المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها «دراسة نقدية شرعية»   تأليف الدكتور سعيد بن - الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها - جـ ١

[سعيد بن ناصر الغامدي]

فهرس الكتاب

الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها

«دراسة نقدية شرعية»

تأليف

الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي

[المجلد الأول]

ص: -1

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دار الأندلس الخضراء

المملكة العربية السعودية - جدة

الإدارة: ص. ب: 42340 - جدة: 21541

هاتف: 6810577 - فاكس 6810578

المكتبات:

• حي السلامة - شارع عبد الرحمن السديري - مركز السلامة التجاري هاتف - فاكس: 6825209

• حي الثغر - شارع باخشب - سوق الجامعة التجاري هاتف: 6815027 - فاكس: 6810578

• فرع الرياض: حي السويدي الغربي - بجوار أسواق اليمامة هاتف: 2434930 - فاكس 4333657

http:www.al-andalus-kh.com

E-MAIL:[email protected]

ص: -1

بسم الله الرحمن الرحيم

أصل هذا الكتاب رسالة مقدمة إلى كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لنيل درجة الدكتوراه.

ونال بها المؤلف درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، إثر مناقشة علمية تمت في تاريخ 26/ 1/ 1420 هـ، وكانت لجنة المناقشة مكونة من:

1 -

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية، مشرفًا ومقررًا.

2 -

معالي الشيخ أ. د صالح بن عبد اللَّه بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء، ورئيس مجلس الشورى، عضوًا.

3 -

فضيلة الشيخ أ. د ناصر بن عبد الكريم العقل، عضو هيئة التدريس في كلية أصول الدين في الرياض، عضوًا.

4 -

سعادة الأستاذ د. حسن بن فهد الهويمل، عضو هيئة التدريس في كلية اللغة العربية في القصيم ورئيس نادى القصيم الأدبي، عضوًا.

ص: -1

‌المقَدّمَة

الحمد للَّه رب الناس، ملك الناس، إله الناس، خالق الخلق أجمعين، الإله الحق المبين، خلق الإنسان من سلالة من طين، وخلق الملائكة من نور مبين، وخلق الجان من مارج من نار، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقدر المقادير، وشرع الشرائع، وخلق الدنيا والآخرة، والموت والحياة، والجنة والنار، وجعل الجنة للمؤمنين دارًا، والنار للكافرين قرارًا.

وصلى اللَّه وسلم على خاتم أنبيائه، المبعوث رحمة للعالمين أجمعين، بالدين القويم، والصراط المستقيم، فدعا إلى اللَّه وجاهد في سبيله، وأقام منارات العلم والهدى والخير والعدل، وأثبت أحكام الإسلام في خير دولة أقيمت على وجه الأرض، وأنشأ مجتمعًا هو خير مجتمع ظهر على وجه البسيطة، اتبعوا أوامر اللَّه فلم يضلوا، وحكَّمُوا شريعته فلم يذلوا، وساروا على الهدى المستقيم فكانوا خير أمة أخرجت للناس، رضي الله عنهم وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فإنه لما كثرت سهام الشبهات التي يرميها أعداء الإسلام، وتطاول أهلها، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وبثوا سمومهم الفكرية والسلوكية، على شبيبة الأمة الإسلامية، محاولين إغراقهم في الضلالات، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، وتبديل يقينهم وإيمانهم، وطرحهم في مفاوز الشكوك والريب والترهات؛ كان لزامًا على من علم ذلك أن يبين لأمته وأبناء ملته خطورة هذه المسالك، وفظاعة هذه المهالك، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}

(1)

.

(1)

الآية 55 من سورة الأنعام.

ص: 1

‌1 - أهمية الموضوع وسبب اختياره:

إن من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل تلك المطالب الخبيثة، وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها "الأدب والشعر والثقافة والنقد" وباطنها الكفر والشك والنفاق.

ذلك أن أعداء الإسلام استطاعوا أن يبذروا في أرض المسلمين بذور حقدهم، ويستنبتوا فيها -في غفلة وضعف من أهلها- نباتات الشجرة الخبيثة، شجرة المادية الملعونة، فإذا بالمسلمين يرون ويسمعون من ينادي بالكفر جهرة ويدعو إلى الضلال صراحة، ويروج للرذائل الفكرية والخلقية علانية، مرة تحت قناع "الأدب الحديث" ومرة تحت شعار "الثقافة الإنسانية" وأخرى تحت لافتة "التحديث ومجاراة العصر وتداخل الثقافات" وأخر لا تحصى تحت عناوين كثيرة تدور كلها تحت معنى قول اللَّه تعالى:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}

(1)

، وقوله سبحانه:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}

(2)

.

فالإضلال والإفساد غايتهم ومسلكهم ومنهجهم مستخدمين في ذلك وسائل الشهوات والشبهات، ومع كل ذلك يزعمون ويدعون أنهم يريدون الإصلاح، والنهضة والتقدم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

(3)

.

إن الخبرة الإسلامية في مواجهة أرباب التضليل والإفساد خبرة طويلة مريرة، بيد أن أشدها مرارة، وأقساها وطأة هي ما تمر به الأمة في هذه الأزمنة، إثر ما يسمى بـ "الصدمة الحضارية" التي أنتجت أجيالًا من أبناء المسلمين، انسلخت من دينها وقيمها، وراحت تلهث خلف سراب المذاهب المادية، والعقائد الجاهلية المعاصرة، وأصحابها يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، ويغرونهم، ويمكنون لهم -بحكم غلبتهم ونفوذهم- في شتى الميادين.

إن مختلف النظم الفكرية المعاصرة المستوردة، تحمل في طياتها ألوانًا

(1)

الآية 89 من سورة النساء.

(2)

الآية 27 من سورة النساء.

(3)

الآيتان 11، 12 من سورة البقرة.

ص: 2

عديدة من الانحرافات؛ ذلك لأنها إفراز نظريات مادية ذات جذور وثنية.

ومن أخطر هذه النظم المستوردة: النظام اللاديني المسمى بـ "العلمانية" والذي يظهر في أردية شتى، منها الرداء الثقافي والأدبي المسمى بـ "الحداثة" التي أولع بها بعض أبناء البلاد الإسلامية فراحوا يبثون من خلالها السموم الفكرية، ويرسخون المفاهيم الضلالية فاتحين أمام شباب الأمة أبواب التمرد -باسم الثقافة والأدب- ونوافذ التحدي للدين والسلوك القويم.

كل همهم ترويج أصناف الزيف تحت شعار الحرية الفكرية وعالمية الفكر الإنساني والموضوعية العلمية، وهم أبعد الناس عن الحرية؛ لأنهم مجرد أتباع مقلدين، وأبعد الناس عن الموضوعية؛ لأنهم أصحاب أهواء تجارت بهم تجاري الكَلَب بصاحبه.

ولكنهم -بسبب غفلة أو تغافل، جهل أو عمالة- رسّخت لهم أقدام في مواضع التأثير، فإذا بالأمة ترى من أبنائها من يدعو إلى الإلحاد ويجاهر بالكفر ويحارب دين اللَّه جهارًا نهارًا، ومن لم يكن على هذا القدر من الشطط في الكفر، أو لم تكن له القدرة على التصريح به، تجده ملفوفًا بالشكوك في كل ما يتعلق بالإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق، يتناولها تناول المستريب، ويحاكمها محاكمة المتهم.

وهؤلاء وهؤلاء لا يفتأون يذكرون أئمة الكفر بالذكر العاطر، ويجعلون منهم قدوات، ويرسمونهم أمام أعين الأجيال في أحسن صورة وأجمل وصف، ويغدقون عليهم ألوان المديح والإطراء والتبجيل والتمجيد.

وهناك صنف ثالث تسيطر عليه بعض أوهام المروجين للخمور الفكرية، فيرى أن الإسلام دين سماويّ يعتني بالقيم والأخلاق والشعائر، والعقائد المجردة، لكنه لا يستوعب الواقع ولا يتدخل فيه، ولا يعنيه من أمور الناس إلّا ما كان في إطار السلوك والشعائر، أمَّا الأدب والفكر والثقافة أو السياسة والاقتصاد، فهذه لها ميادينها المستقلة عن الدين وأحكامه ومعاييره، وهذا الصنف -على إغراقه في الانحراف- يعتبر من أمثلهم طريقة.

وهناك صنف رابع ضُربت عليهم عماية الجهل أو التجاهل، ورانت على قلوبهم غشاوة الغباء أو التغابي، فإذا هم يهونون من خطر هؤلاء ويحسنون بهم الظن، ويدافعون عنهم، ويميّعون النظرة الحقيقية الجادة، ويضفون البراءة

ص: 3

عليهم وعلى أعمالهم الشائنة، تحت حجج واهية بليدة، أو يساعدون في إضفاء نوع من الضبابية على جوانب من طرحهم وفكرهم، وكأن لسان حال هذا الصنف ينطق بـ {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}

(1)

.

بل كأنهم لم يسمعوا قول اللَّه تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}

(2)

.

وبين هذه الأصناف جميعًا درجات من الانحراف والضلال بعضها أشر من بعض، كما أن بعضها أخف من بعض.

ومما يزيد الأمر سوءًا أن هؤلاء الممسوخين لهم نفوذ صارخ في أجهزة التوجيه والإعلام في كثير من بلاد المسلمين، ولا شغل لهم إلّا نقل النفايات البشرية، أو المماحكة فيما فرغ الشرع المعصوم من تقريره وإثباته.

قضيتهم الكبرى استيراد الآراء النظرية المتناقضة، وتخدير إحساس الأمة بآلاف الدواوين والمسرحيات والرسوم والمقالات النقدية وغير النقدية، من خلال الإثارة والجاذبية والمتعة الفنية في الشعر والرواية والقصة، وتهريج المسرح وأصباغ الرسوم، ومن خلال صناعة النجوم.

وإذا بنا نرى كل طائفيّ -يحمل أحقاده التاريخية على الإسلام- يخفي دمامة معتقداته تحت فلسفهْ الحداثة والعلمنة، ويخرج سمومه القاتلة من أكمام الثوب الأدبيّ الفضفاض.

كما نرى الوثنية والنصرانية واليهودية تبرز في أقلام المبغضين لقرون الهجرة المباركة، المعادين لتراث الأمة.

وإذا بنا نرى جهودهم وخبراتهم وقدراتهم تصب في إناء اليهودية التلمودية، لتجتمع كلها تحت لواء الرغبة الجامحة للإجهاز على الإسلام وعقيدته وشريعته وتراثه وحضارته وتاريخه المجيد.

(1)

الآية 62 من سورة النساء.

(2)

الآيات 107 - 109 من سورة النساء.

ص: 4

ومما يفت فؤاد المسلم أن يجد لهؤلاء الأرجاس أدوات من بني جلدتنا، استقطبتهم زمزمة كهان الحداثة، في حين غفلة منهم عن دينهم، وعجز منهم عن تحقيق وجودهم بتحصيل علميّ رصين، فإذا هم يرددون أفكار الزنادقة والملاحدة، ويضاهون اليهود والنصارى والوثنيين -ببلاهة وغوغائية- في عبارات مطاطة وألفاظ مبهمة، وتراكيب غامضة إذا حققتها وجدتها التبعية والتقليد ليس غير.

وليست المأساة متوقفة عند هذا الحد، بل تجدها تزداد خطورة عندما تلتفت إلى الركام الهائل من المؤلفات والمجلات والملاحق الأدبية، والمراكز الثقافية في كثير من البلدان العربية، فلا تجد عليها إلَّا طائفيًا نبت في الظلام وخرج من وراء الكواليس ليكون هو وأضرابه من معالم الأدب الحديث، أو نصرانيًا ترعرع تحت ظل الصليب يتسنم التوجيه والتثقيف، أو ملحدًا وجوديًا أو ماركسيًا أو إباحيًا يبرز من أعطاف جثة المادية الغربية ليكون من رموز العلم والأدب والفن، أو تابعًا لهؤلاء لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.

أمَّا إذا تأملت في تعبيراتهم ورموزهم، فإنك تجدها -إلا القليل منها- على قسمين، أحدهما: مكشوف، والآخر مقنّع، وكلاهما مسخر لخدمة الحداثة ومضامينها، وموجه لتحطيم دين اللَّه تعالى والإرث المبارك والتراث الخيِّر، ومؤسس للقيام بدور التخريب الفكري، والتلويث الثقافي، والانحلال الخلقي، فتجد في إنتاجهم المجاهرة بإنكار الرب سبحانه وتعالى، وجودًا وألوهية، والاستهانة بأسمائه -تعالى- وصفاته، وجحد وجود الملائكة والسخرية منهم، وتكذيب الرسل والأنبياء وإنكار قضية الوحي جملة وتفصيلًا أو التشكيك فيها، وجحد الكتب المنزلة والسخرية بكل ذلك، وإضفاء صفة النبوة والمعجزة على الشاعر والحداثي المبدع، وجعل الأساطير بديلًا للوحي الكريم، والآلهة الوثنية شريكًا للَّه العظيم، مع تكذيب بالقدر واستهانة به، وتهكم بالمؤمنين به، وجحد المعاد وسائر الغيبيات، مع الإيمان بغيبيات وثنية جاهلية، ولذلك تجدهم يوظفون الرموز الوثنية واليهودية والنصرانية في أعمالهم بشكل بارز وكثيف.

أمَّا إذا جاؤوا إلى تاريخ الإسلام فإنهم لا يستخرجون منه سوى أمثالهم من أهل الزيغ والشك والانحراف والزندقة، وهم مع كل ذلك يطرحون فكرتهم على أساس أنها فكرة كلية شاملة، متطورة أبدًا، قادرة على احتواء كل قضايا الكون والحياة والإنسان، وعلى ذلك فقد توجهوا بعنف وحقد لمحاربة الحكم

ص: 5

الإسلامي والسخرية من أخلاق الإسلام، والسعي لترسيخ ألوان الانحرافات الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، والدعوة للانحلال والفوضى الخلقية، والدعوة إلى استبدال شرع غير اللَّه بشرع اللَّه الحكيم، إلى غير ذلك من مفردات الانحرافات التي لا تكاد تحصى لكثرتها وتنوعها.

أمَّا المقنَّع من أفكارهم تحت أردية الغموض والرمزية فهو كثير كذلك، ولا يخرج عن المضامين السابقة، بل هو في خوضها الآسن غارق.

فإذا أرادوا -مثلًا- الحديث عن القرآن سموه "صوت الألوهية" أو "نتاج الغيبوبة"، والحكم الإسلامي يرمزون له بالملح والرماد والجفاف، وقرون الهجرة والفتح الإسلامي والخلافة رمزوا لها بالإبل والسفر والنخيل والبخور والتعاويذ والصحراء والهجير والرمال الضريرة، والعمائم المتخمة والأعشاب الميتة، وأرض الحروف عندهم أرض النبوات والإسلام والهدى، والأغوار الخرساء يريدون بها التاريخ الإسلامي، والشريعة والصلاة والمنارة يرمزون لها بالستارة السوداء، والإصلاح والدعوة وإحياء الإسلام يعبرون عن موقفهم منها بقولهم:"أهدم كل لحظة مدائن الغزالي" ونبذ التراث والإقبال على الغرب يأتي تحت قولهم: "أرفضُ الرمل واتجه نحو البحر"، والحداثة يسمونها: الشمس وفاطمة وفضة ونافذة الضوء ورياح المواقع والتضاريس والمطر والخصب، والتكوين الآتي إلى آخر ما هنالك من رموز وألفاظ تحتها الأفاعي والحيات.

إضافة إلى إحياء الرموز الباطنية، وأسسها الفلسفية؛ لتشكل ملامح غير معروفة إلّا لذي التتبع، والعبث بلغة القرآن، ودلالات ألفاظها وتراكيبها، وذلك بإعطاء اللغة العربية دلالات غير دلالاتها الأصلية، وهو جانب آخر من جوانب الخطورة التي ينطوي عليها المشروع الحداثي يتمثل في دعوتهم إلى "تفجير اللغة" أو "التحديث اللغوي"، فإذا انضاف إلى ذلك سعيهم لهدم أصول الفقه، وضوابط تلقي الوحي وفهمه وتطبيقه؛ علمنا أن القوم لا يهدفون إلى تجديد في الأساليب ولا تحديثٍ في الصيغ بقدر ما يستهدفون هدم ملة الإسلام، وإقامة ملة الحداثة مكانها {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}

(1)

.

من هذا كله وغيره كان الموضوع على جانب كبير من الأهمية، وكان

(1)

الآية 8 من سورة الصف.

ص: 6

اختياري له بعد مدة طويلة من المتابعة لإصداراتهم والنظر في أعمالهم والتأمل في مقالاتهم، والمناظرة والمناقشة مع بعض أتباع هذه النحلة محليًا وعربيًا.

فكتبت فيه كتابي هذا لأبين بعض جوانب الخطورة في الأدب العربي المعاصر، لعله يكون سببًا في صحوة من غفا، ودلالة من غامت في نفسه طرق الهدى، وسببًا في كبت من أعرض ونأى، وكشف سبل المجرمين، وسببًا لإيضاح الحق لمن استغفل وجرى في مجراهم مؤيدًا أو منافحًا؛ لعله يعود إلى الهدى، وسببًا لتحريك حمية أهل الإيمان فيلتفتوا إلى دعاة جهنم ممن يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ويعيشون بين ظهراني المسلمين.

وأكبر آمالي أن يكتب اللَّه لي أجر المنافحة عن دينه والمغايظة لأعدائه، وإبانة سبيل المجرمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.

‌2 - حدود الموضوع:

وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة أبواب وخاتمة، وصدرته بالمقدمة والتمهيد.

فالمقدمة تحدثت فيها عن أهمية الموضوع وسبب اختياره، وعن حدود الموضوع وبعض الدراسات السابقة فيه.

والتمهيد تحدثت فيه بإيجاز عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه، وعن علاقة الأدب بالاعتقاد، ونبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب.

أمَّا الباب الأول فهو بعنوان: الانحرافات المتعلقة باللَّه سبحانه وتعالى، وتحته أربعة فصول:

الفصل الأول: الانحرافات المتعلقة بالربوبية.

الفصل الثاني: الانحرافات المتعلقة بالألوهية.

الفصل الثالث: الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات.

وأمَّا الباب الثاني فهو بعنوان: الانحرافات المتعلقة بالملائكة والكتب المنزلة والأنبياء، وتحته ثلاثة فصول:

الفصل الأول: الانحرافات المتعلقة بالملائكة عليهم السلام.

الفصل الثاني: الانحرافات المتعلقة بالكتب عامة والقرآن خاصة.

ص: 7

الفصل الثالث: الانحرافات المتعلقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام.

وأمَّا الباب الثالث فهو بعنوان: الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر والقدر، وتحته ثلاثة فصول:

الفصل الأول: الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر.

الفصل الثاني: الانحرافات المتعلقة بالقدر.

الفصل الثالث: الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى.

وأمَّا الباب الرابع فهو بعنوان: الانحرافات المتعلقة بالأحكام والسلوك ونظام الحياة، وتحته خمسة فصول:

الفصل الأول: العبث بالمصطلحات الشرعية والشعائر الإسلامية.

الفصل الثاني: محاربة الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره.

الفصل الثالث: السخرية من الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية.

الفصل الرابع: الانحرافات في القضايا الاجتماعية والنفسية.

الفصل الخامس: الانحرافات في القضايا السياسية والاقتصادية.

وأمَّا الخاتمة ففيها: بيان أسباب الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث، ومقترحات لمواجهة الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث.

هذا وقد بدأت أهتم بهذا الموضوع وأعتني بجمع الكتب فيه من أيام الدراسة الجامعية، يوم شعرت أن بعض الطلاب قد تأثرت عقائدهم بشكوك قادت بعضهم إلى الإلحاد الصريح، وبعضهم إلى ريب في وجود اللَّه تعالى والنبوات والمعاد، وكنت أراهم يتداولون دواوين شعراء الحداثة وكتبهم النقدية والفكرية، وأظن أن ذلك من باب الحرص على التجديد الفني والأدبي كما كانوا يزعمون، فلما اطلعت على ما لديهم وجدت أن الأمراض الاعتقادية قد تسربت إليهم من مجالسات أهل الشبه والأهواء، ومن الكتب التي كان جلساؤهم بل أساتذتهم في الشر يوجهونهم لشرائها، واقتنائها وكانت هناك مكتبة لأحد الحداثيين تجلب كتب أهل الحداثة ومجلاتهم، والقوم على أرففها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، يتهافتون على شرائها ثم توزيعها إهداء أو إعارة.

وكانت لي معهم مناقشات ومحاورات في القضايا الكبرى؛ قضية وجود اللَّه، وقضية القدر، والنبوة، والمعاد، وأحكام الشريعة، وغير ذلك.

ص: 8

ثم واصلت متابعتي لهذا التيار على مستوى الصحف المحلية، والأندية الأدبية، والأمسيات الشعرية، وجرى فيها من الأحداث ما يطول شرحه.

وفي عام 1407 هـ سجلت على شريطين مادة علمية عن هذا الاتجاه بعنوان "الحداثة حقائق ووثائق" كانت ذات أثر على صعيدين:

الأول: أهل الدين والإيمان؛ فهؤلاء تبين لهم خطورة هذا المذهب، وضلاله وبشاعته، وعظم انحرافاته.

الثاني: أهل الحداثة والعلمنة؛ وقد وقع هذا العمل منهم موقع الصيحة، فهبوا يدافعون في الصحف والأندية، وفي المنشورات، وطفقوا يبحثون عن أي شيء به يحتمون، أو من خلاله يهاجمون، واستعدوا وألَّبُوا، وتناصروا، واستخدموا بعض الفئات الجاهلة أو المتجاهلة، وظاهرهم إخوانهم من الحداثيين العرب في مصر وبيروت ولندن وباريس.

وفي أثناء هذه المسيرة الطويلة من المرحلة الجامعية حتى تسجيل هذا البحث جمعت كميات كبيرة من كتبهم ومجلاتهم وقصاصات كثيرة من صحفهم وملاحقهم الأدبية، ولما جئت لكتابة هذا البحث وجدت أمامي ركامًا هائلًا مما هو في ملكي، فضلًا عما في الأندية الأدبية والمكتبات الكبيرة، وكان من المستحيل أن أجمع مادة هذا البحث من كل هذه الكتب والمجلات والملاحق، فعمدت إلى كتب ودواوين وروايات أكابر عتاة هذه النحلة، وأعرضت عن التلاميذ الصغار الذين يحاكون اساتذتهم ويرددون مقالاتهم، وقد قرأت بعد تسجيلي لهذا البحث ما يزيد على خمسة عشر ألف صفحة من كتبهم، ولا يدخل في هذا العدد ما قرأته من مجلات وملاحق، ولا ما سبق لي قراءته طوال ثلاثة عشر عامًا من أواسط المرحلة الجامعية حتى تاريخ تسجيل هذا البحث، ولا ما قرأته من كتب مضادة للحداثة والعلمانية.

‌وما دمت أتحدث عن حدود الموضوع فإني أرغب في تبيان عدة أمور:

1 -

أنه بعد النظر في كتب أهل الأدب الحديث تبين لي أن أكثرهم يطلقون لفظ "المعاصرة" و"الأدب المعاصر" على أدب الحداثة

(1)

.

(1)

انظر مناقشة محمد جمال باروت لهذا الموضوع في قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م ص 141، 142، 144 - 147، وانظر: لغيره في المرجع نفسه 2/ 264، =

ص: 9

ذلك أن الحداثة عندهم مصطلح عسير التحديد مضطرب الحدود محملٌ بمعان مشكلة ملتبسة، وأكثر ما تجد التباسه مع لفظ "المعاصر" و"الجديد" و"العصري"، بحيث يضفي هذا الالتباس على هذا المصطلح طابعًا مضطربًا قلقًا، يجعله متداخلًا بعمق -في استعمالهم- مع مصطلح "المعاصر" و"الجديد" في الإشارة إلى مفهوم الحداثة.

وعلى هذا فعنوان الكتاب وموضوعه يتجه مباشرة لمعالجة موضوع الحداثة، من غير التفات إلى الخلاف الطويل بين المختصين في موضوع الاتصال والانفصال بين مصطلحي الحداثة والمعاصرة.

2 -

وبناء على ما سبق فإني ابتدأت في هذا البحث من بداية الحداثة الشعرية العربية في العراق على يد السياب

(1)

أو نازك الملائكة

(2)

حسب اختلاف الحداثيين، وكلاهما ظهر في حقبة واحدة ما بين 1366 هـ - 1380 هـ/ 1946 م - 1960 م.

على أنني قد أتحدث عن بعض من سبقهم مثل جبران خليل جبران

(3)

وميخائيل نعيمه

(4)

ومعروف الرصافي

(5)

، والرابطة القلمية وجماعة أبولو والديوان وغيرهم ممن قد يعد من قريب أو بعيد من مقدمات وإرهاصات الحداثة العربية الفكرية والأدبية.

3 -

ركزت على دواوين وكتب أكابر الحداثيين وآوائلهم ومشاهيرهم في البلاد العربية، وإن ذكرت بعض تلاميذهم فعلى سبيل الاستطراد أو الاستشهاد في قضية محددة، ولذلك لم أتعرض -إلَّا لمامًا- للحداثة المحلية؛ لأنني

= 284، 307 - 308، وكتاب الحداثة الأولى لمحمد جمال باروت ص 53، ومجلة الناقد العدد الثامن ص 31، والحداثة في الشعر العربي المعاصر لمحمد حمود ص 48، وأفق الحداثة وحداثة النمط ص 151 - 152، وحداثة السؤال لمحمد بنيس ص 111، والقصيدة الحديثة وأعباء التجاوز للظاهري ص 160. وانظر: عناوين الكتب التالية التي تدل على أن الحداثة والمعاصرة تعنيان عندهم شيئًا واحدًا: اتجاهات الشعر العربي المعاصر لإحسان عباس، وقضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل، وشعرنا الحديث إلى أين؟ لغالي شكري، والحداثة في الشعر العربي المعاصر لمحمد حمود.

(1)

-

(6)

ستأتي تراجمهم. انظر: فهرس الأعلام المترجمين.

ص: 10

رأيتهم مجرد نقلة ومحاكين لأولئك الأوائل، الذين كانوا هم بدورهم -في أكثر أحوالهم- مجرد نقلة ومقلدين للحداثيين الغربيين.

4 -

رتبت أكثر الفصول على الطريقة التالية: أبدأ بذكر إجمالي لمعتقد أهل السنة والجماعة في القضية المتناولة، ثم أذكر -غالبًا- الجذور الفكرية للانحرافات الاعتقادية عند أهل الأدب العربي المعاصر، ثم أورد أوجه الانحرافات والشواهد عليها، وأعقب على بعض الشواهد ناقدًا ومفندًا، وأترك أكثرها من غير تعقيب لوضوح انحرافها وشططها، أو اكتفاء بما مهدت به للفصل من ذكر لمجمل عقيدة أهل السنة، والجذور الفكرية للانحرافات الحداثية.

5 -

ركزت في ذكر الشواهد على ما يسمونه شعرًا، ثم على بعض الروايات، ولم أفرق بين الحداثة الشعرية والحداثة الفكرية؛ لأنه لا فرق بينهما في الحقيقة، إلّا كالفرق بين النصرانية وترانيم يوم الأحد في الكنيسة.

فالحداثة الفكرية قاعدة الصنم، والحداثة الأدبية بقية أجزائه.

6 -

عُنِيتُ بإيراد شواهد كثيرة على انحرافاتهم، وأحلت في الهوامش على مواضع أكثر؛ مما قد يؤدي إلى الاستطراد، والتكرار، ويشعر بالإقحام، وما ذلك إلا من أجل تحقيق مقتضى من مقتضيات هذا الموضوع، وتحصيل مطالب علمية من لوازم البحث العلمي ويمكن للقارئ أن يلحظ تكرارًا في بعض الشواهد والأمثلة، وذلك أن النص المستشهد به يصلح في أكثر من موضع ولأكثر من قضية، كما أن ذلك يحقق أحد أهم أهداف هذا الكتاب، وهو إثبات انحرافاتهم، بأدلة من كلامهم، وبشهادات بعضهم على بعض، بيد أني لم أورد كل ما جمعته من مادة في هذا الصدد؛ لكثرته، وما إيرادي للشواهد العديدة من كلامهم إلّا لأن (. . . اللفظ دليل مادي قائم على حقيقة اللافظ، قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ})

(1)

(2)

، فإذا نقلت نص كلامهم وضعته بين قوسين، وذكرتُ اسم المرجع في الهامش، وإذا نقلت المعنى كتبتُ في الهامش "انظر".

7 -

بذلت جهدي في ترجمة من ترد أسماؤهم، وجعلت ثبتًا في الأخير

(1)

الآية 30 من سورة محمد.

(2)

معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد ص 9.

ص: 11

للأسماء المترجم لها، غير أن بعض الأسماء لم أترجمها؛ لأنني لم أجد مصدرًا للترجمة، ولا معلومات لدي عنها، بيد أني لم أترك ترجمة الشخصيات ذات التأثير في حركة الحداثة الفكرية والأدبية.

8 -

حاولت أن أقرن كل تاريخ ميلادي بتاريخ هجري، ولم أتعمد ترك شيء من هذه التواريخ إلّا ما كان في داخل نص منقول.

9 -

أوردت الشعر الحداثيّ على طريقتهم في الكتابة، ووضعت نقاطًا تدل على الحذف.

10 -

علقت على بعض النصوص التي تحتاج إلى تعليق، وسردت نصوصًا أخرى في مجال الاستشهاد على قضية من قضايا الانحراف دون تعليق عليها؛ لأن المراد هو إثبات هذا الوجه من الانحراف أو ذاك.

11 -

كان التركيز على الاستشهاد بالشعر الحداثي أكثر من غيره لأسباب عديدة أهمها: أن الحداثيين أنفسهم اعتبروا الشعر أساس مشروعهم، وأهم أعمالهم، وأخطر إبداعاتهم، ثم لكثرة الأعمال الشعرية وانتشارها، وكثرة قرائها.

12 -

أوردت في الكتاب -في مواطن عديدة- أوجه الصلة والتشابه بين الحداثيين وبعض الفرق القديمة المنتسبة إلى الإسلام، وقد يظن أن هذا من باب نسبة هؤلاء إلى أولئك القدامى، وهذا غير دقيق، فإن الفِرَق القديمة التي لم تخرج ببدعتها عن الإسلام، حسنة القصد -في الغالب- محبة للإسلام محترمة له ولنبيّه وكتابه، معترفة بألوهية اللَّه وربوبيته، مؤمنة باللَّه جملة وعلى الغيب، بخلاف ما عند أكثر هؤلاء المعاصرين من الحداثيين والعلمانيين.

13 -

ذكرت أثناء عرض أفكار وعقائد القوم، الأوصاف التي يستحقونها، وتنطبق على ما فاهوا به من كلام، مثل أوصاف الضلال والزيغ والإلحاد والانحراف والسخف والتهافت والانحدار والتبعية والغثائية ونحو ذلك، كما أني صرحت بأسماء من نقلت عنهم، وسبب ذلك أن التصريح بالأسماء هو الموافق لأهداف الكتاب، ولا قيمة للبحث بدون ذلك.

وأمَّا ذكر الأوصاف؛ فلأنها تنطبق عليهم حقيقة، بل إن بعضهم اعترف صراحة بالإلحاد والكفر والزنى واللواط والمخدرات، فلا ضير في ذكر هذه الأوصاف في المواطن المناسبة لها، ولا منافاة بين ذكرها والموضوعية اللازمة، والعرض العلميّ.

ص: 12

والمتأمل في أسلوب القرآن العظيم في معالجته لقضايا الكفر والنفاق وأنواع الانحرافات الأخرى، يجد المحاجة بالبرهان والمجادلة بالدليل جنبًا إلى جنب مع ذكر الأوصاف المطابقة للموصوفين مثل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}

(1)

، {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}

(2)

، {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

(3)

، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}

(4)

، {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}

(5)

، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}

(6)

، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}

(7)

، {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}

(8)

، إلى غير ذلك من آيات القرآن العظيم، وقد نظرت في كتب الصراع بين أهل الإسلام وأصحاب الانحرافات المعاصرة منذ بدأت موجات الغزو التغريبي الماديّ المعاصر، فرأيت كثيرًا من أهل الغيرة الإيمانية يتجنب في كتاباته ذكر الأوصاف اللائقة بأصحابها، ظنًا منه أن ذلك يناقض الموضوعية أو ينافي أصول الطرح العلميّ، تحت ظنون ما يسمى بالتجرد العلمي ونزع الذاتية والترفع المعرفيّ ونحو ذلك، وقد فاتهم أنهم بهذا الأسلوب قد أسهموا نوع إسهام في إرساء مطلب من مطالب الحداثيين والعلمانيين، وذلك بنزع الوصف الاعتقاديّ أو المعرفيّ عن أقوالهم، بحيث تذوب هذه الأقوال الشنيعة في أحماض التناولات الثقافية المجردة، والتحليلات النقدية الباردة.

ثم إنه بالنظر إلى كون أصحاب هذه الأقوال راضين عن أقوالهم مرتاحي القلوب إليها، باذلي الجهد في نشرها وترويجها، فلا شطط في وصفهم بما اطمأنت إليه نفوسهم وبما استبطنته قلوبهم، كما تشهد بذلك أقلامهم وأعمالهم.

(1)

الآية 58 من سورة الزخرف.

(2)

الآية 24 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 90 من سورة التوبة.

(4)

الآية 5 من سورة الصف.

(5)

الآية 77 من سورة المائدة.

(6)

الآية 44 من سورة الفرقان.

(7)

الآية 5 من سورة الجمعة.

(8)

الآية 176 من سورة الأعراف.

ص: 13

وأرى أن هذه الأوصاف لازمة للحط من منازلهم في قلوب من أشرب حبهم بجهل أو تجاهل، بقدر ما حازوه من هذه القلوب بغير حق.

ثم إني ما قسوت في القول -إن عُدَّت هذه الأوصاف قسوة- إلّا على الذين قست أقوالهم في حق ركن من أركان الإيمان أو قضية من قضايا الإسلام أو علم من علومه.

أضف إلى ذلك أنهم حين يناقشون أهل الإسلام فإنهم لا يترددون في رميهم بأقذع الألفاظ وأخبث الشتائم، وأسخف الأكاذيب، ولم أكن فيما وصفتهم به -وللَّه الحمد- في شيء من ذلك، بل كان نعتي لمن أطالوا التلاعب بعقول القراء، وعرضوا الباطل وكأنه الحق، وسوقوا الانحرافات، وكانوا سماسرة ووكلاء لأعداء الإسلام؛ نعتًا لا يتجاوز ما هم عليه، إن لم يكن فيه تقصير عن وصف حالهم أسأل اللَّه العفو عنه، وكم من غصة نشبت في قلبي، وغضبة جاشت في نفسي، ونومة طارت من عيني إثر قراءتي لما قالوه في حق اللَّه تعالى وحق أنبيائه وكتبه وشريعته وأخباره.

فأنا أمام محاربين ألدّاء لعقيدة الإسلام وشريعته وأحكامه وتاريخه وحضارته، محاربة مباشرة أو من وراء حجب الألفاظ والرموز، واللين مع المحارب من صفات الأحمق أو العاجز

(1)

.

وهذا البحث لا يواجه ظواهر أدبية أو فنية، وإنّما يواجه ظواهر وأساسات وقواعد فكرية واعتقادية، ومدارك ومنطلقات وأوجه هذه المضامين؛ لحمل النفوس المؤمنة على إعمال سنّة الدفاع عن حرمات الإسلام، ورفع وطأة أهل الأهواء والشبهات، وسد سبل انحرافاتهم الكثيرة، وكشف المضلين المفتونين، المنطوين على أسقام أصابت عقولهم وقلوبهم، فرشح عنها ما رشح من آراء باطلة وجهالات ساقطة، وانحرافات يخزي بعضها بعضًا، هذا و (إن تصور مذهب هؤلاء: كاف في بيان فساده، لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنّما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من

(1)

انظر: قضية الشدة على المخالف والأدلة والضوابط في: الرد على المخالف من أصول الإسلام للشيخ بكر أبو زيد، وموقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين للشيخ مصطفى صبري 1/ 42 - 46، 51، 97، والعواصم والقواصم للإمام ابن الوزير 1/ 229 - 238.

ص: 14

الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضًا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه

(1)

. . . وكل مَن يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين، إمَّا جاهل بحقيقة أمرهم، وإمَّا ظالم يريد علوًا في الأرض وفسادًا، أو جامع بين الوصفين، وهذه حال أتباع فرعون الذين قال اللَّه فيهم:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}

(2)

وحال القرامطة مع رؤسائهم، وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون)

(3)

. على أنني -مع ذلك- لم أتجاوز قواعد البحث والمناقشة، من خلال إيراد نصوصهم ونقدها وإبانة ما فيها من فساد وعوار.

وأعلم مسبقًا أن هناك مَن سينتقد أسلوب إطلاق الأوصاف على مستحقيها ويعتبر ذلك تحاملًا وأحكامًا مسبقة، وتهكمًا واستنقاصًا ينافي الموضوعية العلمية؛ ولذلك بينت وجهة نظري في هذه القضية، مع اعترافي بأن وجهة النظر المخالفة لها مسوغاتها وحيثياتها العصرية ودوافعها الفكرية والسلوكية من الموافقين والمخالفين.

14 -

أرى أنه على مَن يشتغل بالمناظرة مع الملحدين والمرتابين والمقلدين للأوروبيين أن ينتبه للشراك المنصوبة باسم "الموضوعية" و"الحوار" و"الانفتاح الثقافي" و"حرية الرأي" وخاصة عندما يصور نفسه في موضع الخصم؛ وذلك لأنه إذا أذعن لمقتضيات هذا المعتقد ولوازمه، فإنه يلتحق سرًا وبطريقة تدريجية من حيث لا يشعر بخصومه، إذ بكثرة تكرار فوض نفسه في موقع الخصم يقيم في عقله خصمًا خياليًا يتولد منه في الذهن والقلب قوة تصير وكيلًا لخصمه داخليًا، فينبت الوهن والضعف في أعماق النفس الأمّارة بالسوء ويقوى الشيطان في ظل تلك القوة، ويتحول الحق عن سبيله القويم ولو نوع تحول، فينتقص من الحق الذي معه بمقدار هذا التحول، وهذا منافٍ لمقاصد الموضوعية، ومخالف للعدل والإنصاف.

15 -

ينبغي أن يُعرف بأن الحداثيين ليسوا على درجة واحدة بل هم في

(1)

ينطبق كلام شيخ الإسلام هذا على بعض الحداثيين الذين أولعوا بتقليد كبرائهم الذين عادوا دين اللَّه عن إصرار ومعرفة.

(2)

الآية 54 من سورة الزخرف.

(3)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 138 - 139.

ص: 15

دركات مختلفة، وليس كل قول قاله واحد منهم يعتبر قولًا لكل حداثي على درجة التعيين، وإن كان ذلك داخلًا ضمن مذهبه الذي اعتنقه ومنهجه الذي ارتضاه على درجة العموم، فهو منسوب إليه بوجه من الوجوه، ما لم يعلن براءته من هذا القول، فكيف إذا كان يثني على صاحب القول المنحرف، ويرسمه في أعين الآخرين مثالًا رائعًا في الثقافة والأدب والفكر؟! فكيف إذا كان يدافع عنه ولا يقبل فيه نقدًا؟!

16 -

تحريت العدل والإنصاف في فهم النصوص الحداثية والحكم عليها، وما ظهر من استنتاج لبعض النصوص والرموز المحتملة والسياقات الموهمة، مما قد لا يوافق عليه البعض فإنني أعتمد فيه على عدة أمور علمية منهجية وأتكئ فيه على الأصل الحداثي القائل بأن النص إذا قاله صاحبه خرج من نطاقه إلى نطاق المتلقي يفهمه ويحكم عليه بطريقته الخاصة ووفق قيمه ومعاييره، هذا في النصوص الغائمة والأقوال الغامضة والعبارات الملبسة، أما ما كان منها واضحًا جليًا فإنه شاهد على ذاته بذاته.

17 -

لا يقتصر هذا الكتاب على نصوص أدبية، بل يتضمن كذلك نصوصًا نثرية من مقالات وكتابات وقصص وروايات ودراسات وموضوعات فكرية.

‌3 - الدراسات السابقة في الموضوع:

هناك مجموعة من المؤلفات التي تعرضت لهذا الموضوع، أو بالأحرى لبعض القضايا فيه، حيث لم أجد كتابًا جامعًا تحدث عن موقف الحداثيين من أركان الإيمان ومقتضياتها العملية.

وهذه المؤلفات تختلف من حيث حجمها، ونوعية التناول للموضوع، ومقدار العمق والشمول في محاكمة القضايا إلى عقيدة الإسلام وشريعته وغير ذلك من أمور، وسوف أذكر جملة منها مرتبة حسب الترتيب الهجائي معطيًا نبذة يسيرة عن كل واحد منها:

1 -

أباطيل وأسمار: للأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله، يقع في جزأين كبيرين يحتويان على 630 صفحة، وفيه مناقشة علمية وأدبية واعتقادية لأوائل جذور الانحراف، وخاصة لويس عوض ثم توفيق الحكيم ومحمد مندور وطه حسين وغالي شكري ومحمد خلف اللَّه وغيرهم، وقد تحدث عن هؤلاء

ص: 16

وخلفياتهم الفكرية، وتاريخ عمالتهم وارتباطهم بالمستعمر والكنيسة، وتلاعبهم بالألفاظ والمصطلحات، وتدليسهم للمفاهيم، ودعوتهم إلى العامية، وسيرهم في مخطط التبشير والاستشراق وأثر العقيدة النصرانية على أعمالهم الكتابية، وممارساتهم العملية، وكشف عداوتهم للقرآن وأخباره، والإسلام وأحكامه، واللغة ومدلولاتها.

على رقي في أسلوبه، وفخامة في ألفاظه، وجمال في ترتيبه، وجدير بكل متخصص في هذا الشأن، أو مريد العلم فيه أن يطلع على هذا السفر النفيس.

2 -

الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، ويقع في 470 صفحة، وهو من أجل الكتب وأنفعها في مضمار بيان أوجه الصراع بين الكفر والإسلام في هذا العصر، وتاريخ هذا الصراع، وامتداداته، كتبت بقلم محب للإسلام عميق الفهم فيه وفي أساليب ومقاصد أعدائه.

وقد تحدث عن الخلافة الإسلامية، وأثر إلغائها في ترسيخ العقائد الجاهلية المعاصرة، وأثر ذلك على الآثار الأدبية والفكرية، وكيف بدأت إثر ذلك الدعوات العلمانية اللادينية، والقومية، والمناداة بالجامعة العربية بديلًا من الجامعة الإسلامية، ثم الدعوات الإقليمية، ثم تعرض لقضية "القديم والجديد" وكيف تجلت المعارك في هذه القضية عن صراع بين الإسلام ومقتضياته، والتغريب وملحقاته، وما تلا ذلك من دعوات للعلمانية والإلحاد، وإفساد المرأة والتعليم والإعلام والأدب، وهدم للدين والأخلاق واللغة العربية، وقد استغرق ذلك منه ما يقارب نصف الكتاب وفيه تجلت قدرة المؤلف رحمه اللَّه تعالى في الربط بين هذه الاتجاهات وجذورها، ودوافعها ومشروعاتها المستقبلية.

ومن أراد الاطلاع على أبعاد الحرب القائمة ضد الإسلام وخلفياتها التاريجية والاعتقادية والفكرية، وأساليبها العملية، وأبعادها المستقبلية فلا غنى له من الاطلاع على هذا الكتاب النفيس، الذي نال حظًا من القبول عند المثقفين المسلمين قلما يناله غيره، وهو جدير بهذه المنزلة.

3 -

أدب الردة، قصة الشعر العربي الحديث: للأستاذ جمال سلطان، ويقع في 151 صفحة، وهو كتاب جيد من كاتب عرف باطلاعه العميق في الاتجاهات المعاصرة.

وقد بدأ كتابه بعرض تاريخيّ فكريّ موجز لنشأة الحداثة الشعرية في

ص: 17

البلدان العربية من الديوان وأبولو والمهجر وغيرها، ومن حداثة العراقيين إلى المصريين إلى مجلة شعر في لبنان، ثم جال جولة سريعة في بعض المذاهب الأدبية من الرومانسية حتى الواقعية الاشتراكية ثم تعرض لمفهوم العالمية عند شعراء الحداثة، وبيّن أن المراد به أوروبا مكانًا والعصر الحديث زمانًا، والمادية فكرًا واعتقادًا، ثم تحدث عن مفهوم التجديد وموقفهم من الثابت والمحافظ، ودعوتهم للهدم الكامل والتطور المطلق، ثم تحدث عن التيارات المشبوهة التي تقف خلف هذا الشعر الحديث.

ويتميز المؤلف بقدرته الفذة على ربط كل هذه القضايا بالمفاهيم الإسلامية، واستشهاده الدقيق والمتنوع بكلامهم حيث حشد جملة كبيرة من الشواهد المختلفة لحداثيين من بلدان عديدة، وهي ميزة كبيرة لهذا الكتاب، الذي تميز أيضًا برصانة الأسلوب، وجودة السبك، وجمال العبارة والتركيب.

4 -

أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب:

للدكتور السيد أحمد فرج، ويقع في 325 صفحة، وهو وإن كان يتحدث عن نجيب محفوظ إلّا أنه يعد -بحق- من الدراسات الناضجة، التي يُمكن الاتساء بها في مناقشة قضية العلمانية والحداثة في البلاد الإسلامية، لاسيما وأن مؤلفه صاحب خبرة دقيقة في هذا المجال، والمطلع على كتابه "جذور العلمانية" يجده على صغر حجمه من أعمق الكتب وأنضجها في هذا المجال.

تحدث المؤلف في كتابه "أدب نجيب محفوظ" عن الجذور الاعتقادية التي انطلق منها، وجعل القسم الأول منه عن حياة نجيب محفوظ بكل خلفياتها ومؤثراتها الزمانية والمكانية والفكرية، ومدى تأثير كل ذلك على فكره وإنتاجه، وجعل القسم الثاني عن القضايا الفكرية التي اهتم نجيب محفوظ بطرحها من خلال رواياته من اشتراكية وحرية جنسية، ودعوة تغريبية جلية، وعمالة لليهود واستخذاء للنصارى وخضوع للماديين.

والكتاب بقدر ما يتحدث عن نجيب محفوظ إلّا أنه أيضًا يتحدث عن التيار التغريبي الذي يستهدف تقويض الإسلام، وإلحاق المجتمع الإسلامي -في تبعية مهينة ذليلة- بالغرب في العقيدة والسلوك ونظام الحياة، فهو بحق يصور إشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب من خلال رؤية إسلامية واضحة، وروح إيمانية جياشة.

ص: 18

4 -

الإسلام والحداثة: لعبد المجيد الشرفي من تونس، ويقع في 346 صفحة، وهو كتاب لا علاقة له بموضوع هذا البحث، وإنّما أوردته لرفع التباس قد يرد من قراءة العنوان.

وهو كتاب علماني المنهج والمقصد، يحاكم قضايا علم أصول الفقه والفقه والتفسير والحديث، والقضايا العملية: السياسية والحكمية المتفرعة عنها، محاكمة علمانية مادية قبيحة، يظهر فيها التحامل على الإسلام، والتبجيل للعلمانية والماركسية وغيرها من المذاهب المادية المعاصرة.

5 -

أسلوب جديد في حرب الإسلام: للأستاذ جمعان بن عايض الزهراني، ويقع في 211 صفحة، وهو كتاب جليل النفع، يدل على غيرة متألقة، وقلب شجاع.

تحدث فيه مؤلفه عن الحداثة، ومفهومها الشمولي عند سدنتها، ثم تعرض لكاهنها الأكبر الباطني أدونيس ومضامين أطروحاته وفكره الماديّ، وعمق عداوته للإسلام واللغة العربية والمجتمع الإسلاميّ، ثم خصص فصلًا متميزًا عن الأساس العقائدي للحداثة، أوضح فيه جملة من الأطر الاعتقادية المنحرفة التي تمر من خلالها الحداثة العربية وكلها تتجه نحو هدف واحد "مضادة الإسلام ومناقضته" وقد أورد جملة من الشواهد الصارخة ذات الدلالة الواضحة على عداوتهم للإسلام، واستعارتهم الأفكار والعقائد المنحرفة والسعي في ترويجها، ثم تحدث في فصل آخر عن الحرية الإبداعية والماسونية العالمية، بيّن فيه أثر الماسونية في الحركة الحداثية، وملامح التشابه بين الحركتين، في أصل المخطط وأهدافه ووسائله، وأصوله الفكرية، ثم تحدث عن المثالب الخلقية والسلوكية التي كست جسد الحداثيين.

والكتاب كله يحتوي على دراسة جيدة للحداثة وجذورها الفكرية ومخططاتها التخريبية، من منطلق اعتقادي أولًا -وهو أهم وأخطر منطلق- ثم من منطلق فكريّ وثقافيّ وفنيّ في درجة ثانية، وهو وإن كان معظمه عن أدونيس إلّا أنه يحتوي على حقائق عامة تنطبق على أكثر أهل الحداثة.

6 -

التجديد في الشعر الحديث، بواعثه النفسية وجذوره الفكرية: للدكتور يوسف عزّ الدين: ويقع في 279 صفحة، وهو من إصدارات نادي جدة الأدبي.

وقد بين فيه حجم التلوث الفكري في أدب الحداثة وأوجه التبعية للغرب،

ص: 19

والشعور الكامن لديهم بالضعف والنقص أمام الغرب، وأثر فرويد عليهم، ثم تحدث عن مسيرة التجديد في الشعر العربي وما خالطها من أخلاط ومفاسد فكرية وفنية، ثم تحدث عن بواعث التجديد وجذوره، وأنه من أول بداية له كانت تقليدًا للغرب، والذي يعاني من فراغ روحيّ، تسرب إلى مقلديه من العرب، ثم تحدث عن ظواهر فنية ولغوية في الشعر الحديث، ثم عن مضامين الشعر الجديد، وأهم ما في الكتاب حديثه تحت عنوان "الحداثة المدمرة، والشعر الحديث، والأسطورة".

والكتاب في الجملة جيد من حيث المناقشة الفنية والفكرية، وفيه بعض الأخطاء الفكرية كتسليمه بالتطور المطلق، والثناء على بعض رموز الحداثة كالسياب وحجازي وعبد الصبور بل وصفهم أحيانًا بالخيرية!!.

ومع إعلان المؤلف غيرته الدينية والعربية إلّا أنه لم يستطع أن يظهرها في عمق وشمول عند تناوله لشعر الحداثيين.

7 -

تحت راية القرآن: للأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه اللَّه تعالى، ويقع في 413 صفحة، وفيه وقائع معركته مع طه حسين الذي كان يمثل طليعة التوجه العلمانيّ والحداثيّ، وخاصة في كتابه "في الشعر الجاهلي".

والكتاب شهير، وكاتبه أشهر من نور على علم، وهو لا يتحدث عن الحداثة بوجه خاص، ولكنه يعالج مشكلة التغريب في الفكر والأدب العربي المعاصر، وهو سجل حافل لوقائع تلك المعركة بين أهل الإسلام والمنهزمين من أبناء المسلمين.

8 -

جناية الشعر الحر: للأستاذ أحمد فرح عقيلان، ويقع في 115 صفحة، وهو من إصدارات النادي الأدبي في أبها، وأصله محاضرة ألقيت بهذا العنوان، وقد أحدث هذا الكتاب ردة فعل عنيفة لدى أتباع الحداثة المحليين فكتبوا ضده واستعدوا عليه، وسخروا منه.

يتحدث الكاتب عن الجناية القاتلة التي أحدثها شعراء الحداثة في الدين والأخلاق والمفاهيم واللغة، وقد أورد المؤلف جملة من الشواهد الدالة على مقدار الهبوط في الذائقة الفنية والسلوكية والأدبية، لدى شعراء الحداثة، في أسلوب لاذع، وتحدث في هذا الكتاب بإيجاز عن الانحرافات المواكبة للحداثة مثل الدعوة للعامية، وقطع الصلة بالشرق، ودعوات إفساد المرأة، ثم بين أن

ص: 20

كثيرًا من شعراء الحداثة لا يطمأن إلى ماضيهم ولا إلى عقيدتهم، وخصص الكلام عن السياب وأدونيس والبياتي ولويس عوض وسعيد عقل، وأتى بنماذج من كلامهم ومواقفهم وذكر خلفياتهم الدينية، وانتماءاتهم الاعتقادية.

ثم ذكر جنايتهم على اللغة العربية وأوجه هذه الجناية، وجنايتهم على التراث العربي، والعبارات الشاذة والقبيحة التي شاعت في كلامهم، وتهجمهم على الشعر القديم، ثم ذكر النظريات الفلسفية التي أثرت في شعرهم مثل الوجودية والفرويدية والبرناسية والواقعية والماركسية، ثم تحدث عن نفوذ الحداثيين في الصحافة واستغلالهم لهذا النفوذ في ترويج باطلهم، ثم تحدث عن بعض الجوانب الفنية.

والكتاب على صغر حجمه يعتبر شهادة حق من غيور على الدين والأمة والمجتمع، وبيان قوي لأبعاد هذا السرطان الثقافي.

9 -

الحداثة بين التعمير والتدمير: للدكتور حسن بن فهد الهمويمل، ويقع في 55 صفحة من الحجم المتوسط.

وقد انطلق فيه مؤلفه من منطلق اعتقاديّ، لبيان حجم التدمير الحداثي للإنسان والأديان والأخلاق وغير ذلك من مناحي الحياة، في عبارة حديثة، وصياغة متألقة، وأصل الكتاب محاضرة ألقاها المؤلف بالعنوان نفسه، ومن أهم مضامينه بيانه أن الحداثة ليست مجرد التغيير الفنيّ بل هي البحث عن الضد المعرفيّ والثقافيّ والاعتقاديّ.

وقد ساق جملة من المفاهيم النافعة بصورة مختصرة سريعة، وددت أن المؤلف بسط هذه المفاهيم واستشهد لها بشواهد من كلامهم وهو قادر -بحكم علمه الواسع في هذا الميدان، واطلاعه وأصالة منهجه- أن يأتي بالجديد المفيد في إبانة خطر هذا المنهج التدميريّ.

بيد أنه ينبغي للمؤلف أن يحذف من عنوان كتابه لفظ "التعمير"؛ لأن الحداثة لا تنطوي على أي عنصر بناء، اللهم إلّا إن كان مراده تعمير الحداثة والحداثيين للإلحاد والكفر والضلال، والأصنام الوثنية، فذلك شيء حقيقي، وإن كان العنوان لا يدل عليه، أو أنه أراد تضمين دعواهم في هذا العنوان ليبين زيف ذلك، فهذا لا ضير فيه.

10 -

الحداثة تعود: للدكتور حلمي محمد القاعود، ويقع في 54 صفحة

ص: 21

من الحجم الصغير. وهو خطاب مبسط للقارئ العادي، يكشف فيه مؤلفه المغالطات الحداثية التي يدلس بها أهل الحداثة على الناس، ومؤلفه من الكتاب المعروفين بالمتابعة والتصدي للتيارات الحداثية والعلمانية.

تحدث المؤلف عن مصطلح الحداثة ومضامينه، وبراءة بعضهم من حداثة أدونيس لما انكشفت سوأتها، وبين أن هذه البراءة مجرد خدعة؛ لأن الواقع أنهم جميعًا في مضمار واحد، ثم تحدث عن مجموعة من الأساليب التلبيسية التي يستخدمها أهل الحداثة.

والكتيب في الجملة عبارة عن رأي وانطباع وتأملات وتحليلات سريعة حول موضوع الحداثة.

11 -

الحداثة في الشعر العربي المعاصر، حقيقتها وقضاياها، رؤية فكرية وفنية: للدكتور وليد قصاب، ويقع في 210 صفحة من القطع الكبير، وهو من أحسن الكتب التي تناولت موضوع الحداثة من زاوية فكرية اعتقادية، اعتنى فيه مؤلفه بجانب المضمون والمحتوى الحداثي، والأصول الفكرية، وقد اطلعت عليه بعد انتهائي من كتابة وطباعة هذا البحث، وتمنيت أن أكون قد اطلعت عليه من قبل لأفيد منه، ويقع هذا الكتاب في خمسة فصول، قبلها تمهيد عن أوهام حول الحداثة.

وقد تحدث في الفصل الأول عن مسيرة التحديث في الشعر العربي وعلاقة ذلك بالتغريب، والمدارس والمذاهب الغربية، أما الفصل الثاني فكان عن الحداثة الغربية وبيان مفاهيمها الأساسية وحقيقتها الفكرية وأثر ذلك على الحداثة العربية، أما الفصل الثالث فكان عن الحداثة العربية وإثبات استنساخها من الغرب، ثم بيان أظهر ملامحها الفكرية، وتحدث في الفصل الرابع عن قضايا متعلقة بالحداثة العربية مثل اللغة ومفهوم الشعر، ثم ختم بالفصل الخامس المتضمن شهادات طائفة من شعراء وأدباء ومفكري الحداثة العربية على إدانة الحداثة.

بيد أن الكتاب في مجمله متوجه لدراسة الشعر الحداثي أكثر من غيره.

12 -

الحداثة في منظور إيماني: للدكتور عدنان علي رضا النحوي، ويقع في 170 صفحة من القطع الكبير، وقد قسمه إلى أربعة أبواب:

الأول عن لفظة الحداثة بين القديم والجديد، وتحته حديث عن مصطلح الحداثة ومدلولها اللغويّ ومضامينها الفكرية وجذورها اللغوية.

ص: 22

والثاني نماذج من فكر الحداثة وآدابها، استعرض فيه كتاب أدونيس "مقدمة في الشعر العربي" كنموذج كاشف لحقيقة الحداثة، عقب على بعض المقاطع، ثم تحدث في الفصل التالي عن كتاب "جدلية الخفاء والتجلي" لكمال أبو ديب، وناقش بعض مضامينه، ثم الفصل الذي يليه عن كتاب "الخطيئة والتكفير" لعبد اللَّه الغذامي وفيه ناقش بعض المفاهيم البنيوية التي علق عليها الغذامي أبحاثه في كتابه هذا، واستطرد في قضية الخطيئة والتكفير.

وفي الباب الثالث الحداثة بين الشعر والنثر، وهو باب مختص بالأمور الفنية والجمالية.

ثم أعقبه بالباب الرابع عن امتداد الحداثة بين الشرق والغرب مركزًا على قضية البنيوية، وأثر الماركسية والبعثية في الحداثة، ثم لخص جملة من الركائز الأساسية في الفكر الحداثي والبنيوي، ثم تحدث عن الحداثة والمادية الجدلية.

والكتاب مليء بالمناقشة العلمية الشرعية لكثير من المفاهيم التي تعرض لها.

13 -

الحداثة في ميزان الإسلام: للشيخ الدكتور عوض بن محمد القرني، ويقع في 139 صفحة من الحجم الكبير، وقد قدم له سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وصدر هذا الكتاب عام 1408 هـ وكان لإصداره أصداء واسعة على كل المستويات العلمية والثقافية، وما يزال يعد من أهم المراجع التي تناولت قضية الحداثة.

وقد تألب الحداثيون المحليون والإقليميون على هذا الكتاب، وأظهروا حنقهم الشديد على مؤلفه ومقدمه، فكتبوا في ذلك المقالات ونشروا المنشورات وعقدوا الندوات، مما يدل على عمق وحرارة الطعنة التي تلقوها.

وقد تحدث مؤلفه فيه عن الجذور التاريخية للحداثة، ثم عن الغموض في أدب الحداثة والغاية منه، ثم خصص مقطعًا من كتابه لبيان أن الحداثة منهج فكري يسعى لتغيير الحياة، وأعقبه بالحديث عن الحداثيين المحليين وموقفهم من الإسلام وقيمه، ثم عن بعض رموز الحداثة العربية وارتباط الحداثيين المحليين بهم، ثم عن أساليب الحداثيين في نشر فكرهم.

والكتاب على صغر حجمه -نسبيًا- إلّا أنه يعتبر من أفضل ما كتب في هذا المجال، فقد تناول القضايا الحداثية بصراحة، وكشف مراميها وأهدافها بوضوح، معتمدًا على معايير الإسلام الاعتقادية والشرعية، معضدًا أقواله

ص: 23

بالشواهد والأدلة من كلامهم، معقبًا عليها تعقيبات سديدة مفيدة، في أسلوب واضح وعبارة سلسة، وتوجه إلى المقصود من غير تعمية ولا التباس.

وجملة القول: هذا الكتاب من أفضل ما كتب عن الحداثة من كاتب غيور على دينه وأمته، ومهما قلت في هذا الكتاب فإن مخبَرَه الحقيقي أكبر من الإخبار عنه

(1)

.

14 -

حوار مع الشعر الحر: لسعد دعبيس من ليبيا، ويقع في 104 صفحات، وهو مخصص في بحث الخصائص الفنية المشتركة بين الشعر الحر والشعر القديم، ولا علاقة له بموضوع هذا البحث.

15 -

الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث: للدكتور محمد الكتاني، ويقع في 1360 صفحة، تحدث فيها المؤلف عن قضية الصراع حديثًا موسعًا يدل على جهد كبير ودأب وسعة اطلاع، وتمكن قوي في مجال الثقافة والأدب، إلّا أن المعيارية الشرعية والاعتقادية لديه شبه معدومة، ولذلك لم تأخذ حيزًا في نظرته إلى قضية الصراع، بل تتناول الموضوع تناولًا حياديًا، وهذا من أكبر المآخذ على هذا الكتاب الضخم، حيث حاول أن يمسك العصا من الوسط -كما يقال- ولايغضب أيًا من الفئتين، وأظنه أخفق في ذلك غاية الإخفاق، بيد أن المهم في هذا الصدد أنه أسقط المعيارية الإسلامية الاعتقادية والشرعية.

وعلى كل حال فالكتاب يحتوي على رصد دقيق وشامل لقضية الصراع وتاريخه وجذوره وامتداداته، وأشكاله ومدارسه واتجاهاته الفكرية، ويُمكن الاستفادة منه في هذه المجالات أيما استفادة.

16 -

الغارة على التراث الإسلامي: للأستاذ جمال سلطان، ويقع في 155 صفحة من القطع الكبير، وهو كتاب جليل النفع، من كاتب عرف بغيرته على الإسلام وبقلمه الرصين.

وفيه تحدث عن المخططات التخريبية الحداثية والعلمانية الموجهة إلى التراث الإسلامي، وخلفيات الأحلاف الفكرية المشبوهة في حربهم لتراث الإسلام وآمال الصحوة الإسلامية، وتحدث عن موقف الحداثة الفكرية

(1)

انظر بعض ردود الفعل على هذا الكتاب في ص 1137 - 1138 من هذا البحث.

ص: 24

والعلمانية الفكرية والعملية الموجهة بشراسة وحقد عميق إلى التراث الإسلامي مستشهدًا على ذلك بشواهد عديدة، أظهرها ما يجري في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي جامعة الدول العربية.

17 -

في خيمة النص، قراءات في أدب المرحلة: للأستاذ علي بن موسى التمني، ويقع في 153 صفحة من القطع الكبير وهو عبارة عن مجموعة من المقالات النقدية الفكرية، أجاد فيها مؤلفها العرض والمناقشة، وأفاد من خبرته الطويلة في مقاومة التيار الحداثي، ووضوح رؤيته العقدية والفكرية في التعامل مع النصوص الحداثية.

وقد بدأ الكاتب حديثه عن التجديد الحداثي وصلته الوثيقة بالتغريب، وضرب أمثلة من المسرح والشعر والقصة والرواية والنقد وبين ضوابط التجديد بينه وبين التبعية والاستعارة الفكرية، ثم تحدث عن الأدب الإسلامي وموقف الرافضين له مصطلحًا ومنهجًا، ثم تحدث عن التبعية الفكرية والاعتقادية المسيطرة على أدب الحداثة مضمونًا وأسلوبًا، ثم حلل طريقة الخطاب الحداثي وما يحتويه من غموض ولبس وهذيان، ثم تحدث عن الرؤية الفكرية المستوردة على ضوء دراسة معجب الزهراني لمجموعة "والضلع حين استوى" القصصية لأميمة الخميس، وما في هذه الدراسة من مضادة للنصوص الشرعية، ثم تحدث عن النتاج القصصي الحداثي، ثم عن التمرد والرفض الحداثي وماذا يعني، ثم رؤيته لمحاضرة حداثية عن "وطننا في عيون بعض الروائيين العرب" ثم أطل على شيء من ثقافة المرحلة "الحداثية" وما تميزت به من عقم وأسن، وساق شواهد على ذلك، ثم تحدث عن مجموعة من شعراء الهزيمة، وأمثلة من شعرهم، ثم أجرى قلمه السيال في حديث عن مجلات حداثية: مجلة "النص الجديد" ومجلة "إبداع" ومجلة "القاهرة" ذاكرًا بعض توجهاتها ومضامينها، وقد ركز المؤلف جزءًا كبيرًا من هذا الكتاب على الحداثيين المحليين، وتميز إضافة إلى جودة الفكرة ووضوحها جدة الأسلوب وروعة العرض.

18 -

في النقد الحديث: للدكتور نصرت عبد الرحمن، ويقع في 206 صفحة، وهو دراسة في مذاهب نقدية حديثة وأصولها الفكرية، وجذورها الفلسفية الغربية، وتأثير هذه الفلسفات على المذاهب النقدية، وتسلسل هذه التأثيرات إلى النقد والشعر الحداثيّ العربيّ.

ص: 25

ولم يركز المؤلف على المضامين الاعتقادية بل كان تركيزه على القضايا النقدية والفنية وأسسها الفلسفية، وقد أجاد في الربط بينهما، وفي إعادة كل مذهب نقديّ تعرض له إلى قاعدته الفكرية.

19 -

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: لأبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري، ويقع في 286 صفحة من القطع الكبير.

وفيه دراسة احتفالية بالشعر الحديث، وثناء على إنجازاته الفنية واللغوية، ومدح لأصحابه الذين استطاعوا أن يتجاوزوا الظواهر الفنية القديمة، ويأتوا بملامح فنية جديدة لم يستطع الأصلاء المهدفون إهداف النواعير أن يفهموها "حسب تعبيره" ثم امتدح الآفاق العالمية، والغناء الفكريّ والهم الجماعيّ، وعزائم الحداثة الممتعة للعقل والقلب والروح، والقيم الجمالية الممثلة للعطاء الحضاريّ إلى آخر ما هنالك من عبارات إطراء، يقابلها عبارات تعريض وقدح لغير الحداثيين الذين يرى أنهم تشغلهم الصورة الجزئية، ولم يحسوا بالجمال الفني المتجدد؛ لأنهم يقيسون بالمقاييس الجامدة في كتب البلاغة والنقد القديم، ويستمتعون باسترجاع النماذج الماضية، ووأد القيم الجمالية الحديثة، وقتلنا بما أتخمنا به من الاسترجاع للماضي، وغلواء التقرير والمباشرة، وانعدام الآفاق الحضارية والفلسفية والتراث العالمي التي تضمنها الشعر الحديث إلى آخر ما قال.

وتعرض في كتابه أيضًا وبأسلوب قويّ رصين وعبارات حادة أحيانًا للمخاطر الفكرية والاعتقادية للحداثة، بما يوحي بالتناقض بين مدحه وقدحه، غير أن محوره الأساسي هو أن الشرط الجمالي والقيم الجمالية في الإبداع لها استقلال عن كل المعايير، ولها موازينها الخاصة الذاتية التي يُمكن التحاكم إليها وحدها، حيث يقول في ص 35:(إن ما نحتاجه اليوم -في دراسة الأدب الحديث- يجب أن يكون خالصًا لشفافية الفنان، ورؤية الأديب، وتذوق الأكاديميّ، فيما يخدم النص تفسيرًا وامتلاكًا، ولا نأخذ من الثقافة إلّا ما يخدم معايشتنا للنص).

وهذه من أعظم فواقر نظرته لموضوع الحداثة، وبناء على ذلك فقد امتدح مجموعة من شعراء الحداثة، وأثنى على شرف مضامين بعضهم!!، ونفى عن بعضهم الانحراف وامتدح الفحولة الشعرية لبعضهم، وأثنى على القصيدة

ص: 26

الحديثة؛ لأن قوامها الفكر وسعة الثقافة، ولا أدري لماذا أغفل ما فيها من إلحاديات ودعارة صريحة، وأعطى عبد الصبور والسياب والبياتي وحجازي من عبارات التزكية والمدح ما ليس فيهم وما لا يستحقونه.

والشيء الذي أجاد فيه هو نقده الاعتقاديّ والفكريّ والسياسيّ لحداثة عصابة "شعر" ومن لفّ لفهُم، غير أنه كان يجب عليه عدم التفريق بين المتماثلات، وقد ناقشت بعض أقواله في ثنايا البحث.

20 -

مذاهب الأدب الغربي: للدكتور عبد الباسط بدر، ويقع في 152 صفحة من القطع الصغير، وهو كتاب صغير الحجم كبير الفائدة، حيث أتى بالمذاهب الأدبية الغربية وبين أصول نشأتها وأبعاد منطلقاتها، ثم نقدها نقدًا حصيفًا على ضوء العقيدة الإسلامية، فأجاد فيه أيّما إجادة، ومن أراد معرفة المذاهب الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والبرناسية والرمزية والسريالية والوجودية، معرفة مؤصلة برؤية إسلامية واضحة، فليقرأ هذا الكتاب النادر في بابه.

21 -

مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي: للدكتور عبد الباسط بدر، ويقع في 152 صفحة من القطع الكبير، وهو من أحسن ما قرأت في بابه، وأرى أنه لا يستغنى عنه بغيره لمن أراد معرفة حقيقة الصراع بين الأدب الحديث وعقيدة الإسلام.

ومؤلفه ضليع في الأدب والفكر والثقافة وراسخ في الربط بينها وبين العقيدة الإسلامية، من منطلق إسلامي واضح، ورؤية اعتقادية جلية، وللحق فإن الكتاب ليس مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي فحسب، بل فيه نقد اعتقادي، وتصنيف فكريّ لأدب الحداثة وأدبائها، وفيه رد على شبهات المعارضين للأدب الإسلامي.

وحقيقة الكتاب أعمق بكثير مما ذكرت ووصفت.

22 -

نقض أصول الشعر الحر: لإسماعيل جبرائيل العيسى، ويقع في 212 صفحة من القطع الكبير، وهو كتاب فني نقديّ يعتني بدراسة العروض وأوزان الشعر الحر، وفيه دراسة موجزة لـ "موقف أصحاب ظاهرة الشعر الحر من التراث العربي" في عشر صفحات.

24 -

هذا الشعر الحديث: لعمر فروخ، ويقع في 272 صفحة من القطع

ص: 27

الكبير، وهو في غالبه مناقشة فنية تهتم بالشكل والتركيب، وليس فيه عن المضمون إلّا القليل النادر.

وفي ختام هذه المقدمة أحمد اللَّهَ تعالى الذي هداني لدين الإسلام، ووفقني إلى قفو الأثر، وأسأله سبحانه سلامة النية فيما آتي وأذر، وصلاح القصد في هذا العمل وغيره، وأشكره سبحانه وهو أحق من شكر، وأحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمدًا يملأ السموات والأرض وما بينهما وما شاء ربنا من شيء بعد، ثم أشكر شيخي الفاضل المشرف على هذا البحث فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، الذي شرفت بإشرافه على هذه الرسالة، وأفدت من علمه وفضله، ورأيت في تعامله وسلوكه نعمة اللَّه على بعض خلقه بما وهبهم من خلق حسن ومروءة عالية ونبل وفضل، وإني وإياه كما قال الشاعر:

من زار بابك لَمْ تبرح جوارحه

تروي أحاديث ما أوليت من منن

فالعين عن قرة والكف عن صلة

والقلب عن جابر والسمع عن حسن

(1)

كما أشكر كل من أعانني في هذا البحث بأي نوع من الإعانة وأخص بالذكر الأخ علي بن أحمد دخيخ الغامدي وسائر الإخوة الفضلاء الذين تفضلوا بمساعدتي، أسأل اللَّه تعالى أن يجزيهم عني خير الجزاء، وأن يعظم لهم الأجر، ويجزل لهم المثوبة، إنه قريب مجيب.

• • •

(1)

بيتان للعلامة المحدث علي بن مظفر الكندي رواها عنه الإمام الذهبي في المعجم المختص بالمحدثين ص 178.

ص: 28

‌التمهيد

1 -

شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه.

2 -

علاقة الأدب بالاعتقاد.

3 -

نبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب.

ص: 29

‌1 - شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه

خلق اللَّه الإنسان وأوجد فيه الإرادة والقدرة على العمل، وجعل له القلب والعقل، العاطفة والفكر، ووهبه أدوات التعلم والتعليم سمعًا وبصرًا وفؤادًا، وسخر له من المخلوقات ما يناسب ضرورته، ويحقق حاجته، المعيشية، ورغبته التحسينية وجعله متميزًا بعقله ونطقه وإرادته.

ومنذ أن خلق اللَّه الإنسان أمره ونهاه، أمره وزوجه أن يسكنا الجنة ونهاهما عن أكل الشجرة، وكان الأمر والنهي منه -سبحانه- لمقتضى ألوهيته وربوبيته موجهًا إلى من كانت مقتضيات بشريته وآدميته ومؤهلات الخلقة فيه صالحة للعبودية التامة وقابلة لاتباع أوامر اللَّه واجتناب نواهيه.

هذه الحقيقة الأولية التي تظافر على إثباتها البرهان العقلي النقيّ، والفطرة القويمة السليمة، وجاء الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- لترسيخ وإيضاح هذا المعنى كلما لجّت البشرية في غواية الأهواء واسترسلت في اتباع الشياطين من الجن والإنس.

إن حقيقة كون الإنسان عبدًا مخلوقًا لإله خالق مدبر إليه المصير؛ هي أم الحقائق وأساس المنطلق لحياة إنسانية حقيقية كريمة، والقاعدة الأولية لمن أراد الدخول في الإسلام أن هذه القضية بمعطياتها ودواعيها وأسبابها وبمقتضياتها ولوازمها ومفرداتها هي أساس الصراع أصلًا بين الحق والباطل والخير والشر والفضيلة والرذيلة والهدى والضلال والاستقامة والانحراف.

إنها أساس المعركة بين التوحيد والشرك، والإسلام والكفر، والإيمان والنفاق، ولذلك كانت عقيدة الرسل الكرام عليهم السلام تنادي ابتداءً

ص: 30

بإفراد اللَّه تعالى بالعبودية والطاعة المطلقة له، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}

(1)

.

إن هذا المعنى يتجلى أول ما يتجلى في الفرق الحاسم بين ربوبية اللَّه تعالى المقتضية للخلق وألوهيته المقتضية للأمر، كما يشاء وفق علمه وحكمته ومشيئته، وبين عبودية المخلوق المقتضية للسمع والانقياد وفق التركيب الربانيّ الموجود في هذا الكائن الحيّ الناطق، الملخص وصفه في أنه "حارث وهمام"

(2)

أي له قدرة وإرادة.

ومن هنا تتقرر قاعدة الحق والخير والعدل في الوجود كله، وفي علاقة الإنسان والكون بالإله الخالق العظيم؛ وذلك بالتفريق بين حقيقة الألوهية ولوازمها، وحقيقة العبودية بحدودها وضوابطها ونتائجها وما يترتب على هذا كله من صفات وعلامات ونتائج.

إن البداية الأولى للإنسان الأول (آدم وزوجه) بدأت من هذا المنطلق، وكلما فتر هذا المعنى في حس البشر أو تزعزع أرسل اللَّه الرسل لإيضاح مهمة الإنسان في هذا الوجود، وتبيان وظيفته في هذه الحياة، وتجلية دوره وعلاقته بربه وخالقه سبحانه وتعالى.

لقد كان جهاد الأنبياء عظيمًا في مواجهة الانحرافات التي طرأت على البشر، وأهمها تلك الانحرافات المتعلقة بالعقيدة؛ إذ بسببها تقع الانحرافات الأخرى في السلوك والنُّظُم والأعمال والعلاقات، وأخطر تلك الانحرافات الاعتقادية تعددُ الآلهة وكثرة المتبوعين والمطاعين مع اللَّه أو من دون اللَّه، آلهة الأهواء والأعراف والشهوات وآلهة الأصنام والأوثان، كلها تعبد وتطاع، والأرباب في الجاهلية أرباب عديدون وليست هي الأصنام وحدها وإن كانت هي أظهر أنواع الشرك الحسي، فقد كانت القبيلة ربًا معبودًا يطاع، كما قال الشاعر الجاهلي:

(1)

الآية 25 من سورة الأنبياء.

(2)

قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء حارث وهمام" أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب: في تغيير الأسماء 5/ 237، وأحمد 4/ 345.

ص: 31

وهل أنا إلّا من غزية، إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد

(1)

وكانت عادات الآباء والأجداد ربًا مطاعًا، قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}

(2)

.

وكانت أنظمة الحكم العرفية تؤصل سلطانها في مثل دار الندوة وأشباهها، وكانت ربًا يطاع، كما كانت الأعراف الأخرى التي يحلّون بها الحرام ويحرمون بها الحلال ويبيحون ويمنعون.

قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}

(3)

.

وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا

(1)

القائل هو دريد بن الصمة من بني جشم بن بكر، وغزية قومه وعشيرته. انظر البيت في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد: ص 212.

(2)

الآية 21 من سورة لقمان.

(3)

الآية 37 من سورة التوبة.

ص: 32

رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}

(1)

.

وليس هذا حال الجاهلية العربية الذين بعث فيهم خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم بل كان كذلك حال الجاهليات السابقة؛ ولذلك كانت قضية التوحيد هي قضية كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ لأن جميع القضايا الأخرى والأعمال والتصرفات تنبني عليها وتقوم على قاعدتها.

وكانت الجاهلية في أعصارها المختلفة تقف ضد هذا المعنى وتتصدى للداعين إليه؛ وهو أمر تفرضه طبيعة الاتجاه بين كلتا الفتئتين: الطواغيت وأتباعهم، والأنبياء وأتباعهم.

فالطواغيت الجاهلية الكثيرة تفرض سلطانها على الناس وتريد أن تسيرهم وفق ضلالاتها وأهوائها وأعرافها وتسعى لتخرج الناس من النور إلى ظلمات الآلهة المتشاكسة المتخاصمة.

والأنبياء جاؤوا لرد البشرية إلى بارئها وتخليصها من ربقة الطواغيت والآلهة والأرباب، وتوجهيهم إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له.

ووقفت الجاهليات أمام دعوة الأنبياء موقفًا واحدًا برغم تباعد الأعصار واختلاف الشعوب والأمصار وقفت موقف الصد والرد والإعراض والاستكبار والتشنيع والسخرية والاستهزاء، ومنذ أن أرسل اللَّه نوحًا عليه الصلاة والسلام إلى قومه وقف الملأ المستكبرون -كعادتهم في كل جاهلية- موقف المضادة والمعاندة.

قال اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}

(2)

.

وكذلك فعل قوم عاد كما أخبر تعالى عن حالهم مع نبيهم هود -عليه

(1)

الآيات 136 - 140 من سورة الأنعام.

(2)

الآيات 25 - 27 من سورة هود.

ص: 33

الصلاة والسلام-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}

(1)

.

وجاء من بعد عاد قوم ثمود ليقولوا المقولة نفسها ويقفوا الموقف نفسه من نبى اللَّه صالح عليه الصلاة والسلام، قال اللَّه تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}

(2)

.

وهكذا سارت قافلة الأنبياء تدعو إلى هذا التوحيد الشامل وإلى الإسلام الكامل للَّه تعالى وإلى العبودية المطلقة للَّه -جَلَّ وَعَلَا-، وجاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين نفسه وبعث بالقضية ذاتها، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه وإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دينهم واحد، فقال:"الأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد"

(3)

.

ونزل القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليقرر هذا الركن العظيم، ويكرر الكلام حول هذه القضية الكبيرة:"قضية توجيه العبادة كلها للَّه وحده واتباع ما أنزل اللَّه في التحريم والتحليل" ولا غرو أن يكون -حينئذ- الركن الأول

(1)

الآيات 65 - 70 من سورة الاْعراف.

(2)

الآيتان 61 - 62 من سورة هود.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: واذكر في الكتاب مريم 4/ 142، واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى عليه السلام 2/ 1837.

ص: 34

من أركان الإسلام هو "شهادة ألا إله إلّا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه" قبل الأركان الأخرى، قبل الصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبل أي تشريع آخر من تشريعات الإسلام فقد شغلت هذه القضية -قضية التوحيد- الحيز الكبير من القرآن العظيم وشغلت أكثر وقت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

بل إننا إذا نظرنا في القرآن نظرة تأمل وتدبر وجدناه كله يدور حول هذه القضية، وأن سواها لا يقوم إلّا بها ولا يصح إلّا بصحتها، ولا يقبل عمل ولا يستقيم سلوك ولا تصح عبادة ولا تستقر حياة إلّا بصحة واستقامة واستقرار المعنى العظيم الذي تحتويه كلمة التوحيد "لا إله إلّا اللَّه محمد رسول اللَّه".

ويوضح هذا المعنى خير إيضاح ما جاء في مدارج السالكين من قول مؤلفه رحمه الله: (وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، بل نقول قولًا كليًا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه فإن القرآن: إمَّا خبر عن اللَّه وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلميّ الخبريّ، وإمَّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإراديّ الطلبيّ، وإمَّا أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإمَّا خبر عن كرامة اللَّه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإمَّا خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرَج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم)

(1)

.

ومن ينظر إلى سور القرآن وكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد أنها كلها تدور حول هذه القضايا التي جاءت في النص السابق ولا تخرج عنها، ويجد تبعًا لذلك أن الإسلام اهتم بقضية التوحيد المقتضي لشمول الإسلام لأعمال

(1)

مدارج السالكين 3/ 449 - 450، وهو منقول في شرح العقيدة الطحاوية: ص 29 بتحقيق الأرناؤوط، نشر المؤيد.

ص: 35

الإنسان وطلب عبودية الإنسان في كل أعماله للَّه تعالى.

إن هذه سمة بارزة في نصوص الوحي في أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سواء كان ذلك في مكة أو بعد الهجرة إلى المدينة، فأمَّا بروز هذه القضية في العهد المكيّ فأمر واضح للعيان، وقد يظن ظان أن هذا الاهتمام الكبير بالتوحيد في مكة هو لكون المخاطبين كانوا قومًا مشركين، فكان من المناسب أن يتم التركيز والتأكيد على قضية العقيدة، ولكننا نجد أن القرآن استمر في الحديث عنها في العهد المدنيّ بعد أن قامت دولة الإسلام وظهر المجتمع الإسلامي واستقرت العقيدة في قلوب الصحابة والتزم الناس بأحكام الإسلام.

وفي هذا دلالة كاملة على أن قضية القضايا وأصل الأصول هي قضية التوحيد ومقتضياته ولوازمه.

بيد أن قضية التوحيد والعقيدة ليست في دين الإسلام مجرد اعتقادات قلبية أو مشاعر وجدانية أو قيم خلقية، كما يدعي بعض العلمانيين والحداثيين في بلدان المسلمين، والذين يصفون أنفسهم بالاعتدال في مقابل غلاة العلمانيين وهم الملاحدة الذين ينكرون وجود اللَّه تعالى.

وفي حقيقة الأمر أن هؤلاء وهؤلاء على شعب الضلال والكفر إلّا أن بعضهم أشد وأعتى في كفره من الآخر، في حين أن القسم الأول والذي ينعت بالاعتدال أخطر في بث سمومه وانحرافاته الاعتقادية الخطيرة؛ وذلك بسبب ما يتلبس به من ذكر للإسلام وامتداح لبعض جوانبه وثناء على بعض قضاياه وممارسة بعض أعماله في الوقت الذي يعتقد في قلبه أن الإسلام مجرد علاقة فردية بين العبد وربه أو مجرد عقائد إلهية لا لوازم لها في الواقع ولا مقتضيات لها في الحياة، فيغر الأغرار بما يتلفظ به من ادعاء للإسلام، أو امتداح لبعض قضاياه، ويدس سموم شكوكه وانحرافاته في هذا التظاهر الكاذب المخادع، فيكون حاله أشبه بحال المنافقين الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين، ويدّعون الإسلام وهم يبطنون بغضه أو بغض بعض أحكامه.

ومن هنا كانت خطورة هؤلاء على المسلمين، لاسيما إذا نظرنا إلى

ص: 36

رؤوس الضلال العلمانيّ، وما يحيط بهم من هالات الاحتفاء الإعلامي ودعايات الامتداح والاهتمام والإشادة، ثم ما يحيطون به أنفسهم من ادعاء العلم بشريعة الإسلام وتاريخ المسلمين، وما يقتطعونه من أقوال هنا وهناك مبثوثة في كتب العلم أو كتب التاريخ محاولين أن يثبتوا من خلالها أنهم إنّما يتكلمون عن علم بالدين والتاريخ، وأنهم من أهل ملة الإسلام، ثم إذا ترسخ هذا وثبت جاؤوا بالعلمانية في ثوب أدب وشعر ونقد، أو في ثوب ثقافة وفكر، أو في ثوب نظام ودستور، مؤكدين أنهم يحبون الإسلام وأهله، ويفهمون الشرع ومنهجه، وأن هذا الذي يقولونه ليس إلّا فهمًا صحيحًا أو عصريًا أو تنويريًا للدين الإسلامي!!!.

أمَّا إذا أردنا أن نسأل: لماذا يتلبس هؤلاء بكل هذه الألبسة؟ ولماذا يموّهون؛ أمورهم بكل هذا التمويه؟.

فإننا نجد الإجابة الصريحة الواضحة في قول اللَّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. . .}

(1)

.

(وفي هذه الآيات أنواع من العبر من الدلالة على ضلال من يحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه، وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات، من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار)

(2)

.

(1)

الآيات 60 - 64 من سورة النساء.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 317.

ص: 37

وهؤلاء المتبجحون بمعرفة الإسلام ومعرفة أحكامه وشرائعه والذين يشيرون في عباراتهم أو فحوى كلامهم إلى أنهم يحترمونه أو يقدسونه، وهم في الوقت ذاته يبطلون جملة كبيرة من أحكامه وشرائعه وينظرون إليه بمنظار التشكيك، ويقرأون تعاليمه وتاريخه بعين الغرب الماديّ، ويفهمون التدين بصيغته الأوروبية، يفهمونه على أنه مجرد علاقة بين الإنسان وربه ولا شأن له بالواقع من أي باب، باستثناء باب الأخلاق والفضائل عند بعضهم، أو باب العقائد المجردة التي لا لوازم لها عن البعض الآخر، أو من باب العبادات الشعائرية عند آخرين، ثم يسعون لتطويع الإسلام لفكر الشرق أو الغرب وتحويره ليوافق إلحاد الملحدين، وشذوذ الشاذين فكريًا أو خلقيًا، ويقولون كما قال أسلافهم:{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقً}

(1)

، ويطلقون على عملهم هذا مصطلح "الاستنارة"، ويسمون أنفسهم أصحاب الإسلام المستنير، وغاية عملهم تتمثل في تقليص نطاق الشريعة إلى أقصى حد، وتطويع أحكام الإسلام بالحذف تحت شعارات "الاجتهاد المرن"، وإزاحة سيادته تحت لافتات "توسيع المصالح، واستبقاء المثل العليا" ونحو ذلك ليصلوا في النهاية إلى الانخلاع التام من الشريعة، وإبطال موازين الحلال والحرام، والتطويع والتوفيق بين انحلال الغرب وضلاله والإسلام وهدايته وأحكامه، هذا هو مسلك هؤلاء الذين جاسوا خلال ديار المسلمين فكان من آثارهم التخريبية ما كان، واللَّه المستعان.

قال بعض أهل العلم في وصف أحوال سلف هؤلاء في معرض استدلاله بآيات سورة النساء السالفة: (. . . كما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون اللَّه، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب اللَّه وسنّة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضًا، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات

(1)

الآية 62 من سورة النساء.

ص: 38

والشهوات أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم قالوا: إنّما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات، أو الذوقية التي هي في الحقيقة أوهام وخيالات. . .)

(1)

.

والمتأمل في الهمجية الحداثية العلمانية يجد أشباه هذه الكلمات ونظائر هذه الحجج الزائفة، فها هو كبير من كبرائهم يضع كتابًا يسميه "قبل السقوط" ويكتب على غلافه "حوار هادئ حول تطبيق الشريعة الإسلامية. . نعم للمصحف والدين. . لا للسيف والحكم"

(2)

.

ويقول في أثنائه متدثرًا بحب الإسلام وفهم الإسلام والحرص على الدين وعلى المسلمين، "وبعد أن ذكر أن عصر الخلفاء الراشدين ليس سوى عصر فتن داخلية واغتيالات، وأنه ليس العصر المثاليّ ولا المجتمع المثاليّ، وأن الذين يقيسون على عصر الخلافة الراشدة إتما يقيسون على أحلام لا علاقة لها بالواقع.

بعد أن ذكر هذا كله قال ما نصه: (إن كل ما عرضته إنّما ينهض دليلًا على أن هناك فرقًا كبيرًا بين الإسلام الدين، والإسلام الدولة، وأن انتقاد الثاني لا يعني الكفر بالأول أو الخروج عليه، وأنك في الثاني سوف تجد كثيرًا يقال أو يعترض عليه حتى في أعظم أزمنته، بينما أنت في الأول لا تجد إلّا ما تنحني له تقديسًا وإجلالًا وإيمانًا خالصًا، وأنه إذا جاز أن يقال هذا في عهد الخلفاء الراشدين فإنه يجوز أن تقول ما هو أكثر وأكثر حين تتصدى بالتحليل والنقد لعصور لاحقة ارتفعت فيها رايات الحكم الدينيّ. . .)

(3)

.

ويسترسل في بث شبهاته الممزوجة بإظهار المعرفة بالإسلام وتاريخه والإشفاق على أهله وذويه فيقول: (أنت هنا تملك أن تفصل بين الإسلام

(1)

مجموع الفتاوى 12/ 340.

(2)

كتاب قبل السقوط لفرج فوده.

(3)

المصدر السابق: ص 18.

ص: 39

الدين، والإسلام الدولة، حفاظًا على الأول حين تستنكر أن يكون الثاني نموذجًا للاتباع أو حين يعجزك أن تجد صلة واضحة بين هذا وذاك، فالأول رسالة والثاني دنيا، وقد أنزل اللَّه في الرسالة ما ينظم شؤون الدنيا في أبواب وترك للبشر أبوابًا دون أن يفرِّط في الكتاب من شيء، وإنّما يسع برحمته بشرًا هم أعلم بشؤون دنياهم من السلف، ويترك لهم أمورًا تختلف باختلاف الأزمنة لا يترك لهم فيها إلّا قواعد عامة، إن اتسع أفقهم أخذوا من غيرهم وتأقلموا مع زمانهم دون خروج على صحيح الدين أو كفر به. . .)

(1)

.

بهذا المنظار وهذه الطريقة يتناولون تعاليم الإسلام وتاريخه، وعلى هذا المنهج يسير دعاة الحداثة والتغريب في الأدب والفكر، فالأسلوب واحد، والمواقف متعددة، وكلها تدور حول عزل أعمال الإنسان ومناشطه عن صراط اللَّه المستقيم وإفساح المجال له ليكون عبدًا في حكمه أو في فكره أو في نتاجه الأدبيّ لأي شيء إلّا الإسلام فقد اتخذوه وراءهم ظهريًا واستدبروا أحكامه.

ولا فرق في هذه المسألة بين من يطالب بإلغاء شريعة الإسلام من الحكم والأنظمة والدساتير والدول، ومن يطالب بإبعاد موازين الجلال والحرام والجائز والمحرم عن النتاج الأدبي والثقافي، إذ نهاية هذا القول وذاك تؤدي إلى اتهام دين اللَّه بالقصور، بل واتهام اللَّه -تعالى- بالجهل وعدم الحكمة، واتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالغفلة والسفه -قدسه اللَّه وأجله عما يقول العلمانيون والحداثيون-.

وفي الاستشهاد السابق بأقوال فرج فوده

(2)

تأسيس لفكرة هذا البحث الذي يدور حول الانحراف العقدي في الأدب الحديث، حيث تشترك أقلام

(1)

المصدر السابق: ص 19.

(2)

هو: فرج علي فودة أحد طواغيت العلمانية في مصر، له كتب عديدة يهاجم فيها الحكم الإسلامي، والمنادين بتطبيق الشريعة الإسلامية ويطعن في الإسلام وتاريخه، حتى قُتل في 18/ 12/ 1418 هـ - 8 يونيو 1992 م. انظر: ما كتبت عنه مجلة أدب ونقد في عددها الصادر بعنوان "فرج فودة شهيد العلمانية وحرية الفكر" عدد 83 يوليو 1992 م، محرم 1413 هـ.

ص: 40

وألسنة ومواقف العلمانيين من الذين امتهنوا الكتابة شعرًا أو قصة أو نقدًا أو دراسة أدبية مع الآخرين الذين امتهنوا السياسة ممارسة أو تفكيرًا، ولا تكاد عند التمعن والتأمل أن تجد فارقًا بين هؤلاء من حيث أصل المعتقد المنحرف القائم أصلًا على عزل الدين الإسلاميّ عن مناشط الإنسان أو عن بعض مناشطه، وإن وجدت الفوارق فهي في الشكل والأسلوب والموقع.

أمَّا الهدف النهائي لدى عصبة العلمنة والحداثة فهو تقليص أثر الإسلام في الواقع، وحصره في المسجد أو في المشاعر المقدسة، تمهيدًا للقضاء عليه بالكلية، ففي خطاب مشابه لخطاب فرج فوده يرد أحد كبار الحداثيين على كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" الذي ألفه الأخ الشيخ الدكتور عوض القرني وقدم له سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه اللَّه تعالى-، يرد هذا الحداثي بمقال طويل سماه "إسلام النفط والحداثة" أسقط من خلاله عقده النفسية والفكرية والخلقية، وكشف عن مقدار ما يعانيه عقله الكليل من تشوهات، وما ينوء به رأسه من انحرافات اعتقادية، تمثل صورة مكررة لانحرافات أساتذته من قبله وتلامذته من بعده، فيقول: (إن إسلام النفط يمتح من المخزون النقليّ "الاتباعيّ" الذي ظل معاديًا للحداثة طوال عصور التراث، ويؤسس علاقة متميزة بفكر الحنابلة الذي تمثله كتابات ابن الجوزي

(1)

وابن تيمية

(2)

بوجه خاص، وهي كتابات لها علاقاتها الأصولية التاريخية بالمذهب الوهابيّ، أهم المذاهب النقلية السائدة في منطقة

(1)

هو: الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، يصل نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الحنبلي الواعظ، صاحب التصانيف الكثيرة، له عبادة ونسك وجمال طلعة وحسن معاشرة وطيب مظهر، توفي رحمه الله سنة 597 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 21/ 365، والعبر 3/ 118، والبداية والنهاية 13/ 28.

(2)

هو: شيخ الإسلام وعلم الأعلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، أشهر من أن يعرَّف، طبَّقت شهرته الآفاق، واتفق على سعة علمه وعمق فهمه الموافق والمخالف، وسارت مصنفاته وعلومه مسير الشمس، وكانت سيرته العملية في الدعوة والعلم والجهاد والجهر بالحق من أعجب السير، توفي رحمه الله وهو مسجون في قلعة دمشق سنة 728 هـ. انظر: شذرات الذهب 6/ 80، والعقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لابن عبد الهادي، والأعلام العليّة في مناقب ابن تيمية.

ص: 41

الجزيرة العربية)

(1)

.

إلى أن قال: (إسلام النفط يكرر الأصوات السابقة في التراث النقليّ)

(2)

.

ثم يستشهد بمجموعة من الأحاديث والآثار الحاثة على الاعتصام بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وترك البدع والمحدثات، ويستخلص من هذه الأدلة أن الإسلام يغلق إعمال العقل التي يطلق عليها وصف البدعة، ثم يشرح هذا المعنى بعبارات طويلة مملة تتلخص في تصويره للإسلام "الاتباعيّ" -كما قال- بأنه رجعية وانحدار وهبوط، ولكنه صاغ ذلك بفلسفة "الخط الأفقي الدائريّ" فيقول:(أمّا المقولة الخاصة بالزمن فتقودنا إلى مفهوم التاريخ الذي يرتد إلى أصله، بالمعنى الذي يوقع التصور الخطيّ الأفقيّ للزمن على تصوره الدائريّ، حيث يتحول الزمن إلى حركة متكررة ثابتة، تقع على نقاط خط منحدر، هابط، بدايته الإيجاب المحض ونهايته السلب المطلق، فلا يغدو التاريخ حركة صاعدة توازي ارتقاء الإنسان وتطور وعيه الموازي لتطور فعله الصاعد على سلم التقدم، درجة درجة، مع التراكم الكميّ والكيفيّ للمعرفة التي يصوغها، والأفعال التي يصنعها، بل يغدو التاريخ حركة هابطة في الزمن الذي هو نفسه حركة دائرية متكررة على خط منحدر، ينحط دائمًا كلما مضينا صوب المستقبل، وتباعدنا عن الماضي الأول الذي هو نقطة البداية والمنهج والأصل والمثال)

(3)

.

ثم يستشهد على نظريته هذه التي تصور الإسلام داعيًا إلى الهبوط والتخلف بما قاله صنوه في تلمود الحداثة كتاب "الثابت والمتحول" في أن أصل هذا الانحدار والتخلف والهبوط مستنتج من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"

(4)

.

(1)

و

(2)

الإسلام والحداثة ص 179. والكتاب عبارة عن ندوة لمجموعة من الحداثيين إقامتها مجلة مواقف ودار الساقي في لندن عام 1409 هـ - 1989 م وصدر الكتاب من دار الساقي 1410 هـ - 1990 م، وكأنه يريد في كلامه كتابات ابن قيم الجوزية فذكر ابن الجوزي جهلًا وتخليطًا.

(3)

المصدر السابق: ص 181.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا =

ص: 42

ثم يعقد مقارنة حداثية علمانية فيقرر أن النقل والاتباع والتقليد هي أسباب النظرة المتخلفة والهابطة لدى المسلمين، النظرة المتهمة للمقابل الذي هو الإبداع والابتكار والحداثة التي هي خرق المعهود والخروج عن المألوف

(1)

.

وخلاصة القول: إن رواد التطرف العلمانيّ والحداثيّ ينطلق انحرافهم وضلالهم الأدبيّ والفكريّ والسلوكيّ من قاعدة التمرد على شرع اللَّه، زعمًا منهم أن هذا الشرع الحنيف ليس شاملًا لكل أعمال الإنسان ومناشطه، وليس أهلًا لأن يحكم الناس أو يوجه أعمالهم، أو يقود مسيرة حياتهم نحو حياة أفضل وأسعد، وسوف أعرض في ثنايا البحث من دلائل هذه العقيدة المنحرفة ما يؤكد أن هذا التيار التغريبى يقود حركة ردة عن الإسلام بصورة لم يشهد لها تاريخ المسلمين مثيلًا.

وفي ذلك ما يوجب على العلماء والدعاة أن يبذلوا كل جهودهم في سبيل تثبيت العقيدة الصحيحة، وتفهيم التوحيد الحقيقيّ، وترسيخ مبدأ العبودية الشامل، وتوضيح المفهوم الحقيقيّ لكلمة المسلم والإسلام، فما أكثر جريانها على الألسنة ولكن كم من الناطقين بهما يشعر بما تتضمنان من معاني؟ وكم من السامعين يفهم منها تمام المفهوم الذي كان يفهمه الصحابة والتابعون؟.

إن إيضاح هذه المعاني وتجلية هذه الحقائق هو أهم ما يجب أن تشمر همم المسلمين لتحقيقه واقعًا حيًا معاشًا تندحر أمامه شبهات أهل الأهواء وضلالات أصحاب الضلال.

• • •

= أشهد 3/ 151، واللفظ له، وأحمد 1/ 378، 417، 234، 438، 442، 2/ 228، 410، 4/ 267، 5/ 350، وغيرها.

(1)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 181.

ص: 43

‌2 - علاقة الأدب بالاعتقاد

تقرر بالدليل العقليّ والنقليّ، وبمقتضيات الفطرة القويمة أن العبادة هي الوظيفة الأولى والأساسية للإنسان في هذه الحياة الدنيا، وأن الإسلام شمل بأحكامه جميع أعمال الإنسان ومناشطه، ويتضح بناء على ذلك أن أمر العبادة في حياة الإنسان ليس أمرًا هامشيًا أو وقتيًا، بل هو المبدأ الأول لوجوده، والغاية الأصلية لحياته، وعلى هذا الأساس انقسم الناس إلى قمسين -بحسب قبولهم وردهم لهذا المبدأ أو علمهم وجهلهم به- فقسم التزم بالعبودية وخضع لأمر إلهه فهؤلاء هم أهل النجاة وهم على درجات متفاوتة، وقسم أبى واستكبر وتعالى وتجبر فهؤلاء هم الهلكى وهم على دركات.

هذه هي النظرة الإجمالية للبشر من حيث صحة الاعتقاد والعمل وفسادهما، وبناء على ذلك تفرقوا طرائق قددًا، كل يتبع ما يعبده، ويسير على المنهج الذي يدين له.

ولا ريب أن أعمال الإنسان وسلوكه ومناشطه تتأثر بعقيدته ونظرته وفكره، يستوي في ذلك المسلم والكافر سواء كان منافقًا أو مرتدًا أو يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا.

والسلوك والعمل -في الغالب- هي حصيلة الاعتقاد، والأدب على وجه الخصوص هو مستودع شعوريّ كبير للأمة أو للفرد يحمل الخصائص الفكرية والتصورات الاعتقادية والحصيلة التاريخية، كما أن للأدب خصيصة أخرى وهي

ص: 44

قدرته على تخطي الحدود وتجاوز عقبات الفوارق الجنسية واللغوية ولاسيما في عصرنا هذا الذي سهل فيه انتقال المعرفة والثقافة والآداب عبر أجهزة التقنية المتطورة وعبر الوسائل التقليدية كذلك

(1)

، فأصبح هو بذاته عقيدة عند الملتزمين بمذاهبه الفكرية الاعتقادية، وإن صُورت على أنها مدارس فنيه أو مناهج إبداعية، فهي في حقيقة الأمر عقائد عند أصحابها يسعون في نشرها، ويدافعون عنها، وباسمها يقبلون ويردون ويوالون ويعادون.

هذه قاعدة النظر في هذه المسألة التي يتضح من خلالها قوة العلاقة بين الأدب والاعتقاد من جهة النظر ومن جهة الممارسة.

والمتأمل في أي إنتاج أدبي يجد أن صاحبه لابد أنه ينطوي في قرارة نفسه على عقيدة معينة وتجول في عقله أفكار معينة، ومن المسلم به بداهة أن هذه العقيدة وهذه الأفكار هي المحضن الأساسيّ لما ينتجه الشاعر أو القاص أو الناقد، وأن ما يطلق عليه "الإبداع الفنيّ، أو التجربة الشعورية، أو الإلهام الشاعريّ" كل ذلك يمر بمراحل متداخلة في نفس الأديب ويعبر عبر قنوات متشابكة بعضها مبهم خفيّ وبعضها واضح جليّ، فأمّا المبهم الغامض فهو التكوين النفسي الذاتيّ لكل شخص والمتراكم من خلال خصائص الشخص النفسية الذاتية التي فُطر عليها ثم من خلال معايشته لأسرةٍ ومجتمع وأحداثٍ تتراكم في أغوار نفسه وتكون جزءًا من شخصيته ثم بالتبع جزءًا من تفكيره ومشاعره.

وأمَّا الواضح الجليّ من قنوات التأثير فأهمها الاعتقاد والأفكار المكتسبة، فإن لهذه من التأثير في الجوانب الخفية، والظاهرة والأعمال والممارسات والسلوك أبلغ الأثر وأظهره، وقد اهتم الدارسون المعاصرون بالجانب النفسانيّ واستعانوا بعلم النفس الحديث في قضايا النقد

(2)

، كما أنه توجد دراسات عديدة حديثة لآثار العقيدة والفكر والاتجاه السياسيّ

(1)

انظر: الفصل المتميز في كتاب مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي والذي سماه مؤلفه "العقيدة ومحاضِن العمل الأدبي": ص 15 - 42.

(2)

انظر -مثلًا-: كتاب الأسس النفسية للإبداع الفني للدكتور مصطفى سويف، وكتاب التفسير النفسي للأدب للدكتور عزّ الدين إسماعيل.

ص: 45

والاجتماعيّ على عملية النتاج الأدبي

(1)

.

وقد اختلفت مصطلحات الدارسين لهذه الناحية المهمة فبعضهم يسميها "الموقف الفكريّ" وهناك من يطلق عليها مصطلح "القضية" أو "استيعاب القضية"

(2)

، وأكثر ما دار النقاش حول مصطلح "الالتزام" ومصطلح "أدلجة الأدب".

وحتى الذين يرفضون إدخال الأدب تحت سيطرة الأطر الفكرية والاعتقادية والسياسية، يمارسون هذه النظرة ضمن فكوة وعقيدة معينة، تسمى الحرية، أو غير ذلك من التسميات، فلا فكاك بين الأدب والاعتقاد إلّا إذا أمكن أن يكون هناك فكاك بين الإنسان الناطق ولسانه وشفتيه وحنجرته.

ولذلك عرفوا الالتزام بأنه (. . . اعتبار الكاتب فنه وسيلة لخدمة فكرة معينة عن الإنسان لا لمجرد تسلية غرضها الوحيد المتعة بالجمال. . .، وفي الفلسفة الوجودية ارتباط بتعديل الحاضر لبناء المستقبل ولا يتحقق إلّا بالحرية)

(3)

.

وعرفه صاحب معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة بأنه: (قرار كاتب بالتزام كتابته تاريخ/ وضعية/ وعي ما)

(4)

.

وحين تحدث عن علاقة اللغة بالفكر وتعرض للغة الأدبية قال: (فاللغة الأدبية ليست مجرد إشارات فلها وظيفة جمالية تفرض تنظيمًا متعمدًا إبداعيًا على مصادر اللغة اليومية، وليس من الصواب المبالغة في إبراز التضاد بين استخدامين للغة يقسمها إلى لغة فكر مقابل لغة الانفعال هي اللغة الأدبية،

(1)

انظر: كتاب الأديب والالتزام، للدكتور نوري حمودي القيسي، ومجلة فصول بعنوان الأدب والايديولوجيا في جزأين، العدد الثالث والرابع عام 1405 هـ - 1985 م، وكتاب ما الأدب لسارتر ترجمة محمد غنيمي هلال، وكتاب الالتزام في الشعر العربي للدكتور أحمد أبو حاقة، وكتاب الالتزام الإسلامي في الشعر، تأليف: ناصر بن عبد الرحمن الخنين.

(2)

انظر: الأديب والالتزام: ص 7.

(3)

معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، لمجدي وهبه وكامل المهندس: ص 58.

(4)

معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، للدكتور سعيد علوش: ص 195.

ص: 46

فالأدب له جانبه الفكريّ الخاص الذي لا يُمكن إغفاله. . .)

(1)

.

فإذا كانت الوجودية وهي المتمردة على العقائد والقيم تعد الالتزام بالحرية أحد مبادئها، فإن نظيرتها في التفرع من شجرة المادية وهي "الذرائعية" هي كذلك تقوم على عقيدة وفكرة معينة: (. . . وقد كان للبرجماتية

(2)

بعض التأثير في تطوير الأدب ذي النزعة الطبيعية في العالم الذي يذهب إلى تصوير حياة بلا مبادئ)

(3)

.

إذن فكل عمل أدبيّ فنيّ لابد أن ينشأ من عقيدة وينتج من فكر معين وفلسفة معينة للحياة والكون والإنسان والخالق سبحانه وتعالى، والعلاقة بين الخالق والمخلوق، ويستوي في ذلك الذي يستهدي بالوحي المعصوم والذي يستهدي بالفلسفات المادية المعاصرة أو الجاهليات والوثنيات القديمة أو الحديثة في كون كل منهم ينبثق في إنتاجه من العقيدة التي يؤمن بها، وذلك لأن الخبرات النظرية لأي إنسان عاقل هي مجموعة معلوماته الاعتقادية والفكرية والسياسية والفنية والاجتماعية إضافة إلى تجاربه وممارساته العملية، ومن خلال كل هذه المعطيات تتكون هذه الخبرات النظرية التي تنتج من خلال التجربة الشعورية أدبًا، أو من خلال التجربة الفكرية فكرًا وثقافة، وأهم مكونات هذه الخبرات النظرية، والدائرة التي تحيط بها وتضم كل مفرداتها هي "العقيدة" سواء كانت عقيدة صحيحة أو فاسدة.

إن الإنسان -أي إنسان- في القديم أو في الحديث لابد له من عقيدة تربطه وتحدد مساره وفكره وأعماله.

وحاجته إلى العقيدة حاجة فطرية ملازمة للإنسان في كل زمان ومكان، بغض النظر عن كون هذه العقيدة سماوية مما أوحاه اللَّه إلى الأنبياء، أو أرضية مادية من صنع الإنسان كألوان الفلسفات الإلحادية المعاصرة ذات الأسماء والمناهج المختلفة والمتعددة، فالملحد الماركسيّ الشيوعيّ -مثلًا-

(1)

المصدر السابق: ص 301 - 302.

(2)

سيأتي في أثناء البحث شرح لمعنى البرجماتية، وتفصيل لأهم مدلولاتها.

(3)

معجم المصطلحات الأدبية: ص 68.

ص: 47

يتبنى عقيدة تضع الطبيعة مكان الإله الخالق، والوجوديّ يتبنى عقيدة التعلق بالذات ومعاداة الآخر وتحدي الغيب واعتقاد عبثية الوجود كله، وهكذا سائر العقائد المنحرفة والضالة، والناظر في نتاج الأدباء القدماء والمعاصرين عربًا وغير عرب مسلمين وغير مسلمين يلحظ بيسر تأثير العقائد في نتاجهم الأدبيّ، ويرى أن العقيدة لها أثرها وبصماتها على النص الأدبيّ، في مضمونه أو في تعبيراته أو في صوره الفنية أو في رموزه.

ففي مصر القديمة، مصر الوثنية الفرعونية كانت النصوص الأدبية تخرج متأثرة بالمعتقدات السائدة لديهم، حتى لقد أكد بعض الباحثين في هذا الصدد (أن الفكرة الأدبية في مصر القديمة ازدهرت بين جدران المعابد وأن الجزء الأكبر من الأدب المصري كان قائمًا على أساس الدين)

(1)

.

وفي عهد فلاسفة اليونان كانت العقائد والقيم لها مكانتها الأساسية في التوجيه ومعايير القبول والرد فأفلاطون

(2)

-مثلًا- كان (. . . لا يبيح الشعر في دولته إباحة مطلقة بل يقيدها بأن يكون ذلك الشعر الذي ينشد في الدولة هو الشعر الذي ينشد في تسبيح اللَّه وتمجيده، وفي مدح الصلاح، وفي التعرف على الحقيقة. . .)

(3)

.

وقد سجل أفلاطون موقفه هذا في كتابه الجمهورية وبين أنه سيقبل الشعر بشرط أن يكون ضمن إطار القيم والعقائد في مجتمعهم فيقول: (إننا سنسمح لأنصاره الذين يحبونه -وإن لم يكونوا شعراء- بالدفاع عنه نثرًا ليثبتوا لنا أنه لا يقتصر على بعث الشرور في النفوس، بل إنه نافع للدولة

(1)

قصة الأدب في العالم، لأحمد أمين وزكي نجيب محمود 1/ 22.

(2)

ولد أفلاطون نحو عام 427 ق. م من أسرة أثينية، وكان والده من ملوك أثينا، يعتبر أعظم فيلسوف في العصور القديمة، وبقيت آثاره في الفلسفات والنظريات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية واضحة حتى على النظريات والفلسفات المتناقضة، أسس جامعة سماها الأكاديمية، من كتبه الجمهورية والسياسي والقوانين وغيرها. انظر: موسوعة أعلام الفلسفة 1/ 97، ومعجم الفلاسفة: ص 64.

(3)

النقد الأدبي عند اليونان، للدكتور بدوي طبانة: ص 59.

ص: 48

وللحياة البشرية، وسنستمع إليهم بصدر رحب، إذ أنه من المفيد لنا أن يثبتوا أنه يجمع بين بعث السرور في النفوس، وبين الفائدة العملية، أمَّا إذا لم يستطيعوا إثبات ذلك فسنردد أن مثل هذا الشعر لا يستحق أن يعد مقتربًا من الحقيقة. . . إن من واجبنا أن نقاوم إغراء الشعر مثلما نقاوم إغراء المال أو الجاه أو الشهرة)

(1)

.

ومع ذلك فقد رحب أفلاطون في كتاب الجمهورية بالشعراء الذين (يمجدون الأبطال والقدرات الصالحة ويتغنون بالفضائل وأصحابها)

(2)

.

وليس هذا سوى تعبير عن التلازم في نظرته وفلسفته بين الشعر والمنفعة الاجتماعية وفق عقيدة وفكرة يوجب الالتزام بها والسير وفق نسقها، بل يمضي في هذا الشوط إلى حد أبعد فيقول:(ينبغي أن نراقب الشعراء وأن نجعلهم يبرزون في إنتاجهم صورة الخلق الخير، وأن نمنعهم من إبراز الوضاعة)

(3)

، ففي هذا القول وأشباهه عند فلاسفة اليونان دليل على أن الشعر عندهم -وهو لديهم أرقى الأصناف الأدبية- له رسالة وهدف ومضمون يتفق مع عقائدهم وأفكارهم.

وأن قضية الالتزام في الأدب والثقافة، والتلازم بين الاعتقاد والأدب قضية قديمة.

وحتى "أرسطو"

(4)

جاء بفلسفة "التطهير" وهي وجه من أوجه الالتزام

(1)

الجمهورية لأفلاطون، ترجمة ودراسة للدكتور فؤاد زكريا ص 566، 567.

(2)

المصدر السابق: ص 928.

(3)

المصدر السابق: ص 928.

(4)

هو: أرسطوطاليس فيلسوف اليونان المولود سنة 384 ق. م، أمضى حوالي عشرين عامًا متتلمذًا على أفلاطون، يعتبر من كبار الفلاسفة الذين امتد تأثيرهم إلى عصور ومجتمعات كثيرة مما أتاح لمفكرين من اتجاهات متضادة ادعاء الانتساب إليه، فمن فلاسفة اليونان بعده إلى ابن سينا وابن رشد والفارابي، إلى فلاسفة التثليث النصراني، إلى فلاسفة المادية المعاصرة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض المنطق تناقض المنطق الأرسطي، وقبله الغزالي في تهافت الفلاسفة. انظر: معجم الفلاسفة ص 47، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 72.

ص: 49

الذي ينظر إلى العمل الأدبي بمنظار المنفعة، ويدور معناه حول معالجة أمراض الناس وعيوبهم الخلقية من خلال المأساة وإثارة مشاعر الخوف والقلق والرحمة

(1)

.

ولا ريب أن كل ذلك ينبثق من العقيدة الوثنية القائمة على تعدد الآلهة.

والناظر في النتاج الأدبي عند الأمم يجد الترابط الوثيق الذي لا ينفصم بين الأدب ومعتقدات تلك الأمم، ومن أمثلة ذلك عند اليونان مسرحيات "سوفوكل" 495 ق. م و"أروبيد" 480 - 406 ق. م و"أريستوفان" القرن الخامس ق. م و"إلياذة هوميروس".

وعند الرومان "إلياذة فرجيل" 70 - 19 ق. م.

وعند الفرس "الشاهنامة" و"ظفرنامة" 321 - 411 هـ، 933 - 1021 م.

وعند الهنود "كليلة ودمنة" لبيدبا الفيلسوف.

وعند العرب "المعلقات" وغيرها من القصائد والأشعار.

ففي كل هذه وما يشابهها من آداب تلك الأمم نجد العقائد هي الموجِّه الأولى للمضامين والأفكار التي تتلون بألوان سياسية أو اجتماعية أو ذاتية تبعًا للأحوال والظروف التي تحيط بالأديب أو الشاعر.

وأمَّا الرومان فلم يكونوا سوى ورثة لليونان ونقلة لمعارفهم وفلسفاتهم، مع بعض الإضافات التي أضافوها وخاصة ما كتبه أكبر شعرائهم ونقادهم هوراس

(2)

الذي سطر في كتابه "فن الشعر" خلاصة آرائه الأدبية والفنية والفكرية.

(1)

انظر: الالتزام في الشعر العربي، للدكتور أحمد أبو حاقة 18 - 19، والقيم الخلقية في النقد العربي إلى نهاية القرن الرابع الهجري، رسالة ماجستير، للأستاذ مطلق بن محمد بن شايع العسيري: ص 11 - 31.

(2)

هوراس من أكبر شعراء اللاتين كان في القرن الأول قبل الميلاد، انتهى من كتابه الأول في الهجاء 35 ق. م، ثم أعقبه بكتاب فن الشعر، كان صديقًا لفرجيل، يعتبر أشهر أدباء عصره، بل أشهرهم بعد موت فرجيل، نجح في تصوير عصره تصويرًا حيًا وبرع في تصوير المناظر الإيطالية تصويرًا جميلًا. انظر: الموسوعة العربية الميسرة 2/ 1915.

ص: 50

وقد نصح هوراس شعراء الرومان بأن يلتزموا بالتقاليد السائدة وأن يحافظوا على تراث الأسلاف وتقديم ذلك في ثوب أدبي ممتع، فقال مخاطبًا الشاعر:(إن عليك أن تلتزم بالتقاليد، أو ترى أن ابتكاراتك ملائمة، ومن الأمن لك أن تلتزم بالتقاليد ومفخرتك ستكون أعظم إذا تناولت بأسلوب جديد أفكارًا استهلك استعمالها بدلًا من محاولة الابتكار، أولًا: لأن هناك إشباعًا في الأفكار القديمة، ثانيًا: لأن السحر الحقيقي للأدب ينبع من القدرة على رؤية الأشياء القديمة بأسلوب حديث. . .)

(1)

.

ومن هذه المنطلقات عند اليونان والرومان انطلق الفكر الغربي الذي استدبر الأديان واستقبل الأوثان، فلا تجد فلسفة من الفلسفات المعاصرة ولا مذهبًا من المذاهب الأدبية إلّا وهي تتضمن عقيدة ما، وتعبر عن فكرة، وتهدف إلى غاية ما.

والمتتبع لحركة الأدب الإنسانيّ يجد أنه أحد أهم الوسائل المعبرة عن فكر ومعتقد صاحبه سواء كان هذا الأدب شعرًا أو نثرًا، رواية أو مقالة أو نقدًا، وحتى الذين يزعمون أنهم لايخدمون بأدبهم قضية ولا يلتزمون بعقيدة، ولا يهدفون إلى غاية، هم في حقيقة الأمر ملتزمون بهذه الفكرة ومنتمون إليها ويهدفون إلى نشرها، وهذا في حد ذاته اعتقاد ومضمون فكريّ.

إن دعاة الفن للفن، وأصحاب الوجودية الجديدة المسماة بـ "اللامنتمي" يناقضون أنفسهم غاية المناقضة حين يزعمون أنهم بلا عقيدة ولا غاية ولا هدف من أعمالهم الأدبية والتأليفية، ذلك أن هذه الفكرة في حد ذاتها عقيدة، شاؤوا ذلك أم أبوا.

وهم على كل الأحوال -في دعواهم هذه- يرسمون لأنفسهم صورة من التفاهة والنقص والجبن حين يستترون خلف شعار "الأدب لا عقيدة له"، وهم يكذبون على أنفسهم حين يقولون ذلك ويدعون إليه، فلو لم تكن هذه

(1)

موجز تاريخ النقد الأدبي: ص 26، تأليف فيرنون هول، ترجمة: محمود شكري مصطفى وعبد الرحيم جبر.

ص: 51

القضية عقيدة لديهم لما دافعوا عنها ونافحوا وألفوا فيها ونشروا.

ومن هذا كله يتبين لنا أن التركيز على المصادر الفكرية للأدب من أوجب أولويات الدراسة الهادفة، فالحديث عن الجانب الفكريّ والاعتقاديّ مقدم عن الحديث عن الجانب الفنيّ والجماليّ في الأدب.

والأدب العربي المعاصر -وأعني الأدب الحداثي على وجه الخصوص- نموذج من نماذج التعبير عن العقائد الجديدة المستوردة من الغرب، وصورة من صور الغزو الثقافيّ والارتكاس الفكريّ، وإذا كان الأدب في الماضي لسانًا ناطقًا عن عقيدة ما، فإن أدب الحداثة أضحى عقيدة قائمة بذاتها، وإن كانت هذه العقيدة تضم لفيفًا من المعتقدات والتصورات، بدءًا بالوثنيات اليونانية وانتهاء بالمذاهب المادية المعاصرة.

إنه الصورة الأكثر وضوحًا وإيلامًا لحالة الانتكاس والاستلاب الذي تعيشه الأمة في هذا العصر، ولذلك نجد الأدباء حين يفزعون إلى أقلامهم معبرين عن هذه الحالة، يعبرون عن موقفهم الاعتقادي من هذا الوضع، وعن آمالهم المستقبلية.

فالأديب المسلم يستمد معاييره وأسس تفكيره من الوحي المعصوم، ويستند إلى تراث تاريخيّ وحضاريّ كبير، ويرى أنه لايصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها، وينادي بالاستقلال الفكريّ والسياسيّ والاكتفاء المعيشيّ والتقنيّ، والبعد عن التبعية للأعداء، ولا يتجاهل العصر ومنجزاته بل يرى أن إسالة التقنية والمنجزات في أودية المسلمين من أعظم المشروعات، ولكنه يفرق بين مقتضيات العصر، وأهواء العصر.

أمَّا الأديب "اللاديني" العلماني فقد استورد أفكاره وعقائده من الغرب، واتخذ من دين الإسلام موقف الرفض أو التشكيك أو الإقصاء أو عدم المبالاة، وتقلب بين رذائل الإلحاد والشيوعية والاشتراكية والليبرالية.

وهذا لابد أن يكون رسول العقائد التي اعتنقها، وداعية المبادئ التي آمن بها، ومناضل الأفكار التي انتمى إليها، والذي يرى في ساحات الفن والثقافة اليوم أكبر شاهد على هذه القضية.

ص: 52

وبعض ما أوردته في هذا البحث كافٍ في الدلالة على هذه القضية، ومعظم المدارس الأدبية العربية الحديثة تقف على قدم المساواة في الدعوة إلى العقائد المادية والخرافية والدفاع عنها، قل ذلك عن المدرسة العلمانية الليبرالية أو القومية العلمانية، أو الماركسية، أو الإباحية التحللية، أو الصليبية، أو الوثنية التي تجتمع كلها رغم تباين منهاهجها واختلاف أساليبها تجتمع في جبهة عريضة معادية للدين والأخلاق والمجتمع تحت مسمى "الحداثة" التي تقوم أصولها على محاور اعتقادية وفكرية أهمها:

1 -

دعوتهم إلى التعددية الوثنية، ومضادة التوحيد، وجعل التعددية الوثنية أساسًا للتعددية الفكرية والسياسية، وجعلهم توحيد اللَّه -تعالى- أساسًا للتعصب والتخلف والرجعية.

2 -

زعمهم أنه ليس هناك حقائق مطلقة.

3 -

دعوتهم إلى استباحة المحرمات والتحرر من الضوابط، وإسقاط موازين الحلال والحرام.

4 -

دعوتهم إلى ترسيخ المفهومات الحداثية، وإيجاد مفهومات شمولية جذرية حديثة.

5 -

الهجوم على التراث والثقافة الإسلامية خاصة.

6 -

دعوتهم إلى الرفض والتمرد، والثورة على كل شيء، والانقلاب على الأصول والمفاهيم الكلية.

7 -

تأليه الإنسان، والدعوة إلى الإنسانية مبدأ وغاية.

8 -

ممارسة التعمية والغموض، ومضادة الإفهام والوضوح.

9 -

الدعوة إلى الخروج عن المألوف، ونفي السائد ورفضه ومخالفته.

10 -

إعادة النظر في كل شيء، وممارسة الشك في كل قضية أيًّا كانت.

ص: 53

11 -

الدعوة إلى مقاطعة الماضي ومضادة مفاهيمه والانفصال عنه ومعارضته.

12 -

القضاء على فكرة الثابت، والزعم بأن كل شيء متحول متطور، وأن أي فكرة أو قضية لها سمة الثبوت فهي تخلف ومهانة.

13 -

الدعوة إلى تأليه العقل والعلم الماديّ، والادعاء بأن حرية العقل "بالمفهوم الحداثي" أساس كل نهضة وتقدم.

14 -

الزعم بأنه لا حرية للإنسان إلّا بهدم الشريعة، والغيبيات والأخلاق.

15 -

رفض العبادة للَّه تعالى، واعتبار الدين سببًا للتخلف والفشعل، والادعاء بأن النهضة لا تكون إلّا بفصل الدين عن الحياة، وعزله عن مناشط الإنسان، ونقل مركز الثقل من السماء إلى الأرض.

16 -

تبني الهدم والفوضى، والخلخلة للأفكار والمعتقدات الراسخة، وتصريحهم أن التخريب حيويّ وهو أول الواجبات، ومن علاماته: الهذيان والعبث والجنون والفوضى والتمرد.

17 -

الدعوة إلى إسقاط القداسة، واختراق المقدس وتدنيسه.

18 -

إدانة العقل والوعي، وضوابط العلم والنظام والمنطق، وكل ما تعارف عليه الناس، وكل مؤسسيّ وثابت.

19 -

تفكيك كل القيم والمعايير، وزعزعة كل الموازين الماضية.

20 -

الترديد الدائم بأنه كما يجب أخذ التقنية عن الغرب فإنه يجب أخذ الأفكار والثقافة والفلسفات والمذاهب والقيم.

21 -

التركيز على أن الحداثة رؤيا شاملة للحياة والوجود وأنها عقيدة ومضمون أبديّ، ومفهوم حضاريّ جديد كامل شامل.

ص: 54

هذه محاور الفكر الحداثي وأسس منطلقاته وهي -كما هو واضح- أسس اعتقادية قبل أي شيء، ولا يخلو شخص حداثيّ ولا مدرسة حداثية من القول بواحد أو أكثر من هذه الأسس، وبعضهم ممن له الزعامة والريادة في هذا المذهب يقول بها كلها، وسوف يرد في هذا البحث الشواهد الكثيرة على ذلك.

• • •

ص: 55

‌3 - نبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب

مرت الأمة الإسلامية بمراحل عديدة، وتقلبات كثيرة، وتغيرات متنوعة، وكان أظهر تغير حصل فيها ما حدث في أخطر قضيتين هما:"المنهج" و"التطبيق".

فأمَّا "المنهج" فقد توجهت إليه سهام المبتدعة بالزيادة فيه والنقص منه، تارة من خلال النظر والكلام والمنطق والفلسفة، وتارة من خلال الذوق والزهد، ومن هؤلاء وهؤلاء خرج "الزنادقة" الذين لم يصبح لهم بالدين أية علاقة إلّا علاقة الانتساب الاسميّ لتغطية ما يريدون الوصول إليه من إفساد للدين والناس.

هذا على الصعيد الاعتقاديّ، أمَّا على الصمعيد الفقهيّ فقد تحول الفقه عند بعض الفقهاء وخصوصًا في العصور المتأخرة، إلى مجرد تقليد للمذهب، وتفريع على فروعه، وتحول الأمر عند بعضهم إلى اتباع المذهب قبل أو أكثر من اتباع الدليل، أضف إلى ذلك أن عزلة فرضت على العلماء قليلًا قليلًا، فانحاز بعضهم إلى الزهد والعزلة والانقطاع، وتحول بعضهم إلى فقه المذهب وفروعه وحواشيه، تاركين الحياة العامة في سيطرة أهل الأهواء والشهوات، الذين يقربون الموافق لهم، ويرسخون العزلة لمن اعتزل أو عزل.

نعم لم تخل الأرض من قائم للَّه بحجته، ومنافح عن دينه وشريعته وداع إلى

ص: 56

صراطه المستقيم، ومجاهد في سبيله، ولم يخل أولئك العباد والفقهاء المعتزلون من خير انطوت عليه نفوسهم، ونية صالحة ومقصد حسن، رغم ما فيهم من قصور وعجز، أو ابتداع وإحداث، حاشا أولئك الزنادقة من المتفلسفة والمتصوفة، الذين أصبحوا في ضفة أخرى غير ضفة الإسلام.

أمَّا الأدباء والشعراء فقد تحولوا تدريجيًا -إلّا من رحم اللَّه- إلى أبواق مديح، أو أدوات إلهاء وتسلية، صاحب ذلك ما صاحبه من استجداء ومديح للظلمة، وترسيخ للطغيان وبيع للمواهب الثقافية في أبهاء السلاطين، في الوقت الذي كان الترف فيه ينخر الحياة ببطء، والذي كان من أجزائه كثرة الجواري والقينات المغنيات اللواتي ملأن قصور الخلفاء والوزراء والأثرياء، وقمن بإشاعة روح اللهو وتحويل حياة "الملأ" إلى عبث ومجون، إضافة إلى ما كن يقمن به من أدوار تجسس ومؤامرات تدمير، وكان من بينهن يهوديات ونصرانيات وكثير من الوثنيات، فأصبح الطرب صناعة، ودسائس الجواري والقينات مهارة، وكان أكثر الداء في قصور الحكام الذين استسلموا لهذا حتى أصبح بعد قرون من استمراره سببًا في انهاك وتقويض روح الجدية والبناء والجهاد.

أمَّا "التطبيق" فقد بدأ التحول فيه بانقضاء عصر الراشدين وكان تحولًا يسيرًا، ولكنه ما فتئ مع طول الزمن يتوسع، وإن حصلت حالات أوبة، كما حصل في عهد عمر بن عبد العزيز

(1)

رحمه الله وغيره ممن شابهه.

إلّا أن اتساع الشقة بين المنهج والتطبيق وبين الوضع العام وذوي التأثير من أهل العلم والدين كانت تتسع رويدًا رويدًا، وبصورة بطيئة لا تكاد

(1)

هو: الإمام العلامة، المجتهد الزاهد العابد الراشد أمير المؤمنين، كان من أئمة الاجتهاد والجهاد، ومن الخلفاء الراشدين، سيرته العطرة محل عبرة وقدوة، وقد جعل بسياسته الصالحة ذكرًا حسنًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بين الأمم، وأثبت في الواقع أن الصلاح والتقوى والعلم والأمانة والعدل هي أساس الحكم الصالح الرشد، توفي عليه رحمة اللَّه عام 101 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 114، وتهذيب التهذيب 3/ 88، وحلية الأولياء 5/ 253.

ص: 57

تلفت الأنظار، ومع كل ذلك فقد بقيت الأمة في مجموعها -رغم كل هذه القواصم- معتصمة بدينها قائمة بالمقتضى الإيمانيّ والتعبديّ والتشريعيّ والأخلاقيّ والحضاريّ والتعبيريّ والاجتماعيّ لكلمة التوحيد "لا إله إلّا اللَّه محمد رسول اللَّه" ذلك أن الهبوط كان في معظمه نزولًا عن القمم السامقة أكثر من كونه انحرافًا عن الجادة.

إلَّا أن سنة اللَّه تعالى في خلقه لا تتبدل، فهو -سبحانه- لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد ضعفت أمم سابقة بسبب ضعف دينها، واندثرت عندما تركت الدين وأخلدت إلى الأرض، {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}

(1)

.

وأمة الإسلام تجري عليها ذات السنن التي جرت على الأمم قبلها، ولكنها سلمت من الزوال التام والاندثار الكامل رغم استمرارها في خط النزول البطيء، ذلك أن اللَّه توكل بحفظها، وحفظ كتابها {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}

(2)

.

ومن ناحية أخرى فإن هذه الأمة على الرغم من كل ما أصابها من عوامل الضعف والمرض لم تتخل عن الحكم بشريعة اللَّه طوال أربعة عشر قرنًا رغم ما حصل من شهوات مفسدة وشبهات ممرضة، وكذلك عاشت الأمة هذه الحقبة الطويلة من الزمن ولم تزل بالكلية رغم الكوارث الداخلية والخارجية التي أحاطت بها، بل كانت حتى في مسيرة هبوطها البطيئة تأتي لها صحوات عودة صاعدة، وانبعاثات تجديد مرتفعة، ومجرد بقاء أمة الإسلام هذه المدة الطويلة من الزمن على الرغم مما أصابها دليل حفظ اللَّه تعالى لها، ودليل بعث جديد نشهد اليوم ما يشبه أن يكون مولدًا جديدًا تعاني الأمة مخاضه بكل آلامه.

والناظر في تاريخ الأمة في القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لهم بالخير

(1)

الآية 43 من سورة فاطر.

(2)

الآية 9 من سورة الحجر.

ص: 58

والعدل والإحسان، والعلم والإيمان، يجد فيه من العظات والعبر والدلائل والشواهد والنماذج ما يقتضي الاتساء، كما أن في القرون التالية من الفواقر العلمية والعملية على كل الأصعدة ما يقتضي الحذر.

فالدين على سموه ورفعة شأنه ووثاقة دليله وصواب تعاليمه وصدق أخباره، لا يعمل في واقع الحياة من تلقاء نفسه بعيدًا عن عمل البشر وتطبيقهم.

فكما أن الدين جاء لإسعاد البشر فهو لا يعمل في الواقع بدون البشر، ولو شاء اللَّه لقهر الناس على الهدى، فلا ينحرفون عن الدين ولا ينصرفون كما لا تنصرف الشمس والأفلاك عن مسارها الذي قدره اللَّه لها، ولكن اللَّه تعالى لما خلق الإنسان جعله عاقلًا مريدًا يختار بين البدائل، بين الخير والشر والحق الضلال والفضيلة والرذيلة، وفي مقابل ذلك صار هذا الإنسان يحمل تبعة اختياره، وأصبح ما يحدث له في الدنيا والآخرة نتيجة لأعماله.

قال اللَّه تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}

(1)

.

وقال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}

(2)

.

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}

(3)

وقال سبحانه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)}

(4)

.

(1)

الآية 41 من سورة الروم.

(2)

الآية 44 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 96 من سورة الأعراف.

(4)

الآية 16 من سورة الجن.

ص: 59

وقال جلَّ وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

(1)

.

وقال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}

(2)

.

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}

(3)

.

وغير ذلك من الأدلة الدالة على أن الدين يؤثر في حياة الناس من خلال النفوس التي تحمله، والبشر الذين يطبقونه، على قدر إقبالهم على الدين وإعراضهم عنه وحملهم أو تركهم له، وتطبيقه كاملًا أو تطبيق بعضه، والتزام مقتضياته أو عدم التزامها، والفارق بين دين الإسلام وغيره من المناهج، أنه في ذاته هو المنهج الصحيح والصراط المستقيم، في حين أن غيره من المناهج قد دخلها التحريف مثل أديان أهل الكتاب، أو قامت على بناء جاهليّ مثل المناهج الوضعية عمومًا.

كما أن دين الإسلام يفترق عن غيره أن النفوس والعقول تتقبله؛ لأنه دين الفطرة، في حين أن غيره -وإن تقبلته بعض النفوس- يلقى نفرة من النفوس والفطر والعقول، ولذلك نرى أن مما تميز به دين الإسلام على غيره أنه إذا تشبعت به النفوس، نفوس الأفراد أو الشعوب أو الأمم، فإنها تكون أبطأ انحرافًا -حين تصيبها أسباب الانحراف- من النفوس التي تقوم على عقائد باطلة، كما أنها تكون أقرب للشفاء من الأمراض التي تصيبها من النفوس التي لا تعرف الدين الصحيح أصلًا.

كل هذا يمكن من خلاله أن نعرف الأدواء التي أصابت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، كيف هبطت؟ ولماذا لم تحافظ على مكانتها

(1)

الآية 53 من سورة الأنفال.

(2)

الآية 16 من سورة الإسراء.

(3)

الآية 117 من سورة هود.

ص: 60

ومنزلتها العالية؟، بل لماذا لم تحافظ حتى على المستوى الأدنى الذي ما كان ينبغي لها -مطلقًا- أن تنزل عنه كما حصل في هذه الأزمنة الراهنة؟.

لقد تردى حال الأمة في هذه الحقبة ترديًا لم يسبق له مثيل في كل تاريخها، كانت تجتمع تحت راية الدولة العثمانية التي ورثت من أمراض من سبقها ما ورثت، وأضافت هي مع مرور الأيام أمراضًا أخرى وانحرافات غير التي ورثتها، سواء على المستوى المنهجيّ أو على المستوى التطبيقيّ، وما زالت تلك الانحرافات تتزايد والأمراض تتفاقم، وتعم آثارها كل بلاد الإسلام ومجتمعاته، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تأخذ بأسباب القوة والرقيّ، الماديّ والإداريّ على ما في هذه الأسباب من شطط، أو بعبارة أدق ما في أساسها الفلسفي من انحراف وجاهلية، إلّا أنها كانت في الواقع التطبيقي موضع قوة، استطاعت أوروبا من خلاله أن تقف ضد المسلمين في الحرب الصليبية الحديثة.

فبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى 1332 - 1336 هـ/ 1914 م - 1918 م والتي عصفت بالعالم طوال أربع سنوات، أدت الحرب إلى تغييرات جذرية في العالم، وإلى توازن غير مستقر اختل من جديد على نطاق واسع بعد واحد وعشرين عامًا حين نشبت الحرب العالمية الثانية 1358 - 1364 هـ/ 1939 - 1945 م، ومن هم هذه التغيرات اختفاء الدولة العثمانية

(1)

واقتسام البلاد الإسلامية، بعد اتفاقية "سايكس بيكو" 1334 هـ/ 1916 م والقائمة على تفاهم سريّ استعماريّ بين بريطانيا وفرنسا متمم لاتفاق رئيسيّ بين بريطانيا وفرنسا وروسيا لتقسيم الدولة العثمانية، وقد عينت فرنسا "جورج بيكو" قنصلها العام في بيروت مندوبًا ساميًا مكلفًا بمفاوضة الحكومة البريطانية بشأن مستقبل الولايات العربية في الدولة العثمانية مع مندوب الحكومة البريطانية "مارك سايكس" عضو مجلس العموم البريطاني والمندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، واتفقا بعد عدة مداولات بينهما ومع وزير خارجية روسيا القيصرية على تقسيم أراضي الدولة العثمانية،

(1)

انظر: موسوعة السياسية 2/ 198 - 201.

ص: 61

وتفتيتها إلى كيانات صغيرة تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا وروسيا، وتعتبر هذه الاتفاقية أبرز أمثلة الخداع الغربيّ الصليبيّ الاستعماريّ للبلاد الإسلامية، وللشعوب عامة، إذ قامت بريطانيا بالتفاوض عليها وإبرامها في الوقت الذي كانت تعد فيه العرب بتأييد مطالبهم إذا ما حاربوا إلى جانبها ضد العثمانيين، وتنتهك بشكل فاضح مبدأ تقرير المصير الذي ادعى الحلفاء الالتزام به، إضافة إلى أنها كانت اللبنة الأولى لفرض اليهود في بلاد المسلمين وتوطيد أقدامهم في فلسطين من خلال وعد بلفور سنة 1335 هـ/ 1917 م

(1)

أي بعد اتفاقية سايكس وبيكو بسنة واحدة

(2)

.

وبهذا تفككت الوحدة العضوية للأمة الإسلامية وتبدلت بالحدود والتقسيمات والكيانات المتفق عليها في هذه الاتفاقية، فسقطت حتى الصورة التي كان المسلمون يرون فيها الرمز الشكليّ لوحدتهم، سقطت لأنها كانت مجرد صورة أمام حقائق كثيرة، واحدة منها تكفي في إتلافها، فكيف وقد اجتمعت وتظافرت!!.

وحل الاستعمار بعد انتهاء الحرب العالمية بقواته وجيوشه في أكثر بلاد المسلمين، واحتلوا أرضهم، وتحكموا في رقابهم وحياتهم، واشتغلوا بتغيير الأسس الفكرية والثقافية من خلال تغيير نمط التعليم، والاستيلاء على الصحافة، وتقويض مكانة أهل العلم والدين، وصياغة المجتمع صياغة أخرى على غير دين الإسلام.

كما اهتموا وبصورة مركزة على إيجاد أدوات تنفيذ لهم من أبناء المسلمين، وركزوا بشكل أخص على فئتين هما:"فئة الإداريين" و"فئة المثقفين" التي سوف يكون لهما أبلغ التأثير في تغيير وجهة الحياة في البلدان الإسلامية.

(1)

انظر: وعد بلفور في المصدر السابق 7/ 536.

(2)

انظر: اتفاقية سايكس وبيكو في المصدر السابق 3/ 120 - 123، وقد بقيت هذه الاتفاقية قيد الكتمان حتى إذا جاء البلاشفة وأسقطوا حكم القياصرة نشروها نكاية بهم.

ص: 62

رحل الاستعمار الغربيّ بجيوشه وعساكره ولكنه خلف وراءه عوامل الخراب والدمار والانحراف.

الوحدة صارت شتاتًا، والشرع أصبح مكانه القانون، والمرأة أخرجت من عفتها وكرامتها وحجابها، وأضحت الخمور والعهر من الأمور العادية، وبدأت وجهة الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تتخذ مسارًا آخر حين ترك الاستعمار في مواطن التأثير والنفوذ تلامذته من أبناء البلاد المستعمرة، الذين قاموا بأدوار كبيرة لترسيخ الضلال والانحرافات التي لم يستطع ذوو الكفر الأصلي من المحتلين القيام بها.

قاموا بتنفيذ الدور الذي رسم لهم بدقة فاقت التصور، بل زادوا على ذلك ألوانًا من الضلال والفجور لم يكن المستعمر الأصليّ بقادر على تنفيذها، فصودر الشرع الشريف وحل مكانه القانون البشريّ، وأصبح تدريس الفلسفات المادية والمذاهب الوضعية بديلًا أساسيًا لتدريس العقيدة الإسلامية، وأضحى الإعلام منبر بث أنواع الانحرافات والضلالات الفكرية والسلوكية.

ومن أخطر الفئات التي قامت بتنفيذ مخطط الانحرافات "فئة المثقفين العلمانيين والحداثيين" ذوي العقول المسترقَة والنفوس المستعبدة، التي قامت وما زالت تقوم بترويج الركام الوثنيّ، وتسويق إفرازات الغرب الماديّ من مذاهب وفلسفات وممارسات خلقية واجتماعية وسياسية.

بيد أن الهوة السحيقة التي يسعى وكلاء الغرب اليوم إلى تعميقها وجرّ الأمة إليها، لم تنشأ بين يوم وليلة، بل كان لها إرهاصات عديدة، وأولها ما سبق الحديث عنه في قضية المنهج والتطبيق، ثم ما ترتب على ذلك من خلخلة في المفاهيم والمناهج واضطراب في ميادين التطبيق والعمل.

إن الانحرافات الكبيرة تبدأ صغيرة محتقرة في أول الأمر، ولكنها لا تفتأ تزداد على مر العصور وكر الأيام، حتى تصبح كبيرة متجذرة، لا يقوى على مقاومتها والتصدي لها إلّا أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية.

فالتصوف -مثلًا- كان في الدولة الأموية في زوايا مهملة لا أثر لها،

ص: 63

ثم انتشر في الدولة العباسية أكثر، ومع ذلك كان منعزلًا عن المجتمع، أمَّا في الدولة العثمانية، فقد أصبحت الصوفية هي الدين، وهي المدخل إلى العلم والتدين.

ومن هنا رسخت الخرافات والأوهام تحت شعارات "من لا شيخ له فشيخه إبليس" و"كن مع شيخك كالميت بين يدي الغاسل"، وتظاهر مع الصوفية العقيدة الإرجائية التي تجعل الإيمان مجرد تصديق القلب، وتقول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.

وتدريجيًا أفرغت حياة المسلمين من التدين الصحيح ومن العمل النافع، ولم يبق فيها سوى وجدانيات قلبية مخلوطة بالانحرافات والضلالات.

وهذا مجرد مثال يُمكن تطبيق نمطه في الجانب الفقهيّ حيث "سُد باب الاجتهاد" وفي الجانب السياسي والاجتماعي وغيرها من الجوانب.

وبدأ الجمود والتخلف يسيطر على بلاد المسلمين قليلًا قليلًا حتى ضرب بجرانه وأصبح واقعًا ملموسًا، علمًا بأن عوامل الانحراف والضعف والجمود لم تأت جملة واحدة بل كانت تتراكم في بطء مع الأيام، ولم تأت كذلك في خط مستقيم مباشر، وإنّما كان الخط البياني لها مع استمرار انحداره التدريجيّ يصعد مرات مع ظهور المجددين، والغيورين على دينهم وأمتهم من أهل العلم وأهل السلطان.

ومهما يكن من أمر فقد اجتمعت حصيات الانحراف لتكون كومة واجتمعت الكومات لتكون جبالًا، وتفاعلت الانحرافات بعضها مع بعض حتى وصلت الأمة إلى الهوة الهابطة السحيقة، والناظر في تاريخ الأمة من القمة إلى الهوة يجد أمرًا مذهلًا محيرًا ومسافة بعيدة تدير الرؤوس، حتى كأنّما ينظر إلى أمتين منفصلتين عن بعضهما.

مفهوم العبادة للَّه تغير، وكلمة التوحيد أضحت عند كثيرين مجرد كلمة تقال، والعمل في وادٍ وكلمة التوحيد في وادٍ آخر.

ص: 64

والتواكل والبطالة أضحت سمة غالبة، والمفهوم السلبي لعقيدة القضاء والقدر صار شائعًا، وأَصبح الدين في النهاية مجرد خيال وصورة خالية من الحقيقة، ومفهوم الجهاد عطل، وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أزيحت من الواقع.

هذا هو غالب حال الأمة، ولايعني ذلك أنها خلت تمامًا من مؤمنين صادقين واعين مخلصين باذلين، سائرين وفق المنهج الصحيح، فهذه نماذج لم تخل منها حقبة من تاريخ المسلمين، ولكن الصورة السائدة، هي التي تقرر الموقف العمليّ، وليست القلة المتميزة مهما يكن حجم تميزها، إلّا أن يكون في أيديها مقاليد الأمور

(1)

.

جاء العصر الحاضر والأمة تتقلب في سفوح التخلف، فاستطاع الأعداء -بكل بساطة- أن يجدوا ثغرات الاختراق لجسد الأمة وحماها، فالتخلف الاعتقادي -الذي هو أساس كل تخلف- أضحى بلاء مستشريًا في كل بلاد المسلمين، حتى الجزيرة العربية مهبط الوحي ومنبع الرسالة تحولت إلى ما يشبه حال الجاهلية الأولى، فالقبور والأشجار تقدس وتعبد من دون اللَّه، والكهان والسحرة أكثر من العلماء وأشد تأثيرًا، والقبائل عادت إلى أساليب الغزو والسلب والنهب الذي كان قبل الإسلام، ولم يرتفع ذلك إلّا بدعوة التوحيد المعاصرة للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه تعالى.

والجزيرة مجرد مثال لأوضاع أخرى أشد وأنكى في كل بلاد المسلمين.

ومن التخلف الاعتقاديّ نشأت كل أنواع التخلف الأخرى: التخلف السياسيّ، والاقتصاديّ، والعلمي التجريبيّ، والحضاريّ، والثقافيّ، والفكريّ، والحربيّ، والصناعيّ.

ويُمكن الإشارة في هذا الصدد إلى بعض الخطوط العامة في مسيرة الانحراف الثقافيّ والأدبيّ والفنيّ:

(1)

انظر: واقعنا المعاصر: ص 113 - 164.

ص: 65

1 -

التخلف الاعتقاديّ والثقافي والحضاريّ الداخلي في الأمة الإسلامية: وقد سبق بيان بعض ملامحه وهو الأساس لقابلية التبعية والاستعمار.

2 -

الحملة الفرنسية في عام 1212 هـ/ 1798 م: ويعتبرها المنهزمون بداية الفتح العظيم، ومقدمة الانفتاح على العالم المتحضر، ويتحدثون عنها باعتبارها أعظم المآثر، وأفضل الإنجازات، ولم يذكر هؤلاء أنها كانت حملة صليبية، اتخذت من مصر قاعدة لقطع الطريق بين بريطانيا والهند بسبب التنافس الاستعماريّ.

جاءت الحملة الفرنسية ببعثة علمية وبمطبعة عربية لطبع الأوامر والتوجيهات والمنشورات "التحديثية" و"التقدمية"!! التي يصدرها الفرنسيون إلى المسلمين في مصر!!، وبدأ قائد الحملة ينفذ مخططه الصليبيّ بالمخادعة والتلاعب بالناس حين زعم أنه مسلم مثلهم، وأول نقاط المخطط التي بدأ بتنفيذها فعلًا، محاولة تنحية الشريعة الإسلامية.

وبدأت المطبعة تطالب الناس وتقنعهم بالخضوع للحملة الفرنسية ولأوامرها وإرشاداتها التي لا تريد من ورائها سوى الخير للمسلمين!!، وأن الإيمان بالقدر يستلزم الاستسلام الكامل للفرنسيين وعدم مقاومتهم، وطبعت المطبعة القانون الذي كان يستهدف إبطال الشريعة الإسلامية بالتدريج.

وقامت "البعثة العلمية" -حسب تسميتها- بنبش آثار الوثنية الفرعونية لتربط المصري بها بدلًا من الإسلام أو على الأقل يتذبذب بين الإسلام والوثنية.

وجاءت الحملة معها بمجموعة من البغايا والساقطات، وأرسلتهن في الشوارع حاسرات مظهرات لمفاتن أجسادهن، مغريات للمسلمات بتقليدهن والسير على منوالهن.

وعلى كل حال فقد كانت هذه الحملة العسكرية الموجهة ضد المسلمين ذات أهداف استعمارية واعتقادية، وكان لها نتائج سياسية واقتصادية

ص: 66

وفكرية وسلوكية بالغة على مصير العرب في العصور الحديثة، وأسهمت في تفكيك الدولة العثمانية، تمهيدًا لاقتسام ممتلكاتها بين الدول الكبرى كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى

(1)

.

3 -

ولاية محمد علي

(2)

1219 - 1264 هـ/ 1805 - 1848 م: تولى حكم مصر نيفًا وأربعين عامًا، تولى بأمر السلطان العثمانيّ وتحت ولايته عام 1805 م أي بعد خروج الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام فطارد المماليك وقضى عليهم نهائيًا في مذبحة القلعة 1225 هـ/ 1811 م، وقضى على المقاومة الشعبية التي أوصلته للحكم، وقضى على بني قومه ومصدر قوته العساكر الألبان ثم بدأ يتصل بالفرنسيين الذين كانت علاقته بهم قديمة سرية واستعان بهم وبعموم الأوروبيين في بناء دولة على أسس من تنظيم حديث للجيش وبناء للبحرية، واقتضاه ذلك فتح المدارس الحديثة وإقامة المصانع، وإرسال البعثات.

وبدأ يحارب الدولة العثمانية وانتصر عليها بعد أن كان واليًا لها وبمساعدة من الأوروبيين استطاع الانفصال بمصر عن الدولة العثمانية وأبرمت لأجله معاهدة لندن 1255 هـ/ 1840 م والتي حصرت حكمه في داخل مصر وجعلت الحكم فيه وفي ذريته وحدهم.

ويعتبر محمد علي -عند المؤرخين والمفكرين العلمانيين- المؤسس الأول لدولة العلمانية والحداثة والممهد الأكبر للمشروعات التحديثية "التغريبية" المعاصرة، وقد عرف من شخصيته الغلظة والقسوة ومحبة الفخر،

(1)

انظر: موسوعة السياسية 2/ 583 - 586، واقعنا المعاصر: ص 198 - 204.

(2)

هو: والي مصر من 1219 - 1264 هـ، ولد في مقدونية التابعة لليونان اليوم سنة 1183 هـ/ 1769 م من أسرة ألبانية، ادعى بعد ذلك أنه علويّ النسب، تولى للدولة العثمانية سنة 1219 هـ/ 1805 م فقضى على المماليك في مذبحة القلعة سنة 1225 هـ/ 1811 م ثم استعان بالأوروبيين فانفصل عن العثمانيين وأصبح أداة لتنفيذ المآرب الغربية، وفي عهده بدأ الحكم بالقوانين وتعطيل الشريعة وإرسال البعثات التي قادت حركة التغريب والردة العلمانية المعاصرة، هلك سنة 1264 هـ/ 1848 م. انظر: موسوعة السياسية 6/ 92.

ص: 67

وجنون العظمة، وهي صفات تؤهله

(1)

ليكون ناجحًا في القيام بالأدوار التي تريدها الدول الغربية في بلاد المسلمين، احتوته فرنسا وأنشأت له جيشًا حديثًا مدربًا ومجهزًا، وأسطولًا بحريًا حديثًا وترسانة بحرية، والقناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر.

وقام محمد علي في مقابل ذلك بدور خطير في نقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيء آخر، لقد كان الغرب يهدف إلى القضاء على الإسلام الحقيقي، الإسلام الصحيح الفعال، ووضع -آنذاك- أهدافًا مرحلية معينة تحقق له الوصول إلى غرضه، ومن أهم هذه الأهداف: القضاء على الكيان العضوي الجامع للمسلمين تحت راية "الدولة العثمانية"، والقيام بحملات "تغريب" للمسلمين، والتركيز على مصر -بلد الأزهر ومركز الثقل-، وتصدير التغريب إلى بقية العالم الإسلامي؛ ليضمنوا حينئذٍ تفتيت القوة الموحدة، ويحققوا تبعية العالم الإسلامي للغرب.

وكان محمد علي من أبرز من قام بهذا الدور، فقد أغروه بالانفصال عن الدولة العثمانية ومحاربتها والاستقلال عنها، ومكنوه من القيام بعملية التغريب، من خلال إغرائه بتحديث الدولة المستقلة!! وتحقيق أسباب القوة لها وكانت سياسة "الابتعاث" من أخطر ما فعله محمد علي لتحقيق المخطط التغريبيّ، ومنه بدأ الخطر "العلماني" يدخل ساحة التعليم والثقافة والفن والأدب ثم إلى ساحة الحياة العامة.

قام محمد علي بإرسال الشباب الصغار الأغرار عديمي الحصانة إلى فرنسا ليأخذوا من هناك ما شاءوا من العلم أو الفساد أو السلوك الغربي أو العمالة، ثم ليعودوا بعد ذلك ليكونوا رسل الغرب فكريًا وسلوكيًا وسياسيًا في بلاد المسلمين.

نعم كان محمد علي يرسل مع المبتعثين إمامًا للصلاة، يؤمهم

(1)

هذه الصفات كانت متوفرة بعد ذلك في مجموعة من أدوات التخريب الغربيّ ومنهم أتاتورك وعبد الناصر وبورقيبة وصدام وغيرهم، ولذلك كانت من أبرز المؤهلات لاختيارهم ودفعهم لتنفيذ المآرب الغربية.

ص: 68

ويعلمهم أمور دينهم، وكان هذا الإرسال مراعاة لتقاليد لها قداستها لا يُمكن الخروج عليها؛ لأن الصلاة كانت آنذاك ذات مكانة كبيرة في حس المسلمين ولا يُمكن التهاون في شأنها، ولا يتمكن محمد علي من كسر هذا الأمر في ذلك الحين.

ولكن الأئمة والمرشدين الدينيين أنفسهم كانوا جهلة ومنهزمين معنويًا وفكريًا فعادوا أئمة للتغريب ودعاة للتبعية، وكان من أشهرهم "رفاعة رافع الطهطاوي"

(1)

الذي يعده العلمانيون والحداثيون طليعتهم.

عاد داعية إلى تحرير المرأة أي إلى السفور والاختلاط، وإلى الرقص، وإلى تقليد الغرب في أنماط حياته، قام بذلك رغم أن المجتمع آنذاك لا يتقبل ذلك، ولكن كان من ورائه محمد علي ونظامه المنشآن على عين أوروبا.

وقد قام محمد علي وأبناؤه من بعده، وتلامذة المدارس الغربية بدور كبير في جعل محور جديد للحياة مع المحور السابق الذي كانت عليه الأمة "محور الإسلام" وأسسوا قواعد النفوذ الفرنسي خاصة والغربيّ عامة، وفتحوا باب التغريب على مصاريعه، ولكن أمام الرياح الفرنسية خاصة، ثم جاء الدور البريطانيّ

(2)

بعد ذلك.

لقد كان "الطهطاوي" أحد الأمثلة بل أظهر الأمثلة للتبعية والمدافعة عن مواقف وأفكار أسياده، وما سجله في كتبه أكبر دليل على محاولات

(1)

رفاعة رافع بن بدوي الطهطاوي، ولد في طهطا عام 1216 هـ، وتعلم في الأزهر، أرسلته حكومة محمد علي إمامًا للصلاة والوعظ مع بعثة إلى فرنسا وهناك تأثر وانسلخ من عقيدته، وعاد مبشرًا بالغرب وعقائده وأفكاره ونمط حياته، وألف في ذلك الكتب وأنشأ جريدة الوقائع المصرية، يعده العلمانيون والجهلة أحد أركان النهضة العلمية العربية بل إمامها في مصر، وهو في الحقيقة طليعة المنادين بالانحرافات الاعتقادية والسلوكية التي سار على دروبها المنهزمون من العلمانيين الحداثيين والإباحيين. انظر: الأعلام 3/ 29.

(2)

انظر عن محمد علي ودوره في: موسوعة السياسة 6/ 92 - 93، وواقعنا المعاصر: ص 205 - 215.

ص: 69

الإلحاق الأولى التي يعتز بها العلمانيون والحداثيون اليوم.

ومع اعتزازهم به يشهدون بأنه (إبان احتلال الجزائر كان الطهطاوي يقيم في فرنسا، ولم يعتقد أن هناك معنى للقول بأن أوروبا خطر سياسيّ، ذلك أن فرنسا وأوروبا لم تسعيا في نظره وراء القوة السياسية والتوسع بل وراء العلم والتقدم الماديّ، كان عهده عهد اختراعات عظيمة، فكتب عنها بإعجاب "قناة السويس" ومشروع قناة بنما، والخط الحديدي القاريّ في أمريكا، ويبدو أن تطور المواصلات أدهشه حقًا فخص القطار البخاريّ بقصيدة عامرة. . . وحين احتلت الجزائر كان الطهطاوي هناك فلم ينل الحدث اهتمامه، وأوجز رؤيته لاحتلال الجزائر بالقول: إن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنّما هو مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات منشؤها التكبر والتعاظم)

(1)

.

وهذا النص وحده كاف في تصوير مقدار المسخ الذي أصاب عقل هذا الرجل الذي نال من الشهرة والإعجاب عند العلمانيين والمستغربين العرب ما لم ينله سواه

(2)

، نعم لم يكن هو الوحيد الذي سعى في إلحاق الأمة بالغرب، ولكنه كان الأظهر والأشهر.

وكانت كتبه المؤلفة والمترجمة أدلة صارخة على سعيه هذا، فهو على صعيد محاربة الشريعة الإسلامية -مثلًا- قام (بترجمة دستور 1818 م الفرنسي والمواد المعدلة التي أدخلتها عليه ثورة 1830 م، وترجمة "العقد الاجتماعي" لروسو، و"روح القوانين"، و"تأملات في أسباب عظمة نهضة الرومان وانحطاطهم" لمونتسيكو. . . ولم يرفض استخدام العامية. . . وكان "تخليص الإبريز" الذي طبع عام 1834 م هو البشارة الطهطاوية بمصر الجديدة التي لم يرها، ولكنها الممكنة، وعلى الرغم من أن الفكرة الوطنية المصرية والرؤية الليبرالية هما محور هذا الكتاب إلّا أن محمد علي. . . لم

(1)

بحثًا عن الحداثة: ص 105 - 106.

(2)

انظر: أمثلة من ثنائهم عليه في قضايا وشهادات 2/ 11، 12، 2/ 122 - 123، 2/ 141 - 151.

ص: 70

يتخذ موقفًا سلبيًا واحدًا من الطهطاوي)

(1)

.

والحقيقة أن محمد علي وقف مع الطهطاوي وزملائه من المستغربين مساندًا مؤيدًا ليتكامل بذلك ضغط فكي التأثير الفكريّ والسياسيّ، في سياق استعارة فكرية وسياسية، وإلحاق بذيل قافلة الغرب.

4 -

مرحلة الاحتلال البريطاني الذي بدأ باحتلال مصر في عام 1299 هـ/ 1882 م: حيث استلم الإنجليز قيادة التأثير الفكريّ والسياسيّ بدلًا من الفرنسيين، وواصلوا تنفيذ المخطط مع زيادات أخر أجادها الإنجليز أكثر من أسلافهم واستفادوا من الأرضية السابقة التي هيأت لهم من قبل الفرنسيين ومحمد علي وأبنائه.

وجاؤوا إلى مصر أولًا، ومصر نافذة التأثير على غيرها من بلدان المسلمين في ذلك الزمان وحتى الآن.

وسعى المعتمد البريطاني

(2)

في تثبيت دعائم الحضارة المسيحية -حسب قوله- إلى أقصى حد ممكن وعين قسيسًا حاذقًا في الألاعيب وراسخًا في الحقد على الإسلام، عينه مستشارًا لوزارة المعارف

(3)

، وكان في يده السلطة الفعلية الكاملة في وزارة المعارف، ونفذ مخططًا واسع الأرجاء لإبعاد أبناء المسلمين عن دينهم، وتزهيدهم في العلوم الشرعية، وتشجيعهم على تلقي المذاهب والفلسفات الفكرية القادمة من وراء البحار، وقضى بخطته هذه على الأزهر والمدارس الشرعية والدراسات العربية وأخرج جيلًا جديدًا يمثل طبقة جديدة من المجتمع عن طريقها يتحرك المستعمر في كل المجالات الثقافية والفنية والأدبية والسياسية والتربوية والاجتماعية، وبواسطتها يتم تنفيذ الأدوار المطلوبة المرسومة، وتناسلت هذه الطبقة وتكاثرت حتى أصبحت هي المتنفذة في الأمور العامة.

(1)

قضايا وشهادات 2/ 144 - 145 والكلام لغالي شكري.

(2)

هو اللورد كرومر.

(3)

هو دنلوب.

ص: 71

وبالمخطط الصليبي الذي رسمه مستشار وزارة المعارف خرجت أجيال لا ترى النور والخير إلّا فيما عند الغرب، ولا ترى الشر والضر إلّا فيما جاء به الإسلام، وهكذا أطبق بمخططه على أعناق الأجيال التي أصبحت بعد ذلك تتجه نحو الغرب بصواعية وبشغف، وتتلقى عنه المفاهيم والعقائد والممارسات ثم تعود لغرسها وتثبيتها في واقع الأمة المسلمة، من خلال التعليم والإعلام، ودور النشر، والمجامع الثقافية، والمدارس الأدبية، والصحف والمجلات والأندية والفن الذي أصبح يساوي العفن والانحراف والرذيلة، ولم يقتصر هذا التأثير على مصر، وإن كانت هي أوفر البلدان الإسلامية نصيبًا من الهجوم والمحاربة والغزو، ولكن الأمر كان أوسع من ذلك وأبشع، وذلك في المرحلة اللاحقة.

5 -

مرحلة الاستعمار والتي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والتي نفذت فيها المقررات السرية لمؤتمر سايكس وبيكو، وقد سبق شرح ذلك في مقدمة هذا البحث، وذكر آثاره ونتائجه.

كل هذه المراحل وما تبعها من أحداث أدت إلى إيجاد أجيال جديدة مبتوتة الصلة مع تراثها وحضارتها، ملتصقة بالجسد الغربيّ الذي لا يرضى ولن يرضى إلّا أن تكون مجرد تابعة خاضعة منفذة للمآرب.

وأقلها خبثًا تلك التي كانت تقف موقف المشكك المرتاب إزاء كل ما يتعلق بالدين وتاريخ الأمة ولغتها ومستقبلها، وتقف موقف الهائب المستيقن إزاء كل ما يجيء من الغرب.

وإذا رحنا نتتبع آثار تلك المقدمات في مجال الفن والثقافة والأدب فإننا نجد أن هذا المجال هو أوسع الميادين تأثرًا بالتغريب، وأقواها تأثيرًا لصالح المشروع التغريبي.

وسوف أعرض في عجالة سريعة الملامح الأساسية في مجال الفكر والأدب:

1 -

يكاد يجمع المؤرخون لحركة التحولات الفكرية والأدبية المعاصرة

ص: 72

أن خليل مطران

(1)

هو رائد هذه التحولات، وطليعة التوجهات الحداثية وأستاذ الدعوة للعصرية المنافية للقديم كل القديم، وكبير دعاة التحرر من الأساليب القديمة ومن كل ما يذكر بها، ومن المروجين الأوائل لقضية التجديد في المضامين والتغيير الدائم

(2)

.

2 -

جماعة الديوان

(3)

، وقد سعت هذه الجماعة -فيما سعت إليه- في تقليد المدرسة الإنجليزية والسير خلف مفاهيمها وحتى سلوكياتها، إلى حد أن رواد هذه الجماعة كانوا يقلدون حتى في سلوكهم الشخصيّ ما كان يفعله الإنجليز

(4)

.

وكانت هذه الجماعة تهدف إلى ("إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوّغ اتصالهما"، وتصف هذا المذهب بأنه: "إنسانيّ، مصريّ، عربيّ. . . "، ويصل أصحاب الديوان إلى وصف هذا المذهب بأنه "أتم نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت" خصوصًا أنهم ينشئونه بحس تاريخي "والتاريخ يمضي بسرعة لا تتبدل، ويقضي أن تحطم كل عقيدة أصنامًا عبدت قبلها" وبهذا الحس يبدأون بنقد الشعر الذي سبقهم، ثم يخلصون بعد ذلك إلى عرض مبادئهم)

(5)

.

(1)

ولد في بعلبك 1289 هـ/ 1872 م لأسرة نصرانية وأقام في مصر واتخذها موطنًا له واشتغل في تحرير الأهرام وفي عدد من كبريات الجرائد المصرية، وأصدر المجلة المصرية، وتولى إدارة الفرقة القومية في مصر، يسمونه شاعر القطرين مصر ولبنان، يعتبر أحد إرهاصات الحداثة الشعرية ومقدم دعاة التغريب، خاصة ناحية فرنسا التي أقام فيها ردحًا من الزمن وتشبع بما فيها، كان له صلات بحزب تركيا الفتاة والماسون، توفي سنة 1368 هـ/ 1949 م. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 193، والصراع ببين القديم والجديد 2/ 1276.

(2)

انظر ما كتبه عنه أدونيس في الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 93 - 105 تحت عنوان "خليل مطران أو حداثة السليقة" المعاصرة.

(3)

مؤسسها ورئيسها عبد الرحمن شكري ومعه العقاد وإبراهيم المازني.

(4)

كان العقاد يقلد توماس هاردي في اقتناء كلب يصطحبه وسماه "بيجو" أسوة بالعادات الأوروبية، ولما مات كلبه الأثير رثاه العقاد بحزن بالغ. انظر: أدب الردة: ص 22.

(5)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 77، وما بين الأقواس الداخلية من كلام جماعة الديوان.

ص: 73

وعندما لخص أدونيس فكر الثلاثة الذين أسسوا هذه الجماعة قال: (ويشترك هؤلاء الثلاثة من الناحية السياسية الاجتماعية، برفضهم الوضع السائد، وطموحهم إلى ما هو أفضل، ومن الناحية الثقافية بانحيازهم إلى الثقافة الإنكليزية، ومن الناحية المنهجية - الفكرية بتغليبهم العقل)

(1)

.

وهذه الركائز إضافة إلى ما سبق تعطي إضاءة كافية حول الاتجاه الفكريّ لهذه الجماعة، وعمق التبعية الغربية التي سيطرت على أصحابها، رغم أنهم إذا قيسوا بمن جاء بعدهم من المتبعين للغرب والسائرين على منهاجه يعد هؤلاء من المحافظين التقليديين، حسب ما يطلقه غلاة الحداثيين

(2)

.

وليس من شأننا هنا التفريق بين هؤلاء وهؤلاء، وإنّما الشأن ذكر سلسلة الانحرافات.

3 -

جماعة أبولو

(3)

، وقد تأثرت بالنزعة الغربية لمؤسسها الذي نشأ وتعلم وتأدب في إنجلترا وتزوج منها، وختم حياته بالعيش في أمريكا حيث مات ودفن هناك، وكان يتبع المذهب الرومانتيكي الإنجليزيّ، وتتلمذ منذ طفولته على شعر مطران واستمر حتى كبره معجبًا به إعجابًا أشبه بالتقديس والعبادة -حسب قول أدونيس

(4)

- حتى قال مخاطبًا له:

(وهل أنا إلّا نفحة منك لَمْ تزل على عجزها ضمأى، وإن دمت قدوتي وما عابني إطراء حبي، فإنّما أعبر عن ديني وأنشر ملتي)

(5)

ويكفي في تصور مقدار نبعيتهم الاسم الذي أطلقوه على حركتهم الفكرية

(1)

المصدر السابق 2/ 76.

(2)

انظر عن جماعة الديوان: الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي 2/ 957 - 978، والثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 75 - 90.

(3)

أنشأها أحمد زكي أبو شادي، وكان من أعضائها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، والشابي وصالح جودت.

(4)

انظر: الثابت والمتحول 3 صدمة الحداثة: ص 110.

(5)

أوردها أدونيس في الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 110.

ص: 74

والشعرية، معللين ذلك بقولهم:(. . . وكما كانت الميتولوجيا الإغريقية تتغنى بألوهية أبولو رب الشمس والشعر والموسيقى والنبوة، فنحن نغني في حمى هذه الذكريات التي أصبحت عالمية، بكل ما يسمو بجمال الشعر العربي وبنفوس شعرائه)

(1)

.

وقد لخص رئيس هذه الجماعة أظهر مبادئها وذكر أن أعظم أثر لهذه المدرسة: (إنّما جاء عن طريق التحرر الفنيّ والطلاقة البيانية، والاعتزاز بالشخصية الأدبية المستقلة والجرأة على الابتداع مع التمكن من وسائله، لا عن طريق المجاراة للقديم المطروق، والعبودية للرواشم المحفوظة، والتقديس للتقاليد المأثورة)

(2)

.

على أن هذا الذي دعوا إليه ليس مختصًا بالجانب اللغويّ والأدبيّ كما قد يظهر بل هو شامل لكل شيء، فهم قد قرروا أن يكون فكرهم وشعرهم مستلهمًا لكل التراث الإنساني و (يشمل ما ادخرته الإنسانية من فن وفلسفة ورأي ودين، لا فرق في ذلك بين ما كان منه عربيًا أو أجنبيًا)

(3)

.

وعلى كل حال فالملامح العامة لأبولو لا تخرج من دائرة الاستلاب والتغرب

(4)

.

4 -

معروف الرصافي

(5)

، وقد اعتبره أدونيس طليعة الحداثيين، وأطنب في الثناء عليه، وأتى بشواهد عديدة من أقواله، التي اعتبره بناء عليها مجددًا، ومن ذلك قوله عنه:(هاجم اجتماعيًا العادات والتقاليد الدينية وغيرها)

(6)

.

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 111، وقد نقل هذا النص من مجلة أبولو العدد الأول أيلول سبتمبر 1932 م/ 1350 هـ ص: 4 - 5.

(2)

المصدر السابق: ص 113، والقول منقول من كلام لأبي شادي.

(3)

المصدر السابق: ص 115، والقول منقول من كلام أبي القاسم الشابي.

(4)

انظر عن جماعة أبولو: الصراع بين القديم والجديد 2/ 1001 - 1013، والثابت والمتحول ص 3، صدمة الحداثة: ص 109 - 119.

(5)

ستأتي ترجمته ص 1226 من هذا البحث.

(6)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 61.

ص: 75

وأشاد بدوره في (نقد الماضي العربي من الناحيتين الدينية والتاريخية)

(1)

، وأتى بجملة أقوال له في الهجوم على الحجاب وأحكام الشريعة وإيجاب التخلص من الماضي

(2)

.

غير أن الموضوع الذي أطنب أدونيس الكلام فيه، والذي جعله يشيد بالرصافيّ بسببه هو موقفه من الدين، وملخص ما جاء به أدونيس عنه هو إنكار الرصافيّ للدين والوحي والنبوة وإنكار الغيبيات ورفض فكرة العبادة والدين، والثواب والعقاب والجنة والنار، ورفض التشريعات

(3)

.

وأطنب في امتداحه والاستشهاد بكلامه في قضايا عديدة

(4)

.

5 -

جبران خليل جبران

(5)

، يعتبره أدونيس المؤسس الأمثل والأعمق لرؤيا الحداثة

(6)

ولم يطنب في الثناء على أحد في كتابه تلمود الحداثة كإطنابه في الثناء والامتداح لجبران، وقد اعتبره "نبيًا للحداثة"(7) وأطنب في شرح ما سماه سمات نبوة جبران

(7)

، وعن الوحي الذي يأتيه، والكشف عن الغيب والرؤيا الإشراقية التي زعم أنه يتحلى بها

(8)

.

وفي الوقت الذي يجحد فيه أدونيس الدين والغيبيات الدينية يؤمن بغيبيات إلحادية خرافية مثل غيبيات جبران وغيبيات الباطنية النصيرية وغيبيات الوثنية الإغريقية، ثم تحدث عن جحد جبران لوجود اللَّه تعالى من خلال الاستهانة به -جلَّ وعلا-، ورفضه لكل ما يجيء من عند اللَّه تعالى.

(1)

المصدر السابق 3/ 61.

(2)

المصدر السابق 3/ 62 - 64.

(3)

المصدر السابق 3/ 65 - 66.

(4)

المصدر السابق 3/ 61 - 72.

(5)

ستأتي ترجمته: ص 134 من هذا البحث.

(6)

المصدر السابق 3/ 163.

(7)

انظر: المصدر السابق 3/ 164 - 165، وسوف يأتي في الفصل الثالث من الباب الثاني تفصيل ذلك.

(8)

المصدر السابق 3/ 166 - 169.

ص: 76

ويقرر أدونيس أن إبداع جبران يأتي من سخريته بالقيم الدينية والاجتماعية، وقدرته العالية على هدم الأفكار والمعتقدات الراسخة، والإتيان بآفاق العدمية، وذلك من خلال إعلانه -حسب قول أدونيس- قَتْل اللَّه -تعالى اللَّه وتقدس عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا- الذي فتح المجال لحركة الإبداع الطويلة المدى

(1)

.

وقد أثبتُّ في مواضع مختلفة من البحث نقولات عديدة من كلام أدونيس عن جبران الذي أطال فيه القول إطالة متعمدة لكونه يلتقي معه في المبدأ الإلحاديّ والمشروع التخريبيّ والردة الجاهلية والعمالة للأعداء

(2)

.

6 -

شعراء المهجر، وهؤلاء كانوا رأس حربة للغزو الفكريّ، والاستقطاب الاعتقاديّ لصالح الغرب، وقد انطلقوا في مواقفهم العدائية للأمة، من منطلق عقائدهم النصرانية، حيث كانوا وما زالوا يحملون أحقادًا صليبية متجذرة في نفوسهم، وكانوا وما زالوا ينتمون إلى بني ملتهم في الغرب.

وإذا كنت قد ذكرت جبران وحده، وهو أحد أعلام المدرسة المهجرية، فإن ذلك لا يعني أن بقية المهجريين كانوا عكسه، نعم كان جبران أخطر وأثره في الانحراف أعمق.

وكذلك بقية أدباء المهجر، وخاصة "الرابطة القلمية" التي ظهرت عام 1338 هـ/ 1920 م في نيويورك على يد مجموعة من نصارى لبنان

(3)

، وأصدرت مجموعة من المجلات والنشرات والكتب، وكان من أهم سماتها كما قال أدونيس:(الاقتلاع المادي والمعنوي، وما يرافق هذا الاقتلاع من هزات انفعالية وفكرية. . .)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 3/ 176 - 179.

(2)

المصدر السابق 3/ 161 - 211.

(3)

أسس هذه الرابطة عبد المسيح حداد، ومن أعضائها جبران خليل جبران، ومخائيل نعيمة، وندره حداد، وألياس عطا اللَّه، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة، ورشيد أيوب، وإيليا أبو ماضي، ووديع باحوط. انظر: الثابت والمتحول 3/ 162.

(4)

انظر: المصدر السابق 3/ 162.

ص: 77

وكان جبران رائد هذه الرابطة وكبير المؤثرين فيها ولا يُمكن بطبيعة الحال نسيان شخصية "أمين الريحاني"

(1)

صاحب الجولات المريبة في بلاد المشرق العربي، وما نسب إليه من علاقة استخباراتية بالحكومة الأمريكية.

كما أنه لا يُمكن نسيان التجمعات والروابط والجمعيات القومية التي أقامها المهجريون في أوروبا وأمريكا والبرازيل وأستراليا، وارتباط هذه التجمعات بسياسة الدول الغربية، والمنظمات الماسونية، وأثر كل ذلك في ازدياد وطأة الانحرافات في بلاد المسلمين

(2)

.

7 -

الحداثة العربية، تولدت من كل تلك المقدمات ما يسمى بالحداثة العربية وهي في الحقيقة غربية الأصل والنشأة والتوجه والأهداف، ولكنها مترجمة إلى العربية ومنقولة إليها بأحرف عربية الحرف أجنبية الولاء.

انفجرت شرارتها من العراق وانطلق صخبها من هناك ليصل إلى جميع البلاد العربية، وفي البحث تفصيل هذا الانحراف.

• • •

(1)

ستأتي ترجمته.

(2)

انظر: عن هذه الجمعيات والمنظمات كتاب فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام لصالح العبود ص 142 - 211.

ص: 78

‌الباب الأول الانحرافات المتعلقة باللَّه سبحانه وتعالى

- ويشمل الآتي:

توطئة

الفصل الأول: الانحرافات المتعلقة بالربوبية.

الفصل الثاني: الانحرافات المتعلقة بالألوهية.

الفصل الثالث: الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات.

الفصل الرابع: التصورات المتأثرة بالوثنيات والديانات المحرفة.

ص: 79

الباب الأول الانحرافات المتعلقة باللَّه سبحانه وتعالى

‌توطئة:

إن الإيمان باللَّه -جَلَّ وَعَلَا- هو أساس العقيدة الإسلامية، وأصل كل الأصول وقاعدة كل صغير وكبير في هذا الدين القويم، وهو الركن الأول من أركان الإيمان الستة، ولا يكون الإنسان مسلمًا إلّا بإيمانه الخالص بهذا الركن ومقتضياته بحيث لا يخالطه في إيمانه شك ولا يمازحه ريب.

إن الإسلام جاء -ابتداءً- ليؤسس عقيدة توحيد اللَّه رب العالمين في مقابل عقائد الشرك والكفر والوثنية والإلحاد، فلا غرو أن تكون أول قضية من قضاياه هي قضية الإيمان باللَّه تعالى؛ وذلك لأن البشرية بعد انطماس معالم النبوات السابقة ارتكست في الجاهلية وانتكست مفاهيمها واختلطت عقائدها وأصابها الغبش والضلال والفساد والانحراف، وانجرفت في أودية الجهالات في معتقداتها وتصوراتها ومفاهيمها ومشاعرها وشعائرها، وتردت في عبوديات هابطة فاسدة من عبودية الأهواء البشرية، وعبودية الناس بعضهم لبعض متمثلة في الحكم والتشريع، وعبودية الأوثان والأعراف الجاهلية والأوضاع القبلية والعشائرية وغير ذلك.

فجاء دين الإسلام ليغير هذا الواقع المتردي الذي انحطت فيه البشرية وينشئ واقعًا آخر غير واقع الجاهلية الذي كانت تعيش فيه، أو الذي يمكن أن ترتد إليه البشرية في أي مرحلة من مراحلها؛ وذلك لأن الجاهلية ليست فترة تاريخية محدودة بزمن ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، بل الجاهليّة نعت لأي وضع ينحرف عن دين اللَّه الذي ارتضاه، وحالة من حالات الحياة حينما تبتعد عن منهج اللَّه وشرع اللَّه في الاعتقاد أو في التشريع أو في الحكم أو في الفكر أو في الأدب، أو في أي نشاط من نشاط الإنسان.

ص: 81

ولما جاء الإسلام لتغيير واقع الجاهلية الفاسد المنحرف جاء في صفة نظام شامل متكامل، كلياته وأجزاؤه وأصوله وفروعه متلاحمة غير منفصلة، مترابطة غير منفصمة، فلا يمكن أن تفهم قضية من قضاياه الجزئية بمعزل عن أصولها العلمية الاعتقادية أو العملية التعبدية.

وسبب ذلك أن الإسلام في عقائده وشعائره وشرائعه وأخلاقه يندرج ضمن نظام واحد، أساسه الأول توحيد اللَّه سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ثم ما يتفرع عن هذا الأساس العظيم من أصول وفروع وكليات وجزئيات.

وعندما أقول: إن الإسلام نظام واحد مترابط فإنه يجب أن يفهم بأن هذا النظام المتكامل له خصائص متميزة في مصدره وفي تلقيه وفي فهمه وفي تطبيقه وفي أحكامه وفي أخباره.

خصائص تقوم على البرهان والدليل والحجة، وتتوافق مع العقل السليم والفطرة القويمة، وتتجاوب مع حاجات البشرية أفرادًا وجماعات وأممًا، وهذا القول ليس مجرد ادعاء وعاطفة بل هو الحقيقة المؤيدة ببراهين العقل وحجج المنطق ونتاج الواقع المادي في شتى صنوفه التجريبية، حيث لا توجد حقيقة تجريبية ثابتة تعارض حقيقة علمية شرعية ولو اجتمع من في أقطارها لإثبات تعارض؛ وسبب هذا التأكيد الجازم، اليقين بأن خالق الحقيقة التجريبية هو منزل الحقيتة الشرعية، كما أن خالق العقل هو مصدر النقل؛ ولذلك لا يُمكن أن يحصل بين قطعياتهما تعارض مطلقًا، وإن توهم متوهم التعارض فإنّما هو في ذهنه وليس في حقيقة الأمر.

إن مجموعة الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يجب أن يحتويها قلب المسلم هي أركان الإيمان الستة، وركن هذه الأركان وأساس هذه الأسس هو الركن الأول "الإيمان باللَّه تعالى" كما جاء في حديث جبريل عليه السلام حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ قال:"أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره"

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 36، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في وصف جبريل للنبي الإيمان والإسلام 5/ 6، وأبو داود في كتاب السنة، باب: في القدر 5/ 69.

ص: 82

ثم كل ما يتفرع عن هذه الأركان العلمية الخبرية والأركان العملية التطبيقية كل ذلك يعود إلى هذا الأصل العظيم، ولا يُمكن فصله عنه بأية حال من الأحوال، إلّا إذا أمكن فصل فروع شجرة يرجى ثمرها أو ظلها عن جذورها، وما أظن أن هذه المسألة تحتاج إلى كثير بسط وبيان؛ لأنها من المسلمات الشرعية والعقلية، ولا يماري فيها مسلم ولا مرتد، فها هم أصحاب الردة الحداثية يسعون بكل قوتهم لهدم هذا الركن العظيم؛ لأنهم يوقنون أنه هو جذر الإسلام عقيدة وشريعة، فإذا تمكنوا من إزالته -وما هم بقادرين أبدًا- فإنه سوف يتحقق لهم إزالة كل قضايا الإسلام، وقد صرحوا بذلك وسوف يأتي ذكر ذلك في موضعه في فصول هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى.

غير أن القضية التي يُمكن أن تلتبس على بعض المصابين بمرض الشبهة من المصغين للمرتدين والكافرين والمنافقين، والمدمنين على قراءة نتاجهم؛ هي قضية أن الإسلام نظام للحياة البشرية يقوم على أساس تحكيم شريعة اللَّه تعالى وحدها في كل أوضاع الحياة وكل أعمال الإنسان، وأن هذا التحكيم هو مقتضى الإيمان باللَّه وشهادة أن لا إلَه إلّا اللَّه وأنه لا يُمكن بحال من الأحوال إخراج أي نشاط بشري عن هذا المدلول؛ وذلك لأن أول خصائص الألوهية هي حق تعبيد الناس لرب الناس وتطويعهم لشرائعه، وحق إقامة المعايير والنظم والمناهج وإلزام الناس بها، كما أنه من خصائص العبودية الالتزام بذلك في كل الأحوال والأوضاع.

وما تحاوله الجاهلية المعاصرة هو إبطال حق اللَّه تعالى في الهيمنة على أعمال الإنسان، وتأليه الإنسان ليضع النظم والمناهج والقيم والموازين من تلقاء هواه.

فها نحن نسمع ونرى من يجحد حق اللَّه تعالى في الحكم والنظام ومن يجحد حقه تعالى في الفكر والآداب ومن يجحد حقه في القيم والأخلاق، ونسمع ونرى من ينادي جهارًا بألوهية الإنسان وأحقيته المطلقة في وضع ما يناسبه من نظم ومعايير ومناهج وسلوكيات.

ولا ريب أن هذا مناقض تمام المناقضة للإيمان باللَّه ولشهادة أن لا إلَه إلّا اللَّه، وهي صورة مكررة للتناقض القائم بين الإسلام والجاهلية من عهد نوح عليه الصلاة والسلام إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا وإلى أن تقوم الساعة، وأساس تكرار هذه الصورة من التناقض بين التوحيد والوثنية والإسلام

ص: 83

والجاهلية هو أن هناك تصوران أساسيان متناقضان عند البشرية في القديم والحديث في جميع أنحاء الأرض وفي جميع الأزمنة والأمكنة:

التصور الأول: يقوم على إقرار اللَّه بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات وينبني عليه قيام نظام للحياة يتجرد فيه البشر من خصائص الألوهية والربوبية ويفردون اللَّه وحده بها، ويذعنون له بالعبودية فيتلقون ما جاء عنه بالقبول والتسليم في الأمور الاعتقادية وفي القيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية وفي المناهج والنظم والشرائع والقوانين التي تحكم الأحياء وأعمالهم والحياة وأرجاءها ولا يتلقون عن أحد سواه، وبذلك يشهدون أن لا إلَه إلّا اللَّه.

التصور الثاني: يقوم على رفض ألوهية اللَّه تعالى وربوبيته وجحد أسمائه وصفاته أو جحد مقتضياتها، وهذا الرفض والجحود إمّا بصورة كلية كما هو حال الملاحدة الذين ينكرون وجود اللَّه سبحانه وتعالى، وإمّا بصورة أخرى تتمثل في رفض ألوهية اللَّه تعالى في شؤون الحياة أو في بعض شؤون الحياة، في نظام المجتمع مثلًا أو في شرائعه وقوانينه أو في خلقه وسلوكه أو في فكره وأدبه.

وهذا التصور -إضافة إلى رفضه ألوهية اللَّه- يدّعي أن لأحد من البشر فردًا أو جماعة هيئة أو فئة أو طبقة أن يزاول -من دون اللَّه أو مع اللَّه تعالى- خصائص الألوهية، سواء كانت دعواه بلسان المقال كما هو حال كثير منهم أو بلسان الحال عند من يغمغم ولا يفهم ويلوّح ولا يصرح، وبذلك لا يكون الناس الذين تقوم حياتهم على هذا التصور قد آمنوا باللَّه تعالى أو شهدوا أن لا إله إلّا اللَّه.

هذان التصوران المتناقضان لا يُمكن أن يلتقيان مطلقًا؛ لأن أحدهما هو التوحيد والإيمان والإسلام، واللآخر هو الشرك والكفر والجاهلية، بغض النظر عن الأسماء واللافتات والعناوين والنعوت والألقاب التي يطلقها أصحابها على هذا التصور الجاهلي وفروعه ومقتضياته، ثقافة أو فنونًا أو حداثة أو آدابًا أو فكرًا تقدميًا أو معاصرًا أو طليعيًا أو واقعيًا أو بنيويًا أو تنويريًا أو ديمقراطيًا أو علمانيًا أو عقلانيًا إلى آخر تلك الأسماء والألقاب التي تلتقي كلها في هذا التصور الضال في رفض ألوهية اللَّه تعالى وتأليه غيره -جَلَّ وَعَلَا-.

إن تنوع الأسماء والأشكال ليست ذات عبرة ما دامت متحدة في قاعدة واحدة ومشتركة في أصل واحد وأساس واحد اعتبار -أي عمل أو نظام أو وضع أو تصور أو فكر أو أدب- متصفًا بكونه إسلاميًا أو غير إسلامي هو

ص: 84

الجهة التي يصدر عنها، فإن كان صادرًا عن اللَّه تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم وشرعه ودينه فهو إيماني إسلامي، وإن كان صادرًا عن غير هذا فهو جاهلي.

هذا هو محور الخلاف بين الإسلام وأهله والكفر والنفاق والزندقة وأهلها، وهو خلاف يؤثر في التناول والطرح والتفكير والمعالجة عند الطرفين المتقابلين، كما يؤثر في الأعمال والأحكام والتصرفات؛ لأنه لا مجال للالتقاء بين الكفر والإيمان والردة الإسلام {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

(1)

.

ومن هنا جاءت إشكالية الصراع بين الحداثة والإسلام والعلمانية والإسلام، وسوف تبقى هذه الإشكالية، ويزداد أوار الصراع حتى يقضي اللَّه بنصرة أوليائه.

وليست المشكلة بين هذين الاتجاهين ما تصوره بعض الأقلام المريضة أو الجاهلة، أنها مشكلة صراع بين قديم وجديد، وتقدم وتخلف، وشرق وغرب، إلى غير ذلك من الدعاوى والتوصيفات الساذجة أو المغرضة.

الحقيقة كل الحقيقة، أن أساس الصراع وميدانه هو التناقض الموجود بين هذين الاتجاهين في أصل التصور والتلقي والفهم، وكل ما يتبع ذلك من مفردات فهو فرع عن هذا الأصل، فالمسلم الذي يحاكم نصًا حداثيًا يسخر من السنة أو الصحابة أو الشعائر أو يدعو للرذائل الخلقية أو ينادي بالتحرر النسوي الداعر أو يبرر الانحراف السياسي أو الاقتصادي؛ يحاكمه المسلم على أساس أن هذا انحراف عن دين اللَّه وعن شهادة أن لا إله إلّا اللَّه، في حين أن العلماني أو الحداثي يمارس كل هذه الانحرافات على أساس أنه ليس للَّه -جَلَّ وَعَلَا- أي حق في الحكم على هذه الأمور أو ضبطها.

فمن هنا نلاحظ أن القضية هي قضية تصادم وتناقض بين منهجين وتصورين وعقيدتين، وليست القضية قضية تجديد وتقليد، أو تراث

(1)

الآيات 1 - 6 من سورة الكافرون.

ص: 85

ومعاصرة، وسموف يتبين ذلك -إن شاء اللَّه- من خلال هذا البحث، ابتداءً من هذا الباب الذي يتحدث عن الانحرافات الحداثية المتعلقة باللَّه سبحانه وتعالى، حيث يتناول الفصل الأول الانحرافات المتعلقة بربوبية اللَّه سبحانه وتعالى، والفصل الثاني عن الانحرافات المتعلقة بالألوهية، والفصل الثالث عن الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات، أمّا الفصل الرابع فهو عن التصورات المتأثرة بالوثنيات والديانات المحرفة.

فالفصول الثلاثة الأولى عن توحيد اللَّه -جَلَّ وَعَلَا-، الذي هو مصدر وحد يوحد أي: العلم بأن الشيء واحد، وهو على وزن تفعيل للنسبة، كالتصديق والتكذيب لا للجعل، أي: أن معنى وحدت اللَّه تعالى أي: نسبت إليه الوحدانية واعتقدت أنه واحد أحد، وليس معناه جعلت اللَّه واحدًا؛ لأن وحدانية اللَّه تعالى ذاتية وليست بجعل جاعل

(1)

.

والمراد بالتوحيد في اصطلاح علماء الإسلام: إفراد اللَّه تعالى بالعبادة مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله فلا نظير له ولا شبيه.

وهذا هو المراد بالتوحيد في هذا الباب، وهو تعريف للتوحيد باعتباره عَلمًا مفردًا، وهذا يجمع أنواع توحيد اللَّه الثلاثة، الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ومدارها على اعتقاد العبد وإيمانه الجازم بتفرد الرب بصفات الكمال وإفراده بأنواع العبادة

(2)

.

أمّا تعريف التوحيد باعتباره مركبًا إضافيًا "علم التوحيد" فهو: علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية من أدلتها اليقينية، وهو بهذا الاعتبار يتناول كل قضايا الاعتقاد وكل أركان الإيمان ومسائله وفرعياته.

• • •

(1)

انظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/ 56 - 57.

(2)

انظر: الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص 7.

ص: 86

‌الفصل الأول الانحرافات المتعلقة بالربوبية

توحيد الربوبية يقوم على ثلاثة أسس، هي الاعتقاد الجازم بأن اللَّه هو الخالق المالك المتصرف، فهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء وحده ولا خالق سواه، كما قال سبحانه وتعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}

(1)

، {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}

(2)

، وكل شيء سوى اللَّه مخلوق من عدم، موجود أوجده اللَّه بعد أن لم يكن، وخَلْقه سبحانه يشمل ما يقع من مفعولاته وما يقع من مفعولات خلقه.

وهو سبحانه المالك الملك المطلق العام الشامل، وكل شيء في ملكه سبحانه وتعالى، قال-جَلَّ وَعَلَا-:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. . .}

(3)

، وقال سبحانه وتعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}

(4)

، وأمّا غير اللَّه فإن مَلَكَ فإن ملكه قاصر مقيد غير شامل، فهو وما يَملك مملوك للَّه سبحانه وتعالى.

وهو سبحانه المنفرد بالتصرف في خلقه وملكه، وله التدبير الشامل الذي لا يحول دونه شيء ولا يعارضه شيء، كما قال -جَلَّ وَعَلَا- عن نفسه:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}

(5)

، وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا

(1)

الآية 3 من سورة فاطر.

(2)

الآية 16 من سورة الرعد.

(3)

الآية 88 من سورة المؤمنون.

(4)

الآية 1 من سورة الملك.

(5)

الآية 2 من سورة الرعد.

ص: 87

مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}

(1)

.

ويتفرع على هذه الأمور الثلاثة كل ما يتعلق بتوحيد اللَّه بأفعاله -جَلَّ وَعَلا

(2)

-، ومن جحد أو شك في شيء من هذا فهو كافر لا حَظَّ له في الإسلام.

وهذا القسم من أقسام التوحيد لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، إلّا ما حصل في بعض تفاصيله فى الأقدمين من مجوس وثنوية ودهرية وأمثالهم من ضلال المتفلسفة والمعتزلة

(3)

.

أمّا مشركوا العرب فكانوا يقرون بتوحيد الربوبية، كما أخبر عن ذلك اللَّه العظيم في كتابه الكريم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .}

(4)

، ولكن هذا لم ينفعهم لأنهم كانوا يشركون غير اللَّه مع اللَّه في العبادة والانقياد.

أمّا ملاحدة هذا العصر فهم ينكرون وجود اللَّه أصلًا ويجحدون تبعًا لذلك كل قضايا الربوبية من خلق وملك وتدبير، وما يتفرع عنها، كما سوف يأتي من كلامهم في هذا الشأن.

ومما يتعلق بتوحيد الربوبية قضية وجود اللَّه سبحانه وتعالى وهو أمر مركوز في الفِطَر والأدلة على وجوده سبحانه وتعالى لا تحصى، وعددها كعدد المخلوقات؛ إذ كل مخلوق يحمل أدلة تدلنا على خالقه وموجده وبعض صفاته، وأول شيء يقال هنا بأن العدم لا يوجد شيئًا، ومن المستحيل أن يفعل العدم شيئًا؛ لأنه لا وجود للعدم، وثانيًا إذا نظرنا في المفعولات وجدناها مرآة لبعض قدرة الفاعل وبعض صفاته، وهناك علاقة محكمة بين المصنوع والصانع والفعل والفاعل، إذ لا يُمكن أن يكون شيء في المصنوع أو الفعل إذا كان الصانع أو الفاعل لا يَملك قدرة أو صفة تمكنه من فعل ذلك الشيء في مصنوعه أو فعله.

ولا يستطيع أحد أن يزعم أن حيوانًا لا يعقل أطلق قصرًا صناعيًا يدور

(1)

الآية 3 من سورة يونس.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى 13/ 14، 37، والفتاوى السعدية: ص 8 - 9، وعلم التوحيد للربيعة: ص 7، والإيمان لمحمد نعيم ياسين: ص 7، والمجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/ 16 و 8/ 2 - 11، والكليات لأبي البقاء الكفوي: ص 466، وتفسير الطبري 1/ 141.

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 38.

(4)

الآية 25 من سورة لقمان.

ص: 88

حول الأرض؛ لأن الحيوان لا يَملك القدرة على إطلاق ذلك القمر.

فإذا طبقنا مبدأ أن العدم لا يخلق شيئًا وشاهدنا ملايين الملايين من المخلوقات والأحداث التي تحدث كل يوم في هذا الكون جزمت عقولنا بأن لكل فعل منها فاعلًا؛ لأن العدم لا يخلق شيئًا، وإذا طبقنا مبدأ أن الفعل مرآة لبعض قدرة فاعله وبعض صفاته وجدنا أن المخلوقات والأحداث التي تحدث في الكون محكمة في نظامها تشهد أنها من صنع حكيمٍ، موجهة في سيرها تشهد أنها من صنعِ مريدٍ، متناسقة في أعمالها تشهد أنها من صنعِ عليمٍ واحدٍ أحدٍ، خاضعة لنظام موحد تشهد أنها من صنع حاكم مهيمن، فتجزم العقول بأن خالق هذه المخلوقات موجود متصف بالإرادة والعلم والحكمة وغير ذلك من صفات الكمال، وإذا نظرنا في المخلوقات كالسماوات والأرض والشمس والقمر وغيرها مما يدركه الحس نجد أنه لا شيء منها يتصف بأنه واحد أحد حاكم مهيمن، له إرادة مطلقة، ومشيئة نافذة وحكم مستمر وحكمة عامة وعلم شامل، إذن الذي خلقها وأوجدها هو وحده الذي يتصف بذلك

(1)

، وليست الطبيعة الخاضعة المخلوقة البائدة، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}

(2)

، وقال -جَلَّ وَعَلَا-:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}

(3)

.

وإذا كانت قضية وجود اللَّه من المسائل المسلم بها فيما مضى، فإن العصر الحاضر غلب فيه الإلحاد على أهل الكفر المعاصرين، أمّا في الزمان الغابر فقد كان الانحراف يتمثل في الشرك، والمشرك يعرف أن هناك إلهًا خالقًا لهذا الكون ولكنه يشرك به في العبادة، فيتوجه إلى آلهة أخرى مع اللَّه أو من دون اللَّه فيقدم لها العبادة والعداء، أو يتبع أمرها بالطاعة أو بالمحبة والولاء.

أمّا الملحد -كما في الاصطلاح المعاصر- فهو ينكر وجود اللَّه تعالى، وهذا الذي غلب على كثير من أصحاب المذاهب الفلسفية والسياسية والأدبية

(1)

انظر: توحيد الخالق لعبد المجيد الزنداني 1/ 20 - 25، وكتاب الإيمان للزنداني أيضًا: ص 23 - 26.

(2)

الآية 185 من سورة الأعراف.

(3)

الآية 24 من سورة الحشر.

ص: 89

والفكرية المعاصرين؛ وسبب ذلك غلبة الصادية فكرًا وحياة وممارسة على هؤلاء، وانحصارهم في دائرة المحسوس، وتمادي الغفلة والجهالات الفكرية بهم إلى الحد الذي أنكروا فيه ما وراء الحس إنكارًا تامًا، وزعموا أن كل ما كان خارج الحس فهو غير موجود، وهذا انطماس غير عادي في البصيرة والعقل، يؤدي إلى تأليه المحسوس وحده، ونفي وجود اللَّه وسائر الغيبيات.

ومن أسبابه ذلك الدور الخطير الذي قامت به الكنيسة في إفساد دين النصرانية المنزل من عند اللَّه، حيث ألهت البشر وجعلت الإله ثلاثة، وأبطلت حكم اللَّه وشريعته، وكانت هذه الأفاعيل من الكنيسة مقدمة للإلحاد والخروج عن الدين بكامله في أوربا، ثم ما قامت به الكنيسة -التي أصبحت منارًا للشرك والجهالات- من حربٍ للعلم والعقل والتجربة وذلك لخوفها على مكانتها عند الناس الذين سيكتشفون أن هناك حقائق غير الذي تقوله الكنيسة.

ثم لأن العلوم التجريبية جاءت من احتكاك الأوروبيين بالمسلمين فكان العلم المنافس للكنيسة علم المسلمين، وهذا محل خطورة على الكنيسة من الإسلام نفسه الذي سوف ينتشر في أوروبا مع الحركة العلمية المنقولة عن المسلمين؛ لذلك قامت بحرب شرسة ضد العلماء الأوروبيين المتأثرين بالمسلمين، وهذا سبب آخر بُذرت به بذور العداوة بين العلم التجريبيّ والدين، وما لبثت هذه البذور تنمو حتى أثمرت على مر العصور قطيعة تامة مع الدين، ومحاربة له وخروجًا عليه بالكلية، حتى أنهم وصلوا إلى أن البحث العلميّ يجب أن يخلو من أي ذكر للَّه تعالى؛ لأن مجرد ذكر اسمه تعالى في البحث العلميّ يفقد هذا البحث طابعه العلميّ حسب زعمهم الماديّ.

إضافة إلى ما فعلته الكنيسة من إفساد لدين اللَّه المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام وموقفها العدائي للعلم والتجريب، فقد مارست أنواعًا من الطغيان، وأفسد رجال الدين النصرانيّ بعسفهم وظلمهم وتعديهم على عقول الناس وأموالهم وأجسادهم وحقوقهم فسادًا عظيمًا كان سببًا في ظاهرة الإلحاد المتزايدة اليوم في أوروبا والغرب.

فقد فرضت الكنيسة ورجال الدين النصرانيّ على الناس أموالًا يقدمونها للكنيسة إلزامًا ليأخذها الرهبان -الذين يدّعون الزهد والنسك!! - خالصة لأنفسهم ليعيشوا بها في بذخ لا يحلم به المترفون، وفرضت الكنيسة على الناس العمل مسخرين في فلاحة الأراضي التي تملكها الكنيسة يومًا في كل أسبوع سُخْرة بغير

ص: 90

أجر ولا ثَمن، وفرضت الكنيسة ورجال الدين على الناس الخضوع والتذلل للرهبان، فإذا مر أحدهم وجب على الناس أن ينحنوا حتى تلتصق جباههم بالأرض ولو كانوا في الطين والوحل، وألزمت الناس بأفكار محددة عن الكون، مخالفة للحقائق العلمية الثابتة، وحكمت بكفر وإلحاد من خالف هذه الأفكار.

أمّا احتكارها لحق الصلة بين الإنسان وربه فكان من أبشع الممارسات التي جعلت الناس فيما بعد يثورون على الكنيسة ورجال الدين بل على الدين كله.

فكانت جلسة الاعتراف أمام الكاهن هي الطريق الوحيد للتوبة ونيل رضوان اللَّه، ولا خلاص من الذنوب إلّا بهذا العمل، ولا يُمكن للإنسان أن يدعو ربه أو يعبده إلّا من خلال هذه الواسطة التي احتكرها رجال الدين النصرانيّ لأنفسهم، فاستعبدوا الناس وأذلوهم وحطموا مقومات الشخصية الإنسانية فيهم، ومارسوا عليهم المهزلة المهينة المسماة بصكوك الغفران، مقابل أموال ينالونها من الناس، ثم جاءت قاصمة الظهر حين قام الناس في أوروبا في العصور الحديثة بالمطالبة بحقوقهم التي سلبها الأباطرة والإقطاعيون والملوك، فوقفت الكنائس ورجال الدين إلى جانب الظالمين والمستبدين، وأصدروا الفتاوى الدينية في حق من تمرد على الاستعباد وطالب بالحقوق، بأنه قد مرق من الدين واستحق غضب اللَّه، فكانت غضبة الجماهير عاصفة قوية ونفورهم من الكنيسة ورجالها وبالتالي من الدين وما يتصل به نفورًا قويًا، قاد إلى الإلحاد والمادية والشهوات البهيمية التي انحطت فيها أوروبا والغرب اليوم.

هذه بعض الأسباب التي أدت إلى الإلحاد الذي انتشر اليوم، وقامت على فكرته الضالة سياساتٌ ودولٌ ومدارسُ ومناهجُ وجامعاتٌ تقوم على تدريسه وتأصيله ونشره، وتلقاه بعض أبناء المسلمين وتأثروا به فنقلوه في كتاباتهم وأفكارهم وممارساتهم وسعوا في بثه والدفاع عنه، مع أن واقع المسلمين في دينهم منهجًا وعملًا مخالف تمام المخالفة لما كانت عليه أوروبا في دينها وحياتها الاجتماعية والسياسية، ومع ذلك فقد تلقى هؤلاء الأتباع هذا الإلحاد بحماس أشد من حماس أصحابه الأصليين، وطفقوا

ص: 91

يبثونه ويدعون إليه ويدافعون عنه، وهذا ما سوف يأتي عرضه في هذا الفصل من الانحرافات المتعلقة بالربوبية في الأدب العربي المعاصر.

غير أنه قبل استعراض هذه الانحرافات الموجودة في أدب الحداثة العربي ينبغي أن أذكر أن هذه الضلالات التي يقوم على تأصيلها ونشرها والدفاع عنها أدباء الحداثة؛ ليست إلّا نقولات مترجمة من أفكار ومناهج الغربيين إلى اللغة العربية بأقلام هذه الوسائط الفكرية والأدبية، التي ليست سوى أقلام عربية الحرف أجنبية الفكر والاعتقاد والولاء.

وفي الحقيقة إن ما أطلقوا عليه تقدمًا ومعاصرة ليس إلّا تعبيرًا عن الإلحاق بالقوة في المجال الثقافيّ والفنيّ، تبعأ للإلحاقات الاستعمارية السابقة العسكرية والسياسية والاقتصادية، فقد انغمس المثقف العربي الحداثيّ في التبعية الاعتقادية والفكرية إلى حد كبير جدًا حتى وهو ينادي بالوطنية والقومية ويتشدق بالحرص على الأمة والمجتمع، فها هو لويس عوض

(1)

في محاضرة له بعنوان "أسباب عدم عالمية الفكر العربي" يذكر أن السبب في التخلف هو انشغال الفكر العربيّ بقضايا تجاوزتها أوروبا منذ زمن طويل

(2)

.

ويقول في جريدة الأهرام: (إن سياسة الباب المفتوح عندما تمتد من مجال السلع والخدمات المستوردة إلى مجال الاقتصاد والقيم المستوردة سوف تبعث في مصر على وجه اليقين ذلك التراث الإنسانيّ العظيم من التواصل الثقافيّ مع بقية بني الإنسان)

(3)

.

(1)

كاتب وناقد وشاعر حداثيّ مصريّ نصرانيّ، ولد سنة 1333 هـ/ 1915 م، يزعم أنه أول من ابتدع الحداثة الشعرية في "برتولاند"، تخرج من جامعة القاهرة في الأدب الإنجليزي، أكمل دراسته في جامعات لندن، ثم عاد مدرسًا في الجامعة في مصر وعمل في الصحافة، وفي منصب مستشار في جريدة الأهرام، تشبع بالفكر الاشتراكي ودعا إليه، حارب التراث الإسلامي بتعصب صليبيّ ظاهر، واندفع نحو تغريب المجتمع المسلم وهدم عقيدته وقيمه الأخلاقية في حقد ظاهر وضغينة لا يخفيها تجاه الإسلام والمسلمين وعمالة وولاء لأعداء الإسلام. انظر: الصراع بين القديم والجديد 2/ 1263، ورأيهم في الإسلام: ص 107، ورحلة في عقول مصرية: ص 397.

(2)

انظر: مجلة الطليعة الكويتية الصادرة في 5/ 4/ 1976 م، الموافق 4/ 1396 هـ.

(3)

الأهرام، مقال بعنوان (تأملات في الثقافة المصرية) في 24/ 5/ 1981 م، الموافق 6/ 1401 هـ.

ص: 92

وها هى مجلة (شعر) التي تعد أبرز حركة حداثية وأعمقها تأثيرًا في مسيرة الفكر الحداثيّ تعلن بصراحة اندماجها الكامل في النموذج الثقافيّ الفكريّ الغربي، في محاولة مكشوفة وصريحة لأوربة الشعر الحديث

(1)

، في مضامينه وأفكاره وعقائده، تمهيدًا لإنزال ذلك في سائر نواحي الحياة، وقد استوعبت مجلة (شعر) النموذج الغربيّ أعمق استيعاب، ثم جاءت به منقولًا بكامله لغرسه في أحشاء الحياة العربية، على أساس أن العودة إلى أوروبا والغرب هي عودة إلى الأصول التاريخية والثقافية في فينيقيا وما بين النهرين

(2)

.

يقول محمد جمال باروت

(3)

-وهو حداثي كبير شهير- في معرض حديثه عن مجلة (شعر) ومجموعة الشعراء التموزيين

(4)

: (أن لكل منهم دمّله وأزماته وأحلامه، ولكل منهم في الآن ذاته وعيه وحساسيته وموهبته، وعانوا جميعًا من تعدد الانتماءات، وأسهمت في تكون وعيهم أصول ايديولوجية مختلفة ومتناقضة وكانوا جميعًا يتوقون إلى المعاصرة، ولأن يلتحقوا بركب الحضارة وينخرطوا في سلك الشعراء العالميين، ويقولون بعمق العلمنة والتحديث وبلبرالية

(5)

الفكر والحوار، وبالالتصاق بالتيارات الأكثر طليعية في

(1)

و

(2)

انظر: الحداثة الأولى، لمحمد جمال باروت: ص 110.

(3)

محمد جمال باروت، ناقد من سورية، يعمل مدرسًا للغة الفرنسية فى حلب، ويكتب في النقد الأدبيّ، من وجهة نظر حداثية، مطلع على الحداثه العربية وتاريخها ومدارسها، مؤيد لها منافح عنها، لا يخلو كلامه من غمز في الإسلام واستخفاف به، ومناقضة لقضاياه. انظر: مجلة الناقد، العدد العاشر 1989 م.

(4)

نسبة إلى (تموز) وهو وثن آشوريّ بابليّ كانوا يعتقدون أنه رب المحاصيل والإنبات وأنه يموت كل شتاء ويولد في كل ربيع، وأنه كان زوجًا لعشتار أو عشيقها. انظر: معجم الأساطير: ص 236، وقد شغف الحداثيون بهذا الرمز الوثني ومثلت أسطورته المثل الأعلى لهم فانتسبوا إليه وجعلوه مثالًا للحضارة والتجدد والانبعاث وتظهر هذه الأسطورة لديهم في رموز وثنية أخرى منها: عشتار وأدونيس وأفروديت وأوزيريس وايزيس والبعل. انظر: الحداثة الأولى: ص 163 - 164.

(5)

الليبرالية مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في السياسة والاقتصاد، وينادي بالقبول بأفكار الغير وأفعاله حتى ولو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله شرط المعاملة بالمثل، والليبرالية السياسية تقوم على التعددية الإيديولوجية والتنظيمية الحزبية، =

ص: 93

الغرب. . . تعرفوا جميعًا على الأرض اليباب لأليوت

(1)

وقرأوا بنهم عجيب ادونيس أو تموز لجميس فرايزر

(2)

. . . وعلى صفحات مجلة شعر انخرطوا جميعهم في أواخر الخمسينات في النشيد التموزي مجتمعين، حتى كأنهم جماعة المصلين وقد اشتركوا في طقوس عبادة مفروضة)

(3)

.

هذه العبادة الوثنية التموزية التي استغرقت هؤلاء ليست إلّا محاكاة فجة وتافهة للغربيين الملحدين، وما سارت بها مجلات ما يسمى بعصر النهضة مثل مجلة المقتطف والهلال (والتي وجدت "روح العصر" في أوروبا

= والليبرالية الفكرية تقوم على حرية الاعتقاد "أي حرية الإلحاد" وحرية السلوك "حرية الدعارة والفجور"، وعلى الرغم من مناداة الغرب بالليبرالية والديمقراطية إلّا أنهم يتصرفون ضد حريات الأفراد والشعوب في علاقاتهم الدولية والفكرية، وما موقفهم من الكيان اليهوديّ في فلسطين، وموقفهم من قيام دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، وموقفهم من حقوق المسلمين إلّا لبعض الأدلة على كذب دعواهم. انظر: الموسوعة السياسية 5/ 566.

(1)

هو: توماس ستيرنش أليوت، ولد سنة 1305 هـ/ 1888 م، شاعر وناقد إنجليزي من أصل أمريكي، درس في هارفرد والسوربون واكسفورد، وحصل على جائزة نوبل للآداب 1367 هـ/ 1948 م، تأثر به الحداثيون العرب كما لم يتأثروا بأي شاعر آخر، وخاصمة في قصيدته الأرض اليباب، يستند أليوت إلى ثقافة نصرانية يرى فيها المستقبل، ويسعى لاقتحام الآخرين ماديًا وفكريًا. انظر: ألف شخصية عظيمة: ص 380، والموسوعة العربية الميسرة 1/ 214، وفي النقد الحديث: ص 199 - 201.

(2)

هو: جميس فريزر، اسكتلندي إنجليزي، ولد عام 1270 هـ/ 1854 م،. وتوفي عام 1360 هـ/ 1941 م، يعد في الغرب من علماء الدراسات الإنسانية الكبار، صاحب كتاب الغصن الذهبي المكون من اثني عشر مجلدًا، وموضوعه دراسة السحر والدين والأساطير، حاول فيه أن يثبت شرعية الأسطورة ويعترف أن قوله يفتقر إلى البرهان ولا يتجاوز درجة الاحتمال، ولكن المتأثرين به وخاصة الحداثيين العرب أخذوا كلامه بقطعية تامة، وترجم جبرا جزء أدونيس من الغصن الذهبي، وقد أثر جيمس فريزر في الحداثيين العرب تأثيرًا كبيرًا، فاتجهوا نحو الأسطورة وجعلوها أساسًا لمنطلقاتهم الفكرية، كذبوا بالحق لما جاءهم، وآمنوا بالأكاذيب. انظر: فوضى الحداثة للدكتور عبد الحامد: ص 192 - 195، والموسوعة العربية الميسرة 2/ 1298.

(3)

الحداثة الأولى: ص 128.

ص: 94

الليبرالية العقلانية، أوروبا الديكارتية

(1)

الدارونية

(2)

، وأوروبا روسو

(3)

والثورة البورجوازية

(4)

الفرنسية والعلمية، فقد كانت الهلال تربط عصرية النهضة بمدى قدرتها على تمثل هذه الروح، أو بما كان يسميه جورجي زيدان

(5)

(1)

الديكارتية نسبة الى ديكارت وفلسفته التي سار عليها أتباعها من بعده، حيث ادعى أنه قد شملته نشوة علمية غريبة فحلم حلمًا عجيبًا ولم يشك أنه الوحي نزل عليه حسب زعمه. حيث رأى فيه نفسه، وقد اكتشف أسس علم يرد العلوم كلها إليه ويؤلف بينها ويقيمها على الرياضيات، وشرع يؤلف "قواعد لهداية العقل" ورفض أن يكون للعلم أساس سوى اليقين المطلق، ومن هنا نشأت فلسفة الشك التي عممها على كل شيء حيث أعلن أنه ينوي الشك ما استطاع إلى الشك سبيلًا حتى يرى ما الذي يُمكن أن يصمد للشك، فما بقي فهو اليقين، ويبدأ بشكه في حواسه وعقله ثم في وجود اللَّه تعالى والماضي وقوانين الحياة، وقد أخذ الحداثيون والعلمانيون الديكارتية ليطبقوها على الدين وقضاياه وتاريخ الإسلام والتراث العربي كما فعل طه حسين. انظر: الموسوعة الفلسفية: ص 189.

(2)

الداروينية نسبة إلى عالم الطبيعة الإنجليزي داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء والاصطفاء الطبيعيّ، التي قرر فيها أن الإنسان نشأ بلا خالق، بل تكون من خلية وحيدة تطورت حتى وصل في مرحلة إلى القرد، ثم تطور ليصبح إنسانًا، وقد نالت هذه الخرافة مكانة كبيرة في الفكر والحياة الغربية ولمن سار على منوالها. انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 715، والموسوعة الفلسفية: ص 177.

(3)

هو: جان جاك روسو، ولد في جنيف عام 1124 هـ/ 1712 م، نشأ في بؤس انعكس على نفسيته فكان سيء الظن بالناس دائم التشهير بهم، شديد الكبرياء، كان بروتستنتيًا فتحول إلى الكاثوليكية، ربط نفسه بخادمة أنجبت منه خمسة أطفال دخلوا جميعًا ملجأ اللقطاء، صاحب العقد الاجتماعيّ والكتاب التربويّ أميل، وتقوم فلسفته على أساس ماديّ، وجعل العقد الاجتماعيّ هو الدين المدنيّ اللازم للمجتمع، وتوفي سنة 1192 هـ/ 1778 م بعد أن ترك أثرًا كبيرًا في الحياة الاجتماعية الغربية، وسيأتي تفصيل ذلك في ص 2091 من هذا البحث. انظر: الموسوعة الفلسفية: ص 216، ومعجم الفلاسفة: ص 299.

(4)

البرجوازية ينعت بها سكان المدن الحديثة، وهي ترمز إلى الطبقية المتوسطة والثرية وأصحاب المهن الحرة، ويضادها العمال أي البروليتاريا حسب مصطلح الماركسية، وحكومة البورجوازية حكومة رأسمالية، واليساريون هم أكثر من يطلق هذا اللفظ. انظر: المعجم الفلسفي: ص 33، ومعجم العلوم السياسية اليسر: ص 52، والموسوعة العربية الميسرة 1/ 429.

(5)

هو: جورجي زيدان، ولد في بيروت سنة 1277 هـ/ 1861 م لأسرة نصرانية، رحل=

ص: 95

بمدى قدرة العربي على تحدي الغرب وإثبات الاحتذاء به وتمثله.

كان ذلك يعني على المستوى الثقافيّ الشعريّ القول بـ "الشعر العصريّ" وإذا كان هذا القول يستمد معاييره من الغرب، فإن هذا يعود أساسًا إلى أنه كان محكومًا بالوعي البورجوازيّ الناشئ الذي رأى "الحداثة" و"العصرية" عبر أوروبا، والذي نجد له تمثيلًا نموذجيًا واضحًا في كل من "الهلال" و"المقتطف". . .

لا شك أن هذا الوعي كان يستجيب لتفكيك العلاقات الإقطاعية وانحلالها، ويدعم تقويضها ايديولوجيًا في النزوع إلى بنية اجتماعية ثقافية جديدة، تقوم على الحداثة والعلمنة، وعلى التحول من اللاهوت إلى العقل، ومن الذهنية التقديسية إلى الذهنية التاريخية، ومن الذهنية الدينية إلى الذهنية العقلانية الديكارتية والدارونية. . .)

(1)

. فهذا هو المستند الاعتقاديّ القائم على التبعية الكاملة للغرب هو الذي أودى بالأتباع المحاكين للغرب في مهاوي الإلحاد والكفر والضلال.

وهذا التحول الذي يشير إليه النص السابق هو أساس الانحراف الاعتقاديّ، وثمرة التبعية والمحاكاة للغرب، وكونهم يتحولون من اللاهوت إلى العقل ومن الذهنية التقديسية إلى الذهنية التاريخية ومن الذهنية الدينية إلى الذهنية العقلانية، كل ذلك يعني أنهم لا يطّرحون الدين الإسلامي جانبًا فحسب بل ويطّرحون -تبعًا لأساتذتهم- كل أسس الاعتقاد الدينيّ الإسلاميّ من إثبات لوجود اللَّه وتوحيده وربوبيته والرسل والمعاد والغيبيات.

= إلى مصر واشتغل بالصحافة وفي سنة 1309 هـ/ 1892 م أسس مجلة الهلال التي لعبت دورًا كبيرًا في نشر التغريب والعلمانية الفكرية والسياسية، كما أسس دار الهلال للطباعة والنشر وما زالتا تقومان بما أسست عليه، توفي في القاهرة 1332 هـ/ 1914 م عن 53 سنة، له مؤلفات كثيرة في تاريخ آداب اللغة وسلسلة من الروايات التاريخية تزيد عن العشرين ملأها بالدس والتزوير والكذب على تاريخ الإسلام، يعتبره الحداثيون والعلمانيون أحد مؤسسي النهضة الصحفية والأدبية في البلاد العربية. انظر: المرشد لتراجم الكتاب والأدباء: ص 84، والصراع بين القديم والجديد 2/ 1250.

(1)

الحداثة الأولى: ص 148.

ص: 96

علمًا بأن أدباء الحداثة لا ينفون مطلقًا التبعية للغرب، والانتماء إليه فكريًا وثقافيًا واعتقاديًا، وهذا ما يقرره محمد مندور

(1)

في مقدمة الأدب ومذاهبه، يقول:(لا شك أن الأدب العربيّ الحديث قد تأثر بالآداب الغربية تأثيرًا يفوق تأثره بالآداب العربية القديمة، وذلك منذ أن أخذ العرب يتصلون بالعالم الغربيّ سواء بواسطة المبشرين والمحتلين ورجال المال والتجارة الذين وفدوا إلى بلاد العرب، أو بواسطة البعثات العلمية التي أرسلتها البلاد العربية إلى البلاد الغربية، وكان هذا التأثير إمّا عن طريق الترجمة وإمّا عن طريق القراءة في اللغات الأصلية للآداب الغربية)

(2)

.

ويقول في موضع آخر: (. . . إن كل حركات التجديد التي نشأت في الأدب العربي المعاصر إنّما تستمد في الغالب وحيها من الآداب الأجنبية. . .)

(3)

.

وهذا الاستمداد من الآداب الغربية ليس مقصورًا على الأنماط والأشكال والأساليب كما يتوهم بعض التلفيقيين، بل هو ممتد إلى الأفكار والعقائد والمضامين، بل إن هذه هى أولى ما بدأ النَقَلَة العرب المعاصرون باعتناقه ونقله ونشره، وهم يعرفون ذلك ويؤكدون حصوله، ويعترفون بأن ما يقومون به ليس إلّا انعكاسًا كليًا لمرآة الحداثة الغربية، وأنه انقياد وامّحاء كلي أمام نماذج الغرب

(4)

.

(1)

هو: كاتب وناقد مصريّ وأستاذ جامعيّ متخصص في الأدب والنقد، ولد سنة 1325 هـ/ 1907 م، وتوفي سنة 1384 هـ/ 1965 م أكمل دراسته العليا في فرنسا، رأس تحرير جريدة المصريّ والوفد المصريّ وصوت الأمة وانتخب في البرلمان المصريّ، كان مهتمًا بالمسرح، ملمًا باللغة اليونانية، غزير الثقافة، غربيّ النزعة، ومدافعًا عن أهل الانحراف مثل لويس عوض وأشباهه، تعاون مع المنظمة العالية لحرية الثقافة. انظر: الصراع بين القديم والجديد 2/ 1278، وأباطيل وأسمار: ص 464 - 481، وتوفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى: ص 140.

(2)

الأدب ومذاهبه - محمد مندور: ص 30.

(3)

المصدر السابق: ص 4.

(4)

انظر: كتاب قضايا وشهادات: الحداثة ص 2، الوطني الاختلاف حداثة الآخر 3 شتاء 1991 م/ الموافق 1411 هـ ص:215. =

ص: 97

وقد اعترف بعضهم بالسذاجة لهذه التبعية العمياء للغرب، فقال:(لقد كان التحديث -ويا لسذاجتنا نحن التقدميين- شعارًا شافًا وأحيانًا شفافًا لإنجاز التبعية الكاملة للغرب. . . وكلما ازدادت هذه الحداثات وكلما كانت حداثتها أحدث، ازددنا تبعية للرأسمالية العالمية. . . إن الحداثة في مثل هذه البلاد ليست ظل الثورة الممكنة والمضاعة فقط، بل إنها عنصر قمع وتطويق لأي إمكانية ثورية لم يخنقها القنوط بعد، هذه الحداثة هي أداة للاستبداد وامتداد له، وهي أيضًا أداة للآخر المستعمر الملحد الماديّ وامتداد له. . .)

(1)

.

وهذا الاعتراف الخطير من أحد أعلام الحداثة المنافحين عنها والمقاتلين في سبيلها، يؤكد ما سبق ذكره من أن الحداثة العربية ليست إلّا نسخة مترجمة عن الحداثة المادية الغربية الملحدة، ثم نسمع بعد ذلك كيف ترتفع عقائر هؤلاء في مدافعة هزلية عن أنفسهم ومذاهبهم الباطلة التي لم يكن لهم فيها أي دور إلّا دور الذبابة الناقلة للجراثيم.

ومما لا مجال للريب فيه أنهم ينظرون إلى الحداثة على اعتبار أنها نظرية شاملة ومنظومة متكاملة (لا تخص الشعر وحده بل تشمل مختلف حقول النشاط الإنسانيّ)

(2)

، ويعتبرون الغرب هو المحضن الأساسي والمرجع الحضاريّ والعقديّ لفكرة الحداثة.

وإذا أخذنا يوسف الخال

(3)

-وهو نصراني لبناني- نموذجًا لهذا

(1)

المصدر السابق 2 صيف 1990 م: ص 22 من مقال لسعد اللَّه ونوس بعنوان (الحداثة والتحديث).

(2)

الحداثة في الشعر، ليوسف الخال: ص 17، دار الطليعة بيروت - الطبعة الأولى 1398 هـ/ 1978 م.

(3)

يوسف الخال ولد في قرية عمار الحصن في وادي النصارى غرب سوريا عام 1338 هـ/ 1920، وتعلم الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت، هاجر إلى أمريكا وسكن نيويورك، ثم عاد إلى لبنان وفتح دارًا للنشر سماها دار "مجلة شعر" وبعد عودته من أمريكا بسنتين وذلك في عام 1376 هـ/ 1957 م أصدر بيان الشعر الذي اعتبره الحداثيون العلامة البعيدة لوعي مغاير، وكانت مجلة شعر تمول من قبل منظمة =

ص: 98

الاتجاه الاتباعيّ للغرب، وهو مؤسس كبير من مؤسسي الحداثة في البلاد العربية فإنا نجده كما قال عنه الحداثي الآخر محمد جمال باروت (ينظر الخال إلى "الحداثة" عبر "الغرب اللبراليّ" إذ يحضر الغرب في هذه النظر بوصفه عالميًا كونيًا شاملًا، ويعود ذلك بالنسبة للخال إلى أن "الغرب" نتاج العقل الذي يتميز بكونية وشمولية قوانينه. . .)

(1)

.

ثم ينقل باروت نصًا ليوسف الخال يؤكد هذه النظرة الارتمائية وفيه يقول: (الحضارة الغربية هي حضارتنا نحن بقدر ما هي حضارة الفرنسيّ والألمانيّ والروسيّ. . . إلخ، ونحن لا قيمة لنا في العالم العربي إن بقينا خارجها، ولم نتبنها من جديد ونتفاعل ونفعل بها أن هذه الحضارة هي نحن بقدر ما هي هم)

(2)

.

وفي الحقيقة أن هذه النظرة التي صرح بها الخال وكان جريئًا في طرحها هي النظرة نفسها التي ارتمى فيها معظم الحداثيين، والفرق أنه صرح وبعضهم يلمح، في حين أنهم أجمعين يرون جوهر النهضة هو في الغرب فكرًا وعقيدة وسلوكًا ونظمًا ومذاهبًا، وفي قراءتي المتنوعة لأدب الحداثة وفكرها لم أجد من خرج منهم عن هذه النظرة، وإن كان بعضهم ينتقد المسارعة في الارتماء، والإغراق في التصريح بذلك، غير أن الجميع عن منهل واحد يرجعون بكل ما في هذا المنهل من أخلاط وأوشاب، وحول موائد الغرب يطوفون في ذلة وخضوع.

وليس هذا الذي يقوله الحداثيون اليوم إلّا ثمرة لبذور قديمة بثها من

= تابعة للمخابرات الأمريكية وقامت هذه المجلة وأصحابها وعلى رأسهم الخال وأدونيس وأنسي الحاج بدور كبير في ترسيخ الانحرافات العقدية والسياسية والاجتماعية، وكانوا يحملون حقدًا شديدًا على الإسلام واللغة العربية، وينادون بإلحاق بلاد العرب بالغرب، كما أن يوسف الخال لم يتخل عن نصرانيته، هلك وما زال أتباعه يقتفون أثره ومنهم رياض نجيب الريس صاحب مجلة الناقد. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث ص 307، ورأيهم في الإسلام: ص 23، وأسئلة الشعر: ص 147.

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990/ الموافق 1410 هـ: ص 254.

(2)

المصدر نفسه: ص 255، والنص مأخوذ من شعر عدد 15: ص 138 - 139.

ص: 99

قبل طه حسين

(1)

ولطفي السيد

(2)

، القائل في جريدة "الجريدة" التي كان يصدرها في مصر إبان الاحتلال الإنجليزي:(إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر، ولا ينبغي أن نحاربهم ونقاومهم، إنّما واجبنا أن نتعلم منهم، ثم نتفاهم معهم بعد ذلك تصفية ما بيننا من خلافات)

(3)

.

وهو المعنى نفسه الذي دعا إليه طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر فالطريق عنده (واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي أن نسير مسيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها وما يجب منها وما يكره. . . ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع)

(4)

.

ويشير أحد الحداثيين إلى هذه التهمة الموجه إلى طه حسين وإلى غيره من الحداثيين بشيء من التفصيل النظريّ التسامحيّ التبريريّ فيقول: (ومن التهم التي رددها رشيد رضا

(5)

. . . . . .

(1)

الكاتب والمفكر العلمانيّ المشهور، تخرج من الجامعة المصرية ثم درس في السوربون في باريس حيث عاد بالمناهج الغربية ليقوم ببثها في بلاد المسلمين، تولى عمادة كلية آداب القاهرة، ثم وزارة التعليم، ألف كتبًا عديدة من أشهرها "مستقبل الثقافة في مصر" الذي نفى فيه أن تكون مصر جزءًا من البلاد العربية بل هي عنده جزء من أوروبا، وكتابه في "الشعر الجاهلي" الذي أثار ضجة كبيرة، ورد عليه جملة من المسلمين، عرف عنه شغفه باليونان وبالحياة الغربية وسعيه الشديد في إلحاق بلاد المسلمين بالغرب، توفي في القاهرة سنة 1393 هـ. أنظر: الأعلام 3/ 231.

(2)

حقوقي وكاتب صحافي وسياسيّ مصريّ، ولد سنة 1288 هـ/ 1872 م، اشتهر بلقب أستاذ الجيل، شغل رئاسة مجمع اللغة العربية في القاهرة، وقبل ذلك رئاسة الجامعة المصرية، من أوائل دعاة التغريب وطلائع شداة العلمانية. انظر: الصراع بين القديم والجديد 2/ 1252.

(3)

نقلًا عن كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب: ص 307.

(4)

مستقبل الثقافة في مصر: ص 54، نقلًا عن مقال لبها طاهر بعنوان صورة الغرب في أدب طه حسين في كتاب قضايا وشهادات 1/ 181، وهو مقال مسخر للدفاع عن طه حسين وهذا الطرح المهين وأمثاله.

(5)

هو: محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين القلموني البغدادي الأصل الحسيني النسب، ولد سنة 1282 هـ، وتوفي سنة 1354 هـ، صاحب مجلة المنار، =

ص: 100

ومصطفى صادق الرافعي

(1)

بتبعية طه حسين للغرب، وأنا لا أبريه من شيء من ذلك لا سيما في شبابه، وهو كداعية حداثة لابد أن يتأثر بالثقافة الغربية ويضعها في مركز القدوة، ولا إشكال في ذلك، لولا أن الكثير من الحداثيين لا يفرقون بين الثقافة الغربية والايديولوجيا الغربية، بين المثقف الغربيّ بنزعته العلمية وأفقه الإنسانيّ الحضاريّ الواسع، وبين المؤدلج الغربيّ الملحق بماكينة الاستعمار،. . . ولم يكن لطه حسين من الوعي السياسيّ ما يمكنه من إدراك هذا الفرق الدقيق بين الايديولوجيا والثقافة في الموقف من أوروبا، ومما يعقد الحال انتماؤه في ذلك الوقت إلى حزب الأحرار الدستوريين وهو حزب موالٍ للإنجليز كان يضم في نفس الوقت عدد

(2)

من المثقفين العصريين ممن تعذر عليهم أن يفهموا طبيعة الاستعمار وأهداف الإنجليز في مصر بسبب تعلقهم الساذج بالثقافة الغربية)

(3)

.

وعلى الرغم مما في هذا النص من مغالطات واضحة، إلّا أن المهم فيه إثبات ما سبق ذكره من أن التبعية الثقافية لدى تلامذة الغرب ليست فقط في المجال الثقافيّ أو النظريّ، بل كان حتى في الجانب الاعتقاديّ

= انتقل من القلمون من أعمال طرابلس الشام إلى مصر سنة 1315 هـ، ولازم محمد عبده وتتلمذ عليه، بث آراءًا إصلاحية وأصبح مرجع الفتيا، واهتم بالتوفيق بين الشريعة والأوضاع العصرية، ألف تفسيرًا للقرآن ولم يكمله والوحي المحمدي وغيرهما. انظر: الأعلام 6/ 126.

(1)

هو: مصطفى صادق بن عبدالرزاق بن سعيد بن أحمد الرافعي، أديب العربية غير منازع، ورأس بلغاء العصر، ومقدم المنافحين عن الإسلام إزاء المنحرفين من الأدباء والكتاب، ولد سنة 1298 هـ/ 1880 م لأسرة مشهورة بالقضاء في مصر، وأصله من طرابلس الشام، شاعر وناثر ونثره أجود من شعره، له مواقف قوية ضد طه حسين وأعداء اللغة والدين، على هنات في بعض كتاباته وسلوكياته، إلّا أنه كان لا يساوم على مبدأ الدين ولا على قضية اللغة العربية، له كتب كثيرة شهيرة كلها تدل على طول باع في اللغة وقدرة عالية على جودة الإنشاء، توفي رحمه الله سنة 1356 هـ. انظر: الأعلام 7/ 235، وتاريخ الشعر العربي الحديث: ص 104.

(2)

هكذا والصواب: في الوقت نفسه، وعددًا بالنصب.

(3)

من مقال بعنوان (طه حسين والتعصب الديني) قضايا وشهادات 1/ 330 لهادي العلوي.

ص: 101

"الايديولوجيّ"

(1)

حسب تعبير النص السابق، بل وحتى في الجانب العمليّ السياسيّ، وذلك من طبائع الأمور، فإن من اعتقد عقيدة قوم فلابد أن يحبهم ويجلهم ويعظمهم ويواليهم، وينتمي إليهم عضويًا في السياسة والعمل والنظام، وهذا ما حدث فعلًا عند أتباع الغرب من أبناء المسلمين، فها هو الطهطاوي ركيزة الانطراح الأول والتبعية الأولى كان (إبان احتال الجزائر يقيم في فرنسا، ولم يعتقد أن هناك معنى للقول بأن أوروبا خطر سياسيّ، ذلك أن فرنسا وأوروبا لم تسعيا في نظره وراء القوة السياسية والتوسع بل وراء العلم والتقدم الماديّ. . . فكتب عنها بإعجاب. . . وحين احتلت الجزائر كان الطهطاوي هناك، فلم ينل الحدث إهتمامه وأوجز رؤيته لاحتلال الجزائر بالقول: إن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنّما هو مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات منشؤها التكبر والتعاظم

(2)

،

وأغرب ما في الأمر أن بعض الحداثيين الذين أحسوا بفضاعة الارتماء في أحضان الغرب وخطورة الذوبان وانطماس الهوية الذاتية مع شعورهم هذا وتوصيفهم لهذه المشكلة يصرون أيضًا -في الوقت ذاته- على ضرورة الأخذ عن الغرب، ويهاجمون بشدة ما يسمونه التيار التقليدي السلفيّ، فها هو أحدهم يقول: (إن الاقتحام الاحتلالي للغرب بنظامه الرأسماليّ يفترض تقويض الأبنية من فكرية وسلوكية ومعمارية، ويفترض تهميشًا للوجود الذي تم اقتحامه واكتشافه والتعرف عليه، وسينسب هذا الوجود منذ ذلك الحين بكل ظواهره إلى المركز الغربيّ، وسيمتد معقوليته أو عدم معقوليته من وجهة نظر هذا المركز لا من تركيب داخلي لتاريخه الخاص، لقد انتهك

(1)

الايديولوجي نسبة إلى الايديولوجيا، وهي الأحكام والاعتقادات الخاصة بمجتمع ما في لحظة ما، وهي نظام يمتلك منطقه وصرامته ومعاييره وأحكامه، وعلم الايديولوجيا هو علم الأفكار وموضوعه دراسة الأفكار والمعاني وخصائصها وقوانينها والبحث عن أصولها. انظر: المعجم الفلسفي: ص 29، والمفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة: ص 113، ومعجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص 41.

(2)

بحثًا عن الحداثة، لمحمد الأسعد: ص 106.

ص: 102

تاريخه وأعيد تركيبه ليلائم حاجات المشروع الاقتحاميّ، وهنا سيتحقق شيء ظل خافيًا أمدًا طويلًا على أذهان المقاومين العرب من إحيائيين وليبراليين ودعاة تقنية، وهو أن الغرب لم تكن وجهته أن يركّب الوجود العربيّ على غرار صورته، وإنما أن يخلق تركيبًا جديدًا. . . إن طموحه هو أن يقيم عالمًا ثالثًا، عالمًا آخر هو غير الغرب وغير الشرق في آن واحد، ومعنى ذلك تأسيس شروط هوية جديدة للجسد المستعمر، هي من صنع هذا الغرب ذاته ولكنها ليست هو. . .)

(1)

.

وهذا الكاتب نفسه يقول في موضع آخر من كتابه عن أسباب النهضة ومقوماتها وأنها (تتمحور حول انفصال لا يقبل الجدل بين قيمتين: القيمة الروحية والقيمة العلمية، أو القيم الايديولوجية والقيم التقنية، فأتيح بهذا الانفصال للمصلح النهضويّ المجال لكي يتحدث عن أسباب التقدم الصناعيّ والتحديث)

(2)

.

فهذا القول ليس إلّا تقمصًا مزريًا وتقليدًا مكشوفًا للغرب في عقيدته اللادينية التي تفصل الدين عن الدنيا والتحضر والنظم، ولهذا نجد هذا الكاتب يثرب على المسلمين الملتزمين بدينهم تفسيرهم الدينيّ للتخلف والتقدم، ويعتبر ذلك تفسيرًا خارجًا عن المشكلة

(3)

، بل لقد اعتبر الإيمان بالقدر خرافة

(4)

، والغيبيات من آليات الثقافة الخرافية

(5)

، وأن أساسيات الثقافة الموروثة تقف أمام التحرر وتؤدي إلى افتقاد الإنسان حريته وهذه الأساسيات هي اللَّه تعالى والقدر والنظام الإسلامي والحاكم بهذا النظام، والوحي المنزل من اللَّه

(6)

، إلى آخر أقاويله الفاسدة.

فإذا كان هذا هو حال من تكشّف له الانحراف الارتمائيّ في أحضان

(1)

المصدر السابق: ص 128.

(2)

المصدر السابق: ص 11.

(3)

انظر: بحثًا عن الحداثة: ص 63.

(4)

انظر: بحثًا عن الحداثة: ص 66.

(5)

و

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 66 - 67.

ص: 103

الغرب، وهو مع ذلك يردد عقائد الغرب وأفكار الغرب وينادي بالإلحاد ويعتبر يقينيات الدين خرافة، فما بالك بمن ارتمى وهو متشبع بمحبة الغرب ومنجذب إلى كل شيء فيه ببلاهة عمياء؟! لابد أنه سيقول ما قاله يوسف الخال في قصيدة بعنوان شعاع ويقصد به الغرب:

(بزغت فكان أروع ما تجلى

على لبنان من أمدٍ وهلَّا

يعيد إلى ربانا الغرب كهلَّا

يعلمنا - وعلمناه طفلا

فبدد عن شواطئنا الليالي

وعاد بنا على الدنيا مطلا

شعاع الغرب أين وطأت سهلًا

وأين نزلت في لبنان أهلا

شعاع الغرب أي شعاع خير

له في كل جارحة مصلى

مددت يدًا نصافحها وفاءً

فأنت أحق من يوفي وأولى)

(1)

.

وعلى هذا النحو من التبجيل للغرب والارتماء الواله به وبما لديه سارت قوافل الأتباع تحاكي وتنقل إلى بلاد المسلمين فضائح انحطاطها وعبوديتها للغرب، إلى حد أنهم زعموا أنه لا يوجد شيء اسمه الغزو الفكريّ، وبعضهم يقر بوجود غزوِ ولكنه يقول:(يجب ألّا نقاوم أي غزو ثقافي أكان أمريكيًا أو حتى إسرائيليًا)

(2)

.

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 86 - 88، وهي أبيات من ذات الشطرين ولكنها في ديوانه مطبوعة على هيئة شعر التفعيلة.

(2)

القائل يوسف إدريس في كتاب رأيهم في الإسلام: ص 96.

ص: 104

وفي سبيل تسويغ الأخذ عن الغرب تجري شبهات التبرير المتعددة، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: المزج بين التقنية والفكر، والقول بأننا إذا أخذنا التقنية الغربية وجب علينا أن نأخذ معها العقائد والأفكار، وهذا ما يؤكده كثير من الحداثيين، ومن ذلك -مثلًا- قول أدونيس

(1)

: (إننا اليوم نمارس الحداثة الغربية على مستوى تحسين الحياة اليومية ووسائله، لكننا نرفضها على مستوى تحسين الفكر والعقل، ووسائل هذا التحسين، أي أننا نأخذ المنجزات ونرفض المبادئ العقلية التي أدت إلى ابتكارها، إنه التلفيق الذي ينخر الإنسان العربي من الداخل)

(2)

.

ولست هنا بصدد الرد على هذه المغالطة الواضحة في الخلط بين التقنية والعقائد، ولكن فلننظر ما الذي أخذه أدونيس وسائر الحداثيين من الغرب فيما يخص ما نحن بصدده في هذا الفصل وهو توحيد الربوبية.

لقد قام الفكر الغربي الحديث في جانب كبير منه على إنكار وجود اللَّه سبحانه وتعالى، وخضوعًا لمذاهب فلسفية تقدس الحس وتعلي شأنه

(1)

أدونيس، علي أحمد سعيد أسبر النصيريّ الباطنيّ الملحد، ولد سنة 1349 هـ/ 1930 م في جبال العلويين في سوريا، تسمى بأدونيس نسبة إلى وثن الخصب اليونانيّ، سماه بذلك أنطون سعادة زعيم الحزب القوميّ السوريّ، الذي كان أدونيس أحد أعضائه، شارك في تأسيس مجلة شعر، ورأس تحريرها ثم أسس مجلة مواقف، عمل أستاذًا للأدب العربي في الجامعة اللبنانية، وما زال، نال شهادة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف في بيروت، وكانت أطروحته بعنوان "الثابت والمتحول" وهو تلمود الحداثة، اهتم فيه بتهديم الدين الإسلاميّ واللغة العربية، يعتبر أدونيس أستاذًا للحداثيين وقدوة لهم، وكبيرًا من كبرائهم، يحتذون أثره، ويتبعونه في تقديس وإجلال كبيرين، عقيدته خليط من أصله النصيريّ، وحاله الماديّ الإلحاديّ، مغرم بكل عدو للإسلام، ومبغض بحقد طافح لدين اللَّه وكل ما يتعلق به من قضايا، مجاهر بذلك غير مستتر به، ويرى أن الحداثة لا تقوم إلّا على هذه الأسس وهو باختصار أكبر طواغيت هذا الزمن، وأشهر عتاة الإلحاد وأظهر عداة الدين والإيمان، وقد انتحل مجموعة من الأعمال الغربية ونسبها لنفسه. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 698، والإسلام والحداثة: ص 415، ورأيهم في الإسلام: ص 31، والصراع بيت القديم والجديد: 2/ 1233، وأدونيس منتحلًا لكاظم جهاد.

(2)

الثابت والمتحول 3/ 268.

ص: 105

وتقدمه على كل المعارف اليقينية العقلية والمعنوية، بل إن بعضها يلغي تمامًا أي شيء عدا المعرفة الحسية الظاهرية المنقولة بالحواس الخمس، أمّا ملكات العقل وضروراته ولوازمه ومعطياته فإنهم يؤمنون منها بما يخدم المذهب الحسيّ الظاهريّ مثل قدرة العقل على تسجيل الظواهر وخزنها في الذاكرة واختبارها بالتجربة ونحو ذلك، وما عدا ذلك -وهو كثير- لا يوقنون به، مع أن (المعرفة البشرية:

1 -

معرفة اضطرارية لا تفتقر إلى برهان، ولها ثلاثة مصادر: الحس، وأوائل العقل التي لا تفتقر إلى الحس، والإلهام.

2 -

ومعرفة تكتسب بالبرهان، وهذه مصدرها الحس وأوائل التمييز؛ لأنها تستمد برهانها منهما أو من أحدهما، وهذه المعرفة يتوصل إليها بالبرهان وهو شاهدة الأثر والاستدلال به، مع ضرورة صدق الناقل، وهي على قسمين من جهة الحكم والتصديق عقلية وهي ما أقنع العقل من حس وخبر واستدلال، وغير عقلية وهي ما لم يقنع العقل من حس خاطئ وشرع مدسوس، وإشراقة كاذبة)

(1)

.

والماديون والملاحدة ينكرون الأديان ووجود اللَّه تعالى والكتب المنزلة مع أن إثباتها ضرورة عقلية اضطرارية ونفيها سفسطة، ويوجد من معارفهم ما يناقض دعاواهم الإلحادية، (فإن الماديين من التجريبيين والوضعيين الذين يقولون لا نؤمن بإله غير منظور ولا ملموس ولا مذوق إلى آخر كلامهم محجوجون: بأن الأثير يملأ الفضاء ويبلغنا الضياء ويحمل الأصوات من وراء الجدار وهو غير ملموس ولا منظور ولا مذوق ولا مشموم ولا مسموع والمادة غير محسوسة، وكذلك الموت والروح كل ذلك غير محسوس بالحواس الخمس ومع هذا فلم تهدر حقيقتها، وإن من ينكر حقيقة ما ذكرنا علمًا ضروريًا، ونقول لهؤلاء: ما أدركتموه هل له حقيقة أم لا؟ فإن قالوا: له حقيقة نقضوا أصلهم إذ آمنوا بما لم تدركه حواسهم، وإن قالوا: لا حقيقة

(1)

لن تلحد، لأبي عبد الرحمن الظاهري: ص 33 - 34 بتصرف يسير.

ص: 106

له كذبوا إذ بينت حواسهم أن له حقيقة)

(1)

.

أصبح الإلحاد ظاهرة مرضية منتشرة بين الناس، وخاصة بعد أن قامت دول بتبنيه وتعليمه ونشره والدعاية له والقتال من أجله مثل دولة الاتحاد السوفيتي البائدة، ومن سار في فلكها من دول شرق أوروبا، ومخيرها من دول ما يسمى بالعالم الثالث، ودولة الصين والمنظمات والأحزاب الشيوعية التابعة لكل من السوفييت والصين، أمّا في أوروبا الغربية وأمريكا فإن الإلحاد يتمثل في مدارس فكرية ومناهج فلسفية ومذاهب أدبية وفلاسفة ومفكرين، وكتاب وإعلاميين، وكثير من المثقفين الذين تأثروا بظاهرة الإلحاد الوبائية التي ساعد في انتشارها الإعلام بأجهزته المختلفة، من خلال الترويج لأفكار الملاحدة وإعطائهم بريقًا وجاذبية، وإضفاء صفات الإجلال والإكبار عليهم وإلباس أقاويلهم الباطلة سرابيل الحقائق العلمية والبراهين العقلية دجلًا وخداعًا، في مجتمعات يشكل الإعلام فيها عقليات الناس تشكيلًا عجيبًا، وهكذا سقطت أوروبا النصرانية في معظم بلدانها في شرك الإلحاد باسم العقلانية والعلمانية، وساعد في ذلك قوة وإحكام المكر اليهودي الذي وصف اللَّه أصحابه بأنهم {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}

(2)

.

إضافة إلى ما سبق ذكره من أسباب جاءت من جهة فساد الكنيسة واستجدادها، وطغيان رجال الدين النصراني وانحرافهم في العلم والعمل والسلوك.

ومع توجه العالم الأوروبيّ وتحركهم ضد العالم الإسلامي في عمليات الاستلاب والانتهاك للمسلمين عسكريًا وسياسيًا وفكريًا، ركزوا جهودهم لسلخ المسلمين عن دينهم، وإبعادهم عن عقيدتهم تحت شعارات التحرر والتحديث والعقلنة والتمدن والحضارة، واستطاعوا أن يجدوا من أبناء المسلمين من يؤمن بالإلحاد وينادي بالكفر، ورأى الغرب في هؤلاء خير وسيلة لمحاربة المسلمين ودينهم بأقوام من بني جلدتهم ويتكلمون بألسنتهم،

(1)

المصدر السابق: ص 58 - 99.

(2)

الآية 64 من سورة المائدة.

ص: 107

أذلة على الكافرين أشداء على المسلمين، عقولهم مسترقة، وأفئدتهم مستعبدة، وأفكارهم مستوردة، أطوع في أيدي الأعداء من الأجهزة المبرمجة، وأسرع في تنفيذ مخططاتهم، وأكثر تلونًا ومكرًا وكيدًا لأمة الإسلام من الأعداء الأصليين.

الحداثيون الملاحدة -محل البحث هنا- أكبر مثال على هذا، وعند التأمل في أقوالهم واعتقاداتهم لا نجد أنهم بارحوا أئمة المادية الإلحادية، وإذا أردنا بحق أن نعرف خلفيات الانحرافات الاعتقادية والفكرية والسلوكية عند هؤلاء فإننا لابد أن نطلع على المذاهب والعقائد والفلسفات الغربية لنجد أن أتباعهم من أبناء المسلمين ليسوا إلّا مسخًا عربيًا لأئمة الانحرافات الغربية.

فمثلًا في قضية وجود اللَّه -جل وعلا- وربوبيته تعالى لا يخرج ملاحدة الحداثة العربية عن دائرة المذاهب الشكية

(1)

واللاأدرية

(2)

والمادية

(3)

(1)

الشكيّة: تصور فلسفيّ قريب من اللاأدرية، والشكية كعقيدة فلسفية انبعثت خلال أزمة المجتمع القديم. . . وكانت هناك اتجاهات شكية مختلفة في الفلسفة الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبصفة عامة لعبت النزعة الشكية دورًا هامًا في دحض العقائد القطعية. . .، ومن ثم مهدت الأرض لاعتناق المادية.

والشكية الريبية الحديثة (المذهب الوضعي والمذهب العلمانيّ) تتمثل في التصديق بما تنقله الحواس، وفي إثبات حقيقة العالم الماديّ لا غير، وفي الشك في وجود اللَّه. انظر: الموسوعة الفلسفية من وضع لجنة من الأكاديميين السوفييت، ترجمة: سمير كرم: ص 264، ومعجم المصطلحات والشواهد الفلسفية لجلال الدين سعيد: ص 258 - 260، والموسوعة الفلسفية للحنفي: ص 433 - 434.

(2)

اللاأدرية: مذهب فلسفي مشتق من كلمة لا أدري، ويسمى اللاعرفانية، ويقوم على الإنكار الكلي أو الجزئي لإمكان معرفة حقيقة الأشياء أو البت في المسائل الماورائية كوجود اللَّه ونهاية الكون، وظهرت هذه النزعة مع بيرون والسوفسطائيين، واللاأدرية بمعناها العام هي وجهة النظر التي تنكر إمكان التأكد من وجود اللَّه تعالى، ويقولون بأن إثبات وجود اللَّه تعالى أو إنكاره مستحيل، يعتبر الإنجليزي توماس هكسلي 1240 هـ - 1312 هـ/ 1825 م - 1895 م أول من صاغ أصطلاحات اللاأدرية، واستُخدم هذا المذهب بشكل واسع في فلسفة القرن التاسع عشر. انظر: معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية ص 387، والموسوعة الفلسفية لجماعة من علماء السوفييت: ص 402، والموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحنفي: ص 390، 426.

(3)

المادية: اتجاه فلسفيّ وضعيّ يقرر بأن لا وجود لأي جوهر غير المادة، فجميع =

ص: 108

بجوانبها العديدة وأوجهها المتنوعة: المادية الاقتصادية

(1)

، والمادية التاريخية

(2)

، والمادية الجدلية

(3)

، وكل ما انبثق عن هذه الشجرة

= الظواهر النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية إنّما يفسرها الوجود الماديّ، ويتضمن المذهب الماديّ أن هذا العالم أبديّ، وأنه لا محدود في الزمان والمكان، والمادية تذهب إلى أن الوعي نتاج للمادة وانعكاس للعالم الخارجيّ، ظهرت المادية في عدة مدارس وفلسفات وتوجهات في الغرب منذ ما يسمى عصر النهضة ثم تطورت المادية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، واحتلت الفلسفة المادية الفرنسية الدور الأكبر على يد لامتري وديدرو وهلفيتوس وهولباخ، والتزموا بالمفهوم الآليّ للحركة على اعتبار أنها صفة كلية غير قابلة للتعبير، وكانت الرابطة العضوية قائمة بين كل أنواع المادية والإلحادية وبلغت الذروة في فلسفة فيورباخ القائلة بالمذهب الطبيعي ثم وصلت أقصى حد لها في المادية الماركسية المادية الجدلية القائمة على الإلحاد وجحد وجود اللَّه تعالى. انظر: معجم المصطلحات: ص 405، والموسوعة الفسلفية: ص 429 - 431.

(1)

المادية الاقتصادية: فرع من الفلسفية المادية، ويقوم على اعتبار الاقتصاد القوة الوحيدة في التطور الاجتماعي، وتعتبر الماركسية أظهر أنصار المادية الاقتصادية. انظر: الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 431.

(2)

المادية التاريخية: فلسفة التاريخ التي تقول بها الماركسية، وهي جانب تطبيقي للمادية الجدلية في مجال دراسة المجتمعات، وترد حركة التاريخ إلى تطور قوى وعلاقات الإنتاج في المجتمع وتاريخ التطور الاجتماعيّ هو تاريخ الإنتاج الماديّ، وتاريخ منتجي الحوائج المادية وتاريخ الجماهير العاملة، والمادية التاريخية جزء مكون للفلسفة الماركسية اللينينية، ويعتبرونه العلم الذي يدرس القوانين العامة للتطور الاجتماعيّ وأشكال تحققه في نشاط الناس التاريخيّ، على أساس ماديّ بحت وليس لأي قوة خارج المادة أي أثر في ذلك مطلقًا. انظر: الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحنفي: ص 407، والموسوعة الفلسفية للسوفييت: ص 431، ومعجم المصطلحات والشواهد: ص 405.

(3)

المادية الجدلية: النظرية العامة للماركسية اللينينية صاغها ماركس وإنجلز ولينين، أمّا ماوتس تونج فماركسيّ المذهب قليل البضاعة في الفلسفة، وقد أخذ ماركس وإنجلز المادية عن فيورباخ والجدل عن هيجل، واعتبر الفكر انعكاسًا للواقع وليس العكس، وفي التفكير الماديّ الجدليّ إن الوجود كله وحدة متماسكة تترابط فيه الأشياء والأحداث ارتباطًا عضويًا وفي حالة حركة وتجدد دائمين، فهناك باستمرار شيء يولد ويتطور، ولا تعتبر المادية الجدلية مجرد نظرية بل دعوة ومنهاج وبرنامج عمل وعقيدة؛ ولذلك فالماديّ الجدليّ بالضرورة اشتراكيّ ملتزم بالنضال الصريح والعنيف ضد العقائد =

ص: 109

الخبيثة من آداب وأفكار ومذاهب أدبية، ومدارس نقدية ومناهج فكرية وممارسات عملية، كما أنهم تأثروا بالمذهب الطبيعي بشتى اتجاهاته

(1)

، والمذهب العقلاني المؤله للعقل والمستبعد لما وراء الطبيعة أو تفسيرها تفسيرًا عقليًا ماديًا

(2)

، وانساقوا وراء الوضعية بتياراتها المختلفة الوضعية الجديدة أو الوضعية المنطقية، والوضعية المنطقية الأخلاقية

(3)

.

= الأخرى وخاصة الأديان وكل الغيبيات، وتقوم عقائده أصلًا على جحد وجود اللَّه تعالى. انظر: الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحنفي: ص 407 - 408، والموسوعة الفلسفية للسوفييت: ص 433 - 434، ومعجم المصطلحات والشواهد: ص 405.

(1)

المذهب الطبيعيّ في الفلسفة هو: تفسير تطور المجتمع بقوانين الطبيعة مثل الأحوال المناخية والبيئية والجغرافية والاختلافات البيولوجية "وظائف الأعضاء" والاختلافات الجنسية بين الشعوب، ويقوم هذا المذهب على مركزية الإنسان في الكون، وقام بدور كبير في القرنين السابع عشر والثامن عشر ضد النزعة الروحية، ومن فروعه: المذهب الطبيعي الأخلاقيّ وهو اسم عام يطلق على نظرياته في الأخلاق واللذة يوحد بينها مبدأ يقول بأن مفهوم الخير يتحدد عن طريق نوع من المفهوم الطبيعيّ مثل اللذة أو التطور البيولوجي، ومن فروعه المذهب الطبيعي في دراسة الإنسان، وهو مذهب ماديّ سبق الماركسية وأعد لها الأجواء، يعتبر الإنسان النتاج الأعلى للطبيعة، ويفسر كل الملامح والصفات الخاصة بالإنسان من منظور طبيعي "نسبة إلى الطبيعة" ويوْكد وحدة الإنسان والطبيعة ومضاد لمفهوم أن الإنسان روح وجسد. انظر: الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 470 - 472.

(2)

المذهب العقلانيّ: يقوم على الإيمان بالعقل وقدرته، وأنه يصل إلى تحصيل الحقائق من العالم بدون مقدمات تجريبية، ولا تُستمد المعرفة عندهم من الخبرة الحسية، وأهم فلاسفة هذا المذهب ديكارت وسيبنوزا ولايبنتس، وكان دالمبير وفولتير وكندوروسيه أبرز المفكرين الذين ذهبوا إلى إعلاء العقل كنقيض للخرافة والإيمان حسب قولهم، ويريدون بذلك الإيمان باللَّه ربوبية وألوهية، والمعاد وسائر الغيبيات. انظر: الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 472 - 473، والموسوعة الفلسفية للحنفي: ص 431.

(3)

الوضعية: مذهب فلسفيّ يرى أن الفكر الإنسانيّ لا يدرك سوى الظواهر الواقعة والمحسوسة وما بينها من علاقات أو قوانين، والعلوم التجريبية هي المثل الأعلى =

ص: 110

أمّا المذهب الكفريّ الذي أغرقوا في محبته واتباعه وتغنوا بأفكاره

= لليقين، وتسمى الوضعية أحيانًا: الإيجابية وهي قبل كل شيء موقف معاد لكل الأبحاث الماورائية أي: كل ما هو خارج نطاق المحسوس، ويشمل ذلك كل الغيبيات وأول شيء فيها وجود اللَّه تعالى، ويعتبرها الوضعيون عديمة الفائدة وأمارة تأخر في الذهن، وأبرز فلاسفتها أوجست كونت وهو المؤسس لهذا المذهب.

والوضعية المنطقية: اتجاه منبثق من الوضعية، ويعول أساسًا على التجربة تحقيقًا للدقة والتحليل المنطقيّ للغة، ثم تحولت إلى دراسة تحليلية منطقية للغة لتحقيق وحدة مشتركة بين فروع العلوم المختلفة، وتقول الوضعية المنطقية: إنه لا يمكن قيام فلسفة علمية أصيلة إلّا بواسطة التحليل المنطقيّ للعلم.

ووظيفة هذا التحليل المنطقي هي أولًا: التخلص من الميتافيزيقيا، أي: كل ما وراء الطبيعة وهو ما سبق شرحه عند ذكر الماورائية، وتسمى الوضعية المنطقية: الوضعية الجديدة، وقد تولد منها وضعيات أخرى مثل الوضعية المنطقية في علم الأخلاق والسياسة الوضعية، وأساس ذلك عندهم إقامة نظام أخلاق واجتماعي ملائم للعصر الصناعيّ، وأن الخير والشر ليس لها معنى على الإطلاق وأنها ليست سوى أشباه مفاهيم، وتعتبر الوضعية المنطقية وتطبيقاتها ديانة وضعية، ديانة إنسانية تزدري الميتافيزيقيا.

وأظهر فلاسفتها بعد كونت براتراند راسل الفيلسوف الإنجليزيّ الملحد المنادي بحقوق اليهود والتحرر الجنسيّ، ولودفيج فتجنشتاين وهو يهوديّ، وفلاسفة حلقة فينا هانزهان وأوتونويراث وفيليب فرانك وارنست ماخ وفريدريش فايزمان وفيلكس كلوفمان وردولف كارناب اليهوديّ الألماني، وقد ذاع بأن هذه الحلقة تجمع يهوديّ وأن نواة دعوتها صهيونية، وقد ذاعت دعوتها وانشد إليها الكثير من الفلاسفة في أوربا وأمريكا، وكان أبرزهم الفريدتارمسكي وجيلبرت رايل وألفريد اير، وقد تأثرت بالوضعية عدة فلسفات معاصرة مثل البرغماتية "الذرائعية".

وخلاصة القول: إن الوضعية تناهض الميتافيزيقيا وكل ما وراء الحس بدعوى أنها تبحث في موضوعات لا معنى لها طالما أنها موضوعات تتجاوز الخبرة، ولا يُمكن من صدقها عمليًا. انظر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 526 - 528، 362، والمفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة: ص 166، ومعجم المصطلحات والشواهد: ص 487 - 489، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 582 - 585، والمعجم الفلسفي: ص 214.

ص: 111

وفلسفاته وشخصياته فهو المذهب الوجوديّ

(1)

القائم على الإلحاد وإنكار الإله -جل وعلا-.

وبشكل عام يتلقى رواد الحداثة العربية المنكرون لوجود اللَّه وربوبيته المذهب الإلحاديّ

(2)

، وكافة فروعه العلمية والعملية بوَلَهٍ ومحبة واعتناق.

(1)

الوجودية: مذهب فلسفي يقوم على إبراز الوجود وخصائصه، وجعله سابقًا على الماهية، فالإنسان عندهم وجود لا ماهية، ومعنى ذلك أن الإنسان يوجد أولًا ثم تتحدد ماهيته باختياراته ومواقفه، ويقولون بالحرية المطلقة للفرد بحيث يملأ وجوده بالنحو الذي يلائمه، وتعتبر الوجودية تيارًا فلسفيًا يضم جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة تقوم على الكفر باللَّه ورسله وكتبه وبكل الغيبيات وكل ما جاءت به الأديان، ويعدونها عوائق أمام حرية الإنسان ومستقبله، ويعتبر الإلحاد أحد أهم مبادئ الوجودية ومن خلاله توصلوا إلى ما يتبع ذلك من نتائج مدمرة، ومن ذلك أنه لا وجود لقيم ثابتة توجه سلوك الإنسان وتضبطه، وإنّما كل إنسان يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قيمًا أو أخلاقًا معينة على الآخرين؛ ولذلك دعت الوجودية إلى الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية، والوجوديّ الحق عندهم هو الذي لا يقبل توجيهًا من خارج ذاته، وإنّما يسير نفسه بنفسه ويلبي نداء شهواته وغرائزه دون قيود ولا حدود، ومن مظاهر الوجودية التمرد والفوضى والحرب على التراث والأخلاق وجميع الضوابط القانونية والعرفية والشرعية واطراح الماضي.

ومن أبرز فلاسفة الوجودية مؤسسها كيركغارد وهيدغر وكامو وجان بول سارتر الملحد نصير الصهيونية وكارل جاسبرز، وقد أثرت الوجودية تأثيرًا كبيرًا في الأدب الحديث خاصة في الرواية والمسرح، وبرز في ذلك سارتر وألبيركامو ودستويفسكي وغيرهم. انظر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 525 - 526، ومعجم المصطلحات والشواهد: ص 485، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة من إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي - الرياض: ص 543 - 545، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 579، والمعجم الفلسفي: ص 211.

(2)

المذهب الإلحاديّ: مجموعة من الآراء والفلسفات التي تنكر وجود اللَّه والبعث والحساب والخلود والنبوات وسائر الغيبيات، وتقول بإمكان وجود أخلاق ونظام ومجتمع بدون أي أساس دينيّ، ويقول الملحد: إن لفظة اللَّه بلا مدلول، ويضم هذا المذهب اللاأدريين ومنهم توماس هنري هكسلي وليزلي ستيفن، وكلارينس دارو، وصرحاء الإلحاد مثل هولباخ وبوخنر وفيورباخ وماركس =

ص: 112

وتجد أسماء أكابر مجرمي الإلحاد تتردد في كتبهم، وتتحول عندهم إلى رموز مقدسة وشخصيات متبعة، وأظهر أئمة الإلحاد الذين ظهر صدى إلحادهم في كتابات ملاحدة الحداثة هم:

1 -

توماس هوبز 997 - 1090 هـ/ 1588 - 1679 م وهو فيلسوف إنجليزيّ، ومن أوائل الماديين المحدثين وأحد كبارهم، ألف كتاب مبادئ القانون الطبيعي والسياسي، ونشره سنة 1049 هـ/ 1640 م، ويعتبر ناقلًا لأفكار الماديين اليونان ديموقريطس

(1)

وأبيقور

(2)

الذين هم جذور الإلحاد الفلسفيّ الغربي المعاصر، كان هوبز يحمل عداءً شديدًا للدين والكنيسة ورجال الدين، وليس في فلسفته ما هو جديد على أفكار الماديين اليونان إلّا ما قام به من إحياء لهذه المادية والدعوة

= وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وتوماس هوبز ودافيد هيوم وسبنسر وبرتراند راسل، وهؤلاء هم أئمة المادية الغربية الملاحدة، وأظهر صورة برز بها المذهب الإلحاديّ في مجال الحياة العامة في الماركسية وفي مجال الفكر والأدب في الوجودية. انظر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 426 - 427، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 467.

(1)

هو: ديموقريطس الأبديري نحو 460 ق. م - 361 ق. م، وتقوم فلسفته على أن الوجود واحد وهو ينقسم إلى عدد غير متناه من الوحدات غير المتجانسة وغير المدركة بالحس والواحد منها هو الجوهر الفرد، وهذه الواحدات قديمة أزلية، وعنه أخذ الماديون المعاصرون فكرة أزلية المادة، وأن وجود الكون ثمرة حركة مادة الكون الأولى، ثم تتحرك بوجود آلية الحركة الذاتية للوحدات غير المتجانسة التي يتألف منها الوجود، وهذا الذي يعرف بالمذهب الذريّ، وخلاصته: أن كل شيء يترابط بفعل حتمية ميكانيكية ذاتية في المادة والأجسام تتولد من انصهارات الذرات وتختفي بانفصالها، وهذا نفي لكون الخلق محدثًا من عدم، وأن له ربًا خالقًا مدبرًا، وقد أثنى لينين على ديموقريطس وأفكاره. انظر: موسوعة أعلام الفلسفة 1/ 455 - 456، ومعجم الفلاسفة: ص 279 - 280.

(2)

أبيقور هو: فيلسوف يونانيّ ماديّ عاش ما بين 341 - 270 ق. م، وقد تتلمذ على أفكار ديموقريطس وخاصة المذهب الذريّ، والابيقوريون يهاجمون الدين ويعتبرونه الشر الذي ما بعده شر، وينكرون ظاهرة العناية الإلهية التي هي إحدى أدلة المثبتين لوجود اللَّه ثعالى. انظر: أعلام الفلسفة 1/ 52، ومعجم الفلاسفة: ص 37 - 39.

ص: 113

إليها، فيعد بسبب ذلك أول الماديين المحدثين

(1)

.

2 -

ديفيد هيوم (1123 - 1190 هـ/ 1711 - 1776 م): وهو فيلسوف ومؤرخ واقتصاديّ اسكتلندي ملحد، آراؤه الفلسفية مبنية على إنكاره لوجود اللَّه تعالى، وإنكاره لأسس الأخلاق وفكرة السببية بين الأشياء، انتقل من عداوته للميثافيزيقيا إلى الدين ذاته، ولكي يهدم أصول الأخلاق ذكر بأن سلوك الإنسان عمل آليّ محض، ولا يوجد في الإنسان ما يسمى الإرادة الحرة، وزعم أن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان اللذة والألم فقط، انتهج المنهج الشكي وقال به، وأدخل المنهج التجريبيّ إلى حقل العلوم الأخلاقية

(2)

.

3 -

ديني ديدرو (1125 - 1198 هـ/ 1713 - 1784 م): وهو فيلسوف ومفكر فرنسيّ، من مفكري حركة التنوير، أصله ألمانيّ، قرن بين الأدب والفلسفة، مرَّ في ماديته وإلحاده بعدة مراحل: كان ماديًا، ثم وصل إلى اعتناق مبدأ وحدة الوجود

(3)

، وناظر رجال الدين من منطلق عقلانيّ ماديّ مناهض لرجال الدين، ثم انتقل إلى المذهب الربوبيّ

(4)

، ثم انتقل إلى الإلحاد وتأثر بالنزعة الإلحادية الجريئة عند هولباخ، وعنده أن التجربة

(1)

انظر عن توماس هوبز: معجم الفلاسفة: ص 653 - 655، وتاريخ الفكر الأوروبي الحديث لرونالدسترو مبرج ترجمة أحمد الشيباني 2/ 22، وموسوعة أعلام الفلسفة 2/ 549، وكواشف زيوف: ص 428.

(2)

انظر عن ديفيد هيوم الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 518 - 520، وموسوعة أعلام الفلسفة 2/ 574، ومعجم الفلاسفة: ص 669 - 670 وفيه أنه أصيب بانهيار عصبي ولم يشف إلّا بعد عدة سنوات، واتهم بالهرطقة لعدائه للدين وأدرجت الكنيسة جميع كتبه في لائحة الكتب الممنوعة، وكان صديقًا لجان جاك روسو وآواه روسو ودبر له ملاذًا وفي نوبة هذيان لروسو ظن بهيوم الظنون بأنه يدبر مؤامرة ضده وراح يشيع عن خيانة هيوم له، فتأمل كيف اتخذ الغرب هؤلاء المجانين علماء وموجهين!!. وانظر: كواشف زيوف للميداني: ص 429 - 432.

(3)

سيأتي بيان معنى وحدة الوجود بمفهومه الغربي ص 139.

(4)

سيأتي شرحه ص 129.

ص: 114

والملاحظة هما وسائل ودليل المعرفة وعن طريقهما يتمكن الفكر من إحراز المعرفة، وقد أثنى الماركسيون على أعمال ديدرو وتعاليمه وامتدحها إنجلز ولينين، وكانوا يلقبونه في عصره بالرسول والموحى إليه {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}

(1)

، وكان يعرف ديدرو بأنه صاحب طابع أنثويّ

(2)

.

4 -

هولباخ - بول هنري ديتريش (1135 - 1203 هـ/ 1723 - 1789 م): كاتب وفيلسوف فرنسي من أصل ألماني، أبرز فلاسفة المادية الملحدة في القرن الثامن عشر، وأشد فلاسفة حركة التنوير إنكارًا للدين وتهجمًا عليه، ويطرح في كتبه كل ذلك بمضادة شديدة للدين، ويعد كتابه "نظام الطبيعة أو قوانين العالم الفيزيائيّ والعالم الأخلاقي" مرجعًا لتاريخ المادية الملحدة، هاجم الكنيسة والدولة والإقطاع وسلط أسلحته كلها على الدين، اهتم بترجمة الأدب الملحد من اللغات الأخرى إلى الفرنسية، تقوم فلسفته المادية الملحدة على أن الإنسان ابن الطبيعة وأنه لا وجود لشيء اسمه الروح، وأن الطبيعة مادة وحركة والعالم الماديّ من صنع نفسه، والتغير في الأشياء تغير في الجزئيات المكونة لها، دعا إلى الفلسفة الداعية لحكم الأخلاق حيث إن الأخلاق والأفكار عنده مصدرها الأحاسيس، ودعا إلى فصل الدين عن الدولة، متعصب لإلحاده، وكان في حياته يذم على صفاقة ذهنه

(3)

.

5 -

شوبنهاور - آرثر (1252 - 1276 هـ/ 1788 - 1860 م): فيلسوف ألماني ملحد، تشاؤمي، ولد من أبوين أسرتهما مشهورتان بحالات أمراض عقلية، فقد مات والده منتحرًا، وكانت والدته أديبة روائية لها صالون أدبيّ

(1)

الآية 112 من سورة الأنعام.

(2)

انظر ترجمته في: موسوعة أعلام الفلسفة 1/ 445 - 447، ومعجم الفلاسفة: ص 267 - 269، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 188 - 189، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 206 - 207.

(3)

الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحفني: ص 510 - 511، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 564، ومعجم الفلاسفة: ص 659 - 661.

ص: 115

وكانت متسلطة عليه فكرهها وهجرها إلى أن ماتت، وانعكس علاقته بأمه على نفسه فصب مقته على النساء، وكان سليط اللسان، سفه أحلام معاصريه من الفلاسفة بكلام همجي ووصفهم بالدجل والثرثرة، كان شديد التشاؤم معقد النفس، مغترًا بنفسه، ممتلئًا بالمخاوف والقلق، ينام ومسدسه المحشو بالذخيرة تحت وسادته، يخاف من المرض ويتحرز منه بشدة وهلوسة، فإذا كان سليمًا معافى شك أنه ربّما كان مريضًا بشيء لا يعيه، منهمك في محبة الطعام والخمر والنساء رغم ادعائه أنه يمقتهن.

تقوم آراؤه الفلسفية على إنكاره لوجود الرب الخالق العظيم سبحانه وتعالى، وعلل الوجود بأنه إرادة عمياء، وجعل الدافع الجنسي إرادة عمياء وأعضاء التناسل هي بؤرة هذه الإرادة وهي المركز الذي يقابله المخ، وأعضاء الجنس عنده هي أساس الحياة؛ لأنها تحفظها، وتتضمن حياة لا تنتهي، ومن أجل ذلك -في رأيه- عبدها اليونان واليهود، ويرى أن العلاقة الجنسية هي المحور المركزيّ لكل عمل وسلوك وهي تتجلى في كل شيء رغم محاولة سترها

(1)

، ويعتبر الغريزة الجنسية روح شجرة النوع الذي تنمو عليها حياة الفرد، وبسب تشاؤمه قرر أن العالم شرّ، وجره كفره باللَّه واليوم الآخر إلى هذه الفلسفة، وإلى حياة الشقاء التي عانى منها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}

(2)

.

دعا إلى الفن والأدب والجمالية التي تحتقر الواقع، وتكون بمنأى عن المصالح الحيوية للناس

(3)

، وقد شكلت فلسفته وآراؤه الأساس الاعتقادي لفلسفة نيتشه

(4)

.

(1)

أفكار شوبنهاور في الجنس هي نفسها التي أخذها فرويد فيما بعد ونشرها بأن جعل الجنس هو الدافع الوحيد الموجه لسلوك الإنسان.

(2)

الآية 124 من سورة طه.

(3)

سيأتي في هذا البحث -إن شاء اللَّه- إثبات أن هذه الفكرة تعد من أصول الحداثة العربية.

(4)

انظر ترجمته في: الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 266، والموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحفني: ص 255 - 259، وموسوعة أعلام الفلسفة 2/ 42، ومعجم الفلاسفة: ص 659 - 661، وكواشف زيوف: ص 432 - 439.

ص: 116

6 -

فيورباخ - لودفيج اندرياس (1218 - 1288 هـ/ 1804 - 1872 م): فيلسوف ماديّ ألمانيّ ملحد، اشتهر بنقده للنصرانية والدين عامة وتنحى فلسفته إلى تأليه الإنسان

(1)

، له كتب مادية ملحدة مثل ماهية المسيحية وماهية الدين، ونظرية نشأة الكون، أخذ أفكار هيجل وانحدر معها نحو الإلحاد، وكان المضمون الأساسي لفلسفته إعلان المادية والدفاع عنها، وهنا تبدى المذهب الطبيعيّ

(2)

في دراسة الإنسان، ويعتبِر الدين استلابًا للسمات الإنسانية، ويعتبَر فيورباخ السلف المباشر للماركسية، وبأفكاره وفلسفاته تأثر كل من إنجلز وماركس، وبتأثيره الحاسم في أفكارهما يعتبر بمثابة الأساس للماركسية الملحدة

(3)

.

7 -

داروين (1224 - 1299 هـ/ 1859 - 1882 م): عالم أحياء إنجليزيّ، ثم تفلسف في قضية الوجود فكانت فلسفته مادية إلحادية، صاحب نظرية الانتخاب الطبيعيّ التي يزعم فيها أن الكائنات الحية تنزع إلى الابتعاد في سماتها عن أصولها وتتطور، ويدعي أن الحياة يحكمها قانون الانتخاب الطبيعيّ، وأنه يحدث بالصدفة ويتأكد بالوراثة، وليس فيه قصد ولا نظام ولا يدل على علة تحدثه.

رفض داروين الأديان وجميع مضامينها وخاصة عن وجود الإنسان، بعضهم يصفه باللاأدرية وبعضهم يصفه بأنه ملحد صريح الإلحاد، وتقوم نظريته نظرية النشوء والارتقاء على فرضية أن أصل الكائنات العضوية ذات ملايين الملايين من الخلايا كائن حقير ذو خلية واحدة منها نشأت الحياة ثم تطورت وارتفعت من الأدنى إلى الأرقى، وأن الطبيعة وهبت الأنواع القوية عوامل البقاء والنمو والتكيف، وتدرجت في الرقي إلى أنواع راقية جديدة

(1)

سياتي في ثنايا البحث -إن شاء اللَّه تعالى- أن ذلك من أساسيات الحداثة العربية.

(2)

سبق بيانه: ص 110.

(3)

انظر ترجمته في: الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 365 - 366، ومعجم الفلاسفة: ص 455 - 456، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 350 - 351.

ص: 117

كالقردة ثم أنواع أرقى تتجلى في الإنسان، وأن كل ذلك يتم بفعل الطبيعة العشواء بدون قاعدة ولا منطق ولا نظام، ويقول بأن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق.

أدت هذه النظرية إلى انتشار الإلحاد بصورة أكبر في أوروبا، وتخلت جموع كثيرة بسببها عن الإيمان بوجود اللَّه تخليًا تامًا أو شبه تام، وترتب عليها أنه لا فائدة ولا جدوى من البحث في الغاية من وجود الإنسان، فأدى ذلك إلى إهمال العلوم الغربية لفكرة "الغائية" باعتبارها لا تقع في دائرة البحث العلمي، وأدى ذلك إلى طغيان الفوضى الاعتقادية والأخلاقية؛ لكون النظرية توحي بحيوانية الإنسان، وكانت هذه النظرية ممهدة لنظرية فرويد في التحليل النفسي، ولنظرية سارتر في الوجودية، وماركس في المادية الجدلية، ولنظرية التطور المطلق في كل شيء تطورًا لا غاية له ولا حدود، وسادت فلسفة أن كل عقيدة أو نظام أو سلوك هو أفضل وأكمل من غيره ما دام تاليًا له في الوجود الزمني، وأنه ليس ثمة كمال ثابت

(1)

، كل ذلك في إطار عقيدة الإلحاد القائلة بأنه لا حكمة لوجود الخلق، ولا إله

(2)

.

8 -

كارل ماركس (1233 - 1300 هـ/ 1818 - 1883 م): مؤسس الشيوعية وفيلسوف الإلحاد المسمى بالمادية الجدلية والداعي إلى الاشتراكية العلمية، والشيوعية مذهب اقتصاديّ سياسيّ، يعتمد على أساس من الإلحاد المسمى بالديالكتيك والمادية، التاريخية الاجتماعية.

وأصل كل ذلك إنكار وجود رب خالق مدبر لهذا الكون، واعتقاد أن

(1)

أصبحت هذه الفكرة أساسًا من أساسيات الحداثة كما سوف يأتي بيانه -إن شاء اللَّه تعالى-.

(2)

انظر عن داروين والداروينية: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 177 - 178، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 192 وفيه عن الداروينية الجديدة: ص 193، والداروينية الاجتماعية: ص 193، والموسوعة الميسرة: ص 211 - 219.

ص: 118

المادة هي كل الوجود، وأن مظاهر الوجود تطور متصل للقوى المادية، وأن أجلى مظاهرها مظاهر تطور الإنسان، وأن أحداث هذا التطور الماديّ -حسب زعم الماركسية- تخضع لقانون جبريّ موجود في ذات المادة، وهو صفة من صفاتها الذاتية، وأن الحياة الاجتماعية والاقتصادية تسير وفق قانون الصيرورة، قائم على القضية ونقيضها ومركب القضية والنقيض وهذه هي المادية الجدلية، ومظهرها صراع الطبقات الاجتماعية.

وقد قامت الفلسفة الماركسية على أساس إنكار وجود اللَّه والقول بأزلية وأبدية المادة وجعلها كل شيء في الوجود، وتفسير حركتها وتفسيرها تفسيرًا ماديًا بحتًا، وبناءً على ذلك قام ماركس بتفسير التاريخ الإنسانيّ تفسيرًا ماديًا وأخضعه لنظام المادية الجدلية، وقد جعل ماركس فلسفته ممارسة حياتية، ففي الاقتصاد الاشتراكية العلمية وهي المذهب الاقتصاديّ القائم على إلغاء الملكية الفردية، وجعل الدولة مالكة لكل شيء على مبدأ: من كلٍ حسب استطاعته ولكل حسب حاجته، وفي السياسة دعا إلى إقامة الدولة الشيوعية عن طريق الثورة الجارفة المدمرة، وفي المجتمع دعا إلى إطلاق الحريات الشخصية على أوسع مدى شريطة أن لا تمس المبادئ الشيوعية أو نظام حكمها، ودعا إلى أن تكون العلاقة الجنسية مشاعًا، وفي الأخلاق نادى بهدم القيم والأخلاق التقليدية التي تعارف عليها الناس، لكي يقوم بدلًا عنها أخلاق البرامج الشيوعية، التي تحقق قيام المجتمع الشيوعيّ على نظام إداريّ سياسي شيوعيّ في دولة "ديكتاتورية البروليتاريا" أي الاستبداد الشيوعيّ الصارم من قبل رأس هرم الحزب الشيوعي، وقد تحقق قيام الشيوعية في دولة الاتحاد السوفيتي الهالك، ودولة الصين الشيوعية المتهالكة، وما تبع ذلك من دول، ولكن الشيوعية اليوم ممارسة وفكرًا تتهاوى وتتلاشى مؤذنة بزوالها التام عما قريب -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقد كان ماركس يهودي الأصل، اعتنق والده النصرانية نفاقًا، وكان ماركس صاحب مزاج خبيث وعالة على أهله وأصدقائه، قامت فلسفته على آراء ملاحدة اليونان أبيقور وديموقريطس، ثم أخذ عن هيجل الجدل

ص: 119

والمادية، ثم عن فيورباخ المادية الإلحادية، ثم التقى بإنجلز وشكلا معًا ثنائيًا متساندًا في الكفاح والنضال من أجل نشر المبادئ الشيوعية الإلحادية

(1)

.

وقد تأثر جملة من أدباء الحداثة العربية بالماركسية فكرًا وفلسفة وعقيدة، ودافعوا عنها وسعوا في نشرها وبثها والإشادة بشخصياتها وتاريخها، وبعضهم انضم إلى الأحزاب الماركسية الموجودة في بلدانهم

(2)

.

9 -

إنجلز- فريدريك (1235 - 1312 هـ/ 1820 - 1895 م): فيلسوف ألمانيّ ماديّ ملحد، شارك كارل ماركس في صياغة الفلسفة الماركسية وسائر نظرياتها بعد أن التقيا سنة 260 هـ/ 1844 م، وقد تكفل بالإنفاق على ماركس في حياته وعلى أسرته بعد وفاته، وكل كتابات إنجلز تدور حول تأصيل الماركسية وإذاعة مبادئها، وسعى لأن تكون حركة دولية وانشغل بالجانب السياسيّ والعسكريّ في الانتفاضة الثورية الألمانية 1264 هـ/ 1848 م، وظل مهتمًا بجعل الشيوعية نظامًا سياسيًا شاملًا، وكرس جهده في الجانب التطبيقي منها، واحتك بالطبقة العاملة

(3)

.

10 -

بوخنر - لودفيج بوخنر (1239 - 1316 هـ/ 1824 - 1899 م): فيلسوف ألمانيّ ماديّ ملحد اشتهر بكتابه "القوة والمادة"،

(1)

انظر ترجمة ماركس في: الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 438 - 440، وفيها أيضًا تعريفات للماركسية اللينينية: ص 347 - 349، 334 - 336، 440 - 442، وانظر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 411 - 413، ومعجم الفلاسفة: ص 571 - 576.

(2)

من أدباء الحداثة الماركسية الشيوعية أو ما يسمى بأدباء الواقعية الاشتراكية: توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش ومعين بسيسو وحسين مروة والبياتي وعبد الرحمن الخميسي وأحمد سليمان الأحمد ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ورجاء النقاش وأميل حببيبي ومحمد دكروب.

(3)

انظر ترجمته في: معجم الفلاسفة: ص 90 - 91، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 69، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 56 - 58.

ص: 120

ونظريته الواحدية التي ترد القوة للمادة وتجعل منها شيئًا واحدًا، ويعرف القوة بأنها نشاط أو حركة المادة، ويعد بوخنر أبرز ممثلي المادية المسرفة، والتي تدعي أنها ترد كل أعمال الإنسان بما فيها الوعي والفكر إلى مضمار المادة والطاقة، وزعم بأن الشواهد العلمية تنكر وجود قوة خارج نظام الطبيعة ويرفض لذلك الغائية؛ لأنه لا يعتبر للغائية تفسيرًا سوى القوانين العلمية، آراؤه المادية الإلحادية تشابه أسلافه من الماديين الملاحدة وأحكامه في ذلك خالية من البراهين ومقرونة بالادعاء والتقريرية الفجة، وبها حاول أن يقاوم القطعيات العقلية في المثبتة لوجود اللَّه والغيبيات، ولكن بلغة وحجة ضعيفتين

(1)

.

11 -

نيتشه - فريدريك فلهم (1260 - 1317 هـ/ 1844 - 1900 م): فيلسوف ألمانيّ ملحد، مجنون، مصاب بداء العظمة إلى حد تأليه النفس، بدأ بمرحلة الشك والتشتت منذ الثامنة عشرة من عمره وفيها فقد الإيمان بوجود إله خالق مدبر لهذا الكون، ثم قرأ كتاب شوبنهاور "العلم كإرادة وتمثل" وتأثر بفلسفته الإلحادية وتشاؤمه، ثم استرسل في شكه وإلحاده، وأصبح يعادي أصدقاءه تباعًا حتى أصبح في عزلة تامة مع ازدياد جنون العظمة في نفسه حتى حل به الجنون الكامل وفقد عقله كليًا وبقي كذلك حتى هلاكه، وكان قد حاول الانتحار عدة مرات في حياته.

ومن أشهر كتبه "هكذا تكلم زرادشت" صاغ فيه فلسفته بأسلوب شعريّ، وكان مطمحه أن يكون بديلًا عن الإنجيل وبشارة في الوقت نفسه بالأزمنة الجديدة، وليقوم على نقد الدين والقيم الثقافية السائدة، يعد في ميزان الغرب ثالث ثلاثة في الفلسفة الألمانية بعد كانت وهيجل.

آراؤه مليئة بالتخبط والخلط والتخريف، وتقوم على الإلحاد، وجحد وجود اللَّه تعالى والأديان والغيبيات، وجحد اليقينيات والحقائق والتعلق

(1)

انظر ترجمته في: معجم الفلاسفة: ص 176، والموسوعية الفلسفية للحفني: ص 115 - 116، وكواشف زيوف: ص 242.

ص: 121

بأوهام خرافية مع دعاوى عريضة خالية من أي دليل أو برهان؛ لأنه يلغي أصلًا مبادئ الفكر وموازين العقل

(1)

؛ ولذلك كثرت عنده الأغاليط الفكرية والتخبطات الذهنية، وذلك يرجع إلى رؤيته الناقصة للأشياء والأحداث، وأحكامه التعميمية السريعة، مقرونة بالإعجاب بنفسه والغرور بفكره، وقد توجد في كتبه بعض المقولات ذات التعبيرات القوية الذكية، تشبه ذكاء الشعراء والأدباء الساخرين، لا الحكماء العاقلين، وهذا هو سبب اغترار الإمعات به وانجرارهم إلى شرك أوهامه.

وتدور آراؤه حول نفي العقل، وأنه لا حاجة إليه وأنه خطر

(2)

، وإنكار الحقائق والزعم بأن الوجود في "صيرورة دائمة" أي التغير الدائم الذي ليس له غاية ينتهي إليها بل الصيرورة عنده غاية في نفسها وهي كل شيء ولا شيء وراءها

(3)

.

ومن محاور فلسفته القول بإرادة القوة حيث جعل القوة هي الفضيلة العظمى والوحيدة في الوجود كله، فدعا إليها وإلى استعمالها دون إشفاق أو حنان واعتبر هذا هو أساس الأخلاق؛ ولذلك يسمى "فيلسوف القوة".

وأخذ نيتشه بنظرية التطور المسماة مذهب التطور والارتقاء

(4)

، وزعم أن كل صنف يخلق صنفًا أرقى منه وهكذا تم الأمر من الحيوان حتى وصل في آخر الأمر لخلق الإنسان، وأن على الإنسان أن يخلق الصنف الأعلى والأرقى وهو "السوبرمان" أي الإنسان الأعلى، وجعل ذلك هو غاية الإنسانية.

(1)

و

(2)

سيأتي في ثنايا البحث -بإذن اللَّه- أن الحداثيين يعتبرون رفض العقل وموازينه والضوابط أيًا كانت من أصول حداثتهم وإبداعهم.

(3)

من أصول الفكر الحداثيّ الصيرورة الدائمة وعدم الثبات مطلقًا، وسيأتي بيان ذلك -إن شاء اللَّه-، وهذا هو منزعهم الذي نزعوا منه "نيتشه الملحد المجنون" إضافة إلى "داروين".

(4)

نظرية داروين.

ص: 122

ويقرر نيتشه أنه ليس بعد الموت شيء، وبين هذا القول ومذهب القوة قرر أن الانتحار مظهر من مظاهر القوة ويسميه الموت الإراديّ، غير أنه لم يطبق هذا المبدأ على نفسه رغم كثرة علله وأمراضه، حتى وصل إلى الجنون ولم ينتحر.

وبناء على هذا الخليط المشوش من الأفكار نادى بتحطيم القيم التقليدية وهدم المذاهب الأخلاقية والدينية والفلسفية، وإيجاد قيم جديدة

(1)

للوصول إلى خلق الإنسان الأعلى "السوبرمان".

ودعا الإنسان في الأخلاق الجديدة التي أرادها ليكون فوق كل قيمة وكل قانون وفوق ما يسمى الخير والشر؛ لأن مهمته الرئيسية هو أن يكون خالقًا للقيم التي يريد، واضعًا ما يشاء من الأخلاق والسياسة والنظم والمعتقدات

(2)

، وأساس كل مزاعمه هذه إعلانه الإلحاديّ الكافر بأن اللَّه مات -تعالى اللَّه عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا- وأعلن نفسه إلهًا وربًا

(3)

، حتى وصل إلى الجنون ومات كذلك

(4)

.

ويعتبر نيتشه في أفكاره هذه وغيرها قدوة للحداثيين وأستاذًا كبيرًا وفيلسوفًا عظيمًا عندهم.

12 -

سبنسر - هربرت (1235 - 1320 هـ/ 1820 - 1903 م): فيلسوف إنجليزيّ ملحد، يقولون عنه بأنه أعظم فيلسوف إنجليزي في القرن التاسع عشر، وفاخرت به إنجلترا ورفعته إلى مرتبة العبقريّ القويّ ورأت فيه أوروبا واحدًا من عظماء ذلك القرن.

(1)

و

(2)

سوف يأخذ هذا المبدأ الهدام دعاة الحداثة وينادون به ويدعون إليه وهو ما سوف نراه في الفصل المختص بالأخلاق من هذا البحث.

(3)

وهذا مبدأ أخذته الحداثة ودعت إليه ونادت به كما سوف يأتي.

(4)

انظر ترجمته في: موسوعة أعلام الفلسفة 2/ 512 - 515، ومعجم الفلاسفة: ص 625 - 628، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 489 - 491، وكواشف زيوف: ص 442 - 450.

ص: 123

نشأ سبنسر مريضًا كسولًا وكان يشعر بأنه صاحب رسالة، فأراد أن يعطي تصورًا عن العالم وتفسيرًا للوجود يعتمد على العلم والعقل، فشرع في التأليف معتمدًا على مواهبه الفطرية، وثقافته الذاتية، وملاحظاته المباشرة، فنزع إلى الإلحاد والمادية، وارثًا ذلك عن أبيه وجده لأبيه فقد كانا ماديين لا يؤمنان بشيء فوق الطبيعة.

قامت نظرته الفلسفية على نظرية الارتقاء المماثلة لنظرية دارون، ونشر عن ذلك قبل أن ينشر دارون كتابه "أصل الأنواع" بتسع سنوات، ثم لما نشره دارون زاد ذلك من حماسة سبنسر لفكرته وانبرى يؤلف سلسلة من الكتب تشرح كل العلوم المعروفة في ضوء نظرية التطور والارتقاء المادية الإلحادية في محاولة منه لوضع نظرية فلسفية شاملة، أو فلسفة تركيبية كما كان يسميها.

هناك من يعد إلحاده من مذهب اللاأدرية

(1)

، وهناك من يعده من صرحاء الملحدين، تدور فلسفته على فكرة التطور الذاتي، وجعلها مفسرة لكل ظواهر الوجود وأخضع لها كل شيء، الحياة والعقل والمجتمع والأخلاق

(2)

.

يرى أن العقل عاجز عن إدراك الحقيقة، ومع ذلك يعظمه ويقيس به كل شيء وهو عنده كالّ ضعيف!!!، يعتبر سبنسر أستاذًا من أساتذة المذهب الوضعي

(3)

.

وبناء على فلسفته المادية يقول: كل ما يتجاوز إدراكنا ونطاق العلوم الواقعية يؤلف مجال المجهول ويؤدي إلى الاعتقاد بوجود ما لا يُمكن معرفته. . . ثم يرتب على هذه المقدمة الفاسدة نتيجة فاسدة هي: كل ما نستطيع أن نجزم بصدده هو أن نقول: إننا لا نعرف ما إذا كان اللَّه موجودًا أو غير موجود، وما من سبيل أمامنا إلّا أن نعتنق اللاأدرية بوصفها الاختيار

(1)

سبق شرحه ص 108.

(2)

وهذا مبدأ من مبادئ الحداثة الأساسية.

(3)

سبق شرحه ص 110.

ص: 124

الوحيد

(1)

، انتشرت فلسفة سبنسر في أمريكا وتأثر بها بعض الشرقيين

(2)

.

13 -

برتراند راسل (1289 - 1389 هـ/ 1873 - 1975 م): رياضيّ وفيلسوف إنجليزيّ ملحد، أشهر فلاسفة فترة ما بين الحربين العالميتين، كتب كثيرًا في الفلسفة وفروعها المتعددة، يعتبر رائدًا للحداثيين والمثقفين التقدميين الملاحدة في أوروبا والغرب وأتباعهم.

شديد الغلو في إلحاده الذي بثه في مؤلفاته الفلسفية والأدبية والتي نال عليها جائزة نوبل للاداب عام 1369 هـ/ 1950 م، أثرت مؤلفاته المبسطة والمتعمقة على الناس في أوروبا وأمريكا وصبغت الفكر الأوروبي والأمريكي المعاصر بصبغة ما زالت ملازمة لها.

تدور فلسفته على الإلحاد أولًا والمذهب الوضعي وفلسفة الشك المسيطر على جوانب فكره، ويظهر التناقض والعجز الفلسفي في مؤلفاته، ينادي بالمنطق الرياضي وتطبيقه فلسفيًا، ويتبنى مبدأ التغير المستمر، ويزعم أنه من المستحيل إدراك الواقع خارج نطاق مناهج علوم الطبيعة ثم شكك في ذلك، آراؤه في علم النفس مغرقة في المادية باعترافه، وذهب إلى اعتبار الإنسان جزءًا لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة وأن عقله خاضع للقوانين الطبيعية، نفى وجود اللَّه والبعث بعد الموت والخلود، وصب هجومه على الدين بشتائم مليئة بالحقد والكراهية، وزعم أنه لا فائدة من النظريات الأخلاقية، وقال بنسبية آداب السلوك

(3)

، وأرجع النشاط الإنسانيّ إلى الغريزة والعقل والروح، ودعا إلى نظام اشتراكي تحرريّ إنسانيّ، وأسس مع سارتر الملحد الوجوديّ الفرنسي مؤسسة راسل للسلام ضد الحرب والسلاح النوويّ.

(1)

انظر عن سبنسر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 236 - 237، ومعجم الفلاسفة: ص 327 - 329، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 241 - 242، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 545، وكواشف زيوف: ص 450 - 453.

(2)

ممن تأثر بها جلال صادق العظم الذي يحاول أن يؤكد الإلحاد في كتابه "نقد الفكر الدينيّ"، وقد رد عليه الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني في "صراع مع الملاحدة حتى العظم". انظر: كواشف زيوف للميداني: ص 451.

(3)

النسبية في الأخلاق أساس حداثيّ شهير سيأتي بيانه.

ص: 125

ودافع عن الإباحية الجنسية، والزواج الجماعيّ، والزواج تحت التجربة والاختبار، وحرية الحياة الجنسية، والسماح بها في سن مبكر، وناهض قوانين منع اللواط، وغير ذلك من الثمرات المرة البائسة للمادية والإلحاد

(1)

.

14 -

هايدجر مارتن (1306 - 1396 هـ/ 1889 - 1976 م): فيلسوف وجوديّ عدميّ ألمانيّ ملحد، يعدونه أهم فيلسوف في القرن العشرين، ويسمونه مفكر الوجود لدوران فلسفته حول سؤال: ما الوجود؟، وهو تلميذ لادموند هوسرل اليهوديّ الألمانيّ، وكان هايدجر عضوًا في الحزب النازيّ وكان شديد التعصب لوطنه ولغته، ويرى أن الفلسفة لا يُمكن أن تكون بدون اللغة الألمانية وأن شعبه هو الوحيد القادر على تجديد الفكر الغربيّ.

حاول في كتابه "الوجود والزمان" أن يحدد علاقة الوجود بالإنسان انطلاقًا من الإنسان الذي هو الإله

(2)

الذي يحضر الوجود هنا، وأنه يفهم الوجود الإنساني من حيث أن الإنسان هو الكائن الذي ينكشف من خلاله معنى الوجود، وأنه حذف به إلى عالم ليس من صنعه، إلّا أنه قد أخلي بينه وبين استيعابه وتعديله، ويرى أن القلق هي الحالة الوحيدة التي تبدو بها حقيقة الإنسان وتعيد إليه الوعي وليس للإنسان من دور سوى أن يسعى لإقامة وجوده، ودعا إلى إقامة مجتمع حر ليبراليّ يهتم بالثقافة والقيم.

وفلسفة الوجود أساس فكرته، ويشدد عليها، ويرى أن التشديد من الآن فصاعدًا سيكون على الوجود الذي لا يعدو الإنسان أن يكون هو إلهنا العائد إليه "حسب زعمه الإلحاديّ"، وأن الوجود هو مقوم إنسانية الإنسان، وأنه قاعدة كل مذهب إنساني، والوجود ليس هو اللَّه -تعالى اللَّه- ولا أساس

(1)

انظر عن براتراند راسل: موسوعة أعلام الفلسفة 1/ 482 - 489، ومعجم الفلاسفة: ص 289 - 290، وكواشف زيوف: ص 453 - 481، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 208 - 213.

(2)

تأليه الإنسان أصل من أصول الحداثة العربية.

ص: 126

العلم، الوجود هو أبعد من كل موجود

(1)

.

ولهايدجر تأثير واضح على سارتر وفلاسفة الوجودية من بعده.

15 -

سارتر - جان بول سارتر (1322 - 1400 هـ/ 1905 - 1980 م): كاتب وفيلسوف وجوديّ فرنسيّ ملحد، تتلمذ على هايدغر وعلى هوسرل اليهوديّ الألمانيّ، كتب في الفلسفة والأدب بمنظور إلحاديّ ماديّ وجوديّ، وأحب الماركسية ودافع عنها رغم انتقاداته لبعض أفكارها وممارساتها وحاول إيجاد حركة سياسية يسارية جديدة تكون نواة لحزب يساريّ بديل عن الحزب الشيوعيّ يستقطب به المثقفين والعمال، وأصدر صحيفة اليسار، والوجودية التي نادى بها سارتر ليست في الأصل مذهبًا بل إنها تمرد على المذاهب لأنه لا يُمكن أن يكون ثمة مذهب للوجود -هكذا يزعم سارتر- مع أن الحقيقة أن الوجودية أصبحت مذهبًا تمرديًا أنانيًا ينادي بالحرية المطلقة للفرد ليتحقق بها ما يشاء من أعمال وسلوكيات.

تعرف سارتر على سيمون دي بفوار وعشقها سنة 1323 هـ/ 1906 م وبقيا في معاشرة داعرة طوال حياة سارتر وبصورة معلنة؛ وذلك ليثبت وجوديتهما من خلال رفض رباط الزواج وممارسة الوجودية عمليًا، ولسارتر كتاب بعنوان تأملات في المسألة اليهودية نشره عام 1365 هـ/ 1946 م وهو معروف بمناصرته العلنية لليهود والصهيونية.

وسارتر يجحد وجود اللَّه تعالى وكتبه ورسله والغيبيات جميعًا وكل ما جاءت به الأديان ويعتبرها عوائق ضد حرية الإنسان ويعد التقدم والتطور في الإلحاد

(2)

.

(1)

انظر: معجم الفلاسفة: ص 640 - 642، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 44 - 47، والموسوعة الفلسفية للحفنيّ: ص 497، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 565.

(2)

انظر ترجمته في: معجم الفلاسفة: ص 319 - 322، الموسوعة الفلسفية للحفنيّ: ص 226 - 232، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 238 - 239.

ص: 127

هؤلاء هم أبرز ملاحدة الغرب الذين يظهر أثرهم في كتابات ملاحدة الحداثة في الغرب ثم في آثار أتباعهم في الحداثة العربية، علمًا بأن هؤلاء لا يطرحون أفكارهم الإلحادية في شكل فلسفيّ كما يطرحها هؤلاء الذين ذُكرت أسماؤهم وإنّما تجدهم ينفثون ذلك في سموم كتاباتهم الأدبية، شعرية أو قصصية أو في المقالات والكتابات النقدية؛ وذلك أن الأتباع -في الغالب- يكونون أقل عمقًا من متبوعيهم وأكثر حماسة منهم، وهذا ماسوف نراه في النماذج الحداثية العربية.

غير أنه قد يدّعي بعضهم أنه لا ينكر وجود اللَّه تعالى وربوبيته، وأنه يقر بذلك، وإذا أخذنا هذا بشيء من التسليم فإنه ذلك لا يعني أن المقر بالربوبية قد انتفت عنه الانحرافات الاعتقادية الأخرى ما دام أنه ينكر ألوهية اللَّه تعالى كليًا أو جزئيًا أو يستخف باللَّه تعالى أو برسله أو بكتبه أو بأي شيء من شرعه أو أخباره.

ثم إننا إذا تأملنا هذه الدعوى وجدنا أنها لا تخرج عن التبعية لمذاهب غربية أخرى قد لا تعد في مفهوم الغرب ومعاييره من المذاهب الإلحادية، وهو ما يسمونه "المذهب الربوبيّ" الذي بدأ في القرن الثامن عشر الميلادي في إنجلترا، بعد أن ظهرت المذاهب ذات الصبغة الإلحادية الصريحة، وكان في مقابلها المذهب الدينيّ الكنسيّ النصرانيّ الذي قاوم بشدة هذه التوجهات الإلحادية، لكن موجها كان أكبر من سفينته المفككة المنخورة، والرجة الفكرية التي حدثت تبعًا للصراع بين العلم وحقائقه والكنيسة وزيفها وخرافاتها كانت أكبر من أن تحتمله جدران الكنيسة المتصدعة، ونشأ بين التيارين المتناقضين -أعني التيار الإلحادي الصريح والتيار الكنسي المحافظ- تيار ثالث يدعي التوفيق بين التيارين وهو أقرب إلى الإلحاد، إلّا أنه يريد الإبقاء على شيء من دين ولكن غير الدين المحرف الذي كانت الهجمات قد توالت عليه منذ القرن السابع عشر الميلادي فأنهكته

(1)

، ولما جاء القرن

(1)

انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة أحمد الشيباني 2/ 54.

ص: 128

الثامن عشر كانت طلائع النقد الهادم للدين النصرانيّ واليهوديّ قد قطعت شوطًا كبيرًا وألقت بظلال من الشك على التوراة والإنجيل وعلى الأصل الموسويّ لأسفار موسى الخمسة

(1)

حتى قال قائلهم في عام 1152 هـ/ 1740 م: (لقد أصبح الكثيرون من الناس يعتقدون بأن المسيحية هي في نهاية المطاف خرافة)

(2)

.

ولقد أسهم هذا التيار الجديد في هدم البقية الباقية من الدين النصرانيّ المحرّف، وتميز العصر المسمى عصر التنوير 1101 - 1142 هـ/ 1690 - 1730 م

(3)

بالمناظرات الشديدة التي دارت حول المسيحية بين أولئك الذين يسمون أنفسهم بـ "الربوبيين" وبين أتباع الكنيسة المتعصبين لها

(4)

.

هذا هو التيار الثالث المتولد بين صرحاء الإلحاد ومتعصبة النصرانية، وهو ما أطلق عليه اسم "الربوبيون" فهل هم فعلًا يؤمنون برب خالق قادر متصرف هو اللَّه الحكيم العليم، أم أن لهم ربًا آخر يؤمنون به؟.

المذهب الربوبيّ في المفهوم الغربيّ الماديّ هو كما عرفته الموسوعات الفلسفية: (وجهة النظر التي تؤكد الاعتقاد بوجود إله غير شخصيّ كسبب أوليّ للعالم وليس كإله الديانات الكتابية. . . ويعتقد الربوبيّ أن اللَّه خلق العالم وتركه يعمل وفق قوانينه ودون تدخل منه، ومن ثم ينفي القدرة المطلقة والعلم المطلق عن اللَّه. . .)

(5)

.

ومما جاء في الموسوعة الفلسفية التي وضعها لجنة من العلماء والأكادميين السوفياتيين: (الربوبية: الاعتقاد بوجود إله كسبب أوليّ لا

(1)

انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة أحمد الشيباني 2/ 54.

(2)

المصدر السابق 2/ 55.

(3)

و

(4)

انظر: المصدر السابق 2/ 55.

(5)

المعجم الفلسفي لعبد المنعم الحفنيّ: ص 431. ويذكر فيه رموز هذا المذهب وهم: فولتير وجان جاك روسو ولوك ونيوتن وتولاند وجيفرسون وبنيامين فرانكلين وتوماس وكانت الذي دعا إلى ديانة في حدود العقل وحده، وسوف تجد آثار هؤلاء الفلاسفة في موضع احترام وتججيل عند الحداثيين والعلمانيين العرب مما يدل على التشابه والتلاقح الاعتقاديّ بين هؤلاء وأولئك.

ص: 129

شخصيّ للعالم، والعالم -من وجهة نظر الربوبية- قد تُرك لفعل قوانينه الخاصة بعد أن خُلق، وكان أول ظهور الربوبية في إنجلترا، وهربرت أوف تشيربوري 991 - 1058 هـ/ 1583 - 1648 م هو "أبو الربوبية"، وحيث كانت تسود المفاهيم الدينية الإقطاعية فإن الربوبية كانت غالبًا ما تتخذ شكلًا زأئفًا من المذهب الإلحاديّ)

(1)

.

هذا هو المذهب الربوبيّ كما يسميه فلاسفة الغرب، وقد انتشر من إنجلترا وعبر القنال إلى سائر القارة الأوربية، وأصبح جزءًا من حركة الفلاسفة الكبار في فرنسا

(2)

.

وفي حقيقة الأمر أن هذا المذهب وإن كان أصحابه يقرون بأن الكون له موجد إلّا أنهم أقرب إلى الإلحاد منهم إلى الإثبات كما في التعريف السابق أن هذا المذهب اتخذ شكلًا زائفًا من المذهب الإلحاديّ، فهو عبارة عن مسخ فكري ماديّ لايؤمن باللَّه كما هو عليه سبحانه وتعالى من صفات، ولا يقول بأقوال صريحة في الإلحاد، ويتجلى ذلك في شخصية فولتير صنم الحداثيين وقبلتهم الفكرية، فقد هاجم الأناجيل والكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، وعدّى ذلك بنظرته التشاؤمية إلى سائر الأديان باعتبارها مصدرًا للتعصب والتعسف والظلم، ورفض علم ما بعد الطبيعة لأنه مصدر تعاسة الإنسان كما يقول فولتير، وخلص إلى رفض العقائد الدينية والوحي والمعجزات، وآمن بدين ألوهيّ خاص به كما يقول المترجمون له، وأن للكون إلهًا علويًا غامضًا لا يعنى بشؤون الناس والكون، ولا يعنى بتنظيم حياة البشر، وقد نزع في كل ذلك نزعة أبيقورية

(3)

.

(1)

المعجم الفلسفي لأكادميين سوفييت: ص 227 وفيه ذكر أسماء الذين يعتقدون بهذه العقيدة بعضهم ممن ورد في الهامش السابق.

(2)

انظر: تاريخ الفكر الأوربيّ لرونالد سترومبرج، ترجمة أحمد الشيباني 2/ 55، 59، 61، 64، وفيه ذكر أنه انتشر نتيجة لقصائد فولتير، وأن من رموزه ديدرو وجون ثولاند، وماثيوتندال، وانتوني كولنز.

(3)

نسبة إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور الذي يعد من أوائل الفلاسفة الملحدين، وقد سبقت ترجمته ص 113.

ص: 130

وقرر في كتبه أن إلهه الذي يؤمن به لا شخصي وأنه فوق مستوى الإدراك، وسبب قوله بهذا القول أن العقل يجزم بوجود عقل أعلى خالق للكون -حسب تعبيره- ويقول: لو لم يكن اللَّه موجودًا لوجب اختراعه

(1)

.

والآن بعد ذكر جذور الإلحاد وأكابر الملحدين الغربيين الذين هم قدوة ملاحدة العرب من المثقفين وغيرهم، سوف نخلص إلى بيان أنواع الانحراف الاعتقاديّ في الأدب المعاصر في قضية وجود اللَّه تعالى وربوبيته وذلك من خلال العناصر التالية:

1 -

نفي وجود اللَّه تعالى أو التشكيك في ذلك.

2 -

نفي كون اللَّه تعالى ربًا خالقًا مدبرًا "نفي توحيد الربوبية".

3 -

نسبة الأبدية للمخلوق والقول بأزلية العالم والخلق.

4 -

الزعم بأن الوجود عبث.

5 -

نسبة الخلق إلى غير اللَّه تعالى، وتسمية غير اللَّه خالقًا.

6 -

نسبة الربوبية إلى غير اللَّه تعالى.

7 -

السخرية والتدنيس والاستخفاف بالخالق الرب -جلَّ وعلا- وتوحيد الربوبية.

والآن إلى تفصيل ذلك وإثبات شواهده:

‌أولًا: نفي الحداثيين لوجود اللَّه تعالى، أو التشكيك في ذلك:

يربط أكثر الحداثيين بين التحرر الذي يصبون إليه، والتقدم الذي يزعمونه ويدعونه، ونفي وجود اللَّه تعالى وجحد كونه خالقًا مدبرًا لهذا الكون وفلسفتهم تقوم على إبعاد الثنائية عن العالم والإنسان، وإزاحة مفهوم أن الكون ينقسم إلى خالق ومخلوق.

(1)

انظر ترجمة فولتير (1105 - 1192 هـ/ 1694 - 1778 م) وهذه الأقوال عنه في موسوعة أعلام الفلسفة 2/ 170 - 177، ومعجم الفلاسفة: ص 434 - 438، والموسوعة الفلسفية للحفنيّ: ص 349.

ص: 131

وفي هذا الصدد يقول حسن حنفيّ

(1)

الذي يعد عند بعض العلمانيين والحداثيين من أصحاب التوجه الإسلامي المستنير!! يقول في ندوة عقدت في لندن بعنوان "الإسلام والحداثة" عام 1409 هـ/ 1989 م: (إن العالم مقسوم إلى قسمين: اللَّه والعالم، فينعكس ذلك حتمًا في المجتمع، على السلطان على الحاكم والمحكوم، وسينعكس في الأسرة على الرجل والمرأة، والسؤال الموجه لك هو: أن هناك ثلاثة اختيارات، اختيار حركة تحرر المرأة. . . في البداية لتحرير المرأة من الرجل، وهناك المثقف العلماني الذي يبدأ بتغيير النظام السياسيّ، وهناك الذي يحاول تثوير الدين، ما لم نقض على هذا التصور الثنائي للعالم ورؤية العالم بين حاكم ومحكوم، وعلى المستوى الدينيّ بين خالق ومخلوق، فلن تستطيع حركات تحرر المرأة أن تفعل شيئًا، ولن يستطيع المثقف العلمانيّ أن يؤدي دوره ما لم نقض على هذا التصور، هذا السؤال الأول في آليات التغيير)

(2)

.

ويعد علمانيّ آخر أن قضية لزوم تطبيق حكم اللَّه في الأرض مرتبط في عقيدة المسلم بإيمانه بوجود اللَّه الخالق، وأن هذا الاعتقاد هو الذي يشكل الرباط المعرفيّ والأسبقية الاعتقادية التي ينبني عليها القول بلزوم انضواء السياسة تحت الإسلام، كما يقول بذلك علماء ودعاة الإسلام اليوم، ومن ثم

(1)

ولد في القاهرة عام 1354 هـ/ 1935، حصل على الدكتوراه من السوربون عام 1385 هـ/ 1966 م، ويعمل أستاذًا للفلسفة في جامعة القاهرة ورئيس القسم فيها، والسكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية، له مؤلفات كثيرة مليئة بالتناقض في المواقف والآراء، إلّا أنه لم يختلف موقفه في تأييد العلمانية ومعاداة الإسلام، وقد أعلن في ندوة الإسلام والحداثة بقوله:(أنا هنا أكثر ماركسية من الماركسيين)، وقال:(نحن منذ فجر النهضة العربية الحديثة وحتى الآن نحاول أن نخرج من الإيمان السلفيّ)، وقال:(أنا مفكر وضعيّ، وكل ما يخرج عن نطاق الحس والمادة والتحليل أضعه بين قوسين)، أو يقول مخاطبًا العلمانيّ المجاهر بإلحاده عادل ظاهر:(الإيمان السلفيّ التاريخيّ. . . هو الشيء الذي تخافه عليّ، إن إيماني يكفرني كما أنه يكفرك أيضًا). انظر أقواله هذه في: الإسلام والحداثة: ص 217، 218، 219، 221، 224، وترجمته في الكتاب نفسه ص 416.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 387 - 388.

ص: 132

يشير هذا الكاتب إلى ما يجب استبعاده من منظومات عقائد المسلم، باعتبارها الأساس للقول بوجوب الحكم بشرع اللَّه في سائر نواحي الحياة وهي القضية التي يسعى لمحاربتها، ويرى أنه لا يُمكن استبعادها إلّا باستبعاد أساسها الاعتقاديّ، فيقول:(. . . إن الكلام على الماهية العقدية للإسلام هو كلام على ذلك الاعتقاد الذي له أسبقية منطقية على الاعتقادات الدينية الأخرى للمسلم، إن أسبقية المنطقية يحتّمها كونه الأساس الأخير لكل اعتقاد آخر للمسلم، إنه ما ينبغي أن نلجأ إليه في نهاية التحليل لتقرر ما الذي يتحتم استبعاده أو عدم استبعاده أو لا يتحتم استبعاده من منظومة اعتقادات المسلم الدينية، ومعيار الاستبعاد أو عدم الاستبعاد هو معيار منطقيّ في المقام الأول)

(1)

.

إلى أن يقول: (ولكن أي اعتقادات المسلم هو الاعتقاد المؤهل لاحتلال هذا الوضع الابستمولوجيّ

(2)

الفريد في المنظومة الاعتقادية للمسلم؟، إنه لا شك الاعتقاد بوجود خالق أزليّ كليّ الحضور واحد أحد لكل شيء، خالق واجب الوجود، وكليّ العلم، وكليّ الخير، وذي حرية تامة ومصدر للإلزام الأخلاقي، إن أي اعتقاد آخر يتعارض معه مستبعد بالضرورة من المنظومة الاعتقادية للمسلم. . .)

(3)

.

وبعد سفسطات سخيفة يقول: (هل يُمكن أن يكون اللَّه ذر الطبيعة المسندة إليه من قبل الإسلام كائنًا يُمكن أن يأمر البشر بأن يقيموا دولتهم على أسس معينة لا سواها بغض النظر عن ظروفهم الزمانية والمكانية؟ هل يُمكن لكائن له طبيعة اللَّه أن يفرض على المؤمنين في كل عصورهم وأممهم ألا يفصلوا بين دينهم والسياسة؟. . .)

(4)

.

(1)

الحداثة والإسلام من مقال للبناني عادل ظاهر بعنوان (الإسلام والعلمانية): ص 74 - 75.

(2)

لفظ مركب من لفظين يونانيين هما ابستمي أي المعرفة والعلم ولوفوس أي النظرية والدراسة، فمعنى الابستمولوجيا إذن نظرية العلوم وفلسفة العلوم، وتعنى بدراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ومناهجها ونتائجها دراسة نقدية ترمي إلى إبراز بناها ومنطقها وقيمتها الموضوعية. معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: ص 13.

(3)

الحداثة والإسلام من مقال للبناني عادل ظاهر بعنوان (الإسلام والعلمانية): ص 74 - 75.

(4)

المصدر السابق: ص 76.

ص: 133

فها هو بعد التشكيك في اللَّه تعالى، وبعد نظرية الاستبعاد التي ذكرها، يتهكم باللَّه تعالى ويعتبره صاحب طبيعة مسندة إليه من قبل الإسلام؟ أي أنه تعالى ليس له حقيقة وإن افتُرض أنه موجود فوجوده ليس إلّا وصفًا مخترعًا من قبل الدين الإسلاميّ، ثم يوغل في التهكم فيصف اللَّه بأنه "كائن".

وبعضهم قد تجاوز هذا الحد في التهكم والسخرية والإلحاد وتلفظ بكلام عظيم في حق اللَّه تعالى، ولولا أن هذا البحث يتمحور حول إثبات الانحرافات الاعتقادية لدى أصحاب الأدب المعاصر لما جرى نقل هذا الكلام السخيف، على أن ناقل الكفر ليس بكافر، أسأل اللَّه العفو والغفران.

وكما حاول العلماني السالف الذكر أن يربط بين العلمانية ونفي وجود اللَّه، فإن الحداثي -وهو علماني بالتبع- يحاول أن يربط بين ما يسميه الإبداع والإلحاد، ويؤكد أنه لا حداثة ولا إبداع إلّا مع نفي وجود اللَّه -جلَّ وعلا- أو "قتل اللَّه" -سبحانه وتعالى عما يقولون- كما يعبر عن ذلك أدونيس ممتدحًا جبران خليل جبران

(1)

في كتابه الهدام "المجنون" فيقول: (قلت: إن كتاب جبران هدمي، وهو لذلك يضعنا في مناخ العدمية، نشعر أن الأخلاق والقيم الدينية تهدمت في العالم الذي يسكنه المجنون، لم تعد ثمة غاية ولا اتجاه، ولم يعد ثمة نور يضيء ولا طريق. .

(1)

هو: جبران بن خليل جبران بن ميخائيل، ولد عام 1313 هـ/ 1895 م لأسرة لبنانية مارونية، وسافر من صغره إلى بوسطن في أمريكا، وتعرف على ماري هاسكل، فغيرت مجرى حياته، وسافر إلى باريس لتعلّم الرسم على نفقتها، شارك في تأسيس الرابطة القلمية عام 1338 هـ/ 1920 م في أمريكا وهي التي روجت لكتبه، مات في نيويورك عام 1349 هـ/ 1931 م، يعتبره الحداثيون القائد الأول للاتجاه الحداثيّ بسبب ما لديه من عقائد إلحادية، وشكية، وانحرافات سلوكية مثل الشذوذ الجنسيّ، إضافة إلى غرور شيطانيّ ركبه كان يعتقد معه أنه نبيّ مخلص، ويعتقد أيضًا عقيدة التناسخ، إضافة إلى أنه عند وفاته طلب الكاهن الخوراسغف فرنسيس واكيم راعي كنيسة القديس يوسف المارونية في نيويورك ليموت بين يديه، وجبران مجمع لعقائد متناقضة منحرفة ونموذج للغزو الفكريّ والخلقيّ الموجه ضد البلاد العربية. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 295، وأحاديث عن جبران لرياض حنين، وأضواء جديدة على جبران لتوفيق صايغ، والمرشد لتراجم الكتاب والأدباء: ص 46.

ص: 134

كل نقد جذريّ للدين والفلسفة والأخلاق يتضمن العدمية ويؤدي إليها، وهذا ما عبر عنه نيتشه بعبارة "موت اللَّه"، وقد رأينا أن جبران قتل اللَّه هو كذلك -على طريقته- حين قتل النظرة الدينية التقليدية، وحين دعا إلى ابتكار قيم تتجاوز الملاك والشيطان، أو الخير والشر، والواقع أننا بعد أن ننتهي من قراءة "المجنون" نشعر أن ثمة تاريخًا من القيم ينتهي.

ومن الواضح أن جبران لا يحلل تحليلًا فلسفيًا أو علميًا القيم التي يهدمها وإنّما يعرضها بشكل يجعلها مشبوهة، فمتهمة فمرفوضة، إنه يحاول بتعبير آخر أن يظهر خطأ التفسيرات التي تقدمها الأديان والأخلاق التقليدية للعالم والإنسان فيما يدعو إلى محو المذهبية القيمية، ويؤكد على فاعلية الحياة والإنسان الذي يبتكر القيم الجديدة، الأخلاق التقليدية هي التي تعيش الخوف من اللَّه، وتنبع من هذا الخوف، الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيش موت اللَّه، وتنبع من ولادة إله جديد، إنه إذن يهدم الأخلاق التي تضعف الإنسان وتستعبده، ويبشر بالأخلاق التي تنميه وتحرره، إنه يهدم الأخلاق السلبية الانفعالية التي تتقبل الراهن الموروث من القيم، ويبشر بالأخلاق الإيجابية الفعالة التي تخلق هي نفسها القيم، إنه يريد بالتالي أن يحل محل الفكر المأخوذ بأخلاق المستقبل محل الفكر المأخوذ بأخلاق الماضي؛ ولهذا فإن كتاب "المجنون" دعوة لقلب نظام القيم)

(1)

.

فأدونيس يثبت هنا إلحاده وإلحاد جبران وهم في ذلك ليسوا إلّا تبعًا لنيتشه

(2)

الفيلسوف الألمانيّ الملحد، ويؤكد أن هذا الإلحاد هو عنصر الإيجابية والفعالية والإبداع والابتكار والتجديد، وهذا محور أساسي من محاور فكر أستاذ الحداثة الكبير وقدوة الحداثيين وأشباههم، فهو لا يفتأ يكرر مثل هذه المعاني داعيًا إلى تأليه الإنسان وجحد الخالق البارئ العظيم سبحانه وتعالى، فها هو يقول: (. . . إن جوهر الإنسان ليس في كونه مشروطًا بل في كونه يفلت من الشروط كلها، ليس في كونه مخلوقًا بل في

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 178 - 179.

(2)

سبقت ترجمته وذكر طرف من إلحادياته ص 121.

ص: 135

كونه خالقًا، فجوهر الإنسان هو في أنه كائن خلاق مغير، وجوهر الثقافة بالتالي هو إذن في الإبداع المغير)

(1)

.

ويبحث أدرنيس عن جذور له في الفكر العربيّ فلايجد إلّا ابن الراونديّ

(2)

وأضرابه من الزنادقة الملاحدة، فينقل كلامه في معرض تأصيل للحداثة وفي سياق تبجيل وتمجيد للأفكار المتحررة حسب زعمه، ويأتي بأقواله في التهكم بالنبوة والسخرية بالمعجزات والنيل من الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- ثم يقول بعد ذلك:(وابن الراونديّ هنا لا ينتقد المعجزة بذاتها وحسب وإنما ينتقد كذلك المنطق الداخلي المتهافت الكيفيّ لدى القائلين بها. . . وينتهي ابن الراونديّ إلى القول بأن العقل يناقض النبوة، فمن جهة أولى ليس "للخلق أول" والكلام الإنساني حادث، ولا يرجع في أصله إلى الأنبياء، والإنسان هو الذي ابتكر بعقله كل شيء دون حاجة إلى الأنبياء يقول مثلًا: "إن الكلام مستملى عن الوالدين صاعدًا قرنًا فقرنًا إلى ما لا نهاية له فليس للخلق أول)

(3)

.

ثم يمزج أدونيس إلحاده في خليط خبيث بين الصوفية الفلسفية والسورياليّة

(4)

فيقول: (. . . فمن الصحيح القول ليس للَّه بالمعنى الدينيّ

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 248.

(2)

هو: أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراونديّ، من سكان بغداد وأصله من أصبهان، قيل: كان والده يهوديًا فأسلم، فيلسوف مجاهر بالإلحاد، جاحد للنبوة والمعاد، أحد مشاهير الزنادقة الذين أولع بهم أهل الحداثة وخاصة أدونيس في كتابه الثابت والمتحول 1/ 74 - 77، 235، لما جاهر ابن الراونديّ بإلحاده طلبه السلطان في زمانه فهرب ولجأ إلى ابن لاوي اليهوديّ في الأهواز وصنف له كتاب الدامغ للقرآن، ووضع كتبًا في نفي وجود اللَّه وتصحيح مذهب الدهرية، قيل مات، وقيل صلبه أحد السلاطين في بغداد سنة 298 هـ. انظر: الأعلام 1/ 267، وسير أعلام النبلاء 14/ 59.

(3)

الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول أدونيس: ص 75. والكلام بين الأقواس الداخلية نقله أدونيس من كلام صنوه ابن الراونديّ.

(4)

السوريالية مذهب في الفن والأدب يذهب إلى ما فوق الواقع، ويعول على إبراز الأحوال اللاشعورية، ويؤكد على الجوانب اللاعقلية في الوجود الإنسانيّ، وتعنى فوق =

ص: 136

التقليديّ أي حضور في التجربة السوريالية. . . لكن ليس له كذلك، بالمعنى الدينيّ التقليديّ أي حضور في التجربة الصوفية، أو لنقل أن حضوره فيها ليس حضور انفصال وتجريد عن الوجود كما هو الشأن في النظرة الدينية التقليدية، وإنّما هو حضور اتصال بالوجود، حضور اتحاد ووحدة، "اللَّه" صوفيًا ليس الواحد - إلّا لأنه الكتير، إنه من الوجود "النقطة العليا" كما يقول بريتون

(1)

: النقطة التي يتوحد فيها ما نسميه المادة وما نسميه الروح وتزول التناقضات فهو ليس الواحد الذي يخلق الوجود من خارج ودون اتصال به، وإنّما هو الوجود نفسه في حركيته ولا نهايته، ليس في السماء وليس في الأرض، بل هو السماء والأرض معًا متحدين. . . واللانهاية ليست خارج المادة بل هي داخل المادة، اللانهائي الإنسان نفسه والمادة نفسها)

(2)

.

ويشرح أدونيس هذه الخرافات في مواضع عديدة في كتابه الصوفية والسوريالية ويؤكد أنهما وجهان لعملة واحدة وأن ما يسميه التلاقي في الطريق المعرفيّ يجمع بينهما، غير أنه لم يشر إلى أن تلاقيه هو الآخر مع الصوفية والسوريالية آت من عقيدته الأصلية الباطنية النصيرية، إلّا أنه في موضع من مقدمة هذا الكتاب ألمح إلى هذا دون أن يصرح بنصيريته فقال: (. . . أبادر إلى القول أن غايتي من هذا البحث ليس القول إن الصوفية والسوريالية شيء واحد، أو إن الأولى بوضعها تجربة متقدمة زمنيًا أثرت على الثانية بشكل

= أو ما وراء الواقع، وهي تمجد الجنون والغيبوبة والمخدرات والأحلام والعبث وتعتبرها أساسًا للفن والإبداع. انظر: المعجم الفلسفي: ص 97، ومعجم المصطلحات الأدبية لإبراهيم فتحي: ص 204، وموسوعة السوفييت: ص 244، والصوفية 101 والسوريالية: ص 34 - 35.

(1)

هو: أندريه بريتون، أحد أعلام السوريالية، ومن الداعين إلى العبث والعصاب والجنون باعتبارها وسائل تحقق أصالة الحياة النفسية الشخصية حسب رأيه الأرعن، وقد تبعه في ذلك أدونيس في كتابه عن السوريالية. انظر: الصوفية والسوريالية لأدونيس: ص 46 - 53.

(2)

الصوفية والسوريالية لأدونيس، دار الساقي: ص 10.

ص: 137

مباشر، أو مداور، إن غايتي هي التوكيد على أن في الوجود جانبًا باطنًا لا مرئيًا مجهولًا، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية العقلانية، وأن الإنسان دونه محاولة الوصول إليه كائن ناقص الوجود والمعرفة وأن الطرق إليه خاصة وشخصية، وأننا نجد استنادًا إلى ذلك قرابات وتآلفات بين جميع الاتجاهات التي تحاول أن تستشرف هذا الغيب. . .)

(1)

.

ولم يبق لأدونيس إلّا أن يكشف السجف الرقيق المتبقي خلف هذه العبارات ويقول صراحة بباطنيته ونصيريته، ولولا خشية الاستطراد والخروج عن حدود هذا الفصل لذكرت بتفصيل موثق أن أدونيس في حداثته باطني وفي علمانيته نصيريّ، وفي إبداعه قرمطيّ، وأنه لا يعدو قدره وإن تطاول.

أمّا ما أشار إليه في النص السابق من أن اللَّه تعالى ليس الواحد الذي يخلق الوجود من خارج وإنّما هو الوجود نفسه، فهو مذهب وحدة الوجود بمضمونه الغربيّ، وهو مضمون إلحاديّ بحت، وقد جاء تفسيره في المعاجم الفلسفية بأنه:(. . . تغليب فكرة العالم فلا يسلم إلّا بوجوده ويرد كل شيء إلى المادة فهي حية بذاتها، وعنها نشأت الكائنات جميعها، وهذه وحدة مادية. . . ولم يخل هذا المذهب من نقد لما فيه من إلحاد. . .)

(2)

.

ومذهب وحدة الوجود: (تعاليم فلسفية تذهب إلى أن اللَّه مبدأ لا شخصي ليس خارج الطبيعة ولكنه متوحد معها، ومذهب وحدة الوجود يبث اللَّه في الطبيعة ويرفض العنصر الخارق للطبيعة. . .)

(3)

.

وحين نتعقب كلام أدونيس في كتاب الصوفية والسوريالية فإننا نجده يدور حول هذه المفاهيم بخلفية باطنية وشكوك إلحادية.

فها هو يبتهج بالنتيجة الهائلة التي وصل إليها؛ لأنها تطابق معتقده وتوافق مقصده في هدم الدين، وذلك حين يقول في معرض التوافق

(1)

المصدر السابق: ص 15.

(2)

المعجم الفلسفي من إصدار مجمع اللغة العربية في مصر: ص 212، وفيه أن من شخصيات هذا المذهب ديدرو وهولباخ.

(3)

الموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 580، وفيه أن من فلاسفة هذا المذهب برونو، وبصفة خاصة سبينوزا.

ص: 138

المنهجيّ بين الصوفية والسوريالية (. . . فالمنهج واحد وفي تطبيق هذا المنهج مشابهات كثيرة تدفع إلى القول بأن السوريالية صوفية وثنية أو بلا إله، وغايتها التماهي مع المطلق، وبأن الصوفية سوريالية تقوم على البحث عن المطلق والتماهي هي أيضًا معه)

(1)

.

ثم يتحدث عن الوحدة العميقة بين الصوفية والسوريالية، ويؤكد أن الحقيقة لديهم:(لا تجنى من خارج، من الكتاب أو الشرع أو القانون أو الأفكار والتعاليم وإنّما تجيء من داخل من التجربة الحية من الحب من التواصل الحي مع الأشياء والكون ويتجلى له أن الإنسان طاش أبدًا إلى أن يجسد ويتجسد).

ثم يعقب ذلك بكلام يشكك به في وجود اللَّه تعالى، فيقول:(ويوقن أن اللَّه إن كان خارج الوجود ولا اتصال له بالوجود إلّا اتصال التكوين والهيمنة فإن هذا العالم لن يكون أكثر من كرة من الغبار لا يستحق أن يوجد، ولا يستحق بالأحرى أن يعيش فيه هذا الكائن العظيم: الإنسان، وسيكون هذا المخلوق مع ذلك أكثر أهمية من الخالق. . .)

(2)

.

فقد بدأ بوحدة الوجود - بالمفهوم الغربيّ الإلحاديّ المتضمن لنفي وجود اللَّه تعالى، ثم انثنى يشكك ويقولى كأنه يتنزل مع خصومه تنزلًا:(إن اللَّه إن كان خارج الوجود) ثم عقب بعد كل ذلك بأن المخلوق أكثر أهمية من الخالق، وهذا الرجل له في سوق الحداثة قدم راسخ، وله بيق أتباعها كلمة مسموعة، وراية متبوعة، وحتى الذين يدعون أنهم لم يكفروا ولم يلحدوا في حداثتهم يتخذونه إمامًا ومتبوعًا فبئس التابع والمتبوع.

هذا العدو اللدود لدين الإسلام يسعى جاهدًا لهدم كل أسسه بدءًا بتوحيد الربوبية وإثبات وجود اللَّه، وقد مر معنا من قبل امتداحه لجبران خليل جبران في إلحاده ويصفه بأنه قد "قتل اللَّه" تعالى اللَّه وتقدس، ثم يكرر هذا المعنى الإلحاديّ في موضع آخر من كتابه الصوفية والسوريالية

(1)

الصوفية والسوريالية: ص 16.

(2)

المصدر السابق: ص 16 - 17.

ص: 139

وهو يصف الانخطاف السورياليّ عند بعض السورياليين أسياده وأساتذته يقول: (. . . ففي النشوة ينعدم كل شيء حتى اللَّه)

(1)

.

وفي غمرة الانبهار بالغرب والتبعية لأطروحاته العقيدية والفكرية تجد الأقاويل الفاسدة الباطلة تتسلل في ثياب زائفة مرة باسم الموضوعية ومرة باسم النقاش الحر، ويدخلون في ذلك كل شيء، ويخضعون مسألة وجود اللَّه تعالى وربوبيته وألوهيته لمناقشاتهم السوفسطائية، بل ويعدون تحرز المسلم من الخوض في مستنقعاتهم الفكرية تخلفًا وجمودًا وأصولية كما يحلو لمحمد أركون

(2)

أن يعبر تبعًا لتعبيرات معلميه في فرنسا وغيرها، ففي سياق انتقاده للغة العربية ووصفه لها بأنها منغلقة ونائمة ومتخشبة، وامتداحه للغة وفكر الغرب يتساءل بعد إيراده للفظ فرنسي إلحاديّ يقول:(. . . فكيف نعبر عنه باللغة العربية؟ هل نقول: مشكل اللَّه أو مشكلة اللَّه. . .)

(3)

.

ثم يعقب بأن هذا التعبير يقابل بالاندهاش والاستنكار عند العرب في حين أنه تعبير عاديّ في اللغة الأوروبية الحديثة

(4)

.

فمن التبعية المطلقة للغرب فكرًا ولغة وعقيدة يتجرجر هذا التعيس في أودية الإلحاد ولا يكتفي بذلك بل يريد أن يعممه على مستوى الأمة التي ارتبطت لغتها بدينها وتشابكت حياتها مع عقيدتها، وتواصلت ممارساتها بشريعتها؛ ولذلك يقول عن اللَّه تعالى بأنه مشكلة، ويعتبر عدم خوضهم في

(1)

الصوفية والسوريالية: ص 55.

(2)

ولد محمد أركون في منطقة القبائل في الجزائر، يقال أنه يهودي الأصل، وأنه كان يعرف بعركون، درس في السوربون وأصبح أستاذًا فيها بعد نيله الدكتوراه منها، له كتب عديدة تنضح ببغضاء شديدة ضد اللغة العربية التي ينادي بتفجيرها، ويرى أن اللَّه تعالى وتقدس مشكلة، ويسخر من المؤمنين بأن اللَّه خالق العالم يستخدم مصطلح التاريخية والتاريخانية بتقديس كامل، ويمجد كل معارض للإسلام مشكك فيه من مسكويه والتوحيديّ حتى خلف اللَّه، وينتقد من يثني على شيء في الإسلام مثل نقده لموريس بوكاي، وبالجملة فهو من عتاة أعداء الإسلام وممن تولى كبر المحاربة له. انظر: الإسلام والحداثة: ص 418، ورأيهم في الإسلام: ص 145.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 343.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 343.

ص: 140

\هذا المجال دليل قصور وتخشب في اللغة ممارسة وفي الفكر عقيدة، ويضرب لذلك مثلًا أخر وهو فقدان اللغة لمصطلح "الأرثوذوكسية"

(1)

فيقول: (فهذا المصطلح لا وجود له في اللغة العربية، ومجرد عدم وجوده دليل صارخ على مدى تخلف الفكر والتفكير بهذه اللغة في المرحلة الحالية)

(2)

.

ثم ينسل إلى مقصده الرئيسيّ الذي ذكره سابقًا فيما يتعلق باللَّه تعالى، فيقول عن العربيّ:(. . . لا يُمكن أن يتصور إمكانية طرح مشكلة فكرية حول اللَّه أو مناقشة فكرية حول وجود اللَّه، والسبب هو أن الخطاب القرآنيّ يملأ مشاعره كمسلم أو كعربيّ بوجود اللَّه، إنه يملأ أقطار وعيه ومشاعره إلى درجة أنه لا يبقى في وعيه أية مساحة لإثارة مناقشة فكرية حول وجود اللَّه)

(3)

.

هذه المنهجية الإلحادية التي يحاول رواد وقادة الحداثة ترويجها بين المسلمين ليصلوا إلى ما يسمونه عفوية التأويل الإلحاديّ كما يقول أحدهم: (. . . إن عفوية النقد الماضويّ تذكرنا بعفوية التأويل الإلحاديّ الأول والقائل: "إذا لم يكن اللَّه موجودًا فكل شيء مباح")

(4)

.

إنه الانفراط العقديّ، والتيه الفكريّ، والضياع المترتب على ذلك، وهو كل المراد من هذه المقولات الإلحادية، الداعية إلى الخروج عن المألوف، وتجاوز السائد والمقصود به بالطبع في مجتمعات المسلمين دينهم وعقيدتهم.

(1)

الأرثوذكسية فرقة من فرق النصارى ومذهب تعتنقه جل الكنائس الشرقية، قام هذا المذهب كرد فعل لعقيدة نسطور بطريرك الاسكندرية الذي قال سنة 431 م أن مريم لم تلد إلّا إنسانًا هي أم له وليست أمًّا لإله، فعقد في مدينة أفسيس في الأناضول مؤتمر في تلك السنة وافقوا فيه على عقيدة البابا كيرنس بطريرك الاسكندرية والتي تقضي بأن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة. انظر: الديانات والعقائد في مختلف العصور 3/ 500، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: ص 503.

(2)

و

(3)

الإسلام والحداثة: ص 344.

(4)

مجلة الناقد عدد 13 في تموز يوليو 1989 م الموافق ذو الحجة/ 1409 هـ: ص 41 من مقال لأمينة غصن بعنوان (النقد الحديث قراءة الصيرورة لا الحداثة).

ص: 141

وعندما نكرر القول بأن التبعية الغربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني هي المنطلق الأساسي للحداثيين فلا نكون قد خالفنا الصواب قيد أنملة، وذلك أن دلالة الحال والمقال من هؤلاء المرتمين تؤكد هذا المعنى.

ولنأخذ على ذلك مثالًا فيما نحن بصدده في مسألة الربوبية كلمات سوريالية هائمة للنصرانيّ الملحد أنسي الحاج

(1)

، مجنون قصيدة النثر، وداعية التحرر التام، والتبعية التامة، يقول في كتابه "خواتم" الذي أصدرته مجلة الناقد: (أنت لا تشك في وجود اللَّه بل وجودك أنت، ولا تجد فاعلية بل على حظك، وبصياحك "اللَّه مات" لا تعني أنه اللَّه مات بل إنك تستفزه من قاع خوفك البهيم. . . لو استطاع الإنسان التخلص من الندم على الماضي ومن الأمل بمستقبل ما يلي الموت، هل كان يستغني عن فكرة اللَّه؟. . . العدم حقيقة حقًا: إنه فراغي أنا، عدمي الداخليّ. . .، ومع ذلك لا أستطيع إلّا أن أعجب أيضًا بمن ينكرك يا إلهي، كأني أمل بأن تشتبكا أمامي، أو كأنه هو أنا الآخر الذي ما زال رغم الإيمان ينتظر السانحة ليعلن استقلاله المطلق ويستأصل كل مخاوفه.

وأمضى فأصل إلى النتيجة: إعجابي بثورة الملحد وتجديفه سببه حريته المطلقة، التي في نكرانه التام للمسؤول الأكبر ولا مبالاته الناجزة بالثواب والعقاب بات يجني ثمارها دون أشواكها. . .)

(2)

.

هذا الهذيان الإلحاديّ المتنقل بين عفونة الشك إلى قذارة العدمية والعبث إلى الإعجاب الشديد بالإلحاد وأهله يصدر من إنسان غرق في العمالة للغرب حتى الآذان، وارتبط بالمخابرات الأمريكية من خلال "منظمة

(1)

أنسي الحاج حداثيّ لبنانيّ من أصل نصرانيّ، يجاهر بإلحاده وشذوذه الفكريّ وانحلاله، ويدعو إلى التخريب والهدم الذي يسميه التخريب الحيويّ، من أعمدة مجلة شعر، ومن السائرين على أهدافها حتى بعد إغلاقها، ركيك العبارة، سقيم الأسلوب، له ديوان سماه "لن" مليء بكل أصناف الضلال، ومثله كتابه خواتم، وكتاباته في مجلة الناقد من هذا الجنس المظلم. انظر: قضايا الشعر الحديث: ص 316.

(2)

خواتم: ص 74 - 75.

ص: 142

حرية الثقافة" التي يدير فعالياتها الأمريكان واليهود الصهاينة

(1)

.

وها هو يعترف في كتابه "خواتم" بذلك ويقول: (. . . خنقوني مرة بحرير حرية تعبيري، ومرة بصدق هذا التعبير، كمنوا في الجب والبئر يحرضونني على الظهور ويغرقون في خنادق خبثهم)

(2)

.

ومع كل هذا الوضوح في اعترافه بأنه أداة تنفيذ، ومع صراحة الوقائع المثبتة لعمالته إلّا أنه ما زال يعد عند المفتونين بسراب الحداثة من القمم التي لا تطال!!!.

ومن هذياناته في باب الربوبية قوله: (يموت الخلاق إن لم يكن من جهل العالم له فمن علمه به)

(3)

، وسواء أراد بالخلاق الرب سبحانه وتعالى، أم أراد به الحداثيّ المبدع فإن ذلك كله من الانحراف الذي يسعى هو وأضرابه إلى جعله واقعًا في حياة المسلمين من خلال الجحد والشك والجراءة والاستخفاف بكل ما يتعلق باللَّه تعالى.

لا غرابة إذا وجدت احتفاء بعضهم ببعض، وثناء بعضهم على بعض في انحطاطهم وهدمهم، فها هو أدونيس في خطبة حماسية، وبيان يشبه البيانات العسكرية يشيد بأنسي الحاج ويحرضه على رفض الموروث والمستنقعات المقدسة -حسب تعبيره- ويدعوه للرفض والثورة والتمرد ويعدها أساسًا لكل تغيير ثم يحثه على الجد في الهدم

(4)

، ثم يختم كل ذلك بقوله:(أحييك يا أنسي، أيتها القصيدة المارقة، أيها الشيطان الأصفر، يا صديقي، يا أخي)

(5)

.

ولا عجب أن يبتهج أدونيس بمروق صاحبه وشيطانيته؛ لأنهما معًا

(1)

انظر: مصداق ذلك في كتاب أفق الحداثة وحداثة النمط لسامي مهدي: ص 55، 56، 57، وقضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 305، وبحثًا عن الحداثة: ص 41 - 42، 48، 59، 90، 91.

(2)

خواتم: ص 153.

(3)

المصدر السابق: ص 109.

(4)

انظر: زمن الشعر لأدونيس: ص 228 - 230.

(5)

زمن الشعر: ص 231.

ص: 143

يعتزان بهذه الدركات الكفرية، ويبذلان في سبيل نشرها غاية البذل.

أمّا لماذا كل هذا التبجح بالإلحاد؟ فأمر يجيب عليه أحد نقاد الحداثة قائلًا: (لعل إشكالية الحداثة هي الأكثر لبسًا بين الإشكالات الفكرية والثقافية والفنية التي شهدتها لوحة الثقافة العربية الراهنة.

ويبدو أن هذا اللبس والغموض المحيط بها ليس سمة الحداثة في حقل تداولها الاصطلاحيّ والدلاليّ العربيّ فحسب، بل هي ولدت في سياقها الغربيّ متلبسة باللبس والشك والقلق، والعقل المزدحم بتمزقاته وانشراخه. . . حيث لا أفق سوى العدمية والاستلاب بعد إعلان نيتشه موت اللَّه وموت الجمال معه، والفن لم يعد يعوض عن الحياة بل يساهم في تعميق الاستلاب نحوها، فسيموت الفن تاركًا إيّانا في العراء. . .

إن الباحث وهو يجهد لاكتشاف خصائص ومميزات الحداثة وسط العوالم القاحلة والعراء الروحيّ إلّا من الشمس السوداء، وقمر الكارثة الشاحب، لابد أن يقر بصعوبة الإحاطة بكليتها عبر تناقضاتها وتفتت رؤيتها لذاتها وللعالم. . . وهي إذ تطمح لإلغاء الطبيعة عبر تشييئها التقنيّ

(1)

لا تلبث أن تنتحب حنينًا إلى فردوس الطبيعة المفقود، فقد اغتالت اللَّه والجمال والأخلاق والفن وراحت تندب وترثي ما اجترحته يداها. . .

إنها وعي المتاهة إذ تغدو المتاهة هي الحقيقة الواقعية الوحيدة بعد أن مات الإنسان بموت اللَّه عبر قرون من تلاشيه التدريجيّ. . .)

(2)

.

وهذه الإجابة تتضمن حقائق ثابتة عن الحداثة المحاربة للثبات، وأول هذه الحقائق أنها تجحد وجود اللَّه، وتسعى في إبطال الإيمان به، وإبعاد البشر عنه، وثانيها أن هذا المسعى جر على الحداثة وأتباعها المزيد من التمزق والشتات والضياع والتيه، وصدق اللَّه العظيم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي

(1)

أي: جعلها أشياء ومنتجات تقنية.

(2)

قضايا وشهادات 2/ 275 - 276 من مقال لعبد الرزاق عيد بعنوان (الحداثة: عقيدة الأفاعي)، وفيه ثناء وإطراء للماركسية والزعم أنها أبدية وأنها العقلانية الوحيدة، ويتوقع مستقبلًا زاهرًا لها ويثني على الحداثة ورموزها وطموحاتها.

ص: 144

هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}

(1)

.

إن نزعات العداء لدين اللَّه والمحاربة لكل ما يمت إليه بصلة من أهم مشاريع وإنجازات الحداثة العربية، حتى أصبح التغني بالإلحاد إبداعًا والتدنيس للدين تقدمًا، يقول نزار قباني

(2)

:

(حين يصير العدل في مدينةٍ

سفينة يركبها قرصان

ويصبح الإنسان في سريره

محاصرًا بالخوف والأحزان

حين يصير الدمع في مدينة

أكبر من مساحة الأجفان

يسقط كل شيء

الشمس والنجوم والجبال والوديان

والليل والنهار والبحار والشطآن

واللَّه والإنسان

حين تصير خوذة

كالرب في السماء

(1)

الآيتان 123، 124 من سورة طه.

(2)

نزار قباني شاعر سوريّ، ولد سنة 1341 هـ/ 1923 م، درس الحقوق وتخرج سنة 1364 هـ/ 1945 م، وعمل في بعثة دبلوماسية في القاهرة ثم تركيا ثم لندن وبكين، من رواد الحداثة، اشتهر بأنه شاعر المرأة، حيث جعل منها مجرد جسد، وأناء لتفريغ الشهوة الجنسية، يركز على أعضاء الجنس، والملابس الداخلية للنساء، ويأتي بعبارات صارخة مكشوفة جنسيًا، ويجاهر بالإلحاد، والتهكم باللَّه ورسوله والدين والشريعة، ويبغض العرب لفرط شعوبيته. انظر: الصراع بين القديم والجديد 2/ 1269، وتاريخ الشعر العربي الحديث: ص 635.

ص: 145

تصنع بالعباد ما تشاء

تمعسهم تهرسهم تميتهم تبعثهم

تصنع بالعباد ما تشاء)

(1)

.

ويقول معين بسيسو

(2)

:

(باسمك تلك المومس

ترقص بقناع الرب

باسمك يتدحرج

رأس الرب)

(3)

.

أمّا الملحد علاء حامد

(4)

الذي نال من الشهرة -رغم تأخره في إظهار كفره- ما لم ينله من سبقه، وحصل له من حماية الدولة وصيانتها وحراستها لشخصيته وتأمينها لحياته المعيشية ما لم يحصل عليه إلّا كبار رجالات الدولة ومسؤوليها.

هذا الملحد الجريء في إلحاده، الضعيف في حجته، سجل تهافتاته الفكرية الكفرية في رواية "مسافة في عقل رجل" وأعلن فيها الكفر صراحة، وتبجح بالردة أقصى درجات التبجح.

(1)

الأعمال السياسية الكاملة لنزار قباني 3/ 105 - 107.

(2)

معين بسيسو ولد في غزة عام 1345 هـ/ 1927، شاعر حداثيّ فلسطينيّ، شيوعيّ ماركسيّ اتخذ سب اللَّه تعالى والتهكم بالإسلام قاعدة لأعماله الشعرية، تخرج من الجامعة الأمريكية عام 1371 هـ/ 1952، وعمل رئيسًا للقسم الثقافي في جريدة الأهرام القاهرية، ثم تولى رئاسة تحرير الطبعة العربية لمجلة "اللوتس" التي تصدر عن اتحاد كتاب آسيا وافريقيا، هلك عام 1404 هـ/ 1984 م. انظر: رفاق سبقوا: ص 173، وتاريخ الشعر العربي الحديث: ص 629.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لمعين يسيسو: ص 1، 2.

(4)

علاء حامد الروائيّ الحداثيّ المصريّ الملحد، صاحب رواية "مسافة في عقل رجل" المليئة بأبشع أنواع الإلحاد والكفر باللَّه والتهكم بالدين وكل مايتعلق به، نال حظوة كبيرة عند الحداثيين، وحماية قوية من الدولة العلمانية، ورعاية وتأييدًا، ورغم مطالبات أهل الإسلام بمحاكمته إلّا أنه في منعة وحصانة.

ص: 146

فتارة يصف الأديان بأنها عجزت عن إيجاد تفسير علميّ مقنع لخلق الإنسان ويسأل: (ماذا كان الإنسان وكيف خلق؟! لقد عجزت الأديان عن تفسير علمي مقنع لتلك الأسئلة الخالدة. . . وأذابت العقل الإنسانيّ في محلول حمضيّ مركز من الخرافات. . .)

(1)

.

وفي مقطع من مقاطع هذا الكتاب النجس بالكفر والردة يتلخص كل فكر علاء حامد حيث يقول: (. . . الإنسان ليس سوى نظرية مادية بحتة، وجد بالصدفة وسيموت بالصدفة، وبموته يصبح مجرد ذكرى في أروقة الحياة، فلا إله ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، ولا جن أزرق أو أحمر ولا ملائكة بيضاء أو خضراء تهفهف بأجنحتها، والرسل ليسو سوى مجموعة من الدجالين، والأديان صيغ بشرية ذكية، والإنسان ابن الطبيعة، خالق نفسه، هو الأوحد والأقوى والأفضل والجبار والمتكبر، وبالتالي فقد وجد بالصدفة، وسيفنى جنسه البشري أيضًا بالصدفة، وعلى البشرية في هذه الحالة الأخيرة أن تبدأ للمرة الثانية من نقطة الصفر، أي من نقطة البداية، وقد يختلف شكل المخلوق القادم عن الإنسان المندثر بعد فناء العالم)

(2)

.

ثم يتحدث بهذا الأسلوب المتهافت وهذه الطريقة الإنشائية الخالية من أي نظر أو حتى شبهة تأمل عقليّ، فيأتي بما يسميه "افتراضية أن الإنسان مخلوق للَّه تعالى"، ثم يهاجم هذه الحقيقة بالأسلوب الادعائيّ الهجائيّ، العريّ من البراهين، المرتمي بسخافة اتباعية في أحضان أساتذته الماديين، إذ هو في الحقيقة ليس إلّا مسخًا مشوهًا للماركسية البائدة، وصدًى متهالكًا للشكوك والريب المادية.

علمًا بأن الشك والتكذيب الذين ملأ بهما كتابه ليسا في الحقيقة من أبواب الفكر والعلم والبرهان؟ لأن الشاك -في أحسن أحواله- متوقف لأنه لا علم عنده، أو لأن الأدلة والبراهين عنده متكافئة، وهذا الملحد يصطنع

(1)

مسافة في عقل رجل: ص 9.

(2)

المصدر السابق: ص 125.

ص: 147

الشك ويدعيه تقليدًا لديكارت وغيره، ويزعم أن الشك هو الوسيلة الوحيدة للبحث ثم للحكم، بل ويتخذ الشك عقيدة، وهذا كله سفه في العقل، وغمط للحق والبرهان، وحَيْدة عن الدليل الساطع، وإهدار لليقين، وهذا كله مضاد للعقل والعلم والبرهان، وتكذيب بالحقائق، والتكذيب ليس شجاعة كما يصور هذا المادي الملحد وأضرابه، بل الشجاعة والامتياز هو في التصديق بالحق والتكذيب بالباطل.

وعلاء حامد في كل كتابه لا يعدو أن يكون صاحب دعاوى مجردة يلقيها ثم يرش عليها من مسوح شكه وتكذيبه وتلفيقه بعبارات استفزازية يناقض بها حقائق الكون وقطعيات العقول، ويزيف كل ذلك بأهواء هابطة في عبارات مزركشة على متنِ تناقضٍ فاضح.

ومن أمثلة الدعاوى المجردة التي دأب عليها في هذه الرواية الإلحادية قوله في معرض رده على من يقول بأن الخلق خلقُ الباري سبحانه وتعالى: (ورواية الخلق بهذه الصورة تعني أمر واحد

(1)

فقط، عقل بشريّ حاول أن يجد لنشوء الخلق أسبابًا مقنعة. . . فانتزعها من عادات وتقاليد وأساطير وخرافات شعوب سبقته بمئات السنين ثم عاد ليؤكدها بدعوة ألبسها ثوب إلهي

(2)

حتى يصدقها الناس)

(3)

.

فأين هو البرهان العقليّ أو الحسيّ الذي يشهد له بأن العقل البشريّ هو الذي اخترع هذه القضية؟ ثم أين هو الدليل على أن قضية الخلق كانت من عادات وتقاليد وأساطير وخرافات شعوب سابقة؟.

إنها دعاوى تدل على طفولة عقل صاحبها، والعاقل يستحيي أن يواجه حقائق كالشمس، براهينها كعدد الخلق بمثل هذه التهويمات، ومتى كان الباطل المموه بالأدلة متحديًا للحق ذي البرهان، فضلًا عن الباطل العري عن حجة أو دليل؟.

(1)

هكذا كتب والصحيح أمرًا واحدًا، والكتاب مليء بهذا النوع من الأخطاء.

(2)

هكذا كتب والصحيح ثوبًا إلهيًا.

(3)

مسافة في عقل رجل: ص 127.

ص: 148

ولست هنا في صدد الرد المفصل على هذه الأقوال الادعائية، إذ المقصود بيان أوجه الانحراف الاعتقاديّ في أدب الحداثة، ومقولات هذا الملحد المغالط في قضية نفي وجود اللَّه تعالى والتشكيك في ذلك عديدة أترع بها كتابه، فمرة يجحد بصراحة، ومرة يوهم ويشكك، ومرة يجعل اللَّه تعالى شيئًا من الأشياء المخلوقة، فإنه بعد أن قرر أن الإنسان وجد صدفة ويموت صدفة وسيفنى الجنس البشري صدفة ويوجد جنس بشري آخر

(1)

، تناقض وصرح بأنه لابد من وجود قانون كلي يرتبط به الكون وجودًا وعدمًا فقال:(. . . إذا كان لا يوجد خلاف حول وجود قانون يحكم الكون بدقة شديدة وأن خلف هذا القانون إرادة منظمة امتزجت به يُمكن القول أن القانون هو اللَّه واللَّه هو القانون، وأن البديل لغياب هذا القانون هو الفوضى. . .)

(2)

.

وهذا هو القول نفسه الذي سبقت الإشارة إليه عند الكلام عن وحدة الوجود بالمفهوم الغربيّ الإلحاديّ، حيث جعل علاء حامد ما يسميه -ادعاءً أيضًا- القانون الكليّ، جعله هو اللَّه تعالى، فإذا كان هذا قانونًا فمن الذي قنّنه؟، ولا مجال للشك في أن القانون الذي يتحدث عنه هو شيء مخلوق، فمن الذي خلقه ومن الذي جعله كليًا؟.

إلى غير ذلك من الإيرادات التي تبين زيف هذا القول الذي يهدف في آخر مغزاه إلى إنكار وجود اللَّه تعالى وربوبيته.

ويواصل هذا الملحد تخبطاته فيقول: (قبل أن نخوض في تعريف محدد للَّه، ماهيته وجوهره، نقول: إن الأكوان منظورة أو غير منظورة تحكمها أنماط معينة من القوانين التي تنظم سيرها ومسيرتها وحركتها، من هذه القوانين الثابتة على مر الدهور والأزمان أن لكل شيء سببًا، ولو شبهنا اللَّه بخلية أبدية لا تفنى، وأن مخلوقاته ليست سوى انقسام لهذه الخلية الأبدية ولكن بعد إضافة مواد أخرى كيمائية (مواد بشرية) اكتسبت بها

(1)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 125.

(2)

المصدر السابق: ص 128، ونحوه في ص 157، وص 160، وص 163.

ص: 149

خواص جديدة ظاهرية بالإضافة إلى خواص الخلية الأبدية، إذا قلنا بذلك فنحن لم نبتعد عن جادة الصواب ولكننا في نفس الوقت لم نقترب كثيرًا من الحقيقة)

(1)

.

ثم يضيف: (اللَّه هو تلك الخلية الأبدية وكذلك مخلوقاته من إنسان وحيوان ونبات وجماد لا فرق في ذلك بين الشمس والبقرة والقمر والشجرة والنجم الثاقب والطفل الخائب، كلها مخلوقات للَّه انقسمت من الخلية الأبدية بعد أن ارتدت ثوبها الماديّ. . .، يا صديقي اللدود إذا أردت رؤية اللَّه مجسمًا فتأمل الشمس والنجوم والحيوان والإنسان والنبات، أمّا القول بأن اللَّه يجلس على عرش، وأن له مكانًا محددًا يجلس فيه يُمكن التحدث معه بلسان طليق، فهذه أوهام صنعت بمهارة وصدقتها عقول تعيش في دروب الجهالة المفرطة، ولكن إذا أردت معرفة اللَّه فليس أمامك سوى أن تعرف كل القوانين التي تحكم الكون)

(2)

.

ثم يستطرد في حوار شخصيات روايته الشيطانية ويسأل بشك: (إن كلامك يدور حول ماهية اللَّه، ولكن أما كان من الأجدى أن نبحث عن وجود اللَّه قبل أن نبحث عن ماهيته، فهل حقًا يوجد إله ينظم هذا الكون، أم أن هذا الكون ينظم نفسه ذاتيًا دون ما حاجة لقوة منظمة متحكمة)

(3)

. ثم يجيب: (. . . ليس في جعبتنا أمام هذا التاريخ الطويل أدلة مادية ملموسة على وجود الإله. . .)

(4)

.

ثم عاد يدندن حول القانون الكليّ الكونيّ وأنه هو اللَّه

(5)

، ويتهكم بصفات اللَّه وأسمائه، تعالى اللَّه عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

(1)

المصدر السابق: ص 148.

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 149 - 150.

(3)

المصدر السابق: ص 150.

(4)

المصدر السابق: ص 150 - 151.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 152، 153، 156، 157، 191.

ص: 150

وإذا كان هذه اعتقادات شخص هو من آخر أذيال الحداثة فهل كان سلفه على هذا المنوال؟.

سبق أن نقلنا كلام أدونيس وأركون ونزار قباني وهنا نذكر بعض أقوال نجيب محفوظ

(1)

الذي ابتهج به العرب عندما منح جائزة نوبل ذات الاتجاه الصهيونيّ، وعدّوه من أعلام الأمة ونبلائها!!، وقد كشف الدكتور السيد أحمد فرج أنواع انحرافاته الاعتقادية والسلوكية في كتابه النادر "أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب"، ومن ذلك -مما له علاقة بهذا الباب- تشكيك نجيب محفوظ في وجود اللَّه تعالى، ففي رواية الحب تحت المطر يُجري حوارًا بين شخصين وفيه قال أحدهم:(. . حدثني أحد الكبار (الشيوخ) فقال: إنه كان يوجد على أيامهم بغاء رسميّ.

- زماننا أفضل فالجنس فيه كالهواء والماء.

- لا أهمية لذلك، المهم هل اللَّه موجود؟.

- ولم تريد أن تعرف؟.

- إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا.

- من يقتل كل يوم غيرنا!

- من قتل عام 1956 من قتل في اليمن من قتل في عام 1967!

- لا أحد يريد أن يجيبني أهو موجود؟.

(1)

نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا، ولد عام 1329 هـ/ 1911 م، عمل سكرتيرًا لوزير الأوقاف مصطفى عبد الرزاق ثم تقلب في أعمال وظيفية آخرها أنه عمل مستشارًا لوزير الثقافة ثم صحفيًا في جريدة الأهرام، منح جائزة نوبل لمواقفه الموالية لليهود وأعماله التغريبية، وحصل على جائزة رابطة التضامن الفرنسية العربية، له روايات كثيرة مليئة بالمضامين المنحرفة فكرًا وخلقًا. انظر: حول الدين والديمقراطية: ص 223 - 225، وأدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب.

ص: 151

- إذا حكمنا بالفوضى الضارية في كل مكان، فلا يجوز أن يوجد)

(1)

.

ويعقب الدكتور سيد أحمد فرج على هذا النص فيقول: (إن الكاتب ونأسف له -يمارس في هذا الحوار- مجاملة لليهود وبغضًا للعرب، وإنكارًا لوجود اللَّه. . .)

(2)

.

‌ثانيًا: نفي كون اللَّه -جلَّ وعلا- خالقًا مدبرًا ونفي توحيد الربوبية:

وهذا من الانحرافات الاعتقادية عند أدباء الحداثة العربية وهو شائع في نتاجهم الأدبيّ والنقديّ والفكريّ، إبحارًا من الانحراف الإلحاديّ السابق، واستعادة لدروس أساتذتهم الماديين، وترديدًا أجوفًا وشقشقة عمياء، وتجاويف فكرية خاوبة على عروشها، من جنس قول الطائفي المحترق أدونيس:

(أعرف الآن

أين يكون الليل إذا جاء النهار

والنهار إذا جاء الليل

أعرف أن جنس الربوبية يتأصل في أحشاء الأرض ويتناسل

أعرف الأرض بالأرض

والسماء بنور الأرض

هكذا أظهر في قميصي الجديد)

(3)

.

وهكذا في كلمات مفلسة شائنة -من طائفيّ يراد له أن يكون رائدًا وموجهًا ومعلمًا وأستاذًا لجيل- تتحدر هذه الكلمات الجوفاء، فاسدة التركيب ضالة المعنى، فالليل -كما يظهر لي من النص- رمز الظلام

(1)

الحب تحت المطر: ص 38 - 39 نقلًا عن كتاب أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب د/ سيد أحمد فرج: ص 70.

(2)

أدب نجيب محفوظ د/ سيد أحمد فرج: ص 70.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة 1/ 292.

ص: 152

والتخلف والانحطاط يريد به الإسلام وأهله وتاريخه وحضارته، والنهار رمز التقدم والإبداع هو الأجنبي وفكره وفلسفته المادية وأخلاقه الرعناء، وجحده وإلحاده وتكبره على خالقه -جل وعلا-، وها هو يستف من غبار مناهج الإلحاد فينفي كون اللَّه تعالى ربًا خالقًا مدبرًا مالكًا بيده ملكوت كل شيء، ويندفع في باطنية حاقدة، وإلحاد ماديّ متمرد، ليعلن أنه لا ربوبية خارج الأرض وأهل الأرض، بل فيها تأصلت الربوبية وتناسلت وهي خالقة نفسها -حسب خرافات المادية- التي أُوقع في فخاخها بعضٌ من أبناء المسلمين، مرة بأسلوب البحث العلمي الموضوعيّ المتجرد، حسب زعمه أو حسب انكسار ومهانة أتباعه بين يديه، ومرة بهيبة الحداثة التي صنعت ونشرت بين أبناء المسلمين وأعطيت مكانة وثنية جعلت ضعفاء العقول والإيمان يلوذون بها لئلا يوصفوا بالتخلف والرجعية وإن لم يفهموا منها شيئًا ولم يفقهوا من مراداتها إلّا النزر القليل.

كل ذلك لكي ترتكس الأمة في الإذعان الفكريّ والاعتقاديّ مثلما ارتكست في غيره من فخاخ السياسة والاقتصاد، غير أنه مع تباشير إصباحيات الصحوة الإسلامية المباركة الراسخة سيضمحل ليل الضياع والفراغ بإذن اللَّه تعالى.

وعودة إلى الباطنيّ أدونيس الذي يقول:

(مسافر تركت وجهي على

زجاج قنديلي

خريطتي أرض بلا خالق

والرفض انجيلي)

(1)

.

بهذا ينشئ التمرد على اللَّه وعلى دينه، ويتلقى الأتباع هذا على أنه تحرر وإبداع، وتقدم وحياة جديدة، تحذلق لفظيّ يزين الكفر ويشجع على التمرد

(1)

المصدر السابق 1/ 336.

ص: 153

والرفض، فيزعم أن أرضه الحقيقية أو المجازية "كناية عن الفكر والثقافة والفن والأدب" لا تخضع لخالق ولا تدين لإله، ولا تتعبد لغير الرفض الإبليسيّ.

وتنجرف الأذهان العاجزة الكسيحة في الإعجاب والاقتداء بهذا الحاقد الطائفيّ، وتأخذ أقواله بتلقائية عجفاء وتلقينية باردة، في الوقت الذي ينتقدون فيه على المسلمين الأصلاء أنهم نصوصيون يأخذون علمهم بالحفظ والتلقين، ويعدون ذلك عيبًا ومعرة، مع أنهم يملأون أدمغتهم بالهدى بحفظ كلام اللَّه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الفارغون يسدون فراغ عقولهم بكلام وثنيّ طائفيّ ماديّ نجس تلقاه أستاذهم -أدونيس- عن أساتذته من الباطنيين حيث النشأة والمنبت، والماديين حيث الهوى والقبلة، فحين تقرأ له:

(واللَّه في البيوت

يموت كالبحيرة)

(1)

.

لا تجد إلّا نيتشه في زيّ آخر، وقد سبق له أن امتدح عبارته الخبيثة "موت اللَّه" وأثنى على مقتضياتها عند جبران

(2)

.

واستطرادًا مع مقصده الهابط من جحد ربوبية اللَّه تعالى يتناول مسألة التقدم والتخلف، معتبرًا أن الأمة متخلفة بسبب المحراب والصلاة وإيمانها باللَّه وشرعه ودينه، معتبرًا ذلك أغلالًا وخندقًا مسدودًا لا باب له، ورملًا وقشًا، وغير ذلك من العبارات التي يرمز بها إلى التخلف، فيقول:

(الأمة استراحت

في عسل الرباب والمحراب

حصنها الخالق مثل خندقٍ

وسدّة

لا أحد يعرف أين الباب

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 2/ 163.

(2)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 178.

ص: 154

لا أحد يسأل أين الباب)

(1)

.

ويقول:

(نادر أن ينطق البحر ولكن

نطق البحر يبسنا

يبس التاريخ من تكراره

في طواحين الهواء

سقط الخالق في تابوته

سقط المخلوق في تابوته

والنساء ارتحن في مقصورة

ينتشلن الليل من آباره)

(2)

.

وهكذا تتشابك المفاهيم الإلحادية في هذا الطرح البليد، فمن البحر الذي هو عنده رمز الغرب والتقدم والحركة والإبداع، والأمل المرتجى والثورة المرتقبة يستمد قوته ومجده وحضارته ضد حضارة الإسلام وتاريخه وعقائده التي تبدأ من الإيمان بالخالق البارئ سبحانه وتعالى ثم ضد الممارسات الاجتماعية المتمثلة في عفة المرأة وحجابها.

وفي عبارات أخرى غامضة ملتوية التواء العقيدة الباطنية يقول:

(العمل يصعد

من الأرض إلى اليد من اليد إلى التاريخ

من التاريخ إلى هباء البدايات)

(3)

.

هذا هو جوهر الحداثة: ممارسة الشك في اللَّه تعالى، وبث العدمية

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 2/ 273.

(2)

و

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 283.

ص: 155

ونشر الدهرية، فما دامت البدايات هباء فكل شيء ضياع وعدم وانفلات، هكذا حسب المفهوم الأدونيسي الإبلبيسيّ.

وليس هذا مقصورًا عليه فعصابة الحداثة ملة واحدة وإن اختلفت بينهم الطرائق وتباعدت البلدان، فها هو حداثي آخر من المغرب العربي يردد نفس المعنى الذي قاله أدونيس تحت عنوان (النقد أساس الإبداع)

(1)

.

وقد يظن القارئ لأول وهلة أن المراد هو النقد الأدبيّ البحت أو الفنيّ أو اللغويّ لارتباط كلمة الإبداع بالأدب والفن واللغة، ولكن الحداثيّ يفسر هذا العنوان العريض ويبين مراده بالنقد الذي هو أساس الإبداع فيقول:(أول ما يجب أن يتجه إليه النقد هو المتعاليات بمختلف تجلياتها، ليس الغائب الذي هو يخلق الحاضر والمستقبل، بل الإنسان هو خالق حاضره ومستقبله، لا تستصغروا المتعاليات، إنها المتحكمة في وعينا ولا وعينا. . . إن المتعاليات كمجال معرفيّ تعتمد قناعة أساسًا، وهي أن الإنسان موجود بغيره لا بنفسه، شبح عابر في دنياه، صورة لمثال، مصيره فوقه لا بين يديه تغطيه السماء بحنينها مرة، وتحتفظ له الظلمات بالردع هنا أو هناك)

(2)

.

إنها محاولة لهدم الدين باسم النقد، ومحو الإسلام باسم الإبداع.

وهذا هو دأب الهدامين من المتفرنجين المقتدمين بملاحدة الافرنج، تقديسُ الكفر باسم الإبداع، ونقد الإسلام وعقيدته باسم التحديث والتطوير الأدبيّ والفكريّ.

فهل صعب على هذه العقول الكليلة أن تبدع إلّا على أساس الكفر باللَّه وجحد ربوبيته ونقد "المتعاليات" والمقصود بها اللَّه تعالى ودينه ونبيه وسائر الغيبيات؟، فالإنسان -عندهم- موجود بنفسه، وهو خالق حاضره ومستقبله، هكذا ادعاءً ووقاحة وجراءة على الباطل، وكأن شرط الإبداع أن

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 541.

(2)

حداثة السؤال بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة، لمحمد بنيس: ص 19.

ص: 156

يبدع أحدهم في نطاق الإلحاد والكفر والرذيلة الخلقية والكذب الفكريّ وإلّا فليس مبدعًا ولا أديبًا!!.

إنهم في الحقيقة تمردوا على اللَّه تعالى ودينه فسقطوا في كهنوت الحداثة ووثنيتها كما اعترف بعضهم قائلًا: (. . . تأثر النقد الماركسي العربي بالكهنوتية في بداية الخمسينات من هذا القرن -كما يقول غالي شكري

(1)

- وما أن بدأ يتخلص من التبسيط المخل والنظرة الآحادية الجانب والاختزال الايديولوجيّ بل السياسيّ للفنون، ومن ثم المصطلحات الغامضة الاستعلائية، حتى هبت رياح الحداثة في السبعينات وقد تلبستها طقوس الكهنوت وأسراره المقدسة، أي: أن التخلف المعرفي ظل ساري المفعول داخل أكثر الأفكار عقلانية ولكنه ترك الماركسية وغزا الحداثة، لم يكن انتقال الوباء من المصادفات. . .)

(2)

.

نعم إنهم كذلك ولابد؛ إذ لا ينفك الإنسان من عبودية وتأليه، فأمّا المسلم فإنه يعبد ربه الخالق الواحد الأحد، وأمّا الكافر فإنه يعبد هواه وشهوته، وشياطين الجن والإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.

فها هم بشهادة أحدهم يمارسون طقوس العبادة الوثنية الكهنوتية للحداثة، وشهادة الواقع أكبر دليل على ذلك فإن الناظر في كتاباتهم يرى بوضوح كيف تغلي مراجلهم حماسة وولهًا لنحلتهم الجديدة، ويلحظ بجلاء أنهم يخضعون باستكانة أمام شعارات الحداثة إلى حد التقديس والورع العباديّ، وهذا أيضًا ما شهد به بعضهم حين قال: (ما من كلمة

(1)

غالي شكري حداثيّ مصريّ نصرانيّ الأصل قبطيّ الهوى، يساريّ الانتماء، من نقاد الحداثة ومنظريها وكبار عتاتها، له كتب كثيرة منها الأقباط في وطن متغير، وديكتاتورية التخلف العربيّ، وإنهم يرقصون ليلة رأس السنة، وذكريات الجيل الضائع، وشعرنا الحديث إلى أين، وغيرها.

(2)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م من مقال للماركسيّ اللبناني محمد دكروب بعنوان محنة الشعر العربي الحديث في العلاقة بين الشاعر والناقد والقراء: ص 220.

ص: 157

بعد الحداثة يجري استعمالها بورع طقوسي وجهل لكنهها وجوهرها وكيفية تحققها ككلمة الإبداع)

(1)

.

وقد مر معنا قول حسن حنفي في أنه لا مجال للتحرر والعلمانية إلّا بإبطال العقيدة المثبتة لربوبية اللَّه أو ما يسميه الثنائية التي تقسم العالم إلى خالق ومخلوق

(2)

.

وغير مستغرب هذا من رجل يعترف بأنه كافر وأنه ماركسيّ وضعيّ، وذلك في معرض رده على مناقش خشي عليه أن يكون "مؤمنًا" فأجابه قائلًا:(. . . فأنت تعني الإيمان السلفيّ التاريخيّ. . . إلخ والمتوارث عبر التاريخ وهو الشيء الذي تخافه عليّ؛ لذلك فإن إيماني يكفرني، كما أنه يكفرك أيضًا، وبالتالي فإن القضية بالنسبة لنا هي التحدي. . . وأعتقد أن الأخوة العلمانيين يستعجلون التقدم، إنهم يريدونه إيجابيًا فقط، وأنا أريد أولًا أن أمنع عوائق التقدم، أي أعمل للتقدم سلبًا إذا جاز التعبير، فإذا ما استطعت ذلك عندئذ أسلّم المجتمع العربي إلى الأخوة العلمانيين لكي يبنوه إيجابًا، ومن ثم أنا مقدم لهم، أنا ماركسي شاب وهم ماركسيون شيوخ هذا تقسيم لأدوار العمل. . . وفي ما يتعلق بمضمون الوحي وحادث الوحي، فكما بينت لكم، أنا مفكر وضعيّ، أقصد أنا وضعيّ منهجيّ ولست وضعيًا مذهبيًا، إن كل ما يخرج عن نطاق الحس والمادة والتحليل، أضعه بين قوسين. . .)

(3)

.

إذن نحن أمام زمرة من الملاحدة الذين يعلنون بتبجح كامل كفرهم باللَّه ربًا وإلهًا وبالإسلام دينًا، وسيلتهم في ذلك التضليل والكذب، ومكابرة الحقائق وجحد البراهين، والتلبيس على أعشار المثقفين، واستجلابهم إلى وهدة الضلال بعبارات الجحود والشك، وزركشات الألفاظ الرنانة والدعاوى العريضة.

(1)

قضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 49.

(2)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 388.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 218 - 219.

ص: 158

جاؤوا لمحاربة الدين والتراث بدعوى عدم التقليد، فاجتروا الأفكار الأرضية وقلدوها، وتخمرت في عقولهم المستطرقة كل الأحقاد ضد الإسلام وأهله من النصارى واليهود والملاحدة والوثنيين، فالنصرانية يبشر بها الخال وخليل حاوي

(1)

وأنسي الحاج وأنطون سعادة

(2)

، وأمّا اليهود فيخدمهم سعيد عقل

(3)

في ملحمة بنت بفتاح، كما قال ذلك خليل حاوي وأنطون سعادة

(4)

، أمّا الملاحدة فقد مر الكثير عنهم في كلام أدونيس وحسن حنفي ونجيب محفوظ وعلاء حامد وغيرهم، أمّا الوثنيون فسيأتي ذكرهم في الفصل الرابع من هذا الباب بإذن اللَّه تعالى، وقد لوثت هذه البصمات الاعتقادية الضالة وجه الثقافة العربية المعاصرة، وصبغت أدبها الحديث

(1)

خليل حاوي حداثيّ لبنانيّ نصرانيّ وجوديّ، حاز على الدكتوراه في الفلسفة، غامض الشعر، أسطوري المنزع، انضم إلى عصابة مجلة شعر، ثم تركهم وواصل في أسلوبه الرمزيّ الضبابيّ الغائم، وقلده مجموعة كبيرة من إمعات الحداثة، له ديوان نهر الرماد وبيادر الجوع والناي والريح وهي مليئة بالمضامين الحداثية المنحرفة، انتحر إثر دخول القوات اليهودية إلى بيروت عام 1402 هـ/ 1982 م. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 696، ورفاق سبقوا: ص 175 - 225.

(2)

أنطون سعادة، ولد سنة 1322 هـ/ 1904 م لأسرة نصرانية مارونية، درس في البرازيل ونشأ هناك ثم عاد إلى لبنان سنة 1351 هـ/ 1932 م ليعمل مدرسًا في الجامعة الاْمريكية، وأنشأ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، حاول القيام بثورة فقتل سنة 1368 هـ/ 1946 م، مبشر بالنصرانية والفينيقية، وله أثر كبير في الحداثيين العرب وخاصة عصابة شعر الذين كانوا من أتباع الحزب السوريّ، ولكتابه الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ أعظم التأثير فيهم وفي غيرهم، جعل الأساطير الوثنية محور فكرته وأساس دعوته، وربط الإبداع والنهضة بهذه التصورات وكون لنفسه هالة من التعظيم وخلب عقول أتباعه ومنهم أدونيس، وكان يرى نفسه نبيًا، وكانوا يرون فيه القوة المقدسة والمخلص والبطل والمنقذ. انظر: موسوعة السياسة 1/ 364، والموسوعة الميسرة في الأديان: ص 409، والحداثة الأولى: ص 119.

(3)

سعيد عقل نصرانيّ لبنانيّ معروف، دعا إلى الفينقية الوثنية واللغة العامية وكتب بها، وحارب العربية الفصحى والتراث العربي، يشابه نزار قباني في الشعوبية والمفردات والألفاظ الجنسية والتكرارية. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 697، وأسئلة الشعر لمنير العكش: ص 11 - 22، وقضايا الشعر الحديث: ص 125.

(4)

انظر: الحداثة الأولى لمحمد جمال باروت: ص 170.

ص: 159

بصباغ الانحراف والتضليل، وجعلت الإطار الأصولي لهذا الفكر ردة وابتعادًا عن دين الإسلام الحنيف، فقد سمحوا لكل فكر ومفكر أن يلج من أبوابهم إلّا إذا كان فكرًا مسلمًا، ولشد ما عادوا مصطلح الأدب الإسلامي لمجرد هذا الانتساب، في الوقت الذي فتحوا فيه عقولهم وقلوبهم لجميع الأسماء والانتماءات، الوجودية والسوريالية والواقعية، أمّا الإسلام والإيمان ونعت الأدب به فجرم ثقافيّ خطير، ومما يؤسف له أن بعض الأدباء من المسلمين انسحب في هذا المجرى ورد هذه التسمية بحجج أوهن من بيت العنكبوت {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}

(1)

.

وفي مجال نفي الربوبية، وجحد كون اللَّه تعالى خالقًا مدبرًا يقول أحدهم في تدليس متعمد، واستشهادٍ بهيجل

(2)

:

(سفر الهجرات

"الإنسان أجمل ازدهارات الطبيعة"

هيجل)

(3)

.

والمعنى نفسه يردده عبد الرحمن المنيف

(4)

فيقول: (. . . طبيعة

(1)

الآية 47 من سورة التوبة.

(2)

هو: جورج وليام فريدريك هيجل، ولد سنة 1183 هـ/ 1770 م، وتوفي سنة 1246 هـ/ 1831 م، من أكبر الفلاسفة الغربيين تأثيرًا في الحياة الغربية، ولا يُمكن عزل الوجودية والماركسية والبرجماتية عن فلسفة هيجل الألمانيّ ذات الأساس الماديّ، حيث كان لا يؤمن بإله، وذلك هو أساس فلسفة الموضوع والنقيض التي طرحها هيغل وأخذها بعد ذلك ماركس وطورها ليصل إلى الإلحاد صراحة. انظر: الموسوعة الفلسفية: ص 511، وموسوعة أعلام الفلسفة 2/ 569.

(3)

غيم لأحلام الملك المخلوع، شعر محمد علي شمس الدين: ص 35.

(4)

عبد الرحمن المنيف من أهل الجبيل، ومن قيادات حزب البعث في العراق، حداثي كبير، بل قدوة للحداثيين المحليين وصاحب أكبر رواية عربية وهي "مدن الملح"، تقلب في العلمانية من البعثية إلى الاشتراكية التي تلقاها في إحدى دول أوروبا الشرقية الشيوعية، وفيها اعتنق الفلسفة الماركسية، ثم استقر أخيرًا في الليبرالية الديمقراطية كما =

ص: 160

الصحراء تجعل للأسماء أهمية تفوف غيرها، وهذه لم تخلق نتيجة الرغبة أو في لحظة من لحظات الجنون، وإنما خلقتها الطبيعة ذاتها وأعطتها من الأسماء ما يوازي أهميتها أو الصفات التي تحملها)

(1)

.

ويقول وهو يتحدث عن ثروة البترول على لسان أحد شخصيات روايته: (الصدفة خلقت هذه الثروة والصدفة هي التي دفعتني إلى هنا. . .)

(2)

.

ويكرر المعنى نفسه ناسبًا الخلق إلى الطبيعة والصدفة، وهذا يعني بدلالة الالتزام نفي كون اللَّه خالقًا ويعني بدلالة المطابقة نسبة الخلق إلى غير اللَّه تعالى يقول:(. . . إن المدن إذا خلت من المعالم التي تجعلها دائمة ومتميزة فإنها لا تستحق التوقف أو الإشارة، لا يهم أن تكون المعالم ما خلقته الطبيعة أو ما صنعه الإنسان)

(3)

.

وبالجحود والتفسير الماديّ نفسه يتحدث علاء حامد فيقول في روايته مسافة في عقل رجل: (لماذا خلقنا أجنة فأطفال فشباب فكهول مثلنا مثل الحيوان والنبات والحشرات، ينسج التطور قانونه المحكم على كل صغيرة في حياة الأحياء، مرحلة تلو مرحلة لتعود من جديد إلى نفس المرحلة نقطة البداية)

(4)

.

ويقول: (. . . الإنسان ليس سوى مخلوق أرضي جاء نتيجة تطور مذهل في عالم ماديّ عمره ملايين السنين نتيجة تفاعلات كيميائية منذ اللحظة التي انقسمت فيها خلية الأمبيا ليشملها التطور إلى الإنسان أرقى الحيونات)

(5)

.

= في كتابه الأخير الديمقراطية أولًا الديمقراطية دائمًا، لا يرى في الإسلام أي حل واقعيّ عملي للحياة. انظر: رأيهم في الإسلام: ص 13 - 22.

(1)

مدن الملح جـ 1 التيه - عبد الرحمن المنيف: ص 9 - 10.

(2)

مدن الملح جـ 2 الأخدود - عبد الرحمن المنيف: ص 425.

(3)

مدن الملح جـ 3 بادية الظلمات: ص 283.

(4)

مسافة في عقل رجل: ص 9. والصواب فأطفالًا فشبابًا فكهولًا.

(5)

مسافة في عقل رجل: ص 125.

ص: 161

وهذا ليس سوى ترديد أبله لنظرية داروين، التي أثبت العلم الحديث بكافة فروعه زيفها وبطلانها، غير أن المأخوذين بنظريات الكفر والإلحاد سرعان ما يفرحون بما يظنون علمًا فرح الجعل بدحروجته.

ومن أوائل الحداثيين وطلائعهم بدر شاكر السياب

(1)

وقد قال بهذه النظرية في قصيدته مرتبة الآلهة:

(كأن الأميبيّ توأم وهو توأم لها فهو في منجًى من الموت قابع)

ثم قال في الهامش: (الأميبي حيوان ذو حجيرة واحدة، وهو خالد لا يموت لانعدام شخصيته)

(2)

.

وعودة إلى هرطقات علاء حامد في نفيه لوجود اللَّه ونسبة الخلق إلى الخلية الواحدة والتمرغ في غبار نظرية دارون، يقول على لسان أحد أشخاص روايته رادًا على من يقول بخلق اللَّه للإنسان والكون:(ورواية الخلق التي تحدثت عنها ليست سوى تدخل مباشر من اللَّه لصنع الإنسان مع أن قانون التطور من الامبيا إلى الإنسان يسد مثل تلك الثغرات وهذا النقص)

(3)

.

وإذا كان أتباع الحداثة قد أشربوا في قلوبهم عجل نظرية دارون المادية الإلحادية فإنهم بكل غباوة يعتنقون ما أثبت الغربيون الماديون الذين جاؤوا بعد دارون بطلانه وفساده، في حين أن المخدوعين من أبناء الشرق الضعيف

(1)

بدر شاكر السياب أول من سن الحداثة الشعرية، ولد عام 1344 هـ/ 1926 م في قرية جيكور جنوب البصرة لأسرة شيعية، تخرج في دار المعلمين ودرس، وتقلب في عدة وظائف، انتمى للحزب الشيوعيّ العراقيّ ثم إلى زمرة الشعراء التموزيين، وعصابة شعر، وشارك في مؤتمر روما الذي أشرف عليه اليهود والمخابرات الأمريكية، أصيب بالشلل ومكث يستجدي زملاءه وأصدقاءه فلم يجيبوه حتى مات في الكويت عام 1383 هـ/ 1964 م، شعره مليء بالرموز الوثنية، والانحرافات الفكرية والسلوكية. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 655، والصراع بين القديم والجديد 2/ 1252، وكتاب بدر شاكر السياب لإحسان عباس.

(2)

ديوان بدر شاكر السياب: ص 349.

(3)

مسافة في عقل رجل: ص 126 - 127.

ص: 162

انبهروا بالنظرية والفلسفة التي أدت إلى ظهورها، وأثرت في تطبيقها بعد ظهورها، وخلب لبهم اسم "العلم التجريبي" فرضخوا للدعاوى الملبسة بهذا الاسم اعتقادًا منهم أنها حقائق نهائية لا مجال لمناقشتها فضلًا عن ردها والاعتراض عليها، وتوقفوا أمام هذا الصنم الكبير بكل خشوع وخضوع، ولم يعلم هؤلاء -أرقاء العقول- أن العلم التجريبيّ ما زال في طفولته رغم الاكتشافات الكثيرة، وما زال يتقدم فيصل إلى أشياء جديدة ويلغي ما كان يعد بالأمس أنه حقائق قاطعة، وأتباع الغرب من الشرقيين لاتصلهم الأنباء إلّا متأخرة، فنظرية دارون كتب عنها بعض أتباعها ما يؤكد أنها مجرد وهم

(1)

، حتى قال أحدهم:(إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلّا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا ما لا يُمكن حتى التفكير فيه)

(2)

.

وأثبتت الدراسات والتجارب المخبرية أن هذه النظرية زائفة وغير صحيحة، وخاصة الأبحاث التي تمت من قبل علماء الأحياء والتي قرروا فيها بعد تجارب كثيرة ومتنوعة أن المادة الميتة لا يُمكن أن تتحول ذاتيًا إلى مادة حية، وأن الحي لابد أن يتولد عن حي أو يشتق من حيّ

(3)

.

أمّا الأدلة العقلية والبراهين المنطقية الهادمة لهذه النظرية وفروعها فأكثر من أن تحصى، ولكن أتباع الإلحاد لايفقهون، كما قال اللَّه تعالى فيهم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ

(1)

وهو جوليان هكسلي من علماء الداروينية الحديثة الذي ألف كتابًا بعنوان "الإنسان في العالم الحديث" وفيه أبطل جذور نظرية داروين فيما يخص الإنسان وأثبت أنه متفرد في كل شيء في نشأته وتكوينه. انظر: معجم الفلاسفة: ص 649، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 501 - 502، والإنسان بين المادية والإسلام لمحمد قطب: ص 20.

(2)

هذا قول سير آرثر كيث وهو من المتمسكين ببعض شعب نظرية النشوء والارتقاء وهو ما يسميه مذهب التطور الذاتيّ. انظر: كواشف زيوف للميداني: ص 321.

(3)

ممن قرر ذلك ونشره من علماء الأحياء "أغاسيز" والفرنسي الشهير "باستور" الذي تنسب إليه عملية التعقيم للأغذية المسماة "البسترة". انظر: كواشف زيوف: ص 325.

ص: 163

أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}

(1)

.

‌ثالثًا: نسبة الأبدية للمخلوق والقول بأزلية العالم والخلق:

هذا النوع من الإلحاد مترتب على ما مضى من جحد لوجود اللَّه ونفي كونه -تعالى- خالقًا مدبرًا ربأ لهذا الكون وما فيه، وهي مبنية على الاعتقاد الإلحاديّ القائل بأزلية المادة والمذهب الماديّ الذي يقرر بأنه لا وجود لأي جوهر غير المادة، فجميع الظواهر النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية إنما يفسرها الوجود الماديّ، ويتضمن هذا المذهب أن العالم أبديّ

(2)

.

ومن جذور هذا النوع من الإلحاد أيضًا ما يسمى بالمذهب الطبيعيّ وهو تفسير تطور المجتمع بقوانين الطبيعة، مثل الأحوال المناخية والبيئية والجغرافية والاختلافات العضوية والجنسية بين الشعوب، وكل ذلك يقوم على مركزية الإنسان في الكون وأنه نتاج أعلى للطبيعة

(3)

، وكل ذلك مبني على أزلية المادة التي منها الكون والعالم.

وهذه الادعاءات ومستلزماتها الفكرية والعملية الأخرى دعاوى أعطيت بهرجًا ونفخت فيها المهابة باسم العلم والتجربة، غير أنها لا تثبت على ميزان البحث العقليّ والعلميّ والتجريبيّ، وستنهار مع انهيار حجر زاوية هذه الفلسفة المادية وأعني به:"القول بأزلية المادة وكونها أساس الوجود".

وعقدة هذا القول أن أصحابه لا يؤمنون بشيء غير محسوس أو غائب عن الوعيّ البشريّ، ومن هنا بدأت هذه الخرافة في أدمغة الماديين، ولفك هذه العقدة يُمكن أن يقال لهم: ليس كل ما غاب عن الوعي الحسيّ أو الوعي البشريّ يعد معدومًا، فعدم العلم بالشيء لا يدل على العلم بعدمه،

(1)

الآيتان 43 - 44 من سورة الفرقان.

(2)

انظر: ما سبق عن المذهب الماديّ ومدارسه وأشهر شخصياته ص 108 - 110.

(3)

انظر: ما سبق عن المذهب الطبيعيّ في ص 110.

ص: 164

وتوجد أشياء كثيرة مغيبة عن الوعي البشريّ وهي موجودة ولكن الوعي البشريّ لم يحط بها، وهناك فرق بين موجود مغيب ومعدوم غائب فالأول حقيقة غير منظورة، والثاني خرافة لن تنظر، وليس كل ما غاب عن وعينا يجب أن نتوقف فيه أو نجحده، وذلك لأننا نعيش اليوم حقائق علمية كانت بالأمس مغيبة، ونحس بآثار مغيبات أخرى، وتدلنا هذه الآثار قطعًا على وجود المغيبات المؤثرة مثل الأثير وطبقة الأوزون والغلاف الجويّ والضغط الجويّ وغيرها، وهناك مغيبات يجزم العقل والحس والوعي البشريّ بكذبها لكونها تجر إلى المحال أو تصادم الحقائق الثابتة كنظرية داروين

(1)

وكالنظرية القائلة بأزلية المادة وأبديتها، وأنها -حسب التعريف الإلحاديّ- "لا تفنى ولا تستحدث من العدم"، والمادة عند الماركسيين أشد الملاحدة الماديين ليست شيئًا أكثر من وجودها الخارجيّ المتمثل في ظاهراتها المتحركة المتغيرة

(2)

.

وهذه كافية لقصم فقار هذه الافتراضية المؤلة للمادة العمياء فيقال لهم: إن ظاهرات المادة ليست أكثر من آثار وخصائص لها وتسميتها ظاهرات اعتراف منهم بهذا، وإذا كانت هذه الظاهرات آثارًا فلابد من اليقين بوجود المؤثر

(3)

.

أمّا الزعم بالمادة الأولى والخلية الأولية للكائنات فزعم لا دليل من العقل ولا الحس ولا التجربة عليه مطلقًا، وعلى افتراض وجود هذه الخلية الأولى فالسؤال الحتميّ: من الذي أوجدها؟ فإن قالوا: أوجدت نفسها وقعوا في الخرافة، فليس في الوجود ولا في تصور العقل ولا في نتائج التجربة أن شيئًا يوجد نفسه؛ إذ لابد أن يكون مسبوقًا بالعدم وإلّا لزم التسلسل إلى ما لا نهاية في الماضي، وهذا محال في العقل، والعدم لا يفعل شيئًا باتفاق عقول جميع العقلاء مسلمهم وكافرهم، ولا يخالف في ذلك إلّا مجنون أو مكابر بسفسطة هي حجة عليه قبل أن تكون حجة على غيره.

(1)

انظر: لن تلحد، لأبي عبد الرحمن بن عقيل: ص 209 - 211.

(2)

و

(3)

انظر: نقض أوهام المادية الجدلية، لمحمد البوطي: ص 112.

ص: 165

إذن لابد لكل فعل من فاعل، ولكل مصنوع من صانع، ولكل موجود من موجد؛ لأن الشيء لا يُمكن أن يوجد نفسه؛ ولأن العدم لا يُمكن أن يوجد شيئًا، وهذه أوليات المحاجة، ومقدمات تزييف آرائهم الباطلة.

ثم يمكن الولوج بعد ذلك إلى ذكر قوانين العلية والسببية ودليل العناية ودليل التمانع، وغيرها من الأدلة الكاشفة لزيف دعاوى الملاحدة، والمثبتة أن اللَّه خالقٌ للكون وهو المتولي لتدبيره والتصرف فيه، كما أن في أدلة المكتشفات الحديثة والتجارب العلمية ما يؤكد هذه الحقيقة، وفي علوم الفيزياء الحديثة والأحياء والفلك ما يدل دلالة واضحة على أن الكون والإنسان والعالم كله من خلق اللَّه، أوجده بعد أن لم يكن موجودًا، ومن أراد أن ينكر كل هذه البراهين فليبطل دليل العلية والسببية، والعناية والتمانع، وليأت بالشمس من المغرب، وليمنع تعاقب الأوقات والفصول وليرفع أسباب الحياة المعيشية عن الأرض:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)}

(1)

.

إن الإيمان بخالق واحد أحد للكون حتمية عقلية حسية تجريبية؛ لأن الإيمان بتسلسل في الخلق لا ينتهي أمر لا يُمكن للعقول قبوله، في حين أن الإيمان بخالق، ينتهي به هذا المحال العقليّ، وذلك وفق دليل قطعيّ عقليّ هو قانون العلية، وأيهما أسلم وأصح في العقول الإيمان بشيء غير متصور عقلًا كالتسلسل وأزلية المادة، أم الإيمان بشيء حتميّ التصور والوقوع؟.

والعقل السليم لا يتصور تسلسل الخالقين إلى غير نهاية، على اعتبار أن المادة خالقة وسبب للوجود كما يقول الملاحدة، ولكنه مضطر إلى الإيمان بخالق لا أول له هو اللَّه الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد وهو الأول الذي ليس قبله شيء.

وإذا نظر العاقل إلى مماحكات الملاحدة عمومًا، والملاحدة المقلدين من العرب خصوصًا يجد أن جدلياتهم تسير ضمن منهج من المغالطات والتقريرات والألفاظ التي تتصنع العقلية والمنطقية، وتتلبس بلبوس التقدم

(1)

الآية 35 من سورة الطور.

ص: 166

العلمي زيفًا وافتراءًا، مع أن التقدم العلميّ في حقائقه لا في افتراضاته بعيد كل البعد عن دعم الإلحاد، وفي العلوم المادية والمكتشفات العلمية ما يدل بجلاء ووضوح على زيف الإلحاد ويقينية الإيمان باللَّه تعالى، غير أن الملاحدة يكثرون الادعاء، ويتبجحون بالعلم التجريبي ويتعاظمون بالتقدم العلمي، ويتسلقون على ظهور المكتشفات، وينتفشون بذكر الأسماء الأجنبية المعروفة في مجال العلوم والمعارف المادية، فيدلسون على ضعفاء العقول والإمعات وفاقدي الشخصية.

وهذه الأفكار المنحرفة لم تعش بقوة ذاتية فيها؛ لأن الوهن ملازم لكيانها، بل عاشت بقوة تحميها أو بطنطنة محترفين لها يدعون إليها أو ببهرج إعلام يزيف الحقيقة ويزين الفساد.

وإذا انتقلنا إلى الأدب العربي المعاصر -محل البحث- وما فيه من انحرافات من هذا القبيل، فإننا نجد ما يدل بجلاء على أن القوم استهدفوا دين الأمة وعقيدتها قبل أن يستهدفوا أي شيء آخر، فمنذ أن أعلن كاهن الحداثة في تلمود الحداثة الثابت والمتحول أنه ليس للخلق أول

(1)

والملأ من أتباعه على مسلكه يرددونه بصيغ أخرى ما قاله هناك وما قاله هنا من أن (. . . جوهر الإنسان ليس في كونه مخلوقًا بل في كونه خالقًا. . . وجوهر الإنسان في أنه كائن خلاق مغير، وجوهر الثقافة بالتالي هو إذن في الإبداع المغير)

(2)

.

وهنا سر المسألة في ربط الإبداع بالكفر ومزجه بالاعتقاد القائل بأبديته وأزليته وأزلية العالم، مع أن إلجام الإبداع بالزيف قتل واغتيال له؛ ولذلك لم تستطع الشيوعية المادية الملحدة أن تهرب من الميتافيزيقيا في الفن والأدب، بل كانت مغرقة في ذلك وإن ربطتها بالحاجات الاقتصادية وصراع الطبقات.

(1)

الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول: ص 75.

(2)

الثابت والمتحول 3 صدمة الحداثة: ص 248 وقد يقال بأن هذه الجملة ليست صريحة في الدلالة على المقصود، والناظر في سياق هذه الجملة وسباقها ولحاقها وخاصة ص 250 يجد أن هذا المعنى الخاسر هو المراد عند أدونيس.

ص: 167

لكن أدونيس وأتباعه يرون أنه لا إبداع إلّا بالإلحاد، زعمًا منهم أن حضارة القرن العشرين قامت على الإلحاد، وهذا كذب واضح، فإن العلوم التجريبية والمعارف التطبيقية وحقائق العلم البحتة قامت على جهود متدينين غير ملحدين من النصارى واليهود، أمّا خرافات الفلسفات المادية وهرطقات الإلحاد الفكريّ فجاءت على يد عاطلين فاشلين لا جهد لهم في التقدم الماديّ من أمثال ماركس وسارتر وهوبز ونيتشه.

وتبعًا لهذه النظرة الإلحادية عند أدونيس وربطها بالإبداع يقرر في صلف أبدية الشعر، فيقول: (. . . إن العمل الشعريّ لا ينتهي، الآلة وحدها تنتهي وهو لا ينتهي

إن وعي الشاعر لذاته لا يبدأ من التاريخ، أو من الماضي، بل يبدأ من ذاته نفسها، وذاته في يقظة دائمة، ففي كل لحظة يعيش ويفكر ويخلق كأنما للمرة الأولى. . .)

(1)

ويُفهم هذا المعنى إذا قرن قوله هذا بأقواله الأخرى الدالة على هذا المقصد عنده بل المبنية عليه، كما فصل ذلك في الجزء الثالث من الثابت والمتحول.

وفي مقطع من كلامه الذي يسمى شعرًا يصف النطفة بالخلق، وهو تصريح بأبدية الخلق وذاتيته والاستغناء عن الخالق سبحانه وتعالى فيقول:

(لم ترني عيناك

بكرًا كماء النطفة الخالقة

لم ترني أقبل من هناك

في موكب النذور

وفي خطابي العشب والصاعقة

غدًا غدًا في النار والربيع

تعريف أني حاضن البذور

غدًا غدًا توقن بي عيناك)

(2)

.

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 5.

(2)

المصدر السابق 1/ 294.

ص: 168

والمقصود هنا هو مهيار، الذي رمز إليه كثيرًا في شعره، وامتدحه، وجعله نموذج التكوين الحداثيّ الآتي، ورمز المستقبل وعنصر الجدة والإبداع، وكثيرًا ما يرمز بمهيار لنفسه، على طريقة "القناع" وهو الأسلوب الحداثيّ المعبر عن شخصية يختفي خلفها الكاتب، ويعبر من خلال تلك الشخصية عن أفكاره وعقائده وآماله وغير ذلك

(1)

. . . و"مهيار الدمشقيّ" هو كذلك بالنسبة لأدونيس، وهذا ما أكده جهاد فاضل

(2)

في كتابه قضايا الشعر الحديث حيث قال: (. . . أمّا مهيار الذي سمى نفسه به مضيفًا إليه الدمشقيّ أحيانًا كثيرة فهو مهيار الديلمي الشاعر الفارسيّ الشعوبيّ الذي يثير اسمه أعذب الذكريات لدى أدونيس، فلكثرة إعجاب أدونيس به سمى نفسه مهيار، وللتفريق بينهما أضاف الدمشقي، وهي كلمة ترمز إلى تلك المرحلة السورية السابقة للفتح العربيّ، والتي شهدت وجود شخصيات فكرية معروفة مثل يوحنا الدمشقي وسواه، وكل ذلك أمور لها دلالتها عند أدونيس وعند القارئ معًا)

(3)

.

واتخاذ أدونيس لرمز مهيار -إضافة إلى ما ذكره جهاد فاضل- أن مهيار الديلميّ كان مجوسيًا ثم أسلم على يد الشريف الرضي

(4)

وهو شيعيّ

(1)

القناع شخصية يتخذها الشاعر أو الروائيّ يختبئ وراءها ليعبر عن موقف يريده، أو قضية يطرحها أو فكرة يبثها. انظر: معجم المصطلحات الأدبية: ص 280، واتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 121 - 125.

(2)

جهاد فاضل اسمه الحقيقي جوزيف فاضل، من أهل لبنان، ناقد حداثيّ، له مواقف نقدية قوية وصريحة ضد مجموعة من الحداثيين من منطلق قوميّ، نقد نزار قباني وأدونيس وغيرهما، وكشف أنواع الانحرافات والعمالة، بتشخيص موضوعيّ، وحصلت بينه وبين نزار قباني مراجعات كشف فيها بعض سوءات الحداثة. أنظر: فتافيت شاعر لجهاد فاضل، وقضايا الشعر الحديث له.

(3)

قضايا الشعر الحديث، لجهاد فاضل: ص 139. وانظر: اتجاهات الشعر العربي لإحسان عباس: ص 121.

(4)

هو: محمد بن الحسن بن موسى الرضي العلويّ الحسينيّ، أشعر الطالبيين، ونقيب الأشراف، شيعيّ المذهب، له كتب كثيرة منها خصائص أمير المؤمنين علي، وديوان شعر ومجاز القرآن، له شعر رائق، ولد وتوفي في بغداد 359 - 406 هـ. انظر: الأعلام 6/ 99.

ص: 169

معروف ودرس على يديه، وعليه تخرج في الشعر والأدب، وتشيع وغلا في تشيعه وسب الصحابة في شعره، وهنا وجه آخر من أوجه إعجاب أدونيس بمهيار وتغنيه به وامتداحه له

(1)

.

وطالما تغنى أدونيس بمهيار ومجّده وتنبأ له بالمستقبل الباهر، وفي المقطع الذي نقلناه آنفًا شيء من ذلك فهو "النطفة الخالقة" إشارة إلى أبديته وأبدية شعره ومبادئه، وهو العشب والصاعقة، وهذا تعبير عن التدمير والثورة والنماء، وغده ومستقبله مركب من النار ذات الإحراق والإضاءة، والربيع رمز الحياة والتجدد، والبذور يريد بها الأفكار والأتباع الذين أُعدوا لبث الفكرة ونشر العقيدة الباطنية الإلحادية، والجذور الوثنية البابلية التي يقول عنها:

(أخلق بابل في الأجناس وفي الأنواع وأخلق بابل في

الصلوات وفي الشهوات وأخلق بابل في الأرحام

وفي الأكفان، وأخلق بابل بين الخالق والمخلوق

وأخلق بابل في الأصوات وفي الأسماء وفي الأشياء

وأظل اللهب الضارب في الأشياء

خارج هذا الورق الرملي ادشن أنحائي

بالضوء، برغبة أن أبقى

خارج هذا الملْك عصيًا)

(2)

.

(1)

مهيار الديلميّ هو مهيار بن مرزويه أبو الحسن الديلمي، كان مجوسيًا وأسلم سنة 394 هـ على يد الشريف الرضي وهو شيخه وعليه تخرج، تشيغ وغلا في تشيعه وسب الصحابة رضي الله عنهم، قال له ابن برهان: يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى أخرى فيها، كنت مجوسيًا وأسلمت فصرت تسب الصحابة. انظر: البداية والنهاية 12/ 14، وتاريخ بغداد 13/ 276، ووفيات الأعيان 2/ 149، والأعلام 7/ 317.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة 2/ 359.

ص: 170

المعاني نفسها مكررة هنا، إلّا أنه يضيف رغبته في إحياء بابل الوثنية، وإعادة تاريخها وعقائدها، متمثلًا وثنيتها ومتشبهًا بضلالها في نسبة الخلق إلى نفسه، كما كانت تفعل الوثنية البابلية في نسبتها الخلق إلى آلهتها، إنه بهذه يظهر نفسه في موطن تأليه نفسه، ناسبًا الأبدية للمخلوق الفاني الضعيف حيث يقول:(وأخلق بابل بين الخالق والمخلوق) وهو يعني بذلك أنه يؤصل المبادئ والعقائد التي يعتنقها، ويرسخ وجودها في الواقع من خلال التدمير والإحراق (وأظل اللهب الضارب في الأشياء).

تدمير وثورة على كل شيء في الواقع العربي، الدين والأخلاق والقيم والنظم والتراث التي عبّر عنها بالورق الرمليّ، ثم يصف نفسه بأنه يضيء نفسه بالضوء، وبالرغبة في البقاء خارج الأطر والقواعد العقدية والأخلاقية وغيرها، ولنا أن نسأل أي ضوء يريده هذا المظلم المتخبط في ظلمات الكفر والجهل والتبعية، ومن لم يجعل اللَّه له نورًا فما له من نور.

إن بابل التي يمهد أدونيس الطريق أمام وثنيتها، ويعلن انتماءه إليها لون من ألوان التقلب في الظلمات، من ظلمة الوثنية إلى ظلمة المادية الإلحادية إلى ظلمة الباطنية النصيرية إلى ظلمة النصرانية.

أمّا بابل التي يقدسها ويشيد بها، في الوقت الذي يدنس فيه المدن الإسلامية فإنه يضفي عليها صفات الربوبية، ويلحق نفسه بذلك حين يصفها بالأبدية، وهو يعني شعره وفكره وعقيدته وحداثته، يقول:

(تهجم بابل في طاووس أو جلاد

ويكون التاريخ هشيمًا

والقيم قيانًا

وتكون الأشجار سبايا

أحيانًا

بابل قبل

ص: 171

وبابل بعد

وبابل وجه للأحياء وللأموات

يولد في أسمائي

بشر

يزدحمون ويقتتلون/ خذيهم

دليهم واحتضنيهم

كوني طرقًا لهم وفتوحات، يا أسمائي

فأنا الأبد المتشرد خارج أسمائي

أبديًا)

(1)

.

هذه الأبدية التي يصف بها نفسه وشعره وفكره هي الفرع الفنيّ والأدبيّ -إن صحت التسمية- للفكرة الإلحادية التي أصلها في تلمود الحداثة كتاب الثابت والمتحول، وذلك في معرض حديثه عن سلفه جبران خليل جبران الذي يعده طليعة الحداثة العربية المعاصرة بكل ما يحتويه جبران من وثنية يونانية ونصرانية ومادية حسب تعبير أدونيس في قوله:(. . . يشكل نتاج جبران خليل جبران ظاهرة من مستوى آخر تتمثل في تجاوز القديم العربيّ وصهره في قديم أشمل يونانيّ -مسيحي- كونيّ. . .)

(2)

.

ويوجز أدونيس الدلالات الحداثية الأساسية التي أرساها جبران بشعره في نقاط عديدة، منها:

(أ - ليس العالم شيئًا مخلوقًا منتهيًا، وإنّما هو اندفاع متحرك لا ينتهي، إنه يولد باستمرار.

ب - رفض الشريعة أو القواعد المسبقة على جميع المستويات.

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة 2/ 361.

(2)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 156.

ص: 172

جـ - الإنسان كائن خلاق، يشارك في الخلق الإلهي، وليس الخلق الشعري إلّا صورة للخلق الكوني بكامله.

د - ليس الشعر مجرد انفعال أو تعقل وإنّما هو رؤيا شاملة للكون وبحث دائم عن المطلق.

هـ - الحداثة انفصال. . . انفصال على مستوى المطابقات بين المرئيّ واللامرئيّ. . .)

(1)

.

ومن هذا النص نستخلص عدة أمور ذات أهمية بالغة في تصور الحداثة مبدأ ومسلكًا وهدفًا:

الأمر الأول: نسبة الأزلية إلى العالم ونفي كونه مخلوقًا للَّه تعالى، وما دام كذلك فهو متجدد تجدد المادة التي لا تفنى ولا تستحدث من العدم حسب المفهوم الإلحاديّ، وما دام الأمر كذلك فليس هناك ثوابت ملطقًا، ومن هذا المبدأ تولد المبدأ الحداثيّ المجمع عليه من سائر أتباع الحداثة حتى الذين يزعمون أنهم يحترمون الدين الإسلامي.

وهذا المبدأ هو: نفي الثبات مطلقًا، والمناداة بالصيرورة والتغير الدائمين.

وقد تفرع على هذا المبدأ الحداثي مبادئ أخرى منها القضاء على فكرة الخلود والثبات، واعتبار أن أي فكرة ثابتة فهي تخلف، ومنها السعي لتغيير كل مطلق ثابت، ومنها اعتقاد أبدية الإبداع.

الأمر الثاني: أن الحداثة بعد أن تأسست على الإلحاد واعتقاد أزلية وأبدية العالم، فهي تسعى إلى هدم الشريعة ورفض نظمها وقواعدها وأصولها ومقتضياتها.

الأمر الثالث: أن الشاعر والإنسان ليسا مخلوقين بل خالقين، وأن الحداثي في عمله الشعريّ ليس سوى خالق بالمعنى الكونيّ لهذه الكلمة،

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 156 - 157.

ص: 173

وهذا تأليه للشاعر وتأليه للإنسان، وإعراض عن اللَّه تعالى، واستكبار إلحاديّ على ربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى، واعتبار أن الإنسان يخلق مثل اللَّه، أو يشارك اللَّه في الخلق هو مبدأ حداثيّ يعبرون عنه تارة بهذه العبارة الصريحة في الكفر والإلحاد، وتارة يرمزون لذلك بعبارات "التكوين" و"الإيجاد" و"كونية الشعر والشاعر" ونحو ذلك من الألفاظ.

الأمر الرابع: الحداثة ليست مجرد شعر وأدب وتحديث في الأشكال والأساليب بل هي رؤيا شاملة للكون والحياة والإنسان، وعقيدة شمولية مضادة للتوحيد والإيمان والإسلام والشرع والدين.

الأمر الخامس: الانفصال عن اللَّه وشرعه ودينه، والعقيدة التي جاء بها الإسلام، أو ما عبر عنه أدونيس بالانفصال بين المرئي واللامرئي.

وهذه الأمور التي طبعت الحداثة العربية بطابعها وكستها بكسوتها، هي التي وجهت المضامين الحداثية في دلالاتها التقريرية الواضحة أو في رموزها وإشاراتها، وهي التي صبغت التيار الحداثي بمختلف مدارسه بهذه الصبغة بصورة كلية أو جزئية، حسب جرأة الحداثي على إظهار مكنونات عقيدته أو تستره خلف الغموض والرموز، وقد شرحت خالدة سعيد

(1)

بعض كلام زوجها أدونيس فقالت: (والكتابة الإبداعية واحد من امتدادات الحضور الإنساني والفعالية التاريخية، لذلك تحتم أن يرى فيها المبدعون الحديثون خاصة لغة لكلية التجربة الإنسانية، ومن هنا كان غياب الأغراض في الشعر مثلًا، إذ صارت القصيدة لحظة كلية، تستوعب الوضعية الإنسانية في شموليتها، وهكذا تطلع الشعر والنص الإبداعي عامة إلى النهوض بالدور الفلسفي والفكريّ والاجتماعيّ، وبالديني أو الأسراريّ "وليس الدين"، وإذا كانت الحداثة -حركة تصدعات وانزياحات معرفية- قيمية فإن واحدًا من أهم الانزياحات وأبلغها هو نقل حقل المقدس والأسراريّ من مجال

(1)

خالدة سعيد حداثية سورية باطنية الأصل، زوجة الحداثيّ النصيريّ أدونيس، وشارحة أقواله، ومتولية أمر الدعاية له، والمنافحة عنه، تنطوي على عداوة شديدة للإسلام كزوجها.

ص: 174

العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش، وإذا كان جبران يشكل إنجازًا مهمًا على هذا المستوى من حيث إقامة المصالحة بين الغيبيّ والإنسانيّ عبر تداخل الدلالات، واستعارة اللغة المقدسة للزمنيّ، فإن ديوان أغاني مهيار الدمشقيّ قد شكل أول انقلاب بين العالمين ونقل المقدس إلى الحقل الإنسانيّ، ولابد من القول في هذا المجال أن ديوان لن لأنسي الحاج قد أسهم في تجريح المقدس ورفع لواء العصيان البشريّ وإقامة لغة التجديف، غير أن مهيار يصوغ التجديف بلغة تبني الدينية الضدية، وترسم إله الدمار والتفكك وتؤسس لانقلاب القيم ومواقع المقدس.

هذا الانزياح علامة تاريخية كبرى. . . ومن هذا المنظور يمكننا أن نقرأ ديوان أمل دنقل

(1)

العهد الآتي، فهذا العهد الآتي هو عهد الإنساني، حيث الإنسان هو البدء)

(2)

.

فإذا كانت الحداثة العربية بهذه المثابة فما مرادها من نفي الخلق عن اللَّه وإزاحة المقدس، والمفاخرة بالكفر والتجديف؟ إنها تبحث عن دين آخر غير الإسلام، وتتطلع -تلافيًا للخواء الذي انحطت فيه- إلى إله آخر تتعبد له، أو ما يعبرون عنه بالبحث عن المطلق حسب قول أدونيس:(. . . ليس الشعر مجرد انفعال أو تعقل وإنّما هو رؤيا شاملة للكون وبحث دأئم عن المطلق)

(3)

.

(1)

أمل دنقل ولد في صعيد مصر عام 1359 هـ/ 1940 في أسرة متدينة ونشأ على ذلك وكان يلقي خطب الجمعة ثم تحول إلى معجب بالماركسية والوجودية رافضًا يقينية الدين الإسلاميّ، متخبطًا في الأوهام والشكوك، عاش متسكعًا في المقاهي، متعاطيًا للخمور والحشيش، مقارفًا للموبقات، كان سليط اللسان، شديد القبح في منظره ومخبره، تشم رائحة الشيوعية منه عن بعد، وشعره مليء بالعقائد الضالة ومنها التهكم باللَّه تعالى والامتداح للشيطان، هلك بالسرطان عام 1402 هـ/ 1982 م. انظر سيرته وعقائده مفصلة في: كتاب الجنوبي لزوجته عبلة الروينيّ.

(2)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م الموافق 1411 هـ: ص 84.

(3)

الثابت والمتحول 3/ 157.

ص: 175

فما هو المطلق الذي وصلوا إليه؟.

يجيب أحدهم على هذا الأمر فيقول: (إن الوضعية المنطقية

(1)

التي هي الظل الفلسفيّ لكل تيارات الحداثة تتخلى في الوعي الحداثويّ العربيّ عن المنطق، ليبقى الوضع بمثابة المطلق الوحيد. . .)

(2)

.

وهذا الادعاء الإلحاديّ في كون الوضعية أو الحداثة هي المطلق الوحيد، هو انجرار في نفس المجرى وانسياق في المسار الإلحاديّ القائم على جحد وجود اللَّه تعالى ونسبة الأبدية للمخلوق من الأعيان كالشاعر والإنسان والطبيعة والمادة، أو المعاني كالشعر والإبداع والحداثة والفكر ونحو ذلك، وهي قضية طالما دندن سدنة الحداثة والعلمانية حولها، فها هو محمد جمال باروت يتحدث في مقال بعنوان "تجربة الحداثة ومفهومها في مجلة شعر" فيقول: (العلمنة في معناها العميق انعطاف من الإله إلى الإنسان، ومن مملكة العرب إلى مملكة الإنسان، وبذلك لم يعد الإنسان يرى العالم نتاج "نظام إلهي أبدي"

(3)

بل "وجد نفسه أمام نظام من صنع يديه لا استئناف لأحكامه إلى سلطة عليا"

(4)

من هنا تغيرت نظرة الإنسان إلى العالم "تغيرًا جذريًا"

(5)

فـ "لا شيء محرم على العقل"

(6)

فـ "عوض عالم مستقر آمن قائم على قواعد ثابتة لا تتزعزع وجد الإنسان نفسه شيئًا فشيئًا في عالم لا قواعد ثابتة له، عالم على ساكنيه أن يعيدوا بناءه بأيديهم وعلى صورتهم ومثالهم، هكذا أصبح الإنسان أكثر من أي وقت مضى مقياس كل شيء"

(7)

. . .)

(8)

.

ثم يضيف مستشهدًا بكلام بعض الفلاسفة الغربيين قائلًا: (تصبح

(1)

سبق تعريفها ص 110.

(2)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م الموافق 1410 هـ. مقال لعبد الرزاق عيد: ص 293.

(3)

و

(4)

و

(5)

و

(6)

و

(7)

يشير باروت في الهامش إلى أن هذه العبارات منقولة عن الخال في مقال بعنوان "نحو أدب عربيّ حديث"، مجلة أدب - المجلد الثاني - العدد الأول شتاء 1963 م الموافق 1382 هـ: ص 9.

(8)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م: ص 258 من مقال لمحمد جمال باروت بعنوان "تجربة الحداثة".

ص: 176

الحداثة في هذا السياق وبما هي "نظرة إلى الوجود" أو "عقلية" حسب تعبير الخال. . . أو نظامًا معرفيًا يجد مرجعه في "النزعة الإنسانية الطبيعية" أو "العلمية". . . -ثم يوجز هذه النزعة الإنسانية بكلام لأحد الغربيين-: (بأن الإنسان لا يحيا إلّا حياة واحدة، ولا تحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادر عالية على الطبيعة، وأن العالي على الطبيعة الذي يتصور عادة في شكل آلهة سماوية أو جنات مقيمة، ليس موجودًا على أية حال، ففلسفة النزعة الإنسانية تسعى على الدوام إلى تفكير الناس بأن مقرهم الوحيد هو هذه الحياة الدنيا، فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات، إذ ليس ثمة مكان غيرها نقصده، ولابد لنا نحن البشر من أن نجد مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه، وإلّا فلن نجدهما على الإطلاق)

(1)

.

بهذا المعنى فإن "المجتمع الحديث" الذي يعنيه الخال هو المجتمع الذي يقوم على "النظرة الإنسانية الطبيعية"

(2)

التي تؤدي إلى "مجتمع قائم على نظرة حديثة للحياة على العلم والتكنولوجيا"

(3)

على حد تعبير الخال. . . .

ويعبر الخال عن هذه الإشكالية بقوله: (وإذا فقد الإنسان سندًا له في نظام إلهي أبديّ يرئسه

(4)

إله عادل رحيم يحميه ويكافئه هنا أو في السموات، وجد نفسه أمام نظام من صنع يديه لا استئناف لأحكامه إلى "سلطة عليا"

(5)

، وبذلك يصبح "الإنسان مصدر القيم لا الآلهة"

(6)

على

(1)

يشير باروت إلى أنه نقل هذا النص الإلحاديّ عن لامونت حسب ما أورده هنترميد.

(2)

المقصود بالنظرة الإنسانية الطبيعية، الفلسفة التي سبق ذكرها وهي فلسفة تؤله الإنسان والطبيعة وتنفي كل شيء خارج الطبيعة.

(3)

يشير باروت في الهامش إلى أن هذه العبارات منقولة عن الخال في مقال بعنوان "نحو أدب عربي حديث"، مجلة أدب - المجلد الثاني - العدد الأول شتاء 1963 م: ص 9.

(4)

هكذا والصواب: يرأسه.

(5)

و

(6)

(ينقل باروت هذا النص عن الخال من المقال المشار إلى موضعه في هامش سابقًا بعنوان "نحو أدب عربيّ حديث": ص 10.

ص: 177

حد تعبير أدونيس، من هنا يخوض الإنسان صراعًا روحيًا مع الفراغ، إذ يؤدي المجتمع الحديث إلى "التبعثر والتمرد والرفض والحيرة والقلق وما إلى ذلك مما يطبع عصرنا الحاضر"

(1)

، ومن هنا يحل الشعر مكان الدين، ويصبح "ميتافيزيقيا" المجتمع الحديث حيث يلعب الشاعر "دور الآلهة التي اختفت"

(2)

على حد تعبير خالدة سعيد. . . يعيد الشعر في هذا السياق اكتشاف "اللَّه" على صورة الإنسان "الحي الميت المحب المبغض الآمل اليائس السعيد التعيس القاهر المقهور"

(3)

، ويفسر ذلك اهتمام مجلة شعر بالتجربة الميتافيزيقية واحتضانها لما يُمكن تسميته بالتجربة المسيحية في الشعر العربيّ، من حيث أن المسيح يغدو هنا إلهًا علمانيًا. . .)

(4)

.

هكذا تتشابك الحداثة تشابكًا عضويًا مع الإلحاد، وتمتزج في رؤية زعماء الحداثة في علاقة مغموسة بالمادية والكفر متعددة الواجهات متنوعة العبارات ذات نسق موحد في مواجهة الإسلام في محاولة لإزاحته عن الوجود من خلال إنكار وجود اللَّه تعالى وربوبيته وألوهيته وشريعته، وإيجاد المطلق

(5)

الماديّ ويقصدون به البديل الإلحاديّ للَّه -جلَّ وعلا-، فها هي

(1)

ينقل باروت هذا النص عن أدونيس في كتابه زمن الشعر: ص 50.

(2)

ينقل باروت هذا النص عن خالدة سعيد في البحث عن الجذور، دار مجلة شعر بيروت 1379 هـ/ 1960: ص 9.

(3)

ينقل باروت هذا النص عن الخال في مقال له بعنوان بين المثال والواقع نشر في مجلة أدب صيف 1963 م/ 1382 هـ: ص 3.

(4)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ من مقال لمحمد جمال باروت بعنوان "تجربة الحداثة": ص 258 - 259.

(5)

المراد بالمطلق هو ما كان بلا قيد ولا وثاق، والعريّ عن الصفة والشرط والاستثناء، هكذا عند أهل المنطق والكلام، أمَّا عند أهل الفلسفة المادية الحديثة فيريدون به الإشارة إلى أن شيئًا ما صالح من كل الأوجه بلا قيد، وهو التام والكامل والثابت والكليّ وغير النسبي، وعلى هذا فقد أطلقوا على الشعر والفن والديمقراطية والمذهب الإنسانيّ وغير ذلك لفظ المطلق. انظر: الكليات: ص 848، ومعجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: ص 428 - 430.

ص: 178

البنيوية

(1)

تحاول أن (تجد في اللغة العماد الذي يرجع إليه كل شيء أي المطلق الذي يمكن أن يحل محل الإنسان)

(2)

.

وهذا النص يحتوي المغالطة الإلحادية الحداثية التي تشير إلى أن الإنسان هو "المطلق" هكذا بصورة مسلمة كعادة الادعاءات الحداثية، ولكن البنيوية جاءت باللغة لتجعل منها مطلقًا آخر.

وتتوارد تصريحات الحداثيين حول هذا الزعم المفرد في المادية تقديسًا للشعر والإبداع وتأليهًا للشاعر والفنان، يقول نزار قباني:(. . . لا أعتبر أن النثر هو الشكل النهائي للشعر، فأنا لا أؤمن أصلًا أن هناك نهايات مطلقة للشعر. . .)

(3)

، ويقول:(الشاعر هو مصدر الشرعية وهو الحاكم الفرد المطلق الصلاحية على أوراقه وعلى أبجديته)

(4)

.

ويقول في جرأة إلحادية حادة فاضحة: (إن اللَّه عندي هو دبيبٌ شعريّ، وإيقاعٌ صوفيّ في داخلي، والشعور الدينيّ لديّ هو شعور شعريّ،

(1)

البنيوية مفهوم تحدد حديثًا وانتشر في مجالات العلوم الإنسانية، يقوم على أساس الهيكل، والبنية هي هيئة ما نضبط به المشاهد والمحسوس، وأنه لابد أن يكون نظامًا متراص العناصر "البنيات" بحيث يكون كل تغيير في عنصر مّا تغييرًا في كل العناصر، ولابد أن يكون المثال مبنيًا بطريقة تجعل عمله قادرًا على إعطائنا معرفة بخصوص كل الظواهر المعاينة. ومصطلح البنيوية متسع غير منضبط، زائغ في حقل البحث نظرًا لاتساعه واختلاف مفاهيمه، وقد ظهرت البنيوية كمنهج ومذهب فكريّ لها إيحاءاتها الاعتقادية الايديولوجية بما أنها تسعى لأن تكون منهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام إيمانيّ جديد من شأنه أن يفسر علميًا الظواهر الإنسانية كافة، ولذلك توجهت البنيوية توجهًا شموليًا ينطلق من قاعدة مادية للنظر إلى العالم والإنسان والكون والحياة، ومن مشاهير البنيوية ليفي شتراوس وسوسير رولان بارت وميشيل فوكو وغيرهم الذين كانوا ماركسيين أو ملاحدة. انظر: المفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة: ص 205، دليل الناقد الأدبي: ص 26، ومعجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص 52.

(2)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م/ 1411 هـ، من مقال لشكري عياد بعنوان "من الأصول الفكرية للحداثة": ص 185.

(3)

أسئلة الشعر، لمنير العكش: ص 185.

(4)

المصدر السابق: ص 187.

ص: 179

والكفر عندي هو موت صورة اللَّه - القصيدة في أعماقي. . . كل كلمة شعرية تتحول في النهاية إلى طقس من طقوس العبادة والكشف والتجلي. . . كل شيء يتحول بالشعر إلى ديانة، حتى يصير الجنس دينًا. . . والغريب أنني أنظر دائمًا إلى شعري الجنسي بعيني كاهن، وأفترش شعر حبيبتي كما يفترش المؤمن سجادة صلاة. . . أشعر كلما سافرت في جسد حبيبتي أني أشف وأتطهر وأدخل مملكة الخير والحق والضوء، وماذا يكون الشعر الصوفيّ سوى محاولة لإعطاء اللَّه مدلولًا جنسيًا)

(1)

.

تعالى اللَّه عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

وهكذا تتبدى الحداثة في حقيقتها الإلحادية وبلسان كبار منظريها وزعمائها، ولست أدري بعد هذا: لماذا تنبري أقلام بعض من ينتسب إلى الإسلام للدفاع عن الحداثة وأصحابها؟.

ألم يقرأ هؤلاء ما سبق نقله؟ وما سوف يأتي من مثل قول كاتب مقدمة ديوان السياب واصفًا المقياس الذي سار عليه السياب المتمثل في أن (. . . الشاعر هو محور العالم)

(2)

، أو قول البياتي

(3)

تحت عنوان "كلمات لا تموت"

(4)

:

(1)

المصدر السابق: 196.

(2)

ديوان شاكر السياب المقدمة ص: "ص".

(3)

هو: عبد الوهاب البياتيّ، ولد في بغداد لأسرة شيعية سنة 1344 هـ/ 1926 م، وتخرج من دار المعلمين العالية في بغداد، أنتمى للشيوعية الماركسية، وهو أحد كبار الذين سنوا سنة الحداثة في الشعر العربي الحديث، تنقل ما بين مصر وسوريا والعراق والاتحاد السوفيتي ثم هو الآن في أسبانيا، لايخفي عداوته للإسلام ولا مناقضته لقضاياه، وهو مغرم بالشيوعية ورموزها، وخاصة صديقه الماركسيّ التوركيّ يهوديّ الأصل ناظم حكمت، يعتبر البياتي إمامًا من أئمة الحداثة، ورائدًا من رواد الانحراف الحداثي العربيّ، وله مؤلفات عديدة ترى الحداثيين الامعات على آثارها يهرعون، وعلى منوالها ينسجون. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث. ص 661، ورأيهم في الإسلام: ص 49، ورحلة في عقول مصرية: ص 579، والحداثة في ميزان الإسلام: ص 90.

(4)

ديوان عبد الوهاب البياتيّ 1/ 380.

ص: 180

(كلماتي

لن تهرم

كلماتي

لن تهزم

كلماتي

لن تصدأ. . .)

(1)

إلخ.

دعاوى عريضة بأبدية هذا الكلام الذي أقل ما يقال فيه أنه مجرد خطابية فجة وبيانات يسارية ساذجة ويواصل قائلًا:

(وأنا أبصر

وسمائي تمطر

عبر الظلمات)

(2)

.

ثم يبشِّر بالشاعر الحداثيّ الذي على منواله ويصفه بأوصاف احتفالية مكشوفة قائلًا:

(كلماتي

أزهار

لن تذبل

فلنرحل

فسيأتي شاعر

من بعدي

في باقة ورد

(1)

ديوان البياتيّ 1/ 381.

(2)

المصدر السابق 1/ 430.

ص: 181

في مشعل

يقتحم الأسوارا

ويضيء الأنوارا

وسيصنع من كلماتي

من حبر دواتي

مدنًا وحدائق

ونجومًا ومطارق)

(1)

.

وهذه المضامين المفرطة في تقديس الشاعر والشعر، وإعطائه من الأوصاف ما يسخر منه أولوا العقول؛ هي فرع عن التصور الضال الذي سبق الإشارة إليه مرات في هذا الباب.

وإذا كان الحداثيون يزعمون أنهم يتمردون على كل قيد ويصادمون كل إله وقداسة فلماذا نجدهم يرتمون في تقديس الأوثان الجاهلية البائدة والأوثان الجاهلية المعاصرة من مذاهب وأساليب وأفكار؟ بل إننا نجدهم ينحطون مع لوازم هذه العبوديات الكافرة إلى حد تقديس الحرف والكلمة كما في قول البياتيّ:

(أيها الحرف

الذي علمني حب الحياه

أيها الحرف الإله

آه لا تطفئ مصابيحك، آه

كل ما أكتبه محض صلاه

لك للعالم ما أكتبه

(1)

المصدر السابق 2/ 316.

ص: 182

محض صلاه

وسلاح في يدي ضد السلاطين وأحفاد الغزاه)

(1)

.

ويقول:

(حتمي أمري الحرف

قدري، ناري الحرف

وطني منفاي الحرف)

(2)

.

وهكذا ينطرح البياتيّ عبدًا للحرف والشعر ويصلي لها ويقدسها معتقدًا أزليتها وأبديتها، ويخاطب الشعر قائلًا:(إلهي بين يديك أنا قوس فاكسرني. . .)

(3)

، ويقول واصفًا كلماته بكلمات اللَّه تعالى التى لا تنفد:(لو كان البحر مدادًا للكلمات لصاح الشاعر: يا ربي نفد البحر وما زلت على شواطئه أحبو)

(4)

.

ويتحذلق ممجدًا الإبداع إلى حد مقارنته بالخلق وهو مهووس كغيره من الحداثيين بهذه الكلمة فيقول: (العربات الذهبية حاملة للجسد المنفي بذور الإبداع ونار الخلق الأولى من أي السنوات الضوئية يأتي هذا الضيف. . .)

(5)

.

وبنفس مجوسيّ يقول واصفًا الشعر:

(خرجت من نار الشعر طقوس الحب. . .

خرجت من نار الشعر الآيات

ونبيّو الثورات. . .)

(6)

.

(1)

ديوان البياتيّ 2/ 417.

(2)

المصدر السابق 2/ 425.

(3)

و

(4)

المصدر السابق 2/ 429.

(5)

و

(6)

المصدر السابق 2/ 442 - 443.

ص: 183

أمّا أنسي الحاج فإنه يتجاوز في اعتقاد أبدية وأزلية الكلمة ويتعدى في تقديسه لها كل من سبقه حين يقول -وأستغفر اللَّه من نقل هذا القول-: (تقتل الكلمة جسد اللَّه بعد قتل اللَّه روحًا وجسدًا)

(1)

.

وبدون أدنى حياء أو تردد يعلن هذا الملحد مثل هذا القول ويبثه بين أبناء المسلمين لإنهاء أي قداسة في قلوبهم للَّه تعالى وإفراغ قلوبهم وعقولهم لتكون مهيأة لصب قاذورات الإلحاد فيها باسم الحداثة والإبداع والتحديث الأدبي والفني الذي يحاول أن يصبغه بصبغة الربوبية من دون اللَّه تعالى فيقول: (الشعر فعل إيمان الحياة وفعل وحدة الكون، "أراني مضطرًا أن أوضح باستمرار أني لا أعني الكتابة الشعرية فحسب، بل الشعر كروح وجو وعالم، الموجود في كل شيء").

إنه ما قبل الإنسان، وإنه الإنسان وما وراءه وفوقه وبعده، هو خالق الدين والفن والجمال والحب، هو بطانة الروح بل روحها)

(2)

.

وهذا كله يعود إلى الأصل الحداثيّ الذي نحن بصدد الحديث عنه وهو نسبة الأبدية للمخلوق، واعتناق الدهرية عقيدة وسلوكًا فيما يتعلق بالإنسان في وجوده وموته، إذ يعبر أحدهم عن هذه القضية بقوله:(. . . فأينما وجدت وهنًا بشريًا ففكر بالزمن، إذ الإنسان لا يعدو كونه فلذة افتلذت من كبد الزمان وطوح بها في هذا الفراغ اللامتناهي)

(3)

.

فما دام أن الإنسان في حسبانهم وجد بهذه الكيفية العشوائية فلا إله ولا خالق ولا نهاية للعالم، فلا مانع أن يمارسوا أي شيء بأقوالهم أو بأعمالهم، وهذا ما يتطابق فعلًا مع سلوكهم الكتابي وسلوكهم العمليّ المبني أساسًا كما يقول أحدهم على نقد المتعاليات التي يقصدون بها اللَّه تعالى ودينه وسائر الغيبيات الاعتقادية، ويخلص من ذلك إلى القول بأن الإنسان

(1)

خواتم، لأنسي الحاج: ص 19.

(2)

المصدر السابق: ص 128.

(3)

مجلة الناقد عدد 13 تموز 1989 م الموافق ذي الحجة 1409 هـ: ص 8 من مقال ليوسف سامي اليوسف.

ص: 184

هو خالق حاضره ومستقبله

(1)

.

فالإنسان عندهم موجود ماديّ، وهو مستمر أبدًا كما عبر أحدهم في سفسطة إلحادية قائلًا:(البشرية باقية والإنسان زائل)

(2)

.

أمّا الإيمان بأن اللَّه خالق العالم فهم من أبعد الناس عنه وأشدهم إعراضً عنه، وأكثرهم نقدًا وتهكمًا به وبالمؤمنين به، فها هو محمد أركون يتهكم بالمؤمنين الذين يؤمنون بأن اللَّه خالق العالم ويصفهم بالأصوليين والأرثوذكس فيقول:(. . . موقف المتكلمين الفقهاء، أي الأصوليين الذين يدافعون عن الموقف الأرثوذكسيّ كما حدده القرآن بأن العالم مخلوق من اللَّه، وبين موقف الفلاسفة الذين قالوا بأزلية العالم. . .)

(3)

.

ولذلك اشتد تلبط هذه الفئة بالدنيا وعظم إخلادهم إلى الأرض لأنهم يرون أن هذه الدنيا هي غاية كل شئ كما قال أسلافهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ. . . .}

(4)

، وغير مستغرب من كانت هذه عقيدته أن يهبط في عقيدته وسلوكه إلى أسفل حضيض، أليست الأرض هي غايتهم ومحراب آمالهم؟:

(هي الأرض محرابنا السرمديّ عليها سنبني صروح السلام)

(5)

، وما دامت الأرض والحياة فيها هي المقصد والمنتهى عندهم فلا غرابة أن تسمع واحدًا يوصي آخر بقوله بلهجة عامية لبنانية:(كول. . واشرب وعيش وانبسط ما تخلي الدنيا تعتب عليك، بعدها الدنيا ما في شي. . ويضرب على بطنه بزهو ومرح ويشرب. . .)

(6)

.

(1)

انظر: حداثة السؤال، لمحمد بنيس: ص 19.

(2)

رأيهم في الإسلام: ص 120 في مقابلة مع جمال الغيطاني الماركسيّ سابقًا الوجوديّ لاحقًا. انظر: المصدر نفسه: ص 115.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 340.

(4)

الآية 24 من سورة الجاثية.

(5)

ديوان البياتيّ 1/ 175.

(6)

شخصيات وأدوار في الثقافة العربية، لمحمد دكروب: ص 115، وهذا الحديث عن ليلة زار فيها مارون عبود في داره وكان يشرب الخمر.

ص: 185

ولو سئل أحدهم عن وجود الكون، وهل يُمكن لفكرتهم المادية القائلة بأبديته واستقلاله عن خالق بارئ موجد له من عدم؟ لوجدت الإجابات التي يخيل لأصحابها أنها عقلية علمية، بينما هي في حقيقة الأمر عكس ذلك.

وهكذا وبدون برهان إلّا مجرد الادعاء يتشدق بعضهم في هذه القضية الخطيرة فيقول: (. . . فالإنسان والقمر والشمس والنجوم لها خصائصها الذاتية وقوانينها التي تحكم حركتها ووجودها. . . وأيضًا تحكمها قوانين تحدد الصلة بينها وبين غيرها من الكائنات، لأن حتمية وجود مثل هذه القوانين يترتب عليه انتظام الكون. . .)

(1)

.

ثم ينكس على رأسه قائلًا: (إذا كنا قد انتهينا كنتيجة حتمية بوجود قانون ينظم حركة الكون وعمله. . وإذا كنا قد قلنا بحتمية وجود أجهزة لتنفيذ القانون كالعائل في الأسرة والحاكم في الدولة، وإذا قلنا بنظرية تطابق المثلثات نجد أن أضلاع المثلث الوضعي تتمثل في القاعدة وهي المجتمع الذي ينطبق عليه القانون وساقا المثلث وهما القانون والجهاز الممثل في الحاكم وهذا هو المثلث الوضعيّ، أمّا المثلث الإلهي فنجد أنه مثلث ناقص ضلع

(2)

، ويتمثل هذا الضلع في حاكم الكائنات. . أي اللَّه الذي ينكره البعض، ذلك أن ضلعا المثلث الآخران وهما القانون والكائنات لا يجحدهما أحد، إذن فالخلاف حول الضلع الثالث هو الحاكم أي الإله، وسبب هذا الخلاف أو الجحود أو الإنكار هو الفصل بين القانون وبين اللَّه. . وذلك أنه في المثلث الوضعي القانون ليس الحاكم بل منفصل عنه تمامًا، أمّا اللَّه في مثلث الكائنات فهو غير منفصل عن القانون فالقانون هو اللَّه واللَّه هو القانون. . .)

(3)

.

ثم يرتب على هذه الخرافات الوثنية أحكامه العامة في شأن الخلق

(1)

مسافة في عقل رجل: ص 153.

(2)

هكذا!

(3)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 215.

ص: 186

ونظم حياتهم ونحو ذلك، وعلى المنوال نفسه في الادعاء والجزم والمكابرة الجاهلة يفسر وجود الإنسان بنظرية المادة وتحولها من شكل إلى شكل لتكتسب شكلًا آخر

(1)

.

ثم يزعم جازمًا فى دون أن يكلف نفسه عناء الإدلاء ببرهان واحد، فيقول مقدسًا نظرية دارون:(النظرية هي التي تبقى، النظرية التي يصنع على أساسها العلمي ملايين المخلوقات. . تبقى النظرية الهندسية خالدة باقية. . أمّا التطور الإنساني فبداخله مولد الطاقة، أي بداخله إمكانات وعوامل تطوره. . . الإنسان لا يولد بل ينشأ، ثم الإنسان لا يموت بل يهدم؛ لأن الموت فناء، وهنا الموت تحول من مادة إلى مادة أخرى أي أنه هدم، إذن فالإنسان ينشأ بناء على نظرية هندسية يتوالى نشوء الأجيال بناء عليها. . .)

(2)

.

وبهذا الكلام وأشباهه زُين للذين كفروا في هذا العصر ضلالهم وكفرهم وجهلهم وانحرافهم فصُدوا عن السبيل، وتمادوا في الغواية، ورتعوا في ظلمات الكفر والإلحاد، وانتكسوا إلى أسفل سافلين في العقل والفكر والاعتقاد والأخلاق والسلوك {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}

(3)

.

وما راج كفرهم وانحرافهم إلّا على أصحاب العقول السقيمة والقلوب الميتة والنفوس المريضة، ببهرج من القول صنعوه، وبشكوك ألبسوها لباس الموضوعية الكاذبة، والتحرر الزائف، والعقلانية المنعدمة، وبإعلام ودعاية أظهرتهم على أنهم العقلاء المفكرون المثقفون المجددون، وساعدهم في كل ذلك ضعف أهل الحق، والاستضعاف النازل بهم وجهل أبناء المسلمين بدينهم، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه.

(1)

و

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 215 - 216.

(3)

الآية 44 من سورة الفرقان.

ص: 187

‌رابعًا: الزعم بأن الوجود عبث:

هذه العقيدة الضالة فرع عن العقائد الإلحادية السابقة، وهي نفي وجود اللَّه تعالى، ونفي كونه سبحانه ربًا خالقًا، ونسبة الأبدية إلى المخلوقات.

وقد انطلق الحداثيون من اعتقاد عبثية الوجود إلى فوضى عارمة تدعو إلى التدمير والهدم والاغتراب والعدمية والثورة والرفض لكل شيء: الدين والإنسان والحياة، وهذه نتيجة طبيعية للاعتقاد الفاسد المبني على فصل الإنسان عن خالقه -جلَّ وعلا- وغمسه في المادية، وغرس مبادئ العداوة لكل شيء سوى الذات الواحدة الواجفة الجافلة من كل المبادئ والقيم والنظم.

ومن مفردات هذه العقيدة العبثية الفوضوية ما نقرؤه في كتابات الحداثيين من دعوة إلى تدمير بنية المجتمع، ورفض رسالة الأدب والفن، والحماسة لتفجير اللغة، وامتداح الاغتراب والعدمية والعبثية، والمناداة بالفردية، والأدب الجنسي والشذوذ، وجعل اللاوعي مركز الإبداع، ورفض العقل والمنطق والنظام والدعوة إلى الانحطاط والبهيمية، وإلى العزلة والهروب والهزيمة، وممارسة الغموض والرمزية الطلسمية، والنكوص نحو الأوثان والرموز الجاهلية وغير ذلك من ظواهر الشتات والتمزق والمعيشة الضنك التي اختار هؤلاء طريقها بابتعادهم عن الهدى والخير والفلاح.

ومن الطبيعيّ -نسبة إلى اعتقادهم عبثية الوجود والإنسان- أن يشعروا بالقلق بل من الضروري أن يشعروا بالضياع والحيرة والتمزق لعدم إيمانهم باللَّه تعالى، ومن الحتمي أن يعيشوا حياة التناقض والتشاكس لجحدهم الدين وفرارهم من الأخلاق، وهذا ما يظهر في حياتهم الشخصية من إغراق في الخمور والمخدرات والشذوذ الجنسيّ والزنا والدعارة، وفي نتاجهم الفكريّ والأدبيّ من عبثية وتناقض ويأس يشبه العقيدة النصرانية في الخطيئة، غير أن النصارى ابتدعوا لأنفسهم ما يسمونه الخلاص وهؤلاء يعتقدون أن الإنسان تمادى في الخطيئة وانغمس فيها إلى حد يستحيل معه الوصول إلى خلاص،

ص: 188

وليس هذا خاصًا بالمذهب الوجوديّ وأضرابه من المذاهب العدمية بل هو مثلًا في البنيوية في موت المؤلف

(1)

والكتابة ضد الكتابة

(2)

وما تحويه من إيحاءات عبثية عدمية تقدس اللغة والنص على حساب هدم الإنسان، وما المنهج التفكيكيّ ببعيد عن مثل هذا الإيحاء، ولاسيما إذا علمنا أن "البنيوية" استفادت من الوجودية والماركسية وتأثرت بهما، ولكنها جاءت حسب قول أصحابها لتخرج على جمود الوجودية وانغلاق الماركسية، بيد أنها تحولت في الحقيقة إلى لون آخر من الانغلاق والتقوقع حول النص واللغة.

ولست هنا في صدد تعديد عبثية المذاهب الأدبية الغربية؛ لأن ذلك يطول، ويُمكن تلخيصه في أن الآلة الفكرية الغربية تدور حول عدة قضايا من أظهرها العبثية والانفراط {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}

(3)

، والحداثيون العرب غلفت قلوبهم وغفلت، واتبعوا أهواء أهل الإلحاد فكانوا مثلهم حياتهم في ضنك، وأمرهم في فرط الضياع والعبث، وحتى كتاباتهم التي يمجدونها ويقدسونها قصيرة العمر فاقدة القيمة؟ لأنها عبث في عبث، زعموا أنهم يحررونها من قيم الدين والخلق فوقعوا في رق العبثية، وانصهروا في حياة العدمية والضياع.

يقول أنسي الحاج: (. . . إن الكتابة عبث فلماذا لا تكون؛ فور ذاك، تمريغًا لعبث الوجود بعبثها ولمحدودية الخلق بلا محدودية جنونها وهدمها؟، لعل هدمها يثقب مخرجًا في جدار، وعبثها قد يفضي إلى إيجاد غايات للوجود. . .)

(4)

.

وهكذا يربط أنسي الحاج بين عقيدته الزاعمة أن الوجود عبث

(1)

مبدأ بنيوي يقوم على إلغاء دور المؤلف فلا هو مبدع ولا عبقريّ وإنّما مجرد مستخدمٍ للغةٍ ورثها، وهذه اللغة "المادة ذاتها" هي التي تنطق وتتكلم وليس المؤلف أو صوته. انظر: دليل الناقد الأدبي: ص 114.

(2)

مفهوم بنيوي، وهو مؤلف بهذا العنوان، لعبد اللَّه الغذامي.

(3)

الآية 28 من سورة الكهف.

(4)

خواتم: ص 15.

ص: 189

وممارسته الكتابية الداعية إلى العبث، ويسعى هو وصنوه أدونيس إلى نشر هذا الوباء الأدبي الذي يُمكن أن يودي بأشياء كثيرة فكرية وأدبية لو أتيح له أن ينتشر.

ومن كلام أنسي الحاج في هذا الصدد ما قاله في صراحة فجة: (العدم حقيقة حقًا: إنه فراغي أنا، عدمي الداخلي، حيث لم أشأ أو لم أعرف أن أمتلئ، أن أمتلئ بالنور بالظلام، بكل ما يملأ، بكل ما يُفرغ ويطحن ويلوث ويطهر، بكل هذه العوالم المحتشدة بكل هذه التي قد تكون مجموعة فراغات، ولكن كل الحياة، حياة العصور كلها، لا تكفي لاستهلاكها.

ومع ذلك لا أستطيع إلّا أن أعجب أيضًا بمن ينكرك يا إلهي. . . وأمضي فأصل إلى النتيجة: إعجابى بثورة الملحد وتجديفه سببه حريته المطلقة. . .)

(1)

.

وبهذا الإعلان يربط الحاج بين مدلولات حداثية عديدة أولها الإلحاد الذي يثير إعجابه، ثم العدم الذي يعتبره حقيقة، ثم النتاج الأدبي الإبداعيّ الذي يرسم هذه الدعاية الفكرية ويسوّقها في الكتب والمجلات والأندية والمحافل الثقافية.

وما "قصيدة النثر" الخالية من كل قيود القصيدة القديمة والحديثة ومن كل مضامين الخلق والقيم والعقيدة إلّا صورة من صور هذا الركام

(2)

.

وإذا أردنا تقصي ظاهرة العبثية في الحداثة العربية فإننا نجدها قد نبتت مع أول المحاولات الحداثية من السياب وجيله، فها هو السياب يعبر عن هذا المعنى على لسان المومس العمياء في صيغة ريبية فيقول:

(وخلاصك الموعود والغبش الإلهي الكبير!

(1)

خواتم: ص 74 - 75.

(2)

انظر: مجلة الأدب الإسلامي، عدد 4، ربيع الثاني 1415 هـ: ص 46 مقال بعنوان "ظاهرة العبث في الشعر العربي المعاصر" لرجاء النقاش.

ص: 190

ما كان حكمة أن تجيء إلى الوجود وأنت تموت؟)

(1)

أمّا نازك الملائكة

(2)

فعلى الرغم من تحفظاتها على الحداثة عقيدة ومسلكًا ومحاولاتها كسر حدتها إلّا أنها كانت من أوائل من نشروا هذا المذهب ونصروه ودعوا إليه، ولم يتبين لها خطورة ما فعلت إلّا بعد فوات الأوان، وكان مما قالته في قضية عبث الحياة والوجود والشك في غاية الوجود الإنسانيّ:

(هكذا جئت للحياة وما أد

ري إلى أين سوف تمضى الحياةُ

وسأحيا كما يشاء لي المجـ

ــــــهول حيرى تلهو بى الظلماتُ

ها أنا الآن حيرة وذهول

بين ماض ذوى وعمر يَمرُّ

لست أدري ما غايتي في مسيري

آه لو ينجلي لعيني سرُّ)

(3)

وتقول أيضًا:

(ماذا وراء الحياة؟ ماذا

أي غموض وأي سِرّ

(1)

ديوان السياب: ص 541.

(2)

نازك الملائكة ولدت في بغداد عام 1342 هـ/ 1923 م لأبوين شاعرين، درست في دار المعلمين العالمية ثم توجهت إلى أمريكا لدراسة الإنجليزية وآدابها، تجيد عدة لغات وعندها عدة شهادات، وعملت أستاذة في كلية التربية في جامعة البصرة، تعتبر من رواد الحداثة ومن أوائل الذين رسخوا الشعر الحر، ولكنها ما لبثت -بعد أن اكتشفت فداحة الجناية الحداثية- أن نقدت الحداثة وخاصة في شقها الفنيّ. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 677، والصراع بين القديم والجديد 2/ 1277.

(3)

ديوان نازك الملائكة 1/ 28 - 29، وفي ص 362 كررت هذا القول.

ص: 191

وفيم جئنا؟ وكيف نَمضي؟

يا زورق بل، لأي بَحر؟

يدفعك الموج كل يوم

أين ترى آخر المقر؟

يا زورقي طال بي ذهولي

وأغرق الوهم جو عمري)

(1)

وتصف نفسها وحياتها بالسفينة التائهة في خضم موج الحياة العابثة فتقول:

(في لجة البحر الرهيب سفينة تحت المساء

ألقت بها الأقدار في لجج المنايا والشقاء

الريح تصرخ حولها وتضج في ظلم الفضاء

والموج يضربها ويلقيها على شفة الفناء

سارت ولا ربان يهديها إلى الشط السحيق

حيرى يخادعها الظلام فلا شعاع ولا بريق

من فوقها هول الرعود وتحتها اللجّ العميق

سارت وما تدري إلى أين المصير وما الطريق)

(2)

وبعد هذه المعاناة الشديدة والضيق من هذا التصور العبثي الشكيّ في الغاية من الوجود الكونيّ والإنسانيّ تصرخ قائلة:

(تعذبني حيرتي في الوجود وأصرخ من ألمي من أنا)

(3)

(1)

المصدر السابق 1/ 552.

(2)

المصدر السابق 1/ 602.

(3)

ديوان نازك الملائكة 1/ 52.

ص: 192

وتسأل سؤال المتشكك المضطرب الحائر الخائر الذي لايعلم لماذا ولا إلى أين يذهب؟ فتقول:

(لماذا نعود؟

أليس هناك مكان وراء الوجود

نظل إليه نسير

ولا نستطيع الوصول

مكان بعيد يقود إليه طريق طويل

يظل يسير يسير

ولا ننتهي ليس منه قفول. . .)

(1)

.

أمّا ثالثة أثافي الحداثة عبد الوهاب البياتيّ فيقول واصفًا فكرته المغلقة أن الحياة عبث وضياع وانتحار:

(لابد أن نختار

أن نقبض الريح وأن ندور الأصفار

أن نجد المعنى وراء عبث الحياة

فالعيش في هذا المدار المغلق انتحار)

(2)

.

ولكن صلاح عبد الصبور

(3)

وهو من أوائل كهان الحداثة قد أسرف في

(1)

المصدر السابق 2/ 256.

(2)

ديوان البياتيّ 2/ 96.

(3)

صلاح عبد الصبور شاعر من مصر، ورائد من رواد الحداثة، مليء شعره بالمضامين الحداثية المنحرفة، كما في قصيدته "الناس في بلادي" و"مأساة الحلاج" وغيرها، تأثر بشعراء الغرب خاصة أليوت وكافكا وغيرهما، وبذل جهدًا كبيرًا في نشر المضامين الحداثية والعلمانية، وكانت خاتمته الموت بالسكتة أثناء ليلة رقص وخمر في منزل أحمد عبد المعطي حجازي، لما عوتب عن موقفه الموالي لدولة اليهود ومسايرته للسادات في ذلك، وكان ذلك سنة 1401 هـ/ 1981 م. انظر: تاريخ الشعر العربي =

ص: 193

هذا الباب وتوثب على الحقائق مكابرًا يقرر العبثية في صيغة أسئلة شكية مرتابة، وذلك في قصيدته الشهيرة "الناس في بلادي" حيث يصورهم -وهم من المسلمين بلا شك- لأنه يتحدث عن مصر كنانة الإسلام، يقول صلاح عبد الصبور:

(وعند باب قريتي يجلس عمي مصطفى

وهو يحب المصطفى

وهو يقضي ساعة بين الأصيل والمساء

وحوله الرجال واجمون

يحكي لهم حكاية. . . تجربة الحياة

حكاية تثير في النفوس لوعة العدم

تجعل الرجال ينشجون

ويطرقون

يحدقون في السكون

في لجة الرعب العميق والفراغ والسكون

ما غاية الإنسان من أتعابه، ما غاية الحياة؟

يا أيها الإله!!)

(1)

.

وبهذه الطريقة الشكّية يزجي صلاح ريبه في صيغة سؤال استنكاريّ يوجهه إلى اللَّه تعالى عن غاية الحياة، غير أنه في موضع آخر يتجاوز هذه الأسئلة بتقريرية واضحة قائلًا:

(تسألني رفيقتي: ما آخر الطريق؟

= الحديث: ص 665، قضايا الشعر الحديث: ص 557، 262 - 268، ورفاق سبقوا: ص 241 - 250، 270 - 272.

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 30.

ص: 194

وهل عرفتُ أوله

نحن دمًى شاخصةٌ

فوق ستار مسدلة

خطى تشابكت بلا

قصد على درب قصير ضيق. . .)

(1)

.

ثم يعقب على ذلك بأن اللَّه وحده يعلم هذه الغاية، وفي هذا شيء من بقايا النشأة الأولى التي عاشها قبل أن تلوث عقيدته فلسفات الضياع التي أملت عليه أن يقول:

قال الصديق:

يا صاحبي!

ما نحن إلّا نفضة رعناء من ريح سموم

أو منية حمقاء

والشيطان خالقنا ليجرح قدرة اللَّه العظيم)

(2)

.

أمّا الجيل الثاني من الحداثيين العرب فيمكن أن نأخذ منه نموذجين:

الأول: محمود درويش

(3)

، الذي عبر عن هذه العبثية بقوله:

(إنا خلقنا غلطة في غفلة من الزمان)

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 219.

(2)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 38.

(3)

محمود درويش شاعر فلسطيني حداثي شيوعيّ، عضو في الحزب الشيوعيّ الإسرائيلىّ راكاح، وعضو المجلس الوطني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية العلمانية، يسمونه شاعر الأرض المحتلة، له دواوين شعر مليئة بالمضامين الحداثية المنحرفة. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 626، والحداثة في ميزان الإسلام: ص 94.

(4)

ديوان محمود درويش: ص 42.

ص: 195

والثاني: النصراني توفيق صايغ

(1)

، القائل:

(لففت العباءة حولي

تعكزت إلى القفر إلى قمتي الجرداء

حيث الغبار ولا الإله

نجوٌ بقمتي الجرداء)

(2)

.

(مصيفي الفراغ

مشتاي الفزع

وعيشي قطار بينهما

صغيره

ثم ماذا؟

مع قهوة الصباح

ثم ماذا؟)

(3)

.

‌خامسًا: نسبة الخلق إلى غير اللَّه، وتسمية غير اللَّه خالقًا:

وهذا مما دأب عليه أهل الأدب العربي المعاصر، واجترأوا عليه حتى

(1)

توفيق صايغ حداثيّ فلسطينيّ، ولد لأسرة نصرانية سنة 1342 هـ/ 1923 م، درس في صغره على يد مبشرة أمريكية، ثم في مدرسة الفنون الأمريكية في صيدا، ثم التحق بالكلية العربية في القدس والتي أنشأها الإنجليز، عاش في بيت له نزعة نصرانية قوية ثم درس في الكلية الأسقفية، ثم حاز على منحة من مؤسسة روكفلر لدراسة الشعر والنقد في جامعة هارفرد، ومنحة أخرى من المجلس الثقافيّ البريطانيّ فدرس في جامعتي أكسفورد وكامبردج، ثم عمل محاضرًا في كامبردج، ثم عاد إلى بيروت ليكون ضمن عصابة مجلة شعر، ثم أنشأ مجلة حوار الممولة والموجهة من المخابرات الأمريكية، ولما انكشفت عمالته أغلق المجلة وغادر إلى أمريكا ليعمل في جامعاتها وبقي هناك إلى أن هلك في 1390 هـ/ 1971 م، له ديوان شعر سقيم العبارة هابط التركيب، سخيف المبنى والمعنى، مليء بالانحرافات الاعتقادية والتجاوزات اللغوية المقصودة. انظر: كتاب توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى، لمحمود شريح، وتاريخ الشعر العربي والحديث: ص 731.

(2)

المجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 304.

(3)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 38.

ص: 196

أصبح من شبه المسلمات لديهم، فيسمون الإنسان خالقًا وكذلك الشاعر والفنان، ويدعون أن الإبداع خلق ثانٍ للكون.

ومما لا ريب فيه أن من تجرأ على جحد وجود اللَّه ونفي خلقه للكون فإن جرأته على تسمية غير اللَّه خالقًا ونسبة الخلق لغير اللَّه أشد، وهذه من رواسب ذلك الفكر الإلحاديّ الماديّ، وبقية من رعونات التصورات الضالة التي تردى فيها أصحاب الزيغ والهوس الدنيويّ الدهريّ، تحت شعارات براقة خادعة أقاموا عليها المنهج الفكريّ والعمليّ من أمثال حرية الإنسان وإنمائه وتحقيق الذات، والتطور. . . إلخ.

وكأن هذه الأمور لا تتحقق إلّا في سياق ماديّ إلحاديّ قوامه جحد الإله -جلَّ وعلا-، ودعامته الحملة الضارية على الدين ونظمه وما ينبثق عنه من أعراف اجتماعية ومقومات خلقية.

وكما أن الإسلام يقوم على مبدأ التوحيد للَّه تعالى في ذاته وصفاته وألوهيته، فإن الفكر الحداثي يقوم على الضد من ذلك، على التعددية في الربوبية والألوهية، زاعمين أن ذلك هو أساس التقدم والإبداع والحرية، وهذا الذي يسمونه تعددًا هو عين "الشرك" بالمصطلح الشرعيّ الإسلاميّ، والذي هو اعتقاد شريك مع اللَّه تعالى في خلقه وملكه أو في ألوهيته وعبادته.

وإذا كان المشركون الأوائل يتنصلون من وصفهم بالشرك كما أخبر اللَّه تعالى عنهم: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}

(1)

، فإننا نجد أن مشركي هذا الزمان يفاخرون بذلك ويعدونه عين التفوق والتقدم، مخادعين أنفسهم وكاذبين على غيرهم مرتكسين في الوثنية صراحة وبدون مواربة أو غطاء، يعدون الوثنية اليونانية والإغريقية المثل الأعلى للحداثة؛ لما تحتويه من "تعددية" حسب تزيينهم وتلبيسهم، وبدلًا من أن يصفوا الوثنيات بالجهل والشرك والتمزق كما هو حالها حقيقة، نراهم يصفونها بالتحديث والامتياز، ويجعلونها أساس حداثتهم، وجذر عقيدتهم، كتب أحدهم تحت عنوان "مقاربة الحداثة": (لم تتجل الحداثة طوال العصور

(1)

الآية 23 من سورة الأنعام.

ص: 197

السابقة إلّا مرتين في مكانين متقاربين وزمانين متباعدين، المرة الأولى تجلت الحداثة في اليونان القديمة وأطلقنا عليها الحداثة الزراعية وكان ذلك قبل الميلاد بعدة قرون، والمرة الثانية تجلت الحداثة في القارة الأوروبية، وكان ذلك بعد الميلاد بكثير من القرون وأطلقنا عليها الحداثة الصناعية. . .)

(1)

.

ثم عاد يتحدث عن الحداثة اليونانية قائلًا: (إنهم لأول مرة في التاريخ وقفوا في وجه فوضى الأسطورة، فجعلوا لها منطقًا خاصًا من جهة، ومنحى إنسانيًا من جهة ثانية، كانوا يأتون بالإله الشرقيّ ويجردونه من مظاهر الحيوانية ويعيدون إليه المحيا البشريّ والجسد الإنسانيّ. . . وقد جعلوا العلاقات بين الآلهة كالعلاقات بين البشر تقوم على التآلف والتخالف والتفرقة والتحالف والرضا والغضب، وكما تجد العلاقات بين الناس تجدها بين الآلهة فهم يأكلون ويشربون ويعربدون ويخونون زوجاتهم. . . فإدخال المنطق في الأسطورة فعل حداثيّ كبير جعل دراسة الأساطير لا تختلف عن دراسة الناس ونفسياتهم، والصيغة التي أدت إلى فعل الحداثة هي الصيغة الوثنية القائمة على التعدد والحرية. . . هذا الوضع. . . أدى إلى قيام الصيغة الوثنية التي أسقطت القداسة عن الملوك والآلهة ففتحت بذلك باب حرية الفكر، في حين لم تستكمل الوثنية صيغتها في الشرق. . . وقد ظهرت الوحدانيات الشرقية قبل أن تستكمل الوثنية صيغتها فاعتمدت على المقدس والمدنس في الدرجة الأولى وظهرت قوائم التحريم والتحليل. . .)

(2)

.

ثم ينعطف على ذكر الفلسفة الإغريقية فيقول: (لو نظرنا في مذاهبهم الفلسفية والأدبية لتبين لنا أن الصيغة الوثنية هي صيغة تعددية ظهرت فيها كل المذاهب. . . هذا النشاط الذي قام به الإغريق سميناه الحداثة الأولى أو الحداثة الزراعية ومازلنا حتى الآن نلجأ إلى استلهامها ولم نستطع أن نتجاوز الحدود التي وصلت إليها طبعًا في الأدب والمسرح والفلسفة والشعر. . .

(1)

و

(2)

مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير 1989 م / 1409 هـ: ص 32 - 34 من مقال بعنوان "مقاربة الحداثة" لحنا عبود.

ص: 198

استمرت الحداثة الأولى في فعلها طوال بضعة قرون تقريبًا إلى أن ظهرت الوحدانية المسيحية في الشرق، وما كانت الوحدانية أن تظهر إلّا في المشرق حيث لم تستكمل الوثنية صيغتها ولم تتخذ كامل أبعادها كما لدى الإغريق، وقد تمكنت هذه الوحدانية من التسرب إلى الغرب والانتشار في الطبقات الدنيا من عبيد وجنود وخدم وحراس قصور، حتى أن الامبراطور قسطنطين وجد نفسه يقود جيشًا من الوحدانيين المسيحيين فأعلنها ديانة رسمية، وبذلك تحولت الدولة إلى مؤسسة تخدم وتستخدم الوحدانية المسيحية فتفرضها فرضًا، مما جعل القداسة والدناسة دستورًا واحدًا تحظر مخالفته، ومما جعل الصيغة الوثنية تتراجع تراجعًا شبه نهائي في أواخر القرن الخامس، وحلت محلها الصيغة الوحدانية المسيحية التي دشنت فاتحة العصر الوسيط في حوض البحر المتوسط، عصر سيادة الوحدانيات، وهو العصر الذي بات رمزًا لكل ما هو جامد ومتخلف، ولم تقدم الوحدانية أي مظهر من مظاهر الحداثة، بعد أن عملت على سيادة الإيمانية والتسليمية. . . من أهم مفردات الوحدانية التقديس والتدنيس والتحليل والتحريم وهي مفرزات إيمانية بعد أن تحول التقديس إلى عصمة وتحول التدنيس إلى إدانة، فدخل حوض البحر الأبيض المتوسط في عصر المحظورات والممنوعات المادية والمعنوية)

(1)

.

ثم يستدرك على نفسه مبينًا أن الوثنية انتشرت من جديد وأنها هي التي ورثت للدنيا العالم الحديث فيقول: (والحقيقة أن الصيغة الوثنية وجدت لها ملجأ في بيزنطة، فكمنت فيها مع ما بقي من آثارها، وقد كان لها نشاط إلى هذه الدرجة أو تلك، ولولا بيزنطة لما كان هناك ما نطلق عليه العالم الحديث فقد احتفظت بالمؤلفات والآثار الوثنية ولكن بيزنطة كانت محاوطة بالوحدانية المتشددة شرقًا وغربًا مما أجهض كل المحاولات الساعية إلى إعادة الصيغة الوثنية)

(2)

.

(1)

و

(2)

مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 32 - 34 من مقال بعنوان "مقاربة الحداثة" لحنا عبود.

ص: 199

ثم يتحدث عن وحدانية الإسلام ودور المسلمين عند فتحهم للقسطنطينية فيقول: (وظلت الحداثة مغيبة عن حوض البحر الأبيض المتوسط طوال العصور الوسطى، وعندما استطاعت الوحدانية التركية أن تدك حصون القسطنطينية وجهت ضربة أليمة إلى بيزنطة، ولكن بيزنطة المنكوبة قدمت للعالم الأوربي أعظم هدية يعرفها التاريخ وهي مؤلفات اليونان والرومان وتراثهم الوثنيّ الذي حمله علماء بيزنطة المهاجرون إلى الأقطار المجاورة وإيطاليا على وجه الخصوص هربًا من الوحدانية التركية المنتصرة.

ليس غريبًا أن تبدأ النهضة الإيطالية ثم منها الأوربية في أعقاب سقوط القسطنطينية فقد كان التراث اليونانيّ أشبه بلمسة سحرية أيقظت العقول والنفوس، وهنا يُمكن أن نسأل: لماذا لم يستطع التراث الوحدانيّ أن يفعل ما فعل التراث اليونانيّ مع أن الأول أنتج من الآثار الشيء الكثير؟)

(1)

.

ثم يجيب على هذا السؤال بقوله: (إن كل الدعوة الوحدانية المسيحية تنحصر في تحرير الجسد وتلبية مطالبه ولكن في عالم غير هذا العالم الذي ختمت عليه بالإدانة وبأنه عالم الفساد والشرور، وأن على الإنسان أن يتألم ويزهد في هذا العالم ليحيا في العالم الآخر حياة النعمة. . . فالوحدانية تتناقض كل التناقض مع الحرية، إن وحدانيتها تحول دون تحقيق وعودها فلا حرية مع الوحدانية. . . لذلك نجد النهضة الأوربية حاولت إعادة الصيغة الوثنية التعددية، فقد وجدت فيها التعبير الأكمل لحرية الإنسان فكرًا وجسدًا وهنا تبدأ الحداثة الثانية. . .، ويُمكن تلخيص مطالب الحداثة الصناعية بمطلب واحد هو تحرير الإنسان ليس فقط من الوحدانية بل أيضًا من المشاريع الكبرى التي تبين أنها مشاريع ساحقة للإنسان. . . وقد كانت الدعوة إلى الصيغة الوثنية واضحة كل الوضوح لدى رجال النهضة. . . إن الظروف الصناعية عدلت الكثير من الصيغة الوثنية للحداثة الزراعية ولكنها أبقت على نواتها الأساسية، أمّا النواة الأساسية التي أبقت عليها فهي إسقاط

(1)

مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 32 - 34 من مقال بعنوان "مقاربة الحداثة" لحنا عبود. وانظر له أبشع من هذا الكلام وأخطر في كتابه "الحداثة عبر التاريخ مدخل إلى نظرية": ص 196 - 201.

ص: 200

القداسة عن كل شيء، لم يعد هناك شيء خالد قدسيّ أبديّ لا في عالم الفكر ولا في عالم المادة. . .

وعلى هذا يُمكن القول: أن الحداثة الصناعية أو الحداثة المعاصرة هي محاولة استعادة الصيغة الوثنية للحداثة الزراعية. . . أمّا القاسم المشترك فهو إسقاط القداسة عن كل شيء فلا العروض ولا القوافي والأوزان والإيقاعات والكلمات والتصريحات، ولا العقائد والأفكار والمذاهب والآراء والعادات والتقاليد والطقوس والممارسات، ولا الأحزاب والكتل والفئات والمجموعات والأفراد، ولا الأنظمة والقوانين والدساتير، ولا المكان والزمان والشهور تحظى بأي قدسية. . .

ومن هنا كان تشديدنا وتأكيدنا أن الحداثة ليست مذهبًا أو عقيدة أو مدرسة واحدة، ولا يُمكن أن تنحصر في مذهب أو عقيدة أو مدرسة، الحداثة هي الوضع المناقض تمامًا للوحدانية، أي وحدانية أدبية كانت أو غير أدبية، عقائدية أو غير عقائدية. . .)

(1)

.

وقد نقلت هذا الكلام بطوله لأهميته في تصور الحداثة ومعرفتها على وجه الحقيقة، بعيدًا عن شبهة المعاداة لها أو التحامل عليها كما يدعي المنبهرون بالحداثة والمتعلقون برموزها، ويتضمن هذا النص عدة أمور حقيقية وعدة مغالطات، وهي:

1 -

ربط الحداثة الفكرية بالحداثة الزراعية والصناعية في العهدين القديم والحديث مغالطة واضحة، وافتئات على الحقيقة، ومراده الرفع من شأن الحداثة وجعلها أساس كل تقدم وازدهار، وهذه مجازفة ادعائية وكذب صريح فإن جهد الإنسانية في هذا المجال مشترك، والجهد البشريّ في الإنتاج الماديّ غير خاضع للعقائد والديانات

(2)

بقدر خضوعه لإرادة دنيوية

(1)

المصدر السابق نفسه.

(2)

المراد هنا أصل النشاط الإنساني والانتاجية، أما ما يصحب ذلك من بركة أو محق، وما يثمره ذلك الإنتاج من خير أو ضر، وسعادة أو شقاوة؛ فهو رهن الإيمان كما قال اللَّه تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .

ص: 201

كما قال اللَّه تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}

(1)

، وقال -جلَّ وعلا-:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}

(2)

.

2 -

المزج بين الحداثة الإنتاجية والحداثة الفكرية مغالطة أخرى طالما كررها أتباع الحداثة وجعلوا ذلك ذريعة للوصول إلى مآربهم غشًا وتدليسًا، فإنه قد يوجد الإنتاج من مؤمن وكافر، وليس من شرطه لا عقلًا ولا واقعًا أنه لايصدر إلّا من كافر ملحد (بل قامت حضارة القرن العشرين في العلوم التطبيقية وفي العلوم البحتة على أكتاف متدينين -غير ملحدين- من المسيحيين واليهود)

(3)

.

3 -

جعله تعدد الآلهة والأرباب كما كانت عليه الوثنية اليونانية سببًا في التقدم والتحرر، وهذه مغالطة، فإن الإنسان مفطور على التعبد لشيء والخضوع لإله مّا، وهؤلاء الوثنيون الذين يشيد بتعدد آلهتهم ليسوا في الحقيقة إلّا قطيعًا من الأنعام أو الأناسيّ المرضى في عقولهم، فإنهم عوضًا عن التعبد لإله واحد أحد فرد صمد، تشعبت عبودياتهم وانفصمت عقولهم ونفسياتهم، وتناقضت حياتهم كما هو معروف من سيرهم وفلسفاتهم؛ وذلك لتناقض الأرباب التي اتخذوها من دون اللَّه {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}

(4)

.

4 -

قوله بأن اليونان جعلوا العلاقات مع أربابهم وآلهتهم مثل العلاقة بين البشر، هذه حقيقة، ولكنه أراد أن يخلص منها إلى الاقتداء بجهالات أهل الجاهلية ووثنيات أهل الخرافة فنعامل الإله الحق العظيم سبحانه وتعالى معاملة الملاحدة لأوثانهم التي ابتكروها من عند أنفسهم، وشتان بين من يتعجد لرب مالك متصرف إله عظيم تشهد بوجوده ووحدانيته وألوهيته كل الحقائق العقلية والحسية

(1)

الآية 18 من سورة الإسراء.

(2)

الآية 20 من سورة الشورى.

(3)

لن تلحد، لأبي عبد الرحمن بن عقيل: ص 212، وكان الأولى أن يقول: نصارى كما سماهم القرآن بدلًا من نسبتهم إلى المسيح عليه الصلاة والسلام.

(4)

الآية 29 من سورة الزمر.

ص: 202

والتجريبية، ومن يتعبد لإله اخترعه من عقله الكاسد وذهنه الفاسد.

5 -

قوله بأن المنطق دخل الأسطورة وحولها إلى فعل حداثيّ، هذه حقيقة من حيث وصف محاولة اليونان إضفاء المنطق والعقل على وثنياتهم وجاهلياتهم لتسويغها وتبريرها، أمّا كون المنطق العقلي السليم يتفق مع الأساطير والأرباب، فهذا باطل وكذب فكري صريح.

6 -

قوله بأن الصيغة الوثنية أسقطت القداسة عن الملوك والآلهة ففتحت بذلك باب حرية الفكر عكس الحقيقة، فقد كان اليونان يقدسون أربابهم المتخذة من دون اللَّه ويؤلهونها ويخضعون لسلطانها وكانوا أرقاء لهذه الآلهة.

7 -

يحتوي كلامه تمجيدًا وإطراءً للوثنيات المختلفة، وذمًا وتدنيسًا للتوحيد، وهذا من مقتضيات فكره الوثني الإلحاديّ، ومن لوازم الكفر الماديّ الحداثيّ الذي يريد نصرته وإيجاد الأرضية القبلية له.

8 -

قوله بظهور الوحدانيات في الشرق إثر الوثنيات التي كانت موجودة في اليونان قول مخالف للحقيقة؛ فإن الإنسان الأول آدم عليه الصلاة والسلام وذريته كانوا مؤمنين موحدين ثم طرأ الكفر على أجيال لاحقة، ثم تتالت الأنبياء بدعوات التوحيد، وكلما انحرفت البشرية وتمادت في الغواية بعث اللَّه لها رسولًا يعيدها إلى توحيد اللَّه، فالوثنية طارئة والتوحيد هو الأصل في البشرية.

9 -

قوله بتأثير التعددية الوثنية "الشرك" في الفلسفات اليونانية حق.

10 -

قوله بأن الحداثة الثانية ويقصد المعاصرة ما زالت تستلهم التعددية الوثنية اليونانية حق، وهذا هو محور الاهتمام والصراع والمعارك المتجددة بين الإسلام والحداثة، وهذا القول شهادة كبرى من أحد رواد الحداثة على أن الحداثة المعاصرة في عقيدتها وفكرها جاهلية وثنية ذات امتداد وثني وجذور إلحادية وأعماق كفرية منحرفة.

11 -

الزعم بأن كل وثنيّ هو تعدديّ تحرريّ منفتح، وكل وحدانية فهي ركود وجمود وتخلف، مغالطة وتوثب واجتراء على معاكسة الحقائق، وتعميم يحتوي من البطلان على قدر عموميته؛ لأن في حقائق التاريخ

ص: 203

ومعايير الأخلاق وبراهين العقول ما يثقل كاهل هذا المغالط إذا كان يريد أن يتكلم ببرهان وليس بالدعاوى العريضة، ومن يطلع على تاريخ البشرية وتاريخ الأديان يجد أن الإنسان كلما قرب من الدين الحق كانت معاني الرقي العقليّ والخلقيّ فيه أكبر وأظهر، وكلما ارتكس في الوثنية والإلحاد كلما انعدمت فيه المعاني الراقية وأخلد إلى الأرض يتبع هواه ويسير على عمى وضلال، وليس دليلًا أظهر على هذا من حال الغربيين اليوم، فهم على ما وصلوا إليه من تقدم ماديّ محسوس، إلّا أنهم انحدروا في أخلاقهم وعقائدهم ونظم حياتهم إلى أهبط المستويات باعترافهم هم

(1)

.

12 -

تسمية الإسلام بالوحدانية التركية مغالطة دليل مفضوحة فإنه يستحيل -بيقين- أن تند عن ذهن هذا الكاتب الذي يتظاهر بالعلم والمعرفة والفلسفة أن يعلم أن الأتراك الذين فتحوا القسطنطينية كانوا مسلمين موحدين معتزين بذلك منتمين إليه فوق كل انتماء، وجهادهم لفتح القسطنطينية كان بالإسلام وللإسلام وليس للعرق التركي أو غيره.

13 -

وصفه الحياة الغربية المعاصرة أو ما أسماه بالنهضة الأوروبية، بالوثنية والارتباط بالوثنية اليونانية، وأن الدعوة إلى الصيغة الوثنية واضحة كل الوضوح لدى رجال النهضة، هذا صحيح في مجمله وينقصه أن التصور الوثنيّ اليونانيّ ضارعه عند الغربيين التصور النصرانيّ والمشروع اليهوديّ.

14 -

قوله بأن النواة الأساسية للحداثة المعاصرة إسقاط القداسة عن كل شيء، هذا صحيح وواقع.

(1)

انظر على سبيل المثال: رواية ضياع في سوهو لكولن ولسن، وله أيضًا سقوط الحضارة: ص 6، وص 9، وص 10، وص 14، وص 25، وص 27، وص 29، وص 35، وص 42، وص 61، وص 64، وص 67، وص 152، وغيرها كثير. وانظر له أيضًا: كتابه "رحلة نحو البداية" مليء بالشواهد في هذا الموضوع، وانظر: رواية "أنا" وهو للبرتو مورافيا، و"العجوز والبحر" لأرنست همنغواي، و"جولة في عالم التيه والضياع" لنجيب عبد اللَّه الرفاعي. وسيأتي في الفصل المختص بالأخلاق شواهد من هذه الكتب وغيرها.

ص: 204

وخلاصه القول في كل ما سبق: إن قضية نسبة الخلق إلى غير اللَّه وتسمية غير اللَّه خالقًا ما هو إلّا اقتباس من الوثنيات اليونانية الإغريقية، التي قامت على تعدد الأرباب، وهؤلاء الذين يزعمون الانعتاق من التقليدية والنمطية والماضوية "حسب تعبيراتهم" نجدهم بكل صراحة يرتمون في تقليد الهوس الوثنيّ والخبال الأسطوريّ، ثم يزعمون بعد ذلك أنهم قد قطعوا شوطًا في التقدم والارتقاء، وذلك بـ (إحلال التنوع والتمايز مكان الواحدية وإحلال المتغيرات مكان الثوابت وفك الاشتباك بين الطبقات والمؤسسات والعقائد)

(1)

.

فلا غرابة حينئذٍ أن تجد هؤلاء التلاميذ البررة للفكر الغربىّ يرددون مقولات أساتذتهم وينقلونها نقلًا مترجمًا إلى لغة العرب.

ومن هذا المنطلق تجدهم يحاربون الوحدانية ويشيدون بالوثنية ويعتبرون اعتقاد التوحيد والوحدانية في خلق العالم وفي نظام الحياة سببًا للتردي والضعف والخمول والرجعية، ويعدون التعدد الإلهيّ الوثنيّ سببًا للتقدم والازدهار

(2)

.

وعلى هذه القاعدة الإلحادية الجوفاء سار الحداثيون في التنظير والممارسة، وسوف أسرد فيما يلي بعض الشواهد على هذه القضية:

ولتكن البداية مع كاهن الحداثة "أدونيس" القائل في وصف ثورة أهل الهدم الحداثيّ:

(بلى في بلادي خالقون

وساع كآفاقها الواسعة

نقيون كالشمس في عريها

فتيون كالأنجم الطالعة. . .

(1)

مجلة الناقد، عدد 9، مارس 1989 م/ الموافق 5/ 8/ 1405 هـ: ص 17.

(2)

انظر في هذا: حداثة السؤال، لمحمد بنيس: ص 44، 64.

ص: 205

بلى في بلادي أنا خالقون

بنبض شرايينها عمروها

محو عثمة اليأس واليائسين بأجفانهم

بفرحتهم لامتلاك الوجود بأحزانهم

هنا دفقوا دمهم في الزمان

هنا اختصروا عمرهم في ثواني

هنا ملأوا كل شيء يقينا)

(1)

.

هذه الكلمات من ضمن مقطع أطلق عليه اسم "الفراغ" يتحدث فيه عن أرض المسلمين أرض العرب بتهكم وازدراء ويصفها بالتخلف والرجعية ويرمز لذلك (بالشبح والسراب والرمل واليبس والدكنة والمحل والملل والمقابر والأنين والمجازر والحقد والصقيع)

(2)

، ثم يتحدث عن ماضي المسلمين دينًا وتاريخًا فيرسل سيل شتائمه المكرورة (فالدين أساطير مغلقة، وأجفان مخيطة بالغبار، وأص المسلمين فراغ وانطفاء وضياع، أحرق البلدان وبذر بذور الموت وخرب الأعمار)

(3)

، فانحطت البلاد في فراغ وتلويث ويأس، ثم يسأل أسئلة المستنكر:

(لمن جيلنا يحرق البخور لمن يسجد

وأي إله ترى يعبد؟

لمن ينتمي ويشد يديه اعتدادا

ويحيا له صحة وجهادا)

(4)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 134 - 135.

(2)

انظر: المصدر السابق 1/ 129.

(3)

انظر: المصدر السابق 1/ 130.

(4)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 132.

ص: 206

وهي لهجة استنكار على أن الجيل المعاصر ما زال رغم المحاولات المارقة لأدونيس وأضرابه يسجد ويعبد اللَّه تعالى.

ثم ينادي بثورة حداثية عارمة ضد هذا:

(فراغ فراغ ألا ثورة

تشيد لنا بيتنا

وتجري معاصرها زيتنا

وتملأ بالحاصدين الحقولا

وتملأ بالخلق بالثورة العقولا

ألا ثورة في الصميم تنشئنا من جديد

وتمحق فينا هوان العبيد؟)

(1)

.

ثم يتحدث عن هذه الثورة وأعمالها وأوصافها وأوصاف القائمين بها، والمقصود بها الثورة الحداثية القائمة على الإلحاد والانحراف، ووصف الثورة بالخلق ووصف أتباعها بالخالقين وامتلاك الوجود، وقدرتهم على أن يملأوا كل شيء يقينا!!.

وكيف يرجى من النار بارد الماء؟، وكيف يطلب من حفرة الحش ماء طهورًا؟، وكيف يرجى من ثوار الحداثة المرتابين المنحرفين أن يملأوا كل شيء يقينا؟.

وهذه الكلمات التي غصت بالمديح والخطابية والثناء المفرد للحداثة، والهجاء المقذع لما سواها والتوقعات الكثيرة والآمال الكبيرة للحداثة وأهلها، وهي قضايا طالما انتقدها الحداثيون في الشعر القديم، غير أنهم إذا لزم الأمر تجردوا من مبادئهم وارتدوا ثياب غيرهم التي ما انفكوا ينتقدونها في كل مناسبة، ثم يختم أدونيس هذا المقطع بدعوى انتفاشية صارخة فيقول:

(1)

المصدر السابق 1/ 333.

ص: 207

(بلى في بلادي لكل الزمان لكل المصير اكتناه

وإن شوهوه

وفيها لخلق لصيرورة الحياة إله

وإن أنكروه. . .)

(1)

.

هنا مربط الحداثة الفكريّ: تأليهها ووصفها بالقدرة الخارقة على الخلق ليس للحياة فحسب بل ولخلق صيرورة الحياة ومستقبلها؛ وذلك لكونها "إله" وإن أنكره المنكرون، إنها ديانة وثنية يتعبد لها هؤلاء، وإله الحداثة الخالق -بزعمهم- للحياة وصيرورتها إله موجود لا يضره إنكار المنكرين له.

وفي الحقيقة أن أدونيس لم يتجاوز الحقيقة في وصفه "للملة الحداثية" ولم يخطئ حين بين أنهم عبيد لهذا الإله المزعوم "إله الثورة الحداثية"، ولا عجب من إقراره بهذا الواقع بل العجب من إنكار بعض الناس هذه الحقيقة واستماتتهم في الدفاع عن هذه "الملة"!!.

وفي مقطع آخر بعنوان "الثائر" يكرر أدونيس نفس المعاني، ممتدحًا ومبجلًا وغارقًا في ألفاظ الفخر والمديح أشد ما يكون الغرق وهو الذي طالما انتقد أغراض الشعر القديم، يقول أدونيس:

(زندك المتعب يجري نهرًا يرفع بيتًا

وهو في قنديلنا الشاحب يسّاقط زيتًا

هاهنا يسبح غيمة

وتعاريش وخيمة

أنت صليت عليها وانحنيت:

زند يا متعب يا خالق من أين أتيت؟)

(2)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 136.

(2)

المصدر نفسه 1/ 147 - 148.

ص: 208

فهو لم يكتف أن أضحى "الثائر الحداثي" عنده رمزًا للحياة والمجد والبقاء والضياء، بل تجاوز قدر كل هذه المدائح الفارغة ليصبح خالقًا ويناديه في عبودية خاضعة وابتهاج طفوليّ بقوله:(يا خالق) وهو الذي سبق له أن صلى وانحنى للغيمة والخيمة، هذه الطقوس الحداثية الجديدة مجال التقديس والإجلال العباديّ.

كل هذا يؤكد أن هذا الاتجاه الذي يحاول أدونيس غرسه في دروب المسلمين ليس إلّا نحلة وثنية جديدة تتستر بالتحديث والتجديد ودعاوى التقدم والحضارة، إلّا أن ألفاظ ومصطلحات التعبد والتأله ولوازم التدين الوثني تأبى إلّا أن تبرز حقيقة هؤلاء.

ومن هذه اللوازم أنه يتصور نفسه وهو يبشر بدينه الحداثيّ يعيش في غربة وحصار وتفرد، متشبهًا في ذلك بأصحاب العقائد والأديان الذين يعيشون المشاعر نفسها ويصورون معاناة الغربة ويأخذون منها زادًا معنويًا لاستمرارهم.

أدونيس يتمثل هذه المعاناة وهو يقوم بدور الداعية الإلحاديّ الوثنيّ فيقول تحت عنوان "نشيد الغربة" مخاطبًا "فينيق

(1)

":

(غربتك التي تميتُ غربتي

غربتك التي تحب تنتشي

غربتك التي تموت هلعًا لغيرها

غربتك التي تموت ولعًا بغيرها

(1)

فينيق طائر أسطوريّ موطنه بعلبك، تقول الأكذوبة بأنه يحترق كلما أدركه الهرم، لينبعث فتيًا من رماده، ومن هنا أخذ الحداثيون هذه الأسطورة وطاروا بها اعتزازًا وانتماءً، والفينقيون قوم يتكلمون السامية سكنوا الشاطئ الشرقيّ من البحر المتوسط، واستقروا في فينيقيا وكانت أكبر مدنهم صور وصيدًا، وكانت لهم ثقافة وفلسفة ونظام دولة، ويعود الأوروبيون اليوم بجذورهم الفكرية والفلسفية إلى هؤلاء. انظر: الموسوعة العربية 2/ 1356، والديانات والعقائد 1/ 226، والحداثة الأولى: ص 148 - 152.

ص: 209

غربتك الوحيد فيها غربتي

غربة كل خالق يحترق

يولد فيها الأفق)

(1)

.

يصف الغربة التي يعيشها "فينيق" والتي يعيشها السائر على دربه "أدونيس" بأنواع من الأوصاف ذات الأبعاد الدينية، ثم يضفي على فينيق وعلى نفسه صفة الخلق ويشبهه ويشبه نفسه بالخالق ولكن في صورة تدنيسية "غربة كل خالق يحترق" وفي مضمون وثني بحت يقوم على التصورات الإغريقية الوثنية البدائية.

وإذا كنت أقول بأن أدونيس يمارس ديانة إلحادية يبذل جهده من أجل نشرها وتوزيع أفكارها على الناس، وعلى المسلمين خاصة، فإن هذا القول ليس مجرد دعوى أو رمي بالظنون، بل هو ما تثبته كتابات أدونيس النثرية والشعرية، وقد سبق في هذا البحث ذكر مقاطع عديدة تدل بوضوح على هذا الذي قلناه، وسوف يأتي -إن شاء اللَّه- من الدلائل ما يؤكد هذا المعنى.

بيد أنه من المناسب أن أذكر هنا كلمات لأدونيس فيها تلخيص لعقيدته وموجز لملته التي يدعو إليها ويدور فكره وشعره ونثره حولها، قال:

(أسير في الدرب التي توصلُ اللَّه.

إلى الستائر المسدلة

لعلني أقدر أن أبدله)

(2)

.

وإذا سأل سائل عن هذا البديل الذي يريده "أدونيس" فإنه يجد الجواب واضحًا في الخليط الاعتقاديّ الذي يرتكز على الكفر باللَّه ورسله ودينه وشرعه.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 157 - 158.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 105.

ص: 210

فلا تناقض عنده أن يكون إغريقيًا نصرانيًا باطنيًا شيوعيًا سورياليًا ليبراليًا ما دامت كل هذه المذاهب في صف آخر غير صف الحق والدين القويم، ولا ضير عنده أن يجحد وجود اللَّه وربويته، لينتسب إلى جاهلية الحداثة التي يؤله من خلالها غير اللَّه تعالى وينسب إلى غيره الخلق والتصرف، وينطرح عبدًا يؤدي طقوس العبادة لآلهة وأرباب غير اللَّه تعالى.

نقرأ له وهو يمارس الترتيل التعبديّ لفينيق ويصفه بالخلق، وسواء أراد بهذا فينيق الوثن الإغريقيّ، أو أراد به المرموز عنه:"الثائر، الرافض، الحداثيّ، العلمانيّ" فإن الأمر لا يختلف كثيرًا من حيث أن كلا المرادين انحراف وضلال.

يقول في مقطوعة بعنوان "ترتيلة البعث":

(فينيق فينيق

يا طائر الحنين والحريق

يا ريشة

ساحبة وراءها الظلام والبريق

مسافر خطاك عمر زهرة

لفتتك انخطافة وناظراك منجم

مسافر زمانك الغد الذي خلقته

زمانك الغد الحضور السرمديّ في الغد

لموعد:

به تصير خالقًا، به تصير طينة

تتحد السماء فيك والثرى. . .)

(1)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 165.

ص: 211

وينتقل أدونيس من وصف فينيق أو مثاله المعاصر بالخلق إلى وصف زوجته بذلك فيقول:

(أسأل ماذا أُنشد

لزوجتي، لهذه الوالهة الخالقة الحب على مثالها)

(1)

.

أمّا إذا تحول إلى مهيار فإنه ينغمس في مديح وتمجيد غير معهودين حتى عند شعراء البلاط المستجدين بشعرهم، بل إنه يستغرق في ثناء عبوديّ صوفيّ وتهالك منقطع النظير، ففي مقطع بعنوان "البربريّ القديس" يقول:

(ذاك مهيار قديسك البربريّ

يا بلاد الرؤى والحنين

حامل جبهتي لابس شفتي

ضد هذا الزمان الصغير على التائهين

ذاك مهيار قديسك البربريّ

تحت أظفاره دم وإله

إنه الخالق الشقيّ. . .)

(2)

.

ومهيار هو القناع الحداثيّ لأدونيس الباطنيّ وأفكاره وعقائده الوثنية، فهو المراد بالقول السابق وهو المراد بقوله: (أحمل هاويتي وأمشي أطمس الدروب التي تتناهى، أفتح الدروب الطويلة كالهواء والتراب - خالقًا من خطواتي أعداءً لي، أعداءً في مستواي، وسادتي الهاوية والخرائب شفيعتي. . .

ولا شريان عندي لهذا العصر - إنني مبعثر ولا شيء

يجمعني.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 202.

(2)

المصدر نفسه 1/ 274.

ص: 212

أخلق شهوة كلمات التنين. . . .

إنني نبي وشكاك. . .

إنني حجة ضد العصر. . .)

(1)

.

ويقول ممتدحًا نفسه ومفتخرًا بمبادئه:

(أفتح بابًا على الأرض أشغل نار الحضور

في الغيوم التي تتعاكس أو تتوالى

في المحيط وأمواجه العاشقة

في الجبال وغاباتها، في الصخور

خالقًا لليالي الحبالى

وطنًا من رماد الجذور

من حقول الأغاني من الرعد والصاعقة

حارقًا مومياء العصور)

(2)

.

إنه لون جديد وتعبير معاصر يماثل التعبير الجاهلي القديم القائل: "لنا العُزى ولا عُرى لكم"

(3)

، افتخار بالباطل والإثم والضلال، حين يرمز لها "بالباب والنار والحضور والغيوم والليالي الحبالى والحقول" ومضادة للخير والحق والفضيلة حين يرمز لها "بالرماد ومومياء العصور".

(1)

المصدر نفسه 1/ 277 - 278.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 296.

(3)

من أقوال أبي سفيان بن حرب لما كان قائدًا للمشركين في أحد، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبه المسلمون فقال:"قولوا: اللَّه مولانا ولا مولى لكم". أخرجه البخاري 7/ 269، 272 في كتاب المغازي، باب: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وباب: غزوة أحد، وفي كتاب الجهاد، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وأخرجه أحمد في المسند 4/ 293 من حديث البراء رضي الله عنه 1/ 287 و 463 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 213

وينتقل أدونيس إلى حقل التفلسف التمرديّ، فيخاطب الأرض على أنها خلقت في سبعة أيام ثم أنها قامت بخلق غيرها من الموج والأفق، وقد يُظن لأول وهلة أن أدونيس لا يجحد أن اللَّه هو الخالق للأرض، فعلى ما في قوله من كذب في زعمه أن خلق الأرض تم في سبعة أيام أضاف بأن هذا القول كله لغز وأحجية وليس من الحقيقة في شيء، كل هذا في قوله تحت عنوان "الأيام السبعة":

(أيها الأمة التي تسخر

من حبي ومقتي

أنت في سبعة أيام خُلقت

فخلقت الموج والأفق

وريش الأغنية

وأنا أيامي السبعة جرح وغراب

فلماذا الأحجية

وأنا مثلك ريح وتراب)

(1)

.

ونتيجة ذلك أنه يخلق مثلما الأرض خلقت غيرها -حسب قوله- وقد صرح بهذا في مقطع واضح الدلالة بعتوان "أخلق أرضًا" حيث يقول:

(أخلق أرضًا تثور معي وتخون

أخلق أرضًا تحسستها بعروقي

ورسمت سماواتها برعدي

وزينتها ببروقي

حدها صاعق وموج

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 297.

ص: 214

وراياتها الجفون)

(1)

.

فكما هو الواضح في هذا القول الرديء أنه ينسب إلى غير اللَّه الخلق وينعت نفسه بالخلق، ولا يغيب عن البال أنه لا يريد الخلق الإنشائي للأرض فذلك مما يعجز عنه أهل الأرض جميعًا ولكنه يقصد بخلق الأرض إنشاء أرض جديدة وأناس جديدون يثورون على ماضيهم ويهدمون تراثهم ويحرقون تاريخهم وينقلبون على كل معاني الحق والهدى والرشاد، لينتج بهم وبأفكارهم أرضًا جديدة تقوم على الإلحاد باللَّه والشرك به والجحد بالنبوة والمعاد.

وأيًّا كان الأمر في ظاهر اللفظ أو مقصده فإن الذي يهمنا في هذا الصدد أن أدونيس استخدم عبارة الخلق استخدامًا منحرفًا كان له أثره البالغ على أتباع الحدائة حتى استهانوا بصفة "الخلق" واسم "الخالق" ودنسوها باستعمالاتهم الباطلة.

وفي موطن آخر يتطاول الباطنيّ على مقام الربوبية فيقول: (أخلق للريح صدرًا وخاصرة وأسند قامتي عليها، أخلق وجهًا للرفض وأقارن بينه وبين وجهي. . .، كالهواء أنا لا شرائع لي -أخلق مناخًا تتقاطع فيه الجحيم والجنة أخترع شياطين أخرى وأدخل معها في سباق وفي رهان. . . أطلق سراح الأرض وأسجن السماء. . .)

(2)

.

هذا الهراء الذي كتبه أدونيس نثرًا وبقي هكذا عنده وعند أتباعه ثم طرأ له بعد عام 1384 هـ - 1965 م أن يعتبره شعرًا

(3)

، فصار شعرًا عنده وعند المقلدين له!!.

وهذا نفسه حصل في موضع آخر من "الأعمال الشعرية الكاملة" في مقطع بعنوان "تحولات العاشق" حيث اعتبرها مزيجًا من الشعر والنثر مع غلبة

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 343.

(2)

المصدر نفسه 1/ 405.

(3)

انظر: المصدر نفسه 1/ 6.

ص: 215

النثر

(1)

، وهذا المقطع عبارة عن أوصاف جنسية، وتفاصيل للعملية الجنسية، ورموز جنسية عن عورات الرجال والنساء، وأوصاف لجسد المرأة واعتبارها مجرد متعة وموضع لتفريغ الطاقة الجنسية، وهذه هي حقيقة الدعوة التحررية التي ينادي بها العلمانيون والحداثيون، وفي هذا المقطع الجنسيّ يقول:

(يا امرأة

كما خلقتك اشتهيني

كما شئتك انسكبت فيّ

تدخلين في إيقاعي

تدهنين ثدييك بكلماتي وتغرقين في قرارة الحب)

(2)

.

ولا يحتاج أدونيس إلى تبرير أو تفسير أقواله هذه وأشباهها؛ لأنه تجاوز حد النقد بما وضعه من قواعد وأصول تقوم على اعتبار أن الإبداع فوق المناقشة والمحاكمة.

ولذلك نجده في أحد المقاطع يعود إلى جذوره الاعتقادية الوثنية، إلى "بابل" الوثنية مريدًا إحياءها وإنعاشها وبث روح الحياة في عظامها النخرة، وما من شيء يدعوه لذلك وهو الذي يتبرأ من العقائد كل العقائد كما يزعم ويتخلص من كل الثوابت كما يدعي.

والتفسير الوحيد لهذا أنه لما تصدى لمشروع كبير اسمه الحداثة وجد أن في طريقه عوائق تعترض قدرته على ترسيخ هذا المشروع ونشره، وأضخم وأثبت هذه العوائق هو الإسلام العظيم، فلجأ إلى نقائضه الوثنية القديمة والحديثة لعله يستطيع أن يتقوى بها، ولكنه كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ

(1)

انظر: المصدر نفسه 1/ 7.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 525.

ص: 216

أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}

(1)

.

والمقطع الذي أشرت إليه هو قوله:

(لا أعطي لغتي إلا للجذر، وعادة صوتي

أن يتبطن شمس الرغبة - بابل، عادة صوتي

أن يخلق بابل كي يتغير هذا الزمن

أن يخلق بابل كي يتبرأ هذا الوطن

أخلق بابل في الأجناس وفي الأنواع وأخلق بابل في

الصلوات وفي الشهوات وأخلق بابل في الأرحام

وفي الأكفان، وأخلق بابل بين الخالق والمخلوق

وأخلق بابل في الأصوات وفي الأسماء وفي الأشياء

وأظل اللهب الضارب في الأشياء

خارج هذا الورق الرملي أدشن أنحائي. . .)

(2)

.

ويعتز أدونيس بموقعه ومشاريعه الإلحادية، ويفتخر بأتباعه الذين ينظرون إليه باعتباره "خالقًا" فيقول:

(أجمل ما تكون أن تخلخل المدى. . .

والآخرون - بعضهم يرى إليك زبدًا

وبعضهم يرى إليك خالقًا. . .)

(3)

.

(1)

الآيات 41 - 43 من سورة العنكبوت.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 359.

(3)

المصدر نفسه 2/ 456.

ص: 217

لا غرو أن يكون أدونيس بهذا الشعور المتعالي وهو يرى أن التابعين له ينظرون إليه بهذه النظرة التقديسية الهائلة التي ما كان يحلم بها

(1)

.

ولما استخف أتباعه فأطاعوه اعتلى به غروره وكبرياؤه فأعلن على رؤوسهم:

(أنا العالم مكتوبًا

وأهدابي تهيمن على الأرض

هكذا

أخرج قصائدي من طين خطواتي

أرجم الزمن بأحوالي

وأصرخ: أنا المعنى)

(2)

.

ويخضع الأتباع في إذعان ومحاكاة صنمية عمياء على نحو ما قررته خالدة سعيد في مقالة لها عن أدونيس تتحدث فيها عن الشعراء الشباب قائلة: (. . . إنهم يكملون ما بدأه أدونيس، إنهم الباحثون عن الذات المستقبلية)، وتقسم الشعراء إلى فئتين:(فئة الذين يسقطون في لغة أدونيس ويصرّفون عبرها شوقهم الخاص، يضيعون صوتهم الخاص، وفئة الذين يحاورون أدونيس)

(3)

.

ويصف أحد نقاد الحداثة هذه السوق الحداثية الأدونيسية بأنها (ساحة محكومة كسوها بقوانين عرض وطلب، وسوق تعامل ورساميل رمزية أو غير

(1)

انظر على سبيل المثال كتاب "مسار التحولات قراءة في شعر أدونيس" لأسيمة درويش: ص 15 - 20، وبقية الكتاب في تبجيل أدونيس وإعلاء شأنه بصورة مباشرة أحيانًا وغير مباشرة في أحيان كثيرة؛ وذلك بتغليف إعجابها بأدونيس بغلاف النقد والدراسة لشعره.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 249.

(3)

مجلة الناقد، العدد الأول، يوليو 1988 م: ص 63.

ص: 218

رمزية وأصول تبادل ومجاملة وبروتوكولات تضامن وممالأة معروفة كلها للجميع)

(1)

، وهو يعني بهذه السوق الشبكة الدولية الحداثية المبتدئة من باريس ولندن وغيرها من مدن الإنتاج والمنتهية بالسوق العربية حيث الاستهلاك الأعمى، والاعتناق البدائي لأفكار وعقائد فلاسفة وأدباء مدن الإنتاج.

ويضيف هذا الكاتب أن أدونيس يعيش افتضاحًا فراغيًا خلال لغة صاخبة تفضي إلى أن (. . . يتساءل كثيرون عما يُمكن أن يفعلوا بهذه الآلة اللغوية البالغة الصخب التي تشكل كل شعر أدونيس أو تكاد.

وليس من المبالغة في شيء القول إن الكثيرين يجدون أنفسهم مجبرين على الإجابة بـ لا شيء أو لا شيء تقريبًا، إن هذا الشعر يبهر بعض القوم؛ لأنهم بالأساس باحثون عما يبهر، والحق أن أدونيس يبهر هؤلاء ويسدي لهم خدمة كبيرة، هي في الأوان ذاته أكبر إساءة وأكبر تمييع للشعر، إذ يمكنهم من توهم قول الشعر بأيسر التكاليف، وادعاء النبوة بأسهل السبل، والتشبه بالحداثة بفضل أبسط الألعاب اللغوية، لكل إن ينتطح للشعر بمجرد أن يتلاعب بخرز الكلام، ولكل مهما كان من فقر تجربته في الوجود ومغامرته في اللغة أن يعد نفسه رائيًا. . .)

(2)

.

ثم يفسر هذا الناقد الحداثيّ بعض أسرار هذا الإعجاب والانبهار بأدونيس وأولها أنه صاغ من نفسه بطلًا وصور ذاته معلمًا من معالم التقدم والازدهار، فقال: (هو أولًا شعر مكرس منذ بداياته منذ "قصائد أولى"

(3)

و"أوراق في الريح"

(4)

و"مهيار"

(5)

بخاصة لانتظار البطل، بطل رومانسيّ، مخلص مأمول، تمنح له جميع الصفحات. . .

وهو ثانيًا شعر قائم على السرانية (من السر) سرانية تظل مع ذلك لفظية يصرح بها دون أن يمثل عليها. . . سرانية أو إخفاية تبلغ في بعض

(1)

أدونيس متحلًا، لكاظم جهاد: ص 12.

(2)

المصدر السابق: ص 13.

(3)

و

(4)

و

(5)

أسماء لمقاطع يسميها أدونيس شعرًا.

ص: 219

القصائد حدود الكاركاتورية "أشرد في مغاور الكبريت" أعانق الأسرار، في غيمة البخور في أظافر العفريت"

(1)

. . . .

وهو ثالثًا شعر الأنا المفحمة المنتفخة المتمركزة. . . هذه الأنا المضخمة التي ستكشف شيئًا فشيئًا عن فراغيتها تسود عمل أدونيس كله، تبدأ في مهيار بعمومية كونية. . . إلى هذيان مضجر حول الاسم الشخصي "كيف أسكن أسمائي. . . مشكل هذه الأنا الفراغية التي لا تجد خلاصًا. . . إلّا في مطالعة ذاتها في مرآة مفخمة مرآة الكون ومرآة الاسم. . . ولما كانت جميع الشواهد الشعرية تأتي لتثبت لنا أنه امتلاء كاذب وانتفاخ رنان فإن هذا ينتهي إلى شعر مُسقم لا عمق فيه ولا حداثة)

(2)

.

هذه شهادات من داخل البيت الحداثيّ تؤكد أن ما ذكرناه في هذا الصدد حق، والحق ما شهدت به الأعداء.

ولا يفتأ أدونيس يكرر تفخيمه لنفسه كلما حانت له فرصة، ففي مقطع جنسيّ شهوانيّ طويل بعنوان "جسد" يتطاول في صلف وغرور قائلًا:

(. . . أتدحرج بين أنا الجمر وأنا الثلج

وبين

الياء

والألف

اتدلى

أخلق في اليوم يومًا آخر

(1)

كلمات لأدونيس يستشهد بها كاظم جهاد على ما سماه "السرانية الإخفائية" وهي في الحقيقة نزعة باطضية أثرت في أعماله تأثيرًا كليًا بحكم نشأته النصيرية، وسوف يأتي تفصيل ذلك.

(2)

أدونيس منتحلًا: ص 13 - 14.

ص: 220

وأربط بحبل الدقائق أهوائي. . .)

(1)

.

وإنه لمن عجائب الأمور أن تجد الحداثيين يتمردون على اللَّه تعالى وشرعه ودينه، وعلى القيم والأخلاق والنظم والعقل، ثم ينخرطون في تبعية هذا المتعالي بنفسه، المنتفش بالجهل والكذب والانحراف والضلال، فإذا وصف نفسه بأنه رب أو إله أو ضوء أو نهار أو نهر فلا تجد من الأتباع إلّا الموافقة والتصفيق والإعجاب!!!.

ها هو يكتب عن نفسه أو عن فكرته ويرمز لها بالضوء، وينعته بالخلق فيقول:

(أيها الضوء

خلقت إلهًا ويرفضك الظلام

ألهذا كنت العين الوحيدة التي خلقت من أجل

أن تسكنها الظلمات

ألهذا كنت الخالق يلبس شكل الخليقة. . .)

(2)

.

ومع ذلك لا تجد من أتباع أدونيس -وأكثر الحداثيين أتباع له- إلّا التصديق والانقياد والقبول؛ لأنه صور لهم أنهم سيكونون بمجرد اتباعهم له ومحاكاتهم لفكره وشعره في منزلة أعلى من البشر وأرفع من الإنسان، إنها منزلة "الربوبية" التي طالما خادعهم بأنهم سيرتقون إليها في مثل قوله:(الإنسان كائن خلاق -يشارك في الخلق الإلهي، وليس الخلق الشعريّ إلّا صورة للخلق الكونيّ بكامله. . .)

(3)

.

لقد سولت لهم أنفسهم سوء أعمالهم وأضلهم "سامريّ الحداثة" فأخرجه لهم عجلًا جسدًا له خوار هو عجل الحداثة الذي ألهوه وعبدوه من

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 590 - 591.

(2)

المصدر السابق 2/ 670 - 671.

(3)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 157، ونحوه في ص 248.

ص: 221

دون اللَّه وقالوا لن نبرح عليه عاكفين قائلين: (ليس الشعر رسمًا بل خلق)

(1)

و (. . . الشاعر هو من يخلق أشياء العالم بطريقة جديدة)

(2)

، وإذا سألتهم من أنتم؟ أجابوا:(نحن هدامون وكل منا قائد اللوعة والرماد. . . هكذا نعلن أنفسنا غواة وخائنين، الهاوية تأتي معنا تعرف ذلك سنعمقها سنوسعها، سنصنع لها أجنحة من الريح والضوء)

(3)

.

وإن استفسرت عن وسيلتهم في هذا الهدم والضلال قالوا: الحضور الشعريّ: (هذا الحضور الوحيد الفاجع المعزول، والذي هو مع ذلك الحضور البهي الصامد الباقي العنيد حتى الحجر وحتى الريح، هذا الحضور مطلق ينظم الواقع حوله، وفق اشعاعه، وبحسب دفعته، إنه معطٍ، خالق، وليس وارثًا، نحن نخلق ولا نرث)

(4)

.

وفي سراديب ضلال وانحراف وإفساد يتقلب بهم كاهن الحداثة من عجل إلى صنم إلى وثن، متخذًا لهم آلهة وأربابًا من دون اللَّه، فبينما الشعر وسيلة هدم ونسف إذا به فجأة "المطلق والخالق" وإذا بهم ينقلبون فجأة كذلك من كونهم عبيدًا للحضور الشعريّ والإبداع إلى كونهم خالقين، ويصرخ بهم في تشجيع وتحفيز قائلًا لهم:(اللاتقليديّ، الرائد، إنسان الرفض المستبق الخالق السهم الراثي البكر النقيّ المغسول، إنسان البداية والنموذج أبدًا، هذا ما نتطلع إليه ونبشر به، هذا هو مجتمعنا وقارئنا وصديقنا هذا هو عالمنا)

(5)

.

وأي صراحة أوضح من هذه على أن القوم يشقون لهم ديانة جديدة وملة حديثة، يدعون إليها ويبشرون، ملة تقوم على نفي وجود اللَّه تعالى ونسبة الخلق والإيجاد إلى غيره -جلَّ وعلا-، وتسمية غيره خالقًا، وإسناد

(1)

زمن الشعر: ص 11.

(2)

المصدر السابق: ص 17.

(3)

المصدر السابق: ص 227.

(4)

المصدر السابق: ص 228.

(5)

المصدر السابق: ص 240.

ص: 222

الخلق والأمر إلى أي شيء سوى اللَّه تعالى، وتلقي الأوامر والتشريعات والنظم والمناهج من كل أحد سوى اللَّه -جلَّ وعلا-، أمّا من هو هذا السوى؟ فإن الحداثة العربية تجيبك بأنه كل إله يمكنهم اتخاذه شريطة ألا يكون هذا الإله هو اللَّه جل جلاله.

وهذا هو منطق الكفر منذ القدم كما أخبر اللَّه تعالى في كتابه العظيم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}

(1)

.

(والآية تصف واقعة حال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم، وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد، ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان، فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى اللَّه وحده إلهًا، وإلى شريعة اللَّه وحدها قانونًا، وإلى منهج اللَّه وحده نظامًا، حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد، هؤلاء هم بعينهم الذين يصور اللَّه نموذجًا منهم في هذه الآية، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان، هم الممسوخو الفطرة، المنحرفو الطبيعة الضالون المضلون، مهما تنوعت البيئات والأزمنة، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام)

(2)

.

وإذا أردنا أن نستدل لهذه الحقيقة القرآنية التي بها تجلت نفسيات هؤلاء، وعقلياتهم القائمة على الصدود والإعراض عن اللَّه الملك الحق المبين، والاستكبار الواهن الضعيف على اللَّه القوي الشديد؛ فإننا نجد الكثير الوفير من أقوالهم ومواقفهم، وقد سبق منها جملة مفيدة في الدلالة على هذا الشأن، ولا بأس بالإثبات بجملة أخرى تؤكد أن هذا المعنى -في نسبة الخلق إلى غير اللَّه- وهو نوع من الانحراف في توحيد الربوبية -ليس

(1)

الآية 45 من سورة الزمر.

(2)

في ظلال القرآن، لسيد قطب 5/ 3055.

ص: 223

مختصًا بكاهنهم الرجيم أدونيس، وإنّما هو عند غيره من الكهنة وأتباعهم، وكيف لا يكونون كذلك وأستاذهم هو الذي قرر لهم بأن (الإبداع عمل إيجابيّ محض، وهو خلق ثان للكون. . .)

(1)

، وبأن (. . . الشاعر يعمل على إعادة خلق العالم ورسمه بخطوط وألوان مختلفة)

(2)

.

وكيف لا يكونون كذلك؟ وهم وإياه رضعاء ثدي الحياة المادية الغربية الإلحادية، فلا غرو أن تتشابه أقوالهم؛ لأن قلوبهم قد تشابهت، ومواردهم تماثلت، ومقاصدهم تشابكت، فها هو أحدهم يقول مفتخرًا بجهله وضياعه:(لا ثقة لدي ولا يقين)

(3)

فماذا يعمل إذن هذا التائه؟ إنه يجيب بجواب لا يتفق مع عقيدة الشك والتيه، إنه يقفز ليقول بكل جراءة:(. . . يجب إذا متابعة التنفس -أخذًا وعطاءً- فنشارك الخالق في عمله الخارق. . .)

(4)

.

سبحان اللَّه العظيم وبحمده، كيف تجرأ هذا الذي يصف نفسه ويفتخر بانعدام الثقة واليقين ليتطاول على مقام الربوبية العظيم؟!.

قال اللَّه تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}

(5)

.

(ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير، بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه فيكفر به ويجادل في وجوده أو في وحدانيته، وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة، فهكذا يصوره التعبير، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير لتبدو المفارقة كاملة والنقلة بعيدة، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين: مشهد النطفة المهينة الساذجة، ومشهد الإنسان الخصيم المبين. . .)

(6)

.

(1)

رأيهم في الإسلام: ص 33.

(2)

المصدر السابق: ص 34.

(3)

رأيهم في الإسلام: ص 57 في مقابلة مع رشيد الضعيف وهو نصراني من لبنان.

(4)

المصدر السابق: ص 59.

(5)

الآية 4 من سورة النحل.

(6)

في ظلال القرآن 4/ 2160.

ص: 224

وهو دأب لجميع هؤلاء، لم يبرأ منه أحد منهم ولم يخلص، وفي التدليل على ذلك من الشواهد الشيء الكثير، غير أني أكتفي ببعض ذلك، مما يصور لنا عقائد القوم، يقول أحدهم:

(صار اللَّه رمادًا

صنمًا

رعبًا في كف الجلادين

أرضًا تتورم بالبترول

حقلًا ينبت سبحات وعمائم

بين الرب الأغنية الثورة

والرب القادم من هوليود

في أشرطة التسجيل

في رزم الدولارات

رب القهر الطبيعيّ

ماذا تختار؟

اختار اللَّه. . الأغنية الثورة)

(1)

.

تعالى اللَّه عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

وعلى الرغم من وضوح دلالات هذه الكلمات وشدة انحرافها وضلالها إلّا أننا نجد كاتبًا حداثيًا يدافع عنها ويرد على مجلة الدعوة السعودية حين نقدتها، ويرد على الشيخ عوض القرني حين أشار إليها في كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام)

(2)

وبين وجه الإلحاد والكفر والضلال فيها.

(1)

الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل لعبد العزيز المقالح، مقطع بعنوان "الاختيار": ص 5 - 9.

(2)

انظر: الحداثة في ميزان الإسلام، للشيخ عوض القرني: ص 86.

ص: 225

وينبري هذا الحداثيّ يدافع عن شريكه في العقيدة الإلحادية، وينافح عن هذه القصيدة المترعة بالكفر، ساكبًا أصباغ خداعه ومغالطته على القول وقائله فيقول:(. . . ثمة قصيدة نالت دون غيرها أكبر قدر من هذا الحراب ونال صاحبها أكبر قدر من الهجوم، بوصفه رمز الحداثة والتحديث البارز في هذه المنطقة، أعني الدكتور عبد العزيز المقالح، الشاعر اليمنيّ الذي تجاوز إبداعه أفق المنطقة، وصار أحد أعمدة الشعر العربيّ المعاصر)

(1)

.

ثم ينفتل إلى الكلمات الإلحادية يؤولها ويحللها ويتحدث عنها بكلام اعتذاريّ تبريريّ هو أقرب إلى السفسطة منه إلى الحقيقة، وفيه من لطخات الانحراف مثل ما في الكلام المتصدّى له، يقول: (. . . وتتجاوب الدلالات الرأسية مع الأفقية ليبرز من الثنائية المتعارضة في طرفها الأول، الدال المنفيّ -"رب القهر الطبيعي"- الذي يغدو علامة على عصور يشيخ فيها الحب "الإنسان" والشعر "الإبداع" وسلاحًا يلازم سوط الجلادين ورعب المجلودين، وتبريرًا تأويليًا يضع الشرع في خدمة الحكم، فيتقلص الشرع إلى سبحات وعمائم ورزم من دولارات، تبرر كف الجلادين، وتبارك الرب القادم من هوليود، كيس يسرق أرضًا تتورم بالبترول، بين الأمس القاتل واليوم المقتول.

إن نفي الدال الذي ينطوي على "رب القهر الطبيعيّ" يبدأ بوضعه إزاء نقيضه "رب الأغنية - الثورة" والمدلول المراوغ الذي يومئ إلى منتجي صورة هذا "الرب" يعابثه الدال الذي يكشف -بالمجاورة- عن تلازم ما تخفيه "العمائم" أو تتجه إليه "سبحات" المسبحين من "رزم الدولارات" من ناحية، و"الرب القادم" في "أشرطة التسجيل" من "هوليود" من ناحية ثانية، وذلك تقابل يفرض نفسه على القارئ، كي يختار بدوره، في سياق الصراع الاجتماعيّ المكبوت، والنص الأوسع لما لايقال بين "رب القهر الطبيعيّ" في التأويل النقليّ الاتباعيّ و"رب العدل" الذي يتجلى مناقضًا للأمس القاتل واليوم المقتول، وقرين الأغنية التي تذيب جبال الحزن وتغسل بالأمطار

(1)

الحداثة والإسلام: ص 195 من مقال لجابر عصور بعنوان "إسلام النفط والحداثة".

ص: 226

الخضراء تجاعيد الأرض، ومباركًا الفعل الإنساني "الحب، الشعر" الذي تتولد منه شموس التكوين وأفعال الخلق، وإذ تقوم الحركة الأفقية للدوال على التقابل بعين هذا "الرب" وذاك فإن التقابل يسقط نفسه رأسيًا فيلازم "رب القهر" غياب الحب والخصب والإبداع. . .)

(1)

.

ترى أي فرق من حيث الانحراف بين هذا النص المدافع والنص الذي يدافع عنه؟.

هذا القول حاشية شرح على المتن، والجامع بينهما السخرية من اللَّه تعالى، وإضافة الخلق إلى غير اللَّه، ووصف غيره من المخلوقين بصفات الربوبية، تعالى اللَّه ربنا عما يقول هؤلاء علوًا كبيرًا.

ويظل هذا الطرح من محاور الفكر والممارسة الحداثية إلى حد أصبح من المعتاد في كلامهم أن تقرأ أن (النقد الحقيقي هو النقد الخالق)

(2)

.

وفي ابتهاجهم بعقائدهم واحتفالهم ببعضهم تقرأ مثلًا: (فلنرقص معًا للحياة أيها الكادح الخلاق)

(3)

و (الجهل الخلاق)

(4)

، والشاعر -عندهم- خلاق له كرامة وكبرياء (هنالك كرامة بل لا قل كبرياء لا تغادر الخلاق حتى في قعر انذلاله)

(5)

.

وعلى مائدة الانحراف الاعتقاديّ تجد قول بعضهم:

(ما نحن إلّا نفضة رعناء من ريح سموم

أو منية حمقاء

(1)

الحداثة والإسلام: ص 199 - 200 من مقال لجابر عصور بعنوان "إسلام النفط والحداثة".

(2)

شخصيات وأدوار، لمحمد دكروب: ص 23. وانظر: شبيه ذلك في خواتم لأنسي الحاج: ص 109.

(3)

المصدر السابق لمحمد دكروب وهو يخاطب حنامينه: ص 92.

(4)

خواتم لأنسي الحاج: ص 112.

(5)

المصدر السابق: ص 110.

ص: 227

والشيطان خالقنا ليجرح قدرة اللَّه العظيم)

(1)

.

فأيّ انحراف أكبر من هذا؟ وأيّ مضادة لعقيدة الإسلام أوضح من هذه المضادة؟.

إذا لم يكن هذا هو الانحراف بعينه والإلحاد والكفر باللَّه تعالى فأين يا ترى يوجد الإلحاد؟.

وعندما تتجاوب قلوب وعقول الأتباع مشيدة بهذا الشاعر ممتدحة له فإن ذلك يؤكد سريان هذا الداء الإلحاديّ إلى حد أصبح فيه تآمر الفارغين -من الطائفيين والصليبيين والعلمانيين- على ديننا وعقيدتنا وشريعتنا هو عين الإبداع وقمة الريادة!!.

وليس هذا فحسب، بل هو تبجيل لثمار المؤامرة الدنيئة التي أنتجت هؤلاء، ومؤسسات "حوار" و"مواقف" و"الآداب" و"فصول" و"شعر" و"إبداع" و"أصوات" و"ألف" و"الناقد" وغيرها من صحف ومجلات الغثاء.

لقد ادعوا التحرر والانطلاق، والقدرة على التحويل والتغيير، فكان تحررهم هو الخروج عن الدين، وانطلاقهم هو الجري في ساحات الإلحاد، وتغييرهم هو التقلب في عرصات الجاهلية الوثنية القديمة والحديثة، ومن بعض شأنهم في هذه المضامير المظلمة "تأليههم للشعر والشاعر" فـ (الشعر فعل إيمان الحياة وفعل وحدة الكون. . . إنه ما قبل الإنسان وإنه الإنسان، وما وراءه وفوقه وبعده، وهو خالق الدين والفن والجمال والحب، هو بطانة الروح بل روحها، الشاعر ليس رائيًا فحسب، فهذه صفته السكونية، بل هو سيد آمر منشئ يلعب بالعالم ويداه آلتا تدمير ورحمتا تكوين. . . يظن بعض المؤلفين أن التفرد هو غاية الخلق في الأدب والفنون. . . غاية الخلق "إذا كان للخلق من غاية نعرفها" ليست هي التفرد، بل التفرد هو جزء طبيعيّ من الخلق وفي أساس تكوينه، الشاعر الفنان متفرد بالسليقة. . .)

(2)

.

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 38.

(2)

خواتم لأنسي الحاج 128 - 129.

ص: 228

وهكدا يسترسل هذا العبث الحداثيّ مرة بجحد وجود اللَّه، ومرة بجحد ربوبيته، وثالثة بمساواة الشاعر باللَّه تعالى في خصائص صفاته -جلَّ وعلا- كما قال أحدهم:(ولعل الشاعر الأول خلق القصيدة الأولى في سبعة أيام كما خلق اللَّه الكون في سبعة. . .)

(1)

.

وفي الجملة نجد أن شعراء وكتاب الحداثة قد تمادوا في هذا النوع من الانحراف تماديًا يصح معه أن يقال بأن هذه أصبحت من ظواهر "إبداعهم" وهذه بعض الأمثلة على ذلك:

يقول نزار قباني:

(من ينتقي؟

لي من كروم المشرق

من قمر محترق

حُقًّا غريب العبق

آنية مسحورة خالقها لم يخلق. . .)

(2)

.

ويقول:

(فاليوم أخلق منك إلهًا وأجعل نهدك قطعة من جوهر)

(3)

ويقول:

(قد كان ثغرك مرة

ربي فأصبح خادمي)

(4)

.

ويقول:

(1)

ديوان سعدي يوسف، مقدمة طراد الكبيسي لهذا الديوان 1/ 21.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني 1/ 284.

(3)

المصدر السابق 1/ 470.

(4)

المصدر السابق 1/ 347.

ص: 229

(لا تخجلي مني فهذي فرصتي

لأكون ربًا أو أكون رسولًا)

(1)

.

ويقول ساخرًا من الهلال رمز المسلمين:

(يا هلال أيها النبع الذي يمطر ماس

وحشيشًا ونعاس

أيها الرب الرخاميّ المعلق

أيها الشيء الذي ليس يصدق. . .)

(2)

.

ويقول محمود درويش:

(طوبى لمن يعرف حدود سعادتي

طوبى للرب الذي يقرأ حريتي

طوبى للحارس الذتي يحبس طمأنينتي)

(3)

.

ويقول:

(وسرحان يرسم شكلًا ويحذفه: طائرات ورب قديم)

(4)

.

ويقول: (خريف جديد لامرأة النار: كوني كما خلقْتكِ الأساطير والشهوات. . . كوني ملائكتي أو خطيئة ساقين حولي. . .)

(5)

.

ويقول معين بسيسو:

(باسمك تلك المومس

(1)

المصدر السابق 2/ 761.

(2)

المصدر السابق 3/ 22 ونحو ذلك في 3/ 107.

(3)

ديوان محمود درويش: ص 389.

(4)

المصدر السابق: ص 451.

(5)

ورد أقل: ص 87.

ص: 230

ترقص بقناع الرب

باسمك يتدحرج

رأس الرب)

(1)

.

ويقول عبد العزيز المقالح

(2)

في وصف جريمة اعتداء مزين ومصفف شعور النساء على إحدى النساء اللاتي قام بتصفيف شعرها ثم اغتصبها وزنى فيتحدث عنه المقالح معتذرًا ومبررًا جريمته قائلًا:

(لا تصلبوه

الخالق الذي أحب ما خلق

بكفه سوى الجبين الذهبي والحدق

لا تصلبوه)

(3)

.

ويقول محمد الفيتوري

(4)

:

(لوددت لو أني سكبتك في دمي

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو: ص 251.

(2)

عبد العزيز المقالح حداثيّ يمانيّ، من كبار دعاة العلمنة والحداثة، صاحب ديوان الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل، الذي سخر فيه باللَّه تعالى وتجرأ بالشتم على مقام الألوهية المقدسة، غنى للشيوعية والشيوعيين، نال الدكتوراه عام 1397 هـ/ 1977 م في موضوع الشعر العاميّ في اليمن، وعمل مندوبًا لليمن في جامعة الدول العربية ودرس في جامعة صنعاء ورأس مركز الدراسات والبحوث اليمنية. انظر: هموم الثقافة العربية: ص 139، والحداثة في ميزان الإسلام: ص 86.

(3)

ديوان عبد العزيز المقالح: ص 135.

(4)

هو: محمد مفتاح الفيتوريّ، شاعر حداثيّ سودانيّ الأب، مصريّ الأم، ليبيّ الجنسية، أسود البشرة قصير القامة دميم الوجه، ألْر ذلك عليه نفسيًا فعاد بإحباط عليه وتعصب للزنجية وغنى للعنصر الأسود بعنصرية، ولد عام 1348 هـ/ 1930 م، درس في الكتاب وحفظ القرآن ودخل الأزهر، له ديوان شعر حداثيّ مليء بالعنصرية السوداء، ثم اليسارية الرعناء، يقال أنه تاب أخيرًا من الحداثة، واللَّه أعلم بحاله الآن. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 668 - 669.

ص: 231

عرقًا إلهيًا وعطرًا

لوددت لو أني خلقتك

صورة، تنمحي دهرًا فدهرًا)

(1)

.

ويقول:

(وكنت لا أعي

كنت أنا التمثال والأزميل والخالق)

(2)

.

ويقول ممدوح عدوان

(3)

:

(السفينة ربانها خالق قادر

كن

أكن

لا تكن

أترنح بين تلال من الماء والريح

بين رغائبه

ثم أذعن

هذي السفينة ربانها خالق قادر

يأمر القلب بالخفقان

(1)

ديوان الفيتوريّ 1/ 404.

(2)

المصدر السابق 1/ 480.

(3)

ممدوح عدوان شاعر حداثيّ سوريّ، ولد عام 1360 هـ/ 1941 م، أصدر 12 مجموعة شعرية، يعتبر عند الحداثيين من أهم الشعراء العرب بعد جيل رواد الحداثيين، يعمل في الصحافة السورية، وله مشاركات في المؤتمرات الأدبية الحداثية. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 703، وغلاف ديوانه الأعمال الشعرية الكاملة.

ص: 232

ولأمر بالرجفان)

(1)

.

وأشباه هذا الكلام كثير في نتاج هذه الفئة.

ومن مظاهر انحرافاتهم في هذا الباب:

‌سادسًا - نسبة الربوبية إلى غير اللَّه تعالى:

وهذا قد أغرقوا فيه وبالغوا فيه أبعد المبالغة، وحاكوا فيه أساتذتهم من الغربيين، وجروا في نفس منوالهم، والغربيون ساروا في هذا على وفق جذور عقائدهم ومرجعياتهم الفكرية، حيث يمدون أسبابهم إلى ثقافة الإغريق وفلسفته وعقائده، وهي الثقافة القائمة على تعدد الأرباب وتعدد الآلهة، ونسبة الخلق والإيجاد والتصريف إلى هذه الأوثان التي اتخذوها من دون اللَّه.

والأرباب المتخذة عند الإغريق أرباب أرضية، ولذلك اتجهوا بدياناتهم إلى الأرض، واعتقدوا أن آلهتهم تسكن الأرض وتصعد الجبال وذرى الأشجار، وتهبط إلى أعماق الأرض والآبار، والتصقوا بمسائل الفلاحة والزراعة، وقدسوا عناصر الخصب؛ ولذلك كله تعددت آلهتهم وأربابهم الباطلة التي اتخذوها من دون اللَّه، من آلهة الأرض إلى آلهة الخصب والنماء، ومن آلهة الطهر إلى آلهة العهر التي يباح معها ما أسموه بالدعارة المقدسة التي تستباح فيها الأعراض وتنتهك فيها المحرمات.

وهي آلهة وأرباب تتصارع وتتقاتل وتموت وتحيا، وتميت وتحيي وتضر وتنفع إلى آخر ما في تلك القائمة الوثنية من خرافات وضلالات

(2)

، ولقد استمدت أوروبا روح هذه الوثنيات الإغريقية، ومدت جذور فكرها إليها، وتأثرت بها في العصر الحاضر في ميادين عديدة اعتقادية وسلوكية

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة، لممدوح عدوان 2/ 73 من مقطوعات تحت عنوان "لابد من التفاصيل".

(2)

انظر: الديانات والعقائد في مختلف العصور، لأحمد بن عبد الغفور عطار 1/ 226 - 235.

ص: 233

وفكرية وتطبيقية، ومن هذه الأجواء انبثقت الحداثة وتصاعدت نيرانها مرتكسة في تلك الوثنيات القديمة بأقوى ما يكون الارتكاس، متخذة من أساطير اليونان وأباطيل بابل وغيرها خلفية فكرية اعتقادية، تقوم على تعدد الأرباب، وتفتخر بأنواع الألوهيات وتعتمد على أصناف الشركيات، وتعد ذلك أساسًا للتحرر والانطلاق نحو آفاق إبداعيه مستقبلية {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}

(1)

.

ثم جاءت الحداثة العربية بتقليدها ومحاكاتها للحداثة الغربية، تردد الأفكار والعقائد ذاتها، ولقد (. . . كانت متشربة إلى أبعد حد بالنموذج الثقافيّ الشعريّ الغربيّ، حيث طرحت إشكالية الحداثة كتأصيل في الهوية الحضارية. . .)

(2)

.

وحين كتب أدونيس قصيدته "أرواد يا أميرة الوهم" قال بأنه اعتمد فيها (على الأسلوب الشعريّ القديم في فينيقيا وما بين النهرين، وهو الأسلوب الذي ورثته التوراة في أروع أشكاله، وتأثر به كثير من شعراء أوروبا وطوروه. . . وآمل في استخدام هذا الأسلوب من التغيير الشعريّ، أن أضع مع زملائي الشعراء حجرة صغيرة في الجسر الذي يصلنا بجذورنا وبحاضر العالم)

(3)

.

وإذا كانت مجلة شعر وعصابتها تعتبر عند الحداثيين الموافقين والمخالفين لها نموذجًا تقدميًا، والشعراء التموزيون على وجه الخصوص أكثر تقدمية من غيرهم، فإن شعر والتموزية كان لها أبلغ الأثر في الشعر الحديث المستعرب على دروب الانغماس الوثنيّ (لقد مضت حركة مجلة شعر بعيدًا في النفاذ إلى رموز التاريخ الثقافيّ الحضاريّ ما قبل الإسلاميّ (الوثنيّ) ممثلة في الأساطير الأكثر التصاقًا بطبيعة الرؤيا في الشعر)

(4)

.

(1)

الآية 24 من سورة النمل.

(2)

الحداثة الأولى، لمحمد جمال باروت: ص 110.

(3)

مجلة شعر، عدد 10، ربيع 1959 م/ 1378 هـ السنة الثالثة: ص 7 - 8.

(4)

الحداثة الأولى: ص 111.

ص: 234

والتموزيون مصطلح أطلقه جبرا إبراهيم جبرا

(1)

على كل من أدونيس والخال والسياب وخليل حاوي وجميعهم كانوا من شعراء مجلة شعر

(2)

.

وهؤلاء يشتركون في تصوير حاضر العرب المسلمين عقيدة وسلوكًا وقيمًا وانتماءً؛ تصويرًا مليئًا بالشتم والاستخفاف، يصورونها أرضًا خرابًا ماتت فيها القيم الإنسانية ومعالم الحضارة، ثم يلوحون بقيم جديدة وعقائد جديدة، ويرون أن بلوغ العالم الجديد الذي يتوقون إليه وينتمون عقديًا إليه لا يكون إلّا بالموت والهدم الذي يعقبه البعث والخصب أي بعث الآلهة تموز وأدونيس

(3)

.

وفي محاولة لتعميق جذورهم في واقع المسلمين نجد محاولاتهم التضليلية التي تقوم على اعتبار أن وثن "تموز" ليس غريبًا على العرب بل هو موجود في عاداتهم ومعتقداتهم الشعبية، يقول جبرا عن الرمز التموزيّ بأنه (ليس بالرمز الجديد علينا كأمة ويها من العادات والمعتقدات الشعبية كثير من أسطورة تموز بأشكالها المتعددة)

(4)

.

وحركة شعر وما استتبعها من نشاطات ليست إلّا شجرة نبتت بجذور مختلفة نصرانية صليبية، وغربية مادية، ويونانية وثنية.

يتضح ذلك بالتأمل في أسسها والتي منها "الحزب القوميّ السوريّ"

(5)

(1)

جبرا إبراهيم جبرا، شاعر وناقد حداثيّ نصرانيّ من فلسطين، رأس مجموعته الشعراء التموزيين، له ديوان "تموز في المدينة" وعالم بلا خرائط باشتراك مع عبد الرحمن منيف، وأحد أهم أعضاء عصابة مجلة شعر، تأثر بجيمس فريرز، وكتابه الغصن الذهبيّ، وترجم جزءًا منه باسم "أدونيس" وسعى في ترويج أفكار فريزر ونشرها، توفي من قريب. انظر: الحداثة الأولى: ص 112 - 115، وتاريخ الشعر العربي الحديث: ص 726، وكتابه البئر الأولى فصول من سيرة ذاتية.

(2)

انظر: الحداثة الأولى: ص 112.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 112 - 113.

(4)

مجلة شعر، عدد 7 - 8، صيف 1958 مقال بعنوان "المفازة والبئر" و"اللَّه حول البئر المهجورة" ليوسف الخال: ص 57.

(5)

انظر: إثبات ذلك في الحداثة الأولى: ص 114، 118، 119.

ص: 235

الذي أسسه أنطون سعادة الذي كان له فيهم أبلغ التأثير بنشاطاته وكتبه، وخاصة كتابه "الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ" وقد أكد ذلك أدونيس حين تحدث عن هذا الكتاب قائلًا: (كان صاحب الأثر الأول في أفكاري وفي توجُّهي الشعريِّ؛ ولأنه بالإضافة إلى ذلك أثر تأثيرًا كبيرًا في جيل كامل من الشعراء، بدءًا من سعيد عقل وصلاح لبكي

(1)

ويوسف الخال وفؤاد سليمان

(2)

، وانتهاءً بخليل حاوي. . . وكان إلى ذلك ملهمًا لكثير من الأفكار والآراء الشعرية والنقدية في النقاش الذي دار حول مجلة شعر والمشكلات التي أثارتها)

(3)

.

بل إن أكثر شعراء مجلة شعر الذين أسسوها كانوا ينتمون إلى الحركة القومية الاجتماعية التي أسسها وقادها أنطون سعادة، ولا يستثنى منهم سوى جبرا والسياب

(4)

، فما الذي أسسه أنطون سعادة في مجلة شعر؟، وما الذي استتبع ذلك من تأثيرات على مستوى الحداثة العربية جمعاء وعلى الاتباع الطيعون من التلامذة الجدد؟.

لقد أسس أنطون سعادة نظرة جديدة تتناول القضايا الكبرى في الحياة وأوجد رؤية اعتقادية حديثة، وكان يرى أن (الأدب والفن لا يُمكن أن يغيرا أو يتجددا إلّا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة)

(5)

، وكان يسعى إلى

(1)

صلاح لبكي، محام وأديب وشاعر لبنانيّ، والده نعوم لبكي سياسيّ نصرانيّ، ولد صلاح عام 1324 هـ/ 1906 م، وله مؤلفات عديدة ودواوين وكان رئيسًا لجمعية أهل القلم في بيروت وهي التي دعت إلى مؤتمر عام لجميع الأدباء العرب عام 1373 هـ/ 1954 م، توفي بعد ذلك بعام، كان من المتأثرين بدعوة أنطون سعادة. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 385.

(2)

فؤاد سليمان، شاعر لبنانيّ، من أتباع أنطون سعادة وحزبه ومن المتأثرين به، له ديوان أغاني تموز. أنظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 738.

(3)

مجلة الكفاح العربي، عدد 301، في 16/ 4/ 1984 م/ 1404 هـ: ص 51، مقال لأدونيس بعنوان "نحو فهم آخر للتجديد الشعري".

(4)

انظر: الحداثة الأولى: ص 119.

(5)

الصراع الفكري في الأدب السوريّ، لأنطون سعادة: ص 66.

ص: 236

(إنشاء أدب جديد فيه كل عوامل التجديد ودوافع البعث)

(1)

.

ولكن ما الهوية التي يريد تشكيلها لهذا الاتجاه؟ بعد أن قرر بأن الأمة ضائعة الشخصية وهو يبحث لها عن هوية لكنها ليست قومية عربية من جهة العرق، وليست انتماءً دينيًا من حيث الاعتقاد (إنه لا يرى في العرق والدين مقومين من مقومات الأمة. . .، بل تغدو العروبة انتماءً لغويًا ثقافيًا حضاريًا تضرب جذوره في مرجعية أعمق وأبعد تاريخيًا، هي مرجعية الموروث "السومريّ، الكنعانيّ، الآراميّ، البابليّ" الذي يرى فيه سعادة الينبوع الحضاريّ الأول في العالم)

(2)

.

ومن هذا المنطلق يدعو أنطون سعادة أتباعه (ولا ريب أن الحداثيين جميعًا تأثروا بأنطون سعادة بصورة مباشرة أو غير مباشرة)

(3)

يدعوهم إلى عبادة الآلهة الوثنية، فها هو يتوجه بنداء إلى (الأدباء الواعين أن يحجوا ويسبحوا إلى مقام الآلهة السورية فيعودوا من سياحتهم حاملين إلينا أدبًا يكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين، تسمو على كل ما عرف ويعرف من قضايا الفكر والشعور)

(4)

.

وبهذا التنظير الوثنيّ وأشباهه أصبحت الأسطورة الوثنية إحدى مقومات الشعر الحديث عامة، والشعر العربيّ المعاصر خاصة (وهكذا ارتفعت الأسطورة إلى أعلى مقام. . . وثمة أسباب كثيرة ربما كان في أولها -وإن لم يكن أقواها- التقليد للشعر الغربي الذي اتخذ الأسطورة -منذ القديم- سداه ولحمته. . . أضف إلى ذلك كله أن للأسطورة جاذبية خاصة. . . وهي من ناحية فنية تسعف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر. . . لهذه الأسباب ولغيرها ذهب الشاعر الحديث -في توق

(1)

المصدر السابق: ص 62.

(2)

الحداثة الأولى: ص 123.

(3)

سوف يأتي إثبات ذلك -إن شاء اللَّه- في الفصل الرابع من الباب الأول.

(4)

الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ: ص 86.

ص: 237

محموم- يبحث عن الأسطورة، ويعتمدها أنى وجدها، لا يعنيه في ذلك أن تكون بابلية "عشتاروت تموز" أو مصرية "أوزوريس" أو حثية "أتيس" أو فينيقية "أدونيس، فينيق" أو يونانية "أورفيوس، برميثيوس، عولس، أوديس إيكار سيزيف، أدويب. . . إلخ" أو مسيحية. . . بل إنه ذهب إلى بعض حكايات الجاهلية ورموزها الوثنية "زرقاء اليمامة. . . اللات". . .)

(1)

.

ولم تبق الأسطورة عند هذه المكانة لدى شعراء وكتاب الحداثة، بل أصبحت معيارًا للتقدم، والحرية والإبداع، وأساسًا عقديًا للحداثة المعاصرة في مضامينها المتنوعة.

وهذا ما قرره أحدهم قائلًا: (لم تتجل الحداثة طوال العصور السابقة إلّا مرتين. . . المرة الأولى في اليونان القديمة. . .، والمرة الثانية في القارة الأوربية. . . قيام الصيغة الوثنية التي أسقطت القداسة عن الملوك والآلهة، ففتحت بذلك باب حرية الفكر. . . إن الصيغة الوثنية هي صيغة تعددية. . . وهذا النشاط الذي قام به الإغريق سميناه الحداثة الأولى أو الحداثة الزراعية، وما زلنا حتى الآن نلجأ إلى استلهامها ولم نستطع أن نتجاوز الحدود التي وصلت إليها. . .)

(2)

.

من هذا كله نستطيع أن نفهم ظاهرة الانحراف العقديّ في ما يتعلق بتوحيد الربوبية وخاصة في نسبة الربوبية إلى غير اللَّه، إنها وبكل بساطة ووضوح عقيدة وثنية ورثها هؤلاء عن أسلافهم وأخذوها عن أسيادهم، فارتكسوا في حمأة الضلال، ودخلوا إلى الخرافة والتخلف الفكريّ من أوسع الأبواب.

وأمثلة هذه الظاهرة كثيرة في كتابات الحداثيين وسوف أورد بعض النماذج في هذا الصدد.

(1)

اتجاهات الشعر العربيّ المعاصر لإحسان عباس: ص 128، وقد أدخل جملة من الحقائق في إطار الأساطير وعد من ذلك المسيح ويحيى عليهما السلام والخضر عليه السلام، وحادثة الإسراء والمعراج والمهدي المنتظر.

(2)

مجلة الناقد، عدد 8، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 34 من مقال لحنا عبود بعنوان "مقاربة الحداثة".

ص: 238

فمنها ما انتشر في كلام أدونيس "رائد الحداثة العربية الأول وأستاذ مبدعيها" فهو يتحدث عن نفسه باعتباره الرائد والقائد الذي سن الطريق لمن جاء بعده، فيقول:

(. . . فعبرت المفازة

وتركت ورائي الطريق

باسم رب يخط كتابه

في كهوف العذاب العتيق

ارفع هذا الحريق)

(1)

.

يجعل نفسه مغامرًا يعبر المفازات التي هي الماضي والأصالة والتراث، ثم ربًا يخط الكتابة رمز التقدم، ويرفع الحريق رمز التدمير والهدم لكل ثابت أصيل وهو المعنى الذي ردده في موضع آخر:

(- من أنت؟

- رمح تائه

- رب يعيش بلا صلاة)

(2)

.

هكذا بكل صفاقة يجعل من نفسه رباَ، وذلك يقتضي أن يؤلَّه عند أتباعه الذين يقرأون هذا الكلام ويتشبعون بمضامينه، وكيف لا وهو يدندن مفتخرًا بنفسه بمناسبة وغير مناسبة؟ والأتباع يصيخون السمع بإعجاب وانبهار، وهو يقول لهم:

(يولد في أسمائي

بشر

يزدحمون ويقتتلون/ خذيهم

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 347.

(2)

المصدر السابق 1/ 417.

ص: 239

دليهم واحتضنيهم

كوني طرقًا لهم وفتوحات يا أسمائي

فأنا الأبد المتشرد خارج أسمائي

أبديًا)

(1)

.

ومن الأمثلة قول أحد الماركسيين العرب ممتدحًا الشيوعية، وشعارها المتمثل في المطرقة والمنجل ودولتها الإلحادية "الاتحاد السوفيتي"، وينقل هذه الأبيات ماركسي آخر في احتفالية باهتة فيقول: (وإذ اندلعت الحرب الكونية أعلن إلياس خليل زخريا

(2)

موقفه بوضوح حيث هو موقعه، فوقف ضد النازية والفاشية بطبيعة الحال واختار المعسكر الذي رأى فيه معسكر التحرر والتقدم والتغيير فهتف للاتحاد السوفياتي تحديدًا، وغنى بطولات شعوبه وجيشه الأحمر ومجد ملحمة ستالينغراد حيث إحدى ذروات الدفاع عن الوطن وعن إنسانية الإنسان وحريته:

منجله في الوغى ربه

والمطرق الفولاذ صوت الرسيل

يا فارس النور فداك الضحى

أحد الليالي وتسقّ الرعيل)

(3)

وإذا انعطفنا إلى المؤسسين الأوائل للحداثة العربية السياب والبياتي فإننا نجد هذا اللون من الانحراف قد أخذ جانبًا من التركيب الفكريّ

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 2/ 361.

(2)

إلياس خليل زخريا، ولد في البترون في لبنان عام 1329 هـ/ 1911 م، ودرس في الكلية العلمانية في حمص ثم في الجامعة اليسوعية في بيروت، ودرس العلوم الأدبية في السوربون، وهو شاعر وناثر وصحافي عمل في عدد من الصحف والمجلات، وكانت له مساهمات سياسية حيث شارك في حركة قومية اسمها الغساسنة، وجمعية أهل العلم، توفي في 1406 هـ/ 1986 م. انظر: شخصيات وأدوار: ص 259.

(3)

شخصيات وأدوار لمحمد دكروب: ص 70 - 71.

ص: 240

والعقدي لديهم، فالسياب يطرح أسئلة شك في اللَّه تعالى ويسأل هل يؤمن الناس بأن في السماء مدبرًا سمعيًا بصيرًا؟:

(نرى العراق يسأل الصغار في قراه

ما القمح؟ ما التمر؟

ما الماء؟ ما المهود؟ ما الإله؟ ما البشر

فكل ما نراه

دم ينز أو حبالٌ، فيه، أو حفر. . .

أكانت النساء والرجال مؤمنين

بأن في السماء قوة تدبر

تحس تسمع الشكاة تبصر

ترق ترحم الضعاف تغفر الذنوب؟)

(1)

.

ويسترسل السياب في هذه القصيدة مؤلهًا أوثان اليونان:

(ليعوسر بروس في الدروب

وينبش التراب عن إلهنا الدفين

تموزنا الطعين. . .

أواه لو يفيق

إلهنا الفتيُّ لو يبرعم الحقول. . .

عشتار ربة الشمال والجنوب. . .

ليعوسر بروس في الدروب

لينهش الآلهة الحزينة، الآلهة المروعة

(1)

ديوان السياب: ص 484.

ص: 241

فإن من دمائها ستخصب الحبوب

سينبت الإله، فالشرائح الموزعة

تجمعت تململت، سيولد الضياء

من رحم ينز بالدماء)

(1)

.

فمن الارتماء في الشك في وجود اللَّه تعالى وفي كونه يسمع ويبصر ويدبر، يبتدئ التسلسل الفكريّ للسياب في هذه القصيدة، وإن كان قد جعل هذا المقطع في وسط القصيدة، ثم ينحدر إلى الوثنيات اليونانية ورموزها ليضفي عليها صفات الألوهية ويصفها بالقدرة على إحياء أرضنا "يبرعم الحقول""ستخصب الحبوب" وينعتها بالنور والضياء بل بالقدرة على وهب الضياء للآخرين!!

وهكذا انطلقت الحداثة -من أول تجاربها- في هذا الميدان تجحد الحقيقة وتقدس الوهم والخرافة، وتؤله الأوثان، وتتخذ من أسمائها رموزًا للتقدم والرقيّ والحياة الجديدة، فتموز رمز الإحياء والبعث القوميّ يناديه باسم الرب ويطلب منه العون والسقيا والحياة:

(تموز هذا، أتيس

هذا، وهذا الربيع

يا خبزنا يا أتيس

أنبت لنا الحب وأحي اليبيس

التأم الحفل وجاء الجميع

يقدمون النذور

يحيون كل الطقوس

ويبذرون البذور

(1)

ديوان السياب: ص 483 - 485.

ص: 242

سيقان كل الشجر

ضارعة والنفوس

عطشى تريد المطر

شدد على كل ساق

يا رب، تمثالك

فلتسق العراق

فلتسق فلا حيك عمالك. . .

. . . شدوا على كل ساق

يا رب تمثالك

فاسمع صلاة الرفاق. . .

تمثالك البعل

تمثالك الطفل

تمثالك العذراء

تمثالك الجانون والأبرياء)

(1)

.

وإذا كان السياب قد انحدر إلى التموزية بعد الماركسية، فإن البياتي -وهو من المؤسسين لحركة الحداثة العربية- تقلب في انحدارات اعتقادية عديدة أشهرها الشيوعية التي لازمت فكره وشعره وشعوره وولاءه، حتى لتكاد حين تقرأ له تعده من روسيا أو الصين الشيوعية.

وحينما أراد أن يثبت عروبته جاء بالمضامين الشيوعية الإلحادية، ففي قصيدة أغنية إلى جمال عبد الناصر

(2)

، يقول:

(1)

ديوان السياب: ص 434 - 439.

(2)

جمال عبد الناصر، قائد ورجل دولة وعسكريّ، ثار مع مجموعة من الضباط على =

ص: 243

(باسمك في قريتنا النائية الخضراء

في العراق

في وطن المشانق السوداء

والليل والسجون

والموت والضياع

سمعت أبناء أخي باسمك يلهجون

فدى لك العيون

يا واهب الربيع للقفار

ومنزل الأمطار في قريتنا الخضراء. . .)

(1)

.

وطالما انتقد الحداثيون الشعراء القدامى لمدائحهم في الملوك والخلفاء والسلاطين ولكننا نجد هذا عندهم وبصورة أبشع وأشنع.

فالقدامى مدحوا ملوك المسلمين الحاكمين بشرع اللَّه المجاهدين في سبيل اللَّه، وهؤلاء مدحوا كل ساقط في فكره وعمله وعقيدته بمدح لم يُسبق إليه، فهم يضفون عليهم صفات الألوهية والربوبية، وفي المقطع السالف أوضح دليل على ذلك، فهو يضفي على عبد الناصر صفات الربوبية "واهب الربيع، منزل الأمطار" وإن كان يريد بها المعاني الضمنية لهذه

= الملك فاروق عام 1371 هـ/ 1952 م، ثم انقلب على زميله الضابط محمد نجيب، رسخ النظام العلمانيّ ممارسة، وتقلب بين الإنجليز والأميركان والروس، وحارب دعاة الإسلام وعلماءه وزج بهم في السجون وقتل سيد قطب وغيره من إخوانه ومارس سياسات متقلبة، فقد نبغ على يد الأمريكان كما أثبت ذلك مايلز كوبلاند في لعبة الأمم، ثم اتجه إلى الاتحاد السوفيتيّ، وشارك في إنشاء منظمة عدم الانحياز، وزج بجيشه في اليمن فهلك أكثره، وسلمه غنيمة باردة لليهود في حزيران 1967 م/ 1386 هـ، توفي فجأة سنة 1390 هـ/ 1970 م بعد أن عاث في الأرض طغيانًا وفسادًا. انظر: موسوعة السياسة 2/ 75.

(1)

ديوان البياتي 1/ 207.

ص: 244

الأوصاف، مما قد يتذرع به الذين ينافحون عن الذين يختانون أنفسهم.

غير أننا نجده في موضع آخر يصرح بنسبة الربوبية لغير اللَّه فيقول:

(عندما أستيقظ حبي

فإن ثلج العالم الأسود ربي)

(1)

.

أمّا النصرانيّ يوسف الخالط فتنعكس عقيدته في أقواله الساخرة باللَّه تعالى، ومنها:

(. . . وحين أموت خذوا جسدي

ولا تدفنوه

لئلا يقوم مع الفجر يومًا

ويكشف سر الإله

مع الشوق يحلو لنا الانتظار

وإن فرغت خمرة في الكؤوس

فها هو ذا الرب بين الحضور. . .

وفي الحب تنكشف الأحجيات

فلا يتدحرج صخر القبور

ولا يصعد اللَّه نحو السماء. . .)

(2)

.

وبالنَفَس النتن نفسه يتحدث النصراني الآخر توفيق صائغ، فيقول:

(أي أم أحبت أطفالها

حب يسوع بلفظ البركة

(1)

المصدر السابق 1/ 453.

(2)

الأعمال الكاملة ليوسف الخال: ص 354 - 355.

ص: 245

وعاقر بعد من قال

إنما هي من الحور الحسان

حلم المؤمن

فإن لم تلد، فلا لعقم

بل منحة من الأرباب:

أن تنعم باللذة

الخصبة خصب المتئمات)

(1)

.

فمن منبعه النصراني إلى رؤيته الوثنية في اعتقاد الأرباب، ثم إلى اعتقاد نفسه ربًا حيث يقول:

(أنا رب قديم

تقصد موحاه الأمم

فتحت الكوة أتلصص

فألفيتني مقعدًا أجش

وكبوت)

(2)

.

ومن كبواته الاعتقادية ينفث أقواله الممتزجة بالنصرانية المحرفة مع الجاهلية، مع الكلام المفكك الركيك، يقول:

(رفرف على أرضنا

يا ضبابًا معزي

وحل علينا

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 90 - 91.

(2)

المصدر السابق: ص 101.

ص: 246

أخف أعز الضيوف

وامتسح بالدخان

أنفاس رب أب

يا جناح ملاك رؤوف. . .)

(1)

.

وفي هذا النص دلالة واضحة على عمق التأثير النصراني في أفكار وعقائد ونتاج توفيق صائغ، فهو برغم عكورة مشاربه الحديثة من مادية وإلحادية وعلمانية، وبرغم مزاعمه الانتماء إلى الفكر التحرريّ اللادينيّ، إلّا أنه لم يستطع أن يتخلص من جذوره النصرانية، التي من أول شركياتها التثليث القائل بالأب والابن وروح القدس، ويعنون بالأب الرب - جلَّ وعلا وتقدس عما يقولون.

أمّا نزار قباني فإن نرجسيته وتعاليه بذاته جعلته ينسب الربوبية إلى نفسه:

(لا تخجلي مني فهذه فرصتي لأكون ربًا أو أكون رسولًا)

(2)

(ولا تحسبي أن قلبي تحجر

فاليوم أخلق منك إلهًا

وأجعل نهدك قطعة جوهر)

(3)

.

ويقول:

(كوني حقل بهار يلذع

كوني الوجع الراتع إني

أصبح ربًا إذ أتوجع)

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 181.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة 2/ 761.

(3)

المصدر نفسه 1/ 470.

(4)

المصدر نفسه 2/ 80.

ص: 247

ذلك أنه قد انغرس في قلبه الشك في اللَّه تعالى، وفي كونه ربًا حقيقيًا، حيث يقول:

(يا إلهي

إن تكن ربًا حقيقيًا. . فدعنا عاشقينا)

(1)

.

فأضحى -بناء على هذه الريب الدنسة- يصف بالربوبية غير اللَّه العظيم فمرة نفسه كما سبق ومرة ثغر خدينته:

(قد كان ثغرك مرة

ربي فأصبح خادمي)

(2)

.

ومرة يصف والده بذلك:

(أمات أبوك؟

ضلال. . أنا لا يموت أبي

ففي البيت منه

روائح رب، وذكرى نبي)

(3)

.

ويصف الهلال، رمز المسلمين بالربوبية والجمود والتحجر وهي إضافة مقصودة، وجمع بين لفظ الرب ورموز التخلف وعباراته، مع نسبته الربوبية لغير اللَّه تعالى، يقول قباني:

(يا هلال

أيها النبع الذي يمطر ماس

وحشيشًا ونعاس

(1)

المصدر نفسه 2/ 65.

(2)

المصدر نفسه 1/ 347.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة 1/ 354.

ص: 248

أيها الرب الرخامي المعلق

أيها الشيء الذي ليس يصدق

دمت للشرق. . لنا

عنقود ماس. .

للملايين التي قد عطلت فيها الحواس)

(1)

.

وإذا انتقلنا إلى ما يسمى بشعراء المقاومة العربية، إلى شعراء من فلسطين فسوف نجد المضامين نفسها تتكرر في قوالب وعبارات مختلفة، فها هو الشاعر الشيوعيّ الفلسطينيّ سميح القاسم

(2)

يتحدث عن نفسه وشعره وفكره وعقيدته وكتبه:

(ربما تكسد في الأسواق كتبي

ربما ينقلب الأنصار أعداءً، وقد ينفض مني الكف صحبي

ربما أبقى وحيدًا

أنا والحزن ودربي

ربما. . لكنني أقسم بالحرف الملبي

بكيان من صنيعي صار ربي صار ربي

أن أسوق النار من كل طريقِ

واذريك رمادًا عن حريقي)

(3)

.

أمّا الكيان الذي صار ربًا له فهو الكيان الشيوعيّ الذي انتمى إليه

(1)

المصدر نفسه 1/ 366 - 367.

(2)

سميح القاسم، حداثيّ فلسطينيّ شيوعيّ المعتقد، إسرائيليّ الهوية، أحد أعضاء الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ "راكاح" شارك في مهرجانات عديدة ضمن الوفد الإسرائيليّ، له دواوين عديدة، مليئة بالانحرافات. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 627.

(3)

ديوان سميح القاسم: ص 475.

ص: 249

سميح القاسم فكرًا ومسلكًا وانطرح عند أبوابه مادحًا مبجلًا لرموزه وتاريخه

(1)

، يقول في قصيدة بعنوان "طلب انتساب للحزب":

(إلى مايرفلنر وشيوعيون

لا أعرف أسماءهم من أسيوط واللاذقية

وفولفوا غراد ومرسيليا ونيويورك

وأزمير، ومن جميع المدن والقرى

وأكواخ الصفيح والعرائش

المتشبثة بكوكبنا - بكرتنا الأرضية

اعطني إزميلك المسكوب من صلب المرارة

. . . اعطني مطرقة من منجم الحقد المصفى

علني انسف ما ظل من الأصنام

نسفا)

(2)

.

ويقول:

(أجل عادت مع الصوت

رؤى نسلي الذي أقسمت أن يأتي

ووجه الأرض مخلوق من البدء

بصورة سفر تكوين

يسمى الاشتراكية

(1)

انظر أمثلة لذلك في ديوانه: ص 107، 125 - 126، 183، 265 - 269، 281، 285.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 271 - 272.

ص: 250

وفي البدء

تعوم الأرض في الضوء

وكيف نشاء

سنرسم صورة الأفلاك والأمواج والأحياء

رفيقي - آه يا إيفان الكسييفتش

أتاني الصوت. . صوت الجد اكتوبر

أتاني طيبًا أخضر

وقال: تعال يا ولدي الشقي تعال

. . . سلامًا يا سواعد أخوتي العمال

سلامًا يا مداخنهم

سلامًا يا منازلهم

سلامًا للجسور الشهل

للآلات للأبراج للأزهار للأطفال

لطهر حدائق العشاق. . .)

(1)

.

هذا هو الكيان الذي اتخذه ربًا، واتخذ معه الاشتراكية إنجيلًا وسفر تكوين وبداية، ورؤى أمل وحياة، وطقوس عبادة وتأله، بعد أن كفر باللَّه تعالى واستكبر عليه وعلى دينه.

يقول تحت عنوان "رسالة إلى اللَّه":

(سيد الكون أبانا

ألف آمنا وبعد

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 291 - 292.

ص: 251

من حقول البؤس هذه الكلمات

. . . يا أبانا، يا أبًا إيتامه ملوا الصلاة

يا أبانا، نحن مازلنا نصلي من سنين

يا أبانا نحن مازلنا بقايا لاجئين

. . . يا أبانا نحن بعد اليوم لسنا بسطاء

لن نصلي لك كي تمطر قمحًا

لن نداوي بالحجابات وبالرقية جرحًا

نحن أنجبنا على الحزن كبار الأنبياء

وخلقنا من أمانينا التي تكبر. . ربًا

شق من مأساتنا للفجر ربًا. . .)

(1)

.

إنه الدين الجديد الذي انتحله هذا الحداثي بعد جحده ربوبية اللَّه وألوهيته، خاطب اللَّه تعالى بالعبارة الكفرية النصرانية الشهيرة "أبانا الذي في السماء تقدس اسمك" والتي يزعم النصارى أنها من الإنجيل، وهي ليست منه بل مما كتبت أيديهم، ثم بعد هذا الخطاب النصرانيّ توجه بإلحاد وعناد إلى اللَّه تعالى بأنه لن يصلي له، ولن يأخذ بدينه؛ لأنه دين خرافات وحجب ورقية -حسب زعمه- ولن يتبع نبي الإسلام؛ لأن عقيدته الشيوعية الماركسية قد أنجبت له كبار الأنبياء وأوجدت له ربًا يعبده ويخضع له من دون اللَّه.

وفي موضع آخر يخاطب ربه الجديد قائلًا:

(أيها الرب الترابيّ الذي يخشى عبيده

. . . أيها الرب فكن ما شئت. . واحكم وتحكم. . .)

(2)

.

(1)

المصدر نفسه: ص 63 - 65.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 475 - 476.

ص: 252

أمّا زميله الماركسي الآخر توفيق زياد

(1)

فعلى المنوال نفسه، فمن نشأة وأصل طائفيّ درزيّ، إلى فرع شيوعي ماركسيّ، وقد غرق في محبة الشيوعية وتمجيدها، إلى آذانه، وخبط في خوضها المنتن إلى حد جعله يتغنى بأمجاد الشيوعية قبل قيام الدولة الماركسية في الاتحاد السوفيتيّ الهالك، فهو يمتدح ثورة باريس المسماة كومونة باريس

(2)

، وينسب إليها سيادة الكون فيقول:

(حبي الأول أنت

شرف الحرية، فارسها المغوار

سيد هذا الكون

وسيد كل الثوار

الحر الأول أنت

أول عبد يتجرأ أن يمشي منتصب الظهر)

(3)

.

وتوفيق زياد هو صاحب ديوان "شيوعيون" يقول فيه:

(1)

توفيق زياد درزيّ فلسطينيّ ماركسيّ متعصب أحد عملاء اليهود، وأشهر المداحين للماركسية ورموزها، إلى حد تقديم طقوس العبادة لرموزها، مثل قصيدته عند قبر لينين، وشعره يدور على مستنقع الماركسية في خطابية فجة، وارتماء بيد، والشيء من معدنه لا يستغرب، هلك عام 1416 هـ، وهو على تمسكه بالحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وعلى مبادئه المعادية للإسلام وقضاياه. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 628، والمرشد تراجم الكتاب والأدباء: ص 44.

(2)

الكومونة أو البلدية هي وحدة الحكم المجلس المحلي في فرنسا، ويراد به عند الماركسيين ما حدث في سنة 1792 م عشية الاستيلاء على سجن الباستيل وانطلاق الثورة الفرنسية حيث بادر مجموعة إلى تشكيل لجنة دائمة مقرها بلدية باريس أطلقت عليها كومونة ثورية متطرفة مسلحة وقامت بأعمال إبادة ومجازر للملكيين واتخذت تدابير مضادة للنصرانية ثم ثار عليها الناس وأعدم أصحابها. انظر: موسوعة السياسة 5/ 264 - 266.

(3)

ديوان توفيق زياد: ص 569.

ص: 253

(قالوا: شيوعيون. قلت: أجلّهم

حمرًا بعزمهم الشعوب تحرر

قالوا: شيوعيون. قلت: منية

موقوتة للظالمين تقدر

قالوا: شيوعيون قلت: أزاهر

بأريجها هذي الدنا تتعطر

قالوا: رعاع. قلت: ذلك محتدي

شرف يزين عروبتي وينور. . .

. . . يا سائلي. . لا تستتب أمورنا

حتى يظللنا اللواء الأحمر)

(1)

.

ويقول تحت عنوان "إلى عمال موسكو":

(معكم أنا. .

يا أخوتي العمال في موسكو أنا معكم

لدهر الداهرين

معكم. . مع الحزب الذي نقل الرعاع

إلى قباب الكرملين

ومع اللواء الأحمر العالي. . لوائك يا لينين

. . . . يا أخوتي أحفاد لينين العظيم

الغارزين لواءكم عند السماء السابعة

الضاربين سرادقًا فوق النجوم

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 7 - 8.

ص: 254

هذه يد العمال للعمال

ملحًا في عيون الكارهين)

(1)

.

ويقول في عبادة وخضوع ونسك شيوعيّ إلحاديّ، في مقطوعة بعنوان "أمام ضريح لينين":

(أمامه وقفت خافض الجبين

ضريحك الذي يعيش في القلوب

يا لينين

أحسست أنني أنا المعذب الشقيّ

المعدم الذي نصيبه من الحياة كوخ طين

أملك كل شيء

أقوى من الزمان والقضاء

وانني أقدر أن أقتحم السماء)

(2)

.

‌ومن مظاهر انحرافاتهم في توحيد الربوبية:

‌سابعًا: السخرية والاستخفاف بالخالق الرب العظيم -جلّ وعلا- والتدنيس لصفة الربوبية:

يتعمد كتاب وشعراء الحداثة -لكي يظهروا تحررهم من الدين- أن يسبوا اللَّه عدوًا، وينالوا من جلاله المقدس، ويسخرون من ذاته العلية ويستخفون باسم الخالق والرب، ويحاولون إنزال قداسة الربوبية بتشبيهات كافرة، ومساواة بين الخالق والمخلوق، بل وتقديم للخالق على المخلوق. . ويجعلون الربوبية كما وردت في الشرع الحنيف والملة

(1)

المصدر نفسه: ص 13 - 18.

(2)

المصدر نفسه: ص 31 - 32.

ص: 255

الحقة محل استخفاف، ويعدون الإيمان بربوبية اللَّه تخلفًا ورجعية، وفيما سبق من الانحرافات في هذا الباب ما يدل دلالة واضحة على كل هذه الأمور.

وفي هذا المبحث زيادة بيان لحال هؤلاء، ولنبدأ بطاغوت الحداثة "أدونيس"، وذلك حين يتحدث عن قصة الإسراء والمعراج، على أساس أنها مجرد حكاية وأسطورة يضيف إليها من عنده أكاذيب وخرافات وسخرية بالرب تعالى، فيقول:

(. . . وانطلق الرفرف، صار يعلو

وحطني في حضرة الإله - ما رأيته

لم تره عين، وما سمعته

لم تسمعه إذن

نوديت لا تخف

خطوت خطوة كأنني خطوت ألف عام

أحسست حول كتفي

يدًا، ولم تكن محسوسة

فأورثت قلبي كل علم)

(1)

.

ويقول:

(وللكلام شجر، وللخطى حنين

واللَّه في البيوت

يموج كالبحيرة)

(2)

.

(1)

ديوان أدونيس 2/ 139 - 140.

(2)

المصدر نفسه 2/ 163.

ص: 256

وفي افتخار بنفسه وتعالٍ باسمه يكتب تحت عنوان "قادر أن أغير: لغم الحضارة - هذا هو اسمي":

(الأمة استراحت

في عسل الرباب والمحراب

حصنها الخالق مثل خندق

وسدّه

لا أحد يعرف أين الباب

لا أحد يسأل أين الباب)

(1)

.

فالأمة عنده متخلفة عاطلة بسبب المحراب والصلاة والعبادة؛ ولأن الخالق اللَّه سبحانه وتعالى حصنها أي وضع في طريقها الأغلال والحواجز والسدود حتى أصبحت الأمة لا تعرف المخرج من الفوضى والتخلف.

هكذا وبأوسع أبواب التهكم والسخرية باللَّه تعالى ودينه وشرعه يجترئ هذا الباطنيّ على أغلى وأعلى مقدسات المسلمين.

وفي موضع آخر يقرن بين اللَّه تعالى والملحد الشيوعيّ "ماو

(2)

" في صورة تهكم واضحة، فيقول: (الفانتوم لدايان، والنفط يجري إلى مستقره،

(1)

ديوان أدونيس 2/ 273.

(2)

ماوتسي تونغ الزعيم الشيوعيّ الصينيّ، ولد سنة 1310 هـ/ 1893 م، وهلك سنة 1396 هـ/ 1976 م، تأثر سنة 1920 م بكتاب البيان الشيوعيّ لماركس واعتنق الشيوعية وبعد عام أصبح أمينًا للمؤتمر الأول للحزب الشيوعيّ الصينيّ وتحرك للثورة على كاي شك، وبدأ يؤلف على خلاف النظرة الماركسية التقليدية في صراع الطبقات، وتولى زعامة الحزب 1354 هـ/ 1935 م، وأصبح في 1368 هـ/ 1949 م رئيسًا للحكومة الشيوعية في الصين بعد حرب مع كاي شك، وأعلن رفضه للماركسية السوفيتية وشقَّ الحركة الشيوعية في العالم، وألف الكتاب الأحمر الذي أصبح كتابًا مقدسًا للشيوعيين في الصين وغيرها، ولما توفي انحسر نفوذ مذهبه وأخذت زوجته إلى السجن وأذلت بتهمة التآمر على أمن الدولة. انظر: موسوعة السياسية 5/ 698 - 207.

ص: 257

صدق اللَّه ولم يخطئ ماو)

(1)

.

وتتكرر منه هذه الصور التهكمية والكذب على اللَّه تعالى وعلى ملائكته عليهم السلام، وينضح قوله بأبشع أنواع الاستخفاف، وذلك في قوله:

(كثيرًا حبس الخالق الشمس والقمر تأديبًا

كان حين يتوبان

ويستأذنان بالشروق

يأتي إليهما ملاك يأخذ بآذانهما ويطلعهما

من باب التوبة

كان الخالق حين يخرج أنثى إلى الأرض

يبعث إليها ملاكين

يضع الأول يده بين ثدييها

يضع الثاني يده في مكان آخر

(2)

حين يتعب المكان

يحملانها إلى ظل تحت شجرة المحنة

أمر الخالق ما يسمونه الوطن أن يجلس على

كرسي من الزجاج بهيئة السرطان وحوله تماثيل)

(3)

.

ولا يتوانى أدونيس أن يكرر هذه الألفاظ والمعاني الساقطة في كثير من كلامه النثريّ والنقديّ والشعريّ، وفيه اجتراء صريح وسخرية واضحة باللَّه تعالى، وبالوحي المعصوم، وبالملائكة الأبرار، ثم يقال هذا هو الإبداع،

(1)

ديوان أدونيس 2/ 295.

(2)

يقصد الفرج.

(3)

ديوان أدونيس 2/ 207 - 208.

ص: 258

وهذه هي الحداثة، ومن خالفها فهو المتخلف، ومن عارضها فهو رجعيّ متجمد.

ثم يأتي بعد ذلك مغرور جاهل يدافع عن هؤلاء وأضرابهم ويزعم أنهم مجرد أدباء يسعون لتحديث أساليب وأشكال الأدب، وأنه يُمكن الجمع بينهم وبين أهل الإسلام، بل بعضهم يرى أنه يُمكن الجمع بين عقائدهم الحداثية والإسلام، على طريقة الذين يقولون:{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}

(1)

.

رغم أن الحداثيين بسائر دركاتهم يجمعون على عدة أمور هي عندهم بمثابة الأساس لمنطلقهم الفكريّ والعقديّ، منها على سبيل المثال النقد الجذريّ للدين والأخلاق، فمنهم من يدعو إلى النقد الهدام صراحة ومنهم من يلبس مراده بعبارات خادعة موهمة على طريقة دعاة الباطنية القدماء؛ لأنه لو صرح في بيئته أو مجتمعه لرفض وحورب.

أمّا من كان في مجتمع أو بيئة قابلة للتصريح، فإنه لا يتردد في ذلك، فها هو أدونيس يصول ويجول بأقواله الكفرية دون أدنى رقيب، ويسخر ويستهزئ، ويهدم ويسعى لتدنيس كل مقدس عند المسلمين كما في الأقوال السابقة ذكرها، وكما في كتابه الثابت والمتحول حين يتحدث عن نيتشه وجبران بإعجاب ومحبة فيقول: (كل نقد جذريّ للدين والفلسفة والأخلاق يتضمن العدمية ويؤدي إليها، وهذا ما عبر عنه نيتشه بعبارة "موت اللَّه"، وقد رأينا أن جبران قتل اللَّه هو كذلك -على طريقته- حين قتل النظرة الدينية التقليدية إليه، وحين دعا ابتكار قيم تتجاوز الملاك والشيطان أو الخير والشر، والواقع أننا بعد أن ننتهي من قراءة المجنون نشعر أن ثمة تاريخ من القيم ينتهي.

ومن الواضح أن جبران لا يحلل تحليلًا فلسفيًا أو علميًا القيم التي يهدمها، وإنّما يعرضها بشكل يجعلها مشبوهة، فمتهمة، فمرفوضة، إنه

(1)

الآية 62 من سورة النساء.

ص: 259

يحاول بتعبير آخر، أن يظهر خطأ التفسيرات التي تقدمها الأديان والأخلاق التقليدية للعالم والإنسان فيما يدعو إلى محو المذهبية القيمية، ويؤكد على فاعلية الحياة والإنسان الذي يبتكر القيم الجديدة، الأخلاق التقليدية هي التي تعيش الخوف من اللَّه، وتنبع من هذا الخوف، الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيش موت اللَّه)

(1)

.

سبحان اللَّه وتعالى عما يصفون.

وفي هذا النص الخبيث عدة أمور:

أولًا: أن الهدم أصل حداثيّ، منه ينطلقون وعلى محاوره يتحركون.

ثانيًا: أن أول شيء يريدون هدمه هو الإيمان باللَّه تعالى؛ لينطلقوا بعد ذلك إلى هدم الدين كله والخلق والقيم والنظم التي قامت على هذا الدين.

ثالثًا: أن من أساليبهم عرض عدميتهم وإلحادياتهم المبتدئة بهدم الإيمان باللَّه؛ عرضها بشكل تدريجي وخطوات شيطانية، "بشكل يجعلها مشبوهة فمتهمة فمرفوضة" كما قال أدونيس في النص السابق.

ومن الواضح جدًا لمن تتبع أمر الحداثة العربية أنها تسلك هذا المسلك وتختط هذا المنهج وتسير عليه، ومن هنا أشكل أمرها على بعض الناس؛ لجهلهم؛ ولقوة تلبيس أبالسة الحداثة عليهم.

رابعًا: أن الأخلاق والقيم الفكرية والسلوكية التي يدعو إليها الحداثيون تبتدئ بجحد وجود اللَّه وربوبيته وألوهيته، ثم بجحد كل ما ينبني على ذلك من شرائع وشعائر وأخلاق ونظم، كما قال أدونيس: (الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيش موت اللَّه، وتنيع من ولادة إله جديد، إنه إذن يهدم الأخلاق التي تضعف الإنسان وتستعبده ويبشر بالأخلاق التي تنميه وتحرره، إنه يهدم الأخلاق السلبية التي تقبل الراهن الموروث من القيم، ويبشر بالأخلاق الإيجابية الفعالة التي تخلق هي نفسها القيم، إنه يريد بالتالي

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 178.

ص: 260

أن يحل محل الفكر المأخوذ بأخلاق المستقبل محل الفكر المأخوذ بأخلاق الماضي؛ ولهذا فإن كتاب المجنون دعوة لقلب نظام القيم)

(1)

.

وهذا الهيام الفوضويّ الذي يشيد به أدونيس ويدعو إليه هو أحد منطلقات التدمير الحداثيّ.

ومن وسائلهم في ذلك السخرية باللَّه تعالى والاستخفاف بربوبيته وألوهيته -جلّ وعلا-، ولذلك من المعتاد عندهم أن تجد في كلامهم مثلًا:(. . . كل ما في الدنيا مجانيّ لا ثمن لشيء؛ لأن الرب مجاني. . .)

(2)

.

وتجد:

(باسمك تلك المومس

ترقص بقناع الرب

باسمك يتدحرج

رأس الرب)

(3)

.

وتجد أحدهم يقول: (مأساتك السوداء كانت منذ قال اللَّه فليكن الوجود وكان، ثم بدا له أن يصنع الشمس اللعينة والحياة)

(4)

.

والآخر يقول:

(لماذا خلقني؟

وهل كنت أوقظه بسبابتي كي يخلقني)

(5)

.

(1)

المصدر السابق: 3/ 178 - 179.

(2)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م/ 1411 هـ. من حوار مع أنطون مقدسي: ص 21 أجراه سعد اللَّه ونوس.

(3)

معين بسيسو الأعمال الشعرية الكاملة: ص 251.

(4)

سميح القاسم في ديوانه: ص 306.

(5)

محمد الماغوط في الآثار الكاملة: ص 218.

ص: 261

والآخر يسأل بتهكم: (توقفت أمام اصطبل الحيوانات، اتهجت إلى ركن وجلست مسندًا يدي على ركبتي متقرفصًا، دخنت واحدة وحلمت قليلًا، هل تعمد اللَّه أن يخلق هذا العالم على هذا الشكل من الفوضى والتنوع؟ رائحة الحيوانات كريهة. . .)

(1)

.

وحتى عند السياق الجدليّ السوفسطائي تجد التهكم الهابط في مثل قول علاء حامد: (إذا كان لا يوجد خلاف حول وجود قانون يحكم الكون بدقة شديدة، وأن خلف هذا القانون إرادة منظمة امتزجت به حيث يُمكن القول أن القانون هو اللَّه. . . واللَّه هو القانون. . . يُمكن القول إنه تعبير لمضمون واحد سمه ما شئت: اللَّه. . القانون. . الوجود. . فهي كلها أسماء بشرية لا دخل للإله فيها لكنها تعبر عن فكرة جوهرية)

(2)

.

وفي السياقات الروائية والقصصية تقرأ أنواعًا من التهكم والسخرية والاستخفاف باللَّه -جلَّ وعلا- وربوبيته والتشكيك في ذلك:

فمثلًا في رواية سقوط الإمام تقول نوال السعداوي

(3)

: (. . . الصف وراء الصف متعرج كجيش نمل بلا ملكة وعيونهم تدور باحثة في الكون عن الرب، أين أنت يارب؟)

(4)

.

(. . . وإذا سأله المدرس سؤالًا تلفت حوله متحيرًا وبدأ بتهتهة، وحين يضحك التلاميذ يقول: لو كانت هناك عدالة في الكون لما

(1)

محمد شكري في الخبز الحافي: ص 111.

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 128 ونحوه في ص 126، 157، 160، 163.

(3)

نوال السعداويّ، دكتورة، وكاتبة في شؤون المرأة العربية من وجهة نظر علمانية إباحية، تعارض الإسلام صراحة، وتنادي بمناقضته جهرة، وتتبنى معاداته بحقد ظاهر، وتسعى لفرض النموذج الغربي الإباحي في المجتمع والمرأة خاصة، خرجت في مظاهرة في أمريكا تضم أكثر من 300 ألف شاذ يطالبون بمزيد من الحرية للشواذ، ودافعت في مؤلفاتها عن الشذوذ الجنسيّ، والبغاء الجماعيّ، ملبسة ذلك كله بلبوس علمي كاذب. انظر: العقلانية هداية أم غواية: ص 58، 99 - 100.

(4)

سقوط الإمام: ص 68.

ص: 262

خلقني اللَّه، اتهته وجميعهم لا يتهتهون، وهمس في أذني بصوت خافت: اللَّه غير موجود لأن العدالة غير موجودة، وهمست في أذنه بدوري: لو كان اللَّه موجودًا لما كان الوفاء يقابله الخيانة والخيانة يقابلها الوفاء، وكنت يا أمي تلميذًا في التاسعة من عمري وهو زميلي وربط بيني وبينه الإيمان العميق بعدم وجود اللَّه، وظلت قدرتي على الإيمان باللَّه مرتبطة بقدرتك على خيانة أبي. . .)

(1)

.

وفي رواية مدن الملح أشياء من هذا القبيل، ومن أمثلة ذلك قوله:(. . . يا رب يا صاحب الخيمة الزرقاء أنت العالي وتعرف بالقلوب احرس الوادي وجنبه البلاء)

(2)

.

وقوله: (آكوب أقوى من ربهم)

(3)

.

وقوله: (أخطر شيء في هذه الحياة بعد اللَّه والمال هو السروال، إذا كانت دكته قاسية أتعب، وإذا ارتخت دكته أشقى وأتعب)

(4)

.

وفي رواية ألف وعام من الحنين قول من أشنع الأقوال -أستغفر اللَّه من إيراده- يقول الملحد: (المنامة. . . بلدة تعودوا أن يقولوا عنها بأن اللَّه تبرزها في يوم من أيام الغضب)

(5)

.

ويقول: (. . . ينبغي أن تكون راضيًا في تقليد اللَّه فهو كذلك وحيد لكنه على ما يرام وأنت تعلم أنه لا شقيق له ولا فيا لخرابنا)

(6)

.

ومن أمثلة الاستخفاف والسخرية باللَّه تعالى: جعل اللَّه تعالى في صفة امرأة كما قال يوسف الخال: (ليس ضروريًا أن يصف الشاعر امرأة يحبها،

(1)

المصدر السابق: ص 75.

(2)

مدن الملح 1/ 59.

(3)

المصدر السابق 1/ 464.

(4)

المصدر السابق 5/ 95 وهناك أمثلة أخرى في هذه الرواية منها 3/ 267، 5/ 62، 5/ 296.

(5)

رشيد بوجدرة ألف وعام من الحنين: ص 11 - 12.

(6)

المصدر السابق: ص 38.

ص: 263

أن يصف عينيها وصدرها وجسدها، العيون الخضر والقامة البيلسان وما إلى ذلك. . من وحي هذه المرأة قد يكتب قصيدة عن اللَّه)

(1)

.

ومن أمثلة السخرية والتدنيس والاستخفاف قول السياب:

(وأبصر اللَّه على هيئة نخلة كتاج نخلة يبيض

في الظلام

أحسه يقول: يا بني يا غلام

وهبتك الحياة والحنان والنجوم)

(2)

.

وقوله:

(هل أن جيكور كانت قبل جيكور في خاطر اللَّه.

في نبع من النور)

(3)

.

وقوله:

(لولاك ما كان وجه اللَّه من قدري)

(4)

.

وقول نازك الملائكة:

(وأضحك ضحكة رب كئيب تَمرد مخلوقه الكافر)

(5)

ويقول البياتي:

(فاسكبي روحك الحنون بروحي لأرى من صفائه وجه ربي)

(6)

وقول صلاح عبد الصبور:

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 301.

(2)

ديوان السياب: ص 147.

(3)

المصدر السابق: ص 188.

(4)

المصدر السابق: ص 190.

(5)

ديوان نازك 2/ 53.

(6)

ديوان البياتي 1/ 69.

ص: 264

(يا ربنا العظيم يا معذبي

يا ناسج الأحلام في العيون

يا زارع اليقين والظنون

يا مرسل الآلام والأفراح والشجون

اخترت لي

لشدما أوجعتني

ألم أخلص بعد

أم ترى نسيتني؟

الويل لي نسيتني نسيتني نسيتني)

(1)

.

ويقول عن لوركا

(2)

الشيوعيّ الأسبانيّ:

(. . . أمّا الكلمات الحلوة والممرورة

فقد انسابت جدول

يمضي حيث سقطت، وعض التراب فمك

حتى يغفى في حضن اللَّه الغاضب

يرجوه أن يعفو عن خفراءٍ بلداء

قتلوا آخر أبناء الرب)

(3)

.

ويصف الخال الرب -جلَّ وعلا- بأوصاف خبيثة فيقول:

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 208 - 209.

(2)

لوركا: شاعر وكاتب مسرحيّ أسبانيّ شيوعيّ قتل في أوائل الحرب الأهلية 1354 هـ/ 1936 م، امتدحه كتاب وشعراء الحداثة العربية ورددوا ذكره كثيرًا. انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1/ 592.

(3)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 230.

ص: 265

(وحين أموت خذوا جسدي

ولا تدفنوه

لئلا يقوم مع الفجر يومًا

ويكشف سر الإله

مع الشوق يحلو لنا الانتظار

وإن فرغت خمرة في الكؤوس

فها هو ذا الرب بين الحضور)

(1)

.

ويقول جبرا إبراهيم جبرا:

(واللَّه يهدر صوته بين الشجر)

(2)

.

ويقول:

(يا حمل اللَّه الحامل خطايا العالم ارحمنا)

(3)

ويقول توفيق صايغ:

(من جير دم لجوليا

الحوارية العذراء

عذرتها ألهتها

أهلت أمها أن تُمسي

حماةَ اللَّه)

(4)

.

ويقول:

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال ص 354.

(2)

المجموعة الشعرية الكاملة لجبرا: ص 129.

(3)

المصدر السابق: ص 139.

(4)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 305.

ص: 266

(الإله الصبيّ

كيف يُشيخُنا

يقلبنا زبانية؟

المكتنز الخدين كإليتين

كيف يحفر في خدودنا

وتحت عيوننا الجور؟)

(1)

.

ويقول:

(الهتي الحية اللاتموت

آسى، الهتي، لكِ)

(2)

.

ويقول أنسي الحاج:

(تقتل الكلمة جسد اللَّه بعد قتل اللَّه روحًا وجسدًا)

(3)

.

ويقول:

(العشق الأول الأقرب ما يكون إلى دهشة اللَّه الأولى بمن خلق)

(4)

.

ويقول:

(اللهو المجنون من صفات الألوهية، الفخان في لحظة الخلق فلذة إله)

(5)

.

ويقول:

(1)

المصدر السابق: ص 311 - 312.

(2)

المصدر السابق: ص 380.

(3)

خواتم: ص 19.

(4)

خواتم: ص 34.

(5)

المصدر السابق: ص 58.

ص: 267

(سوء التفاهم يرافق كل نفس، كل عمل؟

اللَّه خلق الإنسان وسرعان ما ندم وقال: ما هكذا كان المقصود أن يصير)

(1)

.

ويقول:

(حيث العلاقة هي مع اللَّه لا مع كائنات منحطة

وحين أتمرد على الخالق لا على عبيد متسلطين)

(2)

.

ويقول:

(تعكس البركة زرقة السماء أنقى مما يعكسها النهر

اللَّه في البركة مطمئن وفي النهر منزعج

الصمد يرتاح في جمود الحركة ويراقبها بعيون الغدران

والمستنقعات

هل يستطيع اللَّه أن يبطل إلهًا)

(3)

.

وكلامه من هذا الصنف كثير.

ويقول سعدي يوسف

(4)

في مقطع بعنوان "رفض":

(أنا في انتظار يديكَ يا ربًا يسير على الرمال

. . . وبقيت أنت. . .

(1)

المصدر السابق: ص 67.

(2)

المصدر السابق: ص 63.

(3)

المصدر السابق: ص 68.

(4)

سعدي يوسف، حداثيّ عراقيّ، ولد في البصرة عام 1352 هـ/ 1934 م، وانتمى للشيوعية وكتب عنها، ولما يصل إلى الثامنة عشرة من عمره، له دواوين عديدة جمعها في مجلد كبير بعنوان الأعمال الشعرية الكاملة، مليئة بالأفكار والعقائد الماركسية الإلحادية. انظر: تاريخ الشعر العربي الحديث: ص 733.

ص: 268

الهي الرملي مجهول الصفات

إلّا من الألم المقدس في انتظاري

وأنا أشق الرمل لكني أغوص

أحصي اللانهاية في النهاية

كنبيك الممنوع صلبًا عن طواطمهم

متألمًا حتى الشهادة)

(1)

.

ويقول مظفر النواب

(2)

(3)

:

(هل تاب النورس من ثقل جناحين المكسورين؟

وهل تاب الطين الفاغم في رفع امرأة خاطئة؟!.

فأتوب!

هل تاب الخالق من خمر الخلق

ومسح كفيه الخالقتين لكل الأوزار الحلوة في الأرض

فتلك ذنوب

تعال لبستان السر

أريك الرب على أصغر برعم ورد

(1)

ديوان سعدي يوسف: ص 517.

(2)

مظفر بن عبد المجيد النواب جاءت أسرته من الهند واستوطنت العراق، ولد في بغداد عام 1352 هـ/ 1934 م لأسرة شيعية، انتمى للماركسية وأصبح من غلاة الشيوعيين، وسبب له ذلك أنواعًا من السجن والتشريد حتى استقر أخيرًا في دمشق، وهو شاعر حداثيّ بذيء العبارة غارق في الجنس والخمر والشتائم السياسية، والسب للَّه ولدينه وللمؤمنين. انظر: مظفر النواب شاعر المعارضة السياسة: ص 9 - 12.

(3)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية قراءة في تجربته الشعرية لعبد القادر الحصيني وهاني الخير: ص 62.

ص: 269

يتضوع من قدميه الطيب

قدماه ملوثتان بشوق ركوب الخيل

وتاء التأنيث على خفيه تذوب)

(1)

.

ويقول:

(يا من رأى اللَّه شاحنة ليس تلوي)

(2)

.

ويقول:

(فالبلاد التي هو منها

سراب

تخاف الحقائق منه

فإن سكن الخلق

يأخذ عزلته بزوايا من اللَّه عابقة بالشراب

ويثمل باللَّه سبحانه

والبلاد التي درجات الكحول بها

لم تصلها الخمور

وبالوهم يسكرها بين حين وحين)

(3)

.

ويقول أمل دنقل:

(وانظر نحو عينيك

فترعشني طهارة حب

(1)

المصدر السابق: ص 63 وص 118 وص 119.

(2)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية قراءة في تجربته الشعرية لعبد القادر الحصيني وهاني الخير: ص 141.

(3)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 48.

ص: 270

وتغرقني اختلاجة هدب

وألمح -من خلال الموج- وجه الرب

يؤنبني

على نيران أنفاسي يقبلني. . .

. . . وأهرب نحو عينيك

يطالعني الندى واللَّه والغفران

وأسقط بين نهديك

لتحترق الرؤى

وأغرق فيهما بالنار والشك)

(1)

.

ويقول:

(شفتاي نبيذ معصور

صدري جنتك الموعودة

وذراعاي وساد الرب)

(2)

.

ويقول:

(من يفترس الحمل الجائع

غير الذئب الشبعان

ارتاح الرب الخالق في اليوم السابع

لكن. . لم يسترح الإنسان)

(3)

.

(1)

المصدر السابق: ص 80.

(2)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 148.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 493.

ص: 271

وأمّا نزار قباني فقد أغرق وأكثر من السخرية والاستخفاف باللَّه تعالى، وسوف أذكر ههنا بعض ذلك:

يقول عن محبوبته:

(إني أحبك من خلال كآبتي

وجهًا كوجه اللَّه ليس يطال)

(1)

.

ويقول:

(امرأة ناهية كالرب في السماء)

(2)

.

ويقول:

(أريد البحث عن وطن. . .

ورب لا يطاردني)

(3)

.

ويقول:

(ما دمت يا عصفورتي حبيبتي

إذن فإن اللَّه في السماء)

(4)

.

ويقول مخاطبًا محبوبته وأنه حين يحبها:

(يكون اللَّه سعيدًا في حجرته القمرية)

(5)

.

ويقول:

(اللَّه يفتش في خارطة الجنة عن لبنان)

(6)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 523.

(2)

المصدر السابق 1/ 597.

(3)

المصدر السابق 1/ 737.

(4)

المصدر السابق 2/ 188.

(5)

و

(6)

المصدر السابق 2/ 323 و 3/ 587.

ص: 272

ويقول:

(طلبوا منا بأن ندخل في مدرسة القتل

ولكنا رفضنا

طلبوا أن نشطر الرب نصفين

ولكنا اختلجنا

إننا نؤمن باللَّه

لماذا جعلوا اللَّه هنا من غير معنى)

(1)

.

ويقول عن عشيقته:

(حين وزع اللَّه النساء على الرجال

وأعطاني إياك

شعرت. .

أنه انحاز بصورة مكشوفة إليّ

وخالف كل الكتب السماوية التي ألفها

فأعطاني النبيذ وأعطاهم الحنطة

ألبسني الحرير وألبسهم القطن

أهدى إلي الوردة

وأهداهم الغصن

حين عرفني اللَّه عليك

ذهب إلى بيته

فكرت أن أكتب له رسالة

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 351 و 3/ 617.

ص: 273

على ورق أزرق

وأضعها في مغلف أزرق

وأغسلها بالدمع الأزرق

أبدؤها بعبارة: يا صديقي

كنت أريد أن أشكره

لأنه اختارك لي. .

فاللَّه -كما قالوا لي-

لا يستلم إلّا رسائل الحب

ولا يجاوب إلّا عليها

حين استلمت مكافأتي

ورجعت أحملك على راحة يدي

كزهرة مانوليا

بست يد اللَّه.

ويبست القمر والكواكب

واحدًا. . واحدًا)

(1)

.

ويقول:

(لأنني أحبك

يحدث شيء غير عادي

في تقاليد السماء

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 404.

ص: 274

يصبح الملائكة أحرارًا في ممارسة الحب

ويتزوج اللَّه حبيبته)

(1)

.

ويقول محمود درويش:

(نامي فعين اللَّه نائمة عنا وأسراب الشحارير)

(2)

ويقول:

(هكذا الدنيا

وأنت الآن يا جلاد أقوى

وُلد اللَّهُ

وكان الشرطيّ)

(3)

.

ويقول:

(تتحرك الأحجار

هذا ساعدي متمايل كالرعب

ليس الرب من سكان هذا القفر)

(4)

.

ويقول:

(يومُكِ خارج الأيام والموتى

وخارج ذكريات اللَّه والفرح البديل)

(5)

.

ويقول معين بسيسو:

(1)

المصدر السابق 2/ 442.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 24.

(3)

المصدر السابق: ص 264، 266، 268.

(4)

المصدر السابق: ص 480.

(5)

المصدر السابق: ص 554.

ص: 275

(لم يبق سوى اللَّه.

يعدو كغزال أخضر تتبعه كل كلاب الصيد

ويتبعه الكذب على فرس شهباء

سنطارده، سنصيد لك اللَّه.

من باعوا الشاعر يا سيدتي

سيبيعون اللَّه)

(1)

.

ويقول:

(مولاتي:

تيمور على أبواب سمرقند، وتيمور هو اللَّه.

ملائكة اللَّه، شياطين اللَّه.

بطانته، عسكره، ماذا أفعل)

(2)

.

ويقول:

(وطرقت جميع الأبواب

أخفتني عاهرة

كان اللَّه معي

لكن اللَّه هناك يدلي بشهادته

في مركز بوليس

- فُتح المحضر. . .

- ما اسمك؟

(1)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 341.

(2)

المصدر السابق: ص 372.

ص: 276

- كم عمرك. . .؟

- ما عنوانك. . .؟

- مهنتك. . . وكانت مهنته اللَّه.

صبغوا بالحبر أصابعه

أخذوا بصمات اللَّه.

والتقطوا صورته

كان اللَّه معي

لكن اللَّه ورائي كان هو المخبر

آلة تسجيل قد غرست في قلبي

آلة تسجيل قد غرست في قلب اللَّه)

(1)

.

ويقول عن بيروت:

(أيتها المدينة السحابة الرصاصة الرغيف

. . . . . . .

ها أنت مثل اللَّه.

في يديه السلسلة

لا أنت سنبلة

لا أنت قنبلة)

(2)

.

ويقول سميح القاسم:

(واللَّه نحن نشاؤه بغرورنا

(1)

المصدر السابق: ص 440 - 441.

(2)

المصدر السابق: ص 336.

ص: 277

شيئًا له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا)

(1)

.

ويقول عن هروشيما:

(من أي أعماق البشر

يتفجر الموت الزؤام على البشر؟!

ولأي كهف ينزوي اللَّه المعفر بالغبار

وبالدخان وبالشرر؟)

(2)

.

ويقول:

(حين قيل: انقضى كل شيء

كانت المئذنة

شارب اللَّه تحت النعال الغريبة)

(3)

.

ويقول:

(الحزن ياسمين

في وطن العجائب السبعين

والفقر موسيقى

وقتل اللَّه في كمين

خبزٌ)

(4)

.

ويقول توفيق زياد وهو درزيّ فلسطينيّ وماركسيّ حداثيّ:

(وإلى الأشجار أو العمدان

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 318.

(2)

المصدر السابق: ص 324 - 325.

(3)

المصدر السابق: ص 417.

(4)

المصدر السابق: ص 654.

ص: 278

وإلى الريح وجه اللَّه العريان)

(1)

.

ويقول عبد العزيز المقالح في قصيدة بعنوان "البرجوازي":

(احذروه. . . إنه يبدو عطوفًا ورقيقًا

وهو قد يظهر أحيانًا لأيام رفيقًا

ويناجي اللَّه في صمت ويدعوه طليقًا

ثم لا يلبث كالشيطان -كفرًا- أن يفيقا

فيبيع اللَّه والإنسان والحب العميقا)

(2)

.

ويقول:

(يكاد النهار على أفقهم أن يموت

ويحتضر اللَّه والعقل خلف معابدهم

في البيوت)

(3)

.

ويقول:

(تحت جلدي تعيشين نبكي معًا ونصلي نجوع

ونعري، نجدف في اللَّه والشعب يضبطنا عسس الليل)

(4)

.

ويقول محمد الماغوط

(5)

:

(يا رب

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 513.

(2)

ديوان المقالح: ص 72.

(3)

المصدر السابق: ص 339.

(4)

المصدر السابق: ص 535.

(5)

محمد الماغوط، شاعر روائيّ حداثيّ من سورية، عمل في مجلة شعر وهي التي أظهرته واحتفت به، يكتب بالشعر المنثور، وله مجموعة شعرية ومؤلفات منها: سأخون وطني، ويعتبر من أبرز الثوار على الشعر العربيّ، وأول من أتى بقصيدة النثر، التي تبنتها بعد ذلك عصابة شعر وسارت على منوالها. انظر: مقدمة الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 7 - 13.

ص: 279

أيها القمر المنهوك القويّ

أيها الإله المسافر كنهد قديم

يقولون أنك في كل مكان

على عتبة المبغى، وفي صراخ الخيول

بين الأنهار الجميلة

وتحت ورق الصفصاف الحزين

كن معنا في هذه العيون المهشمة

والأصابع الجرباء

أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر)

(1)

.

ويقول:

(إنني أعد ملفًا ضخمًا

عن العذاب البشريّ

لأرفعه إلى اللَّه.

فور توقيعه بشفاه الجياع

وأهداب المنتظرين

ولكن يا أيها التعساء في كل مكان

جُلَّ ما أخشاه

أن يكون اللَّه أميًّا)

(2)

.

ويقول محمد الفيتوري:

(1)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 61.

(2)

المصدر السابق: ص 265.

ص: 280

(لا شيء لكي أكتب كلمة

فالكلمة في شفة اللَّه.

واللَّه على الأرض سجين)

(1)

.

ويقول أيضًا:

(عندما غسلتني المحبة

أبصرت في وجهها اللَّه.

حدقت في مقلتيه المفرغتين

من الشمس والحلم

حتى تساقط نصف القناع)

(2)

.

ويقول ممدوح عدوان في تهكم واضح:

(فسبحان من خلق الطاعة البشرية

سبحان من صنع العظم مثل العجين

مطيعًا لكل القوالب

صاغ الدموع بكل المقاييس

سبحان من جعل العنق صالحة للمشانق

والأمن منسجمًا مع عتم الجون

وأنشأ للكفر ناطحة للسحاب

وأنشأ أقبية في بلادي

وسبحانه

(1)

ديوان الفيتوري 1/ 378.

(2)

ديوان الفيتوري 2/ 145.

ص: 281

كيف أخفى معاجزه عن عيوني

فلم أتعجب

سوى خلقه للجمال

ورفع السماء بلا عمد

كن. . أكن. . لا تكن)

(1)

.

ويقول أيضًا:

(ويباغتني اللَّه في نعمة

تنتقي صفوة القوم

كيف أصدق أن لدى اللَّه نبع حنان

ولا يتطلع يومًا إلى قهرنا

ولا يرى البشر الساكنين زرائب

والآكلات بأثدائهن بلا شبع

حيث صنعة العهر أمان من الفقر

والموت جوعًا

وكيف تغافل كي لا يرى الآكلين النفايات

في مدن من مناسف

لا يسند القلب في ضعفه

تحت عبء الهموم

إلهي الذي قيل لي إنه صاغني مثله

كنت أرغب لو صغته شبهي

(1)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان جـ 2 لابد من التفاصيل: ص 77 - 78.

ص: 282

كنت أسكنته وطنًا

يتفنن كيف سيبكيه في كل يوم

يشكك في خلقه

ويطالبه أن يصفق للظلم. . .)

(1)

.

إلى أن يقول:

(فتبارك هذا الإله

الذي كان يرفض أن يتمرغ في عيشنا

لم يكن يتقن اللعب فوق المزابل

لم يعرف السير في قسوة الوعر

لم يعرف النوم جوعًا

ولم يعطنا ما يواجه هذا البلاء

ها هو اللَّه يأتي أخيرًا

على هيئة الطير

ينقر أرواحنا. . .)

(2)

.

إلى آخر هذا الكلام الخبيث المليء بالاستهزاء والسخرية باللَّه الخالق العظيم.

ويقول أحمد دحبور

(3)

:

(1)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان جـ 2 للخوف كل الزمان: ص 17 - 18.

(2)

المصدر نفسه: ص 17.

(3)

أحمد دحبور، شاعر حداثيّ، فلسطينيّ، ولد سنة 1365 هـ/ 1946 م، في حيفا، خرج إلى لبنان، ويستقر الآن في سورية، تتلمذ شعرًا في نشأته على يد موريس قبق الذي بغض إليه الشعر العربيّ وعلقه بالحداثة وعلمه كيف يكون حداثيًا، وبدأ بتقليد خليل حاوي واتهج بلقاء الفرنسيّ جان جينيه، ملأ شعره بمضامين الملة الحداثية. انظر: مقدمة ديوان أحمد دحبور: ص 16 - 26.

ص: 283

(على القناة علامة

ودم على الجولان

وأسأل: أين وجه اللَّه.

تأخذني كواكب سبعة وتعيدني مئة)

(1)

.

ويقول:

(أنشد راحة نفسي فأفتح المذياع:

"والتفت الساق بالساق

إلى ربك يومئذٍ المساق"

فليبارك الرب لهاثنا وآثامنا الضرورية

بمزيد من الظلام الضروريّ)

(2)

.

ويقول محمد علي شمس الدين

(3)

في ديوانه غيم لأحلام الملك المخلوع:

(احتفال بمجيء الليل

"فطم" احتفلت بمجيء الليل

أخذت زينة نهديها

وتعرت لتصير أشد نقاء من قلب اللَّه)

(4)

.

وكلامهم الخبيث النجس من هذا النوع كثير، أكثر من قدرتي على إحصائه، وأوسع من حيز هذا البحث، وفي الشواهد السالفة ما يدل بجلاء

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 347 - 348.

(2)

ديوان أحمد دحبور: ص 737.

(3)

محمد علي شمس الدين، شاعر حداثيّ، شيعيّ من جنوب لبنان.

(4)

غيم لأحلام الملك المخلوع: ص 31.

ص: 284

على مقاصد هؤلاء في تحطيم الدين ومحو آثاره من النفوس وتدنيس أجلِّ وأعظم شيء في عقيدة المسلمين.

وقد اتخذوا ذلك منهجًا وأساسًا من أسسهم، ومحورًا من أهم المحاور التي انبثقت منها حداثتهم وإبداعهم، وهذا ما يطلقون عليه أحيانًا تدنيس المقدس، وأحيانًا أخرى يسمونه نقل المقدس إلى الحقل الإنسانيّ، في شبكة من الإلحاد والكفر والشرك والباطنية والنصرانية والإباحية الخلقية والعلمانية الحكمية إلى آخر سوءات هذا الاتجاه.

ونقل المقدس إلى الحقل الإنساني عنوان عريض كبير أدخلوا تحته كل ألوان انحرافاتهم وكفرهم الصريحة والمبطنة (وهكذا تطلع الشعر والنص الإبداعيّ عامة إلى النهوض بالدور الفلسفيّ والفكريّ والاجتماعيّ وبالدينيّ أو الأسراريّ. . . وإذا كانت الحداثة حركة تصدعات وانزياحات معرفية قيمية؛ فإن واحدًا من أهم الانزياحات وأبلغها هو نقل حقل المقدس والأسراريّ من مجال العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش، وإذا كان جبران يشكل إنجازًا مهمًا على هذا المستوى من حيث إقامة المصالحة بين الغيبيّ والإنسانيّ عبر تداخل الدلالات، واستعارة اللغة المقدسة للزمنيّ، فإن ديوان أغاني مهيار الدمشقيّ قد شكل أول انقلاب بين العالمين ونقل المقدس إلى الحقل الإنسانيّ، ولابد من القول في هذا المجال أن ديوان "لن" لأنسي الحاج قد أسعهم في تجريح المقدس ورفع لواء العصيان البشريّ وإقامة لغة التجديف، غير أن مهيار يصوغ التجديف بلغة تبني الدينية الضدية، وترسم إله الدمار والتفكك، وتؤسس لانقلاب القيم ومواقع المقدس، هذا الانزياح علامة تاريخية كبرى. . .)

(1)

.

وفي هذا النص وفي الشواهد التي قبله من التوضيح والصراحة ما يكفي في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بانهماك الحداثيين في هذه اللغة الإلحادية،

(1)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م من مقال لخالدة سعيد: ص 84.

ص: 285

بل وإفحام الأتباع الذين يدافعون عن الحداثة ويقسمونها إلى أقسام يُمكن أخذ بعضها ورد البعض الآخر، إذ أن (النواة الأساسية "للحداثة"

(1)

التي أبقت عليها هي إسقاط القداسة عن كل شيء، لم يعد هناك شيء خالد قدسيّ أبديّ لا في عالم الفكر ولا في عالم المادة. . .)

(2)

.

هذا هو المراد الحقيقي، والمنهل الذي يردون عليه ويصدرون عنه، وهذه هي أهم معالم انحرافاتهم فيما يتعلق باللَّه تعالى وجودًا وربوبية.

• • •

(1)

كلمة توضيح ليست من النص المنقول.

(2)

مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 33 من مقال بعنوان مقاربة الحداثة لحنا عبود.

ص: 286

‌الفصل الثاني الانحرافات المتعَلِّقَة بالألُوهِيَّة

الألوهية: لفظ مشتق من الإله وهو المألوه الذي يَوْلَهُ إليه الخلق في حوائجهم ويضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم، والأَلَهُ والألوهة والألوهية هي العبادة

(1)

.

وكانت العرب في الجاهلية يدعون معبوداتهم من الأوثان والأصنام آلهة، ولفظ الجلالة "اللَّه" أصله إِلَاه على فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مألوه أي معبود

(2)

.

وتوحيد الألوهية هو: إفراد اللَّه بالعبادة والطاعة بأن لا يتخذ الإنسان مع اللَّه أحدًا يعبده ويخضع لحكمه وشرعه، فلا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له فهو المعبود الحق وما سواه باطل، وهو الذي يجب إفراده بالعبادة قولًا وفعلًا وقصدًا.

ويسمى هذا التوحيد: توحيد القصد والطلب، وتوحيد الإرادة، وتوحيد العبادة.

وهذا النوع من التوحيد هو الذي بعث اللَّه به الرسل، وأنزلت به الكتب مع أخويه توحيد الربوبية والأسماء والصفات، ولكن أعظم اهتمام

(1)

و

(2)

انظر: لسان العرب 13/ 468، 449.

ص: 287

الأنبياء كان بتوحيد الألوهية، ليخلص الناس عبادتهم وتوجههم للَّه تعالى، بحيث لا يصرفون شيئًا من ذلك لغير اللَّه، لأي أحد من المخلوقين مهما كانت منزلته، ولا يخضعون لأي شرع غير شرع اللَّه، ولا لأي حكم غير حكم اللَّه، فمن أخل بهذا التوحيد فهو كافر مشرك، وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، بل من أتى ناقضًا واحدًا من نواقض توحيد الألوهية فهو كافر وإن أتى بكل أنواع العبادة الأخرى.

وتوحيد اللَّه عز وجل وإفراده وحده بالعبادة قولًا وفعلًا وإرادة هو أعظم الأصول، وأوجب الفروض، وهو أول الأمر وآخره، ولم يبعث اللَّه الرسل إلّا للدعوة إليه كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}

(1)

، وقال -جلَّ وعلا-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}

(2)

.

وهذا التوحيد هو الذي من أجله خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}

(3)

وبسببه تباينوا فكان منهم أهل النجاة وهم المؤمنون الموحدون، وأهل الهلاك وهم الكافرون والمنافقون، وهو الذي سيسأل عنه الخلق يوم القيامة قبل غيره.

وهذا التوحيد هو معنى "لا إله إلّا اللَّه"، وأهله هم حزب اللَّه، وأهل رحمته ورضوانه وجنته، ومنكروه أو منتقصوه هم أعداء اللَّه وأهل غضبه ومقته، وهو محور الدين كله وأساس كل شيء فيه، فإن صح صح كل شيء وإن فسد فسد كل شيء

(4)

.

وأنواع التوحيد الأخرى يتضمنها توحيد الألوهية وليس العكس فقد يقر المكلف بتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية ولكنه لا يعبد اللَّه فهذا

(1)

الآية 25 من سورة الأنبياء.

(2)

الآية 36 من سورة النحل.

(3)

الآية 56 من سورة الذاريات.

(4)

انظر: طريق الهجرتين لابن القيم: ص 305.

ص: 288

ليس له في الإسلام نصيب، فإن توحيد العبد للَّه في ربوبيته لا يعني أنه يوحده في ألوهيته، فقد يقر بربوبية اللَّه وأنه الخالق المالك المتصرف، ولا يعبد اللَّه عز وجل

(1)

.

وأيضًا (فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزًا والعاجز لا يصلح أن يكون إلهًا، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)})

(2)

(3)

.

وكذلك توحيد اللَّه في أسمائه وصفاته لا يتضمن أنواع التوحيد الأخرى ولكن العبد الذي يفرد اللَّه بالعبادة لا يتصور أنه لا يؤمن به ربًا خالقًا مالكًا مدبرًا أو أنه لا يعتقد كماله في أسمائه وصفاته؛ لأن إخلاص العبادة لا يكون لغير الرب الخالق، ولا يكون لمن فيه نقص أو عيب

(4)

.

وعلى كل حال (فإن توحيد الإثبات

(5)

هو أعظم حجة على توحيد الطلب والقصد الذي هو توحيد الإلهية لتلازم التوحيدين، فإنه لا يكون إلهًا مستحقًا للعبادة إلّا من كان خالقًا رازقًا مالكًا متصرفًا مدبرًا لجميع الأمور حيًا قيومًا سميعًا بصيرًا عليمًا حكيمًا موصوفًا بكل كمال منزهًا عن كل نقص، غنيًا عما سواه مفتقرًا إليه كل ما عداه، فاعلًا مختارًا لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا تخفى عليه خافية، وهذه صفات اللَّه عز وجل لا تنبغي إلّا له ولا يشركه فيها غيره، فكذلك لا يستحق العبادة إلّا هو ولا تجوز لغيره، فحيث كان متفردًا بالخلق والإنشاء والبدء والإعادة لا يشركه في ذلك أحد وجب إفراده بالعبادة دون من سواه لا يشرك معه في عبادته أحد كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا

(1)

انظر: الإيمان للدكتور محمد نعيم ياسين: ص 15.

(2)

الآية 191 من سورة الأعراف.

(3)

شرح العقيدة الطحاوية: ص 28.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 28، والإيمان لمحمد نعيم ياسين: ص 15.

(5)

المراد به توحيد الربوبية والأسماء والصفات.

ص: 289

وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)})

(1)

(2)

.

هذا وإن توحيد الألوهية يشتمل على العبادة الكاملة الشاملة للَّه تعالى وهي التلقي من اللَّه تعالى في كل شأن من شؤون الحياة، وكما نتلقى من اللَّه تعالى أمور العبادات المحضة التي هي شعائر التعبد من صلاة وصيام وحج وزكاة، كذلك نتلقى منه أمور الشرائع والنظم التي تحكم أمور حياتنا:(. . . واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل قليل لا شك أنه عدم رضا بحكم اللَّه ورسوله، ونسبة حكم اللَّه ورسوله إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها، وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة، والأمر كبير وليس من الأمور الاجتهادية، وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة اللَّه وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون اللَّه هو المعبود وحده لاشريك له، وأن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلّا من أجل ذلك والقيام به فعلًا وتركًا وتحكيمًا عند التنازع)

(3)

.

هذه هي حقيقة العبادة وحقيقة توحيد الألوهية، وما غرق الناس في هذا الزمان في أعظم ولا أظهر من الشرك في هذا التوحيد بمعناه الشامل لأحكام الشعائر والشرائع، حتى لقد أضحى الشرك في الأحكام والنظم من أيسر وأسهل الأمور عند كثير من أبناء المسلمين ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه.

مع أن اللَّه تعالى عدّ التوجه إلى غيره في أمور الأحكام والشرائع شركًا

(1)

الآيتان 21، 22 من سورة البقرة.

(2)

معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 1/ 286. وانظر: مائتي سؤال وجواب في العقيدة، وتسمى أعلام السنة المنشورة: ص 19، وعلم التوحيد للدكتور عبد العزيز الربيعة: ص 84.

(3)

فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 12/ 251.

ص: 290

فقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}

(1)

.

وأكد سبحانه وتعالى أنه لا يصح إيمان الإنسان ولا يستقيم حتى يتحاكم إلى شريعة اللَّه المنزلة ويقبل بها دون تبرم أو صدود، فقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}

(2)

.

ولهذا كله يجب على المسلمين في هذا العصر الذي شاعت فيه أنواع الشرك الأكبر أن يجتهدوا في بيان هذا المعنى الذي سادت مساوئ الانحراف فيه في مجالات عدة من الحكم والنظم والفنون والثقافات وغيرها ليعيدوا الناس إلى عبادة اللَّه الواحد الأحد ويخلعوا عبادة وطاعة كل ما سواه.

هذا وبعد بيان هذه الحقيقة القرآنية والعاصمة الإيمانية لابد هنا من ذكر بعض نواقض هذا التوحيد مما له صلة بموضوع البحث، وهي نواقض للإسلام، فمن تلبس بواحد منها فليس له في الإسلام نصيب:

الأول: الشرك في عبادة اللَّه تعالى:

فمن توجه بالعبادة إلى غير اللَّه بالصلاة أو الصيام أو النسك أو الدعاء، أو قال بأن غير اللَّه معبودٌ له، فهو مشرك خارج عن الإسلام، قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}

(3)

(4)

.

الثاني: من نفى ألوهية اللَّه تعالى أو نفى بعض خصائص ألوهيته سبحانه وتعالى، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

(5)

.

قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ

(1)

الآية 21 من سورة الشورى.

(2)

الآية 65 من سورة النساء.

(3)

الآية 72 من سورة المائدة.

(4)

انظر: مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - القسم الأول: ص 385.

(5)

الآية 162 من سورة الأنعام.

ص: 291

بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}

(1)

، وقد أخبر اللَّه عن هذا الصنف المنكر المستكبر فقال -جَلَّ ذِكْرُهُ-:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}

(2)

.

الثالث: من نفى حق العبادة للَّه وحده دون سواه:

قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}

(3)

.

قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

(4)

.

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}

(5)

.

الرابع: من ألّه غير اللَّه أو وصف سوى اللَّه بالألوهية مقرًا بذلك قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}

(6)

، وقال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا

(1)

الآيات 33 - 35 من سورة الصافات.

(2)

الآيات 1 - 7 من سورة ص.

(3)

الآيتان 70 - 71 من سورة الأعراف.

(4)

سورة الكافرون.

(5)

الآية 60 من سورة غافر.

(6)

الآية 51 من سورة النحل.

ص: 292

بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}

(1)

.

الخامس: شرك الطاعة والاتباع:

وهو التوجه إلى غير اللَّه بالطاعة يأخذ منه ما يحل وما يحرم وما يجوز وما لا يجوز ما يبان وما لا يباح.

وهذا الضرب من الشرك هو الذي يعم وجه البسيطة اليوم، فبلاد الكفر حوت ألوان هذا الشرك وغيره، ففيها شكر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم والمنع والإباحة بغير ما أنزل اللَّه، واتخذ أهلها الأرباب والآلهة الباطلة من دون اللَّه، وفي بلاد المسلمين وقع من أهلها في هذا الضرب من الشرك كل من رضي بشريعة غير شريعة اللَّه، أو اتبع منهجًا غير منهج الإسلام، أو اتخذ طريقة في الحياة العامة أو في النظم والدساتير غير طريقة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}

(2)

، وقال سبحانه:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}

(3)

.

السادس: شرك الولاء والمحبة:

وهو قريب من سابقه، وذلك أن أن ولاء المسلم ومحبته يجب أن تكون للَّه ولرسوله ولشريعته وللمؤمنين، وإن من مقتضيات كلمة التوحيد أن يكون المسلم متوجهًا بالولاء محبة ونصرة للَّه ولما يحبه، ومن نواقض التوحيد أن يتوجه بالولاء والمحبة للكفار والمشركين والملاحدة، ولمناهجهم

(1)

الآيات 21 - 25 من سورة الأنبياء.

(2)

الآية 21 من سورة الشورى.

(3)

الآية 31 من سورة التوبة.

ص: 293

وأديانهم ومذاهبهم الضالة وأفكارهم الباطلة، ذلك بأن التوحيد وهو الأمر الجليل العظيم ليس مجرد كلمة تنطقها الألسن بل هو أمر شامل وقضية كلية وقاعدة عامة، ينضوي تحت هذه الكلمة كل عمل الإنسان وكل فكره وكل مشاعره.

ولا يتم التوحيد على حقيقته حتى تكون كل أعمال الإنسان وكل أفكاره ومشاعره متوافقة مع شهادة التوحيد، مستقيمة على منهاجها، متوجهة كلها إلى اللَّه وحده متلقية عن شريعته وحدها.

وقد تقع من الإنسان الزلة والهفوة والمعصية والخطأ العملي أو العلمي، وذلك له أحكامه الدنيوية والأخروية في دين الإسلام، أمّا أن يقام منهج للحياة في النظم أو في الفكر أو في السلوك أو في العلاقات على أسس مخالفة لأمر اللَّه أو مناقضة لشرع اللَّه، فذلك هو الشرك الذي لا يغفره اللَّه، ولو ظل الإنسان ينطق بكلمة التوحيد ليلًا ونهارًا.

ومن أدلة هذا النوع من الشرك قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}

(1)

.

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}

(2)

.

وقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}

(3)

.

السابع: من لم يكفر المشركين والملاحدة والنصارى واليهود

(1)

الآيات 55 - 57 من سورة المائدة.

(2)

الآية 51 من سورة المائدة.

(3)

الآية 22 من سورة المجادلة.

ص: 294

والشيوعيين والعلمانيين، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهذا كافر بلا ريب

(1)

، وأكفر منه من امتدح الكفر والإلحاد والشرك والنفاق وأهلها.

الثامن: من اعتقد أن غير هدي اللَّه ورسوله أكمل من هديهما، أو أن حكم غيرهما أحسن من حكمهما، كالذي يفضل حكم الطواغيت أو مناهج الكفر الاعتقادية أو السياسية أو الفكرية

(2)

.

التاسع: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر، ولو نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاهما

(3)

.

العاشر: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثواب اللَّه أو عقابه أو أخباره أو شريعته فقد كفر

(4)

، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}

(5)

.

الحادي عشر: مظاهرة المشركين والكافرين والملاحدة ومعاونتهم على المسلمين بالقول أو الفعل أو الامتداح أو الدفاع عنهم وتحسين باطلهم، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}

(6)

.

الثاني عشر: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن ما يعتقده أو يكتبه أو يعمله لا ينضوي تحت حكم الشريعة، وأنه حرٌ فيما يعتقد أو يعمل وليس لدين اللَّه عليه سلطة أو هيمنة،

(1)

انظر: مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - القسم الأول العقيدة: ص 385.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 386.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 386.

(4)

انظر: المصدر السابق ص: 386.

(5)

الآيتان 65، 66 من سورة التوبة.

(6)

الآية 51 من سورة المائدة.

ص: 295

أو أن معايير الحلال والحرام والحسن والقبح والصواب والخطأ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لا يخضع لها، ويسعه أن يخرج عليها في أقواله وأعماله فهذا كافر.

الثالث عشر: الإعراض عن دين اللَّه لا يتعلمه ولا يعمل به

(1)

، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}

(2)

.

هذه أظهر نواقض توحيد الألوهية، ولا فرق فيها بين الهازل والجاد، والآمن والخائف إلّا المكره، وكلها من أعظم الأمور خطرًا، وأكثرها وقوعًا

(3)

، وخاصة في المجال الذي يتطرق له هذا البحث وهو أدب وفكر الحداثة، فإن الناظر في كتب ومجلات "الحداثة" يجدها تنضح بهذه الأمور صراحة أو من خلف حجب العبارات الموهمة والرموز الغامضة.

فعندهم التوجه بالعبادة القلبية والعملية والفكرية لغير اللَّه، ولديهم الانتساب العباديّ لغير اللَّه صراحة، وهم في الوقت ذاته يتبجحون بنفي ألوهية اللَّه تعالى أو نفي بعض خصائص الألوهية، وينفون حق العبادة للَّه وحده دون سواه، ويؤلهون غير اللَّه، ويتوجهون لغيره بالطاعة والاتباع، ويأخذون من كل المناهج والشرائع والعقائد والنظم والأفكار إلّا الإسلام، فهم عنه معرضون وله محاربون ومنه نافرون.

ولاؤهم ومحبتهم للكفر وأهله وعقائده وضلالاته، وعداوتهم وبغضهم للإسلام وأهله وعقيدته وشريعته، يفاخرون بالكفر ويمتدحون الإلحاد، ويقررون أن غير هدي اللَّه ورسوله أهدى وأكمل، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، فكل ما له علاقة

(1)

انظر: مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - القسم الأول العقيدة: ص 387.

(2)

الآية 22 من سورة السجدة.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة 3/ 342.

ص: 296

بالإسلام وتاريخه فهو مبغوض مكروه عندهم يستهزئون باللَّه ورسوله وكتابه وشريعته وعقيدته صراحة بلا مواربة، يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل، ويظاهرون أهل الكفر والإلحاد ويمتدحون أديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم ويدافعون عنها، ويحسنون كل باطل وضلال، ويقبحون كل هدي وخير ورشاد، وإذا قيل لهم في ذلك قولًا واعظًا أو مجادلًا قالوا: الأدب والفن لا يخضعان لموازين الحلال والحرام، هذا عند من يقر علنًا بأن في الإسلام حلالًا وحرامًا، أمّا من ينفي الإسلام كله ويرفض أن يكون هناك حلال وحرام فلا ريب أنه في شطط من كفره وإلحاده أشد وأعتى من سابقه.

وإذا تكلموا عن الإسلام كتابًا وسنة وشريعة وعقيدة قالوا: التراث، ثم سووا بين الحق الصراح في الكتاب والسنة والباطل واللغو من الأشعار والأقوال، وتناولوا الجميع على أساس أنه موروث إنساني يقبل الأخذ والرد، فهم عن دين اللَّه معرضون وعن شريعته مستكبرون لا يتعلمون الدين ولا يعملون به، هذا حالهم وهذه صفتهم، وفيما يأتي من نصوص وأقوال مأخوذة من كتاباتهم ما يثبت هذه الدعوى، فأول وأخبث أنواع باطلهم فيما يتعلق بتوحيد الألوهية هو:

‌نفي ألوهية اللَّه تعالى مطلقًا، وهو المظهر الأول:

وهم يمارسون ذلك بالجحد والنكران الصريح، وحتى أنه أضحى من المألوف في كتابات زعمائهم وأئمتهم عبارات من أمثال "قتل الألوهية" أو "قتل اللَّه" -تعالى اللَّه وجلَّ عما يقولون علوًا كبيرًا-، وغير ذلك من العبارات المؤدية إلى هذا المعنى الخبيث، مثل قول نزار قباني:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا

على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمة

ص: 297

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(1)

.

وقول توفيق صايغ:

(قلبي بحر لم يعد يمشي عليه الألم

طارد الإلهَ من بعد، وإمّا قضى

احتوى جثمانه ثلاث ليال

قلبي قبر أفلت منه جثمان الإله)

(2)

.

وفي موضح آخر ينفي وجود الإله ويقرنه بالغبار رمز العدم والضياع فيقول:

(لففت العباءة حولي

تعكزت إلى القفر

إلى قمتي الجرداء

حيث الغبار ولا الإله

نجوٌ بقمتي الجرداء)

(3)

.

ويعبر البياتي عن جحد الألوهية وعقيدته القائلة بقتل الإله -جلّ اللَّه وتعالى- فيقول:

(رأيت الإله على المقصلة

رأيت الديوك على المزبلة)

(4)

.

أمّا أستاذ الضلال الحداثيّ أدونيس فله في هذا المجال الدنس أوسع باع، فها هو يقول تحت عنوان "الإله الميت":

(اليوم حرقت سراب السبت سراب الجمعة

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة 3/ 342.

(2)

المجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 409.

(3)

المصدر السابق ص 304.

(4)

ديوان البياتي 1/ 492.

ص: 298

اليوم طرحت قناع البيت

وبدلت إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعة

بإله ميت)

(1)

.

فالجمعة رمز المسلمين، والبيت قبلتهم، والحجر الأسود ركن البيت، واللَّه تعالى هو إله الأيام السبعة، كلها عنده محل تهكم وسخرية واستخفاف، ويحتم ذلك كله بلفظ "إله ميت"، والمعنى نفسه يكرره في موضع آخر فيقول:

(كان في أرضنا إله نسيناه مذ نأى

وحرقنا وراءه هيكل الشمع والنذور

نحن صغنا من القباب

صنمًا من تراب

ورجمناه بالحضور

بالطريق الذي كان أن يبدأ)

(2)

.

أي فجاجة إلحادية أصرح من هذه الأقوال؟، وأي جرأة على اللَّه تعالى أخبث من هذه الجراءة؟.

وهذا الطاغوت الحداثيّ الأكبر الذي تتبعه مناهج الحداثة العربية وتعده في قمة السلم الحداثيّ وفي منزلة من الاقتداء لا تضاهى، يخط بكلامه هذا وأمثاله معالم الحداثة العربية، ويترسم الأتباع خطواته في عمى، وإن لم يقل بعضهم مثلما يقوله سادن الحداثة هذا، إلّا أنه فتح أمامهم أبواب الاجتراء على اللَّه تعالى ودينه ورسوله في مثل قوله:(دم الآلهة طريٌ على ثيابي)

(3)

.

ويبحث عن أضرابه من المشككين والملاحدة ليتخذهم منطلقًا لإفكه وضلاله، ويمتدح الأفاك الأثيم النصرانيّ جبران خليل جبران ويستشهد

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 346.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 386.

(3)

المصدر السابق 1/ 406.

ص: 299

بقوله: (إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه وأجداده يظل عبد الأموات؛ حتى يصير من الأموات)

(1)

، ثم يضيف شارحًا:(وفي هذه المقطوعة يسمى اللَّه والأنبياء والفضيلة والآخرة ألفاظًا رتبتها الأجيال الغابرة وهي قائمة بقوة الاستمرار لا بقوة الحقيقة، شأن الزواج الذي هو عبودية الإنسان لقوة الاستمرار، والتمسك بهذه التقاليد موت والمتمسكون بها أموات، وعلى كل من يريد التحرر منها أن يتحول إلى حفار قبور، لكي يدفن أولًا هذه التقاليد، كمقدمة ضرورية للتحرر)

(2)

.

ولهذا القول دلالات عديدة منها:

1 -

أنه يتخذ جبران سلفًا له في إلحاده وضلاله، ويتخذ قوله رصيدًا لهذا التوجه.

2 -

أن القول الحداثيّ العام العائم الذي لا تظهر دلالاته أول وهلة يكون له عند الحداثيين دلالات أخرى، وشاهد ذلك النص السابق الذي أخذه أدونيس من كتاب المجنون لجبران ليقوم بعد ذلك بشرحه وتمرير عقيدته من خلال التواطؤ المعنويّ بين المعتقدين الفاسدين.

3 -

يصف أدونيس أسس عقيدة المسلمين "الإيمان باللَّه والنبوات والمعاد" بأنها مجرد ألفاظ قررتها الأجيال الماضية، وهي موجودة الآن بحكم الاستمرار وقوته، وليس بقوة الحقيقة.

وهذا القول إضافة إلى كونه إلحادًا صريحًا وكفرًا بواحًا، فهو أيضًا مجرد دعوى يخبط بها هذا المتردي في وجوه المنتكسين والمرتكسين والإمعات، فيعمي به أبصارهم وبصائرهم، ويقذف في قلوبهم الجرأة على ممارسة الإجرام والإفك الثقافيّ والاعتقاديّ.

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 187.

(2)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 187.

ص: 300

وفي هذه الدعوى المجردة أكبر دليل على أن الأفكار المنحرفة والعقائد الباطلة ما كان لها أن تعيش، وهي تحمل بذور فنائها فيها، لولا وجود قوة خادعة، وألفاظ موهمة وشعارات عاطفية، كما صنع هذا الباطنيّ حين خلص من دعواه الباطلة في جحد وجود اللَّه والأنبياء والآخرة ليقرر بعد ذلك بأن هذا هو سبيل التحرر، وكم جنت دعاوى التحرر وشعاراته على المسلمين حين رفعها حداثيّ مفتتن، وعلمانيّ مُستَرق، فما أفاد المسلمون منها إلّا تشكيكًا في دينهم وقدحًا في عقيدتهم، وتشويهًا لشريعتهم وسخرية بتاريخهم، وولاء لعدوهم، وعداوة لأمتهم.

إن المشيحين عن دين الحق والهدى والرشاد من رؤوس الكفر وأذنابه، لم يفقهوا هذا الدين ولم ينظروا إلى حقائقه نظرة إنصاف وبحث عن الحق، بل تجارت بهم أهواء الباطل كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يذر عرقًا ولا مفصلًا إلّا دخله، وهؤلاء استحوذت عليهم سنة تقليد الضعيف للقويّ، فانماعوا في الباطل وأشربوا حبه، حتى صارت معرفتهم به وتعمقهم فيه واستمساكهم به أشد وأقوى ما يكون الاستمساك، ثم يتطاولون على الإسلام وحقائقه القاطعة وبراهينه المؤكدة مع أن معرفتهم بالشبه والافتراءات المثارة حول الإسلام، أكثر من معرفتهم بحقائق الإسلام ذاته.

4 -

يسمي أدونيس الإيمان باللَّه وأنبيائه واليوم الآخر تقاليد، وهذا ملمح من ملامح الحداثة العربية، يمارسه بعض أتباعها، الذين لا يعلنون ما يعلنه أدونيس والبياتي وغالي شكري وأنسي الحاج وقباني من كفر وإلحاد، ولكنهم يتوجهون إلى هدم الدين بطريق ملتو ومسالك مريبة منها محاربة التقاليد البالية والتقاليد القديمة، ونحو ذلك من عبارات أمثال: الرمال الضريرة، والكهوف الميتة، والأعشاب اليابسة، والزمان الحرون، وما أشبه ذلك من رموز وألفاظ تحتها أفاعٍ وحيات.

فمحاربة التقاليد أساس حداثيّ، وفي النص الأدونيسيّ التفسير الجليّ لمرادهم بالتقاليد.

ص: 301

5 -

زعمه بأن التحرر لا يقوم إلّا على الإلحاد والكفر باللَّه تعالى وهو ما عبر عنه بقوله: (على كل من يريد التحرر منها أن يتحول إلى حفار قبور، لكي يدفن أولًا هذه التقاليد كمقدمة ضرورية لتحرره)

(1)

، وقد سبق أن قال بأن اللَّه والأنبياء والآخرة ليست إلّا تقاليد.

والزعم بأن التحرر لا يقوم إلا على الإلحاد، زعم كاذب وادعاء أجوف، فها هي أوروبا التي يتخذها قبلة له تغرق في نتائج انفلاتها من الدين، وتسقط في حمأة الانحرافات الخلقية والنفسية والاجتماعية إلى حد جعل بعض عقلائهم ينادي بالعودة إلى الدين والأخلاق ووضع ضوابط للحرية، وذلك بعد أن أذاقهم اللَّه لباس القلق النفسيّ والتوتر العصبيّ، حين أعرضوا عن الهدى، واستكانوا إلى الإلحاد والمادية، فكثر الظلم والعدوان وحقد القلوب وفساد الضمير والأنانية المفرطة، والإجرام المنظم والدعارة والشذوذ والربا والجشع، والتفكك الأسريّ والاجتماعيّ، والأمراض الجنسية والنفسية، وغير ذلك من نتائج هذا التحرر الإلحاديّ الذي ينادي به أدونيس وغيره من رواد الحداثة وأتباعها.

إن ربط التحرر بالإلحاد والكفر باللَّه تعالى هو أحد أهم المضامين الاعتقادية الحداثية، وسوف يأتي في ثنايا هذا المبحث إثبات ذلك، وقد سبق في الفصل الأول من هذا الباب ذكر شيء من ذلك.

ثم إن تحررهم المزعوم من عبادة اللَّه تعالى ومن الإقرار بألوهيته لم يخلصهم من العبودية لغيره، بل ارتكسوا في تأليه غير اللَّه وعبادة غير اللَّه من مناهج ونظم وعقائد وأفكار وأحزاب، وهذه الحقيقة مما اعترف به بعض الحداثيين حين قال:(. . . التخلص من الإله، في الفكر الماديّ، دفع إلى ابتداع إله آخر، هو الذات الثورية)

(2)

.

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 43 من مقال بعنوان "أسئلة عن الثقافة الطبقة والتشكيلات الاجتماعية" لعصام خفاجي.

(2)

ديوان الفيتوري 1/ 393.

ص: 302

إن سعيهم الحثيث في تحطيم معاني الألوهية وجحد حقائقها قابله في الوقت نفسه تأليه وعبودية للمخلوقين ونتاج المخلوقين، وخالطه بؤس وألم وضنك، كما اعترف بذلك محمد الفيتوريّ في مرحلته السابقة حين أغرق نفسه في ظلمات الحداثة والعلمانية العربية، يقول:

(احترقت ستائر الإله

حتى أنائي الأزليّ شاه

أنائي المقدس انحطم

بالفظاعة الألم)

(1)

.

وإحساس الفيتوريّ بالألم جراء هذا الاجتراء على اللَّه الإله الحق المبين، هو من بقايا الفطرة في نفسه ومن بقايا تربيته المنزلية ودراسته الشرعية، وهو في هذا على عكس أدونيس صاحب الجذور النصيرية والتربية النصرانية اليهودية والممارسة الشيوعية، وكذلك أشباهه مثل الخال وأنسي الحاج وجبرا الذين يجاهرون بالكفر، ويفتخرون به، ويمتدحون أهله، ويتلذذون بدعوتهم إليه وممارستهم له، كما قال أدونيس في وصفه لخطته ومنهجه وطرائق تفكيره ودعوته:

(أسير في الدرب التي توصل اللَّه.

إلى الستائر المسدلة

لعلني أقدر أن أبدله)

(2)

.

وما هو بقادر على تبديل ما حفظه اللَّه ولا تغيير ما وعد اللَّه ببقائه واستمراره (وكم صدوا عن سبيله صدًا، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟، واعترضوه بالألسنة ردًا، ولعمري من يرد على اللَّه القدر؟،. . . وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل، وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلّا ما قال اللَّه: {بَلْ نَقْذِفُ

(1)

و

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 105.

ص: 303

بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ})

(1)

(2)

.

والمتتبع لكتابات أدونيس وآرائه يتضح له أن هذا الرجل الباطنيّ وجد في الحداثة بغيته في الوصول إلى عقول وقلوب بعض أبناء المسلمين، من خلال شعارات التحديث والتجديد الأدبيّ واللغويّ والشعريّ والفنيّ والنقديّ وما أشبه ذلك من عناوين خادع بها أتباعه من بعده.

فهو لا يفتأ يمتدح نفسه ويشيد بخطواته، ويجعل من ذاته وأفكاره أساسًا لهدم الألوهية وتمزيق الإله -حسب تعبيره الكفريّ- فهو يقول:

(للإله الذي يتمزق

في خطواتي

أنا مهيار هذا الرجيم

أرفع الميتين ذبيحه

وأصلي صلاة الذئاب الجريحه)

(3)

.

ويقول أيضًا:

(. . . غير أنا غدًا نهز جذوع النخيل

وغدًا نغسل الإله الهزيل

بدم الصاعقة

ونمد الخيوط الرفيعة

بين أجفاننا والطريق)

(4)

.

غسيل الإله الهزيل عبارة واضحة للكفر وجحد الألوهية ودم الصاعقة

(1)

الآية 18 من سورة الأنبياء.

(2)

تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي 2/ 29 - 30.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 349.

(4)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 398.

ص: 304

رمز للحداثة والتغيير الثوريّ وهو "صدمة الحداثة" كما في أحد أجزاء تلمود الحداثة الثابت والمتحول.

وحين يتحدث عن الإسلام، ينفث سمه وصديد أفكاره، ويصدر أقبح الأوصاف باللَّه تعالى ودينه وكل الرموز العلمية والتاريخية المتعلقة بالإسلام، يقول أدونيس في "رحيل في مدائن الغزاليّ":

(قافلة كالناي، والنخيل

مراكب تغرق في بحيرة الأجفان

قافلة - مذنب طويل

من حجر الأحزان

آهاتها جرار

مملوءة باللَّه والرمال:

هذا هو الغزاليّ)

(1)

.

فهو يرمز للتخلف والرجعية بالناي والنخيل والغرق وبحيرة الأجفان والمذنب الطويل وحجر الأحزان والآهات والجرار والرمال، ويريد بها اللَّه تعالى ودينه ورسوله وورثة وحيه وهديه (. . . وأي بارقة أمل في شبيبة ترتاح لمجمل هذا الأدب أو بالأحرى لأخص خصائص قبحه. . .، إله يغرق في الرمال، كلمة كافرة مفلسة يؤنس شبيبتنا بها طائفيّ، ويراد منه أن يكون رائدًا وموجهًا ومعلمًا لأدبنا الحديث!!.

. . . هؤلاء صناع الحضارة وصائغوا قوانين العلم لم يدعوا أن الإله يغرق في الرمال، بل أقروا بإله حي قيوم محيط بكل شيء؛ لما بهرهم من عظمة الخلق ونظامه؛ ولأنهم رأوا بتلسكوباتهم ما لم يره ذلك الطائفيّ بعينه العوراء.

وهذا الطائفيّ الذي خرج من وراء الكواليس ليكون من قدر أمتنا

(1)

المصدر السابق 2/ 121.

ص: 305

الخائب

(1)

أن يكون هو وأضرابه من معالم الأدب الحديث: افترى على الحضارة ما ليس فيها وليس عنده بديل صحيح، إنه يتكلم بأسلوب البحث العلمي تارة، وبهيبة الأدب الحديث تارة عن ميتافيزيقيات طائفية هي منتهى الخرافة والتخلف والرجعية، يبشر بهذه الكهانة الوثنية بعد تعتيم شديد، ويصب اهتمامه على تحطيم الثوابت الحضارية في أمتنا، إن وثنيهم الكبير يصوغ قصيدة الغبار ليمزج شبيبتنا بالريح)

(2)

.

إنه لا يتردد أن يقول بكل وقاحة وجرأة:

(لم يبق نبي إلّا تصعلك لم يبق إله. . .

هاتوا فؤوسكم نحمل اللَّه كشيخ يموت

نفتح للشمس طريقآ غير المآذن، للطفل كتابًا غير الملائك

للحالم عينًا غير المدينة والكوفة هاتوا فؤوسكم)

(3)

.

أي دعاية للكفر والإلحاد أعظم من هذا الكلام؟ وأي مناقضة حاقدة للإسلام أشهر من هذه الكلمات الكافرة؟.

إنه تحدٍّ صارخ للإسلام عقيدة وشريعة وحضارة وتاريخًا وواقعًا، وتطاول من قزم طائفيّ موتور، ليس له هم إلّا تحطيم الثوابت وإزاحة الحقائق وتزييف البراهين، واقتناص الشبيبة الجاهلة وتلويثها فكرًا وعقيدة وشعورًا، وتسخيرها في مهاوي الجهالات، مستسلمة لهذا الطفيليّ الطائفيّ الحاقد وأشباهه، تنقل فكره وترفع ذكره وتدافع عنه، وتستجدي مكانة في ثقافة الصحف الهادمة من خلال ترديدها ومحاكاتها لأقواله وأفكاره، التي قام هو بأخذها عن أساتذته الملاحدة وشيوخه الباطنيين.

(1)

هذا قول يحتاج إلى تفصيل، فإن كان قصده بالقدر تقدير اللَّه تعالى فلا يصح هذا القول ولا يجوز، وإن كان قصده بالقدر المقدور فيصح وهذا مثل إطلاق الشر في القدر، فالقدر خيره وشره يراد به المقدور لفلان خيره وشره، انظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين 8/ 542.

(2)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري: ص 122 - 124.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 266.

ص: 306

إن إسقاط الألوهية والعبودية بعد جحد وجود اللَّه وربوبيته من أهم الأسس التي تمارسها الحداثة في سائر منطلقاتها وأعمالها على حد ما عبر به أدونيس في قوله:

(أنا المتوثن والهدم عبادتي)

(1)

.

وهدمه يبدأ حسب ما صرح بها مرارًا وتكرارًا بهدم الألوهية وتحطيم معاني العبودية لله تعالى وهو ما قرره في تلمود الحداثة الثابت والمتحول فقال: (لم يعد الإنسان عبدًا للَّه ولا خاضعًا له، أي: لم تعد علاقته به علاقة عبد بسيد. . . ولم تعد هذه العلاقة علاقة مخلوق بخالق. . .)

(2)

.

وحتى عند الذين قد لا يعدون من غلاة الاتجاه الحداثيّ، أو يشار إليهم بأنهم يمارسون حداثة متعقلة متزنة أو غير ملحدة ونحو ذلك من عبارات التوفيق والتلفيق.

حتى عند هؤلاء نجد النفس الإلحاديّ والتأصيل الشكيّ الهدميّ في مواجهة الدين وأصوله وقواعده، ولنأخذ على ذلك مثالًا بإحسان عباس

(3)

الباحث والناقد المعروف صاحب الباع الطويل في التصنيف الأدبيّ الحداثيّ، خاصة في حقل الهوية الفنية للنص والدراسات النقدية التطبيقية من حيث المضمون الفنيّ والفكريّ، وخاصة في كتابه اتجاهات الشعر العربيّ المعاصر، وهو الذي سوف نورد منه النص المقصود.

ذلك أنه بعد أن تحدث عن مفهوم التطور والتحول في الشعر الحديث

(1)

المصدر السابق 2/ 642.

(2)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 173.

(3)

إحسان عباس ولد في فلسطين عام 1338 هـ/ 1920 م، تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة ثم منها حصل على الماجستير والدكتوراه عام 1373 هـ/ 1954 في الأدب العربيّ، عمل أستاذًا للأدب العربيّ في الجامعة الأميركية في بيروت 1381 - 1406 هـ/ 1961 - 1986 م، ثم أستاذًا في جامعة برنستون، له العديد من الدراسات والبحوث والكتب النقدية من منطلق حداثيّ بحت، وفي هذا البحث نقولات عديدة عنه تكشف موقفه الفكريّ والاعتقاديّ. انظر: غلاف كتابه اتجاهات الشعر العربيّ المعاصر، والصراع بين القديم والجديد 2/ 1259.

ص: 307

باعتباره قانونًا لا فكاك منه، شرح المراد فقال:(. . . وأصبح التطور لا يعني انتقال سمات مذهب شعريّ -في حقبة ما- إلى سمات مذهب آخر، في حقبة أخرى، بل أصبح حركة متسارعة بعدد الأفراد الذين يقولون الشعر، وبذلك قضى على فكرة الخلود الكلاسيكية، وأصبح التميز -في الدائرة الشعرية- مرحليًا، وصحب هذا كله إيمان بأن كل قيمة ثابتة -أيًا كان منبتها ومهما تكن مدة ثباته- فهي تشير إلى الركود أو التخلف والجمود، سواء أكانت تلك القيم تتصل بالدين أو بنمط حياة أو طريقة تفكير، وكان هذا الوجه من النظر يصيب أكثر ما يصيب مؤسسة قائمة على ثوابت ضرورية مثل الدين -وخاصة الدين الإسلاميّ في صورته السنية- من حيث أنه صورة كبيرة من صور التراث، والحق أن الإنسان الحديث حين يعتقد أنه يعيش في كون قد غابت عنه الألوهية، فإنه لابد أن يعيد النظر في كثير من القيم التي كانت تتصل بالنواحي الغيبية، ولكن الإسلام ليس قاصرًا على هذا الجانب، وإنّما هو أيضًا نظام حياة وأسلوب تنظيم، وبما أن التنظيم يعني ثبات قيم معينة، فإن الثورة على التراث كانت تتناول هذا الجانب منه أيضًا. . .)

(1)

.

وهذا النص يحتوي عدة قضايا:

الأولى: أن التطور -أصل الأصول الحداثية- لا يعني التجديد الفنيّ، بل القضاء على فكرة الثبات والأصول والقواعد والضوابط الاعتقادية والفكرية والخلقية.

الثانية: أن أول قضية يتصدى لها "مبدأ التطور الحداثيّ" هي قضية الدين، وتصديه لها بطريقة الزحزحة والإزاحة والإذابة والإبعاد.

الثالثة: أن الدين المقصود والمستهدف من هذه الخطة الإبليسية الحداثية هو دين الإسلام، وعقيدة أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص.

(1)

اتجاهات الشعر العربيّ المعاصر لإحسان عباس: ص 113.

ص: 308

الرابعة: أن المراد بالتراث عند حديثهم عن مواجهة التراث وهدم التراث ومحاكمة التراث وإزاحة التراث هو الدين الإسلاميّ.

الخامسة: اعتقاد الحداثيين أن الإنسان الحديث يعيش في كون غابت عنه الألوهية، وهذا هو مربط مقاصدهم في مصطلحات التطور وعدم الثبات والتجديد في مقابل الجمود والتراث.

ولعاقل أن يسأل: أي إنسان تريدون؟ إن كان الإنسان الغربيّ حيث القبلة التي وجهتهم لها وجوهكم، فليس هو المعيار لإثبات هذه الدعوى التي تتذرعون بها لجحد الدين ونسف علاقة الإنسان به وإن كان الإنسان المراد هو الإنسان العربيّ حيث الكلام عن حداثة عربية فلاريب أن العربي مهما بلغ تفريطه العصيانيّ ما زال يؤمن باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، ولايستثنى من ذلك إلّا المرتدون من أبناء المسلمين من شيوعيين وعلمانيين وحداثيين وباطنيين وأضرابهم، أمّا أصحاب الكفر الأصليّ من نصارى ويهود العرب فهذا هو مضمارهم.

السادسة: أن جحد الألوهية والزعم بغيابها عن واقع الإنسان -والمراد الألوهية التوحدية حسب العقيدة الإسلامية- لا يقتصر عند مجرد الجحد النظريّ بل يمتد إلى كل مقتضيات الألوهية، إلى الإسلام نظام حياة وأسلوب تنظيم؟ لأن النظام ثبات، والإسلام ثبات، ولابد من تقويض الثابت والمؤسس والمنظم والمؤصل، كيما تسود الحداثة الهادمة الفوضوية التخريبية.

السابعة: أن هذا النص وإن كان وصفًا تحليليًا لواقع الحداثة إلّا أنه إقرار ضمنيّ من صاحبه بسلامة وصحة هذا المنحى الإلحاديّ الذي وصفه وشرحه، وهو في أحسن الأحوال يصف وكأن الأمر -أمر الألوهية والدين الإسلاميّ- لا يعنيه من قريب أو بعيد.

ولما كانت الحداثة بهذه المثابة من التصور والاعتقاد، وجدنا أن كتابها ومنظريها ودعاتها وأتباعها يحومون حول هذه المعاني سعيًا لقطع الصلة بالإسلام أولًا؟ لكونه يشكل القوة الفاعلة المناقضة لاعتقاداتهم الباطلة؟

ص: 309

ولكونه عالج مشكلات الانحراف الاعتقاديّ والعمليّ منذ أول وهلة في صراعه مع الكفر والشرك والإلحاد والوثنية، وكشف عوار هذه الانحرافات التي أوبقت الإنسان وردته في أسفل سافلين، ولكون الإسلام يحتوي على القوة البرهانية الدامغة، ويتحدى بقوة حقيقية كل ألوان وأشكال الزيف والردة والانحطاط.

فصراع الحداثة مع الإسلام ليس إلّا امتدادًا للصراع القديم بين الإسلام والكفر والإيمان والجاهلية، وحزب الرحمن وحزب الشيطان، والذي يتصور الصراع على غير هذا الوجه وبغير هذه المثابة واهم أو جاهل أو مغرض، لايعرف الحقيقة على وجهها، أو يعرفها ويتجاهلها.

وأكبر دليل على ذلك أنك تجد أشد شيعة الحداثة عتوًا، ركزوا جهدهم منذ البداية على نسف الحقائق الأولية لدين الإسلام، الربوبية والألوهية على وجه الخصوص، ثم النبوة والوحي والغيبيات، فها هو أحدهم يتحدث بطريقة تقريرية خطابية قائلًا:(ما عاد الإنجاز يقاس بالانسجام مع مفاهيم غيبية بل مع عمل يتجه صوب أهداف موضوعية عقلانيًا، وفي إيجاز فإن السلوك بدأ يقاس في ضوء قيم جديدة. . . فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون سواها، مستبدلًا بفكرة الألوهية فكرة البشرية كما فعل كونت)

(1)

.

وهكذا بكل ادعائية يقرر أن السلوك الإنسانيّ بدأ يقاس في ضوء قيم جديدة هي القيم المادية الإلحادية بعيدًا عن الغيبيات وبعيدًا عن الألوهية التي ذهبت -على حد زعم الكاتب- وجاء بديلًا عنها فكرة تأليه الإنسان؛ لأن الإنسانية خالدة!!.

إنه التبشير المنحط بعقيدة دنيئة أنتجتها الصليبية والصهيونية والماسونية والعلمانية، لإسقاط شباب الأمة في مطحنة الضياع والتيه، وتذرية الأمة

(1)

المثقفون العرب والغرب لهشام شرابي نقلًا عن قضايا وشهادات 2/ 18 من مقال لسعد اللَّه ونوس بعنوان "بين الحداثة والتحديث".

ص: 310

بكاملها في أعاصير التخلف الوثنيّ، وذلك بنزع يقينها بدينها وزعزعة إيمانها بخالقها وإلاهها.

وفي هذا المضمار الإلحاديّ الكفريّ تتحدث إحدى الكاتبات عن المضمون ذاته فتقول: (أصبح الإنسان مع نزع هالة التقديس والألوهية عن الكون ومدبره، أصبح يقع في مركز الكون، ويشكل مبدأ القيم والغايات وعندئذِ ترسخت الحركة الإنسانوية. . . توقف الإنسان عن الدوران حول المقدس وحلت مشروعية إنسانية جديدة محل المشروعية الدينية السابقة، ونتج عن ذلك أخلاق جديدة وقوانين جديدة تنطبق على البشر دون استثناء ودون اعتبار اللون والعرق أو المذهب والدين، ألم تطرح الماركسية نفسها بديلًا إنسانيًا عالميًا لكل عصور الاضطهاد والاستعباد السالفة، ورسمت الحلم الذي لا يشيب بحق الإنسان في المساواة والتحقيق الذاتيّ الإنسانيّ والانعتاق من الاغتراب)

(1)

.

هذا الكلام مجرد ترجمة لأفكار وعقائد الغرب وتاريخ الغرب في صراعه مع الدين النصرانيّ المحرف، ولكنه في الوقت ذاته إسقاط علمانيّ خبيث على المسلمين، وتنزيل مغرض على واقع يخالف الواقع الغربيّ جملة وتفصيلًا.

وإلّا فمن هو الإنسان الذي نزع هالة التقديس والألوهية عن الكون ومدبره إلّا الإنسان الغربيّ الماديّ الملحد، وليس هو الإنسان المسلم الذي يؤمن باللَّه إلهًا وخالقًا ومدبرًا حتى وهو في أشد حالات عصيانه وضعفه الإيمانيّ.

وأي أرض تراجع عنها مفهوم الألوهية؟ إنها ليست أرض المسلمين ولا بلاد المسلمين على الرغم من الأنظمة العلمانية الطاغوتية المفروضة عليها، وعلى الرغم من محاولات المسخ الإعلاميّ والثقافيّ والتربويّ

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 102 من مقال بعنوان "امرأة الحداثة العربية" للدكتورة أنيسة الأمين.

ص: 311

والاجتماعيّ الموجه إليها، إلّا أنّ بلاد المسلمين لم تتأله لغير اللَّه، ولم تتعبد لغير الخالق المدبر -جلَّ وعلا-، وها نحن نشاهد اليوم حالات التوق الشديد لدى المسلمين في الانفلات من ربقة الأئمة المضلين من رؤوس الضلال المسلطين على رقاب المسلمين وبلادهم، ولكن العلمانيين والحداثيين لا يفقهون.

ولا أدل على ذلك من المثل الذي ذكرته هذه الكاتبة حين أشادت بالماركسية باعتبارها الممثل لفكرة الإنسانوية -حسب تعبيرها- والبديل الإنسانيّ العالميّ لكل عصور الاضطهاد والاستعباد، والحلم الذي لا يشيب. . . إلى آخر تلك العبارات الممتدحة للنموذج العلمانيّ الحداثيّ، الإنسانيّ، حسب زعمهم.

وقد رأينا ورأى العالم أجمع كيف تمزقت الماركسية وانهارت بعد أن مارست أبشع أنواع الكفر والاستبعاد والاضطهاد، فإذا هي أثر بعد عين، وإذا أبناؤها الذين تلقوا تعاليمها وتشبعوا بعقائدها المفلسة هم الذين يسعون في هدمها ويشتدون في تحطيمها، وإذا الشعوب التي رزحت تحت التسلط والجبروت الإلحاديّ العلمانيّ الحداثيّ الماركسيّ تنتفض بقوة وصلابة تطالب بالحرية وتنشد أنسام الحياة الإنسانية بعيدًا عن هذه المبادئ الملحدة الظالمة.

ولسوف يشهد العالم كيف تتهاوى المبادئ والنظم الغربية الليبرالية الرأسمالية البرجماتية، بل إن علائم هذا الانحسار والاندحار تلوح في الآفاق ولايبصرها إلّا أولو الألباب، أمّا الذين عشيت أبصارهم من وهج المخادعة، وما زالت عقولهم في حالة الدهشة والإغماء فإنهم يستبعدون ذلك غاية الاستبعاد.

ومن الأمثلة على ذلك مقال لتركي الحمد

(1)

بعنوان "هل أن الغرب

(1)

تركي الحمد، ولد في بريدة سنة 1372 هـ، ودرس بعد الجامعة في كلورادو، ومن جامعتها حصل على الماجستير في العلوم السياسية والدكتوراه من جامعة جنوب =

ص: 312

يسقط؟ " يتحدث عن ذوي التفكير الرغبويّ الذين يقولون بأن الغرب سيسقط، ويعني بذلك كل مسلم يؤمن بقول اللَّه تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}

(1)

، وقوله -جلَّ وعلا-:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)}

(2)

.

فهو يصف من يفكر ويستشرف المستقبل على ضوء كلام اللَّه المعصوم بأنه (غير قادر على التعامل التاريخيّ مع الواقع المعاش، وأنه يعيش خوفًا دفينًا وعدم ثقة بالنانس وتفكيرًا رغبويًا خادعًا، وخطابًا أيديولوجيًا مغلقًا، وممارسة لعمليات النكوص والهروب والتضخيم والاختزال، وعدم فهم لجدلية هيجل، وممارسة التعصب القائم على ثنائية صارمة قوامها الصواب والخطأ والصديق والعدو، وغير ذلك من مؤشرات السقوط والموت والذبول)

(3)

.

ثم يختم هذه الألقاب الهجائية بقرار "رهبويّ تبعيّ" فيقول: (. . . إن المعطيات الموضوعية تقول: إن الغرب وخلال المستقبل المنظور غير آيل للسقوط أحببنا ذلك أم كرهنا)

(4)

.

= كاليفورنيا، عمل أستاذًا في جامعة الملك سعود - كلية العلوم الإدارية، له دراسات وبحوث ومقالات عديدة ومثاركات ثقافية مختلفة، كان ينحى المنحى الجدليّ الديالكتيكيّ، ثم انتقل محاكيًا محمد عابد الجابري وسائرًا على خطاه، ثم هو يتبنى اليوم الليبرالية الغربية والبرجماتية السياسية والفكرية، ويدافع عن الطروحات التحررية من وجهة نظر لائكية بحتة. انظر: دليل الكتاب والكاتبات: ص 89 - 90.

(1)

الآيتان 16 - 17 من سورة الإسراء.

(2)

الآيات 8 - 10 من سورة محمد.

(3)

انظر: مقال تركي الحمد "هل أن الغرب يسقط"، جريدة الشرق الأوسط، عدد 4724 في 14/ 11/ 1991 م/ 1411 هـ: ص 19.

(4)

المصدر السابق.

ص: 313

ولو أردنا أن نحاكم سقوط هذا الكاتب واضطراب موازينه واختلال انتماءاته لوجدنا الشيء الكثير، والذي قد يتذرع له ويعتذر عنه بالنسبية الفكرية، وعدم القطع، وبالذرائعية الوصولية، وبالتطور المستمر للفكر، وغير ذلك من المعاذير الواهية.

لقد كان هذا الكاتب المنافح عن بقاء الغرب والمستعير لمفاهيمه وفكره وطموحاته إلى حد التقديس؛ كما قال عنه أحد زملائه في أنه (يعطي الأفضلية للإيديولوجية الغربية في مفهوم المواطنة)

(1)

، وأنه طرحه (يدل على البؤس الفكريّ والأيديولوجيّ الذي يؤصل مفاصل الكثيرين من المثقفين العرب)

(2)

.

كان هذا الكاتب يتخذ من العلماني الكبير محمد الجابري

(3)

رمزًا كبيرًا، ومفكرًا كبيرًا، وأستاذًا عظيمًا، وقدوة في العقيدة والفكر، بل كان يتقمص أفكاره وكتاباته ويعيدها بصياغة أخرى، ثم بعد حرب الخليج الثانية كتب عنه عدة مقالات بعنوان "رمز هوى. . . الجابري وزلزال الخليج" بين فيها سقوط الجابري وزيف فكره وضعف تحليله وقلة بصيرته، فما المانع أن يسقط الشق الماديّ الغربيّ كما سقط الشق الماديّ السوفيتيّ وكما سقطت فلسفاته عند الحمد وكما سقط الجابري؟.

(1)

مجلة اليمامة، عدد 1199 - 22 رمضان 1412 هـ، مقال لإسحاق الشيخ يعقوب: ص 60 وهو يحاكم التوجه الغربيّ لدى تركي الحمد من منطلق ديالكيتكي. انظر: اليمامة عدد 1203: ص 4 في 26/ 10/ 1412 هـ، واليمامة عدد 1200 في 29 رمضان 1412 هـ.

(2)

محمد عابد الجابري، كاتب ومتفلسف مغربيّ، يعمل أستاذًا للفلسفة في جامعة محمد الخامس - كلية الآداب في الرباط، له مجموعة من المؤلفات والدراسات عن التراث الإسلاميّ مثل نحن والتراث ومعالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلاميّ، وإشكالية الفكر العربيّ المعاصر، ونقد العقل العربيّ، وتكوين العقل العربيّ وغيرها وكلها تنطلق من أساس علمانيّ فلسفيّ. انظر: هموم الثقافة العربية لفرحان صالح: ص 5 - 27، ومداخلات لعلي حرب: ص 7 - 127، والحداثة في ميزان الإسلام: ص 110.

(3)

نشرت هذه المقالات في جريدة الشرق الأوسط، عدد 4571 في 4/ 6/ 1991 م/ 1411 هـ و 4572 في 12/ 6/ 1991 م/ 1411 هـ، ومقال في 23/ 6/ 1991 م/ 1411 هـ، ومقال في 1/ 7/ 1991 م/ 1411 هـ.

ص: 314

والمذهب الإنسانيّ الذي تتبناه الحداثة وتدعو إليه وتتخذه إلهًا من دون اللَّه هو الفرع الفلسفيّ للشجرة المادية الغربية، وقد اقتطعه الحداثيون والعلمانيون وجاءوا به إلى بلاد الإسلام؟ ليستنبتوه كما استنبتوا من قبله الفلسفات الأخرى كالوجودية والماركسية والقومية والوطنية.

إن الحداثة في توجهها إلى النزعة الإنسانية واتخاذها قاعدة ومنطلقًا لا تبتعد عن الأرض التي تجمع بينهما أرض المادية الكافرة الملحدة، ومن طبائع الأمور أن تجد هذا النحو من الاشتراك والتداخل والتشابك.

والشأن هنا في هذا النظام المعرفيّ الماديّ، الذي يراد له أن يكون الرائد والموجه الفكريّ والثقافيّ في أوطان المسلمين، ولعقول أبناء أمة الإسلام.

إن الاختناق العقليّ الإلحاديّ الذي تعيشه أوروبا بعد سلسلة طويلة من الزيغ والانحراف أمر له ما يبرره نظريًا، ولكن الأمر الذي لا يفهم إلّا على أنه مؤامرة مقصودة هو نقل هذه الفضلات الفكرية إلى أمة لديهما حقائق اليقين بالبرهان لا بالادعاء، وبالتذوق والتخلق، لا بمجرد الانتساب.

ولنأخذ على ذلك مثالًا بسيطًا، وهو ما نشاهده اليوم بين المسلمين من بقايا أخلاق وثوابت عقيدة، رغم ما لدى المسلمين من ضعف فيها، إلّا أن أجهل المسلمين خير من كثير من علماء المادية الغربية الذين لا مانع عند أحدهم أن يكون ولده شاذًا وابنته زانية، بل ربّما كان هو يمارس الشذوذ وزنا المحارم، وإذا نزلت به نازلة انتحر، والمسلم لا يفعل ذلك مهما انحطت درجة التزامه بالإسلام، نعم لقد تقدموا في النواحي المادية، ولكن أمتنا خير من أمة الغرب مهما تأخرت ماديًا، وأولئك شرٌّ منا مهما حققوا من تقدم ماديّ، ويكفي أن يطلع المنصف على حقيقة الغرب الاستعمارية الظالمة، وتسلطه المباشر وغير المباشر، وظلمه الموزع على بقاع الأرض، وخاصة على المسلمين، وما أحداث البوسنة والشيشان وفلسطين وكشمير والسودان إلّا أمثلة على الطغيان والظلم الغربيّ، أمّا الأمراض الاجتماعية والنفسية والفكرية فالحديث عنها قد امتلأت به الكتب والصحف الغربية المهتمة بهذا الشأن.

ص: 315

تنطلق الحداثة الغربية والعلمانية وفروعها العربية من منطلق جعل الإنسان "إلهًا" وجعل "الإنسانية" دينًا، وفصل علاقة الإنسان باللَّه ربًا وإلهًا.

وقد أخذ الحداثيون العرب هذا المفهوم من أساتذتهم الغربيين، تحت ستار تلاقح الثقافات، والعقلانية، ونحو ذلك من العبارات التي يشوشون بها على ضعفاء الدين والعقل، يقول أحد المفكرين الغربيين وهو يؤصل النزعة الإنسانية:(. . . الإنسان لا يحيا إلّا حياة واحدة، ولا تحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادر عالية على الطبيعة، وأن العالي على الطبيعة الذي يصور عادة في شكل آلهة سماوية، أو جنات مقيمة ليس موجودًا على أية حال، ففلسفة النزعة الإنسانية تسعى على الدوام إلى تفكير الناس بأنه مقرهم الوحيد هو هذه الحياة الدنيا، فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات، إذ ليس ثمة مكان غيرها نقصده، ولابد لنا نحن البشر من أن نجد مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه وإلّا فلن تجدهما على الإطلاق)

(1)

.

هذا المعنى الإلحاديّ منقول بحذافيره -إن لم يكن نصًا مترجمًا فمعنًى مؤصلًا- عند أكثر الحداثيين والعلمانيين العرب.

فها هو يوسف الخال ومحمد جمال باروت يقرران أن (العلمنة في معناها العميق انعطاف من الإله إلى الإنسان، ومن مملكة العرب إلى مملكة الإنسان وبذلك لم يعد الإنسان يرى العالم نتاج إلهيّ أبديّ بل وجد نفسه أمام نظام من صنع يديه، لا استئناف لأحكامه إلى سلطة عليا، ومن هنا تغيرت نظرة الإنسان إلى العالم تغيرًا جذريًا، فلا شيء محرم على العقل، فعوض عالم مستقر آمن قائم على قواعد ثابتة لا تتزعزع، وجد الإنسان نفسه، شيئًا فشيئًا في عالم لا قواعد ثابتة له، عالم على ساكنيه أن يعيدوا بناءه بأيديهم وعلى صورتهم ومثالهم، هكذا أصبح الإنسان أكثر من أي وقت

(1)

القول لـ "لامونت" وقد نقلته من قضايا وشهادات، من مقال لمحمد جمال باروت ص 259 وعنوانه "تجربة الحداثة ومفهومها" في مجلة شعر.

ص: 316

مضى، مقياس كل شيء، إذ أن العصر الحديث عصر علمانيّ بدأ حين وعى الإنسان قدرته وأخذ يعرب عن وجهة نظره الفردية المستقلة إلى نفسه واللَّه والكون، ولقد تأتّى له أن يشك، وفي شكه عزم على الاكتشاف لنفسه وبنفسه)

(1)

.

ويؤكد يوسف الخال هذا الاتجاه الكفريّ حين يقول: (. . . إذا فقد الإنسان سندًا له في نظام إلهيّ أبديّ، يرئسه

(2)

إله عادل رحيم يحميه ويكافئه هنا أو في السموات، وجد نفسه أمام نظام من صنع يديه لا استئناف لأحكامه إلى سلطة عليا)

(3)

.

وهو المعنى الذي أشار إليه أدونيس في مؤتمر روما حين قال: (. . . لا يقدر الشعر أن يتفتح ويزدهر إلّا في مناخ الحرية الكاملة - حيث الإنسان مصدر القيم لا الآلهة ولا الطبيعة)

(4)

.

وتكرر خالدة سعيد كلام زوجها حين تقرر بأن (الشعر يحل مكان الدين ويصبح ميتافيزيقيا المجتمع الحديث حيث يلعب الشاعر دور الآلهة التي اختفت)

(5)

.

وعلى هذه الأسس قامت الحداثة، وأضحى مطلب الحداثة تحرير الإنسان من الوحدانية والتوحيد، وإسقاط القداسة عن كل شيء "لأن الحداثة وضع تعدديّ مشابه للوثنية اليونانية الجذر الأولى للحداثة الراهنة،

(1)

هذا النص ممزوج من كلام يوسف الخال في مقال له بعوان "نحو أدب عربي حديث " المنشور في مجلة أدب المجلد الثاني، العدد الأول شتاء 1963 م/ 1382 هـ: ص 9، وكلام محمد جمال باروت المنشور في قضايا وشهادات العدد 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 258.

(2)

هكذا والصواب "يرأسه".

(3)

نحو أدب عربي حديث، مجلة أدب، مجلد 2، عدد 1 شتاء 1963 م/ 1382 هـ: ص 9.

(4)

الأدب العربيّ المعاصر، أعمال مؤتمر روما 1961 م/ 1380 هـ: ص 169.

(5)

البحث عن الجذور، دار مجلة شعر - بيروت 1960 م/ 1379 هـ: ص 9.

ص: 317

وهذا الوضع التعدديّ الوثنيّ مناقض تمام المناقضة للتوحيد الذي يعتبر أساسًا للتخلف والرجعية على حد تعبير أحدهم

(1)

.

وفي عبارة صريحة يقول: (. . . إن الحداثة الأولى ارتبطت بقيام المدن الدول في اليونان. . . إن قيام أي وحدانية يعني القضاء على فعل الحداثة)

(2)

.

ويعد محمد بنيس

(3)

أن المعرفة القائمة على أحدية اللَّه الواحد الأحد أساسًا للتخلف إذ هو صورة للمتعاليات الإسلامية -حسب تعبيره-، والتي تبدأ من اللَّه الواحد، وتتجسد اجتماعيًا في الأدب وسياسيًا في القبيلة إلى آخر تحليلاته الهابطة

(4)

.

أمّا محمد أركون فيعتبر أن اللَّه عز وجل مشكلة، ويسأل كيف يُمكن لنا أن نعبر عن هذه المشكلة باللغة العربية

(5)

.

وقد انبث هذا الضلال المتمثل في نفي ألوهية اللَّه في كلام وأعمال الشعراء والروائيين الحداثيين، وسوف أسرد هنا بعض الأمثلة على ذلك:

قال السياب:

(1)

انظر: مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 33 - 34 من مقال لحنا عبود بعنوان "مقاربة الحداثة".

(2)

الحداثة عبر التاريخ لحنا عبود: ص 268.

(3)

محمد بخيس ناقد حداثيّ مغربيّ، ولد في فاس عام 1368 هـ/ 1948 م، حصل على شهادتي دكتوراه من جامعات في الرباط ويعمل أستاذًا للشعر العربيّ في كلية الآداب في جامعة الرباط، أنشأ مجلة الثقافة الجديدة عام 1393 هـ/ 1974 م وهو عضو في هيئة تحرير مجلة مواقف التابعة لأدونيس، وأحد المؤسسين لدار توبقال للنشر في المغرب، حداثيّ، متعصب شديد الكراهية للإسلام، يظهر ذلك في كل كتاباته وخاصة كتابه حداثة السؤال. انظر: الإسلام والحداثة: ص 419، وأصوات ثقافية من المغرب العربي: ص 59.

(4)

انظر: حداثة السؤال لمحمد بنيس: ص 44 وص 64.

(5)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 343.

ص: 318

(أهذه مدينتي؟ أهذه الطلول

خُط عليها عاشت الحياة

من دم قتلاها قلا إله

فيها ولا ماءَ ولا حقول؟)

(1)

.

ويصف العراق وهو ينغمس في حالة الشك في اللَّه تعالى، ويسأل بشك: لماذا الناس هناك يؤمنون بأن في السماء من يدبر، قال:

(نرى العراق يسأل الصغار في قراه:

ما القمح؟ ما الثمر؟

ما الماء؟ ما المهود؟ ما الإله؟ ما البشر؟

فكل ما نراه

دم ينز أو حبال فيه أو حفر

أكانت الحياة

أحب أن تعاش، والصغار آمنين

أكانت الحقول تزهر؟

أكانت الماء تمطر؟

أكانت النساء والرجال مؤمنين

بأن في السماء قوة تدبر

تحس، تسمع الشكاة تبصر

ترق ترحم الضعاف تغفر الذنوب)

(2)

.

(1)

ديوان السياب: ص 472.

(2)

ديوان السياب: ص 484.

ص: 319

أمّا البياتي فيعبر عن جحد الألوهية بتعبير آخر، وذلك حين يصف تخلف رجل مسلم يعبد اللَّه تعالى -وكل مسلم عنده فهو متخلف- ويعبر عن اللَّه تعالى بلفظ العنقاء رمز المستحيل فيقول:

(رجل بالموت مضاء، قلق، تحسبه أعمدة ووهاد وجسور

يركع في منتصف الليل أمام العنقاء)

(1)

.

أمّا يوسف الخال فهو المجترئ على عملية الهدم والتدمير، والمنادي بصراحة أن نكون امتدادًا لأوروبا، هل سبب ذلك نصرانيته أم إلحاده؟ لا فرق؛ لأن المقصود هو إبعاد المسلمين عن دينهم وإلقاؤهم في أحضان العقائد المتشاكسة المتهالكة، يقول:

(ليت ذاك النهار لم يكُ، انظر

كيف غارت جباهنا، كيف جفت

في شراييننا الدماء، وكيف

انبح فينا صوت الألوهة

. . . كل الجراحات يا بحر

حبالى ونحن مهد عريق

للولادات: أيُّ، أيُّ إلهٍ

ما رأى النور بيننا، ما تربّي

كيف يحيا، يشقى يموت)

(2)

.

ويتهكم بالدين والذي أنزله فيقول:

(بيني وبين السماء شعرة من الزمن. كلابي تنبح

(1)

ديوان البياتي 2/ 419.

(2)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 227 - 229.

ص: 320

في الدار، ولا عظام في قبور الموتى

والذباب يأكلون العيون في مدينة الرب)

(1)

ويعبر عن جحوده وإنكاره للَّه فيقول:

(لا نور لا ظلام لا إله)

(2)

.

أمّا النصرانيّ توفيق صايغ عميل منظمة حرية الثقافة التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية

(3)

فقد تمادى به استرضاؤه لأسياده إلى حد التهالك في مضادة الدين الحق والإله الحق، وله في ذلك الأقوال الكثيرة، منها:

(وما إلهك إن لم يجب)

(4)

.

وفي موضع آخر يتهكم باللَّه تعالى، وينال من مقام الألوهية جاحدًا فيقول:

(أيها المعطي رذاذًا والآخذ سيولًا

والمتلكئ في العطاء كأنما

بذرة الألوهة بين طيات اليد القابضة

والهابّ، تكاد تتعثر للأخذ

كأنك تقتضي بأخذك أعناق أربابٍ قدامى

وكأنك لا تدرك

(1)

المصدر السابق: ص 289.

(2)

المصدر السابق: ص 327.

(3)

انظر: بحثًا عن الحداثة: ص 42.

(4)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 165.

ص: 321

أن عطاءاتك نفايا

وقد خسرتُ صرحك)

(1)

.

وفي مقطع طويل حشد كل أحقاده ودفائنه الرخيصة ضد اللَّه العظيم الجليل بوصف جنسي فاضح ثم يقول عن اللَّه تعالى:

(ورسمك الذي بدا يتهلهل

. . . أأدركت ما بنا

أم أعماك الغرور واللاانتظار

وإباؤكَ أن ترانا انتشينا

نقمة ومقتا

نجزيك بهما عن الليالي المداد

نقعتنا بها بحمأة الترجي

ولا رجاء

ونفضتنا عنك، أرخص مما اشتريتنا

ولم تخلّف لنا

غير وعدٍ برسول من لدنك

ينقل لنا خيراتك

ينفخ في رماد الذكريات؟

أراعك أنا استدرنا

حول الرسول ساخرين

وأما شدا باسمك

(1)

المصدر السابق: ص 203.

ص: 322

خائفًا خافتا

شدونا عاليًا صاخبين:

بغير حب إلهي بغير محبة؟

ولم نعذب رسولك ليبوح

إنك مغلوب كايانا

وفي عوز مثلنا وأسرٍ وصحراء

ورسالاتك هذي إلينا

استغاثات لا غرام

وتقربك الآن إلينا

ليس حبًا بقربى

لكن لتسكين إبرةٍ فيك

لا تكل

وتريدنا وقد خرطشتنا برشاشك

أن نسكّن إبرتك

ونحن (ألم تدرك؟)

تقبلنا اللهيب لنوقد الكره الأصم

وابتلعنا العصير

لنتقيأ معه

اسمك والماضي وذكراكا)

(1)

.

(1)

المصدر السابق: ص 203 - 206.

ص: 323

هذا المقطع البذيء المرتكس في أنتن أنواع الكفر والإلحاد هو شيء مما يطلق عليه الحداثة والإبداع، وقائله ممن يعد عند الحداثيين قمة من قممهم التي لا تطاول.

مع أن الحقيقة أن هذا الكفر البواح، ليس إلّا جزءًا من المؤامرة الخبيثة على القرآن وأهله والسنة وأتباعها، وهذا مايؤكد أن القضية ليست قضية ثقافة وفن وإبداع وشعر وتحديث، بل هي قضية حرب على أمة الإسلام، وحرق لهويتها ومهاجمة لأثمن وأعز ما يعتقده المسلم؛ وإلا فما وجه الربط بين التحديث والكفر؟.

إن أدونيس والخال والصائغ وجبرا وزملاءهم غير المباركين من كتاب وأدباء ورواد الحداثة العربية المعاصرة، تؤكد دلائل أقوالهم وأعمالهم وبعض ما انكشف من علاقاتهم وصلاتهم الظاهرة والخفية أنهم ليسوا سوى أدوات لأعداء الإسلام من يهود ونصارى وغيرهم، وإني لأعلم وأنا أكتب هذا القول أن من يطلع عليه من الأقزام المقلدين المنبهرين سوف يسخر منه ويزدريه؛ وذلك حسب الانتماء المأجور والمحاكاة البلهاء، غير أن مغزى هذه العقائد الحداثية المبثوثة في أعمال أصحابها لا يُمكن أن تسعف هؤلاء التلاميذ الصغار والمطايا المستعبدة فكريًا واعتقاديًا في إيجاد العذر المقبول -على الأقل- فيما يتعلق بعداوتهم الحقيقية للإسلام عقيدة وشريعة وشعيرة وسلوكًا وتاريخًا ورموزًا وحضارة.

وإن أعجب من دفاع بعضهم عن الحداثة وإنها لا تناقض الإسلام فقد عجب قبلي من هذا أحد الذين خبروا شأن الحداثة وسبروا أكثر أغوارها فقال: (. . . رأيت صغيرًا صغيرًا يكتب في مجلة سعودية ويؤكد. . . أن أدب الحداثة بإطلاق لايعارض الإسلام، وأن الإسلام قدير على الدفاع عن نفسه.

فطال عجبي وأسفي معًا في هذه الأعباء البشرية التي قزمها قدرها السابق، وأبت إلّا أن تكون في مواصفات القزمية في اللاحق، عجبت

ص: 324

للإسقاط الطفوليّ بجرة قلم: "أدب الحداثة لا يعارض الإسلام"، وبهذه السرعة يجاوب الطفل العربيّ، وبهذه السرعة يتناسى المبهور ما حوله، وبهذه السرعة يجحد هموم المخلصين ويقول: في أذني وقر!.

وكلمة "لا خوف على الإسلام" عنوان عريض لسذاجة أولئك الأطفال

(1)

.

ومن ذا الذي يشك في أن الحداثة تناقض الإسلام تمام المناقضة؟ وفي مفردات روادها من أمثال ما سبق نقله في الفصل المتعلق بالربوبية، وكذلك في هذا الفصل المتعلق بالألوهية، ويكفيك من شر سماعه!!، ولولا ضرورة إثبات الانحرافات لما استطعت نقل هذا الكلام الشنيع.

وعودة إلى توفيق صائغ وموقفه من الألوهية، نجده يقول:

(الملائكة، لا ملائكة في الأثير

قصقص البيض الجناح، تصغرن

شحّرن الملامح لا يرفرفن. . .

يأتين إن يأتين في ركب إله

- ولا إله

. . . تقتص خطو إله

- ولا إله)

(2)

.

فمن تسمية الملائكة بالإناث وهو دأب الكافرين من قبله كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)}

(3)

إلى جحد الألوهية ونفي وجود إله، ألا لعنة اللَّه على الكافرين.

(1)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري: ص 197.

(2)

الأعمال الكاملة لتوفيق صائغ: ص 211 - 212.

(3)

الآية 27 من سورة النجم.

ص: 325

وعلى نحو القول السابق قال أيضًا:

(عادت لقريتها

ولا قيد ولا جناح

ولا حيوان ولا إله)

(1)

.

فمع جحده الإله لا يكتفي بذلك بل يقرنه بالحيوان، إمعانًا في الاستخفاف والتدنيس، ومثل ذلك قوله:

(لففت العباء حولي

تعكزت إلى القفر

إلى قمتي الجرداء

حيث الغبار ولا الإله)

(2)

.

ويقول أمل دنقل:

(خصومة قلبي مع اللَّه ليس سواه

. . . .

فهل نزل اللَّه عن سهمه الذهبيّ لمن يستهين به

هل تكون مكان أصابعه بصمات الخطاه

خصومة قلبي مع اللَّه. . ليس سواه)

(3)

.

ويقول ممتدحًا الشيطان الذي اتبعه، لكونه رفض أمر اللَّه وتمرد عليه:

(المجد للشيطان معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صائغ: ص 276.

(2)

المصدر السابق: ص 304.

(3)

ديوان أمل دنقل: ص 344.

ص: 326

من علم الإنسان تمزيق العدم

من قال "لا" فلم يمت

وظل روحًا أبدية الألم)

(1)

.

أمّا نزار قباني فيدخل نفي إيمانه باللَّه تعالى ضمن مخاطاباته الغرامية الفاسقة فيقول:

(ماذا تشعرين الآن؟

هل ضيعت إيمانك مثلي بجميع الآلهة)

(2)

.

وعلى هذا النفس الخبيث تتتالى كلمات الحداثيين، ومنهم معين بسيسو القائل:

(كفى تلدين، كفى تجهضين

فنحن بغير إله)

(3)

.

ومثله بلديُّه وزميل مبادئه الضالة سميح القاسم يقول:

(وتصدع الآفات جلجلة الملايين المدوية المريدة:

أيظل؟!

- لا. . لا لن يظل إلهنا

- ونظل؟!

لا. . يا طفلنا الموعود!. . لن نبقى عبيده!!

فوراء سور العصر خلفنا شعائره البليده!

ووراء سور العصر خلفنا كهوف الموت

(1)

المصدر السابق: ص 112.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني 2/ 338، 3/ 603.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو: ص 427.

ص: 327

موحشة معذبة. . وفُتنا الليل والأسلاك

والأنقاض والقتلى ونصب المجد

في الأرض البعيدة!

واجتاز موكبنا مخاضات الدم الكبرى

إلى شطآن. . جنتنا السعيدة!!)

(1)

.

إنه الفرار من التوحيد وألوهية اللَّه الواحد الأحد إلى وثنية الماركسية التي يصفها بالجنة السعيدة!! ويالها من جنة حشر فيها آلاف وملايين البشر بقوة السلاح والقتل، وما أن حانت لهم الفرصة حتى فروا منها باحثين عن الحرية والنجاة في غيرها، بل العمال الذين هم قوام الثورة الماركسية كانوا أول من ثار على الماركسية في بولندا حتى أسقطوها، ولكن العرب الأتباع لا يفقهون.

ويتجاوب سميح القاسم مع جنته الماركسية القائمة على مبدأ "لا إله والحياة مادة" فيقول:

(أي تنين خرافيّ الألوهة

سمل الأعين في تاريخنا أدمى وجوهه)

(2)

.

وفي سفوح التحرر الإلحاديّ يتنافس الحداثيون في إظهار كفرهم بكل دين وعقيدة، ومن ذلك ما عبر عنه المقالح في قوله:

(كفرت بهذا الزمان

بكل الزمان

كفرت بصمت الكهوف

. . . بكل قصيدة

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 326 - 327.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 572.

ص: 328

بكل عقيدة

بدين يهوذا)

(1)

.

أمّا التعيس المحترق علاء حامد فإن إلحاده في روايته الكافرة "مسافة في عقل رجل" من أظهر وأشهر ما قيل على سخف وانحطاط في الفكر والأسلوب، فهو يقرر بأن فكرة الإله من صنع البشر وأنها مجرد أوهام لابد من القضاء عليها

(2)

.

ويصل به إلحاده إلى حد القول: (فلنبدأ بلفظ اللَّه، الذي اختلفت فيه لغات العالم مما جعل البعض يردد أنه لو كان اللَّه موجودًا لأطلق على نفسه لقبًا تشترك في نطقه كل لغات العالم بلهجاتها المختلفة، ولكن لفظ اللَّه يختلف من لغة إلى أخرى، ويدللون بهذا على أن اللَّه كجوهر أيضًا صيغة بشرية من اختراع الإنسان اللفظ والجوهر معًا)

(3)

.

وفي تهافت هذا الكلام وخلوه من العقل والمنطق ما يكفي لسقوطه وإلّا فما وجه الدلالة في كون الاختلاف اللغويّ بين البشر في تسمية الشيء يدل على عدم وجوده؟!.

فها هو الإنسان والعقل والأرض والسماء وجميع الأشياء المحسوسة الموجودة، لا تتفق عليها لغات العالم، وعلى هذا المنطق الهزيل تكون هذه الأشياء غير موجودة!!.

والمقصود هنا إثبات أن الحداثة تتبنى جحد ألوهية اللَّه تعالى وتعد الإيمان به تخلفًا وخرافة، كما قال هذا المفتون: (شتان ما بين الاثنين، شعوب اتجهت إلى طريق البحث عن الحقيقة، وأخرى عبدت المجهول فاستعبدها، أصبحوا مجموعة من الرقيق لآلهة من المعتقدات والطقوس والخرافات والعبادات. . مجموعة من الخراف يسوقها للذبح سيف ذلك

(1)

ديوان المقالح: ص 266.

(2)

انظر: مسافة في عقل رجل: 20، 21، 22، 129، 156.

(3)

مسافة في عقل رجل: 147.

ص: 329

المجهول الذي يصلون في محرابه، وتحت قبة خرافاته، ذلك المجهول، المرض الخبيث الذي أصاب العقل البشريّ بالخبل والتوهان، حوله إلى مجموعة من الخلايا السرطانية. . .)

(1)

.

ويوسف الخال رائد الحداثة الأول يتحدث عن اللَّه تعالى برمز حداثيّ خبيث الدلالة في مقطوعات جمعها تحت هذا الرمز الذي سماه "البئر المهجورة"

(2)

وهو عنوان لمقطوعته

(3)

.

وتفسيرًا لمقصود الخال بالبئر المهجورة نأتي بكلام النصرانيّ الآخر غالي شكري الذي يشرح المراد موافقًا له فيقول: (والبئر المهجورة عند يوسف الخال فيما أرى هي اللَّه)

(4)

.

‌المظهر الثاني من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: نفي بعض خصائص الألوهية:

لم تقتصر شرور الحداثة والعلمانية على نفي الألوهية عن اللَّه تعالى بل امتدت لتنال ما ترتب على توحيد الألوهية من قضايا وأمور، تعتبر من أصول الدين وقواعده المحكمة، أو من فروعه المعلومة من الدين بالضرورة.

وإذا كانت الحداثة والعلمانية تسعى بجد في إبعاد الدين جملة وتفصيلًا فإنه مما لا ريب فيه أنها جادة في نفي خصائص الألوهية في كل ما يتعلق بالحياة، بأوجه عديدة وطرائق مختلفة، وإن موضوعًا كهذا ليس من البساطة

(1)

مسافة في عقل رجل: 230.

(2)

انظر: الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 195.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 203.

(4)

شعرنا الحديث إلى أين: ص 137. وانظر كلام أبي عبد الرحمن الظاهري عن البئر المهجورة في كتابه القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 135، 136، 139، 141، 142. وقال في ص 150: (ويوسف الخال من رواد الحداثة في الشعر لكن قصيدته التي مضى طرف منها من أسمج فصول الحداثة، والعجيب أن غالي شكري درسها على أنها من روائع المجد العربيّ!!).

ص: 330

بحيث يُمكن التماري حوله قبولًا وردًا، بل هو من قضايا التوحيد ومن ثوابت الإيمان؛ ذلك أن أي خصيصة من خصائص الألوهية يعد إنكارها أو التشكيك فيها ناقضًا من نواقض الإسلام.

لأن الإسلام هو الاستسلام الكامل للَّه عز وجل، والإذعان له، بتصديق خبره وامتثال أمره.

والكفر الذي يسبب الخلود في نار جهنم هو التكذيب والإعراض عن هذا؛ إذ كيف يعد مسلمًا من قابل خبر اللَّه أو بعضه بالتكذيب، أو استقبل شيئًا من شريعته بالإعراض والرد؟، وهذا الأمر من محكمات الدين الإسلاميّ، وهو من الحدود الفاصلة بين الإسلام والكفر والإيمان والنفاق، وهو الميدان الذي يتصاول فيه دعاة الإسلام مع أعدائه وشانئيه.

وهؤلاء الذين ينكرون بعض خصائص الألوهية يمارسون ذلك من عدة أوجه وبعدة أساليب، وسوف أذكر بعضًا من ذلك على سبيل التمثيل لهذا اللون من الانحراف العقديّ في الأدب الحديث:

نفي حق اللَّه تعالى في حكم عباده والتشريع لهم، باعتقاد العلمانية دينًا أو الإلحاد الصريح مذهبًا، أو بالزعم بأن دين اللَّه تعالى لا يصلح لهذا الزمان أو أن أحكامه بشعة وغير ذلك من سعيهم في آيات اللَّه معاجزين، وسيأتي فصل مستقل بهذا النوع من الانحراف، وإنّما أشير هنا إلى بعض الأمثلة في ذلك:

يقول نصر حامد أبو زيد

(1)

في معرض رده لنصوص الوحي المعصوم

(1)

نصر حامد أبو زيد، أحد أشد عتاة أعداء الإسلام المعاصرين، يرى أن القرآن العظيم مجرد نص لغويّ، وأن الوحي مجرد ظاهرة، وكل ذلك قابل للنقاش والأخذ والرد، يتبنى العلمانية دينًا، ومناقضة الإسلام مبدأ، ومحاربة الشريعة الإسلامية غاية، اهتم بالدراسات اللغوية وعلوم القرآن وقضايا التأويل، محاولًا إيجاد أرضية فكرية لتقويض الإسلام، مجمل كتاباته تدل على أنه يتبنى هدم الإسلام من داخل الإسلام نفسه، وفي هذا البحث مناقشة لبعض آرائه، حمته السلطة العلمانية، ومنعت من مقاضاته، وسهلت خروجه خارج البلد، حيث تلقفته الجامعات الغربية في أسبانيا وهولندا وأمريكا وفرنسا.

ص: 331

المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (. . . إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية)

(1)

، (. . . إن النصوص الدينية نصوص لغوية شأنها شأن أي نصوص أخرى في الثقافة)

(2)

.

ثم يخلص من هذا الكلام الهزيل ليصل إلى مراده النهائي، والذي سوف يرتب عليه نسف الدين كله فيقول:(وإذا كنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي إيديلوجي يواجه الفكر الدينيّ السائد والمسيطر بل يقوم على أساس موضوعيّ يستند إلى حقائق التاريخ وحقائق النصوص ذاتها)

(3)

.

وهذه الأقوال ليست إلّا وجهًا كالحًا من أوجه الإلحاد الذي غزى به الأعداء بلاد المسلمين وأوجدوا من بين بني جلدتنا ومن يتكلم بألسنتنا من يقول أقوالًا لم يقلها أساتذته، إمعانًا في استرضائهم ونيل حظوتهم والمكانة عندهم.

ويستتر هذا البغيض تحت عبارات يخادع بها ويبث بها كفره مثل الموضوعية وحقائق التاريخ وحقائق النصوص، وهو أبعد ما يكون عن كل ذلك وهو من جنس حجج الكافرين السابقين {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}

(4)

، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}

(5)

، وإلّا فما القول في فحول فصحاء العرب الذين توقفوا عند نصوص الوحي مبهورين؟ وخضعت أعناقهم -وهم البلغاء- لروح هذا الكلام الحكيم؟.

ثم يأتي ذباب ارتشف من زبالات الغرب ما ارتشف ليخرج بعد ذلك

(1)

قضايا وشهادات عدد 2 بعنوان "الحداثة" صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 389.

(2)

و

(3)

المصدر السابق: ص 391، 392.

(4)

الآية 5 من سورة الفرقان.

(5)

الآية 31 من سورة الأنفال.

ص: 332

مثل هذا الكلام المتهافت الوضيع ليتسلل من خلاله إلى نفي وجود اللَّه تعالى وجحد أخبار الغيب فيقول: (تتحدث كثير من آيات القرآن عن اللَّه بوصفه ملكًا (بكسر اللام) له عرش وكرسي وجنود وتتحدث عن القلم واللوح، وفي كثير من المرويات التي، تنسب إلى النص الثاني -الحديث النبويّ- تفاصيل دقيقة عن القلم واللوح والكرسيّ والعرش، وكلها تساهم -إذا فهمت فهمًا حرفيًا- في تشكيل صورة أسطورية عن عالم ما وراء عالمنا الماديّ المشاهد المحسوس)

(1)

.

ثم يصب جام حقده على تطبيقات النصوص الشرعية في الأحكام والتشريعات وهي المقصد الرئيسي لكل مقدماته الباطلة الكافرة، فيسخر من الرق والعتق ومصطلح أهل الكتاب وأخذ الجزية والسحر والجن والحسد وحكم الربا ثم إلى "الحاكمية" فيقول عنها:(والانطلاق من معطيات النص الحرفية والتمسك بالدلالات التي تجاوزتها الثقافة وتخطتها حركة الواقع يكشف عن بعده الإيديولوجي بشكل واضح في إصرار الخطاب الدينيّ على جعل العلاقة بين اللَّه والإنسان محصورة في بعد "العبودية" والعبودية تستدعي مقولة "الحاكمية" التي تتأسس عليها وجوديًا ومعرفيًا)

(2)

.

ثم يتوجه بالهجوم الإلحاديّ على مصطلح "العبودية" ويقرر أن دلالة اللفظ مجرد دلالة تاريخية لا حقيقة لها وأن العبودية (لا تعني الامتلاك الكامل للروح والجسد كما كان الحال في النظام الاجتماعي الاقتصاديّ المسمى العبودية)

(3)

.

ويضيف قائلًا: (وحين يحصر الخطاب الدينيّ العلاقة بين اللَّه والإنسان في بعد "العبودية" وحده فإنه لا يستحضر المعنى المجازيّ للعبودية، بل يصر على تأكيد الدلالة الحرفية، وهي الدلالة التي تتأكد بطريقة حاسمة حين توضع في سياق التأويل الحرفيّ لصورة الإله الملك صاحب العرش

(1)

المصدر السابق: ص 392.

(2)

المصدر السابق: ص 398.

(3)

المصدر السابق: ص 399.

ص: 333

والكرسي والصولجان والجنود التي لا حصر لها)

(1)

.

فهذا نموذج من نماذج الانحراف العقديّ الذي يُنشر ويُقرأ ويُحمى، وفيه أكبر شاهد على أوهام المادية الجدلية وأكاذيب وأغاليط الإلحاد، والحرب الموجهة ضد الإسلام عقيدة وشريعة، ويُمكن ملاحظة المزيج الكفريّ في النص: من احتماء بدعاوى العلمية والمعرفية والثقافة الشمولية، التي يخاح بها أشباهه من ذوي الهزال العقليّ، ثم السخرية باللَّه تعالى وبالنص الشرعيّ، وبالفهم السلفيّ القويم لهذه النصوص.

إن إسقاط حق العبودية للَّه تعالى أحد أظهر دلالات الاتجاه الحداثيّ العلماني، ومنه يتسرب جحدهم لحق اللَّه تعالى في الحكم والتشريع، وغير ذلك

(2)

.

وفي الحقيقة أن هذا المتهالك وأشباهه من الكتاب العلمانيين والحداثيين لايفهمون التدين إلّا بصيغته الأوروبية إلحادًا وجحودًا وردًا ومكابرة، أشربوا حبها على أنها هي الحرية والتقدم والنهضة، أو مجرد علاقة بين الإنسان وربه عند الذين يقرون بوجود رب خالق، وأي تجاوز لتلك الحدود التي رباهم الغرب عليها فهو التطرف والتعصب والأصولية بل والتخلف والرجعية.

وقد يظن المرء لأول وهلة أن هؤلاء ضلوا سواء السبيل عن جهل وعدم معرفة، فإذا تأمل ما يكتبون وجد أن انخلاعهم الكامل عن الإسلام وانحيازهم الكامل للكفر عن بينة وتصميم وقصد.

إنهم بكل وضوح ضد الإسلام كل الإسلام عن سابق إرادة وترصد، ثم يأتون يتبجحون بعد كل ذلك بأن (العلمنة لا تعني الإلحاد، إنّما تعني حرية الاختيار، واتخاذ موقف فلسفي أمام مشكلة المعرفة، فالكثير من

(1)

المصدر السابق: ص 400.

(2)

انظر: تأصيل نفي العبودية كأساس حداثيّ في كتاب الحداثة عبر التاريخ لحنا عبود: ص 150 - 153.

ص: 334

العلمانيين مؤمنون حقيقيون، ولكنه ليس إيمان التبعية والجهل، وإلّا كيف نفهم أن رائد الفضاء الأمريكيّ يصعد إلى عربته الفضائية يدور في الفلك الكونيّ وهو يعلق في صدره صليب إيمانه، وفي أوروبا فصلت الحداثة بين الدين والمجتمع المدنيّ، ولكنها لم تلغ الدين ولم تقض عليه، فقط كل يمارس طقوسه وشعائره كما يهوى ويريد، وربّما لا يمارسها، ولكن توقف الدين عن فرض سيطرته وتشريعاته على الحياة السياسية والاجتماعية العلنية هي الموقف الحر للروح أمام مشكلة المعرفة)

(1)

.

إن خطاب المغالطة والتدليس الذي يميز اللهجة الحداثية العلمانية يبدو بارزًا عند اصطدامهم ببراهين الإسلام وحقائقه اليقينية، ويظهر معها مقدار التبعية للغرب إلى حد يجعل من المكابرة للحس والواقع والعقل والتاريخ شيئًا سائغًا عند هؤلاء.

وإلّا فأين الدراسات الموضوعية التي بناءً عليها يجب التفريق بين دين محرف ودين سليم قويم، وبين مجتمع وتاريخ عاش حياة البؤس تحت هيمنة أديان خرافية وجذور وثنية، ومجتمع وتاريخ عاش حياة الحق والخير والعدل والفضيلة؟!.

وأعجب ما في هذا الخطاب الممسوخ أن أصحابه شكلوا من أنفسهم قضاة ومفتين في أمور الإسلام والمسلمين وهم يلبسون عباءة أبي لهب ويمتشقون طيالسة الكنائس والبيع.

وإن من نفي خصائص الألوهية هذا الزعم الافترائيّ القائم على احتقار الدين والزعم بأن (الأديان بدأت تتقلص تقلصًا سريعًا عن كثير من البلدان حتى أنه لم يعد يدين بالأديان سوى ثلث سكان العالم: أي أن ثلثي سكان العالم حسب أحدث نظرية فقهية عن النار، مآلهم جهنم خالدين فيها أبدًا)

(2)

.

(1)

قضايا وشهادات، العدد الثاني صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 103 من مقال لأنيسة الأمين.

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 3.

ص: 335

وهكذا تتكرر الطريقة العلمانية الحداثية في مواضع عديدة، أولًا الزعم والادعاء، وثانيًا التهكم والسخرية؟!.

وإلّا فمن أين لهذا أن ثلث سكان العالم ممن يدينون بدين والبقية ليسوا كذلك؟.

إن هذه الدعوى إضافة إلى كذبها ومخالفتها للحقيقة هي محاولة لملء الفراغ وحشد الأعداد ليتكثّر بها في جانب الإلحاد.

ثم السخرية من الدين الإسلاميّ الذي يقرر أن الكفار في النار، يتحدث عن ذلك على طريقة سلفه الذي قال ساخرًا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر عن شجرة الزقوم:"إنّما الزقوم التمر والزبد أتزقمه"

(1)

.

ويعود هذا الخاسر بعد النسبة التي وضعها للتدين وعدمه فيقول: (ما جدوى الأديان وقد شدت الشرق إلى أحضان التخلف بينما ارتفعت هامة شعوب لا تؤمن بالأديان لقمة الحضارة)

(2)

.

ثم يرسم طريقه الذي اقتدى به، وهو ما يؤكد أنهم ينظرون إلى الدين بعين أوروبية، فيقول:(هناك في البلاد المتحضرة أصبحت الأديان مجرد علاقة خاصة بين الإنسان وربه، هذا إذا كانت موجودة أصلًا وبالتالي أصبحت مجرد إطار، شكل، كلمة تكتب في البطاقة، أما أسلوب الحياة فمنفصل تمامًا يحدده المجتمع من خلال اعتبارات أخرى يستوحيها من أسباب الحضارة)

(3)

.

هكذا تلقى هؤلاء الأغرار هذه الأفكار عن أساتذتهم الغربيين، علمًا بأن الغرب أدخل أديانه في أمور حياتية عديدة، ولهؤلاء الأتباع تتوجه أسئلة من مثل:

(1)

قائل ذلك أبو جهل. انظر: تفسير ابن كثير 6/ 17 عند قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} [الصافات: 62].

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 4.

(3)

المصدر السابق: ص 5 ونحوه ص 11.

ص: 336

لماذا هذا التكالب النصرانيّ اليهوديّ على المسلمين؟.

لماذا يشن الغرب النصرانيّ حربه على المسلمين في البوسنة والهرسك؟.

لماذا يقاتل الصرب تحت رايات وشعارات الصليب؟.

لماذا قام الكيان الصهيونيّ في فلسطين ولم يقم في نيجيريا؟.

لماذا يسعى الغرب من يهود ونصارى في جعل المسلمين دائمًا تحت وطأة الضعف والتخلف والتبعية والاستعباد؟.

لماذا يصرح كبار سياسيّ الغرب بأن معركة كبرى ستأتي بينهم وبين المسلمين في "أرميا صيدون" وأنها آخر معركة في العالم؟.

ثم لماذا هذا الدعم الرسميّ والشعبيّ للمنظمات التنصيرية الموجهة إلى بلاد المسلمين؟.

وأسئلة أخرى كثيرة محرجة لهؤلاء الذين يدافعون عن الغرب أكثر مما يدافع عن نفسه، ويقتدون به ويقلدونه في أحط أموره.

إنهم طلائع العدو، بل هم العدو فاحذرهم قاتلهم اللَّه أنى يؤفكون، هم نقل الإفرازات الإلحادية والصهيونية إلى بلدان المسلمين، وليس معهم من كيانهم الأصليّ إلّا اللغة العربية التي يستطيعون بها توصيل سمومهم إلى أبناء المسلمين.

ولا تجد في فكر هؤلاء وعقائدهم ما يدل على شخصية عربية إلّا اللسان الذي به ينطقون ويه يكتبون، أمّا ما سوى ذلك فقد ذاب في خوض الكافرين واندرج في مدارج الهالكين.

ومن ألوان نفيهم لبعض خصائص الألوهية: القسم بغير اللَّه، وهذا كثير في كلامهم، ومنه قول صلاح عبد الصبور:

(أقسمت بالأهرام والإسلام والسلام

سأقتلك

ص: 337

بكل ما سُقيتُ من مرارة الأيام

أغوص في دمك

أقسمت بالأخ الذي مضى وخلته بلا ثمن)

(1)

.

ويقول:

(أقسمت بالقمر

وبالسحاب والزهر

وباللجين واهب الحياة

سأقتلك)

(2)

.

ومثال آخر من أقوال توفيق زياد:

(قسمًا بأفئدة الأباة

الثائرين بكل ساح

قسمًا بأجنحة النسور

تمردت رغم الجراح

قسمًا بأحداق العذارى

الداميات من النواح

قسمًا برماني وزيتوني

وندماني، وراحي

قسمًا بأرضي، بالشواطئ

بالسواقي، بالمراح

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 94.

(2)

المصدر السابق: ص 96.

ص: 338

بالدم بالأحرار

بالعزم المسعر، بالرياح

لتبرقعن نسورنا أعشاشها

بلظى الكفاح)

(1)

.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير اللَّه فقد كفر أو أشرك"

(2)

.

ولولا قصد رصد صنوف الانحرافات لما أوردت مثل هذه القضية وأشباهها؛ لأن القوم قد انغمسوا في ما هو أبشع من ذلك من ألوان الكفر والإلحاد.

ومن أمثلة انحرافاتهم في هذا: التفاخر بعدم الخشية من اللَّه مثل قول توفيق صايغ:

(ارتعدت ركبتاي اصطكتا

لا لخشية اللَّه.

انقلبتْ خشيتي الخاليهْ

مرقصًا فاحشًا بروما)

(3)

.

ومن ذلك أيضًا: التهكم بالدعاء الموجه إلى اللَّه سبحانه، واعتباره وباءً وفراغًا، ومجرد عناء لا فائدة من ورائه، يقول أمل دنقل:

(ودعونا اللَّه أن يكشف عنا الغمة المنعقده:

أعطنا ليلة حب واحدة

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 285 - 286.

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور باب ماجاء في كراهية الحلف بغير اللَّه 4/ 110، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء 3/ 570، وأحمد في مسنده عن ابن عمر 1/ 125.

(3)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 305.

ص: 339

أعطنا ليلة طهر واحدة

أعطنا ليلة صدق واحدة

وتنسمنا صدى الدعوة، غربلنا الهواء

لمن يكن إلّا الوباء

جربًا تحت الجلود)

(1)

.

أمّا التهكم بأنواع العبادة فقد تمادوا فيه -وسوف يأتي تفصيل ذلك- وإنّما أذكر هنا بعض الشواهد، فمن ذلك الاستخفاف بالسجود في قول نزار قباني:

(وناهداك. أجيبي من أذلهما؟

ويوم كنت أنا. . للَّه ما سجدا)

(2)

.

وفي هذا تهكم بالسجود ونفي له، وهو من حقوق اللَّه تعالى ومن خصائص الألوهية التي لا يصح صرفها إلّا للَّه، كما لا يصح نفي استحقاق اللَّه لها، بيد أن هذا المفتتن لم يقتصر على النوع من الانحراف، وقد سبق ذكر جملة من انحرافاته، وله في أودية الضلال والفساد المدى الواسع والذكر القبيح، فها هو يصف اللَّه -جلَّ وعلا- بالموت شنقًا، ثم ينفي بعد ذلك أي قيمة أو معنى للصلاة والإيمان، فيقول:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا

على باب المدينة

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(3)

.

فهل بعد هذا الكفر من كفر؟ ومع ذلك فلا نجد من الحداثيين

(1)

ديوان أمل دنقل: ص 245.

(2)

الأعمال الشعرية 1/ 434.

(3)

المصدر السابق 3/ 342.

ص: 340

والإمعات التابعين لهم والمدافعين عنهم إلّا الإشادة والامتداح لهذا الكلام المنحط الخبيث ولقائله، تحت شعارات التحديث والجمال الفنيّ والإبداع، ألا فلتكسر الأقلام والأيدي التي تكتب مثل هذا الكفر البواح.

ومن ألوان انحرافاتهم في هذا المسار: جعل العشيقة أحب من اللَّه تعالى، كما في قول محمد الماغوط:

(. . . وكنت أحبك يا ليلى

أكثر من اللَّه والشوارع الطويلة)

(1)

.

ومنها: الاستخفاف بالدعاء وجعله غير نافع ولا مفيد، كقول ممدوح عدوان:(ولو ينفع دعاي اللَّه لدعيت)

(2)

.

ونحو هذا قول عبد الرحمن المنيف في روايته مدن الملح: (. . . ورغم أنه فهم المعنى العام للكلام الذي أداه هاملتون كما يؤدي المؤمن الصلاة أو كما يرفع المتوسل دعاءه إلى قوة مجهولة لكي تساعده، فقد احتار. . .)

(3)

.

وقاعدة هؤلاء جميعًا في جحد خصائص الألوهية ما صرح به أحدهم قائلًا: (. . . يجب وضع الدين في إطاره الصحيح، وهو علاقة الإنسان بربه فقط دون المعاملات الإنسانية؛ لأن الأديان لم تعد تصلح كمنهاج في الحياة بعد أن حرمت في كثير من نصوصها أحاسيس المجتمعات نبضها عندما قضت بتحريم ممارسة الفنون من رسم ونحت وتمثيل ورقص وغناء وموسيقى، نأخذ من أحكامها مايتسق والعصر، ونرفض ما يخالف ذلك حتى ولو أدى الأمر بنا أن نرفضها جميعًا)

(4)

.

وعلة هذا الجحد والمصادمة والرفض الكامل أو الجزئيّ للدين أنهم

(1)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 67.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لممدوح عدوان 1/ 46.

(3)

مدن الملح جـ 5 بادية الظلمات: ص 7.

(4)

مسافة في عقل رجل: ص 4.

ص: 341

يرون -زورًا وبهتانًا- أن الإنسان أصبح لإيمانه باللَّه (مجرد وسيلة، قطعة شطرنج على لوح الأديان)

(1)

وأن (شرائع الأديان أصبحت الآن وفي أغلبها كسيحة عن ملاحقة التطور المذهل للبشرية)

(2)

.

وأن النهضة اليوم لم تأت إلّا بعد التمرد والرفض للأديان (ففي عصر النهضة كانت المجتمعات شرنقة للدين من خلال سيطرة رجال الدين، إلى أن خلع الفكر تلك الشرنقة ومزقها لتدب فيه الحياة بآراء المفكرين والفلاسفة والعلماء)

(3)

.

هذه حقيقة نظرتهم للدين وإن صبغوا أعمالهم بصبغة الأدب، ولونوا مقاصدهم بألوان التحديث والإبداع الفنيّ والتطوير اللغويّ ونحو ذلك من عاداتهم الكلامية.

‌المظهر الثالث من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: جحد حق العبودية للَّه تعالى والسخرية بالعبادة ومظاهرها:

وهي نتيجة حتمية للمقدمة الإلحادية الكفرية، التي جعلوها أساسًا للحداثة والعلمنة وما يسمونه الإبداع والتطوير، وهي جحد ألوهية اللَّه الواحد الأحد، فمن يجحد أن اللَّه هو الإله الحق المعبود دون سواه فلا ريب أنه سيجحد حقه تعالى في أن يعبده الخلق الذين أوجدهم من عدم ويميتهم ثم يحييهم، وسيسخر بالعبادة ومظاهرها.

وهو دأب أسلافهم من الكفار الأقدمين، فهم على آثارهم مقتدون، كما أخبر اللَّه تعالى في قوله:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}

(4)

، {ذَلِكَ

(1)

المصدر السابق: ص 195 ونحوه ص 209.

(2)

المصدر السابق: ص 198.

(3)

المصدر السابق: ص 199.

(4)

الآية 56 من سورة الكهف.

ص: 342

جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}

(1)

.

وأوجه انحرافهم في هذا الباب عديدة تبدأ من جحد حق العبودية للَّه تعالى، وقد مر في هذا الفصل عدة شواهد على ذلك:

من أمثال جحد نصر حامد أبو زيد للعبودية، ونفي أدن تكون العلاقة بين اللَّه تعالى والإنسان علاقة إله معبود بعبد مربوب

(2)

.

إلى حد زعمه بكل جرأة وتبجح أن مفهوم العبودية كما ورد في النصوص الشرعية وكما فهمته الأمة الإسلامية في كل عهودها؛ هو مفهوم مصادم للإسلام ذاته، وأن السير في هذا الاتجاه حركة ارتدادية وعملية إخفاء متعمدة لدلالة النصوص

(3)

، أي أن الأمة كلها منذ مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اليوم عاشت في لجج الارتداد والخياة -حسب تعبيره- حتى جاء هذا المنقذ!! ليظهر الحق ويوضح الحقيقة!!.

وبتتبع كلام هذا المفتتن نجد غايته من هذه السفسطات الزائفة تتمثل في إبعاد الإنسان عن الدين، وخلع ألوهية اللَّه تعالى عن حياة الناس، وجعل الإنسان عبدًا لنفسه وأهوائه، تحت شعارات العقلانية والعلمية والحياة العصرية وغير ذلك من الترهات {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)}

(4)

.

ألم يجعلوا العبادة للَّه وحده، تخلفًا والوثنية والكفر تقدمًا؟.

ها هو أحدهم يقول:

(بين سطور إسفار العبادات

دوران ولفّ

(1)

الآية 106 من سورة الكهف.

(2)

انظر: قضايا وشهادات 2/ صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 398، 399، 400.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 401.

(4)

الآية 12 من سورة غافر.

ص: 343

ولا تقدم)

(1)

.

وها هو الآخر يجعل من الإيمان باللَّه تعالى نقيضًا للعقلانية -الإله المعاصر الذي عبدوه من دون اللَّه- فيقول: (وما دام الإيمان الذي عمر صدور هؤلاء المهتدين الجدد يقدم نفسه كنقيض لكل عقلانية، ولكل تاريخية، وفي غضون ذلك سيكون الواقع قد تعفن أكثر فأكثر)

(2)

.

ولو تأملنا هذا الكلام على بساط العقلانية التي يرددونها دائمًا، لقالت حقائق العقول أن الإنسان اقترب من ربه ودان له كلما كانت حياته الفردية والاجتماعية أفضل وأرقى وأحسن، وكلما ابتعد عن ربه كلما ارتكس وانتكس وشقيّ وتعس، وما التحلل الاجتماعيّ والفساد الخلقيّ والانحراف العقديّ الضارب بأطنابه في الحياة المادية الغربية وفروعها إلّا أكبر دليل على التعفن والانحطاط الذي وصل إليه الإنسان، عندما ترك الدين وترك العبادة واستكبر على اللَّه فحاطت به سيئاته {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)}

(3)

.

وقد اقتبس الحداثيون أسوأ ما في الغرب من أمور، وجلبوا إلى أوطان المسلمين أشر ما عند الكافرين، والعقائد الضالة والأخلاق الفاسدة.

يقول البياتي:

(كان لنا فجر وكانت لنا

آلهة تمنحنا ودها

يا طالما غنيت في حبها

وكنت في حبي لها عبدها

حتى إذا ما الأمس ولّى مضى الـ

ـساقي وخلى في فمي قيدها

يا طيفها! نوافذي أغلقت

وأطفئت أنوارها بعدها)

(4)

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لتوفيق صايغ: ص 307.

(2)

قضايا وشهادات 4 خريف 1991 م/ 1411 هـ: ص 32 من مقال لسعد اللَّه ونوس بعنوان "الثقافة الوطنية والوعي التاريخي".

(3)

الآية 124 من سورة طه.

(4)

ديوان البياتي 2/ 180.

ص: 344

وسواء قرئت هذه الأبيات على أنها جحد وتمرد على الماضي الإسلاميّ الذي يقوم على عبودية اللَّه، أو قرئت على أنه يخاطب معشوقته التي جعل منها آلهة وجعل من نفسه عبدًا لها، فكلا الأمرين يدل على عمق الانحراف الاعتقاديّ، وظهور التبعية للغرب الماديّ.

ومن هذا النمط قول توفيق صايغ:

(إله الصلوات الطوال البعيد

انتشلني لدياره

جعلها دياري)

(1)

.

وقول أمل دنقل:

(حين أخلع عني ثياب السماء

فأنا أتقدس -في صرخة الجوع- فوق الفراش الخشن)

(2)

.

ويقرنون بين عبادة اللَّه وحب اللَّه تعالى والتسكع والسرقة كما في قول أحدهم:

(عاد المتثائب للمقهى

ولحب اللَّه.

عاد العاطل للسرقة)

(3)

.

ويسخرون بالدعاء الذي هو العبادة، ويصفون عفو اللَّه بالسمّ كما قال أحمد دحبور:(أسأل اللَّه ألا يسمم بالعفو حزني)

(4)

.

ويجعلون الكفر والإلحاد وترك الدين والعبادة حرية تفكير واعتقاد،

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 291.

(2)

الأعمال الشعرية لأمل ونقل: ص 272.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لممدوح عدوان جـ 2 لابد من التفاصيل: ص 94.

(4)

ديوان أحمد دحبور: ص 520.

ص: 345

كما يقول الطاهر بن جلون

(1)

في رواية ليلة القدر: (. . . أحب القرآن كشعر رائع، وأمقت الذين يستغلونه في تشويشات ويحدون من حرية التفكير، إنهم منافقون. . . أنا أعرفهم جيدًا، لقد تعاملت معهم من قبل، إنهم يستندون إلى الدين للسحق والهيمنة، وأنا أستند حاليًا إلى الحق في حرية التفكير وحرية الاعتقاد أو عدمه هذا لا يعني سوى ضميري. . .)

(2)

.

ويقول في موضع آخر على لسان إحدى شخصيات روايته: (إنني في قطيعة مع العالم، أو على الأقل مع ماضيّ الشخصيّ لقد اقتلعت كل شيء، إنني مقتلعة عن طواعية، وأحاول أن أكون سعيدة، أي أن أعيش حسب إمكانياتي، بجسدي الخاص، لقد اقتلعت الجذور والأقنعة، أنا تيه لا تمسكه ديانة، أسير لا مبالية وأعبر الأساطير.

- هذا ما يدعى بالحرية

- نعم التجرد من كل شيء، وعدم امتلاك أي شيء لكي لا يملكني شيء، حرة، أي مستعدة، سابقة على العقبات، وربما سابقة على الزمن. . .

- ليس للإنسان شيء في الأصل، هذا صحيح، وينبغي ألا يكون له شيء في النهاية. . .)

(3)

.

وعندما يتحدث عن الإسلام والمجتمع المسلم الذي التزم به يقول: (مجتمع قائم على النفاق وأساطير ديانة حُوِّل اتجاهها وأفرغت من روحانيتها. . .)

(4)

.

(1)

الطاهر بن جلون، من مواليد فاس في المغرب سنة 1364 هـ/ 1944 م، يقيم في باريس، روائيّ وناقد وشاعر حداثيّ، ودكتور في علم النفس، شديد العداء للإسلام قويّ الولاء للغرب، وهو من أعلام الفرنكفونية منح جائزة غونكور الفرنسية على روايته ليلة القدر، وهي أكبر جائزة أدبية تمنح في فرنسا. انظر: مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير 1989 م: ص 66.

(2)

ليلة القدر: ص 60.

(3)

ليلة القدر: ص 63.

(4)

المصدر السابق: 106 - 107.

ص: 346

ليس بعد هذا الكلام أي إيضاح في عمق وفضاعة الانحراف العقديّ في الأدب الحديث.

وأساس فلسفتهم في جحد حق العبودية للَّه تعالى ما قاله علاء حامد في روايته مسافة في عقل رجل: (. . . الإنسان ليس سوى نظرية مادية بحتة، وجد بالصدفة ويموت بالصدفة، ويموت يصبح مجرد ذكرى في أروقة الحياة فلا إله ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا جن أزرق أو أحمر، ولا ملائكة بيضاء أو خضراء تهفهف بأجنحتها، والرسل ليسو سوى مجموعة من الدجالين، والأديان صيغ بشرية ذكية، والإنسان ابن الطبيعة، خالق نفسه، هو الأوحد الأقوى والأفضل والجبار والمتكبر، وبالتالي فقد وجد بالصدفة وسيفنى جنسه البشريّ أيضًا بالصدفة. . .)

(1)

.

هذا الكلام التافه والمنطق الرخيص هو في الحقيقة محور فكرتهم في نواحي انحرافاتهم العديدة، غير أن هذا صرّح وغيره لمح ورمز.

قال اللَّه تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)}

(2)

.

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}

(3)

.

لقد أغرق هؤلاء في جحودهم واستكبارهم وعنادهم حتى جعلوا التحرر من العبادة للَّه تعالى والتحرر من الدين والشرائع أساسًا للإبداع والتحديث والتقدم والرقي!!.

فأدونيس في حديثه عن نفسه ومنهجه الحداثيّ ومشاريعه الإبداعية

(1)

مسافة في عقل رجل: ص 125.

(2)

الآية 146 من سورة الأعراف.

(3)

الآية 35 من سورة غافر.

ص: 347

يقول: (أنا المتوثن والهدم عبادتي)

(1)

، وقد سبق نقل كلام أحد منظريهم في الثناء على تعدد الأوثان عند اليونان

(2)

، واعتبار ذلك أساسًا للتعددية الفكرية الحديثة وللحرية، أمّا التوحيد - عنده فجمود وتخلف وتحكم وعوائق وأغلال (2)، ثم خلص إلى أن مطلب الحداثة هو تحرير الإنسان من الوحدانية وإعادته إلى الوثنية، فقال ما نصه:(. . . فالوحدانيه تتناقض كل التناقض مع الحرية، إن وحدانيتها تحول دون تحقيق وعودها فلا حرية مع الوحدانية. . . لذلك نجد النهضة الأوروبية حاولت إعادة الصيغة الوثنية التعددية، فقد وجدت فيها التعبير الاكمل لحرية الإنسان فكرًا وجسدًا، وهنا تبدأ الحداثة الثانية وبدايتها كانت على شكل مساومة بينها وبين الوحدانية، ولم تظهر بشكل واضح إلّا بعد أكثر من قرنين من النهضة الأوروبية التي تشكل البداية فقط)

(3)

.

إذن هذه الحداثة، وهذا أول طريقها المظلم وبداية حملتها الصليبية والصهيونية الإلحادية لاختراق دار الإسلام، باسم التحديث والتجديد هذه المرة، وفي أزياء العقلانية والتطوير والتاريخية والعصرية.

وما هي في الحقيقة إلّا حلقة في سلسلة طويلة من الحرب للإسلام وأهله، وشعبة من شعب الكفر والنفاق يراد لها أن تلقى بظل يحومها على ربوع الإيمان والتوحيد في قلوب المؤمنين، لتوجد مكان التوحيد وثنية باسم التعددية، ومكان اليقين شكًا باسم النقاش والحوار، ومكان الشريعة جاهلية باسم العقلانية، تارة بالكفر البواح في الأمكنة التي يتاح لهم فيها المجاهرة به، وتارات بالمخبوء والمستتر تحت الألفاظ والرموز الغامضة فى الأمكنة التي لا يتمكنون فيها من البوح والتصريح.

وعلى كل حال فقد أضحى التحرر من العبادة للَّه ومن الإيمان به ومن

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 2/ 642.

(2)

انظر: مجلة الناقد، عدد 8: ص 32 - 34، وقد سبق نقل ذلك في ص 198 - 200 من هذا الكتاب.

(3)

المصدر السابق: ص 33.

ص: 348

التوحيد ومن الشريعة أساسًا من أهم أسس الإبداع عند أصحاب الحداثة.

ويُمكن القول بكل صراحة: إن منظري ومروجي الحداثة يعلنون بكل جرأة، بأن الكفر باللَّه ودينه هو أساس الإبداع، ولنستمع إلى قول سادن صنم الحداثة، الباطنيّ أدونيس في هذا المجال، وذلك في أثناء حديثه عن الخروج عن ما أسماه بالمشكلية القديمة للحضارة العربية، المتمثلة حسب زعمه في الوحي والدين والقديم، والتي يراها متناقضة مع ثنائية مقابلة لها، فالوحي مع العقل، والدين مع الفلسفة، والقديم مع الحديث، ويرى أن هذه الثنائية التفاضلية التعليمية أدت إلى دوران الفكر العربي والشعر في إطار مغلق وضيق، بين ثنائيّ تقويميّ: حق وباطل، وخير وشر، وإيمانيّ وإلحاديّ، وأصوليّ وخارجيّ وعربيّ وشعوبيّ، وقديم ومحدث

(1)

.

ثم خلص من ذلك إلى أن هذا المناخ من الهيمنة أدى إلى ثورة مؤداها أنه (لم يعد المطلق الإلهيّ وحده مركزًا، بل صار الإنسان شريكًا له، ذلك هو الجانب الصوفيّ والعقلانيّ الإلحاديّ، لكن على مستوى آخر من هذه الثورة. . . أصبح العالم تفجرًا مستمرًا صوب تكامل مستمر، ولم يعد المطلق الإلهيّ وراء العالم أو قبله وحسب، وإنّما أصبح أمامه أيضًا، لم يعد يجيء من الماضي وحده، وإنّما أخذ ينبثق في الحاضر ويجيء من المستقبل أيضًا، ولم يعد المطلق الإلهيّ في هذا المنظور جوابًا لا سؤال بعده، وإنّما أصبح سؤالًا، والعالم، إذن، لم يخلق كاملًا، دفعة واحدة وإلى الأبد، وإنّما صار كل شيء فيه للخلق المستمر. . . هكذا لا يعود علم الجمال، بالنسبة إليه علم جمال النموذج أو الأصل أو الثابت، بل علم جمال المتغير، المتحول، المتجدد، ويصبح الإبداع ممارسة الشاعر، الأولى، من أجل تأسيس وجوده في أفق البحث السؤال، لم يعد الشاعر، بتعبير آخر، يكتفي بمحاكاة العالم، وإنّما أصبح يمارس هو نفسه خلق العالم، وبدلًا من أن يردنا علم جمال الثابت إلى العالم البديع الفائق، الكامل الصنع، أخذ يردنا علم جمال المتحول إلى القصيدة البديعية الصنع، كصورة جديدة عن

(1)

انظر ذلك في الثابت والمتحول جـ 3 صدمة الحداثة: ص 262 - 263.

ص: 349

العالم من صور ممكنة لا نهاية لها)

(1)

.

هذه هي أسس الإبداع الحداثيّ وأصول فكرة التحول والتجديد والصيرورة الدائمة.

أمّا القصيدة البديعة التي يعنيها أدونيس في كلامه السابق، فهي من جنس أقواله الإلحادية الخبيثة:

(سقط الخالق في تابوته

سقط المخلوق في تابوته

والنساء ارتحن في مقصورة)

(2)

.

(أحرق ميراثي، أقول أرضي

بكر، ولا قبور في شبابي

أعبر فوق اللَّه والشيطان

دربي أنا أبعد من دروب

الإله والشيطان)

(3)

.

هذا بعض تجديده وبعض وممارسته لعلم جمال المتحول، وهو الإطار والصورة الجديدة للعالم الذي يريده أدونيس، وهو اختياره الذي عبر عنه بقوله:

("من أنت" من تختار يا مهيار؟

إني اتجهت، اللَّه أو هاوية الشيطان

هاوية نذهب أو هاوية تجيء

(1)

المصدر السابق: ص 264 - 265.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 283، وهذا النص وإن كان في الربوبية إلا أنه يتضمن جحد حق العبودية للَّه سبحانه وتعالى.

(3)

المصدر السابق 1/ 289.

ص: 350

والعالم اختيار

- لا اللَّه اختار ولا الشيطان

كلاهما جدار

كلاهما يُغلق لي عينيّ

هل أبدل الجدار بالجدار

وحيرتي حيرة من يضيء

حيرة من يعرف كل شيء)

(1)

.

وبعد هذا الكفر البواح لك أن تسأل، هل يوجد من الحداثيين الذين ينتسبون إلى الإسلام من يعجب بأدونيس ويحبه ويدافع عنه؟

وللإجابة على هذا نأخذ كلام أحد الحداثيين المصِرِّين على أن الحداثة لا تناقض الإسلام، ونرى موقفه من أدونيس صاحب هذه الأقوال الشنيعة.

ففي مقابلة في جريدة الشرق الأوسط مع عبد اللَّه الغذامي

(2)

سئل: (كيف ترى مستقبل الحداثة الفنية التي يتبناها التيار التجريبيّ بريادة أدونيس؟، وهل يُمكنها أن تفرض نفسها كاتجاه أساسيّ في حركة الشعر العربيّ الحديث ولماذا؟)

(3)

.

أجاب الغذامي قائلًا: (يبدو لي أن مسألة أدونيس والأدونيسية مسألة

(1)

المصدر السابق 1/ 288.

(2)

هو: عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه الغذامي، ولد عام 1365 هـ في عنيزة، حصل على الماجستير والدكتوراه من بريطانيا جامعة أكستر عام 1398 هـ/ 1978، عمل أستاذًا في جامعة الملك عبد العزيز في جدة ثم انتقل إلى جامعة الملك سعود في الرياض، من الحداثيين الدعاة، يتبنى المنهج البنيويّ وينافح عنه ويفخر بأنه أول من أدخله إلى البلاد، وأنه لا يناقض الإسلام!! حصل على جائزة مكتب التربية العربيّ لدول الخليج عام 1405 هـ عن كتاب الخطيئة والتكفير، الذي أثبت الأستاذ أحمد الشيبانيّ رحمه الله في ملحق الأربعاء أنواع انتحالاته فيه، كما أثبت الانحراف العقديّ للبنيوية وعموم الألسنية، معجب بالملحد النصرانيّ أدونيس. انظر: دليل الكتاب والكاتبات: ص 210.

(3)

جريدة الشرق الأوسط 14/ 7/ 1987 الموافق 18/ 11/ 1407 هـ.

ص: 351

في غاية الحساسية، وقد يكون أدونيس شاعرًا متمكنًا ومثقفًا واسع الاطلاع، واطلاعه هنا منبثق من معرفته الوثيقة بالثقافة العربية التقليدية مثل ما هو وثيق المعرفة بالثقافة الغربية الفرنسية والإنجليزية، فمن هنا تأتي تجربة أدونيس وكأنها مكونة من عجينة غريبة الأطوار لكنها واثقة من نفسها -إلى أن يقول: - أدونيس من الصعب دمجه داخل السياق الشعريّ العربيّ فهو سيظل مدرسة متفردة، صحيح أنها مدرسة متميزة ورائعة لكن خروجها على السياق العربيّ خروج كبير جدًا، لا يُمكن السياقات التالية لها من الصمود والبقاء داخل جسد القصيدة العربية)

(1)

.

ويعجب أي مسلم من هذا الإطراء البغيض لهذا الرمز الإلحاديّ المكشوف!! وهذه الادعاءات التبجيلية والارتماء المعتم أمام سادن أصنام الحداثة.

ويبدو أن المادح مثل الممدوح في معرفته بالإسلام وتاريخه وحضارته، ولذلك وهبه صبغة أنه صاحب معرفة وثيقة بالثقافة العربية، علمًا بأن ثقافة أدونيس العربية ليست سوى ثقافة الانحراف بدءًا من الطائفية النصيرية التي نشأ وتربى على عقائدها الضالة وانحرافاتها

(2)

، وانتهاءً بثقافة الإلحاد التي أشاد بها وامتدحها في كتابه الثابت والمتحول

(3)

، وفي منثور كلامه في هذا الكتاب وغيره.

ويمارس هذا المادح أسلوب التعمية بالتعميم الإطرائيّ حين يصف أدونيس بأنه شاعر متمكن ومثقف واسع الإطلاع.

(1)

جريدة الثرق الأوسط 14/ 7/ 1987 الموافق 18/ 11/ 1407 هـ.

(2)

انظر شواهد ذلك وأدلته في كتاب إحسان عباس اتجاهات الشعر العربيّ المعاصر: ص 126 وص 110، وكتاب أدونيس منتحلًا: ص 23 - 24، وكتاب قضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 150، وإثبات البياتي لهذا في: ص 214 - 215. وانظر: عودته إلى منبعه الباطنيّ وامتداحه لهذا الاتجاه في الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول: ص 91، 92، 96، 212، 213، 214، 64، 66، 70.

(3)

انظر: الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول - الفصل الثاني بعنوان المنهج التجريبيّ وإبطال النبوة: ص 71 - 87.

ص: 352

وقد التقيت به في لقاء خصص للحوار بين اتجاه الحداثة واتجاه الإسلام في الرياض عام 1408 هـ وكان مما ذكرته له هذا القول في الثناء على أدونيس واعطائه شهادة التزكية الثقافية العريضة هذه، فأجاب بإصرار على أن أدونيس مثقف واسع الثقافة وأنه يجب أن نعترف له بهذا الوصف ونحو ذلك من الانجرار في هذا المجرى التبجيليّ التبريريّ الامتداحيّ، وما علم أن أستاذ أدونيس رئيس حزبه "إبليس" أعلم من أدونيس وأوسع ثقافة منه وأكثر اطلاعًا، وكذلك أتباعه الدجالون العتاة على مر التاريخ كانوا على هذه المثابة، ومع ذلك فإن ذلك لم يعم أبصار أولي البصائر وأهل الألباب أهل العلم والإيمان والتصديق والإيقان، فما سمعنا منهم من يمدح ويثني على سعة ثقافة إبليس وكثرة اطلاعه، بل نسمع ذلك حتى من الذين أغرقوا غاية الإغراق في اتباعه وطاعته.

ثم متى أصبحت الثقافة الواسعة مجالًا لامتداح رجل يعلن الكفر والإلحاد، ويفاخر بالوثنية والباطنية، إلّا إذا كان المراد من هذا الامتداح تضليل البسطاء ومخادعة ضعفاء العقول وترويج باطل يتستر خلف هذه الشعارات البراقة الكاذبة.

ولو أن هذا المادح اعتُديَ عليه في نفسه أو ماله أو أهله ثم جاء من يثني على ثقافة من قام بالاعتداء، أو على أصله ونسبه وحسبه، أو وصفه بأنه صاحب مدرسة متفردة متميزة رائعة، لما قبل مثل هذه الشهادة ولردها وأنكر على صاحبها غاية الإنكار.

فكيف يليق بالمسلمين أن يأتي من أبنائهم وممن يدعي الانتماء لدينهم -وربّما كان من المحافظين على بعض الشعائر الظاهرة- فيلقى المدائح المضللة والألقاب الخادعة لرجل يعلن بصواحة أنه يقتل اللَّه "تعالى اللَّه عما يقول"، وتضج كتاباته بالكفر والشرك والإلحاد دون أن يشير أدنى إشارة إلى هذا الانحراف الضخم والتردي الهائل، هذا إن صح أن تذكر هذه الانحرافات مع ذلك التبجيل والمدح، فكيف وقد غطى سوأة الإلحاد بألقاب الثقافة والمدرسة المتميزة والاطلاع الواسع والمدرسة الرائعة؟!.

ص: 353

إنه أمر الأهواء منذ القديم، تهوي بأصحابها في تخوم التبعية، وتجعله يستقبل الكفر والإلحاد بلا أنفة أو حمية إيمانية.

وما من شيء عبث بهذه الأذهان المستعبدة سوى هذه الأهواء الجارفة، التي تمتد رذيلتها إلى شعاب كثيرة في الأفكار والأعمال، منها هذه المدائح الفارغة التي تطل علينا كل يوم من ملحق ثقافيّ أو كتاب أدبيّ.

وقد يتصدى لهذا المادح آخر من شكله يمتدحه وهكذا في سلسلة من المدائح والاعتناء والاحتفاء المقصود.

خذ حداثيًا آخر يمتدح الغذامي وأدونيس وآخرين فيقول في رسالة موجهة إلى الغذامي: (إني أرشحك أن تكون جبيننا المرفوع أمام المبدعين الآخرين، ووجهنا المضيء في كل احتفال مبهج بالكلمة والإيقاع، كما عبد العزيز المقالح في اليمن، وعز الدين إسحاق في مصر، وماجدة السامرائيّ في العراق، وكما أدونيس في الوطن العربيّ كله أجدني أبتهج بك)

(1)

.

وأعمال الامتداح هذه على ما فيها من الفجاجة والمعابة هي -في اعتبار هؤلاء- حق خالص لا ينازعهم فيها منازع، ولطالما سعوا بالثلب على الشعراء الأقدمين، في سفاهة وبذاءة، من أجل أنهم امتدحوا ملوك المسلمين وسلاطينهم وأمراءهم وخلفاءهم، أمّا هم فقد ارتكسوا في مدح الشيوعية ورموزها ومبادئها، والغرب ومبادئه، والإلحاد وسخافاته، والانحرافات الخلقية وأصحابها.

فإذا تأمل العاقل هذه التناقضات الهجينة وجد أن هذا الدخول الجريء المستبشع، وهذا المركب الخبيث الذي ركبوه، هو الذي جرهم إلى أشباههم وأهل ملتهم من الحداثيين والعلمانيين، فانبعثوا في ولاء تام لبعضهم حاملين ألوية الضلال والإضلال.

وإذا كانوا قد قرروا أن الإيمان والتوحيد هو أساس التخلف، وأن

(1)

مجلة اليمامة، عدد 940، في 28/ 5/ 1407 هـ.

ص: 354

الكفر والوثنية هي أصل التعددية والحرية الثقافية والإبداعية، فإنهم ما فتئوا يكررون هذا المعنى في عبارات عديدة منها قول أحدهم:(ثالث الأساسيات الثقافية الموروثة هو افتقاد الحرية، فكما أن الإنسان لا يمتلك من أمره شيئًا أمام القوة المهيمنة للنموذج/ للماضي/ للَّه/ لقوى اللاوعي الغامض/ للقدر، فهو أيضًا لا يمتلك من أمره شيئًا أمام رموز هذه الجواهر على الأرض، الحاكم أو الرئيس أو الملك أو النظام، فكل هذه الرموز تمثل العلاقات المعطاة مسبقًا)

(1)

.

وهو المعنى ذاته الذي قرره أدونيس في كتابه زمن الشعر في قوله: (ومن هنا يبدو مقياس الشعر الثوريّ العربيّ في مدى رفضه الموروث أنه الشعر الذي يعلن موت كل ما يميت الإنسان، وهو في ذلك لا يقتل الآلهة وحسب، وإنّما يقتل كذلك كل من يحاول أن يحتل كرسيها أو يأخذ دورها سواء كان سلطانًا أو نظامًا أو إيديولوجية)

(2)

.

وهذه الثورة الحداثية تستهدف أول ما تستهدف دين اللَّه تعالى، وتعزز أول ما تعزز إلحادًا في ثوب تحديث، وانحرافًا رداء إبداع، وهي الثورة المحطمة لكل المقومات الأساسية في حياة المسلمين.

وهذا ما قام بتوصيفه إحسان عباس في معرض حديثه عن مضامين الثورة الحداثية حيث قال: (. . . الثورة حين تعتمد التحطيم ترتبط بالإخافة لمن لا يقدرون على تصور كل نتائجها، وهؤلاء يخشون إلى درجة الرعب انهيار سلطة الأب وتفكيك نظام العائلة، وبالتالي تقشعر نفوسهم من التحدي للسماء، ذلك أن إنسانية الإنسان -دون أي شيء آخر- تعني فيما تعنيه إشاحة الوجه عن كل ما هو وراء الغيب، وهذه سمة بارزة في الشعر الحديث، ولا يخفف من وقعها أن نحتال لها بالتفسيرات والتوجيهات، هل الشاعر من حزب الشيطان؟ لو كان الأمر كذلك لكان يدخل حربًا خاسرة، ولكنه من حزب الإنسان، وهذا يعني أن الإنسان هو القيمة الوحيدة في هذا

(1)

بحثًا عن الحداثة: ص 67.

(2)

زمن الشعر: ص 113.

ص: 355

الكون، وهو لا يحاول أن يدخل حربًا بين طرفين، وإنّما يكتفي بالجحود)

(1)

.

هذا التحليل من أستاذ حداثيّ متمكن في التنظر والنقد لهذا الاتجاه، وهو تحليل يظهر بجلاء أن مارسخ في نفوس وعقول هؤلاء مصبوغ صبغة شديدة بالكفر والإلحاد، وأن الحداثة ملة مباينة لملة الإسلام مباينة تبلغ حد الرفض والمناقضة.

وثقافة هذه منازعها وتلك هي أهدافها، لابد أن تكون في صف آخر غير صف الحق والخير والعدل والفضيلة المتمثلة في دين اللَّه القويم الأبلج.

وما التحدي للسماء وعدم قشعريرة نفس إحسان عباس، وسائر الحداثيين الذين وصفهم، من هذا التحدي إلّا مظهر من مظاهر هذه الردة الحداثية.

وما تأليه الإنسان وجعله القيمة الوحيدة في هذا الكون إلّا شعبة من شعب التحدي للسماء والدين والإله العظيم -جلَّ وعلا- وما إشاحة الوجه عن كل ما وراء الغيب إلّا شعبة أخرى من شعب هذه الملة الإلحادية الجاحدة.

غير أن إحسان عباس يأبى على الذين يحتالون بالتفسيرات والتأويلات والتوجيهات ليجمعوا بين الحداثة والإسلام، يأبى عليهم هذا ويستنكر صنيعهم، حتى ولو قال أعداء الحداثة بأن هذا من حزب الشيطان فهو لا يأبه أو لا ينبغي له أن يأبه؛ لأنه من حزب الإنسان الذي أصبح إلهًا من دون اللَّه مستغنيًا عن كل ما سواه.

هذه الثورة الحداثية في وصف إحسان عباس، وهو الذي يعد من المعتدلين في هذا التيار!!!.

وعندما أتحدث عن الحداثة فإنه يجب ألا يغيب عن الأذهان أن ما تعنيه الحداثة وتتضمنه هو عين ما تعنيه العلمانية وتحتويه، وقد أفصح عن

(1)

اتجاهات الشعر العربيّ المعاصر: ص 158.

ص: 356

هذه الحقيقة غير واحد من طواغيت الحداثة، منهم خالدة سعيد التي قالت:(. . . تبدو العلمنة كمبدأ، بعدًا من أبعاد الحداثة، دون أن يعني ذلك صيغة محددة بعينها، وفي إطار الحداثة علينا أن نقرأ المفكرين العلمانيين، القوميين منهم والماركسيين، وقد أسهم هؤلاء المفكرون، بدورهم في إذكاء تيارات الحداثة العربية وتعميقها)

(1)

.

ويعبر عبد الرحمن المنيف عن هذه العلاقة بقوله: (. . . نجد أول معثى من معاني الحداثة: الجديد في مواجهة القديم، والجديد لا يقتصر على الفكر والأدب، وإنّما ينسحب أيضًا على البنى الاقتصادية والاجتماعية، وإلى قيم جديدة مختلفة عما هو قائم وسائد، وإلى علاقات تلائم هذه القيم، كل ذلك مع تطور لا يلبث يتسع ويتزايد في العلوم والتكنولوجيا والمعارف الإنسانية، إضافة إلى تنمية القوى المنتجة وتنامي الوعي، وعلمانية في الفكر والسلوك، لأن مركز الثقل أخذ ينتقل من السماء إلى الأرض. . .)

(2)

.

وأهم وجه من أوجه تطابق الحداثة والعلمنة أنها -كما سبق- تتجرد من التأله والتعبد للَّه وتنعطف نحو الإنسان والأرض (العلمنة في معناها العميق انعطاف من الإله إلى الإنسان، ومن مملكة العرب إلى مملكة الإنسان، وبذلك لم يعد الإنسان يرى العالم نتاج نظام إلهيّ أبديّ، بل وجد نفسه أمام نظام من صنع يديه لا استئناف لأحكامه إلى سلطة عليا، ومن هنا تغيرت نظرة الإنسان إلى العالم تغيرًا جذريًا فلا شيء محرم على العقل.

فعوض عالم مستقر آمن قائم على قواعد ثابتة لا تتزعزع، وجد الإنسان نفسه، شيئًا فشيئًا في عالم لا قواعد ثابتة له، عالم على ساكنيه أن يعيدوا بناءه بأيديهم وعلى صورتهم ومثالهم، هكذا أصبح الإنسان أكثر من أي وقت مضى مقياس كل شيء، إذ أن العصر الحديث عصر علمانيّ بدأ حين

(1)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م/ 1411 هـ: ص 65.

(2)

المصدر السابق 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 210.

ص: 357

وعى الإنسان قدرته، وأخذ يعرب عن وجهة نظره الفردية المستقلة إلى نفسه واللَّه والكون، لقد تأتى له أن يشك، وفي شكه عزم على الاكتشاف لنفسه وبنفسه، وتعني العلمانية، الزمانية، العقلانية، -عميقًا- على مستوى الإنسان ما يسمه الخال بالإنسان الحر الذي هو قبل أي شيء آخر الفرد، وبمعنى آخر تعني العلمانية/ العقلانية على مستوى الإنسان الفردية بالمعنى الليبراليّ للكلمة. . .، تصبح الحداثة في هذا السياق وبما هي نظرة إلى الوجود أو عقلية، حسب تعابير الخال. . . نظامًا معرفيًا يجد مرجعه في النزعة الإنسانية الطبيعية أو العلمية. . .)

(1)

.

وهذا الكلام خليط من كلام يوسف الخال ومحمد جمال باروت وهو الذي قام بالصياغة مقتبسًا أقوال الخال من مقال له بعنوان نحو أدب عربيّ حديث ونشر في مجلة أدب - المجلد الثاني، العدد الأول شتاء 1963 م/ 1382 ص: ص 9 - 10.

والمقصود أن الحداثة تقوم على جحد حق العبودية للَّه تعالى، وترى أن التحرر من العبادة هو أساس الإبداع والحداثة.

أمّا السخرية والتهكم بالطرق التي توصل إلى اللَّه تعالى فلازم لا ينفك عن هذا الأصل، بل هو واقعهم الحقيقيّ، وقد سبق نقل كثير من كلامهم في هذا الصدد، منها قول الصايغ:

(بين سطور أسفار العبادات

دوران ولف

ولا تقدم)

(2)

.

وقوله:

(وحبي لك احتلام

(1)

المصدر السابق 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 258.

(2)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 307.

ص: 358

وديني هرطقة)

(1)

.

ومن السخرية بالطرق الموصولة إلى اللَّه قول أنسي الحاج: (لا يخف أحد على اللَّه من الحرية فهي أضمن الطرق المؤدية إليه)

(2)

.

وهي يعني بالطبع حرية الكفر والإلحاد، والدعارة والانحطاط.

على غرار قول سعدي يوسف:

(حبيبتي كافرة. . . إنها لم تتخذ غير الهوى دينا)

(3)

ومثله قول نزار قباني:

(وشجعت نهديك فاستكبرا

على اللَّه حتى فلم يسجدا)

(4)

.

ونحو قوله:

(وناهداك أجيبي من أذلهما؟

ويوم كنت أنا للَّه ما سجدا)

(5)

.

ومن ألوان تهكمه وسخريته بالعبادة للَّه، امتداحه للكفر والإلحاد، كقوله:

(يا طعم الثلج وطعم النار

ونكهة كفري ويقيني)

(6)

.

ونحوه قوله:

(1)

المصدر السابق: ص 365.

(2)

خواتم: ص 15.

(3)

الأعمال الشعرية لسعدي يوسف: ص 951.

(4)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 25.

(5)

المصدر السابق: 1/ 434.

(6)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 39.

ص: 359

(ماذا أعطيك؟ أجيبيني

قلقي إلحادي؟ غثياني

ماذا أعطيك سوى قدر

يرقص في كف الشيطان)

(1)

.

ونحوه قوله:

(أعطيني الفرصة حتى أقنع حتى أؤمن حتى أكفر)

(2)

.

ومن ألوان تهكمه وسخريته بالعبادة للَّه تعالى وبالطرق التي توصل إلى رضوانه، وصفه لرواد المساجد بالتنبلة وهي البطالة والخسة، واستهزاؤه بالدعاء وذلك في قوله:

(نقعد في الجوامع

تنابلًا كسالى

نشطر الأبيات أو نؤلف الأمثالا

ونشحذ النصر على عدونا

من عنده تعالى)

(3)

.

وأشنع من هذا كله قوله:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا

على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمة

(1)

المصدر السابق 1/ 406.

(2)

المصدر السابق 2/ 199.

(3)

المصدر السابق 3/ 89.

ص: 360

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(1)

.

أمّا شاعر الأرض المحتلة -حسب وصف الحداثيين- محمود درويش: فيتحدث عن أبيه رمز القديم ورمز الجيل المؤمن باللَّه، ويتهكم به وبصلاته وعبادته، فيقول:

(غض طرفًا عن القمر

وانحنى بحضن التراب

وصلى

لسماء بلا مطر

ونهاني عن السفر!

. . . وأبي قال مرة

حين صلى على حجر:

واحذر البحر. . والسفر!

يوم كان الإله يجلد عبده

قلت: يا ناس نكفر

فروى لي أبي. . وطأطأ زنده:

في حوار مع العذاب

كان أيوب يشكر

خالق الدود والسحاب!

خلق الجرح لي أنا)

(2)

.

ولا يخفى ما في هذه الكلمات من سخرية باللَّه ودينه وبالصلاة

(1)

المصدر السابق 3/ 342.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 144 - 145.

ص: 361

والعبادة، وما فيها من ارتماء وامتداح للسفر والقمر والبحر رموز الغرب وثقافته ونظم حياته.

وفي تهكم بالصلاة أو الدعاء والألوهية يقول:

(بين ريتا وعيوني بندقية

والذي يعرف ريتا ينحني

ويصلي

لإله في العيون العسيلة!)

(1)

.

ويجعل السماء وما يأتي منها أغلالًا، والدعاء والصلاة عديمة الفائدة، فيقول:

(رأينا أصابعه تستغيث، وكان يقيس السماء بأغلاله

. . . .

ينادين يافا

فيأتي الصدى حرسًا

ومن يومها، كفت الأمهات عن الصلوات وصرنا

نقيس السماء بأغلالنا)

(2)

.

أمّا زميله في النضال!! سميح القاسم فيرى أن قمة تفوقه تكون بالتطهر والبراءة من السماء، فيقول:

(من قديم الزمان!

قبل كانوا سعاة

في بريد الإله

(1)

المصدر السابق: ص 192.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 448 - 449.

ص: 362

لم يكونوا غزاة ككل الغزاة

وأنا أيها السادة التافهون

طاهر، طاهر من رياء القضاة

ومسوح السماء)

(1)

.

ويقصد بمسوح السماء الدين والشرائع والعبادات التي جاء بها الوحي وأنزلها اللَّه على أنبيائه، ويدعي أنه يتطهر منها، وهو في الحقيقة منغمس في أوحال نجاسات الشيوعية والإلحاد.

وفي مقدمة ديوان توفيق زياد يذكر المقدم أنواع الألفاظ والأساليب التي استخدمها توفيق زياد ويعد منها الدعاء ويعتبره أسلوبًا شعبيًا مثل قوله: (انشله يارب من كل ضيق)

(2)

، أي: أن الدعاء الذي هو العبادة ليس إلَّا أسلوبًا فلكلوريًا.

أمّا صاحب الديوان نفسه وهو الشيوعيّ العريق في الشيوعية، والدرزيّ الأصل، فيقول متهكمًا بالدعاء والصلاة:

(ومن أين تأتي النقود

وهذه السموات رغم الدعاء

ورغم الصلاة صباح مساء

أبت أن تجود ولو بالقليل

من الذهب المفتدى)

(3)

.

‌المظهر الرابع من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: العبودية لغير اللَّه تعالى:

قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 413.

(2)

ديوان توفيق زياد - المقدمة ج "جـ".

(3)

المصدر السابق: ص 177 - 178.

ص: 363

كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}

(1)

.

وهذه الآية تنطبق على أهل الحداثة، الذين فروا من عبادة اللَّه وتمردوا على ألوهية اللَّه تعالى، زاعمين أنهم ينشدون الحرية ويلتمسون طرق التقدم. .، لكن واقع حالهم أنهم ارتكسوا في أحط أنواع العبوديات، وانحطوا إلى دركات الشرك، فألهوا المناهج والنظم، وعبدوا ذواتهم وعشيقاتهم والأمكنة والأزمنة، والشجر، والحجر وقبور شياطين الإنس مثل لينين وتماثيل الشيوعية في موسكو وبرلين، وغير ذلك من أنواع التيه والضلآل {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}

(2)

.

فقد بين اللَّه تعالى فساد عقائد أهل الشرك قديمهم وحديثهم وأوضح لهم بالحجة والبرهان أن الذين يعبدولهم من دون اللَّه ليسوا سوى أوثان، سواء كان المعبود تمثالًا من حجر أو شجر، أو شخصًا أو وضعًا، أو مبدأ ضالًا أو مذهبًا منحرفًا، أو قانونًا أو دستورًا كفريًا، أو أدبًا أو أديبًا أو زعيمًا، أو غير ذلك مما يتوجه له بالطاعة والخضوع والاتباع والمحبة، أو مما تضاف إليه العبادة قولًا أو فعلًا، كلها أوثان سخيفة، لا يستندون في عبادتهم لها إلى دليل أو برهان، وإنما يخلقون إفكًا، ويخلقون باطلًا، ويبتدعون ضلالًا من تلقاء أهوائهم، بعيدًا عن مقتضيات العقل السليم والفطرة القويمة.

وهذه الأوثان لاتقدم لهم نفعًا، ولا تملك لهم رزقًا. . وكل معبود من دون اللَّه فهو بهذه المثابة وثن مختلق لا يملك شيئًا، قال اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ

(1)

الآية 165 من سورة البقرة.

(2)

الآيتان 17 - 18 من سورة العنكبوت.

ص: 364

ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}

(1)

.

فاللَّه تعالى يجرد جميع الآلهة الذين يُتخذون من دونه من كل خصائص الألوهية، فهم لا يخلقون شيئًا ولا يستطيعون خلق شيء، بل هذه الآلهة المدعاة مخلوقة بعد أن لم تكن موجودة، بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا، يتساوى في ذلك الوثن الجاهليّ القديم الساذج كالصنم والشجر والحجر والوثن والجاهليّ المعاصر كالمذاهب والقوانين والمدارس الأدبية الجاهلية والشخوص والمدارس.

وإذا تأملنا النفسية الجاهلية فإننا نجد بينها تشابهًا هائلًا رغم تباعد الأزمنة، من عهد نوح إلى زماننا هذا، وأول أوجه التشابه بينهم: إعراضهم ورفضهم للهدى ودين الحق، وعنادهم وإصرارهم على محاربته، ووصفه بالأوصاف الساقطة لإسقاط منزلته عند الناس {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}

(2)

، وهذا الموقف المعاند هو الذين نراه ونقرؤه في كتابات أهل الردة المعاصرة من الحداثيين والعلمانيين.

إن الكفار يبدون صلفهم وعنادهم من أول وهلة، ويصرون على الكفر ومعاداة الإيمان، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في براهين الهدى ودلائل الإيمان.

وقد أخبر اللَّه عن هذه الحالة النفسية لدى الكافرين فقال -جلَّ وعلا-: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)}

(3)

.

وأصحاب الأدب الحديث في استرسالهم مع أصلهم الجاحد وقاعدتهم

(1)

الآية 3 من سورة الفرقان.

(2)

الآية 31 من سورة سبأ.

(3)

الآية 146 من سورة الأعراف.

ص: 365

الإلحادية في جحد ربوبية اللَّه وجحد ألوهيته تعالى، وصلوا إلى النتيجة التي وصل إليها أسلافهم، وهي نتيجة حتمية لمن أعرض عن اللَّه ودينه وهداه وشرعه، لقد وصلوا إلى حياة التشاكس من خلال توزع أهوائهم وعقائدهم وانتماءاتهم وتنوعها بتنوع معبوداتهم وتعدد آلهتهم، وهم مع كل هذا الخبط يفاخرون بهذه الدرجة من الانحطاط تفاخر المجنون بعقله، ويعجبون من توحيد الموحدين وإيمان المؤمنين كما عجب أسلافهم من قبل حين قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}

(1)

.

وقد مرّ معنا في هذا الفصل كلام بعض منظري الحداثة حين زعموا أن التوحيد انغلاق وأغلال، والوثنية تعددية وحرية وانفتاح، وكذا هو واقع أكثرهم من صرّح منهم ومن لَمّح، يرون التأله للَّه تعالى والعبادة له سببًا في التأخر والرجعية، ويعجبون أشد العجب في لغة استنكارية استكبارية أن يطلب المسلم منهم أن يعودوا بفكرهم وفنهم وأدبهم إلى حظيرة الإسلام ومعايير الإسلام وضوابط الإسلام.

فينفرون كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ويكابرون، ويتهمون أهل الإسلام شتى التهم، ويظهرون أنفسهم في مظهر المنصف والعقلانيّ والموضوعيّ، ويتطاولون على الحقائق بأنواع من التدليس والتلبيس، ويتواصون أن {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ، آية واحدة من القرآن تصف الحالة الشعورية والعملية لأهل الارتداد والكفر والإلحاد والشرك والنفاق.

وإذا عدنا إلى العبادات والعبوديات التي غرق الحداثيون في حمأتها، فإننا نجدها من الكثرة والتنوع بحيث لا يجمعها رابط إلَّا أنها عبودية لغير اللَّه تعالى.

(1)

الآيات 5 - 7 من سورة ص.

ص: 366

ولنذكر هنا بعض الشواهد على هذا النوع من الانحراف، ولتكن البداية من أدونيس الذي يختال على رقاب أتباعه الإمعات المندهشين به، وقد صور نفسه لهم على أنه هو المنقذ والمبشر، بل والإله الخالق المعبود، ففي أول قصائد ديوانه يقول:

(أبدًا نَخلق الوجود ونعطيه

حياة كما نرى ونشاءُ

قطرت في أكفنا فلق الصخر

عبيرًا واهتزت الصحراء)

(1)

ثم يشير إلى توجهه نحو الغرب، وإيمانه بأحافير دارون، ثم ينعطف إلى ذاته مادحًا مفتخرًا فيقول:

(أنا إن مت لا أموت فقد

ركّزت في جبهة البقاء خطايا

ربّما عشت في مزاميرها لحنًا

وغلغلتُ في ذراها عشايا

كلها في دمي وكليّ فيها

صبية يعبدونها وصبايا

أنا دربي طويلة كغد يقبل

كالكون في مداه الطويل

أنا جيل في أمتي وأنا فرد

من الجيل بل أنا كل جيل)

(2)

وهكذا يتعالى هذا الباطنيّ في غطرسة وخيلاء واضعًا نفسه بأنه لو مات فإن الخطايا التي غرسها وركزها في الأمة سوف تبقى معبودة، ولكن من الذين يقومون بهذه العبادة؟ إنهم الصبية والصبايا وقد صدق وهو كذوب، فما رأينا أتباعه إلَّا سفهاء الأحلام معتوهي العقول.

ولم يقتصر أدونيس في افتخاره وتعاليه بذاته بل امتد إلى افتخاره بوالده فقد أغدق عليه من المدح ما لم يقله أحد في أحد قبله، فقال في رثائه:

(أحبه، أحبه أعظمًا

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 20.

(2)

المصدر السابق 1/ 26.

ص: 367

في القبر تستعصي على الخالقين)

(1)

.

ثم يخاطب النار التي ضمت والده ساخرًا:

(يا لهب النار الذي ضمه

لاتَكُ بردًا، لا ترفرف سلام

في صدره النار التي كورت

أرضًا عبدناها وصيغت أنام)

(2)

.

ولا ريب أنه يستحق النار لعبادته الأرض من دون اللَّه.

أمّا إذا أردنا أن نرى لونًا من ألوان الوثنية والجاهلية في صيغة عصرية حديثية، فلنقرأ "ترتيلة البعث" لأدونيس والتي ينطرح فيها بخشوع وخضوع وتملق بين يدي "فينيق" الطائر الوثن، والاسم الذي اشتهرت به الأمة السامية الجاهلية الوثنية، التي يقال إنها كانت قبل الميلاد بألفي عام.

يقول أدونيس:

(فينيق يا فينيق

يا طائر الحنين والحريق

. . . لفتتك انخطافة وناظراك منجم

مسافر زمانك الغد الذي خلقته

زمانك الغد - الحضور السرمديّ في الغدِ

لموعد:

به تصير خالقًا به تصير طينة. . .

. . . فينيق أنت من يرى ظلامنا

(1)

المصدر السابق 1/ 39.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 39.

ص: 368

يحس كيف نمّحى

فينيق متْ فدى لنا

فينيق ولتبدأ بك الحرائق

لتبدأ الشقائق

لتبدأ الحياة

يا أنت يا رماد يا صلاة. . .

. . . فينينق خل بصري عليك خل بصري:

ألمح خلال نارك الغيب الذي يختبئ - الذي

يلف جرحنا

وألمح الركام والرمال والدجى

واللَّه في قماطه، اللَّه الذي تلبسه أيامنا

حرائقًا وغصصًا وجدُرا

تلبسه ولا ترى. . .

. . . فينيق سر مهجتي

وُحِّد بي وباسمه عرفت شكل حاضري

وباسمه أعيش نار حاضري. . .

. . . يفتح صدر عالم أهدابه المحبة

البساطة، الغد الذي لا تضمر الشمس احتمال مثله

تحضننا الألوهة الرائمة التي تحس مثلنا - التي تحس معنا.

. . . فينيق تلك لحظة انبعاثك الجديد

صار شبه الرماد وشررًا ولهبًا كواكبيًا

ص: 369

والربيع دب في الجذور في الثرى

أزاح رمل أمسنا - العجوز والثلاثة

الركام والفراغ والدجى

فينيق خل جبهتي أسيرة لديك في علوك البعيد في جفوننا

البعيد عن أكفنا. . .

. . . وخلني لمرة أخيرة

أحلم أن رئتي جمرة

يأخذني بخورها يطير بي

وخلني لمرة أخيرة:

ها ركبتي حنيتها

وها جلست خاشعًا

فخلني لمرة أخيرة أحلم يا فينيق

أحتضن الحريق

أغيب في الحريق

فينينق يا فينيق

يا رائد الطريق)

(1)

.

وما عاقل يشك في أن هذه الكلمات تضج بالعبودية لفينيق، وهي في الحقيقة ترتيلة عبادية كما سماها أدونيس نفسه، بها يتخطى أدونيس كل حضارة الإسلام، بل وحتى ما قبل الإسلام من عربية جاهلية، ليصل إلى فينيق يبحث (عن هوية الذات الحضارية، القومية في رمز فينيق، وهو طائر أسطوريّ موطنه بعلبك يحترق كلما أدركه الهرم لينبعث فتيًا من رماده، إن

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 165 - 173.

ص: 370

هذه الاستعادة النهضوية لرمز فينيق هو أحد أشكال وتجليات الرمز الانبعاثيّ تؤدي وظيفتها النهضوية الإحيائية بالمعنى الذي طرحه سعادة في الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ، أي إيجاد موصل الاستمرار الفلسفيّ بين السوريّ القديم والسوريّ القوميّ الاجتماعيّ الجديد، إذ أن أدونيس لا يتناول رمز فينيق كموضوع، بل يتمثله كرمز حضاريّ، ويتلبسه ويستبطن فيه عن رؤاه، وهذا يعني أن أدونيس يحول الرمز الحضاريّ إلى تجربة داخلية كيانية، يدركها حدسيًا وميتافيزيقيًا، من هنا فإنه يجسد في التجربة الاستبطانية مشاكل ميتافيزيقية فلسفية كالموت والتجدد والفراغ والغربة والحرية والنفي والقلق. . . إلخ)

(1)

.

هذا ما شرحه أحد منظري الحداثة عن استخدام أدونيس لرمز فينيق، وفيه أشار إشارة فلسفية إلى المعنى العباديّ الذي يتضمنه كلام أدونيس عن فينيق وذلك في قوله:(يدركها حدسيًا ومتافيزقيًا. . .)

(2)

، وفي الحقيقة أن أدونيس قد غرق إلى ذقنه في تأليه وعبادة الطائر الأسطوريّ فينيق ليس في هذا المقطع المسمى ترتيلة البعث بل وفي غيره، وسوف يأتي -إن شاء اللَّه- تفصيل ذلك في الفصل الرابع من هذا الباب.

والذي يخصنا في هذا المقام أن أدونيس قد اتخذ فينيق ربًا وإلهًا، واستجداه في عبودية كاملة وفي انحناء وخشوع أن يهبه مطالبه، وأن يوصله إلى مقاصده المتمثلة في طمس التوحيد والإيمان، وإحياء الوثنية والكفر، والانقطاع عن الأمة المسلمة أرضًا وتاريخًا وحضارة وقيمًا، والتواصل مع الغرب بل والاندماج الكامل فيه، وقد أداه ذلك كله إلى هذا الخنوع الوثنيّ الشبيه بخنوع وخضوع من سبقه من الكافرين أمام أصنامهم.

وإذا كان توحيد رب البرية سبحانه وتعالى قاعدة كل ديانة جاءت من عند اللَّه، فإن الشرك قاعدة كل ديانة جاءت من عند الأهواء الشيطانية.

(1)

الحداثة الأولى لباروت: ص 149. وانظر: ص 150، 151، 152، 153 من الكتاب نفسه.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 149.

ص: 371

والمهمة الأولى للدين المنزل من عند اللَّه هي تخليص الإنسان من عبادة غير اللَّه، ولَمِّ شتات نفسه وتوجيه قلبه الواحد إلى عبادة الواحد -جلَّ وعلا- كما أن المهمة الأولى لملل الكفر قديمها وحديثها -في أي لون تلونت- هي تخليص الإنسان من عبادة اللَّه تعالى، ونكسه ورده إلى أسفل سافلين في العقيدة والخلق والفكر وسائر مناشط الحياة، تنفيذًا لتعهدات زعيمهم إبليس التي ذكرها اللَّه في القرآن في قوله تعالى:{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}

(1)

.

وإن من المآسي العظمى في هذا الزمان أن يتصدر مثل هذا الجاهل الحاقد لبث كفره وإلحاده ووثنيته، ثم يتمكن بعد ذلك من اصطياد الأميين فكرًا وثقافة، الأرقاء شعورًا وسلوكًا، ويتنقل بهم من عبودية إلى عبودية، ومن إله باطل إلى إله أشد بطلانًا، ومن جرف خاوٍ إلى جرف هارٍ، فها هو يقول تحت عنوان "مزامير الإله الضائع":

(هذا الجسد

سحر أغوى الأرض

ألا ترضى

ولهيبُ تشهٍّ لا يبترد

من أطفال الجسد الأبد

فيه نغرس فيه نقطف

فيه ما لا يعرف، يعرف

معبد قلبي، معبد شعري، معبد عموي. . .

(1)

الآيات 14 - 17 من سورة الأعراف.

ص: 372

فخذاك وبينهما الأجيال

شيء يحضن، يعشق يعبد، - كيف يقال؟

عري فخذيك، أزيحي التين. . .)

(1)

.

والمقطع كله جنس مكشوف، وعبودية للجسد الأنثويّ ولأعضاء الجنس المختلفة، وفي آخر المقطع يخاطب معشوقته الداعرة وينادي جسدها:

(يا مجهولي، نامي، آن مسيري نحو اللَّه.

الضائع، آن وصولي)

(2)

.

إنها لغة الإلحاد والوثنية المعاصرة والكفر الرجيم، في أبشع صورها وأحط درجاتها، ثم يطلب من المسلمين المسامحة في التخاطب مع هؤلاء، والتجوز في الألفاظ والملاينة في العبارات، والمناقشة الأدبية المجردة!!.

إن وجود هذه الملاعب الوثنية على الساحة الثقافية والصحفية والإعلامية لدليل كبير على مقدار الخواء الذي وصلت إليه الأمة، والتعطيل الكامل لأحكام الشريعة، التي تنص على إقامة الحدود على المفسدين في الأرض، وأشنعهم وأخبثهم الذين يسعون في إفساد عقائد الناس من الزنادقة والمرتدين وأضرابهم.

ومن صنميات هذا الباطنيّ قوله:

(أعبد هذا الحجر الوادعا

رأيت وجهي في تقاطيعه

رأيت فيه شعري الضائعا)

(3)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 213 - 214.

(2)

المصدر السابق 1/ 217.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 286.

ص: 373

وقوله:

(كنت حطابًا عبدت الشجرة

وغرزت الفأس في أهدابها)

(1)

.

ويستمد من أشباهه وأسلافه العون في ترسيخ الكفر والإلحاد والوثنية فيستشهد بالشلمغانيّ

(2)

النصيريّ الحلوليّ الزنديق، ويضمن كلامه في مقطع من ديوانه بعنوان "تاريخ" وهو تضمين مقصود يتسق مع مبادئه الوثنية في العبودية لغير اللَّه؛ ولكي يكمل دائرة الانحراف لابد أن يهاجم الإسلام وأصوله ويحارب العبادات التي يتوجه بها الخلق للَّه من خلال الإسلام الدين الحق، وكل ذلك يجريه على لسان شبيهه الشلمغانيّ، فيقول:

(يفتي الفقهاء يصلب الشلمغانيّ ويحرق

يكون من مذهبه:

- اللَّه يحل في كل شيء حل في آدم وفي إبليس

. . . اللَّه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه

اللَّه اسم لمعنى

من احتاج الناس إليه فهو إله، لهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يسمى إلهًا

ملاك من ملك نفسه وعرف الحق

ويقول الشلمغانيّ

(1)

المصدر السابق 2/ 209.

(2)

هو: محمد بن علي الشلمغانيّ، ويعرف بابن أبي العزاقر، شيعيّ من الغلاة بل ملحد خبيث المعتقد، كان إماميًا ثم أصبح نصيريًا، وادعى أن الألوهية حلت فيه واتكر شريعة إباحية، في أيام المعتمد العباسيّ فأفتى علماء المسلمين بقتله فأمسكه الراضي باللَّه العباسيّ فقتله وحرق جثته سنة 322 هـ، ومن المعاصرين المعجبين به صنوه أدونيس النصيريّ. انظر: الأعلام 6/ 273.

ص: 374

اتركوا الصلاة والصيام وبقية العبادات

لا تناكحوا بعقد

أبيحوا الفروج

للإنسان أن يجامع من يشاء)

(1)

.

فإلغاء العبادات مقدمة للإباحية والدعارة والشيوعية الجنسية المتصلة النسب من المزدكية حتى النصيرية حتى الشيوعية والوجودية.

والآن ماذا يقول أتباع الحداثة والذين يخاصمون عن الذين يختانون أنفسهم؟.

وليس هذا الانحراف مقتصرًا على أدونيس -وإن كان رأسًا فيه- ولكنه ممتد إلى غيره من أتباع هذا المذهب الخبيث، ففي مقابلة أجرها صاحب كتاب "أسئلة الشعر" مع نزار قباني يسأله قائلًا:(والألوهية هذه القصيدة التي مسخها المجسدون، كيف تناجيها أو تقيم حوارًا معها؟)

(2)

.

السؤال يضج بالانحراف والضلال، حيث يجعل الألوهية قصيدة، والإجابة من نزار أشد انحرافًا وضلالًا حيث يقول:(إن اللَّه عندي هو دبيب شعري، وإيقاع صوفيّ في داخلي، والشعور الدينيّ لدي، هو شعور شعري، والكفر عندي هو موت صورة اللَّه - القصيدة في أعماقي)

(3)

.

ثم يسأله: (إذن كيف يقيم إيقاع الشعر وإيقاع الدين حوارًا نغميًا في سيمفونية واحدة؟)

(4)

.

ويجيب نزار قائلًا: (كل كلمة شعرية تتحول في النهاية إلى طقس من طقوس العبادة والكشف والتجلي. . .، كل شيء يتحول بالشعر إلى ديانة، حتى الجنس يصير دينًا، والسرير يصير مذبحًا وغرفة اعتراف، والغريب أنني أنظر دائمًا إلى شعري الجنسيّ بعيني كاهن، وأفترش شعر حبيبتي كما

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 547 - 548.

(2)

-

(4)

أسئلة الشعر لمنير العكش: ص 196.

ص: 375

يفترش المؤمن سجادة صلاة. . . أشعر كلما سافرت في جسد حبيبتي أني أشف وأتطهر وأدخل مملكة الخير والحق والضوء، وماذا يكون الشعر الصوفيّ سوى محاولة لإعطاء اللَّه مدلولًا جنسيًا؟)

(1)

.

لقد بلغ هؤلاء من الانحراف والضلال ما لم يبلغه أهل الجاهلية الأولى، وانحطوا في أودية الضلال والإضلال بما لم يسبق له نظير، فالشعر معبود، وكل كلمة فيه تتحول إلى طقس عباديّ، والشعر ديانة والجنس ديانة، والدعارة والإباحية صلاة وثنية نجسة، لكنها توصف بأنها الخير والحق والضوء، كما وصف فرعون كفره وضلاله بأنه الهدى والرشاد في قوله:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}

(2)

.

ثم يتعدى هذا المريض الضال إلى مقام اللَّه ذي العزة والجلال فيصفه بالأوصاف الخبيثة تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الدوائر الكفرية المتلاحقة يكمل بعضها بعضًا في سلسلة من الخبث والدنس والنجس والضلال والإلحاد والفساد.

وفي كلام نزار الكثير من الانحراف الذي على هذه الشاكلة في أشكال من العبوديات المختلفة، وكلها تدل على استهانته بلفظ العبادة والعبودية، وارتكاسه في أنواع من الشرك والضلال الاعتقاديّ، فمن ذلك قوله:

(أنت كرمي الرفيق لو يعبد الكرم

عبدت النيران في أعنابك)

(3)

.

وقوله تحت عنوان "نهداك":

(صنمان عاجيان قد ماجا ببحر مضرم

صنمان إني أعبد الأصنام رغم تأثمي)

(4)

.

(1)

المصدر السابق.

(2)

الآية 29 من سورة غافر.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 63.

(4)

المصدر السابق 1/ 69.

ص: 376

وقوله في معشوقته:

(إنني أعبد عينيك فلا

تنبئ الليل بهذا الخبر)

(1)

وقوله:

(وعبدتُ بقية إرهاق

تحتل جواب عينيه)

(2)

وقوله عن نفسه:

(مارست ألف عبادة وعبادة

فوجدت أفضلها عبادة ذاتي)

(3)

وقوله يصف دعارته:

(شيدت للحب الأنيق معابدًا

وسقطت مقتولًا أمام معابدي)

(4)

وقوله:

(هذا الهوى ضوء بداخلنا

ورفيقنا ورفيق نجوانا

طفل نداريه ونعبده

مهما بكى معنا وأبكانا)

(5)

قال اللَّه تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. . .}

(6)

.

ويقول نزار عن قط أسود:

(أفكر: أينا أسعد

(1)

المصدر السابق 1/ 266.

(2)

المصدر السابق 1/ 342.

(3)

المصدر السابق 1/ 466.

(4)

المصدر السابق 1/ 482.

(5)

المصدر السابق 1/ 488.

(6)

الآية 23 من سورة الجاثية.

ص: 377

أنا أم قطنا الأسود؟

. . . أمامي كائن حرٌ

يكاد للطفه يعبد)

(1)

.

ويقول على لسان كاهنة عرافة، قارئة فنجان:

(بحياتك يا ولدي امرأة

عيناها سبحان المعبود)

(2)

.

ويقول عن محبوبته:

(حبك يا عميقة العينين

تطرف، تصوف، عباده)

(3)

.

ويقول:

(فالتي أشعلت في معبدها قنديل عمري

لم تعد تعني قليلًا أو كثيرًا)

(4)

.

ويقول:

(هل تعرفين؟

لماذا أستميت في عبادة شعرك)

(5)

.

ويتحدث عن موسكو والكرملين ومعالم الفن ثم يقول:

(في معابد الفن العظيم يشف الحب حتى يصبح ضوءًا)

(6)

.

ونزار يهرف في أبواب الانحراف الاعتقاديّ بكل ما يخطر في باله من

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 602 - 603.

(2)

المصدر السابق 1/ 249.

(3)

المصدر السابق 1/ 746.

(4)

المصدر السابق 2/ 131.

(5)

المصدر السابق 2/ 432.

(6)

المصدر السابق 2/ 577.

ص: 378

ألفاظ ومصطلحات، في أجواء من العفن السلوكيّ والانحراف الخلقيّ المؤسس على انحراف اعتقاديّ كبير.

وهذا النوع من الانحراف ثقافة سائدة وعرف شائع عند الحداثيين من أول بداية الحداثة على يد السياب ونازك الملائكة والبياتي.

ولنأخذ أمثلة على ذلك تؤكد أن الانحراف في هذا الباب تأسس من بدايات الشعر الحداثيّ:

تقول نازك الملائكة:

(عد بي يا زورقي الكليلا

فلن نرى الشاطئ الجميلا

عد بي إلى معبدي فإني

سئمت يا زورقي الرحيلا

. . . ولم يزل محبدي بعيدًا

خلف الدياجير والضباب)

(1)

وتقول:

(ضاع عمري الحزين في معبد الحز

ن وأذوته لهفتي وشكاتي)

(2)

وفي قصيدة بعنوان العودة إلى المعبد تقول:

(معبدي عادت بي الأحزان فارأف بعذابي

عدت يا ليتك تدري بعض آلامي وما بي

. . . ذهب الأمس بأوهام فؤادي ومحاها

فإذا قلبي عبدٌ ولقد كان إلهًا

. . . معبدي افتح لقلبي الباب قد طال وقوفي

. . . عدت يا معبدُ للصمت فلن أشدو بحبي

(1)

ديوان نازك الملائكة 1/ 550 - 551.

(2)

المصدر السابق 1/ 557.

ص: 379

معبدي افتح لقلبي الباب لا تقس عليه)

(1)

.

وفي قصيدة بعنوان "أنشودة - الأبدية" قالت في مقدمتها: (إلى القيثارة الإلهية التي منحت الإنسانية أروع الألحان إلى تشايكوفسكي الموسيقي الروسيّ، ذكرى لمرور أربع وخمسين سنة على وفاته)

(2)

، قالت في مدحه:

(آه يا أيها الملاك إلى رو

حك في الموت حن روحي الحزينُ

. . . آه لو بعت كل عمري

بيوم شاعري يراك فيه وجودي

من بعيد أرنو إلى الهيكل السا

مي وأصغي إليك يا معبودي)

(3)

أمّا البياتي فقد ضرب في هذا المستنقع بحظ وافر، وأقواله من هذا القبيل كثيرة، منها قوله:

(أكتب تحت قدم الأميرة العاشقة الكاهنة المعبودة التمثال أشعارا)

(4)

.

وقوله:

(ترحل الشمس إلى البحر

وفي يدها خصلة شعر الملكة

وقناع وثني ودم

سال فوق الطرقات المهلكة

وأنا الكاهن في معبدها

تركتني فوق أرض المعركة)

(5)

.

وفي مقطع له بعنوان "المعبودة" يكرر معاني الانحراف العباديّ في

(1)

المصدر السابق 1/ 616 - 619.

(2)

و

(3)

المصدر السابق 1/ 628 - 630.

(4)

ديوان البياتي 2/ 287.

(5)

ديوان البياتي 2/ 289 - 290.

ص: 380

صور شتى، فيقول:

(انتظرتك عشرين عامًا في المنفى دون جدوى

حتى وجدتك في الوطن

أيتها المعبودة، أيتها الحمامة المقدسة

. . . أيتها المعبودة التي قهرت جميع معبوداتي

وتربصت ملكة على عرشهن

آمنت بك

وبكلماتك

وإبداعاتك التي رأيت في سطورها

شمس العالم وهي تولد من جديد)

(1)

.

ويستمر في هذا النمط فيقول في المقطع نفسه:

(أعبد في عينيك هذي النار

ووجهك الشاحب والضفيرة

والغربة - الطفولة - الأسطورة)

(2)

.

ويقول:

(حلفت بالمعابد المكسوة القباب بالذهب

بالحرف والغربة والسفر)

(3)

.

ويقول:

(قلبي هرم خوفو الكبير

أراك تضطجعين في مقصورته الملكية

(1)

المصدر السابق 2/ 312.

(2)

و

(3)

المصدر السابق 2/ 315، 316، 317، 318.

ص: 381

ماسة مشعة منذ آلاف السنين

وأنا أعبدك أقبل يدك

وأحرس كنوزك الإلهية)

(1)

.

وفي موضع آخر يقول:

(في وجه الأرض الحبلى

أسجد مأخوذًا للنار)

(2)

.

ويقول:

(كانت تنشب في داخله معركة بين المعبودات

واحدة ماتت قبل الحب وأخرى بعد الحب وأخرى في

المابين وأخرى تحت الأنقاض)

(3)

.

ويتبرع بتقسيم قلبه إلى نصفين نصف للشعر والبحر وغيرها، ونصف لمعبوداته فيقول:

(أشطر قلبي نصفين وأعطي نصفًا رحلات الشعر الكونية

والبحر وعمال وفلاحي وطني وربيع الأرض التأثر والشعراء

المسكونين بنار الشعر الزرقاء، ونصفًا معبوداتي وقضية

شعبي العربيّ الخارج من منفى التاريخ. . .)

(4)

.

ويعد صلاح عبد الصبور من الرواد والنشطاء في نشر الحداثة وتأصيلها، وله في هذا النوع من الانحراف جولة كغيره من الحداثيين

(5)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 315، 316، 317، 318.

(2)

ديوان البياتي 2/ 329.

(3)

ديوان البياتي 2/ 395.

(4)

المصدر السابق 2/ 443، وانظر: 2/ 419، 2/ 450.

(5)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 94، 96.

ص: 382

أمّا الخال، فليس بعد الكفر ذنب، فهو النصرانيّ المتعصب، والماديّ المتعقلن، ومن أقواله المنحرفة في هذا الباب:

(لبنان يا بلدي الحبيب

إذا عبدتك لا أغالي)

(1)

.

ونظراؤه في النصرانية ثم المادية الإلحادية توفيق صايغ وأنسي الحاج لهما في هذا الانحراف نصيب كبير كغيره من أنواع الانحرافات الاعتقادية، يقول توفيق صايغ عن عشيقته:

(أنا لا أتنكر اليوم

لمن عبدت بالأمس

ولا أمد لساني هزءًا

بحبيبة مددت لها لساني

لا لهزء)

(2)

.

أمّا أنسي الحاج فيقول:

(الحب انتقام من الجمال عن طريق عبادته)

(3)

.

ويقول: (أعبد إلهك يا كائنة الأغراء، إله اللهو الغامر ضد كل ما يخيفني أعبد إلهك؛ لأنه طفل مثلي، وغير واضح مثلك، وجائع مثلي وطيب مثلك، أعبد إلهك لأنه ليس إله الحصاد والمؤونة والسيف والدرع بل إله اللحظة الخالدة، الفانية)

(4)

.

ويقول سعدي يوسف:

(1)

الأعمال الشعرية للخال: ص 83.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لتوفيق صايغ: ص 363.

(3)

خواتم: ص 42.

(4)

المصدر السابق: ص 46 - 47.

ص: 383

(أيتها الأرض التي أعبد

أيتها الأرض

بيني وبين اللَّه ما يوجد

والطول والعرض)

(1)

.

ويقول:

(حبيبتي كافرة. . . إنها لم تتخذ غير الهوى دينا)

(2)

ويقول:

(يا عائدات الفتح في الذكرى عبدتك من مَرَدِّ)

(3)

ويقول عن معشوقته:

(أنا ما عبدتك مثلما عبدوا

عبثًا ولم أنطق بما قالوا

. . . لم أستبح من ناهديك حمى

بض التدفق ستره شال

. . . اليوم أعبد مثلما عبدوا

عبثًا وأنطق بالذي قالوا)

(4)

ويقول عن أخرى:

(فديتك إني عبدت الجمال

وغير جمالك لن أعبدا)

(5)

ويتحدث أمل دنقل عن إحدى عشيقاته فيقول:

(قالت: سأنزل

قلت: يا معبودتي لا تنزلي لي)

(6)

.

(1)

ديوان سعدي يوسف: ص 376.

(2)

المصدر السابق: ص 551.

(3)

المصدر السابق: ص 553.

(4)

المصدر السابق: ص 558.

(5)

المصدر السابق: ص 566.

(6)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 75.

ص: 384

وقال في موضع آخر:

(كم قرأنا فيه من سحر لياليك كثيرًا

عن جبين يهب العمر تناهيد ورحمه

ورسمنا وجهك المعبود فوق المنزل

وعلى صدر الربيع المقبل)

(1)

.

وفي تمرد على اللَّه وشرعه ودينه وابتعاد عن العبودية له، مرتميًا في أحضان عبوديات أخرى، يقول:

(حين أخلع عني ثياب السماء

فأنا أتقدس -في صرخة الجوع- فوق الفراش الخشن)

(2)

.

أمّا محمود درويش المناضل الفلسطينيّ الشيوعيّ!! فقد كثر هذا النوع من الانحراف في شعره، ومن ذلك قوله عن فلسطين:

(عيونك شوكة في القلب

توجعني وأعبدها)

(3)

.

وقوله تحت عنوان "آه عبد اللَّه":

(فاجأوه مرة يلثم في الموال

سيفًا خشبيًا وضفيره

حين قالوا: إن هذا اللحن لغم

في الأساطير التي نعبدها

قال عبد اللَّه:

(1)

المصدر السابق: ص 236.

(2)

المصدر السابق: ص 272.

(3)

ديوان محمود درويش: ص 79.

ص: 385

جسمي كلمات ودوى

هكذا الدنيا

وأنت يا جلاد أقوى

وُلد اللَّه.

وكان الشرطي)

(1)

.

تعالى اللَّه عن هذا الإفك المفترى، وتقدست أسماؤه وصفاته، قال اللَّه تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}

(2)

.

ويقول محمود درويش:

(وهذا الوطن

مقصلة أعبد سكينها)

(3)

.

ويقول أيضًا:

(عيناك يا معبودتي هجرة

بين ليالي المجد والانكسار

. . . عشرون سكينًا على رقبتي

ولم تزل حقيقتي تائهه

وجئت يا معبودتي

كل حلم

سألني عن عودة الآلهة

(1)

ديوان محمود درويش: ص 265 - 266.

(2)

الآيات 1 - 4 من سورة الإخلاص.

(3)

ديوان محمود درويش: ص 314.

ص: 386

عيناك يا معبودتي منفى

نفيت أحلامي وأعيادي

. . . معبودتي! ماذا يقول الصدى

ماذا تقول الريح للوادي؟

. . . عيناك يا معبودتي، عودة

من موتنا الضائع تحت الحصار

. . . من يضع السكر في الألوان

أطفالنا الآتون

ونحن يا معبودتي

أي دور

نأخذه في فرحة المهرجان)

(1)

.

وفي مقطوعة له بعنوان "يوميات جرح فلسطينيّ" يقول:

(هذه الأرض التي تمتص جلد الشهداء

تعدُ الصيف بقمح وكواكب

فاعبديها

نحن في أحشائها ملح وماء)

(2)

.

وفي مقطوعة أخرى يقول:

(هل رأيت المدينة تذهب

أم كنت أنت الذي يتدحرج من شرفة اللَّه.

(1)

المصدر السابق: ص 320 - 324.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 346.

ص: 387

قافلة من سبايا. . .

. . . سألتك موتي

أيجديك موتي؟

أصير طليقًا

لأن نوافذ حبي عبودية)

(1)

.

وفي مقطع بعنوان "أحمد الزعتر" يقول:

(أخي أحمد

وأنت العبد والمعبود والمعبد

متى تشهد)

(2)

.

ويصف مدى الحب للأرض إلى حد العبودية والتأليه، ومن أجلها يكون الصوم والصلاة، فيقول على لسان من سماها الحلوة:

(تعال غدًا لنزرعه مكان الشوك في الأرض

أبى من أجلها صلى وصام

وجاب أرض الهند والإغريق

إلهًا راكعًا لغبار رجليها

وجاع لأجلها في البيد أجيالًا يشد النوق

وأقسم تحت عينيها

تنام، فتحلم اليقظة في عيني مع السهر

فدائي الربيع أنا، وعبد نعاس عينيها

(1)

المصدر السابق: ص 501.

(2)

المصدر السابق: ص 608.

ص: 388

وصوفي الحصى والرمل والحجر

سأعيدهم، لتلعب كالملاك، وظل رجليها

على الدنيا صلاة الأرض للمطر)

(1)

.

وعلى قدر ما في هذه الكلمات من انحراف اعتقاديّ وعبودية لغير اللَّه ففيها من الكذب والادعاء ما يعرفه كل من اطلع على قضية فلسطين ومتاجرة العلمانيين والشيوعيين بها، ويكفي في إيضاح كذب محمود درويش أنه أحد أعضاء الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ!!، وتذكّر هذه الأقوال في عبوديته للأرض بصنيع أهل الجاهلية الأولى حين كانوا يصنعون الصنم من التمر فإذا جاعوا أكلوه!!.

ومن أقواله المنحرفة في هذا الباب قوله:

(بين ريتا وعيوني بندقية

والذي يعرف ريتا ينحني

ويصلي

لإله في العيون العسلية)

(2)

.

أمّا زميل نضاله ومبادئه الشيوعية سميح القاسم الذي يعده الحداثيون رمزًا كبيرًا فإنه على الدرب المظلم نفسه، ومن أقواله:

(وفجأة أحسست يا حبيبتي

بوخزة في الصدر في ناحية اليسار

حيث حفظت وجهك المعبود والغيتار)

(3)

.

(1)

ديوان محمود درويش: ص 100 - 101.

(2)

المصدر السابق: ص 192. وانظر أيضًا: ص 374، 144، 145، وديوانه أحد عشر كوكبًا: ص 38 - 39.

(3)

ديوان سميح القاسم: ص 246.

ص: 389

وفي مقطع يحدث محبوبته قائلًا:

(بين عيني وعينيك

على جدار سجني

يتراءى وجهك المعبود

في وهمي)

(1)

.

وفي مقطوعة بعنوان "الجواد الجارح" يخاطب المرموز له قائلًا:

(فكيف أعود؟ كيف أعود؟ يا معبودي الجارح)

(2)

.

وفي آخرها يقول:

(بغير ضماءك الرحمن يا إيقاع أحرفنا

ويا رؤيا تلهفنا

. . . فحتى الموت حتى الموت

يبقى فارس الأحزان

عبد جوادك الجامح)

(3)

.

ويقول عن الأرض وعن بيته في فلسطين:

(يا بيتنا الباقي

يا بيتنا المعبد

يا من على عتابته أسجد)

(4)

.

ويقول:

(1)

المصدر السابق: ص 411.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 470.

(3)

المصدر السابق: ص 472 - 473.

(4)

المصدر السابق: ص 484.

ص: 390

(لا يعبر بالشباك صباح

ألا وتطل من الأفق المعبود جراح)

(1)

.

ويقول عن صنعاء اليمن:

(يمني المعبود

سيعود سعيد

فكهوف الشاي الأسود والقهوة والقات

صارت ثكنات)

(2)

.

وفي قصيدة بعنوان "المطرد الفولاذ" يسرد أمجاد الشيوعية ويَمدح المنجل رمز الشيوعية فيقول:

(وينتصب المصنع المارد

إلهًا كلانا له عابد

فيا سحب الغيث مدّي يدًا

سحاب مداخننا صاعد

وصبي الحياة على شرقنا

فقد هيأ المنجل الحاصد)

(3)

وهكذا ينفلت المنحرفون من عبادة اللَّه الحق المبين، ليرسخوا في أرسان عبادة جديدة وثنية المنشأ والمسلك، زخرفت بالفلسفة، وزينت بأكاذيب الجدل والديالكتيك. . لتكون في نهاية الأمر تمثالًا مذهبيًا يخضع له الأتباع، ويدينون له دينونة العبادة والخضوع والخشوع، كما في قول سميح القاسم السابق، وقوله الآخر عن برلين رمز الشيوعية في ألمانيا الشرقية قبل أن ينهار الوثن الشيوعيّ ويندثر، يقول سميح:

(1)

المصدر السابق: ص 507.

(2)

المصدر السابق: ص 509.

(3)

المصدر السابق: ص 125. وانظر أمثلة أخرى في عبوديته لغير اللَّه في ديوانه "لا استأذن أحدًا": ص 67، 74، 81، 139، 112 - 113 ففيها من الشواهد الشيء الكثير.

ص: 391

(بالصمت يا برلين أعلن حبنا

أم بالبكاء

وأنا أقبل كفك التعبي

وأركع في خشوع

بجلال تمثال

تكاد تسمح من شطآن عينهم الدموع)

(1)

.

إلى أن يقول في آخره:

(ربّى الشيوعيون شعرك

طيبوه ودللوه

ربوه بالفرح المقدس

والمرارة والصمود)

(2)

.

فلم تقتصر عبادتهم للشيوعية على تقديس مناهجها وعقائدها، بل حجوا إلى مدنها موسكو وبرلين ولينين غراد، وطافوا بأضرحة رموزها لينين وستالين وجيفارا، ومن أمثلة هذه القبورية العبادية الشيوعية ما قاله توفيق زياد أمام ضريح الملعون لينين شيطان الشيوعية الأكبر:

(أمامه وقفت خافض الجبين

ضريحك الذي يعيش في القلوب

يا لينين

أحسست أنني أنا المعذب الشقيّ

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 399.

(2)

المصدر السابق: ص 403.

ص: 392

المعدم الذي نصيبه من الحياة كوخ طين

أملك كل شيء

أقوى من الزمان والقضاء

وإنني

أقدر أن أقتحم السماء

أمامه وقفت حابس الأنفاس

صوتك يحويني كمارج من نار

يصهرني

يصقلني

كالصليب كالألماس

. . . وجدت أن الصمت يا معلم الأجيال

أصدق من كل الذي

يُمكن أن يقال

دقيقة دقيقتان

وقفت صامتًا

كالحجر الصوان

يا أنبل المشاعر التي يُمكن أن تورق في إنسان

ازدهري ازدهري

في لحظة كأنها الزمان

كأنني ولدت من جديد

كل الشموس في يدي

ص: 393

وأجمل الورود)

(1)

.

عبارات تضج بالعبودية، وتنضح بالخضوع والخشوع والذلة والمحبة لضريح لينين، وهي من أبلغ ما يفصح عن مقدار الردة عند شعراء الحداثة، ردة لا تشابه كفر الكافرين السابقين، بل تزيد على ذلك بادعاء العقلانية والتبجح بالعلم والفلسفة والتطاول بالمزاعم الكاذبة، فإذا فحصت كل ذلك تحت منظار العقل السليم والعلم القويم والمنهج الحق لا تجد سوى لون آخر من ألوان الكفر باللَّه تعالى والعبادة لغيره، لكنه تخلى عن الصورة الساذجة التي كانت عليها الوثنية الأولى، واصطبغ بأصباغ ومسوح خادعة يخلب بها عقول الإمعات وذوي العاهات الفكرية.

ومن ألوان العبودية لغير اللَّه الإقسام بغير اللَّه كقول توفيق زياد:

(قسمًا بأفئدة الأباة

الثائرين بظل ساح

قسمًا بأجنحة النسور

تمردت رغم الجراح

قسمًا بأحداق العذارى. . .

قسمًا برماني وزيتوني

وندماني وراحي

قسمًا بأرضي بالشواطئ

بالسواقي بالمراح

بالدم بالأحرار

بالعزم المسعر بالرياح

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 31 - 34.

ص: 394

لتبرقعن نسورنا أعشاشها

بلظى الكفاح)

(1)

.

أمّا عبد العزيز المقالح فقد جعل من الشعر صلاة وعبادة، وذلك في مقدمته لديوانه حيث يقول: (فقد بدا لي الشعر وكأنه صوت الحزن الثابت في ضلوع البشر، فكانت قصائده صدى لذلك الصوت الغائر في الأعماق، والصلاة اليومية التي نؤديها في بيوتنا فرادى وجماعات. . . وفي مقابر وفي معابد الشعر الحزينة كثيرًا ما تساءلت:

لماذا الحزن؟ لماذا كل الشعراء حزانى؟!)

(2)

.

ولم يقصر عبادته وسجوده وصلاته على الشعر بل تبرع بها لسيف بن ذي يزن

(3)

، وذلك في قوله:

(متى تهل من سمائنا الحزينة السواد

متى نرى وجهك يا بن ذي يزن

أنهش في انتظارك القيود

أطيل في طريقك الصلاة والسجود

أقبل التراب والأحجار والد من

أقبل اليمن)

(4)

.

ويتوجه بالعبودية لشيء آخر في قوله: (والشفتان يا معبودتي

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 285 - 286.

(2)

ديوان المقالح: ص 11.

(3)

هو: سيف بن ذي يزن الحميريّ، من ملوك العرب اليمانيين ودهاتهم، قاتل برجال -أمده بهم كسرى أنوشروان- ملك الحبشة مسروق بن أبرهة حتى أجلاه عن اليمن، ودان بالولاء لكسرى وبقي في حكم اليمن نحو خمس وعشرين سنة إلى أن قتله بعض الأحباش نحو خمسين قبل الهجرة الشريفة. انظر: الأعلام 3/ 149.

(4)

ديوان المقالح: ص 301.

ص: 395

الكؤوس)

(1)

، وقوله:(فمن أنا لولاك يا معبودتي ومن أكون؟)

(2)

.

لكنه في خاتمة المطاف الوثنيّ يصرح بكل جرأة قائلًا:

(تأكلني الوحدة يستفزني الزحام

صليت للَّه وللشيطان

عبدت وجه الكفر والإيمان

سجدت للأوثان

لكنني كما بدأت في الظلام

وليس في الظلام من أحد)

(3)

.

قال اللَّه تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}

(4)

.

وقال -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}

(5)

.

ومن ظلمات هذا المقالح قوله في ذكرى يوم من سبتمبر ولعله إحدى

(1)

ديوان المقالح: ص 349.

(2)

المصدر السابق: ص 350.

(3)

المصدر السابق: ص 370.

(4)

الآية 257 من سورة البقرة.

(5)

الآيتان 39، 40 من سورة النور.

ص: 396

الأيام الثورية التي يفاخر بها تجار المبادئ والأوطان:

(أكاد أن ألمحه قادمًا

يوزع الأرض ويعطي الديار

يمسح عن أيامنا رعبها

وعن عيون الكادحين الغبار

أعبده أقرأ في عينه

أحلامنا والأغنيات الكبار)

(1)

أمّا الوطن فيقول في وصفه:

(وطن النهار ومعبد الزمن

أنا عائد لأراك يا وطني)

(2)

وعن بلاده يقول:

(وأريدها دينًا وأعبدها

ولها صلاة الروح والجسد)

(3)

ويقول:

(يا من يدلني على طريقها

طريق أحلى المدن

يرجعني توًا إلى حبيبتي

معبودتي. . . لليمن)

(4)

ويقول عن بعض بلاده:

(أهوى زبيد وأعبدها)

(5)

.

ثم يزجي نفسه عبدًا لشفة وذلك في قوله:

(صوت من الأرض

صار ينبت كالعشب في القلب

يفترش العين طوعًا وكرهًا على حافة النهر

(1)

ديوان المقالح: ص 430.

(2)

ديوان المقالح: ص 454.

(3)

المصدر السابق: ص 458.

(4)

المصدر السابق: ص 523.

(5)

المصدر السابق: ص 564.

ص: 397

فوق سريري

على شفة كنت أعبدها. . .)

(1)

.

ومثال آخر نذكره عن محمد الماغوط الذي استروح أن يوجه عبادته للخريف في قوله:

(كالذئاب في المواسم القاحلة

كنا ننبت في كل مكان

نحب المطر

ونعبد الخريف)

(2)

.

أمّا العبادة الحقة للَّه تعالى فإنه يسخر بها ويستخف بشأنها، ومثال قوله عن الدعاء في مقطع له بعنوان "من العتبة إلى السماء":

(الآن

والمطر الحزين

يغمر وجهي الحزين

أحلم بسلم من الغبار

من الظهور المحدودبة

والراحات المضغوطة على الركب

لأصعد إلى أعالي السماء

وأعرف

أين تذهب آهاتنا وصلواتنا؟

آه يا حبيبتي

(1)

المصدر السابق: ص 510.

(2)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 308.

ص: 398

لابد أن تكون

كل التنهدات والاستغاثات

المنطلقة من ملايين الأفواه والصدور

وعبر آلاف السنين والقرون

متجمعة في مكان ما من السماء كالغيوم

ولربما كانت كلماتي الآن

قرب كلمات المسيح

فلننتظر بكاء السماء

يا حبيبتي)

(1)

.

أمّا الحداثيّ السوريّ ممدوح عدوان فإنه يعبد الحياة ويعبر عن ذلك بقوله:

(الحياة انسكبت فيضًا

وصارت مومسًا

كنا نؤاتيها بلا طعم

ونحياها كعاده

وعرفنا وجهها جوعًا وإدمانًا

ذللنا فيه

صُنّاه

ركعنا في محياه عباده)

(2)

.

(1)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 227 - 228.

(2)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان 2/ 81 - 82 من يألفونك فانفر.

ص: 399

إلى أن يقول:

(فهذا معبد الموت

وها نحن القرابين الجديده)

(1)

.

ويقول في مقطع بعنوان أتلفت نحوك أبكي:

(تعلمت كيف استوى الدمع بالدم

أعبد من سفح الدم والدم كرمى لها)

(2)

.

ويقول أحمد دحبور:

(وأنا عباد الثورة)

(3)

.

ويسخر من عبادة اللَّه متمثلة في الدعاء وعفو اللَّه تعالى فيقول: (أسأل اللَّه ألّا يسمم بالعفو حزني)

(4)

.

وللفيتوريّ في إثبات التعبد لغير اللَّه اعترافات عديدة، ففي مقدمته لديوانه يصف غرقه في عالم بودلير

(5)

قائلًا: (إنني غارق هذه المرحلة حتى الغيبوية والدوار وفي عالم بودلير المخيف المعذب في أزهار الشر، الأروع من كل ذلك أن معبودته الأرضية جارية سوداء اسمها جان ديفال)

(6)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 87.

(2)

المصدر السابق 2 للخوف كل الزمان: ص 7.

(3)

ديوان أحمد دحبور: ص 381.

(4)

المصدر السابق: ص 520.

(5)

بودلير، شارل بييو بودلير، ولد عام 1237 هـ/ 1821 م، وتوفي عام 1284 هـ/ 1867 م، كاتب وشاعر فرنسي كبير، أثر بمذهبه الفنيّ كل الشعر الأوروبيّ، ويعتبره الحداثيون العرب قدوة من القدوات المهمة في مجال الحداثة الأدبية والفكرية، ولذلك كثر ذكره في كلامهم، من أشهر كتبه أزهار الشر، وأشعار صغيرة في النثر أبرز فيها تأثير الكحول والمخدرات باحثًا من خلال ذلك عن الخير في عالم مليء بالشياطين حسب رأيه. انظر: ألف شخصية عظيمة: ص 283.

(6)

ديوان الفيتوريّ 1/ 21.

ص: 400

ومن آثار غرقه في عالم بودلير وانغماسه في تقليده وأتباعه اتخذ له معبودات شتى منها أفريقيا التي يقول عنها:

(وبلادي أرض أفريقيا البعيده

هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي

والتي أنشقها مثل الهواء

والتي أعبدها في كبرياء)

(1)

.

وامرأة معشوقة يقول على لسانها:

(وترددين

وملء جسمك

رعشة متندمة

كم كان يهواني

ويعبد روحي المتأله)

(2)

.

وفي الجملة ليس المراد هنا جمع كل ما قالوه من ألفاظ تفيد عبوديتهم لغير اللَّه، أو استهانتهم واستخفافهم بلفظ العبودية، بل المقصود الإتيان ببعض الشواهد على هذا اللون من الانحراف وعلى هذه القضية الضلالية التي أصبحت من المسلمات العادية والمستساغة عند أهل الحداثة.

وإذا كانوا قد تشعبوا في أودية العبوديات المختلفة فإنهم تشعبوا كذلك في أدوية ألوهيات مختلفة ألهوها من دون اللَّه، وهو ما سيأتي إيضاحه في:

‌المظهر الخامس من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: تأليه غير اللَّه تعالى، ووصف غيره -جلَّ وعلا- بالألوهية:

وقد انساقوا في هذا الباب تأثرًا بما عليه الغربيون الذين استمدوا هذا

(1)

المصدر السابق 1/ 108.

(2)

ديوان الفيتوريّ 1/ 123.

ص: 401

الانحراف من جذورهم اليونانية الإغريقية التي وزعت الألوهية على آلهة وأرباب شتى، وفرقت الإنسان في آماله وطموحاته ومشاعره على هذه الآلهة الباطلة، ومزقت حياته شر ممزق وألقت به في أودية الهلكات، وردته إلى أسفل سافلين، فعاش في خسر وبوار، وهذا هو شأن كل كفر وشرك وإلحاد في قديم الزمان وحديثه.

والذي يتحدث عن مشكلات الإنسان المعاصر في أوجهها النفسية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية مغفلًا سببها الأساسي المتمثل في انحراف الإنسان عن طاعة اللَّه وعبادته، فإنما يخبط في ظلام وتيه في صحراء الأوهام، وإن أتى بحل فإنّما هو حل جزئيّ يصلح جانبًا ويفسد جوانب أخرى، ويداوي زكامًا ويوجد جذامًا.

وذلك لأن أساسي منهاج الإسلام التأله للَّه تعالى، وهو العليم الحكيم، ومنهجه هو الحكمة والعدل والخير كما قال تعالى:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}

(1)

.

وقال -جلَّ شَأنُهُ-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}

(2)

.

فمتى أعرض الإنسان عن هذا الأصل وهو تأليه اللَّه وحده لا شريك له وعبادته فى ون سواه، فإنه يخبط في الضلال ويتردى في الهلاك والخسران:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}

(3)

.

(1)

الآية 39 من سورة الإسراء.

(2)

الآية 2 من سورة الجمعة.

(3)

الآيتان 103 - 104 من سورة الكهف.

ص: 402

وعند النظر في النتاج الفكريّ والأدبيّ لأهل الحداثة نجد أنهم قد اغترفوا من مستنقع الشرك والتأليه لغير اللَّه بأوسع المغاريف، وضربوا حوله بعطن، وعلّوا ونهلوا من ذلك الخوض الآسن، وكان هذا دأبهم من أول روادهم إلى آخر أتباعهم، فقد استخفوا بلفظ "الإله" ومعناه، وقادهم هذا الاستخفاف إلى تأليه كل ما يخطر في بالهم من الإنسان والحيوان والأشياء، والشعر والكلام، وغير ذلك.

ومنبع انحرافهم في هذا: أنهم جحدوا حق اللَّه تعالى في الألوهية، وبعضهم لم يجحد حق اللَّه تعالى في الألوهية ولكنه يجحد حقه المطلق في ذلك، فلا يفرده -جل وعلا- بهذا بل يدخل معه في هذا الوصف من شاء من المخلوقات، وكلا الأمرين كفر وانحراف وضلال مبين، قال اللَّه تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}

(1)

، وقال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}

(2)

، وكل قول أو اعتقاد يناقض هذه الحقيقة فهو جهل وانحراف وضلال مبين.

ومنذ أن بدأت الحداثة العربية على يد السياب ونازك الملائكة والبياتي رتعت في هذا المرتع الوخم، واستفّت ترب الخزي والعار والجهل، وسوف أورد هنا بعض الأمثلة من كلامهم في هذا:

ولتكن البداية من السياب أول من شق طريق التبعية للغرب ونشر أشرعة الحداثة، والذي وصفه أدونيس بقوله:(بدر شارك السياب من شهودنا الأُول على الحضور؛ ولادة محتوى جديد، وولادة تعبير جديد. . . تجربة السياب مع ذلك ريادة: بدءًا منها ومعها أخذ ينشأ الشعر العربيّ الجديد في وسط تعبير جديد، وهو الآن من القوة والسيادة بحيث أنه يبدو إبداعًا مستمرًا)

(3)

.

والسياب إذا أردنا أن نعرفه فهو منذ النشأة الريفية في جنوب

(1)

الآية 163 من سورة البقرة.

(2)

الآية 19 من سورة محمد.

(3)

زمن الشعر: ص 212 - 213.

ص: 403

العراق في جيكور في أسرة آل السياب كان بعيدًا عن الفهم الصحيح للدين إن لم نقل عن الفهم الأولي للدين، فقد كانت أسرة آل السياب تزين جدران ديوانها بصور المتحررين من الدين والمحاربين له

(1)

، وكان عمه عبد القادر السياب أحد العاملين في حزب سريّ اسمه "الحزب اللاديني"

(2)

.

وحتى الجانب الدينيّ هناك ما يشير إلى تأثره بالعقائد الشيعية مثل نذره إهداء شمعة لقبر صاحب الزمان

(3)

.

وفي القرية تلقفته الأيدي الماركسية، وكان ذلك عن طريق عمه عبد المجيد السياب وصديقه الإيراني الماركسيّ المحبّ لأدب جبران خليل جبران ومي زيادة

(4)

.

ثم انضم للحزب الشيويّ العراقيّ وأصبح من أتباع يوسف سلمان يوسف المسمى "فهدًا" وهو يهوديّ عراقيّ من مؤسسي الحزب الشيوعيّ، ومعه من يهود العراق ساسون دلال ويهودا صديق

(5)

.

ووصل الأمر بالسياب وأسرته أن أصبحت قريتهم حصنًا منيعًا من حصون الشيوعية

(6)

، ومكث السياب إلى عام 1369 هـ/ 1950 م منتميًا للحزب الشيويّ ومخلصًا له

(7)

، وكان عام 1366 هـ/ 1947 م قد أنشأ قصيدة تعد عنده هي بداية الشكل الحديث في الشعر العربي

(8)

.

(1)

مثل سعد زغلول وكمال ايتاتورك. انظر: كتاب بدر شاكر السياب لإحسان عباس: ص 19.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 19.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 20. والمراد به المهدي المنتظر عند الشيعة محمد بن الحسن العسكريّ.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 89 - 90.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 91 - 92، 104.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 92.

(7)

انظر: المصدر السابق: ص 93.

(8)

انظر: المصدر السابق: 97.

ص: 404

وقد ظل السياب يؤكد دائمًا أنه هو الأسبق في ابتداع الشكل الجديد وخاصة إذا ذكرت نازك الملائكة

(1)

.

وفي عام 1367 هـ/ 1948 م نشر ديوانه الأول أزهار ذابلة، وفيها مقدمة لصحفيّ نصرانيّ اسمه رفائيل البرتي وجه فيها السياب توجيهًا عميقًا في الثورة على الماضي والتهكم به، ومحاكاة الشعر الإفرنجيّ والإمعان في الجرأة على هذه المحاكاة، وقد أثرت هذه الكلمات تأثير عميقًا في الوجهة الشعرية التي اختارها السياب من بعد

(2)

.

ولاشك أن السياب قد انغمس في اتجاه المحاكاة وخاصة بعد دراسته في دار المعلمين العالية حيث حدث عن نفسه قائلًا: (فدرست شكسبير وملتون والشعراء الفكتوريين ثم الرمانتيكيين في سنتيّ الأخيرتين، في دار المعلمين العالية تعرفت -لأول مرة- بالشاعر الإنجليزي ت. س أليوت، وكان إعجابي بالشاعر الإنجليزي "جون كيتس" لا يقل عن إعجابي "بأليوت")

(3)

.

ومما لا ريب فيه أن ثقافة الشاعر ونشأته وأجواء حياته لها تأثير مهم في تحديد المؤثرات الاعتقادية والفكرية والنفسية التي تلقاها وسار عليها، وشكلت شخصيته الفنية والمضمونية.

ولقد أظهر السياب أنه تأثر في أشكاله الحديثة بالشعر الإنجليزي في مقدمة ديوانه أساطير، وإن كان بعض النقاد لا يعتبر تلك المقدمة إلّا خلطًا صبيانيًا وسطحية في الفهم للشعر الإنجليزي)

(4)

.

واتسع تأثير السياب بأليوت وكيتس وغيرهما من الإنجليز إلى حد الترجمة عنهم وأحيانًا الانتحال

(5)

، أمّا الإعجاب والمحاكاة فحدث

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 135 - 136.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 109.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 123.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 125.

(5)

انظر: المصدر السابق: 145 - 146.

ص: 405

ولا حرج

(1)

.

وقد تحدث الخال عن تأثر السياب وغيره بالأدب الإنجليزيّ، بل وذكر أن السياب تعلم الشعر الحديث على يد معلم إنجليزي في بغداد، وهذا نص قوله عندما سئل عن انطباعاته عن بدر شاكر السياب: (شعريًا كان بدر موهوبًا جدًا وكان طموحًا، ويحب المعرفة والتقدم، وأذكر جيدًا أنه عندما كان يأتي إلى بيروت، كان يقول لي: أعطني كتبًا لأنني أريد أن أقرأ كنت أعطيه ديوانًا حديثًا لشاعر إنكليزي، وكان بدر يعرف شويّة

(2)

إنكليزي، كان يأخذ القاموس ويقعد يدرس كل كلمة وكل حرف ويعلم على الهوامش، كان دقيقًا كثيرًا، كان يحب العلم، والاكتساب كان مهمًا جدًا عنده، وقد درس بدر الأدب الإنكليزي بدار المعلمين بجامعة بغداد، وقد صادف أستاذًا إنكليزيًا في دار المعلمين، كان له اتجاه معاصر حديث، كما يفهمون الشعر في بلادهم، علم بدر الشعر الحديث كما علم نازك الملائكة والبياتي. . .، ومن حسن حظ بدر أنه تعرف بجبرا إبراهيم جبرا، جبرا كان درس بكمبردج وكمان

(3)

عندو

(4)

نفس الأفكار المعاصرة في الشعر، اتصل بجبرا، وجبرا كتير فادو

(5)

بها الموضوع. . .)

(6)

.

ومن هذه الأجواء والعوامل نشأ الشاعر الحداثيّ الذي شق أول طريق في الحداثة الشعرية العربية، ليس في الشكل وحده لكن في المضمون أيضًا الذي يعد أحد أهم أسباب ودوافع الثورة الحداثية على التراث والدين والقيم وكل الثوابت (ولكن إذا كان المضمون أحد مسوغات الثورة في الشكل فإن المضمون الجديد الذي مارسه السياب جزئيًا في ديوان أساطير، وكان الشكل الجديد ملائمًا له، معتمد على الصراع الذي يشبه المرض بين العقل الظاهر والوعي الباطن. . . .)

(7)

.

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 156.

(2)

و

(3)

و

(4)

و

(5)

ألفاظ عامية باللهجة اللبنانية وكان من دعاتها.

(6)

قضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 290.

(7)

بدر شاكر السياب لإحسان عباس: ص 136 - 137.

ص: 406

ومن خلال التتبع لمضامين شعر السياب نجد أنه قد اغترف من وحول أساتذته الإنجليز وقلدهم في استخدام الأساطير والعبث بالمصطلحات الشرعية، وليس التأليه لغير اللَّه تعالى إلّا واحدًا من هذه الضلالات التي لم ينعتق شعره منها، ولعله هو أول من سن هذه السنن السيئة في الشعر العربي الحديث، فقد جاء المعجبون والشاكون والرافضون، والثائرون على الدين والأمة والتاريخ ووجدوا في الأرضية التي هيأها السياب والبياتي ونازك والجيل التالي لهم مثل صلاح عبد الصبور وجبرا وأدونيس وجدوا فيها الميدان الرحب لمنازلة الدين الإسلاميّ ومحاربته.

وحتى لا يكون الكلام مجرد دعوى فإنه لابد من إيراد شواهد على استخفافه بلفظ الألوهية ومضمونها، ونسبته الألوهية لغير اللَّه تعالى:

فمن ذلك قوله متأثرًا بالفكر اليونانيّ الجاهليّ الوثنيّ:

(هو لن يعود

أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار)

(1)

.

وقصيدته التي بعنوان "مرثية الآلهة"

(2)

مليئة بهذه المعاني والأسماء والرموز الوثنية المؤلهة من دون اللَّه، ونحو ذلك قوله:

(وجاء عصر سار فيه الإله

عريان، يدمي، كي يروي الحياة

واليوم ولي محفل الآلهة)

(3)

.

ويتحدث عن عشتار الوثن المعبود المرتجى عند الفينيقيين والبابليين،

(1)

ديوان السياب: ص 229.

(2)

المصدر السابق: ص 349 - 354.

(3)

المصدر السابق: ص 382.

ص: 407

وعشتار أنثى لتموز

(1)

، يقول عنها السياب:(عشتار، أم الخصب، والحب، والإحسان، تلك الربة الوالهة)

(2)

.

وفي موضع آخر يتحدث عن عشتار وتموز وكلبهم سربروس يقول: (ليعوِ سربروس في الدروب لينهش الآلهة الحزينة، والآلهة المروعة)

(3)

.

ويقول:

(تؤوب إلهة الدم، خبز بابل، شمس آذار)

(4)

.

ويقول عن تموز:

(وينبش التراب عن إلهنا الدفين

تموزنا الطعين)

(5)

.

وفي سياق امتداحه لجميلة بو حريد

(6)

يقول عنها:

(تعلين حتى محفل الآلهة

كالربة الوالهة

كالنسمة التافهة)

(7)

.

(يا نفحة من عالم الآلهة)

(8)

.

(1)

انظر: معجم الأساطير: ص 52، 143.

(2)

ديوان السياب: ص 383.

(3)

المصدر السابق: ص 485.

(4)

ديوان السياب: ص 487.

(5)

المصدر السابق: ص 483.

(6)

جميلة بو حريد امرأة جزائرية قاومت الاحتلال الفرنسي للجزائر حتى قتلت.

(7)

ديوان السياب: ص 386.

(8)

المصدر السابق: ص 387.

ص: 408

(أنا سنمضي في طريق الفناء

ولترفعي "أوراس" حتى السماء

حتى تروى من مسيل الدماء

أعراق كل الناس كل الصخور

حتى نمس اللَّه.

حتى نثور)

(1)

.

سبحان اللَّه العظيم، وتقدس وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.

ويقول عن قريته جيكور:

(فمن يفجر الماء منها عيونًا لتبنى قرانا عليها؟

ومن يرجع اللَّه يومًا إليها؟

. . . وتخضل من لمسها، من ألوهية القلب فيل عروق الحجار)

(2)

.

وفي مقطع له بعنوان رؤيا في عام 1375 هـ/ 1956 م وهو ضد الشيوعية والشيوعيين بعد ترك السياب للحزب الشيوعي العراقي

(3)

، يقول:

(أيها الصقر الإلهي الغريب

أيها المنقض من أولمب في صمت المساء)

(4)

.

ومن أقواله في تأليه الإنسان:

(1)

المصدر السابق: 387 - 388.

(2)

المصدر السابق: ص 415.

(3)

انظر: ديوان السياب المقدمة: ص "ق ق".

(4)

المصدر السابق: ص 429.

ص: 409

(من قلبه المورق بالغار

إنسانك العملاق ظل الإله)

(1)

.

أمّا الشخصية الثانية في درب الحداثة العربية فهي نازك الملائكة -على خلاف بين الحداثيين أنفسهم من هو البادي بهذا البلاء- وقد سلكت نفس المسالك وإن كانت أقل غلوًا من غيرها في ذلك من أيام نشوتها الحداثية، ثم إنها أحست فيما بعد بفداحة هذا الاتجاه وخطورته فقالت بعد أن وصفت اضطرارها لشعر التفعيلة:(. . . لم يكن يدور في خلدي أن أناسًا من الشعراء سيتخذون عملي الاضطراري سنة يحتذونها في منشوراتهم الشعرية ودواوينهم. . . أرفع صوت احتجاج على زملائي الشعراء الذين أصبحوا يكتبون شعرًا موزونًا على الأسلوب العربي، ثم يدرجونه وكأنه شعر حر، فإن هذا العمل لا يزيد القاريء العربي إلّا بلبلة وجهلًا. . . . .)

(2)

.

وتقول: (. . . وقد يعجب بعض الشعراء من قلة هذا العدد بالنسبة لقصائد الديوان؛ لأنهم ألفوا أن يروا طائفة من الشعراء وقد تركوا الأوزان الشطرية العربية تركًا قاطعًا وكأنهم أعداء لها وراحوا يقتصرون على نظم الشعر الحر وحده في تعصب وعناد. . . أحب الشعر العربي ولا أطيق أن يبتعد عصرنا عن أوزانه العذبة الجميلة، ثم إن الشعر الحر كما بينت في كتابي "قضايا الشعر المعاصر" يملك عيوبًا واضحة أبرزها الرتابة والتدفق والمدى المحدود وقد ظهرت هذه العيوب في أغلب شعر شعراء هذا اللون. . .، وإني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها. . . .)

(3)

.

(1)

المصدر السابق: ص 504.

(2)

ديوان نازك الملائكة 2/ 415 - 416 وهي من مقدمة مجموعة قصائد بعنوان شجرة القمر تاريخها 28/ 3/ 1967 م/ الموافق ربيع أول 1386 هـ.

(3)

المصدر السابق 2/ 417 - 418.

ص: 410

وفي مقابلة أجريت معها قالت: (يعاني شعرنا المعاصر الحديث من مجموعة إشكالات منها التعمية والتقليد وأخطاء الوزن وضعف اللغة واستعمال اللغة العامية. . .)

(1)

.

ثم شرحت بعض هذه المشكلات قائلة: (أمّا التعمية فهي تعمد الغموض الشديد في الشعر بحيث يقرأ القاريء القصيدة الكاملة ولا يفهم منها حرفًا، وقد تعالت صيحة القراء واحتجاجاتهم في كل بقعة من العالم الإسلامي والعربي، والمواطن اليوم مجروح وحزين؛ لأن قضية العدو الصهيوني تذله، وهو ينتظر من شعرائه أن يعبروا عن ثورته ورفضه وسخطه فلايجد لدى الشعراء سوى أشطر كثيرة لا معنى لها، وعندما لجأ القاريء إلى نقاد الشعراء المحدثين رجع خائبًا؛ لأن الناقد متواطيء مع الشاعر في كثير من الأحيان، فهو ينقد القصيدة نقدًا غامضًا لا سبيل إلى فهم عبارة منه. . .، والمشكلة الكبرى في نظري أن الشاعر هو نفسه لا يعرف أن يشرح قصيدته، ولو أنه كان قادرًا على إيضاح المعنى لاستطاع الناقد ذلك أيضًا ولفهم القاريء القصائد.

أمّا البند الثاني "التقليد" فهو لا يقل خطورة عن الأول. . . أقصد الشعر الحديث، الشعر الحر الذي ينظمه اليافعون فذلك هو الشعر الذي يعشعش فيه التقليد: إن الواحد من الشعراء يقلد زملاءه دون نجديد ولا أصالة؛ ولذلك تنتشر في شعرهم ظواهر معينة ينقلها الواحد عن الآخر مثل التظاهر بالاهتمام بالأسطورة. . . .)

(2)

.

وحذرت في كتاباتها "قضايا الشعر المعاصر" من الاستسلام المطلق للشعر الحديث

(3)

.

هذا النقد الذي وجهته نازك إلى شعر الحداثة وهي مؤسِّسَة لهذا الاتجاه يدل على مقدار شعورها بجناية هذا المسمى شعرًا، وإن كان نقدها

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 207.

(2)

المصدر السابق: ص 207 - 208.

(3)

انظر: قضايا الشعر المعاصر: ص 48.

ص: 411

في مجمله ينصب على الشكل إلّا أنه لم يخل من نقد المضمون مثل الغموض والتعمية، وترك قضايا الأمة، وقد اعتبر الحداثيون نازكًا وكتابها قضايا الشعر المعاصر ردة وتخلفًا.

هذه الشاعرة لم تخل من الانحرافات الاعتقادية في شعرها، ولم تسلم من لوثات الحداثيين خاصة في أول اعتناقها للحداثة على يد الأستاذ الإنجليزي الذي علمها هي والسياب والبياتي الشعر الحديث

(1)

في أشكاله ومضامينه الإنجليزية، وهي بطبيعة الحال تقوم على المادية ومحاربة الدين والسخرية من أصوله وفروعه ومصطلحاته، ومن هنا أخذت نازك الملائكة هذه الانحرافات واسترسلت معها حتى بعد نقدها للحداثة، والذي يهمنا في هذا المقام ذكر انحرافها في باب الألوهية متمثلًا في تأليه غير اللَّه تعالى.

تقول عن نفسها وقد مرضت حتى شارفت الهلاك:

(وستمحوا الأيام ذكر فتاة شغفتها آلهة الشعر حبًا)

(2)

وتقول في مرثية غريق:

(إيه يا ضفة ما ذاك الخيال فوق صدر الموج تحت الظلمات

أإله قد تصباه الجمال؟ أم غريق عزه حبل النجاة)

(3)

وتقول:

(جئت وروحي فزع صارخ باسم إله الصمت باسم العدم)

(4)

وتقول تخاطب حبيبها:

(1)

انظر: قضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 290، في مقابلة مع يوسف الخال ذكر فيها هذا الأمر.

(2)

ديوان نازك الملائكة 1/ 497.

(3)

المصدر السابق 1/ 508.

(4)

المصدر السابق 1/ 513.

ص: 412

(حبي الألهي النقي ظلمته ووفاء روحي الشاعري العابد)

(1)

ونحوه قولها:

(أسفًا للماضي الإلهي هل ما

تت أغانيه في فؤادي الوحيد

آه يا شاعري لماذا تهاويـ

ـــت بعيدًا وراء أمسي البعيد

وأنا لم أزل صلاة لعينيـ

ــــك وإعصار لهفة وشرود

كيف ضاع الحب الإلهي يا طائري الحر فانفرجت ظنونا؟)

(2)

وتحت عنوان العودة إلى المعبد، وتعني به الحب قالت:

(معبدي عادت بي الأحزان فارأف بعذابي

. . . ذهب الأمس بأوهام فؤادي ومحاها

فإذا قلبي عبد ولقد كان إلها

. . . عدت يا معبد للصمت فلن أشدو بحبي

. . . هي ذي آلهة الشعر فهل تمسح حزني

. . . معبدي افتح لقلبي الباب ولا تقس عليه)

(3)

.

ووصفت الموسيقي الروسيّ تشايكوفسكي بأوصاف غاية في الغلو والضلال والفساد، وذلك في قصيدتها "أنشودة الأبدية"، قالت في مقدمتها:(إلى القيثارة الإلهية التي منحت الإنسانية أروع الألحان، إلى تشايكوفسكي الموسيقي الروسي ذكرى لمرور أربع وخمسين سنة على وفاته)

(4)

.

ثم قالت:

(1)

المصدر السابق 1/ 522.

(2)

المصدر السابق 1/ 553 - 554.

(3)

المصدر السابق 1/ 616 - 619.

(4)

المصدر السابق 1/ 628.

ص: 413

(سأحب الحياة من أجل الحا

نك يا بلبلي الحزين وأحيا

سأرى في النجوم من نور أحلا

مك ظلًا مخلدًا أبديّا)

(1)

. . . آه يا أيها الملاك إلى رو

حك في الموت حن روحي الحزين

(2)

. . . من بعيد أرنوالي الهيكل السا

مي وأصغى إليك يا معبودي)

(3)

. . . رقد الحالم الإلهي تحت الـ

ـــفجر حسيمًا ميتًا وروحًا أصما)

(4)

. . . وعلا ذلك الجبين الأثيري

شحوب الموت المرير القاسي

وهوى ذلك الإله السماوي

على الأرض خامد الأنفاس

عبثًا قبلته آلهة الفجر

وغنته أعذب الأنغام

عبثًا ذكرته ربة موسيـ

ــــقاه بالذكريات والأحلام)

(5)

فهذه نصوص جلية في الاستخفاف بلفظ "الإله" وهو توجه لم يقدر اللَّه حق قدره ولم يحفظ لألوهيته تعالى قدسيتها.

أمّا البياتي وهو من المؤسسين للحداثة، ومن السادرين في حبها والدفاع عنها، فقد امتلأت كتبه بهذا النوع من الانحراف، ولعله يرى ذلك أقل ما يُمكن قوله وفعله فقد اغتذى بالحداثة من شبابه في دار المعلمين في بغداد على يد الإنجليزي الآنف ذكره، ثم تدرج في دركات الانحراف ليصبح ماركسيًا يدافع عنه الماركسية، وينشر فكرها وألفاظها ورموزها ويتغنى بتاريخها ورجالاتها ومدنها، ومن المعلوم أن الماركسية تقوم على عقيدة الإلحاد القائلة بأن "لا إله والحياة مادة"، ومن اعتقد هذا فلا ريب أن لفظ الإله عنده غير محترم وأنه سينتكس في وحول الضلالات ويلج إليها من أوسع وأقذر الأبواب.

(1)

ديوان نازك الملائكة 1/ 628.

(2)

المصدر السابق 1/ 629.

(3)

المصدر السابق 1/ 630.

(4)

المصدر السابق 1/ 633.

(5)

المصدر السابق 1/ 624.

ص: 414

ولولا أن من مقاصد هذا البحث بيان انحرافات أهل الحداثة من خلال كلاهم، لكان الإعراض عن كلام أشد شيعة الحداثة عتيًا أولى من ذكره.

ولنذكر الآن شواهد من كلام البياتي في تأليهه لغير اللَّه، وسخريته واستخفافه بمصطلح الإله. يتحدث في قصيدة بعنوان "ملائكة وشياطين" عن شاعر ويقصد نفسه فيقول:

(أوتاره أهداب آلهة وجناحه أشواق إنسان)

(1)

ونحوه قوله:

(وماذا علي إذا لم أكن إلهًا وحلمي توارى وغاب)

(2)

وتحت عنوان البعير المسعور يقول:

(هذا العبير الإلهي نشقته بالأمس وحدي من خمائل شعرها)

(3)

ويقول:

(خياله يطفو على جفني وإن عنك احتجب

إلهه المقتول في كفيه قيثار خشب)

(4)

ويقول عن أحلامه الشاعرية مقتديًا بوثنية اليونان في تعدد الآلهة:

(وفي الجزر النائيات التي تلوذ بها آلهات البحر

سيسمع الحاني الصائدون تغني بها الريح بين الشجر)

(5)

ونحوه قوله:

(هنا رفعت للسماء العقيم قرابينها آلهات القبور)

(6)

(1)

ديوان البياتي 1/ 22.

(2)

المصدر السابق 1/ 55 - 56.

(3)

المصدر السابق 1/ 105.

(4)

المصدر السابق 1/ 119.

(5)

المصدر السابق 1/ 122.

(6)

المصدر السابق 1/ 174.

ص: 415

وقوله:

(ودليل مركبي الطروب

عينان خضراوان، آلهة الربيع)

(1)

.

وقوله:

(كان لنا فجر وكانت لنا آلهة تَمنحنا ودها)

(2)

وقوله:

(وهواي كان

طفلًا إلهيًا على الأشواك يحبو في الهجير)

(3)

.

وقوله:

(على سفح "حمرين" يا فتنتي

ومعبودتي

ليالي الشتاء الحزين)

(4)

.

وله قصيدة بعنوان "الآلهة والمنفى"

(5)

.

ويقول:

(بأي الهوى وبأي الدروب

تموتين يا نجمتي الشاحبه

(1)

المصدر السابق 1/ 177.

(2)

المصدر السابق 1/ 180.

(3)

المصدر السابق 1/ 185.

(4)

ديوان البياتي 1/ 237.

(5)

المصدر السابق 1/ 294.

ص: 416

إله يرود مراعي السماء

إله تطارده العاصفه

رأيت الإله على المقصله

. . . رأيت الديوك على المزبله)

(1)

.

وفي مقطع له بعنوان "قصائد حب إلى عشتار":

(في عصور القتل والإرهاب والسحر وموت الآلهة)

(2)

.

وفيه يقول:

(من هنا مرت وفي هذي الطلول الدارسة

لاحقتني لعنات الآلهة)

(3)

.

ويقول:

(نرفع للفرات قربان إله الطين)

(4)

.

وفي مقطع له بعنوان "مرثية إلى اخناتون" يتغنى بأمجاد الفراعنة ويمجدها ويصفها بأوصاف الألوهية وينطرح أمامها في عبودية وذل، ومما قاله فيه:

(مرتلين للإله العاشق المنفي أخناتون)

(5)

.

(. . . بسبب الجريمة

لا تقبل الآلهة الصلاة والقربان)

(6)

.

(على نقوش قبره المنهوب

(1)

المصدر السابق 1/ 491 - 492.

(2)

المصدر السابق 2/ 206.

(3)

المصدر السابق 2/ 207.

(4)

المصدر السابق 3/ 222.

(5)

المصدر السابق 2/ 268، 269.

(6)

ديوان البياتي 2/ 268، 269.

ص: 417

لا شيء غير نذر الآلهة الغضبى وصمت الحجر النائم في وادي

الملوك تحت كثبان رمال الأبد المسحوق. . .

. . . يا أيها المعبود

أنت الذي يعيش في الحقيقة

ممجدًا مباركًا قدوس. . .

. . . متوجًا بزهرة اللوتس والثعبان

حيًا جميلًا خالدًا معبود

وعاشقًا معشوق

شمس النهار أنت في جلالك العظيم

. . . أنت لا تموت

إنك لا تفنى إلى الأبد

إنك لا تعطش في سفينة الشمس ولا تجوع

ولا يدب الشيب في شعرك أو تنفى إلى أصقاع موت النور

تحترق السماء من أجلك والنيل على غدائر الأرض وفوق

صدرها الحنون)

(1)

.

هذا الارتماء العبودي، والخضوع الوثني والأوصاف التبجيلية التأليهية التي يقدمها في نسك وثني متخلف!! أليس عجيبًا أن يجحد ألوهية اللَّه الحقة، ويضفي صفات الخلود والإرادة على أخناتون

(2)

الفرعون المندثر

(1)

المصدر السابق 2/ 269 - 270.

(2)

عاشر فراعنة الأسرة الثامنة عشرة وثاني، أبناء أبيه 369 - 353 ق. م عبد قرص الشمس، واعتبرها إلهه الذي لا يشرك معه أحدًا، وبنى لربه معبدًا في ديار الكرنك أسماه معبد رع. انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1/ 66.

ص: 418

الهالك منذ آلاف السنين؟!، ولكنها العقلية الجاهلية منذ القدم وإلى اليوم تجحد الحق المبين وتوقن بالخرافة والوهم.

وفي مقطع له بعنوان "المعبودة" يخاطبها بوثنية قاحلة قائلًا:

(أيتها المعبودة أيتها الحمامة المقدسة

. . . أيتها المعبودة التي قهرت جميع معبوداتي

وتربعت ملكة على عرشهن

آمنت بك

وبكلماتك

وإبداعاتك التي رأيت في سطورها

شمس العالم وهي تولد من جديد)

(1)

.

وفيها يقول:

(قلبي هرم خوفو الكبير

أراك تضطجعين في مقصورته الملكية

ماسة مشعة منذ آلاف السنين

وأنا عبدك أقبل يدك

وأحرك كنوزك الإلهية)

(2)

.

وسيرًا على انطباعه بالوثنيات وتأثيراتها الضلالية يقول تحت عنوان "سيرة ذاتية لسارق النار"، وسارق النار هو بروميثوس الوثن اليوناني الذي يؤلهونه، وقد أسهب البياتي في تفصيل سيرة هذا الوثن واعتقادات أسلافه اليونان فيه

(3)

.

(1)

ديوان البياتي 2/ 312.

(2)

المصدر السابق 2/ 317 - 318.

(3)

المصدر السابق 2/ 362 - 363.

ص: 419

ويقصد بهذا المقطع نفسه، وفيه يقول:

(من أعطاك حق البحث في مدينة العشق عن اللَّه؟)

(1)

.

ويقول فيها مؤلهًا الإنسان:

(بحثت من حان إلى حان ومن منفى إلى مفنى

عن الوجه الذي يحمله سارق نار الشعر

من معابد الآلهة - الإنسان)

(2)

.

ومثل هذا قوله:

(أو لم نحترق

من أجل أن نضيء ليل البشر - الآلهة - الطيور)

(3)

.

ويسترسل مع الوثنين والأوثان مجتهدًا في نشر وترويج بضاعتها الكاسدة التي انطفأت نارها بمبعث خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فيقول تحت عنوان "القصيدة الإغريقية":

(تعدو عارية، آلهة الشعر المجنون إلى "دلفي

(4)

" تبكي أقدار الشعراء)

(5)

.

ويقول:

(كنا أربعة: أنا والموسيقى الأعمى ودليلي

ومغني آلهة الأولمب الحكماء)

(6)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 355.

(2)

المصدر السابق 2/ 355.

(3)

المصدر السابق 2/ 359 ونحوه ص 361.

(4)

دلفي معبد إغريقي. انظر: المصدر نفسه: ص 398.

(5)

المصدر السابق 2/ 382.

(6)

المصدر السابق 2/ 383.

ص: 420

ومن هذا الطرح نستطيع أن نفهم كيف تؤثر الدراسة والتلقي في العقائد والأفكار، فالبياتي -وهو أحد النماذج الحداثية- تلقى في شبابه عن أستاذه الإنجليزي، ثم استطرد في هذا الميدان ليصبح نسخة عن أي فكر أو عقيدة، إلّا عن عقيدة الإسلام ومبادئه، فمرة يتطوح فكره بين أيدي الأوثان القديمة من الإغريق والبابليين واليونان، ومرة ينطرح في عبادة وإجلال للأوثان الجديدة وخاصة الماركسية والوجودية، وكل هذه المعبودات أثرت في أقواله وأعماله، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

وننتقل الآن إلى الطبقة الثانية، وعلى رأسها أدونيس الذي سبق من تقدم، وفاق من لحق بعده، وأضحى رأسًا في حمل لواء الانحوافات والخرافات الجاهلية، وأستاذًا في التعبير عن عقائد الضلال التافهة.

وله في قضية تأليه غير اللَّه باعٌ كبيرٌ، فالذئب والضوء وفينيق والحداثة وذاته والأرض والشمس والعالم والحشرات والإنسان كلها يصفها بالألوهية، مرة بما يقتضي تعبده واحترامه لها، ومرة بما يدل على استخفافه بمصطلح الألوهية ومعناه، وهذه بعض الأمثلة على ذلك، كقوله:

(ومعي الناي - جمعت فيه آفاق بلادي شطآنها وقراها

أطلع اللحن لحنها فكأني واضع بين راحتي إلها)

(1)

وقوله:

(يدي هنا غريبة، غريب

وجهي إله حاضري غريب)

(2)

.

وقوله:

(وبين كل خطوة وخطوة

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 25.

(2)

المصدر نفسه 1/ 124.

ص: 421

مغاور تألهت ونُصُب)

(1)

.

وفي مقطع بعنوان "صلاة" يخاطب فينيق ويدعوه في عبودية وثنية مكشوفة، ويقول:

(صليت أن تظل في الرماد

أن يهدأ السحر وأن يكون

موعدنا في النار في الرماد

صليت أن يقودنا الجنون)

(2)

.

قال اللَّه تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}

(3)

.

وقد دعا أدونيس أن يكون موعده مع في فينيق في النار، وأن يقتاده الجنون، وليس هناك أعظم جنونًا من إنسان يوجه فكره وفنه لعبادة آلهة وثنية أو فكرية أو مذهبية -آلهة غير اللَّه الحق المبين- يعبدها ويفني نفسها فيها، وإن لبّس ذلك بلباس الأدب أو البحث العلمي أو النقد أو العقلانية أو المعاصرة أو التحديث، إلى غير ذلك من المعاذير التي يغطي بها الحداثيون خطل فكرهم وعقيدتهم وما ينتج عن ذلك من إفرازات.

وليست هذه الوحيدة من وثنيات أدونيس بل له "ترتيلية البعث"

(4)

، وهي مليئة بالتقديس والدعاء والرجاء العبادي لفينيق، ومترعة بالإعجاب به، ووصفه بأوصاف القداسة والخلق والألوهية

(5)

.

ومن أقواله في موضع آخر:

(أعيش في جزيرة الألوان

(1)

المصدر نفسه 1/ 243.

(2)

المصدر نفسه 1/ 335.

(3)

الآية 19 من سورة الأنفال.

(4)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 25.

(5)

المصدر السابق 1/ 165 - 172.

ص: 422

أعيش كالإنسان

أصالح الآلهة العمياء والآلهة البصيرة)

(1)

.

وعلى الطريقة الوثنية اليونانية يستخدم هو وأضرابه لفظ الإله والألوهية على كل شيء ويدنسون هذا المصطلح بإضافته إلى أتفه الأشياء وأحقرها، كقوله تحت عنوان "الذئب الإلهي":

(تحت وجهي جرس الليل انكسر

وأنا الذئب الإلهي الجديد)

(2)

.

وقوله:

(الحب زي - كلما كثر المحبون قل الحب

سرير تعمره حشرات إلهية تنفث الهذيان الكوني

حيث يشتبك فخذ القمر وفخذ الفأر

يتعانق فك الشمس ولسان الحرذون)

(3)

.

وعلى ما في هذا الكلام مما يصلح للسخرية والتندر وضرب الأمثال لخبال العقول وتفاهة القول والفكر، فإن فيه أيضًا وصف الإنسان الذي يعمر سرير الحب -ويريد به الجنس- بأنه حشرة، ونعت الحشرة بالألوهية، على طريقته التدنيسية لكل ما يتعلق بعقائد ومصطلحات الإيمان، ومنهجه التبجيلي لكل ما يتعلق بعقائد ومصطلحات الكفر والإلحاد والضلال.

وفي مكان آخر يصف الجنس ذاته بأنه إله:

(أعراس أعراس

نرفعها ذبائح انتقامًا من الموت

(1)

المصدر السابق 1/ 332.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 339.

(3)

المصدر السابق 2/ 625.

ص: 423

إلهًا آخر يرى كل شيء)

(1)

.

ويؤله الأرض قائلًا:

(حين تكون الأرض

مقصلة خرساء أو إله)

(2)

.

وكذلك المقصلة:

(انظر: الكون بهلوان

إن إله العالم المقصلة)

(3)

.

ويؤله عالم الجسد والجنس قائلًا على لسان إحداهن:

(سلامًا أيها العالم يا مألوهي)

(4)

.

ويمضي على طريقة المانوية في تأليه النور فيقول:

(أيها الضوء

خلقت إلهًا ويرفضك الظلام

. . . ألهذا كنت الخالق يلبس شكل الخليقة)

(5)

.

أمّا معبوده الأكبر وإلهه الأعظم فهي الأفكار والعقائد التي يدعو إليها وينادي بها، وكثيرًا ما نجده يمزج بينها وبين ذاته، ويربطها بشخصه، بسبب نظرته المتعالية المستكبرة، واعتداده بأستاذيته المتعالية على الأتباع والمعجبين من الإمّعات الجهلة.

يقول عن إله الحداثة الذي عبدوه من دون اللَّه:

(بلى في بلادي لكل الزمان لكل المصير اكتناه

(1)

المصدر السابق 1/ 524.

(2)

المصدر السابق 1/ 352.

(3)

المصدر السابق 2/ 104.

(4)

المصدر السابق 2/ 498.

(5)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 670 - 671.

ص: 424

وإن شوهوه

وفيها لخلق لصيرورة الحياة إله

وإن أنكروه)

(1)

.

وعندما يتحدث عن المسلم صاحب الدين والخلق القويم، وعن تراث المسلمين وتاريخهم، يسخر ويجعل ذلك تخلفًا وأغلالًا وسلاسل تقيد الحرية والإبداع فيقول:

(سمعته وفمه حجارة

خطاي لا أريدها

ثقيلة رتيبة

وهذه سلاسلي

أموت في رنينها

سلاسلي حديدها إله. . .

. . . والآخرون الكون في بيوتهم

واللَّه فوق طبق من العقول مترف

أغيّر الحياة: شكل سيرها

وآدميًا موثقًا بخبزه

يغص بالهواء، يبقى اللَّه في حلقومه معلقًا

ولا يزال صوته

يجتاحني، وفمه حجارة

خطاي لا أريدها)

(2)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 136.

(2)

المصدر السابق 1/ 242 - 243.

ص: 425

وفي غضون غروره بنفسه وشعره يستعلي -انتفاخًا- إلى حد التأليه فيقول:

(عاشق أتدحرج في عتمات الجحيم

حجرًا غير أني أضيء

إن لي موعدًا من الكاهنات

في سرير الإله القديم

كلماتي رياح تهز الحياة

وغنائي شرار

إنني لغة لإله يجيء

إنني ساحر الغبار)

(1)

.

تنضح هذه الكلمات بالمعاني المكررة التي يرددها في قوالب عديدة، فهو يصف نفسه بأنه حجر مضيء ويتدحرج في ظلام الواقع المتأثر بالماضي، بالإسلام وتراثه وحضارته.

وسوف يقضي على الدين الذي عبر عنه باللقاء مع الكاهنات في سرير الإله القديم ويعني به اللَّه تعالى، ثم ينعطف على ذكر أدوات ثورته ورفضه ونقضه، إنها كلماته التي جعلها رياحًا تهز الحياة وشرارًا يوقد ويحرق.

ثم يقرر في استكبار بأنه وشعره وفكره "لغة لإله يجيء" إله الحداثة، وإله العقلانية المزعومة، وإله التحرر الداعر والإلحاد.

ويكرر هذا الكلام في قوله:

(إنني حجر الصاعقة

والإله الذي يتلاقى مع المفرق الضائع

(1)

الأعمال الكاملة لأدونيس 1/ 298.

ص: 426

وأنا الراية العالقة

بجفون السحاب المشرد والمطر الفاجع

وأنا التائه الذي يتقدم سيلًا ونارًا

مازجًا بالسماء الغبار

وأنا لهجة البرق والصاعقة)

(1)

.

ويكرر المعنى في صيغة أخرى قائلًا:

(أخلق أرضًا تثور معي وتخون

أخلق أرضًا تجسستها بعروقي

ورسمت سماواتها برعدي

وزينتها ببروقي

حدها صاعق وموج

وراياتها الجفون)

(2)

.

وفي مقطع بعنوان "إله يحب شقاءه" تضج كلماته بهذه الرعونات والادعاءات الجوفاء، فيجعل اللَّه تعالى إلهًا يتمزق تحت خطواته، خطوات مهيار الرجيم، وكلماته وأغنياته إله يزيح التخلف والإرهاب، ويحب الشقاء والجحيم الحداثي، ويرد البراءة لوجه الحياة، فيقول:

(بالإله الذي يتمزق

في خطواتي

أنا مهيار الرجيم

أرفع الميتين ذبيحة

(1)

المصدر السابق 1/ 340.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 343.

ص: 427

وأصلي صلاة الذئاب الجريحة

غير أن القبور التي تتثاءب

في كلماتي

حضنت أغنياتي

بإله يزيح الحجارة عنا

يحب شقاءه

ويبارك حتى الجحيم

فيصلي مع صلواتي

ويرد لوجه الحياة البراءة)

(1)

.

وقد قامت فلسفة الهرطقة هذه عنده على أساس أن الإنسان خالق لا مخلوق، وأنه يشارك في الخلق الإلهي

(2)

.

أمّا مهاجمته لذات اللَّه -جلَّ وعلا- فقد قامت على أساس أوضحه في تلمود الحداثة متحدثًا عن جبران نيابة، وعن نفسه أصالة قائلًا:(لا يستطيع الإنسان. . . أن يصبح نفسه إلّا إذا هدّم كل ما يعادي حريته الكاملة، وتفتحه المليء، وما يقف حاجزًا دون طاقته الخلاقة وتتجسد هذه القوة المعادية كما يرى جبران، فيما يسمى "الشريعة" بتنويعاتها وأشكالها السلطوية، الماورائية، والاجتماعية: "اللَّه" بالمفهوم التقليدي، الكاهن، الطاغية، الإقطاعي، الشرطي)

(3)

.

فإذا وجدنا في تلويحات الحداثيين ورموزهم الوافضة كلامًا عن محاربة الكاهن أو الطاغية أو الإقطاعي أو الشرطي أو السلطة أو محارب الحرية أو سيد الرمال أو زعيم التخلف أو رأس التحجر ونحو ذلك فإن المراد الأول بذلك هو اللَّه تعالى كما نص على ذلك أدونيس في النص السابق، وقد يريدون شريعته ودينه وأنبياءه وكتبه وما يتفرع عن ذلك.

(1)

المصدر السابق 1/ 349.

(2)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 157.

(3)

المصدر السابق 3/ 181.

ص: 428

وإذا انتقلنا إلى رأس آخر من رؤوس الطواغيت الحداثية وهو الصليبي يوسف الخال فإننا نجد تأليهه لغير اللَّه من أصول فنه وشعره وكلامه، وله في ذلك باع طويل، أسوة بأسياده نصارى الغرب الذين أخذوا هذه النظرة الوثنية عن اليونان، واعتبروا فلسفة اليونان أساسًا لفكرهم.

يقول الخال:

(غنه إلياذة من هومر

أمرعت والدهم لم يدرك صباه

غنه ما شئت كم قيثارة

ابدعت في عالم الفكر إله)

(1)

.

ويقول مستخفًا بلفظ الإله:

(أين أمضي؟

أإلى المأتم في الغابة والميت إله؟)

(2)

.

ومثله قوله:

(بغ. . بغا. . بغ

بغ. .

بغبغا. . بغ

أترى هذا الذي مات إله)

(3)

.

وفي معرض تأليهه وإشادته باالبحر رمز الغرب والتجديد والتقدم عنده، يقول:

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 18.

(2)

المصدر السابق: ص 201.

(3)

المصدر السابق: ص 219 ونحوه ص 279 وص 358.

ص: 429

(أيها البحر، أيها الأمل البحر

ترفق بنا ترفق ترفق. . .

. . . كل الجراحات يا بحر

حبالى ونحن مهد عريق

للولادات: أي أي إله

ما رأى النور بيتنا، ما تربى

كيف يحيا، يشقى، يموت)

(1)

.

يقول:

(الرخام هنا مجامرًا

للبطل الإله، مقبضًا لسيفه)

(2)

.

ويقول:

(ردي الحبيب لي

رديه كالإله من غيابه)

(3)

.

ويقول:

(مسافر سلبه اللصوص

مزقوا ثيابه

رموه في مفازة

هجرها الإله

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 229.

(2)

المصدر السابق: ص 237.

(3)

المصدر السابق: ص 239.

ص: 430

قالوا له: إلهك الجديد ما تراه)

(1)

.

ويتحدث عن عشيقته قائلًا:

(حبيبتي معي، جسدي معي، إلهي معي، قم أيها القدر وافسح لي مكانك)

(2)

.

(آه أي إله أنت، جنتك لا تغري بالخطيئة. . .

. . . عانقيني يا إلهي الصغير)

(3)

.

وفي اعتزاز بفكره الحداثي، وسعي في هدم عقائد الإيمان يقول تحت عنوان "العشاء الأخير":

(تقول: لنأكل الآن ونشرب، إلهنا مات

فليكن لنا إله آخر، تعبنا من الكلمة وتاقت

نفوسنا إلى غباوة العرق. . .

. . . ونقول: لعل الطارق إلهنا الجديد، وهذه الريح

أزهار شهية تفتحت في المجاهل)

(4)

.

ويقول:

(الأشجار تهجر الصمت وتبكي إلهها القديم)

(5)

.

ويعبر عن حربه اللَّه تعالى ودينه وشريعته قائلًا:

(وفي صحرنايا ولدت وفيها

على حائط ساجد في الطريق

(1)

المصدر السابق: ص 264.

(2)

المصدر السابق: ص 270.

(3)

المصدر السابق: ص 272.

(4)

المصدر السابق: ص 279 - 280.

(5)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 281.

ص: 431

شنقت إلهي، وفي الرمل

في ظلمات الحروف العقيمة)

(1)

.

(أقوم وأرحل عن صحرنايا

وأسلك دربي إلى منتهاه

هنالك أحضن وجه التراب

وأسمع صمت الإله

وأبني من الريح مأوى يقيني)

(2)

.

أمّا النصراني الآخر جبرا إبراهيم جبرا، والشاعر الحداثي التموزي وأحد المؤثرين الفاعلين في حركة الشعر الحديث، فهو على المنوال نفسه وفي المخاضة الآسنة ذاتها، وكيف لا والجميع قد ارتضع من إفرازات الطغيان المادي.

يقول جبرا:

(بي شهوة الإله)

(3)

.

وتحت عنوان "الشاعر والنساء" امتدح الفاجرات الداعرات، وشتم العفيفات والحجاب والحشمة ثم قال:

(أأروي كيف دنت بوجهها

وشفتاها كأس من الياقوت

ونقش فيها إله الحب. . .

. . . وعلى شفتيها آلهة الليل لا تخشى)

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 294. والرمل يقصد به الدين الإسلامي، والحروف العقيمة يريد بها اللغة العربية.

(2)

المصدر السابق: ص 295. وانظر: ص 354، 355.

(3)

المجموعات الشعرية الكاملة لجبرا: ص 36.

(4)

المصدر السابق: ص 52.

ص: 432

ويقول:

(كأن السم مشيئة الآلهة)

(1)

.

ويتحدث عن عشيقاته قائلًا:

(وما اختار إلّا أروعكن

لتكون محط عبادتي وجنوني)

(2)

.

أمّا ثالث أعمدة النصارى من الحداثيين فهو توفيق صايغ، وأقواله في هذا الباب عديدة منها قوله:

(من المياه تنبع آلهة الحب)

(3)

.

وقوله:

(وفي نفثات شعر كأنفاس إله)

(4)

.

وقوله:

(لا أطلب معها

غديرًا سائغًا بأعلى الجبل

السائح لشبرٍ عن إله)

(5)

.

وقوله:

(سيعرّفُ الليلة

الإله الشبق

(1)

المجوعات الشعرية الكاملة لجبرا: ص 202.

(2)

المصدر السابق: ص 241.

(3)

المجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 35.

(4)

المصدر السابق: ص 76.

(5)

المصدر السابق: ص 134.

ص: 433

تلك التي

لم تعرف مثلها مع رجل)

(1)

.

ويخاطب حيوان الكركدن تحت عنوان "بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن":

(وألوهتك تبعت التجديف

والارتداد وحسب)

(2)

.

وفيه قوله:

(حيوان وامرأة:

إله في خياليهما وإلهة)

(3)

.

وفيه قوله:

(وصاح في صلاته:

إلهي قتلت الجسد؟

عذراؤك ولهى)

(4)

.

وتحت عنوان معلقة توفيق صايغ يقول في دناءة وخبث وانحطاط، مؤلهًا بكارة امرأة، وساخرًا من اللَّه عز وجل:

(من جيروم لجوليا

الحورية العذراء

عذرتها ألّتهتها

(1)

المصدر السابق: ص 262.

(2)

المصدر السابق: ص 264.

(3)

المجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 265.

(4)

المصدر السابق: ص 268.

ص: 434

أهلت أسها أن تسمى

حَمَاةَ اللَّه)

(1)

.

ويقول:

(سيول خصب،

كنتها وكبحتها

كقلب وإلهٍ كاتم)

(2)

.

وعن هذا المقطع كتب في الهامش: (المقطع الأول من القصيدة الطويلة التي بدأت أحبل بها منذ حوالي تموز 1952 م)

(3)

.

فبئس ما حبل به وبئس ما أنجب، ولتهنأ الحداثة بروادها الذين يحبلون ويلدون!!.

ويتحدث عن معشوقته قائلًا:

(وإله يريد ابتهالي ومحرقاتي. . .

. . . وقلت لها:

بل انك الآن ربتي

حين تخطرين وسط الجموع)

(4)

.

وكلامه من هذا النوع كثير

(5)

.

وللنصراني الحداثي الرابع أنسي الحاج مجاله وعباراته الساقطة في هذا الحضيض الوثني، ومن أقواله:

(1)

المصدر السابق: ص 305.

(2)

المصدر السابق: ص 336.

(3)

المصدر السابق: ص 337.

(4)

المصدر السابق: ص 364.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 41، 43، 69، 166، 239، 376، 380.

ص: 435

(يتألف إله النجاح الاستهلاكي ويدوسني، المجد له ما دام يريده)

(1)

.

ويقول -تعالى اللَّه عما يقول-: (تقتل الغلمة جسد اللَّه بعد قتل اللَّه روحًا وجسدًا)

(2)

.

ثم يضيف مؤلهًا الكلمة والشعر الحداثي: (هل حلم أحدهم بجعل الجميع يكتبون شعرًا؟، ربما لكنه كان يقصد، غير أن ينهش الجميع جثة. كان يقصد أن يتشارك الجميع في صيرورتهم شعراء، في تحولهم إلى شعر، ومهما يكن قصده فإنه كان في اتجاه قلب الناس آلهةً عصافير كواكب. . .)

(3)

.

ثم يتبع ذلك بسفسطاته قائلًا: (فليمت الشعر، الأدب، الفن، لتنقرض اللغة، ليضمحل الإنسان الإلهي لحساب البرنامج)

(4)

.

ويخاطب الداعرة التي تصور أفلام الجنس فيقول: (أعبد إلهك يا كائنة الإغراء، إله اللهو الغامر ضد كل ما يخيفني، أعبد إلهك لأنه طفل مثلي وغير واضح مثلك، وجائع مثلي، وطيب مثلك.

أعبد إلهك لأنه ليس إله الحصاد والمؤونة والسيف والدرع، بل إله اللحظة الخالدة الفانية)

(5)

.

ويقول: (تلام الآلهة كيف تخترع الخطيئة وتعرض الإنسان الضعيف لحبائلها ثم تعاقبه على الوقوع. . . ولكن كيف نلوم الآلهة. . .)

(6)

.

ويقول أيضًا: (الإنسان الذي أقام القيامة على الآلهة لأنها حكمت عليه بالموت اقتصاصًا من استعماله الحرية التي وهبته إياها ليس بأفضل

(1)

خواتم لأنسي الحاج: ص 17.

(2)

المصدر السابق: ص 19.

(3)

المصدر السابق: ص 20.

(4)

المصدر السابق: ص 46 - 47.

(5)

المصدر السابق: ص 71.

(6)

المصدر السابق: ص 72.

ص: 436

من الآلهة

(1)

.

ويقول في تدنيس مقصود:

(اللعب هو البراءة، كل لعب

ببلوغه المسافات الإلهية أو تلك الشيطانية)

(2)

.

ويتحدث عن الإنسان على اعتبار أنه إله، وهي قضية أساسية من قضايا الحداثة والعلمانية فيقول:(المعجزة، التي هي ترجمة للقوة الخارقة للمشيئة الإلهية هي في الوقت ذاته دليل إلى ألوهية الإنسان. . . ولماذا يهجس اللَّه بإقناع الإنسان واستمالته لو لم يكن في الإنسان بعض اللَّه، مما لا يريده اللَّه أن يضيع)

(3)

.

سبحان اللَّه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.

أمّا الحداثي العراقي الماركسي

(4)

العقيدة سعدي يوسف فهو على الخطى نفسها في السخرية بالألوهية وتأليه غير اللَّه تعالى:

ومن أقواله:

(. . . وبقايا من محمد

الإله الجائع المدفون في أرض الحرائق)

(5)

.

ويجعل الفن إلهًا له معابد فيقول:

(طيب وغابات وأردية ورنين إزميل وقيثار

ومعابد بيضاء مر بها دفء الشروق وورد آذار)

(6)

(1)

المصدر السابق: ص 72.

(2)

خواتم لأنسي الحاج: ص 77.

(3)

المصدر السابق: ص 61.

(4)

انظر: ما يثبت ذلك في ديوانه 1/ 157.

(5)

المصدر السابق 1/ 479.

(6)

المصدر السابق 1/ 578.

ص: 437

وله من أمثال هذا كثير

(1)

.

وللشاعر العراقي الشيوعي الشيعي الأصل مظفر النواب من هذا الانحراف نصيب، مثل قوله:(أتقنت تعاليم الأهوازي، ووحدت النخلة واللَّه وفلاحًا يفتح نار الثورة في حقل الفجر)

(2)

.

وإذا انتقلنا إلى مصر وأخذنا أمثلة من حداثييها فإننا نجد الداء نفسه قد استشرى فيهم ونشروه في كلامهم، فمنهم رائد الحداثة المصرية والعربية صلاح عبد الصبور القائل:

(كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء

متعذبين كآلهة)

(3)

.

وعندما يصف علاقته بمحبوبته التي سماها "الإله الصغير" فإنه يطنب في وصفها بالألوهية وفي وصف نفسه بالعبودية لها، قال:

(كان لي يومًا إله وملاذي كان بيته

قال لي أن طريق الورد وعرٌ فارتقيته

ذات يوم، كنت ارتاد الصحارى، كنت وحدي

حين أبصرت إلهي، أسمر الجبهة وردي

ورقصنا وإلهي للضحى خدًا. . . لخد

ثم نمنا وإلهي، بين أمواج وورد

وإلهي كان طفلًا، وأنا طفلًا عبدته

كل ما في الروض يهواه، ولكني امتلكته

ثم أصبحت إلهي تمنع الخطوة عني

(1)

انظر: المصدر السابق 1/ 150، 313.

(2)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية لعبد القادر الحصيني وهاني الخير: ص 22.

(3)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 34.

ص: 438

وأناديك فأعيا، ويسد الصمت أذني)

(1)

.

ويقول تحت عنوان "أناشيد غرام":

(قالت شفتاك نعم

فأنا ملقًى فوق بساط الريح إلهًا محبورًا)

(2)

ويقول:

(أنا مصلوب، والحب صليبي

وحملت عن الناس الأحزان

في حب إله مكذوب)

(3)

.

ومنهم أمل دنقل القائل:

(العينان الخضراون

مروحتان

في أروقة الصيف الحران

أغنيتان مسافرتان

ابحرتا من نايات الرعيان

بعبير حنان

بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان)

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 47 - 48.

(2)

المصدر السابق: ص 73.

(3)

المصدر السابق: ص 124. وانظر: ص 78، 79.

(4)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 97.

ص: 439

ولنزار قباني انحرافاته الاعتقادية، مضافة إلى انحرافاته السلوكية وكلامه البذيء، ومتاجرته بجسد المرأة تحت شعارات التحرر والإبداع، وغيرها من زخرف القول الذي يخادع به نفسه وبعض المراهقين الجهلاء:

فمن انحرافاته في الاستخفاف بلفظ الألوهية وتأليه غير اللَّه تعالى قوله:

(في شكل وجهك أقرأ شكل الإله الجميل)

(1)

وتحت عنوان "أحمر الشفاه" يقول:

(على فم أغنى من اللوزة فلقتاه

يرضع حرف مخمل تقبيله صلاه. . .

. . . بغزل نصف مغرب كأنه إله)

(2)

وفي مقطع سماه "إلى ميتة" يخاطب خدينته قائلًا:

(كيف حطمت إلهي بيديا؟)

(3)

.

ويصف استغراقه في الدعارة والجنس والخمر إلى حد العبادة، فيقول:

(صليت في معابد ليس لها إله

وأرخص الخمور ذقت

أرخص الشفاه)

(4)

.

ويغالي في افتخاره بذاته ونرجيسته التي وصلت إلى حد عبادته لذاته، أي أنه جعل من نفسه لنفسه إلهًا وذلك في قوله:

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 30.

(2)

المصدر السابق 1/ 245 - 246.

(3)

المصدر السابق 1/ 313.

(4)

المصدر السابق 1/ 410.

ص: 440

(مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي)

(1)

ويخاطب عشيقته قائلًا:

(فاليوم أخلق منك إلهًا وأجعل نهدك قطعة جوهر)

(2)

ويجعل من نفسه محاميًا عن المرأة ضد الرجل فيقول عنه على لسان امرأة:

(إله في معابدنا نصليه ونبتهل

يغازلنا. . وحين يجوع يأكلنا

ويملا الكأس من دمنا ويغتسل

إله لا نقاومه، يعذبنا ونحتمل. . .

إله ماله عمر إله اسمه الرجل)

(3)

.

أمّا شعراء النضال الفلسطيني!! شعراء الأرض المحتلة!! الذين باعوها للأحزاب الشيوعية العلمانية والصهيونية ثم شاركوا في بيعها أخيرًا في سوق المزايدة العلني في مدريد وأوسلو وواي ريفر وشرم الشيخ، فلهم في الاستخفاف بلفظ الألوهية وفي تأليه غير اللَّه مثل الذي لأشباههم من الحداثيين العرب.

فمنهم محمود درويش القائل في مدح الشيوعي الأسباني "لوركا":

(هكذا الشاعر، موسيقى، وترتيل صلاه

ونسيم أن همس

يأخذ الحسناء في لين إله)

(4)

.

وقد سبق نقل كلامه عن عبادة والده للأرض وذلك في قوله:

(1)

المصدر السابق 1/ 466.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 470.

(3)

المصدر السابق 1/ 631.

(4)

ديوان محمود درويش: ص 68 - 69.

ص: 441

(أبي من أجلها صلى وصام

وجاب أرض الهند والإغريق

إلهًا راكعًا لغبار رجليها)

(1)

.

ونحوه قوله في وطنه:

(والموت والميلاد في وطني المؤله توأمان)

(2)

.

ونحوه قوله:

(وطني عيونك أم غيوم ذوّبت أوتار قلبي في جراح إله

هل تأخذن يدي فسبحان الذي يحمي غريبًا من مذلة آه)

(3)

ويقول:

(وإن الآلهة

في البرلمان)

(4)

.

وعن معشوقته ريتا يقول:

(يدفعها الخيال إلى الإمام إلى الإمام

بعنف أجنحة العقيدة

وأراك تبتعدين عني

آه تقتربين مني

نحو آلهة جديدة)

(5)

.

(1)

المصدر السابق: ص 101.

(2)

المصدر السابق: ص 222.

(3)

المصدر السابق: ص 237.

(4)

ديوان محمود درويش: ص 279.

(5)

المصدر السابق: ص 279 - 280.

ص: 442

ويقول في مقطع آخر:

(المسافات أقرب

بيننا شارعان وظهر إله)

(1)

.

وتحت عنوان قراءة في وجه حبيبتي يقول:

(أرى لغة لم تسجل

وآلهة تترجل)

(2)

.

وقال:

(كانت الحلوة تعويضًا عن القبر

الذي ضم إلهًا)

(3)

.

ويخاطب عشيقته قائلًا:

(وجئت يا معبودتي

كل حلم

يسألني عن عودة الآلهة)

(4)

.

ويقول:

(لك الظل الذي يسقط في عينيك

شيطان إله)

(5)

.

ويقول:

(1)

المصدر السابق: ص 291.

(2)

المصدر السابق: ص 298.

(3)

المصدر السابق: ص 300.

(4)

المصدر السابق: ص 320.

(5)

ديوان محمود درويش ص 343.

ص: 443

(غادر الكوخ فتى

ثم أتى لما أتى

وجه إله)

(1)

.

وعن القدس يقول:

(نرسم القدس

إله يتعرى فوق خط داكن الخضرة. . .)

(2)

.

ويقول:

(. . . وأكمل هذا العناق البدائي، أصعد هذا الإله الصغير)

(3)

.

ويقول:

(لعل السهل نثر

ولعل القمح شعر

ويزور الأهل يوم السبت

يرتاح من الحبر الإلهي

ومن أسئلة البوليس)

(4)

.

وفي ديوانه أحد عشر كوكبًا يقول عن الهنود الحمر: (. . . إنهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة لكنهم يعبدون إله الطبيعة في كل شيء. . . ولا يعبدون الذهب)

(5)

.

وفيه يقول:

(1)

المصدر السابق: ص 346.

(2)

المصدر السابق: ص 398.

(3)

المصدر السابق: ص 512. وكرر القول ذاته في ص 513.

(4)

المصدر السابق: ص 588.

(5)

أحد عشر كوكبًا: ص 38 - 39. وانظر فيه: ص 40، 42، 43.

ص: 444

(. . . هذه الأرض جدتنا

مقدسة كلها حجرًا حجرًا، هذه الأرض كوخ

لآلهة سكنت معنا نجمة نجمة وأضاءت لنا

ليالي الصلاة. . .)

(1)

.

ويقول:

(ونحن نودع نيراننا لا نرد التحية لا تكتبوا

علينا وصايا الإله الجديد، إله الحديد. . .)

(2)

.

ويقول:

(فكتبت: لا سمي الأرض، واسم الأرض آلهة تشاركني مقامي)

(3)

.

ويقول:

(وأنا أنا، ولو انكسرت على الهواء المعدني، وأسلمتني حرب الصليب الجديد إلى إله الانتقام)

(4)

.

ويقول:

(نحب الطبيعة عاشقة في تقاليد آلهة ولدت بيننا)

(5)

.

ويقول:

(ويفتح فوق السفوح ممرات آلهة عبرت من هنا)

(6)

.

(1)

أحد عشر كوكبًا: ص 44 - 45.

(2)

المصدر السابق: ص 46.

(3)

المصدر السابق: ص 60.

(4)

المصدر السابق: ص 61.

(5)

المصدر السابق: ص 67.

(6)

المصدر السابق: ص 70.

ص: 445

ويقول:

(نخفف طقس العبادة، نترك آلهة للشعوب على الشاطئين)

(1)

.

ويقول:

(. . . ونحن الذين نسجنا عباءة أيامنا لم يكن للآلهة دور سوى أنها سامرتنا وصبت لنا خمرها)

(2)

.

وفي ديوانه المسمى "ورد أقل" مقطع بعنوان "إلهي لماذا تخليت عني؟ "، يقول:

(إلهي إلهي لماذا تخليت عني؟ لماذا تزوجت مريم؟. . .

. . . لماذ تزوجتني يا إلهي، لماذا. . . لماذا تزوجت مريم)

(3)

.

وزميله في النضال الشيوعي!! الهالك معين بسيسو يقول تحت عنوان "إله أورشليم":

(إن بين ثديي أرضنا ببيت

إله أورشليم)

(4)

.

ويقول مخاطبًا زنجيًا أمريكيًا:

(يا جيمي ولسون

أنا أعلم أنك تلعن

آلهته الخبز الأبيض والأسود)

(5)

.

ويقول:

(1)

المصدر السابق: ص 71.

(2)

المصدر السابق: ص 73.

(3)

المصدر السابق: ص 81.

(4)

الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو: ص 143 - 144.

(5)

المصدر السابق: ص 201.

ص: 446

(والقاتل ما زال

كإله الأجراس)

(1)

.

ويقول:

(والملكة كإله خائف)

(2)

.

وتحت عنوان "الوجه الآخر للشجرة" يقول:

(كإله من غير يدين

تتبعني يا وطني وغراب البين)

(3)

.

ويخاطب وطنه مضفيًا عليه صفة الألوهية فيقول:

(يا إلهي الكبير

يا وطني)

(4)

.

وفي مقطع مليء بالرموز الفرعونية والعبارات الشيوعية، يقول:

(والنيل طول العمر يجري فوق ظهره الأهرام

والملوك والنبي والإله

والنيل يجري لا يقول آه)

(5)

.

أمّا شريكهما الثالث في الانتساب إلى فلسطين وفي الإيمان بالشيوعية فهو سميح القاسم، وله أقوال كثيرة في هذا النوع من الانحراف، ومنها قوله:

(سرب من الأطيار

(1)

المصدر السابق: ص 204.

(2)

المصدر السابق: ص 211.

(3)

المصدر السابق: ص 231.

(4)

المصدر السابق: ص 420.

(5)

المصدر السابق: ص 673.

ص: 447

ليس يهم جنسه. . . سرب من الأطيار

عاش بنغم الحياة

في جنة يا طالما مر بها إله)

(1)

.

ويقول:

(أقدم أقدم

يا قربان الآلهة العمياء

يا كبش فداء)

(2)

.

وفي مقطع بنادي إله المجد وإله الانتقام ويردد ذلك في توسل وضراعة

(3)

، وفي آخر يقول مؤلهًا نفسه وفكره:

(إن كان جذعي للفؤوس ضحية جذري إله في الثري يتأهب)

(4)

ونحو ذلك قوله:

(وأنا ريشة نسر

في مهب الحزن والغيظ

إله لا يساوم)

(5)

.

ويقول:

(ما الذي يخفيه في هذي الرموز

فارس يفترع الشمس تقاويه عجوز

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 52، ونحوه ص 55.

(2)

المصدر السابق: ص 67.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 195 - 197.

(4)

المصدر السابق: ص 451.

(5)

المصدر السابق: ص 460.

ص: 448

وإله وثني وبغايا طاهرات)

(1)

.

ويقول:

(أيهاذا الأمبراطور الإلهي. . أتسمع؟

صوت حبلى تتوجع)

(2)

.

ويقول:

(أنا عاهدت -حتى الموت- أطفالي وآلهتي)

(3)

ويقول:

(إله اليتم والأحزان والتشريد لا تغضب

. . . إله الحرب فلتغضب)

(4)

.

ويقول:

(أنا والسيول المستميتة

يا زوجتي ايزيس آلهة مريدة)

(5)

.

ويقول:

(عشرين قافلة حزينة

خرجت مطأطئة الجباه

للشرق -أذكر- للجنوب وللشمال

خرجتْ تفتش عن إله)

(6)

.

(1)

المصدر السابق: ص 474.

(2)

المصدر السابق: ص 476.

(3)

ديوان سميح القاسم: ص 544.

(4)

المصدر السابق: ص 546.

(5)

المصدر السابق: ص 574.

(6)

المصدر السابق: ص 634.

ص: 449

ويقول:

(أبصرت إلهًا يتحطم)

(1)

.

ويقول: (وترف صاعدة على شرفات أقواس القزح

لتنام في شعر الإله)

(2)

.

وفي سياق ارتمائه العبادي أمام تماثيل ورموز الشيوعية الماركسية يقول تحت عنوان المطر والفولاذ:

(وينتصب المصنع المارد إلهًا كلانا له عابد)

(3)

وفي ديوانه لا استأذن أحدًا يقول:

(في قليل تبقى له

شامخًا شامخًا

تصغه بشرٌ

والإله نصفه، من رآه)

(4)

.

ورابع المناضلين الفلسطنيين الشيوعيين، الدرزي توفيق زياد، مثل أصحابه في هذا الانحراف، ومن ذلك قوله في مدح الشيوعيين:

(لن يحبسوا أغنية

تعلو على هذي البطاح

شرقية، عربية الألحان

حمراء الجنان

(1)

المصدر السابق: ص 696.

(2)

المصدر السابق: ص 739.

(3)

المصدر السابق: ص 125.

(4)

لا أستأذن أحدًا: ص 112، وص 113 وهي في مجلة الناقد العدد الأول تموز 1988 م/ 1408 هـ، ومثل هذا اللفظ في ديوان البياتي 1/ 603.

ص: 450

طلعت على الأرض الخصيبة

مثل آلهة الصباح)

(1)

.

ولعبد العزيز المقالح الحداثي اليمني الشهير دلوه الآسن في هذا الصنف من الانحراف، ومن ذلك قوله في مرثاة شهيد، ويقصد به ضابطًا يمنيًا قتل في الخامس من يونيو حسب تقديمه لهذه المقطوعة، يقول عنه:

(فلتخرس الأقلام والشفاه

فها هنا ينتصب الإله)

(2)

.

ويقول:

(في حنايا وطن الأمس السعيد

انزلوا آلهة الجدب العقيمة)

(3)

.

ويقول:

(وخلف السجون يعاني، يموت الإله)

(4)

.

ومحمد الماغوط رائد قصيدة النثر مع أنسي الحاج وأدونيس، يسلك في وادي الفساد الاعتقادي أبشع المسالك، ومن أقواله في حبيبته:

(وترفق بي أيها الإله الكستنائي الشعر

صغني أغنية في قلبك)

(5)

.

ويقول:

(مجاعة تزدرد حتى الفضيلة

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 109.

(2)

ديوان المقالح: ص 124.

(3)

المصدر السابق: ص 171.

(4)

المصدر السابق: ص 263 ونحوه 262.

(5)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 79.

ص: 451

والشعور الإلهي المسوس)

(1)

.

ويقول عن نفسه:

(سأكون شهمًا وضالًا

ولي عنفوان الآلهة)

(2)

.

ولمحمد الفيتوري إكثار في هذا النوع من الانحراف، وهذه بعض الأمثلة من كلامه كقوله:

(وتصبغ لون المياه

وتصبغ وجه الإله)

(3)

.

وقوله:

(وحتى الطغاة الذين انتهوا

وآلهة البشر الساقطين)

(4)

.

وقوله:

(فوق روض نضير

وجه إله غريب

معذب مقهور)

(5)

.

وقوله:

(لسوف أحيا في الورى ثاثرًا

(1)

المصدر السابق: ص 98.

(2)

المصدر السابق: ص 109.

(3)

ديوان الفيتوري 1/ 59.

(4)

المصدر السابق 1/ 96.

(5)

المصدر السابق 1/ 116.

ص: 452

على معانيها وأحكامها

محتقرًا كل نواميسها

حتى ألوهية أصنامها

قالوا: لك الفن. . ولم يجتمع في كائن قبلك مجدان

والفن أشواق ألوهية تولد في أعماق إنسان

والفن أقياس سماوية)

(1)

.

وعن عشيقته يقول:

(يا إلهي اتئدي

هذا رفات جسدي)

(2)

.

وفي اقتداء باليونان وأتباعهم يقول:

(آلهة البحار صارت جيفا

وا أسفا

وا أسفا)

(3)

.

وتحت عنوان "ثرثرة برجوازية" يقول:

(الآلهة الغرقى في العطر

تقهقه في الردهات

الآلهة الأموات

تقلب أعينها الشهوانية)

(4)

.

(1)

ديوان الفيتوري 1/ 198.

(2)

المصدر السابق 1/ 228.

(3)

المصدر السابق 1/ 243.

(4)

المصدر السابق 1/ 271.

ص: 453

وفي مضمار عنصريته السوداء وافتخاره بأفريقيا يقول:

(صوتك يا أفريقيا

صوت الإله)

(1)

.

وفي السياق العنصري البغيض يقول عن الأبيض والأسود:

(والحرية أشباح ضباب

وكأن الأبيض نصف إله

وكأن الأسود نصف بشر

قدر لفظته الأديان. . .

. . . ما ثم إله يتجبر

كذب ما قالته الأديان

فأطلي يا أفريقية)

(2)

.

ويقول:

(زمني يا أخت هوايا هرم

في داخله جثمان إله)

(3)

.

ويقرر تأليه الإنسان كما هو شأن أكثر الحداثيين، فيقول:

(كان غريبًا مثل تمثال حجر

فيه ألوهة البشر

ووثنية البشر)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 339.

(2)

المصدر السابق 1/ 365 - 366.

(3)

ديوان الفيتوري 1/ 372.

(4)

المصدر السابق 1/ 375.

ص: 454

ونحو ذلك قوله مخاطبًا إنسان العصر:

(أحمل نارك فاكبر يا إنسان العصر

ضع أقنعة الآلهة على وجهك

وتحد القهر)

(1)

.

ويذكر (آلهة من الذهب)

(2)

.

ويقول:

(لوددت لو أني سكبتك في دمي

عرقًا إلهيًا وعطرًا)

(3)

.

وعلى هذا النحو التدنيسي للفظ الإله يقول في موضع آخر مخاطبًا حبيبته:

(صدرك يا حبيبتي

حين يلفني ضبابه الكثيف يحتقن

في الإله والوثن

وجهك يا حبيبتي وثن)

(4)

.

ومرة يجعل وجههًا إلهيًا (ترسم وجهك الإلهي)

(5)

.

ويذكر (جبل الآلهة الشاهق)

(6)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 412.

(2)

المصدر السابق 1/ 316.

(3)

المصدر السابق 1/ 404.

(4)

المصدر السابق 1/ 472.

(5)

المصدر السابق 1/ 484.

(6)

المصدر السابق 1/ 480.

ص: 455

و (آلهة الموت)

(1)

.

و (آلهة الخراب)

(2)

.

و (الرخ الإلهي)

(3)

.

وله مقطع بعنوان "فرحي طفل إلهي"

(4)

وكلامه من هذا النوع كثير

(5)

.

وللشاعر الحداثي أحمد دحبور الاتجاه نفسه في هذا النوع من الانحراف كقوله في مقطوعة بعنوان "الريح وآلهة القرصان"

(6)

:

(وحباني مدرج الحب: ربا بات، مرايا، وعقالًا قصبيًا

فتصبيت بعينيه إلهًا

وتعبدت فقدمت النذور

كيف لا اشتامه ربًا؟)

(7)

.

وقوله في المقطع نفسه:

(يا إله الموج تاريخي بلا طفل)

(8)

.

ويقول:

(1)

ديوان الفيتوري 2/ 63.

(2)

المصدر السابق 2/ 100.

(3)

المصدر السابق 2/ 121.

(4)

المصدر السابق 2/ 457.

(5)

انظر: المصدر السابق 1/ 150، 237، 514، 597، 603، وجـ 2/ 66، 123، 463، 494، 496، 499.

(6)

ديوان أحمد دحبور: ص 49.

(7)

المصدر السابق: ص 51.

(8)

المصدر السابق: ص 60، 61.

ص: 456

(من يبعث الصوت الإله؟ يعيدنا للريح)

(1)

.

ويقول:

(لا صوت ينبع من عروق الغيب

يفصلنا عن الصوت الإله جدار نار)

(2)

.

ويقول:

(وأرى أمام النار مركبة المرايا

ترسم النخل الإله، لموقد الرؤيا شراره)

(3)

.

وفي مقطوعة بعنوان "الغول" يقول:

(كم أخاف الغول والغول إن. . شاءه الموتى إله)

(4)

.

ويقول:

(والجوع إله لا يعبد)

(5)

.

هذا كله في مجال الشعر الذي يعتبرونه رأس التجديد ويعدونه أهم عنصر من عناصر الحداثة، وسوف نورد بعض النماذج من كلامهم في الرواية والنقد.

فأمّا الرواية فنكتفي بالرواية الإلحادية "مسافة في عقل رجل" المليئة بالكفر والضلال حيث جعل الإله فكرة من صنع البشر، فقال: (. . . ما يتحدث عنه جاء في صحائف التاريخ، الإله من البشر ثم انتقلت عدوى هذه

(1)

المصدر السابق: ص 74.

(2)

المصدر السابق: ص 75.

(3)

ديوان أحمد دحبور: ص 84.

(4)

المصدر السابق: ص 87.

(5)

المصدر السابق: ص 228. وانظر: ص 553.

ص: 457

الفكرة لصحائف الأديان. . . .)

(1)

.

بل جعل اسم اللَّه وجعل المسمى جل جلاله فكرة من اختراع الإنسان فقال: (فلنبدأ بلفظ "اللَّه"، الذي اختلفت فيه لغات العالم مما جعل البعض يردد أنه لو كان اللَّه موجودًا لأطلق على نفسه لقبًا واحدًا تشترك في نطقه كل لغات العالم بلهجاتها المختلفة، ولكن لفظ اللَّه يختلف من لغة إلى لغة أخرى، ويدللون بهذا على أن اللَّه كجوهر أيضًا صيغة بشرية من اختراع الإنسان اللفظ والجوهر معًا. . . .)

(2)

.

هذا الإنكار الصريح لوجود اللَّه والإلحاد الواضح جعل هذا المتردي يجول في روايته الهابطة يبحث عن إله، فمرة يؤله العلم التجريبي

(3)

، ومرة يؤله القوانين العلمية

(4)

، ومرة يؤله العقل

(5)

، ومرة يؤله الإنسان

(6)

.

قال اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}

(7)

.

فهؤلاء الذين يكفرون باللَّه تعالى، ويتخذون من دونه آلهة يبتغون عندها العزة والإرتقاء والمكانة، ويؤلهون المخلوقات التي كانت بعد أن لم تكن ووجدت بعد العدم، ويعبدونها ويسخرون كلامهم وجهدهم الفكري والعملي في مدحها والتضرع إليها واستجدائها ما لا تملكه ولا تستطيعه، كل ذلك سيذهب وينتهي ويكون هباءً، وسيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًا، ولذلك قال اللَّه بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى

(1)

مسافة في عقل رجل: ص 129.

(2)

المصدر السابق: ص 147.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 165، 211، 217، 228.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 194.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 211، 230.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 88، 110، 129.

(7)

الآيتان 81 - 82 من سورة مريم.

ص: 458

الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}

(1)

.

نعم سيتخلى عنهم الإنسان الذي عبدوه، والعقل الذي ألهموه، والعلم الذي جعلوه ربًا، وسوف ينكرون عليهم هذا الانحراف؛ لأن هذه كلها مخلوقة للَّه، عابدة له قسوًا، مؤلهة له، ولذلك ستكون عليهم ضدًا بالتبرؤ منهم والشهادة عليهم.

ولكن الكافر قد أرخى زمامه للشيطان فهو قرينة يقوده إلى مستنقعات الإثم والضلال، ويزين لى الباطل ويؤزه إليه أزًا، ويدفعه في طرق الغواية دفعًا.

وقد يسأل الكافرون أو بعض العجلين من المسلمين متى تكون هذه العداوة والتخلي والإنكار من المعبودات المؤلهة بالباطل؟ والجواب {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}

(2)

أي: لا يضيق صدرك بهم وبمكرهم وكيدهم فإنهم ممهلون إلى وعد قريب، وأعمالهم كلها محسوبة معدودة مكتوبة، وبعد ذلك الحساب العسير ونار السعير عياذًا باللَّه من موجبات غضبه وعقابه.

وفي دراسة نقدية لرواية شرق المتوسط لعبد الرحمن المنيف يقول الناقد الحداثي: (. . . إن شرق المتوسط تؤرخ للوجه الكابوسي من العصر الحديث ولقد كان رجب إسماعيل، بمعنى من المعاني، مسيح هذا العصر.

صحيح أنه لم يكن دينًا سماويًا، ولكن كل عظمة مأساته تكمن في أنه كان ابن هذه الأرض: من طين هذه الأرض جبل. . . ولقد قال وأثبت في ظلمات يأسه ومحنته إن الإنسان هو الإله)

(3)

.

ويقول في موضع آخر عن الرواية نفسها مضمنًا بعض كلام المنيف:

(1)

الآيات 83 - 86 من سورة مريم.

(2)

الآية 84 من سورة مريم.

(3)

الأدب من الداخل لجورج طرابيشي: ص 78.

ص: 459

(حينذاك اكتشف أن الإنسان ليس أقوى من الصخر فحسب بل أن الإنسان هو الإله)

(1)

.

وإذا انتقلنا إلى مجال النقد والتنظير والمقابلات فإننا نجد هذا الانحراف قد اتخذ من هذه الأساليب وسيلة لنشر هذا الضلال.

وقد مر معنا عدة مرات ثناء أحد نقادهم على الوثنية اليونانية وذمه وبغضه للتوحيد، واعتبارًا الوثنية أساسًا للحداثة والتعددية والإبداع والحرية، والتوحيد سببًا للجمود والتخلف

(2)

.

وفى معرض ثناء محمد جمال باروت على طاغوت الحداثة أدونيس يقول: (. . . إن أدونيس يلتمس بذكائه الحاد كسوري وكشاعر وكمفكر وكإنسان يضج بالألوهة، أن الشعر الغربي الحديث في ذرواته العليا هو نوع الانتماء إلى الشرق)

(3)

.

وأحد نقاد الحداثة يتحدث عن موقف بعض شعرائها من المرأة ويعتبر أنها تتحول عنده إلى (. . . هوية طوطمية، سرعان ما تنحل فيها هيئات الإله المعبود وأفعاله، فهي تضفي على المرأة قوى خفية أو سحرية، بحيث تشارك الألوهية في علل بعض الظواهر الطبيعية، كالبرق والريح والزلزال. . . .)

(4)

.

وفي أسئلة موجهة إلى نزار قباني يقول في إجابته على بعض الأسئلة: (. . . إنني على الورق أمتلك حرية إله، وأتصرف كإله، وهذا الإله نفسه هو الذي يخرج بعد ذلك الناس ليقرأ ما كتب، ويتلذذ باصطدام حروفه بهم، إن الكتب المقدسة جميعًا ليست سوى تعبير عن هذه الرغبة الإلهية في التواصل، والا حكم اللَّه على نفسه بالعزلة، ولعل تجربة اللَّه في ميدان النشر

(1)

الأدب من الداخل لجورج طرابيشي: ص 67.

(2)

انظر: مجلة الناقد - العدد الثامن شباط 1989 م/ 1409 هـ: ص 32 - 34.

(3)

الناقد - العدد العاشر- نيسان 1989 م/ 1409 هـ: ص 23 من مقال بعنوان "أوهام الحداثة".

(4)

أسئلة الشعر لمنير العكش: ص 25.

ص: 460

والإعلام، وحرصه على توصيل كلامه المكتوب إلى البشر، هي من أطرف التجارب التي تعلمنا أن القصيدة التي لا تخرج إلى الناس هي سمكة ميتة أو زهرة من حجر)

(1)

.

وفي جواب آخر تفوح منه رائحة الإلحاد والسخرية باللَّه العظيم -جلَّ وعلا- يواصل فكره الخبيث وأقواله الضالة قائلًا: (لا أزال أصر على أن السماء لا تعرف أن تكتب شعرًا، وأن الشعر محصور بالإنسان، هو بالإنسان فقط. . . القلب الإنساني قمقم رماه اللَّه على شاطيء هذه الأرض، واعتقد أن اللَّه نفسه لا يعرف محتوى هذا القمم ولا جنسية العفاريت التي ستنطلق منه، والشعر واحد من هذه العفاريت)

(2)

.

قال اللَّه تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}

(3)

.

ويستطرد قباني في تأليه الشعر والشعراء وجعلها عبادة من العبادات فيقول: (كل كلمة شعرية تتحول في النهاية إلى طقس من طقوس العبادة والكشف والتجلي. . . كل شئ يتحول بالشعر إلى ديانة، حتى الجنس يصير دينًا. . . إنني أنظر دائمًا إلى شعري الجنسي بعينى كاهن، وأفترش شعر حبيبتي كما يفترش المؤمن سجادة صلاة. . . .)

(4)

.

ونجد مثل هذه المعاني عند أنسي الحاج مما يؤكد أن الملة الحداثية الواحدة تنبثق من أصل واحد وإن اختلفت فروجها، أتواصوا به بل هم قوم طاغون.

ففي مقابلة أجريت مع أنسي الحاج سئل: (ما الذي تقصد إليه عندما تقول إن الشعر تغيير؟).

(1)

المصدر السابق: ص 178. وانظر: ص 187.

(2)

أسئلة الشعر لمير العكش: ص 195.

(3)

الآية 14 من سورة الملك.

(4)

أسئلة الشعر: ص 196.

ص: 461

أجاب قائلًا: (أقصد أنه تغيير للحياة لا لأشكال الشعر وتراكيب الكتاب فحسب. . . وعندما سماه الأقدمون لغة الآلهة لم يقصدوا رفعة شأنه الجمالي فحسب، بل قدرته وفعله الحقيقيان الحسيان في الزمن والعالم ولم يتردد هيجل نفسه في تبني تسمية الأقدمين ولكن صوره إذ قال: الشعر هو الفن الإلهي، من أين هذا الإلحاح على ألوهية الشعر؟ أو على شيطانيته كما فعل العرب؟، هل لأنه يرى ويتنبأ ويحدس فقط؟ لا أعتقد أظنه من قدرة له فائقة)

(1)

.

ولطالما ردد هؤلاء هذه النغمة المنحطة التي تبدأ من تأليه الإنسان وتمر بتأليه الشاعر وتنتهي بتأليه الحداثة وأهلها في جو من التقمص البليد لأراء وأفكار الغرب (فقد تحول الإنسان في الفكر الأوربي الحديث: المادي والمثالي إلى إله يخلق ويعبد)

(2)

.

ولما بدأت حركة التغريب والاقتداء بالغرب في بلاد المشرف الإسلامي بدأت معها قضية الانحرافات الاعتقادية والفكرية، وللتدليل على هذا ننقل ما ذكرته مجلة أبولو اللسان الناطقة بلسان أول تجمع أدبي على النمط الأوربي في بلاد العرب، فكان مما قالته:(ليكن مذهبنا الخالد أن الشعر للشعر، وبعد ذلك ليكن الباعث الشعري للشاعر على طبع آثاره هو مجرد حنينه إلى الاندماج في الإنسانية إذا ما استوعبت شعره، كذلك حب الحياة لنفسه الفنية. . . يدعوه إلى إذاعة هذه الآثار لأنه يشعر بوجدانه أنها أغلى شطر من نفسه، بل أكثر من ذلك، فهو يضع نفسه في صف الآلهة بما يخلقه من آثار فنية، ونشرها يعزز ارتياحه إلى أنه روح خالد في الوجود. . . .)

(3)

.

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 319.

(2)

في النقد الحديث دراسة في مذاهب نقدية حديثة وأصولها الفكرية د/ نصرت عبد الرحمن: ص 184 هامش رقم 20.

(3)

أبولو - العدد العاشر يونيو 1933 م/ 1351 هـ: ص 1093 - 1094. نقلًا عن قضايا وشهادات 3/ 151.

ص: 462

وهذا القول ليس إلّا ترجمة لفكرة غربية أوروبية بعيدة كل البعد عن دين المسلمين وثقافتهم وعقيدتهم بل مضادة كل المضادة لذلك، ومن هنا بدأت أفواج الاقتداء بالغرب المادي فكرًا وفلسفة ونظام حياة.

ولم يكن يخطر على بال أحد من المسلمين من قبل أن يعتز بالوثنية، أو يمتدح الجاهلية، أو يسير على خطى اليونان والإغريق في تأليه غير اللَّه وعبادة غيره -جلَّ في عُلَاهُ-.

ولكن هؤلاء دخلوا على المسلمين من باب الأدب والفكر والثقافة وخلبوا عقول الإمّعَات وساعدهم في ذلك جهل كثير من المسلمين بدينهم، وقصور كثير من علماء المسلمين في الأعصر الأخيرة عن مناقشة وفضح خطط وأساليب وطرائق الإلحاد المغلفة بالفلسفة حينًا وبالعلوم التطبيقية حينًا وبالأدب والنقد في أحيان كثيرة.

هذه العقائد الضالة التي طرحتها المجلات والصحف والمجامع الأدبية أصبحت على طول المدى من الأمور المعتادة ومن المواطن المرتادة بلا نكير، بل يأتي النكير على من أنكرها أو عارضها أو ناقشها، ففي قضيتنا التي نتحدث عنها وهي تأليه الشاعر والشعر والحداثة، وهي فرع عن الانحراف الأصلي وهو تأليه غير اللَّه تعالى والإشراك به عز وجل؛ نجد أن من المسلمات الحداثية في شعرهم ونقدهم إطلاق مثل هذا المعنى المنحرف هكذا بدون أي تردد أو تحفظ أو احتياط، وقد ذكرنا أمثلة عديدة لذلك فيما مضى، ومثل قول أحد النقاد الحداثيين:(عندما يرى الشاعر الحديث إلى نفسه ذاتًا إلهية مكتفية بذاتها، يتضاءل العالم، يصير العالم فقيرًا وتصير المعارك الاجتماعية هشة وفي غير ساحتها، فخير للشاعر أن يظل في عليائه، مبتعدًا عن معارك العالم، وضرورات تغييره، فغنى الشاعر الحديث لا يأتي من هذا العالم الفقير، بل من ذات الشاعر نفسه المكتفية بذاتها)

(1)

.

(1)

قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م/ 1411 هـ: ص 208 من مقال لمحمد دكروب بعنوان محنة الشعر العربي الحديث.

ص: 463

وتقول ناقدة حداثية متعصبة، مبينة أصل فكرة إلغاء ألوهية اللَّه تعالى وتأليه الإنسان، وأثر ذلك في الحداثة والعلمانية:(أصبح الإنسان مع نزع هالة التقديس والألوهية عن الكون ومدبره، أصبح يقع في مركز الكون ويشكل مبدأ القيم والغايات، وعندئذٍ ترسخت الحركة الإنسانوية، توقف الإنسان عن الدوران حول المقدس، وحلت مشروعية إنسانية جديدة محل المشروعية الدينية السابقة، ونتج عن ذلك أخلاق جديدة وقوانين جديدة تنطبق على البشر دون اسشثناء ودون اعتبار اللون والعرق أو المذهب والدين. . . .)

(1)

.

ثم تضيف بعد كل هذا الإلحاد والكفر والضلال إضافة في غاية المغالطة والجهل والاستخفاف بعقول القراء، فتقول:(والعلمنة لا تعني الإلحاد، إنّما تعني حرية الاختيار واتخاذ موقف فلسفي أمام مشكلة المعرفة، فالكثير من العلمانيين مؤمنون حقيقيون ولكنه ليس إيمان التبعية والجهل. . . فقط كل يمارس طقوسه وشعائره، كما يهوى ويريد، وربّما لا يمارسها، ولكن توقف الدين عن فرض سيطرته وتشريعاته على الحياة السياسية والاجتماعية، العلمنة هي الموقف الحر للروح أمام مشكلة المعرفة)

(2)

.

قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}

(3)

.

طبيعة الكفر واحدة وإن تنوعت الأزمان، وحججهم تعود إلى أصل واحد وإن اختلفت الفلسفات والاتجاهات، وهل من قول أشد تطابقًا في فتنته وعماه من قول هؤلاء المعاصرين مع أسلافهم من الكافرين والملحدين

(1)

المصدر السابق 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 102 من مقال لأنيسة الأمين بعنوان "امرأة الحداثة العربية".

(2)

المصدر السابق: ص 103.

(3)

الآيتان 23 - 24 من سورة الأنعام.

ص: 464

الذين يشركون باللَّه ويكفرون به، ثم يدّعون بكل صفاقة وحمق أنهم هم المؤمنون حقًا!!.

وهذه الدعوى التي يرددها طواغيت الحداثة والعلمانية في كل مكان من بلدان المسلمين، يؤلهون غير اللَّه ثم يزعمون التوحيد ويعبدون المناهج والنظم والفلسفات والتجمعات الجاهلية، ثم يزعمون أنهم مؤمنون باللَّه ومتبعون لشريعته ولرسوله.

ولنختم بشهادة جهاد فاضل الناقد الحداثي الشهير التي يؤكد فيها أن القوم ألهوا الحداثة وقدسوها، وذلك في قوله:(لا يمل هؤلاء ترداد كلمة الحداثة على مدار ساعات النهار، وكلمة الحداثة عند هؤلاء تشبه كلمة اللَّه التي يرددها دراويش المولوية في ساعات الجذب والوصال حتى تتخدر منهم حواسهم والأوصال فيرتمون أرضًا. . . .)

(1)

.

وهذا هو السبب الذي يدفع الحداثيين إلى الاستماتة في الدفاع عن صنم الحداثة الذي عبدوه وقدسوه، فلا يقبلون فيه نقدًا ولا يسمعون فيه ثلبًا، كما كان كفار العرب لا يقبلون ذم آلهتهم المعبودة من دون اللَّه.

إن تأليه الحداثيين لغير اللَّه، واستهانتهم واستخفافهم بلفظ الإله، وتقليد الوثنيين في كل ذلك، معلم أساسي من معالم الحداثة العربية، وهذا الذي دفع لجنة الشعر المصرية إلى رفع مذكرة إلى نائب رئيس الوزارة، ووزير الثقافة والإرشاد القومي سنة 1384 هـ - 1964 م، والتي كان من بنودها أن الشعر الحديث يعكس روحًا منافية لروح الثقافة الإسلامية كفكرة الخطيئة والصلب والخلاص، كما أن فيه تهاونًا كبيرًا في استعمال لفظ الإله كأنها لا تزال تحمل دلالتها عند الوثنيين ولم تتخذ في الإسلام معنى خاصًا يجب احترامه مهما كان السياق الذي ترد فيه

(2)

.

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 151.

(2)

انظر: اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 24، وذكريات الجيل الضائع: ص 91، والقصيدة الحديثة وأعباء التجاوز لابن عقيل: ص 122.

ص: 465

وقد عبر النصراني غالي شكري عن تذمره الحداثي الممزوج بالقبطية الأرثوذكسية فقال: (هذه المذكرة. . تفصح في جلاء تام عن خيوط المؤامرة الرجعية الخطيرة على كافة القيم الثورية البناءة التي يعيشها المجتمع المصري الحديث)

(1)

.

وأي رجعية أعظم من الرجعية الوثنية الإلحادية التي ردت وترد الإنسان المتبع لها إلى أسفل سافليين؟!.

أمّا التقدم والقيم البناءة فلم تكن يومًا ما قرينة للكفر والإلحاد والجاهلية.

وقد رد إحسان عباس على المذكرة المذكورة، ودافع عن الحداثة، واعتبر أن هذه القضايا ليست اتهامات

(2)

.

وهذا التميع الظاهر والذوبان الاعتقادي الواضح من أهم مقاصد الحداثة وأهدافها.

‌المظهر السادس من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: الحيرة والشك في الغاية من الحياة ووجود الإنسان، والزعم بأن وجوده عبث:

وهذا المظهر من مظاهر الانحراف يصح ذكره في الانحرافات المتعلقة بالربوبية؛ لعلاقة ذلك بقضية الإيجاد والخلق والتكوين، ويصح ذكره في الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات؛ لعلاقته بصفات الخلق والحكمة والإرادة، الثابتة للَّه تعالى، ونفي أضدادها عنه -جلَّ وعلا-.

غير أن المجيء به في ما يتعلق بتوحيد الألوهية أولى لأسباب:

أولها: أن الغاية من خلق الإنسان والجان عبادة اللَّه تعالى، وهذا متعلق بتوحيد الألوهية.

(1)

ذكريات الجيل الضائع: ص 91.

(2)

انظر: اتجاهات الشعر العربي: ص 14.

ص: 466

ثانيها: أن تعرضهم لمسألة الوجود عامة يأتي -في الغالب- تبعًا لتعرضهم لمسألة وجود الإنسان.

ثالثها: أن انحرافهم في هذه القضية منبثق من انحرافهم في ألوهية اللَّه تعالى.

وعليه فلابد من إيضاح حقيقة ذلك، حسب المفهوم الاعتقادي الإسلامي، المناقض تمام المناقضة لمفاهيم أهل الشرك والإلحاد والضلال.

وقد قطع اللَّه تعالى على الكفار حجتهم في هذا ورد عليهم ظنونهم الفاسدة فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}

(1)

.

قال سيد قطب رحمه الله: (إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلًا، ولم يقم على الباطل، إنَّما كان حقًا وقام على الحق، ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق، الحق في خلافة الأرض، والحق في الحكم بين الخلق، والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم، فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار، والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله اللَّه ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة، التي لا يتصورها الكافرون؛ لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئًا {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}

(2)

.

إن شريعة اللَّه للناس طرف من ناموسه في خلق الكون، وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس، وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنّما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلّا حين يتناسق مع بقية الأطراف، وإن الانحراف عن شريعة اللَّه والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنّما هو انحراف عن

(1)

و

(2)

الآية 27 من سورة ص.

ص: 467

الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض؛ وهو أمر عظيم إذن، وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لابد أن يتحطم في النهاية ويزهق، فما يُمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة اللَّه وناموس الكون وطبيعة الوجود، ما يُمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة!، وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب)

(1)

.

وقد بين الحق سبحانه أن الإقرار بالحكمة من وراء خلق الكون وإيجاد الوجود هو شأن أولي الألباب، وهذا يعني أن جحد ذلك والتشكيك فيه هو شأن العقول السقيمة والأذهان المريضة، فقال -جَلَّ مِن قَائِلٍ-:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}

(2)

.

إن هذا الكون العجيب بما فيه من أشياء وأحياء ما خلقه اللَّه ليكون باطلًا وما خلقه عبثًا، بل خلقه بالحق والحكمة وليكون حقًا، الحق قوامه والحق نظامه، فهو ليس عدمًا ولا عبثًا كما تقول الفلسفات الإلحادية المادية، وهو يسير وفق ناموس محكم فليس متروكًا للفوضى، وهو يمضي لغاية فليس متروكًا للصدفة، وهو محكوم في وجوده وحركته وغايته بالحق الذي لا يلتبس به الباطل.

وهذه الحقيقة هي التي تمس قلوب أولي الألباب، وتطبع حسهم وتزيد من قوة يقينهم وبرهانهم على أن الكون مخلوق لغاية، والإنسان لغاية، وكل المخلوقات لغاية، وأن هناك حكمة عظيمة وغاية جسيمة لكل هذه الموجودات، وأن هناك حقًا وعدلًا وراء حياة الناس في هذه الأرض،

(1)

في ظلال القرآن 5/ 3019.

(2)

الآيات 189 - 191 من سورة آل عمران.

ص: 468

فلابد أن يسيروا وفق منهج الذي خلقهم ولابد بعد ذلك من حساب وجزاء على ما يقدم الناس من أعمال

(1)

.

وهذه حقائق في غاية البداهة تتداعي براهينها من كل صوب، وتأتي أدلتها من كل مكان، ولكن الذين كفروا لا يفقهون، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن حقائق الحق والخير غافلون سادرون، وفي أودية الهلكات شاردون، لا يعلمون الحقيقة، ولايعلمون أنهم لا يعلمون، بل يدعون أنهم بكل شيء عالمون!!.

وقد خاطب اللَّه هؤلاء بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}

(2)

.

فحكمة خلق الإنسان وهو المقصود بالتكليف والعبادة حكمة ظاهرة، حكمة محسوب حسابها ومقدر وقوعها، ومدبر غايتها، ومرسوم منهاجها، ولا يغفل عن ذلك إلّا المطموسون الجاهلون المحجوبون، الذين لا يتدبرون حكمة اللَّه الكبرى المتجلية في صفحات الوجود كله والمبثوثة في أطوار الكون.

والعبث وأشباهه منفي عن اللَّه الحق المبين، فهو الخالق المالك المتصرف المدبر الحكيم العليم ومن كانت هذه أسماؤه وصفاته فإنه لا يُمكن أن تكون مفعولاته عبثًا، ولا يُمكن أن يوجد شيئًا لغير غاية، وكل ما في الكون يشهد بذلك، ولذلك كانت النتيجة الطبيعية لكل هذه المعاني الإقرار بألوهيته سبحانه دون سواه، وأن كل دعوى بألوهية أحد سوى اللَّه أو مع اللَّه فهي دعوى ليس معها برهان، لا من دلائل الكون، ولا منطق العقول، ولا من مقتضيات الفطرة، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لا في مناهجهم

(1)

انظر: في ظلال القرآن 1/ 546.

(2)

الآيات 115 - 117 من سورة المؤمنون.

ص: 469

ولا في نظمهم ولا في حياتهم ولا بعد بعثهم، وها نحن نرى جوانب عديدة من عدم الفلاح في حياة الكافرين، وإن فتحت عليهم أبواب كل شيء، مما أدهش ضعفاء اليقين، وعديمي الإيمان فظنوا أنهم لفلاحهم في دينهم وعقيدتهم حصل لهم ذلك، وما عرفوا الحقيقة التي ذكرها اللَّه تعالى في قوله:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}

(1)

.

وكل ما يراه الناس على الكافرين من نعمة ومتاع، وقوة وسلطان، وترف وبذخ، وإنتاج وهيمنة ليس فلاحًا في ميزان القيم الحقيقية، ولا في ميزان أهل العقول السليمة -وبعض عقلائهم يتحدث بذلك- إنّما هو فتنة واستدراج وإمهال ينتهي بالوبال، ومن هلك منهم مستمتعًا بكل ذلك فإن الآخرة تنتظره، وهي الشوط الأخير في مراحل نشأة الإنسان، وليست شيئًا منفصلًا في تقدير اللَّه وتدبيره

(2)

.

هذه الحقيقة العظمى -في أن الكون والإنسان مخلوقة لغاية ولم تخلق عبثًا- هي من مسلمات عقيدة المسلمين، ومن أبجديات إيمانهم باللَّه رب العالمين، ومن خالف في ذلك فليس له في الإسلام نصيب، وإن تسمى بأسماء المسلمين ومارس بعض أعمالهم العبادية.

وقد غرق أهل الأدب العربي المعاصر من ضمن ما غرقوا فيه، غرقوا في انحراف اعتقادي هائل أوحى به إليهم شياطين الجن والإنس، يتمثل ذلك في حيرتهم وشكهم في الغاية من الوجود والحياة ووجود الإنسان، وزعمهم أن وجود الإنسان عبث، وهذا كثير في كلامهم.

وسوف نورد هنا بعض الشواهد من أقوالهم على هذا النوع من الانحراف، فمن ذلك قول نازك الملائكة:

(1)

الآيتان 44 - 45 من سورة الأنعام.

(2)

انظر: في ظلال القرآن 4/ 2483.

ص: 470

(هكذا جئت للحياة وما أد

ري إلى أين سوف تَمضي الحياةُ

وسأحيا كما يشاء لي المجـ

ـــهول حيرى تلهو بي الظلماتُ)

(1)

وقولها:

(ها أنا الآن حيرة وذهول

بين ماض ذوى وعمر يَمرُّ

لست أدري ما غايتي في مسيري

آه لو ينجلي لعينيّ سرُّ)

(2)

وقولها:

(ماذا وراء الحياة؟ ماذا

أي غموض وأي سِرِّ

وفيم جئنا؟ وكيف نَمضي؟

يا زورق بل لأي بحر؟

يدفعك الموج كل يوم

أين ترى آخر المقر؟)

(3)

وتتحدث عن نفسها تحت عنوان "السفينة التائهة" فتقول:

(في لجة البحر الرهيب سفينة تحت المساء

ألقت به الأقدار في لجج المنايا والشقاء

الريح تصرخ حولها وتضج في ظلم الفضاء

والموج يضربها ويلقيها على شفة الفناء

سارت ولا ربان يهديها إلى الشط السحيق

حيرى يخادعها الظلام فلا شعاع ولا بريق

من فوقها هول الرعود وتحتها اللج العميق

سارت وما تدري إلى أين المصير وما الطريق)

(4)

.

(1)

ديوان نازك الملائكة 1/ 28 ونحوه في 1/ 262.

(2)

ديوان نازك الملائكة 1/ 29.

(3)

المصدر السابق 1/ 552.

(4)

المصدر السابق 1/ 602.

ص: 471

وتحت عنوان "صراع" تقول:

(تعذبني حيرتي في الوجود

وأصرخ من ألمي: من أنا)

(1)

وتسأل في حيرة:

(لماذا نعود؟

أليس هناك مكان وراء الوجود

نظل إليه نسير

ولا نستطيع الوصول؟. . .)

(2)

.

أمّا البياتي فيصرح أن الحياة عبث وذلك في قوله:

(لابد أن نختار

أن نقبض الريح وأن ندور الأصفار

أن نجد المعنى وراء عبث الحياة

فالعيش في هذا المدار المغلق انتحار)

(3)

.

ولصلاح عبد الصبور قصيدة حداثية يعدها أهل الحداثة من عيون شعرهم اسمها "الناس في بلادي" ومنها:

(وعند باب قريتي يجلس عمي مصطفى

وهو يحب المصطفى

وهو يقضي ساعة بين الأصيل والمساء

وحوله الرجال واجمون

(1)

المصدر السابق 2/ 52.

(2)

المصدر السابق 2/ 256.

(3)

ديوان البياتي 2/ 96.

ص: 472

يحكي لهم حكاية. . تجربة الحياة

حكاية تثير في النفوس لوعة العدم

وتجعل الرجال ينشجون

ويطرقون

يحدقون في السكون

في لجة الرعب العميق والفراغ والسكون

ما غاية الإنسان من أتعابه، ما غاية الحياة؟

يا أيها الإله!!

الشمس مجتلاك والهلال مفرق الجبين

وهذه الجبال الراسيات عرشك المكين

وأنت نافذ القضاء أيها الإله)

(1)

.

(هناك قرية صغيرة يجلس على بابها العم مصطفى بطل المشهد، يدير في جلسته أحداث القصة ويوصلنا إلى مغازيها الخطيرة، ويعرفنا الشاعر على صفة واحدة من صفاته هي أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هذه إشارة إلى نوع من الإيمان البسيط الذي ينتشر بين بعض أهل الريف، يكون محوره شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتتوجه العاطفة إليه، فهو إيمان عاطفي ساذج، يتناسب مع الطبيعة والبساطة المعهودتين في الأرياف، ولكنه -في الغالب- إيمان لا يعتمد على حقائق الإيمان الأساسية، ولا يمثل الالتزام الصحيح، وكثيرًا ما يختلط بمظاهر سلوكية مخالفة لمقتضيات الإيمان وبمعتقدات أسطورية منحرفة. . . يخلص الشاعر الحكاية في تساؤل يدق صدور المتأملين ويحير الفلاسفة والمفكرين، ما غاية الإنسان؟ ما غاية الحياة؟ والريفي لا يخطر بباله هذا التساؤل عادة؛ لأنه -وسائر السذج- غارق في

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 29 - 30.

ص: 473

قضايا حياته اليومية البسيطة، لا يرود هذه الميادين المعقدة، ولو أن العم مصطفى توقف عند حدود السؤال، أو قصر الحكاية عليه، لما وجد استجابة كبيرة من مستمعيه، فمثل هذا السؤال لا يهزهم وإن هزهم فلفترة قصيرة ثم يجيبون عليه وفق خبراتهم البسيطة ويستريحون من القلق.

غير أن مثير السؤال مؤهل للتفكير في مثل هذه القضايا، وقد عرفنا من صفاته ما يجعلنا نتوقع أن هذا السؤال يشغله، ويملؤه بالقلق والرعب؛ لأنه لا يملك جوابًا مقنعًا، ولذلك ينقل العم مصطفى قلقه وتأملاته المرعبة إلى الفلاحين، ويقدم لهم صورة من الحياة تحمل هذا التساؤل، وتزرع فيهم أطرافًا من قلقه ورعبه. . .

والصورة التي يقدمها تستخدم التضليل المنطقي، وتتكي على المفهومات المنتشرة بين الفلاحين، وتخدع الفلاحين بمغالطة عجيبة، فهي تبدأ من إيمانهم بالقدر، ثم تدور دورة قصيرة وتعود لتسلخ هذا الإيمان وتشوه صورة القدر في أذهانهم. . .

. . . وكان العم مصطفى في الصورة كلها قناعًا يختبيء وراءه الشاعر، ويحمل أزمته الخانقة وسؤاله الذي يعذبه: ما غاية الحياة؟، وعجز الشاعر عن فهم غاية الحياة مرتبط بخوفه الشديد من الموت، فهو لا يملك تصورًا يفسر له علة وجوده، ولا إيمانًا يشرح له قضية الموت والعالم الذي وراءه، لذلك تحولت قضية الموت عنده إلى صدمة موجعة لا يدري كيف يتخلص منها. . . . .)

(1)

.

ولصلاح عبد الصبور كلمات أخرى تنم عن هذا المعنى الذي ذكره في قصيدة الناس في بلادي يقول:

(تسألني رفيقتي: ما آخر الطريق؟

وهل عرفتُ أوله؟

(1)

مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي للدكتور عبد الباسط بدر: ص 68 - 69، 73.

ص: 474

نحى دمًى شاخصة

فوق ستار مسدلة

خطى تشابكت بلا. .

قصد، على درب قصير ضيق)

(1)

.

ويُمكن فهم المعنى ذاته في قوله الآخر:

(أمعيري بالوهم، لا وهم هناك ولا حقيقة

الطفل يفجؤني بأسئلة محيرة عميقة

وذوو الذقون البيض يزدحمون في الفرق العتيقة

ويفتشون عن الطريقة)

(2)

.

فهو يعيش في اضطراب وحيرة، ويتردد بين الأوهام والحقائق تردد الشاك المضطرب، ويفاجأ بأسئلة طفل يصفها بأنها محيرة له، وذلك يتوافق مع ما ذكره من عيشه مضطربًا بين الوهم والحقيقة، بل مع الوهم الذي لا معرة في انتسابه له، ثم يصف الأسئلة بأنها عميقة.

وينعطف على أهل الدين فينعتهم بالتخلف والرجعية والجهل وعدم القدرة على الإجابة.

وفي مقطع آخر يصور مدى إحساسه بعبثية الحياة وعدم فهمه لغايتها، ثم ينتكس في وقاحة ليتحدث عن اللَّه تعالى بتدنيس هابط، وتلويث مقصود، على عادة أكثر الحداثيين، يقول صلاح عبد الصبور على لسان عظام نخرة تتحدث من القبور:

(وقالت لي

بأن النهر ليس النهر، والإنسان لا الإنسان

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 219.

(2)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 41.

ص: 475

وإن حفيف هذا النجم موسيقى

وإن حقيقة الدنيا ثوت في كهف

وإن حقيقة الدنيا هي الفَلْسان فوق الكف

وإن اللَّه قد خلق الأنام، ونام

وإن اللَّه في مفتاح باب البيت. . . .)

(1)

.

أمّا واللَّه إن حداثة تقوم على هذه الأفكار والعقائد لهي جديرة من كل مسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر إلّا يداهنها أو يمتدحها، بل يحاربها ويقاومها ما دامت دماء الغيرة الإيمانية تضخ في عروقه، أقول ذلك وأنا أقرأ لأحد المسلمين أقوالًا تضفي التزكية على الحداثة وأهلها وتقسم التقسيم الجائر بين مدلول القيمة في ذاتها وموضوع القيمة، في فلسفة ضبابية تسوغ للحداثيين ما هم فيه.

بل لقد قال بصريح العبارة: (الحداثة ليست تهمة. . . إن الحداثة وسيلة للإبداع لاتفرض علينا المضمون. . . إن أخلصت للحداثة من أجل قيمها الجمالية والفكرية بليت بالبُله الذين يجعلون الحداثة ناقضة للإيمان، وياليتهم جعلوها تنقض الوضوء فحسب كالحدث الأصغر، وإن انبريت لمن استرحلوا الحداثة للتسويل والتضليل من العرقيين والطائفيين أصبحت مؤلبًا على مواهب حداثية في بلادي، فالنقد الذي مرّ ليس لاستصلاح الأدب، ولكنه أصبح إيذاءً للناس في سمعتهم الفكرية. . . إن ناشئتنا الحداثية يحسن بها الظن دينًا وفكرًا. . . والهزات الفكرية القليلة لدى بعض ناشئتنا تقليعة بحار في أوج العاصفة في إبحاره على غير تحسب، فهو يلتمس الشاطيء ويتطلع إلى رماله الذهبية.

والهزات الفكرية القليلة عند ناشئتنا لا تقاس بالتجديف والكفريات

(1)

المصدر السابق: ص 176.

ص: 476

الصلع لدى من حولنا في كل الجهات. . .)

(1)

.

وهذا الكلام -مع تقديري لعلم وفضل صاحبه، والحق أحب إليّ منه- يصب في آنية الحداثيين المحليين وأساتذتهم، وفيه من المغالطة والمجازفة ما لا يليق برجل يعلم عن دين اللَّه ما به قيام الحجة عليه وعلى غيره، ويعلم من إلحاديات وكفريات الحداثيين ما يكفي لمراجعة طروحاته على ضوء معايير شريعة اللَّه الكاملة، وكيف لا تكون الحداثة تهمة فكرية وهي تقوم على أسس من الإلحاد والضلال والكفر والمضادة لدين الإسلام كما يعترف به الحداثيون أنفسهم؟.

وكيف لا تكون الحداثة تهمة فكرية ونحن لا نكاد نجد حداثيًا صادقًا في انتمائه للحداثة إلّا وهو في أحسن حالاته ينادي بفصل الدين عن الأدب والفكر والثقافة والفن، ويزعم أن القيم الجمالية لا تدخل تحت معايير الصواب والخطأ الشرعيين ولا تحت مقاييس الحلال والحرام؟.

وإني أعيذ هذا الكاتب أن يكون ممن يقول بذلك أو يسوغه بمنطوق قوله أو بمفهومه.

ومتى كانت الحداثة وسيلة للإبداع لا تفرض مضمونًا؟ ونحن نرى أتباعها ممن أشربوا حبها حتى من ناشئتنا الذين يحسّن بهم الظن قد تلوثوا بمفاهيم فكرية، أقل ما يقال عنها أنها أقرب إلى الشكوك والريب في الدين وأهله ومناهجه ونظمه منها إلى اليقين والإيمان الجازم، فضلًا عمن ارتكس إلى مهاوي الجحد الصريح والنكران الفاضح، والمعارضة البواح لدين اللَّه تعالى أو لشيء منه، وما الهزات الفكرية التي يصفها -هذا الكاتب- عند أتباع الحداثة المحليين إلّا فوح البئر المهجورة ليوسف الخال، وبوح مهيار الدمشقي، ونبض نضاليات محمود درويش والقاسم وزياد، وإباحيات قباني.

وإن من عظيم جرم الحداثيين المحليين "الأتباع" أنهم لا ينفكون مادحين ومشيدين بأصحاب التجديف والكفريات الصلع، محسنين لمذاهبهم،

(1)

جريدة عكاظ عدد 10593 في 18/ 3/ 1416 هـ: ص 27، في مقابلة مع أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، وله مثل هذا الكلام في كتابه الحداثة وأعباء التجاوز.

ص: 477

مستشهدين بكلامهم، مسترسلين في إطرائهم، وجعلهم قدوات وأساتذة للأجيال، وهذه ليست فيها مواربة ولا اختفاء لا من حيث وقوعها، ولا من حيث أنها تخالف أصل الولاء والبراء.

أمّا قضية أننا نأخذ جماليات الحداثة وأشكالها، ونعرض عن مضمونها فإن ذلك غير ممكن؛ لارتباط الحداثة شكلًا ومضمونًا بفلسفة تقوم على مجافاة الدين، ومحاربة الإسلام، ونقض الإيمان، ومعاداة الوحي، ثم لأن أصحاب الحداثة وروادها يرفضون بإصرار وباستمرار فصل الشكل عن المضمون، ثم إن هذا المعتذر للحداثيين يعلم مدى تأثير وسيلة التعبير وشكله في المضمون، كما يعلم تأثير لبس المسلم لملابس الغربيين على خلقه وسلوكه.

إنه بدعوته هذه يدعو إلى فصل غير ممكن ولا معقول، وهو بمثابة من يقول: أتعلم من رؤية أفلام الجنس كيفية التصوير وفنياته، أو أتعلم من كتب اليهود والنصارى التعابير الفنية، أو آخذ من كتب الزنادقة التركيب الفني والأسلوب الجمالي!!.

وههنا سؤال يفرض نفسه على هذا الكاتب وأضرابه من الذين التبس عليهم حال الحداثة والحداثيين: في أي فسطاط يُمكن أن تضع كلام الحداثيين المنحرف، والمخالف للإيمان، المناقض للإسلام من السياب والبياتي حتى علاء حامد؟، أفي فسطاط الإيمان والإسلام والإحسان، أم في فسطاط الكفر والضلال والفساد والفسق والانحراف؟.

وما مهمة هذا الكتاب إلّا إثبات حقيقة أن الحداثة في واد وضفة غير وادي الإسلام وضفته، بل الحداثة في العدوة القصوى، والإسلام وأهله في العدوة الدنيا، وأسأل اللَّه ألا يكون هذا الكاتب وأشباهه في الركب الأسفل.

ومن أمثلة انحرافهم في زعمهم عبثية الوجود والحياة والإنسان: قول صلاح عبد الصبور:

(يا صاحبي

ص: 478

ما نحن إلّا نفضة رعناء من ريح سموم

أو منية حمقاء

والشيطان خالقنا ليجرح قدرة اللَّه العظيم)

(1)

.

وقول الصائغ:

(مصيفي الفراغ

مشتاي الفزع

وعيشي قطار بينهما)

(2)

.

وقول المقالح:

(. . . وفي عالم مفرغ كالعدم

وقفت أعانق حتفي

أواصل رحلة عمري بلا هدف أو قرار

كأني سجين يريد الفرار

ويفزع من ليله الموحش الجهم

يخشى سقوط النهار

حياتي هباء. . .)

(3)

.

ويعبر عن فراغه وعدميته وشكه وارتيابه فيقول:

(تأكلني الوحدة يستفزني الزحام

صليت للَّه وللشيطان

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 38.

(2)

المجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 38.

(3)

ديوان عبد العزيز المقالح: ص 115 - 116.

ص: 479

عبدت وجه الكفر والإيمان

سجدت للأوثان

لكنني كما بدأت في الظلام

وليس في الظلام من أحد)

(1)

.

هذه بعض أمثلة على هذا الضرب من الانحراف في توحيد الألوهية.

‌المظهر السابع من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: السخرية والتدنيس والاستخفاف باللَّه -جلَّ وعلا- وألوهيته سبحانه وتعالى

-:

وهو جب عفن خاضوا في قعره وماضوا، واسترسلوا مع نجاسته وشربوا منه حتى تضلعوا، وسوف يأتي مزيد بحث في الفصل الثالث المتعلق بأسماء اللَّه الحسنى وصفاته العليا، وهنا نعرض شواهد انحرافهم في السخرية من اللَّه تعالى ومن ألوهيته، والاستخفاف به -جلَّ وعلا-:

يتحدث أدونيس مخاطبًا المسلمين "سيول الرمل" و"تاريخ الطين" حسب وصفه لهم جاعلًا عبادتهم عباءات مقصبة بأطراف إله ميت، يقصد به اللَّه عز وجل، ويسمى كلماته تعالى رملًا، والرمل عنده وعند الخال وعند أتباعهم من أغلمة الحداثة رمز للتخلف والرجعية، قال أدونيس:

(أنتم يا سيولًا من الرمل، تاريخًا يتتوج بالطين

اصغوا إلى أنين يصعد باسم الطفولة:

لمن العباءات المقصبة بأطراف إله ميت؟ الكلمات

رمل، ولا طفولة في ملامح التراب)

(2)

.

ويردد المعنى نفسه في قوله:

(1)

المصدر السابق: ص 270.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 239.

ص: 480

(فاستسلمي للرعب والفجيعة

يا أرضنا يا زوجة الإله والطغاة

واستسلمي للنار)

(1)

.

وانظر شرحه لمعنى الطغاة وأن المراد بها اللَّه تعالى في كتاب الثابت والمتحول

(2)

.

ونحو النص السابق قوله:

(فأنت يا سماءنا المضيئة

يا زوجة السلطان والإله

بريئة من دمنا بريئة)

(3)

.

ويخاطب مهيار، وهو رمز يشير به إلى نفسه، وقناع يتخذه للدلالة على فكرته وعلى جذوره الباطنية وتطلعاته الشرق أوسطية المرتبطة بالغرب، فيقول:

(يكفيك أن تعيش في المتاه

منهزمًا أخرس كالمسمار

لن تلمح اللَّه على الجباه

يكفيك يا مهيار

أن تكتم السر الذي محاه)

(4)

.

ويقول:

(آه كم صليت للرب الحرون)

(5)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 259.

(2)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 181.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 361.

(4)

المصدر السابق 1/ 311.

(5)

المصدر السابق 1/ 334.

ص: 481

ويقول عن اللَّه تعالى:

(للإله الذي يتمزق

في خطواتي

أنا مهيار هذا الرجيم)

(1)

.

وفي معرض ذكره لخططه الحداثية المعتمدة على حرب الدين والثورة على تاريخ المسلمين "حضارة النخيل" كما يرمز أدونيس، وحرق كل ذلك بالصاعقة الحداثية التي سوف تربط بين أجفانهم وطريق التقدم والرقي حسب ظنونه الإلحادية الفاسدة، يقول:

(. . . انا غدًا نهز جذوع النخيل

وغدًا نغسل الإله الهزيل

بدم الصاعقة

ونمد الخيوط الرفيعة

بين أجفاننا والطريق)

(2)

.

وليس لدى المسلمين إله سوى اللَّه تعالى، ويسميه أدونيس الإله الهزيل ويقول بأنه سوف يغسله بدم الصاعقة وهي عبارات تفصح عن نفسها وعن معتقد صاحبها.

ومثلها قوله:

(نحن جيل الحوار الطويل

بين أنقاضنا والإله)

(3)

.

ويقول عن اللَّه -جلَّ شَأْنُهُ وَتَقَدَّسَ اسْمُهُ-:

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 349.

(2)

المصدر السابق 1/ 398.

(3)

المصدر السابق 1/ 401.

ص: 482

(تهدجي كالصوت

غامرة كاللَّه أو جامحة كالموت)

(1)

.

ويصب الطائفي حقده على الإسلام وأهله في مقطع "رحيل في مدائن الغزالي".

ومدن الغزالي تساوي الإسلام عقيدة وشريعة وحضارة، وتعني -عند أدونيس- كل ماض عربي مسلم يحتمل أن يعيش في الحاضر، ويعود بأمجاده وحضارته ليدفن آبار الطائفية النصيرية وأشباهها

(2)

.

ويربط أدونيس مدينة الغزالي ويعني بها الإسلام، يربطها بالتخلف والغرق والجرار والرمال، ثم يتعدى على اللَّه تعالى فيجعل الإيمان به والتأليه له سببًا في التخلف، قال أهلكه اللَّه:

(قافلة كالناي والنخيل

مراكب تغرق في بحيرة الأجفان

-قافلة- مذنب طويل

من جحر الأحزان

أهاتها جرار

مملوة باللَّه والرمال

هذا هو الغزالي)

(3)

.

ثم يجترئ على القرآن العظيم ويتهكم باللسان العربي ويقرن ذلك كله بالغبار رمز التخلف:

(يبتديء السقوط في مدائن الغزالي

(1)

و

(2)

المصدر السابق 2/ 10.

(3)

انظر: القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز ص 127.

ص: 483

يستنزل الفرقان واللسان

وتعلق الحياة بالغبار - في مدائن الغزالي

شرارة ليس لها مكان)

(1)

.

ويعتبر التدين والتعبد للَّه تعالى والإلتزام بشريعته التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ونشرها ورثته علماء الملة ومنهم الغزالي

(2)

رحمه الله، يعتبر ذلك سقوطًا ويكرر مرة أخرى:

(يبتديء السقوط في مدائن الغزالي

يختلج الشارع كالسنارة

والزمن الرابض مثل خنجر

يغوص تحت العنق

والمنارة

ستارة سوداء)

(3)

.

سقوط وستارة وزمن رابض، كلها ألفاظ تؤدي معنى التخلف والجمود والرجعية، ثم يجعل المنارة رمز التعبد والصلاة يجعلها ستارة سوداء؛ لأنها -حسب عقيدته الإلحادية- تنم عن تخلف وظلامية، أمّا فينيق الذي يتعبد له ويستجديه، وعشتار التي يمتدحها فإنها عنده حسب حسه الوثني الهابط رموزًا للتقدم والإزدهار والإنسانية!!.

وعلى كل حال فالمقطع مليء بالشتائم المرموزة والمباشرة والتهكم الصريح والمخادع، فالمسلمون عنده موتى لاعتناقهم الإسلام، وحياتهم

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 121، 122.

(2)

هو: محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد المشهور بحجة الإسلام، له نحو مائتي مصنف، ولد سنة 450 هـ، وتوفي سنة 505 هـ رحمه الله. انظر: شذرات الذهب 3/ 10، وسير أعلام النبلاء 19/ 322، ووفيات الأعيان 4/ 216.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 123.

ص: 484

ودروبهم ملح لا حياة فيها ولا أمل، وكتابهم القرآن الكريم كتاب ميت لا نور فيه ولا ضياء وإنّما رقص وصافنات، وذلك في قوله:

(ويدخل الموتى ويخرجون

من نصف أخضر - في مدائن الغزالي

يأتون في كلام

يئن في دروب كالملح، في كتاب

يموتُ، دفتاه

رقص وصافنات

ويدخل الموتى ويخرجون)

(1)

.

ويستمر في هذا الكلام المأفون يحاول تدمير كل شيء عند المسلمين، عقيدتهم في اللَّه ربًا وإلهًا، وفي النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا، وفي القرآن دستورًا، وفي الوحي والغيبيات كالإسراء والمعراج وبعض أمور الآخرة يسوقها على شكل أسطورة، ويمتدح فكرته وعقيدته ومطاياه الحداثية من تلاميذه وأتباعه.

وهذا المقطع صورة موسعة للموقف الحداثي من الإسلام وأهله وحضارته وتاريخه، صورة مليئة بالحقد والضغينة وإرادة الاستئصال، وحقيقة ماثلة مشاهدة على مدى خطورة هذه الأفكار، التي اتخذت شكل التحديث، واضمرت الهدم والإفساد، ونشر الوثنية والإلحاد والخرافة المعاصرة

(2)

.

ثم يأتي متبجح يقول بأن الحداثة فن وأفكار حديثة، وأشكال جمالية رائعة، وتراكيب سلمت من تخثرات الأسلاف.

ومن ازدواجية المعايير عند بعض المسلمين ما نقرؤه لأحد كتابهم، فبعد أن أورد مطلع المقطع الذي يقول فيه أدونيس:

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 2/ 123 - 124.

(2)

انظر: المصدر السابق 2/ 121 - 151.

ص: 485

(آهاتها جرار

مملوء باللَّه والرمال).

قال: (تأسرني إلى أبعد حد هذه الغنائية الفكرية في أول مرحلة من مراحل درامية هذه القصيدة، وأنا أتصور هذه القافلة بدموعها ولا تنس دلالة الناي والنخيل)

(1)

.

فإذا كان هذا المسلم العارف بفساد هذه الأقوال تأسره هذه الغنائية الفكرية، فما بالك بمسلم جاهل ارتضع حب الحداثيين ونشز فكره على شبهاتهم وإلحادياتهم؟!.

ولقد قرر هذا الكاتب: (أن القاريء "المتلقي" شريك الأديب في ارتياد الرؤيا إذا بدأ معه من أول تصوره)

(2)

، فما حال من تأسره الغنائية الفكرية؟!.

وليته قصر استئساره لأدونيس على ما يسميه الغنائية، ولكنه أضاف إليها الاستئسار الفكري، وهذا هو أبشع وأخطر ما يحذّر منه ويعاديه من تحمر أعراقهم وتثور وتثأر لكرامة عقيدتهم، وهو الرجاء الذي طرحه هذا الكاتب في سياق دراسته لانحرافات أدونيس

(3)

.

ولنا أن نسأل هذا الكاتب هل إذعانه لهذه الكلمات التي يسميها غنائية فكرية هو من ضمن السند المظلم الذي أشار إليه في قوله: (وتنظير أدب الحداثة دخل إلى معاقلنا في جزيرة العرب بإسناد مظلم لا يسرُّ)

(4)

.

فمال هذا الرجل إذا احمرت دماء العزة الإيمانية وثارت في أعراق أهل العقيدة يقف في الصف المقابل يداجيهم؟ ويذم المؤمنين الغيورين على

(1)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 125 لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري.

(2)

المصدر السابق: ص 125.

(3)

المصدر السابق: ص 115.

(4)

المصدر السابق: ص 131.

ص: 486

دينهم وأمتهم، ويسممِهم (البله الذين يجعلون الحداثة ناقضة للإيمان)

(1)

، ويصفهم بـ (الكهول - المهدفون أهداف النواعير)

(2)

و (تخثر التراثي)

(3)

، ويدافع عن البياتي ونازك قائلًا:(لم يتعمد هؤلاء جرح عقيدة أمتهم)

(4)

، وهي تزكية ومدافعة باهتة عن ماركسي يقول:

(يغني عمر الخيام يا أخت

حقول الزيت واللَّهُ

يغني طفله الصلوب في مزرعة الشاة)

(5)

.

ويقول:

(على أبواب طهران رأيناه

يغني الشمس في الليل

يغني الموت، واللَّهُ

على جبهته جرح عميق فاغر فاه)

(6)

.

ويقول:

(أتخطى الوضع البشري

أدور وحيدًا حول اللَّه وحول منازله في الأرض)

(7)

.

ويقول: (موسيقي أعمى ينزف فوق الأوتار دمًا، يرفع مثلي يده في صمت فراغ الأشياء، ويبحث عن شيء ضاع، يدور وحيدًا حول اللَّه،

(1)

عكاظ عدد 10593 في 18/ 3/ 1416.

(2)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 11، 15.

(3)

المصدر السابق: ص 208.

(4)

المصدر السابق: ص 154.

(5)

ديوان البياتي 1/ 296.

(6)

ديوان البياتي 1/ 297.

(7)

المصدر السابق 2/ 403، 404.

ص: 487

بصوت فمي أو فمه يصرخ: من منا خان الآخر؟)

(1)

، وأقواله من هذا الضرب الخبيث كثيرة مضى بعضها وسوف يأتي بعضها الآخر في الفصول القادمة.

ولطالما حارب الحداثيون أهل الإسلام ودعاته، بسبب وقوفهم أمام تيار التبعية والتغريب ومحاولات نشر سموم الإلحاد بين المسلمين.

تقرأ لأحد منظريهم وهو يحارب دعاة الإسلام فيقول: (. . . حين يتأمل المرء سلوك الجماعات الإسلامية التي تكاثرت في العقدين الأخيرين، وحين يقرأ فى عوتها التي تستقي أصولها من خطاب سيد قطب مع هزال ثقافي وغلو في التزمت. . . ويكفي أن نشير إلى أن المدجنة الحقيقة التي تفرخ هذه الجماعات هي الأنظمة العسكرية والمستبدة، فهذه الأنظمة التي خنقت روح الشعب وأغرقته بالشعارات والرعب، وفاقمت مشكلته بالتبعية والنهب هي التي تدفع هذه الأجيال الممزقة والمهشمة إلى حلول طوباوية وردود فعل يائسة، وحين يخير إنسان مقموع ومنهوب بين إله أرضي يقمه وينهبه ويفرض عليه فوق ذلك عبادته، وبين إله ديني يعده بالخلاص والمثوبة، فإن من الطبيعي أن يفر من زنازين الأرض إلى فضاء السموات)

(2)

.

وقد أرغم اللَّه آناف أهل العلمنة والحداثة بظهور الصحوة الإسلامية وبشائر انتشارها في كل بلاد المسلمين، وبوادر اشتداد عودها، وقد علل هذا الكاتب العلماني ظهورها بأسباب قد تكون صحيحة ولكنه بعماوة الفكر المادي لا يوقن أن اللَّه تعالى هو الذي تولى أمرها وسيحفظها حتى تكون منار خير وهدى ورشاد.

والذي يهمنا في هذا المقام وصفه المليء بالاستخفاف لعودة الناس إلى ربهم ودينهم وشريعة إلههم وعقديتهم الإسلامية، وتعليله المادي أن ذلك جاء من قبل يأس الناس من حكوماتهم وحكامهم وليس من قبل اليقين

(1)

المصدر السابق 2/ 405.

(2)

قضايا وشهادات 4 خريف 1991 م/ 1411 هـ: ص 18 من مقال لسعد اللَّه ونوس.

ص: 488

الإيماني والدليل البرهاني والحاجة الفطرية، وهكذا تكون مغالطات الماديين الدهريين.

ومن أمثلة انحرافاتهم في هذا الباب قول النصراني اللبناني أنسي الحاج:

(كل حب يا خيالة السقوط في الأعمال، كل حب هو الموت حتى آخره

وما أمسكه فيك ليس إلّا جسدك

بل قلب اللَّه.

أعصره وأعصره

ليخدر قليلًا صراخُ نشوته الخاطفة

آلام مذبحتي الأبدية)

(1)

.

وفي مجلة الناقد أيضًا وهي مجلة حداثية تترسم خطوات يوسف الخال ومجموعة "شعر" الهالكة جاء فيها قصيدة حداثية لنزار قباني مليئة بالسخرية والاستخفاف باللَّه تعالى بدءًا من عنوانها "أصهار اللَّه"، ومما قاله فيها:

(هل أنت قد أمرتهم

أن يخربوا هذا البلد؟

ويسحقونا كالصراصير

بأمر اللَّه.

ويضربونا بالبساطير

بإذن اللَّه.

فإن سألت حاكمًا منهم

(1)

مجلة الناقد عدد 8 شباط 1989 م/ 1409 هـ: ص 8.

ص: 489

من الذي ولاك في الدنيا على أمورنا؟

قال لنا: يا جهلة

أما علمتم أنني

أصبحت صهر اللَّه؟؟؟

أريد أن أصرخ

يا اللَّه.

هل أنت عينت وزير المال؟. . .

. . . فهل غلاء الخبز شأن من شؤون اللَّه؟

. . . وهل غلاء الفول والحمص

والطرشي والجرجير

شأن من شؤون اللَّه؟

وهل غلاء الموت والأكفان

شأن من شؤون اللَّه؟

أريد أن أسأل في طفولة:

يا أيها الرحيم والرحمان

. . . إذن لماذا يأكل الكبار (كافيارًا)

ونحن نأكل النعال

إذن لماذا يشرب الضباط ويسكيًا

ونحن نشرب الأوحال

. . . أريد أن أسأله تعالى:

هل أنت قد علمتهم عن

ص: 490

أن يجعلوا من جلدنا طبول

. . . أريد أن أسأله تعالى

هل أنت قد أمرتهم

أن يكسروا عظامنا

ويكسروا أقلامنا

ويقتلوا الفاعل والمفعول

. . . أريد أن أسأل:

يا اللَّه.

هل أنت قد أعطيتهم شيكًا على بياض؟

. . . أريد أن أسأل:

يا اللَّه.

هل أنت قد صاهرتهم حقًا؟؟

وهل من قاتل لشعبه

يصبح صهر اللَّه؟؟؟)

(1)

.

إن هذا القزم يقول لكل مسلم ها أنذا أتحدى دينكم وأسخر من ربكم، وأنسب إليه الأصهار وأسأله مثلما يُسأل أي أحد من الناس أسئلة تهكم واستخفاف.

ثم يقال بعد كل هذا وغيره: لماذا يقال بأن الحداثة كفر وضلال وإلحاد وزندقة؟!.

وإذا كنا قد نقلنا مرارًا قول الحداثي الذي يجعل الوثنية أساس التعددية والحرية والتوحيد أساس التخلف والرجعية فإننا نشير هنا إلى نص آخر يدور

(1)

مجلة الناقد - العدد 13 تموز 1989 م/ 1409 هـ: ص 4 - 5.

ص: 491

حول هذا المعنى ففي سياق دراسته للمجتمع الإسلامي من وجهة نظر ماركسية، يقول مؤلف كتاب "حداثة السؤال":(إن مجتمعنا، كمجتمع أبيسي، لاهوتي، تراثي، قبائلي، تحتضن فيه الواحدية الوثنية، لم يستنطق بعدُ ذاته، وقد كان من الممكن أن يتم لهذه الآثار المحفورة في وعينا ولا وعينا تدمير وإبدال، بمعاول الماركسيين العرب وسواعدهم لو أنهم ساءَلُوا آثار الذات وأشباح الحداثة)

(1)

.

هذا هو الطرح الحداثي الذي يقلب الحقائق ويغالط في البراهين، يسمى التوحيد وثنية، ويجعل الماركسية والحداثة -وهما من أوثان العصر- أداوة إبدال وتطوير وتقدم.

للحداثة أدغالها ومتاهاتها التي جعلت القوم يتيهون في أودية وشعاب الهلاك والضلال، ومع ذلك فمثابتهم الأولى وأسسهم الأصلية محاربة التوحيد والإيمان، ومناقضة الإسلام، ابتداءً من ترسيخ مبدأ الإلحاد في جحد وجود اللَّه أولًا ثم جحد ألوهيته ثانيًا، ثم جر البشر في مستنقعات الذل والهوان الإلحادي الجاهلي.

ها هو مؤلف "حداثة السؤال" يتحدث عن تعددية الواحد والمراد به اللَّه تعالى أولًا أو ما يسميه المؤلف الحداثي "المطلق" و"المتعالي" فيقول: (هو الواحد الذي لا يتعدد ولا يقبل بالتعدد. . . إنه اسم لا عدد كما حددته المتعاليات الإسلامية، هو الواحد الذي لا يسمح بتصريف جوهره، يلغي ما يمحو اسمه، وما يستحضر عدديته، ينسل من التاريخ ليحل محله المطلق:

أحد، أحدية، واحد، واحدية هذا التصور المتعالي للفاعل في الطبيعة والحضارة مترسخ في وعينا ولا وعينا، نرى إليه ناسجًا انتشاريته في عموم العالم العربي. . .، إن التحرر هو الجواب الرئيس على السؤال الرئيس الذي

(1)

حداثة السؤال لمحمد بنيس: ص 40.

ص: 492

طرحه تخلف العالم العربي وتبعيته للمركز الاقتصادي، على أن هذا الجواب معقد بالواحداية المتعالية من جهة، وذو صيغة تجريدية من جهة ثانية)

(1)

.

إن قلب الحداثة العربية ينبض بهذه المعاني السائدة بينهم في شتى مسالكهم وأنماط أساليبهم، ولا تنفك الحداثة عن هذا الأصل الإلحادي إلّا إذا تصورنا انفكاك ليل عن ظلام، فهم دعاة وثنية يسمونها التعديدية وأعداء توحيد تحت شعار نقد المتعاليات بل قضيتهم الراسخة إزاحة الإيمان وألوهية الرحمن، وإيجاد البديل الإلحادي من أي حقبة ومن أي مكان، يوناني أو إغريقي أو فرعوني أو بابلي أو آشوري أو غربي أو علماني أو عقلاني أو مادي أو حداثي، أي بديل من هذه أو غيرها، المهم ألَّا يكون الإسلام.

يقول مؤلف "حداثة السؤال" في استطراد حاقد ضد التوحيد والإيمان وبيان للمشروع الحداثي في هذا الصدد: (إنه الواحد الذي يحتاج لتحويل من صيغته المتعالية إلى صيغته التاريخية، من اسميته إلى عدديته. . .، ومهما كانت صعوبة نقد المتعاليات، وهي مترسخة في وعينا ولا وعينا فإن الشروع فيه مسألة مستعجلة. . .، وتعددية الواحد ضرورة عربية)

(2)

.

وهذا الكلام هو نحو كلام القائلين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}

(3)

.

وقالى اللَّه تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)}

(4)

.

وقال -جلَّ وعلا-: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)}

(5)

.

(1)

المصدر السابق: ص 44.

(2)

حداثة السؤال لمحمد بنيس: ص 64.

(3)

الآية 5 من سورة ص.

(4)

الآيات 35 - 37 من سورة الصافات.

(5)

الآية 86 من سورة الصافات.

ص: 493

ومن كلامهم الدال على استخفافٍ باللَّه تعالى قول النصراني جبرا عن النصراني الآخر توفيق صايغ: (. . . كان توفيق شخصًا مختلفًا عن خليل، وكان يعبر عن حسه الفاجع، أو حسه بالعقم، بشكل آخر لا عن طريق الغضب بل عن طريق المحاججة الدينية، كان يجادل اللَّه، يجادل المسيح يجال نفسه، يجادل مجتمعه، وكان دائمًا يخرج بنتيجة أن هذه القوى كلها لا تؤدي به أو لا تتخطى به العقم الذي يرفضه هو)

(1)

.

وهذا الاجتراء على اللَّه تعالى سمة من سمات يحموم الحداثة، ومسلمة من مسلماتها، فها هو يتحدث بعفوية تامة وبشكل طبيعي عن ازدراء قرينه الصائغ للَّه تعالى، وهو دليل على ازدرائه هو واستخفافه بمقام اللَّه العزيز الجليل، ثم الوصول إلى النتيجة الإلحادية أن اللَّه تعالى والإيمان به لا يتخطى به العقم، وتاللَّه أن الكفر الذي تقلبوا في رمضائه هو العقم بعينه، وهو المحل والجدب في العقول والأرواح ولكن الذين كفروا لا يفقهون.

ويعبر البياتي عن هذا الاستخفاف بقوله:

(رأيت الإله على المقصلة

رأيت الديوك على المزبلة)

(2)

.

وفي دعوة إلى الثورة الماركسية أو الحداثية أو الإلحادية يتحدث عن "عائشة" رمز الفكرة المتنورة والحداثة المتجددة، ثم يدعو إلى الثورة على الطغاة وهو رمز شرحه أدونيس في الثابت والمتحول

(3)

، وبين أنهم يقصدون به اللَّه تعالى، ثم يدعو البياتي بعد ذلك إلى الثورة على الدين ورمز له بالآلهة العمياء وهي إشارة صريحة إلى اللَّه تعالى، ثم الثورة على القضاء والقدر، فيقول خيب اللَّه آماله:

(عائشة ليس لها مكان

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 202.

(2)

ديوان البياتي 1/ 492.

(3)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 181.

ص: 494

فهي مع الزمان، في الزمان

ضائعة كالريح في العراء

ونجمة الصباح في المساء

فعد لنيسابور

لوجهها الآخر يا مخمور

وثر على الطغاة والآلهة العمياء

والموت بالمجان والقضاء)

(1)

.

وها هو صلاح عبد الصبور في قصيدته الناس في بلادي يتهكم باللَّه غاية التهكم ويستخف به سبحانه وتعالى وبألوهيته، وبالإيمان به وبقضائه وقدره، فيقول:

(يا أيها الإله

الشمس مجتلاك، والهلال مفرق الجبين

وهذه الجبال الراسيات عرشك المكين

وأنت نافذ القضاء أيها الإله

بني فلان، واعتلى، وشيد القلاع

وأربعون غرفة قد ملئت بالذهب اللماع

وفي مساء واهن الأصداء جاءه عزريل

يحمل بين أصبعيه دفترًا صغير

ومد عزريل عصاه

بسر حرفي "كن" بسر لفظ "كان"

(1)

ديوان البياتي 2/ 80.

ص: 495

وفي الجحيم دُحرجت روحُ فلان

يا أيها الإله

كم أنت قاس موحش يا أيها الإله. . .

. . . وسار خلف نعشه القديم

من يَملكون مثله جلباب كتان قديم

لم يذكروا الإله أو عزريل أو حروف "كان"

فالعام عام جوع)

(1)

.

أمّا يوسف الخال فيعبر عن استخفافه باللَّه تعالى وبألوهيته وعبادته بعبارات عديدة منها قوله:

(وهذا الزحف العاري أإنسان

أإنسان على شاكلة اللَّه.

أراه قد من لحم الشيطان)

(2)

.

وقوله:

(انبح فينا صوت الألوهة)

(3)

.

وقوله:

(بيني وبين السماء شعرة من الزمن، كلابي تنبح

في الدار، ولا عظام في قبور الموتى

والذباب يأكل العيون في مدينة الرب)

(4)

.

وفي سخرية جلية بالدين وأهله وبرب العالمين جل جلاله يقول:

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 30 - 31.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 223.

(3)

المصدر السابق: 228.

(4)

المصدر السابق: ص 289.

ص: 496

(النسور تبني أعشاشها في الرمل، وفي الوحل

يصلي القديسون

ارفعوا قبعاتكم أيها العاطلون عن العمل

الوثن يجثم على قارعة الطريق، ينشر قروحه في

وجه الشمس، الوثن يمد خرطومه في وسطنا، يحرك

لسان القتل، يحمل رائحة الأدغال، يتمنطق

بالريح الصفر

الوثن في البيوت، ولا رماد في المواقد)

(1)

.

والمتتبع لرمزيات الحداثيين يجد أن الرمل والوحل من رموزهم المستخدمة ضد الدين والإيمان والإسلام وقرون الهجرة، أمّا تعبيره بالوثن فمراده بذلك اللَّه ذو الجلال والإكرام، وهذا يذكر بأقوال فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)}

(2)

{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}

(3)

، والكفر كله ملة واحدة.

أمّا صنيعة المخابرات المركزية الأمريكية توفيق صائغ، فمن ضمن إبداعاته!! قوله:

(وما إلهك إن لم يجب؟. . .

. . . أيها المعطي رذاذًا والآخذ سيولًا

والمتلكيء في العطاء كأنّما

بذرة الألوهة بين طيات اليد القابضة

والهاب، تكاد تتعثر، للأخذ

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 291.

(2)

الآية 23 من سورة الشعراء.

(3)

الآية 38 من سورة القصص.

ص: 497

كأنك تفتض بأخذك أعناق أرباب قدامى

وكأنك لا تدرك

إن عطاءاتك نفايا)

(1)

.

وله مقطع جنسي بذيء مليء بالاستخفاف والسخرية باللَّه تعالى، ومنه قوله يخاطب اللَّه تعالى:

(ورسمك الذي بدا يتهلهل)

(2)

.

وقوله:

(أأدركت ما بنا

أم أأعماك الغرور واللاانتظار

وإباؤك أن ترانا انتشينا

نقمة ومقتا

نجزيك بهما عن الليالي المداد

نقعتنا بها بحمأة الترجي

ولا رجاء

ونفضتنا عنك، أرخص مما اشتريتنا

ولم تخلف لنا

غير وعد برسول من لدنك

ينقل لنا خيراتك

ينفخ في رماد الذكريات

أراعك أنا استدرنا

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صائغ: ص 166.

(2)

المصدر السابق: ص 203.

ص: 498

حول الرسول ساخرين

. . . إنك مغلوب كإيانا

وفي عوز مثلنا وأسر وصحراء

ورسالاتك هذه إلينا

استغاثات لا غرام

وتقربك الآن إلينا

ليس حبًا بقربى

لكن لتسكين إبرة فيك

لا تكل

وتريدنا وقد خرطشتنا برشاشك

أن نسكن إبرتك

ونحن "ألم تدرك؟ "

تقبلنا اللهيب لنوقد الكره الأصم

وابتلعنا العصير

لنتقيأ منه

اسمك والماضي وذكراكا؟)

(1)

.

سبحانك اللهم تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، سبحانك اللهم تقدست وتعاليت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

وفي مقطع آخر يقرن بين اللَّه تعالى وحيوان الكركدن في تصميم على التدنيس والاستخفاف باللَّه تعالى وألوهيته والإيمان به، يقول:

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 204 - 206.

ص: 499

(في الفجر الكبير

في الموكب الشامل

وحدك والإله الوحيدان

وكسعيه لعذرائه

سعيك لعذرائك

. . . إله حق وحيوان خيال

أفما تختلف النتائج

. . . والسنون الثلاث والثلاثون

أأطول في عمر الإله

من الساعات في عمرك؟

حبك العذراء

حب الإله لها

. . . أعضاء جنس

مذابح كفر وفحش

يتلوين

يفتحن سيقانهن

كافرات

بوجه السماء)

(1)

.

وله مقاطع وكلمات كثيرة مليئة بهذا اللون من الكفر

(2)

.

أمّا قرينه في العمالة والديانة والحداثة أنسي الحاج فمن أقواله:

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صائغ: 254 - 256.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 291، 376، 380، 409.

ص: 500

(أريدك يا إلهي دائمًا مثل هذه الأم)

(1)

.

(ولماذا يهجس اللَّه بإقناع الإنسان واستمالته. . .)

(2)

.

(الصلاة تسقي اللَّه كما يسقي الحب المرأة)

(3)

.

(مجرمو اللَّه، في أي زمن وإلى أي إله انتسبوا، هم طارئون على فني الإجرام والقداسة معًا)

(4)

.

(اللَّه في البركة مطمئن وفي النهر منزعج

الصمد يرتاح في جمود الحركة ويراقبها بعيون الغدران والمستنقعات)

(5)

.

(هل يستطيع اللَّه أن يبطل إلهًا)

(6)

.

(نتمرد على اللَّه كما نتمرد على الأب، تستطيع أن تكون شيطانًا في كنف اللَّه. . .

. . . صورة اللَّه في كتابات بعض الأنبياء هي صورة السلطان الذي كانوا يشتهون أن يكونوا

اللَّه أول الدمع. . .

. . . لا دموع إلّا دموع اللَّه فوقها)

(7)

.

سبحان اللَّه وتعالى عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

(1)

خواتم: ص 60.

(2)

المصدر السابق: ص 61.

(3)

المصدر السابق: ص 65.

(4)

المصدر السابق: ص 64.

(5)

المصدر السابق: ص 68.

(6)

خواتم: ص 68.

(7)

المصدر السابق: ص 78 - 79.

ص: 501

أمّا الشاعر العربيد أمل دنقل فإنه يتوجه إلى اللَّه بدعاء ثم يقرر بأنه لم يكن هناك أي صدى ولم يجد سوى الوباء والجرب:

(ودعونا اللَّه أن يكشف عنا الغمة المنعقدة

أعطنا ليلة حب واحدة

أعطنا ليلة طهر واحدة

أعطنا ليلة صدق واحدة

وتنسمنا صدى الدعوة، غربلنا الهواء

لم يكن إلّا الوباء

جربًا تحت الجلود. . .)

(1)

.

وفي جرأة ووقاحة وسخرية واستخفاف يقول:

(خصومة قلبي مع اللَّه ليس سواه

. . . فهل نزل اللَّه عن سهمه الذهبي لمن يستهين به

هل تكون مكان أصابعه. . . بصمات خطاه)

(2)

.

أمّا نزار قباني فله أسلوبه الخاص في الاستخفاف والسخرية، فهو يقرن اللَّه تعالى بالشعر:

(الآن عرفنا

أنا كنا ضد اللَّه وضد الشعر)

(3)

.

ويجعل اللَّه -تعالى اللَّه وتقدس- جاهلًا محتاجًا فيقول:

(1)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 245.

(2)

المصدر السابق: ص 344، وانظر: ص 445، 446.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 3/ 583.

ص: 502

(اللَّه يفتش في خارطة الجنة عن لبنان)

(1)

.

ويقول سميح القاسم بنغمة ماركسية إلحادية:

(أنا قبل قرون

لم أتعود أن ألحد

لكني أجلد

آلهة كانت في قلبي

آلهة باعت شعبي)

(2)

.

ويقول محمد الماغوط مخاطبًا عشيقته:

(وكنت أحبك يا ليلى

أكثر من اللَّه والشوارع الطويلة

وأتمنى أن أغمس شفتيك بالنبيذ

وألتهمك كتفاحة حمراء على منضدة)

(3)

.

ويقول: أحمد دحبور في تهكم سافر:

(الأرض بساط اللَّه.

بساط اللَّه الآن يحاط بجيش اللَّه الأمريكي:

فمن جهة بالنار

ومن جهة بصلاة العار

وخلفهما حكم عدل

(1)

المصدر السابق 3/ 587.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 39.

(3)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 67.

ص: 503

يتساقط عدلًا

واختر أحد الموتين

أو ارحل

دون وطن)

(1)

.

ويواصل في تهكمه واستخفافه باللَّه تعالى وعبادته:

(ها هم من التل حتى الصلاة

يمر عليهم وزير الهبات فيثني على باريء الكائنات بما

هو أهل ويلقى على رأسها حجرًا

ثم يذبح من أهلنا نفرًا

رحمة، لعنة، لعنة، رحمة

أسأل اللَّه الا يسم بالعفو حزني)

(2)

.

أمّا الروائي الحداثي الكبير عبد الرحمن المنيف فيقول في روايته مدن الملح: (الرجل يستيطع أن يرضي اللَّه ويرضي الشيطان معًا، أمّا أن يرضي امرأتين فأمر مستحيل)

(3)

.

وهو كلام في غاية السخف والانحطاط، وفي غاية الاجتراء على اللَّه القدوس العظيم سبحانه وتعالى إذ يقرنه بالشيطان الرجيم، ويجعل رضوانه قرينًا لرضى الشيطان، ويجعل منال هذا الرضوان أسهل وأيسر من نيل رضوان النساء، اللهم سبحانك وبحمدك.

وفي مواضع أخر من روايته، يصل به التهكم مداه حين يقول: (أخطر شيء في هذه الحياة بعد اللَّه والمال هو السروال، إذا كانت دكته قاسية

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 516.

(2)

المصدر السابق: ص 519 - 520.

(3)

مدن الملح 2 - الأخدود: ص 409.

ص: 504

أتعب، وإذا ارتخت دكته أشقى وأتعب)

(1)

.

ويقول على لسان أحد الشخصيات: (يارب يا صاحب الخيمة الزرقاء أنت العالي وتعرف ما بالقلوب، أحرس الوادي وجنبه البلاء)

(2)

.

وعلى لسان شخصية أخرى يتحدث عن رجل أرمني اسمه آكوب قائلًا: (آكوب أقوى من ربهم، أكوب يدفنهم قبل ما يموت)

(3)

.

وتقول زهوة إحدى شخصيات الرواية عن قصر أخيها خريبط: (. . . ويلزم تعرفين هذا القصر قصر الرحمن)

(4)

.

ويقول: (الإنسان أي إنسان، يكتسب الكثير من التجارب والمعارف والأشعار وتجعله باستمرار غير ما كان قبلها، أمَّا أن ينقلب بهذا المقدار فلا شيء يقوى على ذلك إلّا اللَّه والمرأة)

(5)

.

وعلى لسان زيدان أحد الشخصيات في بادية الظلمات من مدن الملح يقول: (موران بعدها بوعيها أو اللَّه هبل أهلها؟، وإذا أمهلها فيا ترى ينذرها، وبعدها يسوي بها اللي سواه بإرم ذات العماد ويقلب عاليها سافلها، ويغير كل شيء فيها، أم عنده أشغال أهم منها؟)

(6)

.

ويقول ابن جلون في رواية ليلة القدر: (كانوا يعيشون هناك في اكتفاء ذاتي بعيدًا عن المدينة بعيدًا عن الطرق وبعيدًا عن اللَّه نفسه)

(7)

.

أمّا رواية مسافة في عقل رجل فقد اترعت بالخبث والاستخفاف والسخرية باللَّه تعالى وبدينه وألوهيته والإيمان به

(8)

.

(1)

المصدر السابق 5/ 95.

(2)

المصدر السابق 1/ 59.

(3)

المصدر السابق 1/ 464.

(4)

المصدر السابق 3/ 267.

(5)

المصدر السابق 5/ 62.

(6)

المصدر السابق 5/ 296.

(7)

ليلة القدر: ص 33.

(8)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 112 - 113، 121، 195، 209، 198، 202.

ص: 505

‌المظهر الثامن من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: معاداة السماء:

ويريدون بالسماء: اللَّه جل جلاله والوحي والدين والشريعة والعقيدة، والنبوات ونحو ذلك، ولهم في استعمال لفظ "السماء" بهذه المعاني أصناف مكر يفضي في حسبانهم إلى تدمير الدين فيها ووضعها في قوالب الاستخفاف والسخرية والدنيس.

وتلك خبيئة الحداثة، وقتام مبادئها وأصولها الخبيثة، ولون من ألوان ارتكاسها وأصحابها في ظلمات أهل الماديات من المغضوب عليهم والضالين والملحدين.

وقد تفنن الحداثيون في استجلاب اعتراف ورضى أسيادهم من أهل الغرب، وأول علائم تفننهم سعيهم الحثيث في النيل من عقيدة الأمة وشريعتها وسائر مقوماتها الأساسية بالضلال السافر أحيانًا، والمحتجب أحيانًا أخرى.

وسوف أورد هنا بعض الشواهد على معاداتهم للسماء على اعتبار أن السماء عندهم تمثل الألوهية والربوبية، وتمثل الإسلام والدين والوحي والهدى.

فمن ذلك قول نزار قباني حينما ناقشه منير العكش

(1)

في كتابه أسئلة الشعر قائلًا: (. . . حين لا يجد الشاعر له مطابقًا لغويًا أو رمزيًا على الأرض لهو أكبر دليل على تحدي السماء)

(2)

.

أجاب قباني: (لا أزال أصر على أن السماء لا تعرف أن تكتب شعرًا،

(1)

منير العكش، ناقد حداثي، له كتاب "أسئلة الشعر" قدم له بمقدمة نقدية للحداثة، كشف فيه بعض عوارها من وجهة نظر حداثية أيضًا وأجرى فيه مقابلات مع مجموعة من كبار الحداثيين واجههم فيها بأسئلة قوية جارحة، كل ذلك في إطار تصحيح مسار الحداثة حسب رأيه!!.

(2)

أسئلة الشعر: ص 195.

ص: 506

إن الشعر محصور بالإنسان، وبالإنسان فقط، ومما لا شك فيه أن القلب الإنساني تركيب سماوي، ولكنه تركيب ملغوم بكثير من الاحتمالات التي لا تتوقعها السماء، القلب الإنساني قمقم رماه اللَّه على شاطيء هذه الأرض، وأعتقد أن اللَّه نفسه لا يعرف محتوى هذا القمم ولا جنسية العفاريت التي ستنطلق منه، والشعر واحد من هذه العفاريت)

(1)

.

أمّا البياتي فيعبر عن رفضه للدين ومعاداته له ولما ينبثق عنه من تراث وحضارة بقوله:

(وبصقت في وجه السماء)

(2)

.

وقوله مخاطبًا عشتار:

(وتمزقت وناديتك باسم الكلمة

باحثًا عن وجهك الحلو الصعير

في عصور القتل والإرهاب والسحر وموت الآلهة

وتمنيتك في موتي وفي بعثي وقبلت قبور الأولياء

وتراب العاشق الأعظم في أعياده موت الفقراء

ضارعًا أسأل، لكن السماء

مطرت بعد صلاتي الألف ثلجًا ودماء

ودمى عمياء من طين وأشباح نساء

لم يرين الفجر في قلبي ولا الليل في وجهي بكاء

فمتى تنهل كالنجمة عشار وتأتي. . .)

(3)

.

ويبحث عن جذر يشاركه هذه النظرة المحتقرة، وينفش في رواق الإسلام

(1)

أسئلة الشعر: ص 195.

(2)

ديوان البياتي 1/ 178.

(3)

المصدر السابق 2/ 206.

ص: 507

النظيف الطاهر فلا يجد إلّا شبيهًا له في الشك والريب والاضطراب، فيتكيء عليه جاعلًا منه سلفًا ومطيته إلى رموزه الشيوعية من لوركا إلى الفقراء الكادحين الذين يفني باسمهم تحت لواء المطرقة والمنجل، فيقول:

(شيخ المعرة الضرير يفتح الكوة في اكتئاب

ويحدج السماء

بنظرة ازدراء

. . . لوركا يُجرُ واقفًا للموت في الميلاد

أمامه كانت كلاب الصيد تجري

تنبح الجلاد)

(1)

.

ونظرة الاحتقار للسماء التي عبر عنها البياتي من خلال سلفه البائد، هي النظرة نفسها التي عبر عنها صلاح عبد الصبور في قصيدة الناس في بلادي في قوله:

(. . . فالعام عام جوع

وعند باب القبر قام صاحبي خليل

حفيد عمي مصطفى

وحين مد للسماء زنده المفتول

ماجت على عينيه نظرة احتقار

فالعام عام جوع)

(2)

.

(. . . هنا صورة أخرى قاتمة للقدر، واتهام للمقدر ومزيد من الانحراف والكفر، وإذا كان المؤمنون يضرعون إلى اللَّه تعالى في أعوام

(1)

المصدر السابق 2/ 69 - 70.

(2)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 31 - 32. ونحو هذا القول قاله السياب. انظر: ديوانه: ص 546.

ص: 508

المجاعة وفترات الأوبئة أن يرفع عنهم البلاء، وإذا كان الأقل إيمانًا والعاصون يلجأون -فطريا- إلى اللَّه سبحانه وتعالى في أوقات الشدة، وهذا اللجؤ من طبيعة الإنسان، ويمسكون عن المعصية، ويأخذون في الاستغفار أملًا في عفو اللَّه ورحمته المنقذة، فإن مريدي العم مصطفى من صنف آخر، ليس فيه المؤمنون ولا حتى الفاسقون، فهم يعرضون عن ذكر الإله ولا يعبأون بالموت، وكأنهم استغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا، إذ يتفجر انحرافهم ويعربد فكرهم في أعلى صورة، وتبتديء آثار العم مصطفى وقد بلغت عرامها، فيخرج من بين الصفوف "خليل" حفيد العم مصطفى ليكون امتدادًا له، ليس في النسب وحسب بل في الكفر والتمرد والطغيان، فقد تضخم ما زرعه فيه جده واشتد، وتحولت الثورة الصامتة إلى ثورة صاخبة، وتحولت ألفاظ التهجم على الألوهة إلى تحد ودعوة -قميئة- للمنازعة والصراع، فخليل تحت تأثير موت جده وعام الجوع ينفجر بأعلى صور النقمة التي تدور في نفوس مريدي العم مصطفى، ويرفع إلى السماء زنده المفتول، والزند المفتول إشارة واضحة إلى الاغترار بالقوة وإلى التحدي، والإقدام على الخصومة والمصارعة.

ولا يكتفي الشاعر بهذه الصورة القذرة، بل ينهي القصيدة بلقطة سريعة أشد كفرًا وقذارة. . فخليل الذي يرفع زنده متحديًا السماء. . ينظر أيضًا "باحتقار" يموج -انظر ما توحي به لفظة يموج من قدر كبير- بين عينيه. . والاحتقار موجه إلى اللَّه عز وجل!! تعالى اللَّه عما يأفكون. . .

ولا شك أن هذه الصورة أثر من آثار تخبط الشاعر وتأثره بالصورة القاتمة التي بثها الأدب اليوناني القديم للقدر، وبالصور التي نمت -بتأثيرها- في الآداب الأوربية في ظل موجات الإلحاد والتمزق والاضطراب)

(1)

.

وعند صلاح عبد الصبور من هذه التصورات ما يكفي للدلالة على مدى محاكاة أهل الحداثة -ممثلة في متبوعيها- للملل والنحل والعقائد الكافرة

(1)

مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي: ص 76 - 77.

ص: 509

قديمها وحديثها، وليس في أدبيات المسلم -مهما بلغت به المعاصي والذنوب، ومهما بلغ به الجهل بدين اللَّه- مثل هذه المعاني الكسيحة الفاسدة.

وليست قصيدة الناس في بلادي إلّا حبة في عقد فكري واعتقادي عاشه صلاح عبد الصبور منافحًا ومدافعًا وداعيًا، ومن مخازيه مما يشابه ما ذكرناه آنفًا، ما جاء في مقطع بعنوان رسالة إلى صديقة يقول فيه:

(بالأمس في نومي رأيت الشيخ محي الدين

مجذوب حارتي العجوز

وكان في حياته يعاين الإله

تصوري، ويجتلي سناه

. . . ومات شيخنا العجوز في عام الوباء

وصدقيني، حين مات فاح ريح طيب

من جسمه السليب

وطار نعشه وضجت النساء بالدعاء والنحيب

بكيته، فقد تصرمت بموته أواصر الصفاء

ما بين قلبي اللجوج والسماء. . .)

(1)

.

ولعل كاتبًا أو ناقدًا مولعًا بالحداثة مقدسًا لها يجد في هذا القول ما يرد به على الطرح العام لهذا البحث قائلًا ها هو صلاح يؤمن بالشيوخ والدين!!.

وفي واقع الأمر أن الكلمات تضج بلون آخر من الانحراف، وفيها من تهوين الدين والاستخفاف به ونسبته إلى الخرافة والتخلف الشيء الكثير، فالشيخ محي الدين مجنون، أو مجذوب، حسب التعبير الصوفي وهو

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 79 - 80.

ص: 510

يعاين اللَّه -تعالى اللَّه عما يقولون- بل ويجتلي سناه.

وهذا الشخص المجنون الصوفي الخرافي هو محور اهتمام صلاح عبد الصبور ومحور كلامه، وهو الإطار الذي يسقط من خلاله تصوره للدين وأهل الدين، وفي ذلك إيحاء كامل بجهل الشاعر أو إغراضه، فقد جعل العلاقة باللَّه تعالى وبالدين قائمة على أساس التبعية لهذا المجذوب، فلما مات فاحت رائحة جسده وطار نعشه وهي صور شعبية خرافية يتبرع بها الناس الجهلة في إضفاء أوصاف الخوارق على الدراويش والمجاذيب "مشايخ الدين" ولم يقف الشاعر عند هذه الصورة الخيالية الخرافية بل اتبعها بأنه قد تصرمت بموت المجذوب محي الدين أواصر الصفاء بينه وبين السماء، وكأن علاقة الإنسان بربه، علاقة مرتهنة بشخص، وأي شخص؟ مجنون يسمى الشيخ محي الدين.

وبالإضافة إلى هذه الصورة التهكمية للدين والعلاقة الواهية به، يريد أن يصل إلى الدين كله عبارة عن اختيار ساذج بسيط خرافي هش يُمكن اعتناقه أو تركه لأي علة أو عارض، وأن الدين -في حال اختياره- ليس سوى علاقة فردية بالسماء، قابلة للاعتناق والترك وفق مراد الشخص.

ومن صور التهكم والعداء للسماء قول توفيق صائغ:

(أعضاء جنس

مذابح كفر وفحش

يتلوين

يفتحن سيقانهن

كافرات

بوجه السماء)

(1)

.

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صائغ: ص 256.

ص: 511

وهي صورة بشعة خبيثة، تنم عن طوية أخبث وأبشع، وعقيدة أفسد وأشنع، بل وتدل على أن من ارتكس في حب هؤلاء والإعجاب بهم والدفاع عنهم، وقد علم باطلهم وضلالهم هو مثلهم.

أمّا نزار قباني فقد شن حملته على السماء والدين والقدر والنبوة والتراث والقيم وبلاد المسلمين وثقافتهم، في كثير من أقواله وخاصة المقطع الذي سماه "خبز وحشيش وقمر" والذي يقول فيه:

(ما الذي يفعله قرص ضياء؟

ببلادي

ببلاد الأنبياء

وبلاد البسطاء

ماضغى التبغ وتجار الخدر

ما الذي يفعله فينا القمر؟

فتضيع الكبرياء

ونعيش لنستجدي السماء

ما الذي عند السماء؟

لكسالى ضعفاء

يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر

ويهزون قبور الأولياء

علها ترزقهم رزًّا وأطفالًا قبور الأولياء

ويمدون السجاجيد الانيقات الطرر

يتسلون بأفيون نسميه قدر

وقضاء

ص: 512

في بلادي. . في بلاد البسطاء)

(1)

.

ولا شك أن بلاد المسلمين لما كانت مستمسكة بدينها تقيمه في حياتها وتجعله قوام عيشها، كانت أزهى وأرقى أمة، وما أصابها الخدر والضعف والهوان والذل إلّا عندما تركت طريق الأنبياء وتركت استجداء اللَّه وعبادة اللَّه الذي في السماء، وصار المنحرف والملحد والشاك والضائع والعميل رأسًا يشار إليه بالبنان، تطيع أقواله، وأضحى من أبنائها من يدافع عن انحرافاته وضلاله وكفره من يدافع من المسترحلين ميتي الشعور الديني، عديمي العلم والإيمان.

وأمّا محمود درويش فإنه يعبر عن مجافاته للسماء تعبيرًا رمزيًا يشي بالجحد والإنكار والإلحاد، وذلك في قوله في مقطوعة بعنوان "أبي":

(غض طرفًا عن القمر

وانحن يحضن التراب

وصلى

لسماء بلا مطر

ونهاني عن السفر)

(2)

.

فهو يعتقد أن السماء لا شيء عندها، بل فيها الجمود والتحجر، ويرى السفر والبحر "الغرب" رمز التقدم والتطور:

(وأبي قال مرة

حين صلى على حجر

غض طرفًا عن القمر

واحذر البحر والسفر

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 365.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 144.

ص: 513

يوم كان الآله يجلد عبده

قلت: يا ناس! نكفر؟

فروى لي أبي. . . وطأطأ زنده)

(1)

.

وفي مقطع آخر يجعل درويش السماء أغلالًا في سياق حديثة عن سرحان الذي يقول عنه:

(رأينا أصابعه تستغيث، وكان يقيس السماء بأغلاله)

(2)

.

(ومن يومها كفت الأمهات عن الصلوات وصرنا

نقيس السماء بأغلالنا)

(3)

.

ويتبدى محمود درويش أكثر وقاحة وحربًا على الإسلام في ديوانه أحد عشر كوكبًا حين يقول:

(أقل احتفالًا على شاشة السينما، فخذوا وقتكم

لكي تقتلوا اللَّه. . .

. . . ونعرف ما هيأ المعدن - السيد اليوم من أجلنا

ومن أجل آلهة لم تدافع عن الملح في خبزنا

ونعرف أن الحقيقة أقوى من الحق، نعرف أن الزمان

تغير، منذ تغير نوع السلاح، فمن سوف يرفع أصواتنا

إلى مطر يابس في الغيوم؟. . .)

(4)

.

فإلى الذين يتلمسون بوارق الأمل في الحداثة ويعتبرون أنفسهم من المسلمين: أما آن لكم أن ترحلوا عن فسطاط الكفر والزندقة والنفاق؟.

(1)

المصدر السابق: ص 145.

(2)

المصدر السابق: ص 448 - 449.

(3)

ديوان محمود درويش: ص 448 - 449.

(4)

أحد عشر كوكبًا: ص 42 - 43.

ص: 514

ويعبر محمود درويش عن يأسه وجحوده ومعاداته للسماء، ومن في السماء، في قوله:

(ونحن الذين ندق نحاس السماء، ندق السماء لتحفر من بعدنا طرقات)

(1)

.

أمّا سميح القاسم فقد تسارعت خطواته على دروب الإلحاد من خلال الشيوعية التي اعتنقها، فأضحى لسانًا معبرًا عن الماركسية عقيدة ومسلكًا ورموزًا، وسيفًا مصلتًا على الدين والإيمان، ومن ذلك قوله في مقطوعه بعنوان "عزيزي ايفان الكسييفتش اكتوبر" وفيها يصور صحوته التي جاءته بعد اعتناقه للشيوعية!!:

(صحوت على يد مسّت جبيني الجهم، في رفق

وصوت معلم جوال

أتى من قمة الشرق)

(2)

.

(عميقًا كان صوت معلمي الجوال

وعذبًا كان

همى مطرًا على صحراء

تشربه إلى الأعماق

قلبي الأسود الصلصال

فأصبح وردة حمراء

وأصبح بعد عقم طال

جوهرة وكمثراة

(1)

ورد أقل: ص 57.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 285.

ص: 515

وعصفورًا، ومصباحًا على الطرقات

رفيقي -آه- يا إيفان)

(1)

.

وبعد هذا الانطراح الاتباعي والترنيم العبادي للشيوعية، يصور تركه للدين ومعاداته للسماء:

(تلوت قصائدي الأولى

على جثث الحساسين

ودقت قبضتي باب السماء

ولذت بالدين. . .

. . . دعوت الأولياء الصالحين

فردت الوديان:

إلهك كان يا هذا. . إلهك كان

وقهقهت السفوح السود

والقمم النحاسية

إلهك كان. . يا طرح الأناشيد الحماسية)

(2)

.

ويعتبر تركه للدين طهارة!!، وغرقة في الإلحاد نجاة!!، فيقول:

(من قديم الزمان!

قيل: كانوا سعاه

في بريد الإله

لم يكونوا غزاه، ككل الغزاة

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 286 - 287.

(2)

المصدر السابق: ص 287 - 288.

ص: 516

وأنا ايها السادة التافهون

طاهر، طاهر من رياء القضاة

ومسوح السماء)

(1)

.

ولزميله الماركسي الآخر دندنة إلحادية أخرى على المسار المعتم نفسه، ذلك هو توفيق زياد الذي يقول:

(ومن أين تأتي النقود

وهذه السموات رغم الدعاء

ورغم الصلاة صباح مساء

أبت أن تجود ولو بالقليل

من الذهب المفتدى)

(2)

.

ويعتبر توفيق زياد أحد المندفعين في تمجيد الشيوعية ومدحها وإطرائها والتغني بتاريخها القديم -مثل ثورة العمال في باريس في القرن الماضي وهو ما يسمى عند الماركسيين بكومونة باريس- والافتخار بتاريخها الحديث، وإنجازاتها المادية، ومن ذلك قوله:

(وتكبر مدخنة تتحدى

السبع السموات)

(3)

.

ويخاطب عمال العالم بلهجة ثورية ماركسية تقريرية أشبه بالبيانات العسكرية، فيقول:

(هبوا كالريح كعاصفةٍ

(1)

المصدر السابق: ص 413.

(2)

ديوان توفيق زياد: ص 177 - 178.

(3)

المصدر السابق: ص 568.

ص: 517

تكتسح السبع سماواتٍ)

(1)

.

أمّا الفيتوري فقد كانت له جولاته وصولاته الحداثية وانحرافاته الفكرية، وذلك قبل أن يكتشف دنس المسلك الحداثي وخطورته على الأمة والدين والأخلاق، وكان من سوابقه الرديئة قوله:

(ولأن الموت عبد

ولأن الظلم عبد

ولأن الحر عبد في بلاد مستغلة

ولأن القدر السيد عبد يتأله

والنبوات مظلة

والديانات تعلة

هي من كل ضريح في بلادي

كل ميت مندثر

كل روح منكسر

ناقمًا على البشر

كل أعداء البشر

كافرًا بالسماء والقضاء والقدر)

(2)

.

وعلى نَمط أقوال صلاح عبد الصبور في قصيدته الناس في بلادي يقول محمد علي شمس الدين، محاكيًا ومكررًا المعنى نفسه:

(سأطلق نحو السماء رصاصة رفضي

(1)

المصدر السابق: 592.

(2)

ديوان الفيتوري 1/ 112 - 113.

ص: 518

وداعًا)

(1)

.

أمّا الداعر العربيد -حسب اعترافاته- محمد شكري، فله من الأقوال المنكرة والأفعال القبيحة ما سطره بكل جرأة ووقاحة في روايته عن نفسه التي سماها:"الخبز الحافي" والتي يقول فيها: (. . . أجدني بعيدًا لاعنًا إياه، كارهًا كل الناس باصقًا على السماء والأرض، ذات يوم كنت مع نشالين في مقهى ندخن الكيف ونشرب الشاي الأخضر)

(2)

.

ويقول: (. . . رأيت في الطريق بعض الأسماك الصغيرة المداسة، سمعت سقوطي في الماء، أظافري دامية، رفعت وجهي نحو السماء، إنها أكثر عراء من الأرض أكثر عراء)

(3)

.

‌المظهر التاسع من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية: احترام وامتداح الكفر والإلحاد والوثنية والماركسية والعلمانية، وغير ذلك من ملل الكفر ونحله والاعتراف بالانتماء إليها:

وهذا المظهر من أكثر المظاهر شيوعًا عن الحداثيين، بل كل الحداثيين على ذلك، حتى بعض أولئك الذين ما زالوا يعلنون الانتساب إلى الدين ويظهرون العمل ببعض أحكامه.

فلا تجد أحدًا ممن أشرب قلبه حب الحداثة أو تلوث بأجوائها إلّا وهو يمتدح ويثني على رؤوس الحداثيين العرب وغيرهم، ويظهر أن لهم مكانة سامية في الفكر والفن والأدب، بل ربّما رضخ في هيبة وإجلال لما يسمونه معطيات فنهم وإبداعهم وحداثتهم.

فإذا تكلم عنهم تكلم بلسان المجلّ المعظِّم، وإذا ذكرهم أشاد بهم وأوصلهم إلى السماكين، وإن ناقشهم تأدب معهم تأدب التلميذ مع أستاذه،

(1)

غيم لأحلام الملك المخلوع: ص 50.

(2)

الخبزُ الحافي: ص 75.

(3)

المصدر السابق: ص 102.

ص: 519

وان عارضهم في بعض الأوجه، ساق معارضته لهم في سياق من اللين واللطف والاحترام والخشية.

هذا فيما يتعلق برؤوس طواغيت الحداثة، أمّا ما يتعلق بالمذاهب والمناهج والسبل والأساليب فإن لها من الهيبة والمكانة والانقياد والاتّباع والطاعة والمحبة الشيء الكثير، الذي يدل بجلاء على أن انقيادهم للحداثة واتباعهم لها هو في حقيقته انقياد عبادي اعتقادي.

ناهيك عن القداسة المتعارف عليها بين الحداثيين حول كلمات مثل الإبداع والحداثة والتجديد والعقلانية والتنوير والعصرانية والتجاوز والتخطي وكسر المألوف والسائد ونحو ذلك.

أمّا الأسماء والشخصيات الحداثية والعلمانية فهي عندهم بمنزلة أعلى من منزلة الأنبياء وفي مقام أجل من مقام الإله العظيم -جلَّ وعلا-.

وليس هذا القول مجرد دعوى، بل هي الحقيقة تنطق بها مؤلفات وأعمال وأقوال الحداثيين، ولو لم يكن من دليل إلّا شدة دفاعهم عن الحداثة واستماتتهم في نشرها واذاعتها، وغيرتهم عليها، وولههم الشديد بها وبضلالها وانحرافاتها وشرها وفسادها وباطلها؛ لكان ذلك كافيًا.

وإنني لأجزم بأن امتداح الحداثة والدفاع عنها يتضمن في طياته امتداح الكفر والإلحاد والوثنية والانحراف والضلال؛ ذلك أن الحداثة كما مر معنا، وكما سيأتي -إن شاء اللَّه- لم تنفك عن هذه العقائد الضالة المنحرفة، ولا يُمكن لها أن تنفك.

فقد نبتت الحداثة الفكرية والأدبية في ذلك المرتع الوخم، ثم تدرجت في دركات الشرك والكفر وقطعت فيها أشواطًا بعيدة، فأصولها ثابتة في طينة تأليه الإنسان وأعماله، وجحد ربوبية اللَّه تعالى وألوهيته والتهكم والسخرية به تعالى وبدينه وبرسله وكتبه وبالغيب والقدر والشرائع، وفروعها مثمرة بشوك الإلحاد والدعارة والفساد.

ومطالعة يسيرة في كتب البياتي والخال ودرويش وقباني وأدونيس

ص: 520

وباروت والجابري وأنسي الحاج وأركون وبسيسو ونوال السعداوي وتوفيق صايغ وتوفيق زياد وجبرا وبو جدرة ومحمد شكري ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وخليل حاوي وغيرهم وغيرهم تؤكد ذلك.

ولم يقتصر موقفهم على امتداح الكفر والوثنية بل تعدى ذلك إلى الافتخار والاعتزاز بها كقول أدونيس:

(أسير في الدرب التي توصل اللَّهَ

إلى الستائر المسدلة

لعلني أقدر أن أبدله)

(1)

.

وقوله في وقاحة إلحادية صلعاء:

(أنا المتوثن والهدم عبادتي)

(2)

.

وقد مر معنا في غير موضع من هذا الفصل والذي سبقه ما يدل بصراحة على امتداحهم للكفر والإلحاد والوثنية والجاهلية واحترامهم لها {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}

(3)

.

ففي مقال عن العلمانية تؤكد كاتبته أن الحداثة والعلمانية تنزع القداسة عن كل شيء وخاصة عن اللَّه تعالى، ليصبح الإنسان هو الإله المقدس، ثم تضيف بعد مدحها وإشادتها بالحداثة والعلمانية:(والعلمنة لا تعني الإلحاد وإنّما تعني حرية الاختيار. . . فالكثير من العلمانيين مؤمنون حقيقيون)

(4)

.

وفي إشادة تضيف قائلة: (كانت خطورة إخراج الجنس والجسد من ظلمات المحرم إلى علنية اللغة وعلنية الممارسة مفصلًا جوهريًا في

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 105.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 642.

(3)

الآيتان 23 - 24 من سورة الأنعام.

(4)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م: ص 103، من مقال لانسية الأمين.

ص: 521

سقوط المقدس)

(1)

.

وتقول: (حداثة الغرب النهضوية والعقلانية والعلمية كانت مفصلًا تاريخيًا هامًا في حياة البشرية أعادت الاعتبار للإنسان)

(2)

.

ولولا خشية الاستطراد والخروج عن حدود البحث لأوردت من كلام العلمانيين الأقوال التي تثبت احترامهم للعلمانية إلى حد التقديس، وامتداحهم للكفر والضلال والوثنية والجاهلية، المتمثلة في الأنماط العلمانية المختلفة، وحربهم -في الوقت نفسه- للإيمان والإسلام والشريعة والوحي

(3)

.

ومما سبق ذكره عدة مرات ثناء أحد منظري الحداثة على الوثنية اليونانية باعتبارها أساسًا للتحديث والتعددية، وذمه للتوحيد والإيمان باللَّه باعتبارها أساسًا للتخلف والرجعية

(4)

.

وقد وصل الأمر بالحداثيين إلى حد الاعتراف والمفاخرة بالإلحاد صراحة، كما قال رشيد بو جدرة الجزائري

(5)

قدوة الحداثيين: (. . . إننا

(1)

المصدر السابق: ص 105.

(2)

المصدر السابق: ص 105.

(3)

انظر: على سبيل المثال الكتب التالية فهي مليئة بالشواهد على ما ذكرناه:

1 -

الأسس الفلسفية للعلمانية لعادل ظاهر.

2 -

العلمانية من منظور مختلف لعزيز العظمة.

3 -

الإسلام السياسي لمحمد سعيد العشماوي.

4 -

الكارثة التي تهددنا لصلاح عيسى.

5 -

قبل السقوط للهالك فرج فوده.

6 -

النذير له.

7 -

الإرهاب له.

8 -

الملعوب له.

(4)

انظر: مجلة الناقد عدد 8: ص 8 مقال لحنا عبود.

(5)

رشيد بوجدرة حداثي جزائري ماركسي العقيدة بتعصب شديد، غَرَّب فكان من عصابة الفرنكفونية الفرنسية وشَرَّق فكان من الماركسيين، ينطوي على عداوة شديدة للإسلام، ويجاهر بذلك، أطلق على زملائه الفرنكفونيين اسم عرب الخدمات الفرنسية وقد =

ص: 522

نتجه نحو الحكم العلماني؛ لأن الدولة عندنا علمانية أصلًا، إذ تدرس في السنوات الابتدائية الأولى بعض السور القرآنية، لينتفي بعدها كل توجيه ديني.

رأينا أثر الاستقلال، اتجاه الدولة نحو السماح لمن لا يصوم بالأكل علنا، وصدرت فتوى من إمام الجزائر أعفت عمال المجمعات الصناعية الكبرى -صناعات الحديد والبترول- من فريضة الصوم، فكان أن ساد المدن نوع من التسامح، واعتاد الناس ارتياد المقاهي والمطاعم،. . . وتجد حتى اليوم في العاصمة مطعمين أو ثلاثة تقدم الطعام في رمضان.

صحيح أنه لا يُمكن للملحدين وغير المؤمنين اليوم المطالبة بشيء، لكن هناك محاولة حاليًا لتشكيل اتحاد ملحدين جزائريين يمكنهم الدفاع عن أنفسهم كجماعة، يكفيها شيء من الإقدام والجرأة لتفرض احترامها، هناك الكثير ممن يتظاهرون باحترام فريضة الصوم، يبرحون مكاتبهم وأمكنة عملهم للتدخين في بيوت الخلاء فهذا مذل.

نحن الأقلية المظلومة -يقصد الملاحدة- يعترى التباعد علاقاتنا مع السلطة خلافًا للمسلمين المؤمنين، فمن السهل أن تكون مسلمًا في هذه البلاد ولكن من الصعوبة بمكان أن تكون ملحدًا، وعندما أتكلم عن أقلية غير مؤمنة أقصد أناسًا من فئة المثقفين معروفة بتوجهاتها الماركسية. . .)

(1)

.

ومن أشباه هذا اللون الفاقع في الاعتراف والافتخار بالإلحاد قول حسن حنفي عن نفسه مناقشًا أحد العلمانيين الذين اتهموه!! بالسلفية والتراثية والإيمان!! فأجاب حسن حنفي: (. . . أنت تعني الإيمان السلفي التاريخي. . . الخ والمتوارث عبر التاريخ، وهو الشيء الذي تخافه علي، لذلك فإن إيماني يكفرني، كما أنه يكفرك أيضًا. . . نحن منذ فجر النهضة العربية الحديثة وحتى الآن نحاول أن نخرج من الإيمان السلفي، إلّا أنهم

= صدق في ذلك، وهو كذلك مثلهم. أنظر: رأيهم في الإسلام ص 165، وأصوات ثقافية من الغرب العربي ص 113.

(1)

رأيهم في الإسلام: ص 169.

ص: 523

أطول باعًا في التاريخ منا وأكثر رسوخًا ووراءهم تراث حضاري ضخم، ونحن الأقلية كيف نستطيع أن نحجم هذا الأخطبوط الكبير؟. . . أعتقد أن الأخوة العلمانيين يستعجلون التقدم، إنهم يريدونه إيجابًا فقط، وأنا أريد أولًا أن أمنع عوائق التقدم، أي أعمل للتقدم سلبًا إذا جاز التعبير، فإذا ما استطعت ذلك، عندئذٍ أسلم المجتمع العربي إلى الإخوة العلمانيين لكي يبنوه إيجابًا، ومن ثم، فأنا مقدم لهم، أنا ماركسي شاب، وهم ماركسيون شيوخ، هذا تقسيم لأدوار العمل. . .، وفي ما يتعلق بمضمون الوحي وحادث الوحي، فكما بينت لكم، أنا مفكر وضعي، أقصد أنا وضعي منهجي ولست وضعيًا مذهبيًا، إن كل ما يخرج عن نطاق الحس والمادة والتحليل أضعه بين قوسين. . .)

(1)

.

ويقول أيضًا: (. . . لا تطالبني بأن أبحث في مقدمات النظرية التي تستهلكني وأن أنسى قليلًا الممارسات العملية، وأنا هنا ماركسي أكثر من الماركسيين، ان الحزب البروليتاري هو الوريث الوحيد للأفكار)

(2)

.

وفي الذي يسمونه شعرًا حديثًا من ألفاظ الامتداح والافتخار بالردة والجحود والاستكبار على دين اللَّه، ما يعطي صورة جلية عن موقف الحداثيين من دين الإسلام شريعته وعقيدته وحضارته وتاريخه وقيمه وسائر مقوماته.

ومن أمثلة ذلك أقوال البياتي الذي سبق نقلها وفيها أنه كان يعبد آلهة الماضي ثم تخلى عنها وتمرد عليها

(3)

، ثم دعوته للثورة على الدين تحت مسمى:

(ثر على الطغاة والآلهة العمياء

والموت بالمجان والقضاء)

(4)

.

(1)

الحداثة والإسلام: ص 218 - 219.

(2)

المصدر السابق: ص 221.

(3)

انظر: ديوان البياتي 1/ 180.

(4)

المصدر السابق 2/ 80.

ص: 524

ويمتدح الخال مبادئ الماركسية الإلحادية ويبجلها مقرًا بمضونها قائلًا:

(لا نور لا ظلام لا إله)

(1)

.

ويلتصق جبرا إبراهيم جبرا بمتاهته الاعتقادية، ويمتدح استمساكه بها وإصراره عليها، قائلًا تحت عنوان "دهاليز":

(ما كنت، لا ما كنت لأبغي

فرارًا من متاهتي

متاهة أهلي رفقتي)

(2)

.

ونحو قول الخال السابق قول نظيره النصراني الآخر توفيق صايغ:

(يأتين إن يأتين في ركب إله

ولا إله

تقنص خطو إله

ولا إله)

(3)

.

ونحوه قوله:

(عادت لقريتها ولا قيد ولا جناح ولا حيوان ولا إله)

(4)

.

ويتحدث عن نفسه جاحدًا وجود الإله العظيم القهار، مفتخرًا بذلك حيث يقول:

(لففت العباءة حولي

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 327.

(2)

المجموعات الشعرية لجبرا ص 136.

(3)

المجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 211 - 212.

(4)

المصدر السابق: ص 276.

ص: 525

تعكزت إلى القفر

إلى قمتي الجرداء

حيث الغبار ولا الإله)

(1)

.

ويقر بالهرطقة والإلحاد ويجعل ذلك دينًا له في قوله:

(حبي لك احتلام وديني هرطقة)

(2)

.

ويشهد على نفسه بأن قلبه خالٍ من الإيمان باللَّه في سياق افتخاره بذلك، وذلك في قوله:

(قفص قلبي، ولا طير، طير ولا قفص

قلبي عرش والمليك غاب

لم يغيبه انقلاب

قلبي بحر لم يعد يمشي عليه الألم

طارد الإله من بعد، وإمّا قضى

احتوى جثمانه، ثلاث ليال

قلبي قبر أفلت منه جثمان الإله)

(3)

.

ومن أنماط امتداح الكفر وتهوين أمره وجعله شيئًا عاديًا بل شيئًا محمودًا قول سعدي يوسف:

(حبيبتي كافرة إنها لم تتخذ غير الهوى دينا)

(4)

(1)

المصدر السابق: ص 304.

(2)

المصدر السابق: ص 365.

(3)

المصدر السابق: ص 409.

(4)

ديوان سعدي يوسف: ص 551.

ص: 526

ومن الاجتراء على الكفر والإلحاد: الاستخفاف بكل ما يتعلق باللَّه تعالى كقول أمل دنقل:

(خصومة قلبي مع اللَّه ليس سواه)

(1)

.

بل وصل به الأمر إلى حد تمجيد الشيطان وامتداحه والثناء عليه لاستكباره على أمر اللَّه وتمرده على مولاه، ولا ريب أن هذا الثناء على المتبوع الأكبر للحداثيين له أكبر الدلالة على عظم وفضاعة الانحراف الذي وصلت إليه الحداثة وأصحابها، يقول دنقل:

(المجد للشيطان معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

من علم الإنسان تمزيق العدم

من قال "لا" فلم يمت

وظل روحًا أبدية الألم)

(2)

.

أمّا نزار قباني فيعترف بإلحاده وكأنه يعترف بالفضيلة والصلاح:

(ماذا أعطيك؟ أجبني قلقي؟ إلحادي؟ غثياني)

(3)

وهكذا بكل استهانة بل وبكل افتخار يشهد على نفسه بالإلحاد، ومثل ذلك قوله في مقطع آخر:

(يا طعم الثلج وطعم النار

ونكهة كفري ويقيني)

(4)

.

وقوله:

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل: ص 344، 346.

(2)

المصدر السابق ص 110.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة: ص 406.

(4)

المصدر السابق 2/ 39.

ص: 527

(أعطيني الفرصة حتى أقنع حتى أؤمن حتى أكفر)

(1)

.

وقوله:

(ماذا تشعرين الآن هل ضيعت إيمانك مثلي

بجميع الآلهة، وتقاليد القبائل)

(2)

.

وهكذا تصوغ الحداثة الكفر والإلحاد والردة والوثنية في عبارات أقل ما يفهم منها أنها تهوّن هذه الأمور، وتجعل الاعتراف بها أمرًا بسيطًا لا أثر له ولا ضرر، بل يفهم منها أنها تحرض على الكفر والإلحاد وتحث عليه بمقدار ما تحذر من الإيمان والإسلام وتنفر منه، نحو قول قباني:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمة

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(3)

.

وقول محمود درويش:

(يوم كان الإله يجلد عبده

قلت يا ناس نكفر)

(4)

.

وللشيوعي معين بسيسو مقطوعة بعنوان "المرتد" فيها عبث بهذا المصطلح واستخفاف بمدلوله وامتداح لرأس الماركسية وطاغوتها لينين

(5)

.

وله مقطوعة يفتخر فيها بأنه من ورّاث أبي لهب

(6)

(1)

المصدر السابق 2/ 199.

(2)

المصدر السابق 2/ 338 و 3/ 603.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة 3/ 342.

(4)

ديوان محمود درويش: ص 145.

(5)

انظر: الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو: ص 308 - 313.

(6)

هو: عدو اللَّه ورسوله عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأشد =

ص: 528

وزوجته

(1)

، ويستهين فيها بالقرآن وبعذاب اللَّه الذي توعد به الكافر وزوجته، وذلك في قوله:

(ورثت عن أبي لهب

وزوجه، حمالة الحطب

ورثت جمرة وحبلًا من مسد

الحبل في أيدكمو

والجمر في يدي)

(2)

.

وقد قبس بعض هذا المعنى أحد أتباع الحداثة المحليين فظهر في أسمال الدفاع عن المرأة التي يراها مظلومة منذ أن نزل القرآن العظيم بسورة تبت التي تحدثت عن امرأة أبي لهب، فاعتبر الحداثي ذلك من الامتهان للمرأة وأن ذلك الامتهان في نظره حولها إلى سلعة تشتري وتباع وخاصة بعد ظهور القناع الذي هو الحجاب الإسلامي الذي شرعه اللَّه للمؤمنات، يقول من ضمن مقطوعة بعنوان "مفردات":

(اخرجوا فالشوارع غارقة

والملوحة في لقمة العيش

في الماء في شفة الطفل

في نظرة المرأة السلعة

الأفق متسع والنساء سواسية

= الناس عداوة له وللمسلمين آذى رسول اللَّه وأصحابه، وفيه نزلت سورة المسد، مات بعد وقعة بدر بأيام ولم يشهدها. انظر: الأعلام 4/ 12.

(1)

هي: أم جميل بنت حرب بن أمية، زوج أبي لهب، عدوة اللَّه ورسوله، والتي نزل فيها وفي زوجها سورة المسد.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو: ص 448.

ص: 529

منذ تبت وحتى ظهور القناع

تشتري لتباع وتباع

وثانيا تشترى لتباع)

(1)

.

فهذا النص والذي قبله يدلان على احترام الحداثيين للكفر وأهله ودفاعهم عنهم، واتخاذهم رموزًا يعكسون على أشخاصهم عقائدهم وأفكارهم وموافقتهم العملية، في مسعى دائب لهدم الإسلام والخروج على أحكامه وشرائعه، وفيها إحياء الوثنية والجاهلية الأولى واستمداد جذور تاريخية واعتقادية من شخصيات ومواقف تلك الجاهلية؛ لإنعاش الجاهلية المعاصرة التي حملتها العقول الصغيرة المتشربة روح المدنية الغربية بثقة عمياء واندفاع كبير ومحاكاة أكبر، تبتديء من العقائد والأفكار والاتجاهات وتنتهي إلى الرموز والأشكال والأساليب الفنية، ولقد اندرج هؤلاء مع أولئك في مخطط العداء لهذا الدين، وتهافتوا معهم ضمن أكذوبة عالمية الأدب، وإنسانية الفنون، وسار بهم الدولاب الغربي في طريق العداء لتراثهم وأمتهم وحضارتهم، وقبل ذلك كله عقيدتهم وملتهم.

وهكذا اندمجت شخصيات الحداثيين العرب في مخطط التنميط الأوربي عن طريق الغزو والاستلاب الثقافي والحضاري.

ومن كان يتصور أن أحدًا ممن ينتسب إلى هذه الملة يعلن إلحاده ويفاخر به؟.

لقد صور هذا التناقض بين الموقفين سميح القاسم في قوله:

(أنا قبل قرون

لم أتعود أن ألحد

لكني أجلد

(1)

مجلة اليمامة عدد 887: ص 60 - 61، وجريدة الشرق الأوسط في 15/ 8/ 1407 هـ: ص 13 بعنوان "مفردات" لمحمد جبر الحربي.

ص: 530

آلهة كانت في قلبي

آلهة باعت شعبي

في القرن العشرين)

(1)

.

ويذكر في موضع آخر كيف انتقل إلى ظلمات الإلحاد وتشرب الشيوعية:

(رفيقي آه يا إيفان

عميقًا كان صوت معلمي الجوال

وعذبًا كان

همى مطرًا على صحراء

تشربه إلى الأعماق

قلبي الأسود الصلصال

فأصبح وردة حمراء

وأصبح بعد عقم طال

جوهرة وكمثراة

وعصفورًا، ومصباحًا على الطرقات

رفيقي آه يا إيفان

وصارت نكبة النكبات

جناحي ثورتي الحمراء باسم حبيبي الإنسان

بكيت على أبي المغدور في دوار قريتنا

بكيت على حديقتنا

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 39.

ص: 531

بكيت على رفاق طفولتي، في وحشة المنفى

تلوت قصائدي الأولى

على جثث الحساسين

ودقت قبضتي باب السماء

ولذت بالدين

رثيت لوائي المدعوك بالطين

هجوت الشوك

يغتال الزنابق في بساتيني

سقطت لدى مزار الضوء

أعشى ضائع الخطوة

بلا حول ولا قوة

دعوت الأولياء الصالحين

فردت الوديان

إلهك كان يا هذا إلهك كان)

(1)

فهذا نمط من أنماط الاستلاب العقدي والانقلاب الفكري من عقيدة كان يؤمن فيها باللَّه إلى عقيدة تقول: لا إله، وهو مثال على امتداح الكفر ومذاهبه، ومجافاة الدين الحق وأهله.

ويعلن المقالح في إحدى المقطوعات بأنه (كفر بكل عقيدة)

(2)

، وأنه (عبد وجه الكفر والإيمان وسجد للأوثان)

(3)

.

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 286 - 288.

(2)

انظر: ديوان المقالح: ص 266.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 370.

ص: 532

والفيتوري يستخدم لفظ السماء رمزًا للدين والوحي والإيمان، ويعلن بأنه قد أصبح (كافرًا بالسماء والقضاء والقدر)

(1)

.

أمّا الحداثي العربيد محمد شكري فإنه يقرر على لسان أحد شخصيات مذكراته الشخصية الواردة بشكل روائي والتي سماها "الخبز الحافي"، قال:(. . . كل هذا يحدث بسبب الخمر والنساء في بلد مسلم يحكمه النصارى لسنا مسلمين ولسنا نصارى)

(2)

.

أمّا صنوه بن جلون فإنه يقول في روايته ليلة القدر: (. . . أنا أستند حاليًا إلى الحق في حرية التفكير وحرية الاعتقاد أو عدمه، هذا لا يعني سوى ضميري. . .)

(3)

.

ويقول على لسان امرأة: (. . . إنني في قطيعة مع العالم أو على الأقل مع ماضي الشخصي، لقد اقتلعت كل شيء إنني مقتلعة عن طواعية، وأحاول أن أكون سعيدة، أي أن أعيش حسب إمكانياتي، بجسدي الخاص، لقد اقتلعت الجذور والأقنعة، أنا تيه لا تمسكه ديانة، أسير لا مبالية وأعبر الأساطير -هذا ما يدعى بالحرية- نعم التجرد من كل شيء، وعدم امتلاك أي شيء لكي لا يملكني شيء، حرة أي مستعدة، سابقة على العقبات، وربّما سابقة على الزمن)

(4)

.

أمّا سليل مدارس الإلحاد، المتهوّك المفتون علاء حامد فقد أبدأ وأعاد من الإلحاد في روايته "مسافة في عقل رجل"، وقرر -مفتخرًا باكتشافاته الجاهلية- بأن الدين خرافات، ولا بد من صراع معه قبل أن يصرع الملايين

(5)

، وأنه لا رابط بين الحضارة والأديان بل اعتبر أن الأديان

(1)

انظر: ديوان الفيتوري 1/ 113.

(2)

الخبز الحافي: ص 185.

(3)

ليلة القدر: ص 60.

(4)

المصدر السابق: ص 63.

(5)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 78.

ص: 533

خرافات جعلت الإنسان في بدائية وتخلف

(1)

.

ويؤكد في وقاحة وخبث بأن الإيمان بكل ما في الأديان مما يسميه نقائص تحت حجة حظر النقاش لكل أمر يصعب على العقل إدراكه، هذا كله من الخرافات، ومن الذبح للتقدم ومن الإرهاب الفكري الديني

(2)

.

وفي صولاته الخائبة في الدفاع عن الإلحاد والكفر والمهاجمة للدين والإسلام خصوصًا، يحاول بكل وسائله الكليلة الهابطة أن ينكر وجود اللَّه صراحة، لأن اللَّه تعالى -حسب افترائه- ينكره الأغلبية من البشر، وأن الأقلية ما زالت تدرس وتتأمل

(3)

.

ثم يستنتج من كل مقدمات الادعائية الخرافية الباطلة أن الإنسان أصبح بسبب اعتناقه للأديان مجرد قطعة شطرنج على لوح الأديان، وأن الخلاص والتقدم في ترك الأديان، وأن شعوبًا بأكملها لا تدمن الأديان -حسب نص كلامه- ومع ذلك لم تنهر حضارتها ولم تتقوض دعائم بنيانها، بل استعاضت بالعلم فازدهرت حضارتها وتقدم إنسانها

(4)

.

ثم يقول ما نصه: (هذا معناه أن أحكام الأديان ليست سوى قطع شطرنج على مربع الحياة يُمكن في أي وقت من الأوقات استبدلالها بصيغة أكثر نضجًا واتساقًا مع العصر)

(5)

.

وفي سبيل تأليهه للإلحاد والكفر والجاهلية يقرر بأن الدين خرافات عاشت قرونًا تلوث طهارة العقل الجماعي

(6)

، و (أن الخوف الذي عشش على الفكر الجماعي بأنسجته العنكبوتية والذي دعمه الاتهام المشرع بالردة والكفر والإلحاد والتهديد بإهدار الدم، هذا الخوف دفع الفكر الجماعي إلى

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 112 - 13312.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 121.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 150، 153، 147، 156.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 195 - 209.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 159.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 196.

ص: 534

الارتماء في أحابيل الخرافات)

(1)

.

ولذلك ينادي بمحاكمة الدين وفق مقاييس عقله الكليل وذهنه المريض، محاكمة من دون خوف، ويدعو إلى إسقاط الدين بعيدًا عن خشية الحكم بالكفر والردة والإلحاد؛ لأن ذلك -كما يفهم من كل كتابه- هو الفخر والتحرر والعقلانية والتقدم والحضارة والازدهار

(2)

، بل إن عصر النهضة -كما يراه- جاء حين خلع الفكر شرنقة الدين وسيطرة رجال الدين

(3)

.

وهذه الرواية الخبيثة -التي يقبع صاحبها تحت ظل حماية تحرسه ليلًا ونهارًا- تفيض بالكفر البواح، وامتداح الكفر والوثنية والإلحاد، وبغض الدين وشتمه.

وهكذا تبدو لنا الحداثة في موقفها المشين من توحيد الألوهية ومن الإيمان باللَّه العلي العظيم وعبادته، وهي صورة قمئية سوداء تدل على انحدارٍ فكري وتلوث اعتقادي، ومضادة كاملة لدين اللَّه الذي ارتضاه.

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}

(4)

.

• • •

(1)

المصدر السابق: 197.

(2)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 197.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 199.

(4)

الآيتان 32 - 33 من سورة التوبة.

ص: 535

‌الفصل الثالث الانحرافات المتعَلِّقة بالأَسْماء والصِّفات

الإيمان بأسماء اللَّه وصفاته أحد أركان الإيمان باللَّه تعالى، وأحد أقسام توحيد اللَّه تعالى.

وأركان الإيمان باللَّه تعالى هي: الإيمان بوجود اللَّه وربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته -جلَّ وعلا- وأقسام توحيد اللَّه ثلاثة هي: توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.

ولتوحيد الأسماء والصفات منزلة عالية في دين اللَّه ومكانة عظيمة، ولا يصح إيمان الإنسان ولا تستقيم عبادته حتى يكون على علم ويقين بأسماء اللَّه تعالى وصفاته، ليؤمن على بصيرة ويعبد اللَّه على الوجه الصحيح، ومن أجل هذه المنزلة وهذه المكانة اهتم علماء الإسلام بتوضيح حقائق وقواعد هذا التوحيد، وبينوا درجته وأقسامه وأحكامه، وأحكام المخالفين للحق الثابت فيه بالأدلة.

وأهم قواعد الإيمان بهذا التوحيد ما يلي:

أولًا: أسماء اللَّه تعالى كلها حسنى غاية الحسن، كاملة نهاية الكمال، كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}

(1)

(1)

الآية 180 من سورة الأعراف.

ص: 536

وكمالها في ذاتها وفيما تتصمنه من صفات، كمال لا نقص فيها يوجه من الوجوه، والحسن في أسماء اللَّه تعالى باعتبار كل اسم على انفراده، باعتبار جمعه إلى غيره.

وأسماء اللَّه تعالى أعلام وأوصاف، أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني.

وإثبات أسماء اللَّه تعالى يتضمن ثلاثة أمور، أحدها: ثبوت ذلك الاسم للَّه عز وجل. والثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها للَّه عز وجل. والثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.

وتدل أسماء اللَّه تعالى على ذات اللَّه وصفاته دلالة مطابقة وتضمن والتزام.

ولا يصح إثبات اسم للَّه تعالى إلّا بما أثبته الوحي المعصوم، وتسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حق اللَّه تعالى وعدوانٌ وظلمٌ وضلالٌ.

والإلحاد في أسماء اللَّه تعالى هو الميل بها عما يجب فيها وهو أنواع:

الأول: إنكار شيء من أسمائه تعالى أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، وهذا فعل أهل التعطيل.

الثاني: جعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبه.

الثالث: أن يسمي اللَّه تعالى بما لم يسمه به نفسه.

الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز واللات من الإله.

الخامس: أن يسمي المخلوقين بأسماء اللَّه الخاصة به -جلَّ وعلا- مثل اللَّه والرحمن.

كل هذا من الإلحاد في أسمائه تعالى، وقد قال -جلَّ وعلا-:

ص: 537

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}

(1)

.

ثانيًا: للَّه تعالى صفات ثابتة على الحقيقة، وهي كمال كلها لا نقص فيها بوجه من الوجوه مطلقًا، ودل على ذلك العقل والنقل والفطرة.

وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق اللَّه تعالى مثل النوم والنسيان والجهل والعمى والموت والصاحبة والولد ونحو ذلك.

ومن وصف اللَّه بالنقص فهو كافر كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}

(2)

، وقوله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)}

(3)

.

وقد نزه اللَّه نفسه عما يصفه به أهل الكفر والإلحاد من النقائص فقال -سبحانه-: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}

(4)

.

وأفعال اللَّه تعالى لا منتهى لها وكذلك أقواله -جلَّ وعلا- كما أخبر عن نفسه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}

(5)

.

وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، فنصف اللَّه بما وصف به نفسه مثل المجيء والإتيان والأخذ والإمساك ولا نسميه بها فلا نقول: الجائي والآتي والآخذ والممسك.

(1)

الآية 180 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 64 من سورة المائدة.

(3)

الآية 181 من آل عمران.

(4)

الآيات 180 - 182 من سورة الصافات.

(5)

الآية 27 من سورة لقمان.

ص: 538

وصفات اللَّه الثبوتية هي التي أثبتها الباري عز وجل لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يجب فيها ثلاثة أمور:

الأول: إثباتها كما جاءت حقيقة على الوجه اللائق باللَّه تعالى.

الثاني: نفي التشبيه، فلا يشبهه أحد في صفاته -جلَّ وعلا-.

الثالث: قطع الكيف، وهو أن لا يسأل عن اللَّه تعالى بكيف، ولا يقال: كيفية سمعه كذا، أو استوائه، أو وجهه.

ولا يعني ذلك أن صفات اللَّه لا كيفية لها، بل لها كيفية ولكننا لا نعرفها فنفوض علم كيفية الصفات إليه.

والصفات السلبية ما نفاها اللَّه تعالى عن نفسه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما نفاه فهو نقص يجب تنزيه اللَّه عنه -جلَّ وعلا-، ويجب في النفي أمران:

الأول: نفيها عنه سبحانه وتعالى.

الثاني: إثبات ضدها على الوجه الأكمل؛ لأن النفي المحض ليس بمدح إلّا إذا تضمن ما يدل على الكمال، والنفي المحض قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالًا، كما لو قلت: الجدار لا يظلم.

ومن الصفات المنفية عن اللَّه تعالى مما جاء في القرآن العظيم قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}

(1)

، فيجب نفي الموت عن اللَّه تعالى وإثبات كمال حياته، وقوله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}

(2)

، فيجب نفي الظلم عنه -جلَّ وعلا- لثبوت كمال عدله تعالى.

ويلزم إثبات صفات اللَّه تعالى من غير تمثيل ولا تكييف، فالإثبات ضده التعطيل ونفي الصفات، والتمثيل هو اعتقاد مماثل للَّه تعالى في صفاته من صفات المخلوقين.

(1)

الآية 58 من سورة الفرقان.

(2)

الآية 49 من سورة الكهف.

ص: 539

والتشبيه مثل التمثيل وإن كان التمثيل أشمل.

أمّا التكييف فهو أن يعتقد أن كيفية صفات اللَّه كذا من غير أن يقيدها بمماثل، أو يسأل عن صفاته بكيف، وهذا كل باطل، فكل كيفية تقدرها الأذان لصفات اللَّه تعالى فإنها باطل وكذب وضلال، واللَّه أعلى وأعظم وأجل من كل ذلك.

ويجب اعتقاد أن صفات اللَّه توقيفية فلا نثبت له من الصفات إلّا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، إمّا تصريحًا بالصفة كالعزة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين، وإمّا تضمن الاسم لها مثل الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع.

وإمّا التصريح بفعل أو وصف دال عليها كالاستواء على العرش، والانتقام من المجرمين كما قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}

(1)

، وقوله تعالى:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}

(2)

.

ومن الإلحاد في صفات اللَّه تعالى وصفه تعالى بما لم يصف به نفسه أو إضافة شيء ينزه اللَّه عنه أو نفي صفات اللَّه الثابتة له، أو السخرية بأسمائه وصفاته أو وصف غير اللَّه بالأوصاف الخاصة باللَّه تعالى.

كل ذلك انحراف وضلال وإلحاد في صفاته -جلَّ وعلا-

(3)

.

وإذا نظرنا إلى الأدب المعاصر، وأدب الحداثة خاصة فإننا نجد أنهم قد انغمسوا في أخبث وأبشع أنواع الضلال في أسماء اللَّه وصفاته.

بل نجد أنهم اتخذوا من الإيمان باللَّه تعالى هدفًا أوليًا لحربهم الشرسة على الإسلام والمسلمين، فإنهم لم يكتفوا بجحد وجود اللَّه تعالى وربوبيته، ولا بجحد ألوهيته والشرك فيها، حتى وصلوا إلى التعدي الصريح على ذات اللَّه تعالى في أسمائه وصفاته، ويتمثل ذلك في عدة أوجه هي:

(1)

الآية 5 من سورة طه.

(2)

الآية 22 من سورة السجدة.

(3)

انظر: القواعد المثلى في صفات اللَّه وأسمائه الحسنى للشيخ محمد بن صالح العثيمين: ص 5 - 29.

ص: 540

‌الوجه الأول: وصف اللَّه تعالى وتسميته بأسماء وأوصاف النقص، ووصفه بما لم يصف به نفسه، ووصفه بما نفاه عن نفسه وإضافة أشياء إليه تهكمًا باللَّه تعالى أو تشريفًا لأشياء لم يشرفها اللَّه تعالى:

وشواهد هذا الضرب من الانحراف كثيرة جدًا في كلام الحداثيين، وبداية انحرافهم في هذا الباب من اعتبارهم أن صفات اللَّه تعالى مشكلة كما عبر عن ذلك محمد أركون في ندوة الإسلام والحداثة

(1)

.

ومن تقريرهم أن الصفات الثابتة في الوحي والمأثور عن الصحابة إنّما كان تأثرًا بالمحيط الذي عاشوا فيه كما عبر عن ذلك أحدهم بقوله: (لم يكن محمد ولم يكن معاصروه معتزلة ولا كانوا أشاعرة، ولا فلاسفة، ولا بد أن في المعاني التي تداولوها من محيطهم والتي أسندوها إلى ألفاظ الألوهية والجبروت والغفران واليد والعرش وغيرها من عبارات الذات والصفات الإلهية تتميز تميزًا كبيرًا عما أسند إليها لاحقًا في المجتمعات المتمدنة في دمشق وبغداد ونيسابور وقرطبة)

(2)

.

ويتضمن هذا النص عدة افتراءات على الحقيقة:

أولها: الزعم بأن المعاني التي تداولها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ليست من وحي اللَّه وإنّما هي من المحيط الذي عاشوه، وضرب أمثلة لذلك بالألوهية والصفات، وهذا يؤدي إلى مقصده الإلحادي الشنيع في جعل النص أسطورة وتاريخًا فحسب.

ثانيها: يتضمن كلامه أن ما أسند إلى صفات اللَّه تعالى لاحقًا في المجتمعات المتمدنة -حسب وصفه- أصوب وأصلح وأحكم مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقده الصحابة.

(1)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 361.

(2)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 263 من مقال بعنوان النص والأسطورة والتاريخ لعزيز العظمة.

ص: 541

ثالثها: أن السياق في مقاله كله يوصل إلى نفي الصفات حتى بالصورة الابتداعية التي انضافت في المجتمعات المتمدنة في دمشق وبغداد ونيسابور وقرطبة، والمطلع على بقية المقال يتضح له ذلك بجلاء.

رابعها: أن فلسفة الحداثة في نفي صفات اللَّه تعالى أو وصفه بما لا يليق به -جلَّ وعلا- تقوم أساسًا على نظرتهم الإلحادية لنصوص الوحي المعصوم.

واعتمادًا منهم على أصول النظر المادي العقلاني الإلحادي، جعلوا نصوص الوحي من قرآن وسنة مجرد أساطير، وهذا ما صرح به نصر حامد أبو زيد في مقالة له بعنوان "النصوص الدينية بين التاريخ والواقع" حيث قال:(تتحدث كثير من آيات القرآن عن اللَّه بوصفه ملكًا بكسر اللام له عرش وكرسي وجنود وتتحدث عن القلم واللوح، وفي كثير من المرويات التي تنسب إلى النص الديني الثاني -الحديث النبوي- تفاصيل دقيقة عن القلم واللوح والكرسي والعرش، وكلها تساهم -إذا فهمت فهمًا حرفيًا- في تشكل صورة أسطورية عن عالم ما وراء عالمنا المادي المشاهد المحسوس. . .، لكن من غير الطبيعي أن يصر الخطاب الديني في بعض اتجاهاته على تثبيت المعنى الديني عند العصر الأول، رغم تجاوز الواقع والثقافة في حركتهما لتلك التصورات ذات الطابع الأسطوري)

(1)

.

وهكذا تتأسس النظرة الإلحادية نحو الدين كله في سياق من التأويل الإلحادي والنظرة الفكرية المادية، ومن هذا الأساس ونحوه تنبثق النظرة الحداثية نحو نصوص الوحي الشريف، مسترسلة نحو دركات من الكفر البواح، والضرب في أوهام المادية، بعيدًا عن أي دلالة عقل أو برهان تجريب أو حس أو فطرة، أمّا النقل فهم أعداؤه ومناقضوه فلا دلالة له عندهم على الإطلاق، وهذا من ضلال أعمالهم كما قال اللَّه تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}

(2)

، وهذا الإغراق الحسي في الماديات هو الذي وصفه اللَّه تعالى في قوله -جلَّ وعلا-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م: ص 392، ونحوه: ص 393.

(2)

الآية 1 من سورة محمد.

ص: 542

يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}

(1)

.

وقد ساقتهم فلسفتهم المادية الإلحادية، ومحاكاتهم لأسيادهم الملاحدة الغربيين إلى التنافس في انتحال أقوالهم، والتعبير عنها باللسان العربي، وأصبحت إمكانية التحرر من هذه التبعية معقدة متداخلة تداخل أنماط محاكاتهم للغربيين، في ظل مزاعم عريضة من الاستقلال والإبداع والتجديد والتحديث وعدم التقليد، وغير ذلك من الدعاوى التي تؤكد البراهين أنهم على عكسها تمامًا، وما رأينا ضلالًا ينفثه المستغربون العرب إلّا ووجدنا أصوله عند أشياخهم وأساتذتهم من الغربيين، بل ربّما وجدناه بنصه وحرفه مترجمًا ترجمة شوهاء حتى أن بعضهم رصد بعض علائم هذه الظاهرة في كتابات سادن صنم الحداثة أدونيس فأصدر كتابًا بعنوان "أدونيس منتحلًا"

(2)

.

ولا غرو أن يكون التلاميذ تبعًا لأساتذتهم، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الانبهار عند التلاميذ إلى حد الصدمة، ومقدار الاستعلاء عند الأساتذة إلى حد الإذلال والاستخفاف، ثم مقدار العداء لهذه الأمة دينًا وتراثًا وتاريخًا وحضارة ومستقبلًا، فأضحت الحداثة مركزًا خفيًا أو جليًا لحمل رايات هذا العداء، وبث سموم هذه الأحقاد، يهودية الأصل نصرانية الراحلة.

وليس هنا مجال عرض هذه الأهداف المتشابكة والمصائر المتشابهة، ولكن المراد إثبات أن ضلال وانحراف الحداثة وأتباعها آت من أصقاع الكفر والضلال، ليُغرس بالهيمنة والإرهاب والبهرج في جسد الأمة المسلمة التي ما عرفت منذ آمنت باللَّه إلّا الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

وما انحراف الحداثيين العرب في توحيد الأسماء والصفات إلّا أحد

(1)

الآية 12 من سورة محمد.

(2)

كتاب "أدونيس منتحلًا" لكاظم جهاد، إصدار إفريقيا الشرق وهو يقع في 178 صفحة أثبت خلالها هذا الباحث الحداثي سرقات وانتحالات أدونيس الحرفية.

ص: 543

ألوان هذا العدوان المغلف بالثقافة والفن والشعر والإبداع.

ولا يوجد مسلم يؤمن باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا وهو يسمع أو يقرأ هذه الدمامل الاعتقادية الخبيثة، ثم لا ينحاز إلى صف المؤمنين يقاتل حمية لدينه ودفاعًا عن أقدس وأشرف وأغلى شيء، فليس للحياد في هذه القضايا مجال؛ إذ الحياد في حد ذاته ارتكاس وضلال وفساد اعتقادي، فكيف بالدفاع عن الحداثة وأهلها، وتحسين الظن بهم والبحث عن محاسنهم وإطراء أعمالهم وأقوالهم، لا شك أن فاعل ذلك هو مثلهم كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}

(1)

.

وقال -جلَّ شأنهُ-: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}

(2)

.

ولا ريب أن الحداثة قد انبنت على صيغة إلحادية تضاد الإيمان تمام المضادة، وتناقض التوحيد تمام المناقضة، وقد مرَّ معنا في الفصلين السابقين ما يؤكد ذلك، وفي هذا الفصل سنطلع على أنواع أخرى من بشاعة المعتقدات الحداثية بشواهد منقولة من كتب أصحابها مباشرة.

ولنبدأ بمؤسسي الحداثة الشعرية العربية، ونرى كيف اجترأوا على اللَّه تعالى، ووصفوه بأبشع أنواع النقص، وكانوا بذلك فاتحة الضلال للحداثيين الذين جاؤوا من بعدهم، والسياب ونازك والبياتي هم طليعة هذا الشر

(1)

الآية 68 من سورة الأنعام.

(2)

الآيات 138 - 140 من سورة النساء.

ص: 544

المستطير، وأقوالهم المنحرفة في الأسماء والصفات كثيرة.

فمن أقوال السياب: ما تفوه به من كلام موجه إلى اللَّه تعالى يصفه فيه بالإحراج والظلم، ويسأله باستخفاف، ويجعل له قلبًا يسعد ويخيب، ويجعل له تاجًا يهوي، وعرشًا يخر، وذلك في قوله:

(بكاؤك وارتعابك فيه للَّه إحراج

وباسمهما أسائله الحساب: أتضرع الأطفال

لتشهد لوعة الآباء؟ تسعد قلبك الآمال

تخيب!!

يكاد يهوى من صراخي عنده التاج.

ويُهدم عرشه ويخر، تُطفأ حوله الآباد والآزال

ويقطر لابن آدم قلبه ألمًا وينفطر)

(1)

.

ويصف اللَّه بأن له خاطرًا، وذلك في قوله:

(هل أن جيكور كانت قبل جيكور

في خاطر اللَّه. . في نبع من النور؟)

(2)

.

ويخاطب جيكور قريته العراقية ويتعدى على اللَّه فيجعل وجهه -جَلَّ وَجْهُ رَبّي- من قدره وذلك في قوله:

(لولاك يا جنتي الخضراء، يا داري

لم تلق أوتاري

ريحًا فتنقل آهاتي وأشعاري

(1)

ديوان السياب: ص 167.

(2)

ديوان السياب: ص 188.

ص: 545

لولاك ما كان وجه اللَّه من قدري)

(1)

.

ويسأل عن جيكور ومن يُرجع إليها اللَّه تعالى:

(ومن يُرجع اللَّه يومًا إليها)

(2)

.

ويصف اللَّه بأنه في القدس وسيناء، تعالى اللَّه، وذلك في قوله:

(تثاءب ظلها وأصيلها بين العقارب والسنانير

وبين المسرج الظلماء

والممتد حتى اللَّه في القدس وفي سيناء)

(3)

.

ويجعل وجه اللَّه تعالى ملموحًا في بعض مخلوقاته، بل يجعله بعضًا من مخلوقاته، وذلك في قوله:

(وفي الصباح يا مدينة الضباب

والشمس أمنية مصدور تدير رأسها الثقيل

من خلل السحاب

سيحمل المسافر العليل

ما ترك الداء له من جسمه المذاب

ويهجر الدخان والحديد

لعله يلمح في درام من نهر

يلمح وجه اللَّه فيها، وجهه الجديد

في عالم النقود والخمور والسهر)

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 190.

(2)

المصدر السابق: ص 415.

(3)

المصدر السابق: ص 215.

(4)

المصدر السابق: 299 - 300.

ص: 546

ويصف اللَّه تعالى بالفزع والنوم، وذلك في قوله:

(في ذلك السكون ليس فيه

إلّا الرياح العاويه

سيفزع اللَّه من الأموات

ويسحب الموت ويغفو فيه

مثل دثار في الليالي الشاتيه)

(1)

.

ويقرر أن اللَّه التقى هو والإنسان والأموات والأحياء، وذلك في قوله:

(يا من حملت الموت عن رافعيه

من ظلمة الطين التي تحتويه

إلى سماوات الدم الواريه

حيث التقى الإنسان واللَّه والأموات والأحياء في شهقةٍ

في رعشة للضربة القاضيه)

(2)

.

ويصف اللَّه بأنه تمسه الأيدي -جلّ وتقدس-، وذلك في قوله:

(. . . حتى تروّى من مسيل الدماء

أعراق كل الناس، كل الصخور

حتى نَمس اللَّه.

حتى نثور)

(3)

.

أمّا قصيدته التي بعنوان "في المغرب العربي" فمليئة بالكفر والسخرية باللَّه تعالى ودينه ورسوله، ووصف اللَّه تعالى بالموت والبكاء والمشي على

(1)

ديوان السياب: ص 305.

(2)

المصدر السابق: ص 379.

(3)

المصدر السابق: ص 388.

ص: 547

الأرض مجروحًا يستجدي، إلى آخر ما في هذه القصيدة من أوصاف إلحادية فاضحة فاسقة، وسوف أسوق أكثرها لبيان أن الحداثة من أول نشأتها كانت تتيه في غواية الإلحاد والكفر، يقول السياب:

(قرأت اسمى على صخره

هنا، في وحشة الصحراء

على آجرة حمراء

على قبر، فكيف يحس إنسان يرى قبره؟

يراه وإنه ليحار فيه:

أحي هو أم ميتٌ؟ فما يكفيه

أن يرى ظلًا له على الرمال

كمئذنة معفرة

كمقبرة

كمجد زال

كمئذنة تردد فوقها اسم اللَّه.

وخُط اسم له فيها

وكان محمد نقشًا على آجرة خضراء

يزهو في أعاليها

فأمسى تأكل الغبراء

والنيران من معناه

ويركله الغزاة بلا حذاء

بلا قدمِ

وتنزف منه، دون دمِ

ص: 548

جراح دونما ألم -

فقد مات

ومتنا فيه، من موتي ومن أحياء

فنحن جميعنا أموات

أنا ومحمد واللَّه.

وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفرةٍ

عليها يكتب اسم محمد واللَّه.

على كسرة مبعثرة

من الآجر والفخّار

فيا قبر الإله، على النهار

ظلٌ لألف حريةٍ وفيل

ولون أبرهة

وما عكسته منه يد الدليل

والكعبة المحزونة المشوهة. . .

. . . إله الكعبة الجبار

تدرع أمس في ذي قار

بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار

إله محمد وإله آبائي من العرب

تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار

وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار

وأبصرناه يهبط أرضنا يومًا من السحب:

ص: 549

جريحًا كان في أحيائنا يمشي ويستجدي

فلم نضمد له جرحًا

ولا ضحّى

له منا بغير الخبز والإنعام من عبد

وأصوات المصلين ارتعاش من مراثيه

إذا سجدوا ينزُّ دمُ

فيسرع بالضماد فمُ:

بآيات يغض الجرح منها خير ما فيه

تداوي خوفنا من علمنا أنا سنحييه

إذا ما هلل الثوار منا "نحن نفديه"

أغار من الظلام على قرانا

فأحرقهن سرب من جرادِ

كأن مياه دجلة حيث ولى

تنم عليه بالدم والمدادِ

أليس هو الذي فجأ الحبالى

قضاه، فما ولدن سوى رمادِ؟

وأنعل بالأهلة في بقايا

مآذنها، سنابك من جوادِ؟

وجاء الشام يسحب في ثراها

خطى أسدين جاعا في الفؤادِ؟

فأطعم أجوع الأسدين عيسى

ص: 550

وبل صداه من ماء العمادِ

وعض نبي مكة، فالصحارى

كل الشرق ينفر للجهاد؟

أعاد اليوم، كي يقتص من أنا دحرناه؟

وإن اللَّه باقٍ في قرانا، ما قتلناه؟

ولا من جوعنا يومًا أكلناه؟

ولا بالمال بعناه. . .

. . . أهذا لون ماضينا

تضوّأ من كوى الحمراء

ومن آجرة خضراء

عليها تكتب اسم اللَّه بقيا من دم فينا؟

. . وهب محمد وإلهه العربي والأنصار

إن ألهنا فينا)

(1)

.

ولا يخفى على ذي لب وإيمان كم اترعت هذه المقطوعة من انحرافات وضلالات، ولكن المنافقين لا يفقهون، ولذلك تراهم يدافعون عن الذين يختانون أنفسهم وبإلههم العظيم يكفرون.

وفي مقطوعة أخرى يصف اللَّه بالثورة، ويخاطبه كأنما يخاطب بشرًا، وذلك على لسان حفار القبور:

(وهز حفار القبور

يمناه في وجه السماء، وصاح: رب! أما تثور)

(2)

.

(1)

ديوان السياب: ص 394 - 402.

(2)

المصدر السابق: ص 546.

ص: 551

ويصف اللَّه تعالى بالنشوة، وذلك في قوله:

(. . . تلتف ساق بساق وهي خادرةٌ

تحت الموائد تخفي نشوة البشر

عن نشوة اللَّه من همسٍ ومن سمر

في خيمة القمر)

(1)

.

ويصف اللَّه تعالى بنقائص منها أنه -تعالى- رآه المقبور رأي العين ورآه يبكي بكاء رحمة واعتذار، تعالى اللَّه وتقدس، يقول السياب عن أخيه المقعد حميد الذي مات:

(يا ويلنا للمصير!!

ينام ورجلاه مطويتان

شهودًا على الداء في قبره

إذا ما رأى اللَّه رأي العيان

وقد سار زحفًا على صدره

فأي انسحاق وأي انكسار

يشعان من عينه الضارعة!!

سيبكي له اللَّه من رحمة واعتذار)

(2)

.

هذا ما لدى السياب، أمّا نازك الملائكة فإنها تصف الرب بالكآبة في قولها:

(وأضحك ضحكة رب كئيب تَمرد مخلوقه الكافر)

(3)

(1)

المصدر السابق: ص 662.

(2)

المصدر السابق: ص 698، 699.

(3)

ديوان نازك الملائكة 2/ 53.

ص: 552

أمّا عبد الوهاب البياتي فقد انغمس إلى آذانه في هذا الضرب من الانحراف، وتنوعت عباراته فيه ولا غرو أن يكون كذلك وهو الذي اعتنق الشيوعية عقيدة، واتخذ نظامها مسلكًا، ودافع عن تاريخها ورموزها، وسعى في نشرها، وجعلها غاية شعره وكتاباته، واندمج في مؤسساتها وبنياتها المعرفية والفكرية اندماجًا كاملًا، وانفجرت خبائثه الاعتقادية ضد الإسلام والمسلمين، في تعمد للمحو والهدم كأساس لبداياته الحداثية، ومشاريعه الإبداعية المناقضة لملة الإسلام عقيدة وشريعة.

ومن هذا الضرب مما له علاقة بهذا الفصل أقواله تحت عنوان "يا إلهي" ناسبًا الخبز والخمر إلى اللَّه تعالى ومسميًا اللَّه تعالى إله الليالي، وجاعلًا الصلاة سكرًا، وذلك في قوله:

(يا إلهي قضاؤك - العدل يجري أتراه على الورى أم عليا

خبزك المشتهى وخمرك سالت قطرة من دم على شفتيا

أين عيناك يا إله الليالي لتصب النعاس في مقلتيا

كيف أرقى لعرشك المتعالي أبسكر الصلاة أم بالحميا)

(1)

ولعل هذه القصيدة تعد عند الحداثيين من مثاليات البياتي وإيمانياته المتافيزيقية -حسب تعبيرهم- وهي كما يظهر من ألفاظها مترعة بهذه الألفاظ المنحرفة.

وفي موضع آخر ينسب البياتي إلى اللَّه الولد -تعالى اللَّه عما يقول علوًا كبيرًا- يقول:

(يغني، عمر الخيام، يا أخت

حقول الزيت، واللَّهُ

يغني طفله المصلوب في مزرعة الشاه)

(2)

.

(1)

ديوان البياتي 1/ 115.

(2)

المصدر السابق 1/ 296.

ص: 553

ومن أبشع وأشنع أقواله، قوله الخبيث:

(اللَّه في مدينتي يبيعه اليهود

اللَّه في مدينتي مشرد طريد

أراده الغزاة أن يكون

لهم أجيرًا

شاعرًا

قواد

يخدع في قيثاره المذهب العباد

لكنه أصيب بالجنون

لأنه أراد أن يصون

زنابق الحقول من جرادهم

أراد أن يكون

الملك لك

ما أبعد الطريق

الحمد لك

وما أقل الزاد

اللَّه في مدينتي يباع في المزاد

دعارة الفكر

هنا، رائجة، دعارة الأجساد)

(1)

.

أبعد هذا الشناعات الاعتقادية والخبث الفكري والانحراف المبدئي

(1)

المصدر السابق 1/ 368 - 369.

ص: 554

يحق لأحد من المسلمين أن يقول عن البياتي أنه لم يتعمد جرح عقيدة أمته

(1)

.

ويقول البياتي أيضًا:

(اللَّه والشيطان

وريث هذا العالم الإنسان

يحوم حول سوره عريان

فاكهة محرمة

ومدن بلا ربيع مظلمة)

(2)

.

ويقول في تهكم وتنقص مقصود:

(من ترى ذاق، فجاعت روحه، حلو النبيذ

وروابي القارة الخضراء والمطاط والعاج وطعم الزنجبيل

وعبير الورد في نار الأصيل

ورأى اللَّه بعينيه، ولم يملك على الرؤيا دليل

فأنا في النوم واليقظة من هذا وذاك

ذقت لما هبطت عشتار في الأرض ملاك)

(3)

.

لقد أضحت عشتار لديه محور الآمال والمطالب والمقاصد، فهي فوق النقد، وهي مفتاح الرؤيا لكل شيء، حتى ليزعم أنه يرى اللَّه بعينيها!!.

وهو أمر عجيب من ماركسي تكونت ثقافته تحت مبدأ الماركسية "لا إله

(1)

انظر: القصيدة الحداثية وأعباء التجاوز: ص 154 لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، حيث صرح بأن البياتي لم يتعمد جرح عقيدة أمته، ولعله لم يطلع على مثل هذه النصوص الصارخة في ضلالها وفسادها وجرأتها على الأمة وعقيدتها، ولكن ما كان ينبغي له أن يقدم على مثل هذا الأسلوب الجازم بتبرئة هذا الرجل المجترئ الذي أتى شيئًا إدًا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا.

(2)

ديوان البياتي 2/ 85.

(3)

المصدر السابق 2/ 208.

ص: 555

والحياة مادة" ووثني يخاطب عشتار في تبجيل عبادي، ثم يزعم أنه يرى اللَّه!!.

غير أن إيراده لاسم اللَّه الجليل الكريم ليس إلّا من باب التدنيس والتنقص، ولذلك اتبع دعواه بقوله: ولم يملك على الرؤيا دليل، وهي عبارة تربط علاقات الاعتقاد الماركسي بالوثني، في سبيل جحد ونكران، ملبسٍ بلباس غامض موهم وعبارات ملتوية.

ويتصور البياتي أن اللَّه تعالى كواحد من البشر يُمكن الاختفاء عنه فيقول:

(وأنا أحمل في الشارع جثة

مخفيًا وجهي عن اللَّه وعنك)

(1)

.

ومن جنس هذه الأقوال الواصفة للَّه تعالى بالنقص قوله:

(على صدرك استلقي

على صياح ديك الفجر في مملكة اللَّه وفي مملكة السحر وفي

أصقاعها أواصل الرحيل)

(2)

.

ويتحدث عن اللَّه تعالى باستخفاف حداثي صارخ، مصورًا أن اللَّه تعالى يُبحث عنه في مدينة العشق، وذلك في قوله:

(من أعطاك حق البحث في مدينة العشق عن اللَّه؟)

(3)

.

وعلى النمط نفسه يقرن بين اللَّه تعالى والأصقاع الوثنية والموسيقى والثورة والحب، وهو إقران يقصد منه التنقص والتدنيس فيقول:

(. . . ارحل تحت الثلج

(1)

ديوان البياتي 2/ 219.

(2)

المصدر السابق 2/ 293.

(3)

المصدر السابق 2/ 355.

ص: 556

أواصل موتي في الأصقاع الوثنية، حيث الموسيقى والثورة

والحب وحيث اللَّه)

(1)

.

ونحو ما سبق قوله:

(لغتي صارت قنديلًا في باب اللَّه.

. . . فيبقى صوتي

قنديلًا في باب اللَّه)

(2)

.

ويجعل صفة البصر للَّه تعالى موضع تندرٍ ووهم، حيث يجعل إثباتها من كلام أحد المجانين، وذلك في قوله:

. . . انتظريني -قال المجنون- وظلي ميتة بين الموتى، واقتربي

من ضوء الشمعة، إن اللَّه يرانا ويرى وجهي الخائف مقتربًا من وجهك)

(3)

.

وينتقص الباري سبحانه غاية التنقص في قوله:

(. . . اتخطى الوضع البشري، ادور وحيدًا حول

اللَّه وحول منازله في الأرض. . .

. . . موسيقى أعمى ينزف فوق الأوتار دمًا، يرفع مثلي يده في صمت فراغ الأشياء، ويبحث عن شيء ضاع، يدور وحيدًا حول اللَّه، بصوت فمي أو فمه يصرخ. . .

. . . ويقول وداعًا لمآذن قصر الحمراء، يدور وحيدًا حول اللَّه.

وحول منازله في الأرض. . .)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 376.

(2)

ديوان البياتي 2/ 378 - 379.

(3)

المصدر السابق 2/ 382.

(4)

المصدر السابق 2/ 403، 404، 405.

ص: 557

إن الدمار الحداثي والانحطاط المسترسل في كتابات وأعمال أهل الحداثة، يتطلب وقفات كشف ونقد وفضح متواصلة بلغة واضحة جلية لا تعرف المجاملة على حساب الدين، ولا تخضع لمقاييس أهل التذويب والتلفيق الذين يقولون: إن أردنا إلّا إحسانًا وتوفيقًا؛ فإنه لا يُمكن التوفيق بين الكفر والإيمان كما لا يُمكن لمن أراد الشرب أن يخلط في إنائه بين الماء والبول.

والنصوص المذكورة آنفًا هي من أقوال الرعيل الأول من الحداثيين، وأول من سن سنن الحداثة الشعرية في بلاد العرب، وكان لهم عميق الأثر والإسهام الفعال المؤثر في تبديل المفاهيم والمضامين الشكلية والفكرية، والذين جاؤوا من بعدهم كانوا على منوالهم، بل بعضهم كان أشد اعتناقًا للانحراف وأكثر عداوة للدين من أولئك الأوائل.

ومن الجيل الثاني من شعراء الحداثة صلاح عبد الصبور وله أيضًا إسهاماته الريبية المنحرفة، وله دوره الكبير الفعال وخاصة في شعراء وأدباء مصر من الحداثيين.

واجتراء صلاح عبد الصبور على مقام اللَّه -جلَّ وعلا- شهير كثير، ومن ذلك قوله في قصيدة "الناس في بلادي":

(. . . يا أيها الإله

الشمس مجتلاك والهلال مفرق الجبين

وهذه الجبال الراسيات عرشك المكين

وأنت نافذ القضاء أيها الإله. . .

. . . وفي الجحيم دُحرجت روح فلان

يا أيها الإله

كم أنت قاس موحش يا أيها الإله)

(1)

.

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 30.

ص: 558

فهذه أوصاف نقص وذم للَّه الجليل العظيم، وإضافات تهكم وكذب إليه -جل وعلا-، حيث جعل الشمس مجتلاه، وجعل الهلال مفرقًا للجبين -تعالى اللَّه وتقدس- وجعل الجبال عرشه -جلَّ وعلا- ثم انعطف بكل قحة وفجاجة يصف اللَّه تعالى بالقسوة والوحشية، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

وفي موضع آخر يصف اللَّه بالنسيان المنفي عنه سبحانه وتعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} ،

(1)

، فقال:

(يا أختي، أنا قد انفقت الأيام أحاورها وأداجيها

وكأن اللَّه.

لم تنسج كفاه لقلبي قدري الإنسان. . . اللَّه.

ينسانا يا أختاه)

(2)

.

ويصف اللَّه تعالى بالنوم، ويجعله في مفتاح باب البيت ويزعم أنه رأى اللَّه تعالى في قلبه، وكل هذه أوصاف نقص يجب نفيها عن اللَّه، وتنزيهه عنها غاية التنزيه، يقول صلاح عبد الصبور:

(وأن اللَّه قد خلق الأنام ونام

وأن اللَّه في مفتاح باب البيت. . .

. . . رأيت اللَّه في قلبي)

(3)

.

وتبلغ به الجرأة إلى حد أن سمى مقطعًا له "أغنية إلى اللَّه" وهي تسمية توحي بالتنقص والازدراء، وفيه يخاطب اللَّه وكأنه يخاطب أحدًا من البشر، ويصفه ويضيف إليه أوصافًا لا تليق بجلال اللَّه وعظمته وقداسته، مما

يدل على استهانته واستخفاقه الكبير باللَّه سبحانه وتعالى، يقول:

(1)

الآية 52 من سورة طه.

(2)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 130.

(3)

المصدر السابق: ص 176 - 177.

ص: 559

(اللَّه يا وحدتي المغلقة الأبواب

اللَّه لو منحتني الصفاء

اللَّه لو جلست في ظلالك الوارفة اللّفاء

أجدل حبل الخوف والسأم. . .

. . . نصرخ، يا ربنا العظيم، يا إلهنا

أليس يكفي أننا موتى بلا أكفان

حتى تذل زهونا وكبرياءنا.

. . . يا ربنا العظيم يا معذبي

يا ناسخ الأحلام في العيون

يا زارع اليقين والظنون

يا مرسل الآلام والأفراح والشجون

اخترت لي

لشد ما أوجعتني

ألم أخلّص بعد

ألم تر نسيتني

الويل لي نسيتني

نستني

نسيتني)

(1)

.

وكم هاجم الحداثيون الشعر العربي القديم للمدائح التي كان يلقيها الشاعر للأمراء والسلاطين والخلفاء، غير أنهم ارتكسوا في مدائح أخبث

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 204 - 209.

ص: 560

وأقذر، وذلك حين توجهوا يمدحهم إلى المنحرفين والضالين والملحدين، ومثال ذلك مقطوعة لصلاح عبد الصبور يمتدح فيها الشاعر والكاتب المسرحي الأسباني الشيوعي الملحد، الذي قتل في أوائل الحرب الأهلية سنة 1354 هـ/ 1936 م

(1)

.

قال فيه:

(لوركا. . .

نافورة ميدان

ظل ومقيل للأطفال الفقراء

. . . لوركا شمس ذهبية

. . . لوركا سوسنة بيضاء

. . . لوركا قلب مملؤ بالنور الرائق)

(2)

.

بل قلب مملؤ بالكفر الخاثر، ولكن عبد الصبور وإخوانه في الغيّ الحداثي، جعلوه رمزًا وامتدحوه واطروه غاية الإطراء:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}

(3)

.

وينتقل صلاح عبد الصبور بعد عبارات الإطراء والمدح إلى ذكر مقتل "لوركا" ويصور مقتله على أنه مصيبة عظيمة وقعت في حق الإنسانية، ثم يذكر أنه أغفى في حضن اللَّه الغاضب، وهذه صفة انتقاص للَّه تعالى من وجهين:

الأول: أن اللَّه تعالى لا يوصف بأنه له حضن.

والثاني: أنه جعل هذا الملحد الماركسي يأوي إلى اللَّه ويطلب منه

(1)

انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1/ 592. وقد سبقت ترجمته: ص 265.

(2)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 228.

(3)

الآية 73 من سورة الأنفال.

ص: 561

العفو عن الذين قتلوه؛ لأنه يتصور أن اللَّه غضب من أجل مقتل هذا الكافر الذي لا يساوي عند اللَّه بعوضة، ثم ينسب أخيًر الأبناء إلى الرب الصمد -جلَّ وعلا- ويجعل لوركا من أبناء الرب، تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا.

يقول صلاح:

(. . . يمضي حيث سقطت، وعض التراب فمك

حتى يغفي في حضن اللَّه الغاضب

يرجوه أن يعفو عن خفراء بلداء

قتلوا آخر أبناء الرب)

(1)

.

وفي مسرحية الحلاج صاغ أسئلة عديدة فيها اعتراض ونقد جارح موجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى ويسأل السؤال الكبير الجارح -على حد تعبيره- أين اللَّه عن المسجونين المظلومين والشرطي الظالم؟، وهو سؤال استنكار قبيح، يقول فيه:

(أما ما يملأ قلبي خوفًا، يضني روحي فزعًا

وندامه

فهي العين المرخاة الهدب

فوق استفهام جارح

أين اللَّه؟

والمسجنون المصفودون يسوقهمو شرطي

مذهوب اللب

قد أشرع في يده سوطًا لا يعرف من في

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 230.

ص: 562

راحته قد وضعه)

(1)

.

ويطرح في ثنايا المسرحية أسئلة اتهام موجهة إلى اللَّه تعالى، تتضمن أوصاف استنقاص واستهانة باللَّه -جلَّ وعلا-، وذلك في قوله:

(لكني ألقي في وجهك

بسؤال مثل سؤالك

قل: من صنع الموت؟

قل: من صنع العلة والداء؟

قل: من وسم المجذومين؟

والمصروعين؟

قل: من سمل العميان؟

من مد أصابعه في آذان الصم؟

من شد لسان البكم؟

من سود وجه السود؟

من صفر وجه الصفر؟

من القانا في هذي الدنيا مأسورين

لنغص بمشربنا، ونُشاكَّ بمطعمنا

نتنفس أبشع رائحة مضاعدة من رجع حلوق الموتى

الموتى الأحباء المقتولين القتلة

. . . من ألقانا بعد الصفو النوراني

في هذا الماخور الطافح

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 470.

ص: 563

من. . . من. . .؟

الحلاج: لا. . لا. . لا أجرؤ

أتريد تقول. . .

لا. . لا. .

لا تملأ نفسي شكًا يا شبلي)

(1)

.

وقد استعاض بالنقاط عن اسم اللَّه في قوله: (أتريد تقول. . .)، وهو حذف مقصود يضفي جوًا من الشك والاتهام، ويؤكد أن الإجابة على هذه الأسئلة الجارحة هو اللَّه تعالى وتقدس.

وفي المسرحية ذاتها يتقمص شخصية الحلاج

(2)

ويؤيد مذهبه الحلولي الباطل، ويجعل كلمات اللَّه تعالى مخلوقة مولودة في قلب الحلاج، وذلك في قوله:

(. . . في أرض مدينته الخضراء

ولدت كلمات اللَّه هناك بقلبي المثقل

فأتيت بها، طوفت بأرض الناس)

(3)

.

ثم يستطرد في نَفسٍ صوفي ابتداعي، فيجعل اللَّه تعالى معشوقًا -تعالى اللَّه-، ويقرر عقيدة الفناء الصوفي، ويجعل من صفات اللَّه خلعة يُمكن أن يلبسها الإنسان المحب للَّه، على حد مزاعمه وادعاءاته الباطلة

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 472 - 474.

(2)

هو: الحسين بن منصور بن محمي أبو مغيث الفارسي الصوفي الزنديق المقتول على زندقته، تبرأ منه أغلب الصوفية، وسائر المشائخ والعلماء، كان صاحب شعوذة وسحر، ويقول بالحلول، خدع الناس بسحره، وأتى بأشياء منكرة وتكلم بما يخرجه من الدين فأفتى العلماء بإباحة دمه فقتل سنة 311 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 14/ 313، وميزان الاعتدال 1/ 548، والبداية والنهاية 11/ 132، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 110، 119، وتلبيس إبليس ص 171.

(3)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 485.

ص: 564

المستنسخة من عقائد زنادقة المتصوفة أهل الحلول والاتحاد، يقول صلاح عبد الصبور:

(يا ولدي

الحب الصادق

موت العاشق

حتى يحيا في المعشوق

لا حب إذا لم تخلع أوصافك

حتى تتصف بأوصافه

وأنا أنوي أن يكمل حبي للَّه

أن أخلع أوصافي في أوصافه

أنا إنسان يضنيني الفكر ويعروني الخوف

ثبت قلبي يا محبوبي

أنا إنسان يظمأ للعدل ويقعدني ضيق الخطو

فأعرني خطوك يا محبوبي

وشفيعي في صدق الرغبة والميل

قلبي المثقل

ودموعي في الليل

سأخوّض في طرق اللَّه.

ربانيًا حتى أفنى فيه)

(1)

.

ويستطرد في هذه الانحرافات ليصل إلى خرقة الصوفية الخرافية البدعية

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 486 - 487، وهذا القول والذي يليه من العبث والتلاعب بالمفاهيم فكيف يأتي بأقوال فيها تطاول على اللَّه تعالى ومقام الألوهية ثم يأتي بأقوال يزعم فيها التصوف وحب اللَّه وعشقه؟ مع أن كلا القولين انحراف.

ص: 565

ذات الجذور الوثنية، فيجعل منها ثوبًا للَّه تعالى اللَّه وتقدس:

(يارب اشهد

هذا ثوبك

وشعار عبوديتنا لك

وأنا اجفوه، أخلعه في مرضاتك

يارب أشهد)

(1)

.

ويلوي رأسه مع خرافات وضلالات الصوفية واصفًا اللَّه تعالى بما يتنزه عنه -جلَّ وعلا- ونافيًا عنه ما اتصف به سبحانه، فيجعل اللَّه هو نور الكون، وينفي صفة العينين للَّه في سياق حوار مع من يسأله عن ذلك، ويجعل هذه الصفة بمثابة القفل على القلب في قوله تعالى:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}

(2)

، أي: كما أن العقل -عنده- ليس حقيقيًا فكذلك عين اللَّه تعالى ليست حقيقة، وهذا هو اعتقاد المعطلة وأشباههم ممن ضلوا في هذا الباب.

ثم يستطرد في كلامه جاعلًا نور اللَّه هو المصباح، وجاعلًا من نفسه بضعة من اللَّه -تعالى اللَّه وتقدس- بل جعل اللَّه تعالى متفرقًا في الناس، وهي عقيدة الحلول الإلحادية التي نهايتها جحد وجود اللَّه، وجعل الإنسان إلهًا مثل اللَّه تعالى، وهنا يلتقي المقصد الصوفي الزنديقي مع شقيقه الحداثي في الوصول إلى مآربهم الأصلية وهي جحد وجود اللَّه وربوبيته وألوهيته، وتأليه الإنسان والكون والحياة.

هذا كله قاله صلاح عبد الصبور في مسرحية الحلاج على لسان الحلاج:

(أراد اللَّه أن تجلى محاسنه، وتستعلن أنواره

فأبدع من أثير القدرة العليا مثالًا، صاغه طينا

(1)

المصدر السابق: ص 488 - 489. انظر: الملحوظة السابقة في هامش "1" ص 565.

(2)

الآية 24 من سورة محمد.

ص: 566

وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته

وجلاه، وزينه، فكان صنيعه الإنسان

فنحن له كمرأة، يطالع فوق صفحتها

جمال الذات مجلوًّا، ويشهد حسنه فينا

. . . فهذا حبنا للَّه

أليس اللَّه نور الكون

فكن نورًا كمثل اللَّه.

ليستجلي على مرآتنا حسنه

شرطي: مقاطعًا

ولكن شيخنا الطيب، هل ربي له عينان

لكي ينظر في المرأة؟

الحلاج: ولكن ولدي الطيب، هل قفل على قلبك

حتى ينطق القرآن

"أم على قلوب أقفالها"؟

شرطي آخر: أجدت الرد، كيف إذن تظن اللَّه.

بلا نعت بلا تشبيه

الحلاج: أظن اللَّه، كيف، ونوره المصباح

وظني كوة المشكاة

وكوني بضعة منه تعود إليه

الشرطي: أتعني أن هذا الهيكل المهدوم بعض منه

وأن اللَّه جل جلاله متفرق في الناس؟

ص: 567

الحلاج: بلى، فالهيكل المهدوم بعض منه إن طهرت

جوارحه

وجل جلاله متافرق في الخلق أنوارًا بلا تفريق

ولا يُنقص هذا الفيض أدنى اللمح من نوره

شرطي ثالث: فأنت إذن إله مثله ما دمت بعضًا منه؟

الحلاج: رعاك اللَّه يا ولدي، لماذا تستثير شجاي

وتجعلني أبوح بسر ما أعطى

ألا تعلم أن العشق سر بين محبوبين

هو النجوى التي إن أعلنت سقطت مروءتنا

لأنا حينما جادلنا المحبوب بالوصل تنعمنا

دخلنا الستر، أُطعمنا، وأُشربنا

وراقصنا وأُرقصنا، وغُنينا وغَنينا

وكُوشفنا وكاشافنا، وعُوهدنا وعاهدنا

فلما أقبل الصبح تفرقنا

تعاهدنا، بأن أكتم حتى أنطوي في القبر)

(1)

.

وفي المسرحية ذاتها يجعل اللَّه تعالى مظلومًا من قبل خلقه الظالمين وذلك في قوله على لسان الحلاج:

(أين المظلومين، وأين الظلمة؟

أو لم يظلم أحد المظلومين

جارًا أو زوجًا أو طفلًا أو جارية أو عبدًا؟

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 500 - 504.

ص: 568

أو لم يظلم أحدٌ منهم ربه؟)

(1)

.

هذه المسرحية الخبيثة تدور حول قضية حداثية أساسية وهي تدنيس قداسة اللَّه عز وجل وَتَقَدّسَ-، بل لخص مقاصدها يوسف الخال في معرض إشادته بها وبصاحبها وذلك حين يقول:(خذ الحلاج عند عبد الصبور، لقد أراد أن يخلق مسيحًا في التراث الإسلامي، على الطريقة التي لدينا نحن المسيحيين كان الحلاج عنده مسيح الإسلام. . . فماذا لديك لتقول؟، إن اللَّه لا نعرفه نحن، عندما قال الحلاج: ما في الجبة إلّا اللَّه، فعلى الطريقة نفسها التي قال بها المسيح: أنا في الأب والأب في، فالمسيح والحلاج قالوا: إن اللَّه يمشي على الأرض، إنه إنسان، أنسنة اللَّه. . . من هنا أُدخل عبد الصبور في جماعة الشعراء التموزيين ولو لم يكن قد تكلم عن تموز مباشرة)

(2)

.

سبحان اللَّه عما يقول، وسلام على عيسى ابن مريم الذي كان عبدًا للَّه يدعو إلى عبادة الواحد الأحد الذي في السماء، وغضب اللَّه على من افترى عليه وكذب.

وفي مسرحية أخرى يتهكم باللَّه تعالى إلى حد بعيد، وذلك في قوله:

(يحرمني من نومي. . أشهى خبز في مائدة اللَّه)

(3)

.

وليس هناك ما يبرر له أن يعبر هذا التعبير بل كان في مقدوره أن يقول أشهى خبز في مائدة العين أو النفس أو الجسد أو الرغبة أو الإنسان أو أي شيء غير اللَّه تعالى، مما يدل على أن إتيانه باسم اللَّه تعالى أمرًا مقصودًا من أجل التنقص والتهكم، وتحقيق الاستخفاف، وتدنيس المقدس الذي يعد أصلًا من أصول الحداثة.

ومن هذا القبيل أقواله في مسرحية "مسافر ليل" الطافحة بسبّ اللَّه

(1)

المصدر السابق: ص 545 - 546.

(2)

قضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 294.

(3)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 362.

ص: 569

تعالى عدوًا بغير علم، ونسبة الموت إليه وجعله كأحد من البشر، له بطاقة شخصية، قال -جازاه اللَّه-:

(يا عبده

قف واسمع وصف التهمة

أنت قتلت اللَّه.

وسرقت بطاقته الشخصية

وأنا علوان بين الزهوان بين السلطان

والي القانون)

(1)

.

وقال:

(أنا مسؤول عن هذا الوادي كله

والشائعة تقول

رجل من أهل الوادي قد قتل اللَّه.

وسرق بطاقته الشخصية)

(2)

.

وقال:

(الراكب: سامح جهلي يا مولاي

ما معنى هذي الكلمة

عامل التذاكر: أي افقدك وجودك

أفهمت؟

ولهذا حين أقول:

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 652.

(2)

المصدر السابق: ص 666.

ص: 570

أنت قتلت اللَّه.

لا أعني طبعًا -استغفره- انك قد. .

لا، ولكني أعني. . أنسرقت بطاقته الشخصية

وبهذا يتساوى الأمران)

(1)

.

وقال:

(إن اللَّه تخلى عن هذا الجزء من الكون

لا يعطينا شيئًا قط

لا ينظر في هذي الناحية كما كان

قلنا: ماذا حدث لنا؟

قالوا: أحدهمو قد قتل اللَّه هنا

ولهذا فهو يخاصمنا

أعني -طبعًا- أحدهمو قد سرق بطاقته الشخصية

وانتحل وجوده

قلنا: نبحث لكن في السر)

(2)

.

اللهم غفرانك من كتابة هذه الأقوال الشنيعة الخبيثة، ولولا أن اللَّه قد شرع للمسلمين الرد على الكافرين وتفنيد أقوالهم الباطلة، وذكر سبحانه أقوالهم الكافرة في القرآن من نسبة الولد والصاحبة والفقر إليه -جلَّ وعلا-؛ لكان ترك هذه الأقوال البشعة أولى من ذكرها.

هذا وإن صلاح عبد الصبور لا يعد عند المدافعين عند الحداثة من الغالين، بل قد يعد تراثيًا -أحيانًا- وينسب إلى الفلسفات المثالية، ويعنون

(1)

المصدر السابق: 668.

(2)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 669.

ص: 571

بها الإيمان بدين، أو بما وراء الطبيعة حسب مفاهيم وألفاظ الفكر المادي الإلحادي، وها هي أقواله في اللَّه تعالى من أبشع وأخبث الأقوال، وليس لها وجه تأويل أو قبول في مقاييس الشريعة الإسلامية إلا أنها مما يوجب حد الردة، بل بعضها يوجب ذلك.

أمّا أدونيس فقد نقلنا من كلامه في الفصلين السابقين ما يؤكد سخريته باللَّه وتنقصه لجلال اللَّه تعالى وتهكمه بدينه وشريعته وعباده، وأقواله في وصف اللَّه بأبشع الأوصاف وإلصاق النقائص به كثيرة تدل على الفساد الاعتقادي المستوطن في قلبه، والرغبة الحاقدة في اجتثاث الإسلام، والبغض الدفين المستولي على كل لبه. .، ومما لا ريب فيه أنه لا يذر مجالًا من خلاله أن يكيد للإسلام والمسلمين إلّا سلكه بما يسمى شعرًا تارة، وبالنقد تارة، وبالكتابات الصحفية، وبالمؤسسات ودور النشر والإصدارات، والندوات والمحاضرات، وقد لقي -للأسف- آذانًا صاغية من أبناء المسلمين، حتى بعض الذين عرفوا انحرافه الاعتقادي وضلاله الفكري وعداوته الشديدة للإسلام نجدهم ينتقدونه في هذه القضايا ومع ذلك يستأسرون إلى أبعد حد لما يسمونه الغنائية الفكرية

(1)

في قوله:

(قافلة كالناي والنخيل

مراكب تغرق في بحيرة الأجفان

قافلة مذنب طويل

من جحر الأحزان

آهاتها جرار

مملؤة باللَّه والرمال. . .)

(2)

.

(1)

هذا قول لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 125.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 121.

ص: 572

سبحانك يا قيوم السموات والأرض. . . وأي غنائية فكرية في هذا الغناء القذر؟.

إن تيار الحداثة ينطلق منذ البداية من مبدأ رفض الإسلام في كل صيغه ومعطياته الجوهرية، اعتقادية وتشريعية وسلوكية، وإن جاز الابقاء على المعاني الروحية وبعض القيم عند بعض الحداثيين والعلمانيين كطقس يمثل نوعًا من التراث الشعبي أو ما يسمونه "الفلولكلور" فإن أدونيس والخال والحاج وسميح الأناسم وجبرا والصائغ وتوفيق زياد وبسيسو وسعدي يوسف وأضرابهم يطرحون الإسلام ويعادونه -تطبيقًا- في أي شكل وعلى أي مستوى.

والصنف الأول ممن يبقون على الإسلام تراثًا أو ممارسة فردية لا ينطلقون في ذلك من توقيره أو إجلاله، بل ثمة حقائق موضوعية وتحولات اجتماعية يعيشونها حتمت على أصحاب هذا الاتجاه أن يتجنبوا الجحد المباشر الصريح والمناقضة الكاملة الفاضحة، التي يمارسها أساتذتهم وزملاؤهم من أصحاب التيار الحداثي العلماني اللاديني.

وأهم هذه الحقائق الموضوعية بقاء الشعور الديني في نفوس المسلمين، وتأثير الدعوة الإسلامية الشمولية المعاصرة، التي استطاعت أن تحقق نجاحًا كبيرًا في جماهير المسلمين، وشكلت تيارًا إيجابيًا فعالًا ومؤثرًا في طائفة كبيرة من المثقفين، وفي قاعدة واسعة من الجماهير المسلمة، مما يصعب معه البوح بكل مكنونات القلوب الحداثية العلمانية، المترعة ببغض الدين أو بعض شرائعه، والملأى بالشك والريب فيه وفي تاريخه وحضارته.

إن ثقافة الردة التي يحمل لواءها أدونيس وأشباهه ترتكز أول ما ترتكز على مهاجمة أصل الأصول وقاعدة القواعد الإيمانية: توحيد اللَّه -جلَّ وعلا- وقد ذكرنا توضيحًا لهذا بالشواهد فيما يتعلق بالربوبية والألوهية، وفي ذلك تنقص مقصود بمقام اللَّه -جلَّ وعلا-، فإذا انضاف إليه انحرافه الواضح في توحيد الأسماء والصفات، ووصف اللَّه تعالى أو تسميته بأوصاف وأسماء

ص: 573

النقص تبين لنا أي حداثة هذه التي يدعو إليها وينافح عنها مثقفو الأدب الحديث.

يصف أدونيس -أهلكه اللَّه- الباري -جلَّ وعلا- بأنه يولد، مضاهيًا قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون، وذلك في قوله:

(كاهنة الأجيال، قولي لنا

شيئًا عن اللَّه الذي يولد

قولي، أفي عينيه ما يعبد)

(1)

.

وتبلغ به درجة الخبث والقذارة إلى أن يصف اللَّه في أحط الأوصاف الخسيسة وفي أبشع المواضع، حيث يقرر بأن اللَّه يُشاهد في العملية الجنسية، وأنه يتحقق له في فرج المرأة أن اللَّه "تعالى وتقدس" لا يتناهى وذلك في قوله:

(يا شهدي، يا شهد الشهوة

يا أرضًا تجنى في خلوه

يا قبة

فيها كل نجيِّ يشهد ربه

يا قصرًا يعلو تحت الزغب

في أحشائك تيه يجرف رمل التعب

في أحشائك أحيا موج الجنس، اكابد سَوْرَة مده

أردُ العالم في لا حدِّه

في أحشائك أعرف أوقن آن الآتي

سرُّ حياتي

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 101.

ص: 574

فيك أصور أبدع، أعلى آثاري

أوضح أعتم أسراري

فيك أنشّيءُ، فيك أحقق أن اللَّه.

لا يتناهي)

(1)

.

ثم يختم هذا الخبيث بقول أخبث مخاطبًا المرأة وجسدها وأعضاءها الجنسية:

(يا مجهولي نامي، آن مسيري نحو اللَّه.

الضائع آن وصولي)

(2)

.

ينفث الطائفي النصيري الحداثي أنتن قذراته في هذه الكلمات الرجيمة، ويتطاول القزم الحقير على مقام اللَّه ذي الجلال والإكرام والقداسة والعظمة كما تطاول أسلافه الهلكى من الكفار والمشركين.

وما تطاوله هذا إلّا لأجل الوصول إلى الغاية الأساسية والمهمة التي تحمل أوزارها، ترى هل هناك ارتباط بين هذا الهجوم الفاضح وبين ارتباطاته بالطائفة النصيرية والجامعة الأمريكية في بيروت ومنظمة حرية الثقافة التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية

(3)

، وتتمثل تلك الغاية فيما خطه بيده الدنسة في كتابه الثابت والمتحول حيث قال:(. . . إذا كان التغيير يفترض هدمًا للبنية القديمة التقليدية، فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، وإنّما يجب أن يكون بآلة من داخله، إن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته)

(4)

.

وهذا هو الذي على عمله في تلمود الحداثة "الثابت والمتحول" حيث

(1)

المصدر السابق 1/ 214 - 215.

(2)

المصدر السابق 1/ 217.

(3)

انظر: كتاب بحثًا عن الحداثة: ص 42.

(4)

الثابت والمتحول 1. الأصول: ص 33.

ص: 575

حاول أن يستخدم شيئًا من التراث لهدم الإسلام، غير أنه لم يفلح ولن يفلح، فقد ركن إلى الشذاذ من الباطنيين والملاحدة والشاكين واتخذ منهم أساسًا لمنطلقه، ولن يفلح؛ لأن دين اللَّه محفوظ، موعود من اللَّه القدير بالنصر والتمكين ولو كره المجرمون.

غير أن ما يجب التنبيه عليه في هذا المقام، أن قاصري العقول من أتباع الحداثة والمدافعين عنها، يظنون أن الحداثة مجرد تجديد في الإشكال، ونمط تحديث في التعابير وأسلوب جمالي حديث، وفي الحقيقة أن الحداثة لم تتخذ ذلك غرضًا لها إلّا بعد أن اتخذت هدم الدين وتشويه الرسالة ومعارضة الشريعة أهم أهدافها بل أول أهدافها. . وإلّا فما وجه الارتباط بين التجديد في الأساليب والأشكال وهدم البنية الاعتقادية والثقافية والحضارية للأمة؟.

ولماذا لا نكاد نجد حداثيًا إلّا وهو مغموص في دينه وعقيدته بكفر بواح أو بنفاق أو بشكوك؟.

ولماذا لا نجد عند رواد الحداثة وأساتذتها ومعلميها أدنى توقير للَّه تعالى أو لكتابه أو لرسله الكرام أو لشريعة الإسلام؟.

ثم لماذا نجد عندهم مقابل ذلك الاحترام للوثنيات اليونانية والإغريقية والفرعونية والآشورية بل وحتى البوذية وجاهلية العرب قبل الإسلام؟، والإجلال والتعظيم لمبادئ الكفر ومناهجه المعاصرة؟.

وما تكون موجعة للإسلام والمسلمين إلّا كانوا في صفها، وما تكون ملمة ضد الدين وأهله إلّا فرحوا بها، وإن جاء فتح أو نصر أو تَمكين للمسلمين كشروا وغضبوا وضاقت نفوسهم وحصرت صدورهم.

وفي كتاباتهم الصحفية وتصريحاتهم العلمانية ما يؤكد كل هذا الذي ذكرناه.

إنه الهدم، والثورة على الإسلام، وإن تلبس بلبوس الثقافة والفن والإبداع.

ص: 576

فنحن أمة قد وهبنا اللَّه تعالى من خصائص التمييز بين الحق والباطل ما لم يهبه لغيرنا من الأمم، ذلك أن أمة الإسلام هي أمة الحق له تدعو وبه تهدي وتعدل:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}

(1)

، وليس بعد الحق إلّا الضلال، ولا بعد الهدى إلّا العمى ولا بعد الإيمان إلّا الكفر، ولا بعد التوحيد إلّا الوثنية، واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ومن شواهد انحرافات أدونيس في هذا الباب ما كتبه في ديوانه عن حقيقة الإسراء والمعراج، حيث صور هذه الحقيقة تصويرًا أسطوريًا، وساقها سياقًا مملوءًا بالسخرية والتشكيك والأكاذيب والتهكمات الكثيرة، وذلك تحت عنوان "السماء الثامنة، رحيل في مدائن الغزالي"، ويعني بمدائن الغزالي الإسلام وقد تعهد قائلًا:

(أهدم كل لحظة

مدائن الغزالي

أدحرج الأفلاك فيها أطفئ السماء)

(2)

.

وصور المسلمين في صورة تخبط وضياع وخرافة، وأنهم يحملون جثث الأسلاف ويقصد تراث السلف، وأنهم تائهون والرمل في عيونهم -رمتني بدائها وانسلت-، يقول:

(مسافرون يخبطون

أين يذهبون؟

من جثث الآباء يحملون

تمائمًا

(1)

الآية 181 من سورة الأعراف.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 123.

ص: 577

والتيه في أقدامهم طريق

والرمل في وجوههم عيون)

(1)

.

ثم يبدأ بقصة الإسراء والمعراج قائلًا:

(شددت فوق جسدي ثيابي

وجئت للصحراء

كان البراق واقفًا يقوده جبريل، وجهه كآدم، عيناه كوكبان

والجسم جسم فرس، وحينما رآني

زُلزل مثل السمكة

في شبكة)

(2)

.

وليس هذا مجال دراسة ما في هذه المقطوعة من كفر وإلحاد، ولكن نأخذ منها ما فيه تهكم باللَّه تعالى وتنقص مما يخص هذا المبحث يقول جاعلًا نفسه هو الذي أسري وعرج به:

(وكان سيف النقمة المجبول بالدماء

معلقًا بالعرش، قلت: سيدي

ارفعه عن بلادي

فقال: تم الحكم والقضاء

وسوف يفنى شعبك الحنيف مثل زبد بالطعن والطاعون

لكنك المفضل الحبيب - أدمٌ

خلقته من طين

وكان إبراهيم لي خليلًا

(1)

المصدر السابق 2/ 125.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 125.

ص: 578

وأنت لي حبيب

وموسى

كلمته وبيينا حجاب

وأنت تلقاني بلا حجاب

وإن أكن خلقت من كلامي

عيسى، فقد شققت من أسمائي

اسمًا لك، اقترنت بي

أعطيتك الكوثر

والحوض والشفاعة الكبرى)

(1)

.

(دهشت؟ هذي قبة

سرير، من عنبر عليه حورية.

تضيء من خنصرها الحقول والفصول

هذي لن يموت شاهدًا

بأنك الرسول)

(2)

.

وفي لهجة ممزوجة بالكذب على اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يتعدى هذا الباطني جميع الحدود، ويطرح أصناف خبثه. . . ليكون طليعة الجبهة الحداثية الساعية إلى هدم الدين من خلال التهجم على صفات اللَّه تعالى وأسمائه الحسنى، ففي النص السابق يجعل للَّه سيفًا من نقمة مجبول من دم، وهذه إشارة يصف فيها اللَّه تعالى بالظلم والقسوة، ثم يصف هذا السيف بأنه معلق بالعرش، ثم يكذب على اللَّه تعالى ويجترئ عليه اجتراء

(1)

المصدر السابق 2/ 143.

(2)

المصدر السابق 2/ 145.

ص: 579

المفتري، ويزعم أن اللَّه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بلا حجاب، مع أن سياق الكلام ليس عن شخص النبي عليه الصلاة والسلام، وإنّما عن نفسه وكأنه يقص قصة أسطورية، ثم يزعم أن اللَّه اشتق اسمًا من أسمائه ووهبه للنبي عليه السلام، وأنه اقترن به، تعالى اللَّه عما يقولون ويفترون علوًا كبيرا.

وبالمقابل نجد أنه يمجد نفسه ويطريها إلى حد التقديس ويضفي على ذاته من النعوت الخارقة ما لا يخطر بعقل، فها هو في مقطع بعنوان:"هذا هو اسمي" يقول في أوله:

(ماحيًا كل حكمة هذه ناري

لم تبق آية، دمي الآية

هذا بدئي)

(1)

.

إذن فغايته الأصلية ومسعاه الأساسي محو الحكمة، وحرق الديانة وإبادة الوحي والآيات، هذه هي البداية التي ينطلق منها والنهاية التي يريد الوصول إليها، ولكنه -خيب اللَّه فأله- غير قادر على ذلك، ومن الذي يستطيع أن يطفيء وهج الشمس بفمه؟.

ثم يكرر مدائحه لنفسه من خلال اسمه الأصلي علي أحمد سعيد ويقول:

(قادر أن أغير: لغم الحضارة - هذا هو اسمي)

(2)

.

ويقول:

(أرى المئة اثنين أرى المسجد الكنيسة

سيافين والأرض وردة)

(3)

.

ويقول:

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 268.

(2)

المصدر السابق 2/ 269.

(3)

المصدر السابق 2/ 270.

ص: 580

(قدست رائحة الفوضى)

(1)

.

وفي تعالٍ وغطرسة متناهية يقول:

(وطني راكض ورائي كنهر من دم جبهة الحضارة

قاع طحلبي)

(2)

.

إلّا أنه يصل حد الكفر البواح والغرور الكفري الجامح في قوله عن نفسه:

(ورأيت اللَّه كالشحاذ في أرض علي)

(3)

.

ثم يقول:

(في طواحين الهواء

سقط الخالق في تابوته)

(4)

.

وفي مقطع آخر يتحدث عن اسمه الوثني "أدونيس" وعن الشعر والفكر الحداثي، على أنه مجد وفرحة، ومكر مثل مكر اللَّه تعالى وتقدس، يقول:

(لا مجد الغزوبل مجد الاستقبال

لا فرحة أن تغلب بل فرحة أن تحيا

لا توحش العنف، بل أنس مكر كأنه من مكر اللَّه. . .

. . . اقتربي أيتها الطالعة المحية، أما قرأت ". . . أول المحبة معنى أبداه سماه حسنًا، ثم أبدى شخصًا ألبسه ذلك المعنى، وسماه حسنا ثم قابل الحسن بالحب، والمتَحسِن بالمحب، والمستحسن بالمحبوب)

(5)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 275.

(2)

المصدر السابق 2/ 282.

(3)

و

(4)

المصدر السابق 2/ 283.

(5)

المصدر السابق 2/ 410 - 411.

ص: 581

وتأبى عليه نزعته الباطنية إلّا الانحدار إلى وهدة أسلافه من الباطنيين الملاحدة، ففي أحد المقاطع الطويلة يتحدث عن النصيري الشلمغاني

(1)

، ويضمن كلامه في المقطع الذي يسمه شعرًا، ويقرر أقواله الإلحادية الحلولية التي تصف اللَّه تعالى بأبشع الأوصاف، يقول:

(يصلب الشلمغاني ويحرق

يكون من مذهبه

أ - اللَّه يحل في كل شيء حل في آدم وفي إبليس

ب - خلق الضد ليدل على المضدود

ج - الضد أقرب إلى الشيء من شبيهه

د - اللَّه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بالقلب

هـ - اللَّه اسم لمعنى

و- من احتاج الناس إليه فهو إله، لهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يسمى إلهًا

ز- ملاك من ملك نفسه وعرف الحق

ويقول الشلمغاني

اتركوا الصلاة والصيام وبقية العبادات

لا تناكحوا بعقد

أبيحوا الفروج

للإنسان أن يجامع من يشاء

(1)

سبقت ترجمته ص 374.

ص: 582

ويقول الشلمغاني

اقرأو كتابي - الحاسة السادسة في إبطال الشرائع

الجنة أن تعرفوني

النار أن تجهلوني)

(1)

.

وكل يميل إلى جنسه، وكل يأنس بأشباهه وأمثاله، وقد تشاكلت عقائد الخبث بين أدونيس والشلمغاني، كما تشاكلت عقائد الحداثيين العرب مع الملاحدة والإباحيين في بلاد الغرب، فانتحلوا منهم، وحاكوهم في ضلالهم، وصاروا نسخًا مكرورة عن أسيادهم وقد عبر بعضهم عن هذا بقوله:(حداثة الغرب النهضوية والعقلانية والعلمية كانت مفصلًا تاريخيًا هامًا في حياة البشرية أعادت الاعتبار للإنسان)

(2)

.

وإذا كانت هذه نظرتهم وهذا هو معيارهم فإنه بلا ريب قد أتموا أدوار المحاكاة والتبعية إلى حد الانجرار الكامل والتلقي البليد، تقول صاحبة المقولة السابقة: (وجاء دور كهايم

(3)

ليعلن أن المجتمع هو اللَّه واللَّه هو المجتمع)، وقد تبع العلمانيون والحداثيون العرب هذه المقولة وقلدوها وأنزلوها على وقائع عديدة وأحوال كثيرة، واستخفوا باللَّه تعالى فوصفوه بالنقص، وجعلوه -جلَّ وعلا- هدفًا لسخريتهم واستخفافهم، وجعلوا من هذه السخرية والاستخفاف منطلقًا لسائر ضلالاتهم الاعتقادية والعملية.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 547 - 548.

(2)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م: ص 105 مقال لأنيسة الأمين.

(3)

هو: أميل دوركايم اليهودي الفرنسي، ولد سنة 1274 هـ - 1858 م، وتوفي سنة 1336 هـ/ 1917 م، اشتغل أستاذًا للفلسفة والاجتماع والتربية، ويعتبر من أكابر علماء الاجتماع المادي، ويعتبرونه واضع لفظة علم الاجتماع، تقوم نظريته الاجتماعية على الفلسفة المادية والنظرة الحيوانية للإنسان، وقد أثر بفلسفته هذه على مسيرة الحياة الاجتماعية الغربية غاية التأثير وسيأتى في الفصل الخاص بالاجتماع ذكر ذلك. انظر: الموسوعة الفلسفية ص 183.

ص: 583

بيد أن تقليدهم للغرب قام على سوقه في أبواب الفلسفات والعقائد والمبادئ والأفكار، ولم يفلحوا أدنى فلاح في اقتباس ما يلزم للنهضة التقنية والإدارية، بل غرقوا في حمأة الفلسفات الإلحادية والمادية والإباحية التي زعم الغرب أنها هي أصل التقدم التقني.

وما الحداثة التي اخترمت حيزًا من أبناء المسلمين وألقت بهم في أتون الشكوك والجحد والرفض والوجودية، إلّا صورة من صور الاقتباس والنقل الذي مارسته المدارس الحداثية العربية.

لقد أخذوا الحداثة بأوصابها وأخلاطها وإلحادها وفضائحها وضياعها، وهذا ما عبر عنه أحدهم قائلًا: (لعل إشكالية الحداثة هي الأكثر لبسًا بين الإشكالات الثقافية والفنية إلتي شهدتها لوحة الثقافة العربية الراهنة.

ويبدو أن هذا اللبس والغموض المحيط بها ليس سمة الحداثة في حقل تداولها الاصطلاحي والدلالي العربي فحسب، بل هي ولدت في سياقها الغربي متلبسة باللبس والشك والقلق، والعقل المزدحم بتمزقاته وانشراخه في إضفاء التجسيد والحسية على عالم المجردات، عبر التعايش المأزوم تجاه الكامن في داخل الإنسان الحديث، الذي يعيش حالة تضاد بين نزعة مضادة للطبيعة وحنين متعاظم تجاه هذه الطبيعة الضائعة حيث لا أفق سوى العدمية والاستلاب، بعد إعلان نيتشه موت اللَّه وموت الجمال معه، والفن لم يعد يعوض عن الحياة بل يساهم في تعميق الاستلاب نحوها، فسيموت الفن تاركًا إيانا في العراء، حيث الشمس السوداء للسأم والسوداوية شمس الفرح الحمراء وقمر الكارثة الشاحب، فالعالم لا يزال مقلوبًا على الرغم من حلم ماركس بإقافه على قدميه. . .

إن الباحث وهو يجهد لاكتشاف خصائص ومميزات الحداثة وسط العوالم القاحلة والعراء الروحي إلّا من الشمس السوداء وقمر الكارثة الشاحب لابد أن يقر بصعوبة الإحاطة بكليتها عبر تناقضاتها وتفتت رؤيتها لذاتها وللعالم. . . وهي إذ تطمح لإلغاء الطبيعة عبر تشييئها التقني لا تلبث أن تنتحب حنينًا إلى فردوس الطبيعة المفقود، فقد اغتالت اللَّه والجمال

ص: 584

والأخلاق والفن وراحت تندب وترثي ما اجترحته يداها. . .)

(1)

.

وهذا النص يثبت عدة أمور:

الأول: أن الحداثة العربية ليست سوى صورة منقولة من الغرب.

الثاني: أن الحداثة ولدت وهي ممتزجة باللبس والشك والقلق والانشراخ والتشاكس، وذلك وفق منبتها في الأرضية الغربية المادية التي نبتت فيها.

الثالث: أن الحداثة ارتكست في عالم المادة والحسية، ونشأت على ذلك، فأنتجت ثمرات العدمية والجفاف والضياع والسأم والانحطاط.

الرابع: أن الحداثة تقوم فكرتها على إلغاء وجود اللَّه تعالى وألوهيته.

الخامس: وصفه للَّه تعالى بالموت، وأن الحداثة قد اغتالته، كذب قائم على المبدأ التنقصي الذي تشيعه الحداثة العربية وتقوا عليه وتدعو له.

السادس: الإقرار بأن الحداثة عديمة الخلق، ضائعة السبيل، تائهة المقصد، مدمرة للخلق والفن والجمال، وفي هذا ما يرد كل المزاعم التي يدعيها أزلام الحداثة وأتباعها في الجماليات الفنية والغنائيات الفكرية حسب تعبيرهم.

أمّا الزعم الكافر والوصف الملحد في أن اللَّه تعالى مات أو اغتالته الحداثة فقول تافه وفكر منحط وفضدة إفرازٍ مادي، نسأل اللَّه السلامة من هذا الكفر ومن أتباعه والمحامين عنه والمعتذرين له.

فهل يرضى مسلم هذا الكفر البواح؟ وقد اشترى اللَّه من المسلمين دماءهم وأموالهم لنصرة دينه ورفع لواء شريعته وكبت الكافرين، وهل فقد المسلمون حمية الإيمان، والإحساس بالكرامة؟ وهم يسمعون ويقرأون مثل هذه الأقوال التي تنز خبثًا ومكرًا وكفرًا وتستفز المسلمين في دينهم أصل

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ. ص 275 من مقال بعنوان الحداثة عقدة الأفاعي لعبد الرزاق عيد.

ص: 585

عزتهم، وفي عقيدتهم وتاريخهم وتراثهم وحضارتهم وأمتهم، وكل معالم مجدهم وسؤددهم؟!.

وقد سردنا أمثلة عديدة لذلك، وما زالت جعبة أهل الحداثة مليئة بسهام الزيف والضحالة والارتداد، بل لا تفتش أحدًا منهم إلّا وتجده يجاهر بالكفر أو يلحن بأقوال تدل على قرارة نفسه السوداء {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}

(1)

.

فها هو المتردي نصر حامد أبو زيد يسخر من صفة علم اللَّه -جلَّ وعلا- فيقول متهكمًا: (وأمّا الحديث عن أسباب النزول أو النسخ فقد كان ذلك معلومًا للَّه منذ الأزل ثم تركب التنزيل على الوقائع في خطة إلهية محكمة معدة سلفًا)

(2)

.

ويواصل سخريته قائلًا: (بل إن كل ما نقول الآن من أقوال وما قيل قبل ذلك وما سيقال معلوم للَّه مراد له، فكل ما في الكون من أشياء وأحداث ووقائع وأفكار وعبارات مراد له وجزء من كلماته التي لا ننفذ كما ورد في القراءات)

(3)

.

ثم ينسرب بعد هذا كله ليقول بأن نسبة القرآن إلى اللَّه تعالى غير قطعية، بل هي تبرير ديني لوضع اجتماعي، وأن القرآن استمد القداسة من الامتداد التراثي والعبق التاريخي، والوهم بأن ذلك هو الإسلام ذاته.

ثم يتكئ اتكاء العاجز عن الحجة والبرهان إلى أقوال المعتزلة في زعمهم الباطل أن القرآن مخلوق، ويصف هذه البدعة بأنها فكرة حيوية وحضارية، وأنها هي التي أبدعت وأنجزت الإنجازات التي أفادت منها أوروبا فيما بعد!!.

يقول: (. . . كان المعنى النقيض الذي ساد بعض الوقت ثم تم

(1)

الآية 30 من سورة محمد.

(2)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 387 - 388.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 388.

ص: 586

تهميشه بعد ذلك هو أن القرآن حادث مخلوق ارتبط إيجاده وإنزاله بحاجة البشر وتحقيقًا لمصلحتهم، ومن السهل أن ندرك أن هذا المعنى النقيض كان جزءًا من بنية فكرية أخرى تطرح رؤية للعالم والطبيعة والإنسان تتسم بالحيوية والديناميكية. . . وغني عن القول أن تلك الرؤية النقيضة هي التي أبدعت وأنجزت في مجال المعرفة العلمية تلك الإنجازات التي أفادت منها أوروبا. . .

وإذا كان معنى قدم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية ويثبت المعنى الديني، فإن معنى حدوث القرآن وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها، ويطلق المعنى الديني -بالفهم والتأويل- من سجن اللحظة التاريخية إلى آفاق الالتحاق بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية. . . إن القول بحدوث القرآن يظل ذا أهمية تاريخية من حيث المعنى والدلالة. . . الذي ندعو إليه هو عدم الوقوف عند المعنى في دلالته التاريخية الجزئية، وضرورة اكتشاف المغزى الذي يُمكن لنا أن نؤسس عليه الوعي العلمي التاريخي.

إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية)

(1)

.

في هذا النص المليء بالمغالطة والكذب والضلال والانحراف تساوق مزدوج يبدأ من ذيول المعركة الخاسرة بين أهل السنة والمعتزلة، وينتهي إلى المعركة العلمانية الحديثة التي سوف تنتهي بالهزيمة للضلال كما انتهت قبلها كل معارك الكفر ضد الإسلام.

وإذا كان علماء المسلمين في القرن الماضي شنوا هجومهم المبارك على المستشرقين وكشفوا بالحقائق والبراهين زيفهم وكذبهم وتحاملهم، فإنهم اليوم في حاجة شديدة إلى حملة أخرى ضد أذيال المستشرقين والملاحدة الغربيين من أمثال هذا الأفاك.

إن نفيه لصفة العلم للَّه تعالى وتهكمه بها، ثم نفيه لصفة الكلام وجعله

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 388 - 389.

ص: 587

القرآن مخلوقًا، ثم زعمه بأن قول أهل السنة هو أن القرآن قديم، كل ذلك من الكذب المفترى والإفك المبين، وهو نموذج من نماذج الحداثة الفكرية التي يراد لها أن تكون هي السائدة والشائعة، من خلال هيمنة سياسية عميلة، وإعلام مسخر للشر والفساد والإفساد، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العلي العظيم.

وإذا كان نصر أبو زيد قد استعذب أقوال معلميه من الملاحدة الكافرين فأضحى مرددًا لها، فإن في حقائق العقل ويقينيات الدين وقطعيات البراهين ما يدحض أوهامه التي يحاول أن يصورها في شكل علم وبرهان، وهي في الحقيقة ليست سوى دعاوى مدعمة بأدلة الكذب والأوهام.

إن غاية مراده من كل أباطيله أن يصل إلى جعل الدين ونصوصه المقدسة مجرد نصوص لغوية -كما قال- يُمكن نقضها ونقدها ومخالفتها ومحاربتها تحت شعار أنها ذات (. . . دلالات مفتوحة وقابلة للتجدد مع تغير آفاق القراءة المرتهن بتطور الواقع اللغوي والثقافي)

(1)

.

وما دمنا نتحدث في مجال وصف أهل الحداثة للَّه تعالى بأوصاف النقص، فإن من المناسب أن نذكر بعض مرامي هذا المفتري في كلامه السابق. .، فإنه بعد أن قدم بتلك المغالطات الواضحة واستند إلى أقوال المعتزلة مبجلًا مطريًا، أعاد باطله في صيغة أخرى حيث قال: (. . . فالقرآن كلام اللَّه وكذلك عيسى عليه السلام رسول اللَّه وكلمته. . .، وإذا كان القرآن قولًا ألقي إلى محمد عليه السلام، فإن عيسى بالمثل كلمة اللَّه. . .، والوسيط في الحالتين واحد وهو الملك جبريل الذي تمثل لمريم بشرًا سويًا وكان يتمثل لمحمد في صورة أعرابي، وفي الحالتين يُمكن أن يقال: أن كلام اللَّه قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين: تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هو المسيح، وتجسد في

(1)

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: 390.

ص: 588

الإسلام نصًا لغويًا في لغة بشرية هي اللغة العربية، وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريًا، أو تأنسن الإلهي)

(1)

.

ثم يكرر القول: (أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول بأن النصوص الدينية نصوص لغوية شأنها شأن أي نصوص أخرى في الثقافة. . . وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي إيديلوجي. . .)

(2)

.

إن منتهى هذه الأقوال نفي الدين بكامله، وجحد الألوهية بالكلية، ومناقضة الإسلام تمام المناقضة، لكن بطريق متلوي وتحت مسميات الدراسة اللغوية والألسنية البنيوية، فنفي صفة الكلام للَّه وجعلها مخلوقة، والخلط بين كلام اللَّه تعالى الذي هو صفة من صفاته ومنه القرآن العظيم وبين المخلوق بأمر اللَّه تعالى وهو عيسى عليه الصلاة والسلام، كل ذلك من أبواب التلبيس والتدليس والمغالطة.

فاللَّه -جلَّ وعلا- خالق، وكل شيء سوى اللَّه تعالى وصفاته مخلوق، وكلام اللَّه صفة من صفاته والقرآن كلام اللَّه منزل غير مخلوق، وعيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق وبأمر من اللَّه وكلام منه -جلَّ وعلا- وأمر وكلامه من صفاته وليست مخلوقة، كما قال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}

(3)

فقد فرق -جلَّ وعلا- بين الأمر والخلق ليدلنا على أن الأمر غير الخلق ولو كانا شيئًا واحدًا لما فرق بينهما.

ولسنا هنا في مقام الدحض لأقوال أبي زيد على طريقة محاجة أهل السنة لمخالفيهم من أهل الملة؛ لأن كلامه ينبع ويصب في حقول الإلحاد المظلمة، ويكفيه إلحادًا أنه جعل كلام اللَّه تعالى مخلوقًا بل جعله مجرد نصوص لغوية مثل الشعر والقصة والرواية، بل تبنى القول ببشرية النصوص الدينية حسب تعبيره، وواحدة من هذه تخرج من الملة فكيف وقد اجتمعت كلها؟!، نسأل اللَّه العافية والسلامة، ونعوذ باللَّه من الكفر وأهله.

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 390 - 391.

(3)

الآية 54 من سورة الأعراف.

ص: 589

وعلى منوال التنقص الذي اتخذته الحداثة شعارًا لها وأساسًا لمنطلقاتها، يتحدث حسن حنفي عن صفات اللَّه تعالى باعتجارها مجازًا في حين أن صفات المخلوق -كما يزعم- حقيقة، مستندًا إلى أقوال بعض المبتدعة من السابقين، زاعمًا أن سؤالًا وجه إلى أحد علماء اللغة القدامى:(والسؤال هو: أيهما أصح؟ هل اللَّه عالم قادر سميع بصير متكلم مريد بالحقيقة، وأنا كذلك بالمجاز؟ أم أن اللَّه عالم قادر حي سميع بصير متكلم مريد بالمجاز، وأنا كذلك بالحقيقة؟)، ثم يقول بأن عالم اللغة هذا انتهى:(لأن يقول بأن الرأي الثاني هو الأصح. . . إن هذه أشياء حقيقة عندي، فأنا أسمع وأبصر وأتكلم وأريد، ولما أردت أن أقيس على الشاهد وصفت اللَّه كذلك فأنا كذلك في الحقيقة وهو كذلك بالمجاز، فكل الوحي مجاز، وكل لغتنا مجاز وكل كلامنا مجاز، وهو تقريب لفهم الواقع، وتلك هي أهمية الخيال)

(1)

.

فما دامت صفات اللَّه عنده مجاز والوحي مجاز في حين أن الإنسان حقيقة، فإن مؤدى هذا القول الضال أن اللَّه تعالى ليس بحقيقة ولا وحيه حقيقة، بل ضرب من ضروب الوهم والخيال.

بل يصل به التنقص للَّه تعالى والسعي لهدم دين الإسلام ونقض عراه أن قرر بأن أي كلام تقوله يصح أن يكون قرآنًا، وذلك في قوله. (. . . الحداثة تبدأ بالالتحام المباشر مع الواقع، فالبنسبة لقضية فلسطين، هل أنك تحتاج إلى العودة إلى القرآن والحديث لتنادي بالتحرير؟ وفي قضية الشعر والفن، هل أنت محتاج إلى نص قرآني أو حديث نبوي لكي تعرف أو تجد حلًا لقضايا الشعر والفن وقضايا الوحدة والتجزئة، قضايا الهوية والاختلاف. . . الخ، وهذا يعني بأن الإلتحام المباشر بالواقع يجبُّ أحيانًا كل نص، بل إنك كما قال مالك بن أنس

(2)

: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو

(1)

الإسلام والحداثة: ص 223، أورد هذه الأقوال على ما ذهبت إليه تلك الفرق المبتدعة القديمة، أو متوقف عندها ولكنه أوردها ليخلص منها إلى مذهبه الشنيع.

(2)

هو: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر أبو عبد اللَّه الأصبحي الإمام صاحب المذهب، شيخ الإسلام وحجة الأمة، ولد سنة 93 هـ، وتوفي 179 هـ عن 89 سنة رحمه اللَّه تعالى ومناقبه أجل من الحصر، وفضله فوق الوصف، ومكانته في قلوب =

ص: 590

عند اللَّه حسن"

(1)

قل أنت: قال اللَّه في كتابه الكريم: يا شباب الحجارة ويا أطفال الحجارة استمروا، ويكون كلامك صحيحًا. . .، إن المسلم يجوز له أن يضع نصًا يعبّر به عن مقصدٍ في الواقع ويكون مصدرًا للحكم)

(2)

.

إنه يقرر بكل استخفاف وسخرية بأن الإنسان يُمكن له أن يقول أي كلام فيصبح هذا الكلام قرآنًا أي يصبح مثل كلام اللَّه.

{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)}

(3)

.

ومن أخبث أقوال حسن حنفي في هذا الصدد قوله في صيغة إعجاب بالصوفية في ندوة "الحداثة والإسلام": (. . . والصوفي يتحدث بحرية تامة مع اللَّه، ويتكلم عن علاقته العشقية مع اللَّه، وأنه لا فرق بين الذكر والأنثى، اللَّه يعامله جنسيًا وهو يعامل اللَّه جنسيًا. . .)

(4)

.

أمّا نزار قباني فإنه يصف اللَّه تعالى بالجهل وعدم المعرفة بالإنسان وقلبه وعواطفه، وذلك في قوله:(. . . القلب الإنساني قمقم رماه اللَّه على شاطيء هذه الأرض، واعتقد أن اللَّه نفسه لا يعرف محتوى هذا القمقم ولا جنسية العفاريت التي ستنطلق منه، والشعر واحد من هذه العفاريت)

(5)

.

ويصف اللَّه تعالى بأنه دبيب شعري وإيقاع، وأن موت القصيدة هو موت للَّه تعالى، إلى آخر كلامه النجس الدنس المليء بالكفر والضلال،

= المؤمنين مكينة، بل هي من علامات صحة الدين والاستقامة على السنَّة. انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 48، وتهذيب التهذيب 10/ 5، والبداية والنهاية 10/ 174 - 175.

(1)

هذا أثر موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، وليس من كلام مالك بن أنس كما قال هذا العلماني الجاهل. انظر: الأثر في مسند أحمد 1/ 379، وانظر الكلام عنه سندًا ومتنًا إن شئت في حقيقة البدعة وأحكامها 1/ 382 - 393.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 235 - 236.

(3)

الآية 50 من سورة النساء.

(4)

الإسلام والحداثة: ص 389.

(5)

أسئلة الشعر: ص 195.

ص: 591

حيث يقول: (إن اللَّه عندي هو دبيب شعري، وإيقاع صوفي داخلي، والشعور الديني لدي، هو شعور شعري، والكفر عندي هو موت صورة اللَّه القصيدة في أعماقي)

(1)

.

ويبلغ به التهكم والتنقص باللَّه تعالى أخبث غاية حين يقول: (. . . وماذا يكون الشعر الصوفي سوى محاولة لإعطاء اللَّه مدلولًا جنسيًا)

(2)

.

أمّا النصراني يوسف الخال فقد قرر بأن مسرحية الحلاج لصلاح عبد الصبور تصل إلى قاعدة نصرانية ويفسر ذلك بقوله: (عندما قال الحلاج: ما في الجبة إلّا اللَّه، فعلى الطريقة نفسها التي قال بها المسيح: أنا في الأب والأب فيّ، فالمسيح والحلاج قالا إن اللَّه يمشي على الأرض، إنه إنسان، انسنة اللَّه. . .)

(3)

.

سلام اللَّه وصلاته على المسيح عيسى ابن مريم، فقد كذبت عليه النصارى وافترت، كما كذبوا على اللَّه -جلَّ وعلا-.

وإن من التدنيس أن يقرن نبي اللَّه عيسى عليه السلام بالزنديق الحلاج، ويجعلان في سياق اعتقادي كفري واحد، نزه اللَّه نبيه عن ذلك.

أمّا وصف اللَّه بأنه يمشي على الأرض وأنه إنسان فوصف كفري من كافر ملحد، ولكنه إضافة إلى ذلك، يعد من أصول مبادئ الحداثة العربية، وهو ما يعبرون عنه بتأليه الإنسان وأنسنة اللَّه كما قال يوسف الخال، فسبحان اللَّه العظيم وتقدس الملك القيوم عما يقولون.

وفي سياق استخفافِ وتنقصِ يوسف الخال باللَّه الجليل، يقرنه بالمرأة، ويجعل وصف المرأة وصفًا للَّه -جلَّ وعلا-، يقول: (ليس ضروريًا أن يصف الشاعر امرأة يحبها، أن يصف عينيها وصدرها وجسدها،

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 196.

(3)

قضايا الشعر الحديث لجهاد فاضل: ص 294.

ص: 592

العيون الخضر والقامة البيلسان وما إلى ذلك، من وحي هذه المرأة قد يكتب قصيدة عن اللَّه)

(1)

.

أمّا عندما يزعم إمعات الحداثة من أبناء المسلمين أن رواد الحداثة من النصارى قد تخلو عن عقائدهم القديمة في الصلب والتثليث فإنا ننقل لهم بعض أقاويل الخال المشبعة بعقيدته النصرانية، وما النص السابق إلّا واحدًا من نصوص كثيرة، منها قوله في تمجيد الأولمب وأثينا وما نتج عنها من فكر ونظام:

(يا لفتحٍ للفكر مهد للحق

سبيلًا وزف خير البشائر

هو ذا اللَّه عن خطاياي مصلوبًا

يريني وجه المحبة سافر

فالتقى العالمان: الشرق والغرب

وشدّا على الوداد الأواصر

بفداء من المحبة سمح)

(2)

.

فها هي كلماته الزائفة تنضح بالنصرانية المحرفة، وتضج بالانحراف في وصفه اللَّه تعالى بالصلب، وفي ربطه التقدم والحرية بالعقائد الوثنية والخرافات النصرانية.

ويَمضي في تخبطاته الإلحادية واصفًا العظيم الجليل -جلَّ وعلا- بأنه أُنزل على الأرض، وأنه مات، وفق قاعدة الحداثيين والعلمانيين الملاحدة الذين يجعلون ذلك أساسًا لمنطلقاتهم الإبداعية والفنية والفكرية فيقول -متحدثًا عن الإنسان وطموحاته-:

(وكم تاق إلى الفعل فأعلى

(1)

المصدر السابق: ص 301

(2)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 108.

ص: 593

هرمًا، أو أنزل اللَّه على الأرض

إلهي حينما مات ألم

يشفع به الوهم الذي كانا)

(1)

.

وفي مقطع له بعنوان الحوار الأزلي، يخاطب اللَّه تعالى بخطاب مليء بالشك والريب والاستخفاف والنقص، وهو مقطع يُمكن من خلاله تلخيص مقاصد الحداثة ومآربها الاعتقادية ومشاريعها، ورموزها التي تتخذها للتعبير عن التخلف مثل الرمل والتماسيح والظلام والبوم والغربان والغيم الأسود والطوفان، وأخرى للتعبير عن التقدم مثل النور والبحر الذي هو الغرب.

وهو مقطع يتحدث فيه عن نشأة الإنسان وذكر فترات حياته وفق النبوات، ويصف اللَّه بأنواع كثيرة من النقص والازدراء بدءًا من سؤاله في المطلع:

(متى تُمحى خطايانا

متى تورق آلام المساكين؟

متى تلمسنا أصابع الشك؟

أأموات على الدرب ولا ندري)

(2)

.

ثم يقول على طريقته وعقيدته النصرانية:

(إذا ما استفحل الشر:

صليب اللَّه مرفوع على رابية الدهر)

(3)

.

ونحوه قوله:

(1)

المصدر السابق: ص 215.

(2)

المصدر السابق: ص 220.

(3)

المصدر السابق: ص 221.

ص: 594

(صليب اللَّه لم يمح خطايانا)

(1)

.

ثم يسأل سؤالًا كافرًا:

(متى يعرى، إله ملأ العين

إله يمت بعد. . .)

(2)

.

ثم يعود إلى مذهب الحداثي الذي سماه قبلًا "أنسنة اللَّه" تعالى اللَّه وتقدس فيقول:

(وهذا الزاحف العاري أإنسان؟

أإنسان على شاكلة اللَّه؟

أراه قُدّ من لحم الشياطين)

(3)

.

ثم يجتريء في وقاحة فيصف اللَّه -جلَّ وعلا- بالموت ويجعله لحمًا وخبزًا ودمًا وخمرًا يؤكل ويشرب، تقدس اللَّه وتنزه عما يقول الحداثيون:

(غراب البين لم يرحم ضحايانا

ولم ينهض من القبر سوى اللَّه.

سوى شيء هو اللَّه، أكلنا لحمه

خبزًا، شربنا دمه خمرًا

فما أشبعنا الخبز

ولا أسكرنا الخمر)

(4)

.

وهكذا تنشأ الحداثة في هذه المراتع الوخمة، وعلى أيدي هؤلاء الحاقدين، أعداء الدين والإنسانية وحلفاء الرذيلة والشيطان، وعلى هذه

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 225 ونحوه: ص 226.

(2)

المصدر السابق: ص 222.

(3)

المصدر السابق: ص 223.

(4)

المصدر السابق: ص 225.

ص: 595

النماذج تتكون أفكار وعقائد الحداثيين ومشروعاتهم.

ومن أقواله في وصف اللَّه تعالى بالنقص قوله:

(ندق بوابة النعيم

تنزف أيدينا

يقال هذا حظنا القديم

واللَّه صامت فينا)

(1)

.

وقوله:

(واللَّه في ديارنا مشرد

يود لو أن يدًا جريئة

تعيده)

(2)

.

وقوله:

(وحين أموت خذوا جسدي

ولا تدفنوه

لئلا يقوم مع الفجر يومًا

ويكشف سر الإله

مع الشوق يحلو لنا الانتظار

وإن فرغت خمرة في الكؤوس

فها هو ذا الرب بين الحضور. . .

وفي الحب تنكشف الأحجيات

(1)

المصدر السابق: ص 309.

(2)

المصدر السابق: ص 330.

ص: 596

فلا يتدحرج صخر القبور

ولا يصعد اللَّه نحو السماء)

(1)

.

وأمّا محور كلامه عن اللَّه فهو يبدأ ويعود إلى وصفه -جلَّ وعلا- بالموت من جنس قوله:

(ونعش الإله القديم)

(2)

.

وهذا المحور الذي يدور كلامه عليه، هو المحور ذاته الذي تدور عليه قضية الحداثة من أولها إلى آخرها، وإن زعم المغفلون غير ذلك.

والشاعر التموزي النصراني الحداثي الآخر جبرا إبراهيم جبرا أستاذ الجيل الحداثي ومفخرة الأدب الحداثي، له في هذا المسلك الشائن مثل الذي لأشباهه، ومن ذلك قوله عن المرأة المحتشمة:

(اتلك التي وراء الجدار المهدم قلت لها

حديقة اللَّه في هذا الجسد)

(3)

.

وهذه إضافة تدنيس وتنقص، مثل قوله:

(في وجه الفضاء والأفنان العوالي تنحني

كأقواس الكنائس الشواهق

واللَّه يهدر صوته بين الشجر)

(4)

.

وفي مقطع كتبه بالأحرف اللاتينية (AGNUS DEI) وترجمتها "قتل الإله"

(5)

، أو "لا أدري" الإلحادية المنسوبة لمذهب اللاأدرية الذي سبق الحديث عنه، يقول:

(1)

المصدر السابق: ص 354 - 355.

(2)

المصدر السابق: ص 358.

(3)

المجموعات الشعرية الكاملة لجبرا إبراهيم جبرا: ص 53 - 54.

(4)

المجموعات الشعرية الكاملة لجبرا إبراهيم جبرا: ص 129.

(5)

المصدر السابق: ص 138 - 139.

ص: 597

(يا حمل اللَّه الحاملَ خطايا العالم

قطّر دمعنا لفظًا)

(1)

.

وثالث أثافي الشر الحداثي النصراني "توفيق صايغ" يستخدم كل وسائله التصريحية والتلميحية، ومصطلحاته النصرانية في سياق تهجم وتنقص باللَّه تعالى، فمن ذلك قوله:

(أأنا الملومُ

إن أنت نفيتني

وأنت وصمتني

وقلت: فتش عن الفداء

وسقت عني الفداء

أأنا أصفّد

لدخولي منزلًا

أنت عينته لي

ومفتاحك أدخلني فيه؟

أناتك يا واصمي

رضيت الوصمة

وكفارة وسّعت وصمتي

أفلا يكفيك هذا

إلهي ألا يكفيك؟)

(2)

.

وقد أثنى سعيد عقل

(3)

على هذا الكفر الأصلع وامتدح هذا الظلام

(1)

المصدر السابق: ص 138 - 139.

(2)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 28 - 29.

(3)

سبقت ترجمته ص 159.

ص: 598

الدامس فقال: (. . . وها هو ينقلب بشرًا، يعرف الألم حتى النهاية، أشبه بذاك الإله هو. . . يتجرأ على اللَّه "أأنا أصفّد؟ " يصرخ في وجهه، أصفّد لولادتي في عالم أنت عينته لي؟ حيرتني، حيرتني إلهي! ويكاد بالحجارة يرشق مطلات السماء)

(1)

.

وعبر عن إعجابه بنظيره الصائغ بقوله: (إنه مزيج من شبق ولا هوت)

(2)

.

غير أنه صدق حين قال عنه: (إنه كل شيء سوى اللاشيء، هذا الذي جاء آخر الزمن في عصر يتنفس العدم تنفسًا في الفلسفة والشعر وفي الفن جميعًا)

(3)

.

وهذه العدمية أليق وصف يستحقه الصائغ وسعيد عقل وكل اتجاه الحداثة الذي شبع من عفوناتها وارتوى من نتنها وهو في غاية الغبطة والافتخار!!.

ولتوفيق صائغ مقاطع عديدة في التهكم باللَّه تعالى ومخاطبته بسخرية ووصفه بأوصاف النقص منها المقطع الذي سبق النقل منه في عدة مواضع من الفصلين السابقين، ومن أقواله في هذا المقطع البذيء مما يخاطب به اللَّه تعالى، قوله:

(ورسمك الذي بدا يتهلهل)

(4)

.

(أأدركت ما بنا

أم أأعماك الغرور واللاانتظار

وإباؤك أن ترانا انتشينا)

(5)

.

(1)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ من المقدمة التي كتبها سعيد عقل: ص 16.

(2)

و

(3)

المصدر السابق: ص 18.

(4)

و

(5)

المصدر السابق: ص 203، 204.

ص: 599

(نقعتنا بها بحمأة الترجي

ولا رجاء

ونفضتنا عنك أرخص مما اشتريتنا

ولم تخلف لنا

غير وعد برسول من لدنك

ينقل لنا خيراتك. . .)

(1)

.

(. . . ولم نعذب رسولك ليبوح

أنك مغلوب كايانا

وفي عوز مثلنا وأسر وصحراء

ورسالاتك هذه إلينا

استغاثات لا غرام

وتقربك الآن إلينا

ليس حبًا بقربى

لكن لتسكين إبرة فيك

لا تكل)

(2)

.

سبحان ربي العظيم وبحمده.

ومن أقواله أيضًا:

(سيعرّف الليلة

الإله الشبق

(1)

المصدر السابق: ص 203، 204.

(2)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 205.

ص: 600

تلك التي

لم تعرف مثلها مع رجل)

(1)

.

وقوله:

(عُذرتها ألهتها

أهلت أمها أن تسمى

حماة اللَّه)

(2)

.

وقوله -أحرقه اللَّه في جهنم-:

(الإله الصبي

كيف يشيخنا

يقلبنا زبانية؟

المكتنز الخدين كإليتين

كيف يحفر في خدودنا

وتحت عيوننا الجور

الهشُّ اللعوب

يصب الصلب

في القلوب. . .)

(3)

.

ومن مقاطع الكفر المقطع الذي سماه (صلاة جماعة ثم فرد اقتباس من ريلكه)

(4)

.

وفيه:

(إلهتنا الفتية العتيقة، نخشاها ونهواها

(1)

المصدر السابق: ص 262.

(2)

المصدر السابق: ص 305.

(3)

المصدر السابق: ص 311 - 312.

(4)

المصدر السابق: ص 375.

ص: 601

تتقاضين دماءنا وتبعثين فينا الزغاريد

والقفزات المجنونة القدسية الفاحشة

موحى الأغاني وحدك وفحواها. . .)

(1)

(إلهتنا الزراعة الغيرة

المبينة عبث سخافة الغيرة والحسد:

. . . المتعبد الحابس نفسه

أيحبس اللَّه في الصومعة؟

المفكر، الدارس اللَّهَ

أتحتكرَ اللَّه أوراقُه؟

المبشر أله اللَّه وحده

ولأجلافه وأدغاله)

(2)

.

وفي أحد الكتب التي ألفت للإشادة بتوفيق صايغ والدعاية له، والتي جمع فيها المؤلف بعض كتاباته التي لم تنشر يقول في بعضها:(. . . جملتي لخليل عن ضرورة التقاء اللَّه والشيطان فيّ)

(3)

.

ويقول المؤلف أنه وجد على ورق كرتون صغير بخط يد توفيق ما يلي: (يا إلهي، هل ستكون مثلهم جميعًا! لن تصدقني، لن ترضى بمنطق، ستكون مشككًا ستغتابني وتقلب الأركان سرًا من تحتي. . .)

(4)

.

(1)

الأعمال الشعرية لتوفيق صايغ: ص 376.

(2)

المصدر السابق: ص 377 - 378.

(3)

توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى لمحمود شريح: ص 85.

(4)

المصدر السابق: ص 144.

ص: 602

والحداثي النصراني الآخر وهو أنسي الحاج رتع في هذا المرتع الوخم أخبث ما يكون الرتع.

فمن ذلك وصفه بأن اللَّه -جلَّ وعلا- قد قتل ومات، وهو المعنى الذي أكرر القول بأنه أصل من أصول الحداثة الغربية وذيلها من الحداثات الأخرى، والتي منها محل البحث "الحداثة العربية" يقول أنسي الحاج:(تقتل الكلمة جسد اللَّه بعد قتل اللَّه روحًا وجسدًا)

(1)

.

ويصف اللَّه تعالى بالدهشة حين خلق الخلق وهو معنى تهكمي واضح؛ لأن الحاج وأضرابه من ملاحدة الحداثيين ينكرون -أصلًا- وجود اللَّه، ولكنهم يستخدمون أساليب التهكم والتنقص لزعزعة الإيمان وتهوين أقوال الكفر، وتطبيع عقائد الإلحاد، وهذا هو الذي حدث فعلًا، فإنه قلما تجد من يدمن قراءة كتب هؤلاء -بعين الرغبة في الاستفادة منهم- إلّا وتجد هيبة اللَّه تعالى قلت في نفسه، وتوقيره -جلَّ وعلا- عدم، والحياء منه انطمس، أمّا من انغمس معهم في خوضهم وضلالهم، فأصبح كما قال اللَّه تعالى:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

(2)

.

يقول أنسي الحاج: (العشق الأول، الأول، الأقرب ما يكون إلى دهشة اللَّه الأولى بمن خلق)

(3)

.

ويقول: (لم أجد اللَّه كما وجدته حين لم أعد احتمل أفكاري)

(4)

.

ويقول: (اللهو المجنون من صفات الألوهية، والفن لهو، الفنان في لحظة الخلق فلذة إله)

(5)

.

(1)

خواتم: ص 19.

(2)

الآية 176 من سورة الأعراف.

(3)

خواتم: ص 34.

(4)

المصدر السابق: ص 57.

(5)

المصدر السابق: ص 58.

ص: 603

وينسب المجرمين إلى اللَّه تعالى، ويقصد بهم أهل الدين، الذين يقاومون الكفر والإلحاد، يقول:(مجرمو اللَّه، في أي زمن وإلى أي إله انتسبوا هم طارئودن على فني الإجرام والقداسة معًا. . .)

(1)

.

ثم يضيف قائلًا: (الصلاة تسقى اللَّه كما يسقي الحب المرأة)

(2)

.

ويقول: (اللَّه خلق الإنسان وسرعان ما ندم وقال ما هكذا كان المقصود أن يصير)

(3)

.

ويقول: (اللَّه في البركة مطمئن وفي النهر منزعج، الصمد يرتاح في جمود الحركة ويراقبها بعيون الغدران والمستنقعات)

(4)

.

(هل يستطيع اللَّه أن يبطل إلهًا)

(5)

.

ويقول: (اللَّه مهما اختلفت الرؤى حوله، يتمثل لنا بصورة شبه دائمة رمزًا للاستيعاب الأوسع، الأشمل، تستطيع أن تتمرد عليه وتنعم في الوقت ذاته بعفوه نتمرد على اللَّه كما نتمرد على الأب، تستطيع أن تكون شيطانًا في كنف اللَّه. . . اللَّه يلحظ سقوطي ويحتويه، إنه معي حتى ولو كنت ضده. . . صورة اللَّه في كتابات بعض الأنبياء هي صورة السلطان الذي كانوا يشتهون أن يكونوا اللَّه أول الدمع. . . لا دموع إلّا دموع اللَّه فوقها)

(6)

.

ويقول: (الفن ليس براعة بل استقباله اللَّه)

(7)

.

وأقواله الخبيثة في السخرية والاستهزاء وإلحاق أوصاف النقص بالباري كثيرة، وخاصة في ديوانه المسمى "لن" ذلك أن هذا المنحى من أهم مطالب الحداثة العربية، ومن أبرز ظواهر فكرهم واعتقادهم الخبيث، ولذلك

(1)

المصدر السابق: ص 64.

(2)

المصدر السابق: ص 65.

(3)

المصدر السابق: ص 67.

(4)

المصدر السابق: ص 68.

(5)

خواتم: ص 78 - 79.

(6)

و

(7)

المصدر السابق: ص 134.

ص: 604

تجد أنهم تواطأوا على ذلك: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)}

(1)

ومنهم الحداثي الشيوعي العراقي سعدي يوسف الذي يقول:

(نقدم بلدانًا عارية إلّا من بدلات جاهزة

ونشيدًا للمنتصرين على أطفال اللَّه)

(2)

.

ويقول:

(يا أيها الملقى على أرضٍ -وإن قربت- غريبة

لكائن طعم اللَّه طين)

(3)

.

ومنهم الرافضي المنبت، الشيوعي المبدأ الحداثي العراقي مظفر النواب، الذي بلغ به انحرافه إلى حد الإلحاد الصريح، والتهكم الواضح باللَّه -جلَّ وعلا- ووصفه بأوصاف هابطة -جَلَّ اللَّه وَتَقَدَّسَ- وذلك في مثل قوله:

(تلك شيوعية هذي الأرض، وكان اللَّه معي يمسح عن قدميه الطين

فقلت له: أشهد أني من بعض شيوعية هذي الأرض

. . . اتقنت تعاليم الأهوازي، ووحدت النخلة واللَّه وفلاحًا يفتح نار الثورة في حقل الفجر. . . تكامل عشقي)

(4)

.

فهذا هو نسبه الاعتقادي من الأهوازي الرافضي الباطني إلى الشيوعية الإلحادية، وبين هذا وذاك أوصاف النقص التي يحاول إلصاقها باللَّه تعالى، ومن أقواله:

(1)

الآية 53 من سورة الذاريات.

(2)

ديوان سعدي 1/ 47.

(3)

المصدر السابق: 1/ 366.

(4)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية: ص 21، 22.

ص: 605

(ركض البستان، وكان الرب على أصغر برعم ورد

ناديت عليه ستقتل

فاركض

ركض الرب)

(1)

.

ويقول:

(ثمل اللَّه بنا

مما فهمنا أدب الشرب

وأنهينا القناني

حيرة في لغزه

سماره كنا

وكان الأرقا)

(2)

.

وعند هذه الأقوال يقول مؤلف الكتاب المخصص لمدحه والدعاية له: (وهو لا يشرب ليشارف المطلق فحسب، وإنّما ليسكر المطلق نفسه)

(3)

.

ويقولان في تحليلهم النقدي الحداثي لشعر النواب: (. . . إن حضور "اللَّه" في شعر النواب، حضور راسخ وأصيل. . حضور مشارك جميل، حضور له خصوصيته العالية فهو ليس مفارقًا يستدعى الحنين إليه، وليس طقوسيًا تحجبنا مراسيم الدخول إليه، ولا صاحب دينونة تعطفنا عوامل الرغبة والرهبة عليه، والرائع في حضور "اللَّه" في شعر النواب أنه ينبثق من اللحظات الحرجة التي يشكل حضوره فيها جمالية ودهشة يولدهما الألفة

(1)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية: ص 20، 62.

(2)

و

(3)

المصدر السابق: ص 54.

ص: 606

الحميمة بين المتناقضات)

(1)

.

ثم يستشهدان بقوله:

(طائر اللذة

ملقى بين ضلعيك سجينا

خذ رشيفات وحرره قليلًا

ربّما يشتاق من نافذة الحانة للَّه

ويغري الأفقا)

(2)

.

إن في التحليل السابق الذي هو جزء من التحليلات النقدية الحداثية إيضاح لمدى الاستخفاف الذي انحدرت إليه جاهلية الحداثة العربية، حيث جعلوا اللَّه تعالى مجرد لفظ يستخدم وتعبير فني يولد الدهشة، وحضور جمالي يستخدمه الشاعر الحداثي بالصورة التي يريد ووفق الأوصاف التي يحب، وكأن اللَّه -تعالى وتقدس- مجرد لفظ، بل هو عندهم -قاتلهم اللَّه- مجرد كائن يتحدثون عنه مثلما يتحدثون عن أي شيء لا قيمة له، وغايتهم من كل ذلك تحطيم معنى الإجلال والتعظيم والقداسة التي للَّه تعالى في قلوب المسلمين، وأتى لهم ذلك؟!.

ومن أقول النواب الخبيثة قوله:

(يا من رأى اللَّه شاحنة ليس تلوي)

(3)

.

وقوله:

(ارجحتني على الكون أمي كحلم النوارس

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 57.

(3)

المصدر السابق: ص 63، 119.

ص: 607

فالتبس اللَّه عندي بكل البشر)

(1)

.

وقوله:

(ماذا على موجة اللَّه كانت تبث)

(2)

.

وقوله:

(فإن سكن الخلق

يأخذ عزلته بزاويا من اللَّه عابقة بالشراب

ويثمل باللَّه سبحانه

والبلاد التي درجات الكحول بها

لم تصلها الخمور)

(3)

.

ومنهم العربيد التائه أمل دنقل، الذي يقول:

(وألمح -من خلال الموج- وجه الرب

يؤنبني)

(4)

.

(يطالعني الندى واللَّه والغفران

وأسقط بين نهديك)

(5)

.

ويجعل للَّه تعالى خاتمًا وكأنه واحد من البشر فيقول:

(وعيناك فيروزتان تضيئان

في خاتم اللَّه. . . كالأعين)

(6)

.

(1)

المصدر السابق: ص 75.

(2)

المصدر السابق: ص 115.

(3)

المصدر السابق: ص 141.

(4)

الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل: ص 48.

(5)

المصدر السابق: ص 89.

(6)

الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل: ص 89.

ص: 608

ويقبس من عقائد أساتذته في الحداثة، من اليهود والنصارى ويقرر عقائدهم الضالة في قوله:

(ارتاح الرب الخالق في اليوم السابع)

(1)

.

ويظهر نفسه في منزلة الند للَّه تعالى في قوله:

(حاذيت خطو اللَّه لا أمامه، لا خلفه)

(2)

.

ويقول:

(ورأيت ابن آدم ينصب أسواره حول مزرعة

اللَّه، يبتاع من حوله حرسًا، ويبيع لأخوته

الخبز والماء. . .)

(3)

.

ويقول:

(فهل نزل اللَّه عن سهمه الذهبي لمن يستهين به

هل تكون مكان أصابعه بصمات الخطاه)

(4)

.

ومثل أكثر الحداثيين في اقتباس عقائد التصوف من حلول واتحاد ووحدة وجود يقول:

(أن ينهض الجسد المتمزق مكتمل الظل

حتى يعود إلى اللَّه. . متحدًا في بهاه)

(5)

.

ومنهم الحداثي المشتغل بالجنس والمرأة، والمتفاخر بالزنى والكفر، شاعر الغناء والشباب نزار قباني، وأقواله الشنيعة في وصف اللَّه تعالى بما

(1)

المصدر السابق: ص 148.

(2)

المصدر السابق: ص 180، 184.

(3)

المصدر السابق: ص 269.

(4)

المصدر السابق: ص 344.

(5)

المصدر السابق: ص 346.

ص: 609

لا يليق بجلاله وعظمته وقداسته، كثيرة جدًا، وسوف أذكر منها بعض الشواهد على انحرافه وانحراف أدب الحداثة الذي هو أحد زعمائه في البلاد العربية يقول مخاطبًا اللَّه تعالى في عبارات تهكم شديد:

(من أين يا ربي عصرت الجنى وكيف فكرت بهذا الفم

وكيف بالغت بتدويره وكيف وزعت نقاط الدم

وكيف بالتوليب سورته بالورد بالعناب بالعندم

وكيف ركزت إلى جنبه غمازة تهزأ بالانجم

كم سنة ضيعت في نحته قل لي ألم تتعب ألم تسأم)

(1)

ويقول واصفًا اللَّه تعالى بالغرور:

(عندي أنا لؤلؤة

أين غرور اللَّه من غروري)

(2)

.

وفي قصيدة له على لسان لعوب تخاطب رجلًا من بلاد البترول، يقول:

(على أقدام مومسة هناك دفنت ثاراتك

ضيعت القدس بعت اللَّه بعت رماد أمواتك)

(3)

.

ويخاطب عشيقته واصفًا نفسه بالمل وواصفًا اللَّه -جلَّ وعلا- به فيقول:

(وحاولي مرة أن تفهمي مللي

قد يعرف اللَّه في فردوسه المللا)

(4)

.

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 59.

(2)

المصدر السابق: 1/ 426.

(3)

المصدر السابق: 1/ 448 و 3/ 66 - 67.

(4)

المصدر السابق: 1/ 751.

ص: 610

ويجعل للَّه عمرًا -تعالى اللَّه وتقدس- ويقرنه بعمر البحور فيقول:

(عمر حزني

مثل عمر اللَّه. . أو عمر البحور)

(1)

.

ويقرن بيروت باللَّه تعالى، ويصف اللَّه بأنه في كل مكان، كما يقول بذلك أهل وحدة الوجود فيقول:

(قرري أنت إلى أين

فإن الحب في بيروت مثل اللَّه في كل مكان)

(2)

.

ويقرن محبوبته باللَّه -جلَّ وعلا- ويجعل حبها دليلًا على أن اللَّه قد عاد إلى الأرض، وهي بذاءة اعتاد الحداثيون تكرارها، يقول قباني:

(حين أحببتك

لاحظت بأن الكرز الأحمر في بستاننا

أصبح جمرًا مستديرًا. . .

وبأن اللَّه.

قد عاد إلى الأرض أخيرًا)

(3)

.

ويخاطب عشيقته التي انصرفت عنه إلى عشيق آخر، ثم يصف اللَّه تعالى بأنه يُباع في جلسة جنس وطرب تعالى اللَّه وتقدس، يقول:

(فأنا أعرف يا سيدتي

أن أحلامك أن تلتقطي

بدويًا عاشقًا

(1)

المصدر السابق: 1/ 757.

(2)

المصدر السابق: 2/ 23.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 73.

ص: 611

يرهن التاريخ عند امرأة

ويبيع اللَّه في جلسة جنس وطرب)

(1)

.

وتبلغ به وقاحته الحداثية إلى أن يصف اللَّه تعالى بأن له حجرة قمرية، وذلك في قوله:

(تتكون حين أحبك أودية وجبال. . .

ويكون اللَّه سعيدًا في حجرته القمرية)

(2)

.

ويقول:

(اللَّه يفتش في خارطة الجنة عن لبنان)

(3)

.

وفي سخرية باللَّه تعالى وتنقص واضح له -جلَّ وعلا- واستهزاء بالإيمان به يقول:

(طلبوا أن نشطر الرب لنصفين

ولكنا اختجلنا

إننا نؤمن باللَّه

لماذا جعلوا اللَّه هنا من غير معنى)

(4)

.

وانحدر مع عقائده الضالة إلى أسفل سافلين، ووصف اللَّه بأبشع الأوصاف، وأضاف إليه ما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وذلك في قوله:

(حين وزع اللَّه النساء على الرجال

واعطاني إياك شعرت

إنه انحاز بصورة مكشوفة إلي

(1)

المصدر السابق: 2/ 133.

(2)

المصدر السابق: 2/ 188.

(3)

المصدر السابق: 2/ 323 و 587.

(4)

المصدر السابق: 2/ 351 و 617.

ص: 612

وخالف كل الكتب السماوية التي ألفها

فأعطاني النبيذ وأعطاهم الحنطة. . .

حين عرفني اللَّه عليك

وذهب إلى بيته

فكرت أن أكتب له رسالة على ورق أزرق

وأضعها في مغلف أزرق

وأغسلها بالدمع الأزرق

ابدؤها بعبارة: يا صديقي

كنت أريد أن أشكره

لأنه اختارك لي

فاللَّه كما قالوا لي

لا يستلم إلّا رسائل الحب

ولا يجاوب إلّا عليها

حين استلمت مكافأتي

ورجعت أحملك على راحة يدي

كزهرة مانوليا

بست يد اللَّه.

وبست القمر والكواكب)

(1)

.

وهكذا بكل جرأة وخبث ودناءة يتحدث هذا الخصيم المبين لدين المسلمين عن اللَّه رب العالمين، ويصفه وكأنه أحد زملائه أو ندمائه "سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم".

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني: 2/ 402 - 404.

ص: 613

ويتطاول على مقام اللَّه فيصفه -جلَّ وعلا- بأنه تزوج حبيبته فيقول:

(لأنني أحبك

يحدث شيء غير عادي

في تقاليد السماء

يصبح الملائكة أحرارًا في ممارسة الحب

ويتزوج اللَّه حبيبته)

(1)

.

قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}

(2)

.

وعلى طريقته القبانية الهابطة يجعل اللَّه تعالى شاهدًا وحيدًا على دعارته، ولا شك أن اللَّه مطلع على كل ما يعمل الخلق إلّا أنه جاء بهذا القول في سياق تنقصي وفي تدنيس واضح وخسة بالغة، يقول:

(في هذه الغرفة الزجاجية

المتدحرجة على الغيم كفندق صغير

وأن يكون شاهد عرسنا الوحيد

هو اللَّه)

(3)

.

ويقول:

(. . . أتوسل إلى اللَّه.

(1)

المصدر السابق: 2/ 442.

(2)

الآيات 100 - 102 من سورة الأنعام.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار قباني: 2/ 478.

ص: 614

أن يلغي الشتاء من مفكرته

لأنني لا أعرف

كيف سأقابل الشتاء بعدك)

(1)

.

وفي سياق ذكره لإباحيته ودعارته وامتهانه للمرأة وجعلها مجرد إناء للشهوة والجنس، يذكر بعد ذلك أنه في معاشرته لخدينته اكتشف وجه اللَّه وهو تدنيس مقصود واستنقاص مراد، وتهكم واضح باللَّه -جلَّ وعلا-، يقول:

(كان عندي قبلك قبيلة من النساء

انتقي فيها ما أريد

وأعتق ما أريد. . .

. . . وحين ضربني حبك على غير انتظار

شبت النيران في خيمتي

وسقطت جميع أظافري

وأطلقت سراح محظياتي

واكتشفت وجه اللَّه)

(2)

.

ويقول:

(فلا تسافري مرة أخرى

لأن اللَّه منذ رحلت دخل في نوبة بكاء عصبية

وأضرب عن الطعام)

(3)

.

(1)

المصدر السابق: 2/ 485.

(2)

المصدر السابق: 2/ 504 - 505.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 562.

ص: 615

وكان بإمكانه أن يضع مكان لفظ الجلالة أي اسم مثلًا: القلب أو الروح أو الصب إلى غير ذلك، ولكنه تعمد وضع اسم اللَّه العظيم إمعانًا في التنقص وإشاعة للإلحاد، قاتلهم اللَّه أنى يؤفكون.

ويقول:

(ولأنني أحبك

أحمل تصريحًا خاصًا من اللَّه.

بالتجول بين ملايين النجوم)

(1)

.

ويقول:

(ساعتنا واقفة

لا اللَّه يأتينا ولا موزع البريد

من سنة العشرين

حتى سنة السبعين)

(2)

.

ويصف اللَّه تعالى بالموت مشنوقًا، مثله مثل سائر الحداثيين، فيقول:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا

على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمة

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(3)

.

ويقول:

(إن أقصى ما يغضب اللَّه.

(1)

المصدر السابق 2/ 648.

(2)

المصدر السابق 2/ 284.

(3)

المصدر السابق 3/ 342.

ص: 616

فكر دجنوه وكاتب عنين)

(1)

.

ألا إن غضب اللَّه على الكفر وأهله، والكفر المدجن بالإلحاد والكاتب المنغمس في رذائل العقائد والأخلاق.

قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}

(2)

.

ويقول نزار قباني:

(ولماذا نكتب الشعر وقد

نسي اللَّه الكلام العربي)

(3)

.

ويقول: (من أين يأتي الشعر يا قرطاجة واللَّه مات وعادت الأنصاب)

(4)

.

وكلامه في وصف اللَّه بشتى النقائص كثير وفيما ذكرنا كفاية لمن أراد أن يحكم على بصيرة على هذا الكاتب وأشباهه، وعلى الحداثة وأتباعها.

- ومنهم محمود درويش، القائل:

(1)

المصدر السابق 3/ 443.

(2)

الآيات 104 - 109 من سورة النحل.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 3/ 498.

(4)

المصدر السابق 3/ 637.

ص: 617

(نامي فعين اللَّه نائمة عنا وأسراب الشحارير)

(1)

.

والقائل:

(وُلد اللَّه.

وكان الشرطي)

(2)

.

(ولد اللَّه.

وكانت شرطة الوالي

ومليون قتيل)

(3)

.

قال اللَّه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}

(4)

.

ويضيف درويش "الشرفة" إلى اللَّه تعانى إضافة تهكم فيقول:

(أم كنت أنت الذي يتدحرج من شرفة اللَّه.

قافلة من سبايا؟)

(5)

.

ويصف اللَّه تعالى بأن له ذكريات، وكأنه واحد من البشر المهازيل تعالى اللَّه وتقدس، قال:

(يومك خارج الأيام والموتى

وخارج ذكريات اللَّه والفرح البديل)

(6)

.

(1)

ديوان محمود درويش: ص 24.

(2)

المصدر السابق: ص 264، 266.

(3)

المصدر السابق: ص 268.

(4)

سورة الإخلاص.

(5)

ديوان محمود درويش: ص 498.

(6)

المصدر السابق: ص 554.

ص: 618

ويتهكم باللَّه تعالى حين يصفه آتيًا إلى الفقراء، وأنه لا يأتي بلا سبب، وذلك في قوله:

(واللَّه لا يأتي إلى الفقراء، إذ يأتي، بلا سبب

وتأتي الأبجدية معولًا أو تسلية

عادوا إلى يافا، وما عدنا

لأن اللَّه يأتي بلا سبب)

(1)

.

وكل هذا في سياق سخرية وتنقص وازدراء، تعالى اللَّه العظيم، ونحو ذلك قوله:

(يا أخضر لا يقترب اللَّه كثيرًا من سؤالي)

(2)

.

وفي ديوانه أحد عشر كوكبًا يجعل للَّه تعالى مئذنة:

(. . . سترفع قشتالة

تاجها فوق مئذنة اللَّه، أسمع خشخشة للمفاتيح)

(3)

.

ويخاطب اليهود قائلًا:

(فلا تدفنوا اللَّه في كتب وعدتكم بأرض على أرضنا)

(4)

.

ويقول:

(. . . فخذ وقتكم

لكي تقتلوا اللَّه)

(5)

.

(1)

المصدر السابق: ص 563.

(2)

المصدر السابق: ص 634.

(3)

أحد عشر كوكبًا: ص 16.

(4)

المصدر السابق: ص 40.

(5)

المصدر السابق: ص 42.

ص: 619

وهذا الوصف مما أجمع عليه أهل الحداثة قاتلهم اللَّه، ومرادهم -كما سبق البيان- إبعاد الدين بالكلية وإسقاط القداسة وترسيخ الإلحاد.

ويقول:

(. . . خذوا دمنا واتركوها

كما هي

أجمل ما كتب اللَّه فوق المياه

له ولنا)

(1)

.

وعلى طريقة الحداثيين في تأليه الإنسان، وأنسنة اللَّه حسب تعبيرهم الكفري، يقول درويش:

(صحراء للصوت صحراء للصمت صحراء للعبث الأبدي

للوح الشرائع صحراء، للكتب المدرسية، للأنبياء وللعلماء

لشكسبير صحراء، للباحثين عن اللَّه في الكائن الآدمي)

(2)

.

وفي ديوانه ورد أقل قصيدة بعنوان "إلهي لماذا تخليت عني؟ " على لسان امرأة يقول فيها:

(إلهي إلهي، لماذا تخليت عني، لماذا تزوجت مريم؟

لماذا وعدت الجنود بكرمي الوحيد لماذا؟ أنا الأرملة. . .

. . . أطلقتني؟ أم ذهبت لتشفي سواي عدوّي من المقصلة

أمن حق من هي مثلي أن تطلب اللَّه زوجًا وأن تسأله

إلهي إلهي. . . لماذا تخليت عني

(1)

أحد عشر كوكبًا: ص 44.

(2)

المصدر السابق: ص 98.

ص: 620

لماذا تزوجتني يا إلهي، لماذا. . . لماذا تزوجت مريم؟)

(1)

.

-ومنهم الشيوعي الفلسطيني الحداثي الهالك معين بسيسو الذي وصل به كفره وإلحاده إلى أن يصف اللَّه تعالى بأنه غزال أخضر يعدو ويصاد ويباع سبحانه وتعالى، قال بسيسو:

(لم يبق سوى اللَّه.

يعدو كغزال أخضر تتبعه كل كلاب الصيد

ويتبعه الكذب على فرس شهباء

ستطارده، سنصيد لك اللَّه.

من باعوا الشاعر يا سيدتي

سيبيعون اللَّه)

(2)

.

وأقواله الخبيثة من هذا القبيل كثيرة، مليئة بوصف اللَّه بأوصاف لا تليق به تعالى، ومنها قوله:

(تيمور على أبواب سمرقند، وتيمور هو اللَّه.

ملائكة اللَّه، شياطين اللَّه)

(3)

.

وقوله:

(أخفتني عاهرة

ووشى بي قديس

كان اللَّه معي

لكن اللَّه هنالك يُدلي بشهادته

(1)

ورد أقل: ص 81.

(2)

الأعمال الشعرية الكاملة: ص 341.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة: ص 371.

ص: 621

في مركز بوليس

- فتح المحضر: ما اسمك، كم عمرك، ما عنوانك

- مهنتك. . وكانت مهنته اللَّه.

أخذوا بصمات اللَّه.

والتقطوا صورته

كان اللَّه معي

لكن اللَّه ورائي كان هو المخبر

آلة تسجيل قد غرست في قلبي

آلة تسجيل قد غرست في قلب اللَّه)

(1)

.

وقوله:

(ومظلتك على ظهرك

أقرب من أجدادك للَّه

أجدادك لم يرتفعوا أكثر من ناطحة سحاب؟

كي يقتربوا يا دانيال من اللَّه.

لكنك في طائرة الفاتتوم

أقرب من أجدادك للَّه؟!)

(2)

.

وقوله:

(ها أنت مثل اللَّه.

في يديه السلسلة)

(3)

.

(1)

المصدر السابق: ص 440 - 441.

(2)

المصدر السابق: ص 474.

(3)

المصدر السابق: ص 636.

ص: 622

هذا هو بعض نجس الكفر الحداثي على لسان رائد من رواد الحداثة أو كما أطلق عليه بعضهم: (إنه ما رد من المشاعر والقوافي والأنغام وإعجاز العمل الفني)

(1)

.

إنه عندهم ملحمة ومارد من السنابل

(2)

وغير ذلك من الأوصاف التي أترع بها الكتاب المؤلف عنه بعنوان "معين بسيسو بين السنبلة والقنبلة" وهو نموذج من نماذج إطراء واحتفاء الحداثيين ببعضهم، وصورة وجيزة عن الدعاية الحداثية لصناعة نجوم الحداثة وتسويقها في بلاد المسلمين.

-ومنهم سميح القاسم صاحب قصيدة "رسالة إلى اللَّه" التي سبق ذكرها وهي مليئة بأوصاف النقص التي يحاول إلصاقها بالباري -جلَّ وعلا- ومنها المطلع ذو النفس النصراني:

(سيد الكون أبانا)

(3)

.

وفيها:

(يا أبانا، يا أبا أيتامه ملوا الصلاة

يا أبانا نحن ما زلنا نصلي من سنين

يا أبانا نحن ما زلنا بقايا لاجئين)

(4)

.

وفيها:

(يا أبانا نحن بعد اليوم لسنا بسطاء

لن نصلي لك كي تمطر قمحًا)

(5)

.

ونحوها قوله:

(1)

معين بسيسو بين السنبلة والقنبلة لمجموعة: ص 21.

(2)

المصدر السابق: ص 19.

(3)

ديوان سميح القاسم: ص 63.

(4)

المصدر السابق: ص 64.

(5)

المصدر السابق: ص 65.

ص: 623

(لا تركعوا. . لا ترفعوا أيديكم إلى السماء

تدمرت واندثرت أسطورة السماء)

(1)

.

ويقول:

(ومشيئة الرحمن والأقدار

بعض من نفايات القرون)

(2)

.

ويقول:

(ولأي كهف ينزوي اللَّه المعفر بالغبار

وبالدخان وبالشرر؟)

(3)

.

سبحان اللَّه الأعلى وتقدس المولى العظيم عن هذه الأوصاف التي يرسلها هذا القطيع الهائم أتباع الشيطان الرجيم، وأعداء الحق والخير والفضيلة، وأقوال سميح القاسم من هذا الصنف عديدة، ومنها قوله:

(حين قيل: انقضى كل شي

كانت المئذنة

شارب اللَّه تحت النعال الغريبة)

(4)

.

إن الإصرار الحداثي المتواصل على الاستخفاف باللَّه تعالى وتدنيس قدسيته، يدل على مأربهم الأولي في هدم الإسلام بل كل دين وإيجاد الضياع الاعتقادي والشتات الفكري والجاهلية بكل أصنافها.

ومن أقواله:

(منفيًا بلا كفن!

(1)

المصدر السابق: ص 100.

(2)

المصدر السابق: ص 323.

(3)

ديوان سميح القاسم: ص 325.

(4)

المصدر السابق: ص 417.

ص: 624

ونتخم من طعام اللَّه.

تتخم دودة الدمن)

(1)

.

(والموسيقى أسراب من كل طيور اللَّه.

الفالس. . رفوف سنونو)

(2)

.

وقوله:

(أتسمعنا نحاورهم:

أيبقى اللَّه في منفاه)

(3)

.

وقوله:

(في وطن العجائب السبعين

والفقر موسيقى

وقتل اللَّه في كمين

خبزٌ)

(4)

.

وفي ديوانه المسمى لا أستأذن أحدًا يقول سميح:

(الدخان الذي كنت

يلتف شالًا على كتف اللَّه)

(5)

.

ويقول:

(إن كف الإله التي نثرت قمحها للجياع

(1)

المصدر السابق: ص 522.

(2)

المصدر السابق: ص 559.

(3)

المصدر السابق: ص 605 - 606.

(4)

ديوان سميح القاسم: ص 654.

(5)

لا أستأذن أحدًا: ص 97.

ص: 625

وأغدقت الورد

كف الإله الذي ذكرت

نسيت أننا بعض هذي الخلائق)

(1)

.

ويقول توفيق زياد:

(والى الأشجار أو العمدان

والى الريح "وجه اللَّه" العريان)

(2)

.

تعالى اللَّه وتقدس.

ومن كلمات النقص وأوصاف الاستهانة التي قالها رأس حداثيي اليمن والجزيرة العربية عبد العزيز المقالح: قوله في مقطع بعنوان "البرجوازي":

(ويناجي اللَّه في صمت ويدعوه طليقًا

ثم لا يلبث كالشيطان كفرًا أن يفيقا

فيبيع اللَّه والإنسان والحب العميقا)

(3)

.

وقوله:

(اللَّه كان -حين كنت- موجودًا)

(4)

.

وقوله واصفًا اللَّه تعالى وتقدس بالموت:

(يكاد النهار على أفقهم أن يموت

ويحتضر اللَّه والعقل خلف معابدهم

(1)

المصدر السابق: ص 100 - 101.

(2)

ديوان توفيق زياد: ص 513.

(3)

ديوان المقالح: ص 72.

(4)

المصدر السابق: ص 134.

ص: 626

في البيوت)

(1)

.

ويقول رأس حداثيي سوريا محمد الماغوط:

(وأغلقوا في وجهها كل أبواب العالم

لتظل وحيدة كالريح. . . كاللَّه)

(2)

.

وتنبعث خبائثه الاعتقادية في أبشع صورها حين يصف اللَّه تعالى بالأمية، وذلك في قوله:

(. . . ولكن يا أيها التعساء في كل مكان

جُلّ ما أخشاه

أن يكون اللَّه أميًا)

(3)

.

ولمحمد الفيتوري عبارات وأوصاف يلصقها باللَّه تعالى، وهو منزه عنها -جلَّ وعلا-، كقوله:

(والحرية أشباح ضباب

وكأن الأبيض نصف إله

وكان الأسود نصف بشر

قور لفظته شفة اللَّه)

(4)

.

ونحوه قوله:

(لا شيء لكي أكتب كلمه

فالكلمة في شفة اللَّه.

(1)

ديوان المقالح: ص 339.

(2)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 260.

(3)

المصدر السابق: ص 165.

(4)

ديوان الفيتوري 1/ 365 - 366.

ص: 627

واللَّه على الأرض سجين)

(1)

.

ومن أقواله:

(ومالت الأشجار في حديقة اللَّه)

(2)

.

وبتأثير من نشأته الصوفية يصف اللَّه بالاتحاد، لكنه يضيف إلى ذلك نزعته الحداثية التي تصف اللَّه تعالى بالموت -جَلَّ وَتَقَدَّسَ-، يقول:

(أنا أعرف هذه العيون

التي تتعانق فيها الهزيمة والنصر

يتحد اللَّه والموت

في مجدها الأبدي الحزين)

(3)

.

ويقول:

(عندما غسلتني المحبة

أبصرت في وجهها اللَّه.

حدقت في مقلتيه المفزعتين

من الشمس والحلم

حتى تساقط نصف القناع)

(4)

.

وفي إحدى مسرحياته يقول على لسان عرافة، مقررًا عقيدة وحدة الوجود الصوفية الحداثية:

(كذب الكاذب

(1)

المصدر السابق 1/ 378 - 379.

(2)

المصدر السابق 2/ 65.

(3)

ديوان الفيتوري 2/ 129.

(4)

المصدر السابق 2/ 145.

ص: 628

فاللَّه بلا حاجب

اللَّه هو النهر الصاخب

وهو الليل الغاضب

وهو الشمس المنظورة

والأفلاك اللامنظورة

والريح المنشورة، والروح السارب

اللَّه هو الإيماء والحركات

هو الرمز المنقوش على إحداق الطير

وأشجار الغابات

اللَّه هو الكلمات)

(1)

.

ونحو ذلك قوله:

(يا غابة الرجال

أيها المقاتلون

اللَّه في آفاق هذه العيون المشمسة

اللَّه في أجنحة الحرائق المقدسة

في عزة الصدور، والسواعد القوية

اللَّه في كرامة الأرض، وفي

عدالة الثأر، وفي الحرية)

(2)

.

ويقول:

(1)

المصدر السابق 2/ 255.

(2)

ديوان الفيتوري 2/ 433.

ص: 629

(ولكن صوتك الساطع

مثل الشمس في شعري

ومثل اللَّه والإنسان

والشيطان في ذاتي)

(1)

.

قال اللَّه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

(2)

.

ويقول:

(لماذا يا معيتيقه

يجيء القادمون، وينصبون خيامهم

في سهلنا، ونهد خيمتنا، ونرحل كلما جاؤوا

لأن العشب عشب اللَّه.

- ونوغل في المجاعات الجديدة

كلما ارتفعت مشاعلهم

لماذا يا معيتيقه؟

- لأن الفعل فعل اللَّه)

(3)

.

ويقول ممدوح عدوان:

(حين يضيع الخبز بين اللَّه والناس)

(4)

.

ويقول:

(سقطت في المرآة

(1)

المصدر السابق 2/ 461.

(2)

الآية 11 من سورة الشورى.

(3)

المصدر السابق 2/ 491.

(4)

الأعمال الشعرية الكاملة، تلويحة الأيدي المتعبة: ص 56.

ص: 630

باغتني كالبرق وجه اللَّه)

(1)

.

وله مقطع استرسل فيه ساخرًا باللَّه تعالى، وواصفًا له -جلَّ وعلا- بالنقائض في كلام سخيف هابط، وعبارات محشوة بالهذر والغثيان والكفر والضلال، يقول:

(ويباغتني اللَّه في نعمة

تنتقي صفوة القوم

كيف أصدق أن لدى اللَّه نبع حنان

ولا يتطلع يومًا إلى قهرنا؟

ولا يرى البشر الساكنين زرائب؟. . .

. . . وكيف تغافل كي لا يرى الآكلين النفايات

في مدن من مناسف

لا يسند القلب في ضعفه

تحت عبء الهموم

إلهي الذي قيل لي إنه صاغني مثله

كنت أرغب لو صغته شبهي

كنت أسكنته وطنًا

يتفنن كيف سيبكيه في كل يوم

يشكك في خلقه

ويطالبه أن يصفق للظلم

يجبره أن يحب العدو

(1)

المصدر السابق: ص 57، 58.

ص: 631

وأن يتقلص خوفًا أمام الجنود

وأن يتجاهل كيف تضيق عليه الحدود

وكنت أطالبه أن يحب بلادًا تجاهره كرهها

ثم تمنعه لقمة لكرامته

وأطالبه أن يحب بلادًا تفاخره عريها

فتبارك هذا الإله

الذي كان يرفض أن يتمرغ في عيشنا

لم يكن يتقن اللعب فوق المزابل

لم يعرف السير في قسوة الوعر

لم يعرف النوم جوعًا

ولم يعطنا ما يواجه هذا البلاء

ها هو اللَّه يأتي أخيرًا على هيئة الطير

ينقر أرواحنا

كيف لم نره أمسى

حين قضينا طوى ليلة نتضور

كيف توارى عن الحلم

لم يأت في قلمة أو رغيف

وكيف مضى دون أن نتعلم

وأمسكتني، قلت لي: اللَّه يرزق

يجزي الثواب لعبد صبور

ولكنه اللَّه أنسى بنيه العقاب

ص: 632

فلا تحسبيه علينا ولا تحسبينا عليه

ابحثي عن سماء بها اللَّه.

فاللَّه لم يتحدر إلى الأرض

أو فابحثي عنه في وصفه

لم يكن غير رب غني

فروحي إلى الأغنياء تريه. . .

فإلى أي رب سيلجأ أبناؤه الفقراء؟

. . . أتلفت نحو بلادي. . . وأجهش

ما همني سمع اللَّه هذا النشيج إذن؟

أم تصامم؟

إن كان لا يتنازل أن يمسح الدمع

أو أن يهدئ في ليلة وجعي. . .

. . . سألوا اللَّه عن علة الأمر

لم يستمع، ثم في ليلة

كان أفقرهم خائفًا من عيون الطيور

رأى اللَّه في طلعة للهلال

فقال: إذن. . ذاك ربي يطاردني

سوف يفضحني

كيف يبقى إلهًا مضيئًا

وكل الذي في حياتي عتم

وضوء الطغاة وراء حصون مدججة

ص: 633

سوّرتها الديانات بالصلوات

وكانت قرابينها بشرًا أبرياء)

(1)

.

ونقلت هذا الغثاء الزائف كله من أجل تأكيد قضية أن الحداثة ليست انفصالًا عن الإسلام والإيمان فحسب، بل ومناقضة لذلك تمام المناقضة، بل إنها في أوليات منطلقاتها تسعى لنقض الإسلام وتهدف إلى هدم الديانة، ويقوم نسيجها الفكري على كل شيء سوى الإسلام، وفي داخل أدغالها وسراديبها ومتاهاتها يجد الفاحص أصوات السقوط الاعتقادي، ونظرات السلخ الفكري، ونظريات الكفر والإلحاد، أنفاس لاهثة، ونفوس هائمة، وقلوب مظلمة، وأفكار جاهلية، تقوم أساسًا على إدانة الدين، ورفض الحق والخير والهدى والرشاد، وتبرير الجهل والانحطاط، وتسويغ الردة والضلال.

فخاخ منصوبة نُسجت أحابيلها من قصائد ودراسات نقدية ومقالات وقصص وروايات، يقع في شراكها حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام زائغوا القلوب والعقول، أتباع الشهوات، أرباب الشبهات.

ادعو أنهم جاؤوا من أجل التقدم والنهضة والرقي، فإذا هم ليسوا سوى طلائع عدو، وإفرازات عداوة، وإرهاصات حرب شاملة.

يحملون أسماء المسلمين من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، لكن عقائدهم غير عقائد المسلمين، وأفكارهم تناقض جوهر الدين الحنيف دين الإسلام، وطموحاتهم في إزالته من الوجود أو تهميشه، من خلال المهاجمة الواضحة لدين اللَّه والاستخفاف الجلي باللَّه العظيم -جلَّ وعلا- وتقبيح الوحي المعصوم، وتشويه الاستمساك بالوحي، وتزييف حقائق الدين -والدين كله حقائق- ومقاومة قواعده وأصوله، كل ذلك في تبجح ظاهر، وجرأة وقحة، وسفاهة معلنة {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}

(2)

.

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة، 2/ للخوف كل الزمان ص 17 - 25

(2)

الآية 4 من سورة المنافقون.

ص: 634

- ومنهم أحمد دحبور الذي شارك في وقاحة الحداثيين ضد اللَّه تعالى، ومن أقواله:

(والخبر لماذا لا يأتي من غامض علم اللَّه كما يأتينا الجوع أو الأمراء)

(1)

.

وقوله:

(ودم على الجولان

وأسأل: أين وجه اللَّه؟)

(2)

.

وقوله:

(شاهد:

راحته تدمي على المدفع

كان اللَّه يأتيه على شكل فلسطين)

(3)

.

وقوله:

(الأرض بساط اللَّه.

بساط اللَّه الآن يحاط بجيش اللَّه الأمريكي.

فمن جهة بالنار

ومن جهة بصلاة العار

وخلفهما حكم عدل

يتساقط عدلًا

فاستغفر

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 329.

(2)

المصدر السابق: ص 348.

(3)

المصدر السابق: ص 496.

ص: 635

واختر أحد الموتين)

(1)

.

- ومنهم محمد علي شمس الدين القائل:

(أخذت زينة نهديها

وتعرت لتصير أشد نقاء من قلب اللَّه.

قرأت:

وسلام هي حتى الفجر، سلام هي حتى الفجر)

(2)

.

والقائل:

(ولما اتكأنا على شرفة اللَّه.

أبصرت مروان يهرب مني)

(3)

.

والقائل:

(ملك الضدين أنا

ورئيس أبالسة الرحمن)

(4)

.

وفي مجال الرواية يصف عبد الرحمن المنيف اللَّهَ تعالى بأنه صاحب الخيمة الزرقاء ويقصد السماء

(5)

، وذلك وصف باطل، وإضافة فيها تنقص باللَّه تعالى.

ويصف الروائي المغربي المنحرف محمد شكري أحد الناس بأنه خبز اللَّه -جلَّ وعلا- وذلك في قوله: (. . . رجل رائع، أجمل ما فيه هو أنه لا يلاحظ كثيرًا، إنه خبز اللَّه كما يقال. . .)

(6)

.

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 516.

(2)

غيم لأحلام الملك المخلوع: ص 31.

(3)

المصدر السابق: ص 49.

(4)

المصدر السابق: ص 59.

(5)

انظر: مدن الملح 1/ 59.

(6)

الشطار: ص 73.

ص: 636

أمّا الطاهر بن جلون فيقول في روايته ليلة القدر: (. . . وكانت صيحاتهم تختلط بصيحات المؤذن الذي كان يستعمل ميكروفونًا لكي يسمعه اللَّه على نحو أفضل)

(1)

.

فهو يسخر من صفة السمع للَّه تعالى كما يسخر من صفة البصر له -جلَّ وعلا- في قوله: (. . . كنت تختبئين في الصشدوق الخشبي الملون لكي تفلتي من نظر اللَّه، منذ أن علموك بأن اللَّه في كل مكان، وأنه مطلع على كل شيء وأنت تقومين بكل حركة بهلوانية لتتملصي من حضوره، كنت تخشينه أو كنت تتصنعين ذلك، لم أعد أعرف)

(2)

.

أمّا علاء حامد فإن روايته مسافة في عقل رجل ليست مهتمة بغير الكفر باللَّه ولا مقصد لها إلّا جحد وجوده -جلَّ وعلا- ونفي ألوهيته سبحانه وتعالى وأقواله في وصف اللَّه تعالى وتسميته بأوصاف وأسماء النقص كثيرة جدًا، بل الرواية كلها من هذا القبيل، ومن أمثلة ذلك قوله:(. . . الحاكم يرى بعيونه (جواسيسه) واللَّه يرى ويسمع هو الآخر، وإحدى وسائله ملائكته. . .)

(3)

.

وقوله -قاتله اللَّه-: (نحن الحقيقة وما عدانا هو الوهم، نحن الحقيقة، والحقيقة نحن، وطالما أن اللَّه حقيقة، فلسنا سوى اللَّه، الأمطار دموعه، والريح زفرته، والغضب براكينه، والعلم عقله، والإنسان وسيلته، والسلطان رغبته، والكون سلوته، وإذا كان اللَّه والإنسان واحد [هكذا] لا يتجزأ فلماذا يعجز الإنسان عن المعرفة الكلية؟!)

(4)

.

ويجعل اللَّه تعالى هو القانون الكلي الذي يحكم الكون، والقانون الكوني المادي الكلي هو اللَّه، وكرر ذلك في مواضع عديدة في سوفسطائية

(1)

ليلة القدر: ص 17.

(2)

المصدر السابق: ص 21 - 22.

(3)

مسافة في عقل رجل: ص 114.

(4)

المصدر السابق: ص 8.

ص: 637

عشوائية متناقضة وفلسفة متهافتة بليدة

(1)

.

بل جعل اللَّه تعالى وتقدس خاضعًا لهذا القانون الكوني الكلي حسب خرافاته وأكاذيبه

(2)

.

ومرة يصفه عز وجل وتقدس- بأنه خلية أبدية لا تفنى، وأن المخلوقات متولدة من هذه الخلية حسب خرافاته، فيقول:(لو شبهنا اللَّه بخلية أبدية لا تفنى وأن مخلوقاته ليست سوى انقسام لهذه الخلية الأبدية ولكن بعد إضافة مواد أخرى كيمائية (مواد بشرية) اكتسبت بها خواص جديدة ظاهرية بالإضافة إلى خواص الخلية الأبدية، إذا قلنا بذك فنحن لم نبتعد عن جادة الصواب، ولكننا في نفس الوقت لم نقترب كثيرًا من الحقيقة)

(3)

.

وقوله: (إذا أردت رؤية اللَّه مجسمًا فتأمل الشمس والنجوم والحيوان والإنسان والنبات، أمّا القول بأن اللَّه يجلس على عرش، وأن له مكانًا محددًا يجلس فيه يُمكن التحدث معه بلسان طلق، فهذه أوهام صُنعت بمهارة وصدقتها عقول تعيش في دروب الجهالة المفرطة)

(4)

.

وهذا القول كله أباطيل زائفة بدءًا بوحدة الوجود الإلحادية التي تبلورت عن الغربيين المعاصرين في صورة من صور الإلحاد الكامل، وقد سبق تفصيل ذلك في الفصل الأول

(5)

.

أمّا تصويره لعقيدة المسلمين في اللَّه بأن له -جلَّ وعلا- مكانًا محدودًا فهو من الكذب والزيف، فإن أهل الحق يعتقدون أن اللَّه مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه عالٍ على خلقه، لا تحده الأمكنة ولا الأزمنة فهو أكبر وأعظم وأجل وأعلى، ليس

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 126، 128، 160.

(2)

انظر: المصدر السابق: 163.

(3)

مسافة في عقل رجل: ص 148.

(4)

المصدر السابق: ص 149 - 150.

(5)

راجع ص 138 من هذا البحث.

ص: 638

كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو يتكلم إذا شاء مع من شاء كيف شاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

أمّا هذا المعتوه فإنه يخبط في أودية الباطل خبط عشواء ويخلط شكوكه وأوهامه بما يظن أنه العلم والبرهان، وهو في الحقيقة ليس سوى الهذيان، وروايته الإلحادية هذه تفيض بدلائل هذا التخبط والتيه، سلط اللَّه عليه يدًا من الحق حاصدة.

ويشبهه في طرحه وخبطه وتناقضه "نوال سعداوي" ذات الصيت السيء والسمعة الملوثة، والمحمية من أشباهها من أهل الزيغ والضلال، الذي سخروا جهودهم لحماية المرتدين والملاحدة، وقتل المؤمنين الموحدين، وسجنهم وتشريدهم، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العلي العظيم، ومن كتبها رواية بعنوان "سقوط الإمام" مليئة بالنفايات الاعتقادية والسقوط الفكري.

وملخصها: أنها جعلت من أسمته إمامًا، جعلته اللَّه تعالى وتقدس، وأسقطت من خلال هذه الشخصية كل تنقص وازدراء باللَّه تعالى، ووصفته بأوصاف البشر بل بأحط الأوصاف التي يُمكن أن يقارفها بشر من الظلم والاغتصاب والدعارة وغير ذلك تعالى اللَّه عما تقول علوًا كبيرًا.

ومن نصوصها في هذه الرواية قولها في أول أسطر رواياتها: (وأنا طفلة كنت أرى وجه اللَّه في أحلامي كوجه أمي شديد العدل وكوجه أبي شديد الرحمة، لكن زميلتي فاطمة أحمد في المدرسة كانت ترى وجه اللَّه في أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة وكوجه عمها شديد الظلم)

(1)

.

(في طفولتي وأنا نائمة كان اللَّه يزورني وله صوت حنون كصوت أمي)

(2)

.

وقد كررت مرات كثيرة وصف إحدى شخصيات الرواية بأنها

(1)

سقوط الإمام: ص 7. وانظر: ص 21.

(2)

المصدر السابق: ص 17.

ص: 639

"بنت اللَّه" سبحانه وتعالى ومن ذلك قولها في المقدمة: (وكان شخصيات البنات والنساء أكثر استقرارًا لكن اسم بنت اللَّه أثار في القلق ليالي طويلة، وحاولت أن أغير اسمها فهو اسم ينتهك المحرمات في حد ذاته، فكيف تجرؤ فتاة أن تحمل اسمًا محرمًا إلى جانب حملها جنينًا غير شرعي، وقد يباح في المسيحية أن نسمع اسم ابن اللَّه وهو المسيح لكن أن نسمع اسم بنت اللَّه فهذا غير وارد تمامًا، لكن بنت اللَّه سألتني في الرواية ماذا لو كنت مريم العذراء وولدت بنتًا وليس ذكرًا ألا تكون ابنتي هي بنت اللَّه ويسمونها المسيحة، وتصبح واحدة من الأنبياء)

(1)

.

أي أنها بكل إصرار اتخذت هذا الاسم وهي عالمة بأنه محرم، واجترأت على إضافة بنت الزنى إليه وهي مدركة أن ذلك لا يجوز، ولكن ذلك من مقتضيات الحداثة المؤسسة على انتهاك المحرم واختراق المألوف ومجاوزة السائد حسب تعبيراتهم، ولذلك خرقوا له بنين وبنات، وزوجات وأوصافًا ناقصة جل اللَّه وتنزه عما يقولون ويصفون.

قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}

(2)

.

وقالت تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}

(3)

.

ومن أقوالها: (. . . انتزعت من صدرها الشيء المخبوء، ساوت الأرض بكفها الكبيرة الحانية مثل كف اللَّه)

(4)

.

وقولها: (أطفال كثيرون بلا أم ولا أب ولا جدة يسمونهم أطفال اللَّه

(1)

المصدر السابق: ص 9. وانظر: ص 17، 19، 21، 22، 54، 65، 98، 132.

(2)

الآيتان 100 - 101 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 57 من سورة النحل.

(4)

سقوط الإمام: ص 20.

ص: 640

وأنا اسمي بنت اللَّه، لم أكن رأيت اللَّه وجهًا لوجه، تصورت أن اللَّه هو أبي، وأمي هي زوجة اللَّه، وفي النوم أرى أمي واقفة تنتظر اللَّه)

(1)

.

ويبلغ بها الكفر والضلال أن قالت: (في الليل تحوطني أختي بذراعيها، تنشج بصوت مكتوم وتحكي قصة أمها، زارها اللَّه في الحلم، وحملت منه مثل مريم العذراء، ارتدت ثوبًا واسعًا لتخفي ارتفاع البطن، ولدتها في الليل بعد أن نام الناس، لكن عيون الإمام رأتها، ربطوها بالحبال ورجموها حجرًا حجرًا، قلت لها وأنا أعانقها: إذا كان اللَّه هو السبب فلماذا يقتلونها؟. . . وفي الحلم يتراءى لي اللَّه على شكل رجل، واقف في الظلمة ويده اليمنى خلف ظهره رأسه يلمع تحت الضوء بغير شعر، ووجهه يغطيه الشعر، يرتعد جسمي تحت الغطاء وعيناي مغلقتان، يحرك يده اليمنى خلف ظهره، يرفعها أمامي ويفتح أصابعه، ليمس في يده العصا، يهمس بصوت ناعم: بنت اللَّه، تعالي يقترب مني حتى يلامسني بيده، أتحسس كفه الكبير الحاني، بشرته ناعمة كصدر الأم، أضع رأسي على صدره وأغمض عيني، يده تربت على وجهي، ثم تهبط لتربت على صدري وبطني، رجفة غامضة تهزني وقشعريرة يهمس بصوت ناعم: لا تخافي أنا اللَّه وسوف تلدين المسيح، أصحو من النوم والدنيا ظلام، جسمي مبلل بالعرق وله رائحة اللَّه)

(2)

.

وهكذا تبدو لنا الرواية الحداثية العربية في لون ألوان كفرها وإلحادها، وتتمادى السعداوي في غيها فتشبه العورة باللَّه تعالى

(3)

، ولو تتبعت كل أوصاف النقص والتهكم والسخرية والازدراء وكل أوصاف الذم والشتم الذي ألحقته هذه المرأة باللَّه تعالى لطال المقام واتسع، وفي الجملة هذه الرواية الساقطة مثل رواية مسافتم في عقل رجل تتوجه أساسًا إلى النيل من اللَّه -

(1)

سقوط الإمام: ص 21.

(2)

المصدر السابق: ص 23، ونحو ذلك في ص 46 و 65 و 98 و 114.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 69.

ص: 641

جلَّ وعلا

(1)

-، ومحاولة إسقاط القداسة عنه، وإبعاد التوقير له من نفوس الناشئة الذين يطرح بين أيديهم هذا الغثاء الفكري، وإخلاء القلوب والعقول من تعظيم اللَّه واحترامه، تمهيدًا لإحلال الكفر في الأنظمة والسلوك وسائر مناحي الحياة.

ومن الروايات المليئة بأوصاف النقص الملحقة باللَّه تعالى رواية "ألف وعام من الحنين" لسيء الذكر رشيد بو جدرة الذي يعلن كفره وإلحاده ويفاخر بذلك وبأنه أول من تجرأ على ذكر اللواط والإشادة به في كتابه "التطليق"

(2)

.

يقول هذا الحداثي العلماني عن اللَّه ما لم يقله سواه من الحداثيين والكافرين، ويصفه بما تقشعر له الأبدان:(. . . بلدة تعودوا أن يقولوا عنها بأن اللَّه تبرزها في يوم من أيام الغضب)

(3)

.

(. . هؤلاء الناس الذين قر رأيهم على أن بلدتهم إنّما هي قذارة أسقطها اللَّه ذات يوم من أيام الضجر)

(4)

.

ويقول: (. . . وكانت تقول لمن يريد الإصغاء إليها سواء في الحمامات أو في حفلات الزواج أو في انجازات أن اللَّه نفسه قد بدأ يمارس الغش؛ لأنه لم يتمكن من حصر مخلوقاته داخل المسجد ولا أدل على ذلك من تدهور الزمن. . . كانت إذن على علاقة سيئة مع السماء، تنتظر منها أن تضع يدها ثانية على وقائع الأمور وخاصة على ابنها المجنون قبل أن تذهب لزيارة الأولياء الذين أهملتهم تعبيرًا منها عن غضبها وعن خيبتها لرؤية اللَّه وهو ينجرف في سيول فيضاناته. . .)

(5)

.

(1)

انظر شواهد ذلك في الصفحات التالية: 25، 26، 29، 36، 38، 39، 60، 68، 69، 74، 98، 106، 112، 118، 125، 128، 132، 1034.

(2)

انظر: رأيهم في الإسلام: ص 167، 169، 170، 172، 173.

(3)

ألف وعام من الحنين: ص 11.

(4)

المصدر السابق: ص 12.

(5)

المصدر السابق: ص 29.

ص: 642

ويقول: (. . . ينبغي أن تكون راضيًا في تقليد اللَّه، فهو كذلك وحيد، لكنه على ما يرام، وأنت تعلم أنه لا شقيق له وإلّا فيا لخرابنا)

(1)

.

ويقول: (. . . وأسلمت نفسها للَّه في ذلك اليوم، بعد أن خاصمته مدة طويلة، وحكت عانتها. . .)

(2)

.

غفرانك اللهم تباركت وتعاليت عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

إن هذه الشواهد كلها -وهي قليل من كثير- لتدل على أن الحداثة تقوم في حقيقة الأمر وفي رأي أصحابها -: بتدمير القداسة والانقطاع عن الماضي، عن الإسلام على وجه الخصوص، والثورة على الدين، والهدم لكل معاني وأصول الاعتقاد، والرفض لكل إيمان باللَّه تعالى، والمجانبة لكل ما يمت إلى التوحيد واليقين بصلة، والتحول الكامل عن الوحي ومقتضياته ولوازمه، والتمرد السافر على العقيدة والشريعة والأخلاق الإسلامية.

إنها ارتكاس في الضلال، وانحدار إلى الجاهلية، واتباع للباطل، وهبوط إلى أسفل سافلين.

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}

(3)

.

‌الوجه الثاني من أوجه انحرافاتهم في أسماء اللَّه تعالى وصفاته: نفي أسماء اللَّه تعالى وصفاته الثابتة له

.

وهذه قضية يسيرة على الحداثيين الذين رتعوا في الضلال ووصفوا اللَّه بشتى أوصاف السوء، واستعملوا في حقه لغة الشتم والذم والسباب.

وقد مرّ فيما مضى ما يدل على هذا الوجه من الانحراف، إمّا مطابقة كنفي أدونيس وتكذيبه بالإسراء والمعراج وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع ربه، حين

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 38.

(3)

الآيتان 43 - 44 من سورة الفرقان.

ص: 643

ساق ذلك كله على شكل أسطوري وحين جعل من نفسه بديلًا للرسول، واختلق الأكاذيب

(1)

.

وإمّا تضمنًا ولزومًا، وهذا في كلامهم كله، فإنه يلزم من وصف اللَّه بالنقص كالموت والظلم والنكاح والولد والنسيان وغير ذلك مما عجت به أقوالهم الخبيثة، يلزم منه نفي صفات الكمال للَّه تعالى ونفي أسمائه الحسنى -جلَّ وعلا-.

ومما مرّ معنا مما لا فائدة من إعادته هنا أقوال المفتون نصر أبو زيد في نفي صفة الكلام للَّه، ونفي أن القرآن كلام اللَّه، وتأييده رأي المعتزلة وثنائه على منهجهم

(2)

.

وله في نفي أسماء اللَّه وصفاته قول فاسد خبيث حيث جعل فهم نصوص الوحي المخبرة عن اللَّه تعالى وصفاته وعن الغيبيات، فهمًا يوافق طريقة السلف، جعل ذلك مساهمًا في تشكيل صورة أسطورية، حيث قال:(تتحدث كثير من آيات القرآن عن اللَّه بوصفه ملكًا بكسر اللام، له عرش وكرسي وجنود، وتتحدث عن القلم واللوح، وفي كثير من المرويات التي تنسب إلى النص الديني الثاني -الحديث النبوي- تفاصيل دقيقة عن القلم واللوح والكرسي والعرش، وكلها تساهم -إذا فهمت فهمًا حرفيًا- في تشكيل صورة أسطورية عن عالم ما وراء عالمنا المادي المشاهد المحسوس. . . ولعل المعاصرين لمرحلة تكون النصوص -تنزيلها- كانوا يفهمون هذه النصوص فهمًا حرفيًا، ولعل الصور التي تطرحها النصوص كانت تنطلق من التصورات الثقافية للجماعة في تلك المرحلة، ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك، لكن من غير الطبيعي أن يصر الخطاب الديني في بعض اتجاهاته على تثبيت المعنى الديني عند العصر الأول، رغم تجاوز الواقع والثقافة في حركتها لتلك التصورات ذات الطابع الأسطوري. . .)

(3)

.

(1)

انظر: الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 139.

(2)

انظر: قضايا وشهادات 2/ 388، 390، 391، مع ملاحظة أن المعتزلة يؤمنون باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبالنبي صلى الله عليه وسلم نبيًا.

(3)

انظر: قضايا وشهادات 2/ 392 ونحوه ص 393.

ص: 644

والمعنى نفسه يكرره حداثي آخر في ندوة بعنوان "الإسلام والحداثة" حيث قرر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تداولوا ألفاظًا ومعاني في الصفات والغيبيات بناء على المحيط الذي كانوا يعيشون فيه، وهذا القول والذي سبقه يتضمن نفي حقائق هذه الألفاظ التي جاء بها الإسلام، وهي بداية موجة إلحادية لنفي الإسلام وسائر شرائعه وأخباره.

والنص المشار إليه هو قوله: (. . . لم يكن محمد ولم يكن معاصروه معتزلة ولا كانوا أشاعرة، ولا فلاسفة، ولابد أن المعاني التي تداولوها من محيطهم والتي أسندوها إلى ألفاظ الألوهية والجبروت والغفران واليد والعرش وغيرها من عبارات الذات والصفات الآلهية تتميز تميزًا كبيرًا عما أسند إليها لاحقًا في المجتمعات المتمدنة في دمشق وبغداد ونيسابور وقرطبة)

(1)

.

وفي الندوة المذكورة آنفًا والمعنونة بعنوان "الإسلام والحداثة" يتحدث حسن حنفي عن الوحي ومنزلته في التوراة والإنجيل والقرآن الذي يسميه الوحي الجديد فيقول: (. . . يكشف الوحي الجديد صفات التنزيه للتوحيد وصلة الخلق في صفة "كن فيكون" وأن اللَّه ليس له أصابع يضع عليها الأرض والشجر. . .)

(2)

.

وعلى الرغم أن صاحب النص قد أعلن في الندوة أنه ماركسي وأن إيمانه يكفره

(3)

، وقرر بأنه (. . . قد تداخل كلام اللَّه وكلام البشر في أصل الوحي في القرآن. . .)

(4)

، وغير ذلك من الأقوال والعقائد الموجبة لحد الردة، إلّا أنه يحاول أن يظهر في النص السابق -وهو يناقش تحريفات اليهود- بمظهر الباحث المطلع، شأنه شأن أساتذته من المستشرقين، فكذب على الوحي المعصوم وادعى أن الإسلام قد جاء بنفي صفة الأصابع

(1)

الإسلام والحداثة: ص 263.

(2)

المصدر السابق: ص 140.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 217، 218، 221.

(4)

المصدر السابق: ص 138.

ص: 645

عن اللَّه، وهذا كذب وافتراء بل تثبت للَّه صفة الأصابع كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.

وقد مرّ معنا في المظهر السالف إلحاده في صفات اللَّه وقوله بأن اللَّه عالم قادر حي سميع بصير متكلم مريد بالمجاز وأن الإنسان له هذه الصفات حقيقة؛ لأن الوحي كله مجاز وكل اللغة مجاز حسب زعمه

(1)

.

وفي منثور كلمات الحداثيين ما يدل على نفي صفات للَّه تعالى، ومن ذلك قول السياب في أبياته التي قالها بعد أن أحس بقرب الأجل ودنو الموت، وتضرع فيها إلى اللَّه تعالى، ولكن خلفيته الثقافية الملوثة جعلته يقول مخاطبًا اللَّه تعالى:

(أتسمع النداء؟ يا بوركت، تسمعُ

وهل تجيب إن سمعت؟

صائد الرجال

وساحق النساء أنت يا مفجّع)

(2)

.

هذه أقواله بعدما يسمى "توبة السياب" وأوبته إلى اللَّه!!، واللَّه -جلَّ وعلا- يسمع كل شيء وهو السميع، ويجيب من يشاء وهو قريب مجيب -جلَّ وعلا-.

أمّا صلاح عبد الصبور فقد جعل الحلاج قناعًا له، واتخذ من شخصيته إطارًا يسقط من خلاله فكره وعقيدته، ومن ذلك قوله المنقول آنفًا في نفي صفته العين للَّه تعالى

(3)

.

أمّا يوسف الخال فإنه أضاف إلى كل بلاياه وتخبطاته الاعتقادية وضلاله الإلحادي قوله:

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 223.

(2)

ديوان السياب: ص 135.

(3)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 503.

ص: 646

(اللَّه عين لا ترى أحدًا

سوادُها ملء السموات)

(1)

.

وقوله:

(من كان يسمع النداء

لعل في السماء أحدًا

يثأر للدماء)

(2)

.

وقوله:

(فلا يتدحرج صخر القبور

ولا يصعد اللَّه نحو السماء)

(3)

.

وسعدي يوسف الحداثي العراقي يستخدم لفظ الرمل رمزًا للتخلف وهو رمز متداول عند الحداثيين، ويريدون به الإسلام.

وسعدي ينسب اللَّه تعالى إلى الرمل ويجعله بلا صفات مرة، ومرة مجهول الصفات فيقول:

(أنا في انتظار يديك يا ربًا يسير على الرمال

إن الذي قد سار فوق الماء مات

وبقيت أنت

بلا صفات

لكن قلبي في انتظارك

فالبحر مزقه نبي بالحذاء

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 311.

(2)

المصدر السابق: ص 318.

(3)

المصدر السابق: ص 355.

ص: 647

وبالبخار

القيته يبكي على قدمي، مهتوك الإزار

وبقيت أنت

إلهي الرملي، مجهول الصفات

إلّا من الألم المقدس في انتظاري

وأنا أشق الرمل لكن أغوص

في الصفر

أحصي اللانهاية في النهاية)

(1)

.

ونزار قباني يقول:

(لم نزل نظن أن اللَّه في السماء

يعيدنا لدورنا)

(2)

.

أمّا هرطقات علاء حامد في روايته مسافة في عقل رجل فكثيرة متناقضة متهافتة ومنها زعمه الكاذب: (إن اللَّه تعالى لفظًا ومعنى من اختراع الإنسان)

(3)

.

وزعمه أن القول بأن اللَّه مستوٍ على عرشه مجرد أوهام صنعت بمهارة

(4)

.

ونحو ذلك هرطقات نوال السعداوي التي ذكرت أشياء منها في الوجه الأول من أوجه انحرافاتهم في الأسماء والصفات ومما يستشهد به في هذا الوجه قولها: (. . . وكتموا أنفاسهم محملقين في السماء متصورين أن اللَّه

(1)

ديوان سعدي يوسف 1/ 517.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 145.

(3)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 147.

(4)

المصدر السابق: ص 150.

ص: 648

له يد يرونها بالعين، وسجدوا حتى لامست جباههم الأرض، سبحانه ليس له يد ولا لسان)

(1)

.

‌الوجه الثالث من أوجه انحرافاتهم في أسماء اللَّه تعالى وصفاته: وصف غير اللَّه تعالى وتسميته بأوصاف وأسماء اللَّه -جلَّ وعلا

-.

سبق في الفصل الأول والثاني من هذا الباب ذكر أوجه انحرافهم في الربوبية والألوهية، وفيها مواضع عديدة وكثيرة من تسميتهم ووصفهم غير اللَّه تعالى بأسماء وصفات اللَّه تعالى، وخاصة الرب والخالق والإله وما تتضمنه من صفات، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.

ومن أقوالهم الأخرى في هذا الوجه جعل أدونيس دمشق وبغداد إلهًا

(2)

.

وجعل مكره ومكر الحداثة كأنه مكر اللَّه تعالى حيث قال: (لا توحش العنف، بل أنس مكر كأنه لعن مكر اللَّه)

(3)

.

ويقول أحمد دحبور:

(لا تخرج إلى الشارع لا تخرج إلى

في صوتها الدامع قضبان

وألياف

ورحمان

وسياف)

(4)

.

وعندما أقول بأن الحداثيين صنيعة الأعداء، وطليعة المحاربين للإسلام، فليس ذلك لمجرد بغضي لهم -وإن كان بغضهم من أوثق عرى

(1)

سقوط الإمام: ص 68 - 69.

(2)

انظر: الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 2/ 276.

(3)

المصدر السابق 2/ 410.

(4)

مجلة الناقد عدد 9 آذار 1989 م/ 1409 هـ: ص 21.

ص: 649

الإيمان- ولكن إضافة إلى ذلك ما تنضح به مؤلفاتهم من اعتراف صريح أو ضمني بالتبعية، وما يلاحظه أي متابع من ممارسة الانتحال، والإغراق في المحاكاة، أما احتفاء أولئك بهم وإشادتهم بأعمالهم إشادة الأستاذ بتلميذه، فمن أظهر الظواهر، ومن ذلك ما ذكره صاحب كتاب "أدونيس منتحلًا" في قوله: (نشير تمهيدًا، ومارين، إلى أن أدونيس عرف غيلفيك

(1)

شخصيًا، استمد منه العون لدى أول دخوله لساحة الشعرية الباريسية، ويتذكر القارئ قصيدة غيلفيك الإهدائية التي يقدم بها الترجمة الفرنسية لـ "أغاني مهيار الدمشقي" قصيدة لا تخلو من أبوية، أبوية شاعر فرنسي يقدم إلى ساحته الثقافية شاعرًا من لغة أخرى)

(2)

.

ويذكر المؤلف في الهامش بعضًا من مقدمة هذا الفرنسي لتلميذه أدونيس، وفيها استخفاف باللَّه تعالى، ووصف أدونيس بأوصاف وأسماء الإله العظيم -جلَّ وعلا-، وهذا أحد أدلة التبعية التي نرى نماذجها في أفكار وكلمات أدونيس نفسه، الذي ثبت بالأدلة القاطعة أنه لا يعدو أن يكون منتحلًا!!.

يقول غيلفيك في مقدمته لأدونيس:

(يا أدونيس

لو كنت اللَّه.

لأجلستك إلى يميني

ولمنحتك سلطانًا

ورحت أتطلع إليك

وأنت تخلق وتدبر)

(3)

.

(1)

هو: أدجين غيلفيك شاعر حداثي فرنسي، عني بأدونيس إلى حد أن وصف بأنه يحمل أبوية شاعر فرنسي لشاعر من لغة أخرى. انظر: أدونيس منتحلًا: ص 90.

(2)

أدونيس منتحلًا: ص 90.

(3)

انظر: المصدر السابق هامش ص 90.

ص: 650

وللسياب باع في هذا الضرب من الانحراف، ومنه قوله:

(أنا الباقي بقاء اللَّه أكتب باسمه الآجال

وما لسواه عند مطارق الآجال من حرمه)

(1)

.

وقوله:

(المجد للَّه والإنسان إن يدًا تحيي

وقلبًا يداوي منهما أثر)

(2)

وكذلك البياتي القائل:

(فاسكبي روحك الحنون بروحي

لأرى من صفائه وجه ربي)

(3)

والقائل:

(يا سنا اللَّه بصحراء انتظاري يا هواها)

(4)

.

والقائل:

(صغيرتي نادية

رأيت في سماء عينيك

رأيت اللَّه والإنسان)

(5)

.

والقائل مخاطبًا أحدهم:

(مولاي، لا يبقى سوى الواحد القيوم

وهذه النجوم)

(6)

.

ومن تراتيله الوثنية، وعاداته الجاهلية، وتمجيداته الصنمية قصيدته التي

(1)

ديوان السياب: ص 215.

(2)

المصدر السابق: ص 507.

(3)

ديوان البياتي 1/ 69.

(4)

المصدر السابق 1/ 84.

(5)

ديوان البياتي 1/ 476.

(6)

المصدر السابق 2/ 73.

ص: 651

بعنوان "مرثية إلى أخناتون"

(1)

والتي يقول فيها مشبهًا هذا الطاغية باللَّه تعالى وتقدس، يقول البياتي:

(يا أيها المعبود

أنت الذي يعيش في الحقيقة

ممجدًا مباركًا قدوس. . .

متوجًا بزهرة اللوتس والثعبان

حيًا جميلًا خالدًا معبود

وعاشقًا معشوق

شمس النهار أنت في جلالك العظيم

وضعت نيلًا في أسماء وصنعت منه أمواجًا على الجبال

تسقط والحقول

إنك في قلبي ترى مدائن الموت وأهراماتها والبحر والسحاب

إنك لا تموت

إنك لا تفنى إلى الأبد

إنك لا تعطش في سفينة الشمس لا تجوع

ولا يدب الشيب في شعرك أو تنفي إلى أصقاع موت النور

تحترق السماء من أجلك والنيل على غدائر الأرض وفوق صدرها الحنون)

(2)

.

قال اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا

(1)

أخناتون سبقت الترجمة عنه: ص 418.

(2)

ديوان البياتي 2/ 269 - 270.

ص: 652

سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}

(1)

.

وفي جهة أخرى يتوجه البياتي إلى الشاعر ليضفي عليه أوصاف الأبدية والأزلية، بل والألوهية الصريحة، وذلك في قوله:

(صوت الشاعر فوق نحيب الكورس يعلو، منفردًا منحازًا

ضد الموت، وضد تعاسة البشر الفانين. . .

. . . منفيًا يتطهر، لا اسم له، وله كل الأسماء، بقانون أزلي يتحول كم هو شرير أن يسكنك الشعر:"إلهي بين يديك أنا قوس فاكسرني" ومحب محبوب فاهجرني. . .)

(2)

.

وفي المعنى نفسه يقول: (لو كان البحر مدادًا للكلمات لصاح الشاعر: يا ربي، نفد البحر ومازلت على شاطئه أحبو. . .)

(3)

.

أمّا صلاح عبد الصبور فإنه يضفي صفات وأسماء الرب- جلَّ وعلا- على العلم المصري، وذلك في قوله:

(لترتفع، لترتفع، يا أيها المجيد

يا أجمل الأشياء في عيني، أنت يا خفاق

يا أيها العظيم، يا محبوب، يا رفيع، يا مهيب

يا كل شيء كان في الحياة أو يكون

يا علمي يا علم الحرية)

(4)

.

ويقول على لسان الحلاج:

(1)

الآيتان 81 - 82 من سورة مريم.

(2)

ديوان البياتي 2/ 417.

(3)

المصدر السابق 2/ 425.

(4)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 88.

ص: 653

(ما يرضاه الرحمن لمخلوق في صورته، ذي روح

متصف بصفاته)

(1)

.

ويقول على لسانه مقررًا عقيدة الاتحادية الصوفية:

(يا ولدي

الحب الصادق

موت العاشق

حتى يحيا في المعشوق

لا حب إذا لم تخلع أوصافك

حتى تتصف بأوصافه

وأنا أنوي أن يكمل حبي للَّه

أن أخلع أوصافي في أوصافه. . .

سأخوّض في طرق اللَّه.

ربانيًا حتى أفنى فيه. . .

. . . أنوي أن أنزل للناس

وأحدثهم عن رغبة ربي

اللَّه قوي، يا أبناء اللَّه.

كونوا مثله

اللَّه فعول يا أبناء اللَّه.

كونوا مثله

(1)

المصدر السابق: ص 480.

ص: 654

اللَّه عزيز يا أبناء اللَّه)

(1)

.

ويقول على لسانه أيضًا:

(أراد اللَّه أن تجلى محاسنه، وتستعلن أنواره

فأبدع من أثير القدرة العليا مثالًا، صاغه طينا

وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته.

وجلّاه، وزينه، فكان صنيعه الإنسان

فنحن له كمرأة، يطالع فوق صفحتها

جمال الذات مجلوًا، ويشهد حسنه فينا

فإن تصف قلوب الناس، تأنس نظرة الرحمن

إلى مرآتنا، ويديم نظرته، فتحيينا

وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنا

ويهجرنا ويجفونا)

(2)

.

وأقواله المليئة بهذا الخلط الابتداعي الفلسفي الاتحادي كثيرة في مسرحيته التي سماها "الحلاج" فمرة يقول هو بضعة من اللَّه تعالى وتقدس

(3)

، ومرة يعبر عن هيكل الإنسان بأنه بعض من اللَّه تعالى:

(بلى فالهيكل المهدوم بعض منه إن ظهرت جوارحه

وجل جلاله متفرق في الخلق أنوارًا بلا تفريق)

(4)

.

وغير ذلك من الكلمات والعبارات المأخوذة من ملاحدة الصوفية،

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 486 - 487.

(2)

المصدر السابق: ص 499 - 500.

(3)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 503.

(4)

المصدر السابق: ص 503 - 504.

ص: 655

والموظفة في الشعر الحديث توظيفًا يصب في الغرض الحداثي الأول: إزالة هيبة اللَّه وقداسته من النفوس التي لم تقتنع بجحد وجوده بالكلية، فتعالى اللَّه الملك الحق.

أمّا يوسف الخال فيقول في حوار مع الشيطان، مشبهًا نفسه أو الشيطان باللَّه تعالى في الخلق:

(أواه أتجبل كفّي الطين، متى؟

ومتى أنفخ فيه الروح، متى أصنعه

شيئًا كالشمس إذا تغرب)

(1)

.

أمّا النصراني الآخر أنسي الحاج فيقول:

(اللهو المجنون من صفات الألوهة، الفنان في لحظة الخلق فلذة إله)

(2)

.

ويقول الرافضي الشيوعي مظفر النواب:

(فالتبس اللَّه عندي بكل البشر)

(3)

.

ويقول أمل دنقل:

(وأهرب نحو عينيك يطالعني الندى واللَّه والغفران)

(4)

.

ويقول:

(. . . صدري جنتك الموعودة، وذراعاي ذراع الرب)

(5)

.

ويقول نزار قباني:

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 256.

(2)

خواتم: ص 58.

(3)

مظفر النواب شاعر المقاومة السياسية: ص 75.

(4)

الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل ص 48.

(5)

المصدر السابق: ص 80.

ص: 656

(نهدًا لجوجًا فيه تيه الذرى وما لدى ربي من عنفوان)

(1)

وفي حديثه عن عشقته يقول:

(. . . هدية صغيرة تحمل نفسي كلها

لعلها

إذا أنا حملتها

غدًا لها ستسعد

يا مُرتجى يا أحد)

(2)

.

وعن عشيقة أخرى يقول قاتله اللَّه:

(يجوز أن تكوني

واحدة من أجمل النساء

دافئة كالفحم في مواقد الشتاء

وحشية كقطة تموء في العراء

آمرةً ناهية كالرب في السماء)

(3)

.

ونحو هذا الاعتقاد الباطل، قوله:

(ونهدك هذا المليء المضيء الجريء العزيز القدير)

(4)

.

ونحوه قوله:

(وجسدك الياسميني يأمر وينهى، ويقول للشي كن فيكون)

(5)

.

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 55.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 284.

(3)

المصدر السابق 1/ 523.

(4)

المصدر السابق 2/ 820.

(5)

المصدر السابق 2/ 922.

ص: 657

وفي سخرية وتهكم بالخليفة الرمز التاريخي والمدلول العضوي لجماعة المسلمين، ثم تهكم باللَّه عز وجل وتقدس، يقول:

(كلما جئت إلى باب الخليفة

سائلًا عن شرم الشيخ

وعن حيفا ورام اللَّه والجولان

أهداني خطاب

كلما كلمته جل جلاله

عن حزيران الذي صار حشيشًا

نتعاطاه صباحًا ومساء. . .

. . . فاعذروني أيها السادة إن كنت كفرت)

(1)

.

وفي مقطع بعنوان بانتظار غودو يقول عنه:

(لم نره

ولم نقبل يده

لكن من تبركوا يومًا به

قالوا بأن صوته

يحرك الأحجار

وأنه وأنه

هو العزيز الواحد القهار)

(2)

.

ثم يُقال بعد ذلك بأن الشعر الحديث تبلور في عدة ظواهر منها: أعمال أدبية اتخذت لها طابعًا من جذور التراث يعبر عن تجربتها الجديدة،

(1)

المصدر السابق 3/ 275 - 277.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 3/ 290.

ص: 658

ومن رواد هذه الظاهرة نازك الملائكة ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي، وهؤلاء يوصف عملهم بالسلفية الجديدة)

(1)

.

فأية جذور تراثية في هذا الكلام وأشباهه؟! اللهم إلّا إن كانت الأحرف والكلمات وبعض التراكيب توافق لسان العرب، فعُد ذلك من التراث!!.

إن الثناء المنطوي على تبجيل أو إشادة بهؤلاء الذين ركبوا متن الكفر والإلحاد وامتطوا كل ما يضاد الدين؛ لهو أمر بالغ الخطورة وفيه جُلَّ خبايا الأمراض والعلل والأسقام الاعتقادية التي يراد لها أن تنطلي على المسلمين من خلل رماد التهوين فضلًا عن الإشادة والامتداح.

وكأن هؤلاء لم يطلعوا على قول اللَّه سبحانه وتعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}

(2)

.

إن من عبث الكلمات والتلاعب بالمصطلحات، وغبش المضامين أن يُمتدح المستهزيء باللَّه والساخر من دينه، فإذا قال غيور على دين اللَّه: لم هذا؟ قالوا: نثني على جماليات أدبية، وتراكيب إبداعية، وغنائيات فنية، وثقافة واسعة، واطلاع كبير، إلى غير ذلك من العبارات التي تسوّق النفاق وتمتدح أهله، تحت مظلة عبارات خاوية أصبحت بوقًا للدعاية ومطية للأعمال السيئة والعقائد الخبيثة.

فليس الإبداع، أو الجمال الفني، أو الثقافة الواسعة، أو التجديد، ليست هذه خيرًا لذاتها وليست دليلًا على العبقرية والعقل؛ لأن الذي يُبدع أو يأتي بالجميل من الفن أو يطلع على الكثير من الثقافات ليس ممدوحًا أو محمودًا لذاته، بل إن كان إبداعه وجمالياته واطلاعه في وجه الحق ومن

(1)

الفنون الصغرى السفر الخامس: ص 120 لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري.

(2)

الآية 22 من سورة المجادلة.

ص: 659

أجل الحق والخير والفضيلة -والإيمان والتوحيد أساس كل ذلك- فهو محمود، وإن كان إبداعه وجمالياته وثقافاته وتحديثاته في ضفة الباطل والشر، وتنطوي على الإلحاد والكفر والجاهلية فهو مذموم مخذول ولا يساوي في ميزان اللَّه وفي ميزان المؤمنين به جناح بعوضة، ولو طار خبره في الآفاق واعتلى عرش رأس الطواغيت إبليس.

ومن أمثلة انحرافهم في هذا الوجه تسبيح محمود درويش للتي أسرت بأوردته -حسب قوله-:

(وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب

كنت هربت من أزقتها

وأكتب باسمها موتي على جميزة

فتصير سيدة وتحمل بي فتًى حرًا

فسبحان التي أسرت بأوردتي إلى يدها)

(1)

.

وقوله:

(. . . للباحثين عن اللَّه في الكائن الآدمي)

(2)

.

ومن الأمثلة قول معين بسيسو:

(أيتها المدينة السحابة. . .

ها أنت مثل اللَّه في يديه السلسلة

لا أنت سنبلة لا أنت قنبلة)

(3)

.

وقول سميح القاسم:

(أيها القيصر عش

(1)

ديوان محمود درويش: ص 475.

(2)

المصدر السابق: ص 98، والسياق يدل على أن معنى هذا القول هو ما يسمونه "أنسنة الإله".

(3)

المصدر السابق: ص 636.

ص: 660

ثمن الخمسين قرش

أنت يا مولاي رحمن رحيم

والذي يغضب من عدلك يا مولاي

شيطان رجيم)

(1)

.

وقوله:

(ونار جبيننا المشجوج لن تطفأ

بغير ضمادك الرحمن يا إيقاع أحرفنا)

(2)

.

وقوله:

(مولاي يا الاسكندر العصري

يا باري الغيوم الواعدة

أمطر على الأتباع ياقوتًا

ونيرانًا على زمر الفلول الجاحدة)

(3)

.

وقوله:

(أدلجت تثقل كاهلي المطعون محنة

والجرح رحماني الرحيم

يا زاد أجدادي وزادي)

(4)

.

ويخاطب المقالح الفدائي قائلًا:

(يا فارس الأغوار والتلال

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 462.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 472.

(3)

المصدر السابق: ص 549.

(4)

المصدر السابق: ص 723.

ص: 661

يا أنت يا ابن الشمس والجمال

تباركت يداك

تباركت مأساتك العظيمة)

(1)

.

ومن المعروف عند أهل العلم أنه هذا الإطلاق لا يقال إلا للَّه تعالى، كما في أول سورة "تبارك" وأول سورة "الفرقان".

ونحوه قول محمد علي شمس الدين:

(. . . تبارك هذا الموت، تبارك

هذا الكأس، تبارك هذا الوحل

على شفتيك

تباركت الأمطار إليك. . .)

(2)

.

ويقول محمد الماغوط:

(يا إخوتي لقد نسيت حتى ملامحكم

أيتها العيون المثيرة للشهوة

أيها اللَّه.

أربع قارات جريحة بين نهدي)

(3)

.

ويقول:

(. . . وأغلقوا في وجهها كل أبواب العالم

لتظل وحيدة كالريح كاللَّه)

(4)

.

أمّا ممدوح عدوان فيقول:

(إنني التل المقاتل

(1)

ديوان المقالح: ص 127.

(2)

غيم لأحلام الملك المخلوع: ص 18، 20.

(3)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 72.

(4)

المصدر السابق: ص 260.

ص: 662

حين تستشري الخديعة

إنني قدس وقدوس

تعري في دمي المنفى)

(1)

.

ويقول عبد الرحمن المنيف في رواية مدن الملح على لسان زهوة التي تتحدث عن قصر أخيها السلطان: (ويلزم تعرفن هذا القصر قصر الرحمن)

(2)

.

ومن الشعر الحديث الذي درسه النصراني المصري غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين؟ " هذه القصيدة التقريرية حسب قول شكري بعنوان "عد يا نيكسون":

(سبحانك

سبحان المعطي

يا خالق حلف الأطلنطي

يجرب فينا أسلحته

أي مروة

بل أية أخلاق حرة. . .)

(3)

.

وفي موضع آخر يستشهد بأبيات حداثية يخاطب بها صاحبها ترومان قائلًا:

(وكاللَّه أنت إله وحيد

معاذك!! بل أنت فوق الشبيه، وليس كمثلك شيء يكون)

(4)

.

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لممدوح عدوان 2/ أمي تطارد قاتلها: ص 77.

(2)

مدن الملح 3/ 267.

(3)

شعرنا الحديث إلى أين: ص 197، والكلمات لكمال عمار.

(4)

المصدر السابق: ص 209، والكلمات لعبد الرحمن الشرقاوي.

ص: 663

ثم يشرح غالي شكري هذه الكلمات المنكرة والعبارات الخبيثة، ويعتبر أن قائلها قد بدأ يتحرر قليلًا عندما قالها.

هذه شواهد من بلايا وطوام الحداثيين وآفاتهم الاعتقادية في تسميتهم ووصفهم غير اللَّه تعالى بأسماء وأوصاف اللَّه تعالى.

‌الوجه الرابع من أوجه انحرافاتهم المتعلقة بالأسماء والصفات: السخرية بأسماء اللَّه وصفاته ومخاطبته تعالى بما لا يليق بجلاله

.

إن أدب الفوضى الحداثية قد فاض قبحه، وانتشر نتن عقائده، وأول منطلقاتهم في ذلك النيل من جلال اللَّه وعظمته وقداسته -جلَّ وعلا-، لقد قامت مدارسهم العديدة على ثالوث الحداثة المدمر:"التجاوز والتمرد والرفض".

وأول شيء في تجاوزهم وتمردهم ورفضهم هو الدين، وخاصة دين الإسلام القويم.

وأساليبهم في ذلك عديدة منها "تدنيس المقدس" الذي أضحى غاية من أعظم غايتهم، وهدفًا من أهم أهدافهم؛ ولذلك توجهوا نحو أركان إيمان المؤمنين فسلطوا عليها ألفاظهم الدنسة وعباراتهم النجسة، وغامروا في أودية الهلكات بسبابهم وسخريتهم من اللَّه مالك الملكوت جبار السموات والأرض قاصم الجبابرة -جلَّ وعلا-.

وقد مرّ معنا من أول الفصل إلى هنا نماذج عديدة من كلامهم وكلها تدل على سخريتهم باللَّه تعالى، وفيها من العبارات المخزية الخبيثة، والمخاطبات الساخرة، ما فيه أكبر دليل على أنهم استهدفوا صرح هذا الدين ليهدموه، وتألبوا على قداسته ليدنسوها، وتكالبوا على نوره ليطفئوه، وأنى لهم ذلك؟!

وهل يفلح نسج العنكبوت في مقاومة السيل إذا هدر؟!.

أم هل تفلح القناني المكسرة ولو كثرت في رد الشمس، أو تغيير الكون، أو تبديل الحقائق؟!.

ص: 664

إن ألاعيب الخيال السقيم، ومرض العقول الملحدة، لا يُمكن أن تطفيء نور الحق مهما تكالبت وتألبت، فاللَّه متم نوره ولو كره الكافرون، وسوف أورد هنا بعض الشواهد على هذا الوجه من الانحراف، فمن ذلك قول أدونيس في سخريته بالدين والإسلام في مقطع بعنوان "رماد عائشة":

(ثلاثة من الفراغ

واحد مغارة

والآخران صَدَأ:

"رباه كم تزلزل الجدار في عظامنا

وانطفأ السراج والصباح في عيوننا

وجمدت صلاتنا على اسمك القديم

ونسيت قلوبنا اللذائذ الخطايا

آملة بوعدك الكريم)

(1)

.

فهو يجعل هذه العجوز "عائشة" رمزًا للتخلف الذي هو عنده الإيمان باللَّه والدين والدعاء ويستخدم اسم "عائشة" تبعًا للعداوة الشيعية التي تربى عليها في طائفته النصيرية ضد أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها.

ثم يجعل الصلاة والدعاء تأخرًا ورجعية وجمودًا على اسم اللَّه تعالى.

ومن أقواله التي يسخر فيها باللَّه تعالى وبأسمائه وصفاته كلامه الساقط في مقطع جنسي هابط يتحدث عن فرج امرأة فيقول:

(في أحشائك أعرف أوقن أن الآتي

سر حياتي

فيك أصور أبدع أعلى آثاري

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس 1/ 162.

ص: 665

أوضح أعتم أسراري

فيك أنشيء فيك أحقق أن اللَّه.

لا يتناهى)

(1)

.

في هذا النص يظهر مقدار التهكم باللَّه تعالى، حيث جعل أزليته تعالى إنشاءً واختلافًا وقرن تحقيق ذلك بفرج امرأة في أسلوب تدنيسي واضح الألفاظ والمقاصد.

ومن أقواله في هذا القبيل:

(اعرف أن جنس الربوبية يتأصل في أحشاء الأرض

ويتناسل

اعرف الأرض بالأرض

والسماء بنور الأرض)

(2)

.

ومن الفلسفات الحداثية العلمانية المتهافتة التي يريدون الوصول إلى إبطال الشريعة وإبطال الدين كله قول العلماني اللبناني عادل ظاهر، في ندوة "الحداثة والإسلام":(إن الاعتقاد أن اللَّه أمر المسلم بأن يقنن الشريعة بغض النظر عن الظروف التي يجد نفسه فيها، هو اعتقاد يناقض طبيعة اللَّه، فإن اللَّه بحكم ماهيته، لا يُمكن أن يأمر بما هو خارق. . . باختصار، اللَّه بحكم طبيعته عقلاني بصورة تامة وما يعنيه هذا، على وجه التحديد، هو أنه لا يُمكن أن يأمر بعمل شيء إلّا إذا كانت الاعتبارات العقلانية لصالح القيام به. . .)

(3)

.

وفي تطبيق بالمثال لقاعدته الزائفة هذه والتي فيها السخرية من اللَّه والمخاطبة له بما لا يليق، يقول: (. . . إننا من معرفتنا لطبيعة اللَّه يُمكننا أن نستنتج أن اللَّه ما كان ليأمرنا بأن نطبق نظام الشورى وأن نعاقب السارق

(1)

المصدر السابق 1/ 215.

(2)

المصدر السابق 1/ 592.

(3)

الحداثة والإسلام: ص 81.

ص: 666

بقطع يده، بغض النظر عن ظروفنا الزمانية والمكانية)

(1)

.

وهكذا تتبدى الطبيعة العلمانية الحاقدة على الدين حتى وهي في مسوح الاحتجاج بالدين ضد الدين، فاللَّه -جلَّ وعلا- عندهم صاحب طبيعة وكأنه أحد المخلوقات -جلَّ وعلا وَتَقَدَّسَ- وصاحب عقلانية كالبشر المهازيل الضعفاء.

ولعل هذا العلماني الجاهلي يظن نفسه قد أتى بالمفحم من الحجج، وما أشبه حجته بحجة أهل الجاهلية الأولى من مشركي قريش وفارس حين حرم اللَّه أكل الميتة فقالوا: (إن محمد وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر اللَّه، فما ذبح اللَّه بسكين من ذهب فلا يأكلونه، وما ذبحوه هم يأكلونه. . . فأنزل اللَّه:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}

(2)

، ونزلت:{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} )

(3)

(4)

.

ومن السخرية باللَّه وأسمائه وصفاته ومخاطبته بما لا يليق بجلاله قول السياب:

(فنحن جميعًا أموات

أنا ومحمد واللَّه.

وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفرة

عليها يكتب اسم محمد واللَّه. . .

. . . فيا قبر الإله، على النهار. . .

. . . إله الكعبة الجبار

(1)

المصدر السابق: ص 80.

(2)

الآية 121 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 112 من سورة الأنعام.

(4)

تفسير ابن كثير 3/ 92.

ص: 667

بقطع يده، بغض النظر عن ظروفنا الزمانية والمكانية)

(1)

.

وهكذا تتبدى الطبيعة العلمانية الحاقدة على الدين حتى وهي في مسوح الاحتجاج بالدين ضد الدين، فاللَّه -جلَّ وعلا- عندهم صاحب طبيعة وكأنه أحد المخلوقات -جلَّ وعلا وَتَقَدَّسَ- وصاحب عقلانية كالبشر المهازيل الضعفاء.

ولعل هذا العلماني الجاهلي يظن نفسه قد أتى بالمفحم من الحجج، وما أشبه حجته بحجة أهل الجاهلية الأولى من مشركي قريش وفارس حين حرم اللَّه أكل الميتة فقالوا: (إن محمد وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر اللَّه، فما ذبح اللَّه بسكين من ذهب فلا يأكلونه، وما ذبحوه هم يأكلونه. . . فأنزل اللَّه:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}

(2)

، ونزلت:{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} )

(3)

(4)

.

ومن السخرية باللَّه وأسمائه وصفاته ومخاطبته بما لا يليق بجلاله قول السياب:

(فنحن جميعًا أموات

أنا ومحمد واللَّه.

وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفرة

عليها يكتب اسم محمد واللَّه. . .

. . . فيا قبر الإله، على النهار. . .

. . . إله الكعبة الجبار

(1)

المصدر السابق: ص 80.

(2)

الآية 121 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 112 من سورة الأنعام.

(4)

تفسير ابن كثير 3/ 92.

ص: 668

بدرع أمس في ذي قار

بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار

إله محمد وإله آبائي من العرب

تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار

وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار

وأبصرناه يهبط أرضنا يومًا من السحب:

جريحًا كان في أحيائنا يمشي ويستجدي

فلم تضمد له جرحًا

ولا ضحى

له منا بغير الخبز والأنعام من عبد. . .

. . . أعاد اليوم، كي يقتص من أنا دحرناه

وأن اللَّه باق في قرانا، ما قتلناه

ولا من جوعنا يومًا أكلناه

ولا بالمال بعناه. . .)

(1)

.

سبحان اللَّه ما أعظم حلم اللَّه على من قال هذا ومن طبعه ومن كتبه ومن نشره، ومن أشاد بصاحبه وامتدحه، أمثل هذا يقال أن شعره وكتاباته من (أعمال الرؤيا الحضارية الواعية ويمثلها خليل حاوي وعبد الصبور وحسب الشيخ جعفر والسياب)؟

(2)

.

وأي رؤيا حضارية واعية في هذا القول وأشباهه؟ وما أكثر أشباهه، والتي منها قوله:

(1)

ديوان السياب: ص 395 - 400.

(2)

الفنون الصغرى السفر الخامس: ص 120.

ص: 669

(كفرت بأمة الصحراء

ووحي الأنبياء على ثراها في مغاور مكةٍ أو عند واديها. . .

. . . لست لأعذر اللَّه.

إذا ما كان عطف منه، لا الحب، الذي خلاه يسقيني

كؤوسًا من نعيم)

(1)

.

ومن كلامه في مخاطبة اللَّه بما لا يليق به -جلَّ وعلا- قوله:

(أليس يكفي أيها الإله

إن الغناء غناء الحياه

فتصبغ الحياة بالقتام؟

تحيلني، بلا ردى، حطام:

سفينة كسيرة تطفوا على الحياة؟

هات الردى، أريد أن أنام

بين قبور أهلي المبعثرة

وراء ليل المقبرة

رصاصة الرحمة يا إله)

(2)

.

وهذه الأقوال من السياب كانت بعدما أضرَّ به المرض وشارف على الهلاك، وتاب وأناب على حد زعم بعضهم!!.

وهي وإن كان فيها التجاء إلى اللَّه تعالى إلّا أنه يخاطب اللَّه فيها بلا توقير ولا تعظيم ولا إجلال وهذه من نتائج تربيته الحداثية، التي علمته الاستخفاف باللَّه تعالى، وصنوه البياتي له في هذا الباب الكثير من الألفاظ،

(1)

ديوان السياب: ص 642.

(2)

ديوان السياب: ص 706.

ص: 670

وقد سبق نقل شواهد من كلامه على هذا، ومما قال:

(يا إلهي قضاؤك العدل يجرى أتراه على الورى أم عليا

خبزك المشتهى وخمرك سالت قطرة منه على شفتيا

أين عيناك يا إله الليالي لتصب النعاس في مقليتا

كيف أرقى لعرشك المتعالي أبسكر الصلاة أم بالحميا)

(1)

وقوله:

(مولاي لا يبقى سوى الواحد القيوم وهذه النجوم)

(2)

.

وقوله:

(مجنونًا كنت أنادي اللَّه)

(3)

.

وقوله:

(لغتي صارت قنديلًا في باب اللَّه. . .

فسيبقى صوتي قنديلًا في باب اللَّه)

(4)

.

وقوله:

(لا غالب إلّا اللَّه فلماذا يبكي عبد اللَّه)

(5)

.

ونحوها:

(لا غالب إلّا الخمار)

(6)

.

(1)

ديوان البياتي 1/ 115.

(2)

المصدر السابق 2/ 72.

(3)

المصدر السابق 2/ 295، 296.

(4)

المصدر السابق 2/ 378 - 379.

(5)

ديوان البياتي 2/ 408.

(6)

المصدر السابق 2/ 416.

ص: 671

وفي مقطوعة الخال التي سبق ذكرها والتي بعنوان "الجدار الأزلي" مضامين اعتقادية خطيرة في حوار مع اللَّه تعالى مليء بالشك والاستخفاف والعدمية والاستهانة

(1)

.

ونحوها مقطوعة صنوه توفيق صائغ الموجهة إلى اللَّه في عبارات خبيثة واتهامات وسخريات وشكوك ونقد للَّه -جلَّ وعلا

(2)

-، وكذلك المقطع الآخر الممتليء بالسخرية باللَّه والبذاءة في الخطاب معه -جلَّ وعلا

(3)

-، وقد سبق نقل كثير من ألفاظ هذين المقطعين في الفصلين السابقين.

ومن أشباه هذه الأقوال، قول النواب:

(. . . فإن سكن الخلق

بأخذ عزلته بزوايا من اللَّه عابقة بالشراب

ويثمل باللَّه سبحانه

والبلاد التي درجات الكحول بها

لم تصلها الخمور)

(4)

.

فتأمل كيف يسب اللَّه تعالى ويسخر من اسمه -جلَّ وعلا-، ثم يمعن في السخرية، فيقول:(يثمل باللَّه سبحانه).

أمّا أمل دنقل فيقول ساخرًا مستهزئًا:

(حاذيت خطو اللَّه لا أمامه ولا خلفه)

(5)

.

أمّا نزار قباني قد استكثر من أصناف الانحراف وغرق في جب الخنا والفساد حتى أصبح هذا من عاداته، ومن طبيعته القذرة، كقوله:

(1)

انظر: الأعمال الكاملة للخال: ص 220 - 226.

(2)

انظر: المجموعات الشعرية للصايغ: ص 28 - 30.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 203 - 206.

(4)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسة: ص 141.

(5)

الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل ص 180، 184.

ص: 672

(وستارتان إذا تحركتا أبصرت وجه اللَّه خلفهما)

(1)

.

وقوله:

(أريد البحث عن وطن

ورب لا يطاردني)

(2)

.

وقوله:

(يا أيها الغالي الذي أرضيتُ عني اللَّه إذا أحببته)

(3)

.

وقوله:

(ما دمت يا عصفورتي حبيبتي. . .

إذن فإن اللَّه في السماء)

(4)

.

أمّا قصيدته "أسئلة إلى اللَّه"

(5)

فقد ملأها بالأسئلة التهكمية والخطاب غير اللائق، والوصف الساخر باللَّه تعالى وتقدس، ومن سخريته بأسماء اللَّه الحسنى -جلَّ وعلا- قوله:

(كلما طال شعرك

طال عمري

كلما رأيته منثورًا على كتفيك

لوحة مرسومة بالفحم

والحبر الصيني

وأجنحة السنونو

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني 1/ 400.

(2)

المصدر السابق 1/ 597.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني 1/ 725.

(4)

المصدر السابق 1/ 737.

(5)

انظر: المصدر السابق 2/ 61 - 65.

ص: 673

حوطته بكل أسماء اللَّه.

هل تعرفين؟

لماذا استميت في عبادة شعرك)

(1)

.

ويطلب من اللَّه أن يلغي الشتاء من مفكرته

(2)

جلّ وتقدس، ويسخر بالقرآن وبصفات اللَّه -جلَّ وعلا- حين يقول:

(أن أمر الحب يا سيدتي من علم ربي)

(3)

.

ويسخر من علو اللَّه تعالى وقدرته في قوله:

(ولم تزل نظن إن اللَّه في السماء

يعيدنا لدورنا)

(4)

.

وفي استهانة كاملة باللَّه عز وجل يقول:

(لا أحد يقدر أن يغادر المكان

يشتري جريدة

أو كعكة

أو قطعة صغرى من اللبان

لربه، لا أحد، يقدر أن يقول:

يا رباه

لا أحد)

(5)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 431 - 432.

(2)

انظر: المصدر السابق 2/ 485.

(3)

المصدر السابق 2/ 838.

(4)

المصدر السابق 3/ 145.

(5)

المصدر السابق 3/ 292.

ص: 674

أمّا محمود درويش فإنه يجعل من علامات القحط والجدب كثرة أسماء اللَّه تعالى، وذلك في قوله:

(في الزمن البخيل

يتكاثر الأطفال والذكرى وأسماء الإله)

(1)

.

ومن سخريته بصفات اللَّه تعالى قوله:

(وها أنا أعلن أن الزمان تغير!

كانت صنوبرة تجعل اللَّه أقرب

وكانت صنوبرة تجعل الجرح كوكب

وكانت صنوبرة تنجب الأنبياء)

(2)

.

ومن سخرياته قوله:

(ليس الرب من سكان هذا القفر)

(3)

.

أمّا معين بسيسو فقد قال في اللَّه تعالى قولًا فظيعًا حين قال:

(لم يبق سوى اللَّه يعدو كغزال أخضر

تتبعه كل كلاب الصيد. . .)

(4)

إلى آخرها.

وقال:

(وكنت أول الذين قد رأوك

كنت بين اللَّه والنبي أول النساء

كيف وارت كل هذه الخواتم المكررة)

(5)

.

(1)

ديوان محمود درويش: ص 422.

(2)

المصدر السابق: ص 469.

(3)

المصدر السابق: ص 480.

(4)

الأعمال الشعرية الكاملة: ص 341.

(5)

المصدر السابق: ص 574.

ص: 675

ويقرن اللَّه تعالى بأشياء تافهة، وذلك في قوله:

(غزلان تركض نحو الشمس

الشباك يخبئ فمه

الماء يخبئ دمه

اللَّه.

الراديو

الكرسي

الكأس

الباخرة الطائرة البنك حقيبته في يده

الاسمنت

هنا القاهرة هنا بيروت)

(1)

.

أمّا سميح القاسم فيستهين بصفات اللَّه تعالى على طريقته الخاصة حين يقول:

(فسيف الثار مبعوث وإيليًا

وصوت اللَّه كيف نشاؤه يأتي

ويملأ. . يملأ الدنيا!!)

(2)

.

وكذلك زميله الشيوعي الحداثي توفيق زياد يسأل اللَّه بطريقة مليئة بالتهكم حين يقول:

(طلبي متواضع ألف جنيه صفراء هل هذا يا ربُ عليك كثير)

(3)

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة: ص 646 - 647.

(2)

ديوان سمح القاسم: ص 587.

(3)

ديوان توفيق زياد: ص 340 - 341.

ص: 676

أمّا عبد العزيز المقالح فله أسلوبه الخاص في الإلحاد في أسماء اللَّه وصفاته وألوهيته وربوبيته، ومن أمثلة هذا الأسلوب قوله:

(تحت جلدي تعيشين، نبكي معًا ونصلي، نجوع

ونعرى، نجدف في اللَّه والشعب، يضبطنا عسس الليل

والمخبرون، فاكتب اسمي وأخفيك تحت دمي. . .)

(1)

.

ولمحمد الماغوط أيضًا أسلوبه التهكمي فهو يقرن اللَّه تعالى بالشوارع الدامسة في سياق من النقد والاعتراض فيقول:

(هناك في تجويفٍ من الوحل الأملس

يذكرني بالجوع والشفاه المشرده

حيث الأطفال الصغار

يتدفقون كالملاريا

أمام اللَّه والشوارع الدامسة)

(2)

.

ونحو هذا قوله:

(وكنت أحبك يا ليلى أكثر من اللَّه والشوارع الطويلة)

(3)

.

ويجتريء الماغوط على اللَّه ويقذف بشتائمه وتهكماته على اللَّه -جلَّ وعلا- ويخاطبه بأقذع الألفاظ وأخبثها فيقول -قاتله اللَّه-:

(يارب

أيها القمر المنهوك القوى

أيها الإله المسافر كنهد قديم

(1)

ديوان المقالح: ص 535.

(2)

الآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 26.

(3)

المصدر السابق: ص 67.

ص: 677

يقولون إنك في كل مكان

على عتبة المبغى، وفي صراخ الخيول

بين الأنهار الجميلة

وتحت ورق الصفصاف الحزين

كن معنا في هذه العيون المهشمة

والأصابع الجرباء

أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر

لنبكي)

(1)

.

ويقول:

(كل ما أريده هو الوصول بأقصى سرعة إلى السماء

لأضع السوط في قبضة اللَّه.

لعله يحرضنا على الثورة)

(2)

.

أمَّا ممدوح عدوان فإنه يسخر باللَّه -جلَّ وعلا- وصفاته حين يجعل الخيانة تصل إليه عارية وتتسلل إليه سبحانه وتعالى عبر سواد الليل، وذلك في قوله:

(تمرمرت حتى تمر البلية صامتةً

وتجيء الخيانة عارية:

قلت: كيف وصلت إلى اللَّه يا أم

قالت: تسللت عبر سواد الليالي

(1)

المصدر السابق: ص 61.

(2)

المصدر السابق: ص 296.

ص: 678

بصمت النسيم)

(1)

.

ويستخدم عدوان كلمة التسبيح في سياق السخرية والاستهزاء والتهكم باللَّه تعالى وصفاته وأفعاله فيقول:

(فسبحان من خلق الطاعة البشرية

سبحان من صنع العظم مثل العجين

مطيعًا لكل القوالب

صاغ الدموع بكل المقاييس

سبحان من جعل العنق صالحة للمشانق

والأمن منسجمًا مع عتم السجون

وأنشأ للكفر ناطحة للسحابِ

وأنشأ أقبية في بلادي

وسبحانه

كيف أخفى معاجزه عن عيوني

فلم أتعجب

سوى خلقه للجمال

ورفع السماء بلا عمدٍ

كن أكن لا تكن)

(2)

.

أمّا أحمد دحبور فإنه يسخر باللَّه تعالى، وبمعاوية رضي الله عنه ويجعله رمزًا للعمالة فيقول:

(فلا تقربيني إذن واسمعي: كلهم ولغوا في دمائي

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لممدوح عدوان جـ 2 أمي تطارد قاتلها: ص 7.

(2)

المصدر السابق جـ 2 مجموعة لابد من التفاصيل: ص 77 - 78.

ص: 679

من معاوية رضي اللَّه والأمريكان عنه، إلى باعة الشهداء)

(1)

.

ويقرن اللَّه تعالى بأشياء دنيوية ويجعله في قائمة الممنوعات منتقدًا عرف المسلمين وعقيدتهم التي تجعل اللَّه تعالى أعلى وأجل وأكبر من كل شيء.

وكأن دحبور لا يرى أن الحداثيين قد قاموا بما يلزم لحداثتهم وكفرهم من سخرية باللَّه تعالى وجحد وإلحاد، فيطالب بأكثر مما حدث فيقول:

(وتحت الباب قائمة الممنوع زاحفة على المفاتيح

لا تكتب عن الغضب المقموع

والجوع

والأحلام زائدة عن حدها

والغلا

واللَّهِ

أين هي القصيدة الآن؟

قل لي: أين أين هي. . .)

(2)

.

ويتشدق بعبارات السخرية باللَّه تعالى قائلًا:

(فليبارك الرب لها ثنا وآثامنا الضرورية

بمزيد من الظلام الضروري

حتى نتمكن، بأمان، من إدراك الصباح

بما هو أهل وما نحن أهل)

(3)

.

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 311.

(2)

ديوان أحمد دحبور: ص 560.

(3)

المصدر السابق: ص 737.

ص: 680

وقد مرت عبارة المنيف التهكمية التي يقول فيها: (أخطر شيء في هذه الحياة بعد اللَّه والمال هو السروال، إذا كانت دكته قاسية أتعب وإذا ارتخت دكته أشقى وأتعب)

(1)

.

أمّا روايات ليلة القدر لابن جلون ومسافة في عقل رجل لعلاء حامد، وسقوط الإمام لنوال السعداوي، وألف وعام من الحنين، وعرس بغل لابن جلون، فإنها مليئة مترعة بالخبائث والنجاسات الفكرية من السخرية باللَّه تعالى وأسمائه وصفاته ومخاطبته سبحانه وتعالى بما لا يليق من القول، واعتناق عقائد السياب والشتم والذم الموجه للَّه تعالى وتقدس.

• • •

(1)

مدن الملح 5/ 95. وانظر: 5/ 296.

ص: 681

الإنحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها

«دراسة نقدية شرعية»

تأليف

الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي

[المجلد الثاني]

ص: -1