّما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وثقلت عليه وهنتَ عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظمَ عنده وأحبَّ إليه، والله سبحانه كلَّما سألته كنتَ أقربَ إليه وأحبَّ إليه، وكلَّما أَلْححت عليه في الدعاء أحبَّكَ، ومَن لَم يسأل الله يغضب عليه.
كيف طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه المغفرة مع أن الله أنزل على نبيه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)؟
قيل: إن هذا من باب تأكيد المغفرة.
وقيل: إن هذا الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم محض عبادة.
وقيل: إن هذا من تواضعه.
وقيل: أن هذا من باب كمال التذلل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
ما رأيك بمن يقول: إن هذا من باب تعليم الأمة؟
هذا جواب ضعيف، إذ كيف يشرع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في صلاته من أجل التعليم مع أنه يمكن أن يعلم الناس بالقول. (ابن عثيمين)
ماذا نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لي)؟
نستفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقع منه ما يحتاج إلى المغفرة، لكن هناك ذنوباً لا يمكن أن تقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهي: كل ما ينافي كمال المروءة [كالزنا، واللواط، والسرقة وما أشبه ذلك] أو كمال الرسالة [كالكذب، والخيانة].
ما رأيك بمن يقول: إن الآيات أو الأحاديث التي فيها استغفار النبي صلى الله عليه وسلم المراد بها ذنوب أمته؟
هذا قول ضعيف.
قال الشيخ ابن عثيمين: إن هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه.
1564 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: - كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي اَلَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ اَلَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي اَلَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ اَلْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ اَلْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
===
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد: استحباب الدعاء بهذا الدعاء الجامع
قال القرطبي: هذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة والدين والدنيا.
ما معنى قوله: (اللَّهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري).
دعا بإصلاح الدين أولاً، لأنه أعظم المقاصد، وأهم المطالب؛ لأن من فسد دينه فقد خاب وخسر الدنيا والآخرة، وسؤال اللَّه إصلاح الدين هو أن يوفق إلى التمسك بالكتاب والسنة وفق هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين في كل الأمور، وذلك يقوم على ركنين عظيمين:
الأول: الإخلاص للَّه وحده في كل عبادة.
والثاني: والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون خالصاً صواباً.
فإن التمسك بهذين الأصلين عصمة للعبد من الشرور كلها، أسبابها، ونتائجها ونهاياتها، ومن مضلات الفتن، والمحن، والضلالات التي تضيع الدين والدنيا.
فنسأل اللَّه أن يصلح لنا ديننا الذي يحفظ لنا جميع أمورنا.
ما معنى قوله (وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)؟
أي: أصلح لي عيشي في هذه الدار الفانية القصيرة، بأن أُعْطَى الكفاف والصلاح، فيما أحتاج إليه، وأن يكون حلالاً مُعيناً على طاعتك، وعبادتك على الوجه الذي ترضاه عني، وأسألك صلاح الأهل، من الزوجة الصالحة، والذرية والمسكن الهنيء، والحياة الآمنة الطيبة، قال جلّ شأنه (من عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون).
قوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة) أي: في الدنيا بالقناعة، وراحة البال، والرزق الحلال والتوفيق لصالح الأعمال.
ما معنى قوله (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي)؟
أي: وفّقني للعمل الصالح الذي يرضيك عني، وملازمة طاعتك، والتوفيق إلى حسن الخاتمة حتى رجوعي إليك يوم القيامة، فأفوز بالجنان، قال اللَّه تعالى (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُود) لم يقل تعالى ممدود، بل قال (مَعْدُود) أي يُعدّ عدّاً إلى هذا اليوم العظيم، فينبغي لنا أن نعدّ العُدّة إلى هذا اليوم.
ما معنى قوله (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)؟
أي: اجعل يا اللَّه الحياة سبباً في زيادة كل خير يرضيك عني من العبادة والطاعة.
ويُفهم من ذلك أن طول عمر المسلم زيادة في الأعمال الصالحة الرافعة للدرجات العالية في الدار الآخرة، كما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ خير الناس؟ فقال (مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُه).
ما معنى قوله (واجعل الموت راحة لي من كل شر)؟
أي: اجعل الموت راحة لي من كل هموم الدنيا وغمومها من الفتن والمحن، والابتلاءات بالمعصية والغفلة، ويُفهم من ذلك أن المؤمن يستريح غاية الراحة، ويسلم السلامة الكاملة عند خروجه من هذه الدار، كما جاء في الصحيحين: أن رسول اللَّهِ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: (مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ:(الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ).
1565 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: - كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَللَّهُمَّ اِنْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
1566 -
وَلِلتِّرْمِذِيِّ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ (وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ اَلنَّارِ) وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
===
ما صحة أحاديث الباب؟
في إسنادها ضعف.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد مشروعية أن يسأل العبد ربه أن يرزقه علماً، وأن يكون علماً نافعاً، لأن العلم ينقسم إلى قسمين نافع وغير نافع.
قال ابن رجب: ولذلك جاءت السنة بتقسيم العِلْم إِلَى نافع وغير نافع، والاستعاذة من العِلْم الَّذِي لا ينفع، وسؤال العِلْم النافع.
ففي "صحيح مسلم" عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا).
وخرّجه أهل السنن من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها (وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَع).
وفي بعضها (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَع).
وخرج النسائي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَع).
وخرّجه ابن ماجه ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَع).
وخرّجه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقو (اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْماً).
وخرج النسائي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو (اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِه)
وخرج أبو نعيم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا دَائِمًا، فرب إيمان غير دائم، وَأَسْأَلُكَ وَعِلْمًا نَافِعًا، فرب علم غير نافع).
ما علامات العلم النافع؟
أن يثمر الخشية. قال عز وجل (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
قال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً.
وقال بعض السَّلف: ليس العِلْم بكثرة الرواية ولكن العِلْم الخشية.
وقال بعضهم: من خشي الله فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل. وكلامهم في هذا المعنى كثير جدًّا.
وسبب ذلك أن هذا العِلْم النافع يدل عَلَى أمرين:
أحدهما: عَلَى معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته، ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر عَلَى بلائه.
والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال.
فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إِلَى ما فيه محبة الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه؛ فإذا أثمر العِلْم لصاحبه هذا فهو علم نافع، فتى كان العِلْم نافعًا ووقر في القلب لله، فقد خشع القلب وانكسر له وذل هيب وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيمًا.
ثم قال رحمه الله:
…
فلهذا كان من علامات أهل العِلْم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقامًا، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد.
قال الحسن: إِنَّمَا الفقيه الزاهد في الدُّنْيَا الراغب في الآخرة، البصير بدينه المواظب على عبادة ربه.
وأهل العِلْم النافع كلما ازدادوا من هذا العِلْم ازدادوا لله تواضعًا وخشية وانكسارًا وذلا.
قال بعض السَّلف: ينبغي للعالم أن يضع التراب عَلَى رأسه تواضعًا لربه.
ومن علامات العِلْم النافع: أنَّه يدل صاحبه عَلَى الهرب من الدُّنْيَا، وأعظمها الرياسة والشهرة والمدح، فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العِلْم النافع فإن وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته، بحيث أنَّه يخشى أن يكون مكرًا واستدراجًا،.
كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك عَلَى نفسه عند اشتهار اسمه ويُعْدِ صيته.
ومن علامات العِلْم النافع: أن صاحبه لا يدعي العِلْم ولا يفخر به عَلَى أحد، ولا ينسب غيره إِلَى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها؛ فإنَّه يتكلم فيه غضبًا لله لا غضبًا لنفسه ولا قصدًا لرفعتها عَلَى أحد.
ما علامة العِلْم الغير نافع؟
أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء، وطلب العلو والرفعة في الدُّنْيَا والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العُلَمَاء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إِلَيْهِ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من طلب العِلْم لذلك فالنار النار.
ومن علامات ذلك: عدم قبول الحق والانقياد إِلَيْهِ والتكبر عَلَى من يقول الحق، خصوصًا إن كان دونهم في أعين الناس، والإصرار عَلَى الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إِلَى الحق.
1567 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا اَلدُّعَاءَ (اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ اَلْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ مِنْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا) أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
===
ما صحة حديث الباب؟
صحيح.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد استحباب الدعاء بهذه الكلمات الجامعة المشتملة على كل خير والاستعاذة من كل شر.
وهذا الدعاء من أجمع الأدعية، إن لم يكن أجمعها، فإن فيه سؤال كل خير، والاستعاذة من كل شر، ثم النص على سؤال أفضل الخير، وهو الجنة والأعمال الصالحة المقربة إليها، والاستعاذة من أعظم الشر، وهو النار والمعاصي المقربة إليها.
قال الملا علي القاري: وأجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ
…
ثم ذكر هذا الدعاء.
وقال المناوي: قال الحليمي: هذا من جوامع الكلم التي استحب الشارع الدعاء بها، لأنه إذا دعا بهذا فقد سأل الله من كل خير، وتعوذ به من كل شر، ولو اقتصر الداعي على طلب حسنة بعينها أو دفع سيئة بعينها كان قد قَصَّر في النظر لنفسه.
وقد ورد أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يدعو بهذا الدعاء بعد التشهد في الصلاة، ويعلمه للناس.
فقد قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"وَقَدْ وَرَدَ فِيمَا يُقَال بَعْد التَّشَهُّد أَخْبَار، مِنْ أَحْسَنهَا مَا رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق عُمَيْر بْن سَعْد قَالَ " كَانَ عَبْد اللَّه -يَعْنِي اِبْن مَسْعُود- يُعَلِّمنَا التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة ثُمَّ يَقُول: إِذَا فَرَغَ أَحَدكُمْ مِنْ التَّشَهُّد فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك مِنْ الْخَيْر كُلّه مَا عَلِمْت مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَم، وَأَعُوذ بِك مِنْ الشَّرّ كُلّه مَا عَلِمْت مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَم. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْر مَا سَأَلَك مِنْهُ عِبَادك الصَّالِحُونَ، وَأَعُوذ بِك مِنْ شَرّ مَا اِسْتَعَاذَك مِنْهُ عِبَادُك الصَّالِحُونَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً" الْآيَة. قَالَ: وَيَقُول [يعني: ابن مسعود]: لَمْ يَدْعُ نَبِيّ وَلَا صَالِح بِشَيْءٍ إِلَّا دَخَلَ فِي هَذَا الدُّعَاء.
فقوله: (اللَّهمّ إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه و ما لم أعلم)
أي: يا اللَّه أعطني من جميع أنواع الخير مطلقاً في الدنيا والآخرة ما علمت منه وما لم أعلم، والتي لا سبيل لاكتسابها بنفسي إلا منك، فأنت تعلم أصلح الخير لي في العاجل والآجل.
وقوله (أعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه، وما لم أعلم)
أي: اللَّهمّ أجرني واعصمني من جميع الشرور العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة، الظاهرة منها والباطنة، والتي أعلم منها، والتي لا أعلمها؛ فإن الشرور إذا تكالبت على العبد أهلكته.
وقوله (اللَّهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل).
أي: وفقني يا اللَّه إلى الأسباب القولية والفعلية الموصلة إلى الجنة، وهذا الدعاء فيه تخصيص الخير الذي سأله من قبل؛ لأن هذا الخير هو أعظمه، وأكمله، وهو الجنة.
قوله (وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل).
أي: قني واعصمني من الوقوع في الأسباب الموجبة لدخول النار، سواء كانت - اعتقادية أو قولية أو فعلية - وهذا الدعاء فيه تخصيص من الشر المستعاذ منه من قبل، والعياذ باللَّه، فهي أشد الشر وأخطره، فما من شر أشد منها.
قوله (وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً).
وفي رواية وهي مفسرة للرواية الأخرى (وما قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ، فَاجْعَلْ عَاقِبَتَهُ لِي رَشَداً).
أي: أسألك يا اللَّه أن تكون عواقب كل قضاء تقضيه لي خيراً، سواء كان في السراء أو الضراء، وافق النفس أو خالفها؛ لأن كل الفوز و الغنيمة في الرضا بقضائك؛ فإنك لا تقضي للمؤمن إلا خيراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم (عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
1568 -
وَأَخْرَجَ اَلشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى اَلرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اَللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي اَلْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اَللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اَللَّهِ اَلْعَظِيمِ).
===
(اَلْعَظِيمِ) اسم من أسماء الله، معناه الجامع لصفات العظمة والكبرياء.
ماذا نستفيد من الحديث؟
نستفيد فضل هاتين الكلمتين، فهما: كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى اَلرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اَللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي اَلْمِيزَانِ.
لماذا خص لفظ الرحمن في قوله (حبيبتان إلى الرحمن)؟
قال الحافظ ابن حجر: وخص لفظ الرحمن بالذكر، لأ ن المقصود من الحديث بيان سَعة رحمة الله - تعالى - على عباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل.
قال الحافظ قوله (خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان) وصفهما بالخِفة والثِّقَل؛ لبيان قلة العمل وكثرة الثواب.
ماذا نستفيد من قوله (ثَقِيلَتَانِ فِي اَلْمِيزَانِ)؟
نستفيد إثبات الميزان، وفيه مباحث تقدمت.
اذكر بعض الفوائد العامة من الحديث؟
الحث على المواظبة على هذا الذكر، والتحريض على ملا زمته.
إثبات صفة المحبة لله تعالى.
الجمع بين تنزيه الله تعالى والثناء عليه في الدعاء.
بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لأُ مته الأ سباب التي تُقربهم إلى الله، وتُثقل موازينهم في الدار الآ خرة.
إثبات الميزان، وجاء في بعض النصوص إثبات أن له كِفَّتين.
إثبات وزن أعمال العباد.
التنبيه على سَعة رحمة الله؛ حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل.
الإشارة بخِفة هاتين الكلمتين على اللسان إلى أن التكاليف شاقَّة على النفس، ومن أجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم (حُجبت الجنة بالمكاره، وحُجبت النار بالشهوات).
تم الشرح بفضل الله تعالى
الأربعاء: 27/ 12/ 1437 هـ ظهراً الساعة: 12 ونصف.