المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثالث الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى الغيبيات هي القضايا الاعتقادية التي - الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها - جـ ٣

[سعيد بن ناصر الغامدي]

فهرس الكتاب

‌الفصل الثالث الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى

الغيبيات هي القضايا الاعتقادية التي وردت أخبارها عن طريق السمع، والتي ثبتت بالوحي المعصوم؛ ولذلك تسمى "السمعيات".

وكل ما ثبت مجيء الخبر به عن طريق الشرع من كتاب اللَّه تعالى أو من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب تصديقه والإيمان به سواء أدركناه بحواسنا وعقولنا أم لم ندركه، وسواء كان من الأخبار الماضية مثل بدء الخلق وأخبار الأنبياء والأمم الهالكة، أو من الأخبار القائمة الآن مثل وجود إبليس والجن والملائكة، أو من الأخبار الآتية مثل اليوم الآخر وما فيه، والعلامات الكبرى للقيامة، وانتصار الإسلام على سائر الملل، ونزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والمهدي وغير ذلك.

فهذه وغيرها من الغيبيات الثابتة بالسمع يجب الإيمان به جملة وتفصيلًا، وقد جعل اللَّه الإيمان بها من علامات المؤمنين المتقين حيث قال سبحانه:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

(1)

الآية.

وقال -جلَّ وعلا-: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}

(2)

.

(1)

الآيات 1 - 3 من سورة البقرة.

(2)

الآية 94 من سورة المائدة.

ص: 1538

وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}

(1)

.

وقال سبحانه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}

(2)

.

وقال -جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}

(3)

.

وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}

(4)

.

وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}

(5)

.

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}

(6)

.

وغير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تدل كلها على أن الإيمان بالغيب قاعدة عظيمة من قواعد الإيمان لا يُمكن للمكلف أن يدخل في دين

(1)

الآيتان 48، 49 من سورة الأنبياء.

(2)

الآية 18 من سورة فاطر.

(3)

الآية 11 من سورة يس.

(4)

الآيات 31 - 35 من سورة ق.

(5)

الآية 25 من سورة الحديد.

(6)

الآية 12 من سورة الملك.

ص: 1539

الإسلام ما لم يؤمن بها ويقر بكل قضاياها الثابتة.

والإيمان بالغيب باب واسع يدخل تحت عنوان مسائل جليلة ومسائل دقيقة.

فالإيمان باللَّه تعالى ربًا وخالقًا وإلهًا له الصفات الحسنى غيب، بل هو أعظم وأجل قضايا الغيب وكذلك الإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل الذين أخبرنا الوحي بأخبارهم وأخبار أممهم والرسل الذين لم يخبرنا بهم، والإيمان بالوحي ونزوله على الأنبياء سواء في الكتب المنزلة أو غيرها غيب، واليوم الآخر وكل قضاياه غيب، والقدر المكتوب في اللوح المحفوظ غيب، ولا يعرف هذا الغيب إلّا إذا وقع القدر في الواقع، فها هي أركان الإيمان العظيمة تدخل في هذا الباب الواسع الكبير، ولذلك جعل اللَّه الإيمان بالغيب قاعدة للإيمان كله، وأول صفة في صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

(1)

.

ولكن الإيمان بالغيب لا يقتصر على هذه القضايا الجليلة التي هي قواعد الاعتقاد وأساس الديانة، بل أخبرنا اللَّه تعالى عن أمور غيبية عديدة فصل بشأن بعضها ولم يفصل في شأن البعض الآخر.

ومن أمثلة القضايا الغيبية التي أخبرنا اللَّه تعالى بها: الشيطان والجن، وما يتبع ذلك من قضايا السحر والكهانة والتنجيم، وأخبار عن أمور وقعت في القديم مثل بدء خلق السموات والأرض وبداية الخليقة وكيف تناسلوا وماذا حدث من بعض أبناء آدم، وأخبار ذي القرنين والخضر وأهل الكهف.

وأخبار عن أمور سوف تقع في المستقبل، مثل يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وخروج المهدي، والملحمة الكبرى بين المسلمين وعباد الصليب، وانتصار المسلمين على اليهود، وأشراط الساعة، وغير ذلك.

(1)

الآيات 1 - 3 من سورة البقرة.

ص: 1540

والإيمان بالغيب حق ثابت وحاجة ضرورية للإنسان وقضية فطرية وميزة أصيلة فيه، وسوف أذكر الأوجه الدالة على هذا الحق وهذه الحاجة ثم أذكر الموقف المادي الحداثي والعلماني من هذا:

أولًا: أن الإنسان مكون -حسب أصل الخلقة التي خلقها اللَّه عليها- من مادة وروح، المادة تتمثل في أصله الطيني وتركيبه الجثماني، والروح تتمثل في عنصر الحياة المبثوث في هذا الجثمان، والسارية فيه سريان الماء في الشجر والشذى في الورد.

وفي القسم المادي الطاقات الحسية، الجسمية العضلية، من سمع وبصر ولمس وشم وذوق ولحم ودم وعضل وعصب وعظم، وفي القسم المعنوي طاقاته الروحية والفكرية والنفسية.

وهذان القسمان والعنصران ممتزجان في كيان موحد، ومنهما معًا تنبع جميع الطاقات الحسية والمعنوية، ولكل منهما غذاؤه وداؤه ودواؤه.

فبأجهزة كالجسم يتحرك الإنسان ويحس ويرى ويسمع ويذوق ويعمل، ويأكل ويشرب وينكح، وهو في جنس هذه الأعمال يشابه الحيوان، وهو منذ أن يولد توجد معه وتنمو بنموه متصلة بالحواس والأعصاب واللحم والدم.

وأجهزة البدن هي العظمية والدموية والعصبية والهضمية والتناسلية، أمّا الطاقة المعنوية فإنها منبثة في هذا الجسم المادي ومتصلة به اتصالًا وثيقًا، ولا يدري أحد على وجه التحديد مكانها وماهيتها ولكنه يدرك عملها وآثارها، وبها يدرك المعاني المجردة والتفكير التصوري، ويدرك الكليات والمعنويات والقيم العليا من العدل والحق والخير والجمال، وغير ذلك من الكليات والتجريديات، وهذه الطاقة المعنوية هي التي تميز بها الإنسان عن الحيوان، الذي ليس له مجال سوى المحسوس، أمّا الإنسان فإن المزية الأساسية له هي القدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس، وذلك تبع لعنصر الروح وما ينبثق عنها من طاقات معنوية.

هذه القضية -قضية خلق اللَّه للإنسان من روح وطين- تعتبر مفرق الطريق بين الدين والمادية الملحدة.

ص: 1541

فالأديان كلها تؤكد أن اللَّه خلق آدم من طين ونفخ فيه من روحه، وهذا ما أكده القرآن العظيم وأثبته في مواضع عديدة، وعلى ذلك فالإنسان مخلوق من عدم، مكرّم عند خالقه الذي أوجد له منهجًا وبين له سبلًا وأوضح له غاية الحياة وغاية وجوده في الحياة، والذي يريد منه أن يتسامى صعودًا إلى مدارج الكمال الاعتقادي والعقلي والنفسي والعملي، في صلة وطيدة بالسماء.

أمَّا المذهب المادي الإلحادي المعاصر فإن أساس عقيدته تقوم على أن الإنسان كائن مستقل بذاته، لا علاقة له بخالق، إذ لا وجود لخالق عندهم أصلًا، بل الطبيعة هي التي تشرف على الحياة في الكون وهي التي تتدخل في عملية النشوء والارتقاء، وهي التي وصلت في نهاية الأمر إلى خلق الإنسان وتكوينه هذا التكوين المتميز وهي التي منحته أعضاء الجسم وغرائز النفس.

وهم بطبيعة هذه المغالطة المضحكة ينكرون أصلًا خلق آدم من روح وطين، ويسمعون إلى إلغاء أي اعتقاد يربط الإنسان بخالقه، وتحطيم أي صلة تصل بين الأرض والسماء، من خلال ما وضعوا من المذاهب والمناهج والنظم التي ترسخ نزع الكرامة الإنسانية وإلغاء النفحة الإلهية عن الإنسان، والسعي بصورة حثيثة في "تحقير" الإنسان، وتصويره في صورة مادية حيوانية، على أساس أنه مجموعة من الغرائز والشهوات لا يُمكن له أن يرتفع عن واقع الأرض المادي، ولا يستطيع أن ينطلق من قيد الغريزة مطلقًا.

لقد بدأت هذه الفرية المادية إثر سلسلة من الصراعات بين الدين النصراني المحرف، والمعطيات العلمية والعقلية انتهت سلسلة هذه الحلقات إلى الباحث الإنجليزي "تشارلزداروين" الذي نشر في عام 1859 م/ 1275 هـ كتابه "أصل الأنواع" الذي يدور حول فرضية تطور الحياة في الكائنات الحية من دور بسيط إلى دور أرقى ثم أرقى، وتدرجها من العشوائية وعدم الدقة إلى الدقة والتركيب المعقد، كل ذلك تحت إشراف وتوجيه الطبيعة التي فرضت قانون "الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب"!! وأن الكائنات العضوية

ص: 1542

ما زالت تترقى في هذا السلم، تصارع الحياة والآفات والكوارث فالذي لا يصلح تطرحه الطبيعة وتفنيه، والأفضل تهبه الطبيعة عوامل البقاء ومؤهلات الاستمرار، بل وتضيف له عناصر وصفات جديدة تمكنه من الاستمرار ومواصلة البقاء النوعي، وقد أدت هذه العملية -حسب افتراضية داروين- إلى إيجاد أنواع جديدة راقية مثل القرود الذين تسلسل منهم -وفق قانون الانتخاب الطبيعي- الكائن الأرقى وهو الإنسان

(1)

!!.

هذه نظرية داروين باختصار شديد، وهي نظرية افتراضية قائمة على دراسات بيولوجية، وليست نظرية فلسفية، وإن كانت ذات أثر كبير جدًا على نظريات فلسفية غريبة عديدة، كما أن هذه النظرية أبعد ما تكون عن الحقائق العلمية الثابتة، وقد نقضها وبين عوارها كثير من علماء البيولوجيا "علم الأحياء" وغيرهم

(2)

، ومن ذلك قول كريسي موريسون

(3)

في كتابه العلم يدعو للإيمان: (إن القائلين بنظرية التطور "النشوء والارتقاء" لم يكونوا يعلمون شيئًا عن وحدات الوراثة "الجينات" وقد وقفوا في مكانهم حيث يبدأ التطور حقًا، أعني عند الخلية ذلك الكيان الذي يحتوي الجينات ويحملها)

(4)

.

(1)

انظر تفصيل ذلك في: كتاب التطور عملياته ونتائجه، تأليف: ادوارد أو. دودسن، ترجمة أمين رشيد حمدي وآخرون.

(2)

مثل العالم الإنجليزي "أدين" و"أغاسيز" العالم الأمريكي، و"هرشل" العالم الفلكي المشهور، بل وعلماء الداروينية الجديدة الذين حاولوا ترقيع الثغرات في نظرية داروين مثل "جوليان هكلسي" و"أرثر كيت" و"ليكونت دي نوى" وبينوا هزال النظرية وافتقارها إلى الأدلة والبراهين.

(3)

كريسي موريسون هو: العالم الأمريكي الشهير والرئيس السابق لأكاديمية العلوم في نيويورك ورئيس المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك وعضو المجلس التنفيذي للبحوث القومي بأمريكا، وله بحوث ومؤلفات عديدة منها كتاب العلم يدعو للإيمان الذي ألفه للرد على الملحد جوليان هكسلي صاحب الداروينية الحديثة ومؤلف كتاب الإنسان يقوم وحده، والذي فنده موريسون وأحكم الرد عليه بكتابه العلم يدعو للإيمان. انظر: كتاب العلم يدعو للإيمان: ص 5 وص 13.

(4)

العلم يدعو للإيمان: ص 147.

ص: 1543

ويقول: (ولا بد للحياة فوق أرضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال حسابيًا أن تتوافر كلها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت، لذلك لا بد أن يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد)

(1)

.

ويقول: (إن وجود الخالق - تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة، وأن وجود الإنسان على ظهر الأرض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنّما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون)

(2)

.

ويقول العالم الطبيعي السويسري "أغاسيز"

(3)

في رسالة بعنوان "أصل الإنسان": (إن مذهب داروين خطأ علمي باطل في الواقع وأسلوبه ليس من أساليب العلم بشيء ولا طائل تحته)

(4)

.

وقال: (إن النشوء لا يتم إلّا وفقًا لخطة إلهية محكمة وإن الاصطفاء الطبيعي إذا ما حل محل الخلق الإلهي فإن الإنسان يكون قد جرد من روحه وغدى آلة صماء)

(5)

.

وقال: (إن التفسير الحرفي لنظرية داروين يفسح المجال لتأليه - سوبرمان - نيتشه - وتمجيد القوى البدنية على أنها الأساس الوحيد للسلوك بين الناس، وإن ثمة فرقًا واضحًا بين تناسل الأنواع وبين خلق الأنواع فالحيوانات تتناسل فتنتج نوعها، أمَّا اللَّه وحده فقادر على خلق نوع جديد. . . إن الفكرة التي يعتنقها الداروينيون عن تناسل نوع جديد بواسطة نوع سابق ليست إلّا

(1)

المصدر السابق: ص 51.

(2)

المصدر السابق: ص 46.

(3)

أغاسيز هو: عالم سويسري من أشهر علماء الطبيعة في أوروبا وخاصة في علم الأسماك وطبائعها، قال عنه جورج سلستي في كتابه عباقرة العلم: ص 221 لقد كان أغاسيز أعظم معلم في جيله ومكانه لا يزال شاغرًا حتى اليوم لم يملأه أحد. انظر: كتاب الإنسان والداروينية هامش: ص 125.

(4)

و

(5)

الإنسان والداروينية: ص 125.

ص: 1544

افتراضًا اعتباطيًا يتعارض والآراء الفسيولوجي الرصينة)

(1)

.

ويقول أخصائي علم الأحياء والثبات "رسل تشارلزآرتست"

(2)

: (لقد وضعت نظريات عديدة، لكي تفسر لنا كيف نشأت الحياة من عالم الجمادات، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين أو من الفيروس أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة، وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات، ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به، هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بخذلان وفشل ذريعين، ومع ذلك فإن من ينكر وجود اللَّه لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع بعض الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة يُمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية، وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده، ولكنه إذ يفعل ذلك فإنّما يسلم بأمر أشد إعجازًا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود اللَّه الذي خلق هذه الأشياء ودبرها، إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق، ولذلك فإنني أومن بوجود اللَّه إيمانًا راسخًا)

(3)

.

ويقول أستاذ علم الأحياء الأمريكي "جون وليان كلونس

(4)

": (إن هذا

(1)

الإنسان والداروينية: ص 125.

(2)

رسل تشارلز آرتست هو: أخصائي علم الأحياء والنبات، وأستاذ في جامعة فرانكفورت في ألمانيا، وعضو الأكاديمية العلمية في أنديانا، له عدة أبحاث ومؤلفات. انظر: كتاب "اللَّه يتجلى في عصر العلم": ص 73.

(3)

اللَّه يتجلى في عصر العلم: ص 77.

(4)

جون وليان كلوتس، عالم في الوراثة، حاصل على درجة دكتوراه من جامعة بتسبرج، وأستاذ علم الأحياء والفسيولوجيا، وعضو جمعية الدراسات الوراثية، متخصص في الوراثة وعلم البيئة. انظر: كتاب "اللَّه يتجلى في عصر العلم": ص 46.

ص: 1545

العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض المصادفة، إنه مليء بالروائع والأمور المعقدة التي تحتاج إلى مدبر، والتي لا يُمكن نسبتها إلى قدر أعمى، ولا شك أن العلوم قد ساعدتنا على زيادة فهم وتقدير ظواهر هذا الكون المعقدة، وهي بذلك تزيد من معرفتنا باللَّه ومن إيماننا بوجوده)

(1)

.

ويقول "ديل سوارتزن دروبر

(2)

" أخصائي فيزياء التربة، بعد أن ساق جملة من العجائب العلمية في التربة:(فمما لا شك فيه أن هنالك حكمة وتصميمًا وراء كل شيء سواء في السماء التي فوقنا أو الأرض التي من تحتنا، إن إنكار وجود المصمم والمبدع الأعظم يشبه في تجافيه مع العقل والمنطق ما يحدث عندما يبصر الإنسان حقلًا رائعًا يموج بنباتات القمح الصفراء الجميلة ثم ينكر في نفس الوقت وجود الفلاح الذي زرعه والذي يسكن في البيت الذي يقوم بجوار الحقل)

(3)

.

وفي كتاب تاريخ الفكر الأوروبي الحديث يقول مؤلفه عن كتاب أصل الأنواع وفرضية داروين، وهو لا يخفي إعجابه بداروين ونظريته: (وقد أثار هذا الكتاب امتعاض الكثيرين، ولم يمتعض منه فقط رجال الاكليروس أو بعض العجائز، إذ وجدوه يدحض ما جاء في سفر التكوين جملة وتفصيلًا بل امتعض منه أيضًا أشد العقول مضاءً في ذلك العصر، وآخرون غيرهم كانوا أبعد ما يكونون عن الورع والتقوى، فلقد كتب جورج برنارد شو يقول:"إذا كان بالإمكان التدليل على أن الكون أنتج بواسطة اصطفاء طبيعي كهذا "البقاء للأصلح" فعندئذٍ لا يستطيع سوى الحمقى "والأنذال احتمال العيش فيه" زد على ذلك أن العالم الألماني فون بير رفضى النظرية التي تجعل الإنسان

(1)

اللَّه يتجلى في عصر العلم: ص 46.

(2)

ديل سوارتزن دروبر، أخصائي فيزياء التربة، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أيوا، وأستاذ مساعد في جامعة كلفورنيا وعضو جمعية علم التربة في أمريكا، وأخصائي في تركيب التربة وحركة الماء بها. انظر: كتاب "اللَّه يتجلى في عصر العلم": ص 116.

(3)

اللَّه يتجلى في عصر العلم: ص 120.

ص: 1546

"نتاجًا للمادة" وتهبط به إلى مستوى الحيوان، بينما كتب أستاذ الجيولوجيا في جامعة كمبريدج آدم سيد غويك يقول:"إن التسليم بالداروينية سيهبط بالجنس البشري إلى درك من الانحطاط لا مثيل له في التاريخ الإنساني" وأخذ البعض يتساءل عما إذا لم يكن داروين شوفيهاور

(1)

آخر، حيث أن نظريته تعلم البشر أن الصدفة وحدها والإرادة العمياء هما اللتان تحكمان العالم. . . فالفكرة المنطوية عليها الداروينية، والقائلة بأن الإنسان ليس ابن اللَّه الفريد

(2)

من نوعه، وليس له روح أو نفس، بل إنه متحدر من أيميبة "حيوان وحيد الخلية" وارتقى من خلال سلسلة من حيوانات أخرى، كانت فكرة تبعت أبدًا على الارتياح، وكذلك أيضًا حال الفكرة الموحية بأن الحياة هي صراع مجرد من كل قيمة أخلاقية، وأن الطبيعة دامية الناب والمخلب ومملؤة بالألم والموت، والتضحية بما لا يعد ولا يحصى من الأفراد على مذبح النوع، زد على ذلك إيحاء داروين أن الكون لا يزيد عن كونه صدفةً وحظًا.

ومع أن داروين أو ما في كتابه ببعض إيماءة لتهدئة سخط رجال الدين، غير أنه لم يكن بالإنسان المتدين، كما أن تدينه تناقص شيئًا فشيئًا، مع مرور الزمن، وقد شرح في كتاب "سيرته الذاتية" كيف أنه رفض، قرابة عام 1840 م الدين المسيحي ثم تخلى كليًا عن الإيمان بوجود اللَّه، الأمر الذي يبدو جليًا في آخر صفحتين من كتاب أصل الأنواع، ولا ريب أن داروين كان يدين، كنصيره الشهير، توماس هكسلي، باللاأدرية)

(3)

.

ثم يقول: (. . . إن العالم الطبيعي الأمريكي والأستاذ في جامعة هارفرد لويس أجاسيسز لم يسلم بنظرية داروين وقد كرس بقية عمره لدحض

(1)

هكذا والصواب: شوبنهاور.

(2)

هذا القول حسب عقائد النصرانية المعرفة، واللَّه تعالى منزه عن الوالد والولد -جلَّ وعلا وتقدَّس- ويدلنا هذا اللفظ على أن أرضية الخرافة الدينية النصرانية هي التي هيأت للأفكار المادية الإلحادية سوق الانتشار السريع التي جرفت في طريقها كل الدين، وأبدلت مكانه دينًا آخر يقوم على تأليه المادة أو الطبيعة أو الإنسان.

(3)

تاريخ الفكر الأدبي لرونالد سترومبرج 3/ 177 - 178، طبعة مؤسسة عكاظ.

ص: 1547

لتلك النظرية الفظيعة كما وصفها، زد على ذلك أن المفكر الحر والناقد للدين المسيحي التقليدي العالم الفكتوري صموئيل بتلر الذي بدأ حياته الفكرية معجبًا بداروين ونظريته، سرعان ما ارتد على داروين ونعته بالمخادع الذي عرض على الناس تفاسير مغلوطة)

(1)

.

ولست بصدد جمع جميع أقوال المتخصصين في العلوم التجريبية الذين ردوا على خرافة "النشوء والارتقاء" فهناك كتب تخصصت في ذلك وكشفتا بالتفصيل خطل هذه النظرية وضعفها، ولكن المراد إيراد بعض الشواهد من أقوال علماء الطبيعة الذين بينوا تفاهة هذه النظرية، ومقدار ما فيها من تلبيس وتدليس على البشر، وما تضمنه من إيحاءات مادية جاهلية حيوانية متخلفة.

ومع كل ذلك فإن قصة النشوء الذاتي التي اخترعها "داروين" سادت في الفكر الغربي منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن، وأضحت شهادة عصرية صارخة على مقدار الانغماس في الخيالات، لقد أصبحت هذه الأسطورة محورًا لفلسفات عديدة، بل أضحت هي الأساس لمجمل الفكر والسلوك الغربي المعاصر.

لقد أدت نظرية داروين إلى رسوخ الإلحاد الذي كان قد نشاء وانتشرت بذروة منذ الثورة الفرنسية المنادية بحرية الاعتقاد، ومع ذلك بقي الإلحاد محدود الانتشار إزاء العقيدة النصرانية التي كانت حتى ذلك الوقت محتفظة بقوتها ومركزها القوي بين عامة الناس وخاصتهم في الجامعات والمعاهد، ولما نشر داروين كتابه أصل الأنواع عام 1275 هـ/ 1859 م هز بنيان الحياة الغربية المتصدع في أساسه، ونشبت معركة شرسة بين الدين ممثلًا في الكنيسة المزعزعة المريضة الضعيفة، والعلم التجريبي ومدارسه، وانتهت المعركة إلى انهيار العقيدة الدينية جملة وتفصيلًا وانتشار الإلحاد

(1)

المصدر السابق ولكن من الطبعة الجديدة المجموعة في مجلد واحد: ص 219 - 420، أمَّا في الطبعة القديمة المفرقة في أجزاء ففي 4/ 180 وهناك فرق طفيف بين الطبعتين يوضح المعنى؛ ولذلك نقلت من الطبعة الجديدة.

ص: 1548

بصورة مرضية هائلة شرسة، وتهشمت النصرانية في عقر دارها وتحطمت سيطرتها، واستحال الوضع إلى إلحاد صريح أو شك غامر، أو تحير مضطرب، وقد حف بهذه النظرية من وسائل الدعوة والترويج ما جعل لها شعبية هائلة بين الناس الذين تلقفوها لتكون دينًا جديدًا بدلًا من الدين النصراني المحطم.

وقد دون مؤلف تاريخ الفكر الأرووبي الحديث بعض آثار نظرية داروين في شتى المجالات، ومن ذلك أنها كانت تكذيبًا للدين المسيحي "النصراني" وخاصة في سفر التكوين

(1)

الذي يتضمن أن البشر تناسلت من آدم عليه السلام، الذي خلقه اللَّه تعالى من طين.

وذلك أن مهاجمة داروين للدين كانت بعد أن تهيأت له الأرضية القابلة لذلك (إن الضربات التي سددها لايل وداروين للدين، إنّما سدداها إلى جسم رضه المؤرخون الوضعيون والنقاد الدينيون الرض الشديد)

(2)

.

(الداروينية قد هدمت جميع القيم باستئصالها القصد والغاية في الكون)

(3)

.

(ويحدثنا الكاتب الفكتوري ونوود زيد في أحد كتبه عن انتحار شاب بسبب تأثره بـ "ملتوس وداروين" وقد جلد ذاك الشاب كتابيهما بجلد كئيب الألوان وسمى كتاب ملتوس "مبحث في السكان" بكتاب الشك، وكتاب "أصل الأنواع" كتاب اليأس)

(4)

.

ثم يضيف بعد ذلك قائلًا: (تطورت المناظرات حول نظرية النشوء

(1)

انظر: كتاب "العلم يدعو للإيمان"، وكتاب "الإنسان والداروينية"، وكتاب "اللَّه يتجلى في عصر العلم"، وكتاب "مذهب النشوء والارتقاء في مواجهة الدين"، وكتاب "أصل الإنسان وسر الوجود"، وكتاب "خلق لا تطور: الإنسان ابن آدم وليس ابن قرد" لفريق من العلماء، وكتاب "مصرع الداروينية".

(2)

انظر: تاريخ الفكر الأوروبي: ص 419 طبعة دار القارئ العربي.

(3)

و

(4)

المصدر السابق: ص 419 من الطبعة نفسها.

ص: 1549

والارتقاء وتشعبت إلى عدد لا يحصى من الفروع، وأدلى كل بدلوه)

(1)

.

ويقول في موضع لاحق شارحًا المستوى المادي الذي وصلت إليه النظرية بل المستوى الحيواني: (. . . الداروينية كانت أحدية، وقد وصفها أعداؤها بالمادية، ولم تكن تقبل أبدًا بالتسليم بثنائية من عقل وجسد ولا الفصل بين العالم الطبيعي والعالم الذهني، فالحيوان البشري هو كائن حي كأي كائن متعض

(2)

آخر، ويستجيب إلى بيئته، وهو باستجابته هذه يعمل على تشكيل جزء منها، وهكذا أصبح الإنسان بعد داروين جزءًا من النظام الطبيعي البيولوجي، الأمر الذي لم يكن متعارفًا عليه من قبل)

(3)

.

أي أنه أصبح بهذه النظرية حيوانًا بشريًا -على حد تعبيره- وكيانًا ماديًا بحتًا وكائنًا عضويًا لا روح له ولا معنويات.

ثم يستطرد في ذكر آثار نظرية النشوء والارتقاء ويبين أنها أدت إلى القول بحتمية التطور والتقدم، وهي المقولة التي يرددها جميع الماديين وجميع المتأثرين بالفلسفات المادية، من الحداثيين والعلمانيين.

يقول المؤلف: (أمّا إذا كان البعض قد انتهى من نظرية النشوء والارتقاء إلى استنتاجات مأساوية أو متشائمة، فإن معظم الناس قد جعلوها متكاملة مع الإيمان بالتقدم، فوفقًا لداروين هناك تقدم دائم ومحتوم أنه تقدم نوع أو جنس، حتى ولو كان على حساب أفراد)

(4)

.

ومن الملاحظ أن نظرية التطور المطلقة التي تبنتها بعد ذلك عدة مذاهب فلسفية واجتماعية وأدبية أخذت أصلًا من داروين، ويُمكن تفصيل أسباب ونتائج هذه القضية وما فيها من أخطاء علمية ومعرفية، وما ترتب عليها من نتائج عملية مأساوية في مجالات الفكر والأخلاق والنظم، لولا أن

(1)

المصدر السابق: ص 419 من الطبعة نفسها.

(2)

هكذا في كلتا الطبعتين.

(3)

المصدر السابق: ص 421 - 422 من الطبعة نفسها.

(4)

المصدر السابق: ص 422.

ص: 1550

المقام هنا ليس مقام الحديث عن ذلك، وفي كتاب "التطور والثبات في حياة البشر"

(1)

غنية وكفاية لمن أراد معرفة الحق من الباطل في قضية المتحول والمتحرك والمتطور وقضية الثابت والأصل.

ويصف مؤلف تاريخ الفكر الأوروبي الحديث المدى الواسع الذي امتدت إليه نظرية داروين فيقول: (والحق أن الأفكار التي تنطوي عليها الداروينية أكثر من أن تدون، فالآراء الارتقائية قد نفذت إلى عقلنا نفوذًا عميقًا، وإلى كل ميدان من ميادين حياتنا الفكرية، وأصبحت قاعدة مألوفة لدراسة الظاهرة في مجرى تطورها، زد على ذلك أن الاهتمام بالارتقاء قد خرج من الدوائر الأكاديمية (دخل حتى ميادين التجارة والصناعة. . . نذكر أن جون ديوي في تقويمه الشهير لتأثير داروين في الفلسفة، والوارد في كتابه "أثر داروين في الفلسفية" والصادر عام 1909 م وقد عزا إلى داروين تنصيب مبدأ التحول أو الانتقال ملكًا على عرش العلوم)

(2)

.

من هنا نرى أنه ليس من التجاوز وصف الحياة الغربية في شتى صورها وانحائها بأنها ثمرة من ثمار النظرية المادية الحيوانية المسماة نظرية النشوء والارتقاء، والناظر في النتاج والنشاط الغربي اليوم يجد هذه الحقيقة شاخصة، ولاسيما في النتاج الفكري والأدبي والفني، وفي الحياة النفسية والمسيرة الاجتماعية، بل ويظهر ذلك جليًا في السياسات الغربية خاصة إزاء غيرهم من الشعوب.

إذا كان الغرب ينظر إلى العقل على أساس من نظرية داروين، فماذا يُرجى يعد ذلك من هؤلاء البشر؟ يقول مؤلف كتاب تاريخ الفكر الأوروبي: (أمَّا من الناحية الفلسفية فلقد عملت الداروينية على إضعاف الثقة بالمذهب المثالي أو العقلي، ففلاسفة شباب كـ"جون ديوي" هجروا هيجل إلى فلسفة فيها المزيد من النظرة الطبيعية فلقد بدا لهم أن من المتوجب أن يكون العقل نتاجًا للارتقاء والأفكار حصادًا للاصطفاء الطبيعي. . . فالغريزة أو الإرادة أو

(1)

لمؤلفه الشيخ محمد قطب.

(2)

المصدر السابق: ص 423 طبعة دار القارئ العربي.

ص: 1551

قوة الحياة قد تنبض في الكون، ولكن الذهن هو أداتها والعقل هو ملمح البقاء وسيماؤه، وقد وردت على لسان أحد أبطال مسرحية جورج برناردشو النظرية الحديثية القائلة:"أنا موجود ولذلك أفكر، وليس أنا أفكر ولذلك أنا موجود" وهنا ظهر سبب جديد لإساءة الظن في العقل، فالعقل هو ثمرة من ثمار الطبيعية وهو يعني الفهم، فأمّا إذا كنت أؤمن باللَّه، أو أقول أن الكون كون منتظم، فالسبب في ذلك يعود إلى تنازع البقاء الذي أوجد هذه الملامح لعقلي، أما إذا جنح بي الهوى إلى الزعم بأن إيماني هذا هو مطلق في حقيقته، فعندئذٍ سأتذكر أن عقلي بالذات هو من نتاج الارتقاء، لذلك فهو في جوهره أداة بقاء، شأنه في ذلك شأن ذيل القرد أو رقبة الزرافة، تلك هي بعض الأفكار التي تنطوي عليها الداروينية)

(1)

.

هذا توصيف من رجل لا يُمكن أن يوصف بأنه عدو للداروينية، وبه يتبين لنا أين وصلت الداروينية بالإنسان حين جعلت ميزته الأساسية مجرد نتاج للطبيعة كذيل القرد وعنق الزرافة سواء بسواء.

وقد استطرد المؤلف في ذكر آثار الداروينية على علم الاجتماع في الغرب تحت عنوان "الداروينية الاجتماعية"

(2)

وبين المدى البعيد الذي تغلغلت فيه الداروينية في المجتمعات الغربية، إلى حد أنها أنتجت أنواعًا من السياسات العنصرية مثل النازية

(3)

.

وخلاصة القول: أن نظرية داروين نزعت الكرامة الإنسانية عن الإنسان، بعد نفي النفحة الإلهية عن خلقه ونشأته، وبذلك انهارت جميع الضوابط والتقاليد والأصول التي كانت أوروبا تعيش عليها حقبًا طويلة من الزمن، بغض النظر عن صواب، أو خطأ تلك التقاليد والضوابط، إلّا أنها كانت في النهاية معقلًا ومثابة تمنع الفوضى وتبقى للإنسان شيئًا من إنسانيته، وأقرب هذه الأمور أن التصور النصراني -على انحرافه وضلاله- كان يقول

(1)

المصدر السابق: ص 422.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 426.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 429.

ص: 1552

أن هناك إلهًا هو الذي خلق الكون والحياة وخلق الإنسان، وأن للإنسان خاصة دوره الكبير في هذه الحياة، وأن اللَّه خلقه وكرمه وفضله على كل كائنات الأرض، وأعطاه صفات وميزات ليست لغيره من المخلوقات منها النطق والتفكير والتأمل والروح وسائر المعنويات، وكانت هذه القضية ثابتة عندهم، رغم ما في فروعها من ضلالات وخرافات جاءت من التحريف لدين المسيح عليه السلام.

وعلى الرغم الصراع الطويل والبغضاء المتزايدة بين العلم والكنيسة إلّا أن جماهير الناس كانوا في صف الدين والكنيسة والأخلاق والتقاليد، فلما جاء داروين وكان جسد الكنيسة مرضوضًا قد نالت من قواه سهام الحروب الطويلة، جاء داروين ونشر نظريته فزلزل العقيدة النصرانية المبنية على خرافات عديدة، وضعضع الأفكار من أساسها، ومزق القيم والأخلاق، ووجدت الجماهير أن هذه النظرية تفكها من أسر الكنيسة ورجال الدين وتخلصهم من نيرها المرهق وسلطانها الجائر، وأيًا كانت طبيعة هذا الصراع ودوافعه، فإنه يعتبر تحولًا كبيرًا في حياة الغرب، الذي أصبح له الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية على غيره، مما أدى إلى انتشار نظرية داروين ومقتضياتها وإيحائتها في العالم كله، وتركت في حياة الناس نتائج خطيرة بالغة الخطورة، وكان أظهر نتائجها:

1 -

زعزعة الإيمان باللَّه تعالى وجودًا وألوهية.

2 -

نفي خلق اللَّه تعالى للكون والإنسان.

3 -

نفي قضية الغاية والقصد من وجود الخلق عامة والإنسان خاصة.

4 -

نفي إنسانية الإنسان ورفعته وسموه وروحانيته والقول بأنه حيوان كسائر الحيوانات.

5 -

نفي ثبات أي عقيدة أو فكرة أو نظام أو خلق، والقول بالتطور المطلق والصيرورة الدائمة.

6 -

زعزعة كل شيء كان راكزًا من قبل وتحطيم كل ما كان راسخًا مكينًا.

ص: 1553

وبهذا تزلزلت فكرة الدين والأخلاق ومعايير العدل والخير والحق، وخاصة تلك الشفافية الروحانية التي ترفع الإنسان عن مستوى الحيوان البهيم، إذ أصبح عندهم مجرد حيوان لا كرامة له ولا رفعة فيه ولا روحانية، ولا مجال في كيانه ووعيه لشيء وراء الطاقات الحسية.

ولئن كان للغرب ظروفه الخاصة به في صراعه مع الكنيسة وخروجه على استبدادها وفظاظتها ووحشيتها وخرافتها، فما العذر لأبناء المسلمين في قبول هذه الخرافة؟.

الواقع يقول أن السبب هو وقوعهم في دائرة العبودية للغرب المنتصر ماديًا، وفي إطار تقليد المغلوب للغالب.

مع أننا معشر المسلمين نملك عقيدة خاصة يدل على صحتها ما لا يحصى من أدلة العقل والحس والفطرة، ولدينا تاريخنا الخاص وحضارتنا التي لم تكن يومًا ما ضد العلم والتطور والتقدم، بل كانت معه من حيث التصور ومن حيث التطبيق والممارسة.

وواضح تمام الوضوح أن الحداثيين والعلمانيين قد أخذوا عن الغرب خرافة النشوء والارتقاء وطبقوها في ممارساتهم الأدبية والسياسية والفكرية، وتبنوا في محاكاة عمياء مقتضيات هذه الفرضية الباطلة، ومن ذلك نفيهم للغيبيات وسخريتهم بأخبارها الثابتة في الوحي المعصوم واستهزاؤهم بمن يؤمن بها إلى غير ذلك من أنواع الضلال والانحراف.

وفي الجملة فإن نظرية داروين وإيحاءتها ومقتضياتها وفروعها تعتبر أصلًا من أصول الحداثة والعلمانية وأساسًا لأفكار وأعمال أصحابها، الذين أفنوا حياتهم في تقديس الغرب وعبادته من دون اللَّه الملك الحق المبين

(1)

.

ثانيًا: بناء على أصل الخلقة الربانية للإنسان من حيث كونه جسدًا وروحًا، فإن فيه جانبًا حسيًا وآخر معنويًا.

(1)

انظر ما يتعلق بالروح والجسد وموقف الغرب المعاصر منها في: الإنسان بين المادية والإسلام: ص 24 - 26.

ص: 1554

فالجانب الحسي مرتبط بالجسد وحاجاته ومقوماته من حواس وأعصاب، وبه ينال رغباته من طعام وشراب ونكاح ولباس، ومن خلاله يشاهد ويسمع ويمشي ويبطش ويذوق.

والجانب المعنوي مرتبط بالروح التي لا يدري أحد على وجه التحديد مكانها أو ماهيتها، وهذا الجانب المعنوي هو الذي تفرد به الإنسان عن الحيوان الذي لا يستطيع إدراك الكليات والمعنويات والأمور التجريدية، ولا يستطيع إدراك القيم العليا كالعدل والحق والخير والجمال، بل هذه خصيصة من خصائص الإنسان.

وحيث أن قسطًا كبيرًا من هذا الجانب ينضوي تحت إطار الغيبيات، فقد جنحت الجاهلية الحديثة إلى إهمال هذا الجانب في الإنسان وإعلاء الجانب الحسي المشترك بين الإنسان والحيوان، جريًا على نظرية داروين.

إن الجانب المعنوي في الإنسان هو الذي يغطي ميادين الاعتقاد والفكر والفن والقيسم، ويشتمل على أرفع جوانب الإنسان وأخصها به من بين سائر المخلوقات.

وإذا نظرنا إلى هذه الميادين وماذا عملت فيها الجاهلية المعاصرة وجدنا أن: العقيدة وما يتفرع عنها من أعمال عبادية وفضائل سلوكية وأخلاق عملية قد هوجمت من قبل الماديين، وأضحت مجالًا للتندر والسخرية، بل أصبح لزامًا على كل من أراد البحث العلمي الدقيق أن يتخلص من كل إيمان باللَّه تعالى، على حد تعليمات داروين الذي قرر فيها: إن أي تفسير لشأن من شؤون الحياة يعتمد على وجود خالق له إرادة في الخلق يكون ذلك بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت

(1)

.

أمَّا الفن الذي شاع في العالم الحديث وسخرت له الإمكانيات الضخمة فقد انحدر إلى الحسية المادية بدعوى "الواقعية" واقعية المادة

(1)

نقل هذا القول عنه الأستاذ محمد قطب في الإنسان بين المادية والإسلام هامش: ص 21.

ص: 1555

وواقعية الحيوان، وأفقد الإنسان تحليقه وشفافيته وروحانيته ونشدانه للجمال المعنوي والآفاق الرفيعة الرقراقة.

أمّا القيم فقد داسوها تحت أقدام الراقصات ودفنوها في البارات وبيوت الدعارة، وقضوا عليها بالفلسفات النفعية، والأفكار المادية القائلة بنسبية الأخلاق وعدم ثباتها.

وهكذا نرى أن الجانب المعنوي والطاقة المعنوية التي تميز الإنسان عن الحيوان طمست في هذه الجاهلية المعاصرة، التي حصرت الإنسان في محيط ما تدركه الحواس، والتي قررت بشتى مذاهبها ومدارسها المادية: إن حقيقة العالم تنحصر في ماديته، وهكذا وقف الغرب ومقلدوه عند الحواس ومدركاتها وأنكر الروح والغيب، وأنكر قبل ذلك وجود اللَّه تعالى وكل ما يترتب على الإيمان به سبحانه، لقد وصلوا إلى درك سحيق من الارتكاس والهوان والحيوانية في كل شيء، في الأخلاق وفي السياسة وفي كل مناشط ومناحي الحياة

(1)

.

نعم يسلم الماديون بامتياز الإنسان بالعقل على الحيوان، ولكنهم لا يسلمون مطلقًا بامتيازه بالروح، ومع تسليمهم بتميز الإنسان العقلي إلّا أنهم يرون أن العقل في حد ذاته (ثمرة من ثمار الطبيعة، ونتاج لعملية الارتقاء شأنه في ذلك شأن ذيل القرد أو رقبة الزرافة)

(2)

.

وقد تلقى المقلدون من أبناء المسلمين هذا الاتجاه المادي الذي ينفي أو يتناسى الجانب المعنوي في الإنسان وسلكوا مسالك أساتذتهم في تطبيق ذلك في مجال الأدب والفكر والفن، وفي مجال الحياة العامة في الأخلاق والعلاقات الاجتماعية والتطبيقات السياسية، وفي مجال الدراسات النفسية والاجتماعية، وأصبحوا بذلك رسل هذه الجاهلية

(1)

انظر ما يتعلق بالحسية والمعنوية: منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب 1/ 151 - 158، ودراسات في النفس الإنسانية له: ص 97 - 111.

(2)

تاريخ الفكر الأوروبي: ص 422 طبعة دار القارئ العربي.

ص: 1556

الرعناء، وسدنة هذه الأوثان الخرقاء، ولكن تحت مظلات من حرية الفكر والمثاقفة وتوسيع المدارك، والحوار الحضاري والعقلانية وغير ذلك من الشعارات البراقة الواهنة وهن بيت العنكبوت {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}

(1)

.

ثالثًا: الواقع والخيال، حقيقتان فطريتان في داخل نفس الإنسان متصلتان بقضية الروح والجسد وقضية الحسي والمعنوي.

فطاقة الواقع في الإنسان مرتبطة بالجانب الحسي المرتبط أصلًا بالجسد، وتتصل بواقع الحياة المحسوس فتعمل فيه وتحقق إنتاجًا واقعيًا ملموسًا.

وطاقة الخيال ذات اتصال وثيق بالجانب المعنوي والغيبي في الإنسان، ومجال الخيال يعمل في تصور ما وراء الحواس، ويقوم على التفكير التصوري التجريدي، وبين الواقع والخيال تواصل وتشابك داخل النفس الإنسانية بصورة لا يدركها أحد إلّا اللَّه تعالى.

وترتبط طاقة الخيال بالجانب العاطفي الشاعري الوجداني وتتصل بالقيم والعواطف والأحاسيس ولكنها لا تنفصل تمام الانفصال عن الواقع

(2)

.

وإذا نظرنا إلى المذاهب الأرضية المعاصرة وموقفها من قضية الخيال والواقع، وجدنا أنها جنحت إما إلى خيالية مفرطة هائمة في الأوهام والأحلام، وإمّا إلى واقعية جافة حيوانية مادية حسية.

وأظهر الأمثلة على هذين الانحرافين: "المذهب الرومانسي، والمذهب الواقعي"، فالرومانسية أو الرومانتيكية تقوم على التمرد على الواقع وضوابط

(1)

الآيات 41 - 43 من سورة العنكبوت.

(2)

انظر: دراسات في النفس الإنسانية: ص 111 - 119، ومنهج التربية الإسلامية 1/ 148 - 150.

ص: 1557

العقل، ورفض ربط الأدب بالمبادئ الخلقية وربطه بالعاطفة والوجدان وإعلاء المشاعر الذاتية والذوق الفردي، وتعظيم شأن الخيال وإطلاق حريته في ارتياد الآفاق التي يريدها، والهروب من الواقع ومشكلاته، والافتتان بالعوالم الغريبة والأحلام والتعلق بالحزن والتلذذ بالألم ونشر الإحساس بالكآبة، وغير ذلك من أصناف الجنوح الفكري والعاطفي

(1)

القائم على إهمال واقع الحياة والناس والهيام في الأحلام والأوهام.

أمَّا الواقعية فإنها مرتبطة منذ نشأتها بالفلسفات الوضعية والتجريبية والمادية الجدلية، التي تشترك جميعها في رفض الغيبيات والاقتصار على ظواهر العالم المحسوسة، وجعل الطبيعة إلهًا وجعل الوجود الحقيقي هو الوجود المادي وليس وراءه أي وجود آخر.

والواقعية تتنكب الأحلام عمدًا، وتلتصق بالواقع المادي الصغير المحدود الذي تدركه الحواس، ويرفض معتنقوها أية تصورات ترتبط بالعقائد السماوية؛ لأنهم يرفضون العقائد السماوية ذاتها، ويعتبرونها تخلفًا ورجعية، ويجعلون الإلحاد والمادية تقدمًا وتنورًا.

وينشرون هذه المضامين الجاهلية في قصصهم وقصائدهم ومسرحياتهم وسائر كتاباتهم.

وأظهر المدارس الواقعية تطبيقًا لهذه المعاني "الواقعية الاشتراكية"

(2)

.

وإن كانت المدارس الواقعية الأخرى لم تخل من هذه الضلالات المادية باعتبار نشأتها في ظل الفلسفات المادية الوضعية والتجريبية والجدلية، وباعتبار نشأة روادها في الجو المادي المحموم الذي أشاعته نظرية داروين.

ومن أشهر هذه المدارس "الواقعية الانتقادية"

(3)

التي تقوم على

(1)

انظر: مذاهب الأدب الغربي: ص 42 - 51.

(2)

ومن أشهر أدباء الواقعية الاشتراكية مكسيم جوركي، وشولوخوف، وماياكوفسكي وحمزانوف، وناظم حكمت، ولوركا ونيرودا، وجورج لوكاش.

(3)

من أشهر أدباء الواقعية الانتقادية بلزاك وخاصة في روايته الملهاة الإنسانية، وشارلز ديكنز، وتولستوي، ودستويوفسكي وأبسن وأرنست همنغواي.

ص: 1558

الاهتمام بقضايا المجتمع ومشكلاته وتركز على جوانب الفساد والشر والجريمة ولكن من منظور مادي و"الواقعية الطبيعية"

(1)

التي توافق الانتقادية في جميع مبادئها وتزيد عليها في تأثرها الشديد بالفرضيات المسماة بالنظريات العلمية، ودعوتها إلى تطبيقها في المجالات الإنسانية وإظهارها في العمل الأدبي، وتنظر هذه الواقعية إلى الإنسان باعتباره حيوانًا تسيره غرائزه وحاجاته العضوية، وترى أن سلوكه وفكره ومشاعره هي نتيجة حتمية لبنيته العضوية وحالته الجسمية

(2)

.

وصفوة القول: إن (العالم اليوم يعاني موجة من "الواقعية" البغيضة وقد جاءت بعد موجة مغالية في "الرومانتيكية" المغرقة في الخيال! كلاهما انحراف! كانت الرومانتيكية تهمل واقع الأرض وتهتم في الأحلام، والواقعية اليوم تتنكب الأحلام عمدًا وتجنح إلى الواقع الصغير المحدود الذي تدركه الحواس، ويمارسه الناس وهم واقعون تحت ضغط الضرورة، لا منفلتين منها ولا مترفعين عليها. . واقع المادة وواقع الحيوان!.

إن الواقع الصغير الذي رسمت حدوده الداروينية القديمة لينتهي بالحياة عند المطالب القريبة التي تحتمها الضرورة، ولا يرتفع عن ذلك ولا يحلم بما هو أجمل أو أكمل أو أفضل، ومن ثم يظل مستواه يهبط، ويظل محيطه يضيق، حتى يصل في النهاية إلى جعل الإنسان آلة حيوانية، يتصرف كما تتصرف الآلة، وينطلق كما ينطلق الحيوان؛ لأنه يعيش بجناح واحد. . . جناح الواقع، ويقص جناحه الآخر. . . جناح الخيال)

(3)

.

لقد غرق الماديون المعاصرون في الواقعية، بل في أخبث أو حال

(1)

من أشهر أدباء الواقعية الطبيعية أميل زولا رائد هذا الاتجاه وهو صاحب الرواية الشهيرة الحيوان البشري، التي طبق فيها نظرية داروين، وفلوبير صاحب رواية مدام بوفاري.

(2)

انظر ما يتعلق بالواقعية ومدارسها وشخصياتها والرؤية الإسلامية نحوها في مذاهب الأدب الغربي لعبد الباسط بدر: ص 52 - 63.

(3)

منهج التربية الإسلامية 1/ 148 - 149.

ص: 1559

الواقعية من شذوذ وجنس وصراع حيواني ونهم وجشع دنيوي هابط، وهربوا من الخيال المحلق والروح الرقراقة، والأطياف الشفافة التي تميز الإنسان عن الحيوان لقد أصبحوا واقعيين، نعم، ولكن على مستوى الحيوان، وكان بإمكانهم أن يكون واقعيين على مستوى الإنسان، ولكن فرارهم من كل ماله علاقة بالغيب والروح والطاقات المعنوية المنبثقة من النفس جعلهم يرتكسون في هذا الخوض الآسن.

(الواقع حقيقة ما في ذلك شك، ولكن الارتفاع فوق الواقع حقيقة كذلك. . . إنه حقيقة "الإنسانية")

(1)

.

(وقد كانت أوروبا غبية بلهاء وهي تنحي من حسابها تلك المشاعر الصافية والومضات النفسية الوضيئة بحجة "الواقعية"! أو قل -إن شئت- أنها كانت تتحدث عن واقعها هي لا عن واقع البشرية!.

إن الواقعية لا تكون واقعة حقة وهي تغفل من الحساب جزءًا من الواقع وتنظر إليه كانه غير موجود. . . أوروبا التي تسيطر اليوم على العالم تأبى إلّا أن تغفل الواقع الأكبر لتعيش في حدود الواقع الصغير.

في ظل هذه الواقعية المشوهة التي تنكر قدرة الإنسان على الارتفاع فوق الواقع نبتت نظريات داروين وماركس وفرويد والبراجماتزم)

(2)

.

(والفنون الحديثة تنحو هذا المنحى الأحمق، لكي تكون فنونًا واقعية! الفنانون والنقاد المحدثون يسخرون من الفنون القديمة التي كانت تبرز الجانب الأبيض من الإنسان كأنما كله فضيلة! ويدعون في مقابل ذلك إلى تسجيل الإنسان بحسب واقعه، يعني تسجيل الجانب الأسود من طبيعته وكأنّما كله رذيلة!. . . وفي ظل هذه العقيدة راح الفنانون الغربيون يمزقون الإنسان مزقًا ويمرغونها في الوحل، نزوات الجسد، نوازع الفطرة، صراع الحيوان، خسة الطبع، التواء المشاعر، هذه هي الدراسة الحديثة للإنسان

(1)

في النفس والمجتمع: ص 109.

(2)

المصدر السابق: ص 110.

ص: 1560

كما ينعكس من كثير من ألوان الفن الحديث. . .)

(1)

.

(. . . الواقعية الأوروبية تقول لك: دع عنك أحلام الخيال والمثل العليا، ولنكن واقعيين، أين التضحية التي ترسمها قصص البطولة وترويها الأساطير؟ أين الشجاعة المثالية والوفاء النبيل؟ أين مغالبة الأهواء، والارتفاع على الضرورة؟ أليست هذه كلها أساطير "استغفلتنا" بها الأجيال السابقة في قصص أبطالها وأنبيائها؟ فلنكن نحن واقعيين، فلنأخذ الإنسان بحقيقته الواقعة، خليط من النوازع الفطرية والنزوات الجائحة، والحياة كلها صراع هذه النزوات وارتطامها بعضها ببعض، يغلب الأقوى ويسقط الأضعف، لا عبرة بصاحب الحق، فالحق هو القوة.

تعال إلى هؤلاء الأنبياء والقديسين والأبطال والمصلحين، هلم نمرق نفوسهم على المشرحة، وننظر خلالها في "الميكروسكوب" ها هو ذا العفن الذي كانت تخفيه الأساطير، انظر إلى هذه النفس البيضاء السامقة التي يشع منها النور، تفحصها جيدًا، ألا ترى نقطة "الضعف البشري" الكامنة فيها؟، ألا ترى هذا التصرف المنحرف من تصرفاتها؟ ثبت نظرك هناك، وسلط هناك كل ما تملك من أنوار!.

وهكذا يعيدون دراسة الشخصيات التاريخية بهذا الهدف وتحت هذا الضوء! يبرزون ما فيها من نقط الضعف ويجسمون ما فيها من البقع تحت "الميكرسكوب" ويغفلون -عامدين أو غير عامدين- كل ما فيها من بياض وخير، في سبيل نقطة أو نقط ليست لامعة البياض.

إنها الواقعية. . . الحمقاء!.

أي كسب للبشرية في تجريح عظمائها وتلويثهم وتشويه صورهم بحجة الواقعية؟ إنها -فيما أرى- لوثة هذا الجيل، عجز عن الرفعة فراح يحطم المثل الرفيعة من بني الإنسان، وينزلهم إلى الوحل الذي غرق فيه هذا الجيل.

(1)

المصدر السابق: ص 112.

ص: 1561

إن وجود النظافة حجة على القذرين، ووجود المرتفعين حجة على الهابطين، فليهبط الجميع وليتسخ الجميع، حتى يتساوى هؤلاء وهؤلاء، وتبطل التهمة ويبرأ المتهمون!. . . فهذه الواقعية الحمقاء إذن لا نتيجة لها إلّا الهبوط الدائم إلى عالم الضرورة، وتضييق دائرة "الواقع" حتى يصبح واقع الحيوان)

(1)

.

وهكذا رأينا من خلال الأوجة الثلاثة: جسد الإنسان وروحه أولًا، وما ترتب على ذلك ثانيًا وثالثًا من اشتماله على جانب حسي وآخر معنوي وعلى طاقة واقعية وأخرى خيالية، رأينا أن الإيمان بالغيب طاقة موجودة داخل الكيان البشري، طاقة فطرية في كل إنسان، وإن حاولت المادية الغربية أن تجحد ذلك أو تتناساه.

الواقع ليس كذلك، فكل إنسان عنده غيب لابد أن يؤمن به، وقد يهتدي في إيمانه بالغيب وقد يضل، وقد يزيد إيمانه بالغيب الحقيقي أو الوهمي وقد ينقص، فليست طاقة الإيمان بالغيب مترتبة على وجود دلائل الإيمان الحسية أو غير الحسية؛ لأنها طاقة أصيلة في كيان الإنسان، تجعله يؤمن بأشياء لا تدركها حواسه، ولا يدركها عقله كذلك إلّا في حدود.

ولنأخذ على ذلك مثالًا بداروين الذي بنى نظريته على الانتخاب الطبيعي وهو انتخاب تقوم به الطبيعة -حسب خرافته-، ثم قرر بأن الطبيعة تقفز قفزات مفاجئة وأن الاصفطاء الطبيعي فعل يقع ويقوم بدور من الأدوار

(2)

.

فما الطبيعة التي تغفل هذه الأفعال الدقيقة، وتقوم بهذه الأدوار المحكمة؟ لقد هرب داروين وأتباعه من الإيمان باللَّه إلى الإيمان بالطبيعة، نسوا في غمرة فرضيتهم أن الطبيعة ذاتها غيب، وإلّا فما هي على وجه التحديد؟ وكيف تعمل؟ وكيف تنتخب وتصطفي؟ وما كنه الطاقة التي تشتمل

(1)

المصدر السابق: ص 113 - 115.

(2)

انظر: تاريخ الفكر الأوروبي: ص 415.

ص: 1562

عليها هذه الطبيعة؟ وما كنه القوانين الطبيعية؟ وكيف نشأت؟ وكيف استطاعت أن تسيطر على الكون والحياة والإنسان وتصل إلى هذه النتائج المبهرة؟.

كل ذلك غيب آمن به داروين وأتباعه، غيب يرون أن له قوة التأثير والفاعلية والاصطفاء والتغيير، بل زعموا أن له قوة الاستمرار والقدرة الدائمة على التطوير والتغيير والصيرورة الدائمة المستمرة!!.

كل ذلك غيب، ولكنه غيب منحرف، غيب لا يدركون حقيقته ولكن يدركون -أو يتوهمون- إدراك آثاره.

هربوا -بزعمهم- من الغيبيات فوقعوا في غيبيات أخرى؛ لأنه لا يُمكن للإنسان الانفكاك مطلقًا عن الإيمان بغيبٍ مَّا

(1)

.

وهذه الماركسية الإلحادية التي لا تعترف برب ولا دين ولا روح، يقرر أصحابها ما قرره غيرهم من تأثير الطبيعة وفاعليتها بل ويزيدون على ذلك قضية صراع الطبقات، والتفسير المادي للتاريخ، وهو تفسير يجعل للقوى المادية والاقتصادية السلطان الأكبر على نشاط الإنسان ومسيرة الإنسانية.

لقد اخترعوا آلهة جديدة يدينون لها ويخضعون لسلطانها ويعتقدون في قدرتها الحاسمة وإرادتها الخارقة، وفعلها الذي لا يرد، من خلال ما يسمونه بالحتميات المادية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

(وهكذا تظن أوروبا أنها تهرب من "الغيبيات" فتلاحقها الغيبيات في مهربها، ولكن في صورة ضالة تناسب ما هي عليه من ضلال وانحراف)

(2)

؛ لأن قضية الإيمان بالغيب قضية فطرية راسخة في نفس الإنسان.

وبهذه الطاقة الفطرية يؤمن المسلم بوجود اللَّه وربوبيته ويعبده ويتبع أمره ويصدق خبره، ويوقن بأن ما جاء عنه من أخبار غائبة عن الحواس هي

(1)

انظر هذا المعنى في: دراسات في النفس الإنسانية: ص 109 - 110.

(2)

المصدر السابق: ص 110.

ص: 1563

أخبار صدق سواء ما مضى منها أو ما هو قائم الآن أو ما سوف يأتي، ويحصل ذلك -فقط- حين تتفتح بصيرة الإنسان للإيمان باللَّه تعالى.

(ويصرف النظر عن الاتجاه المادي الحالي في الغرب، الذي يريد أن يقصر الإنسان على ما تدركه حواسه فحسب -أي على الجانب المادي الحيواني منه- فإن البشرية في أعصرها كلها قد آمنت بوجود كائنات خفية لا تدركها الحواس، وتصوَّرَتْها في صور شتى بما تملي لها طاقة الخيال.

ويكفي أن نثبت أن هذا الاتجاه المادي ذاته لم يستطع أن يقتلع من كيان الإنسان إيمانه بما لا تدركه الحواس، فقد لجأ إلى بين من ألوان الغيب يسد به الفراغ الناشيء من الإيمان باللَّه

(1)

، حين آمن بالطبيعة أو غيرها من القوى الغيبية التي تحكم الكون)

(2)

.

أمّا البلة المقلدون للغرب فإنهم لا في العير ولا في النفير، إنّما سمعوا قولًا قاله أسيادهم فرددوه وأشربت قلوهم أهواء وشبهات سرت إليهم في غفلة منهم عن دينهم، وغيبوبة من عقولهم، فأذعنوا وانقادوا واتبعوا أمر إله الغرب المادي، وما أمره برشيد!!.

وسوف نرى في بقية هذا الفصل خطوات التقليد والمحاكاة التي مارسها أتباع الأدب الحداثي في كتاباتهم المستنسخة من الغرب، في هذه القضية الكبيرة: قضية الغيبيات.

وتتجلى انحرافاتهم في هذه القضية في عدة أوجه:

الأول: جحد الغيبيات الحقيقية الثابتة التي جاء بها الإسلام.

الثاني: جعل الإيمان بالغيبيات الحقيقية تخلفًا ورجعية.

الثالث: السخرية بالغيبيات الحقيقة وبالمؤمنين بها.

(1)

لعل كلمة "ترك" أسقطت من السياق، وبإضافتها يستقيم المعنى على هذه النحو "الفراغ الناشيء من ترك الإيمان باللَّه".

(2)

المصدر السابق: ص 110.

ص: 1564

الرابع: الإيمان بغيبيات تناسب أهواءهم وضلالاتهم.

• • •

‌الوجه الأول: جحد الغيبيات الحقيقية الثابتة التي جاء بها الإسلام:

كل ما أخبر به الوحي فهو حق ثابت لا مرية فيه، هذه قاعدة ثابتة عند كل من رضي باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا.

ولكنها عند الملاحدة والمرتابين ليست بشيء، وذلك من مقتضيات كفرهم وضلالهم، ومن لوازم انحرافهم وجاهليتهم، ومن توابع ماديتهم وحيوانيتهم.

وقد مرّ معنا في ثنايا هذا البحث نماذج عديدة من جحدهم للغيبيات، فقد جحدوا وجود اللَّه تعالى، وأنكروا كونه خالقًا مدبرًا إلهًا معبودًا.

وجحدوا وجود الملائكة الكرام عليهم السلام، وجحدوا وجود الرسل وصدقهم، والوحي الموحى به إليهم، وجحدوا اليوم الآخر وكل ما فيه، والقدر وكل مراتبه وأركانه، وجحدهم لهذه القضايا -بل لجزئية واحدة من إحدى هذه القضايا- يجعلهم في ضفة غير ضفة الإسلام، فكيف وقد جمعوا الشر من أقطاره، واحتقبوا الباطل بأنواعه، وتلبسوا بألوان الضلالات، بل بأعظم أنواعها؟.

إن المتأمل في حال هؤلاء القوم يجد أنهم في فرارهم من الإسلام وانحدارهم إلى عدم الإيمان باللَّه تعالى يظنون أنهم قد تحرروا، وهم في الحقيقة قد هبطوا بأنفسهم من الإيمان الحق في شموخه ورحابته وسماحته، إلى الإيمان بمذاهب ضيقة متزمتة!!.

ولن أعرض هنا جحودهم لأركان الإيمان التي سبق الحديث عنها، بل لبعض الغيبيات الأخرى التي لا تندرج تحت أحدٍ من هذه الأركان.

وقد بينت في مواضع عديدة بعض الدوافع التي حدت بهؤلاء إلى الوقوف من قضايا الإسلام وعقائده هذا الموقف، وبينت الأساس الفكري والمذهبي الذي بنوا عليه عقائدهم المناقضة للإسلام، وناقشت في مواضع

ص: 1565

عديدة بعض مواقفهم وشكوكهم وشبهاتهم، فأغنى كل ذلك عن إعادته هنا، وفي عرض عقائدهم من الغيبيات تحقيق لجزء كبير من مقصد هذا البحث، ألا وهو بيان البون الشاسع بين عقائد أهل الحداثة والعلمنة، وعقائد أهل الإسلام.

لقد أسس طواغيت الحداثة لأتباعهم أسسًا ضالة اقتفى أثرها المحاكون أو تأثروا بها، فهم بين تقليد محض لأساتذتهم الذين ينفون الدين جملة وتفصيلًا، وتقليد جزئي يتمثل في أنهم وإن لم يصلوا إلى النفي الكامل والإلحاد المحض فإنهم قد رتعوا في مراتع الشك والريب، وتزعزع إيمانهم باللَّه تعالى وبعقائد الإسلام، فإذا هم في حالة من التذبذب والاضطراب لا تسمح لهم أن يكونوا من صرحاء الإيمان ولا صرحاء الكفر وإن كانوا في نهاية الأمر -عقيدة وعملًا- يقفون في الصف المقابل لصف الإيمان {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}

(1)

.

إن طاغوتًا حداثيًا مثل أدونيس حينما يأخذ من تاريخ الإسلام المليء بالوضاءة والشموخ، وضاءة الإيمان وشموخ الاعتزاز بالإسلام، يأخذ الشذاذ والزنادقة فيجعل منهم سلفًا للحداثة الفكرية والأدبية المعاصرة، يهدف من وراء ذلك -في جملة ما يهدف- إلى إيجاد أسلاف يتحدث من خلالهم، ويقول لأتباعه المغفلين لستم وحدكم في ميدان الإلحاد والخروج على الدين، بل قد كان قبلكم أناس من أمثال محمد بن زكريا الرازي الملحد

(2)

وابن الراوندي والشلمغاني

(3)

والقرامطة والنصيرية وغيرهم من حثالات المنحرفين والضالين، الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، ولكنهم في تاريخ الإسلام مثل الزبالة المحتقرة الملقاة في زاوية رواق ذهبي!!.

لقد حاول أدونيس أن يبث في قطعية ادعائية معاني الضلال والانحراف

(1)

الآية 30 من سورة محمد.

(2)

سبقت ترجمته: ص 933. وانظر: ردود شيخ الإسلام ابن تيمية عليه في مجموع الفتاوى 6/ 304، 308، 309.

(3)

سبقت تراجمهم: ابن الراوندي: ص 136، والشلمغاني: ص 374.

ص: 1566

والمضادة للدين، فهو يعتبر الوعي الغيبي سببًا للتخلف والرجعية!! ويجعل من مهام الطليعة "الطليعة الحداثية والعلمانية واللادينية" أن تحارب الوعي الغيبي، وما ينبني عليها من ثقافة وممارسة، وليس وراء هذا القول من مقصد سوى "الإسلام" الذي انشغل أدونيس بمحاربته ومعاداته أشد الانشغال، يقول في توجيهاته لأتباعه:(لابد للطليعة من أن تنقد أشكال الوعي الغيبي الذي يعرقل نمو الوعي من جهة، ويشارك من جهة ثانية في ترسيخ الثقافة الماضوية واستمرارها)

(1)

.

وقد سبق له في كتابه هذا وقبل هذه الأوامر الحداثية أن بين أن من ظواهر التخلف في المجتمع العربي الحديث عن الماضي والغائب والإيمان بالغيب (. . . إن الكلام في المجتمع يتناول أشياء إمّا إنها غائبة "أشياء الماضي" وإمّا أنها لا تتحقق أو غير موجودة في الواقع "الانفصال بين القول والفعل")

(2)

.

ومهد قبل هذا كله بذكر معروف الرصافي

(3)

الذي يعده أدونيس مثالًا للتجديد؟ لأن الرصافي يرى (أن الأديان ليست موحاة، وإنّما هي وضع قام به أشخاص أذكياء، وإذ ينكر الوحي، ينكر بالضرورة النبوة، وينكر وجود الأنبياء والنتيجة الطبيعة لإنكار الدين، وحيًا ونبوة، هي إنكار التعاليم أو المعتقدات التي جاء بها)

(4)

.

ثم إن الرصافي عند أدونيس من رموز الحداثة العربية؛ لأنه (. . . ينكر خلود الروح، ويقول: إنها ليست من جوهر سماوي كما يعلم الدين. . . لذلك لا يؤمن بفكرة الحشر أو البعث، الجنة أو النار، ثم إن السماء التي تشير إليها التعاليم الدينية على أساس أنها "مكان" الخلود والنعيم، ليست أكثر من فضاء طبيعي تسبح فيه الأرض.

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 227 - 228.

(2)

المصدر السابق 3/ 103.

(3)

سبقت ترجمته: ص 1226.

(4)

الثابت والمتحول 3/ 65.

ص: 1567

وهو إذن يرفض فكرة الثواب والعقاب، ويرفض تبعًا لذلك أن يصلي أو يصوم، شأن الآخرين طمعًا في الجنة وحورها العين. . .)

(1)

.

هذه مؤهلات التميز التي جعلت أدونيس يخصص مباحث من كتابه تلمود الحداثة "الثابت والمتحول" للحديث عن الرصافي وكل يميل إلى شكله كأنس الخنافس بالعقرب!.

ثم يخلص في تعليماته الجاهلية لأتباعه الجاهلين -ولا أستثني أحدًا من الحداثيين- فيشرح لهم قضية محاربة "السائد" ومقاومة "الصورة السائدة" وهي عبارات لا تكاد تنفك عن أي حداثي.

يقول أدونيس: (أعني بالصورة السائدة، المفهومات والأحكام التي تتبناها المؤسسة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وتحافظ عليها وتدافع عنها، ويدخل في تكون هذه الصورة عاملان أساسيان: غيبي وهو الدين وتاريخي. . .)

(2)

.

ويصف في ديوانه حالة متخلف -حسب نظرية المادية- ويعلق تلك الحالة بإيمانه بالغيب فيقول:

(ماش على أجفانه سادرًا

يجر مديد آهاته

تلطمه الحيرة أنى مشى

كأنها سكنى لخطواته

علق بالغيب فأجفانه

رملية الأفق

كأنما من بأسه شمسه

(1)

الثابت والمتحول 3/ 65.

(2)

المصدر السابق 3/ 275.

ص: 1568

تغيب في الشرق)

(1)

.

وفي مقطوعته الصارخة الإلحاد التي سماها "رحيل في مدائن الغزالي" تحت عنوان أكبر هو "السماء الثامنة" لم يبق في كنانة حقده سهمًا إلّا صوبه للإسلام، ومن ذلك أن يصف المسلمين بالموتى لأنهم يدخلون في نفق أخضر، يريد به الإسلام، وفي كتاب، يريد به القرآن، ويصور أن الشمس -أي المعرفة- مستضعفة عندهم؛ لأنهم متعلقون بالغيب، ثم يتبجح بأنه لا يبالي بطرح هذه الأقوال ولا غيرها، ولا يأبه بالوعيد الشرعي والتخويف بالعذاب والنار؛ لأنها -عنده- مجرد خيمة كسر فيها كل ما يتعلق بها من أحكام ووعد ووعيد، وكسر كل المخاوف، وأنه يعرف خلجات التوعد في الجسم العتيق المريض -يريد الإسلام- أنها ليست بشيء، ثم يخاطب المسلمين بأن يجتنبوا هذا الطريق لأنها لا توصل إلى شيء، ويصفها بأنها طريق نصبتها الأنصاب والأشباح، هذه معاني بعض هذه المقطوعة الآسنة النتنة والتي يقول فيها:

(أهدم كل لحظة

مدائن الغزالي

أدحرج الأفلاك فيها، أطفيء السماء. . .

ويدخل الموتى ويخرجون

من نفق أخضر - في مدائن الغزالي

يأتون في كلام

يئن، في دروب كالملح، في كتاب

يموت، دفتاه

رقص وصافنات

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 57.

ص: 1569

ويدخل الموتى ويخرجون

والشمس في ثيابهم

جارية صفراء

مدهونة الثديين بالمقلوب

بالحجر الأحمر بالكبريتِ والغيوب

تسقط كله ليلة في نشوة الإسراء

تلتهم السيوف والسنينا

تطرح كل لحظة جنينا

ويدخل الموتى ويخرجون

توعدي يا فرس النبي في مدائن الغزالي

توعدي خطاي والطريق

عذابك الكبير مثل خيمة

كسرت فيها خاتم الزواج والكوثر الرحيق

توعدي أعرف كل خلجة

في جسمك العتيق

أعرف ما يقوله عذابك الكبير - في مدائن الغزالي

مسافرون. . . أين تذهبون؟

لن تصلوا، فهذه الطريق لا تمر في دمشق والصَّباح

ترسمه الأنصاب والأشباح)

(1)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 123 - 124.

ص: 1570

فلننظر بعد هذه الأقوال إلى بعض الشروخ الهائلة الموجودة في بنيانها:

أولًا: يقصد أدونيس بكلامه، هذا كله الدين، ودين الإسلام على الخصوص، باعتباره من الغيبيات التي تجب محاربتها؛ لأنها عنده من أسباب للتخلف، وباعتبارها هي السائدة والمسيطرة على الثقافة والسلوك الاجتماعي.

وحربه لدين الإسلام مبني على تزمت إلحادي، وضغائن طائفية نصيرية نشأ عليها، وعمالة لجهات أجنبية ما زالت ترعاه وتحوطه بالدعم والدعاية، ومن كان هذا شأنه فلا ريب أن يكون حديثه عن الإسلام حديث الباغض الحاقد!!.

ثانيا: يقتنص أدونيس أقوال أضرابه وأشباهه ليقوي بها جانبه ويلبس بأقوالهم على أتباعه، وأقوالهم لا تبعد عن المنطلق الحاقد الجاهل الذي انطلق منه أدونيس.

ثالثًا: يهاجم أدونيس الغيبيات الإسلامية ويؤمن بغيبيات وثنية جاهلية، ويقدس أصنامًا ويظل لها عاكفًا، وقد مر معنا في الفصل الرابع من الباب الأول شواهد كثيرة على إيمانه وتقديسه للأوثان الفينيقية، وأظهر الأدلة على خضوعه وإيمانه بالأوثان الجاهلية تسميته نفسه باسم الوثن "أدونيس".

ثم هو لم يكتف بالإيمان بغيبيات وثنية سابقة بل أضاف إلى ذلك إيمانه بغيبيات جاهلة محدثة وكتابه "الصوفية والسوريالية" مليء بهذه القضايا فهو يؤمن بأن الشاعر له غيب ويستشرف الغيب بل ويصنع الغيب!!.

ثم هو مع ذلك كله لم يتباعد عن عقيدته الباطنية النصيرية بما فيها من غيبيات باطلة وضلالات قاحلة، وقد سبق بيان ذلك في الفصل الرابع من الباب الأول، وسيأتي بعض من ذلك في الوجه الرابع من انحرافاتهم في هذا الفصل.

فإذا كان أدونيس يؤمن بغيبيات ماضية وحاضرة، ويقدس مذاهب

ص: 1571

ومناهج ويعتقد أن لها القدرة على التغيير والتأثير المستمر -وكل ذلك غيب- فلماذا يهاجم الغيبيات الإسلامية؟.

الجواب الوحيد لهذا: أن أدونيس يحمل ضغينة على الإسلام كضغينة أهل الشرك والكفر والصليبية واليهودية، وهؤلاء جميعًا لا يتوقع منهم إلّا أن يسعوا بكل قراهم في سبيل زعزعة هذا الدين وإخراج الناس من ضيائه إلى ظلمات الكفر والنفاق.

ومن كان شعاره الحقد، ومساره الشبهات، وغايته الهدم، فلا يُمكن أن يحاكم إلى عقل أو نظر أو برهان.

وهذه الحالة المرضية التي سقطت في سقمها سائر الحداثيين منتشرة بينهم بنسب متفاوتة، أدناها يحتوي على أصناف من الحالات الجاهلية التي لا تقترب إلى الحالة السوية لعقل إنسان يحترم عقله، أو دين مسلم يقدس ربه الحكيم العليم.

ها هو أحدهم يصب جام سخطه على اللغة العربية في ألفاظها ودلالالتها ويطلق على معجمها "تابوت القاموس" وفي الوقت ذاته يهاجم عقيدة الإيمان بالغيب ويعتبرها طقسًا فارغًا، فيقول في سياق حديثه عن دلالات اللغة وأستخدامها من قبل الأديب الأصيل:(. . . ويظهر ويكرر الدلالات الميتة كبديل دائم، وهذا هو الطقس الفارغ الذي يمارسه الكاتب العربي، حتى وهو يعتقد أنه يمارس شيئًا ذا أهمية، وهو نفس الطقس الفارغ الذي يمارسه أصحاب المعتقدات الغيبية وهم يعتقدون أنهم يمارسون حياتهم)

(1)

.

وهو القائل في موضع آخر من كتاب "بحثًا عن الحداثة": (وفي الخرافة ثاني أساسيات الثقافة العربية بوصفه تفسيرًا للفاعلية وتعليقًا لها على وجود آخر غير منظور، وتنتشر تمثلات الخرافة تحت شتى المسميات فهي القدر مرة، وهي الشيطان أو الكائنات الأسطورية مرة أخرى)

(2)

.

(1)

بحثًا عن الحداثة: ص 110.

(2)

المصدر السابق: ص 66.

ص: 1572

وقد لخص إحسان عباس مقاصد الثورة الحداثية في أربعة أغراض:

1 -

انهيار سلطة الأب.

2 -

تفكيك العائلة.

3 -

تحدي السماء.

4 -

الإعراض عن كل ما وراء الغيب.

ثم يتساءل: هل يعتبر الحداثي بعد هذا كله من حزب الشيطان، ويجيب -في دفاع زائف- بأن الحداثي لا يعتبر مع هذا كله إلّا في حزب الإنسان!!.

يقول إحسان عباس: (. . . الثورة حين تعتمد التحطيم ترتبط بالإخافة لمن لا يقدرون على تصور كل نتائجها، وهؤلاء يخشون إلى درجة الرعب انهيار سلطة الأب، وتفكيك نظام العائلة، وبالتالي تقشعر نفوسهم من التحدي للسماء، ذلك أن إنسانية الإنسان -دون أي شيء آخر- تعنى فيما تعنيه إشاحة الوجه عن كل ما هو وراء الغيب، وهذه سمة بارزة في الشعر الحديث، ولا يخفف من وقعها أن تحتال لها بالتفسيرات والتوجيهات، هل الشاعر الحديث من حزب الشيطان؟ لو كان الأمر كذلك لكان يدخل حربًا خاسرة، ولكنه من حزب الإنسان، وهذا يعني أن الإنسان هو القيمة الوحيدة في هذا الكون، وهو لا يحاول أن يدخل حربًا بين طرفين وإنّما يكتفي بالجحود)

(1)

.

وأيُّ إنسانية لإنسان يعتقد بالمادية، ويؤمن بالحيوانية أصلًا ومنشأً؟ وأي إنسانية لمخلوق يبت نفسه عن عناصر إنسانيته المتمثلة في روحه وآفاقها، ومعنوياته وطاقاتها؟.

لقد وصل إلى بعض هذا المعنى جملة من كتاب وفلاسفة الغرب بعد

(1)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر لإحسان عباس: ص 158.

ص: 1573

أن رأوا فضاعة الانحدار التي وصلت إليها الحياة الغربية، ومنهم على سبيل المثال "رينيه دوبو"

(1)

الذي قال في كتابه "إنسانية الإنسان": (أنا أشك أن في استطاعة البشرية تحمل أسلوب حياتنا السخيف لمدة أطول دون أن نفقد أفضل ما في الإنسانية، وعلى الرجل الغربي أن يختار مجتمعًا جديدًا، وإلّا فإن المجتمع الحديث سيفنيه. . . هناك عناصر في الموقف الحاضر يُمكن إيجاد أجوبة لها في التكنولوجيا، ولكن هناك عناصر أخرى لا يُمكن للتكنولوجيا أن تجيب عليها وهي تتعلق إلى حد ما بموضوع نظرتنا الفلسفية الأساسية بالنسبة للإنسان وما يعني تطبيقها. . . والتطلع إلى موقف إنساني غير خاضع لأوامر التكنولوجيا، ليس رجعية ولا انهزامية بل هو موقف نقدي وجهد بطولي. . .)

(2)

.

(وستعاني مجتمعاتنا، لا محالة، من كوارث بيولوجية ونفسية ما لم تنمّ بيئات تكنولوجية وحضرية تتناسب حقًا وحاجات الإنسان، فأمراض المدنية وتمرد الشباب هي إنذارات بأن العافية البدنية والصحة العقلية والرضى العاطفي كلها تحتاج لأكثر من الغنى المادي وإنتاج الأشياء ومعرفة أسرار الذرة)

(3)

.

ويصف مقدار العطش الروحي الذي يعانى منها الغرب بسبب انتشار الإلحاد، ويحاول أن يتشبث ببقايا ما في الوجدان الغربي من آثار باقية من دين، وهو بذلك يحاول أن يضع الإنسان في أرضية الإنسانية التي سلبها منه الإلحاد، يقول رينيه دوبو: (والقبول الواسع لمواقف لا دينية في المجتمعات المعاصرة وضع إنسانها الملحد في موقف صعب، فرغمًا عن تطرفه الشديد في اندفاعه لإزالة القداسة عن كل شيء لم يستطع أن يحرر نفسه تمامًا من الماضي، فطبيعته الدينية القديمة باقية دائمًا في أعماق كيانه مستعدة لأن

(1)

رينيه دوبو، أستاذ في جامعة روكيلفر في نيويورك وأخصائي بعلم الحياة -البيولوجيا- نال عدة جوائز منها جائزة نوبل بالاشتراك مع آخر عام 1396 هـ/ 1976 م، وهو مؤلف ومحاضر وله أبحاث علمية عديدة، ومن مؤلفاته كتاب "يا لإنسانية هذا الحيوان!! " المتوجم إلى العربية بعنوان "إنسانية الإنسان". انظر: إنسانية الإنسان: ص 4.

(2)

إنسانية الإنسان: ص 234 - 235.

(3)

المصدر السابق: ص 252.

ص: 1574

تنشط؛ لأنه ملاحق دائمًا بنفس الحقائق التي يحاول إنكارها)

(1)

.

نعجب من هذا التصريح الذي يقوله عالم من علماء الغرب، ويزداد العجب إذا علمنا بأن هذا العالم المادي دارويني الاعتقاد والمنهج!!، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يتجاوز حقائق الواقع في محدودية العلم، وحاجة الإنسان إلى الإيمان والدين، بل وحاجته الشديدة إلى غيب يؤمن به، ومن هذا القبيل قوله: (ومع التنور الذي حدث في القرن الثامن عشر برزت تدريجيًا مكانة "التعليل العلمي" ليصبح الإيمان الجامع للناس، إلّا أنه أيضًا بدأ مرحلة ضعانه منذ بضعة عقود؛ لأن محدوديته الفكرية والتطبيقية ظهرت بأسلوب جلي، قليل من الناس من يشك في أن العلم هو أعظم القوى في العالم المعاصر، ولكن لم يبق إلّا عدد قليل جدًا من الناس -بخاصة المتعمقين منهم- على اعتقاده أن العلم قادر على تفسير معضلات الكون أو أنه قادر، لوحده، أن يعطي للحياة الإنسانية وجهة ومعنى. . . وتواجهنا العلوم المادية بتناقضات لا حلول لها عند ما نحاول فهم حدود الفضاء أو بدايات الزمن، أضف إلى ذلك أن الإنجازات العلمية تثير، بصورة عامة، مسائل أخلاقية يعتبرها كثير من العلماء خارج نطاق كفاءاتهم، ويشيرون إلى أن العلم والتكنولوجيا أدوات ووسائل ليس لها أخلاق، ويُمكن استعمالها لخير البشرية أو لدمارها. والاعتقاد بأن العلم قادر على حل أكثر المشاكل العلمية أمر يكذبه الوعي المتزايد بأن تكنولوجيا العلم تثير مشاكل جديدة في محاولاتها لحل المشكلات القديمة. . . وقد تأتي صعوبة البحث في مشكلة "معنى للحياة" من حقيقة أننا نثير أسئلة خاطئة، ونسيء تفسير النجاحات التي أحرزتها البشرية في فترات وجود الإيمان الموحد.

. . . لقد أخذ الإيمان أشكالًا عدة عبر التاريخ وسواء كان الاعتقاد بإله أو بفلسفة غير مادية، فإنه يحوي دائمًا نظرة إلى الإنسان وامتداده لما وراء الزمن الحاضر، وكلما اتسعت الصلة كبر المعنى؛ ولهذا احتفظ

(1)

المصدر السابق: ص 149.

ص: 1575

الدين والفلسفة رغم نقصهما الظاهر في القيم العملية

(1)

بجاذبيتها للبشرية)

(2)

.

ومن هذا الكلام وأشباهه يُمكن القول بأن ظلام المادية الملحدة آذن بالانقشاع؛ لأنه بُني على شفا جرف هار؛ ولأنه حارب أو تجاهل أهم الخصائص الفطرية للنفس الإنسانية، الروح، والإيمان بإله خالق، والإيماق بغيبٍ وراء العالم المحسوس.

وغير بعيد ما ذكره مترجم "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث" الأستاذ أحمد الشيباني

(3)

رحمه الله حين ذكر في مقدمة ترجمته لهذا الكتاب أن مكتشفات جديدة في الفيزياء الحديثة على يد علماء من الغرب هدمت الحتمية المادية نظرية وأقنومًا أساسيًا من أقانيم الفلسفة المادية، وخاصة نظرية "هينبرغ" في اللاحتمية التي تعد بمثابة الإعلان الرسمي عن انهيار الحضارة الأوروبية العلمية فلسفة وعلومًا وأنظمة)

(4)

.

وعلى الرغم من علائم تراجع المد الإلحادي في الغرب، ومحاولة البحث عن إنسانية الإنسان بعيدًا عن معطيات المادة؛ فإن أتباع الحداثة والعلمانية ما زالوا يعيشون في دائرة الخضوع والملق والمداهنة لمذاهب ومناهج المادية الإلحادية الغربية، والنصوص السابقة التي نقلتها والتي ينفي

(1)

هذا رأي المؤلف، وهو رأي محصور على رؤية قاصرة، وتحصر الدين في النصرانية، ويظهر من ذلك جهله أو تجاهله للإسلام.

(2)

إنسانية الإنسان: ص 220 - 221.

(3)

أحمد الشيباني، ولد في عام 1341 هـ/ 1923 م في بادية الشام من قبيلة شمر، درس الابتدائية والثانوية في المدارس الألمانية، وتخصص في الدراسات الفلسفية والتاريخية والإسلامية، وألف وترجم عددًا من الكتب ومنها هذا الكتاب "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث" لرولاند سترومبرج، والأستاذ أحمد له مواقف مشهورة ضد الحداثة وأتباعها المحليين، وهو يتحدث في شأنها وشأنهم عن علم واطلاع عميق، توفي -رحمه اللَّه تعالى- في شعبان من عام 1416 هـ. انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 782.

(4)

انظر: مقدمة الأستاذ أحمد الشيباني لكتاب تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 103 دار القارئ العربي.

ص: 1576

فيها الحداثيون العرب الغيبيات ويجعلون الإيمان بها من علامات التخلف!!.

نعم إن الأصوات المنادية بالعودة إلى شيء من الفطرة الإنسانية وشيء من ضروريات الكرامة الإنسانية؛ ليست هي البارزة أو القوية أمام الموجات العارمة من دعوات الحيوانية والمادية والإلحاد، ومقتضياتها في الحياة العامة والخاصة للناس، والتي خضعت لها أعناق الحداثيين في مهانة فكرية صارخة وفي ترديد ببغائي بليد، ها هي مجلة "مواقف" تعلن -كما أعلن أدونيس من قبل- أن الإنسان العربي لا يُمكن أن يكون "ثوريًا!! " ألا بتخليه عن الإيمان بالغيب، وأول ذلك -عندهم- التخلي عن الإيمان باللَّه تعالى، تقول "مواقف": (هل يُمكن العربي أن يحقق الثورة ما دام يحيا ويفكر في إطار من القيم الموروثة المطلقة الثابتة؟ كيف يستطيع العربي، بتعبير آخر، أن يعيش ثورة تغير لحظة يعيش مطلقًا غيبيًا ينفي التغير؟ هل يُمكنه أن يغير وضعه، أعني ذاته، إذا لم يغير المطلق الثابت؟ هل يعني ذلك أن العربي لا يكون ثوريًا إلّا إذا تخلى عن إيمانه بالمطلق الغيبي؟ تعني الثورة، فيما تعني، نظرة جديدة، هذه النظرة تتضمن بالضرورة، نقدًا لما سبقها، سواء كان دينيًا أو غير ديني، وتتضمن، بالضرورة، تجاوزًا لما سبقها.

إن المضمون الإنساني التقدمي المنفتح على آفاق المستقبل هو ما يهم هذه المجلة في المقام الأول)

(1)

.

وهكذا نلمس كيف يتجبر ويتكبر ذو العاهة ليشعر الناس أنه قوي سليم، وأن عاهته الفكرية لم تنقصه عن البشر العاديين فضلًا عن البشر الفائقين!!.

ولأن النقص المادي، والعاهة الحيوانية توجع بقايا الفطرة لديه، فإنه يغطي على ذلك بوصوله إلى التطرف المريض كما في النص السابق، وكما في نص آخر لعلماني عربي شهير يقول فيه: (ما عاد الإنجاز يقاس بالانسجام مع مفاهيم غيبية، بل مع عمل يتجه صوب أهداف موضوعية عقلانيًا. . . فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون سواها، مستبدلًا بفكرة

(1)

مجلة مواقف، العدد 2، سنة 1969 م: ص 3 - 4.

ص: 1577

الألوهية فكرة البشرية كما فعل كونت)

(1)

.

ومن أراد المزيد من أمثلة الهذيان والكره العميق للدين، والانحراف المتزمت، فليقرأ هذه الأسطر التي تنبيء عن حجم التفاهة العقلية التي تردى إليها بعض أبناء البلاد الإسلامية، ففي مقال في مجلة الناقد للكاذب الليبي المسمى "الصادق النيهوم" بعنوان لغة الموتى يتحدث عن "عالم الغيب" ومما قاله: (. . . كلمة "العالم الآخر" التي نحتها الكثهة من لغة الناس، لم تكن كلمة، بل كانت "عالمًا آخر مجهولًا بأكمله" له ثلاث صفات جديدة مجهزة عمدًا على مقاس السحرة:

الصفة الأولى: أنه عالم غائب عن عيون الناس، لا يعرف أسراره أحد، سوى الكاهن الذي يتكهن بأسرار الغيب، وهي مغالطة شفوية بحتة لكنها ضمنت للكهنة، أن يحتكروا تفسير الشرائع حتى الآن.

الصفة الثانية: إنه عالم حي، لكن بوابته الوحيدة تقع وراء الموت، مما يخي عمليًا أن مستقبل الأحياء يبدأ -فقط- بعد أن يموتوا.

الصفة الثالثة: أنه عالم خارج عن سنن الطبيعة، تنطق فيه الأصنام وترتاده التنانين المجنحة، لكنه هو العالم الحقيقي؛ لأنه أزلي وخالد، وهي صياغة تريد أن تقول -فقط- إن عالم الناس والأحياء ليس عالمًا حقيقيًا)

(2)

.

ثم يستمر في هذيانه ليصل إلى ما أسماه لغة الدين الذي أسس حسب زعمه لغة جديدة ومفهومًا جديدًا هي لغة الإنسان الحي (فكلمة "عالم الغيب" في لغة الإنسان الحي، تعني -حرفيًا- عالم المستقبل؛ لأن المستقبل هو العالم الوحيد الغائب، الذي يعرفه الناس الأحياء، ويوقنون بوجوده، دون أن يروه، ويعلمون أنه آت ويتحملون مسئوليته شرعًا، وقد التزم الدين بهذا التفسير الحي، ورفض كل تفسير سواه وجعله شريعة إلهية،

(1)

المثقفون العرب والغرب لهشام شرابي: ص 17.

(2)

مجلة الناقد، عدد 8، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 10، وكتابه المسمى الإسلام في الأسر: ص 80.

ص: 1578

وسماه مقدسًا لكي يميزه عن تفسير السحرة. . .)

(1)

.

وبعد هذا الخلط المتعمد، يصل إلى التفسير المادي لعالم الغيب الذي جاء به الدين، والذي سبق أن مهد له بنفي اليوم الآخر والبعث وخلود الإنسان بعده، باعتبار أن ذلك من لغة السحرة والكهان، جاء ليفسر عالم الغيب تفسيرًا دنيويًا ماديًا بحتًا فيقول: (. . . إن العالم الذي قلبه الكهنة يستعيد توازنه فجأة في ثلاثة مواقع رئيسية:

في الموقع الأول: لم يعد عالم الغيب غائبًا عن عيون الناس بل صار اسمه المستقبل، وصار بوسع الناس أن يعرفوا مستقبلهم سلفًا، بقليل من المنطق وعلم الحساب.

في الموقع الثاني: لم يعد عالم الغيب، رهنًا بما يقوله الكهنة؛ لأن المستقبل الوحيد الذي يعرفه الإنسان الحي، مستقبل لا يضمنه القول، بل يضمنه الفعل.

في الموقع الثالث: لم يعده عالم الغيب خارجًا عن سنن الطبيعة، بل صار طبيعيًا، وصاو قابلًا للتفسير العلمي، حتى إذا نطقت فيه الأصنام وارتادته التنانين المجنحة، فمستقبل الإنسان عالم مدهش -مثل عالم السحرةالغائب - لكنه لا يحتاج إلى لغة الأساطير.

هذا التفسير المديني لكلمة "عالم الغيب" رفضه الكهنة في جميع العصور بحجة أنه تفسير إلحادي قائم على إنكار البعث بعد الموت)

(2)

.

لعل هذا الكاتب لم يجد في نفسه الجرأة أن يهاجم قضية الغيب بصراحة، فراح يتستر وراء مهاجمة "أفكار الكهنة" أو "السحرة" ومن هناك يهاجم كل المفاهيم الدينية ليأمن من تهمة الإلحاد والمروق، وفي الحقيقة أن غاية كلامه ومنتهى عجاراته أنه لا وجود لعالم الغيب، وإذا كان له وجود في اللغة الدينية -حسب تعبيره- فإنه وجود مادي أرضي حيواني، جريًا

(1)

مجلة الناقد، عدد 8، فبراير 1989 م/ 1409 هـ: ص 10، وكتابه المسمى الإسلام في الأسر: ص 80.

(2)

المصدران السابقان.

ص: 1579

على التفسيرات المادية الإلحادية التي أخذ بها الغرب منذ داروين وحتى ماركس وسائر الملاحدة والوجوديين.

إن هذا القول يوضح لنا تمام الوضوح فضاعة اللوثة المادية التي خيمت على بعض العقول المريضة فأفقدتها القدرة على رؤية الأمور في نصابها الحقيقي، فهي في تخبط دائم وفي اضطراب هائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}

(1)

.

وفي مجلة الناقد مقال فيه دراسة عن وضح اليهود في فلسطين بعنوان "بعيدًا عن ضباب الغيبيات"

(2)

نفى فيه الأخبار التي جاء بها الوحي في التوراة وفي القرآن، والمهم في هذا المقال أنه جعل الغيبيات ضبابًا، وذلك على وفق العقائد العلمانية الحداثية ذات الجذور المادية.

ويعبر البياتي عن تطوره نحو الماركسية!! بضمور الغيبيات عنده، والتي عبر عنها بالباعث الميتافيزيقي، فيقول:(وهنا كان لابد من ضمور الباعث الميتافيزيقي في نفسي، ونمو الدافع الاجتماعي والسياسي)

(3)

.

ولكنه لم يعلم بأنه قد اعتنق الغيبيات الماركسية من حتمية مادية، وصراع طبقي، وجدلية ديالكتيكية!!، بل هو يعلم أنه قد اعتنق الوثنيات الجاهلية البائدة مثل "عشتار" و"تموز" و"فينيق" وغيرها!!.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}

(4)

.

ومن رمزيات البياتي التي ينفي فيها الغيبيات ويرسخ المادية الجسدية قوله:

(بوابة الأبد

(1)

الآية 44 من سورة الفرقان.

(2)

مجلة الناقد، العدد 18: ص 69، ديسمبر 1989 م/ 1410 هـ، والمقال لشفيق مقار.

(3)

تجربتي الشعرية: ص 27.

(4)

الآية 257 من سورة البقرة.

ص: 1580

مغلقة ليس هنا أحد

يضحك من أعماقه الجسد)

(1)

.

ويشبه هذه الرمزيات قول أحمد دحبور:

(مركب الغيب يعاني رمد الرؤيا يميد)

(2)

.

وقوله:

(لا صوت ينبع من عروق الغيب

يفصلنا عن الصوت الإله جدار نار

هل تخرق النار العصبية؟ تفتدي السر الكبير من الديار؟

"السر وجه الأرض جسر النبض،

أصوات تدوي في القرار"

هل تفتدي؟ والناقة العمياء، باب الخصب، ينهبها

الحصار. .

لا شيء غير النوم فوق الرمل نم

وسع كوى الذكرى. . انطفئ كالآخرين)

(3)

.

أمّا الرواية الإلحادية "مسافة في عقل رجل" فإن محورها: "نفي كل ما وراء الحس، وتقديس المحسوس" ومن أجل ذلك تجده يصف البعث الجديد للإنسان وللعقل البشري بأنه الذي يعتمد على نفي الغيبيات: الجنة والنار والبعث والقيامة والملائكة والشياطين والجن، ويعد بجنة على الأرض لا في السماء. . . إلى آخر هرطقاته

(4)

.

(1)

ديوان البياتي 2/ 91.

(2)

ديوان أحمد دحبور: ص 62.

(3)

المصدر السابق: ص 75.

(4)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 10 - 11.

ص: 1581

ثم يصف حال المؤمنين بالغيب قائلًا: (. . . حال كثير من الناس يعتنقون الخرافات، يؤمنون بالغيبيات، يقاتلون من أجل الوهم أشرس من قتال الآخرين للوصول للحقيقة)

(1)

.

وأقواله في نفي الغيب وجحد الغيبيات كثيرة، بل كل روايته تدور على ذلك

(2)

.

ومن أقواله الشنيعة الساقطة: (. . . الغيبيات التي مرغت العقل الإنساني في الوحل دهورًا طويلة وتوارثها الفكر حتى بانت إحدى سماته، وارتبطت هذه الخرافات بقضية وجود اللَّه، فأحاطتها بالشكوك، وطوقتها بالتمرد لذلك كان من الأهمية بمكان أن تشذب فكرة وجود اللَّه من أغصانها السرطانية بالالتحاء لقفص العقل ورفض توارث فكرة وجود اللَّه)

(3)

.

ويورد غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين" مقطعًا من "نهر الرماد" لخليل حاوي يتضمن المطالبة بالانتفاضة على التاريخ والغيب والأمس، وذلك في قوله:

(إن يكن، رباه، لا يحيى عروق الميتينا

غير نار تلد العنقاء

نار تتغذى من رماد الموت فينا

فلنعان من جحيم النار

ما يمنحنا البعث اليقينا:

أممًا تنفض عنها التاريخ

واللغة والغيب الحزينا

(1)

المصدر السابق: ص 25.

(2)

انظر على سبيل المثال: ص 125، 126، 159، 171، 191، 201، 221، 229.

(3)

المصدر السابق: ص 191.

ص: 1582

تنقض الأمس الحزينا

ثم تحيا حرة خضراء في الفجر الجديد)

(1)

.

ويشرح صاحب الكتاب التبجيلي المسمى "مع خليل حاوي" في مواضع عديدة مقطوعة "نهر الرماد" ومما قاله عنها أن خليل حاوي (كان قد هدم "بنهر الرماد" الإيمان بالأساطير والتعاويذ والغيبيات)

(2)

، وإن يكن قد فعل خليل حاوي هذا في نهر الرماد فإنه قد هدم الغيبيات من قلبه، وأخلد إلى الأرض كسائر الحداثيين، أمَّا الغيبيات في ذاتها فغير قادر هو وأهل الأرض جميعًا على هدمها؛ لأن حقائقها ثابتة، ودلائلها واضحة.

وقد نال خليل حاوي ثمرة هدمه للغيبيات من نفسه حين ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه فانتحر {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}

(3)

وقد دون الحداثيون هذا المجد!! في كتب وملاحق ومجلات وندوات

(4)

.

أمَّا نزار قباني فإنه كتب في رسالة بخط يده إلى جهاد فاضل، ونشرها هذا الأخير في كتابه فتافيت مشاعر، ومما قاله قباني في هذه الرسالة:(أنا شاعر لا أؤمن بالغيبيات وضرب المنادل، وقراءة فناجين القهوة، فلكي أؤسس وطنًا معافى، لا بد لي من جرف كل هذا الخراب أولًا)

(5)

.

وفي "موسوعة الفلكلور والأساطير العربية" يقرر المؤلف أن الذهن الغيبي والجبري القدري آفات تقع في مواجهة العلم التجريبي، فيقول في مقدمة: (راعيت الاهتمام بالموروثات الروحية الانزيمية الطقسية، وما تقتضيه

(1)

شعرنا الحديث إلى أين: ص 134.

(2)

مع خليل حاوي: ص 491.

(3)

الآية 33 من سورة القلم.

(4)

انظر مثلًا: كتاب رسائل الحب والحياة، الشاعر العربي خليل حاوي انتحر احتجاجًا على اجتياح لبنان إصدار دار النضال - بيروت.

(5)

فتافيت شاعر: ص 43، 54.

ص: 1583

من ذهن غيبي أو جبري يفضي بدوره إلى آفات القدرية والسلفية، والاعتماد على البركة، وتوابعها، في مواجهة العلم التجريبي)

(1)

.

وتاللَّه لقد انفلت هؤلاء من كل ممسك فلا دين حفظوه، ولا عقل احترموه، ولا علم تجريبي حذقوه أو نقلوه، وقصارى ما قاموا به أن جعلوا عقولهم وأذهانهم مستعبدة للمذاهب الغربية المادية، وقاموا بدور الوسيط الذي ينقل الجراثيم والأمراض!!.

تقرأ لهم فإذا هم يتباكون على العقل، وعقولهم مستطرقة للغرب والشرق وللخرافات والوثنيات القديمة والحديثة.

ويندبون حرية الفكر، وهم قد استأسروا في مهانة ذليلة للمذاهب والمناهج والنظم الغربية.

ويتغنون بالحريات الشخصية وهم أشد الناس استبدادًا وظلمًا للمسلمين، الذين يريدون مقارعة الحجة بالحجة والعقل بالعقل، فإذا كانت لهم وسيلة إعلام فهي لزمرتهم وليس للآخرين شيء، وإذا كان لهم حكم وسلطة فدعاة الإسلام في السجون والمعتقلات، وتحت الأحكام الحرفية والعسكرية، ثم يقولون الحريات الشخصية!!.

ويطالبون بالعلوم التجريبية ومناهجها وطرائقها، وهم في بعثاتهم لم يعودوا بشيء من ذلك بل عادوا بمحاربة الإيمان والعقائد والأخلاق، وأمثلهم طريقة من عاد وهو مرتاب في عقيدته وحضارته وأمته، وفي الوجه المقابل نرى أن الملتزمين بدينهم من أبناء الإسلام كانوا أبر بأمتهم وأحنى عليها حين تعلموا العلوم التجريبية وأسالوا أنهارها -حسب استطاعتهم- في أودية المسلمين.

أمَّا الهدَّامون والرجعيون الماديون من أتباع الحداثة والعلمنة فإنهم جلبوا أنجس وأخبث وأنتن ما في الغرب، وقاموا ببثه ونشره وإشاعته والدعوة إليه وإكراه الناس عليه، وجعلوه المنطلق لكل ثقافة وعمل وممارسة

(1)

موسوعة الفلكلور والأساطير العربي لشوقي عبد الحكيم: ص 10.

ص: 1584

على حد تعبير أحدهم في قوله: (فلتكن نقطة الانطلاق، التخلص من شوائب ومقومات الذهن الغيبي التهويمي المنتكس في كل حالاته)

(1)

.

وفعلًا فقد كانت نقطة الانطلاق لهم، تكذيب خبر اللَّه تعالى، وجحد الغيبيات الحقيقية الثابتة التي جاء بها الإسلام، وأمثلة ذلك كثيرة منها:

- نفي خلق اللَّه لحواء من ضلع آدم عليهما السلام

(2)

.

- نفي قصة أهل الكهف وجعلها مجرد أسطورة من الأساطير

(3)

.

- نفي وجود الشياطين والجن، واعتبارها مجرد خرافة

(4)

.

- نفي قضية قبض الروح وملك الموت

(5)

.

(1)

المصدر السابق: ص 19.

(2)

انظر: الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 895 - 896، ومجلة الناقد عدد 12 ص 6 في يوليو 1989 م/ 1409 هـ، والقول للصادق النيهوم، ومجلة نون الصادرة عن جمعية تضامن المرأة العربية، العدد الثاني أغسطس 1989 م/ 1410 هـ: ص 14 مقال لمحمد شعلان بعنوان ليست من ضلع آدم.

(3)

قال ذلك خالدة سعيد كما في قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م/ 1411 هـ: ص 70 وقاله فيصل دراج كما في قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 85، وقاله حامد أبو أحمد في كتاب نقد الحداثة: ص 121 وص 123، وهو الكتاب الذي أصدرته جريدة الرياض!! وإن كان المؤلف قد نقد الحداثة نقدًا موجعًا في بعض الأحايين، إلّا أنه لا يفتأ يثني على أصحابها مثل عصابة مجلة شعر: ص 89 ولويس عوض 188 الذي يعتبره أستاذًا، واحترامه للبنيوية: ص 38، وإطراؤه الزائد لزعيم البنيوية في هذه البلاد: عبد اللَّه الغذامي: ص 10، 11، 54، 58، 103، 110، 111.

(4)

قال ذلك محمد الأسعد في كتابه بحثًا عن الحداثة: ص 66، وقاله نصر حامد أبو زيد في مقال له بعنوان النصوص الدينية بين التاريخ والواقع نشر في قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 396، 399، وقاله الملحد علاء حامد في مسافة في عقل رجل: ص 88، 111، 228، 134، 200، 171، وقال بأن الجن مجرد خرافة وأساطير، وأحمد كمال زكي في كتابه شعراء السعودية المعاصرون التاريخ والواقع: ص 249 - 250، ومثله شوقي عبد الحكيم في موسوعة الأساطير: ص 263.

(5)

قال ذلك علاء حامد في مسافة في عقل رجل: ص 171، 172، وفي قضايا وشهادات 2/ 314، قاله وليد إخلاصي.

ص: 1585

- إنكار وجود إبليس نعوذ باللَّه منه ومن حزبه

(1)

.

- جعل إرم ذات العماد وما حصل لهم أسطورة من الأساطير

(2)

.

- نفي وجود السحر وحصول الحسد من العائن

(3)

.

- نفي ما حصل لقوم لوط في سدوم بسبب غضب اللَّه عليهم لما عصوا أمره

(4)

.

- اتخاذ قصة عزير التي وردت في سورة البقرة معبرًا لنفي الغيب جملة، ولنفي البعث

(5)

.

- التكذيب والجحد والتشكيك في أشراط الساعة التي أثبت الوحي حصولها مثل: الخسف والزلزلة والريح الحمراء وخروج الدجال وقوله للخربة أن تخرج كنوزها، ونزول مطر من السماء بعد يأجوج ومأجوج فتخرج الأرض خيواتها

(6)

.

- التكذيب بخروج يأجوج ومأجوج، واعتبار ذلك محض خرافة وأسطورة

(7)

.

(1)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 171، 201.

(2)

انظر: ديوان السياب: ص 602 حيث قدم لها بمقدمة خرافية أسطورية تدل على أنه يرى القصة كلها خرافة وأسطورة، أمَّا سميح القاسم فصرح بأن إرم مجرد أسطورة في ديوانه: ص 301 - 302.

(3)

قال ذلك نصر أبو زيد في المقال المذكور آنفًا في قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 396، 399.

(4)

قال ذلك سميح القاسم في ديوانه هامش: ص 55.

(5)

انظر: ديوان أحمد دحبور: ص 91 - 92.

(6)

انظر: الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 553.

(7)

قال ذلك ناجي علوش في مقدمته لديوان السياب: ص [ز ز] وقاله السياب في ديوانه: ص 529، وقاله أستاذ الأدب الحديث في جامعة الملك سعود: أحمد كمال زكي في كتابه شعراء السعودية المعاصرون: ص 130، وقال أدونيس في الأعمال الشعرية 2/ 553، وقاله محمد الماغوط في كتابه سأخون وطني: ص 69 وقاله إحسان عباس في اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 130.

ص: 1586

والأمثلة على ذلك في كلامهم كثيرة، ويكفيك من شر سماعه!!.

‌الوجه الثاني من أوجه انحرافاتهم في الغيبيات: جعلهم الإيمان بالغيبيات الحقيقية تخلفًا ورجعية:

وقد سبق في مطلع هذا الفصل ذكر أساس منزعهم في هذا، وبيان أن التخلف والرجعية أليق بالمادي الأرضي الحيواني، الذي تردى إلى سفوح الكفر والضلال والمادية، وعجز عن التحقق بأوصاف الإنسان الحقيقي؛ حين ألغى من حساباته الروح والجانب المعنوي وأبى إلّا الإيمان بالمحسوس كما تؤمن الحيوانات، وإن كان بصورة أكثر تطورًا، ولا غرو أن يكون المادي الملحد كذلك، فقد سنّ لهم أستاذهم "داروين" سنن هذا الاعتقاد الضال حين أرجع أصولهم إلى القردة.

ولعمر اللَّه أنهم أشبه بالقردة من أي شيء آخر لاسيما في تقليدهم ومحاكاتهم لعقائد الغرب الضالة وانطراحهم أمام شبهاته المادية، وتأنثهم في التلقي عنه!!.

مرّ معنا في الوجه الأول وصف أدونيس للإيمان بالغيب عند المسلمين بأنه ظاهرة تخلف

(1)

، وهو من هذا المنطلق الادعائي يمهد لأوليائه طريق الإلحاد وجحد الدين كله، ولكن من خلال الالتفات حول مفاهيم التخلف والتقدم والماضي والحاضر والغائب والراهن إلى غير ذلك من الأساليب المعهودة في الحركات الباطنية من قديم، وهذه الطروحات الملتوية أحيانًا هي البقية الباقية من عقائد النصيرية التي نشاء ودرج عليها أدونيس، وإن يكن قد خرج هو وقومه من المداراة والاختفاء خلف الألفاظ منذ أن سعى الاستعمار الفرنسي -أيام احتلاله لسوريا- في إخراج النصيرين من قواقعهم، وإنزالهم من جبالهم ليصبحوا بعد ذلك من المتحكمين في أعناق المسلمين وإعلامهم وثقافتهم، بعد أن أمن لهم الغرب الأوضاع، وأذاب مبادئ الولاء والبراء، وأحكام الكفر والإيمان والردة، فاجترأوا على اللَّه تعالى وعلى دينه وعلى رسله الكرام.

(1)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 103.

ص: 1587

ومن أمثلة هذا الاجتراء قول أدونيس: (لابد للطليعية من أن تنقد أشكال الوعي الغيبي الذي يعرقل نمو الوعي من جهة، ويشارك، من جهة ثانية، في ترسيخ الثقافة الماضوية واستمرارها)

(1)

.

وسبق في الوجه الأول -أيضًا- نقل مقطوعته الإلحادية من "رحيل في مدائن الغزالي" التي تهكم فيها بالدين كله عقيدة وشريعة ورموزًا وتاريخًا وخص الغيبيات بقوله عن المسلمين:

(والشمس في ثيابهم

جارية صفراء

مدهونة الثديين بالمقلوب

بالحجر الأحمر بالكبريب بالغيوب

تسقط كل ليلة

في نشوة الإسراء)

(2)

.

فالشمس -رمز المعرفة والتقدم- مستضعفة مسجونة مستعبدة كالجارية، ودهنت بأشياء متخلفة أو مستحيلة، ومنها الغيب الذي يراه أدونيس في هذا المقطع وغيره سببًا من أكبر أسباب التخلف والرجعية، ثم أضاف بأن المعرفة والتقدم يسقطها المسلمون في نشوة الأسرار، أي النبوة، التي لا يعتبرها نبوة بل مجرد نشوة شخص.

هذه هي الحداثة في أبشع صورها ورموزها وطلاسمها.

وفي آخر المقطع يشرح أدونيس مشروعه الحداثي في سياق حربه وحقده على الإسلام القوة الوحيدة التي تتحطم على صخرتها الراسخة كل

(1)

المصدر السابق 3/ 227 - 228.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 124.

ص: 1588

محاولات الحداثيين والعلمانيين، ولا ينسى أن يكرر أقواله في ذكر علامات التخلف عند المسلمين، التي عبد منها المساجد والدروب المرصوفة بالليل أي جميع ما ينبثق عن الإسلام، والتكايا ويرمز بها -في شتيمة واضحة- إلى العبادة والعباد، ثم يذكر الغيوب في جملة ما يذكره من علامات التخلف -حسب نظرته الحداثية- كل ذلك في سياق توضيحه لمشروعه الرجس، الذي يلخصه في ثورة يدخل بها من جديد:

(لكوكب الغزالي

لهذه المقابر المبثوثة الأشباح والطقوس

في نفق الهواء والتاريخ، في الأقدام والرؤوس

لهذه الجدران

للكتب المدهونة الأوراق والرفوف

بالبطن والشهوة والأسنان

لهذه الأنصاب والأعلام والسيوف

لهذه المساجد الكنائس الدانية القطوف

لهذه الدروب

مرصوفة بالليل

للتكايا

علّامة الأسرار والغيوب

لكل هذا الزمن المكدس المشحون

بالرمل والسعار والطاعون)

(1)

.

وفي فورةٍ من الحقد الباطني والحداثي، يصف أدونيس بلاد المسلمين

(1)

المصدر السابق 2/ 149 - 150.

ص: 1589

التي ينسبها إلى نفسه تحت عنوان "أرضي"، ويظهر أنه سوف يسعى لاجتثاثها من أصولها التي يسميها العروق الرجمية، ثم يصف هذه الأرض بأنها تعيش في الخرافة والتخلف فهي عرافة وتميمة، وهي رموز تخلف ويشير بها إلى الغيبيات في تشبيه ذميم من قلب سقيم، يقول أدونيس:

(لأرضي أجرح هذه العروق الرجيمة

لأرضي خبأت بين جراحي

غدي ورياحي

وأرضي عرافة وتميمة

وأرضي مخمورة - كتفاها

أميران من لؤلؤ، وجريمة)

(1)

.

ومثله الماركسي الفلسطيني سميح القاسم الذي يقدم أوراق اعتماده للشيوعيين الروس من خلال هجائه الإلحادي للمسلمين وتعاليمهم، ومن خلال الكذب والافتراء عليهم، وذلك في قوله:

(كنت طفلًا آنذاك. .

علموني أن مجرى الأرض، في كف السماء

علموني أنه سبحانه، يحيي ويفني ما يشاء

علموني أن أطيع الأولياء

دون أن أسأل: من كانوا؟

وماذا صنعوا للتعساء؟!.

علموني الدجل، والرقص على الحبل

وإذلال النساء

(1)

المصدر السابق 1/ 370.

ص: 1590

علموني السحر والإيمان بالأشباح

والرقية والتعزيم

والخوف إذا جاء المساء

علموني ما يشاؤون، ولم يستنبئوني ما أشاء

فرس الخضر. . كفيل بي

وحسبي الفقهاء!!

يا أبي المهزوم. . يا أمي الذليلة!

إنني أقذف للشيطان ما أورثتماني

من تعاليم القبيلة

إنني أرفضها تلك الطقوس الهمجية

إنني أجتثها من جذرها

تلك المراسيم الغبية

إنني أبصق أحقادي وعاري

في وجوه الأولياء الصالحين

إنني أركل قاذورات ذلي وانكساري

للتكايا والدراويش

وأقزام الكراسي النابحين)

(1)

.

عندما كتب سميح القاسم هذا السباب الحداثي كانت الشيوعية التي يتملق رضاها في أوج قوتها، ترى ماذا سيقول الآن في تملق رضا الليبرالية الأمريكية أو الصهيونية اليهودية التي تهاوت عند أعتابها رؤوس كثيرة وتيجان؟.

إن هذا المقطع وأشباهه ليدلنا بوضوح على تآمر جماعة المرتزقة من كتاب الحداثة والعلمانية، تآمر على عقيدة الأمة وشريعتها وحضارتها وتاريخها، تآمر تخرج أصحابه في المحاضن الخاصة ليكونوا علامات خزي وعار على أمتهم

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 238 - 239.

ص: 1591

وليكونوا لها عدوًا وحزنًا، ولكن كرامة اللَّه لهذه الأمة بنصرها وحفظ دينها وكبت عدوها؛ معلومة معتبرة، ومأمولة منتظرة {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

(1)

.

وفي تلك الحقبة البائدة التي شاعت فيها مبادئ الشيوعية وعم طوفان العلمانية والاشتراكية، كان محمد الفيتوري -الذي أرجو أن يكون ما قيل اليوم عن أوبته صحيحًا- قد انغمس في هذا التيار الجاهلي الحاقد، فكان من ثمرات ذلك ديوانه المترع بالضلالات الاعتقادية، ومنها منادته بـ (انتقال الإنسان العربي، من واقعه القديم إلى واقعه الجديد، من واقع الركود الاجتماعي، والاستسلام الغيبي، الذي تتحكم فيه إرادة التقاليد، إلى واقع التناقضات الفكرية، والاضطرابات الاجتماعية، الذي تحركه إرادة التحول والتغيير)

(2)

.

وفي تلك الحقبة يكتب نقاد "الواقعية الاجتماعية" التي تعني أصحاب الانتماء اليساري، والماركسي خاصة، يكتبون كتبًا كثيرة، ويصدرون مجلات منها "مجلة الثقافة الجديدة" ومن الكتسب ذات الهوى الشيوعي الماركسي البحت كتاب "دراسات في الشعر العربي الحديث، وفق المنهج النقدي الديالكتيكي" الذي يقول فيه صاحبه: (إن التزام الشعر بالواقع والوجود لا يعني كونه خطابات سياسية مرتجلة بقدر ما لا يعني كونه تصورات غيبية سوداوية فوقية، وإن شاعرًا كالسياب الذي طرح مشاكله الذاتية والوجودية الكبرى "مشكلة الموت والجنس مثلًا" من خلال التجربة الثورية العربية التي التزمها، وهي مشكلة موضوعية على وجه التحديد استطاع أن يكون شاعرًا ملتزمًا على مستوى الواقع والوجود عندما لم تتحول أشعاره إلى خطابات سياسية مرتجلة أو رؤى وهمية ربوبية كاذبة)

(3)

.

والكتاب في مجمله دراسة مادية ماركسية لمجموعة من شعراء الحداثة العربية أبرز من خلالها المضامين المادية الجاحدة للغيب، في إخلاد واضح إلى الأرض والجسد والشهوات الحيوانية، وسقوط في ثلج باريس وغلايين

(1)

الآية 8 من سورة الصف.

(2)

ديوان الفيتوري 2/ 166.

(3)

دراسات في الشعر العربي الحديث لامطانيوس ميخائيل: ص 27.

ص: 1592

الإنكليز في سوهو، واعطاف الداعرات في هوليود، وانعطاف المنجل الشيوعي في موسكو أو بكين.

وفي تلك الغمرة اليسارية تنافس الماديون اليساريون في الانغماس في بحيرة الشيطان الماركسي، ومن ذلك قول أحد نقادهم في مقدمة كتبها لديوان الشيوعي العراقي سعدي يوسف:(كان الشعب بقواه الوطنية وجماهيره وأدبائه، يخوض نضالًا مريرًا ضد الاستعمار والحكومات الرجعية العميلة، والاقطاع والتخلف الثقافي، وسيطرة الفكر اليميني والغيبي، يوم بدأ سعدي يكتب الشعر، أو يحسب أنه يكتب الشعر. . .)

(1)

.

وفي تلك الفورة الماركسية اليسارية (عقدت "رابطة الكتاب السوريين" يوم الخميس 1 تموز 1954 م اجتماعًا عامًا بمناسبة مرور ثلاث سنوات على تأسيسها، وفي هذا الاجتماع، قررت الرابطة الدعوة لمؤتمر للكتاب العرب يعقد في دمشق، وقد انعقد المؤتمر في مقر "الجمعية السورية للفنون من 9 - 11 أيلول 1954 م وانبثقت عنه "رابطة الكتاب العرب" التي كانت من أهم الأحداث الثقافية في الخمسينات وقد كان "للثقافة الوطنية" دور رئيسي في التمهيد للمؤتمر، والدعوة إليه والمشاركة فيه، وتصف "الثقافة الوطنية"

(2)

بحوث المؤتمر بأنها لم تكن "مستمدة من الغيب. . . " لا ولم تكن أيضًا تنضح بالقلق والنزعات الغربية، والتفجع على مصير الإنسان في هذا العصر الآلي العجيب، الثقافة الوطنية العدد 15 تشرين أول 1954 م)

(3)

.

ويعبر أحمد دحبور عن عقيدته في اعتبار الإيمان بالغيب تخلفًا بقوله:

(ركب الغيب يعاني رمد الرؤيا. . يميد)

(4)

.

وبقوله:

(لا صوت ينبع من عروق الغيب)

(5)

.

(1)

ديوان سعدي يوسف: ص 19 والقول لطراد الكبيسي.

(2)

مجلة حداثية ماركسية النزعة.

(3)

الحداثة الأولى: ص 59.

(4)

ديوان أحمد دحبور: ص 63.

(5)

المصدر السابق: ص 75.

ص: 1593

أمَّا علاء حامد فإنه يعتبر إن الغيبيات التي جاء بها الإسلام قد مرغت عقل الإنسان في الوحل

(1)

، ويعتبرها علامة موات فكري وخزعبلات يعتنقها الناس لإهدار دم الحقيقة الرابضة على مدخل التحليل العلمي

(2)

.

وبعد هذه الأمثلة يتبين لنا فظاعة الجرم الحداثي ومقدار جنايته على الأمة في عقيدتها ودينها، ولكن مع ذلك نجد من يقول بأن الحداثة لا تعني الكفر، بل من يدعو إلى الجمع بينها وبين الإسلام، على طريقة القائلين: إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا!!

‌الوجه الثالث من أوجه انحرافاتهم في الغيبيات: السخرية بالغيبيات الحقيقية، وبالمؤمنين بها:

الاستهزاء بالدين وأهله من دأب أعدائه -دائمًا- من أقدم العصور إلى اليوم، وقد مر في مواطن من هذا البحث ذكر نماذج من استهزائهم بدين اللَّه وبالمؤمنين به، وبيان أن هذا الأسلوب من أساليب أسلافهم القدماء من كفار ومنافقي العصور الخالية، فهو إذن أسلوب رجعي، وطريقة ارتدادية يمارسها هؤلاء اليوم ولكن بتسمية كاذبة وادعاء أجوف، تحت عناوين التقدم والتحديث والتطور، فيا لها من مفارقات عجيبة!!.

ومن أمثلة السخرية بالغيبيات قول أدونيس في الخضر عليه السلام:

(ثم رأيتني مع الخضر

يده حول عنقي

يدي حول خاصرته

ورأيتني افترق عنه

بغتة

وأمشى على الهواء)

(3)

.

(1)

انظر: مسافة في عقل رجل: ص 191.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 201.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 565.

ص: 1594

ومن أبرز ألوان سخريته ما أورده في مقطوعة "رحيل في مدائن الغزالي" من أحداث عن حادثة الإسراء والمعراج، حيث جعل نفسه هو الذي أسري وعرج له، وأتى بشيء من أحداث الإسراء والمعراج وأضاف إليها من خرافات باطنيته، وسخريات ماديته في تهكم واستخفاف واضحين

(1)

.

وفي سَوْرة من سورات التشاؤم والغضب بعد المرض الذي أصاب السياب، وبعد أن أهمله أصحابه من الشيوعيين والقوميين والتموزيين، يود أن يمشي على قدميه بدلًا من العكازين ولو كان مشيه إلى القبر أو إلى جهنم، وهنا يستخف بالعذاب وبالموكلين به، ويظهر في هيئة الساخر الذي لا يبالي بهذه الأهوال العظيمة، يقول السياب:

(. . . وأسير أسير على قدمي!!

لو كان الدرب إلى القبر

الظلمة والدود والفراس بألف فم

يمتد أمامي في أقصى أركان الدنيا. . في نحر

أو واد أظلم أو جبل عال

لسعيت إليه على رأسي أو هدبي أو ظهري

وشققت إلى سقر دربي ودحوت الأبواب السودا

وصرخت بوجه موكلّها

لم تترك بابك مسدودًا؟؟

ولتدعُ شياطين النار

تقتص من الجسد الهاري

تقتص من الجرح العاري)

(2)

.

(1)

انظر: المصدر السابق 1/ 121 - 151.

(2)

ديوان السياب: ص 692 - 693.

ص: 1595

وعلى نمط السياب يقف صلاح عبد الصبور، الذي يصف غيبيات الجنة باستخفاف ساخر في قوله:

(من نام فشف فمات

مات شهيدًا، وتحول في أعطاف الجنة مصطبة يتكيء

عليها رضوان)

(1)

.

أمَّا أنسي الحاج فإن سخريته بالغيبيات تأتي في بين آخر، وذلك في قوله:(أفضل ما في الشيطان أنه على عكس أهل التعصب لا يدعي امتلاك الحقيقة)

(2)

.

أمَّا نزار قباني فإنه يستعرض -كعادته- قائمة شتائمه وسخرياته الموجه إلى هذه الأمة وكل ما يتعلق بكيانها ومقوماتها، ومن ذلك قوله لإحدى داعراته في قحّة لئيمة ينال من خلالها من الخضر عليه السلام، يقول:

(أعطيني الفرصة

كي ألتقط السمك السابح تحت مياه الخضر

قدماك على وبر السجادة. . حالة شعر

ويداك على البطن المتحمس للأطفال

قصيدة شعر

أعطيني الفرصة

كي اكتشف الحد الفاصل بين يقين الحب

وبين الكفر

أعطيني الفرصة

حتى أقنع أني قد شاهدت النجم

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 724.

(2)

خواتم: ص 65.

ص: 1596

وكلمني سيدنا الخضر)

(1)

.

ومن أقواله الساخرة المستخفة، الموجهة نحو الغيبيات، حديثه عن الموت سواء كان مراده الموت ذاته أو ملك الموت، يقول قباني:

(لو كان للموت طفل لأدرك ما هو موت البنين

لو كان للموت عقل

سألناه كيف يفسر موت البلابل والياسمين

لو كان للموت قلب. . تردد في ذبح أولادنا الطيبين)

(2)

.

ويصف رجلًا اسمه "غودو" تحت عنوان "بانتظار غودو" بأنه من أولياء اللَّه في تهكم واضح بالولاية والأولياء، بل يصفه بأنه اللَّه تعالى وتقدس عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا، يقول قباني عن "غودو":

(لم نره

لكن من رأوه فوق الشاشة الصغيرة

يبتلع الزجاج

أو يسير كالهنود فوق النار

ويخرج الأرانب البيضاء من جيوبه

ويقلب الفحم إلى نضار

يؤكدون أنه

من أولياء اللَّه، جلّ شأنه

وأن نور وجهه يحير الأبصار. . .

. . . لم نره

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 198.

(2)

المصدر السابق 2/ 284.

ص: 1597

ولم نقبل يده

لكن من تبركوا يومًا به

قالوا بأن صوته

يحرك الأحجار

وأنه وأنه هو العزيز الواحد القهار)

(1)

.

وفي سياق حقده "الشيوعي العمالي" على بلاد النفط يقول محمود درويش ساخرًا بالجنة وبالوعد الحسن من اللَّه للمؤذن وللشهيد:

(ومدينة البترول تحجز مقعدًا في جنة الرحمن - قلتم لي

وطوبى للممول والمؤذن. . والشهيد!)

(2)

.

أمَّا زميله في الكفاح "الشيوعي"! سميح القاسم فإنه يتحدث عن ضياع البشر ويسوق أخبار الغيب في تهكم بآدم وحواء عليهما السلام، وخروجهما من الجنة، ويذكر قصة قابيل وهابيل في سياق أساطير أخرى مثل الإله الفرعوني "راع" و"خوفو" والوثن العربي "اللات"، ثم يختم ذلك بالسخرية من إيمان المؤمنين باللَّه وبقدرته المطلقة، كل ذلك في مقطوعة بعنوان "الخطيئة والوثن"، ومما جاء فيها:

(دوري مع الإعصار! يا قطعان! ضيعك الرعاة!

وابكي ربيعًا مات. . مات!

وتهيأي للمسلخ المشؤوم تهدر فيه زاكية الدماء

من القرون الخاليات!

من يوم أنشب آدم المغدور في حواء نابًا

(1)

المصدر السابق 3/ 289 - 290.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 477.

ص: 1598

يغتذي من لحمه المغبون ينهل من دماه!

ويظل يؤمن أن في صلب الخطيئة هادر

ينبوع أسرار الحياة

ويهز صوت اللَّه أركان الوجود:

- اليوم تفقد جنتي! فاخرج يرافقك الشقاء

مدى رحيلك في يباب الأرض

خلفك موصدعدني، وأمسك لن يعود!!

- دوري مع الإعصار! يا قطعان! ضيعك الرعاة!

وابكي ربيعًا مات. . مات!

من يوم شاء اللَّه أن تهوي يدا قابيل،

قاتلتين، غائصتين في الدم، في الحياة

ويروح يصرخ من وراء السدل

في عسف الطغاة. . الأغبياء من الطغاة

- قابيل! يا قابيل! أين مضت بهابيل خطاه؟!

إذهب يرافقك الشقاء. . جزاء فعلتك الحرام!

قدر عليك السهد المبرح والسقام

وتند عن أرض الخلود العاهرة

صرخات بُقيا اللحم والدم والعظام!. . .

- الرب "راع"

(1)

!

ما زال يرمقه الملايين الرعاع

(1)

يظهر أنه يقصد اللَّه تعالى بهذا اللفظ بدلالة ما يليه من ألفاظ جلَّ اللَّه وتعالى وتقدس.

ص: 1599

يتعبدون ويرفعون له الذبائح والقرابين البريئة

يسجدون الليل. . حتى منتهاه

- ماذا وراء الصمت تكتم يا إله؟!

ويضج إعصار الحقيقة بين أغلال

تصفده بها الأوهام، غادرة الجموح، غبية التيار

نادمة المصير!

- لاسر في صمت الإله!!

لا شيء غير الجوع والحرمان والطوفان. . .

والرب "راع"

ما زال يعبده الملايين الرعاع

والمؤمنون الآبقون، وجوههم للات ترنو

في خنوع أبله، قطعانهم في الرمل تزحف

هاربين من الضياع إلى الضياع. . .

. . . واستسلموا للريح أن هدت عرائشكم

وقصفت الكروم الخضر

إن اللَّه يرزقكم غدًا من عنده الخير الكثير!

وإذا استباح الداء آلافًا من الأطفال

فاستلقوا على أعتاب برجكم العتيد

وعزّموا، تحمل نساؤكم توائم

إن ربكموا على كلٍ قدير!!)

(1)

.

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 311 - 316.

ص: 1600

أمَّا ممدوح عدوان فإنه يسجل سخريته بالجنة والطريق التي توصل إليها في قوله:

(حينما نادى علي:

"طل باب تتوخاه إلى الجنة

قد يفضي إلى باب جهنم

إن سر الدين باق

فتعلم. . كيف تبقى عنده الآن وتسلم! ". . .

وذووا. . ماتوا اختناقًا

لم أجد فيهم شهيدًا

وعلي أغلق الجنة باب إثر باب وتعمم

وأنا ما عدت أعلم

فيم أهرقنا دمانا

ووقفنا في الطريق!؟

وتركنا نسوة الحي على الدرب رقيق. . .)

(1)

.

أمّا علاء حامد فيبلغ به حقده على دين الإسلام أنه وصف المؤمنين بالغيبيات بالمرضى النفسيين الذين يحتاجون إلى مصحات نفسية، وحقيقة الأمر كما جاء في المثل العربي "رمتني بدائها وانسلت"

(2)

!!.

• • •

(1)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان، المجلد الأول، تلويحة الأيدي: ص 68 - 70.

(2)

مجمع الأمثال 2/ 23.

ص: 1601

‌الوجه الرابع من أوجه انحرافاتهم في الغيبيات: الإيمان بغيبيات تناسب أهواءهم وضلالهم:

كما سبق في بداية هذا الفصل أن الإيمان بما وراء الحس أمر فطري في الإنسان، الذي يتكون من طين وروح، فالطين هو الجسد المادي وطاقاته الحسية المتصلة بالحواس والأعصاب واللحم والدم وغيرها من أجهزة الجسم.

والروح قوام حياة الجسد، وهي منبثة فيه بكيفية لا يعلمها إلَّا اللَّه، انبثاث الماء في الشجر الأخضر، أو الزيت في ثمر الزيتون، وفيها الطاقة المعنوية التي بها يكون التفكير التصوري التجريدي الذي يدرك الكليات والمعنويات والتجريديات، ويدرك القيم العليا كالعدل والحق والخير، والجمال، ويحلم ويتخيل وغير ذلك من أعمال النفس وطاقات الروح.

والروح والجسد التي تنبني عليها هذه المناشط هي -رغم هذا التقسيم- تشكل كيانًا موحدًا، وطاقة متكاملة، هذا الكيان هو "الإنسان".

وقد عبثت الفلسفات المادية الحديثة بهذه المفاهيم غاية العبث، خاصة بعد ظهور خرافة داروين المسماة "النشوء والارتقاء"، فقد نحت هذه الخرافة بالإنسان منحًى ماديًا صرفًا، إذ جعلته مجرد مادة، مجرد جسد يأكل ويشرب ويسكن ويتناسل، أي أنه يولد ويموت جسدًا خالصًا، أو حيوانًا خالصًا، وحتى العقل الذي هو ميزة الإنسان الظاهرة الجلية أعادتها نظرية داروين إلى الطبيعية وإلى الاصطفاء الطبيعي!!.

وإذا كانت نظرية داروين هي الأساس الذي بني عليه الماديون الملاحدة أبحاثهم وفلسفاتهم الإلحادية وما تفرع عنها من علوم اجتماعية ونفسية وأدبية وسياسية، فإنه لابد من النظر في أصل هذه النظرية من جهة أنها تنفي الغيب ولا تؤمن إلّا بالمحسوس، واتباع هذه النظرية والمتأثرون بها هم كذلك لا يؤمنون بالغيب إذا جاء على لسان رسول أو في وحي معصوم.

ص: 1602

ولكن إذا جاء الغيب عن داروين أو غيره من فلاسفة المادية فإنهم يسلمون به، ويؤمنون به.

بل إنهم في معرض دفاعهم وجدالهم عن فرضية النشوء والارتقاء لا يترددون في اختراع عالم غيبي خاص بهم، يحيلون إليه ثغرات وسلبيات هذه الفرضية.

نأخذ النظرية في أصلها، فقد قامت على فرضيتين مسلمتين عند الداروينيين:

الأولى: أن العضويات الصغيرة في كل جيل من الأجيال تنزع دائمًا إلى أن تختلف اختلافات طفيفة عن آبائها في جميع الاتجاهات الممكنة.

الثانية: أن التغيرات المفيدة تنتقل إلى الأجيال التالية وتتراكم حتى ينتج عنها تغييرات جسمية عضوية

(1)

.

هاتان المسلمتان التي تنبني عليها نظرية التطور هي في حقيقتها "غيبية" فالفرضية الأولى مجرد تخمين غيبي خاطئ لا يدل عليه أي دليل حسي أو عقلي، والفرضية الثانية كذلك، إذ لا دليل من المشاهد أو المحسوس أو المعقول على أن التغييرات تتوارث وتتراكم عبر الأجيال.

ولو افترضنا أنهم قالوا رأينا آثار التغيرات والتطورات في المتحجرات، كان هذا دليلًا على غيبيتهم من وجه آخر، فإنهم استدلوا بالأثر على المؤثر، وهذا استدلال بالحاضر على الغائب وبالمشاهد على غير الشاهد، وهذه غيبية محضة.

ثم إن هذه الفوضية لا تبرهن على صحة نظرية التطور، وإنّما تفترض منذ البداية أن نظرية التطور صحيحة، ثم جاءت الفرضية لشرح هذه النظرية، وهذه "مصادرة على المطلوب" بل التسليم بأن المخلوقات التي نراها الآن

(1)

انظر: التطور عملياته ونتائجه لـ "إدوادر دودسن": ص 136، 539، وكتاب "اللَّه يتجلى في عصر العلم": ص 72.

ص: 1603

خلقت على هذه الخلقة وإن لم تتماثل أفراد النوع الواحد منها أقرب إلى المعقول من افتراض التطور ابتداءً، وهذه حقيقة لم تستطع المتحجرات أن تنفيها

(1)

.

ومن المسلمات المادية التي انبنى عليها هيكل المادية القول بأزلية المادة، وأنها "لا تفني ولا تستحدث من العدم" وعليها بنوا الزعم بأزلية الكون إلى حد جعل "برتراندراسل" يعتبره أمرًا لا يقبل الجدل

(2)

، بل ويعتبر حتى مجرد السؤال عن علة أو سبب وجود هذا الكون من الأمور غير المنطقية!!.

أليست هذه المسلمة المادية اعتقاد غيبي محض؟ ثم أليس الحتم والقطع فيها واعتقاد ثباتها بصورة جازمة من المسلمات الغيبية؟.

بلى هذه غيبية ضرورية، ولكنها غيبية ضالة منحرفة.

ومن المسلمات المادية إرجاع جميع الكائنات الحية إلى خلية أولية تفرعت منها سائر الأنواع التي ترى اليوم، وخاصة الإنسان الذي يرونه تطور في إحدى مراحله من القرد!!.

وهذه غيبية مادية إلحادية، لا برهان عليها من حس ولا عقل

(3)

، ومع ذلك سلمت بها عقول تحسب أنها على شيء من تجربة أو عقل أو حس {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}

(4)

.

ولأجل ذلك كله اضطرب داروين نفسه عند وصوله إلى هذه المضايق كما اعترف هو في كتابه "أصل الأنواع" حيث قال: (لا يبلغ القارئ الخبير إلى هذا الموطن من البحث حتى تعتريه صعاب شتى ومشكلات عديدة تزعزع من ثقته في صحة مذهبي، ولا جرم أن بعضًا من تلك المشكلات

(1)

انظر: مصرع الداروينية: ص 48.

(2)

انظر نص قوله بالإنجليزية في مصرع الداروينية: ص 49.

(3)

اقتبست هذه المسلمات من كتاب مصرع الدراوينية: ص 47 - 50.

(4)

الآية 40 من سورة النور.

ص: 1604

في الغاية القصوى من الشأن حتى إني ما فكرت فيها إلّا وداخلني شك وحفت بي ريب، غير أن العدد الأوفر من تلك المشكلات ظاهر، لا مناقضة فيه لحقيقة مذهبي والبقية الباقية على فرض صحتها لا تقوض دعائم المذهب ولا تنفيه جملة على ما أدري.

ولنعدد هنا تلك المشكلات لنتخذها للبحث أساسًا:

1 -

إذا كانت الأنواع قد تدرجت متسلسلة عن أنواع غيرها، متحولة في خطى دقيقة من النشوء، فلم لا ترى في شعب النظام العضوي تلك الصور الوسطى التي تربط بين بعضها وبعض؟ ولماذا لا تُرى الطبيعة في تهوش وتخالط يقتضيها تسلسل الصور، بل نرى الأنواع صحيحة لا خلل في نظامها ولا التباس.

2 -

هل من المستطاع أن حيوانًا له تركيب الخفاش وعاداته مثلًا قد يستحدث بالتهذيب وتغاير الصفات من حيوان آخر مختلف عنه اختلافًا بعيدًا في العادات والتركيب العضوي؟ وهل نقوى على الاعتقاد بأن الانتخاب الطبيعي في مستطاعه أن ينتج من جهة عضوًا في الغاية الأخيرة في اتضاع المكان كذنب الزرافة الذي تستخدمه لدفع الهوام عنها، وأن يحدث من جهة أخرى عضوًا غريب التركيب دقيق التكوين متعدد المنافع كالعين مثلًا؟.

3 -

هل من المستطاع كسب الغرائز وتهذيبها بالانتخاب الطبيعي؟ وماذا تقول عن تلك الغريزة العجيبة التي تسوق النحلة إلى بناء خلياتها على صورة من الإتقان برزت بالسبق إليها مستكشفات عظماء الرياضيين وأهل الرأي منهم خاصة؟.

4 -

بم نعلل عقم الأنواع لدى تلاقحها، وانتاجها إنسالًا عقيمة لا تلد؟ بينما يزيد التلاقح من صبوة التنوعات ويضاعف من قوة الإنتاج فيها!)

(1)

.

هذه الأسئلة الجذرية التي تنسف نظرية داروين من أساسها يتجاوزها

(1)

كتاب أصل الأنواع، المجلد الثالث، الفصل السابع: ص 4 - 71 نقلًا عن كتاب الإنسان والداروينية: ص 222 - 223.

ص: 1605

داروين ويعتبرها إشكالات ظاهرية لا تناقض مذهبه!!.

ومع كونها من أعمق المعوقات لفرضية مثل هذه الفرضية إلّا أنه تخطاها في تسليم غيبي للمقدمات والافتراضات التي وضعها، ولم يتمكن من الإتيان بإجابة صحيحة مقنعة لاعتراضات علمية وعقلية أوردها علماء في عصوه وفي غير عصوه وحتى اليوم

(1)

.

والمقصود من كل هذا الإيراد أن داروين رغم ماديته المحضة ورغم إلحاده الذي اعترف في مذكراته أنه وصل إليه أخيرًا، لا ينفك عن إيمان بغيبٍ ما.

والماركسية المنطلقة في المادية إلى أبعد مدى لا يستطيع أصحابها الانفكاك من "غيبية" مّا، وإن كانت غيبية منحرفة ضالة

(2)

.

فماركس أخذ من نظرية النشوء والارتقاء التي قالها داروين ونقلها إلى علم الاقتصاد وعلم الاجتماع، أخذ القول بالطبيعة الفاعلة الخالقة المؤثرة بدلًا من اللَّه تعالى، وهذه غيبية وعبادة للطبيعة من دون اللَّه، وأخذ القول بأن الكائنات تتطور تطورًا حتميًا تحت ضغط البيئة المادية الخارجية، وفي أثناء عملية الشطور تنقرض كائنات وأعضاء معينة لأنها لم تعد تلائم البيئة وينمو بدلًا منها أعضاء ووظائف جديدة أكثر تعقيدًا، وهذا التطور والتغير يحصل على الكائنات الحية رغمًا عنها، فلا إرادة لها ولا قصد، وإنّما هو مفروض عليها من الخارج أرادت أم لم ترد، ولا تملك هذه الكائنات أن تبطيء أو تسرع أو تتحول عن هذا الطريق التطوري التصاعدي، فالأمر في ذلك كله متروك "للطبيعة"!!، وقد طبق ماركس هذه الفرضيات الخرافية تطبيقًا كاملًا على التطور الاقتصادي والاجتماعي

(3)

، وهذه الفرضيات جميعها

(1)

انظر: مصرع الداروينية: ص 11 ولماذا أهمل الإعلام اليهودي اعتراضات زميل داروين "دالاس". وانظر: الإنسان والداروينية: ص 209 - 251، وهو مليء بالنقولات المهمة في اعتراض العلماء التجريبيين على داروين ونظريته. وانظر: كتاب العلم يدعو للإيمان فهو مخصص للرد على الداروينية.

(2)

انظر: الفنون الصغرى للظاهري، السفر الخامس: ص 40: الميتافيزيقيا الشيوعية.

(3)

انظر: الإنسان بين المادية والإسلام: ص 55 - 56.

ص: 1606

"غيبيات" ولكنها منحرفة تائهة في أودية الخرافة والتخمين، وكذلك ما انبنى عليها عند الماركسيين من صراع الطبقات، والجدلية المادية الديالكتيكية، وتأثير العالم الخارجي على العقل، وتأثير أساليب الإنتاج وغير ذلك من الأمور التي لا تخضع لقياس ولا تجربة ليست في حقيقتها سوى مسلمات غيبية مادية ضالة خضعت لها أعناق هؤلاء فاقتفوا أثرها، في تسليم كامل وتبعية عبادية وثنية خالصة!!.

أمَّا عبيد الغرب من الحداثيين والعلمانيين فهم أقل من هذا الشأن وأذل، إذ غاية ثقافتهم ومبلغ علمهم وآفاق طموحهم أن يتبعوا المذاهب الغربية المادية ولا يبتدعوا!! وإن يسيروا في ذيل قوافلهم مذعنين إذعان العبيد في أيدي النخاسين، أقول ذلك بعد طول تبصر ونظر في أقوالهم ومؤلفاتهم ومجلاتهم ومنتدياتهم، وإن اجتهد بعض منهم ليخرج بجديد من الأفكار والتصورات النتنة، فلا تجده يخرج عن أصول ومتون أساتذته الذين تلقى عنهم وأشرب حبهم في قلبه، فما أحرى هؤلاء بقول الشاعر:

(العبد لا تفضل أخلاقه

عن فرجه المنتن أو ضرسه

لا ينجز الميعاد في يومه

ولا يعي ما قال في أمسه

فلا ترجِّ الخير عند امرئ

مرت يد النخاس في رأسه

وإن عراك الشك في نفسه

بحاله فانظر إلى جنسه

فقلما يلؤم في ثوبه

إلّا الذي يلؤم في غِرْسِه)

(1)

وخاصة إذا قرأت أفكارهم المادية، وعبثياتهم الحيوانية وفوضوياتهم الخلقية، وقرنتها بأصول الفكر الغربي اتضح لك صدق هذه الأبيات في حقهم!!.

وأصدق منها وأدق وأكمل وأشمل قول اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ

(1)

الأبيات للمتنبي في ديوانه 2/ 205 بشرح العكبري.

ص: 1607

آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}

(1)

.

وقد مرّ بنا في ثنايا البحث في مواضع عديدة كيف أنهم انخلعوا من الإيمان الحق والعقيدة القويمة والدين الصحيح، ليستقروا في قاع الحوض الآسن، خوض المادية والوثنية.

وفي الفصل الرابع من الباب الأول "التصورات المتأثرة بالوثنيات والديانات المحرفة" أدلة عديدة على مقدار انغماس الحداثيين في الإيمان بوثنيات جاهلية من وثنيات اليونان والبابليين والفراعنة والهنداكة والبوذيين والمشركين العرب.

ولا غرو أن يكون الحداثيون العرب بهذه المثابة في التعلق بهذه الوثنيات، فقد تلقوا هذا عن الغرب واستوردوا هذه المضامين مع ما استوردوه من مادية وعلمانية وحداثة، ولقد عبر بدر شاكر السياب عن الاتجاه نحو الخرافات والأساطير الغربية بقوله:(إن اللجوء إلى الخرافة والأسطورة وإلى الرموز من مظاهر الشعر الحديث المهمة. . . نحن نعيش في عالم لا شعر فيه أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، إذن فالتعبير عن المباشر عن اللاشعر لن يكون شعرًا فماذا يفعل الشاعر إذن؟ يلجأ إلى الخرافات والأساطير التي لا تزال تحتفظ بحرارتها؛ ولأنها ليست جزءًا من هذا العالم)

(2)

.

هذه العبارات الواضحة الدلالة على ما نحن بصدده في إثبات إيمان الحداثيين بغيبيات وثنية وتعلقهم بأصنام جاهلية، ليس لها قيمة إلّا كما لأوثان الجاهليين العرب:"هبل واللات ومناة والعزى" غير أن الميزة الوحيدة للأوثان والأساطير والخرافات التي تعلق بها الحداثيون وآمنوا بها وجعلوها رموزًا للانبعاث والتقدم والتجدد أنها مستوردة من الغرب!!.

(1)

الآية 179 من سورة الأعراف.

(2)

مجلة شعر، العدد 3 تموز 1957 م: ص 111 - 112.

ص: 1608

ولذلك تبنى الغرب هذا الاتجاه من خلال مؤسساته الثقافية الاستخبارية مثل مؤسسة "فرانكلين" وحرية الثقافة

(1)

ومؤسسة "فلبرايت" ومؤسسة "فورد" ومؤسسة "روكفلر"

(2)

.

لقد قامت هذه المؤسسات بأدوار كثيرة في مواجهة الإسلام، في دعم العلمانية والأنماط الثقافية والسلوكية الغربية، وتجنيد العملاء المتدثرين بدثار الثقافة والأعلام، إلى غير ذلك من الأدوار والأعمال المشبوهة.

وكان العنصر الوثني والأسطوري -الآتي من الغرب أساسًا- من أهم العناصر الذي دعمته هذه المؤسسات؛ ليقوم بدور داعم للثقافة الغربية التي تريد أمريكا ودولة اليهود خاصة بثه ونشره في المنطقة

(3)

.

ومن أقرب البراهين على تبني الوثنيات البائدة تسمي مجموعة من شعراء الحداثة بالشعراء التموزيين

(4)

، وتسمى النصيري علي أحمد سعيد باسم الوثن "أدونيس" وفي خرافات هذين الوثنين المنطلق الاعتقادي والعملي لهؤلاء الحداثيين، ولمن جاء بعدهم ممن تأثر بهم "ولا يخلو حداثي مهما صغر من التأثر بهم".

ومن خلال هذا الانتماء الوثني ترسخت علاقاتهم بالوثنيات على أوسع قاعدة، وحاولوا أن يفلسفوا التجديد والتحديث والانبعاث من خلال أساطير تموز وأدونيس فلسفة توافق طموحاتهم الحداثية القائمة على هدم كيان هذه الأمة وتحطيم مقوماتها.

ولقد وجد جبرا والثلة التموزية الذين معه في إحياء الرموز الوثنية وإشاعتها خير مدخل إلى السوق الثقافي العالمي -الغربي بطبيعة الحال- وأبشع مخرج عن الأمة وتاريخها وحضارتها ودينها وقيمها، وقد عبر جبرا

(1)

انظر: ما كتبه عنها وعن علاقتها بالحداثيين، الحداثي محمد الأسعد في كتابه بحثًا عن الحداثة: ص 42 - 43، 48.

(2)

انظر: الغرب في مواجهة الإسلام لمازن مطبقاني: ص 34.

(3)

انظر: الاعتراف بهذه الحقيقة في كتاب بحثًا عن الحداثة: ص 42 - 43.

(4)

وهم: أدونيس ويوسف الخال والسياب وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا.

ص: 1609

عن هذا بقوله: (لقد نبهتنا نكبتنا الكبرى إلى حقيقة الذبول الذي أصاب شعبًا كبيرًا قرونًا عديدة، إلى حقيقة العتة الروحية التي ماعدنا نستطيع تحملًا لها، فوجد شاعر كيوسف الخال في الأسطورة البابلية خير رمز لمعاناتنا)

(1)

.

ويعني هذا القول أنهم وجدوا المبتغى الروحي الذي يريدون في هذه الوثنيات والأساطير، التي أنقذتهم من "العنّة الروحية" حسب تعبير جبرا.

ولا يقتصر اعتقادهم في هذه الأوثان على مجرد استلهام مضامينها الخرافية -على ما في ذلك من وثنية وانحراف وضلال- بل توجهوا إليها بالعبادة والدعاء واعتقاد الخصيب والإحسان وطلب السقيا، شأنهم شأن أي جاهلي كان يركع للانصاب والأزلام، يقول السياب عن الوثن "عشتار":

(عشتار، أم الخصب، والحب والإحسان، تلك الربة الوالهة)

(2)

.

وينادي تموز متضرعًا:

(يا رب، تمثالك

فلتسق كل العراق

فلتسق فلاحيك، عمالك)

(3)

.

ويقول أيضًا في دعاء وثني ضارع، واصفًا الوثن بالربوبية:

(يارب تمثالك

فاسمع صلاة الرفاق

ولترع فلاحيك عمالك

تمثالك البعل

تمثالك الطفل

(1)

الحداثة الأولى: ص 114.

(2)

ديوان السياب: ص 383.

(3)

المصدر السابق: ص 435.

ص: 1610

تمثالك العذراء)

(1)

.

وبشابه هذا التضرع والعبادة الوثنية تضرع البياتي وتبتله العبادي للوثن عشتار إله الخصب عند الفينيقيين، يناديه ويبحث عنه، ويتمناه، ويتضرع إليه أن يخلصه من السماء من الدين وعبادة رب العالمين، ويتمنى أن تنهلّ عشتار كالنجمة مستجبية دعاءه ملبية تضرعه، هذا وهو الماركسي المادي!!.

(وتمزقت وناديتك باسم الكلمة

باحثًا عن وجهك الحلو الصغير

في عصور القتل والإرهاب والسحر وموت الآلهة

وتمنيتك في موتي وفي بعثي وقبلت قبور الأولياء

وتراب العاشق الأعظم في أعياد موت الفقراء

ضارعًا أسأل، لكن السماء

مطرت بعد صلاتي الألف ثلجًا ودماء

ودمى عمياء من طين وأشباح نساء

لم يرين الفجر في قلبي، ولا الليل على وجهي بكاء

فمتى تنهل كالنجمة عشتار وتأتي مثلما أقبل في ذات مساء

ملك الحب لكي يتلو على الميت سفر الجامعة

ويغطي بيد الرحمة وجهي وحياتي الفاجعة)

(2)

.

ولست أريد هنا أن أستعيد ما سبق ذكره في الفصل الرابع من الباب الأول، وإنّما ذكرت بعض الشواهد على كون الحداثيين الذين يحاربون الغيبيات الحقيقية التي جاء بها الإسلام، ويجحدونها ويسخرون بها

(1)

المصدر السابق: ص 436.

(2)

ديوان البياتي 2/ 206.

ص: 1611

وبالمؤمنين الموقنين بما جاء من رب العالمين، والذين ما فتئوا يرددون أن الإيمان بالغيبيات رجعية، هؤلاء بأعيانهم آمنوا بغيبيات باطلة زائفة لا حقيقة لها، غيبيات جاهلية وثنية، وخرافات أسطورية.

قال اللَّه تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)}

(1)

.

ومن مقتضيات الفطرة أن الإنسان لابد أن يؤمن بغيب ولابد أن يتعبد لرب، ولكن الذي نراه من كلام الحداثيين أنهم ينفون الغيب ويجحدون الرب، فما حقيقة ذلك؟.

أمَّا الغيب فهم يؤمنون به رغمًا عنهم بمقتضى الفطرة الإنسانية ولكنه -كما سبق- غيب وثني جاهلي مادي منحرف ضال، وأمَّا الرب فإنهم دانوا لأرباب كثيرة من الأشخاص والمناهج والمذاهب تركوا دين الإسلام، نعم، ولكنهم استعاضوا عنه بدين الحداثة، تركوا غيبات الإسلام، نعم، ولكنهم أخذوا بدلًا عنها غيبيات الأوثان وغيبيات الداروينيين وغيبيات الحداثة.

(1)

الآيات 17 - 27 من سورة النحل.

ص: 1612

هذه حقيقة ثابتة، لست أنا وحدي الذي أقولها أو اكتشفتها بل قالها نقاد الحداثة أنفسهم، فها هو محمد جمال باروت يتحدث عن هذه القضية في مثال واحد هو "حركة مجلة شعر" التي عبر عن مقاصدها أحد أعلامها في قوله عن الشعر أنه (ميتافيزيقا الوجود، حينما يصبح الوجود معبرًا عنه في الحياة)

(1)

.

ويؤكد باروت على أن الفهم الذي قامت عليه حركة مجلة شعر (قاد إلى أوهام نخوية ومثالية وميتافيزيقية عن طبيعة الشعر ووظيفته، تحول معها الشاعر إلى نمط آخر من الأنبياء والعارفين والرأيين والمتعالين)

(2)

.

وينقل عن أحد نقاد مجلة شعر قوله: (وكل شعر لم يعبر عن صولة هذا القدر وعن الغصة الكيانية التي يقاسيها الإنسان أو عن الفرح الذي ينبثق عن رؤيا الشاعر إذ ينفذ إلى عالم الغيب وراء المرئيات وعن دهشته وتعجبه وافتتانه إذ ينتظر إليه، فليس شعرًا)

(3)

.

أمَّا أدونيس الذي جعل الحديث من الماضي والغيبيات من ظواهر الخلل الفكري عند العرب

(4)

، والذي جعل الإيمان الغيبي سببًا لعرقلة الوعي

(5)

، والذي وصف الشاعر الثوري بأنه لا يُمكن أن يكون ثوريًا إلّا برفضه لقيم السماء وتعلقه بقيم الأرض

(6)

، يقرر مع هذا كله -في تناقض صارخ-:(أن الميتافيزيقية هي الخاصية الرئيسية في نتاجها الشعري الحديث [يقصد مجلة "شعر"] فالكائن العربي المعاصر هو، في شعرنا كائن ميتافيزيقي، يغوص إلى عمق الأعماق ويتضامن مع الآخر، ويحيا مصلوبًا فوق الخيط الذي يصل بين سيزيف والمسيح، بين اليأس ويقين الأمل)

(7)

.

(1)

الحداثة الأولى: ص 51 والقول لمطاع صفدي.

(2)

المصدر السابق: ص 222.

(3)

المصدر السابق: ص 66 - 67 ونقل القول عن ماجد فخري.

(4)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 103.

(5)

انظر: المصدر السابق 3/ 227.

(6)

انظر: زمن الشعر: ص 108.

(7)

مجلة شعر عدد 16 خريف 1960 م: ص 250.

ص: 1613

نعم قد يبدو هذا متناقضًا مع الأقوال السابقة، ولكن إذا نظرنا إلى الخيط الغيبي الذي يريد أن يصل به الميتافيزيقية الحداثية وجدناه يصل إلى اليونان والنصارى، وهذا المقصد يتفق مع المشروع الحداثي في محاربة الإسلام، سواء جاءت هذه المحاربة تحت راية المادية الإلحادية، أو تحت راية الوثنية اليونانية، أو تحت راية النصرانية أو النصيرية، فالهدف واحد.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه زعماء العلمنة والحداثة العرب أن الإنجاز ما عاد يقاس بالإنسجام مع مفاهيم غيبية بل بالعقلانية والقيم الجديدة المستبدلة فكرة البشرية بفكرة الألوهية

(1)

، في الوقت ذاته يجعلون الحداثة دينًا وغيبًا "ميتافيزيقيا" ويؤلهونها ويعبدونها.

يقول أحدهم: (الشعر هو الميتافيزيقيا وهو الأسطورة)

(2)

، ويؤكد أن (اعتبار الشعر أسطورة أو ميتافيزيقيا تغلغل في المفاهيم النقدية بتأثير الترجمات المتتابعة لكتب الأساطير والأبحاث المتعلقة بها، مثل كتاب أدونيس لجيمس فريزر عام 1957 م الذي يقول مترجمه جبرا إبراهيم جبرا أنه كان ذا "أثر عميق في الإبداع الأدبي في أوروبا بما هيأه للشعراء والكتاب من ثورة رمزية وأسطورية نرجو أن يقبل عليها أدباؤنا أيضًا لإغناء أدبنا الحديث" ثم توالت الكتب المترجمة بعد ذلك مثل كتاب "ما قبل الفلسفة" و"الغصن الذهبي" ونشرت عدة دراسات تعارض أو تعزز هذا الاتجاه، ووصل الأمر بدعاة "أسطرة" الشعر إلى القول بأن الشعر، ما هو إلا الميتافيزياء. . .)

(3)

.

ويصف باروت الأسس التي رست سفينة الحداثة في موانئها العديدة المختلفة، وليس من بينها مطلقًا أي ميناء إسلامي فيقول شارحًا أسس الرؤية الحداثية

(4)

:

(1)

هذا القول لهشام شرابي في قضايا وشهادات 2/ 18.

(2)

بحثًا عن الحداثة: ص 86.

(3)

المصدر السابق: ص 101.

(4)

من خلال دراسته لديوان "أغاني القبة" لخير الدين الإسلامي.

ص: 1614

(1 - تشويش الوعي، ضمن المنظور الصوفي لعالم الداخل، والذي هو بالدرجة الأولى منظور كشفي، فالشعر لديه هو ما تلتقطه "عدسة الغيبوبة" في اكتشافها واستقصائها لـ "ساحة ما وراء الطبيعة" وهو ما "يفيض له اللاشعور المستعر ويخنس الوعي". . .

2 -

الربط بين مفهوم "الرؤيا" الشعرية "اللاشعورية" إلى الحد الذي يترادفان فيه، ويصبح فيهما الشعر حالة من "السكر" و"الإشراق" تعطي الأولوية للبحث الميتافيزيقي عن المطلق)

(1)

.

وهذا النص يعيدنا إلى ما سبق ذكره في الفصل الرابع من الباب الأول من تأثر الحداثة بالفرق المنتسبة إلى الإسلام مثل الفرق الشيعية، الرافضة، والباطنية بفرقها العديدة، والصوفية الفلسفية، التي يعتبر تراثها -المدنس بالشركيات والخرافات- معينًا لشعراء الحداثة، بجامع المجانسة بين كلا الاتجاهين في الإيمان بغيبيات ضالة خرافية وجحد الغيبيات التي ثبتت بالوحي الصحيح.

وهذا جانب آخر من جوانب الغيبيات الحداثية، يضاف إلى الجوانب السالفة الذكر.

وفي الكتاب الذي قرر فيه أدونيس أن الإيمان بالغيب ظلام ورجعية ووسبب لعرقلة الوعي

(2)

، يقرر فيه أيضًا أن الحداثي يكشف الغيب ويعلم به، ويشبهه بالأنبياء شرفهم اللَّه وأعزهم عن هذا التدنيس، كل ذلك تحت عبارات مموهة خادعة هي "الرؤيا" و"الرؤيا الإشراقية" و"الحلم" و"الكشف" و"الخيال" والتي تصب كلها في أن الشاعر الحداثي يعلم الغيب ويتجاوز حدود المحسوس والمعقول إلى آفاق يتحد فيها مع الحقيقة بالكشف الصوفي والاتحاد الصوفي، والاستبطان الصوفي، ولم يقل الباطني، مع أن العقيدة الباطنية أقرب إلى هذه المفاهيم من عقائد فلاسفة التصوف الذين شاركوا الباطنية في مفاهيمهم الضالة هذه.

(1)

الحداثة الأولى: ص 237 - 238.

(2)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 275، 277.

ص: 1615

يقول أدونيس بعد أن وصف جبران خليل جبران بالنبوة وفصل حيثيات هذا النعت بأنها نبوة مفرغة من دلالتها الإلهية، وأن جبران بموقفه النبوي -حسب تعبير أدونيس- وبطموحه النبوي صار (يرى الخفي المحجوب ويلبي نداءه، ويسمع أسرار الغيب، ويعلنها، والمعلوم عنده ليس إلّا مطية إلى المجهول)

(1)

.

بعد هذه الأوصاف يتحدث أدونيس قائلًا: (يصح في هذا الضوء، أن نسمي جبران كاتبًا رؤيويًا، والرؤيا في دلالتها الأصلية، وسيلة الكشف عن الغيب، أو هي العلم بالغيب، ولا تحدث الرؤيا إلّا في حالة انفصال عن عالم المحسوسات. . . وتتفاوت الرؤيا عمقًا وشمولًا، بتفاوت الرائين، فمنهم ممن يكون في الدرجة العالية من السمو، من يرى الشيء على حقيقته، ومنهم من يراه ملتبسًا، وذلك بحسب استعداده، وأحيانًا يرى الرائي في حلمه، وأحيانًا يرى في قلبه وبقدر ما يكون الرائي بقلبه مستعدًا لاختراق عالم الحس أو حجاب الحس تكون رؤياه صادقة. . . فالرؤيا إذن نوع من الاتحاد بالغيب بخلق صورة جديدة للعالم، أو بخلق العالم من جديد. . . والرؤيا إذن تعني ببكارة العالم، ويعني الرائي بأن يظل العالم له جديدًا، كأنه يخلق ابتداء، باستمرار.

ومن هنا ضيقه بالعالم المحسوس لأنه عالم الكثافة، أي عالم الرتابة والعادة، وانشغاله بعالم الغيب الذي هو مكان التجدد المستمر، من حيث أنه احتمال دائم.

ومن هنا كذلك يرفض الرائي عالم المنطق والعقل، فالرؤيا لا تجيء وفقًا لمقولة السبب والنتيجة، وإنّما تجئ بلا سبب في شكل خاطف مفاجيء، أو تجيء إشراقًا.

والرؤيا إذن كشف، إنها ضربة تزيح كل حاجز، أو هي نظرة تخترق الواقع إلى ما وراءه. . .

(1)

المصدر السابق 3/ 165 وقد أسند في الهامش الأقوال إلى مواضعها من كتب جبران.

ص: 1616

والرؤيا هنا تتجاوز الزمان والمكان، أعني أن الرائي تتجلى له أشياء الغيب خارج الترتيب أو التسلسل الزماني وخارج المكان المحدود وامتداده. . .

والرؤيا إذن إبداع، ويُمكن تعريف المبدع، على صعيد الرؤيا، بأنه من يبدع في نفسه صورة خيالية أو مثالًا، ويبرزه إلى الوجود الخارجي" وكل شخص لا ينطلق من هذا الإبداع في نفسه لا يسمى مبدعًا. . .)

(1)

.

أدونيس هنا يقر بعالم الغيب ويؤكده بل ويجعله مجال الإبداع وأفق الرؤيا، وهناك -في الكتاب نفسه- ينفي الغيبيات ويجحدها ويجعل الإيمان بها من علائم التخلف، لماذا؟.

الغيبيات التي يسعى أدونيس -وسائر الحداثيين- في اطراحها هي الغيبيات التي أثبتها الإسلام وجاء بخبرها القرآن وصحيح السنة، والغيبيات التي يثبتها هنا هي غيبيات الحداثة من الوثنيات والأساطير اليونانية، حتى السوريالية، ومن غيبيات داروين وماركس وفرويد، حتى غيبيات الباطنية والصوفية، المهم في ذلك كله ألا تكون هذه الغيبيات مما جاء به الإسلام، فهل من إباء في نفوس المسلمين يبعث حمية الإسلام في قلوب تحب اللَّه ورسوله ودينه، فتدفع غائلة هذا الجور الحداثي والظلم الإلحادي الذي انفسحت له صدور المنتديات والملاحق الأدبية والمكتبات:

(إذا المرءُ لم يدفع يد الجور إن سطت

عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده

وأقتل داء رؤية المرء ظالمًا

يسيء ويتلى في المحافل حمده

علام يعيش المرء في الدهر خاملًا؟

أيفرح في الدنيا بيوم يعده؟

يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعه

كذي جرب يلتذ بالحك جلده)

(2)

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 166 - 168.

(2)

ديوان محمود سامي البارودي 1/ 116.

ص: 1617

ومن نوافذ أدونيس على الغيب -غير ما سبق ذكره- قوله:

(فينيق خل بصري عليك، خل بصري

ألمح خلال نارك الغيب الذي يختبيء - الذي

يلف جرحنا

وألمح الركام والرمال والدجى

واللَّه في قماطه، اللَّه الذي تلبسه إيامنا

حرائقًا غصصًا وجدُرا

تلبسه ولا ترى)

(1)

.

هذا هو التجديد الحداثي!!، وهذه هي الغيبيات التي يرى من خلالها أهل الحداثة!!، تقديس لفينيق في مقابل الاستخفاف باللَّه -جلَّ وعلا-، إعلاء لشأن الأوثان، وتهوين لجلال الرحمن عز وجل إعادة بنيان الوثنية المندثر، ومهاولة لهدم بنيان التوحيد، وتقويض دعائم ملة الإسلام، هذا ملخص مراد الحداثة والحداثيين، وفي النص الأدونيسي السابق وما قبله خير برهان على هذا، ولكن الإمعات لا يفقهون!!.

ويشرح أدونيس خطته الحداثية التي تبدأ من بيارق الرفض -وكل باطني رافضي- وتنزل إلى معركة يحارب فيها القمر والهلال رمز المسلمين، ويقاتل الدين الذي يصفه بأنه عنقاء خرافية، عنقاء مشعوذة، وينحني لصداقة البرق والرعد: الحداثة والغرب وفروعها، ثم يجعل العقرب -شبيهه في الفسق والأذى- وطنًا، ويصبغ هذا الوطن بالحلم الغيبي الوثني الحداثي، مجد يكتبه الكاهن سطيح والرخ الطائر الخرافي، فيقول:

(تحت بيارق الرفض أسرج كلماتي - في مخضون وجهي

عرس آخر والأرض بين يدي امرأة

أحارب لحمي الممزق، انحنى لصداقة البرق، وبالرعد

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 168.

ص: 1618

أمسح جراحي

قاتل القمر أنا، قاتل العنقاء المشعوذة، أركب صهوة

السمندل واتنشق الجمر

العقرب يرتسم وطنًا، الضفدع يلبس قناع التاريخ، المجد

يكتبه سطيح والرخ - لكن صراخي سيبقى: آه يا قفا العالم

آه يا عذوبة الأشياء المنكرة)

(1)

.

ولا يستنكف أدونيس من وصف نفسه وكلامه بالغيبي، فقد لقن أتباعه ما يكفي لنفي الغيب الحقيقي، ولينشيء لنفسه عالمًا من الهالات الغيبية لتتبعه العقول الغبية

(2)

، يقول:

(وأنا الصاعق الحدود، أنا الرحم الأولية

ويقولون: هذا غموض

ويقولون: غيب

غيبي كلماتي

غيبي خطواتي

واجمحي وخذيني

أيها الشهوة الملكية)

(3)

.

وبعد هذا الاستعلاء الزعامي الإبليسي تسمع هتاف المصفقين من الأتباع المخذولين، وترى مكاءهم التبجيلي على صفحات الملاحق الثقافية وفي المنتديات:

(مثلما تخبط الرياح الرياح

ادبروا، اقبلوا، أصاحوا، وصاحوا

(1)

المصدر السابق 1/ 233.

(2)

انظر إثبات ذلك وتوكيده في كلام كاظم جهاد في كتابه أدونيس منتحلًا: ص 12 - 13، 22.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 490 - 491.

ص: 1619

مثلما تكمن الأفاعي تخفّوا

وكما تحرق المحاطيب لاحوا

وكما يبرد النحاس ويحمي

أشهروا، أغمدوا، أغذوا، أراحوا)

(1)

ومع أن فحيح الحداثة لا ينقطع في كتابات أدونيس إلّا أنه يمزجه بفحيح آخر مستجلب من الأصقاع الباطنية، بل إنه لا ينفك يردد مضامين باطنيته في كل فرصة تتاح له، ومن أمثلته قوله:

(وقال القرمطي:

الجسد صورة الغيب

وحمل الأرض في كتفي ناقة وأعلن

أنا الداعية والحجة)

(2)

.

ثم يعقب على هذا مباشرة بخطاب يوجهه للقرمطي يدعوه أن يستغويه!! ليتوافقا ويتناصرا، وصولًا إلى الإباحية:

(استغونا أيها السيد استدرجنا

قل لنا من كذب ومخرق

مَن البلية

من خدع الجسد بنواميسه؟

استغونا استدرجنا

نتوافق نتناصر

ننصب الدعوة

وندخل في تميمة الإباحة)

(3)

.

(1)

كائنات الشوق الآخر لعبد اللَّه البردوني: ص 23.

(2)

و

(3)

المصدر السابق 2/ 564 - 565.

ص: 1620

{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}

(1)

، هنا ندرك مظاهر التآمر الآثم، والخبث المتراكم والهدم المتعمد، والتوجه القاصد نحو كل دسيسة نجسة.

وقد تبحر أدونيس في ظلمات الغيبيات الوثنية والمادية والباطنية، ولم يقتصر على ذلك بل امتد إلى غيبيات ثابتة في أصلها، جاء الخبر عنها في الوحي المعصوم في الكتاب والسنة مثل: الشيطان والجن والسحر والكهانة والعرافة وأشباهها، غير أنه تحدث عنها بأسلوبه الحداثي الباطني، حيث سخرها في رمزية أسطورية لتحقيق مآرب حداثية، ومقاصد باطنية، فمن ذلك وصف نفسه ومن على منواله ومنهجه بالساحر والكاهن والعراف الشيطان؛ لأن هؤلاء -في تصوره- أصحاب قدرات غيبية خارقة وأفعال باهرة، ومناقضة واضحة للدين، فهو يضعهم في منصب الأسوة، ويجعلهم نماذج للاقتداء!!.

انظر إلى قرناء المرء تعرفه

بهم وإن أنت لم تكشفه عن خبر

(2)

.

يقول أدونيس عن "العهد الجديد" عهد الحداثة:

(يجهل إن يتكلم هذا الكلام

يجهل صوت البراري

إنه كاهن حجري النعاس

إنه مثقل باللغات البعيدة

هوذا يتقدم تحت الركام

في مناخ الحروف الجديدة)

(3)

.

ويتواصل مع صنوه الشيطان تواصلًا حقيقيًا، فمرة يعد نفسه يرى كل

(1)

الآية 118 من سورة آل عمران.

(2)

ليزيد بن معاوية كما في مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي: ص 419.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 264.

ص: 1621

شيء من الخطوة الأولى على وفق دعواه الإلحادية بنبوة الشاعر الحداثي، ولكنه يحيل قدرته المزعومة هذه إلى كونه غنّى في عرس الشيطان وحضر وليمة الخرافة، وقد صدق وهو كذوب فإنه تلقى عن الشيطان وشرب من رجسه، وحضر ولائم خرافاته {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}

(1)

.

يقول أدونيس:

(قلت لكم أصغيت للبحار

تقرأ لي أشعارها، أصغيت

للجرس النائم في المحار

قلت لكم غنيت

في عرس الشيطان في وليمة الخرافة

قلت لكم رأيت

في مطر التاريخ، في توهج المسافة

جنية وبيت

وأنني أبحر في عينيّ

قلت لكم رأيت كل شيّ

في الخطوة الأولى من المسافة)

(2)

.

أي أنه يرى الغيب ويكشف المغيبات، ويرى ما لا يُرى، ويعرف كل شيء، ويتوقع ما يُمكن أن يحدث، وهي دعاوى دأب أدونيس على تكرارها ليطبع في أذهان اتباعه القدرة الخارقة له فتذعن له عقولهم وقلوبهم، وهذا ما حصل فعلًا!!.

(1)

الآية 36 من سورة الزخرف.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 309.

ص: 1622

وفي موضع آخر يدعو قرينه الشيطان قائلًا:

(أيها الشيطان يا مركبتي فوق النجوم. . .

أهجرُ الأحلام في أهدابك المرتجفة

وابْقَ في حنجرتي

أيها الشيطان يا مركبتي تحت النجوم)

(1)

.

ولا يكتفي بشيطان واحد يقترن به بل يخترع شياطين أخرى ويدخل معهم في سياق، وهم أتباعه وأشباهه من الحداثيين، يقور:(أبتكر ماءً لا يرويني، كالهواء أنا ولا شرائع لي - أخلق مناخًا تتقاطع فيه الجحيم والجنة، أخترع شياطين أخرى وأدخل معها في سباق وفي رهان)

(2)

.

وفي حوار أجراه بين امرأة ورجل، ويريد نفسه بذلك، جعل نفسه من سلالة الشيطان، وهذه حقيقة من جهة عقيدته وأفكاره، وفي قوله هذا تمجيد للشيطان، وإجلال وتعظيم، وقد أوضحت آنفًا مراده بهذا، يقول أدونيس على لسان المرأة التي تسأل:

(- من أنتَ؟

- بهلول بلا مكان

من حجر الفضاء من سلالة الشيطان)

(3)

.

وهكذا -بعيدًا عن أي التباس أو توضيح- يرسم أدونيس لنفسه وللحداثيين شجرة النسب غير الزكية، ويوضح موقعهم من هذه الشجرة: إنهم من سلالة الشيطان.

وهو إذ يكشف هذه الحقيقة لا يزيد القضية إلّا تأكيدًا فمن اطلع على

(1)

المصدر السابق 1/ 345.

(2)

المصدر السابق 1/ 405 تحت عنوان "مزمور" وكان يعتبرها كلامًا نثريًا ثم بدا له أن يعتبر شعرًا وقرر ذلك في عام 1965 م كما ذكر ذلك في 1/ 6.

(3)

المصدر السابق 2/ 27.

ص: 1623

قليل من كتاباتهم علم أنهم {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}

(1)

.

وأيقن أنهم قد أزتهم الشياطين وأخذت بأعناقهم في مستنقعات الزيف والضلال والعمالة {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)}

(2)

، فهاهم باعترافهم الكامل ينتسبون إلى الشيطان بكل اعتزاز، لا جرم أن لهم هذه النسبة بأوسع معانيها {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}

(3)

.

وليس هذا الانتساب للشيطان والتمجيد له مما اختص به أدونيس بل غيره على منواله، ومن ذلك قول أنسي الحاج:(أفضل ما في الشيطان أنه على عكس أهل التعصب لا يدعي امتلاك الحقيقة)

(4)

.

ولا ريب أنه أخذ خبث الشيطان وقذارته، إلى الحد الذي جعل أدونيس يخاطبه قائلًا:(أحييك يا أنسي، أيتها القصيدة المارقة، أيها الشيطان الأصغر يا صديقي يا أخي)

(5)

في رسالة يؤكد فيها أدونيس أوصافًا شيطانية لا تليق إلّا بهم منها قوله: (نحن هداميون، وكل منا قائد اللوعة والرماد، كل منا الهلع والضرب، الوجود حد لنا، وجودكم كريه، كريه عدو، لن نتقبله لن نصادقه. . . هكذا نعلن أنفسنا غواة وخائنين، الهاوية تأتي معنا، نعرف ذلك، سنعمقها، سنوسعها، سنصنع لها أجنحة من الريح والضوء)

(6)

.

لو وصف إبليس نفسه وأعماله وطموحاته التخريبية بوصف ما أخاله

(1)

الآية 19 من سورة المجادلة.

(2)

الآية 83 من سورة مريم.

(3)

الآيات 221 - 223 من سورة الشعراء.

(4)

خواتم: ص 65.

(5)

زمن الشعر: ص 231.

(6)

المصدر السابق: ص 227.

ص: 1624

يزيد على هذه الأوصاف ولو تتبعنا وصف اللَّه تعالى لخطوات الشيطان لوجدنا أكثرها في هذا الوصف الذي أطلقه أدونيس على نفسه وصاحبه وسائر أتباع مذهبه.

ومن الانتساب للشيطان قول توفيق زياد:

(ألف شيطان يغني، في فؤادي ويهني

إنها فرحة عمري. . فرحة أكبر مني

من أزاميلي وأحلامي وما يصنع فني)

(1)

.

فهذا شهد على نفسه، وصدق، وهو الماركسي الكذوب، أن الشياطين في فؤاده تغني، ولكن العجيب في أمرهم أنهم يفرحون ويفتخرون بذلك "فرح الجعل بدحروجته".

(وإذا الفاحش لاقى فاحشًا

فهناكم وافق الشن الطبق)

(2)

ولذلك تجد الثناء على الشيطان وعلى مواقفه!! وخاصة في معصية للَّه ومعارضته لأمره، ويعتبرونه بهذا الموقف رمزًا لهم في الرفض والتجاوز، والإثم والعصيان والمخالفة للسائد، والرد على اللَّه تعالى، والمناؤة لشريعته والتكذيب لخبره، وفي ذلك يقول أمل دنقل:

(المجد للشيطان. . معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

من علم الإنسان تمزيق العدم

من قال "لا" فلم يمت

وظل روحًا أبدية الألم)

(3)

.

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 163.

(2)

لمسكين الدارمي. انظر: مجمع الحكم والأمثال: ص 399.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل: ص 110.

ص: 1625

وكذب الحداثيون وصدق اللَّه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}

(1)

.

وفي مواضع أخرى يصف أدونيس نفسه بأنه عزاف، ويمارس العرافة، وهي صورة مكررة لوصفه نفسه بالكهانة، يقول أدونيس:

(وانشق الرغيف كأنه أفق النبي

وأنا العرافة

ودخلت في لهب المسافة

أتزوج النار البعيدة فيّ، اقتلع الزمن

كالعشب)

(2)

.

ويقول:

(وأنا اليوم نكهة كوكبية

أتمرأى، وأصهر الدهر مرآة انخطاف لوجهي العراف

للنهار المسنون كالقلب، للفتح

لسحر الأبعاد والأطراف)

(3)

.

ويقول في المقطوعة نفسها:

(فأنا عاشق غريب تيممتها، والعرافة

كوكبي، يا بريد المسافة

(1)

الآية 50 من سورة الكهف.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 130.

(3)

المصدر السابق 2/ 196.

ص: 1626

رافقتني الرياح وأحجارها النبوية)

(1)

.

وفي ميدان الكهانة والعرافة يركض إلى السحر والجن راسمًا لنفسه هالات من القدرة على اكتناه الغيب -مع أنه ينكر الغيب- ولكنها طقوس الحداثة ولوازم الترؤس على الأتباع الأغمار حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام.

يقول أدونيس:

(ساحر أنا واسمها البخور والجرن

ساحر أنا وهي مجاميري وهيكلي في بدايات الجمر

أتطاول في كثافة الدخان

راسمًا إشارات السحر

ساحرا جرحها)

(2)

.

ويقول عن مهيار، وهو الرمز الباطني والقناع الذي يختفي خلفه أدونيس:

(مهيار

جسر إلى الهبوط حتى السحر والشقاء

في الجسد الأرض أو في جسد السماء

جسدي هنا، جسدي هنا لك ساحر

صوت يئن بلا صدى

يرتاد يفتح المدى

هو والمدى)

(3)

.

وفي المقطع نفسه يقول قبل النص السابق:

(1)

المصدر السابق 2/ 199 - 200.

(2)

المصدر السابق 1/ 529.

(3)

المصدر السابق 2/ 211 - 212.

ص: 1627

(كنت أغامر في الغابات

أركض خلف الجنيات

أحلم أن الجنيات

خبز)

(1)

.

ولا ينسى أن يستدعي عقيدته الشيعية في قضية السحر، فيتحدث عن كتاب "الجفر"

(2)

كتاب السحر المزعوم الذي ينسبه الشيعة إلى بعض أئمتهم!!، يقول أدونيس:

(وجهي صخب طائر تقاسمه الصوت اسأليني أجب

تكلم جفر رصدتني خيوله انطفاء الهمس. . .)

(3)

.

وفي هذا الاتجاه خاض البياتي كثيرًا، خاصة في قضية السحر والساحر، مع كونه يعتقد الماركسية ويدين بدين الشيوعية المادية، إلّا أنه يردد هذه الغيبيات على المنوال الذي سبق ذكره عند أدونيس يقول البياتي عن الشاعر الحداثي:

(يرتدي الشاعر ثوب الساحر الميت يخفى وجهه تحت القناع

ويعاني في حضور الكلمات

وحشة النبذ بأرض النوم والسحر وآلام المخاض

حبه أعمى وشحاذ لنور الكائنات

يتبع الشمس التي مدت وراء القبر للموتى ذراع

وعلى أرصفة الليل يغني الساحرات)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 209.

(2)

تنسب الشيعة كتاب الجفر زورًا إلى جعفر الصادق -رحمه اللَّه تعالى-.

(3)

المصدر السابق 2/ 281.

(4)

ديوان البياتي 2/ 201.

ص: 1628

وفي آخر هذه التهويمة الكهنوتية التي يحاول أن يصف فيها شعراء الحداثة بالتقدم واستشراف الغيب، يتحدث عن الأمة وتاريخها فيقول:

(وأنا منتظر وحدي، هنا، من ألف عام

دون أن يفتح باب في الظلام)

(1)

.

وفي مقطوعة أخرى يجعل "وضاح اليمن"

(2)

قناعًا للشاعر الحداثي فيقول عنه:

(يصعد من مدائن السحر من كهوفها وضاح

متوجًا بقمر الموت ونار نيزك يسقط في الصحراء

تحمله إلى الشآم عندليبًا برتقاليًا مع القوافل السعلاة

وريشة حمراء

ينفخها الساحر في الهواء

يكتب فيها رقية لسيدات مدن الرياح)

(3)

.

هنا يقر بالسحر وبالسعالي، وإن اتخذها رمزًا لغرض مّا، وفي موضع آخر من كتبه يفتخر بأنه قد ضمر عنده الباعث الميتافيزيقي ونما الواقع الاجتماعي والسياسي

(4)

، أي الشيوعي الماركسي، ويريد بالباعث الميتافيزيقي، الباعث الغيبي عمومًا والدين الإسلامي على وجه الخصوص، ودليل ذلك ما قرره قبل هذا الكلام من أن الكتب الدينية ليست سوى فخ كبير نصب للبشر ليقعوا فيه

(5)

.

(1)

ديوان البياتي 2/ 201.

(2)

وضاح اليمن هو: عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال، من خولان من حمير، شاعر جميل الطلعة كان يتقنع في المواسم، يقال: إنه قدم الحج فرأى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوج الوليد فتغزل بها فقتله الوليد في نحو عام 90 هـ. انظر: الأعلام 3/ 299.

(3)

ديوان البياتي 2/ 243.

(4)

انظر: تجربتي الشعرية: ص 27.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 9.

ص: 1629

وفي مرثية قالها في "اخناتون" الرمز الفرعوني يحشد البياتي عبارات التبجيل والاحتفال.

ويسوق أخبار السحر وشعائره، والسحرة وأعمالهم، ويسهب في ذكر قدراتهم الخارقة وأفعالهم المبهرة - حسب ما يصوره له جهله وضلاله

(1)

على النمط الذي سبق شرحه في تأثرهم بالأساطير واهتمامهم بها.

وإن كان البياتي يؤمن بالطبيعة ربًا على وفق عقيدته الماركسية إلّا أنه يرى أن ساحرًا آشوريًا أحيا جسد ربته الطبيعة:

(وكان ضوء القمر الأحمر في آشور

يصبغ وجهي ويدي ويغمر الضريح

فدبت الحمرة في خدي ودب الدم في العروق

بكلمات سحره الأسود أحيا جسد الطبيعة الميت والجذور

وفجر السحاب والبروق

فأرعدت وأبرقت وأمطرت سماء ليل العالم الزهور)

(2)

.

ويقول عن عشتار التي طالما أعلن عن طاعته وعبوديته لها:

(حبي أغنية كتبتها ساحرة فوق معابد عشتار)

(3)

.

وينتسب إلى الإغريق وينتمي إليهم تعلمًا، وإلى السحرة والمنجمين والحلاج وحركته الزنج انتسابًا، من خلال مدحه أو رثائه -لا فرق- لأستاذه وقرينه في العقيدة "بابلو نيرودا"

(4)

قدوة الحداثيين العرب، ومهبط مدائحهم وبكائياتهم!!.

(1)

انظر: ديوان البياتي 2/ 268 - 269، 271، 272، 273، 293، 295، 313، 324، 337.

(2)

المصدر السابق 2/ 273.

(3)

المصدر السابق 2/ 294.

(4)

نيرودا - بابلو، شاعر ماركسي من شيلي، ولد عام 1904 م، وتوفي عام 1973 م، تقلب في أعمال سياسية رسمية في بلاده تحت لائحة الحزب الشيوعي، حصل على =

ص: 1630

يقول البياتي:

(قاتلت مع الإغريق في مجاهل الشرق

دفعت وأنا أمارس السحر أسيرًا

فتعلمت من الأنهار كيف حمل النار إلى زماننا هذا

وأصطاد لك الفراشة - الوعل - الغزال - القمر

المنجمون احتشدوا في مدن الطفولة

الحلاج كان بقميص الدم مصلوبًا

وكان قائد "الزنج" على الفرات ينهي لعبة الخليفة)

(1)

.

أمَّا الكهانة والعرافة والتنجيم فإن لرواجها في سوق الحداثيين عدة أسباب من أهمها أن طلائع هذا الاتجاه كالسياب والبياتي حملوا على عواتق شعرهم هذه المضامين ورسخوها وسنّوها سنة سيئة عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأنهم أرادوا تقليد الغربيين في عودتهم إلى الجذور الوثنية اليونانية والغيبيات الإغريقية.

وللبياتي مقطوعة بعنوان "الكاهنة" مترعة بالمعاني الخرافية وأهمها أنه جعل فكرته الحداثية بمثابة الكاهنة ولكنها تحت شفتيه، وقد صدق في هذا، إذ بين الحداثيين والكهان قواسم مشتركة عديدة منها الكفر باللَّه تعالى والكذب وخبث الطوية وسوء الفعال ونتن الخصال، يقول البياتي عن فكرته:

(وأنت تحت شفتي كاهنة تبوح بالأسرار)

(2)

.

ولا ينسى أن يذكر العرافة وأقوالها وأفعالها وهو المادي الذي لا يؤمن

= جائزة ستالين للسلام عام 1950 م، وجائزة نوبل للآداب عام 1971 م، يردد الحداثيون العرب وخاصة اليساريون منهم اسمه، بهيام وتقديس. انظر: موسوعة السياسة 6/ 643.

(1)

المصدر السابق 2/ 349.

(2)

المصدر السابق 2/ 221.

ص: 1631

بما وراء المادة، ويذكرها أيضًا في سياق احتفاله بذكر صنوه الشيوعي "غيفارا"

(1)

فيا لها من مفارقة غريبة

(2)

!!، ومثلها حديثه عن قارئة الكف

(3)

وعن المنجمين

(4)

.

ولا يشعر الحداثيون بأي حرج عقلي أو ثقافي في عدم التطابق بين مذاهبهم المادية التي تؤكد على الإلتزام بالمحسوس، والكفر بما وراء الحس مع إيمانهم -في الوقت ذاته- بغيبيات.

وليس هذا هو التناقض الوحيد في هذه الملة المليئة بالضلالات والخرافات والتناقضات.

لقد قرروا إدانة العقل والوعي

(5)

، واعتبار هذه الإدانة أصلًا من أصولهم.

يقول إحسان عباس: (. . . ارتباط جانب من هذا الشعر بالرفض المطلق فيه تحد للعلم والعقل والنظام. . .)

(6)

.

ويقول ناقد حداثي آخر: (إن البلبلة والتشوش سمة مميزة للحداثة التي تريد أن تنطوي على وجود بدون وجود، وعلى نص بدون نص، وعلى سؤال بدون سؤال. . .

فالحداثة هي اللاذات، اللاأساس، اللاقول، اللاذاكرة حيث بالإمكان تمديد هذه المتوالية من اللاءات إلى ما لا نهاية: اللامنطق، اللاعقل، اللاحداثة، وبذلك فإن الكتابة "الحداثية" تغدو ممكن قول أي شيء. . . إذا كان للضرورة من معنى في هذا السياق "الحداثي" هي حرية التحرر

(1)

سبقت ترجمته: ص 814.

(2)

انظر: ديوان البياتي 2/ 319.

(3)

انظر: المصدر السابق 2/ 346.

(4)

انظر: المصدر السابق 2/ 348.

(5)

انظر: الحداثة الأولى: ص 237.

(6)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 158.

ص: 1632

من العقل)

(1)

.

لا أريد هنا أن أذكر كل ما لدي من أقوالهم التي من هذا القبيل، فهي كئيرة، ولكن المراد بيان بعض جوانب الإجابة على السؤال: كيف يؤمن الحداثيون بغيبيات مّا، وهم ماديون يجحدون ما وراء الطبيعة وما خلف الحس؟.

هذا سعدي يوسف الشيوعي العراقي يتخذ اسمًا لنفسه "الأخضر بن يوسف"

(2)

، ويسهب في الحديث عنه وتلقى الحديث منه، فيفسر إحسان عباس ذلك بأنه (تعبير دقيق عما يسميه بعض الدارسين "القرين" حيث يصور فيها انفصام القرين عن ذاته، مع المشاركة بينهما في المسكن وشرب القهوة والحليب والملابس، بل حتى في مرافقة محبوبة واحدة. . . وللمقارنة أقول: إن موضوع "القرين" هذا قد عالجه خليل حاوي من قبل في المقطع السادس من قصيدته ووجوه السندباد. . .)

(3)

.

{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}

(4)

.

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)}

(5)

.

وهذا عبد الرحمن منيف البعثي العتيق، واللبرالي الجديد!! يملأ روايته مدن الملح بذكر الكهان والعرافين والمنجمين وقارئة الفنجان وقارئة الكف وفاتح الرمل ودعاء الجن وغير ذلك

(6)

.

(1)

قضايا وشهادات 2 - صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 292 من مقال للناقد الحداثي عبد الرزاق عيد بعنوان "الحداثة: عقدة الأفاعي".

(2)

انظر: ديوان سعدي يوسف: ص 101، 165.

(3)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 60 - 61.

(4)

الآية 38 من سورة النساء.

(5)

الآية 25 من سورة فصلت.

(6)

انظر: مدن الملح 1/ 158، 2/ 300، 3/ 10 - 11، 14، 17، 5/ 53، 83، 84، 110، 111، 112، 124، 125، 128، 169، 170، 234.

ص: 1633

أمَّا كتاب الصوفية والسوريالية للطاغوت الحداثي أدونيس فهو مليء بالغيبيات السوريالية والصوفية الباطنية، ولا يُمكن ذكر الشواهد منه، إذ الكتاب كله برمته شواهد على هذه القضية.

وقد رأينا فيما سبق أمثلة لغيبيات يقول بها ماركسيون عرب مثل سميح القاسم والبياتي، ولكن أعجب منهم في هذا الماركسي الفلسطيني "توفيق زياد" الذي رثى أحد زملائه الماركسيين

(1)

بقوله:

(يا أيها الغافي على صدر الخلود)

(2)

.

(وعلات مشنقة الطغاة بهامة

تستطلع الأسرار في الأبد الأبيد)

(3)

.

أي خلود وأي أسرار وأي أبد عند شيوعي مادي ملحد؟.

أمَّا قصيدته المسماة "أمام ضريح لينين" فإنها تذكر بصوفي قبوري، أو بسادن وثني بوذي أو هندوكي، حيث يقول:

(أمامه وقفت خافض الجبين

ضريحك الذي يعيش في القلوب

يا لينين

أحسست أنني أنا المعذب الشقي

المعدم الذي نصيبه من الحياة كوخ طين

أملك كل شيء. . .

أمامه وقفت حابس الأنفاس

(1)

هو يوسف سلمان القائد الشيوعي العراقي اليهودي المعروف باسم فهد، وقد سبقت ترجمته: ص 1359.

(2)

ديوان توفيق زياد: ص 79، 80.

(3)

ديوان توفيق زياد: ص 79، 80.

ص: 1634

صوتك يحويني كما رج من نار

يصهرني

يصقلني

كالصليب كالألماس)

(1)

.

وهي إلى آخرها من هذا القبيل.

وبعد فهذه هي الحداثة في أوضح صور تناقضها، وهي بشهادة أحد كتابها (لا أفق سوى العدمية والاستلاب. . .)

(2)

.

إذ إن أهم مميزاتها (تناقضاتها وثقتت رؤيتها لذاتها وللعالم. . .)

(3)

.

(إنها وعي المتاهة إذ تغدو المتاهة هي الحقيقة الواقعية الوحيدة. . .)

(4)

.

وهي الحداثة التي تحدث أنسي الحاج إلى أنها الاحتجاج المتمثل في صفاتها ومقوماتها ومميزاتها حيث يقول: (والحاجة اليوم أراها إلى كتابة تمزق حجابها بعدما تمزق وجدانها، إلى كتابة تقول: "المحرم والممنوع والمخيف والمهول والرائع والمدهش والمذهل والساحر والرهيب، ولو لعنت ورجمت واضطهد أصحابها حتى الموت. تقول البسيط والمرعب، القريب والأقصى، ضمن نظامها الخاص الذي هو حتمًا، مهما انحرفت، نظام الإغراء، أي الفتنة الإلهية.

الحاجة إلى كتابة العري، عري الذات والفكر والدخيلاء والحلم والكابوس، والنظر والبصيرة والشوق والاستيهام والنوايا، عري المنطق،

(1)

المصدر السابق: ص 31 - 32.

(2)

القائل هو عبد الرزاق عيد في قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م/ 1410 هـ: ص 275 - 276.

(3)

و

(4)

مجلة الناقد، العدد 1 تموز 1988 م/ 1408 هـ: ص 7.

ص: 1635

عري الاقتناع، أي الشك، عري الإيمان، عري المحاكمة الذاتية والموضوعية، عري الخطايا عري الضعف والانحلال، عري الجنون، عري السقوط، عري الصلاة العارية، والهرطقة العارية والعربدة العارية)

(1)

.

هذه هي الحداثة في أوضح صورها، في حيوانيتها وإلحادها وانحطاطها، فالحمد للَّه الذي عافانا وكرمنا على كثير ممن خلق تفضيلًا.

• • •

(1)

مجلة الناقد، العدد 1 تموز 1988 م/ 1408 هـ: ص 7.

ص: 1636

‌الباب الرابع الانحرافات المتعلقة بالأحكام والسلوك ونظام الحياة

ويشمل الآتي:

توطئة:

الفصل الأول: العبث بالمصطلحات الشرعية والشعائر الإسلامية.

الفصل الثاني: محاربة الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره.

الفصل الثالث: السخرية من الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية.

الفصل الرابع: الانحرافات في القضايا الاجتماعية والنفسية.

الفصل الخامس: الانحرافات في القضايا السياسية والاقتصادية.

ص: 1637

‌توطئة:

لا يُمكن بحال من الأحوال فصل هذه القضايا عن الأسس الاعتقادية، والقواعد الفكرية.

بل هي، وإن بدت في هيئة خطوط متقابلة:"عقيدة وشريعة، فكرة ونظام، تصور وسلوك" إلّا أنها في حقيقة الأمر متداخلة متمازجة.

فالعقيدة والتصور الفكري قاعدة، والتطبيقات الحكمية والسلوكية فروع عن تلك القاعدة.

ومهما كان الاعتقاد موغلًا في الرمزية أو التجريدية أو المثالية أو حتى الأسطورية الخرافية، فإنه لابد أن يؤثر في سلوك وعمل معتقده.

الوثنيون الإغريق أو الفراعنة أو عرب الجاهلية، ظهرت آثار عقائدهم في أعمالهم وأخلاقهم، في نظمهم، وعلاقاتهم، في أحكام ومناشط حياتهم.

والجاهليون المعاصرون من ماركسيين ووجوديين وليبراليين وعلمانيين وحداثيين، قادتهم عقائدهم وتصوراتهم إلى اتخاذ مواقف، واعتناق مبادئ والسير على نظم، والمضي في سلوك، والمشي على أخلاق معينة.

هذه حقيقة ثابتة وإن تفلسف في نفيها بعض المتفلسفين في سفسطة كاذبة!!.

خذ مثلًا مذهب "اللامنتمي" الذي يخص (الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، والذي يشعر بأن الاضطراب

ص: 1639

والفوضوية هما أعمق تجذرًا من النظام الذي يؤمن به قومه)

(1)

.

يقول مؤلف كتاب "اللامنتمي" بعد أن كتبه بسنوات عدة في مذكراته التي سماها "رحلة نحو البداية": (حينما كنت أكتب اللامنتمي كنت أشعر بإحساس من الإثارة الهائلة والقلق، كان الكتاب ينصب من داخلي كما تنصب الحمم المنصهرة الخارجية من بركان، وكنت أعرف أنه كتاب جيد، كنت أكتب عن نفسي. . . كان موضوع الكتاب هم العاجزين عن التكيف في الحضارة الحديثة، الرجال الخلاقين الذين يشعرون أن لا مكان لهم في سباق الفئران، ولكنني عنيت بأن أقرر أن اللامنتمي قد لا يكون خلاقًا.

إن افتقاره إلى فهم نفسه قد يكون كاملًا إلى درجة أنه لا يبدأ في إنجاز مهمة التطهير من خلال الخلق، لقد تحول فان جوخ ونيتشه إلى شعلة متوهجة من اللاانتمائية، ولكن أكثر اللامنتمين لا يتحولون إلى أكثر من جمرة خابية، فلا ينتجون إلّا بعض الدخان الأسود يلطخهم ويلطخ من حولهم، وقد كان لي أن أتبين جانبًا كبيرًا من هذه الظاهرة بين الجيل الأصغر في أمريكا بعدما يقرب من عشر سنوات. . .)

(2)

.

ويقول في كتاب "ما بعد اللامنتمي": (حين كتبت اللامنتمي عام 1955 م كان الهدف منه هو أن أبين أن الوجودية قد انحرف عن طريقها الحقيقي، الذاتية، وأن بعض الفلاسفة الوجوديين حاولوا إلباس تعصبهم وفشلهم الشخصيين لغة مؤثرة ومجردة ولا معقولة، فأغرقوا في تعقيد الأمور، مما يجعلني أشعر أن مقاومتي للمشكلة الرئيسية، مع إصراري العنيف على الذاتية، ما هو إلّا مساهمة متواضعة لكنها جديرة بالاهتمام في التفكير الوجودي)

(3)

.

يتضح من هذا أن "اللامنتمي" هو في الحقيقة "منتمي" أي صاحب

(1)

اللامنتمي لكولن ولسن: ص 5.

(2)

رحلة نحو البداية: ص 289 - 290.

(3)

ما بعد اللامنتمي: ص 10.

ص: 1640

عقيدة ومذهب، وله غاية وهدف، وله أسلوب ومنهج، وله سلوك وطريقة يعبر بها عن عقيدته ومنهجه، سواء سميت ذلك المنهج "اللامنتمي" أو "الوجودية الجديدة" أو أي تسمية أخرى فإنها في النهاية انتماء، أي اعتناق لعقيدة ذات أثر تطبيقي ومسلكي في الواقع.

إذن العقيدة هي المحضن الأساسي لأي عمل يقوم به الإنسان، وذلك على مقتضى طبعه الذي خلقه اللَّه عليه، كما أخبر بذلك الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم:"أصدق الأسماء حارث وهمام"

(1)

.

(فكل أحد حارث وهمام، له عمل ونية)

(2)

، (إذ كل إنسان لابد له من حرث، وهو كسبه وعمله، ولابد له من هم هو مبدأ إرادته. . .)

(3)

.

فالإنسان مفطور على هذه القضية، ومجبول في كل أعماله الحسية والمعنوية على هذا الأمر، فهو إذا توجه لعمل فلابد لهذا التوجه من إرادة وقصد ونية وعقيدة وفكرة تسبق هذا العمل.

فكل إنسان يهم ثم يعمل، وكل إنسان له حرث وحركة وهو العمل والنشاط والممارسة، وله قبل ذلك هم وإرادة وقصد.

والنفس بطبعها متحولة متحركة ما دامت حية، والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة.

والإنسان المختار - مهما بلغت درجة انحطاطه الفكري والاعتقادي لا يتصرف كيفما اتفق ولا دونما أسباب، ولا من غير دوافع.

والإرادة تنبعث في الإنسان من عقل مختار، له رؤية معينة "عقيدة، فكرة، مثل أعلى" منها ينطلق العزم على فعل أمر مّا أو تركه.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب تغيير الأسماء 5/ 237، وأحمد في المسند 4/ 345.

(2)

الاستقامة 2/ 228.

(3)

مجموع الفتاوى 29/ 381.

ص: 1641

فإذا وجدت الإرادة الجازمة، والقدرة التامة، وارتفعت الموانع وحصلت الشروط، وجد الفعل عندئذٍ.

وحاصل القول أنه لا يتصور انفكاك الإنسان عن إرادة تحركها عقيدة أو فكرة مّا، تتحول بعد ذلك إلى ممارسة وتطبيق.

ومن أوضح الأدلة ما ذكرناه في ثنايا هذا البحث من حقائق حول قضية الصراع بين الإسلام والمادية المتمثلة -في هذا البحث- في قضية الصراع بين الإسلام من جهة والعلمانية والحداثة من جهة أخرى.

فالمؤمن باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن والسنة منهجًا يعتقد ذلك يقينًا قاطعًا، ويوقن أن التدين للَّه تعالى لا يتم بالصورة الصحيحة المقبولة إلّا إذا كانت الحياة -كل الحياة- خاضعة -كل الخضوع- للَّه تعالى في كل شأن من شؤونها، وأن هذا المعنى الكامل الشامل الوحيد هو مقتضى كلمة التوحيد "لا إله إلّا اللَّه محمد رسول اللَّه".

وقد حاول بعض جهلة المسلمين، وبعض ذوي الأهواء من أبناء المسلمين أن يحرفوا هذا المعنى، وأن يقصروا الإسلام على أنه مجرد عقيدة وقيم خلقية!!.

والعلمانيون من أبناء المسلمين، من يعتقد منهم بأن الإسلام دينُ حقٍ من عند اللَّه تعالى، يدورون على هذا المفهوم الظالم الخاطئ الضال.

أمَّا الملاحدة منهم الذين لا يؤمنون برب ولا إله ولا دين ولا رسول ولا كتاب، فقد تمادوا في الغي إلى أبعد مدى، وجحدوا كل أنواع الهدى، وركبوا ظلمات الخرافات والجهالات المادية المعاصرة.

والفريق الأول من العلمانيين أشد خطورة، وأنكى في حرب المسلمين؛ ذلك لأنهم يتظاهرون بأنهم أهل دين وإسلام، وأنهم لا يرفضون الدين ولا يردونه يقولون -على زعمهم- أنهم إنّما يرفضون التطرف المديني، والتزمت الديني!!، ويرددون بأنهم لا يريدون سوى الإسلام الصحيح! الإسلام الذي يتوافق مع الحضارة، ومع التقدم، ويساير الحضارة الغربية!!.

ص: 1642

ومع ضغط الصحوة الإسلامية المتزايدة، وانتشار الالتزام بالإسلام في أرجاء الأرض وفي أصناف المسلمين، بل وفي غير المسلمين، تظهر دعواتهم العلمانية تحت عناوين عديدة خادعة منها:"الإسلام المستنير""العقلانية الإسلامية""تجديد الفكر المديني""استلهام جوهر الإسلام النقي""الإسلام الحضاري""مقاومة الجمود المديني" ومقاومة الإرهاب الفكري "الإسلام الديموقراطي""حرية الاعتقاد والفتنة الطائفية""النصوصية الجامدة""السلفية الجامدة""التمسك بروح الشريعة""التحلي بروح الدين""مراعاة المقاصد العامة للإسلام""تنزيه الإسلام عن الألاعيب السياسية والواقع الاجتماعي الدنس""الفرق الحضاري بين القرون الهجرية الأولى والواقع المعاصر""التمييز بين الدين والدولة""الفرق بين السلطة الدينية والسلطة المدنية الزمنية""المصلحة أساس الشرع""الحركات الإسلامية الشمولية تسعى إلى ردنا إلى الوراء مئات السنين""الحركات الإسلامية تابعة لقوى خارجية""وهي المسؤولة عن هزيمتنا الحضارية والعسكرية""أخذ روح التشريع لا نصه""تقديم المصلحة على النص""أخذ لباب الإسلام وترك قشوره""التحلل من قيود الخطاب السلفي""تجريد القرآن من التفسير الأصولي السلفي""وجوب إعادة تفسير القرآن حسبما يقتضيه العصر""النص الشرعي وليد أوضاع اجتماعية وتاريخية معينة تغيرت الآن""الإسلام مجرد عقيدة سمحة، وقيم أخلاقية"

(1)

.

(1)

انظر الطرح العلماني بشقيه الملحد والمتستر بالدين وبالمصطلحات الملتوية والعبارات الغامضة وبالشبهات الخاطئة الكاذبة في الكتب التالية:

1 -

إشكالية القراءة وآليات التأويل: لنصر أبو زيد، وسبق النقل منه في فصول مضت.

2 -

قبل السقوط لفرج فودة.

3 -

الملعوب له.

4 -

النذير له.

5 -

الإرهاب له.

6 -

الحقيقة الغائبة له، وقد شنّ فيها أبشع هجوم على الإسلام وقضاياه، وكانت سببًا في قتله.

7 -

مجلة أدب ونقد عدد 83 يوليو 1992 م/ 1413 هـ، المخصص عن فرج فودة، وهو تحت عنران شهيد العلمانية وحرية الفكر!!

8 -

الحركات الدينية المعاصرة: لحسن حنفي وخاصة من: ص 311 إلى آخر الكتاب.

9 -

الأصولية الإسلامية: له. =

ص: 1643

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 10 - التراث والتجديد موقفنا من التراث القديم: له. وانظر: على الخصوص: ص 20، 42، 64.

11 -

أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: لمحمد أركون، وهو مليء بالشواهد العلمانية المتطرفة، المتفرنسة، وخاصة الصفحات: 55 - 60 و 79 - 81 و 109 و 125 - 136 و 147.

12 -

الفكر الإسلامي نقد واجتهاد: لأركون أيضًا: ص 39، 53، 57، 67، 135، 143، 157.

13 -

الفكر الإسلامي قراءة علمية: له أيضًا، وقد سبق النقل عنه في الفصول الماضية.

14 -

من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي: له أيضًا وهو كتيب صغير، ومثنه في الحجم:

15 -

العلمنة والدين، الإسلام المسيحية الغرب: وهو مترع بالمغالطات والغمز والجهل المركب.

16 -

روجيه جارودي بعد الصمت، حول فلسفة الردة عند غارودي وآفاقها في الوطن العربي: للطيب تزيني في خمس وستين صفحة وعنوانه دليل عليه، حيث ألفه لتخفيف أثر إعلان جارودي دخوله في الإسلام، وحماية المرتدين من التأثر بذلك.

17 -

فصول في الفكر السياسي العربي: له أيضًا: ص 165 عن القرامطة واشتراكيتهم ومضادتهم للإسلام، وص 185 - 191 عن البابكية نسبة إلى بابك الخرمي "موقفها من الإسلام".

18 -

الجزء الأول من التراث إلى الثورة بعنوان حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي: للتزيني أيضًا، وسار فيه على خطى أدونيس في الثابت والمتحول في أكثر أبوابه.

19 -

الإسلام السياسي: لمحمد سعيد العشماوي، وهو عمدة في أبواب الضلال العلماني والعداء للإسلام، وهو في أصله مقالات ومحاضرات جمعها تحت هذا العنوان، وهو من أهم الكتب في هذا الباب.

20 -

أصول الشريعة: له أيضًا وهو كسابقه مع مقدمة تقريظ من توفيق الحكيم.

21 -

في بيت أحمد أمين: لحسن أحمد أمين: ص 212 - 228، 241 - 258 بعنوان برتكولات حكماء المسلمين!!.

22 -

حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة: له أيضًا، وهو أبشع علمانية من سابقه، يفيض بالسخرية والتهكم. انظر: مثلًا: ص 27، 36، 39، 43، 46، 61، 111، 113.

24 -

هوامش على دفتر التوير: لجابر عصفور، وقد حشد فيه كل أدوات وعبارات =

ص: 1644

إلى غير ذلك من الأحاييل اللفظية، المبنية على عبارات مفخخة

= الحرب العلمانية ضد الإسلام لطمس معالم وحقائق الإسلام، ويعتبر من الكتب المهمة في فهم الرجعية العلمانية، وفهم طريقة العلمانيين في المزاوجة البائسة بين أوروبا والإسلام وأصله مقالات ومحاضرات ألقاها ثم جمعها.

25 -

الأسس الفلسفية للعلمانية: لعادل ظاهر، وهو متطرف علماني شديد البغض للإسلام مع جهل فاضح به، وفيه تكرار وتعسف والتواء فكرة وأسلوب؛ ليظهر صاحبها في مظهر الفيلسوف!! الذي يحاول هدم الدين الإسلامي، وإقامة صرح للعلمانية على أسس قوية من خيوط العنكبوت!!.

26 -

العلمانية من منظور مختلف: لعزيز العظمة وهو كسابقه، يحاول مؤلفه تاسيس تاريخ وحاضر ومستقبل للعلمانية في البلدان العربية.

27 -

الكارثة التي تهددنا: لصلاح عيسى: ص 213 - 276.

28 -

أزمة الإسلام السياسي: لحيدر إبراهيم علي.

29 -

الفتنة: جدلية الدين والسياسية في الإسلام المبكر: لهشام جعيط وخاصة: ص 321 - 325.

30 -

اغتيال العمل ومحنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية: لبرهان غليون: ص 141 - 150، 295، 309، 317، 329، 341.

31 -

نحو ثورة في الفكر المديني: لمحمد النويهي.

32 -

حول الدين والديمقراطية: لنجيب محفوظ: ص 18 - 21، 40 - 42، 63 - 64.

33 -

لتطبيق الشريعة لا للحكم: لخليل عبد الكريم وهو تعبير عن الرأي العلماني لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر.

34 -

الإسلام والعروبة، مناقشة لآراء التيار الأصولي: لمجدي رياض، ويقع في 140 صفحة يتحدث فيه مؤلفه عن العلمانية من وجهة نظر قومية ووطنية.

35 -

السلفية والوطنية: لعبد القادر الشاوي من المغرب ويقع في 181 صفحة ويشبه سابقه.

36 -

الإسلام على حقيقته: صادر من سلسلة دراسات عصرية من مكتبة القذافي السياسية وهو على ضوء هرطقات الكتاب الأخضر.

37 -

متهم بالكفر يبحث عن محكمة: لحمود العودي من اليمن يدافع فيه عن نفسه حين حكم عليه القضاء اليمني بالردة بسبب أقواله المارقة والمناقضة للإسلام.

38 -

المسيحيون والعروبة: لرياض نجيب الريس: ص 41 - 48، 51 - 59، 63 - 71.

39 -

الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة: لفؤاد زكريا وهو من أهم الكتب في هذا الباب.

ص: 1645

ومصطلحات مولدة من السفاح الثقافي الغربي، يحاولون النفاذ بها إلى عقول المسلمين من خلال مصطلحات وألفاظ الخداع والتلبيس

(1)

، في محاولة دائبة لطمس حقائق الإسلام ومعالمه الصحيحة تحت سيل من الآراء الباطلة والشبهات الضالة المستوردة من أوروبا لتسويقها ونشرها وإذاعتها؛ ليكونوا بذلك رأس رمح في الغارة الجديدة على الإسلام وأهله، هذه هي حقيقتهم رغم كل محاولات الاستتار والتخفي!!.

وهكذا نرى العقائد الجاهلية المعاصرة "عقيدة العلمنة" أو "عقيدة الحداثة" تفعل في أصحابها عند الممارسة ما كانت تفعله الأوثان القديمة بل أشد وأنكى.

كان الجاهلي القديم يذبح للصنم ويستقسم بالزلم، ويتبع أربابًا شرعوا له الأعراف الجاهلية، والعقائد الضلالية، ووضعوا له القيم والأخلاق وأنماط السلوك التي يعيش عليها.

لقد كانت الجاهلية الأولى تقوم على عقائد الكفر والشرك باللَّه تعالى، واعتقاد ألوهية الأصنام والأوثان وأعراف القبيلة، واعتقاد أنوثة الملائكة عليهم السلام، ونفي إرسال اللَّه أحدًا من البشر أو إنزاله على أحد منهم -ممن اصطفاهم- من شيء، وجحد الآخرة، واعتقاد أنهم إنّما يعيشون ويموتون وما يهلكهم إلّا الدهر، وجحد القدر، واعتقاد أن المنايا -مثلًا-

(1)

انظر ذلك في:

1 -

العقلانية هداية أم غواية لعبد السلام بسيوني، وكتاب جدير بالقراءة وفيما يخص الموضوع المشار إليه في الأعلى انظر منه: فن الإرهاب المصطلحي: ص 102 - 104.

2 -

تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير: لمحمد إبراهيم مبروك.

3 -

تزييف الوعي: لفهمي هويدي، وهو مناقشة جادة وعلمية للهجوم العلماني المدعوم في مصر ضد الإسلام جملة وتفصيلًا.

4 -

ثقافة الضرار: لجمال سلطان وهو من أهم الكتب في هذا الباب.

5 -

وله أيضًا جهادنا الثقافي يشبه سابقه.

6 -

غزو من الداخل: له أيضًا.

7 -

العصريون معتزلة اليوم: ليوسف كمال.

ص: 1646

خبط عشواء من تصبه تمته ومن تخطئه يعمر حتى الهرم، وكان لهذه العقائد الكفرية أثرها البعيد على نظام حياتهم ونمط معيشتهم، فكانوا يحكمون بشريعة الجاهلية، وبها يحفون ويحرمون، ويجيزون ويمنعون، وكانت لأصنامهم الحضوة الكبرى والتأله الأكبر بما يقدمونه لها من عبادات وقربات.

وكانت هناك -على أساس من عقائدهم- الانحرافات الخلقية من خمر وميسر وفاحشة علنية أو مستترة، ووأد، وظلم متعدد الأوجه والأنواع: ظلم سياسي، وظلم اجتماعي، وظلم اقتصادي، من حمية قبلية وطبقية عنصرية أو مالية، إلى أكل الأموال بالباطل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض إلى غير ذلك من أنماط حياتهم المليئة بالشر والفساد والرذيلة والانحراف.

ثم جاء الإسلام ليخرج هؤلاء -أولًا- من ضلال الاعتقاد الكفري وفساد التوجه الشركي، جاء الإسلام بمبدأ التوحيد "لا إله إلّا اللَّه" وبقضايا الإيمان الأساسية؛ لأنها هي الأصل الذي ينبني عليه أي تغيير بعد ذلك.

وبعد أن أسست عقائد الإيمان وتأسس توحيد اللَّه مكان الأوثان، عالج الإسلام المشكلات الأخرى والانحرافات المتعددة، القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية.

وأمر اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالتوحيد يدعو الناس إليه، ويربي من استجاب منهم على مقتضاه أي أن الانحرافات لم تكن خارج الدعوة، أو خارج الاهتمام، ولكنه عالج هذه الانحرافات على أساس أن هذه المعالجة من مقتضيات التوحيد ومن لوازم الإيمان.

والمقصود أن الإسلام بعد أن أسس مبدأ التوحيد وقضايا الاعتقاد، شرع الشرائع، ووضح الأحكام، ووضع المنهج والنظام، ليخرج الناس من ظلمات العقائد التي انبنت عليها ظلمات الانحرافات والمفاسد العملية.

والجاهلية المعاصرة، على نمط الجاهلية القديمة، اتخذت أصنامًا، واعتنقت عقائد، قادتها إلى مهاوي البلاء والردى وأركستها في أشر ما يُمكن أن يرتكس فيه إنسان.

ص: 1647

عقائد مادية إلحادية، وأرباب باطلة من نظم ومذاهب، وأعراف وأفكار وأشخاص وأسماء ورسوم، تملي عليهم أنماط حياتهم وفلسفة تصوراتهم ومعارفهم وأسس سلوكهم، وأصول أخلاقهم وقواعد سياساتهم واقتصادهم، بل ومفردات وفروع كل ناحية من نواحي حياتهم، وما يُرى ويشاهد ويلمس اليوم في "الدول المتقدمة""الدول العصرية"!! من أفكار وأعمال وممارسات كلها شواهد على هذه الأنواع العديدة من الانحرافات الاعتقادية والعملية.

أمَّا أتباعهم مما يُسمى تلطفًا أو تظرّفًا "دول العالم الثالث" فإنهم على أسوأ وأردى مما عليه أسيادهم وإن بقيت عند بعضهم -خاصة الشعوب المسلمة- بقية من بقايا الدين الحنيف، أو بقايا الفطرة السوية.

أمَّا أتباع الغرب في البلاد الإسلامية من المفكرين والمثقفين والإعلاميين والإداريين فإنهم -بلا ريب- قد بلغوا من الانحطاط والتردي درجات لا يكاد يصدقها عقل، وانسحقوا بالكلية تحت أقدام أسيادهم، الذين معهم -مع انحرافهم- عناصر قوة مادية.

أمَّا أتباعهم وأولياؤهم فإنهم تركوا القوة الإيمانية بالتبعية الاعتقادية وما يترتب عليها من أنظمة وأنماط حياة وسلوك، ولم يستطيعوا أن يحوزوا القوة المادية التي يتمتع بها الغرب، فصاروا بلا دين ولا دنيا، أمَّا الدين فقد أضاعوه حين اتبعوا المذاهب والأفكار والعقائد المادية، وحين أخذوا معها مقتضياتها العملية من أنظمة وسلوكيات وممارسات حياة عامة أو خاصة، وأمَّا الدنيا فهم في درجة من التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية لا تتيح لهم أن يكونوا أحرارًا في اتخاذ ما يريدون اتخاذه، ولا شك أن هذا لازم من لوازم أتباعهم للعقائد والمذاهب المادية.

أمَّا حيازة التقنية والاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء والسلاح فهم أبعد الناس عنه، وإن تحقق لبعضهم شيء من ذلك، فهو كسب ضئيل مرتهن، مغموس في بحور الاستلاب والهزيمة والتبعية.

وفي الفصول الآتية سوف نرى من الشواهد والأدلة على هذه القضية الشيء الكثير.

ص: 1648

فإن أتباع الملة الحداثية العلمانية، من أبناء المسلمين أو من أبناء البلدان الإسلامية، اتبعوا الجاهلية الاعتقادية والضلالات الفكرية، والانحرافات الفلسفية، وقد سبق بيان ذلك في الفصول الماضية، وتبع ذلك -ولابد أن يتبعه- جاهليات أخرى، جاهلية في النظم والسياسات، وجاهلية في الاقتصاد، وجاهلية في التوجيه والتعليم، وجاهلية في النفس في ذاتها وسلوكها واجتماعها.

وتبع الفساد الاعتقادي والتبعية الاعتقادية -ولابد أن يتبعه- أن أصبحوا حربًا على دينهم وعدوًا لأمتهم.

ومن حربهم الموجه ضد دينهم أنهم توجهوا إليه -بدافع من اعتقاداتهم المادية- بالثلب والسب والسخرية والاستخفاف والعبث بمصطلحاته شعائره وأصوله وأركانه وسائر قضاياه.

وهذا ما سوف نرى شواهده في الفصول الآتية، وهذه القضايا وإن كانت -في مجملها- قضايا عملية وممارسات فعلية، ليست -أصلًا- من قضايا الاعتقاد التي يهتم البحث بها على وجه الخصوص، ولكنها -كما أسلفت- لا تنفك عن الاعتقاد، إذ هي الصورة التطبيقية للاعتقاد، والممارسة العملية للفكرة المقتنعة، وهي -مع ذلك- المطلب العملي المقصود من الأتباع، والغاية الفعلية المرادة من الذائبين في أحماض المذاهب والعقائد الغربية.

نعم يُسرُّ الكفر وأهله بسلخ المسلم عن دينه، وإخراجه من النور إلى الظلمات في أي شكل وعلى أي هيئة ولو في صورة فكرية مجردة، فذلك مكسب للشيطان وحزبه، ولكن سرورهم أعظم وفائدتهم أجزل عندما يتعدى هذا السلخ إلى أن يصبح المسلوخ أداة لهم، وصورة عنهم، ووسيلة من وسائلهم، وامتدادًا عمليًا لهم في واقع المسلمين، إمَّا بنشر الفكرة العلمانية أو الحداثية أو غيرها من الأفكار الغربية، وإمَّا بممارسة العمل في منصب توجيه أو قيادة.

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ

ص: 1649

أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}

(1)

.

وهذا هو حال المنافقين قديمًا وحديثًا (فللَّه كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوه؟! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها!، وكم عموا عيون مواره بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها؟!. . . فلا يزال الإسلام وأهله يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

(2)

، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}

(3)

اتفقوا على مفارقة الوحي، فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}

(4)

، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}

(5)

، ولأجل ذلك {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}

(6)

.

درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظُلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى اللَّه الذي أرسل به رسوله، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسًا. . . لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران، والغل والكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار

(7)

، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب

(1)

الآيتان 80، 81 من سورة المائدة.

(2)

الآية 12 من سورة البقرة.

(3)

الآية 8 من سورة الصف.

(4)

الآية 53 من سورة المؤمنون.

(5)

الآية 112 من سورة الأنعام.

(6)

الآية 30 من سورة الفرقان.

(7)

هذا وصف صنف منهم أمَّا الصنف الآخر فملحد مجاهر.

ص: 1650

المحاربين ويقولون {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}

(1)

.

رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر، وعندهم في العقل المعيشي: أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}

(2)

قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصود السيئة على إرادتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجز عنه الأطباء العارفون {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}

(3)

.

من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق، ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه غافلون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} )

(4)

(5)

.

هذا حال ووصف فئة منهم لا يريدون الظهور بمظهر المعادي الصريح تقية، يتخفون تحتها لإنفاذ ماربهم، ويكثر هؤلاء في البلدان التي يخافون فيها من أحكام الدين أو يأملون بلتبيسهم تحقيق القوة لهم والتمكين، وأكثر ما يكون هؤلاء في أهل التوجيه وأهل الأمر، أمَّا الفئة المعادية صراحة المحاربة جهرة، المضادة علنًا، فيكثرون في البلدان التي يأمنون فيها حيث لا يكون للدين وأهله شوكة، ويبرزون بكثرة من تحت أردية الفئة الأولى، حيث يعبرون بالنيابة عنها عما في قلوبهم، وينالون منها الحماية والرعاية والتأييد.

(1)

الآية 8 من سورة البقرة.

(2)

الآية 9 من سورة البقرة.

(3)

الآية 10 من سورة البقرة.

(4)

الآيتان 11، 12 من سورة البقرة.

(5)

صفات المنافقين تأليف: ابن القيم: ص 16 - 20.

ص: 1651

‌الفصل الأول العبث بالمصطلحات والشعائر الإسلامية

(الأساليب التي يتبعها المثقفون. . . تختلف عن أساليب الجيل السابق باتباعهم استراتيجية جديدة تقوم على التحليل التفكيكي والهجوم الاستهزائي الذي يكشف عن عورتها الأيديولوجية بطريقة غير مباشرة، ويظهر نفاقها الأخلاقي وتجردها من مشروعيتها الكاذبة.

بهذا المعنى، يشكل النص النقدي العلماني الصحيح، إذا قرئ كما يجب أن يقرأ، طعنة مسددة إلى قلب السلطة المهيمنة وإيديولوجيتها)

(1)

.

من هذا النص وأمثاله يتضح مدى "العبث الحداثي" الذي امتدت أذرعه السرطانية إلى كل طهر وخير وحق وفضيلة، وتعدت إلى كل مقدس تحاول تدنيسه وتشويهه.

متخذة في سبيل ذلك شتى وسائل الهدم والتدمير والانتهاك.

وقبل الاسترسال في ذكر بينات هذه القضية من نصوص كلامهم، أرى أنه ينبغي الإشارة إلى المدارك التي من خلالها يتضح المغزى والمراد:

(1)

الإسلام والحداثة: ص 375 من مقال بعنوان معنى الحداثة لهشام شرابي.

ص: 1653

‌المدرك الأول:

أن العبث بالمفاهم والألفاظ والمصطلحات وتدنيسها بالسخرية والاستهزاء وانتهاكها بالاستخفاف، وتشويشها بالتدليس والتلبيس خطة "جاهلية" يمارسها الجاهليون المعاصرون، كما مارسها أسلافهم الأقدمون.

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}

(1)

.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)}

(2)

.

وقال تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}

(3)

.

وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}

(4)

.

فهذا هو حال أهل الضلال والجاهلية والكفر والانحراف في صراعهم المستديم مع الحق، وفي حربهم المستمرة ضد الهدى والنور، صراع يقوم على محاولة ترسيخ الظلام وتقوية الانحراف، وتأييد الجاهلية وإقامة صروح المادية الحيوانية؛ من أجل هبوط دائم بالإنسان، ومحق مستمر لإنسانيته، وإبادة تامة لكل سبب يُمكن أن يرتقي به على حظوظ الدنيا وحاجات الجسد ومتطلبات الحيوان!!.

إن حجة المادي الجاهلي القديم أو الحديث حجة داحضة كما

(1)

الآية 212 من سورة البقرة.

(2)

الآيات 29 - 33 من سورة المطففين.

(3)

الآيتان 6، 7 من سورة الحجر.

(4)

الآية 52 من سورة الذاريات.

ص: 1654

وصف اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}

(1)

.

وهم قد يلمسون اندحاض حجتهم وزيف باطلهم، ولكنهم يتمسكون بالباطل ويصرون على محاربة الحق، فلا يجدون وسيلة لذلك إلّا العبث والسخرية والاستهزاء لعلهم بذلك يصلون إلى مقاصدهم من خلال هذا اللغو {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)}

(2)

.

خطة قديمة حديثة، يمارسها هؤلاء الصغار في فرح وسرور بالخطة الصبيانية، التي طالما علقوا عليها الآمال، وخادعوا بها أنفسهم تحت شعارات {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .

لقد سلك أولئك وهؤلاء الطريق نفسه، مسلك الجاهلية الغارقة في الوحول، يحاولون بأسلوب العبث والاستخفاف أن يخدروا ضحاياهم بالكلام الفارغ، وأن يجذبوهم إلى حمأة الشر بزخارف الباطل، وأن يغطوا على عقولهم بهذه الأساليب التي تعمل في العقل الذي يتعاطاها عمل المخدر.

ويسير جدًا على القوم أن ينكروا جميع البراهين القاطعة ويجحدوا كل الأدلة الصادقة، في سياق تلاعب بالألفاظ والمفاهيم، وعبث يبعثر ويهدم.

وفي الجملة لا يعرف في معارك الصراع بين الحق والباطل، أعنف ولا أبلغ في الإجرام من هذا الاستعمار المادي، والاستعمار الحداثي العلماني، فأي إنسان -سويِّ الإنسانية- يقبل أن يكون كما قال أدونيس (فالحق أننا نعلن فوضانا وخيانتنا في ذلك العالم المحتفظ بالجيف المقدسة، ولا نكتفي بل نقنع الجيوش بالخيانة. . . فنحن هدامون، وكل منا قائد اللوعة والرماد

(1)

الآيتان 16، 17 من سورة الشورى.

(2)

الآية 26 من سورة فصلت.

ص: 1655

كل منا الهلع، الضرب، الوجود حولنا، وجودكم، كريه عدو، لن نتقبله، لن نصادقه. . . هكذا نعلن أنفسنا غواة وخائنين، الهاوية تأتي معنا، تعرف ذلك، سنعمقها سنوسعها، سنضع لها أجنحة من الريح والضوء)

(1)

.

ليس في ميسور هؤلاء السماسرة إلّا أن ينهلوا من مستنقع الفوضى والعبث ثم يفاخرون بعد ذلك بعملهم المنحط!!.

لقد استقال أتباع هذه العبثية والفوضية من كل قيمة يُمكن أن يركن إليها، من عقيدة أو فكرة أو نظام أو فطرة أو خلق، فعلى أي رأي من الآراء أو قيمة من القيم أو ضابط من الضوابط يُمكن أن يعول عليه دعاة الفوضى والهدم؟.

وحاصل هذا المدرك أن العبث بالمفاهيم والألفاظ، والفوضى في المعاني والمصطلحات، من أوسع أبواب تجار الحداثة والعلمنة، يخرجون من هذا الباب ما في طوياتهم من شر وإجرام، وفساد وضلال.

‌المدرك الثاني:

أن من أصول الحداثة -باعتراف روادها وأصحابها كما سوف يأتي- الهدم والفوضى والخلخلة للأفكار والمعتقدات الراسخة، والعبث والجنون والتخريب والتخبط والتشويش والعدمية المطلقة.

وهي ألفاظ قد تبدو لأول وهلة، ألفاظ فضح لمذهبهم وكشف لعقيدتهم ومسلكهم، من قبل مضاد لهم، ومخالف لمنهجهم.

غير أن الحقيقة أن هذه الألفاظ -ذات المضامين والأوصاف- هي ألفاظهم، والمصطلحات هي مصطلحاتهم، والنعوت هي نعوتهم التي أطلقوها على أنفسهم.

ولا عيب عندهم في إطلاق هذا على أنفسهم، وقد سبق في المدرك الأول نقل كلام أدونيس عن نفسه وعن الحداثيين بأنهم هدامون، غواة

(1)

زمن الشعر: ص 227.

ص: 1656

خائنون فوضويون يسعون لاقناع غيرهم بالهدم والغواية والخيانة والفوضى

(1)

.

لقد كان الأوائل من أدوات الغزو الفكري الغربي من العرب والمسلمين، يخجلون من وصفهم بالعملاء، ويدفعون عن أنفسهم وصف المذاهب الهدامة وينفون أن يكونوا آلات غزو فكري، ويتظاهرون بالانضباط والسعي للمصلحة والحرص على الخير والخلق!!.

أمَّا أدوات الغزو الفكري المعاصر من حداثيين وعلمانيين فإنهم لا يخجلون من هذه الأوصاف مطلقًا بل يفاخرون بها أعظم المفاخرة!!.

لأن هذه المذاهب الهدامة الحديثة تعتبر عند المشتغلين بها والمنافحين عنها تجارة تقاضوا أجرها من أسيادهم سلفًا، وهي تجارة دنيئة كمتاجرة البغايا بأعراضهن!!، تجارة يعمل فيها من انحرفوا بطبيعتهم حتى أضحوا غير صالحين لعمل نافع منظم، فتراهم يندفعون إلى هذه الأفكار الهدامة على قدر ما يطمعون فيه من ربحها المادي أو المعنوي.

وهنا لا نرى فكرًا ولا عقلًا ولا أدبًا، بل نرى السخرية، واللجاجة في الشر، والاندفاع في الرذيلة، ونجد متاجرين بالشغب والخراب، مفاخرين بالجرائم الفكرية متجهين إلى الفساد والعفن والانحطاط.

هل هذا من باب التجني الذي تقود إليه الخصومة؟ معاذ اللَّه، فإن اللَّه قد أمر بالعدل حتى مع الكافرين، ولكن هذا هو كلامهم عن أنفسهم، وهذا هو اعترافهم عن أعمالهم ومقاصدهم وغاياتهم.

يقول أدونيس: (لا يستطيع الشاعر أن يبنى مفهومًا شعريًا جديدًا إلّا إذا عانى أولًا في داخله انهيار المفهومات السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر، إذا لم يكن عاش التجدد، فصفا من التقليدية، وانفتحت في أعماقه الشقوق والمهاوى التي تتردد فيها نداءات الحياة الجديدة، فمن المستحيل

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 227.

ص: 1657

الدخول في العالم الآخر، الكامن وراء العالم الذي نثور عليه دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع والنفي)

(1)

.

ويقول أيضًا: (سأحدد المعوقات بطريقة غير مباشرة، فأقول: الفن العربي الحقيقي هو الحرب، والفن لا يحارب إلّا في مجاله: نظام القيم، نظام اللغة والفكر، التراث، والحرب هنا تتضمن حركتين: تهديم البنية الثقافية - الفنية السائدة، وخلق بنية جديدة.

آخذ أمثلة: إن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي، ليست تلك التي تسليه أو تقدم له مادة استهلاكية، ليست تلك التي تسايره في حياته الجارية، وإنّما هي التي تعارض هذه الحياة، أي تصدمه: تخرجه من سباته، تفرغه من موروثه، وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم، كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها، وذلك من أجل تهديمها كلها، أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد، هكذا يلزمنا ثوريًا، مسرح ضد المسرح وشعر ضد الشعر، وقصة ضد القصة: يلزمنا تحطيم الموروث الثابت)

(2)

.

ويقول: (الهدم شرط أولي لكل شعر ثوري، بل لكل شعر حقيقي)

(3)

.

وبعد أن ساق جملة أسماء

(4)

من الذين يعتبرهم قدوته في الشك والرفض والهدم والفوضى قال موجهًا كلامه لأتباعه: (ولسوف نكمل ما بدأه هؤلاء، ونشك ونرفض ونغير، إذا استطعنا، إيقاعات الخليل، ونثور ونهدم

(1)

المصدر السابق: ص 46.

(2)

المصدر السابق: ص 75 - 76.

(3)

المصدر السابق: ص 19.

(4)

هم: امرؤ القيس، وأبو نواس، وأبو تمام، والشريف الرضي، والمتنبي، وأبو العلاء المعري، والحلاج، والرازي "يقصد محمد ابن زكريا الملحد"، وابن الراوندي، وشبلي الشميل، وفرح أنطون.

ص: 1658

و"نعلن الفوضى" وسنأمل أن نكون أغنى وأعظم مما كانوا)

(1)

.

ومن أقواله في هذا الصدد قوله: (ليس الشاعر من يكتب القصائد، الشاعر هو من يخلق فضاءً، لا "اعلّم"، بل أهدم وأحرّض)

(2)

.

وينقل مثل ذلك محمد جمال باروت عن ذوي الوعي النخبوى الليبرالي!! أصحاب قصيدة النثر التي يعتبرها أنسي الحاج "فنًا قدريًا ونهضويًا في آن واحد وفعل عصيان على ألف عام من الضغط والعبودية والجهل والسطحية، إن أنسي يصوغ مشكلة "قصيدة النثر" ببنية وعي، ترى فيها شكلًا من الجنون الرافض اللاعن. . . .

في سياق ذلك فإن "التخريب حيوي ومقدس" و"أول الواجبات التدمير" و"الهدم الهدم الهدم" حسب ما يرى أنسي، فشاعر "قصيدة النثر""يستبيح كل المحرمات ليتحرر")

(3)

.

نعم لقد قال أنسي الحاج ذلك في مقدمة ديوانه المسمى "لن" واعتبر ذلك عند الحداثيين ثورة تقدمية ونهضة ثقافية!!، إلى غير ذلك من نعوت المدائح الحداثية، التي أترعت بها الملاحق والمجلات والكتب والمنابر الأدبية، الموجهة إلى كلمات طلسمية لا يفهمها قائلها، وإلى مضامين مزدكية تستجر أُسارى الشهوات الهابطة.

يقول أنسي الحاج في مقدمة ديوانه "لن": (لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر. . . وفي كل قصيدة نثر نلتقي معًا دفعة فوضوية هدامة. . . يجب أن أقول أيضًا إن قصيدة النثر -وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيًا- عمل شاعر ملعون، الملعون في جسده ووجدانه، الملعون يضيق بعالم نقي. . . إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر، لكن قصيدة النثر، التي هي نتاج

(1)

زمن الشعر: ص 239.

(2)

المصدر السابق: ص 320.

(3)

الحداثة الأولى: ص 212 - 213، والأقوال التي يبين الأقواس من كلام أنسي الحاج نقلها باروت من مقدمة ديوان الحاج الذي سماه "لن": ص 13.

ص: 1659

ملاعين، لا تنحصر بهم، أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين الجميع يعبرون على ظهر ملعون.

. . . والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول "رمبو" نشير إلى عائلة من المرضى، قصيدة النثر بنت هذه العائلة، نحن في زمن السرطان، نثرًا وشعرًا وكل شيء، قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره)

(1)

.

وليس هذا خاصًا بقصيدة النثر بل هو عام بفكرهم كله ويسلكهم جميعه، ومن أدلة ذلك ما سبق نقله، وما جاء في "البيان الشعري" الذي افتتحت به "مجلة شعر 69" عددها الأول في أيار 1969 م الموافق صفر 1389 هـ: (. . . إن الشاعر الذي يصل في قصائده إلى النبوة، هو الذي يعرف كل شيء ولا يعرف، وهو الذي يقول ولا يقول، وهو الذي لا يكون في العالم رغم أنه موجود فيه. . . الشاعر وحشي يقف ضد كل شيء، ويهدم حتى نفسه عندما يجد ذلك ضروريًا. . . إن الشاعر لا يُمكن إلّا أن يكون مع المستقبل، لا لأنه كائن يتجاوز حتى نفسه، وإنّما لأنه هادم جبار أيضًا. . .

فالشاعر في ضوء مثل هذه الرؤيا، محرض على الثورة والتمرد ومقاتل يحدق بعيني نسر إلى المستقبل الذي لا يراه الآخرون)

(2)

.

والحداثة التي هي عقدة الأفاعي، حسب تعبير أحد نقادهم تعيش: (حيث لا أفق سوى العدمية والاستلاب، بعد إعلان نيتشه موت اللَّه "سبحان اللَّه وتعالى عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا" والجمال معًا، والفن لم يعد يعوض عن الحياة بل يساهم في تعميق الاستيلاب نحوها، فسيموت الفن تاركًا إيانا في العراء، حيث الشمس السوداء للسأم والسوداوية شمس

(1)

من مقدمة "لن" لأنسي الحاج، نقلًا عن قضايا وشهادات 3/ 165.

(2)

مجلة شعر 69 العدد الأول، السنة الأولى أيار 1969 م/ 1389 هـ، بغداد: ص 3 - 16، وأصحاب هذا البيان هم: فاضل العزاوي، سامي مهدي، فوزي كريم، خالد على مصطفى.

ص: 1660

الفرح الحمراء، وقمر الكارثة الشاحب. . . إنها وعى المتاهة إذ تغدو المتاهة هي الحقيقة الواقعية الوحيدة. . .)

(1)

.

ثم يضيف هذا الناقد الحداثي قائلًا: (إن البلبلة والتشوس سمة مميزة للحداثة التي تريد أن تنطوي على وجود بدون وجود، وعلى نص بدون نص وعلى سؤال بدون سؤال. . . فالحداثة هي اللاذات، اللاأساس، اللاقول اللاذاكرة، حيث بالإمكان تمديد هذه المتوالية من "اللاءات" إلى ما لا نهاية: اللامنطق، اللاعقل، اللاحداثة، وبذلك فإن الكتابة "الحداثية" تغدو ممكن قول أي شيء)

(2)

.

وتقول إحدى الحداثيات في سياق حديثها عن الرواية الحداثية: (إن نشوء الرواية جاء في فترة تاريخية رحبت بالتجديد والتجريب وحتى التخريب والهدم الفني. . .

جاءت الثورة. . . ابتداء من القرن الثامن عشر واكتمالًا في القرن التاسع عشر لا لتقلب المعايير فقط، بل لتجعل من قلب المعايير معيارًا في ذاته. . .)

(3)

.

أما محمد بنيس فإنه يتحدث عن الفوضوية والهدم الحداثي بقوله: (لا بداية ولا نهاية للمغامرة، هذه القاعدة الأولى لكل نص يؤسس ويواجه. . . توق إلى اللانهائي واللامحدود يعشق فوضاه وينجذب لشهوتها. . .)

(4)

.

ثم يشرح الهدف من هذه الفوضى فيقول: (يهدف النقد إلى تفكيك المفاهيم والقيم والتصورات، داخل الشعر وخارجه، انطلاقًا من التحليل

(1)

قضايا وشهادات 2/ 275 - 276 والقول لعبد الرزاق عيد تحت عنوان "الحداثة عقدة الأفاعي".

(2)

المصدر السابق 2/ 292.

(3)

المصدر السابق 2/ 229 من مقال لفريال جبوري كزول، بعنوان الرواية الشعرية العربية نموذجًا لأصالة الحداثة.

(4)

حداثة السؤال: ص 18.

ص: 1661

العلمي للوقائع والمعطيات، والعودة بالإنسان إلى بعده الواقعي، ماحيًا كل المتعاليات التي تسلب منه قدرته على الفعل. . .)

(1)

.

وتحدث محمد بنيس عن الشعر فيقول عنه: (بالنسبة لي هو حالة التدمير، فلا يُمكن أن نكون في هذا العصر إلّا أبناء عاقين لسلطة استبدادية وقاسية وعنيدة تراكمت عبر العصور. . .)

(2)

.

(. . . هكذا يكون الشعر انغراسًا في تفكيك قواعد الكلام واجتياح الطاعة المعممة، واختراق أنساق الهدنة والتواطؤ. . .)

(3)

.

وفي مقابلة مع أدونيس يقول عن شخصية مهيار التي اتخذها قناعًا باطنيًا لأفكاره وعقائده: (فمهيار يدعو إلى ما أسميت في مكان آخر الهدم الجميل، الهدم الكامل لإعادة البناء. . .)

(4)

. (. . . فمهيار نقيض كل نظام قائم على نصوص أصيلة. . .)

(5)

.

ويتحدث عن القصيدة الحداثية قائلًا في لهجة أستاذ معلم!: (. . . والقصيدة يجب أن تكون مثل هذا المشهد الفوضوي. . . إنه غياب القانون، إنه الفوضى الكونية، إنه زمن ما قبل العالم)

(6)

.

ويتحدث في كتابه الصوفية والسوريالية عن أحد أساتذته الذين قلدهم وهو السوريالي "بريتون"

(7)

يقول: (ومن هنا يعيد "بريتون" للعبث والعصاب والجنون الأهلية والاعتبار، بوصفها وسائل أعطيت لنا لكي نحقق بها أصالة الحياة النفسية الشخصية)

(8)

.

(1)

المصدر السابق: ص 20 ويقصد بالمتعاليات "اللَّه جل جلاله والنبوات والوحي والدين كله والأخلاق والنظم" كما بين ذلك في كتابه في مواضع عديدة منه.

(2)

المصدر السابق: ص 206.

(3)

المصدر السابق: ص 218.

(4)

رأيهم في الإسلام: ص 33.

(5)

المصدر السابق: ص 35.

(6)

أسئلة الشعر: ص 127.

(7)

سبقت ترجمته: ص 137.

(8)

الصوفية والسوريالية: ص 51.

ص: 1662

فلتهنأ الحداثة بأساتذتها الذين يرون الجنون والعبث أصالة للحياة النفسية!! ولتغتسل الحداثة بالبول على أنه الطهر، والنظافة ولتأكل من كل قمامة على أنها أشهى الطيبات وأحسن الموائد، فإن ذلك كله من الإبداع!!!.

وفي مقابلة مع أنسي الحاج يقول واصفًا الإبداع: (إنها الشهوة، شهوة الوصول. . . شهوة الذوبان، الإفلات، التبذير، الانتقام، شهوة القول، شهوة التسلية الشهوة الجنسية. . . شهوة الانتهاك. . .)

(1)

.

ولما سئل عن آخر صرعة من صرعات الحداثة "قصيدة البياض" قال: (لم أدرس جيدًا ولا قرأت من هذه القصائد، بالفرنسية أو بالعربية، ما يسمح لي أن أبدي رأيا في هذا النوع كنوع، الآن بين القصائد التي تسنت لي قراءتها ما يقوم على لعبة تستهويني، لعبة عبثية يشتغل فيها العقل، بمنتهى الدقة والتقشف، لحساب هاوية تناديه. . . أنا مع التجارب كلما كانت نابعة من حاجة ذاتية، من الرفق الخلاق، مع التجارب حتى النهاية مع تجارب لا حدود لها، أنا ضد الشعوذة، ضد الزيف، ضد التقليد، ولكني مع المغامرة، مع التجرؤ، مع اللعب، مع التغيير، مع الصدم، بل أنا مع الفضيحة. . .)

(2)

.

وفي كتاب "خواتم" يقول: (. . . إن الكتابة عبث، فلماذا لا تكون، فور ذاك، تمريغًا لعبث الوجود بعبثها، ولمحدودية الخلق بلا محدودية جنونها وهدمها. . .)

(3)

.

ويقول: (الكتابة هي دائمًا فعل تخريبي. . . الكاتب التخريبي لا يتقصد أن يكون كاتبًا تخريبيًا، إنه لقاء الفطرة ونداء الأشياء. . . إنه قدر الضالين سواء السبيل المعبد للعبيد، ومهما سالم الكاتب التخريبي سيظل "يصيب"،

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 317 - 318.

(2)

المصدر السابق: ص 324 - 325.

(3)

خواتم: ص 15.

ص: 1663

ومهما سربله الحب سيظل يشعل الحرائق، ومهما انحط سيظل أعلى من عصره ومن ناصحيه)

(1)

.

ويقول قباني في مقابلة أجراها معه جهاد فاضل: (أنا مع الشعر الجديد في مغامراته وهلوسته وهذيانه. . .)

(2)

.

وفي مقدمة كتبها سعيد عقل لما يسمى شعرًا لتوفيق صايغ يقول: (إنه كل شيء سوى اللاشيء، هذا الذي جاء آخر الزمن، في عصر يتنفس العدم تنفسًا، في الفلسفة والشعر وفي الفن جميعًا)

(3)

.

إنهم يشعرون بعدميتهم الذاتية فيمارسون ذلك عبثًا وفوضى في كلامهم، إنهم يعبرون بكل هذا الذي نقلناه عنهم؛ يعبرون عن ذواتهم، عن عقولهم المريضة، ونفسياتهم المنحرفة، وسلوكياتهم المنحطة، إنهم كما قال غالي شكري عنهم وعن شعرهم:(إن الشعر الحديث هو، بشكل ما، صورة عن حياتنا المعاصرة، في عبثها وخللها)

(4)

.

‌المدرك الثالث:

من أصولهم "تدنيس المقدس" واستباحة المحرم، والتحرر من المنع وإسقاط موازين الحلال والحرام، وهم يعتبرون ذلك أحد أهم إنجازات الحداثة وأهم مشروعاتها، ويفاخرون بذلك، ويروونه كثيرًا في كلامهم.

وتدنيس المقدس نتيجة حتمية للفوضى والعبث الذي يمارسونه ويحتفلون به ويؤصلونه منهجًا لفكرهم وأدبهم وحياتهم وسلوكهم، فبئس الورد المورود!!.

عجماوات في إهاب إنسان ينطق، بل لعمر اللَّه إن العجماوات أرفع

(1)

المصدر السابق: ص 117 وقد نشر هذا الكلام في مجلة الناقد، العدد العاشر نيسان 1989 م/ 1409 هـ: ص 11.

(2)

فتافيت شاعر: ص 84.

(3)

الأعمال الكاملة لتوفيق صايغ: ص 18.

(4)

شعرنا الحديث إلى أين: ص 111.

ص: 1664

منهم درجة وأعلى منهم شأنًا؛ لأنها لم تخرج عن فطرتها ولم تتجاوز مقتضيات خلقها التي خلقت عليها.

أما هؤلاء فقد انحدروا حتى ضج منهم الإنحدار، وهبطوا في دركات الحيوانية حتى انحطوا عن درجة الحيوان {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}

(1)

، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}

(2)

.

تقول قرينة أدونيس، ومروجة أفكاره: خالدة سعيد، عن الأعمال التي يقوم بها المبدع والحداثي والمجدد!! وأنها تقوم أصلًا على (زعزعة النموذج وإسقاط صفة الأصلية فيه، أو صفته المطلقة ورده إلى حدود الموروث التاريخي، فكانت هذه الأعمال توكيدًا على أن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر فيما اكتسب صفة القداسة، وحق نزع الأسطورة عن المقدس. . .)

(3)

.

وتقول أيضًا: (وإذا كانت الحداثة حركة تصدعات وانزياحات معرفية - قيمية، فإن واحدًا من أهم الانزياحات وأبلغها هو نقل حقل المقدس والأسراري من مجالات العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش. . . إن ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" قد شكل أول انقلاب بين العالمين ونقل المقدس إلى الحقل الإنساني، ولابد من القول في هذا المجال أن ديوان "لن" لأنسي الحاج قد أسهم في تجريح المقدس، ورفع لواء العصيان البشري، وإقامة لغة التجديف

(4)

، غير أن مهيار يصوغ التجديف بلغة تبني الدينية الضدية، وترسم إله الدمار والتفكك

(1)

الآية 44 من سورة الفرقان.

(2)

الآية 179 من سورة الأعراف.

(3)

قضايا وشهادات 3/ 64.

(4)

التجديف: هو إعلان الكفر وإظهار الاستخفاف والعبث بالأديان.

ص: 1665

وتؤسس لانقلاب القيم ومواقع المقدس)

(1)

.

وتصف ناقدة حداثية أخرى هذا الأصل الحداثي وكيف نشأ عنه ما يسمونه "الحركة الإنسانية" التي تقدس الإنسان وتعلي شأنه من جهة أنه كيان مادي بحت، أي "حيواني محض"، تقول هذه الحداثية:(أصبح الإنسان مع نزع هالة التقديس والألوهة عن الكون ومدبره، أصبح يقع في مركز الكون ويشكل مبدأ القيم والغايات، وعندئذٍ ترسخت الحركة الإنسانوية. . . توقف الإنسان عن الدوران حول المقدس، وحلت مشرعية إنسانية جديدة محل المشروعية الدينية السابقة، ونتج عن ذلك أخلاق جديدة وقوانين جديدة تنطبق على البشر دون استثناء)

(2)

.

فهذا هو أصلهم ومنزع عقيدتهم في تأليه الإنسان وجحد ألوهية اللَّه تعالى وربوبيته، إلحاد قاحل، يقوم على أوهام مادية باطلة ومرض عقلي يتظاهر أصحابه بتمام العقل والإدراك:(ولو ظهرت عقيدة بين البهائم العجماء لما كانت أقل من هذه العقيدة "الوسخة" لا في المقاصد ولا في الأصول)

(3)

.

يقول عبد الرحمن منيف، واصفًا أهم ألسس ومضامين الحداثة:(. . . إن إحدى مهمات الحداثة وأيضًا إحدى صفاتها، نزع القداسة عن الأشياء، والتحرر من القيود واللجوء إلى السخرية)

(4)

.

ويقول أحد النقاد الحداثيين: (فكر الحداثة داس كافة المحرمات لاعتقاده بأن الوجود خلو من كل سر. . .)

(5)

.

(1)

المصدر السابق 3/ 84.

(2)

المصدر السابق 2/ 102 والقول لأنيسة الأمين.

(3)

مذهب ذوي العاهات للعقاد: ص 29.

(4)

قضايا وشهادات 2/ 219.

(5)

المصدر السابق 2/ 286 والقول لعبد الرزاق عيد.

ص: 1666

ويقول أنسي الحاج: (الحاجة اليوم أراها إلى كتابة تمزق حجابها بعدما تمزق وجدانها، إلى كتابة تقول المحرم والممنوع والمخيف والمهول والرائع والمدهش والمذهل والساحر والرهيب، ولو لعنت ورجمت واضطهد أصحابها حتى الموت. . .

الحاجة إلى كتابة العري، عري الذات والفكر والدخلاء والحلم والكابوس والنظر والبصيرة والشوق والاستيهام والنوايا، عري المنطق، عري الاقتناع، أي الشك، عري الإيمان، عري المحاكمة الذاتية والموضوعية، عري الخطايا، عري الضعف والانحلال، عري الجنون، عري السقوط، عري الصلاة العارية، والهرطقة

(1)

العارية والعربدة العارية)

(2)

.

وأنسي الحاج هو الذي وصف شاعر قصيدة النثر بأنه (يستبيح كل المحرمات ليتحرر)

(3)

.

ويكتب أحد كتاب مجلة الناقد بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل يوسف الخال مستلهمًا من الخال: (شيطانية الرغاب)

(4)

و (أبدية الخرافية الفاسقة)

(5)

، ثم يقول:(علينا الإطاحة بأصنام اللغة، بتوابيت القداسة، بالقواميس المقابر، علينا تسجيل الجسد وترشيده. . .)

(6)

.

ثم يصف مجلة شعر ويغدق عليها مدائحه الحداثية الإلحادية فيقول: (. . . الدخول إلى مجلة شعر كالعبور إلى ملكوت رحمي أسر، أو إلى شرك كالح دابق أرض ممرغة ببوار، ولزوجة مبتراة من وميض الخلايا. . .)

(7)

.

ثم يخاطب يوسف الخال: (كيف انبثقت؟ ولماذا لم تصرف عنا هذي

(1)

الهرطقة هي الإلحاد وسب الدين والعبث والسخرية به.

(2)

الناقد، العدد الأول تموز 1988 م/ 1408 هـ: ص 7.

(3)

الحداثة الأولى: ص 213 نقل ذلك من مقدمة ديوانه "لن".

(4)

و

(5)

و

(6)

و

(7)

مجلة الناقد، العدد التاسع آذر 1989 م/ 1409 هـ: ص 48.

ص: 1667

الكأس، يا نصف إله محتضر، يا شيطانًا ما زال لنا؟)

(1)

.

وما يدري العاقل من أي شيء يعجب، أمن هذه الصنمية الحداثية؟ أم من هذا الاعتراف الصريح بالإلحاد والشرك الكالح؟ أم من المدائح الحداثية التي تجعل الجعل وطعامه في درجة النحل وشهده؟!.

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}

(2)

.

وفي مجلة الناقد أيضًا كتب أحدهم أهم ملامح الحداثة العربية، تحت عنوان "مقاربة الحداثة" فيقول عن السمة التي سماها الخروج من الجمعية إلى الفردانية:(. . . الفردانية محاولة تحرر ومشروع توكيد الذات، ولدلك تعمد إلى خرق المألوف واجتراح التراث ومناوشة الأعراف والتقاليد، فلا غرابة إذا اعتبرت الروح الفردية العمود الفقري لحركة الحداثة)

(3)

.

(. . . والحداثة هي فعل شمولي كوني تحترق المألوف والمعتاد سعيًا وراء تحقيق مقاربة أفضل للقانون الأمثل. . .)

(4)

.

ثم يتحدث عن التعددية الوثنية الإغريقية ويجعلها المجال الواسع الذي تتحرك فيه الإبداعات، ويجعلها كذلك الأصل للحداثة الراهنة والمدد الفكري للتعددية المذهبية والحرية المعاصرة، يتحدث عن التوحيد ويشير إليه على أنه التخلف والجمود والسبب الأكبر للركود الإنساني!!، ويستطرد في وصف الوحدانية قائلًا:(من أهم مفرزات الوحدانية التقديس والتدنيس والتحليل والتحريم، وهي مفرزات إيمانية أن تحول التقديس إلى عصمة وتحول التدنيس إلى إدانة)

(5)

.

ثم يضيف: (الواحدانية تتناقض كل التناقض مع الحرية، إن وحدانيتها

(1)

مجلة الناقد، العدد التاسع آذر 1989 م/ 1409 هـ: ص 48.

(2)

الآية 35 من سورة غافر.

(3)

المصدر السابق، العدد 8 في شباط 1989 م/ 1409 هـ: ص 30 مقال لحنا عبود.

(4)

المصدر السابق 8/ 33.

(5)

المصدر السابق 8/ 33.

ص: 1668

تحول دون تحقيق وعودها، فلا حرية مع الوحدانية. . . لذلك نجد النهضة الأوروبية حاولت إعادة الصيغة الوثنية التعددية، فقد وجدت فيها التعبير الأكمل لحرية الإنسان فكرًا وجسدًا، وهنا تبدأ الحداثة الثانية. . . وقد كانت الدعوة إلى الصيغة الوثنية واضحة كل الوضوح لدى رجال النهضة. . . إن الظروف الصناعية عدلت الكثير من الصيغة الوثنية للحداثة الزراعية، ولكنها أبقت على نواتها الأساسية، أمّا النواة الأساسية التي أبقت عليها فهي إسقاط القداسة عن كل شيء، لم يعد هناك شيء خالد قدسي أبدي لا في عالم الفكر ولا في عالم المادة)

(1)

.

ثم يضيف: (ولا تزال مهمة الخلاص من الوحدانيات قائمة. . . وعلى هذا يُمكن القول إن الحداثة الصناعية أو الحداثة المعاصرة هي محاولة استعادة الصيغة الوثنية للحداثة الزراعية، في ظروف جديدة، أهم ما يميزها الصخب والسرعة والاكتظاظ، وهذه الصفات تقف تمامًا في الضفة المقابلة لصفات ظروف الحداثة الزراعية، أمَّا القاسم المشترك فهو إسقاط القداسة عن كل شيء، فلا العروض ولا القوافي، ولا الأوزان والإيقاعات والكلمات والتصريحات، ولا العقائد والأفكار والمذاهب والآراء، ولا العادات والتقاليد والطقوس والممارسات، ولا الأحزاب والكتل والفئات والمجموعات والأفراد، ولا الأنظمة والقوانين والدساتير، ولا المكان والزمان والشهور والأيام تحظى بأي قدسية)

(2)

.

أمّا المتفرنس محمد أركون فقد ناقش قضية المقدس والحرام وقرر بأن (المقدس متحول ومتحرك وليس ثابتًا أو ساكنًا كما قد نتوهم، يضاف إلى ذلك أن المقدس يتعرض باستمرار للتلاعب به من قبل الفاعلين الاجتماعيين أي البشر. . .، ويُمكنني أن أقول: إن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس السائد أيام النبي، لأن أشياء كثيرة تغيرت منذ ذلك الوقت في

(1)

المصدر السابق 8/ 33.

(2)

المصدر السابق 8/ 134.

ص: 1669

ساحة المجتمعات الإسلامية والعربية، وإذن فينبغي أن ننظر للمقدس كشيء متحرك وفي الوقت ذاته جبار ومستمر، بمعنى أنه موجود دائمًا ولكن بأشكال متنوعة شديدة الاختلاف)

(1)

.

ومؤدى هذا القول إسقاط القداسة وإزاحتها مثل القول السابق

(2)

، إلّا أن الكاتب السابق كان أصرح وأوضح في طرح فكرته، أمّا أركون فإنه كأسلوبه دائمًا ملتوٍ معقد، وغاية قوله هذا أن المقدس في العهد الأول من الإسلام يُمكن أن يتحول إلى مدنس، والمدنس يتحول إلى مقدس، أي: -وحسب النص الذي قبله- يتحول التوحيد إلى تخلف ورجعية وركود وجمود، وتتحول الوثنية إلى تقدم وتجدد وتعددية وانفتاح!!.

ولعل أركون بهذا القول يبرر لنفسه وأتباعه غرقهم في تقديس الغرب وخاصة فرنسا، وتقديس محاضن العلوم الإنسانية الغربية وخاصة السوريون الذي يعمل فيه، وتقديس المناهج وخاصة المنهج المادي العلماني، وتقديس أعلام الفلسفة الغربية وخاصة ماركس ونيتشه

(3)

.

أمّا محمد بنيس فإنه يتحدث في سياق "تدنيس المقدس" بصورة أكثر جرأة ووقاحة، حين يتحدث عن الإسلام وأركانه والإيمان وأركانه تحت عبارة "المتعاليات" ويقصد بها أولًا: اللَّه -جلَّ وعلا- وثانيًا سائر أركان وقواعد الإسلام العلمية والعملية، يقول بنيس: (أول ما يجب أن يتجه إليه النقد هو المتعاليات بمختلف تجلياتها، ليس الغائب الذي يخلق الحاضر والمستقبل بل الإنسان هو خالق حاضره ومستقبله.

لا تستصغروا المتعاليات إنها المتحكمة في وعينا ولا وعينا. . . إن المتعاليات كمجال معرفي، تعتمد قناعة أساسًا، وهي أن الإنسان موجود

(1)

الإسلام والحداثة: ص 331.

(2)

وهو لحنا عبود.

(3)

انظر عن حياته ومجمل أفكاره كتاب العقلانية هداية أم غواية: ص 126 - 128 وخاصة المقابلة أجرتها معه مجلة فرنسية عن الإسلام وفيها صب جام حقده على أحكام الإسلام، وتبين فيها مقدار جهله به.

ص: 1670

بغيره لا بنفسه، شبح عابر في دنياه، صورة لمثال، مصيره فوقه لا بين يديه، تغطيه السماء بحنينها مرة، وتحتفظ له الظلمات بالودع، هنا أو هناك)

(1)

.

واضح تمام الوضوح أنه يقصد بالمتعاليات أركان الإيمان عند المسلمين: الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر.

وهذا كافي في الدلالة على مراده من نقد المتعاليات الذي يعبرون عنه أحيانًا بـ "تدنيس المقدس".

وقد شرح بنيس مراده بكلمة "نقد" فقال: (يهدف النقد إلى تفكيك المفاهيم والقيم والتصورات، داخل الشعر وخارجه، انطلاقًا من التحليل العلمي للوقائع والمعطيات، والعودة بالإنسان إلى بعده الواقعي، ماحيًا كل المتعاليات التي تسلب منه قدرته على الفعل، وتنسب لذاتها كتابة مصير الكون على جباهنا العارية)

(2)

.

هذا النقد الذي يشرحه بنيس في هذا النص يتفق مع صفقات التجارة الحداثية القائمة على "العبث" والانتهاك من أجل إسقاط دين الإسلام أصولًا وفروعًا، على أساس أن هذا العبث والانتهاك والسخرية والاستخفاف "عمل إبداعي" يستحق الإشادة والتشجيع!!.

ويقول جبرا إبراهيم جبرا: (الإبداع من صفته أن يكون غير متوقع، كلمة "الإبداع" هي أصلًا من البدعة، شيء جديد، أحيانًا تكفر صاحبه، وأحيانًا تمجد صاحبه، الإبداع يجب أن يكون فيه هذا العنصر غير المتوقع. . .

الإبداع يجب أن يبقى شيئًا غير مألوف أصلًا، سيبقى الإبداع ميزة المتفردين القلائل، في كل الحضارات الأمر كذلك، لكن الصفة هي الجرأة في رؤية المستقبل أو الماضي، الجرأة في تناول المحرمات. . . كل شيء

(1)

حداثة السؤال: ص 19.

(2)

المصدر السابق: ص 20.

ص: 1671

قيل لك إنه محرم، حاول أن تفهمه، وحاول أن تمسه، اخترقه)

(1)

.

كل شيء يُمكن أن تدعيه هذه المخلوقات الممسوخة، ولن تستنكف هذه اللمامة انبشرية من أي وصف يُمكن أن يلصق بها؛ لأنه ليس في موازينهم التخريبية أي تحرج من أي وصف سخيف أو ساقط أو ضال أو باطل، قل إن شئت: عميل، مستغرب، عابث، ماجن جاهل، مخرب، مفسد، منحرف، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا ينفونها عن أنفسهم، بل ويفتخرون بالاتصاف بها، لا ضير لديهم فالخراب عندهم تعمير، والفساد صلاح ونماء، والانحراف حرية واختيار، والكفر جرأة ورؤبة، والضلال تقدم وتجديد، والعبث إبداع وتحديث!!، ومن هذه المنطلقات وأشباهها، توجهوا بالعبث والتخريب إلى المصطلحات الشرعية والشعائر الإسلامية، واستهدفوا من ذلك هدم دين الإسلام وتقويض مبانيه، وأنى لهم ذلك؟.

وبعد ذكر هذه المدارك الموضحة لأسس هذا العبث، نذكر هنا شواهد وأمثلة على عبثهم ببعض المصطلحات والشعائر، لا على سبيل الاستقصاء فإن ذلك متعذر، ولكن على سبيل التمثيل، وسوف أذكر جملة من المصطلحات والألفاظ والشعائر مرتبة حسب حروف المعجم ثم اذكر ما توفر لي من شواهد على عبثهم وانتهاكم وسخريتهم:

•‌

‌ الآية:

وهي الجملة من القرآن العظيم الدالة على حكم أو خبر

(2)

، وقد استخف الحداثيون بهذه الكلمة الدالة على مضمون شريف عظيم، ومن ذلك قول نزار قباني:

(في سفر إلى الأعلى. . وتأخذني خطوط العرض

أمام تقاطع الفخذين والطرقات

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 190 - 191.

(2)

انظر: مفردات الراغب: ص 33.

ص: 1672

وأستلقي على ظهري

وتنزل فوقي الآيات)

(1)

.

ويقول أنسي الحاج: (وأَكره النكتة، كذلك لأنها معلبة، موجهة لتوليد ضحك السهرات الأكثر سخافة، وأمَّا النكتة الجنسية فلأنها، فوق ذلك، تهرج في موضوع مقدس، مهيب، ككل آية، هو الجنس)

(2)

.

ووضع يوسف الخال لمقطوعة من مقطوعات ديوانه عنوانًا هو "الآية الأخيرة"

(3)

، وفيها قال:

(في مواني الرخام أحتمي

أحمل في قرارة البقاء آية

أخيرة)

(4)

.

إلى أن قال في آخر المقطوعة:

(لا نور لا ظلام لا إله)

(5)

.

أمَّا أدونيس فإنه يفاخر بنفسه بصورة دائمة مملة، ويمتدح ذاته وفكرته الحداثية بتكرارية فاضحة ومن ذلك قوله:

(جامح أحتضن الأرض كأنثى

وأنام

موقظًا حبي فيها

لهبًا يفتح، يستنزل فيها آية

(1)

الأعمال الشعرية 2/ 263.

(2)

خواتم: ص 99.

(3)

الأعمال الشعرية للخال: ص 324.

(4)

المصدر السابق: ص 326.

(5)

المصدر السابق: ص 327.

ص: 1673

إني كتاب، ودمي حبر، وأعضائي كلام)

(1)

.

ويقول تحت عنوان افتخاري: (هذا هو اسمي):

(ماحيًا كل حكمة هذه ناري

لم تبق آية - دمي الآية

هذا بدْئي)

(2)

.

وفي مقطوعة جنسية قذرة يقول:

(أطلب إلى زماني مهلة لأكون آية تنطق بما سيكون الحب)

(3)

.

فكل النصوص السابقة تدل على مدى العبث بمصطلح "آية".

•‌

‌ الأذان:

وهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ ورد بها الشرع

(4)

.

ومن أمثلة عبثهم بهذه الشعيرة قول أحدهم في مقطوعة نشرها في الناقد بعنوان "أربع قصائد في المقاربات":

(يؤذن مغرب

فتحط عائفة إزارًا فوق أبيضها الرهيق وتنحني

في الماء ترمق شكلها شهبًا وأعشابًا. . .

. . . من منائرها يؤذن مغرب

فألم أوراقي من المقهى وأحلم بالنجيل

يحيط حمّصةً بمائدة تشيل إزار عاشقة

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 248 - 249.

(2)

المصدر السابق 2/ 268.

(3)

المصدر السابق 2/ 593.

(4)

انظر: معجم لغة الفقهاء: ص 52.

ص: 1674

ترامت فوق كف الغائبين مدى. . .

. . . كأن المغرب الفضاح أذن

فانتشلت قصيدتي ملموسة بمسيرها

كانت عشيقتنا تلملم نثرها خلف المكان)

(1)

.

ويقول جبرا إبراهيم جبرا مصورًا التخلف والرجعية:

(لا مجد بعد اليوم ولا مسرة

إنّما طين آسن وحرف موات للبشر

فليرتفع صوت المؤذن في الخرائب

ولينزف العود لحنًا ميتًا

لمدينة جدرانها تنز بغضًا والحجر)

(2)

.

ويقول معين بسيسو مفاخرًا بشيوعيته وإرثه للكفر الجاهلي القديم:

(ورثت عن أبي لهب

وزوجه، حمالة الحطب

ورثت جمرة وحبلًا من مسد

الحبل في أيديكمو

والجمر في يدي

كان بلال يؤذن في جرَّهْ

كان العبد المؤمن يملك فمه. . .)

(3)

.

(1)

مجلة الناقد، العدد التاسع، آذر 1989 م/ 1409 هـ: ص 46، والكلام لحداثي مصري اسمه حلمي سالم.

(2)

المجموعات الشعرية لجبرا: ص 112.

(3)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 448.

ص: 1675

ويقول ممدوح عدوان:

(وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا

تؤذن للصلاح وللفلاح. . ولا يمر الصوتُ في الصحراء

ينبه غافلًا يقضي. . ولا يدري

بأن الفقر، أن الغدر في الملأ

وأن النار في الدهماء

ويأبى أن يمر الصوت في الصحراء. . .

جميع رجالنا ماتوا

وهم يتولون آيات من الإسراء)

(1)

.

ويقول:

(سوق النخاسة تفتح عند الأذان بصوت بلا المؤلب

"اللَّه أكبر

حي على الثأر من فقراء البلاد")

(2)

.

وقد يشتمون المؤذن ويسخرون منه، ويتضايقون من صوته، كما هي حال الشياطين عند سماع الأذان، ومن ذلك قول الفوضوي العابث محمد شكري في روايته الشطار التي تتحدث عن سيرة حياته:(أبقى في القهوة حتى تغلق بعد منتصف الليل أهيم في الشوارع منتظرًا باب اللَّه "المسجد الكبير" أن يفتح عند صلاة الفجر، أنام في أحد أركانه، على حصير تفوح منه رائحة الرطوبة البشرية، الحارس الخفاشي الدائم، أو أي نعّاق مسجدي عابر، يأتي فيزعزعني في سباتي ويطردني. . .)

(3)

.

(1)

الأعمال الشعرية الكاملة لممدوح عدوان جـ 1 الظل الأخضر: ص 19 - 20.

(2)

المصدر السابق جـ 1 أقبل الزمن المستقبل: ص 120.

(3)

الشطار: ص 33.

ص: 1676

ونحو هذا القول يقول بن جلون في روايته ليلة القدر عند سماعه للمؤذن: (أسدلي الستائر، قد ينخفض صوت هذا الغبي الذي ينهق، يجب أن يعاش الدين في صمت وتأمل، وليس في هذه الجلبة التي تكدر صفو ملائكة القدر)

(1)

.

ولهم في هذا أقوال عديدة

(2)

.

•‌

‌ أسماء اللَّه وصفاته -جلَّ وعلا

-:

وهذه قد خاضوا فيها أشد الخوض وسخروا منها أعظم السخرية، وعبثوا بألفاظها ومعانيها أخبث العبث، وقد سبق ذكر ذلك في الفصل الثالث من الباب الأول

(3)

.

•‌

‌ الألوهية:

وهي أعظم قضايا التوحيد وأساس كل شيء في هذا الدين، وقد سبق ذكر أقوالهم الخبيثة التي فيها العبث والسخرية بلفظ الألوهية وبمضامينها العظيمة، وذلك في الفصل الثاني من الباب الأول

(4)

.

•‌

‌ أهل الحق:

وهم: المسلمون وأهل السنة والجماعة على وجه الخصوص، وذلك لالتزامهم بالحق يهدون به، وبه يعدلون.

وبما أن أهل الحداثة لا يؤمنون بالحق ولا يعترفون بالخير والعدل والفضيلة فإنهم يحاربون هذه المفاهيم ويعبثون بمدلولها، كقول المتفرنس محمد أركون وهو يتحدث عن كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام -

(1)

ليلة القدر: ص 19.

(2)

انظر: مسك الغزالي لحنان الشيخ: ص 136.

(3)

انظر: ص 664 - 681 من هذا الكتاب.

(4)

انظر: ص 480 - 505 من هذا الكتاب.

ص: 1677

رحمه اللَّه-، ويعتبر ما فيه معبرًا عن منطق:(العقل الإسلامي الأرثوذكسي)

(1)

، وأن هذا الكتاب (يتخذ أهمية كبيرة بالنسبة للتيار الإسلامي الراهن الذي يدافع عن خط الأرثوذكسية أي الإسلام الصحيح، أو ما يعتبرون أنه الصحيح، ذلك أن مشكلة الأرثوذكسية بهذا المعنى واسعة جدًا، فالمعنى. . . الأصلي لها يعني الخط المستقيم، أو الصحيح، والمعنى المصطلحي الديني يعني أن هناك إسلامًا وحيدًا مستقيمًا صحيحًا هو إسلام‌

‌ أهل السنة والجماعة

بحسب السنيين، أو إسلام أهل العصمة والعدالة بحسب الشيعيين، أو إسلام المحكمة أو الشراة بحسب الخوارج. . .)

(2)

.

فتأمل كيف يعبث بهذا المصطلح الشرعي القويم، ويدخل عليه اللفظ النصراني "أرثوذكسي" ويخلط بين الحق والباطل، بل يعتبر أن افتقار المعاجم اللغوية إلى لفظ "أرثوذكس" يدل على قصرها وضعفها، ويطالب باختراع واشتقاق ألفاظ مصطلحات جديدة توافق الحياة الجديدة

(3)

.

وبالطبع هو يعني الحياة الغربية بكل حاضرها، وماضيها من وثنية إغريقية إلى نصرانية محرفة، إلى مادية حيوانية جاهلية معاصرة، ولذلك لا مجال عنده لمفهوم أهل الحق أو المنهج الصحيح؛ لأنه قد تلقى عن أساتذته أنه لا يوجد حق مطلق، ولا صواب محقق ولا ثوابت لازمة، ولا أصول راسخة.

• أهل السنة والجماعة:

وهم الذين ساروا على نهج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأقوال والأعمال والاعتقادات.

وقد مرّ معنا في مصطلح أهل الحق كيف تعدى أركون بالعبث الكلامي السوربوني الفرنسي النصراني على هذا المصطلح.

(1)

و

(2)

الإسلام والحداثة: ص 350.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 351.

ص: 1678

ومن جنس هذا التعدي ما كتبه العلماني المصري والحداثي المغالي "جابر عصفور" تحت عنوان "إسلام النفط والحداثة" حين تحدث عن كتاب الشيخ عوض القرني "الإسلام في ميزان الحداثة" ومقدمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لهذا الكتاب، وتناول عصفور المنهج الاعتقادي الذي يسير عليه علماء وأهل هذه البلاد وهو منهج أهل السنة والجماعة، فقال في عبث وسخرية:(إن إسلام النفط يمتح من المخزون النقلي "الاتباعي" الذي ظل معاديًا للحداثة طوال عصور التراث. . .)

(1)

.

(إسلام النفط يكرر الأصوات السابقة في التراث النقلي)

(2)

.

ويقول: (وأقل ما يُمكن أن يفعله المتبع لهذا الخطاب، في حالة تصديقه، والخطاب ينبني لإيقاع التصديق، هو المسارعة إلى حضيرة "الاتباع"، والبحث عن السلامة في "التقليد")

(3)

.

والمقال كله مليء بالمغالطات والهجوم الشرس على المضامين الاعتقادية والمنهجية لأهل السنة والجماعة، ولا غرابة في ذلك، فإن من يرى أن الدين وصاية ورجعية وهيمنة على قدرات الإنسان، فلا شك أنه سيصل إلى هذه المنحدرات الهابطة ولو كان تحت رايات الثقافة والعلم والعقلانية، فالدعاوى يسيرة، يستطيعها أي جاهل أخرق، ولكن الواقع يكذب ما يقول.

•‌

‌ الأولياء:

هم: المؤمنون باللَّه تعالى الذين قاموا بما أمرهم اللَّه به ظاهرًا وباطنًا وتقربوا إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض وتركوا ما لا بأس به حذرًا مما به بأس

(4)

.

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 189.

(3)

المصدر السابق: ص 184.

(4)

انظر: فتح الباري 11/ 342، وشرح الطحاوية: ص 262 المكتب الإسلامي، وجامع العلوم والحكم: ص 262.

ص: 1679

قال اللَّه تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)}

(1)

.

ومن أمثلة عبث الحداثيين بمصطلح الأولياء، قول نزار قباني مخاطبًا عشيقته:

(اقتليني كاسيًا أو عاريًا

فلقد يجعلني القتل وليًا مثل كل الأولياء)

(2)

.

وفي قصيدة بعنوان "إفادة في محكمة الشعر" يقول:

(أيها الراكعون في معبد الحرف كفانا الدوار والإغماءُ

مزقوا جبة الدراويش عنكم واخلعوا الصوف أيها الأتقياء

اتركوا أولياءنا بسلام أي أرض أعادها الأولياء؟)

(3)

أمَّا أدونيس فإنه يحشد ألفاظ سبابه لعالم المسلمين في عبارات رمزية يقصد بها الدين الإسلامي وأهله وبلاده: "الرمل، العظام، الرخم، الجيف" وذلك في قوله:

(وبلادي امرأة من الحمى، جسر للملذات يعبره القراصنة

وتصفق لهم حشود الرمل، ومن شرفاتها البعيدة تلمح عيوننا

أشياء الناس - أضاحي لقبور الأطفال، مجامر للأولياء،

شواهد من الحجر الأسود، والحقول مليئة بالعظام والرخم

وتماثيل البطولة جيف ناعمة)

(4)

.

(1)

الآيتان 62، 63 من سورة يونس.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 226.

(3)

المصدر السابق 3/ 407.

(4)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 221.

ص: 1680

•‌

‌ الإيمان:

هو الإيقان بأن اللَّه تعالى هو الإله المستحق للعبادة دون غيره، وأنه هو الخالق المالك المتصرف له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وبأن الملائكة والأنبياء والكتب واليوم الآخر حق، وبأن القدر حق، والإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.

وقد تعدى الحداثيون على هذا المصطلح العظيم ونالوه بالسخرية والاستخفاف أعظم النيل وأشنعه، وقد مرّ معنا في الأبواب السابقة أمثلة على محاولتهم العبث بمصطلح "الإيمان" الذي يضادونه تمام المضادة، ويناقضونه المناقضة الكاملة:

يقول حسن حنفي: (وسأل أحدهم: هل الإيمان وهم، وكيف يوهم النص بالإيمان الخ؟ في حقيقة الأمر أنا أبدأ مما يؤمن به الناس، ومهمتي -حتى ولو آمنوا بالشيطان أو بأي شيء آخر- هي أن أستفيد من إيمانهم كطاقة وأستغله لتغيير الواقع مؤقتًا، حتى أقضي على الأمية وحتى أعيد تنظيم المجتمع، وأسلم المجتمع الذي نقلته من مرحلة إلى مرحلة، إلى الإخوة العلمانيين، وإنهم سيشكرونني على ما فعلت)

(1)

.

أمَّا محمد أركون فإنه يعالج من وجهة نظر فرنسية سوربونية ما يسميه "الحداثة ومشكلة المعجم الاعتقادي القديم" وتحت هذا العنوان يقول: (هذه التعابير المصطلحية الأساسية التي ورثناها عن الماضي كمفردات الإيمان والعقيدة بشكل خاص، لم نعد التفكير فيها حتى الآن ونحن نستخدمها وكأنها مسلمات وبدهيات ونشربها كما نشرب الماء العذب. . . عندما يستخدم المرء بشكل عفوي هذا المعجم الإيماني اللاهوتي القديم لا يعي مدى ثقله وكثافته وشحنته التاريخية وأبعاده المخيفة، وكل الأخطار المرافاتة لاستخدامه. . .)

(2)

.

(1)

الإسلام والحداثة: ص 224.

(2)

المصدر السابق: ص 327 - 328.

ص: 1681

وهو بهذه الدعوة العابثة يدعو إلى تمزيق مفاهيم الإسلام، وتثبيت مفاهيم الإلحاد والحداثة والعلمنة؛ لأن هذه الأخيرة هي التي سوف يحتكم إليها ويقيس عليها، ويعبث بالمصطلحات والمفاهيم بناء على معطياتها الجاهلية، متأسيًا في ذلك بأساتذته الغربيين، وقد أشار إلى هذا المعنى حين ذكر وجوب تفكيك المصطلحات الإسلامية فقال: (انظروا بهذا الصدد تفكيك جاك دريدا

(1)

لكل الجهاز المفهومي للميتافيزيقا الكلاسيكية)

(2)

.

وعلى الرغم من كثرة استخفاف وعبث الحداثيين بلفظ الإيمان ومعانيه ومقتضياته إلّا أن محمد أركون ما يزال يرى أنه يجب أن يفعلوا ما هو أكثر لإبعاد ثقله وكثافته وشحنته التاريخية!!، وأي شيء أكثر وأبشع وأخطر مما فعلوه؟!.

ها هو نزار قباني يقول:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا

على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمة

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(3)

.

وها هي نوال السعداوي تقول في روايتها "سقوط الإمام": (همس رجل في أذن جاره: أيدخل الإيمان قلوب الكلاب؟ رد الرجل: ولم لا؟ قال الجار: إذا عرفت الكلاب الوفاء فلماذا لا تعرف الإيمان، وهذا الكلب من أجود الأنواع، مستورد من وراء البحار كشف اللَّه عنه الحجاب، ويعرف المذنب من البرئ ويأكل كبد الحوت ويبتسم في الصورة. . .)

(4)

.

(1)

جاك دريدا فيلسوف فرنسي، ولد في الجزائر 1348 هـ/ 1930 م، درس الفلسفة ثم عهد إليه بإدارة معهد الفلسفة، له عدة مؤلفات في الفلسفة منها: الكتابة والاختلاف وهوامش الفلسفة وناقوس الحزن وغيرها. انظر: موسوعة أعلام الفلسفة 1/ 425.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 329.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 342.

(4)

سقوط الإمام: ص 86.

ص: 1682

أمَّا الفيتوري فيستخدم لفظ الإيمان استخدامًا عابثًا بشكل آخر، حيث يقول:

(أنا لا أملك شيئًا غير إيماني بشعبي

وبتاريخ بلادي

وبلادي أرض أفريقيا البعيدة

هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي

والتي أنشقها ملء الهواء

والتي أعيدها في كبرياء)

(1)

.

ولدرويش طريقة أخرى، يقول:

(آمنت بالحرف إما ميتًا عدمًا

أو ناصبًا لعدوي حبل مشنقة

آمنت بالحرف نارًا لا يضير إذا

كنت الرماد أنا أو كان طاغيتي)

(2)

ويخاطب عشيقته:

(يا من أحبك مثل إيماني)

(3)

.

وما يُدرى أي إيمان يريد؟ أإيمانه يالشيوعية؟ أم إيمانه بالحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح"؟

ونحو هذا قول البياتي عن عازف القيثار في مدريد ووصفه له بأنه:

(يعيش ثورات عصور البعث والإيمان)

(4)

.

وقوله عن نفسه:

(1)

ديوان الفيتوري 1/ 108.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 9.

(3)

المصدر السابق: ص 104.

(4)

ديوان البياتي 2/ 278.

ص: 1683

(آمنت بالليل الذي لا ينتهي ودفنت في جنح الظلام صباحي)

(1)

اعترف هنا اعترافًا يدل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}

(2)

.

أمَّا الليل الذي آمن به وعصور البعث والإيمان فهي المعنية بقوله:

(المجد للإنسان

لعالم يولد تحت الراية الحمراء

تحت راية العمال

يا رفيقنا تيلمان)

(3)

.

فلشدة استخفافهم بمصطلح الإيمان نعتوا به الكفر والضلال والإلحاد {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}

(4)

.

ومن هذا القبيل وصفهم لأنفسهم وأشباههم بأنهم مؤمنون!! بل واهبي الإيمان لغيرهم إ!، ومن ذلك قول المقالح في رثاء ملازم يماني قتل في إحدى الثورات اليمنية:

(يا صانع التاريخ والحياه

يا من وهبت لي

لجيلنا الإيمان والحياه. . .

. . . فلتخرس الأقلام والشفاه

فها هنا ينتصب الإله)

(5)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 53.

(2)

الآية 257 من سورة البقرة.

(3)

ديوان البياتي 1/ 329.

(4)

الآية 23 من سورة الأنعام.

(5)

ديوان المقالح: ص 123 - 124.

ص: 1684

وفي افتتاحية العدد الأول من مجلة الأديب ذات التوجه الاشتراكي الماركسي، يكتب رئيس تحريرها النصراني الماركسي عن أهداف هذه المجلة التي (تطمح أن تكون معرضًا للإنتاج الفني والأدبي "العلمي، ومنبرًا للرأي السياسي المنبثق من العقيدة الصادقة والإيمان الخالص. . .)

(1)

.

فهل يريد عقيدته النصرانية أم الحداثية أم الماركسية؟ وهل يريد الإيمان الخالص بهذه أم بغيرها؟

{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(2)

.

أمَّا الحداثي العلماني يوسف إدريس

(3)

: (رجل النجاح الكلي والتطرف الكلي)

(4)

حسب رأي مؤلفي كتاب رأيهم في الإسلام، والذين زادوا في وصفه بأنه صاحب:(الصدمات التي أحدثها نضاله العلماني فصدع أوصال الإسلام الرجعي)

(5)

، يصف هذا الحداثي المتطرف الشعب المصري فيرى أنه لم يفارق الإيمان من عهد الفراعنة حتى اليوم، أي أنه يساوي بين الكفر والإسلام في مسمى الإيمان، وهذا تلويث مقصود، يقول: (. . . إن

(1)

مجلة الأديب العدد الأول: ص 1 في 1/ 1/ 1942 م/ 1360 هـ بقلم ألبير أديب.

(2)

الآية 93 من سورة البقرة.

(3)

يوسف إدريس طبيب مصري وأديب وقصاص حداثي علماني متفرغ لذلك وللعمل في جريدة الجمهورية، ولد في 1345 هـ/ 1927 م، وهلك سنة 1411 هـ/ 1991 م بعد أن كتب كثيرًا من القصص والدراسات والمقالات المليئة بالمضامين اللادينية، وهو أول من خط مسرحيات بالعامية، وأغرق في وصف آفات المجتمع كالجريمة والشذوذ الجنسي، مصادم للناس، مسهب في الإنثاء، موهوب في الشتم والهجاء، يفخر بأنه صدع بنضاله العلماني أوصال الإسلام الرجعي، يرى أن الشعب المصري مؤمن من عهد الفراعنة، وأنه يجب عدم مقاومة أي غزو ثقافي، ويرى أن الإسلام لا يصلح نظامًا للحكم، وغير ذلك من الأفكار المنحرفة، وقد رثاه الكتاب العلمانيون والحداثيون رثاءًا حارًا، احتفائيًا كعادتهم، وثرت ذلك الهيثة المصرية العامة للكتاب في أكثر من ألف صفحة، مع ملحق بأسماء أعماله التأليفية والصحفية تحت عنوان "يوسف إدريس 1927 م - 1991 م". انظر: رأيهم في الإسلام: ص 93، والصراع بين القديم والجديد 2/ 1232.

(4)

رأيهم في الإسلام: ص 93.

(5)

المصدر السابق: ص 95.

ص: 1685

المصريين شعب قديم عرف ديانات عدة تعاقبت منذ "آمون" فالشعب المصري ليس شعبًا متعصبًا بل مؤمنًا، والفرق شاسع، إذ أن المؤمن يبحث عن الحقيقة بينما المتعصب يسير على حافة التحجر.

. . . فرجل كعبد الناصر لَمْ يكن ملحدًا بل مؤمنًا غير متعصب، لذا قاوم حركة الإخوان المسلمين. . .)

(1)

.

أمَّا أدونيس فإنه لا يبخل على نفسه بوصف الإيمان، وهو الذي لم يترك وصفًا كفريًا أعجبه إلا تلبس به، ومع ذلك يصر على تلويث هذا المصطلح العظيم بانتسابه كذبًا وزورًا إليه، يقول:

(لا أنحني

ألا لأحضن موطني

أنا صدر أم مرضع تحنو، وجبهة مؤمن)

(2)

.

بل هو جبهة وثني علماني حداثي باطني.

•‌

‌ بر الوالدين:

في سياق مناداتهم بهدم النظم الاجتماعية يدعون أولًا إلى هدم بناء الأسرة؛ لأنها تمثل -عندهم- سلطة الأب وسيطرته التي يجب إزاحتها؛ لأن ذلك من الحضارة كما يقول أحدهم: (هدف النقد الحضاري في المرحلة القادمة هو نقد النظام الأبوي وتعريته إيديولوجيًا وتفتيته سياسيًا من الداخل)

(3)

.

(إن نزعة التغيير الاجتماعي هي في صميمها الإرادة لتغيير النظام الأبوي، أي إلى الحد من سلطة الأب، أو بالإطاحة بها كليًا واستبدالها بنظام آخر، نظام يقوم على الإخوة والمساواة والعلاقات الأفقية)

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 95.

(2)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 118.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 372 هشام شرابي.

(4)

المصدر السابق: ص 373.

ص: 1686

(ويرمي هذا الطرح اتخاذ موقف ضدي إزاء الخطاب الأبوي بأشكاله المختلفة)

(1)

.

أمَّا إحسان عباس فيجعل انهيار سلطة الأب وتفكيك نظام العائلة وتحدي السماء وإشاحة الوجه عن كل ما هو وراء الغيب من سمات الحداثة الشعرية

(2)

.

ومن أمثلة ذلك قول سميح القاسم:

(رضا الوالدين لنا

والخشوع طويلًا لأضرحة الأولياء

وقسمتنا جنة الأتقياء

وأنت لك النار والكستناء

لماذا إذن تزدرينا

وتقتل فينا

زكاة الرضا

وصلاة العشاء

وصوم العشاء

لماذا؟)

(3)

.

•‌

‌ تاريخ الإسلام وحضارته، وقرون الهجرة، والسلف الصالح:

استهدف الحداثيون تاريخ المسلمين بالتشويه والتنقص والذم، وخاصة قرون الهجرة الثلاثة الأولى، في الوقت الذي مجدوا وامتدحوا فيه تاريخ الوثنية الإغريقية والفرعونية والآشورية، وتاريخ الشيوعية، والاشتراكية، وتاريخ الإلحاد والإباحية.

(1)

المصدر السابق: ص 381.

(2)

انظر: اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 158.

(3)

لا أستأذن أحدًا: ص 115.

ص: 1687

وحربهم لتاريخ الإسلام وماضي المسلمين يتسق مع مبدئهم القائم أصلًا على مضادة ومناقضة الدين القويم، وليس بالإمكان ذكر كل أقوالهم في هذا الصدد، لكثرتها، ولذلك سوف أورد بعض الشواهد على ذلك.

وقد اجتمع على حرب تاريخ الإسلام وحضارته النصراني والشعوبي والعلماني والماسوني لتنفيذ مأرب يهودي صهيوني يطمح إلى اقتلاع الأمة من تاريخها، وتشكيك الأجيال في حضارتها، وتمويه الهوية والانتماء، وإذابة الضوابط، ليقول العلماني ما لا يعصم الدم، ويتحدث الباطني بتراث أجداده الملاحدة، ويهرف الشعوبي بكل ما يذيب وجدان الأمة، وكلهم ليسوا سوى ورقة تائهة في زبالات التلمود، ومن أجل ذلك نرى تصميم الجميع على تحطيم كل قدر ومنزلة للأمة، وتدمير الجذور التاريخية وتشويهها بألوان من العبث العلماني والخواء الحداثي.

يصف البياتي عصر خلفاء الإسلام فيقول تحت عنوان "سقط الزند":

(مجلسهُ كان يعج بدواب الأرض والهوام

من كل صعلوك شويعر، دعي، داعر نمام

كان -إذا ما أنشدوا أشعارهم- ينام

مفلطحًا ومتخمًا

وكلما

أنشد منهم أحد تململا

وقال: لا!

- مولاي هل يخفى القمر

ويغضب الأمير

ويصفع الشاعر، فالقمر

يغيب كل ليلة في صفحة القدر

ص: 1688

كان زمانًا داعرًا، يا سيدي، كان بلا ضفاف

الشعراء غرقوا فيه وما كانوا سوى خراف

وكنت أنت بينهم عراف

وكنت في مأدبة اللئام

شاهد عصر ساده الظلام

قافية الهمزة كانت بغلة عرجاء

يركبها الأمير كل ليلة ليلاء

كل القوافي أصبحت، ياسيدي، كالبغلة العرجاء

كان زمانًا داعرًا، كان بلا حياء)

(1)

.

ويصور ماضي المسلمين وتاريخهم في صورة مزرية كريهة فيقول:

(وشهريار مات

وريث هذا العالم المدفون في أعماقنا يموت

المعدن الخسيس والياقوت

سفينة تغرق في عاصفة، تابوت

يضم عظمين وعنكبوت)

(2)

.

(وريث هذا العالم المدفون في الأعماق

يلهث مهزومًا على قارعة الطريق

يحمل وجه هالك غريق

ينام في المقهى ككلب جائع أفاق)

(3)

.

(1)

ديوان البياتي 2/ 29 - 30.

(2)

المصدر السابق 2/ 85.

(3)

المصدر السابق 2/ 86.

ص: 1689

ويقول عابثًا بتاريخ المسلمين منذ البعثة:

(قدمت أوراقي انتخابي لرسول الرب

وقوسيار الشعب

من أجل أن تشرق شمس اللَّه.

على الغد المسكون بالخوف وبالأشباح

لكنه سلمني لفرق التعذيب والسجون والبوليس

والنفي والتشريد

فالعملة الرديئة

قد طردت في مدن الأزمنة الحديثة

العملة الجيدة الجديدة

وعور "روما" طردوا أشرافها وطردوا

العشاق والثوار

ونصبوا الأحذية المثقوبة

والرمم الصلعاء والأبواق

من أين يأتي الحب يا حبيبتي، ونحن محكومون بالإعدام

ونحن في السيرك وفي حديقة الحيوان

واللغة المومس والتاريخ والأوهام

والعقم واليباب

محاصرون منذ ألفي عام

نحاول الخروج من دوائر الأصفار)

(1)

.

(1)

ديوان البياتي 2/ 128 - 129.

ص: 1690

وبعد هذه الهجيات الحداثية الشيوعية الحاقدة يعقب بذكر عقيدته الشيوعية التي يرمز لها بجبال القفقاس حيث كانت دولة الاتحاد السوفيتي:

(أحمل كل ليلة من جبل "القفقاس" هذي النار)

(1)

.

انفصال كامل عن الأمة عقيدة وتاريخًا، في ضميمة نتنة من إلحاد وإباحية وشيوعية، وتهديم بالمطرقة الماركسية لأروقة الذهب الجميلة.

ويقول في موضع آخر:

(مرتجفًا مقرور

ألفًا من السنين أو تزيد

تحت ركام الورق الميت والجليد)

(2)

.

ويقول:

(وقضية شعبي العربي الخارج من منفى التاريخ)

(3)

.

ويقول:

(والتافهون وراء حائطنا

يرنون للموتى بإعجاب

وكلابهم تعوي وعالمنا

يصحو على أصوات حطاب

يا أرض ميدي بالقبور فقد

أطعمت للفيران أعشابي

أمّا الذين وراء حائطنا

يرنون للموتى بإعجاب

فقلوبهم جيف معطرة

للبيع في حانوت قصاب)

(4)

(1)

ديوان البياتي 2/ 128 - 129.

(2)

المصدر السابق 2/ 177.

(3)

المصدر السابق 2/ 443، 446.

(4)

المصدر السابق 1/ 129 - 130.

ص: 1691

ويقول:

(من لا مكان

لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان.

تحت السماء، وفي عويل الريح اسمعها تناديني "تعال"!

. . . مستنقع التاريخ يعبره رجال

عدد الرمال. . .

وأنا وآلاف السنين

متثائب ضجر حزين

من لا مكان. . .

لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين

وحل وطين

وعيون آلاف الجنادب والسنين

وتلوح أسوار المدينة، أي نفع أرتجيه؟

من عالم ما زال والأمس الكريه)

(1)

.

ويقول تحت عنوان "الحريم":

(وعمائم خضر وصيادوا الذباب

يخمسون "قصيدة عصماء!! " في ذم الزمان

وقبور موتاهم وحانات المدينة والقباب

وسحائب الأفيون والشرف القديم

ما زال يلعب بالحصى والرمل

ما زال التنابلة العبيد

(1)

المصدر السابق 1/ 134 - 135.

ص: 1692

يستنزفون دم المساكين الحزاني الكادحين

على وسائد من عبير

ويزاولون تجارة القول المزيف والرقيق

ما زال "هولاكو" و"هارون الرشيد"

ولم يزل "فقراء مكة" في الطريق

وقوافل التجار والفرسان والدم والحريم

يولدن ثم يمتن عند الفجر في أحضان "هارون الرشيد")

(1)

.

وبعد هذا البيان الشيوعي الهجائي الرخيص، يبشر بشيوعيته التي سوف تهدم الشرق القديم وتهدم تاريخه -حسب آماله الماركسية- وذلك في قوله:

(وثورة الجيل الجديد على القديم. . .

حتى حملت معي السلاح

سلاح ثورتنا على الشرق القديم

وهدمت أسوار الحريم)

(2)

.

وأوشاب البياتي من هذا القبيل كثيرة

(3)

، وهي لا تدع مجالًا للشك أن الرجل قد انتصب بكل عدائية وبغض لهذه الأمة يحاول هدمها بكل الوسائل وفي شتى الميادين، ويسعى جاهدًا لبناء صروح الإلحاد النخرة!! والتي ليست في فكرها وتاريخها وواقعها سوى أعجاز نخل خاوية!!.

أمَّا عصابة شعر ذات الهوية الأمريكية والسراديب الصهيونية، فإنها قد أسفت في هذا الميدان غاية الإسفاف، ومن ذلك قول يوسف الخال:

(أي ملكٍ كذاك يبنى على القوة

(1)

المصدر السابق 1/ 199.

(2)

المصدر السابق 1/ 200.

(3)

انظر: المصدر السابق 1/ 133، 134، 135، 2/ 40 - 41، 56.

ص: 1693

يبقى، فلا يزول ويبلى

أين مجد العربان بعد ازدهار

حط في قمة الجلال وحلا؟. . .

هكذا يمحي ظلام الليالي

ويضيء الصباح مهما تولى)

(1)

.

وهو صاحب المصطلحات الحداثية المتداولة بعده، فالبحر هو الغرب وهو التقدم، والرمل هو الشرق المسلم المتخلف، والماضي التاريخي للمسلمين هو الرمال الضريرة، كما في قوله:

(. . . يا عجوز الدهر قصي، قصي حكايات أمسي

ما طوتها كف الرمال الضريرة:

ألف جيل يردُ في ألف جيل

ردة الموج في المياه الأسيرة)

(2)

.

(أبسط ما في الأمر أن يوسف الخال شاعر ملتزم شجاع يحمل بقلب مخلص هموم الأقلية، ويروث على مبادئ مئات الملايين أهل البر والبحر معًا، وليس هذا فحسب، بل سر موهبة هذا الطائفي ونبوغه أنه حجب شعراء الحداثة من شعراء مئات الملايين عن التزام ديني يتغنى به شعر عربي حداثي. . . إن شاعر الحداثة من أبناء مئات الملايين هو الذي يستحيي من الالتزام لقضية الدين والخال هنا مبشر ضائق بالدين الإسلامي وتاريخه سالفًا وحاضرًا)

(3)

.

ويقول الخال أيضًا: (وألف سنة وأنا أمضغ القات، لألف سنة وأنا

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 104 - 105.

(2)

المصدر السابق: ص 229 - 230.

(3)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 138.

ص: 1694

أركب جوادًا ميتًا، لألف سنة وأنا بلا وجه قناعي لوحة على قبر)

(1)

.

ويقول:

(في بيت أبينا فاقة وجوع، لفصول ألف لم

تمطر، التراب برص على جسد الأرض

هلال آخر ويمضي)

(2)

.

ثم يتحدث عن أماله الصليبية المتدثرة بالحداثة المفصلة في الغرب لتصلح لكل الأجساد المعادية للحق، يقول الخال بعد الكلام السالف:

(وها أنا أنتظر، منجلي في يدي وساعدي تائق

إلى الفعل. . .

العشب يطلع من جديد، النهر يصل إلى البحر

المسافر يعود إلى خاصته، الحلم يجتاز العتبة

ومع الصبر يجيء الوقت

وإلى أن يجيء، هللي يا دقائق العمر، تعري. . .)

(3)

.

ولن أستغرق في ذكر شواهد من كلام عصابة شعر على حربهم الشرسة على تاريخ المسلمين.

وأنتقل الآن إلى الشعوبي الخليع "نزار قباني" الذي سلط سياط ألفاظه النتنة على تاردخ المسلمين وأسلافهم الأخيار من عهد الخلفاء الراشدين إلى عصر خلفاء بني عثمان، يقول ساخرًا بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، تحت عنوان "إلى صاحبة السمو حبيبتي سابقًا":

(وتزوجت أخيرًا ملكًا

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 284.

(2)

المصدر السابق: ص 303.

(3)

المصدر السابق: ص 304.

ص: 1695

من ملوك الخلفاء الراشدين

وملكت الدين والدنيا معًا

فاسجدي شكرًا لرب العالمين)

(1)

.

ويقول:

(كنت أريد

أن أنهي عصر البربرية

وأقتل آخر الخلفاء)

(2)

.

ويقول:

(عندما قررت أن أقتل آخر الخلفاء

وأعلن قيام دولة للحب

تكونين أنت مليكتها)

(3)

.

ويقول:

(يا أيها الوطن المحاصر

بين أسنان الخلافة، والوراثة والإمارة)

(4)

.

أمًا قصيدته "الوصية" فهي كلها من أولها إلى آخرها في ذم تاريخ المسلمين ورموزهم وشعارات عباداتهم وحياتهم، وهي تملأ عشر صفحات من ديوانه، أذكر بعضًا منها:

(أفتح صندوق أبي

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 2/ 128.

(2)

المصدر السابق 2/ 398.

(3)

المصدر السابق 2/ 401.

(4)

المصدر السابق 3/ 239.

ص: 1696

أمزق الوصية

أبيع في المزاد ما ورثته:

مجموع المسابح العاجيه

طربوشه التركي والجوارب الصوفيه. . .

أسحب سيفي غاضبًا

وأقطع الرؤوس والمفاصل المرخيهْ

وأهدم الشرق على أصحابه

تكية تكيهْ

افتح صندوق أبي

فلا أرى

إلّا درويش ومولويه. . .

أفتح تاريخ أبي

أرى الذين ليس يرى

أوعية. . مدائح دينيه

أوعية. . حشائش طبيه

أدوية للقدرة الجنسيه

أبحث عن معرفة تنفعني

أبحث عن كتابة تخص هذا العصر أو تخصني

فلا أرى حولي سوى رملٍ وجاهليهْ

أرفض ميراث أبي

وأرفض الثوب الذي ألبسني

ص: 1697

وأرفض العلم الدي علمني

وكل ما أورثني من عقد جنسيهْ. . .

أحرق رسم أسرتي. . أحرق أبجديتي. . .

أدخل مثل البرق من نافذة الخليفه

أراه لا يزال مثلما تركته

منذ قرون سبعه

مضاجعًا جارية روميه

أقرأ آيات من القرآن فوق رأسه

مكتوبة بأحرف كوفيهْ

عن الجهاد في سبيل اللَّه والرسول

والشريعة الحنفيهْ. . .)

(1)

.

ويقول في مقطع آخر:

(فاعذروني أيها السادة

إن حطمت صندوق العجائب

وتقيأت على وجه أمير المؤمنين)

(2)

ويقول:

(فنحن محبوسون في محطة التاريخ كالخرفان)

(3)

ويقول:

(1)

المصدر السابق 3/ 249 - 258.

(2)

المصدر السابق 3/ 267.

(3)

المصدر السابق 3/ 293.

ص: 1698

(نسطو على متاحف التاريخ في الظلام

ونسرق الخيول والدروع والأعلام

نسرق سيف خالد، نسرق ديوان أبي تمام

ونسرق المجد الذي يخصهم، ونسرق الأيام

خير لنا أن ندفن السذاجة

ونترك التاريخ في الثلاجة)

(1)

.

أمّا الماركسي الفلسطيني معين بسيسو فله أسلوبه في السخرية بتاريخ المسلمين ورموزهم وشخصياتهم وخاصة في مقطوعته البذيئة "مقامة إلى بديع الزمان" التي يقول فيها مبتدأ بالسخرية بالسند الحديثي:

(حدثني وراق في الكوفة

عن خمار في البصرة، عن قاض في بغدان

عن سائس خيل السلطان

عن جارية، عن أحد الخصيان

عن قمر الدولة، حدثني قال:

كنا في مجلس مولانا

في شمس الرابع من رمضان

مولانا أنطقه اللَّه فصاح

من يقعى خلف الأبواب

من الفقهاء، من الشراح

- مولانا في بابك عبدك وأواء النطاح

(1)

المصدر السابق 3/ 333.

ص: 1699

وهنالك عبدك، خفاش بن غراب

والشيخ الواثق باللَّه، ابن مضيق

صاحب ألف طريق وطريق

تسلكه الزنديقة والزنديق

مولانا عطس ثلاثًا يرحمه اللَّه

وانتصبت أذناه

- إلى وأواء النطاح

وانزلق الشيخ من الباب

وبرك أمام السلطان

مولانا كفًا في كف ضرب

وهمهم يا وأواء

أقسمت ثلاثًا للجارية الرومية وطفاء

أن أطرق مخدعها

ضلت قدمي، واختلطت في عيني الأبواب

وصحوت مع الديك، فإذا بي

أتمدد في ذنبي

في حجرة أحد الغلمان

وتنحنح، بسمل، حوقل،

وأواء النطاخ، وصاح:

ليس على مولانا السلطان جناح

فالقسمة غلبت والعبرة في النية

ص: 1700

لا أين تسير القدمان

وسواء في المخدع أنس أو حبان

والذنب على الجارية

فلو وضعت في باب المخدع مصباح

ما ضلت قدما مولانا

واللَّه أعلم والسلطان

وخازن بيت المال)

(1)

.

أي تشويه لتاريخ المسلمين أبشع من هذا؟!، إنها الطبيعة الذبابية المريضة التي لا تلتقط إلّا الأسوأ والأخبث، كما الذباب الذي يترك الجسم السليم ولا يقع إلا على الجروح والقروح.

ويقول شاعر الأرض المحتلة!! محمود درويش:

(من يشتري تاريخ أجدادي

من يشتري نار الجروح التي

تصهر أصفادي؟. . .

من يشتري تاريخ أجدادي

بيوم حرية)

(2)

.

ويقول:

(متى نشتري صيدلية

بجرح الحسين ومجد أمية)

(3)

.

(1)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو ص 291 - 293. وانظر له من هذا القبيل: ص 331 - 332، 400 - 401.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 321.

(3)

المصدر السابق: ص 361.

ص: 1701

ويقول زميلهما سميح القاسم:

(أطفالنا ملّوا البطولات المكررة القديمة

سئموا سروجًا كالحات

صار فارسها المغيار

عافوا سيوفًا لاكها الزنجار، والذكرى القسيمة)

(1)

.

ويقول مازجًا بين ذم التاريخ وذم الألوهية بل جحدها:

(أي قنين خرافي الألوهه

سمل الأعين في تاريخنا، أدمى وجوهه!!)

(2)

.

وأقواله من هذا القبيل عديدة

(3)

، ولذلك اعتبره إحسان عباس مناديًا يقتل التاريخ

(4)

.

أمَّا أدونيس فإنه من أشد الحداثيين حربًا على تاريخ المسلمين وأكثرهم حقدًا عليه حتى قال عنه إحسان عباس: (وأمّا أدونيس فإنه يطيل الوقوف عند الجوانب السلبية في تاريخنا، حتى لتبدو لهجته رفضًا كليًا. . .، ولا ريب في أن نظرة أدونيس إلى الماضي متصلة بمبدأي الرفض والتحول المتلازمين. . .)

(5)

.

وأمامي الآن كمية كبيرة من الشواهد على بغض أدونيس وعبثه وسخريته وانتهاكه لتاريخ المسلمين والسلف وقرون الهجرة، وتشويه الرموز التاريخية الإسلامية، وتلميع الرموز المنحرفة التي ذكرت في التاريخ، وتسمية حضارة المسلمين بالحضارة الذبيحة، ووصف تاريخ المسلمين بأنه ركام

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 217.

(2)

المصدر السابق: ص 572.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 237 - 239، 278، 492، 601، 530 - 531.

(4)

انظر: اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 116.

(5)

المصدر السابق: ص 116 - 117 ونحو ذلك في الحداثة الأولى لباروت: ص 101.

ص: 1702

ومشلول وسكران وقذر، وضيقه من كون التاريخ يدوَّن بميلاد نبي وهجرة نبي، ومناداته بقطع الجذور مع الماضي وافتخاره بأن ذلك مهامه وأعماله الكبيرة، ودعوته لتفجير التاريخ ومحو تاريخ الأسلاف والخروج من ملكوت الآباء، وغير ذلك من المعاني والمضامين الياطنية النصيرية، والعلمانية الحداثية، وغير مستغرب على طائفي حاقد أن يكون كذلك؛ لأنه قد نشأ في جو التشيع الغالي المارق، وتشبع ببغض المسلمين وتاريخهم ورمورهم، وأكتفي هنا بالإحالة على مواضع هذه القضايا التي ذكرت

(1)

، وقد بلغت من استخفاف الحداثيين بتاريخ المسلمين أن زعم بعضهم أنه لا وجود حضاري للمسلمين وإنّما هو وجود وهمي

(2)

، ولخص إحسان عباس نظرتهم للتاريخ في تسع نقاط دالة على مقدار ما استبطنته قلوبهم المريضة من عداء وبغضاء، يقول إحسان عباس:

(. . . والتاريخ في رأي بعضهم قد يكون:

- بقية الرطوبة الأولى التي جفت، وصار ما تبقى منها إلى ملوحة أو إلى مرارة

- أو هو خلاصة الزرنيخ بعد مزجه بالرماد أو التراب والحجارة

- أو هو حجر يرشح منه الماء.

- أو هو حجر فيه ماء تمتصه الشمس وتحيله بخارًا ثم يعود حجرًا

- أو هو دوامة: يغرف من ماء النهر ليعود ويصبه فيه

(1)

انظر: الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 303، 305، 308، 347، 355، 359، 361، 369، 370، 371، 372، 373، 375، 376، 387، 392، 405، 424، 449، 469، 470، 581، 2/ 163، 169، 241، 249، 254، 551، 256، 266، 279، 281، 283، 301 - 302، 316، 336، 340، 342، 344، 353، 363، 373، 381، 402، 523، 557 - 558، والثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 275، وزمن الشعر: ص 56، 60، 225، وأسئلة الشعر: ص 143.

(2)

انظر: بحثًا عن الحداثة لمحمد الأسعد: ص 90.

ص: 1703

- أو هو أمواج تشتد حين تدخل الشمس في السنبلة أو برج الحوت أو القوس

- أو هو مجال للمحار والقصب واللؤلؤ والعنبر المدور الأزرق

- أو هو كرسي من الزجاج فيه مركب ملتصق بالشمس أو سرطان،

أو طائر منبسط في جسد الإنسان يصدح أو يطير أو يعيش في القبور

- أو هو غول جبار يقضي على الموجود ويملأ العمار والخراب)

(1)

.

•‌

‌ التسبيح:

وهو عبادة قولية، من أجلّ أنواع ذكر اللَّه تعالى، وفيه تنزيه اللَّه -جلَّ وعلا- وتقديسه.

ومن عبث الحداثيين بالتسبيح قول محمود درويش عن وطنه:

(وطني عيونك أم غيوم ذوبت أوتار قلبي في جراح إله!

هل تأخذن يدي؟ فسبحان الذي يحمي غريبًا من مذلة آه)

(2)

•‌

‌ التوبة:

عبادة من العبادات، وحقيقتها: إقلاع العاصي عن الذنب مع الندم والعزم على عدم العودة قبل أن تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها.

ومن العبث الحداثي بهذا المصطلح قول أدونيس يصف نفسه وحداثته:

(1)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 126 - 127. وانظر أقوالهم الأخرى فيما يلي: بحثًا عن الحداثة: ص 57، وقضايا وشهادات 3/ 171، 2/ 255 - 256، 4/ 31، ورأيهم في الإسلام: ص 16، 26، 40، 59، 225، والإسلام والحداثة: ص 215، والأدب ومذاهبه لمحمد مندور: ص 13 - 14، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 344، والمجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 399، 415، وديوان محمود درويش: ص 461، 476، 454، وديوان المقالح: ص 574، وديوان الفيتوري 1/ 225، وديوان دحبور: ص 311، وفتافيت شاعر: ص 121.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 237.

ص: 1704

(أصعد أتفجر

ألبس الهدير والتهدج

أتموج بالرعب

أتحرر من التوبة، العظة، العودة

أتحرر من الصبر

من دمي والتاريخ الراقد فيه

اتجزأ وأعرى وأوسوس نفسي ضد نفسي

أضح نفسي خارج كل شيء، وأقول للجنون الرشيق أن يسرق أهدابي كنسيم غربي

أنقطع أنفصل، أنفصم

اختبيء تحت شفتيّ)

(1)

.

هنيئًا للحداثيين برائدهم المفاخر بالجنون، وبالكلام التافه الذي لا معنى له ولا قيمة، وبالفوضى التي يُلعقهم غبارها!!.

•‌

‌ التوحيد:

وقد مر الحديث عنه في الباب الأول مفصلًا

(2)

.

•‌

‌ التلاوة:

يقول صلاح عبد الصبور في مسرحية الحلاج عابثًا بالمفاهيم الشرعية ومستخفًا بالصلاة وتلاوة القرآن والحج والصوم على لسان قدوته الحلاج الذي كان هو بدوره مستخفًا بهذه العبادات تحت شعار الحقيقة والغناء والذوق والعشق الإلهي:

(نصلي. . . نقرأ القرآن

نقصد بيته، ونصوم في رمضان

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 581.

(2)

وانظر مثلًا: كلام أركون في كتاب الإسلام والحداثة: ص 362.

ص: 1705

نعم، لكن هذي أول الخطوات نحو اللَّه.

خطى تصنعها الأبدان

وربي قصده القلب

ولا يرضى بغير الحب

تأمل: إن عشقت ألست تبغي أن تكون شيبة محبوبك)

(1)

.

أمَّا نزار قباني فإنه يعلن رفضه للمسلمين وأعمالهم، ويصورهم في صورة تخلف، يخلط فيها أمور الجاهلية والضلال بأمور الإسلام والحق، ليخرج بمزيج غير متجانس يرفعه شعارًا للرفض والتمرد على الإسلام الذي يعلن الحرب على التخلف والخرافة القديمة أو الحديثة، يقول قباني:

(أرفضكم أرفضكم

يا من صنعتم ربكم من عجوة

لكل مجذوب بنيتم قبة

وكل دجال أقمتم حوله مزار

حاولت أن أنقذكم

من ساعة الرمل التي تبلعكم

في الليل والنهار

من الحجابات على صدوركم

من القرآن التي تتلى على قبوركم

من حلقات الذكر

من قراءة الكف

ورقص الزار)

(2)

.

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 502.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 3/ 307 - 308.

ص: 1706

•‌

‌ جبل عرفات:

يقول أحدهم: (بعضهم يفكر جديًا في شراء سور الصين، وجلب جبل جليد من القطب الشمالي لتحويل جبل عرفات إلى ملعب للتزلج. هؤلاء العرب البراميل أحفاد أولئك الذين اخترعوا الإبل والشعر والشعر والنساء والفتوحات حتى وصلوا إلى الصفر)

(1)

.

قال اللَّه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}

(2)

.

وهؤلاء قد انغمسوا في رذائل الباطل والضلال حتى عظموا الأصنام والأوثان والمذاهب الجاهلية، المادية الإلحادية، وعظموا أصحابها، ولا يُمكن أن يجتمع هذا التعظيم الجاهلي مع تعظيم شعائر اللَّه التي هي من صفات المؤمنين.

•‌

‌ الجمعة:

يقول نزار قباني على سبيل التهكم والازدراء:

(وأنبياء اللَّه يعرفونني

عليهم الصلاة والسلام

الصلوات الخمس لا أقطعها

يا سادتي الكرام

وخطبة الجمعة لا تفوتني

يا سادتي الكرام

(1)

مجلة الناقد، العدد الثامن شباط 1989 م/ 1409 هـ: ص 22 من مقال بعنوان إشارات ضد الحداثة لكاتب ليبي اسمه فرج العشقة.

(2)

الآية 32 من سورة الحج.

ص: 1707

من ربع قرن وأنا

أمارس الركوع والسجود

أمارس القيام والقعود

أمارس التشخيص خلف حضرة الإمام. . .

وهكذا يا سادتي الكرام

قضيت عشرين سنة

أعيش في حظيرة الأغنام

أعلف كالأغنام

أنام كالأغنام

أبول كالأغنام

أدور كالحبة في مسبحة الإمام

لا عقل لي، لا رأس، لا أقدام

استنشق الزكام من لحيته

والسل في العظام

قضيت عشرين سنة

مكومًا كرمزة القش على السجادة الحمراء

أجلد كل جمعة بخطبة غراء

أبتلع البيان والبديع والقصائد العصماء

أبتلع الهراء

عشرين عامًا وأنا يا سادتي

أسكن في طاحونة

ص: 1708

ما طحنت قط سوى الهواء)

(1)

.

وبعد هذا الشتائم الهابطة يقرر موقفه من إمام الصلاة وخطيب الجمعة، وهما يرمزان للدين كله فيقول:

(يا سادتي

بخنجري هذا الذي ترونه

طعنته في صدره والرقبه

طعنته في عقله المنحوز مثل الخشبه

طعنته باسمي أنا

واسم الملايين من الأغنام

يا سادتي:

أعرف أن تهمتي

عقابها الأعدام

لكنني، قتلت إذ قتلته

كل الصراصير التي تنشد في الظلام

والمستريحين على أرصفة الأحلام)

(2)

.

وفي مقال للصادق النيهوم، بعنوان "سيعيش عبد المولى في بيت مولاه" يناقش دور الجمعة السياسي، ويطالب بجعله منبرًا للحوار السياسي، ثم يقترح إلغاء نظام الجامع، يقول: (مرة، كل أسبوع، يجتمع جميع العرب في يوم اسمه يوم الجمعة، داخل مكان اسمه الجامع، في اجتماع دوري عام على مستوى الأمة، لكن المواضيع التي تطرح أسبوعًا أمام هذا المؤثر، تبدو دائمًا جانبية جدًا ومفتعلة جدًا وجوفاء، وغير ضرورية، ولا تحتاج إلى

(1)

و

(2)

الأعمال الشعرية 3/ 130 - 135.

ص: 1709

عناء الاجتماع أصلًا، مصدر هذه المفارقة، أن المواطن المسلم يتنازل عن صوته في لقاء الجمعة، من قبل أن يولد، ويتعلم أن يجلس صامتًا مطأ طيء في حضرة واعظ يقرعه على ذنوبه من فوق المنبر، وفي مشهد مقلوب إلى هذا الحد، يكون من البديهي أن يقف كل شيء على رأسه، حتى يتكلم أهل السماء ويسكت أهل الأرض، ولكن المشهد له وجه آخر، عندما يستعيد وضعه الحقيقي:

فيوم الجمعة الذي يتحدث عنه القرآن، يوم مخصص للحوار السياسي، وليس للصلاة فقط. . . فالإصرار على إلغاء نظام الجامع، فكرة سياسية، لها مبرر سياسي قوي. . .)

(1)

.

•‌

‌ الجنة:

وقد سبق الحديث عن عبثهم وسخريتهم بالجنة وما فيها

(2)

.

•‌

‌ الحج:

الركن الخامس من أركان الإسلام.

وقد انتهكوا حرمة هذه الشعيرة العظيمة بأنواع عديدة من الانتهاك، وقد ترد بعض الألفاظ عندهم بمعناها اللغوي. غير أن الاستعمال الشرعي لهذا اللفظ هو الأكثر والأشهر فينصرف إليه المراد، ومن ذلك قول حسن حنفي تحت عنوان "الوحي والواقع، ودراسة في أسباب النزول": (. . . فشعائر الحج والطواف ورمي الجموات والسعي بين الصفا والمروة والتكبير، كلها كانت شعائر جاهلية دخلت في بيت إبراهيم)

(3)

.

وقول صلاح عبد الصبور عن القاهرة بعد شهر من التجوال:

(لقاك يا مدينتي حجي ومبكايا)

(4)

.

(1)

مجلة الناقد، العدد التاسع آذار 1989 م/ 1409 هـ: ص 12 - 13، وكتابة الإسلام في الأسر: ص 87 - 93.

(2)

انظر: ص 1429 - 1451 من هذا الكتاب.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 151.

(4)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 197.

ص: 1710

ونحوه قول توفيق صايغ:

(في موطني إلى موطني أحج)

(1)

.

وقوله:

(جئتك أحج فأعدتني

شوقي نفور، وإيماني هباء)

(2)

.

وقول أمل دنقل يخاطب عشيقته:

(وعيناك فيروزتان تضيئان

في خاتم اللَّه كالأعين. . .

وكانت لنا خلوة، إن غدا

لهما الخوف أصبح في مأمن

مقاعدها ما تزال النجوم

تحج إلى صمتها المؤمن)

(3)

.

وقول معين بسيسو:

(وجه حزيران هو الحجر الأسودُ

نلمسه نتحسه، ونحج إليه)

(4)

.

وقول سميح القاسم:

(ليلًا أحج إليك يا حبي القديم. . .

(1)

المجموعات الشعرية: ص 36.

(2)

المصدر السابق: ص 88، ونحوه: ص 144.

(3)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 89.

(4)

الأعمال الشعرية لبسيسو: ص 404.

ص: 1711

والجرح رحماني الرحيم)

(1)

.

•‌

‌ الحجاب والشرف:

وهو حشمة للمرأة وصيانة لها، وعفاف، وطاعة لأمر اللَّه تعالى.

وقد استهدف ملاحدة هذا العصر وإباحيوه هذه القضية غاية الاستهداف، وشنوا عليها وعلى أصحابها أشرس أنواع الهجوم والذم، وأقبح أنواع الحرب بالدعاية المضلة، والكتابة والخطابة الضالة، وبالسياسيات الجائرة المستبدة، التي حتمت على المسلمات خلع حجابهن، اقتداء بالغربيات الداعرات.

وكلام الحداثيين والعلمانيين في هذه القضية كثير لا يتسع له هذا المقام، ولكن نورد بعض الأمثلة، ومنها قول نزار قباني تحت عنوان "الخرافة":

(حقنونا بسخيف القول ليلًا ونهارًا

درسونا

"ركبة المرأة عورة"

"ضحكة المرأة عورة"

"صوتها من خلف ثقب الباب عورة"

صوروا الجنس لنا غولًا بأنياب كبيرة

يخنق الأطفال يقتات العذارى

خوفونا من عذاب اللَّه إن نحن عشقنا

هددونا بالسكاكين إذا نحن حلمنا

فنشأنا كنباتات الصحارى

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 723.

ص: 1712

نلعق الملح ونستاف الغبارا)

(1)

.

وهناك مقطوعة للبياتي بعنوان "الحريم" حشد فيها اعتراضاته الماركسية على الحجاب والشريعة وتاريخ المسلمين، ثم يبشر في آخرها بالثورة الشيوعية التي سوف تجتاح كل شيء، يقول مخاطبًا المرأة:

(شفتاك جرح لا يزال دمًا يسيل

على وسادتنا طوال الليل، يا عصفورتي جرح يسيل

ويظل فارسها يغني تحت شرفتها طوال الليل آلاف

الحريم

يولدن ثم يمتن عند الفجر إلّا أنت يا حلمي الجميل

وعمائم خضر وصيادوا الذباب

يخمسون "قصيدة عصماء! " في ذم الزمان

وقبور موتاهم وحانات المدينة والقباب

وسحائب الأفيون والشرق القديم

ما زال يلعب بالحصى والرمل

ما زال التنابلة العبيد

يستنزفون دم المساكين الحزاني الكادحين. . .

وقوافل التجار والفرسان والدم والحريم

يولدن ثم يمتن عند الفجر في أحضان هارون الرشيد. . .

وثورة الجيل الجديد على القديم. . .

سلاح ثورتنا على الشرق القديم

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 659 - 660.

ص: 1713

وهدمت أسوار الحريم)

(1)

.

وقد وسّعت نوال السعداوي مفهوم رفع الحجاب، واتخذت قضية رفع الحجاب شعارًا بطريقة توهم أن هذا المشروع العلماني المرفوع ضد عفة المرأة وطهارتها ليس مقصورًا على الحجاب بل هو أعم من ذلك وأشمل حين زعمت بأنها لا تطالب برفع الحجاب عن وجه المرأة فقط بل مشروعها يتضمن "رفع الحجاب عن العقل" وهي مغالطة علمانية، وعبث من أصحاب المادية الحيوانية، ليفهموا الناس أنهم مع العقل والمنطق ولصالح العقلانية والإنسانية!! في حين أن الأمر عكس ذلك تمامًا، ففي أغلفة مجلة "نون" الصادرة عن جمعية تضامن المرأة العربية والتي يرأس تحريرها سيئة الذكر "نوال السعداوي" كتبوا تحت عنوان "من نحن" وذكروا عشر نقاط تعرف بمشروعهم التغريبي ومنها (وشعارنا رفع الحجاب عن العقل) وتشرح نوال السعداوي هذا الشعار في العدد الثالث من مجلة نون، وتسهب في تباكيها على العقل العربي، عقل الرجل وعقل المرأة، ثم تذكر أنها حاربت (النساء اللاتي يرتدين الحجاب أو الطرحة حول رؤوسهن ثم يضعن المساحيق والزينة والرموش الصناعية واللؤلؤ ويرتدين فساتين طويلة لامعة. . . حاربنا الفساد والتستر وراء الحجاب والشعارات الدينية. . .)

(2)

.

ومن عناوين مجلة "نون" أو قل مجلة نوال السعداوي لا فرق: (لماذا تسعد المرأة بالحب وتشقى بالزواج)

(3)

.

(أريد الأمومة ولا أريد الرجل)

(4)

.

(أيتها النساء تفلسفن)

(5)

.

(1)

ديوان البياتي 1/ 199 - 200.

(2)

مجلة نون، العدد الثالث نوفمبر 1989 م/ 1410 هـ: ص 4 - 5.

(3)

المصدر السابق، العدد الأول مايو 1989 م/ 1409 هـ: ص 6.

(4)

المصدر السابق، العدد الأول مايو 1989 م/ 1409 هـ: ص 8.

(5)

المصدر السابق: ص 10.

ص: 1714

(الحجاب والختان والإسلام)

(1)

.

وفيه أكاذيب وتلفيقات ومغالطات كثيرة، وهجوم وقح على الحجاب والإسلام، وعبث وتلاعب بالألفاظ والمفاهيم، ونحو ذلك تحت عنوان "حجاب المرأة كشف الرجل"

(2)

وفيه: (كيف يُمكن أن نفهم أن المرأة في المجتمعات العربية بالرغم من بعض المؤشرات الإيجابية ما زالت لم تتحرر من الأقنعة ومن مختلف أشكال الحجاب التي ألصقتها عليها كجسد وككيان)

(3)

.

أمَّا كتاب المرأة المسمى "هاجر" والذي تولى إصداره مجموعة من العلمانيين

(4)

من الناشر "سيناء للنشر" المعروفة بالتوجه العلمانى المتطرف ضد تطبيق الإسلام، وضد نظمه وأحكامه، هذا الكتاب مليء بالمضامين العلمانية العابثة بالمفاهيم والأخلاق والمعاني والمصطلحات وخاصة في المقالات الآتية:

"ثنائية الجنس أم ثنائية الفكر"

(5)

لحسن حنفي.

و"المرأة: البعد المفقود في الخطاب المديني المعاصر"

(6)

لنصر أبو زيد، وفيه صب حثالة حقده على الإسلام ونظمه ومبادئه، باسم مهاجمة الخطاب المديني المعاصر، أو محاربة الأصولية، أو مناقشة التطرف.

أمَّا أبشع أنواع التطرف العلماني فيمكن الاطلاع على نوع منه في المقال المعنون بـ "المرأة منطقة محرمات، قراءة في أعمال قاسم أمين"

(7)

(1)

المصدر السابق: ص 22 - 23.

(2)

و

(3)

المصدر السابق: ص 42.

(4)

وهم سلوى بكر، وهدى الصده، ونصر أبو زيد، وملك هاشم.

(5)

انظر: هاجر: ص 35 - 50.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 51 - 82.

(7)

انظر: المصدر السابق: ص 144 - 159 لهدى الصدة.

ص: 1715

حيث ناقشت الكاتبة قاسم أمين

(1)

أول من دعا إلى التبرج والسفور ومشابهة الغربيات، ومع ذلك فإن الكاتبة تعتبره سلفيًا تراثيًا محافظًا جامدًا، لم يصل إلى التحرر المطلوب ولم يدع إلى إنسانية المرأة بل دافع عن الشريعة الإسلامية، والتزم أحكامها فيما يتعلق بحقوق المرأة وواجباتها!! إلى آخر ما هنالك من عبارات تدل بجلاء على الخطوات العلمانية الظلامية، وفضاعة التطرف العلماني وجرأته.

أمَّا الفصل المخصص لدراسة "مفهوم الشرف"

(2)

فقد توجهت سهام التلاعب والعبث العلماني إلى مفاهيم الشرف والعفة والحجاب والطهارة والحشمة، بصورة غير معقولة إلى حد أن إحداهن جعلت لفظ "الشرف" نوع من "دعارة الكلمة" ثم أضافت:(دعارة الرأي والكلمة في مجتمعي تصيبني بالغثيان، وهي في رأي أخطر من دعارة الجسد)

(3)

!!!.

وآخر جعل كلمة "الشرف" ومضمونها ناتجة عن هيمنة الرجل الاقتصادية فقال: (ولأن الرجل كان في مختلف عصور التاريخ ولا يزال أقوى اقتصاديًا من المرأة بسبب كونه أكثر تحررًا من عبء الأولاد، فرض الرجل على المرأة على مر العصور معنى للشرف يناسبه ويحقق مصلحته)

(4)

.

أمَّا زعيمة التحرر الجاهلي العلماني نوال السعداوي فإنها قصرت الشرف على قضية البكارة والمحافظة عليها وقالت: (منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأنا أكشف عن المفهوم الهزيل للشرف في بلادنا، فكيف يُمكن أن

(1)

هو: قاسم بن محمد أمين المصري، ولد سنة 1279 هـ/ 1863 م كردي الأصل، درس الحقوق في فرنسا، وعاد إلى مصر سنة 1302 هـ/ 1885 م فكان وكيلًا للنائب العمومي، فمستشارًا بمحكمة الاستئناف، جاء من فرنسا بالأفكار العلمانية، وأشهرها إبعاد حكم الإسلام عن الحياة، والدعوة إلى تحرير المرأة وفق النمط الغربي وهو بذلك من طلائع الغزو العلماني في بلاد المسلمين. انظر: الأعلام 5/ 184.

(2)

انظر: هاجر: ص 161 - 171 وقد شارك فيه كل من لطيفة الزيات وجلال أمين ونوال السعداوي.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 164 والكلمة للطيفة الزيات.

(4)

المصدر السابق: ص 166 والقول لجلال أمين.

ص: 1716

يرتكز هو "المفهوم على خلايا هزيلة في النصف الأسفل من جسم المرأة؟!)

(1)

.

ثم هاجمت الحجاب من خلال قصة ذكرتها أو اختلقتها عن فتاة متحجبة، وبما أنها هاجمت المفهوم الهزيل للشرف فإنها تحدثت في الأخير عن المفهوم السمين للشرف!! حيث قصرته على (أن لشرف هو الصدق. . .)

(2)

.

وما هو الصدق عندها؟ لم تشرح ذلك، ولكن الذي يظهر أنها تريد أن تكون النساء مثلها في السفور والتبرج والاختلاط، بل في الدفاع عن البغاء الجماعي، الذي خرجت من أجل تأييده في مظاهرة في أمريكا تضم أكثر من ثلاثمائة ألف شاذ يطالبون بمزيد من الحرية للشواذ

(3)

.

والصدق عند نوال السعدي هو أن يعلن البغاء بحرية؛ لكي يقضي على البغاء السري والدعارة الخفية!!.

تقول نوال السعداوي: (إن البغاء لا يحدث إلّا إذا أعطيت الحرية لجنس

(4)

وحرمت على الجنس الآخر

(5)

، وإن المرأة تستحق ما يمارسه الرجل من حرية جنسية، فهي لا ينبغي أن تكبل نفسها بقيود رجل واحد، بل يجب أن تتمتع كما تشاء)

(6)

.

وتقول: (إن البغاء لم يظهر في المجتمعات البدائية لأن الحرية الجنسية كانت ممنوحة للشباب من الجنسين)

(7)

.

(1)

المصدر السابق: ص 168 ونحو هذا القول ذكرته في كتابها دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص 515، 790.

(2)

المصدر السابق: ص 171.

(3)

انظر: العقلانية هداية أم غواية: ص 58.

(4)

تقصد الرجال، والجنس الآخر هو النساء.

(5)

تقصد الرجال، والجنس الآخر هو النساء.

(6)

حق المرأة بين مشكلات التخلف الاجتماعي ومتطلبات الحياة لعزيز السيد جاسم: ص 175.

(7)

دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص 286.

ص: 1717

وتقول: (إن البغاء لا يُمكن أن يحدث أيضًا في مجتمع يساوي بين الجنسين في القيود الجنسية، إن المساواة بين الجنسين سواء في الحرية أو في القيود تمنع حدوث البغاء، إن البغاء لا يحدث إلّا إذا أعطيت الحرية لجنس وفرضت القيود على الجنس الآخر)

(1)

.

وكلامها من هذا القبيل كثير مكرور، يجده من ينظر في رواياتها ومقالاتها وكتبها.

كما أن كلام العلمانيين والحداثيين والإباحيين حول هذه القضية كثير جدًا، وقد نصبوها لسهام شهواتهم وشبهاتهم؛ من أجل تحقيق غاياتهم في التمرد على الدين، والاستمتاع بالعهر والسفور والدعارة تحت مسميات التحرر والتقدم والانفتاح

(2)

!!.

•‌

‌ الحجر الأسود:

يقول عنه أدونيس العميل السري للأعداء كما أثبت ذلك كتَّاب الحداثة

(3)

: (وأعترف:

نيويورك، لك في بلادي الرواق والسرير الكرسي والرأس، وكل شيء

(1)

المصدر السابق: ص 286.

(2)

انظر على سبيل المثال: كتاب المرأة في شعري وفي حياتي لنزار قباني، وكتاب خلف الحجاب، وموقف الجماعات الإسلامية من قضية المرأة لسناء المصري، وكتاب المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف لسلوى الخماش، وكتاب التحديات التي تواجه المرأة العربية في نهاية القرن العشرين من منشورات جمعية تضامن المرأة العربية في مصر، والكتاب عبارة عن مجموعة مقالات أصلها محاضرات ألقيت في مؤتمر عن المرأة برئاسة نوال السعداوي، وفي آخر الكتاب بيانات المؤتمر وأسماء المشاركات فيه، وبيانات جمعية تضامن المرأة، وفيها كلها أكلح صمورة للتطرف العلماني، وأوضح مثال على عمق الأذرع اليهودية في هذه التجمعات المشبوهة، وكتاب حكم الأصوات، النساء العربيات يتكلمن للجزائرية عائشة لمسين.

(3)

انظر مثلًا: كتاب توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفي لمحمود شريح: ص 54، 55، 123 - 135، 137، 146، 147، 138، 140، 141، 142، 156، 160، 161، 162، 163، وكتاب بحثًا عن الحداثة: ص 38، 39، 42 - 43، 55، 56، 57، 59.

ص: 1718

للبيع: النهار والليل، حجر مكة وماء دجلة)

(1)

.

وما يُدرى أهذا اعتراف ورضوخ أم استنكار ورفض؟ والأول أحرى وأليق به وبمنهجه الفكري ومنشطه العملي؛ ذلك أنه جعل من علامات التخلف عند وارث الرمل -أي: وارث الدين والتراث- حمل الحجر الأسود، وذلك في قوله:

(وارث الرمل

يحمل الحجر الأسود خبزًا

والشمس ظلًا وماء)

(2)

.

أمّا البياتي فإنه يصور التخلف في اسم "عائشة" التي تطوف حول الحجر الأسود في أكفانها وذلك في قوله:

(عائشة تطوف حول الحجر الأسود في أكفانها

وعندما ناديتها هوت على الأرض رمادًا وأنا هويت

فنثرتنا الريح

وكتبت أسماءنا جنبًا إلى جنب على لافتة الضريح)

(3)

.

إنه يصور العلاقة الجدلية -حسب اعتقاده- بين تخلف البلاد العربية والإسلامية والدين الإسلامي، وقد استخدم رمز "عائشة" الذي كان أدونيس أول من استخدمه، ثم هجره وأخذه البياتي واستخدمه، ويُمكن من هذا الاسم أن نستشف النزعة الشيعية عند البياتي الرافضي وأدونيس النصيري.

ثم إن البياتي جعل عائشة تطوف حول الحجر الأسود الذي هو -عنده- علامة تخلف وتراثية وأصولية، وتطوف في أكفانها سواء قلت في إحرامها

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 293.

(2)

المصدر السابق 2/ 432.

(3)

ديوان البياتي 2/ 258.

ص: 1719

أو حجابها أو غير ذلك، فإنه يريد أن يصل إلى أن عائشة والحجر الأسود والطواف والحجاب كلها مرايا تخلف وجمود؛ ولذلك هوت على الأرض رمادًا عندما ناداها!!.

ولَمْ يتذكر البياتي أنه قال في "مس بيجام"

(1)

من موسكو، وقال في "أمهات جنود ألمانيا الديمقراطية"

(2)

ما يدل على أشنع تخلف وأرخص تبعية.

ولَمْ يتذكر أيضًا أنه قال عن برلين وعن الراية الشيوعية:

(أموت من أجلك

تحت الراية الحمراء

يا مدينة الأحلام)

(3)

.

ما يؤكد مقدار عمق التدين الجاهلي الماركسي في نفسه، وهو القائل تحت عنوان "ميدان ماركس انجلز":

(صوت لينين الأخضر العميق لا يزال

يهدر في العالم

والرايات في الجبال

تسد دروب الشمس

والآلات والأنوال أسمعها تنبض في قلوبكم

يا إخوتي العمال

ألمح وجه العالم الجديد في عيونكم

في أعين الأطفال

(1)

عنوان مقطوعة في ديوانه 1/ 341.

(2)

عنوان مقطوعة في ديوانه 1/ 334.

(3)

ديوان البياتي 1/ 332.

ص: 1720

في عبرات أم "فاتزاروف"

في قصائد "بريشت"

وفي أقوال

لينين وهي تلهم الأجيال

وتصنع الرجال

ألمحها في وطني تزلزل الجبال

يا أخوتي العمال)

(1)

.

هكذا تكون العبادة الماركسية والكهنوتية الشيوعية، إلى حد جعل بعض الماركسيين العرب يكتب عن ذلك مفصلًا تحت عنوان "رواسب الدين في تقديس لينين"

(2)

وفيه أثبت أصناف التقديس والتعبد الذي يمارسه الماركسيون تجاه الشيوعية ورموزها، وفي ديوان البياتي شواهد كثيرة جدًا على هذا المعنى

(3)

.

وعلى منوال البياتي قرينه في الشيوعية "معين بسيسو" القائل:

(وجه حزيران هو "الحجر الأسود"

تلمسه، تتحسسه، ونحج إليه)

(4)

.

رابطًا بين هزيمة حزيران والحجر الأسود، أي أنه يحيل الهزيمة إلى

(1)

المصدر السابق 1/ 343.

(2)

في بيت أحمد أمين: تاليف حسين أحمد أمين: ص 351 - 362.

(3)

انظر مثلًا: ديوان البياتي 1/ 203، 243، 244، 248، 254، 298، 323، 324، 325، 329، 332، 333، 335، 340، 342، 343، 347، 347، 348، 350، 387 - 379، 384، 417، 419، 470، 471، 478، 482، 487، 2/ 17، 38 - 39، 44، 151، 162 - 163، 165، 182، 248، 252، 263 - 267، 308، 319، 341، 343، 348، 358 - 361، 367، 368، 440، 444 - 446، 449.

(4)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 404.

ص: 1721

استمساك المسلمين بالإسلام!! علمًا أن الإسلام لما يدخل بعد في أي معركة مع اليهود منذ تأسست دولتهم في فلسطين.

أمَّا عزيز العظمة فإنه يجعل الإسلام على تخوم الوثنية في نشأته وفي شعائره، ويستدل على ذلك بالطواف والسعي وتقديس الحجر الأسود حسب قوله النابع من جهله وحقده على الإسلام، وذلك في قوله:(فليس ثمة شأن طبيعي أكثر من أن التوحيد الإسلامي ولو على تخوم الوثنية وغيرها من الأديان. . .، وأنه تعاطى مع الوثنية المكية - الطواف، السعي، تقديس الحجر الأسود، ولا تتمتع الدبلوماسية الدينية التي مارستها عبقرية محمد)

(1)

، أي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ هذه الشعائر من الوثنية الجاهلية لتحقيق مآرب سياسية، ووفق خطة دبلوماسية.

•‌

‌ الحق:

من المؤكد والثابت أن من أصول الحداثة إدانة العقل والوعي وقوانين العلم والنظام والمنطق، ومحاربة التقعيد وكل ما هو مقنن، وكل ما تعارف عليه الناس، وكل ما هو مؤسسي

(2)

.

وعلى هذا الأساس حاربوا معايير الفطرة البشرية ومنها "الحق" الذي عبثوا بمفهومه بعد أن نفوا وجوده، ونفوا أهميته وضرورة وجوده، ومن أمثلة العبث بمصطلح الحق قول الزير نزار قباني:

(كلما سافرت في جسد حبيبتي إني أشف، وأتطهر، وأدخل مملكة

(1)

مجلة الناقد، العدد 9 آذار 1989: ص 9 تحت عنوان "الآيات الشيطانية لسلمان رشدي قميص عثمان المعاصر".

(2)

انظر هذا الأصل الحداثي في: الحداثة الأولى: ص 237، وزمن الشعر: ص 10، 19، واتجاهات الشعر العربي لإحسان عباس: ص 158، وقضايا وشهادات 2/ 292، ومجلة الناقد، العدد الأول: ص 7، وص 82، والعدد 13: ص 40 - 41، 43، وحداثة السؤال: ص 18، 208، 218، وأسئلة الشعر: ص 126، وقضايا الشعر الحديث: ص 296 - 297، والصوفية والسوريالية: ص 11، 12، 16، 22، 59.

ص: 1722

الخير والحق والضوء، وماذا يكون الشعر الصوفي، سوى محاولة لإعطاء اللَّه مدلولًا جنسيًا؟)

(1)

.

والمتأمل في أقوالهم الموجهة ضد عقائد الإسلام وشرائعه يجد أنهم لم يستبقوا ممكنًا في حربهم وعدائهم وانتهاكهم وعبثهم وسخريتهم به.

ودين الإسلام في عقائده وشرائعه وأعماله وأخباره حق محض، وقد تبين بالأدلة والحقائق أنهم وقفوا ضده وعادوه أشد العداوة، واستخفوا به غاية الاستخفاف، تمشيًا مع عقائدهم الباطلة وأفكارهم الهابطة، ومع جاهليتهم المادية المعاصرة.

•‌

‌ الحلال والحرام:

وعلى أساس من القاعدة الحداثية المذكورة آنفًا أسقطوا معايير الحلال والحرام، وتصدوا بكل عدوانية لهذه المعايير في شريعة الإسلام، على اعتبار أنهم يحاربون أول ما يحاربون دين اللَّه تعالى بكل أصوله وتفاصيله.

ولهم في إسقاط موازين الحلال والحرام طرائق عديدة، مرة بالجحد الكامل لها، ومرة بالفصل بين الأدب والعقيدة، ومرة تحت دعوى أن الشرط الجمالي حر طليق لا يخضع للقاعدة الدينية ولا الأصول الاعتقادية ولا الضوابط الشرعية!!!.

وكل هذه مسوغات علمانية لإلغاء دور الدين والقيم، والتلاعب بالمفاهيم والمضامين والأفكار ورميها في أسواق السمسرة الفكرية.

(وهذا الأدب الحديث بأيدلوجيته أصبح بريدًا من برد الانسلاخ الفكري تحددت هويته من أحمق ظاهرات الجنون البشري من إيغال في الحسبانية والهيبية وتحطيم الثوابت وفرض المحال وتحذير العقل بجنون الخيال واستباحة كل محرم في سبيل إبداع أدب!!. . .، وتسلم قيادة هذا الأدب عملاء الصهيونية والصليبية والعلمانية من جماعة حوار وشعر ومواقف!!، وكل هذه الوجوه الكالحة إمَّا نصرانية وإمَّا طائفية نصيرية أو درزية، أو

(1)

أسئلة الشعر: ص 196.

ص: 1723

لامنتم صرح بأنه يروث على قيم الشرق، والمؤسسات الأجنبية تبذل في صنع الزعامات الأدبية والترويج لها ما لا تبذله في صنيع الزعامات السياسية!. . . أصبح الأدب الحديث أيديولوجية فكرته موجهة ضد شخصيتنا وحريتنا ومأثورنا. . .)

(1)

.

ولذلك تعمد أصحابه فك ارتباط القول بأي معيار شرعي، وإلغاء أي ضابط يمنعه من العدوان والتخريب، بحجة أن الضوابط والمعايير الفكرية أو الفنية تتنافى مع الإبداع وتتناقض مع التقدم، بل سولت لهم أنفسهم أمرًا فصبر جميل، وجهاد طويل، ونصر من اللَّه وفتح قريب.

ومن نَماذج التلاعب بالحلال والحرام، قول الشهواني الفارغ نزار قباني:

(ما أنت؟ ما نهداك؟ إن قهقهت عواصفي وشهوتي الملجمة

لا يعرف الطوفان في جرفه ما حلل اللَّه وما حرمه)

(2)

وحسبك بهذه الجرأة الوقحة دلالة على ما ثم من سلوك وخلق وما خلفهما من عقائد وأفكار. ومن هذا القبيل قوله أيضًا:

(أشهد أن لا امرأة

قد غيرت شرائع العالم إلّا أنت

وغيرت خريطة الحلال والحرام

إلّا أنت)

(3)

.

•‌

‌ الخطايا:

والكلام عنها يدخل ضمن الكلام عن مسألة الحلال والحرام.

(1)

هكذا علمني ورد زورث لابن عقيل الظاهري: ص 192 - 193.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 77.

(3)

المصدر السابق 2/ 745.

ص: 1724

ولقرارهم إسقاط موازين الحلال والحرام تفاخروا بالذنوب والخطايا الاعتقادية كالإلحادية والوثنية، والضلال والكفر والشيطنة، وقد سبق ذى أمثلة كثيرة لهذه القضايا في الفصول السابقة، وتفاخروا كذلك بالخطايا العملية كالزنا واللواط وشرب الخمر وتعاطي الحشيش وغير ذلك من الرذائل.

بيد أن المراد هنا ذكر تلاعبهم وعبثهم بلفظ الخطايا، ومن ذلك ما كتبته مجلة الناقد بخط عريض "خطايا تقدس الحياة"

(1)

.

ومن ذلك قول نزار قباني:

(شهوتي سيف حجازي

ونهداك كأرض الروم

من مات على أسوارها

كفر عن كل الخطايا)

(2)

.

•‌

‌ خطباء الجمعة:

لبغضهم الشديد للصلاة والطاعات أبغضوا أهلها والقائمين بها والداعين إليها، وهذه صبغة كل عدو للحق من قديم الزمان.

يقول نزار قباني:

(لو أعطى السلطة في وطني

لقلعت نهار الجمعة أسنان الخطباء)

(3)

.

ويقول:

(1)

مجلة الناقد، العدد الثامن شباط 1989 م/ 1409 هـ: ص 74 - 75 لعقل العويط وقد عرفته المجلة بأنه شاعر وناقد أدبي من لبنان.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 91.

(3)

الأعمال الشعرية 3/ 221.

ص: 1725

(قضيت عشرين سنة

مكومًا كرزمة القش على السجادة الحمراء

أجلد كل جمعة بخطبة غراء)

(1)

.

•‌

‌ الخير:

كما سبق في الحديث عن قيمة "الحق" فإنهم تناولوا قيمة "الخير" بالتناول نفسه.

يقول نزار قباني: (كلما سافرت في جسد حبيبتي أني أشف وأتطهر، وأدخل مملكة الخير والحق والضوء)

(2)

.

ويقول أيضًا: (قيم الخير والشر، نحن اخترعناها، وهي ليست كلامًا نهائيًا مكتوبًا على اللوح الإلهي)

(3)

.

ويقول: (. . . العمل الفني لا يخضع لمقاييس الخير والشر، سماوية كانت أم أرضية)

(4)

.

والطيبة نوع من أنواع الخير، ونزار يحاربها ويرفضها، ويقول:

(نرفض أن نكون بعد اليوم طيبين

فالطيبون كلهم أنصاف ميتين)

(5)

.

قال اللَّه تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}

(6)

.

(1)

المصدر السابق 3/ 133.

(2)

و

(3)

و

(4)

أسئلة الشعر: ص 196، 197.

(5)

الأعمال الشعرية 3/ 147.

(6)

الآية 26 من سورة النور.

ص: 1726

•‌

‌ دار السلام:

اسم من أسماء الجنة، كما قال تعالى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ لِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}

(1)

.

وقد أطلق محمد شكري في روايته الشطار التي يتحدث فيها عن حياته اسم "دار السلام"

(2)

على بيت الدعارة التي تديره الداعرة "للا الغالية"

(3)

.

•‌

‌ الدعاء:

عبادة من أجل العبادات، وقربة من أعظم القربات.

وقد تناول الحداثيون الدعاء بالانتهاك العابث والاجتراء الفاسق، وجعلوه محلًا للتندر والسخرية ومجالًا للاستخفاف والتلاعب، ومن أمثلة ذلك قول نزار قباني، الذي يصف فيه أسباب التخلف، ويجعل منها المكث في الجوامع للعبادة، وطلب النصرة من اللَّه تعالى، يقول:

(نقعد في الجوامع

تنابلًا كسالى

نشطر الأبيات أو نؤلف الأمثالا

ونشحذ النصر على عدونا

من عنده تعالى)

(4)

.

ويقول:

(يا سادتي الكرام

من ربع قرن وأنا

(1)

الآية 127 من سورة الأنعام.

(2)

و

(3)

الشطار: ص 41.

(4)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 89.

ص: 1727

أمارس الركوع والسجود

أمارس القيام والقعود

أمارس التشخيص خلف حضرة الإمام

يقول: "اللهم امحق دولة اليهود"

أقول: "اللهم امحق دولة اليهود"

يقول: "اللهم شتت شملهم:

أقول: "اللهم شتت شملهم"

يقول: "اللهم اقطع نسلهم"

أقول: "اللهم اقطع نسلهم"

يقول: "اغرق حرثهم وزرعهم"

أقول: "أغرق حرثهم وزرعهم"

وهكذا يا سادتي الكرام

قضيت عشرين سنة

أعيش في حظيرة الأغنام

أعلف كالأغنام

أنام كالأغنام

أبول كالأغنام

أدور كالحبة في مسبحة الإمام

لا عقل لي لا رأس لا أقدام

أستنشق الزكام من لحيته

ص: 1728

والسل في العظام. . .)

(1)

.

لم يعد نزار قباني داعية المجون والخلاعة والدعارة والإباحية فحسب، بل أصبح داعية الردة والمروق، في مزيج من انتكاسات الروح وحيوانية الجسد وعفونة الفكر، تخفف في قلوب الشباب والشابات ندوبًا من الشك والاستخفاف بالدين والدعاء والإله العظيم، إن لم تودي بعقائدهم جملة وتفصيلًا.

ومن أقواله الرديئة البذيئة جعله الدعاء سرابًا في قوله:

(نركب أحصنة من خشب

ونقاتل أشباحًا. . .

وسراب. .

وننادي:

يارب الأرباب

نحن الضعفاء وأنت المنتصر الغلاب

نحن الفقراء وأنت الرزاق الوهاب

نحن الجبناء وأنت الغفار التواب

شعراء الأرض المحتلة

ما عاد لأعصابي أعصاب)

(2)

.

فهو يجعل الدعاء محض سراب، وعلامة على الضياع والتخلف والهوان، والصيغ الدعائية التي أوردها ليست لسوى التندر والعبث، والمقطوعة كلها تدل على هذا المعنى الأرعن.

(1)

المصدر السابق 3/ 130 - 133.

(2)

المصدر السابق 3/ 157.

ص: 1729

ومثله وأخبث منه الباطني النصيري أدونيس الذي يجعل السنوات مكسورة، والحياة متخشية والبلاد ساقطة لما آمن الناس برب يدعونه ويرجونه، ويأتي بالدعاء على صيغة ما كان يدعى به أيام الدولة العثمانية ليربط معاني النفرة من الدين بكل هذه القضايا، فتاريخ المسلم مكور وساقط ومتخشب والدعاء سببه، والنظام الحاكم الذي كان يحكم بالإسلام قوامه، ولذلك توجه بالذم والشتم إلى هذه القضايا مبشرًا برجال وراء التخوم يسكن فيهم البرق، من هم؟ إنهم رجال الحداثة وأتباع الباطنية والوثنية القديمة والحديثة!!.

يقول أدونيس: (اعبري يا سنواتنا مكسورة الجناح، التصقي بجباهنا

خشبة، السقوط بلادنا، و"لتنصر اللهم السلطان ابن السلطان

مالك البرين والبحرين"

أنتم أيها الشيوخ ابحثوا لنا عن رجال وراء تخومنا

رجال يسكن فيهم البرق، باسمهم نضرب نقودنا، باسمهم

ترقد نساؤنا فوق وسائد الزئبق)

(1)

.

أمّا التقدمي!! الماركسي محمود درويش فيسأل بعد انسلاخه عن تراثه وأصالته وهويته، وانتمائه إلى "راكاح" والماركسية، يسأل سؤال التوبيخ والتقريع على حالات التخلف التي يعيشها الفنسطنيون الذين لم يؤمنوا بالشيوعية دينًا!!.

(سمعت في المذياع

تحية المشردين للمشردين

قال الجميع: كلنا بخير

لا أحد حزين،

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 230.

ص: 1730

فكيف حال والدي؟

ألم يزل كعهده، يحب ذكر اللَّه.

والأبناء والزيتون؟. . .

وكيف حال جدتي

ألم تزل كعهدها تقعد عند الباب؟

تدعو لنا

بالخير والشباب والثواب!)

(1)

.

والتقدمي الآخر!! سميح القاسم يقول عابثًا ساخرًا جاهلًا:

(ما الذي تجديكم الآن أناشيد الكرامه؟

صوبوا كل التعاويذ بوجه الطائرات!

ألبوا اللَّه عليها

واقذفوها بالوصايا العشر

والجفر، وآيات السماء البينات

كنت طفلًا آنذاك

علموني أن مجرى الأرض، في كف السماء

علموني أنه، سبحانه، يحيي ويفني ما يشاء

علموني أن أطيع الأولياء

دون أسأل من كانوا؟

وماذا صنعوا للتعساء؟:!

علموني الدجل، والرقص على الحبل

(1)

ديوان محمود درويش: ص 36 - 37.

ص: 1731

وإذلال النساء

علموني السحر والإيمان بالأشباح

والرقية والتعزيم

والخوف إذا جاء المساء

علموني ما يشاؤون ولم يستنبئوني ما أشاء

فرس الخضر كفيل بي

وحسبي الفقهاء!!

يا أبي المهزوم، يا أمي الذليله

إنني أقذف للشيطان ما أورثتماني

من تعاليم القبيله!

إنني أرفضها تلك الطقوس الهمجيه

إنني أجتثها من جذرها

تلك المراسيم الغبيه

إنني أبصق أحقادي وعاري

في وجوه الأولياء الصالحين

إنني أركل قاذورات ذلي وانكساري

للتكايا والدراويش

وأقزام الكراسي النابحين!

إنني أصرخ من قعر جحيمي:

يا وحولًا لصقت في نعل تاريخي العظيم

إنني أحكم بالصوت عليك

ص: 1732

فأعدي كفنًا من جلد أنصاف الرجال!

وإذا شئت نقوشًا، وصليبًا، ونجومًا، وهلال

ووصايا وابتهال

طرزيها بيديك!!)

(1)

.

ولا يحتاج المسلم -لكي يعرف دخيلة القوم- أكثر من هذا الكلام السخيف الهابط، وأحمد اللَّه على نعمة الإسلام والعقل، وقل لهواة الغواية ودعاتها:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

(2)

.

واعلم بأن هذه القاموس الهجائي ظاهرة مشهودة تفسر عمق استكبار القوم عن منهج اللَّه تعالى، وبغضهم لدينه القويم، وغارتهم العنيفة -المدفوعة الأجر- على هوية هذه الأمة ومقومات نهضتها وحياتها.

وثالث شعراء الأرض المحتلة بعد درويش وسميح، توفيق زياد الدرزي الماركسي، يتحدث بنفس مقتبس من كتاب "رأس المال" فيقول:

(ومن أين تأتي النقود

وهذي السموات رغم الدعاء

ورغم الصلاة صباح ومساء

أبت أن تجود ولو بالقليل

من الذهب المفتدى

لنملاء منه اليدين)

(3)

.

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 237 - 240.

(2)

سورة الكافرون.

(3)

ديوان توفيق زياد: ص 177 - 178.

ص: 1733

ولك أن تتصور درزيًا يدعو أو يصلي فكيف إذا أضاف الماركسية إلى درزيته؟!.

أمَّا عبد العزيز المقالح فإن طريقته في العبث بالدعاء لها كيفية أخرى، وذلك في خطابه للقاهرة قائلًا:

(يا أم النور "مدد"

يا مئذنة السارين "مدد"

لم يبق أحد

ما عاد على درب القادمين أحد)

(1)

.

أمَّا أمل دنقل فيقول:

(يا بقايا المومياء

نحن أسبلنا العيون الرمدة

حين أنكرناك قبل الفجر

"والفجر إلى اللحظة لم يأت"

وجاء

بدلًا منه: الوباء. . .

ودعونا اللَّه أن يكشف عنا الغمة المنعقدة:

أعطنا ليلة حب واحدة

أعطنا ليلة صدق واحدة

وتنسمنا صدى الدعوة، غربلنا الهواء

لم يكن إلّا الوباء

(1)

ديوان المقالح: ص 93.

ص: 1734

جربًا تحت الجلود:

الظفر لا يجدي ولا يجدي الدواء

جرب أوغل حتى الأفئدة)

(1)

.

أمَّا محمد شكري فإنه يسوق في روايته "الشطار" قصته مع عقد نكاح أجراه وهو الذي لا يؤمن بشريعة ولا دين!! أجراه وكتبه لأنه حسب قوله: (لم تحضرني أية شريعة تمنع ما سأقوم به، إن الفقر فوق القانون)

(2)

.

وبعد أن كتب للرجل والمرأة كتاب عقد النكاح قال: (سلمت للرجل نسخة وأمّنت الأخرى عند السي عبد اللَّه، جاءنا بالشاي مرة أخرى ودعا بالبركة، رفعنا أنا والسي عبد اللَّه أيدينا وشرعت أقرأ دعاء الخير والسي عبد اللَّه يردد آمين، ثم أخذت أتمتم بصوت خفيض قصيدة مهيار الديلمي التي أحفظها عن ظهر قلب:

أعجبت بي بين نادى قومها أم سعد فمضت تسأل بي

مد لي الرجل أوراقًا ملفوفة رفضها قائلًا:

أبدًا لا، إنه على خير. . .

انصرف الزوجان فقال لي السي عبد اللَّه:

هذا أعظم عمل خير تقوم به في حياتك، سيكون لك مستقبل عظيم إن شاء اللَّه)

(3)

.

قال اللَّه تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ

(1)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 245.

(2)

و

(3)

الشطار: ص 64 - 65.

ص: 1735

وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}

(1)

.

ونحو هذا العبث الإلحادي الخاسر عبث بن جلون في مقطع من روايته "ليلة القدر" حيث قال على لسان فتاة الرواية: (كنت أسير وأنا أحث الخطى، كانت تفصلنا أمتار قليلة، وكنت أسمعه يتمتم ببضع كلمات، في ما يشبه الصلاة، لم يعد يتكلم عن الوحش ممزقًا جسد فتاة شابة بل عن اللَّه ونبيه، وكان يردد هذا التعزيم: بسم اللَّه الرحمان الرحيم، وصلى اللَّه وسلم على آخر الأنبياء، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، باسم اللَّه الأعلى، الحمد للَّه الذي جعل المتعة العارمة للرجل تكمن في الداخل الدافئ للمرأة، الحمد للَّه الذي جعل في طريقي هذا الجسد البالغ الذي يتقدم وفق ما تبتغي شهوتي، هذا دليل على نعمته ووجوده، ورحمته، الحمد للَّه، الحمد لك يا أختي أنت التي تسبقيني لكي أشم عطرك. . . يا مجهولتي التي أرسلها القدر لكي تشهد بعظمة اللَّه على الرجل والمرأة الذين سيقترنان عند حلول الليل، أحمد اللَّه وأنا عبده، عبدكِ أنا، فلا تغفي، أن الشمس تغيب تدريجيًا ومعها يسقط كبريائي مهشمًا، باسم اللَّه الرحمان)

(2)

.

أمَّا نوال السعداوي فإنها تصوغ صورة تهكمية بالغة السوء كصاحبتها عن الآخرة والجنة، وذلك في روايتها "سقوط الإمام" حيث تتحدث على لسان الإمام الشخصية الرئيسية في الرواية: (. . . أنا وحدي ولا أحد معي ومن حولي أرض كالصحراء، والنهر على مدى البصر تطل من ورائه هضبة خضراء، قلت أنا في العالم الآخر، وهذه هي الجنة تلوح من بعيد، حلقي جاف منذ الطفولة، والظمأِ شديد، وثقتي في دخول الجنة مائة في المائة مثل ثقتي باللَّه، في جيبي توصية من النبي وبعض صكوك التوبة من بنك الإيمان أخرجتها كلها من جيبي لحارس الباب رضوان عليه السلام، كان أميًا لا يقرأ الحروف المكتوب، قلت له أنا الإمام وألقيت عليه إحدى خطبي

(1)

الآيات 103 - 106 من سورة الكهف.

(2)

ليلة القدر: ص 47.

ص: 1736

المعروفة، لم يفهم شيئًا فهو لا يتكلم اللغة العربية انتظرت طويلًا تحت شمس حارقة ورأسي عاريًا سألته ما بالك لا تحتفل بخطبي وكان يحفل بها الناس في كل أنحاء العالم؟ وهز رأسه علامة عدم الفهم، ثم لمحت وجه امرأة يقترب من بعيد. . . كانت زوجتي القديمة، توسلت إليها أن تتوسط لي لدى رضوان قالت لن تشفع لك إلّا زوجتك الجديدة. . . رأيت المنادي ينادي: يا أهل الآخرة غضوا أبصاركم حتى تمر زوجة الإمام. . . فسلمت عليها وقلت لها: لقد كتبت في الدنيا خطبًا كثيرة كنت أبدؤها باسم اللَّه وأختمها بالصلاة على النبي فحق لي بذلك دخول الجنة. . . وأشارت إلى أن أتبعها فتعلقت بذيل فرستها، لم تكن الفرسة تمشي على الأرض لشدة الزحام وكثرة إشارات المرور، رأيتها تطير في الجو أجنحة من الفولاذ، ورأس صغير مدبب كرأس صاروخ من آخر طراز، قلت: ما هذا؟ قالت: أنعم اللَّه عليك بطائرة جديدة بدل الفرسة القديمة، وركبت في مقعدي في الصف الأول وإلى جواري ريس الأمين، ومن شق الباب لمحت وجه قائد الطائرة. . . وعند الإقلاع جاءنا صوته من سقف الطائرة يتلو آيات القرآن ويدعو اللَّه أن يحمي الطائرة من السقوط، أقلعت الطائرة بعون اللَّه. . . واهتزت الطائرة فربطنا الأحزمة على البطون وعاد الصوت من السقف يقرأ القرآن ويدعو اللَّه أن يحمي الطائرة من السقوط أثناء الهبوط، وانزلقت عجلات الطائرة فوق أرض خضراء ملساء ناعمة كالسندس وقلت وصلنا الجنة؟ وقالت زوجتي الشرعية: ليس بعد ولن تدخل الجنة قبل أن يشفع لك المسيح، وتسدد ديونك في الدنيا. . .)

(1)

.

هذا نموذج آخر -وليس الأخير- للعبث الحداثي، والفوضوية العلمانية الموجهة قصدًا وعمدًا إلى ديننا وعقيدتنا، نموذج يجمع دمامة الفكر وانحطاطه مع دمامة الأسلوب والتركيب، في منهج يراد له أن يكون الوسيلة السريعة لتشويش الأفكار وتحطيم العقائد والمثل، وتهديم قواعد الإيمان.

(1)

سقوط الإمام: ص 121 - 122.

ص: 1737

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}

(1)

.

•‌

‌ الدين:

في أكثر فصول البحث شواهد وأدلة على عبثهم بالدين عقيدة وشريعة.

•‌

‌ الذنوب:

استخف الحداثيون بالذنوب لاعتقادهم أنه لا يوجد شيء اسمه "ذنوب"، وهذا مبني على عقيدتهم في جحد الربوبية والألوهية والنبوات والمعاد، ولذلك قالوا كما قال أسلافهم {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}

(2)

.

يقول أحدهم عن الدين وتعاليمه:

(خدعتنا تعاليم هذي الكتب

عن وصايا الشريط الطويل

وعن أغنيات الخشب. . .

خدعتنا مقاعدنا المدرسية

لم تعد النار نارًا وتلك الجنان جنانًا

سوى في الكتب. . .

سأدخل مع روحي الآن حربْ

وألقي بها في مهب الذنوب

المعدة للصالحين هناك

ويرتع فيها هنا جنرال

ويرتع رب

(1)

الآية 18 من سورة الأنفال.

(2)

الآية 8 من سورة المجادلة.

ص: 1738

سأحي ذنوبي هنا كلها

وأخوّض في جنّتي الأرض

مثل حريق عجول

سيبتديء الآن فصل اللعب

وأركض عبر الشوارع أصرخ:

يا محسنين:

للَّه ذنب!

للَّه ذنب!)

(1)

.

فهذا القول المجتريء على اللَّه تعالى، يقوله من لم يؤمن بالجنة ونعيمها والنار وسعيرها؛ لأنه خارج عن تعاليم الكتب السماوية، وواقع تحت هيمنة الاستيلاء الأوروبي الروحي والمادي، وخاضع لتعاليم المادية الحداثية.

أمَّا أنسي الحاج فإنه يصف الكاتب التخريبي الذي يحتفل به غاية الاحتفال ويحتفي بفساده وعبثه وفوضوية وهدمه؛ يصفه بأوصاف عديدة منها قوله: (مهما سالم الكاتب التخريبي سيظل "يصيب" ومهما أحب سيظل يشعل الحرائق، ومهما انحط أخلاقيًا سيظل أعلى من عصره. . . ينبعث في المعاصي، يفسد، مع أنه نقي وبرئ. . .)

(2)

.

•‌

‌ الربوبية:

سبق الحديث عن هذه القضية مفصلًا في الفصل الأول من الباب الأول

(3)

.

(1)

مجلة الناقد، العدد 8 شباط 1989 م: ص 35 بعنوان "قصيدتان" لإبراهيم نصر اللَّه، من فلسطين.

(2)

المصدر السابق، العدد 10 نيسان 1989 م/ 1409 هـ: ص 11 - 12.

(3)

انظر: 255 - 286 من هذا الكتاب.

ص: 1739

•‌

‌ الردة:

بحكم أنهم لا يرون أن هناك ما هو حق وباطل أو حلال وحرام أو خير وشر أو إيمان وضلال، فإنهم لا يرون أن هناك ردة عن الدين، لكونهم -بكل وضوح- ينفون الدين كله.

ومع أن أقوالهم وأعمالهم وعقائدهم التي أذاعوها توجب الحكم عليهم بالردة وترفع عصمة الدم عنهم إلّا أنهم في الأجواء السياسية العلمانية المستوردة من الغرب، أذاعوا كل ما في صدورهم العفنة من كفر وإلحاد، في مراغمة ومعاندة للدين وأحكامه وشرائعه وعلمائه ودعاته!!.

وتناولوا قضية الردة -على طريقتهم الهوجاء- بالشتم والمحاربة والاستنقاص والسخرية، واعتبروا أن إطلاق حكم الردة على صرحاء الكفر والإلحاد من التخلف المديني والتزمت والتطرف الأصولي، واعتبروه كذلك من عوائق التحرر والانطلاق!!.

كتب المقالح مقدمة لديوان أمل دنقل، ومن عناوينها "تمجيد التمرد في زمن الخضوع"

(1)

ذكر تحت هذا العنوان أن صديقه أمل دنقل (عانى بالإضافة إلى محنة الفقر والتشرد وإلى محنة القمع والارهاب محنة التكفير، نعم محنة التكفير، وكانت قصيدته "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" واحدة من القصائد التي وضعها "زعماء محاكم التفتيش" على مشرحة التكفير، والقصيدة تدعو إلى التمرد ضد الطغيان وتمجد دور العبد سبارتاكوس الذي امتشق السيف في وجه العبودية وفي وجه روما العابثة بإنسانية الإنسان ومطلع القصيدة وهو الأكثر إثارة يقول:

المجد للشيطان معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

من علم الإنسان تمزيق العدم

(1)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 34 - 37، 39.

ص: 1740

من قال: "لا" فلم يمت

وظل روحًا أبدية الألم

. . . وقد فهم صغار العقول في محاكم التفتيش المعاصرة أن الشاعر يمجد إبليس وأنه بذلك قد كفر، وأن دمه قد صار حلالًا. . . كان الشاعر متهمًا منذ كان متنبي القبيلة وصوت أحزانها، ورجال الدين يتهمونه بالتجديف والإلحاد. . .)

(1)

.

ومن العجب أن ترى وتسمع وتقرأ الكفر الصريح ثم يتباكون بعد ذلك على حظهم، ويندبون نصيبهم؛ لأنهم وقعوا فريسة رجال الدين، أو رجال محاكم التفتيش!!.

(يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه!

يلطمني، ويدعي أن فمي قام بلطم كفه!

يطعنني، ويدعي أن دمي لوث حد سيفه)

(2)

.

هب أن ما يقوله المقالح في دفاعه عن دنقل صحيحًا، وأنه لم يرد تمجيد إبليس بل أراد سبارتاكوس العبد الشجاع الذي وقف في وجه القيصر

(3)

.

هب أن هذا التأويل والتبرير كان صحيحًا، فماذا يقول المحامي المقالح في قوله:

(وعيناك: فيروزتان تضيئان

في خاتم اللَّه كالأعين)

(4)

.

وقوله:

(1)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 34 - 37، 39.

(2)

لافتات لأحمد مطر 1/ 15، والنقل عنه لا يعني تزكيته فعنده طوام فكرية واعتقادية.

(3)

انظر: الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل: ص 36.

(4)

المصدر السابق: ص 89.

ص: 1741

(خصومة قلبي مع اللَّه ليس سواه)

(1)

.

وقوله:

(فهل نزل اللَّه عن سهمه الذهبي لمن يستهين به

هل تكون مكان أصابعه. بصمات الخطاه؟)

(2)

.

هل يقول المقالح أن هذا القول ليس كفرًا وليس ردة؟ وأن رجال محاكم التفتيش هم الذين يريدون تحميل أمل دنقل جريمة لم يقترفها، ويقولونه قولًا لم يقله؟.

وهذا الدفاع الذي دافع به المقالح عن دنقل، نال المقالح مثله من جابر عصفور في مقطوعته المسماة "الاختيار" من ديوانه "الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل" والتي قال فيها:

(كان اللَّه قديمًا حبًا، كان سحابه

كان نهارًا في الليل. . .

صار اللَّه رمادًا

صمتًا

رعبًا في كف الجلادين

أرضًا تتورم بالبترول

حقلًا ينبت سبحات وعمائم

بين الرب الأغنية الثورة

والرب القادم من هوليود

في أشرطة التسجيل

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 344.

ص: 1742

في رزم الدولارات

رب القهر الطبقي

ماذا تختار؟

أختار اللَّه، الأغنية الثورة)

(1)

.

بعد هذا الإلحاد الصريح والاستهانة الوقحة باللَّه الجليل العظيم، يتصدى جابر عصفور للدفاع الطويل المستميت عن المقالح

(2)

كما تصدى المقالح للدفاع عن أمل دنقل.

وصدق اللَّه العظيم القائل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}

(3)

.

والقاسم المشترك بين دفاع كل من المقالح وجابر عصفور أنهم يحاولون إسقاط وصف الردة والكفر عن هذه الأقوال النجسة، ويسعون في إسقاطها بتأويلات وشروح حداثية، وحسبك بالشروح الحداثية انتفاخًا وورمًا ومطاطية!!.

{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}

(4)

وتاللَّه لقد عرفوا في لحن القول وفي صريحه، وفي غامضه وواضحه؛ أنهم أصحاب انحراف وأحلاس تخلف وردة، ولكن الذي يحرق قلب المؤمن أنها "ردة ولا أبا بكر لها"

(5)

.

(1)

الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل: ص 5 - 9.

(2)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 195 - 200.

(3)

الآيتان 67 - 68 من سورة التوبة.

(4)

الآية 30 من سورة محمد.

(5)

عنوان رسالة صغيرة الحجم كبيرة المعنى للشيخ الفاضل أبي الحسن الندوي رحمه الله.

ص: 1743

وفي قضية الردة يتحدث عزيز العظمة -الذي لا يواري سوأة إلحاده- عن طه حسين وكلامه الذي كذّب فيه وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبناء الكعبة، فيقول:(خلاصة القول أن الردة التي جوبه طه حسين بها، قامت على أساس إعادة الاعتبار للأسطورة، وإرجاع النص إلى مكانته المتعالية على التاريخ المؤسسة له في الخيال ورفض إمكانية المساءلة ووسمها بالخروج، واستندت هذه الردة. . . بتكفير من يكذب وجود إبراهيم وإسماعيل، إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الكفر والردة في عصير هما ممجوجتان فيه)

(1)

.

واستقر الفكر الحداثي والأدب الحداثي على هذا المنظور، تبعًا لأساتذتهم في المادية.

وتخدرت أحاسيسهم تحت وطأة هذا الأفيون القاتل فراحوا يعيثون في الأرض فسادًا، فقد سقط في حسهم وفكرهم أي معنى لقضية إيمان وكفر، وإسلام وردة، فانطلقوا يعبثون بكل شيء تحت حماية أمثالهم من الحكام العلمانيين الذين ملأوا السجون بعلماء الإسلام ودعاته الذين يطالبون بتحكيم شرع اللَّه في كل شأن، بدلًا من تحكيم أهواء البشر وزبالات أفكار البشر.

وهذا معين بسيسو له مقطوعة بعنوان "المرتد" يخاطب فيه نظيره، ويطالبه بقوله:

(اركع للورقة

اغرس قلمك. . .)

(2)

.

ثم يقول في آخرها معتزًا بشيوعيته ومفاخرًا بطاغوتها لينين:

(المهرب أين المهرب

لم تقهر أطفال لينين ولم تغلب

(1)

الإسلام والحداثة: ص 270.

(2)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 308.

ص: 1744

قد كذب المخلب. . .)

(1)

.

ويقول ممدوح عدوان:

(أنا الذي ما وصلت إلى جذوري الفراسة

أواجه المرأة كالغريب

أذوب في الردة والإسلام والسياسة)

(2)

.

ويقول:

(ميت في صفوف الجهاد وفي الردة الناكرة)

(3)

.

هذا هو الأدب الحديث بمدارسه ومذاهبه أصبح بريدًا من برد الانسلاخ الفكري، تحدد هويته هذه العبثيات اللاهثة، وهذه الظواهر الرعناء من الأقوال والمواقف، وجوه كالحة، وأفكار ساقطة وعقائد أنجس من روث الخنزير!!.

ومن عجائبهم والعجائب جمة في سوق الحداثة!! إنهم قد يطلقون على المهتدي بعد كفر وضلال لفظ "الردة" كما فعل الخبيث المسمى "الطيب تيزبني" في كتابه المسمى "روجيه غارودي بعد الصمت، حول فلسفة الردة عند غارودي وآفاقها في الوطن العربي" فقد اعتبر هذا الأفاك الأشر إعلان جارودي دخوله في الإسلام وتركه للشيوعية والاشتراكية "ردة"!!.

فسبحان اللَّه كيف يقلبون الموازين ويعبثون بالمصطلحات ويخادعون بالمفاهيم المغلوطة!!، فما أجدرهم بقول القائل:

(وجوهكم أقنعة بالغة المرونة

طلاؤها حصافة وقعرها رعونة

(1)

المصدر السابق: ص 311.

(2)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان جـ 1 تلويحة الأيدي المتعبة: ص 63.

(3)

المصدر السابق جـ 1 أقبل الزمن المستحيل: ص 49.

ص: 1745

صفق إببيس لها مندهشًا وباعكم فنونه

وقال إني راحل ما عاد لي دور هنا

دوري أنا أنتم ستلعبونه!)

(1)

.

•‌

‌ الرسل والرسالات:

مضى الحديث عن هذه المصطلحات في الفصل الثالث من الباب الثاني

(2)

.

•‌

‌ الركوع:

عبادة من العبادات العظيمة، ومن جحد وجوبها أو صرفها لغير اللَّه أو سخر بها فقد خرج من الإسلام.

وللحداثيين في العبث بهذه الشعيرة العظيمة أساليب منها قول البياتي عن الحلاج:

(الحلاج كان بقميص الدم مشبوحًا على القاموس

في عيونه: مدينة أصابها الطاعون

ركعتان في العشق

تعالي

حامل القربان ألقى وردة في النهر)

(3)

.

(ماذا أضاف الدم للقاموس؟

ركعتان في العشق)

(4)

.

(1)

لافتات أحمد مطر 1/ 88.

(2)

انظر: ص 1246 - 1293.

(3)

و

(4)

ديوان البياتي 2/ 348 - 349: ص 350 ونحوه في ص 351.

ص: 1746

وقوله عن الشاعر الحداثي: (رجل بالموت مضاء، قلق، تحسبه أعمدة ووهاد وجسور، يركع في منتصف الليل أمام العنقاء، هنالك عاصفة تعوي وتزمجر عبر البار الإغريقي)

(1)

.

وقول نزار قباني في تصوير أسباب التردي والضياع -حسب عقيدته الشهوانية المادية-:

(يا سادتي الكرام

من ربع قرن وأنا

أمارس الركوع والسجود

أمارس القيام والقعود. . .

وهكذا يا سادتي الكرام

قضيت عشرين سنه

أعيش في حظيرة الأغنام)

(2)

.

وقوله:

(مر عامان والمآذن تبكي والنواقيس كلها خرساء

أيها الراكعون في معبد الحرف كفانا الدوار والإغماء

مزقوا جبة الدراويش عنكم واخلعوا الصوف أيها الأتقياء)

(3)

ويقول سميح القاسم:

(ووحدي كنت، في القمة وحدي

راكعًا أبكي أصلي أتطهر)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 419.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 3/ 130، 132.

(3)

المصدر السابق 3/ 407.

(4)

ديوان سميح القاسم: ص 405.

ص: 1747

وليس هذا اعترافًا منه بالركوع والسجو والصلاة أو احترامًا لها، بل رأى ذلك -وفق شيوعيته- نزولًا وهزيمة وحزنًا، وذلك في قوله بعد المقطعين السابقين:

(نازلًا كنت: على سلم أحزان الهزيمه

نازلًا يمتصني موت بطيء

صارخًا في وجه أحزاني القديمه:

أحرقيني احرقيني لأضيء!

لم أكن وحدي

وحدي كنت في العتمة وحدي

راكعًا أبكي أصلي أتطهر

جبهتي قطعة شمع فوق زندي

وفمي ناي مكسر

كان صدري ردهة

كانت ملايين مئه

سجدًا في ردهتي

كانت عيونًا مطفأه!)

(1)

.

وممدوح عدوان يعبث بلفظ الركوع بأسلوب آخر حيث يقول:

(الحياة انسكبت فيضًا

وصارت مومسًا

كنا نؤاتيها بلا طعم

ونحياها كعادهْ

(1)

المصدر السابق: ص 405 - 406.

ص: 1748

وعرفنا وجهها جوعًا وإدمانًا

ذُللنا فيه، صنّاه

ركعنا في محياه عباده)

(1)

.

قال اللَّه تعالى واصفًا أهل الهلاك: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}

(2)

الآية.

أمَّا أحمد دحبور فيقول:

(الأشبال الثلاثة والزهرة ففروا من جديد:

أركع: اقبليني اقبليني

ها أنا لا أبتعد، ها أنا لا أتقدم)

(3)

.

•‌

‌ الزكاة: الركن الثالث من أركان الإسلام

.

يقول سميح ساخرًا مستخفًا بالمعاني والشعائر الإسلامية ومدنسًا لمضامينها الشرعية، وذلك تحت عنوانٍ إبداعي مبتكو!! (سيبويه - 5 - ص):

(رضا الوالدين لنا

والخشوع طويلًا لأضرحة الأولياء

وقسمتنا جثة الأتقياء

وأنت لك النار. . . والكستناء

لماذا إذن تزدرينا

وتقتل فينا

(1)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان جـ 2 يألفونك فانفر: ص 82.

(2)

الآية 96 من سورة البقرة.

(3)

ديوان أحمد دحبور: ص 530.

ص: 1749

زكاة الرضا

وصلاة العشاء

وصوم العشاء

لماذا؟)

(1)

.

•‌

‌ السجود:

عبادة من أجل العبادات ولا يجوز صرفها لغير اللَّه ومن جحد وجوبها أو صرفها لغير اللَّه أو سخر بها فليس له في الإسلام نصيب.

وبما أن السجود عبادة أهل الإسلام فقد تناوشها أهل الحداثة بالأقوال الخبيثة انتهاكًا وسخرية وعبثًا بهذه الشعيرة العظيمة، ومن ذلك كلام أدونيس في مقطوعته الجنسية الداعرة المسماة "تحولات العاشق" والتي هي مزيج من الوزن والنثر مع غلبة النثر كما وصفها

(2)

، يقول في هذه المقطوعة واصفًا فرج امرأة!!:

(أيها الجرح يا جحيمًا يضيئني

أيها الجرح يا موتي الأليف

في الجرح أبراج وملائكة

نهر يغلق أبوابه وأعشاب تمشي

رجل يتعرى

يفتت ريحانًا يابسًا ويهلل

ثم يسجد ويغيب)

(3)

.

ويقول البياتي:

(1)

لا أستأذن أحدًا: ص 115.

(2)

انظر: مقدمة الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 7.

(3)

المصدر السابق 1/ 529.

ص: 1750

(يا روح عناصر هذا العالم، يا أضواء الليل الفضية والزرقاء

ها أنذا أسجد في الحضرة سكران

ضيفًا لمليكة هذا الليل المسكون بروح الصهباء

أهذي والخمر معي تهذي، قيثار العشق، أعريك أمامي

في الحان)

(1)

.

ومر معنا في الحديث عن "الركوع" كلام نزار قباني الذي يصف أنه في حظيرة الأغنام من عشرين سنة؛ لأنه يمارس الركوع والسجود والصلاة والدعاء

(2)

، ونحوه كلام سميح القاسم السابق ذكره

(3)

.

ولمحمود درويش مقطوعة بعنوان "شهيد الأغنية"!! يقول فيها:

(يا أنت!

قال نباح وحش:

أعطيك دربك لو سجدت

أمام عرشي سجدتين!

ولثمت كفي في حياء مرتين

أو. . تعتلي خشب الصليب

شهيد أغنية وشمس)

(4)

.

هذا شاعر الأرض المحتلة!! وكلامه مشحون بهذه الألفاظ والمصطلحات والمعاني الجاهلية الدالة على مقدار سراديب الظلمات الحداثية، وهذا هو الشاعر الثاني في الأرض المحتلة!! سميح القاسم يقول:

(1)

ديوان البياتي 2/ 413.

(2)

انظر: الأعمال الشعرية لنزار 3/ 130 - 134.

(3)

انظر: ديوان سميح القاسم: ص 405 - 406.

(4)

ديوان محمود ودرويش: ص 103 - 104.

ص: 1751

(يا بيتنا الباقي

يا بيتنا المعبد

يا من على عتباته أسجد

وأشم طيب حذاء من شيد!)

(1)

.

ويقول المقالح هازئًا بالساجدين والدين كله:

(لمن أخا الأوهام والخيال

تقدم السجود؟

ما كل ما تريده يكون

وأي شيء قد أردته فكان؟

تاريخك الجديد والقديم

مقبرة للخزي والهوان

وحيثما ذهبت بائعًا وراكعًا تهون

تسخر منك الكلمات في اللسان)

(2)

.

ومن نَماذج الجهل بالدين والاستخفاف به في الوقت نفسه، وصف ابن جلون لصلاة الجنازة، التي تؤم الناس فيها امرأة، ولعل ذلك من مقتضيات المساواة العلمانية بين الرجل والمرأة!، يقول بن جلون: (وفي الجامع الكبير عُينت طبعًا لأؤم صلاة الجنازة، قمت بذلك بغبطة داخلية، ومتعة قريبة من التستر، كانت إحدى النساء تأخذ تدريجيًا بثأرها من مجتمع رجالي بلا حزم يذكر، على أية حال، كان ذلك صحيحًا بالنسبة لرجال عائلتي، وعندما كنت ساجدة لم أتمكن من منع نفسي من التفكير في الرغبة الحيوانية التي كان جسدي البارز بذلك الوضع، سيثيرها لدى أولئك الرجال

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 484.

(2)

ديوان المقالح: ص 165 - 166.

ص: 1752

لو علموا بأنهم يصلون خلف امرأة، لن أتكلم عن الذين يجسون أعضاءهم بمجرد رؤيتهم لعجزهم مقدم على هذا النحو، سواء كان عجز امرأة أو عجز رجل، استسمحكم على هذه الملاحظة، فهي تطابق الواقع ويا للأسف!)

(1)

.

هذا القول صورة من الاستخفاف والجهل بالدين، فصلاة الجنازة ليس فيها سجود، ولكنه يصورها كذلك، ويجعل الإمام امرأة ثم يجعل منظر السجود منظرًا مثيرًا للرغبة الجنسية، وكل إناء بالذي فيه ينضح!!.

وقد سجل مشاعره نحو الشذوذ الجنسي، وتعاطفه مع أصحابه وتسويغه لفاحشة اللواط في كتابه "أقصى درجات العزلة" والتى يظهر فيه فى سربال طبيب معالج وخبير نفسي ممارس

(2)

.

•‌

‌ السعي:

شعيرة من شعائر الحج والعمرة، يؤديها المسلم عبادة اللَّه تعالى.

وقد تناولها الجاهليون المعاصرون بالتنقص والانتهاك ونسبتها إلى الجاهلية القديمة، كما في قول حسن حنفي:(. . . فشعائر الحج، الطواف، ورمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة والتكبير، كلها كانت شعائر جاهلية دخلت في بيت إبراهيم، جاء الوحي لإعادة توظيفها في أصلي العدل والتوحيد)

(3)

.

أي أن هذه الشعائر العظيمة ليست من شرع اللَّه الحكيم العليم، بل هي مجرد تأثر بالجو الجاهلي الذي كان سائدًا قبل مجيء الإسلام، بل هي مجرد توظيف أو إعادة توظيف، وكأن الإسلام لم يأت إلّا ليقوم بأدوار تلفيقية وانتهازيات سياسية!، بئسما سولت لهم أنفسهم، ثم يضيف هذا الجاهلي المتعدي أن الوحي جاء لإعادة توظيفها في أصلي العدل والتوحيد، وهي يجري في هذه التسميات على درب المعتزلة ولكن في التسمية فقط،

(1)

ليلة القدر: ص 27 - 28.

(2)

انظر: أقصى درجات العزلة لطاهر بن جلون.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 151.

ص: 1753

أمَّا في المضمون فإن هذا الذي شرحه حسن حنفي في كلامه يوصل إلى مستنقع الحداثة والعلمانية.

وهذا القول الذي قاله حسن حنفي عن الطواف والسعي هو عين ما قاله عزيز العظمة في دفاعه عن نظيره سلمان رشدي في آياته الشيطانية، حيث يتضامن هذا مع ذاك في حرب وثنية معاصرة ضد الإسلام وقضاياه، حرب مدفوعة التكاليف، مدعومة الاتجاه، محمية من الصليبية والصهيونية العالميتين، ولكن هذه المرة تحت شعارات التحرر الفكري الذي ينادي به الغرب المنحاز ضد الإسلام، انحيازًا له جذوره العميقة في نسيج المجتمعات الغربية، وينفذه بعض أبناء البلدان المسلمة الذين صنعوا على أعين الغرب، فاذا بنا نراهم وهم لا يضمرون للإسلام إلّا شرًا، ولا لدعاته إلا عداوة ولا لشريعته إلّا تنكرًا، عادوه لأنه ضد شهواتهم المحرمة، وعقائدهم المظلمة، ومظالمهم المفترسة، ومصالحهم الآثمة ومطامعهم الفاجرة.

يقول عزيز العظمة مهاجمًا مغالطًا كاذبًا: (إن التوحيد الإسلامي ولد على تخوم الوثنية وغيرها من الأديان،. . . إنه تعاطى مع الوثنية المكية، الطواف، السعي، تقديس الحجر الأسود، ولا تمتنع الدبلوماسية الدينية التي مارستها عبقرية محمد)

(1)

.

وقد نقل أدونيس في تلمود الثابت والمتحول كلام الزنديق ابن الراوندي في جحده للنبوة وهو يشبه كلام حسن حنفي وعزيز العظمة، وأيد ذلك على أساس الانتصار للعقل حسب زعمه

(2)

.

إن العقول الكليلة لا تعرف الحقيقة على وجهها، وأنى لها أن تعرفها وقد غطت المادية وإباحيتها وظلاميتها وحيوانيتها على عقولهم فأصبحوا يمارسون العنصرية الفكرية في عداء عنيف، وليس هناك أشد من عداء

(1)

مجلة الناقد، العدد التاسع آذار 1989 م/ 1409 هـ: ص 9.

(2)

انظر: الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول: ص 74.

ص: 1754

المرتدين، وفي حقد مخيف، وليس هناك أخبث من حقد الناكصين!!.

إنهم يريدون -في أحسن أحوالهم- إسلامًا بلا عقيدة ولا شريعة، وديانة بلا عمل ولا بذل ولا جهاد، وملة بغير دولة ولا نظام، واتباعًا أعمى للغرب شبرًا بشبر وذراعًا بذراع!!.

•‌

‌ السماء:

ويريدون بالسماء -عند إطلاقهم ألفاظ الشتائم والسباب- اللَّه -جلَّ وعلا-، والوحي والدين والشريعة والعقيدة والنبوات، ولهم في استعمال لفظ "السماء" بهذه المعاني طرائق عبث عديدة تفضي في حسبانهم إلى تدمير الدين وسحقه، حسب ما في خبيئتهم الحداثية والعلمانية النجسة.

وقد سبق ذكر أوجه وأمثلة ذلك في الفصل الثاني من الباب الأول، في المظهر الثامن من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية

(1)

.

•‌

‌ السنة والبدعة:

من جهلهم المركب أنهم جعلوا ما يسمونه الإبداع قرين البدعة، وجعلوا محاربة البدعة نظير محاربة الإبداع.

وهم يجهلون أو يتجاهلون أن لكل من البدعة والإبداع معنى يخصه، اللهم إلّا إذا أرادوا أن الإبداع هو الإلحاد والكفر والشك والريب والعهر والفوضوية -كما هو حال الحداثة وأهلها- فإن محاربة هذا من أعظم الجهاد في سبيل اللَّه، ليس لأنه بدعة في الدين، وإنّما لأنه ضلال وكفر وفسوق وانحراف، يوصل البشرية إلى الهلاك والدمار، ويقودها إلى الحيوانية المرتكسة والشهوانية الهابطة.

ومن أدلة هذا الجهل المركب مناقشة أبي جهل الحداثي المسمى جابر عصفور للكتاب النادر "الحداثة في ميزان الإسلام" حيث تعرض في هذه المناقشة المتهالكة لما يطلق عليه إسلام النفط، الذي يقول عنه: (إن إسلام

(1)

انظر: ص 506 - 519 من هذا الكتاب.

ص: 1755

النفط يمتح من المخزون "النقلي والاتباعي" الذي ظل معاديًا للحداثة طوال عصور التراث. . . إن إسلام النفط يكرر الأصوات السابقة في التراث النقلي. . .)

(1)

.

ثم يورد حملة من الأحاديث والآثار التي تأمر بالالتزام بالإسلام والاعتصام بالسنة والبعد عن البدعة، والاستمساك بالجماعة وترك التفرق والمحدثات، وبعد ذلك يقول:(هذه الدوال تشير إلى أصول نقلية يتم تأويلها في الممارسة الإيديولوجية فتتحول إلى مخايلات تقترن التقليد بسلامة الدين وتصل أعمال العقل بالبدعة، وتربط البدعة بالضلالة المفضية إلى النار، وفي الوقت نفسه، تتسع بمفهوم البدعة لتجعل منها قرينة كل فعل إنساني يسعى إلى اكتشاف أفق مغاير. . .)

(2)

.

ومن هذا القول يُمكن التيقن بمدى عمق جهلهم بدين الإسلام، وعمق البغض له أيضًا.

وعلى هذه المقدمة الجاهلية الباطلة وضع النتيجة القائلة بأن الإبداع يعني البدعة والحداثة تعني الإحداث، وحيث إن الإسلام أمر بالسنة ونهى عن البدع والمحدثات فلابد حينئذٍ من الصراع بين الإسلام أو ما يسميه إسلام النفط والحداثة.

وعلى الرغم من المقارنة الباطلة، والمقدمة والنتيجة الخاطئة، فإنه ينبغي أن نبين أن الإسلام عندما يواجه الحداثة ويناقضها لا على أساس أنها بدعة أو محدثة، فالبدع والمحدثات إنّما تكون في الدين ويقصد بها القربة إلى اللَّه رب العالمين، بل يحاربها على أساس أنها ضد الدين جملة وتفصيلًا، ومحاولة جابر عصفور هذه محاولة ضمن المحاولات العلمانية المغالطة، التي تحاول أن تصور أن الحداثة ما زالت ضمن الإطار العام للإسلام!! ولكن أصحاب المخزون النقلي والنصوصية

(1)

الإسلام والحداثة: ص 179.

(2)

المصدر السابق: ص 180.

ص: 1756

الاتباعية يأبون ذلك ويحاربونه!! ثم هو لا يقول بأن ذلك هو موقف الإسلام الصحيح من الحداثة، وإنّما يلبس تلبيسًا آخر حين يصور أن هذا الموقف هو موقف فئة يُسمى إسلامها "إسلام النفط" أو "الإسلام النقلي" أو "الإسلام الاتباعي".

(ومن الطبيعي أن يمثل خطاب الحداثة نقيضًا صارمًا لكل ما ينطوي عليه خطاب إسلام النفط من دلالات، فالحداثة تعني الإبداع الذي هو نقيض الاتباع والعقل الذي هو نقيض النقل)

(1)

.

ولا يدري هذا الجاهل أنه بهذا القول ينقص كل حججه، ويكشف كل مراوغاته، ويصم نفسه بالمروق والفسوق، من حيث ظن أنه يُمكنه الاتصاف بالحداثة والإسلام!!، وما أسر ابن آدم سريرة إلّا أظهرها اللَّه على فلتات لسانه {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}

(2)

.

(يضحكني العميان

حين يقاضون الألوان

وينادون بشمس تجريديه

تضحكني الأوثان

حين تنادي الناس إلى الإيمان

وتسب عهود الوثنية، يضحكني العريان

حين يباهي بالأصواف الأوروبية!)

(3)

.

ومن هذا القبيل الذي ذكره جابر عصفور عن الإبداع والبدعة والأحداث والحداثة، ومحاربة السنة والاتباع والتسليم للوحي، قول أدونيس

(1)

المصدر السابق: ص 188.

(2)

الآية 30 من سورة محمد.

(3)

لافتات لأحمد مطر 1/ 87.

ص: 1757

في وصف كلمات الحداثة ومبادئها الشائهة الهرمة:

(اقرع أيها الزمن اقرع

الأبواب تسمع ولا تفتح

والسناطير تقتل السمع

ثمة سلاسل، مسامير، قضبان

بشر بأقدام أربع، تصهل وعلى اللجام أحلام وعطور

التقديس التصديق العجز

السكوت الإمساك الكف التسليم التسليم

ثمة أصوات تتعالى

البدعة البدعة! المحدث، المحدث!

نبطل سنة قديمة

ترد للإنسان اسمه

ونبدأ

اقرع أيها الزمن اقرع)

(1)

.

ويقول عن الحداثي:

(تطالع بجوارحك الغيب، وتحيا مطبوعًا على البدعة)

(2)

.

وهو عين الكلام الذي قاله جابر عصفور في ندوة الإسلام والحداثة مما يدلنا على تقليد الحداثيين لبعضهم وتكراريتهم القسيمة بل هم كما قال اللَّه تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)}

(3)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 546 - 547.

(2)

المصدر السابق 1/ 559.

(3)

الآية 53 من سورة الذاريات.

ص: 1758

•‌

‌ سواء السبيل:

هو الطريق المستقيم، طريق الإسلام المبين، الذي قال فيه اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}

(1)

. وقال سبحانه: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}

(2)

.

أمَّا أهل الحداثة الذين {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}

(3)

فإنهم يفاخرون بضلالهم هذا وبفسادهم وتخريبهم، كما قال أنسي الحاج: (الكاتب التخريبي لا يتقصد أن يكون كاتبًا تخريبيًا، إنه لقاء الفطرة ونداء الأشياء، فهذا هو دوره بمجرد أن يعبر عن تجربته، عن فكره، بمجرد أن يفتح فمه

إنه قدر الضالين سواء السبيل المعبَّد للعبيد.

ومهما سالم الكاتب التخريبي سيظل "يصيب" ومهما سربله الحب سيظل بشعل الحرائق.

ومهما انحط سيظل أعلى من عصره ومن ناصحيه. . .)

(4)

.

•‌

‌ السورة:

آيات من القرآن العظيم ذوات فاتحة وخاتمة وأقلها ثلاث آيات

(5)

.

وقد هزيء بها الحداثيون غاية الهزء وعبثوا بلفظها ومعناها غاية العبث، كقول معين بسيسو:

(تسافرين في كتاب الماء

سورة إقرأ

(1)

الآية 108 من سورة البقرة.

(2)

الآية 12 من سورة المائدة.

(3)

الآية 77 من سورة المائدة.

(4)

خواتم: ص 117.

(5)

انظر: البرهان في علوم القرآن 1/ 264.

ص: 1759

ترجعين في كتاب النار

سورة اكتب

تكتبين سورة المقاومة

والأرض قادمة)

(1)

.

وقوله:

(هذا هو الكبش الذي كتبنا بقرنيه

على الحيطان

سورة البرتقال والرمان

والذي كسرنا على قرنيه

بيضة الوطن)

(2)

.

وسمى مقطوعة له "سورة يوسف سلمان"

(3)

، وهذا تدنيس مقصود لمصطلح سورة، حيث أضافه إلى الشيوعي العراقي اليهودي المسمى "فهدًا"

(4)

وقال عنه: (. . . السلام على النبي والرسالة)

(5)

.

ومن هذا التدنيس قول ممدوح عدوان:

(حقنتك البلايا بوهم

فبايعت لسع السياط

ومنذ قبلت بها اللَّه.

كنت تعانق ذُلَّك

(1)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 592.

(2)

المصدر السابق: ص 682.

(3)

المصدر السابق: ص 694.

(4)

سبقت ترجمته: ص 1359.

(5)

المصدر السابق: ص 695.

ص: 1760

جاءك ضيفًا

تكارمت حتى قبلت به سيد البيت

أطعمته الزاد

ثم اكتفيت بما قدمت سورة المائدة

قل: أعوذ من الكلمات التي علموني)

(1)

.

ومنه قول أحمد دحبور:

(ستأتي الريح بالبياع والشاري

وبالمتمسكين بآية الكرسي ماع لعابهم نفطًا على الصحراء

سيُطلب لحمنا لوليمة الجزار والضاري

ونأخذ شعرة من خصلة الجني

نحرقها ليسعفنا فلا يأتي

كذلك علمتنا سورة الموت:

يكون لكم من الغازين أعداء ومن أمرائكم أعداء)

(2)

.

وقوله:

(من دمي يتساقط الدم

والمقاتل "يبصم" الأنعام والأعراف)

(3)

.

•‌

‌ الشر:

سبق الحديث عن إسقاطهم قضية الحق والخير والشر والحسن والقبح عند الحديث عن مصطلح الخير والحق.

(1)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان جـ 2 يألفونك فانظر: ص 65 - 66.

(2)

ديوان أحمد دحبور: ص 287 - 288.

(3)

المصدر السابق: ص 436.

ص: 1761

ومن أقوالهم في العبث بهذا المفهوم قول نزار قباني: (. . . ليس ضروريًا أن يصطدم اللَّه والشاعر؛ لأن سلطة الأول محصورة في مبادئ الخير والشر، وتقييم أعمال البشر، أمَّا التالي "يقصد الشاعر" فيحكم على أرض أخرى، هي أرض الإبداع الفني، والعمل الفني لا يخضع لمقاييس الخير والشر سماوية كانت أم أرضية، الفعل الشعري فعل حر، كما أن اللَّه في تصوري، هو حرية مطلقة قبل كل شيء، وأنا لا أستطيع تصوره على غير هذه الصورة.

. . . قيم الخير والشر نحن اخترعناها، وهي ليست كلامًا نهائيًا مكتوبًا على اللوح الإلهي، لذلك أعيش باستمرار في حالة اصطدام مع الخير والشر بصورتهما البشرية. . .)

(1)

.

لا يُمكن وصف هذا الكلام بغير كلمة "العبث" النابعة من أقبية الخرافات الحداثية والعقد العلمانية، ولا يُمكن اعتبار هذا القول فلسفة أو نظرية عقلانية؛ لأن للفلسفة شروطها وللعقل ضوابطه، ولكنها شهوات بهيمية، يصادر صاحبها من خلالها أي شيء يقف ضد أهوائه الحيوانية، مع ما في هذا الكلام من استخفاف بمقام اللَّه تعالى، وإعلاء لمنزلة الشاعر!! وأي شاعر؟ إنه شاعر الحداثة على الخصوص، شاعر الدعارة والعهر، والإلحاد والكفر والضلالة والظلام، شاعر الشرك النجس والفكر الدنس، والانحطاط والتخلف والمادية المتمثل في القول السالف، وفي قول أنسي الحاج:(. . . الشر الأدبي والفكري هو في الغالب إثراء للروح، يعلي الإنسان ويزيده بالتمرد والانعتاق، إنه خير متألم أو متكبر، قلق، متمرد، "ملعون" ومهما أوغل في العصيان أو الخطيئة لا يصبح اعتداء على الإنسان ولا عملًا ضد الحرية ولا مؤامرة على الحقيقة بل العكس)

(2)

.

هل هناك أسوأ أو أخبث من هذا العبث؟ تمجيد للشر والرذيلة، وإعلاء لشأن الشرير الدنيء الذي يمارس الشر والدناءة والخبث، واعتراف صارخ بأنه

(1)

أسئلة الشعر: ص 197.

(2)

مجلة الناقد، العدد 18 كانون الأول 1989 م/ 1410 هـ: ص 6.

ص: 1762

فعلًا يمارس هذه الدنايا، وكفى بذلك سوءًا وشرًا، ولكن الحداثي يقلب المعايير فيعتبر هذه الشرور خيرات وفضائل!! بل مهما أوغل في العصيان والشر فإن الشاعر والمفكر الحداثي ثري الروح بالشر -حسب وصف أنسي الحاج- لا يصبح عدوًا للإنسان ولا عملًا ضد الحرية ولا مؤامرة على الحقيقة!! هكذا يقولون ويتصورون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

(1)

، وأي فساد أعظم من إفساد العقائد والأخلاق والنظم؟ وأي مؤامرة على الإنسانية أعظم من مؤامرة ثري الروح بالشر، مليء النفس بالخبث والتمرد، مترع الحياة بالتدمير والرفض والفوضوية؟.

أليست هذه هي الأشياء التي يفاخرون بها ويمدحون أنفسهم بالاتصاف بها؟ بل ويفاخرون بالكفر و‌

‌الشرك

والشيطنة.

• الشرك:

هو جعل شريك مع اللَّه تعالى في العبادة أو الخلق والتصريف أو جعل مثيل له في أسمائه وصفاته

(2)

.

يقول أحد المعجبين بأستاذ الحداثة يوسف الخال:

(رجيم في دنس العالم ورجسه الهائل، جذاب ومنفر،

بين ضراعة الطهارة، وشيطانية الرغاب. . .

الدخول إلى مجلة "شعر" كالعبور إلى ملكوت رحمي آسر، أو إلى

شرك كالح دابق، أرض ممرعة،. . .

كيف انشبقت؟ ولماذا لم تصرف عنا هذي الكأس، يا نصف إله محتضر

يا شيطانًا ما زال لنا)

(3)

.

(1)

الآيتان 11، 12 من سورة البقرة.

(2)

انظر: المفردات للراغب: ص 259، والتوفيق على مهمات التعاريف للمنادي: ص 428، والكليات للكفوي: ص 533، والقول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ ابن العثيمين 2/ 16.

(3)

مجلة الناقد، العدد 9 آذار 1989 م/ 1409 هـ: ص 48 والقول لزهير غانم.

ص: 1763

وتعقيبه بلفظ الشيطنة، بل وأوصافه للخال ومجلة شعر، تؤكد أن مراده "شرْك" من الإشراك وليس "الشرك" الذي يصطاد به، وكفى بذلك وصفًا، وكفى به خسرانًا مبينًا!!.

•‌

‌ الشريعة:

وهي الدين الذي شرعه اللَّه تعالى وأمر بلزومه واتباعه من العقائد والأحكام هذا على وجه العموم، ويراد بها إذا قرنت بالعقيدة الشرائع الحكمية على وجه الخصوص

(1)

.

وكما تصدى الحداثيون والعلمانيون لعقيدة الإسلام بالرفض والرد والاستهزاء، فقد تصدوا لشريعة الإسلام كذلك بالإعراض والإنكار والجحد والسخرية والاستخفاف.

بل العقيدة العلمانية تقوم كلها أصلًا على وجوب رفض الشريعة، وإنكار حق اللَّه تعالى في التشريع والحكم، وجعل الإنسان شريكًا مع اللَّه، بل دون اللَّه في التشريع، وهذا من أعظم الشرك وأبشعه وأخطره، ولهم في العبث بألفاظ الشريعة ومفاهيمها ومصطلحاتها الشيء الكثير، وكتبهم ومجلاتهم مليئة بذلك.

ومن هذا ما يذكرون في إعلامهم من مثل "الحكومة الشرعية" و"الأوضاع الشرعية" و"الدساتير الشرعية" و"العقد والقانون شريعة المتحاكمين" إلى غير ذلك من الإطلاقات المحتوية على التلبيس والدنيس والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، وتسويق الضلالات تحت العبارات الموحية بأحقيته، وتوزيع الباطل تحت مصطلحات تُلمح إلى مشروعيته، حتى إذا شاع وذاع وانتشر وتمكن، لم يكن عليهم من بأس أن يعلنوا حقيقتهم فقد استساغ الأغرار وضعاف العقول هذا الطعم، وجرى في أعراقهم وقلوبهم مجرى الدم، وقبلوا بالمضمون الكفري والإلحادي، وتشبعوا بالشبهات والشهوات فأصبح الانفكاك عنها عسيرًا والإقلاع عنها أشد عسرًا.

(1)

انظر تعريف الشريعة والأقوال في ذلك: الكليات للكفوي: ص 524، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي: ص 428، معجم لغة الفقهاء للقلعه جي: ص 262، القاموس الفقهي لسعدي أبو حبيب: ص 193.

ص: 1764

ومع ذلك كله لم تسلم "الشريعة" في لفظها ومعناها من عبثهم كقول نزار قباني:

(كوني إذن حبيبتي

واسكتي

ولا تناقشي في شرعية حبي لك

لأن حبي لك شريعة

أنا أكتبها

وأنا أنفذها)

(1)

.

•‌

‌ الشهيد:

درجة عالية يعطيها اللَّه تعالى من مات مؤمنًا مجاهدًا في سبيل اللَّه.

وهذا الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية عبث بها أهل العلمنة والحداثة أشد العبث، فجعلوا من مات منهم على كيفية معينة شهيدًا، ولو كان أكفر الكافرين وأشد الطغاة الملحدين، ولنأخذ أمثلة على ذلك من أقوالهم.

كتب أحد الماركسيين اللبنانيين في أحد كتبه عنوانًا هو: "حسين مروة

(2)

شهيدًا. . ولا يزال ساهرًا"

(3)

، وحسين مروة هذا من كبار منظري الإلحاد الماركسي، ومن أعمدة الحداثة العربية، قتل عام 1407 هـ - 1987 م فندبه الحداثيون ندبًا شديدًا وبكوه أشد ما يكون البكاء.

كتب أحد أتباع الحداثة المحليين: (أرض أولى بلا مروة. . . في إحدى البيوت يدخلون رصاصهم إلى رأس لا ذنب لها سوى أنها تنقش الحبر على قامة النهار، رأس شيخ كان للتو يتلو أناشيدة لمن بقي من العائلة، رأس كانت تنطق حمى هذا الزمن الواقف، هذا الزمن المتهلهل، هذا الزمن المؤامرة، من فوهات بنادقهم التي جعلوا صوتها مكتومًا لعارهم وذلهم، أطلقوا النار على

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 490.

(2)

سبق: ص 708.

(3)

شخصيات وأدوار لمحمد دكروب: ص 33.

ص: 1765

الرأس فتهاوى جسد الدكتور العالم حسين مروة هو ينزف آخر الحقيقة، وأخر شهادات هذا العبث، وهذا الخواء)

(1)

.

أليس وجود الماركسي في بلاد المسلمين دليل الخواء والتخلف؟ ثم أليس وصف هذا الشيوعي بالعالم الذي ينزف آخر الحقيقة من أوضح الأدلة على العمه الاعتقادي والتقليد الأعمى؟ ولم يبق على هذا الحداثي المحلي إلا أن يطلق وصف الشهادة على حسين مروة، وإن كانت عبارته تدل على شيء من هذا المعنى!!

ذلك أن أستاذ الحداثة، والأب العضوي للحزب الشيوعي اللبناني "حسين مروة" الشيعي الأصل، النجفي الدراسة الماركسي الانتماء أوصى أتباعه قائلًا:(إن موت الشهيد الشيوعي هو موت الموت)

(2)

!!.

والحداثي اللبناني مؤلف كتاب "شخصيات وأدوار" أداة من هذه الأدوات الناعقة بالمديح الفارغ والخطابية الجوفاء ومثله أتباع الحداثة المحليين.

ولم يقتصر مؤلف "شخصيات وأدوار" على وصف حسين مروة بالشهادة بل منحها لشيوعي فلسطيني قتل عام 1392 هـ، 1972 م، فتحت عنوان "غسان كنفاني

(3)

-الشهيد- الرمز" قال: (. . . أمَّا استشهاد الكاتب المناضل غسان كنفاني فقد جاء حلقة مأساوية كفاحية، تؤكد الصفة المأساوية

(1)

اليمامة عدد 950 في 10/ 8/ 1407 ص 126، والقول لسعد الدوسري. وانظر: العدد نفسه: ص 74، ومجلة اقرأ، العدد 614 في 4/ 8/ 1407 هـ: ص 34.

(2)

شخصيات وأدوار: ص 40.

(3)

غسان كنفاني، كاتب وروائي فلسطيني، شيوعي الملة، ولد في عكا عام 1354 هـ/ 1936 م، عمل في وكالة غوث اللاجئين ثم مدرسًا في الكويت، ثم في بيروت محررًا أديبًا في جريدة الحرية الأسبوعية، ثم تولى تحرير جريد المحرر ذات الاتجاه الناصري ثم أسس مجلة الهدف التي كانت تصدر عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وظل كذلك حتى قتل سنة 1391 هـ/ 1972 م، له مجموعة من المؤلفات الحداثية، قصص وروايات أطفال ويعتبره الحداثيون من كبار مبدعيهم، وخاصة بعد أن تحول من القومية إلى الفكر التحرري التقدمي!! الماركسي. انظر: شخصيات وأدوار للماركسي اللبناني محمد دكروب: ص 273 - 274.

ص: 1766

الكفاحية لأدبه نفسه. . .)

(1)

.

ويكتب الماركسي العراقي عبد الوهاب البياتي مقطوعة بعنوان "الشهداء لن يموتوا"

(2)

ويقصد بهم قتلى الملة الشيوعية الإلحادية.

وتحت عنوان "رسالة في زجاجة إلى جمال عبد الناصر" يقول الماركسي الفلسطيني معين بسيسو:

(سقط شهيدًا

كي يستبدل أحد الفقراء

رغيفًا بجريده

كي نكتب نحن الشعراء التعساء

قصيدة)

(3)

.

أمَّا الماركسي الفلسطيني الآخر محمود درويش فإنه يضفي هذا الوصف بطريقة أخرى، وعلى فئة أخرى هي فئة العشاق، فبعد أن ذكر معشوقته وسرد تعبيرات جنسية قال عن نفسه:

(لي زمن تؤرخه بذور الجنس والعشب الذي يمتد

خلف الشيء والنسيان

أحضر

كنت شاهده وشاهدها

وصرت شهيده وشهيدها

أتي من الشهداء

إلى الشهداء

أنا المتكلم الغائب

(1)

شخصيات وأدوار: ص 227. وانظر: ص 274.

(2)

ديوان البياتي 2/ 122.

(3)

الأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 593.

ص: 1767

أنا الحاضر

أنا الآتي)

(1)

.

فتأمل زمنه المرتبط بالجنس، بل ببذور الجنس كما يقول، وكفى بذلك حيوانية وحياة رخيصة!!، ومع ذلك يصف نفسه بأنه شهيد الحب أو الجنس، لا فرق بين ذلك عند أهل الحداثة!!.

وفي مقطوعة أخرى يصف حبه لمعشوقته "ريتا" فيقول:

(وتسأل للمرة الألف عن حبنا

وأجيب

بأني شهيد اليدين اللتين

تعدان لي قهوتي في الصباح)

(2)

.

أمَّا نزار فإن قاموس شهوانيته لا يتردد في وصف الأعضاء الجنسية بوصف الشهادة عابثًا بهذا المصطلح الكريم، يقول:

(كم مات تحت سياطكم نهد شهيد)

(3)

.

ويصف العاشق الميت على دين المحبوب -أيًا كان دينه- بأنه شهيد، وذلك على لسان العرافة الكاهنة "قارئة الفنجان":

(يا ولدي قد مات شهيدًا

من مات على دين المحبوب)

(4)

.

•‌

‌ الصبر:

صفة للنفس المطمئنة تقتضي ملازمة طاعة اللَّه والبعد عن معاصي اللَّه

(1)

ديوان محمود درويش: ص 561 - 562.

(2)

المصدر السابق: ص 643.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 345.

(4)

المصدر السابق 1/ 648.

ص: 1768

وتحمل مرارة البلاء

(1)

، وقد أمر اللَّه تعالى بالصبر ووعد أصحابه بالأجر الجزيل.

أمَّا نزار قباني فإنه بعد ذلك من موبقات الأخلاق والأعمال ويربط قضية الصبر بقضية الإيمان باللَّه تعالى، فيقول:

(ولم نزل نبحث في الظلام عن قبورنا

ولم نزل كالأمس أغبياء

نردد الخرافة البلهاء

"الصبر مفتاح الفرج"

ولم نزل نظن أن اللَّه في السماء

يعيدنا لدورنا. . .

ولم تزل نمضغ ساذجين

حكمتنا المفضلة:

"الصبر مفتاح الفرج"

إن الرصاص وحده

لا الصبر مفتاح الفرج)

(2)

.

•‌

‌ الصراط المستقيم:

هو دين الإسلام القويم، وقد مرّ معنا كلام أركون عند الكلام عن مصطلح أهل السنة - والذي سخر فيه بهذا الوصف وبوصف الخط المستقيم والصحيح

(3)

.

(1)

انظر: التوقيف على مهمات التعاريف: ص 447، والتعريفات: ص 131.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 145 - 146.

(3)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 350.

ص: 1769

أمَّا أدونيس فيعتبر الصراط والتبرك والوعيد والكرامات والحدود الشرعية علائم تخلف وجمود، وسبب انشطار وضعف، وذلك في قوله:

(رجل يتبرك بخف الوالي، رجل يسقط شقين مقطوعًا

بالصراط، رجل يمشي بساقين خيطين، رجل مهروس

بالنذير. . . رجل ميت يجلد ثمانين جلدة. . .)

(1)

.

ويعبث بلفظ الصراط الأخروي في قوله:

(هكذا أسأل:

أنت صراطي كيف أقطعك)

(2)

.

•‌

‌ الصلاة: الركن الثاني من أركان الإسلام

.

تناول الحداثيون لفظ الصلاة تناولًا تدنيسيًا مقصودًا، وسعوا في العبث بهذه الشعيرة والتلاعب بمفاهيمها في إطار خطتهم القائمة على تهديم قضايا الدين ومصطلحاته وشعائره، وكلامهم العابث بهذه الشعيرة العظيمة -مما جمعته من أقوالهم- كثير، سأكتفي بذكر بعضه والإحالة على الآخر خشية التطويل.

يقول أدونيس:

(كل برهة

يغسل المجهول وجهه

بصلاتي

بينابيع حياتي)

(3)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 229، والتبرك بخف الوالي أو غيره ممنوع شرعًا ولكنه ساق هذا مع غيره جهلًا أو هوى إمعانًا في التلبيس والتدنيس.

(2)

المصدر السابق 2/ 651.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 97.

ص: 1770

ويقول:

(أين ذنبي

حينما أوقظ للثورة قلبي

وأصل لدواليه لريفه)

(1)

.

ويقول:

(فينيق يا رماد يا صلاة)

(2)

.

ويعتبر الصلاة غبارًا وغرقًا وموتًا فيقول:

(في غبار الصلوات

غرق الفجر ومات)

(3)

.

(يا حضورنا، لأيامنا الميتة وحفر صغيرة كأجسامنا

مسقوفة بالصلاة والرمل)

(4)

.

ويصلي لوثنه الإغريقي فينيق ويدعوه دعاء العابد المتضرع:

(صليت يا فينيق

أن يهدأ السحر، وأن يكون

موعدنا في النار في الرماد

صليت أن يقودنا الجنون)

(5)

.

ويصلي لغباره وتيهه وضلاله:

(1)

المصدر السابق 1/ 150.

(2)

المصدر السابق 1/ 166.

(3)

المصدر السابق 1/ 207.

(4)

المصدر السابق 1/ 238.

(5)

المصدر السابق 1/ 335.

ص: 1771

(تائه الوجه أصلي لغباري

وأغني روحي المغتر به)

(1)

.

ويقول:

(وأصلي صلاة الذئاب الجريحة)

(2)

.

ويقول:

(للوجوه التي تتيبس تحت قناع الكآبة

انحني لدروب نسيت عليها دموعي

لأب مات أخضرًا كالسحابة

وعلى وجهه شراع

أنحني، ولطفل يباع

كي يصلي وكي يمسح الأحذية

"كلنا في بلادي نصلي كلنا نمسح الأحذية")

(3)

.

ويقول:

(أريد أن أصلي

للكوكب المشدوه في السماء)

(4)

.

ويقول:

(- من أنت؟

- رمح تائه

(1)

المصدر السابق 1/ 342.

(2)

المصدر السابق 1/ 349.

(3)

المصدر السابق 1/ 372.

(4)

المصدر السابق 1/ 413.

ص: 1772

رب يعيش بلا صلاة)

(1)

.

ويقول:

(والخيام حناجر مشدودة والحبال صلاة)

(2)

.

ويقول:

(هذه بلادي

فخذان من صلاة

مسافة من شرر وتيه)

(3)

.

ويقول عن تاريخ المسلمين:

(ت: تاريخ مسقوف بالجثث وبخار الصلاة)

(4)

.

ويقول:

(صارت كفاي زنابق، صارت عيناي صلاة)

(5)

.

وأقواله من هذا النوع كثيرة معادة مكررة

(6)

.

ويقول السياب متحدثًا عن اللَّه تعالى:

(وأصوات المصلين ارتعاش من مراثيه

إذا سجدوا ينز دم)

(7)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 417.

(2)

المصدر السابق 1/ 474.

(3)

المصدر السابق 2/ 142 - 143.

(4)

المصدر السابق 2/ 260.

(5)

المصدر السابق 2/ 362.

(6)

انظر: المصدر السابق 1/ 102، 198، 208، 239، 349، 390، 413، 572 و 2/ 78، 147، 214.

(7)

ديوان السياب: ص 398.

ص: 1773

وتقول نازك:

(نحن رتلنا ونادينا وقدمنا النذور بلح من بابل السكرى وخبز وخمور

وورود فرحه

ثم صلينا لعينيك وقربنا ضحيه وجمعنا قطرات الأدمع الحرى السخيه

وصنعنا مسبحه)

(1)

.

وتقول:

(عمرنا نحن نذرناه صلاة فلمن سوف نصليها لغير الكلمات؟)

(2)

ويقول البياتي:

(الحب والأمل الوريف عبدته وهمًا هناك

وصلاتك العذراء - يا قلبي تضاعف من أساك)

(3)

.

ويقول مخاطبًا الأرض:

(ما كان يا أم الجميع، ستهرمين! ولا يكون

كانت قوافلنا بلا نجم، وقد كنا نعيد

صلواتنا الخرساء للصبح البعيد

كنا نعيد

صلواتنا يا أم للصبح الجديد)

(4)

.

ويتباهى بشيوعيته الجاهلية قائلًا:

(أحمل كل ليلة من جبل "القفقاس" هذي النار

(1)

ديوان نازك الملائكة 2/ 463.

(2)

المصدر السابق 2/ 491. وانظر: 2/ 534.

(3)

ديوان البياتي 1/ 41.

(4)

المصدر السابق 1/ 144.

ص: 1774

أصرخ بالبوقات

ومدعي الثورات

في الوطن الغارق في البؤس من المحيط للخليج

والنوم والصلاة

أسعد حالًا هذه الدواب

وهذه الطبيعة الصامتة الخرساء

من فقراء المدن المرضى ومن حثالة الأموات في الأرياف)

(1)

.

ويقول:

(فأنا لوح من الطين وخيط من دخان

كتبوا فيه الرقى والصلوات)

(2)

.

ويقول:

(أكلت برتقالة الشمس وفي دمي توضأت وصليت إلى الصحراء)

(3)

.

ويقول:

(وكان على الأسوار حبي يقاتل

فصلت للنيران في عرصاتها)

(4)

.

وله أقوال أخرى من هذا القبيل

(5)

.

ويقول صلاح عبد الصبور على لسان الحلاج:

(1)

المصدر السابق 2/ 130.

(2)

المصدر السابق 2/ 199.

(3)

المصدر السابق 2/ 254.

(4)

المصدر السابق 2/ 311.

(5)

انظر: المصدر السابق 1/ 115، 2/ 257، 431.

ص: 1775

(سألت الشيوخ، فقيل

تقرب إلى اللَّه، صل ليرفع عنك الضلال، صل، لتسعد

وكنت نسيت الصلاة، فصليت للَّه رب المنون

ورب الحياة، ورب القدر

وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي، ويئز كريح الفلا

وأنا ساجد راكع أتعبد

فأدركت اني أعبد خوفي، لا اللَّه.

كنت به مشركًا لا موحد

وكان إلهي خوفي

وصليت أطمع في جنته

ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب

وأسمع وسوسة الحلي، همس حرير الثياب

وأحسست أني أبيع صلاتي إلى اللَّه.

فلو اتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن

وكنت به مشركًا لا موحد

وكان إلهي الطمع. . .)

(1)

.

فهو يأخذ المبدأ الضال الذي يقوله بعض المتصوفة "ما عبدتك رغبة في جنتك ولا خوفًا من نارك" ثم يتذرع به إلى ترك العبادة، كما تذرع فلاسفة المتصوفة من أصحاب الاتحاد ووحدة الوجود، يترك التكاليف، وهنا يلتقي العبث الصوفي مع العبث الحداثي في درب يوصل سالكه إلى سقر وبئس المقر!!.

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 578 - 579. وانظر له من هذا النوع: ص 367 - 368، 502.

ص: 1776

ويقول يوسف الخال:

(وقدمي دم وقبلة

وقدمي صلاة)

(1)

.

ويقول:

(على حبال الليل والنهار

لنا الصلاة أو ركوب موجة تحملنا)

(2)

.

ويقول توفيق صايغ:

(وأصابعها تعبث بشعري

وفمها يقرن الغناء بالصلاة)

(3)

.

ويقول:

(وترطن الصلاة

المهمهمة بلغة غريبة

لإلهة مجهولة)

(4)

.

ويقول أنسي الحاج:

(الصلاة تسقي اللَّه كما يسقي الحب المرأة)

(5)

.

سبحان اللَّه الغني الحميد

ويقول أمل دنقل:

(1)

الأعمال الشعرية ليوسف الخال: ص 212.

(2)

المصدر السابق: ص 359. وانظر له: ص 277.

(3)

المجموعات الشعرية: ص 50.

(4)

المصدر السابق: ص 239. وانظر: ص 368.

(5)

خواتم: ص 65. وانظر: ص 66، 67.

ص: 1777

(وعيناك: فيروزتان تضيئان

في خاتم اللَّه كالأعين

تمدان لي في المغيب الجناح

مدى خلف المدى الممعن

سألتهما في صلاة الغروب)

(1)

.

ويقول نزار قباني:

(أفترش شعر حبيبتي كما يفترش المؤمن سجادة صلاة)

(2)

.

ويقول:

(في بلادي

حيت يحيا الناس من دون عيون

حيث يبكي الساذجون

ويصلون ويزنون

ويحيون اتكال)

(3)

.

ويقول:

(صليتُ في معابد ليس لها إله

وأرخص الخمور ذقت. . أرخص الشفاه)

(4)

.

ويقول لعشيقته:

(شكرًا من الأعماق

(1)

الأعمال الشعرية لأمل دنقل: ص 89.

(2)

أسئلة الشعر: ص 196.

(3)

الأعمال الشعرية الكاملة لنزار 1/ 366 و 3/ 21.

(4)

المصدر السابق 1/ 410.

ص: 1778

يا من جئت من كتب العبادة والصلاة)

(1)

.

ويقول لأخرى:

(أشهد أن لا امرأة

تمكنت أن ترفع الحب إلى مرتبة الصلاة

إلا أنت)

(2)

.

ويقول في كفر قاحل وإلحاد أصلع:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمة

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة)

(3)

.

ويقول عن جمال عبد الناصر أنه:

(موجود في أوراق المصحف

في صلوات مصلينا)

(4)

.

وأقواله العابثة بهذه الشعيرة كثيرة

(5)

.

ويقول محمود درويش:

(هكذا الشاعر، موسيقى، وترتيل صلاة

ونسيم إن همس

(1)

المصدر السابق 2/ 25.

(2)

المصدر السابق 2/ 752.

(3)

المصدر السابق 3/ 342.

(4)

المصدر السابق 3/ 372.

(5)

انظر مثلًا: المصدر السابق 1/ 528، 2/ 177، 185، 297، 601، 3/ 130 - 136، 172.

ص: 1779

يأخذ الحسناء في لين إله)

(1)

.

ويقول:

(على يديك تصلي طفولة المستقبل)

(2)

ويقول في رثاء أو امتداح أحد رفاقه:

(منذ عشرين سنهْ

وأنا أعرفه في الأربعين

وطويلًا كنشيد ساحلي وحزين

كان يأتينا كسيف هو من نبيذ، كان يمضي كنهايات

صلاة)

(3)

.

ويقول:

(والقمم اللولبية تبسطها الخيل سجادة للصلاة السريعة)

(4)

.

ويقول عن معشوقته:

(نظرت إلى عسل يختفي خلف جفنين

صليت من أجل ساقين معجزتين)

(5)

.

أمَّا سميح القاسم فيجعل الظلامية آتية من الركوع والصلاة والطهارة، حيث يقول:

(1)

ديوان محمود درويش: ص 69.

(2)

المصدر السابق: ص 185.

(3)

المصدر السابق: ص 585.

(4)

المصدر السابق: ص 622.

(5)

المصدر السابق: ص 640. وانظر أقواله الأخرى من هذا القبيل في الصفحات: 99، 115، 228، 343، 345، 474، 482، 510، وفي ديوانه ورد أقل: ص 53.

ص: 1780

(ووحدي كنت، في القمة وحدي

راكعًا. . . أبكي، أصلي، أتطهر

جبهتي قطعة شمع فوق زندي

وفمي ناي مكسر)

(1)

.

ويقول:

(اتركوني أصلي قليلًا

لآباء لحمي

لآباء وجهي وصوتي. . .

لآباء كينونتي الباقية

واتركوني أصلي قليلًا

لزيتونة واعية

واتركوني أصلي قليلًا

على قدمي دالية)

(2)

.

ويتحدث توفيق زياد عن طموحات الطبقة العاملة وتاريخها المتمثل في معاداة الدين المتجسد في:

(الأديرة المملؤة صلبانًا

وفضائح

والرجس المتجسد في الصلوات)

(3)

.

(1)

ديوان سميح القاسم: ص 405 - 406.

(2)

المصدر السابق: ص 416. وانظر: ص 529. وانظر: ديوان "لا أستأذن أحدًا": ص 115، 139.

(3)

ديوان توفيق زياد: ص 587. وانظر: ص 177 - 178.

ص: 1781

ويقسم المقالح أن يموت في درب أحد العسكر الذين قتلوا في إحدى الثورات اليمنية:

(. . . أقسمت أن أموت

في دربك المبدأ والصلاة)

(1)

.

بل جعله إلهًا:

(فلتخرس الأقلام والشفاه

فها هنا ينتصب الإله)

(2)

.

ويقول عن القاهرة:

(هي خمرنا وصلاة غربتنا وسهادنا والدمع والحزن)

(3)

.

ويقول الفيتوري مادحًا طلائع الحداثة

(4)

تحت عنوان "إيقاعات على طبل شرقي":

(عربي الدم والراية

كفاك على الجرح

وعيناك دموع وصلاة!)

(5)

.

ولممدوح عدوان مقطوعة بعنوان "صلوات داجنة"

(6)

وأقوال أخرى من هذا الجنس

(7)

.

ولأحمد دحبور توسع في العبث بلفظ الصلاة، ومن ذلك قوله:

(1)

و

(2)

ديوان المقالح: ص 124.

(3)

المصدر السابق: ص 518. وانظر: ص 564.

(4)

هو الشاعر أمين نخلة.

(5)

ديوان الفيتوري 2/ 469. وانظر: 1/ 168 و 2/ 474.

(6)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان 2/ لا بد من التفاصيل: ص 70.

(7)

انظر: المصدر السابق 1/ 19 - 20.

ص: 1782

(في دمي نهر من الغيب الحزين

يفتح الباب على الموتى، يصلي لليقين:

لك يا مرج الرياح البكر، تنسل صلاتي

من خفايا غاية الغول، أريج الخوف، تنسل صلاتي)

(1)

.

ويقول:

(كرمة أنت. . ألف جوع يصلي)

(2)

.

ويقول:

(وأصحو. . ألمح الشفق المندّى

صلاة فوق جرح الأمس تطفو)

(3)

.

ويتحدث عن صلاة أمه قائلًا:

(وأمي بصلاة حسبتها رابحهْ)

(4)

.

ويتهكم بالصلاة وأهلها قائلًا:

(كلهم يثقبون المراكب

(5)

ها هم: من التل حتى الصلاة

يمر عليهم وزير الهبات، فيثني على بارئ الكائنات بما

هو أهل، ويلقى على رأسها حجر

ثم يذبح من أهلنا نفرًا

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 86.

(2)

المصدر السابق: ص 96.

(3)

المصدر السابق: ص 110.

(4)

المصدر السابق: ص 398.

(5)

وهذه إشارة رمزية إلى الخضر عليه السلام، تدل عنده على أن أهل الدين يفسدون!!.

ص: 1783

رحمة، لعنةً، لعنة، رحمة

أسأل اللَّه ألا يسمم بالعفو حزني)

(1)

.

وعبثهم الماكر بلفظ الصلاة مما لا يُمكن حصره، ذلك أنهم في غيابة جب المادية، وعماية فوضوية الحداثية وهدمها وتخريبها لم يتركوا قضية من قضايا دين الإسلام إلّا واستهدفوه بأعمالهم الجاهلية وألفاظهم القبيحة، وكلما كانت القضية ذات منزلة عظيمة في الإسلام شحذوا أسنة حقدهم ضدها، ومن الملاحظ بجلاء أنهم في قضايا الاعتقاد ركزوا على الركن الأول وهو الإيمان باللَّه؛ لأنه الأساس لكل عقيدة وعمل في الإسلام، وفي قضايا العمل ركزوا على الصلاة والحكم بما أنزل اللَّه؛ لأنها من أظهر علائم التعبد والاستسلام للَّه تعالى.

ذلك هو الأدب الذي أُدبوه، والعلم الذي لقنوه، والمنهج الذي قلدوه، ليسيروا في ظل أشد ألوان العدوا؛ ضد الإسلام، وتحت أحقر الرايات، رايات اليهود المهتمين بتخريب الإنسان واستحماره.

•‌

‌ الصوم: الركن الرابع من أركان الإسلام

.

وقد مرّ معنا كلام سميح القاسم حين جعل الزكاة والصلاة والصوم من علائم التخلف

(2)

، وتقرير صلاح عبد الصبور لعقيدة إسقاط التكاليف التي قال بها الحلاج وسائر ملاحدة التصوف، حيث قال على لسان الحلاج:

(فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم؟

ليستقبل وجه اللَّه، يستجلي جمالاته

نصلي نقرأ القرآن

نقصد بيته، ونصوم في رمضان

(1)

المصدر السابق: ص 519 - 520. وانظر أقوال المشابهة في الصفحات من ديوانه: ص 78، 103، 108، 167، 516.

(2)

انظر: لا أستأذن أحدًا: ص 115.

ص: 1784

نعم، لكن هذي أول الخطوات نحو اللَّه.

خطى تصنعها الأبدان

وربي قصده للقلب

ولا يرضى بغير الحب

تأمل: إن عشقت ألست تبغي أن تكون شيبه محبوبك؟

فهذا حبنا للَّه

أليس اللَّه نور الكون

فكن نورًا كمثل اللَّه.

ليستجلي على مرآتنا حسنه)

(1)

.

فإقراره في أول النص بالفرائض والأعمال الشرعية ليس على الوجه الشرعي بل على طريقة المسخ الصوفي إذ جعلها بعد ذلك مجرد خطى تصنعها الأبدان، ثم إذا وصل حالة الحب والعشق سقطت التكاليف وزال وجوب الأوامر الشرعية.

•‌

‌ الضلال:

وهو العدول عن الطريق المستقيم يسيرًا كان العدول أو كثيرًا، وهو ضد الهداية والاستقامة والصلاح

(2)

.

وقد وصف الحداثيون أنفسهم -طوعًا واختيارًا- بالضلال بل وتفاخروا به، مؤكدين من خلال ذلك حقيقة أمرهم من جهة، ومستخفين بوصف الضلال من جهة أخرى، وهذا غاية مرادهم، لا سيما أنهم في ضلالهم عن صراط اللَّه المستقيم، تعمدوا بكل الوسائل أن يكون في مضادة صريحة وجريئة مع دين الإسلام الذين يزن به المؤمنون، ويحكمون من خلاله على الأعمال والأشخاص بالهدى أو بالضلال، وما داموا في معركة صريحة ومفتوحة مع الدين القويم، فإنهم يحاولون اختصار المسافات لأتباعهم

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 502.

(2)

انظر: مفردات الراغب: ص 297.

ص: 1785

ليردوهم وليلبسوا عليهم فكرهم ومفاهيم عقيدتهم، فينفروهم من الحق والهدى والخير؛ لأنها -بزعمهم- عوائق التحرر والإبداع، ويزينوا لهم الباطل والردى والشر؛ لأنها عندهم أرقى طرائق الإبداع، وأرفع أساليب التقدم!!.

يقول أدونيس واصفًا نفسه وحداثته:

(ضال ضال لن أعود، السقوط حالتي وشرطي، الجنة

نقيضي)

(1)

.

ويقول موضحًا بعض لوازم ضلاله:

(الضياع الضياع

الضياع يخلصنا ويقود خطانا

والضياع، ألق وسواه قناع

والضياع يوحدنا بسوانا

والضياع يعلق وجه البحار

برؤانا

والضياع انتظار)

(2)

.

ويقول:

(ها أنا أتقدم نحو القرار السحيق)

(3)

.

وقال اللَّه تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}

(4)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 383.

(2)

المصدر السابق 1/ 395.

(3)

المصدر السابق 1/ 400.

(4)

الآية 31 من سورة الحج.

ص: 1786

أمَّا نزار قباني فيقدم شكره وامتداحه للضلال قائلًا:

(شكرًا

لأيام التسكع تحت أقواس الغمام، وماء تشرين الحزين

ولكل ساعات الضلال، ركل ساعات اليقين)

(1)

.

أمَّا محمود درويش فإنه يجعل الماركسي منقذًا من الضلال في تلاعب واضح بهذا المفهوم، يقول في وصف أحد الماركسيين، وربما في وصف نفسه:

(يهذي خارج الذكرى: أنا الحامل عبء الأرض

والمنقذ من هذا الضلال. . .)

(2)

.

ويشرح أحد النقاد -في احتفالية حداثية معهودة- مرامي رواية ليلة القدر لابن جلون، ويثني على قول "زهرة" الشخصية الرئيسية في الرواية حين قالت:

(أنا ضلال لا يأسره دين)

(3)

.

وهذا القول الذي يشير إليه هذا الناقد ويمتدحه هو في رواية ليلة القدر كما يلي:

(- إنني في قطيعة مع العالم، أو على الأقل مع ماضيّ الشخصي، لقد اقتلعت كل شيء، إنني مقتلعة عن طواعية، وأحاول أن أكون سعيدة، أي أن أعيش حسب إمكانياتي، بجسدي الخاص، لقد اقتلعت الجذور والأقنعة أنا تيه لا تمسكه ديانة، أسير لا مبالية وأعبر الأساطير)

(4)

.

ولن أجد أصرح وأوضح من كلام أدونيس الذي يصف به شعراء

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 26.

(2)

ديوان محمود درويش: ص 594.

(3)

انظر: هذا الثناء من عبده وزان في مجلة الناقد، العدد الثامن من شباط 1989 م/ 1409 هـ: ص 66 تحت عنوان الانتقام من الماضي.

(4)

ليلة القدر: ص 63.

ص: 1787

الحداثة، وبقول ينطبق على الحداثيين من الشعراء والقصاص والنقاد والمفكرين، يقول أدونيس:

(والحق أن شعراء التجربة في العالم العربي "ضالون" "ساقطون" لأنهم مغايرون وأفذاذ)

(1)

.

فعلى الرغم من استخفافه بمضمون الضلال والسقوط إلّا أن هذا القول يعد شهادة واضحة من أستاذ خبير بالحداثة وداعية كبير من دعاة الحداثة، وهو بهذا يصف نفسه وتلامذته وسائر القطيع الحداثي، والحق ما شهد به العدو على نفسه!!.

•‌

‌ الطواف:

شعيرة من شعائر العبادة في الحج والعمرة، حيث أوجب اللَّه تعالى على مريد البيت بحج أو عمرة أن يطوف بالبيت العتيق سبعة أشواط بنية

(2)

.

وقد مرَّ قولهم في هذه الشعيرة عند الكلام عن السعي

(3)

، ومن أبشع الأقوال وأخبثها نقل أدونيس لكلام الزنديق ابن الراوندي الذي (يرى أن الشريعة الإسلامية تتناقض مع العقل، يقول مثلًا: "إن الرسول، أتى بما كان منافرًا للعقول مثل الصلاة وغسل الجنابة ورمي الحجارة، والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، والعدو بين حجرين لا ينفعان ولا يضران، وهذا كله مما لا يقتضيه عقل. . .، وما الطواف على البيت إلّا كالطواف على غيره من البيوت)

(4)

.

وليس هنا مجال نقض كلام ابن الراوندي وذيله المعاصر؛ لأن هذه القضية مبنية أصلًا على جحدهما وجود اللَّه تعالى وألوهيته وجحد النبوة

(1)

زمن الشعر: ص 150.

(2)

انظر: معجم لغة الفقهاء: ص 293.

(3)

انظر: مجلة الناقد، العدد التاسع آذار 1989 م/ 1409 هـ: ص 9، والإسلام والحداثة: ص 151.

(4)

نقل أدونيس لكلام ابن الراوندي الملحد مؤيدًا له في الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول: ص 74.

ص: 1788

ولوازمها

(1)

، وهذه مبارك أهل الشرك والكفر والإلحاد في قديم الزمان وحديثه، وهي مجال المجادلة والرد والنقض.

•‌

‌ العبادات:

ذكرتُ جملة من العبادات التي عبثوا بمفاهيمها ومعانيها، وهنا أذكر ما يتعلق بمصطلح العبادة، الذي حاولوا اللعب بمضمونه والتدنيس لمعناه، من أجل إسقاط المفهوم المحترم والمحتوى المقدس عند المسلمين، يقول البياتي:

(الحب والأمل الوريف عبدته وهمًا هناك

وصلاتك العذراء -يا قلبي- تضاعف من أساك)

(2)

.

ويقول محمود درويش:

(تنام، فتحلم اليقظة في عيني مع السهر

فدائيُّ الربيع أنا، وعبد نعاس عينيها

وصوفي الحسى والرمل والحجر

سأعبدهم، لتلعب كالملاك، وظل رجليها

على الدنيا، صلاة الأرض للمطر)

(3)

.

ويقول:

(عيناك يا معبودتي هجرة. . .

عيناك يا معبودتي منفى. . .

معبودتي! ماذا يقول الصدى

(1)

انظر: المصدر السابق 2/ 75 - 76.

(2)

ديوان البياتي 1/ 41.

(3)

ديوان محمود درويش: ص 101.

ص: 1789

ماذا تقول الريح للوادي؟

. . . عيناك يا معبودتي عودة

من موتنا الضائع تحت الحصار. . .

ونحن يا معبودتي

أي دور

نأخذه في فرحة المهرجان)

(1)

.

ويقول ممدوح عدوان، عن الحياة التي يحرص عليها ويؤلهها:

(الحياة انسكبت فيضًا

وصارت مومسًا

كنا نؤاتيها بلا طعم

ونحياها كعادة

وعرفنا وجهها جوعًا وإدمانًا

ذللنا فيه صناه

ركعنا في محياه عبادة)

(2)

.

•‌

‌ عقد النكاح:

مرّ عند مصطلح الدعاء كلام محمد شكري الذي حكاه عن نفسه حيث عقد بين رجل وامرأة عقد نكاح إباحي، سخر فيه من عقد النكاح ومن طريقته عند المسلمين، ومارس باعترافه دور القواد والمحلل والماجن العابث بالدين والأعراض

(3)

.

(1)

المصدر السابق: ص 320 - 324.

(2)

الأعمال الشعرية لممدوح عدوان جـ 2 يألفونك فانفر: ص 81 - 82. وانظر له أيضًا في المصدر السابق 2/ 76، 1/ 39.

(3)

انظر: رواية الشطار: ص 64 - 65.

ص: 1790

•‌

‌ العقيدة:

يعتبر أركون أن المعجم الاعتقادي عند المسلمين عقدة في طريق انتشار الحداثة، وذلك حين كتب:(الحداثة ومشكلة المعجم الاعتقادي القديم)

(1)

ونبه الأتباع والمقلدين ودعاة الحداثة بأنه (ينبغي أن نسير في موضوع الحداثة بتؤدة وبطء، فالأرض مزروعة بالألغام، ولكنك تستخدم كلمات كثيفة جدًا ومثقلة بالدلالات التاريخية دون أن تحاول تفكيكها أو تحليلها. . . كل هذه التعابير المصطلحية الأساسية التي ورثناها عن الماضي "كمفردات الإيمان والعقيدة بشكل خاص" لم نعد التفكير فيها حتى الآن، ونحن نستخدمها كأنها مسلمات وبدهيات ونشربها كما نشرب الماء العذب. . . عندما يستخدم المرء بشكل عفوي هذا المعجم الإيماني اللاهوتي القديم لا يعي مدى ثقله وكثافته وشحنته التاريخية وأبعاده المخيفة، وكل الأخطار المرافقة لاستخدامه)

(2)

.

الأصلاء أتباع الحق والهدى يُنتقدون عند هذا وأضرابه لاستخدامهم المصطلحات النقية، ذات المضامين الصادقة والمدلولات الخيرة، أما هم فلم ينتقدوا أنفسهم لاستخدامهم بل لانغماسهم في المصطلحات الضالة ذات المضامين الباطلة والمدلولات الشريرة، والتي من شأنها أن تهبط بالإنسان وتبتعد به عن مراقي السمو والفلاح، ليصبح مجرد شيء من الأشياء، أو حيوان من بهيمة الأنعام، هم لا يصدقون ذلك لأنهم أشربوا في قلوبهم عجل المادية، فإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض ولا تهبطوا بإنسانية الإنسان قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

ومن عبثهم بمصطلح العقيدة والإيمان، ما كتبه نصراني اشتراكي في افتتاحية العدد الأول من مجلة الأديب، حيث اعتبرها (منبرًا للرأي السياسي المنبثق من العقيدة الصادقة والإيمان الخالص)

(3)

.

(1)

الإسلام والحداثة: ص 327.

(2)

المصدر السابق: ص 327 - 328.

(3)

شخصيات وأدوار: ص 43 والقول لأبير أديب.

ص: 1791

وإطلاقه للفظ العقيدة الصادقة والإيمان الخالص هنا لا يقال بأنه في مدلوله اللغوي أو في إطلاقه العام، لأن هذين اللفظين أصبحا بالاستعمال الشرعي والتداول العربي الإسلامي يدلان على العقيدة الإسلامية، والإيمان باللَّه ورسوله ودينه، فاستعمالهما في العقيدة الشيوعية الإلحادية تشويه وعبث وتدنيس رخيص.

والعقيدة والإيمان التي يتحدث عنها هذا التقدمي!! تتمثل في الماركسية التي يقول بأنه قد اكتشف على عتبتها عالم سحري، وفي أصحابها الذين (يمارسون حياة كفاحية مغلفة بهالة من الغرابة والمخاطرة والأسرار، واكتشفت وجود شيء فكري يطلق عليه اسم النظرية الماركسية، وبلد شاسع اسمه الاتحاد السوفيتي يحاط نظامه الاشتراكي بالغريب العجيب والمدهش. . . واكتشفت وجود نوع مترجم من الأدب الروائي الكفاحي استهواني جدًا، يطلقون عليه أدب الواقعية الاشتراكية وكان مكسيم غوركي في روايته "الأم" تحديدًا هو أول من دفع بي إلى اكتشاف هذه الاكتشافات كلها ووضعني على عتبة ذلك العالم السحري)

(1)

.

•‌

‌ علماء الإسلام وشخصياته:

في الوقت الذي تسابق أهل الحداثة والعلمنة في إطراء فلاسفة وكتاب ومفكري وأدباء وسياسي الغرب، وامتدحوهم واحتفلوا بهم، وتسابقوا في الثناء عليهم وتعداد مآثرهم وتفصيل أحوالهم، في الوقت ذاته توجهوا إلى علماء الإسلام ودعاته ومفكريه وأدبائه وقادته وخلفائه وسلاطينه بالذم والشتم والقدح والاستخفاف.

وهذه القضية نتيجة حتمية للانتماء الاعتقادي والهوية الفكرية!! ولازم من لوازم التغرب العقلي والاستلاب الروحي الذي يعيشه الحداثيون بكافة مذاهبهم وأصنافهم.

بل إن بعضهم -من باب إثبات الوجود والقدرة الثقافية والتواصل الثقافي- يورد من أسماء الغربيين وأسماء كتبهم ومصطلحات مذاهبهم، ما يؤكد أن الكاتب أو المتحدث ليس سوى معمل ترجمة وجسر توصيل، وأداة تسويق.

(1)

المصدر السابق: ص 51 - 52. وانظر: ص 59 - 60.

ص: 1792

فإذا أضيف إلى ذلك أن هذا الرأس المستعار والقلم المستأجر والفم الممتلئ بمياه مستنقع الظلمات المادي، أضحى مستعمرة فكرية ومستوطنة اعتقادية، يضج بما تضج به كل المستعمرات والمستوطنات من تخلف وقذارة وتبعية وهوان.

إن من أبرز الغارات التخريبية التي تشنها الحداثة والعلمانية على دين المسلمين وتراثهم وتاريخهم تلك المحاولات البائسة التي تتوجه إلى رموز هذا الدين توجه الحاقد الذي يستهدف الطعن والتشويه متخذًا أسلوب تزوير الحقالْق مسلكًا وطريقة طمس المعالم منهجًا، في جهد متواصل لخداع الأمة والتلبيس عليها وزعزعة ثقتها بتاريخها وأمجادها ورجالاتها وحضارتها.

وليست هذه الغارات الهدامة مجرد حركة عارضة في تيار الهوج المادي الإلحادي، بل هي خطة مقصودة ومعركة مخطط لها، ها هو أدونيس يعلن بأن السلفية بما فيها من عقائد ومبادئ وقيم وأشخاص هي "ارتدادية تلقينية"

(1)

.

أمَّا طيب تزيني الماركسي الملحد فإنه يعلن قائلًا: (نحن العرب أبناء القون العشرين لسنا بحاجة مثلًا، إلى استلهام المسيحية الأولى أو الشعراء الصعاليك أو أبي ذر الغفاري وغيرهم ممن سبقهم وممن خلفهم. . . ولسنا بحاجة إلى امرئ القيس. . . أو إلى معركة ذي قار، أو إلى محمد بن عبد اللَّه وأبي بكر وعمر وغيرهم ممن سبقهم وممن خلفهم، أقول نحق لسنا بحاجة إلى ذلك كله لكي نمنح "مرحلتنا القومية" الناهضة مشروعيتها في أن تكون باتجاه توحيدي.

. . . أقول نحن لسنا بحاجة إلى ذلك كله أو إلى غيره من هذا القبيل، لكي نمنح "مرحلتنا القومية" الناهضة مشروعيتها في أن تكون باتجاه عقلي علمي علماني ومادي جدلي)

(2)

.

وهذا القول المظلم يحتوي عدة موبقات منها أنه يقرن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 220.

(2)

من التراث إلى الثورة: ص 736 - 737.

ص: 1793

مع أهل الكفر والجاهلية، في استفزاز واضح لمشاعر المسلمين، وانتهاك إلحادي جلي.

ومنها أنه يناقض عقائد أهل الإسلام بأطروحاته الماركسية، المادية العلمانية، ويصادم أساسيات التقدم والنهوض بإلغائه شخصيات الإسلام العظيمة، واعتبار أنها لا قيمة لها في ميزان النهضة والنماء!! في خلط متعمد بين الحقائق والأوهام، والطهارة والقذارة، وجمع ظالم بين النور والظلام، والهدى والضلال.

وهي لغة التزوير العلمانية المعروفة، والخطابية الإلحادية المشهورة.

فهو يسقط رموز الخير والفضل والعطاء والنور والنماء، وينفي أن يكون لها أي تأثير في ميدان الفاعلية الإيجابية مع أن العكس هو الصحيح، وشواهد التاريخ ووقائع الأيام، وحديث الحضارات تشهد بذلك، ويشهد به المنصفون من غير أهل هذا الدين.

وهو يعلي رموز الشر والباطل والجاهلية والهبوط، ويجعلها من موجبات النهضة والعلو، مع أن العكس هو الصحيح، وشواهد الواقع المعاصر تشهد بأن الإنسان منذ أن ترك الدين وارتقى في براثن المادية الجاهلية لم يزدد إلّا نكوصًا وتعاسة وبلاءً، وأكبر شاهد على ذلك ما حصل في الاتحاد السوفيتي من انهيار تام للنظام الاعتقادي والسياسي والاقتصادي، الذي راهن التزيني وغيره على أنه هو المنقذ للبشرية!! فإذا بأبنائه الذين تربوا على مبادئه وتشربوا عقائده أول من يسعى في هدمه وإزاحة كابوس ظلمه وظلامه عن الناس.

غير أن هذا الطرح الذي ذكره التزيني كأساس من أسس العلمانية والحداثة ليس طرحًا خاصًا به أو مقتصرًا عليه، بل هو عام عند جميع الحداثيين، ولكل واحد منهم حظه -قل أو كثر- من هذا الأساس التصوري الذي ينطلقون منه (فهذه الفوضى كانت نزوة أناس مقطوعي الجذور، فتنهم نموذج غربي معين. . .)

(1)

، كما قال أحد نقاد الحداثة، والذي أضاف بعد

(1)

أفق الحداثة وحداثة النمط: ص 67.

ص: 1794

ذلك بأن سرقة وتقليد الأفكار الغربية لا تقتصر على فكرة أو فكرتين، أو مفهوم أو مفهومين إذًا لهان الأمر، ولكنها تتعلق بشبكة كاملة من المفاهيم

(1)

.

وإذا ذهبنا نستعرض أقوالهم في النيل من علماء الإسلام وشخصياته والتهكم بهم والإشادة بالشواذ والمنحرفين في التاريخ من الأسود العنسي إلى علي بن الفضل إلى حمدان قرمط إلى ابن الصبّاح إلى ابن الراوندي وابن سبعين وابن عربي، فإننا نجد ركامًا هائلًا من الأقوال والشواهد، وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذا في الفصل الرابع من الباب الأول المعنون بالتصورات المتأثرة بالوثنيات والديانات المحرفة.

أمَّا إشادتهم وامتداحهم للشخصيات الغربية من فلاسفة ومفكرين وساسة وذوي مذاهب وفنون، فإنها من الكثرة بحيث يصعب حصرها وجمعها، ومن الوضوح بحيث لا تحتاج إلى شواهد وأدلة، إذ القوم لا ينكرون هذا، بل يذكرونه ويفاخرون به، ويجعلونه من علائم الثقافة الواسعة، والاطلاع العريض.

حتى قال بعضهم: (لقد أصبحنا نسبق الغربيين إلى تطبيق مفاهيمهم قبل أن تكتمل عندهم، وقبل أن نحيط نحن بها علمًا)

(2)

.

(وهكذا نجد أن طريقة تعامل الكثيرين من المثقفين العرب مع العلوم الجديدة القادمة من الغرب خلال العقدين الأخيرين كان لها نتائج سلبية خطيرة، من بينها أننا أضعنا حوالي عشرين عامًا في مناخ غامض ملتبس لا يؤدي إلّا إلى البلبلة وسوء الفهم، وقد نتج عن ذلك كم هائل من الكتب الغربية المستعجمة أو المبتسرة التي تزيد الظلام إظلامًا بدلًا من أن تنير شمعة أو توضح فكرة)

(3)

.

إن الحداثة في موقفها من الشخصيات يتكون من مزيج هجومي

(1)

المصدر السابق: ص 183.

(2)

نقد الحداثة: ص 75.

(3)

المصدر السابق: ص 65.

ص: 1795

تخريبي شامل هو يتمثل في: (الطعن في شخصيات الإسلام، وإحياء أسماء الزنادقة والملاحدة والطائفين، والإشادة بالشخصيات الغربية).

هذا المزيج الخبيث تكمن وراءه قضايا أساسية في هذا الاتجاه لها أفق عدائي محدد، يتلخص في محاولة هدم الإسلام وإزاحته وإبعاده عن الواقع، نعم، هم لا يستترون أو يدارون في هذا الهدف، اللهم إلّا فئة منهم ترى أن من أسباب نجاح خطتهم التخفي والاستتار والتلبيس والتدليس والمحاورة والمداورة.

ولهم في النيل من شخصيات الإسلام وعلمائه أسلوبان:

أحدهما عام، والثاني خاص، فأمَّا العام فقد ذكرنا بعضًا منه في كلام التزيني وأدونيس، ويعتمد هذا الأسلوب على الإسقاط الجملي للشخصيات والتاريخ الإسلامي، وقد سبق شواهد على ذلك عند مصطلح "تاريخ الإسلام" في هذا الفصل.

ومن رمزياتهم في هذا الباب إطلاق ألفاظ الخفافيش والرمل والأعشاب اليابسة، والموتى في كهوف الزمان، والطمي والترسبات والجثث والاجترار، وغير ذلك، يقول أدونيس:

(ثمة وارثون خفاف كالريش، يحملون الطمي والترسبات)

(1)

.

(ينتظرني خوان الفتوى

باقات الكتب. . .

وتحت الخوان يجثم النهم وطعام الأمعاء

ويتكوم الفضاء جثة تسكر حولها مناقير الجوع

والعودة إلى أول الدائرة

وراء الاجترار وخطوطه عرضًا وطولًا وإلى أسفل سافلين)

(2)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 550.

(2)

المصدر السابق 1/ 550 - 551.

ص: 1796

أمَّا محمود درويش فيلخص الشخصيات الإسلامية في شخص الخليفة ويقول:

(دمعتي في الحلق يا أخت

وفي عيني نار

وتحررت من الشكوى على باب الخليفه)

(1)

.

ويلخصها البياتي في العمائم الخضر، وبعض شخصيات التاريخ الإسلامي فيقول:

(وعمائم خضر وصيادو الذئاب

يخمسون "قصيدة عصماء" في ذم الزمان

وقبور موتاهم وحانات المدينة والقباب

وسحائب الأفيون والشرق القديم

ما زال يعلب بالحصى والرمل

ما زال التنابلة العبيد

يستنزفون دم المساكين الحزانى الكادحين. . .

ما زال "هولاكو" و"هارون الرشيد"

ولم يزل "فقراء مكة" في الطريق

وقوافل التجار والفرسان والدم، والحريم

يولدن ثم يمتن عنده الفجر في "أحضان هارون الرشيد")

(2)

.

ماذا يريد البياتي أن يصل إليه من هذه الأسماء "عمائم، قبور، حانات، قباب، مزج بين هولاكو وهارون الرشيد، والعبيد والحريم والخليفة

(1)

ديوان محمود درويش: ص 346.

(2)

ديوان البياتي 1/ 199.

ص: 1797

والدم"؟ كلها تصب في الغاية الحداثية المذكورة آنفًا.

وأمَّا الأسلوب الثاني وهو تخصيص شخصيات من علماء الإسلام ودعاته للطعن والتجريح فيهم، فهو الأسلوب الشائع المنتشر بينهم، وأقوالهم كثيرة في هذا الغرض، لا تخص في سياقهم المظلم، شتيمة أو استنقاص الشخص المعين فحسب، بل تتعدى إلى مجمل دين المسلمين وتاريخهم وقيمهم ونظام حياتهم وحضارتهم، ونكتفي هنا ببعض الشواهد:

منها مقطوعة أدونيس السيئة التي سماها "السماء الثامنة، رحيل في مدائن الغزالي" والتي حشد فيها ألفاظ هجومه وسبابه وشتائمه الحداثية على الغزالي رحمه الله لكونه من علماء الإسلام، وقد بدأ هذه المقطوعة بقوله:

(قافلة كالناي والنخيل

مراكب تغرق في بحيرة الأجفان

قافلة مذنب طويل

من حجر الأحزان

أهاتها جرار

مملؤة باللَّه والرمال

هذا هو الغزالي)

(1)

.

وفيها يقول:

(يبتديء السقوط في مدائن الغزالي)

(2)

.

(أهدم كل لحظة

مدائن الغزالي

(1)

الغزالي قد سبقت ترجمته: ص 484.

(2)

الأعمال الشعرية 2/ 121.

ص: 1798

أدحرج الأفلاك فيها

أطفيء السماء)

(1)

.

وهي مقطوعة طويلة مليئة بهذا الضرب من الأقوال النجسة، والتي لا يريد بها الغزالي في شخصه، بل يريد بها الإسلام كله: (وأي بارقة أمل في شبيبة ترتاح لمجمل هذا الأدب، أو بالأحرى لأخص خصائص قبحه؟.

وأمنية كل عربي اليوم أن يكون له وجود معتبر، هوية مستقلة تحوي مميزات الأمم ولا تذوب في خثارة من نبذتهم الأمم الحضارية من أصحاب المقاهي والنار جيلة والحشيش والهيبة!!.

إله يغرق في الرمال. . كلمة كافرة مفلسة يؤنس شبيبتنا بها طائفي، ويراد منه أن يكون رائدًا وموجهًا ومعلمًا لأدبنا الحديث!!. . . وهذا الطائفي الذي خرج من وراء الكواليس ليكون من قدر أمتنا الخائب أن يكون هو وأضرابه من معالم الأدب الحديث: افترى على الحضارة ما ليس فيها وليس عنده بديل صحيح. . إنه يتكلم بأسلوب البحث العلمي تارة، وبهيبية الأدب الحديث تارة عن ميتافيزيقيات طائفية هي منتهى الخرافة والرجعية، يبشر بهذه الكهانة الوثنية بعد تعتيم شديد، ويصب اهتمامه على تحطيم الثوابت الحضارية في أمتنا. . إن وثنيهم الكبير يصوغ قصيدة الغبار ليمزج شبيبتنا بالريح)

(2)

.

(. . . لاحظوا أن "مدينة الغزالي" تساوي "الإسلام" في سياق الشاعر، وتعني كل ماض عربي يحتمل أن يعيش في الحاضر)

(3)

.

وهذا نزار قباني يخاطب إحدى عشيقاته وقد هجرته إلى مخادنة أمير من أمراء النفط حسب قوله، فيقول لها:

(طالما كنت تريدين أميرا

(1)

المصدر السابق 2/ 123.

(2)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري: ص 122 - 124.

(3)

المصدر السابق: ص 127.

ص: 1799

تتسلين به وقتًا قصيرا

يتسلى بك -يا سيدتي- وقتا قصيرا

ويمد الأرض من تحتك وردًا وحريرا

فاشربي نفطًا، وسبحان الذي

جعل البترول مسكًا وعبيرا

وتزوجت أخيرًا ملكًا

من ملوك الخلفاء الراشدين

وملكت الدين والدنيا معًا

فاسجدي شكرًا لرب العالمين

رزاق الطير على أشكالها

مسقط الغيث، ملاذ التائهين

باعث الأموات من أكفانهم

بارئي المرضى، وكافي المعدمين

واهب النفط لمن يختارهم

من بنيه الصالحين)

(1)

.

ويقول:

(وما زلنا نطقطق عظم أرجلنا

ونقعد في بيوت اللَّه ننتظر

بأن يأتي الإمام علي. . أو يأتي لنا عمر

ولن يأتوا ولن يأتوا

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 127 - 128.

ص: 1800

فلا أحد بسيف سواه ينتصر)

(1)

.

ويقول عن جمال عبد الناصر:

(رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر)

(2)

وهذا الإقران تدنيس لشخصية مجاهد وقائد من قواد المسلمين العظام، وقد قال في مدح عبد الناصر ما هو أعظم وأشنع، قال:

(قتلناك يا آخر الأنبياء)

(3)

.

وقوله مشبهًا له بموسى عليه الصلاة والسلام:

(تركناك في شمس سيناء وحدك

تكلم ربك في الطور وحدك)

(4)

.

ومن التدنيس تلقيب زوجته "ريما" العراقية بلقب "بلقيس"

(5)

وتدنيس اسم هذه الصالحة حين أطلق اسمها على ديوان في رثاء زوجته بعد أن قتلت، وكان مما قاله فيها من قبل:

(أيقظتني بلقيس في زرقة الفجر وغنت من العراق مقاما)

(6)

ومن التدنيس المقصود لأسماء الصالحين والصالحات إطلاق عصابة الفجور والسفور في مصر على إصداراتها اسم "هاجر" حيث قالوا في

(1)

المصدر السابق 3/ 352.

(2)

المصدر السابق 3/ 389. وانظر: مجلة الناقد، العدد الثامن: ص 22 مقال لليبي فرج العثة يقول متهكمًا بصلاح الدين رحمه الله "تصور الأيوبي في مؤتمر دولي!! ".

(3)

المصدر السابق 3/ 355.

(4)

المصدر السابق 3/ 356.

(5)

بلقيس ابنة ملك سبأ من ملوك اليمن، تولت عليهم وكانت مشركة وقومها كذلك، وكانوا يعبدون الشمس، ثم كان من شأنها ما ذكره اللَّه تعالى في سورة النمل في الآيات 19 - 44، ومنها قولها:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . انظر: البداية والنهاية 2/ 21.

(6)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 501.

ص: 1801

المقدمة (لم يكن اختيارنا "هاجر" اسمًا لكتاب المرأة من قبيل الصدفة أو محاولة للبحث عن الغرابة والاختلاف، لكن هل يوجد من هو أكثر من "هاجر" تعبيرًا عنا، فهاجر أم العرب جميعًا، والدة الأنبياء، أشهر جارية في التاريخ، أول مصرية تتغرب عن الوطن، هي الحالة الأولى، الأعمق على دور المرأة المكرس منذ أزمنة سحيقة: أن تكون وعاءً للنسل والإنجاب، وهي أعظم قصة حفظتها لنا الذاكرة الإنسانية عن معاناة المرأة ونضالها في سبيل البقاء، المرأة التي هُجرت فهاجرت وسعت في الأرض سعيًا مكبدًا في سبيل حياتها وحياة وليدها الطريد.

باختصار: إن هاجر هي التجلي الأول للمسألة النسائية وإشكاليتها في التاريخ البشري المعروف وهي أسطورة المرأة/ البشر، لا المرأة/ الآلهة، وأخيرًا فإن هاجر هي أول حالة تمييز عنصري عرفتها الإنسانية)

(1)

.

نحن أمام نموذج من نماذج التلاعب الخبيث بالمفاهيم والحقائق، إلى حد جعل المرأة الصالحة التقية "هاجر"

(2)

وسيلة لتسويق آراء أهل العهر ومشاريع الساقطين والساقطات من أهل الإباحية والسفور والفسوق، وفي القول الآنف من الكذب العلمي والتاريخي والافتراء وما يناسب العقائد العلمانية وأهلها، وفيه استنباطات ضالة مرتكزة على خلفية أضل وقاعدة أعمى وأغوى من كل عمى وغواية.

وبالمنظور العلماني الحداثي نفسه عن "هاجر" يقول محمود درويش:

(1)

كتاب المرأة "1" هاجر: ص 6.

(2)

هي أم نبي اللَّه تعالى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، كانت جارية لسارة فوهبتها لزوجها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فأولدها إسماعيل ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم بأمر من اللَّه تعالى، ولما انصرفت سألته عن ذلك فأخبرها بأن اللَّه أمره بذلك قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم لما عطشت وعطش ابنها ذهبت تلتمس الماء فأنبع اللَّه الماء من تحت قدم إسماعيل، ثم نشأ إسماعيل وتزوج في جرهم وأنجب وكانت من ذريته قريش وسائر عدنان من العرب، وخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وبنى إسماعيل وإبراهيم البيت وصار مثابة للناس وأمنًا. انظر: البداية والنهاية 1/ 153 - 160.

ص: 1802

(وكان يُلحقون حياتها

بدموع هاجر كانت الصحراء جالسة على جلدي

وأول دمعة في الأرض كانت دمعة عربية

هل تذكرون دموع هاجر - أول امرأة بكت

في هجرة لا تنتهي؟

يا هاجر، احتفلي بهجرتي الجديدة من ضلوع القبر

حتى الكون انهضُ)

(1)

.

وهاجر ليست عربية، ولكنها مسلمة قانتة طائعة لربها تعالى ولرسوله الخليل عليه الصلاة والسلام.

وهجرتها ليست مأساة وظلمًا وانتهاكًا بل كانت طاعة منها للَّه ولنبيه، وكانت أساسًا لعز وخير وهدى وإيمان وصلاح وتقوى، ونبوة جاءت بعد ذلك في ذريتها.

أمَّا درويش وعصابة السفور في مصر فإنهم يصورون رحيلها مع زوجها وابنها إلى البلد الحرام على أنها هجرة أسى وظلم وقسوة وحرمان، وليس ذا بغريب على من يتلقى ضلالاته من الكتب المحرفة، ويستنبط أباطيله على ضوء المناهج المادية الهائمة في سديم الفوضى والخراب والعمى.

•‌

‌ الغيبيات:

وقد خصصت فصلًا كاملًا عنها في الباب الثالث

(2)

.

•‌

‌ الفاتحة:

سورة من القرآن هي السبع المثاني، وأعظم سورة فيه.

(1)

ديوان محمود درويش: ص 483.

(2)

انظر: ص 1538 - 1636 من هذا الكتاب.

ص: 1803

يقرن أدونيس الفاتحة بالصليب قائلًا:

(الشارع أمرأه

تقرأ، حين تحزن، الفاتحة

أو ترسم الصليب

والليل تحت نهديها

محدب غريب)

(1)

.

•‌

‌ الفرقة الناجية:

وهم أهل السنة والجماعة الذين نجوا من التفرق والهلاك في النار، وقد مرّ معنا كلام أركون عن ذلك عند مصطلح أهل السنة

(2)

، أمَّا جابر عصفور، وله في عقله من اسمه نصيب، كما قال الشاعر:

وقلما أبصرت عيناك ذا لقب

إلّا ومعناه إن فكرت في لقبه

(3)

فإنه يتحدث في هجومه على علماء الإسلام ودعاته ويرمي بسهام حقده على الإسلام تحت مسمى أنه يهاجم "إسلام النفط" وهي جُنة يتخذها ليصد عن سبيل اللَّه، كما اتخذ أسلافه أيمانَهم جُنة.

يتحدث "عصفور العقل" أن الإسلام في هذه البلاد يقوم على مقولة تعتمد على ثلاثية النقل والاتباع والتقليد، ثم يفسر ذلك وفق هواه العلماني، ثم يقول: (وإذ تبرر هذه المقولة حتمية الوصاية وتؤكده، فالإنسان الخطّأ بطبعه لن ينجو من الضلالة إلّا بإرادة متعالية عليه، هذه الإرادة يسبق في حال مقدورها إيقاع الضلالة على البعض وإيقاع الهداية على البعض المقابل. . . ولكن لأن الضلالة كالنجاة، مقدورة سلفًا، فإن خطاب الفرقة الناجية ينطق ما هو مقدور عليها ولها، فهو خطاب ينفرد بالمعرفة دون غيره،

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 185.

(2)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 350.

(3)

بيت من الشوارد ذكره ابن القيم في زاد المعاد 2/ 336.

ص: 1804

ويمتلك اليقين دون سواه، فيتسم بنبرة تسلطية، قطعية، قمعية، على نحو لا يُمكن أن يتصف معه هذا الخطاب بأنه خطاب حواري. . . بل يصبح خطابًا أحاديّ الاتجاه، تعاليميًا، أمريًا، مخايلًا، يقوم على وهم احتكار الحقيقة نقلًا، وإيهام الهداية اتباعًا، وضرورة التصديق بها تقليدًا)

(1)

.

وغير خاف على من له أدنى بصيرة ومعرفة بالدين الإسلامي وبمنهج أهل السنة والجماعة "الفرقة الناجية" أن هذا القول مليء بالمغالطات والشبهات والألاعيب اللفظية، فكلامه عن القدر وإرادة اللَّه تعالى ليست عند أهل السنة بهذا المفهوم الفج الضال، وقد سبق بيان منهج أهل السنة في ذلك عند الحديث عن القدر.

أمَّا أن أهل السنة يعتقدون اليقين والقطعية في اعتقادهم، فهذا لا ريب فيه، وهو يقين يقوم على الدليل والبرهان وليس على التشهي والهوى.

أمَّا أن خطابهم يتسم بالتسلط والقمعية، فإن كان مراده بذلك أنهم يحكمون بشريعة اللَّه ويوقرون أحكامه ويتبعون أوامره وينتهون عن نواهيه، ويقفون عند حدوده، ويطبقون ذلك كله، فهم يعملون ذلك وفق عقيدتهم وإيمانهم باللَّه تعالى، ولا يرد المسلم عن ذلك أية ألفاظ هجائية أو شتائم علمانية، فمن آمن باللَّه وبكتابه ورسوله وجب عليه أن يقوم بمقتضى ذلك، رضي بذلك من رضي وغضب من غضب.

غير أن من الجدير تأمله في هذا الصدد أن العلمانيين اللادنيين الذين أخذوا هذه الضلالات عن أساتذتهم الغربيين اعتنقوها بيقين وقطعية، مع أنها لا تقوم إلّا على أوهام بشرية، وحماقات عقول بهيمية، وخطابهم وحالهم يتسم -فعلًا- بالتسلط والقمعية، فها هي سجون الأنظمة العلمانية في بعض بلاد المسلمين تضج بالظلم والقهر لأولياء اللَّه تعالى الذين يطالبون بتحكيم شريعته في الأرض، وها هي مؤتمراتهم ومؤامراتهم مع دول الغرب والشرق

(1)

الإسلام والحداثة: ص 182 - 183. وانظر: ص 187.

ص: 1805

ومع دولة اليهود لمحاربة دعاة الإسلام، تحت مسمى محاربة الإرهاب ومقاومة التطرف كما حدث في شوال سنة 1416 هـ في المؤتمر المسمى "مؤتمر شرم الشيخ" لمحاربة التطرف!!.

ومن قبل كم علق على مشانق الأنظمة العلمانية من شيخ وداعية، وكم ملئت المحتشدات الصحراوية من صالح وصالحة، وكم هُجِّر من بلده وبيته وأهله من مؤمن تقي، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)}

(1)

، أمَّا تسلط أصحاب الأعلام والتعليم والمجامع الثقافية العلمانية، فحدث عن عصابات احترفت الإجرام باسم الثقافة، والرذائل باسم الفن والتسلط باسم الحرية، ومع ذلك يزعمون أنهم أصحاب الحوار والديموقراطية والحرية الفكرية!! بلى إنهم في الظلم راسخون، وللقمع والتسلط محترفون، ولمعاداة المسلمين ودعاة الدين قائمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون!!.

•‌

‌ القدر:

وقد خصصت فصلًا كاملًا عنه في الباب الثالث من هذا الكتاب

(2)

.

•‌

‌ القرآن:

وسبق الحديث عن موقفهم منه في الكلام عن الكتب المنزلة في الباب الثاني

(3)

.

•‌

‌ القيامة:

وسبق الحديث عن ذلك عند الكلام عن اليوم الآخر في الفصل الأول من الباب الثالث

(4)

.

(1)

الآية 8 من سورة البروج.

(2)

انظر: ص 1452 - 1537.

(3)

انظر: ص 1047 - 1192.

(4)

انظر: ص 1209 - 1293.

ص: 1806

•‌

‌ الكتب المنزلة:

وقد خصصت فصلًا كاملًا عنه في الباب الثاني

(1)

•‌

‌ الكعبة:

هي بيت اللَّه العتيق.

وقد مرّ معنا ذكر موقف طه حسين من هذه القضية، في حديثه عن إبراهيم وإسماعيل وبناء البيت العظيم، ومن أوقح أقواله في هذا الصدد قوله في شأن الكعبة:(ليس ما يمنع قريشًا من تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإيناس ابن بريام صاحب طروادة)

(2)

.

أمَّا السياب فإنه يحشد في قصيدته "في المغرب العربي" ألوانًا شتى من ألفاظ الكفر والسخرية باللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم منها قوله:

(فنحن جميعًا أموات

أنا ومحمد واللَّه.

وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفرة

عليها يكتب اسم محمدٍ واللَّه.

على كسرة مبعثرة

من الآجر والفخار

فيا قبر الإله، على النهار

ظل لألف حربة، وفيل

(1)

انظر: ص 1047.

(2)

قضايا وشهادات 1/ 391.

ص: 1807

ولون أبرهة

وما عكسته منه يد الدليل

والكعبة المحزونة المشوهة)

(1)

.

ويقول البياتي:

(إذا كان البعض يحج إلى كعبته كل عام فأنا أحج إلى كعبتي في كل كلمة أكتبها)

(2)

.

ويقول سعدي يوسف عن قريته:

(وكعبة أسرى إليها الصبا ونام فيها الطير لما عبر)

(3)

ويقول الفيتوري:

(والطلاسم في تعاريج المرافيء

والرجال أسود يحتضرون حول الكعبة السوداء

والصور التي تنهار فوق قواعد الصلبان)

(4)

.

•‌

‌ الكفر:

وهو ضد الإيمان، ونقيض الإسلام.

وقد أعجب الحداثيون بألفاظ الشرك والكفر والضلال ووصفوا أنفسهم بأوصافها، مجاهرين مفاخرين، كما سبق بيانه عند مصطلح الضلال، وذلك من مقتضيات "التحرر الحديث" الذي يسلتزم عند أتباعه أن يكونوا في الصف المقابل للإيمان والهدى والخير والحق والعدل والتقوى والصلاح.

ذلك أنهم قد تلقوا من شياطين المذاهب الغربية التي أشربوا حبها، أن

(1)

ديوان السياب: ص 395 - 396.

(2)

تجربتي الشعرية: ص 11.

(3)

ديوان سعدي يوسف: ص 563.

(4)

ديوان محمد الفيتوري 2/ 510.

ص: 1808

الوقوف ضد هذه الأوصاف يعني الحرية والانطلاق والتقدم والنهوض!! {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}

(1)

.

ولا شك أن عقولًا استساغت أن تهجر الهدى وتعتنق الهوى والفكر والردى لهي عقول استولى عليها الخبال والضلال، والتحقت بصفوف الأعداء الغزاة، الذين ما فتئوا يكيدون لهذا الدين من بداية ظهوره.

إن استهانتهم بلفظ الكفر ووصفه، وامتهانهم اللفظي له يندرج ضمن لعبة العبث الحداثية التي يراد لها أن تكون جسرًا لإبطال أحكام الشرع وتكذيب أخباره، ها هو أحدهم يدرس نصوص الوحي على أنها أسطورة تاريخية ثم يتحدث عن نظيره وسلفه في هذا الأمر طه حسين ويخلص إلى أن حكم الردة الذي وجه إليه بسبب تكذيبه للقرآن العظيم، ليس سوى إعادة اعتبار للأسطورة، وإرجاع النص أي الوحي، إلى مكانته المتعالية ثم يقول:(واستندت هذه الردة. . . بتكفير من يكذب وجود إبراهيم وإسماعيل إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الكفر والردة في عصرٍ هما ممجوجتين فيه)

(2)

.

ولا ريب أن هذا المادي العلماني يعبر عن وجهة نظر الردة الجديدة التي اجتاحت العالم، واكتسحت العالم الإسلام في هذا العصر (وهي ردة جاءت مع زحف أوروبا السياسي، والحضاري على الشرق الإسلامي، وإنها أعظم ردة حدثت في التاريخ الإسلامي من عهد النبوة إلى عصرنا هذا، إنها "ديانة" اللادينية والإلحاد التي أثرت على ما لا يحصى من أفراد الطبقة المثقفة من المسلمين، ولكن بالعكس من حركات الردة وتياراتها الماضية؛ إن من يقع في أسرها، وينكر بديهيات الدين وحقائقه لا يذهب إلى معبد أو كنيسة، ولا يعلن تغييرًا لديانته، ولا يتنبه مجتمعه الإسلامى إلى خطره، ولا يحسب له أي حساب، ولا يعامل بالمقاطعة والفصل من المجتمع كما

(1)

الآية 112 من سورة الأنعام.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 270.

ص: 1809

كان يعامل المرتدون السابقون)

(1)

، بل أضحى -في ظل الدولة العلمانية- كل مارق معارض للدين محل الصدارة والحماية والتمكين، وكل مدافع عنه، داع إليه، مجاهد في سبيله محل القتل والتشريد والإيذاء والتشريد، واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وإذا كان أهل الحداثة والعلمنة ينظرون إلى الدين الإسلامي نظرة الغربيين إلى الدين النصراني، فإنهم -حتمًا- سيصبحون، وقد أصبحوا بالفعل، يقاومونه ويناقضونه ويردونه على اعتبارات عديدة من أهمها أنهم ينظرون إليه -حسب نظراتهم الإلحادية- أنه دين أساطير، وهذا ما دعى أحد منظريهم إلى التصريح بأن (عنوان الحداثة العلمانية في يومنا هذا هتك أساطير البداية)

(2)

.

وعلى ذلك فإنهم لا يستحيون من الانتماء الكفري أيًا كان لونه أو عنوانه، فما أكثر الذين ينادون اليوم بالعلمانية، أو ينتسبون للماركسية أو ينتمون إلى الوجودية، أو يجاهرون بالانضمام إلى أي فكرة أو مذهب أو مجموعة كفرية.

حتى لقد بلغ بأحد رواد الحداثة الفكرية أن اعترف صراحة بأنه مؤمن!! ولكنه إيمانه يكفره أي يؤدي به إلى الكفر، وقائل ذلك هو حسن حنفي الذي يجيب على مناقشة أحدهم حين وصفه بأنه مؤمن، وأنه يخشى عليه من الاتصاف بوصف الإيمان!! أجاب حسن حنفي (أنت تعني الإيمان السلفي التاريخي المتوارث عبر التاريخ، وهو الشيء الذي تخافه علي، لذلك فإن إيماني يكفرني، كما أنه يكفرك أيضًا)

(3)

.

وقال أيضًا: (نحن منذ فجر النهضة العربية الحديثة وحتى الآن نحاول أن نخرج من الإيمان السلفي)

(4)

.

(1)

في مسيرة الحياة لأبي الحسن الندوي: ص 269 - 270.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 271 والقول لعزيز العظمة.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 217.

(4)

المصدر السابق: ص 218.

ص: 1810

وقال: (أنا ماركسي شاب)

(1)

.

وقال: (أنا مفكر وضعي، أقصد أنا وضعي منهجي ولست وضعيًا مذهبيًا، إن كل ما يخرج عن نطاق الحس المادي والتحليل أضعه بين قوسين)

(2)

.

ومع ذلك يُعد عند الحداثيين من أصحاب التيار الإسلامي اليساري أو ما يسمونه التيار الإسلامي المستنير!!، فإذا كان هذا هو الإسلام!! فأي دين بقي وأي كفر اتقي؟.

أمَّا أدونيس فيسخر من الوعيد بالكافرين، وذلك في قوله:

(عائشة جارتنا العجوز مثل قفص معلق

تؤمن بالركام والفراغ والطرر

وبالقضاء والقدر. . .

تقول إن عمرنا سحابة بلا مطر

تقول إن الأرض أبشع الأكر

صورها الإله تحت عرشه

ومن عل دحرجها

خطيئة كأنها البشر:

يا ويل من كفر ويل من كفر

يا سعده من اعتبر. . .

عائشة جارتنا تقية

حياتها جلودُ صوفٍ وخراف ورع

(1)

المصدر السابق: ص 218.

(2)

المصدر السابق: ص 219.

ص: 1811

وحكمة تعود بالأرض إلى سديمها

تحتجز الحياة في تكية

من ورق الرمال

وطحلب الليالي)

(1)

.

صورة كالحة دبقة من صور الاجتراء الإلحادي والتهكم الحداثي بالدين التراث، وبالمصطلحات الشرعية والأحكام الإسلامية.

أمَّا توفيق صايغ فيقول:

(من فضة براك

فتنة باجمان، ويا أزاهير اكفري)

(2)

.

أمَّا نزار قباني فإنه أكثر من تلاعبه بلفظ الكفر كإكثاره التلاعب بأعراض النساء، يقول:

(من يعص قلب امرأة يكفر)

(3)

.

ويقول:

(وابقى أحبك رغم يقيني

بأن التلفظ باسمك كفر)

(4)

.

ويخاطب إحدى عشيقاته أو معشوقيه!! قائلًا:

(إن كنت نبيًا

خلصني من هذا السحر

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 163 - 164.

(2)

المجموعات الشعرية: ص 420.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 132.

(4)

المصدر السابق 1/ 672.

ص: 1812

من هذا الكفر

حبك كالكفر فطهرني

من هذا الكفر)

(1)

.

ويقول:

(أرجوك بالأوثان يا سيدتي

إن كنت تؤمنين في عبادة الأوثان)

(2)

.

ويقول:

(فعلنا الحب تكرارًا وتكرارًا

صرخنا مثل وحشين، نزفنا مثل وحشين

وأمطرنا وأرعدنا

وتبنا وكفرنا وركضنا

في براري الحب أحرارًا)

(3)

.

ويقول:

(أعطيني الفرصة

كي أكتشف الحد الفاصل بين يقين الحب

وبين الكفر)

(4)

.

(أعطيني الفرصة حتى أقنع، حتى أؤمن، حتى أكفر)

(5)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 675.

(2)

المصدر السابق 1/ 711.

(3)

المصدر السابق 2/ 143 - 144.

(4)

المصدر السابق 2/ 198.

(5)

المصدر السابق 2/ 199.

ص: 1813

ويقول:

(يا بيروت الجوع الكافر والشبع الكافر)

(1)

.

ويقول:

(أردت أن أنقل الثورة

إلى مرتفعات نهديك ففشلت

أردت أن أعلمك الغضب والكفر والحرية

ففشلت)

(2)

.

ويقول:

(فاعذروني أيها السادة إن كنت كفرت

وصفوا لي صبر أيوب دواءً فشربت)

(3)

.

ويقول -تعالى اللَّه عما يقول-:

(من بعد موت اللَّه مشنوقًا

على باب المدينة

لم تبق للصلوات قيمه

لم يبق للإيمان أو للكفر قيمه)

(4)

.

ويقول:

(يثير حزيرانٌ جنوني ونقمتي

(1)

المصدر السابق 2/ 326.

(2)

المصدر السابق 2/ 493.

(3)

المصدر السابق 3/ 277.

(4)

المصدر السابق 3/ 342.

ص: 1814

فأغتال أوثاني وأبكي وأكفر)

(1)

.

وهكذا نجد أن المجاهرة بالكفر والانتماء إليه أضحى من أسهل الأمور، وأيسرها على لسان شاعر الحداثة، ونرى أن التلاعب بلفظ الكفر ومضمونه يهيء الفرصة لللاعبين في هذا الحقل أن يفاخر الواحد منهم بانتسابه إلى الكفر والضلال من غير مراعاة لأي ضابط أو احتياط من أي نقد أو خوف من أي حكم!!، واستتبع انتماءهم الفكري للكفر وافتخارهم الشعري به، انتماء لأمم أخرى، لا رابط بينهم وبين العرب إلّا الرباط الجاهلي الذي جعل كفار مكة يفرحون بانتصار الفرس على الروم، لكون الفرس مثلهم في عبادة الأوثان.

ها هو توفيق زياد يفتخر بأسياده الروس، ويسخر بإطلاق لفظ الكفر عليهم:

(في هذه النشره

الروس الكفار يطولون الزهره. . .

موسكو هذه المره

كسر الروس الكفار الجره

يكتشف الأسرار إلى الزهره

وتقول مصادر موثوقه

إن الإنسان، الإنسان هناك

العامل والفلاح هناك

أقسم أن تشرق راية أكتوبر

وترفرف في كل سماء)

(2)

.

(1)

المصدر السابق 3/ 389. وانظر: ص 358، 386 وغيرها.

(2)

ديوان توفيق زياد: ص 91 - 92.

ص: 1815

وهنيئًا للشيوعيين بهذا الفتح المبين!!، وبهذه الخرافة العظيمة!!، وقد عاش زياد الدرزي حتى رأى بأم عينيه وسمع بأذنيه، ماذا حصل لثورة أكتوبر من دمار وبوار واندحار، وما هي عن الرأسمالية ببعيد!.

والشاهد هنا ربطه بين وصف الروس بالكفار والمكتشفات الحديثة، وهي حجة حداثية واهية تقوم على مبدأ أن من ابتكر أكثر واكتشف أكثر وصنع أكثر وتغلب وقهر فهو بالضرورة صاحب الفكرة الصحيحة والعقيدة القويمة والخلق الحسن!!، وفي هذه المساواة الباطلة التي تنطق بها كتبهم ومؤلفاتهم، والتي ينادون بناء عليها بأن ناخذ الأفكار والعقائد والثقافات والفلسفات والمذاهب والقيم مثلما أخذنا التقنية، وأن نستورد العلوم الإنسانية مثلما استوردنا المنتجات والمصنوعات

(1)

.

ومن التلاعب بلفظ الكفر قول المقالح في بيانه اليساري الاشتراكي!!:

(يا فقراء شعبنا

يا أيها الجياع السائرين في انكسار

لا تكفروا بالكلمات بالأشعار

فربما غدًا، بعد غد ستهدم الأسوار

تزرع النجوم في ظلامكم

ستزرع الثوار)

(2)

.

ويقول الفيتوري عن الشاعر:

(قصة الشاعر العظيم. . العظيم الحلم واليقظة

(1)

انظر مثلًا: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 238، 268، وقضايا وشهادات قول لعبد الرحمن منيف 2/ 216، والإسلام والحداثة: ص 185 قول لجابر عصفور: ص 328، 355 و 378 أقوال لأركون، وقضايا الشعر الحديث: ص 296، 298 قول ليوسف الخال، وشعرنا الحديث إلى أين: ص 19.

(2)

ديوان المقالح: ص 378.

ص: 1816

العظيم الصفات

حين غنى لقومه خير ما غنته

شبابة من الصلوات

فتناسوه كافرين بما غنّى)

(1)

.

فهو يعبث هنا بشعيرة الصلاة وبلفظ الكفر.

ويقول أحمد دحبور:

(وتنزوي الشموس في معابدي

ويعول الفراغ فيّ يعولُ

ويكفر الصدى

سيرحلُ، سيرحل المدى)

(2)

.

ويقول:

(باسم جوع يقتل الأطفال. . كافر

أعبر النهر المجاور)

(3)

.

•‌

‌ ليلة القدر:

وهي ليلة من أوتار العشر الأواخر من رمضان خير من ألف شهر.

تعتبر رواية الطاهر بن جلون "ليلة القدر" أوضح شاهد على العبث بمعاني ومقاصد ومضامين هذه الليلة الكريمة.

•‌

‌ المئذنة:

كما تصدى هؤلاء للصلاة والأذان فإنهم تصدوا للمئذنة ساخرين

(1)

ديوان الفيتوري 1/ 168.

(2)

ديوان أحمد دحبور: ص 101.

(3)

المصدر السابق: ص 193.

ص: 1817

هازئين؛ لأنها تمثل في شموخها وبنائها المرتفع شموخ الإسلام وظهوره وانتشاره، وهذا يبعث في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ويثير كوامن الأحقاد العدائية في قلوبهم المولعة ببغض كل ما يمت إلى دين الإسلام بصلة، ولو كان مجرد شعار أو رمز أو بناء.

يقول أدونيس:

(بكت المئذنة

حين جاء الغريب - اشتراها

وبنى فوقها مدخنة)

(1)

.

ويقول:

(هاتوا فؤوسكم نحمل اللَّه كشيخ يموت

نفتح للشمس طريقًا غير المآذن)

(2)

.

تعالى اللَّه وتقدس عما يقول الملاحدة علوًا كبيرًا.

ويقول:

(قدست رائحة الفوضى، ليأت الوقت الحزين لتستيقظ

شعوب اللهب والرفض

صحرائي تنمو، أحببت صفصافة تحتار، برجًا يتيه، مئذنة تهرم)

(3)

.

ويتحدث عن شخصه ممتثلًا في اسمه الأصلي "علي أحمد سعيد" فيقول:

(ورأيت اللَّه كالشحاذ في أرض علي

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 237.

(2)

المصدر السابق 2/ 266.

(3)

المصدر السابق 2/ 270.

ص: 1818

وأكلت الشمس في أرض علي

وخبزت المئذنة

ورأيت البحر يأتي في ضباب المدخنة)

(1)

.

جلّ اللَّه وتقدس وتنزه وتعالى عما يقول الباطني الملحد، الذي يرى الإيمان والدين والصلاة تخلفًا، ويزعم أنها لا بد أن تنمحي بسبب وجوده الطاغوتي الحداثي، أو أنه سوف يحيل المئذنة إلى خبز ينتهي بالأكل، ويأتي بالبحر رمز الغرب والمتوسطية والفينيقية، يأتي به لتكون مداخن مصانعه بديلًا عن المآذن، هكذا سولت له نفسه، وسولت له عقيدته ومذهبه الشائن، كما سولت للكفار من قبل {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

(2)

.

وفي كلمات أخرى يجعل المئذنة خمرًا والأذان نشوة سكر فيقول:

(هل تتمايل الفضة سكرًا بالمئذنة

وهل يترنم الذهب انتشاءً بالأذان؟

في امتداد برقش التعاشيب

يتنسم ترابًا يتنسم اللَّه)

(3)

.

وفي موضع آخر يجعل المآذن مجرد مستودعات صوتية فيقول على لسان المجانين أشباهه حيث يقول المجنون الأول سائلًا:

(والمآذن

المجنون الثالث: "مقاطعًا" هي للصوت مخازن)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 282 - 283.

(2)

الآية 21 من سورة يوسف.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 401.

(4)

المصدر السابق 1/ 198.

ص: 1819

أمَّا السياب فقد سبق نقل مقاطع من قصيدته الإلحادية "في المغرب العربي" ومنها قوله عن إنسان يرى قبره:

(كمئذنة معفرة

كمقبرة

كمجد زال

كمئذنة تردد فوقها اسم اللَّه.

وخط اسم له فيها. . .

فنحن جميعنا أموات

أنا ومحمد واللَّه.

وهذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفرة

عليها يكتب اسم محمد واللَّه)

(1)

.

ويتحدث عن اللَّه جلّ وتعالى وتقدس:

(أليس هو الذي فجأ الحبالى

قضاه، فما ولدن سوى رماد؟

وأنعل، بالأهلة في بقايا

مآذنها، سنابك من جواد؟)

(2)

.

أمَّا توفيق صايغ فيتحدث عن الخيل التي يقول عنها:

(وما فتحت فاها لقضم

وفتحته لصهيل كترنيم مآذن)

(3)

.

(1)

ديوان السياب: ص 394 - 395.

(2)

المصدر السابق: ص 399.

(3)

المجموعات الشعرية: ص 52.

ص: 1820

أمَّا الشيوعي العراقي سعدي يوسف فيجعل المآذن -وما تحويه من دلالات ومعاني- تسكن الظلام، فيقول:

(اللَّه كل الليل يهبط، والمآذن تسكن العتمات)

(1)

.

أمَّا نزار قباني فيقول عن محبوبته:

(عندما يبدأ الليل، احتفال الصوت والضوء

بعينيك. . وتمشي فرحًا كل المآذن

يبدأ العرس الخرافي الذي ما قبله عرس)

(2)

.

ويصف المآذن بقوله:

(والمآذن المقلوبة)

(3)

.

أمَّا محمود درويش فيقول:

(أأسرق عمري لأحيا دقائق أخرى، دقائق بين السراديب والمئذنة

لأشهد طقس القيامة في حفلة الكهنة)

(4)

.

ويقول:

(ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا

ونرقص بين شهيدين، نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا)

(5)

.

أمَّا معين بسيسو فإنه يخاطب صنوه وزميله في الشيوعية "محمود

(1)

ديوان سعدي يوسف: ص 186.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 179.

(3)

المصدر السابق 3/ 311.

(4)

ورد أقل: ص 61.

(5)

المصدر السابق: ص 101.

ص: 1821

درويش" ويذكره بقول نظيرهم الجزائري الشعوبي البربري الملحد "كاتب ياسين" وذلك في تهكمه بالمآذن واعتباره لها أنها من علائم التخلف، إذ يصفها ساخرًا بأنها صواريخ ثابتة!!، ولا يقتنع بسيسو بهذا الوصف بل يسعى في مضمار الإلحاد إلى أبعد من ذلك حين يعتبر اللَّه -جَلَّ وَتَقَدَّسَ وَتَعَالَى- مثل المآذن في الدلالة على الجمود والتخلف، بل أكبر، فيقول:

("كاتب ياسين"

صديقي المسكين

قال بأن "مآذننا" يا محمود

"صواريخ" ثابتة في الأرض

لا تنطلق، ولا تصعد أبدًا.

أكبر من كل مآذننا يا محمود اللَّه)

(1)

.

ويجعل سميح القاسم الكتاب والمئذنة وبلال مجرد هراء، وذلك في قوله:

(سألوني عن التي أنا منها

وهي مني، ربابة ومغني

عندليب وسوسنه

وكتاب وبلال ومئذنة

وانطلاق من هراء البيداء، والخيل والليل)

(2)

.

أمَّا توفيق زياد الذي ينضح بالشيوعية في كلماته ومقطوعاته الحداثية

(1)

الأعمال الشعرية بسيسو: ص 553.

(2)

ديوان سميح القاسم: ص 280.

ص: 1822

فإنه يجعل الشيوعية الحمراء مئذنة، ويزعم أن الحرية تأتي منها، فيقول:

(من مئذنة الفجر الأحمر

من طين الخندق. . من رأس الخنجر. .

صوت ناري الأنفاس

الحرية!!)

(1)

.

ومثله عبد العزيز المقالح الذي يتحدث عن بكين بوصفها شيوعية متمنيًا أن يمر من تحت قوس النصر في ساحتها الحمراء!!، ويبشر بمئذنة للشيوعية في اليمن، ويدلس وصفها بأنها "مدخنة" تكتب بالدخان بالعرق، وقد رأى أهل جنوب اليمن ماذا صنعت بهم الشيوعية التي تمناها المقالح، وماذا جنوا من ثمارها الشائكة الخبيثة!!، يقول المقالح:

(بكين، رغام البعد بيننا يا واحتي الأثيره

فإننا على لقاء

مشاعل المسيرة الكبيره

في ليلنا الضرير

كانت لنا، للزاحفين الشعلة الرجا

الأمل الكبيره. . .

واليوم في مدينتي تحتضن السحاب

يحتضن الألف

مئذنة شماء

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 57.

ص: 1823

تكتب بالدخان بالعرق

قصتك الرائعة الرنين

قصة حب لا يضيع، لا يموت يا بكين)

(1)

.

ونحو هذا قوله:

(ألمح وجهه الضاحك في حجارة المسجد في مآذن المصنع)

(2)

.

وحين يستعير رمز المئذنة للتبشير بالشيوعية، مدنسًا هذا الرمز، لا ينسى أن يلصق بالمآذن أوصاف الظلام والتخلف، وذلك في قوله:

(والمآذن لما تزل تتنهد، في قبضة الليل، تحت مخاوفها

تذكر اللَّه أكبر. . .)

(3)

.

وشبيه هذا المعنى قول ممدوح عدوان:

(في مئذنة يتململ فيها النور)

(4)

.

وذلك بعد أن ساق جملة من الأماكن التي يقرنها في سياق واحد مع المآذن بغرض التدنيس:

(في الحانات وفي الحارات وفي المبغى

في أجراس كنيسة حي مهجور

في مئذنة يتململ فيها النور)

(5)

.

(1)

ديوان المقالح: ص 141 - 142.

(2)

المصدر السابق: ص 618.

(3)

المصدر السابق: ص 566.

(4)

و

(5)

الأعمال الشعرية: جـ 1 تلويحة الأيدي: ص 127.

ص: 1824

•‌

‌ المحراب:

وهو رمز للعبادة والصلاة والخضوع للَّه تعالى، يجعله الحداثيون رمزًا للتخلف والبطالة والضياع كما قال أدونيس:

(الأمة استراحت

في عسل الرباب والمحراب

حصنها الخالق مثل خندق

وسده

لا أحد يعرف أين الباب

لا أحد يسأل أين الباب)

(1)

.

وفي موضع آخر يجعل الكلمات الباطنية والعبارات السوريالية والكشوفات الصوفية الإلحادية، يجعلها محرابًا، أي أن لها القداسة والمكانة العبادية، ثم يفتح باب التأويل الحداثي الباطني ويجعله فضاءً مفتوحًا ينسج من خلاله كل ما يريد، بعد أن يبطل بهذا التأويل دلالات اللغة وضوابطها، ومعايير الشريعة وقداستها، يقول بعد أن ذكر جملة من رموز التصوف والسوريالية:

(الكلمات تتشكل محرابًا محرابا

والفضاء ينسج التأويل)

(2)

.

•‌

‌ المحرم:

هو الممنوع شرعًا، وهو ضد الحلال

(3)

.

وقد جعل الحداثيون نصب أعينهم العمياء استباحة المحرمات والتحرر

(1)

الأعمال الشعرية 2/ 273.

(2)

المصدر السابق 2/ 414.

(3)

انظر: معجم لغة الفقهاء: ص 177.

ص: 1825

منها، وإسقاط موازين الحلال والحرام، وانتهاك كل ما هو محرم، وهذا أصل من أصولهم وأساس من أسس فكرتهم وعقيدتهم.

وقد ذكرت في مطلع هذا الفصل تحت عنوان "المدرك الثالث" هذا الأصل، وسردت شواهد عديدة من أقوالهم

(1)

.

•‌

‌ مدن الإسلام:

شغف الحداثيون والعلمانيون بمدن الشرق والغرب، مدن الفكر الذي ينتمون إليه، ويؤمنون به، وتغنوا بمدائحها، وتحرقوا على العيش فيها، واستجدوا مرابعها العطاء والنماء، وبكوا على آثارها بكاء الهائم الولهان، وتفننوا في الإشادة بمعالمها، وتنافسوا في إطراء نواحيها.

ولا غرابة في ذلك فإن من انتمى إلى عقيدة أحب أهلها وأحب الديار التي نشأت أو شاعت فيها هذه العقيدة.

فكما نجد المسلم يحب مكة والمدينة والقدس ويشد إلى مساجدها المباركة الرحال، فإننا نجد أن الحداثي والعلماني يهيم حبًا بواشنطن وموسكو وباريس ولندن وبرلين وبكين وغيرها، ويشد إليها الرحال، ويعود مثقلًا بالآثام والأوزار، وجراثيم الأمراض الاعتقادية والخلقية.

ولم يكتفوا بالإشادة ببلاد الكفر ومدن الطغيان بل توجهوا إلى مدن الإسلام شامتين هازئين ليكون ذلك دليلًا آخر من أدلة انفصالهم عن هذه الأمة، وبرهانًا آخر على عداوتهم لها.

تقول نوال السعداوي التي خرجت في مظاهرة في أمريكا لتأييد الشذوذ الجنسي، (حين سافرت إلى مكة وقرأت الإعلانات فوق الجدران أهلًا بضيوف الرحمن، ومن وراء الجدار أرى الرجل والبنت كالغلام وثالثهما الشيطان)

(2)

.

(1)

انظر: ص 1235 - 1241.

(2)

سقوط الإمام: ص 8.

ص: 1826

تدنيس مقصود، وكذب واضح، وادعاء يكذبه العقل والواقع، ولكنها أشربت حب الرذيلة كما أشربت بغض الإسلام، فقادها ذلك إلى الافتراء الصريح والانتهاك البغيض من غير حجة ولا بينة، إلّا مجرد الحقد الأعمى الذي جعلها ترى ما لا يرى لو كان الأمر واقعًا على الحقيقة!!.

أمَّا الماركسي سعدي يوسف فإنه ينتهك اسم مكة بقوله:

(لم يروا منك يا وطني غير أوراقهم ونساء المعارض

أنت لهم مكة السائح الأجنبي

وكحل العيون التي لا ترى)

(1)

.

أمَّا المقالح فيقول:

(وتنطفي كل مساء لذة الشيطان والسجائر

بغداد في صمت ومثلها الجزائر

انتحرت في مكة المنائر)

(2)

.

أمَّا بكين فإن المقالح يتمنى أن يمشي تحت قوسها في الساحة الحمراء

(3)

.

أمَّا أدونيس فإنه يحشد مجموعة من أسماء مدن بلاد الإسلام ويجعلها مقابر ومشانق، وذلك في قوله:

(دمشق القاهرة بغداد مكة

الطريق ترفض الطريق

وأقدامنا لا تتبعنا

(1)

ديوان سعدي يوسف: ص 184.

(2)

ديوان المقالح: ص 194.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 140 - 141.

ص: 1827

نعرف هذه المقابر الأليفة

هذه المشانق التي تتدلى بعدد الأيام)

(1)

.

ويُمكن هنا مقارنة أقواله هنا بما قاله عن البحر "الغرب" ومدنه، والفكرة المتوسطية، وعلاقة سوريا الكبرى بأوروبا، مما سبق ذكره وشرحه في الباب الأول عند الكلام عن التأثر بالديانات المحرفة.

أمَّا المدينة النبوية الشريفة المنورة فإنه يخصها بمقطوعة عنوانها "مدينة الأنصار" يصفها بالتخلف والاضطهاد والقسوة، وأنها ترد "مهيار"

وترجمة بالحجار، ومهيار يقصد به نفسه، وفكرته الحداثية، وفئته جنود المسيح الدجال الذين حرم اللَّه عليهم دخول مكة والمدينة، يقول أدونيس:

(لاقيه يا مدينة الأنصار

بالشوك، أو لاقيه بالحجار

وعلقي يديه

قوسًا يمر القبر

من تحتها، وتوجي صدغيه

بالوشم أو بالجمر

وليحترق مهيار)

(2)

.

أحرق اللَّه مهيار وأتباعه وجعل سعيهم في تباب، وكيدهم في ذهاب.

أمَّا محمود درويش "شاعر الأرض المحتلة" كما يحلو لهم أن يصفوه،

(1)

الأعمال الشعرية 2/ 560، وفي موضع آخر 2/ 418، يتهكم بمراكش ودمشق والقاهرة وبغداد والقدس وفاس.

(2)

المصدر السابق 1/ 262.

ص: 1828

فإنه يصف القدس بأوصاف مزرية، وذلك في قوله:

(ترسم القدس:

إله يتعرى فوق خط داكن الخضرة، أشباه عصافير تهاجر

وصليب واقف في الشارع الخلفي، شيء يشبه البرقوق

والدهشة من خلف القناطر

وفضاء واسع يمتد من عورة جندي إلى تاريخ مشاعر)

(1)

.

أمَّا المقالح فإنه يصف صنعاء بأوصاف متناقضة هازئة متهالكة، عكس ما وصف به بكين أو موسكو، يقول:

(صنعاء

يا امرأة لا تفتأ حبلى

تزني أحيانًا

وأحايين تصلي، تتبتل

حينًا ترفض أزواجًا تأكلهم

وأحايين كثيرات تؤكل)

(2)

.

أمَّا بكين فيرسل إليها قبلة ويقول عنها:

(متى أمر تحت قوس النصر في ساحتك الحمراء

أرسم قبلة على الجبين

جبينك الأخضر يا بكين

(1)

ديوان محمود درويش: ص 398.

(2)

ديوان المقالح: ص 344.

ص: 1829

أطلق باسم اليمن الخضراء

حمامة بيضاء

متى أسير لو أمتار

في الدرب حيث سارت رحلة النهار

رحلة "ماو" والرجال والأنصار

رحلة كل الطيبين، متى؟

متى أراك يا بكين؟

منذ قرأت أول الحروف

وبي إليك يا أماه

حنين طفل تاه

أضاع أمه على طريق الوحشة المخوف

وبعدها أباه

ولم يعد، ما زال تائها تسحقه الظروف

حتى تراك مرة عيناه

بكين، رغم البعد بيننا يا واحتي الأثيرة

فإننا على لقاء

مشاعل المسيرة الكبيرة

في ليلنا الضرير

كانت لنا للزاحفين الشعلة الرجاء

ص: 1830

الأمل الكبير)

(1)

.

ترى ماذا يُمكن أن يحكم عاقل على هذا الكلام والذي قبله؟ فصنعاء بلد الإسلام زانية، أمَّا بكين بلاد الشيوعية المادية فهي النهار والأم الحنون والواحة الأثيرة!!، أليس هذا دليلًا آخر على مقدار الانفصام والانفصال عن هذه الأمة المسلمة؟ ودليل الضلالة والعمالة؟.

•‌

‌ المسجد:

وهو المكان الذي أعد للصلاة فيه على الدوام

(2)

، وهو أشرف البقاع في الأرض وأحبها إلى اللَّه تعالى.

وقد مرّ معنا في هذا الفصل موقفهم من الصلاة والركوع والسجود والمآذن لارتباطها جميعًا بالركن الثاني من أركان الإسلام، وكذلك كان موقفهم من المسجد.

فها هو أدونيس يعبر عن أمنياته الحداثية، في صيغة حديث عن تاريخ طاغية من الطغاة فيقول:

(وزلزل المكان

واهتزت البلاد مثل شجره

وسقط المسجد مثل ثمره

وسقط الزمان)

(3)

.

وفي مقطوعة أخرى يحشد جملة من أسئلة الشك والرفض لهدم الإسلام، وإشاعة الريبة فيه وفي تاريخه ورموزه ومنها سؤاله المتعلق:

(بوطن يعيش فوق الأرض، لكن خارج الفصول

(1)

المصدر السابق: ص 139 - 141.

(2)

انظر: معجم لغة الفقهاء: ص 428.

(3)

الأعمال الشعرية 1/ 83.

ص: 1831

بالرفض بالسؤال

بالمسجد المهدوم، بالحجاج وهو يصلب المدينه

بعابد تجتره التكيه

بالخوف، بالتقيه

بقبة تجثم كالوطواط أو تهتز كالسفينة)

(1)

.

ثم يعلن حربه لكل رموز الإسلام وشخصياته، وعلمائه، ويجعل المسلمين مجرد مقابر وأشباح وطقوس، ويتهكم بالكتب المسلمة والمساجد ويجعلها كنائس، في لهجة سباب وحقد طافح، يقول:

(لكوكب الغزالي

لهذه المقابر المبثوثة الأشباح والطقوس

في نفق الهواء والتاريخ، في الأقدام والرؤوس

لهذه الجدران

للكتب المدهونة الأوراق والرفوف

بالبطن والشهوة والأسنان

لهذه الأنصاب والأعلام والسيوف

لهذه المساجد الكنائس الدانية القطوف

لهذه الدروب، مرصوفة بالليل للتكايا

علامة الأسرار والغيوب

لكل هذا الزمن المكدس المشحون

بالرسل والسعار والطاعون)

(2)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 148.

(2)

المصدر السابق 2/ 149 - 150.

ص: 1832

وهكذا تتضح حقيقة هذا الاتجاه، في موقفه من الإسلام وكل ما يمثله من عقائد وأفكار وأشخاص وأشياء، وإن ذلك ليعني بكل وضوح وجلاء أن القضية ليست قضية تجديد وتحديث بقدر ما هي قضية تهديم وتخريب.

وإن عاقلًا لا ينتظر من قوم هذه عقائدهم إلّا ما ينتظر من الطوفان الجارف والعاصفة المدمرة، والطاعون الوبيء.

ويعود -كلما حانت فرصة لهواه- إلى مهيار الدمشقي "ذاته وعقيدته" ويتمدّح بقدرته على الإحراق والهدم والتدمير، ثم يصف الجامع بالوقوف والتحير والجمود، في حين أن الطبيعة التي يعبدها من دون اللَّه تسافر وتتحرك وتتقدم، يقول:

(والجامع الواقف كي تسافر الطبيعه)

(1)

.

وفي مكان آخر من هرائه المسمى ديوانًا، خرق لنفسه وأتباعه طقوسًا للافتراس، ومنها المسجد ويحذر منها قائلًا:

(تهيأي أيتها الملل، استيقظي يا قبائل!

هو ذا طقس الافتراس

هو ذا خاتم الطقوس:

جامع، سلطان، ديوان، مرآة، صورة

هيروغليفية مماثلة. . .

سراطين ضبان

زواحف من كل نوع تقتحم الأرض والإنسان يصطاد

السماء

إنه اللَّه.

(1)

المصدر السابق 2/ 162.

ص: 1833

يتقدم

في جنس

حيواني

يتخلف)

(1)

.

سبحان اللَّه وبحمده، سبحان اللَّه العظيم.

أمَّا الملحد الجزائري رشيد بو جدرة، والذي قال عن نفسه بصراحة:(أنا الملحد)

(2)

، ونظيره البربري المعادي للإسلام والعربية كاتب ياسين والذي يتمنى أن اسمه كاتب لينين

(3)

، ويرى أن هذه التسمية شرف له

(4)

؛ فإنهما يريان أن تشييد المساجد وبناء الجوامع القائم على قدم وساق في الجزائر -حسب قولهم- هو دليل تخلف وانحسار ورجعية

(5)

، بل هو نفق صغير يعسر الخروج منه حسب تعبير كاتب ياسين

(6)

.

أمَّا الماركسي الآخر، والرائد الثاني من رواد الحداثة "عبد الوهاب البياتي" فإن استخفافه بالمسجد يجيء على نحو آخر وذلك في قوله:

(المسجد المهجور، والليل الموشح بالنجوم

تتثاءب الأشباح في أبعاده، ويحوم بوم

طلل وبوم)

(7)

.

ونحو هذا القول قول سعدي يوسف:

(1)

المصدر السابق 2/ 417 - 418.

(2)

رأيهم في الإسلام: ص 167.

(3)

و

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 196.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 166 كلام بو جدره، وفي: ص 194 - 195 كلام كاتب ياسين.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 195.

(7)

ديوان البياتي 1/ 195.

ص: 1834

(من مساجد تلك القرى وهي تنهار في ليلها المطمئن)

(1)

.

أمَّا صلاح عبد الصبور فإنه يصف أحدهم بأنه يدعو، ولكن من المدعو؟ إنه إله النعمة الأمين، وهي تسمية تهكمية واضحة المغزى، وبم يدعو؟ أن يرعاه حتى يصلي ويزكي ويبني مسجدًا وكنيسة وخانًا، في مزيج تدنيسي استهزائي جلي المقصد والمعنى

(2)

.

أمَّا النصراني يوسف الخال فإنه يمت إلى بني ملته في الغرب بكل صلة، إلى حد أنه جعل لفكرهم المادي، ومذاهبهم الهدامة في كل جارحة مصلى، لم يستطع من فرط شغفة وحبه لأهل عقيدته أن يخفي مشاعره الفياضة، في الوقت الذي هاجم فيه أبناء المسلمين وبلادهم وديارهم ومساجدهم وامتدح الصلبان والأوثان والجاهلية المعاصرة، يقول الخال:

(شعاع الغرب أي شعاع خير له في كل جارحة مصلى

مددت يدًا نصافحها وفاءً فأنت أحق من يوفي وأولى)

(3)

ويقول محمد الماغوط واصفًا الوحل الذي ينقله القطار العائد من الحرب:

(ينقل في ذيله سوقًا كاملًا

من الوحل والثياب المهلهلة

ذلك الوحل الذي يغمر الزنزانات

والمساجد الكئيبة في الشمال)

(4)

.

ولماذا لم يقل أنه يغمر الحانات والمراقص والمجالس النيابية العلمانية؟؛ لأن هذه المواخير الخلقية أو السياسية أغلى عنده وأعز من

(1)

ديوان سعدي يوسف: ص 139.

(2)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 151 - 152.

(3)

الأعمال الشعرية للخال: ص 88.

(4)

الآثار الكاملة للماغوط: ص 82.

ص: 1835

المساجد التي يلوثها بهذا الوحل ويصفها بالكآبة، وكما يصف بن جلون المساجد بأنها مجال تسكع الشيوخ

(1)

يصفها كذلك نزار قباني في قوله:

(نقعد في الجوامع تنابلًا كسالى

نشطر الأبيات، أو نؤلف الأمثالا

ونشحذ النصر على عدونا من عنده تعالى)

(2)

.

ويشبه معشوقته الدنسة بالمآذن والجوامع فيقول:

(ألاحظت كم تشبهين دمشق الجميلة

وكم تشبهين المآذن والجامع الأموي ورقص السماح

وخاتم أمي)

(3)

.

•‌

‌ المعجزة:

ما يظهر على يد النبي من أمور خارقة للعادات

(4)

، وقد سبق الإشارة إلى موفقهم من النبوة والنبوات ومن الرسل الكرام فى فصل مستقل بذلك

(5)

.

ومن تدنيسهم لمصطلح المعجزة قول محمود درويش:

(صليت من أجل ساقين معجزتين)

(6)

.

وقوله:

(. . . يرسم جسدًا مزدحمًا بالوطن المطحون

(1)

انظر: ليلة القدر: ص 10 ونحو ذلك في مسك الغزالي لحنان الشيخ: ص 45.

(2)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 89.

(3)

المصدر السابق 3/ 460.

(4)

انظر: الكليات: ص 149.

(5)

انظر: ص 1209 - 1367 من هذا الكتاب.

(6)

ديوان محمد درويش: ص 640.

ص: 1836

في معجزة الخبز)

(1)

.

•‌

‌ المقدس:

كل منزه عن النقص والعيب، وقد سبق في مطلع هذا الفصل بيان موقفهم من المقدس عند المدرك الثالث والذي فيه أن من أصولهم "تدنيس المقدس"

(2)

.

•‌

‌ الملائكة:

سبق الحديث عنهم في فصل خاص بهم عليهم السلام، وهو الفصل الأول من الباب الثاني

(3)

.

•‌

‌ النبوة والأنبياء:

وقد سبق الحديث عن ذلك في فصل خاص، بعنوان الانحرافات المتعلقة بالرسل عليهم السلام وهو الفصل الثالث من الباب الثاني

(4)

.

•‌

‌ الهجرة:

هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإيمان، وقد مر عند ذكر الشخصيات كلامهم المدنس عن هاجر أم إسماعيل عليه السلام.

ومن أقوالهم في هذا قول محمود درويش عن محبوبته:

(عيناك يا معبودتي هجرةٌ

بين ليالي الجحد والانكسار)

(5)

.

(1)

المصدر السابق: ص 616.

(2)

انظر: ص 1664 - 1672 من هذا الكتاب.

(3)

انظر: ص 978 - 1045 من هذا الكتاب.

(4)

انظر: ص 1193 - 1367 من هذا الكتاب.

(5)

ديوان محمود درويش: ص 320.

ص: 1837

•‌

‌ الهلال:

يرمز به للإسلام وأهله؛ لأن عباداتهم مبنية على الأهلة؛ ولذلك توجه أدونيس إلى هذا الرمز بعداوته المعهودة قائلًا:

(اليوم ووجه الأرض هلال

اليوم سنقتل هذا العصر)

(1)

.

وكما أن الهلال شعار المسلمين فالصليب شعار النصارى، وقد مر معنا في الفصل الرابع من الباب الأول مقدار تأثرهم بالنصرانية وارتمائهم في مفاهيمها ورموزها وخاصة الصليب، ثم الخطيئة والتكفير، والتثليث.

وكذلك تأثرهم باليهودية وانتشار رموزها بينهم مثل المزمور والإصحاح وسفر التكوين وتأثرهم بالوثنية وخاصة رموز وأسماء الأوثان: عشتار، وأدونيس، وتموز.

•‌

‌ الوعظ:

وهو التذكير بالخير بما يرقق القلب، والتذكير بما يردع عن الشر من الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب

(2)

.

وقد عبثوا بهذا المفهوم الخيّر عبثهم بكل فضيلة، واعتبروا التحرر من الوعظ والواعظين تقدمًا وعصرانية، يقول أدونيس عن نفسه:

(أصعد أتفجر

ألبس الهدير والتهدج

أتموج بالرعب

أتحرر من التوبة، العظة، العودة

أتحرر من الصبر

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 487.

(2)

معجم لغة الفقهاء: ص 506.

ص: 1838

من دمي والتاريخ الراقد فيه)

(1)

.

إنه باختصار ينسلخ من كل ما يمت إلى هذه الأمة بصلة، ويفاخر ذلك ويعتبره صعودًا وتفجرًا ونهضة، ومما يؤسف له أن عمي العقول والقلوب يصفقون له وبه يقتدون!!.

أمَّا نزار قباني فإنه يعتبر المواعظ سمًا، ويعتبر الذين لم يسمعوها أنقياء!! (الأنقياء الذين لم يتسمموا بعد بمواعظنا وأقوالنا المأثورة)

(2)

.

ولذلك جعل من علامات التخلف حسب رؤيته الشعوبية وعقيدته المادية استماع المواعظ، وذلك في قوله:

(ما زلنا منذ القرن السابع

خارج خارطة الأشياء. . .

ما زلنا نقظم كالفئران

مواعظ سادتنا الفقهاء)

(3)

.

ويسوق عبد الرحمن منيف موعظة يتقدم بها أحدهم للآخر في صيغة تهكمية، ثم يعقبها بأن الواعظ يضحك بسخرية من كلامه ووعظه الذي قدمه

(4)

.

•‌

‌ اليقين:

هو الجزم بالشيء، وضده الشك

(5)

، وهو العلم الذي لا شك معه

(6)

.

ودين الإسلام يقوم على اليقين القاطع بالبرهان الجازم والدلائل الثابتة

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 581.

(2)

أسئلة الشعر: ص 202.

(3)

الأعمال الشعرية 3/ 218.

(4)

انظر: مدن الملح 5/ 336.

(5)

انظر: الكليات: ص 66، 212، 588.

(6)

انظر: التعريفات: ص 259.

ص: 1839

في حقيقته، وفي اعتقاد المؤمنين به؛ ولذلك وقف أهل الحداثة ضد مفهوم "اليقين" وحاولوا تدنيس صفائه بالشبهات الباطلة والأراجيف الكاذبة، بل حاولوا إزحة هذا المفهوم بالكلية فأصلوا لذلك أصلًا هو أنه:(ليس هناك حقائق مطلقة، وليس هناك يقين قاطع) وخاصة فيما يتعلق بالدين عقيدة وشريعة، ولذلك اعتنقوا بعبودية كاملة مذهب الشك الديكارتي وقدسوه وجعلوه منطلقًا من أساسيات منطلقاتهم.

وفي هذا المعنى يقول كاهنهم أدونيس (لم تعد هناك حقائق مطلقة، ولا أشكال ثابتة)

(1)

.

ويجترئون بكل وقاحة على العلم والعقل ويقولون: (إن العلم المعاصر لم يعد ينظر إلى "الحقيقة" على أنها كيان بسيط وهوية متجانسة يُمكن عزلها وفصلها عما عداها، ومن ثم القبض عليها نقية من كل الشوائب بحيث يُمكن وضعها في حقل مستقل، والنظر إليها منفصلة عن سواها. . . إن الحقيقة مفهوم شديد التعقيد وعرضة للتغير)

(2)

.

ولو أن الأمر كما يزعم هذا الواهم الجازم، لما سارت الحياة في شعبها العديدة، ولأضحى البشر يتخبطون في شعاب الأوهام بلا طائل ولا غاية.

وإذا كان هذا يؤمن بالعلم المعاصر فأين هو عن الحقائق التي أثبتتها المكتشفات والمخترعات، والتي أصبحت عند الناس من الحقائق الثابتة الجازمة؟ ثم هو في نفيه وقطعه بعدم وجود حقيقة منفصلة، أليست هذه عنده حقيقة قاطعة جازمة؟! وهذا القول يذكرنا بمذهب السوفسطائيين، ولا غرو أن يكون القوم بهذا المستوى من الضحالة والجهل والضلال، فهم قد حاربوا الحقائق واليقين، واعتنقوا الحداثة التي هي (وعي المتاهة إذ

(1)

زمن الشعر: ص 287.

(2)

قضايا وشهادات 2/ 174 والقول ليوسف سلامة.

ص: 1840

تغدوا المتاهة هي الحقيقة الواقعية الوحيدة، بعد أن مات الإنسان بموت اللَّه عبر قرن من تلاشيه التدريجي)

(1)

.

سبحان اللَّه الحي القيوم.

فهم مع فرارهم من إثبات أي يقين أو أي حقيقة، يؤمنون بأوهام المتاهات وسراب الضياع والعدمية، وهذا هو أبعد آفاقهم، وأرفع قاماتهم، وفيه خير دليل على هوانهم وحقارة مبادئهم وأفكارهم.

خذ من ترهاتهم هذا المثال الذي سطره أحدهم: (بين أكوام الكلام الذي قرأته عن سلمان رشدي وروايته "الآيات الشيطانية" في صحف العالم المختلفة طوال الأسابيع الماضية، صفعني قول للمخرج السينمائي الراحل، الأسباني الأصل، لويس بونويل يقول: "إنني أعطي حياتي لأي إنسان يبحث عن الحقيقة، لكنني على استعداد؛ لأن أقتل أي إنسان يعتقد أنه وجد الحقيقة)

(2)

.

فوعي المتاهة عندهم حقيقة، وكلام الأسباني أو الفرنسي أو الأمريكي حقيقة، وسخرية المرتد سلمان رشدي بالإسلام بحث عن الحقيقة، أمَّا الإسلام فليس حقيقة، وليس يقينًا، وهذا ما صرح به أدونيس في مطالبته بـ (وضع هذه الثقافة "يقصد الثقافة العربية الإسلامية" بأصولها الدينية والإلهية موضع تساؤل أو شك أو رفض)

(3)

.

وهذا هو غايتهم في طرح هذه الشبكة الشائكة المتداخلة من الشكوك والأوهام والخبط والاضطراب. وفي إحدى جلسات ندوة الإسلام والحداثة يعقب أحدهم على ورقة بعنوان "حرية المسلم وشمولية الدين" فيقول: (إنني رجل علماني وبطبيعتي لا ديني، أحترم معتقدات الآخرين الدينية، لكنني

(1)

قضايا وشهادات 2/ 286 والقول لعبد الرزاق عيد.

(2)

الناقد، العدد العاشر نيسان 1189: ص 5، والقول لرياض نجيب الريس رئيس التحرير.

(3)

زمن الشعر: ص 41.

ص: 1841

لا أقر من بالدين، ولست مؤمنًا، إني إنسان قبل أن أكون مسلمًا أو عربيًا أو فلسطينيًا)

(1)

.

وقبل هذا شرح أصل نظرته العلمانية في الموقف من الحقيقة قائلًا: (الموقف العلماني يقول بالحقيقة الصغيرة المحلية القائمة على التحليل والحجة والفعل والبرهان، ولا ينبثق من حقيقة شاملة كلية تنبثق من نص مقدس ومن كلمة إلهية. . .)

(2)

.

هنا يُمكن ملاحظة أن نفي الحقيقة عن الإسلام والوحي هو المعتمد الأصلي والمقصد الحقيقي، في مقابل إثبات الحقيقة القائمة -حسب دعواهم- على التحليل والحجة والعقل والبرهان، لمن هذه كلها؟ إنها للعلمانية اللادينية!! والتي هي أبعد في حقيقتها وواقعها وممارستها عن هذه الأوصاف التي أُغدقت عليها، إغداق الجاهلى أوصاف حبه وعشقه ورجائه على الوثن المعبود من دون اللَّه!!.

بيد أنه ينبغي الالتفات إلى أن بعضهم يتطرف فينفي أي يقين وأي حقيقة، وبعضهم يخص بنفيه ما يتعلق بالدين، بل يخص دين الإسلام من بين الأديان، وكلا المسارين يصبان في مقصد واحد هو إسقاط وتهديم الدين جملة وتفصيلًا.

وممن سلك المسلك الأول جابر عصفور، الذي يتحدث عن الإسلام والحداثة، ملغيًا الإسلام وساعيًا في تهديم أصوله ومبانيه من خلال الأغاليط والأكاذيب والجهالات المتراكمة لديه، في نبرة خطابية، وصيغة تدميرية، وحقد أعمى، وساعيًا في الوقت ذاته إلى إقامة صروح الرماد الحداثي، وترسية أعمدة الأوهام العلمانية، وتعميق أركان السراب المادي الإلحادي، وبعد أن ساق جملة من المقارنات الخاسرة تحدث عن الحداثة بأنها تنظر إلى الإنسان باعتباره إلهًا (إنه الفاعل الذي يحرك زمنه بتمرده، وبما يمارسه من حريته التي تجعل منه صانع تاريخه في زمان يتقدم ولا ينكص، يتطور

(1)

و

(2)

الإسلام والحداثة: ص 124.

ص: 1842

ولا يتخلف. . . حيث يضيف السابق إلى اللاحق لا على سبيل الائتساء والاتباع بل على طريق الابتداع والانقطاع، وإذ ينفي هذا الفهم عن خطاب الحداثة الثنائية الخبرية، الملازمة لمقولتي الزمن والإنسان، فإنه ينفي الثنائية المتضمنة لعلاقة الأعلى والأدنى. . . وينتفي معنى الحقيقة الجاهزة، القبلية السابقة الصنع، التي ينقلها الأعلى إلى الأدنى، ويحل محله مقابل لحقيقة نسبية، متغيرة، في حالة صنع دائم، تتشكل في خطاب حواري، يسهم كل أطرافه في إنتاجه)

(1)

.

لماذا كل هذا الدوران والتلاعب بالألفاظ؟ ولماذا الاستتار خلف الألفاظ الموهمة والعبارات الملتبسة؟ ألا يستطيع أن يقول بصراحة أن الحداثة تنفي علاقة الإنسان بربه، بدلًا من قوله أنها تنفي علاقة الأعلى والأدنى؟ ثم ألم يكن ممكنًا له أن يقول بجلاء بأن الحداثة ترفض قبول الدين والوحي، بدلًا من قوله: إنها تنفي معنى الحقيقة الجاهزة القبلية السابقة الصنع؟ لقد كان بإمكانه أن يقول ذلك بصراحة، ولكنها خطة "خداع المصطلحات" و"أضاليل العبارات" و"أباطيل المفاهيم" إنها الخطة القديمة الجديدة التي يعتمد عليها بنيان النفاق: الخداع والكذب الرياء، كما قال اللَّه تعالى عنهم:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}

(2)

.

فهم حين يظهرون الإسلام واحترامه، ويبطنون البغض والعداوة له، يحسبون أنهم يخادعون اللَّه والمؤمنين، ولكنهم في حقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على الخداع والمراوغة والتلاعب والاحتيال، غير أن الواقع يشهد بأنهم لا يخدعون إلّا أنفسهم المريضة وأذهانهم الكليلة، وقال اللَّه تعالى عنهم:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}

(3)

.

(1)

المصدر السابق: ص 189.

(2)

الآية 9 من سورة البقرة.

(3)

الآية 14 من سورة المجادلة.

ص: 1843

وقال -جَلَّ ذِكرُهُ-: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

(1)

.

وجاء في بعض الآثار عن السلف: "رأس النفاق الذي ينبني عليه النفاق الكذب"

(2)

.

(زرع النفاق ينبت على ساقيتين، ساقية الكذب، وساقية الرياء، ومخرجهما من عينين، عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة، فإذا تمت هذه الأركان الأربع، استحكم نبات النفاق وبنيانه، ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هار فإذا شاهدوا سبل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق، أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ})

(3)

(4)

.

نعم ليسوا سواء في دركات الحداثة والعلمانية، فبعضهم يتوارى خلف العبارات والمبهمات من المعاني، وبعضهم يصرح ويرسل نتن فكره على الناس ويكشف سوأته للناظرين، ومن ذلك انتقاد العلماني الملحد عادل ظاهر للعلماني المتواري حسن حنفي حيث قال:(لدي ملاحظة حول محاضرة الدكتور حسن حنفي وتعليقان، والملاحظة تتعلق بقوله: إن العلماني يفترض بأن النص الديني مطلق أو ما أشبه بذلك، الواقع إنني أعجب كل العجب من هذا الكلام، كيف يُمكن للعلماني أن يقول مثل هذا الكلام، إذ ليس هناك من شيء مطلق عند العلماني إطلاقًا، إن السمة الأساسية للعلماني -إن كنت هناك سمة أساسية له- هى نفيه لإمكان أن يكون أي شيء "مطلقًا")

(5)

.

(1)

الآية 42 من سورة التوبة.

(2)

صفة النفاق للفريابي عن الحسن البصري: ص 22.

(3)

الآية 39 من سورة النور.

(4)

صفات المنافقين: ص 37.

(5)

الإسلام والحداثة: ص 209.

ص: 1844

ولعل عادل ظاهر لم يدرك المرمى الذي رمى إليه حسن حنفي من إطلاق هذه العبارات الإبهامية، أو أنه أدرك ولم يرد أن يكون صاحبه بهذا المستوى من التواري والاجتنان!!.

وقد أجاب حسن حنفي على اعتراض صنوه عادل ظاهر بقوله: (عندما قلت بأن العلمانيين يتصورون بأن النص مطلق "المراد نص القرآن والسنة" كان في ذهني أن نقد العلمانيين لما يقوله السلفيون بأن النص مطلق هو نقد صحيح، وبالفعل فإن النص -كما حاولت أن أبين- هو متداخل في الزمان والمكان وفي المجتمع ومع الأشخاص، وهذا مجرد إسراع في التعبير، أما في ما يتعلق بخطورة ذلك على الإيمان، فنحن قد ورثنا إيمان المسلم عبر التاريخ. . . فأنت تعني الإيمان السلفي التأريخي والمتوارث عبر التاريخ، وهو الشيء الذي تخافه عليّ، لذلك فإن إيماني يكفرني، كما أنه يكفرك أيضًا)

(1)

.

قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}

(2)

.

وما زلنا في ميدان نفيهم لليقين والحقيقة الذي يعتبرونه من أهم منجزاتهم، كما يقول المتفرنس أركون (من منجزات الحداثة العقلية ألا وهو نسبية الحقيقة، ونسبية الحقيقة تتعارض جذريًا مع مطلق الحقيقة أو الاعتقاد بوجود الحقيقة المطلقة كما ساد سابقًا في كل الأوساط الدينية)

(3)

.

وفي هذا القول وأشباهه تداخل قوي مع المذهب السوفسطائي فهم ينفون وجود حقيقة مطلقة، وهذا نفي مطلق وحقيقة مطلقة لديهم ويقين ثابت عندهم!!.

لكنهم في عماية حقدهم على الإسلام المستهدف بنفيهم لليقين

(1)

المصدر السابق: ص 217.

(2)

الآية 14 من سورة البقرة.

(3)

الإسلام والحداثة: ص 362.

ص: 1845

والحقيقة لم يفطنوا إلى ذلك ولا إلى الأوهام المادية الإلحادية التي اعتنقوها على أنها حقائق وثوابت ويقينيات، ومن أظهرها قولهم بنسبة الحقيقة، وقولهم بالتطور المطلق وعدم الثبات.

وبعضهم لم يستطع تجاوز أنهم يقررون أمورًا يعتبرونها حقائق ثابتة، كما قال العلماني المستغرب هشام شرابي:(إن الحقيقة الكلية الشاملة التي ميزت وعي ما قبل الحداثة "الخطاب الأبوي التقليدي" تذوب ويحل محلها حقيقة من نوع آخر، حقيقة تنبثق عن وعي محدد ومن ممارسات إنسانية اجتماعية محددة، ومن نشاطات حرة خلاقة، لا من وحي إلهي أو من حقيقة أزلية)

(1)

.

ويُمكن أن نلاحظ التعبير الكنسي "البابوي" الذي سيطر على هذا العلماني في بحثه المتقدم في ندوة الإسلام والحداثة بحيث ذهب في شعاب العلمانية، ينفي السلطة الأبوية كما تلقى ذلك عن فلاسفة الغرب الذين قالوا بنفي السلطة الأبوية، أو البابوية الكنيسية في خضم الصراع الطويل مع الدين المنحرف والكنيسة الظالمة، ثم يأتي هذا المقلد متطاولًا بهذه المعاني على أساس أنها من بنات فكره، وقد ذكر هذه الخاصية الموجودة لدى الحداثيين أحد نقاد الحداثة في كلامه عن أحد المؤلفين الحداثيين ويبين (أنه اقتطع بعض أجزاء متفرقة من الكتاب الأجنبي ثم ترجمها مع بعض التصرف أو الاختصار ثم ربط بين هذه الأجزاء المبعثرة بطريقة الربط التي شاعت في كثير من الكتب خلال العشرين عامًا الماضية، وهي طريقة يعلم الكافة الآن أن لها خصائص محددة، من بينها إنك يا عزيزي القارئ ينبغي أن تضرب رأسك في الحائط حتى تفهم، وإذا لم تفهم فهذا أفضل، لأنك في هذه الحالة لن تكتشف طريق التزوير التي لجأنا إليها، وستظل تحس بالقصور تجاه هذه العلوم الجديدة التي لا يفهمها إلّا جنس ثالث من المثقفين الذين لا يمتون إلى العرب ولا إلى العجم بأية صلة!!)

(2)

.

(1)

المصدر السابق: ص 376.

(2)

نقد الحداثة لحامد أبو أحمد: ص 80.

ص: 1846

وكما أثبت شرابي إيمانهم بالحداثة والعلمانية كحقيقة، مع نفيهم وجود أي حقيقة مطلقة، فكذلك فعل أنسي الحاج الذي قرر بكل جرأة بأن (الشعر هو الحقيقة)

(1)

.

وهو القائل في مكان آخر مادحًا أستاذه أو قل تلميذه: (أفضل ما في الشيطان أنه على عكس أهل التعصب لا يدعي امتلاك الحقيقة)

(2)

.

يُمكن هنا ملاحظة التناقض بوضوح بين القولين، ولكن ذلك لا يهم في سوق الحداثة؛ لأنها حداثة الفوضى والجنون والتخريب والهدم والنسف والعبث كما اعترفوا بذلك مفاخرين!!.

أمَّا معين بسيسو فإنه يصور أن الحقيقة والحق لا تكون إلّا كفرًا، أو أنها لا تكون إلّا ماركسية على نحو ما كانوا يسمون الصحيفة الناطقة باسم الحزب في موسكو "البرافدا" أي الحقيقة، ثم اتضح للناس أن هذه التسمية ليست إلا على غرار تسمية العرب القدماء الأعمى بصيرًا والملدوغ سليمًا!!.

يقول بسيسو:

(إنني أكتب الحقيقة لكن ثورة الحق في بلادي كفر)

(3)

أمَّا عبد العزيز المقالح التائه ما بين الشيوعية الماوية الصينية والبعثية والناصرية، ثم أخيرًا في سراديب الليبرالية الأمريكية، فإنه لم يصل إلى الحقيقة ولم يعرفها كما سجل ذلك في مقطوعته "الحقيقة"{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}

(4)

، ومما قاله في هذه المقطوعة:

(تتبعت آثار أقدامها في المغارات

فوق المحيطات عبر جميع البلاد

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 323.

(2)

خواتم: ص 65.

(3)

الأعمال الشعرية بسيسو: ص 60.

(4)

الآية 124 من سورة طه.

ص: 1847

سألت الملايين من عاشقيها. . .

تراءت لعيني عمودًا من النور خلف ظلال المساء

على صفحات كتاب قديم

بعيني فتاة تصلي

بوجه دميم

بمنقار عصفورة تذرع الحقل

في دمع طفل يتيم

تقربت منها تلاشت

وعذبني هجرها المستديم. . .

وفتشت عنها عيون النهار وقلب المكان

فلاحت على البعد لكنها كالشهاب

اختفت من جديد

فعدت كما كنت، عاد الشريد

وعمري قصير، ودربي إليها بعيد بعيد)

(1)

.

قال اللَّه تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}

(2)

.

أمَّا الباطني أدونيس فإنه مع نفيه لوجود حقيقة كما سبق ذكره

(3)

، إلّا أنه يعترف بوجود حقيقة، كيف ذلك؟! هكذا هو جُبُّ الحداثة يجمع كل المتناقضات!!.

(1)

ديوان المقالح: ص 80 - 82.

(2)

الآية 46 من سورة الحج.

(3)

انظر: زمن الشعر: ص 278.

ص: 1848

ثم يتبرعون بالأوصاف الخالبة كقولهم: "حيوية فكرية، تجديد ثقافي، حوار أفكار" إلى آخر ما هنالك من الدعاوى والأباطيل، يقول أدونيس في حديثه عن "التماهي" والاتحاد والوحدة الصوفية السوريالية الوثنية (الصوفية سوريالية تقوم على البحث عن المطلق والتماهي أيضًا معه. . . إن الحقيقة في مثل هذه اللحظة لا تجيء من خارج من الكتاب أو الشرع أو القانون أو الأفكار والتعاليم وإنّما تجيء من داخل، من التجربة الحية من الحب ومن التواصل الحي مع الأشياء والكون)

(1)

.

إنه يريد عسف الأمور كلها وجعلها في حقل الباطنية، الملة التي نشأ عليها وترعرع، ولذلك أثبت هنا الحقيقة، وفي زمن الشعر نفى وجود الحقيقة.

ونفى اليقين في موضع آخر قائلًا:

(أعوذ بأسمائنا من علم اليقين

اليقين شرك الضمائر

والمعرفة أن تعلم - وتجهل)

(2)

.

وسوف يكون لهم يوم يقولون فيه {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}

(3)

.

أمَّا أهل اليقين والإيمان فإنهم يمتثلون أمر اللَّه تعالى لنبيه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}

(4)

.

•‌

‌ اليوم الآخر وما يتعلق به:

سبق الحديث عن ذلك في فصل خاص بذلك

(5)

.

(1)

الصوفية والسوريالية: ص 16.

(2)

الأعمال الشعرية 2/ 650.

(3)

الآية 12 من سورة السجدة.

(4)

الآية 60 من سورة الروم.

(5)

انظر: ص 1374 - 1451 من هذا الكتاب.

ص: 1849

‌الفصل الثاني محاربة الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره

(تحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة اللَّه وحده دون ما سواه)

(1)

فكما أمر سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له فقد أمر بتحكيم شرعه وحده دون غيره، وكما يقع الإشراك في العبادة يقع في الحكم، قال اللَّه تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}

(2)

.

وهذه القضية قاعدة محكمة وأصل ثابت وأساس مكين في هذا الدين، وليس الخلاف فيها -من حيث حقيقتها وأصلها وحكمها- مما يسوغ فيه الخلاف، أو يتسع فيه النظر والاجتهاد.

فكما أنه لا يتسع الخلاف في قضية العبادة في الصلاة لغير اللَّه والركوع أو السجود أو الدعاء فكذلك لا يتسع الخلاف في قضية الحكم (إذ مضمون الشهادتين أن يكون اللَّه هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون

(1)

كلمة جليلة للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله المفتي السابق للمملكة ورئيس القضاة والشؤون الإسلامية، فتاوى ومسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 12/ 251، والمراد بيان منزلة تحكيم شرع اللَّه من دين الإسلام، وهو جزء من عبادة اللَّه تعالى، وليس قسيمًا لها.

(2)

الآية 21 من سورة الشورى.

ص: 1850

الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتبع، المحكم ما جاء به فقط)

(1)

.

إن أمر الحكم بما أنزل اللَّه تعالى واجب على الأعيان لا مرية في ذلك ولا اشتباه، بل هو من المحكمات البينات في دين الإسلام، لتعلقه بأصل الدين، وارتباطه بالإيمان باللَّه رب العالمين.

قضية الحكم بما أنزل اللَّه تعالى ليست من القضايا التي يُمكن التعامل معها على أساس اختياري، بل هي قضية ملزمة لا يثبت عقد الإسلام ابتداءً إلَّا بوجودها، وقضية ينقسم الناس عندها إلى مؤمنين وكافرين، وموحدين ومشركين، فمن حقق هذه القضية مع الأركان الأخرى فهو المؤمن الموحد، ومن جحدها أو شك في لزومها فقد نقض عقد الإسلام وخلع ربقة الإسلام من عنقه، إذ القبول لها قبول بالإسلام، والمماراة فيها أو التردد في قبولها أو الارتياب في وجوبها، مماراة وتردد وارتياب في الإسلام نفسه.

وتقوم هذه القضية العظيمة على عدة أسس:

الأول: أن اللَّه هو خالق الإنسان والحياة، ومن خلق وأوجد من عدم فله حق الأمر وتجب له الطاعة {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

(2)

، فمن رضي باللَّه ربآ وأقر بأن اللَّه تعالى هو الخالق المالك المتصرف وجب عليه أن ينصاع لأمره وبصدق بخبره، وهي حقيقة الرضا باللَّه ربًا، تتجلى في الإقرار بالأمر الكوني والشرعي للَّه العلي سبحانه وتعالى، وفي الإقرار للَّه تعالى بأمره وتدبيره الكوني القدري، والإقرار والتسليم لأمره وتدبيره الشرعي، فمن أقر بأن اللَّه خالق مالك متصرف ولكنه جحد أن يكون له الحكم والتشريع، فإنه قد تناقض في إقراره بالربوبية وجحده للألوهية، ولا ينفعه ذلك، بل قد حل عقد الإسلام من نفسه، وخلع ربقة الدين من عنقه.

وهذه القضية هي التي حصل فيها النزاع بين الرسل وأتباعهم وشياطين الإنس والجن وأتباعهم، فأكثرهم يقر بأن اللَّه خلق الخلق وبيده الملك والتصريف للكون والحياة والإنسان، ولكنه ينازع في حق اللَّه تعالى في الأمر

(1)

المصدر السابق 12/ 351.

(2)

الآية 54 من سورة الأعراف.

ص: 1851

الشرعي ويدعي -بلسان حاله أو مقاله- أن له المشاركة مع اللَّه -جلَّ وعلا- في وضع الشرائع والمناهج.

وصفوة القول في هذا المقام أن توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن اللَّه هو الخالق وحده والمالك والمتصرف وحده لا يستقيم في قلب إنسان إلّا إذا أقر بأمر اللَّه الشرعي، وأيقن أن للَّه وحده السيادة العليا والتشريع المطلق، وله الطاعة المطلقة والأتباع والقبول، فلا دين إلّا ما شرعه اللَّه ولا حلال إلا ما أحله اللَّه ولا حرام إلّا ما حرمه اللَّه، ومن أجاز للناس اتباع شريعة غير شريعته، أو استحل ذلك أو رأى أن شريعة غير اللَّه مساوية لشريعة اللَّه أو أفضل منها فهو كافر مشرك ولو صلى وصام وحج وزكى وبنى المساجد وتصدق وزعم أنه مسلم.

الثاني

(1)

: إن الأمم الكافرة التي أرسل اللَّه إليها الرسل كانت تؤمن بربوبية اللَّه تعالى، وتؤمن بوجوده، وتؤمن بأنه خالق كل شيء ومالك كل شيء والمتصرف في كل شيء، ومع ذلك أرسل اللَّه إليهم الرسل وأنزل الكتب؛ وعلة ذلك أنهم مع إقرارهم بالربوبية والخلق والتدبير الكوني، كانوا يجحدون حقه -جلَّ وعلا- في الأمر والحكم الشرعي، وكانوا لا يفردونه سبحانه في هذا، بل يتخذون معه أو دونه أربابًا من الأصنام أو الآلهة الباطلة أو الأعراف والتقاليد، أو النظم أو الأحبار والرهبان أو غير ذلك من الأنداد والشركاء؛ لأجل هذا بعث اللَّه الرسل وأنزل الكتب وحصل الصراع الطويل بين الفئتين؛ وسبب ذلك أنهم لما نازعوا في الأمر الشرعي، وردوا حكم اللَّه وشريعته كانوا في الحقيقة منازعين في ربوبيته؛ لأن مقتضى الإقرار بالربوبية يلزم منه الالتزام بشرع الرب الخالق المالك المتصرف، ومن اعتقد أن اللَّه تعالى خالق الناس وجب عليه أن يلتزم بالتحاكم إلى شرع خالق الناس، فكما أن الخلق كله للَّه وحده لا ينازعه فيه أحد، فإن الأمر كله للَّه لا يشاركه فيه أحد {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

(2)

.

(1)

وهذا الوجه بمثابة البسط والشرح للوجه الذي قبله.

(2)

الآية 54 من سورة الأعراف.

ص: 1852

ولو كانت تلك الأمم المقرة بربوبية اللَّه تعالى تُعتبر عند اللَّه تعالى أممًا مسلمة لما أرسل اللَّه إليها الرسل، ولما سلط عليهم رسله وعباده في الدنيا، وأنزل عليهم عقوبته ومقته وغضبه، ولما توعدهم بالعذاب والخلود في نار جهنم أبد الآبدين.

بل إن اللَّه تعالى أخبرنا أن هؤلاء الذين يجحدون الحق ويكذبون الرسل ويردون أمر اللَّه الشرعي مع إقرارهم بالربوبية، ليسوا سوى مشركين، قال اللَّه تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُوبون (90)}

(1)

.

وقال -جَلَّ شَأنُهُ وتَقَدَّسَتْ أَسمَاؤُهُ-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (33)}

(2)

.

وقال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}

(3)

.

(1)

الآيات 84 - 90 من سورة المؤمنون.

(2)

الآيتان 31، 32 من سورة يونس.

(3)

الآيات 61 - 63 من سورة العنكبوت.

ص: 1853

فمع إقرارهم بالربوبية ولوازمها إلا أنهم عند اللَّه تعالى ما زالوا مشركين كافرين.

الثالث: وجوب التفريق بين حقيقة الألوهية، وماهية النفس البشرية، وهذا الفصل بين القضيتين هو أساس إيمان المؤمنين، كما أن عدم الفصل بينهما هو أساس كفر الكافرين وإشراك المشركين.

فاللَّه تعالى له الصفات العليا التي لا يشابهها صفات، متفرد في كماله وجلاله، عظيم في صفاته وأعماله، ليس فيه نقص، فهو الكامل الكمال المطلق، وليس فيه عيب، فهو المنزه عن كل النقائص والعيوب، (يدبر أمر الممالك ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقضي وينفذ، ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول،. . . والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعد إليه بالأمر ونازل من عنده به، وأوامره ومراسيمه متعاقبة على تعاقب الأيام

(1)

، نافذة بحسب إرادته، فما شاء كان كما شاء في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذراته، يقلبها ويصرفها ويحدث فيهما ما يشاء، وقد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السر. . .، له الخلق والأمر وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة. . . شملت قدرته كل شيء، ووسعت رحمته كل شيء ووسعت نعمته كل حي. . . يغفر ذنبًا ويفرج همًا، ويكشف كربًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا،

(1)

في المطبوع: الآيات، ولعل الصواب ما أثبته.

ص: 1854

ويعلم جاهلًا، ويهدي ضالًا، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانيًا، ويشبع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبارًا، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن من روعة، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، ولا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور: لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار،. . . قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزمة الأمور معقودة بقضائه وقدره، الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه. . .

ولو أن أشجار الأرض كلها -من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا- أقلام والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعده مداد، فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى، وكيف تفنى كلماته جل جلاله وهي لا بداية لها ولا نِهاية؟ والمخلوق له بداية ونهاية فهو أحق بالفناء والنفاد، كيف يفني المخلوق غير المخلوق؟ هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس دونه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى، أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم، حلمه بعد علمه، وعفوه بعد رحمته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته، هو الملك لا شريك له، والفرد فلا ندّ له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له، ولا صاحبة له، والعلي فلا شبيه ولا سمي له، كل شيء هالك إلَّا وجهه، وكل ملك زائل إلّا ملكه، وكل ظل قالص إلَّا ظله، وكل فضل منقطع إلَّا فضله، لن يطاع إلَّا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلَّا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده

ص: 1855

علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} )

(1)

(2)

.

وهذه قطرة من بحر صفاته جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وبعض ما يستحقه من جلال وجمال وكمال، وكيف لا؟ وهو الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

(3)

، وهو الذىِ لا نظير له {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}

(4)

فما من كمال إلَّا واللَّه أكمل منه، وما من جلال إلَّا واللَّه تعالى أجل وأعظم منه، وهكذا جاءت شريعته سبحانه وتعالى، كاملة غاية الكمال، شاملة كل الشمول، عادلة أعمق العدل، وافية أتم الوفاء، لا عيب فيها ولا نقصان، ولا ظلم فيها ولا عدوان، بل هي المبرأة من كل العيوب لكمالها، النقية من كل خلل ونقص لكمال مشرعها والحاكم بها، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

(5)

.

فهذه هي حقيقة الألوهية، بل بعض حقيقتها.

أمَّا الإنسان، فهو مخلوق بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، أوجده اللَّه من العدم، وبرأه وأحياه، فهو محكوم بطبيعته من أول لحظة خلق فيها، ليس كليًا ولا مطلقًا، وليس أزليًا ولا خالدًا في الدنيا، يعيش في حالة الاضطرار دائمًا، فقير إلى من يحيه ويغذيه ويريبه وينميه ويحفظه، والفقر وصف دائم له أبدًا لا يُمكن أن ينفك عنه، وإن خيل لنفسه أنه استغنى في بعض مراحل عمره فإنه لا يُمكن له أن يدبر أمر نفسه إلَّا بمعين، ولا يُمكن له أن يخلق شيئًا ولو ظاهره كل المخلوقين، كما لا يستطيع رزق أحد ولا إعزازه ولا إذلاله إلَّا بمشيئة اللَّه رب العالمين، وفي حيز ضيق من الحياة، أمَّا الإحياء

(1)

الآية 82 من سورة يس.

(2)

الوابل الصيب: ص 75 - 77.

(3)

الآية 11 من سورة الشورى.

(4)

الآية 4 من سورة الإخلاص.

(5)

الآية 3 من سورة المائدة.

ص: 1856

والإماتة وتقليب الأيام وتداول الدول وتصاريف القدر فليس للإنسان في ذلك قدرة، وإن كان آلة وسببًا في بعض الأحيان.

نعم للإنسان إرادة واختيار، ولكن ليست كل مراداته تنفذ، وليس كل اختياره يقع، بل قد يريد شيئًا ويصبح ضرًا علييه، ويختار شيئًا فينقلب شرًا عليه، فما كل ما يشاؤه الإنسان كائن لا في الوقت ولا على الوجه الذي يشاء، بل المشاهد أنه إن وقع فإنه يقع زائدًا أو ناقصًا أو متقدمًا أو متأخرًا.

وللإنسان أمر وسلطان -بحسبه- ولكن سلطانه -لو كان له سلطان الأرض كلها- سلطان ناقص وأمره محدود غير نافذ، يحده الاضطرار، وينقصه من شاء إذا استطاع، ثم سلطانه ليس شاملًا لكل شيء فقد يحكم أرضًا وفيها من يقاومه ويحاربه ويغالبه، وله سلطان على مكان، وخلف جدار ذلك المكان يحدث ما لا علم له به وما لا قدرة له على دفعه.

وللإنسان عقل وإدراك ولكنه محدود بحدود الطبيعة البشرية المخلوقة، فقد كان بلا عقل عندما خلق في الرحم ثم نزل إلى الأرض، ثم بدأ يميز قليلًا قليلًا ويزداد من المعارف والمعلومات شيئًا بعد شيء، ويتنقل في سلم المعارف لحظة بعد أخرى حتى يدرك، ويعقل ثم حتى يبلغ أشده إلى أن يشيخ وهو في كل ذلك -وإن أوتي أكبر عقول أهل الدنيا- تشتبه عليه الأمور، وتتغير عنده الآراء، وتنتقض عنده العزائم، وتختلط عليه القضايا، وتضطرب عنده الموازين، هذا كله في الأمور التي يدركها بعقله، وهي ولو كثرت ليست سوى قطرة صغيرة من محيطات المعلومات والآراء والقضايا، فهو مع عجزه التام عن الإحاطة بكل المعلومات والمدركات، هو عاجز أيضًا عن الإحاطة بكل تفصيلات ما وصل إلى علمه وإدراكه، بل في تناقض رأيه، وانتقاض عزمه، وتبدل وجهته، وأسف نفسه على فعل ما فعل أو ترك ما ترك دليل على محدودية عقله وانحصار إدراكه.

ولو كان الإنسان أذكى أذكياء الدنيا فإنه يشغله رأي عن رأي وسمع عن سمع ورؤية عن رؤية، وتغلطه المتشابهات من الآراء والمسموعات والمرئيات، ويشغله بعضها عن بعض، لا يستطيع الإحاطة بنفسه علمًا فضلًا

ص: 1857

عن الإحاطة بغيره، يحجب سمعه الجدار، وتحجب رؤيته الأستار، ويحجب إدراكه للأمور على تمامها ما غاب عنه من تفاصيلها ومجرياتها ونتائجها.

أمَّا إدراكه للسر الخفي في ضمير نفسه أو ضمائر غيره، من خطرات القلوب، وأحاديث النفوس فهو أعجز عنه، فضلًا عن عجزه الكامل عن إدراك ما سوف يحدث في المستقبل من حوادث ونوازل وخطرات وحركات.

وللإنسان ملك، ولكنه ملك محدود مسلوب، أتاه بعد أن لم يكن في يديه، وذاهب عنه بعد أن استولى عليه، وهو في حال امتلاكه لا يستطيع أن يمنع عنه كل الآفات، ولا أن يحفظه من كل البليات، بل قد يملك ما فيه ضرره، ويترك ما فيه خيره وصلاحه، وقد يتمسك بما فيه هلاكه وهو لا يدري، ويفرط في ما فيه نجاته وهو لا يعلم.

ولا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة وإدراك أن يدفع عن نفسه -فضلًا عن غيره- ورادات الهموم والغموم، بل لا يستطيع أن يكشف كربة نفسه أو يجبر كسرها، أو يغني نفسه من الفقر إلَّا بإرادة اللَّه -جلَّ وعلا-، وكذلك أفعاله الأخرى في الهداية من الضلالة وإرشاد الحائر وإغاثة اللهفان وفك العاني وإشباع الجائع، وكسوة العاري، وشفاء المريض، وغير ذلك، فإنه لا يقدر على هذه الأفعال إلَّا بمشيئة اللَّه عز وجل، بل قد يريد فعل لشيء من ذلك فينعكس عليه الأمر، ويضطرب عليه الحال، وتنقلب الأمور رأسًا على عقب، فلا يعلم لم حصل ذلك كما أنه لا يقدر على دفع ذلك؛ لاستيلاء العجز عليه، ولمحدوديته الكاملة، وبشريته العاجزة.

والإنسان مع عقله وإدراكه، يفقد ذلك كل يوم بالنوم، ويفقد أحيانًا بالإغماء أو بالجنون أو بغير ذلك من العوارض، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه أثر هذه الأمور، بل هو يطلب النوم ويحتاجه، وتدركه السنة ويغلبه الوسن، ولا يقدر على دفع ذلك كما لا يستطيع دفع الضعف والخرف في العقل إذا كبرت به السن وتطاول به العمر.

والإنسان مع عقله وإدراكه تغلبه على عقله -أحيانًا- الشهوة،

ص: 1858

والغضب، والحزن والفرح، فيتصرف في تلك الأحيان تصرف الأحمق، ويتحرك حركة المجنون، ويعمل ويقول ما يتندم عليه، أو ما يتعجب من حصوله منه بعد ارتفاع هذه الواردات عنه.

والإنسان فيه -إلَّا من رحم اللَّه- أخلاط الأخلاق الرديئة، ورعونات النفس الأمارة، وفيه الشهوة العارمة، والأنانية الذاتية، والحسد، والأثرة والحب والكره، والانتصار للنفس، والكبر والعجب.

والنفس الإنسانية لا تخلو من عيوب تؤثر فيها، ومنها أنها تستجلب فك الضر ممن لا يملكه، وجلب النفع ممن لا يقدر عليه، ولا ترى نقصها وتقصيرها ولا تألف الحق إلَّا مكرهة، لأن الطاعة على خلاف سجيتها، وتحب متابعة الهوى والشهوات، وتغلب عليها الغفلة والتواني والإصرار والتسويف في شأن الحق والهدى، وتغلب عليها اليقظة والإسراع في شأن المعصية والشهوة والرغبة، وتشتغل بعيوب الناس عما بها من عيبها، وبتزيين الظواهر دون البواطن، وتطلب الرئاسة بالعلم والتكبر والافتخار به والمباهاة بما تمتلك وبما لديها من مواهب وقدرات، وإذا رضيت مدحت المرضي عنه وتجاوزت عيوبه، وإذا غضبت ذمت وتناست المحاسن، وفيها طمع وجشع وحرص على اقتناص الحظوظ، والانتقام للذات والخصومة والغضب، واتباع الهوى، وموافقة ما يرضى النفس، وتضييع الأوقات بما لا نفع فيه أو بما فيه ضرر، ووقوعها في الكذب والشح والبخل، والإصرار على ما به ضررها، والغفلة عن ما فيه مصالحها الحقيقية، وألفتها للخواطر الرديئة والإرادات الخبيثة، وحبها للترؤس والسيطرة والعلو، وميلها إلى التحكم والطغيان.

وغير ذلك من الصفات والأدواء التي لا يخلو من بعضها إنسان، وقد يجتمع أكثرها في بعض الناس، خاصة الذين يتصدون لحكم الناس أو الذين تكون لهم مناصب توجيه وتأمّر، إلَّا من رحم اللَّه وقليل ما هم.

ومن كانت هذه صفاته فلا مناص له من الوقوع في الخلل في الأقوال والأفعال، ولا مهرب له من التناقض والنقص في أفكاره وأعماله، ولا

ص: 1859

خلاص له من تبعات النقص البشري الراسخ في نجار هذه الكائن.

فإذا نظرنا إلى هذا الفرق الهائل بين حقيقة الألوهية وماهية النفس البشرية تبين البون الشاسع فيما يصدر عنهما من أحكام وتشريعات.

وهذا الفرق بينهما أشد وضوحًا من الفرق بين الإنسان والنملة، واللَّه سبحانه وتعالى ودينه وشريعته أجل وأعظم من هذه المقارنة، وإنَّما ذكرت ذلك -وأستغفر اللَّه- لأجل بيان قاعدة التصور عند المؤمنين الحاكمين بشرع اللَّه، وقاعدة التصور عند العلمانيين المشركين في الحكم، باتباع أحكام غير اللَّه -جلَّ وعلا-، وتاليه الإنسان ورفعه عن درجته البشرية، ونعته بالأوصاف الطاغية غير الحقيقة.

الرابع: أن الإنسان -بحكم كونه مخلوقًا للَّه تعالى- محكوم بهذه الطبيعة فهو ليس كليًا ولا مطلقًا، وليس أزليًا ولا أبديًا في هذه الدنيا، ومن ثم فإن إدراكه لابد أن يكون محدودًا بما تحده به طبيعته، ثم هو محدود في أعماله وأحكامه وتصرفاته بحكم هذه الطبيعة

(1)

.

وقد وُهب من الإدراك ما يناسب عبوديته للَّه تعالى، ولم يوهب القدرة على إدراك كل الأمور، لا في ماهيتها ولا في إدراك كيفيتها، وإن كان يدرك إمكانها، وذلك أن حدود الطبيعة البشرية تقصر عند هذه الحدود، فكيف يُجعل الإنسان مشرعًا مع اللَّه أو من دون اللَّه وهو محصور في إطار هذه الحدود وحيز هذه الضرورات؟ ومع ذلك كله فالإدراك البشري مدعو للتدبر والتفكر، والنظر والاعتبار، والتكيف والتأثر، والتطبيق في إطار عبوديته، وفي دائرة كينونته الخَلْقية، لا في دائرة الإلحاد المظلمة، ولا في إطار التأله الكاذب الظالم؛ الكاذب لأنه متعدٍ على الحقيقة الإنسانية، والظالم لأنه متجاوز الحدود البشرية.

ولا يعني هذا أن دين الإسلام يقضي على الإدراك البشري أو يدعوه إلى الهبوط والضعف، ولكن هذا التوصيف الحقيقي للإنسان هو الذي

(1)

انظر: خصائص التصور الإسلامي: ص 47.

ص: 1860

يجعله يسير في حياته العلمية والعملية في خط تصوري واضح المعالم، وما من دين احتفل بالإدراك البشري، وإيقاظه وتحريكه، وتحريره، وتقويم منهجه في النظر، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، والكهانة والغيبيات الباطلة، وصيانته في الوقت ذاته من التبدد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل. . ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام، الذي وجه النظر إلى سنن اللَّه في الأنفس والآفاق وأوضح بجلاء طبيعة هذا الكون وطبيعة هذا الإنسان، وبين خصائصه وطاقاته المذخورة، ووسع دائرة إداراكاته توسيعًا لا يوجد في مثله

(1)

.

الخامس: أن من خصائص الإسلام أنه "رباني" المصدر والمنهج والغاية والوجهة، فهو وحي من اللَّه تعالى، يحتوي على الكمال، لم يأت نتيجة لإرادة فرد أو أسرة أو طريقة أو حزب أو شعب، وإنَّما نتيجة لإرادة اللَّه الحكيم العليم، المتصف بصفات الكمال والجمال والجلال، الذي أراد للبشرية الهدى والنور، والبيان، والشفاء، والرحمة والخير، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}

(2)

، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}

(3)

، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}

(4)

، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}

(5)

.

فهذا الدين يقوم على عقيدة ربانية وعبادات ربانية وتشريعات ربانية، وهو المنهج الوحيد في العالم الذي مصدره كلمات اللَّه وحدها، غير محرفة

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 49 - 50.

(2)

الآية 174 من سورة النساء.

(3)

الآية 57 من سورة يونس.

(4)

الآية 89 من سورة النحل.

(5)

الآية 1 من سورة إبراهيم.

ص: 1861

ولا مبدلة ولا مخلوطة بأوهام البشر، وأهواء البشر وانحرافات البشر.

إن الإسلام منهج رباني في عقائده وعباداته وآدابه وأخلاقه وشرائعه ونظمه، كلها ربانية إلهية في كل أحوالها.

والتشريعات -وهي مجال حديثنا هنا- تشريعات تقوم على هذا الأساس الإلهي، لضبط الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والدولية.

وهذه الميزة الفريدة للتشريع الإسلامي هي التي يتميز بها على ما سواه من التشريعات القديمة والحديثة، ذلك أنه التشريع الوحيد الذي أساسه وحي اللَّه وكلماته التامة المبرأة من الخطأ والضلال، المنزهة عن الظلم {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}

(1)

.

وبهذا تقرر في الأصول الإسلامية أن المشرع الوحيد هو اللَّه تعالى وحده؛ دون غيره، فهو الذي يأمر وينهي، ويحلل ويحرم، ويكلف ويلزم، بمقتضى ربوبيته وألوهيته، وملكه لخلقه أجمعين، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس، له الخلق والأمر.

وكما أن الإسلام رباني المصدر والمنهج، فهو رباني الغاية والمنهج.

فعلى كثرة الغايات والأهداف في الإسلام، إلَّا أننا -عند التأمل- نجد أن هذه الأهداف الكثيرة تصب في الهدف الأكبر، وهو: مرضاة اللَّه وحسن مثوبته، فكل ما في الإسلام من تشريع وتوجيه وإرشاد إنَّما يقصد إلى إعداد الإنسان ليكون عبدًا خالصًا للَّه وحده، لا لأحد معه أو سواه، ولهذا كان روح الإسلام، وجوهره هو "التوحيد"، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا

(1)

الآيتان 114، 115 من سورة الأنعام.

ص: 1862

شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. . .}

(1)

.

إن الإنسان خلق أصلًا ليكون عابدًا للَّه تعالى ولم يخلق لمجرد أن يعيش، والمؤمن يعيش ليعبد ربه ويطبق حكمه متطلعًا إلى رضوانه، أمَّا الكافر فإنه يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، ولا يجد في عقيدته الكافرة -قديمة كانت أو حديثة- أي جواب صحيح شافٍ لقضية خلقه وحياته وموته.

ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة بوضوح حين ذكر الغاية من خلق الجن والإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}

(2)

بل بين القرآن أن خلق العالم كله علوية وسفلية، لم تكن الغاية منه إلَّا أن يعرف الناس ربهم ويعبدوه، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}

(3)

.

ومن ثمرات هذه الربانية:

1 -

أن يعرف الإنسان غاية وجوده، وحكمة حياته، ووظيفة في هذه الحياة بعيدًا عن التخبط والتيه والضلال، والعيش في عمايات الغايات الهابطة، والضلالات الساقطة.

2 -

أن الإنسان يهتدي إلى فطرته التي فطره اللَّه عليها، والتي تطلب الإيمان باللَّه تعالى، ولا يعوضها شيء غيره {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}

(4)

.

وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والضياع والتمزق حتى تؤمن باللَّه

(1)

الآيات 161 - 164 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 56 من سورة الذاريات.

(3)

الآية 12 من سورة الطلاق.

(4)

الآية 30 من سورة الروم.

ص: 1863

وتتوجه إليه وتطبق منهجه في الحياة، هنا فقط ستسلم من غوائل التمزق، وتستريح من تعب التيه، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف، وتحس بالهداية بعد الحيرة والاستقرار بعد التخبط والاطمئنان بعد القلق.

3 -

وحين يستقر في أعماق النفس التحرر من التمزق والضياع وتسلم من الصراع الداخلي والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات، وذلك بعبادة للَّه وحده واتباع شريعته، حين يفعل ذلك يتحرر، نعم يتحرر من العبوديات الكثيرة الخالبة، يتحرر من العبودية الأنانية، وشهوات نفسه، ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام للمطالب المادية والرغبات الشخصية، ويخلع عن رقبته نير العبودية للهوى والشهوات، ويسلم من الهلكة في شعاب الغايات الهابطة والمقاصد البهيمية. والعبودية أنواع وألوان، وأشدها خطرًا، وأبعدها أثرًا هو خضوع الإنسان لإنسان مثله، يحل له ما يشاء، ويحرم عليه ما شاء كيف شاء، ويأمره بما أراد فيأتمر، وينهاه عما يريد فينتهي، يضع له "نظام حياة" فلا يسعه إلَّا الخضوع والإذعان والاستسلام له.

ولما كان الإسلام دعوة تحرير شامل للإنسان من العبودية لغير اللَّه، وجدناه، يوجهه نداءه إلى البشرية ليتحرروا من عبودية النظم والتشريعات الجاهلية، ليفردوا اللَّه وحده بالانقياد لشرعه وحكمه مثلما ينقادوا له في عبادته.

4 -

ومن مزايا هذه الربانية وآثارها عصمة الإنسان والإنسانية جميعا من الضياع في أودية المناهج المختلفة والأنظمة المتشاكة. فالبشر -بطبيعتهم- يتناقضون، ويختلفون من عصر إلى عصر، ومن قطر إلى قطر، بل يتناقضون في العصر الواحد والقطر الواحد والبيئة الواحدة والأمة الواحدة.

بل الإنسان الواحد يتغير بل يتناقض في فترات حياته ما بين مرحلة الشباب إلى الكهولة، وما بين حالات فقره وغناه، وفرحه وترحه، وعقله متأثر بالزمان والمكان والأوضاع والأحوال، ولذلك لا يبرأ من التناقض والاختلاف في آرائه وأقواله وأحواله، وبالتالي لا يُمكن أن تبرأ مناهجه في

ص: 1864

التصور والاعتقاد، أو العمل والسلوك من هذا التناقض والاختلاف والنقص.

ومن مظاهر هذا التناقض ما نراه ونلمس اليوم في كل الأنظمة البشرية والدينية الوضعية، والمحرفة، من أفراط وتفريط، كما هو واضح من موقفها من الروحية والمادية، والغيب والشهادة، والفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، والتطور والثبات، وغير ذلك من المتقابلات، التي وقفت فيها المذاهب والنظم الوضعية والمحرفة موقف الغمط والجور، وسبب ذلك ما في الطبع البشري من قصور، وما يتأثر به التفكير الإنساني من أوضاع وأحوال وخلفيات.

5 -

البراءة من التحيز والهوى، والجور والعدوان، والخلاص من تأثيرات الميولات الخاصة، والتوجهات البشرية المتلونة والميولات الإنسانية المتنوعة.

والمتأمل في المناهج والتشريعات البشرية -الوضعية، أو المحرفة عن أديان أصلها صحيح- يرى أنه لا يسلم منهج منها من التأثر بالأهواء البشرية، المتحيزة إلى جانب دون جانب، أو فريق دون فريق.

أمَّا نظام الإسلام فهو صادر عن اللَّه تعالى رب الناس أجمعين، العالِم بما يصلحهم وما يفسدهم، وهو سبحانه وتعالى لا يتأثر بالزمان والمكان؟ لأنه خالقهما، ولا تحكمه -سبحانه- الأهواء والنزعات؛ لأنه المنزه عن الأهواء والنزعات، ولا يتحيز -جلَّ وعلا- لجنس ولا لون ولا طائفة؛ لأنه رب الجميع، وكلهم عبيده.

ومن ثم اعتبر القرآن العظيم ما عدا شريعة اللِّه وحكمه "أهواء" يجب الحذر منها ومن أصحابها {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)}

(1)

، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}

(2)

.

(1)

الآية 18 من سورة الجاثية.

(2)

الآية 49 من سورة المائدة.

ص: 1865

6 -

ومن ثمرات هذه الربانية أنها تضفي على النظام المنبثق منها، قدسية واحترامًا لا يظفر بهما أي نظام، أو منهج من صنع البشر.

ومنشأ هذا الاحترام والتقديس اعتقاد المؤمن بكمال اللَّه تعالى وتنزهه عن كل عيب ونقص، في خلقه وأمره، فهو الحكيم فيما خلق وقدر، والحكيم فيما أمر ونهى، والعالم بكل شيء.

ويتبع هذا الاحترام والتقديس لشرع اللَّه، الرضا بكل تعاليم هذا النظام وأحكامه وتقبله بقبول حسن، والانقياد له بطواعية تامة وانشراح صدر واقتناع عقل وطمأنينة قلب، مما يؤدي إلى المسارعة إلى التنفيذ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، دون تلكؤ أو تكاسل، أو تحايل على الهرب من تكاليف النظام والتزاماته

(1)

.

السادس: من خصائص الإسلام وميزاته التي تميز بها على كل ما عرفه الناس من فلسفات ومذاهب، "الشمول".

فالوجود كله بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكل تحورٍ وتغير خاضع لإرادة اللَّه وخلقه وعلمه، ومن هنا تبدأ خاصية الشمول في الكون والحياة والإنسان، إذ هي كلها مخلوقة للَّه خاضعة لمشيئته المطلقة.

ثم الوجود كله في سلك العبودية القهرية للَّه تعالى.

ومن هنا جاء الإسلام ليعرف الناس بطبيعة الكون الذي يعيشون فيه وارتباطه بخالقه، ودلالته على خالقه، جاء ليحدث عن الحياة والأحياء ومصدر الحياة فيهما، وجاء ليعرف بالإنسان وحقيقته ومصدر نشأته وغاية وجوده ومركزه في الكون، وخصائصه، ويرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد تتلقى منه التصورات والمفاهيم والقيم والموازين والشرائع؛ ذلك لأن

(1)

كل ما ذكر هنا عن الربانية وثمراتها مقتبس من كتاب الخصائص العامة للإسلام ليوسف القرضاوي 9 - 55. وانظر: خصائص التصور الإسلامي لسيد قطب: ص 43 - 71، ومجموعة رسائل الإمام حسن البنا: ص 109.

ص: 1866

الكون كله وأمر الحياة والإحياء وأمر الإنسان والأشياء تعود كلها إلى أمر واحد إلى إرادة من له الخلق والأمر

(1)

.

إن شمول الإسلام ينطلق من هذه القاعدة، ليكون في حقيقته وذاته متضمنًا المعاني والأبعاد التي تقصر دون بعضها سائر النظم والمذاهب والفلسفات.

إنه شمول يستوعب الزمن كله والحياة كلها وكيان الإنسان كله.

(إن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان)

(2)

، (إنه دين ومجتمع، ومسجد ودولة، ودنيا وآخرة)

(3)

، (إنها الرسالة التي امتدت طولًا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقًا حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة)

(4)

.

وإذا تأملنا حقيقة الشمول في الإسلام ورسالته وجدناها: رسالة الزمن كله، ليست موقوتة بعصر معين أو زمن مخصوص، رسالة المستقبل المديد، ورسالة الماضي البعيد، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}

(5)

، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}

(6)

.

ورسالة العالم كله، ليست محدودة بعصر ولا جيل، ولا بمكان ولا بامة ولا بشعب ولا بطبقة، بل هي الرسالة الشاملة التي تخاطب كل الأمم وكل الأجناس وكل الشعوب وكل الطبقات وكل الأرض {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي

(1)

انظر: خصائص التصور الإسلامي: ص 91 - 113.

(2)

مجموعة رسائل حسن البنا: ص 155.

(3)

المصدر السابق: ص 198.

(4)

الخصائص العامة للإسلام: ص 105، والقول لحسن البنا.

(5)

الآية 25 من سورة الأنبياء.

(6)

الآية 107 من سورة الأنبياء.

ص: 1867

رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}

(1)

، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}

(2)

.

ورسالة الإنسان كله، روحه وعقله، وجسمه، وضميره وإرادته ووجدانه، وكل أعماله وعلاقاته.

ورسالة للإنسان في كل أطوار حياته، ورسالة للإنسان في كل مجالات حياته، وكل ميادين نشاطه البشري، منفردًا كان الإنسان أو مجتمعًا مع غيره، عاملًا لتقوية روحه، أو لتغذية جسده، ساعيًا في شأن آخرته أو شأن دنياه.

وشمول هذه الرسالة للنشاط البشري لا يقتصر على جانب دون جانب، فالإسلام لا يدع الإنسان وحده بدون هداية من اللَّه في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به: ماديًا كان أو روحيًا، فرديًا أو اجتماعيًا، فكريًا أو عمليًا، دينيًا أو سياسيًا، اقتصاديًا أو أخلاقيًا.

ومن شمول الإسلام: شمول تعاليمه وأحكامه، يتجلى ذلك في شمول العقيدة التي تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود، وتجيب على الأسئلة التي تشغل الفكر الإنساني، في قضية الألوهية وقضية الخلق والمصير، وقضية النبوة والبعث، وعالم الغيب والشهادة.

والشمول في عقيدة الإسلام يتعلق بمصدرها وأدلتها وأحكامها ومتعلقاتها.

فلا يصح في عقيدة الإسلام أن يقول إنسان مّا: أنا مؤمن بالإسلام في شأن الشعائر والعبادات أو ما يسمى بالأحوال الشخصية، ولكن لا أؤمن بما جاء به في شأن النظام والتشريع.

فهذا رد للإسلام، وتناقض صارخ مع شموله، وكما أن عقيدة الإسلام شاملة فكذلك عباداته شاملة تستوعب الكيان البشري، فالمسلم لا يعبد اللَّه

(1)

الآية 158 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 1 من سورة الفرقان.

ص: 1868

بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط أو يقلبه لا غير، أو بعقله مجردًا، أو بحواسه وحدها، بل يعبد اللَّه بهذه كلها، ويعبده كذلك بماله وسلطانه وسائر أعماله ومناشطه، ويعبده -على وجه الخصوص في هذا المقام- بتطبيقه لشرع اللَّه وإنفاذه لأحكام اللَّه، وسيره على منهج اللَّه في الحياة.

ومن شمول الإسلام شموله في ميدان الأخلاق والفضائل التي لم تدع جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية، إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع.

ومن شمول الإسلام أن التشريع فيه تشريع شامل، لا يشرع للفرد دون الأسرة، ولا للأسرة دون المجتمع، ولا للمجتمع منفردًا عن غيره من المجتمعات.

فهو تشريع يشمل التشريع للفرد في تعبده وصلته بربه "العبادات" والتشريع له في سلوكه الخاص والعام "الحلال والحرام".

ويشمل التشريع ما يتعلق بأحوال الأسرة من زواج وطلاق ونفقة وميراث وولاية وغير ذلك، وهو ما يطلق عليه في هذا العصر "الأحوال الشخصية".

ويشمل التشريع للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وما يتصل بتبادل الأموال والمنافع، مثل البيوع والإجارات، والقروض والمداينات والرهن والحوالة، والكفالة والضمان وغيرها.

ويشمل التشريع ما يتصل بالجرائم وعقوباتها المحدودة شرعًا كالحدود أو المقدرة تعزيرًا، وهو ما يطلق عليه في هذا العصر "التشريع الجنائي" أو "الجزائي" أو "قانون العقوبات".

ويشمل ما يتعلق بواجب الحكومة نحو المحكومين، وواجب المحكومين نحو الحكام، وتنظيم الصلة بين الطرفين، وهو ما عرف في عرف الفقهاء بأحكام الإمامة، والسياسة الشرعية، والأحكام السلطانية، وهو ما يعرف في عصرنا بـ "التشريع الدستوري" أو "الإداري".

ص: 1869

ويشمل تشريع الإسلام ما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب بين المسلمين وغيرهم، مما عنيت به كتب "السير" و"الجهاد" في فقهنا الإسلامي، وهو ما يعرف الآن بـ "القانون الدولي".

ومن هنا لا توجد ناحية من نواحي الحياة إلَّا دخل فيها التشريع الإسلامي آمرًا أو ناهيًا، أو مخيرًا.

ومن شمول الاسلام: شمول الالتزام به كله في شموله وعمومه وسعته من مخير تبعيض، فلا يجوز الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه وطرح جانب آخر، قصدًا أو إهمالًا؛ لأن الإسلام كل لا يتجزأ فلا يصح في الإسلام أخذ جانب العقيدة والإيمان من تعاليمه وإغفال جانب العبادة أو الأخلاق، كما لا يجوز الأخذ بالجانبين وترك جانب الشريعة التي نظم اللَّه بها حياة الخلق، وأنزل بها الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط

(1)

.

السابع: أن الرضا بالإسلام دينًا ليس مجرد دعوى أو شعار يرفعه الإنسان، بل هو التقيد والالتزام بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقائد وشرائع وشعائر وأخلاق، وهذه كلها وسائر فروعها ولوازمها هي الدين، وهي المقصودة بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

(2)

.

والرضا بالإسلام دينًا هو الرضا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال صاحب المدارج رحمه الله:(وأمّا الرضا بدينه: فإذا قال، أو حكم، أو أمر، أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها)

(3)

.

الثامن: أن الرضا بمحمد نبيًا أصل من أصول الإسلام، والجزء الثاني من كلمة التوحيد المتضمنة للشهادة للَّه بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

(1)

كل ما ذكر عن خاصية الشمول في الإسلام مقتبس من الخصائص العامة للإسلام، ليوسف القرضاوي: ص 105 - 125.

(2)

الآية 3 من سورة المائدة.

(3)

مدارج السالكين 2/ 173.

ص: 1870

وحقيقة الرضا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تتمثل في أتباعه اتباعًا كاملًا، وذلك بتصديقه فيما أخبر، وأتباعه فيما أمر، واجتنباب ما نهى عنه.

ومن ذلك اتباع شريعته الحنيفية السمحة: (وأمَّا الرضي بنبيه رسولًا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلَّا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلَّا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكامه ظاهرة وباطنة، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلَّا بحكمه

(1)

.

ولهذا أقسم اللَّه تعالى بربوبيته أنه لا يصح إيمان أحد حتى يحكّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم يرضى بحكمه ولا يبقى نفسه هو أدنى، تحرج أو تردد، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}

(2)

.

فمن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا فلا بد أن يتبع الشريعة التي جاء بها ويسير على المنهج الذي رسمه، ويطبق النظام الذي سار عليه وطبقه وورّثه، ومن لم يكن كذلك فليس راضيًا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن ادعى ذلك.

التاسع: من أصول الإسلام وقواعده الأساسية أن الحاكمية والسيادة المطلقة هي للَّه وحده، ولشريعته النقية، ودينه الحنيف، الذي له وحده الحكم الأعلى والحجة القاطعة.

ومن لم يعتقد أن السيادة العليا لشرع اللَّه دون غيره، فإن انتسابه إلى الإسلام دعوى بلا برهان، بل البرهان على خلاف ذلك.

وكل من اعتقد أن هناك سيادة عليا لغير اللَّه ودينه ونبيه فهو منازع للرب تعالى، ومنحرف عن دينه، ومعاند لرسوله صلى الله عليه وسلم، وداخل من أوسع أبواب الردة.

(1)

المصدر السابق 1/ 172 - 173.

(2)

الآية 65 من سورة النساء.

ص: 1871

العاشر: أن التوحيد هو عقيدة المسلمين وشعارهم في مقابل الوثنية والإلحاد والتثليث وسائر أنواع الكفر.

وهذا التوحيد يشمل الاعتقاد والعمل، أو التوحيد العلمي النظري، والتوحيد الطلبي الإرادي، والقسم الثاني هو ما يعرف بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وتتحقق بكمال الخضوع للَّه مع كمال المحبة له، وتصح بالإخلاص للَّه والمتابعة لشرعه.

وهي أنواع عديدة منها العبادة الاعتقادية كاعتقاد أن اللَّه تعالى هو الخالق الرب الواحد الذي له الأسماء الحسنى والصفات الحسنى، ومنها العبادة القلبية كالخوف والرجاء والخشوع والخشية، ومنها العبادة القولية كالدعاء والذكر والاستعاذة والتلاوة، ومنها العبادة العملية كالصلاة والحج، ومنها العبادة المالية كالزكاة والصدقة، ومن العبادات العملية: الحكم بما أنزل اللَّه والتشريع بما شرع اللَّه، وهذا يشمل العبادة الاعتقادية والقولية والعملية.

فمن حكم أو خضع -اختيارًا- لغير شريعة اللَّه، واستسلم -طوعًا- لتشريعات أهل الأرض مستحسنًا لها، فلا ريب أنه مخل بتوحيد الألوهية، مناقض لملة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينتفع مع استحسانه وقبوله وتنفيذه لمذاهب الطاغوت بشيء من أعماله

(1)

؛ لأن ذلك من اتخاذ العبد أندادًا من دون اللَّه، يساويهم برب العالمين، ويخضع لأحكامهم، ويتبع تشريعاتهم.

(ولا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن، وجحد بعضه)

(2)

. فهذا لاريب في أنه مناقض للإيمان ولتوحيد الرحمن -جلَّ وعلا-، وقد عد أهل العلم من نواقض الإيمان (من اعتقد

(1)

انظر: الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ عبد الرحمن الدوسري: ص 30.

(2)

كشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ص 171 من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول.

ص: 1872

أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر)

(1)

، (ومن اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين أو أن يُحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى،. . . ومن يرى أن إنفاذ حكم اللَّه في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضًا من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة اللَّه في المعاملات أو الحدود أو غيرها، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم اللَّه إجماعًا وكل من استباح ما حرم اللَّه، مما هو معلوم بالضرورة كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة اللَّه فهو كافر بإجماع المسلمين)

(2)

.

والخلاصة أن التوحيد لا يصح حتى يفرد اللَّه وحده بالحاكمية العليا والسيادة المطلقة، كما يفرد بالعبادة وحده دون سواه، ولا يكون التوحيد توحيدًا حتى يكون لدينه الحكم الأعلى على أي حكم، وحتى يصبح المرجع الوحيد والنهائي عند التنازع، وحتى يكون هو وحده الآمر الناهي، وحتى يكون التحليل والتحريم والجزاء مأخوذًا من الكتاب والسنة -فقط- دون غيرها، من الدساتير والبرلمانات وإرادة الشعب، وغير ذلك.

فمن أراد أن يكون مسلمًا موحدًا فعليه أن يلتزم بالتوحيد جملة وعلى الغيب، ويطبق مقتضاه برضا وطاعة وانقياد من غير تردد ولا حرج، ومن أعظم مقتضيات هذا التوحيد الالتزام بالأحكام الشرعية واعتقاد سيادتها المطلقة على كل ما عداها، فإن عقد الإسلام لا يثبت إلَّا على قدم التصديق والانقياد.

الحادي عشر: أن الإيمان، لا يتحقق في واقع الإنسان بمجرد التسمي

(1)

نواقض الإسلام لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ص 386 من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول.

(2)

العقيدة الصحيحة وما يضادها للشيخ عبد العزيز بن باز: ص 28.

ص: 1873

أو التشهي أو الانتساب المجرد، بل هو اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.

وهذا لا يقوم إلَّا على أصل تصديق الخبر والانقياد للأمر، فمن لم يتحقق في قلبه التصديق والانقياد فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد، تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار باللَّه هو الاعتراف به والعبادة له، والكفر هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب أو استكبار أو إباء أو إعراض، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر

(1)

.

ولذلك أنكر اللَّه تعالى على من ادعى الإيمان بما أنزل على رسوله وعلى الرسل قبله من أحكام وشرائع، ثم يذهب بعد هذا الادعاء إلى الطواغيت يتحاكم إليهم، وبين اللَّه تعالى أن من يفعل ذلك ليس إلَّا من المنافقين الذين يصدون عن اللَّه وعن دينه وشريعته، قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}

(2)

.

(فإن قوله عز وجل: {يَزْعُمُونَ} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلًا، بل أحدهما ينافي الآخر، و"الطاغوت" مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه، وذلك أنه من حد كل أحد أن يكون حاكمًا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه، كما أنه

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 7/ 117، 234 - 235، 296، 388، 397، 398، 644.

(2)

الآيتان 60 - 61 من سورة النساء.

ص: 1874

من حد كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى وجاوز حده حكمًا أو تحكيمًا، فصار بذلك طاغوتًا لتجاوزه حده.

وتأمل قوله عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} تعرف منه معاندة القانونين وإرادتهم خلاف مراد اللَّه منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعًا والذي تعبدوا به هو الكفر بالطاغوت لا تحكيمه {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}

(1)

.

ثم تأمل قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} كيف دل على أن ذلك ضلال وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى)

(2)

.

فلا ريب عند أهل العلم والإيمان أن تحكيم شريعة اللَّه وجعل السيادة العليا لها وحدها شرط للإيمان كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}

(3)

.

الثاني عشر: أن من معنى "لا إله إلَّا اللَّه" نفي استحقاق العبادة لكل ما سوى اللَّه -جلَّ وعلا-، وإثباتها للَّه تعالى وحده دون سواه، ولا ريب أن اتباع حكم اللَّه وشريعته عبادة للَّه تعالى، كما أن صرف ذلك لغير اللَّه شرك مع اللَّه تعالى.

أن "لا إله إلَّا اللَّه" ليست مجرد كلمة يفوه بها اللسان بل هي عقيدة راسخة، وشريعة نافذة، ومنهاج حياة شامل متكامل.

أن من أصل معنى "لا إله إلَّا اللَّه" أن يتحاكم الناس إلى شرع اللَّه الإله الحق المبين، وأن يطرحوا شرائع الآلهة الباطلة والأرباب المزعومة،

(1)

الآية 59 من سورة البقرة.

(2)

فتاوى ورسائل لمماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 12/ 286.

(3)

الآية 65 من سورة النساء.

ص: 1875

وإذا كان من المعلوم أن "لا إله إلَّا اللَّه" تعني عبادة اللَّه وحده لا شريك له والإقرار بذلك، فإنه من المعلوم ضرورة أن (تحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة اللَّه وحده دون ما سواه)

(1)

.

ومن شروط "لا إله إلَّا اللَّه": الانقياد المنافي للترك، ومن ذلك الانقياد لحكم اللَّه تعالى واستسلام لجميع شرعه الوارد في الكتاب والسنة، فمن لم يفعل ذلك فقد أخل بهذا الشرط، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}

(2)

.

ومن شروطها: القبول المنافي للرد، وذلك بقبول كلمة التوحيد قبولًا كاملًا، وقبول جميع ما يلزم من مدلولها ومقتضاها، بحيث يقبل الناطق بها جميع ما ورد عن اللَّه ورسوله دون رد، كما قال سبحانه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}

(3)

.

وقال تعالى في شأن الذين لم يقبلوا كلمة التوحيد، وردوها أو ردوا لوازمها ومقتضياتها: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

(1)

المصدر السابق 12/ 151.

(2)

الآيتان 51، 52 من سورة النور.

(3)

الآية 65 من سورة النساء.

ص: 1876

يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)}

(1)

.

ومن شروط "لا إله إلَّا اللَّه": الإخلاص المنافي للشرك، فمن حكم بغير شرع اللَّه تعالى فقد ناقض الإخلاص.

ومن شروطها: الصدق المنافي للنفاق والكذب والتكذيب، وذلك ببذل الجهد في طاعة اللَّه وامتثال أوامره، وحفظ حدوده والغيرة على حرماته والغضب له، والانتصار لدينه دون تهاون أو فتور، قال تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}

(2)

.

ومن شروطها: المحبة المنافية للبغض، وهذا المحبة هي المقرونة بالإجلال والتعظيم والخوف والرجاء، وحصر التأله للَّه بالقيام بجميع شروط هذه المحبة ولوازمها، وذلك لا يتم إلَّا بالتوجه الكامل إلى اللَّه تعالى، وحصر العبادة والطاعة له سبحانه، وذلك بعبادته وحده دون سواه، واتباع شريعته وحده دون سواه.

فهذه كلمة "لا إله إلَّا اللَّه" الركن الأول من أركان الإسلام، والقضية الكبرى في هذا الدين التي دار القرآن كله في خبره وأمره ووعده ووعيده وقصصه عليها، فالحديث عنها ليس حديثًا لفترة ثم ينتقل إلى غيرها، وإنَّما هي حديث مؤكد وبرهان ثابت يذكر ثم يذكر ثم ينتقل به ومعه إلى غيره، وهي دعوة الرسل جميعًا، وهي نقيض الجاهلية في كل التاريخ، ولذلك لم يتغير موقف الجاهلية من "لا إله إلَّا اللَّه" خلال التاريخ البشري كله، بل كان موقفها موقف الرفض والصد والإعراض بل والمحاربة في سبيل إزالتها، ولى يكن رفض الجاهلية لهذه الكلمة رفضًا لألفاظها وأحرفها فهي أهون عليهم من كثير من الكلام، ولكن رفضهم كان لمعناها ومدلولها ومقتضياتها ولوازمها.

(1)

الآيات 22 - 37 من سورة الصافات.

(2)

الآيات 1 - 3 من سورة العنكبوت.

ص: 1877

ولذلك كان الشرك يتمثل في اعتقاد آلهة أخرى غير اللَّه، يتوجه إليها الإنسان بالعبادة، أو يتوجه بطلب التحليل والتحريم من دون اللَّه.

وثبوت صفة الإسلام لأي إنسان في الحياة الدنيا لا يأتي بمجرد التلفظ بكلمة التوحيد -وإن عصمت دمه وماله، وحكم له ظاهرًا بالإسلام

(1)

- بل يكون منوطًا بالالتزام الحقيقي بـ "لا إله إلَّا اللَّه" وتحقيق شروطها، وتطبيق مقتضياتها.

ولم يحدث في تاريخ الإسلام خلال الثلاثة عشر قرنًا الماضية التي كانت تطبق فيها أحكام الإسلام، وتنفذ فيها شريعة اللَّه، أن أحدًا من الناس، قال لم أكن أعلم أن للإسلام لوازم عملية، أو أن لكلمة التوحيد مقتضيات عبادية تشريعية، ولو كان أجهل الناس بأحكام الفروع، أو أكثرهم وقوعًا في المعاصي والذنوب، لقد كانت هذه القضية مسلمة لا جدال فيها، ومبرهنة لا مراء فيها عند جميع المسلمين حكامًا ومحكومين، كانوا جميعًا يعلمون أنه ليس هناك إسلام بلا تكاليف، ولا توحيد بلا حكم، ولا إيمان بلا تشريع، وكان أهل العلم والإيمان يقررون بأنه اليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلَّا اللَّه، وأن اللَّه رب كل شيء ومليكه كما كان عباد الأصنام يقرون بذلك، وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة اللَّه والخضوع له والذلة له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها)

(2)

.

الثالث عشر: أن من نواقض الإسلام ونواقض التوحيد "الحكم بغير ما أنزل اللَّه تعالى" وهو تفضيل أو مساواة حكم غير اللَّه، بحكم اللَّه تعالى في أي أمر من الأمور؛ كالهوى والرغبة الدنيوية والأعراف القبلية والقوانين الوضعية، والمقررات العقلية المخالفة للشرع وغير ذلك.

(1)

ما لم يأت بناقض اعتقادي أو قولي أو عملي.

(2)

مدارج السالكين 1/ 330.

ص: 1878

وهو على أقسام:

الأول: أن يشرع حكم غير اللَّه، ويستبدل هذا بحكم اللَّه، ويحكم بغير ما أنزل اللَّه، وهو عالم بحكم اللَّه في ذلك، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم اللَّه، أو أنه مساوٍ لحكم اللَّه، أو أن العدول عن حكم اللَّه إلى غيره جائز، فهذا كافر كفرًا مخرجًا من الملة، ولو صلى وصام وحج وزكى وفعل كل أفعال الإسلام فإنها لا تنفعه بل هي حابطة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}

(1)

.

ويلحق بهذا من يعتقد أن أحكام اللَّه وشريعته رجعية أو متخلفة أو يحتقرها، أو يسخر منها أو من بعضها، أو يصفها أو بعضها بأنها بشعة أو غير ملائمة للعصر، أو أنها سبب للتخلف وعائق عن التقديم، أو يدعي أنه لا حكم في الإسلام أصلًا، أو يقول بأن إخضاع الدنيا للدين مشكلة، أو أن أحكام الشريعة بشرية من صنع البشر أو عادات وتقاليد الصحابة، أو يعتقد أن الدين شيء شخصي فقط، أو يعتقد أنه لا يُمكن اعتماد الإسلام نظامًا للحكم، أو يرى وجوب تفسيره تفسيرًا عصريًا علمانيًا أو ماديًا.

وكذلك يكفر من يضع القوانين ويشرعها للناس، ويلزمهم بالتحاكم إليها؛ لأنه إنَّما شرع ذلك لاعتقاده أنها أصلح من الإسلام وأنفع للعباد، وهذا هو أحد أظهر أنواع الكفر في هذا العصر.

الثاني: أن يستبدل بحكم اللَّه تعالى حكمًا مخالفًا له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانونًا يجب التحاكم إليه، فله ثلاث حالات:

الأولى: أن يفعل ذلك عالمًا بحكم اللَّه معتقدًا أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد أو أنه مساوٍ له أو أن العدول عن حكم اللَّه إلى غيره جائز، فهذا كافر كفرًا مخرجًا من الملة.

الثانية: أن يفعل ذلك عالمًا بحكم اللَّه معتقدًا أنه أولى وأنفع لكن خالفه

(1)

الآية 28 من سورة محمد.

ص: 1879

بقصد الإضرار بالمحكوم أو نفع المحكوم له، فهذا ظالم وليس بكافر.

الثالثة: أن يكون كذلك ولكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه، فهذا فاسق وليس بكافر

(1)

.

ولا مناص من هذه الفواقر العظيمة ولا مخرج من هذه القواصم إلَّا بالرجوع إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر، والتحاكم إلى شرع اللَّه بانشراح صدر، وتسليم وقبول كاملين، وهو فرض من فروض الدين، لا يتم إيمان المسلم إلَّا به اعتقادًا وعملًا، وأركان الإيمان بهذا الفرض العظيمة ثلاثة:

الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى شرع اللَّه تعالى دون سواه.

الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه ولا يكون في النفس حرج أو ضيق منه.

الثالث: أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به الشرع وتنفيذه بدون توانٍ أو انحراف.

ولابد من البيان هنا أن المراد بالحكم بما أنزل اللَّه عند علماء الإسلام ودعاته، والمتبعين له هو الاستمساك بكل شرع اللَّه في كل قضية علمية أو عملية.

ويُمكن القول بأن له معنيين:

أحدهما: عام، وهو التحاكم إلى الوحي في كل أمر من الأمور العلمية والعملية في الاعتقاد أو الاستنباط الفقهي، أو أمور التعامل مع الآخرين، وغير ذلك.

الثاني: خاص، ويراد به تطبيق شريعة اللَّه في سياسة الدول ودساتيرها وأنظمتها، وهذا الذي وقع فيه الشرك الكبير في هذا العصر، ولا حول ولا قوة إلَّا باللَّه

(2)

.

(1)

انظر: هذه الأحكام في المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/ 33 - 39، 3/ 15.

(2)

انظر في قضية الحكم بما أنزل اللَّه تعالى، وفرضيتها اللازمة، وصلتها بالتوحيد وأصول =

ص: 1880

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الدين، وحرمة الخروج على ذلك، وكفر من لم يحكم بما أنزل اللَّه تعالى والرد على شبه العلمانيين، في الكتب التالية:

1 -

الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب: للعلامة حمد بن معمر.

2 -

تحكيم القوانين: للعلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

3 -

فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: ج 12 كله وخاصة الصفحات ص 247 - 331.

4 -

الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية: للدكتور عمر الأشقر، كل الكتاب.

5 -

حكم الإسلام في الاشتراكية: لعبد العزيز البدري.

6 -

الإسلام وأوضاعنا السياسية: لعبد القادر عودة، كل الكتاب.

7 -

منهاج الإسلام في الحكم: لمحمد أسد، كل الكتاب.

8 -

الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه رد علمي على فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين: ليوسف القرضاوي.

9 -

المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة: للقرضاوي.

10 -

الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: للقرضاوي.

11 -

الخصائص العامة للإسلام: للقرضاوي.

12 -

الحل الإسلامي، فريضة وضرورة: للقرضاوي.

13 -

مجموعة رسائل الإمام حسن البنا: ص 55 - 78، 189 - 208، 209 - 245.

14 -

شريعة اللَّه حاكمة ليس بالحدود وحدها: لعلي جريشة.

15 -

معركة المصحف: لمحمد الغزالي: ص 15 - 46، 53 - 112، 229 - 279.

16 -

الحكومة الإسلامية: لأبي الأعلى المودودي، كل الكتاب.

17 -

تهافت العلمانية: لعماد الدين خليل، كل الكتاب.

18 -

خصائص التصور الإسلامي: لسيد قطب، كل الكتاب.

19 -

مقومات التصور الإسلامي: لسيد قطب، كل الكتاب.

20 -

جاهلية القرآن العشرين: لمحمد قطب: ص 115 - 138، 139 - 154.

21 -

مفاهيم ينبغي أن تصحح: لمحمد قطب: ص 17 - 254.

22 -

واقعنا المعاصر: لمحمد قطب: ص 304 - 363.

23 -

مذاهب فكرية معاصرة: لمحمد قطب: ص 178 - 259، 445 - 469، 495 - 500.

24 -

حول تطبيق الشريعة: لمحمد قطب، كل الكتاب.

25 -

"لا إله إلَّا اللَّه" عقيدة وشريعة ومنهاج حياة: لمحمد قطب، كل الكتاب. =

ص: 1881

وبعد هذه المقدمة التي لابد منها لبيان مكانة هذه القضية من الدين وللرد على شبهة العلماني والحداثي، نخلص إلى موقف أهل الأدب المعاصر من حكم اللَّه وشرعه، ويتجلى ذلك في أمرين:

الأول: محاربتهم للحكم الإسلامي.

الثاني: دعوتهم إلى تحكيم غيره.

ومن غير المستبعد على قوم أنكروا وجود اللَّه أو شككوا فيه، وأنكروا ألوهيته عز وجل أو ترددوا في قبولها، وأنكروا النبوات أو ارتابوا فيها، وجحدوا الوحي، ونفوا المعاد؛ أن يكونوا أعداء لشريعة اللَّه السمحة، ولدينه الحنيف، وأن يرفضوا تحكيم الشريعة، مشككين في ثبوتها أصلًا، أو رافضين لها كلها، أو زاعمين أنها من عوائق التقدم أو مدعين -كذبًا- أنه

= 26 - العلمانية: لسفر الحوالي: ص 209 - 305، 561 - 587، 647 - 700.

27 -

تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين: لصلاح الصاوي، كل الكتاب.

28 -

نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية: لصلاح الصاوي، كل الكتاب.

29 -

قضية تطبيق الشريعة في العالم الإسلامي: لصلاح الصاوي، كل الكتاب.

30 -

المحاورة، مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة: لصلاح الصاوي، كل الكتاب.

31 -

حصوننا مهددة من داخلها: لمحمد محمد حسين: ص 158 - 168.

32 -

أضواء على ركن من التوحيد: لعبد العزيز بن حامد، كل الكتاب.

33 -

الدولة الإسلامية: لأبي بكر الجزائري: ص 27 - 124.

34 -

موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية: لمحمد عبد الهادي المصري، كل الرسالة.

35 -

جذور العلمانية: للسيد أحمد فرج، كل الكتاب.

36 -

أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج: لتوفيق الواعي، كل الكتاب.

37 -

العلمانية وثمارها الخبيثة: لمحمد شاكر الشريف، كل الكتاب.

38 -

الإسلام والسياسة، الرد على شبهات العلمانيين: لمحمد عمارة، كل الكتاب.

39 -

نقد العلمانية: لمحمد التكريتي، كل الكتاب.

40 -

نشأة العلمانية ودخولها إلى المجتمع الإسلامي: لمحمد زين العرمابي، كل الكتاب.

ص: 1882

لا حكم في الإسلام، وإنَّما الدين شيء شخصي وعلاقة ذاتية بين الإنسان وربه، أو زاعمين، بأن أحكام الإسلام لا تلائم العصر؛ لأنها ضد الحرية الشخصية، أو لأن نظام الإسلام -إن كان فيه نظام- لا تحرر فيه ولا تقدم؛ لأنه مجرد عادات، وتقاليد وضعها محمد والصحابة والبدو في القرون المتخلفة، وعلى ذلك فلا يُمكن اعتماد الإسلام نظامًا للحكم، بل يجب إبعاده، ومحاربة من يدعو إلى ذلك، وتحكيم الديموقراطية الليبرالية أو الاشتراكية الماركسية، وتحكيم إرادة الأمة والتحاكم إلى قول الشعب ونواب الشعب، ووضع الدساتير بناء على ذلك، والإقسام على احترامها وتطبيقها وعدم مخالفتها، إلى آخر ما هناك من أباطيل راسخة عند العلمانيين والحداثيين، وضلالات مزوقة بمعسول القول، وجاهليات مموهة بالتدليس والتلبيس، والكذب على اللَّه تعالى، والافتراء على رسوله، والافتئات على دينه وشريعته.

ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن هذه القضية هي معقد التفرقة بين الإيمان والزندقة، والإسلام والكفر، وأن التزام الشريعة الإسلامية، تصديقًا وانقيادًا، وقبولًا رضًا هو الإيمان، وأن المماراة في شيء منها، تكذيبًا أو ردًا أو تشكيكًا أو اعتراضًا هو الكفر الذي لا يبقى معه من الإيمان حبة خردل

(1)

.

ولكيلا يبقى الأمر على عواهنه، أورد هنا شواهد من كلامهم تدل على انحرافاتهم الهائلة في هذا الباب.

‌أولًا: محاربة الحكم الإسلامي، ويتجلى ذلك في عدة أمور:

1 -

رفضه ورده جملة وتفصيلًا، والسعي لهدم أصول التشريع الإسلامي.

2 -

الزعم بأنه لا حكم في الإسلام.

3 -

الزعم بأنه لا يلائم العصر، وأنه لا يُمكن اعتماد الإسلام نظامًا للحكم.

(1)

انظر: تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين: ص 7.

ص: 1883

4 -

الزعم بأنه سببب للتخلف وعائق عن التقدم، وأنه لا تحرر فيه بل هو ضد الحرية.

5 -

الزعم بأن أحكام الشريعة بشرية من صنع البشر وليست إلهية.

6 -

القول بوجوب فصل الدين عن الدولة؛ لأن الدين شأن شخصي فقط، ولأن إخضاع الدنيا للدين مشكلة وكارثة عندهم.

7 -

القول بوجوب تفسير الإسلام تفسيرًا عصريًا، وتطبيقه تطبيقًا علمانيًا.

8 -

السخرية بأحكام الإسلام.

ومن خلال هذه الأمور يتجلى الموقف العدائي الذي ينطوي عليه أصحاب هذا الاتجاه الهدام، تجاه الإسلام والمسلمين، وهو ما يدل دلالة قطعية على عمق المضادة والمناقضة والعداوة لدين الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حكم ومنهاجًا للحياة، وتاريخًا وحضارة.

‌الأمر الأول: رفض ورد حكم الإسلام جملة وتفصيلًا، والسعي لهدم أصول التشريع الإسلامي

.

وهذا مما يكاد يتفق عليه الجميع، ولكن بعضهم تهيأت له الظروف المناسبة -وما أكثرها اليوم- فصرح وأعلن وجاهر بذلك، وبعضهم لم تتهيأ له هذه الظروف، فلمّح ولوَّح والتوى، وركب متون الشبه والإلباس، وخاض مستنقعات التلاعب بالمفاهيم والمصطلحات والألفاظ، ليصل في النهاية إلى عين ما وصل إليه الأولون، فإذا هم في حقيقة الأمر مجتمعون على محاربة الإسلام، مجمعون على رفض حكمه وإنَّما الفرق بينهم في الطريقة والأسلوب.

يقول أدونيس في تلمود الحداثة "الثابت والمتحول" ممتطيًا جبران ليعبر من خلال عن أفكاره وعقائده: (لا يستطيع الإنسان كما يرى جبران في "المجنون" وفي نتاجه كله، أن يصبح نفسه، إلَّا إذا هدم ما يعادي حريته الكاملة، وتفتحه المليء، وما يقف حاجزًا دون طاقته الخلاقة وتتجسد هذه

ص: 1884

القوة المعادية، كما يرى جبران، فيما يسميه "الشريعة" بتنوعاتها وأشكالها السلطوية، الماورائية، والاجتماعية: اللَّه "بالمفهوم التقليدي"، الكاهن، الطاغية، الإقطاعي، الشرطي. . . إلخ.

من المقطوعات المهمة التي توضح ثورة جبران على ما يسميه الشريعة العظيمة، مقطوعة في كتابه "السابق"(1920) بعنوان "البهلول" ففيها يتمرد البهلول على الشريعة بخضوعه الكامل لها، الإنسان يرفض الشريعة إمّا بشكل مباشر، حيث يعلن انفصاله عنها، وإمَّا بشكل غير مباشر، أو بشكل ساخر حيث ينفذها تنفيذًا حرفيًا كما يفعل البهلول.

وتكشف هذه الطريقة في رفض الشريعة عن براءة الإنسان المطلقة وعن تجاوز إنسانيته لكل شريعة، فالإنسان قبل الشريعة هو الأصل. . . الشريعة في نظر جبران، ترتبط دائمًا بمقتضيات المحافظة وبما يغتصب السيادة الحقيقية، فالشريعة خداع واغتصاب، إنها مؤامرة الذين يريدون أن يظلوا أسيادًا على عبيد، أو أن يكونوا ساحقين، فالشريعة هي الإرهاب الإنساني بامتياز، بل إن المجتمع لا يكون طاغية، ولا يكون عدوًا للتقدم والحرية إلَّا بالشريعة واستنادًا إليها، إن الطغيان والعبودية من ثمار الشريعة. . .

. . . من يخضع للشريعة ليس عادلًا ولا يشعر أنه عادل، بل على العكس يشعر أنه مذنب، إنه أخطأ قَبْليًا، وهكذا تبدو الشريعة وجودًا سابقًا على الإنسان وتجعل منه، بالتالي، أو تنظر إليه على أنه مخطيء أو مجرم، مسبقًا، وأنها موجودة لانزال العقاب الملائم، بغية إصلاحه، ومن هنا تغير موقف الإنسان من الشريعة: كان في الماضي يدعمها ويحافظ عليها، أمّا اليوم فيرفضها ويغيرها.

المثل العربي البارز على رفض الشريعة من أجل الحقيقة، أي من أجل ما يتجاوز الشريعة، هو التصوف - على صعيد التجربة الفكرية، وهو الصعلكة على صعيد التجربة الحياتية. . .، أمّا الاتجاه الثاني القائم على الفكاهة والدعابة فهو نوع من الحركة التي لا تصعد من الشريعة إلى مبدأ أسمى منها،

ص: 1885

بل على العكس، تهبط من الشريعة نحو نتائجها، أي نحو تطبيقها بشكل حرفي، فالتطبيق الحرفي للشريعة ينقلب إلى هزء بالشريعة، بحيث تبدو عبثية وباطلة، وبحيث يستمتع من يطبقها استمتاعًا كاملًا بما تحرمه عليه وتمنعه من تحقيقه.

في موقف جبران من الشريعة نلمح هذين الاتجاهين: فهو من جهة كما يتجلى في مقطوعة "البهلول" يتجاوز الشريعة بروح الدعابة - بتطبيقها حرفيًا، كأن العقاب شرط يجعل اللذة الممنوعة ممكنة، وهو من جهة ثانية، كما يتجلى في مقطوعة "الشرائع" مثلًا، يتجاوز الشريعة بالدعوة إلى الطبيعة الأصلية التي تسبق الشريعة ولا تعرفها - والتي هي شريعة نفسها، الإنسان هو الطبيعة الأولى، أمَّا الشريعة فطبيعة ثانية، وجبران ينادي بالطبيعة الأولى ويدعو إلى العودة إليها)

(1)

.

هذا القول يعتبر تأصيلًا للحداثة في موقفها من الشريعة، ونصًا محتذى من قبل أتباع الحداثة، عليه يدورون وعلى منواله ينسجون، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هو دلالة صارخة على مقدار العداوة لشريعة الإسلام، وحقد متجذر في الموقف من الإسلام كله.

وليست الشريعة في هذا القول سوى الشريعة الإسلامية، وإن حاول أدونيس أن يلبس بذكر ما سماه الأشكال السلطوية مثل الكاهن والطاغية والإقطاعي والشرطي، إذ مراده الأصل ما ذكره أولًا:"اللَّه بالمفهوم التقليدي" حسب افترائه الإلحادي.

ثم استعارته لشخصية "بهلول"

(2)

الذي يظهر أنه تظاهر بالجنون ليقول

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 181 - 183.

(2)

بهلول بن عمرو الصيرفي أبو وهيب، من عقلاء المجانين، كان يخلط وعظه وجرأته على الحكام بالتظاهر بالجنون، وكان في منشأه من المتأدبين المتعلمين ثم وسوس، أو تظاهر بذلك فعرف بالمجنون، ولد ونشأ في الكوفة، واستقدمه الرشيد وغيره من الخلفاء لسماع كلامه، له أخبار ونوادر ووعظ وشعر، توفي نحو سنة 190 هـ. انظر: الإعلام 2/ 77.

ص: 1886

ما لا جرأة للعقلاء على إظهاره، وكان يعظ ويأمر بمعروف وينهى عن منكر ويقاوم ظلم الحكام وعمالهم، ذكره للبهلول يدل على أن مراده ومراد جبران من الشريعة شريعة الإسلام، وليست شريعة اليهود ولا دين النصارى ولا دين النصيرية.

ثم إن دعواه المتكررة أن الإنسان قبل الشريعة، دعوى عرية من البرهان، ومجازفة بالقول الكاذب من غير دليل، وهو دأب أدونيس وأضرابه، الذين يقررون القول تقريرًا يظن سامعه أنه هو الصواب الوحيد، والقول الحق الفريد، ثم يسترسل بعد ذلك في دعاوى لا تقل بهتانًا عن هذا، كقوله الشريعة اغتصاب وخداع ومؤامرة، وإرهاب، وعدوًا للتقدم والحرية، والخضوع لها ظلم وذنب، إلى غير ذلك من الدعاوى الجوفاء المجردة حتى من دليل سوفسطائي!!.

ثم يذكر الصوفية الباطنية التي رفضت الشريعة؛ ليكون ذلك دليلًا آخر على أن مراده بالشريعة "الإسلام وليس غير" ثم ليكون ذلك دليلًا آخر على باطنيته المتأصلة، ونصيريته المتعمقة في صميم قلبه وعقله.

ثم هو في سياق كلامه عن الصوفية الرافضة للشريعة يؤكد أنهم ما رفضوا الشريعة إلَّا من أجل الحقيقة ثم يضيف: (أي من أجل ما يتجاوز الشريعة)، وهذه دعوى كاذبة بلا دليل، وهي -في الوقت ذاته- دعائية إلحادية مجانية هابطة، يضحك بها على عقول البلهاء أتباع الحداثة.

ثم يعاود أدونيس الكلام على الطريقة نفسها فيقول: (من الثورة على الشريعة - السلطة ورموزها، ينتقل جبران إلى الثورة على الأسباب العميقة التي تكمن وراءها وتؤدي إليها، هكذا يعلن الثورة على الماضي، وهي الثورة التي تتضمن كذلك الاتجاه نحو المستقبل، المظهر الأول لهذه الثورة هو في التحرر من التقاليد، سواء كانت هذه التقاليد عبادات أو عادات)

(1)

.

ثم يستشهد أدونيس بكلام من مقطوعة لجبران بعنوان "حفار القبور"

(1)

المصدر السابق 3/ 187 - 188.

ص: 1887

ثم يقول: (وفي هذه المقطوعة يسمي اللَّه والأنبياء والفضيلة والآخرة ألفاظًا رتبتها الأجيال الغابرة، وهي قائمة بقوة الاستمرار، لا بقوة الحقيقة، شأن الزواج الذي هو "عبودية الإنسان لقوة الاستمرار" والتمسك بهذه التقاليد موت، والمتمسكون بها أموات، وعلى كل من يريد التحرر منها أن يتحول إلى حفار قبور، لكي يدفن أولًا هذه التقاليد، كمقدمة ضرورية لتحرره)

(1)

.

ثم يذكر بعد ذلك أمثلة للتحرر ويستشهد بإباحية جبران الذي عده (من رواد الثورة الجنسية المعاصرة)

(2)

والذي ينادي بترك العلاقة بين الرجال والنساء حرة، ويطلق الجنس بينهما بإباحية مطلقة، ويقف ضد الزواج، وينادي بتحرير المرأة وأن تسلك ما تريد بمقتضى قلبها وحبها، ويسمي رجم الزانية شريعة عمياء

(3)

.

وعند هذا السياق يجب أن نشير إلى جبران الممتطى من قبل أدونيس في هذه القضية وغيرها، إشارات توضح لنا مقدار كاهن الحداثة القديم، فقد كان نصرانيًا حتى آخر لحظة من حياته (فقبل أن يلفظ جبران أنفاسه الأخيرة، تقبل الأسرار الإلهية، وقد نشرت صورة الكاهن الذي تولى هذا الأمر، واسمه الخور أسقف فرنسيس واكيم؛ راعي كنيسة القديس يوسف المارونية في نيويورك)

(4)

.

ومع ذلك فقد تبناه أحد كبار اليهود، ونسبه إلى اليهودية روحيًا، أي أنه قام بالدور المطلوب والمرغوب يهوديًا ولذلك (حسبه الأستاذ فرانكل رئيس الطائفة اليهودية في مدينة ديترويت ميتشغان في المحاضرة التي ألقاها حول تحليل كتاب "النبي" في 28 من كانون الأول 1924 م إنه ليس يهوديًا بطائفته ولكنه يهودي بروحه)

(5)

.

(1)

المصدر السابق 3/ 187 - 188.

(2)

المصدر السابق 3/ 188.

(3)

انظر: المصدر السابق 3/ 188 - 189. وانظر: أسئلة الشعر: ص 139 - 140.

(4)

أحاديث عن جبران لرياض حنين، والكلام المنقول لجبران تويني: ص 32.

(5)

المصدر السابق: ص 96.

ص: 1888

وهو مع ذلك كله ينفي البعث والآخرة ويقول بتناسخ الأرواح: (إن جبران كان يعتقد بتناسخ الأرواح، فالمرء لا يزول من هذه الدنيا، بل إنه ينتقل منها إلى عدة حيوات، وقد روى لماري هاسكل عن انتقاله هو بالذات، مرارًا وتكرارًا فقال: إنه غاش حياة بشرية في الماضي مرتين في سوريا ومرة في إيطاليا وأخرى في اليونان، ومرة في مصر وست مرات أو سبع في بلاد الكلدان وواحدة في كل من الهند وفارس)

(1)

.

أمّا دعارته وانحطاطه الجنسي فهو أمر اشتهر وعرف، أمّا سرقاته من الغرب وانتحالاته فقد أضحت ثابتة حيث إن جبران (عرب قصيدة "الأرض" عن شاعر إنكليزي مجهول وادعى أنها من وضعه، وهذه القصيدة عثر عليها أحد السياح الأمريكيين وهي محفورة على مدخل قصر قديم مهجور في بريطانيا ونشرت هذه القصيدة في المجلات الأمريكية)

(2)

.

وهكذا يتمدد أدونيس من خلال هذه النظريات الإلحادية التي يهدف من ورائها إلى إلغاء الشريعة جملة وتفصيلًا، ويجد له آذانًا صاغية من ذوي العقول المستطرقة تحت أقدام ذوي الشبهات والشهوات.

والأهم في هذا الصدد كله أن أدونيس يثبت من خلال هذا الطرح في هذه المقاطع، وفي كتابه كله، أنه لا إبداع ولا تحديث ولا تقدم، إلَّا من خلال هدم الدين، وتحطيم عقيدة المسلمين، وإبعاد الشريعة الإسلامية، أي: أن هذه المقدمات هي الشرط الأول للحداثة، وهذا ما حصل -فعلًا- في الحداثة، وإن كانوا في ذلك بين مقل ومكثر، ومجاهر ومستتر.

ومن ألاعيب التلبيس ما كتبه نصر حامد أبو زيد عن "الحاكمية" في مقال له بعنوان "النصوص الدينية بين التاريخ والواقع" حيث هاجم عقيدة الحكم بما أنزل اللَّه عن طريق مهاجمته للخطاب الديني أو الخطاب الأصولي -حسب وصفه- حيث جعل الدعوة إلى أسلمة العلوم والفنون، والدعوة إلى تحكيم الشريعة كلها (تنتهي إلى مد سلطة رجال الدين على كل

(1)

المصدر السابق: ص 115.

(2)

المصدر السابق: ص 93.

ص: 1889

مجالات الحياة، إنها تنتهي إلى "محاكم التفتيش" التي تدين بل تحرم كل اجتهاد إنساني في كل المجالات المعرفية، فتصمه بالانحراف والضلال والإلحاد. . . وهكذا تتبدى مغالطة الخطاب الديني الذي ينكر النتائج المنطقية لكل فى عواه بإنكار أن "الحاكمية" تعني تحكيم رجال الدين في كل شؤون الحياة)

(1)

.

فبدلًا من مهاجمة نصوص الشريعة كما هو عنوان مقاله، وبدلًا من مهاجمة الإسلام مباشرة، يلجأ إلى مهاجمة ما يسميهم رجال الدين، وهي شنشنة معهودة معروفة من العلمانيين المتسترين بالدراسات والتحليلات.

أمَّا حديثه عن توقعه أن تتحول الحياة -إذا حكم أهل الإسلام- إلى محاكم تفتيش، فهو تحكم بالقول وادعاء بلا بينة، فقد أثبت التاريخ الماضي أن دول الإسلام لم يكن فيها محاكم تفتيش كما كان بين البروتوستانت والكاثوليك، وإن كان هناك بعض المظالم والتعديات المحدودة، لكنها لم تصل إلى هذا الحد الذي اقتبس صورته أبو زيد من الغرب ليطبقه على الإسلام والمسلمين، كعادته في كل منهجه.

ثم إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى فإننا نجد أن العلمانيين الذين حكموا بلاد المسلمين هم الذين مارسوا "محاكم التفتيش" التي تدين بل تجرم كل من دعا إلى اللَّه أو طالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو نادى بأسلمة الحياة.

وما أنباء سجون عبد الناصر والسادات وحسني ببعيدة عن سمع وبصر هذا العلماني وغيره من العلمانيين.

وما أنباء الجزائر وتونس وليبيا وسوريا والعراق والصومال وما كان يعرف باليمن الجنوبي، وتركيا والجمهوريات الإسلامية فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي وغيرها؛ إلَّا أدلة ساطعة قاطعة على "محاكم التفتيش

(1)

قضايا وشهادات 2/ 386.

ص: 1890

العلماني" التي سكت ويسكت عنها جميع العلمانيين، بل ويؤيدها أكثرهم تحت حجة مقاومة الإرهاب، والتطرف الديني، وليس لهم من مراد إلَّا إبعاد الإسلام عن الحياة بالإعلام أو بالسياسة أو بالتعليم أو بالسجن والقتل والتدمير، وفي مؤتمر "شرم الشيخ" الذي عقد في شوال من عام 1416 هـ أوضح دليل على الخطو المتسارع الذي يسعى فيه هؤلاء لحرب الدين والأمة، تحت شعار مكافحة الإرهاب.

وإنني وأنا أكتب هذا الفصل وأسمع هذه الأنباء المتتالية لأعجب من عدم اكتفاء الأنظمة العلمانية المفروضة بما فعلوه من سجن وطرد وتشريد وتنكيل وإيذاء أولياء اللَّه من علماء الإسلام ودعاته، حتى استعانوا باليهود والنصارى ليكون بعضهم لبعض ظهيرًا في حرب دين الإسلام وأهله.

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}

(1)

.

وبعد مهاجمة نصر حامد أبو زيد للخطاب الديني المعاصر الذي يرى أنه مناهض لإنجازات النهضة والتنوير -حسب عقيدته الجاهلية- ويرى أنه (خطاب ديني غاشم يسعى إلى إطفاء كل المصابيح الإنسانية)

(2)

.

ثم يطالب بأن (يرفع غطاء القداسة عن الخطاب الديني القديم والحديث على السواء)

(3)

من خلال دراسة النصوص الدينية لا على أنها مطلقة وقاطعة، بل على أنها تاريخية ضمن إطار ما يسميه:"الوعي التاريخي العلمي للنصوص الدينية" والذي يفسره بقوله: (إن ما نعنيه بالوعي التاريخي العلمي للنصوص الدينية يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديمًا وحديثًا، ويعتمد على إنجازات العلوم اللغوية خاصة مجال دراسة النصوص، وإذا كان الفكر الديني يجعل قائل النصوص -اللَّه- محور اهتمامه ونقطة انطلاقه فإننا

(1)

الآية 8 من سورة الصف.

(2)

المصدر السابق 2/ 388.

(3)

المصدر السابق 2/ 387.

ص: 1891

نجعل المتلقى - الإنسان ما يحيط به من واقع اجتماعي تاريخي، هو نقطة البدء والمعاد)

(1)

.

وبهذه الطريقة الغائمة العائمة فوق طفح الفلسفات الغربية يسعى أبو زيد لإلغاء الدين كله من خلال إلغاء مصدره الذي هو الوحي، وإبطال قدسية نصوصه، وهو ما سبق الحديث عنه في الكلام عن الانحرافات المتعلقة بالكتب المنزلة، ومن ذلك حديثه عن خلق القرآن وتأييده لهذه البدعة الشنعاء ليصل من خلالها إلى أن الوحي وما ترتب عليه من أحكام شرعية ليست سوى نتاج بشري محض أو كما قال:(إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية)

(2)

، بل يرى أنه (يُمكن أن يقال: أن كلام اللَّه قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين: تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هو المسيح، وتجسد في الإسلام نصًا لغويًا في لغة بشرية هي اللغة العربية، وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريًا، أو تأنس الإلهي)

(3)

.

- ثم يخلص بعد ذلك إلى القول: (الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول بأن النصوص الدينية نصوص لغوية شأنها شأن أي نصوص أخرى في الثقافة)

(4)

.

ثم طبق هذه النظرية الإلحادية على صفات اللَّه وأخبار الغيب

(5)

، ثم اتجه إلى أحكام شرعية أخرى مدعيًا سقوطها وبطلانها وانتهاءها بحكم بشرية النصوص، وإنسانية الوحي، حسب مزاعمه الإلحادية.

ومن الأحكام التي تحدث عنها بهذا المنظور: ملك اليمين، عتق الرقبة، أحكام الرق، أخذ الجزية، أحكام أهل الكتاب

(6)

، ثم تحدث عن الربا ونادى بإسقاط حكمه الشرعي

(7)

، ثم يتجه إلى قضية القضايا عند

(1)

المصدر السابق 2/ 387.

(2)

المصدر السابق 2/ 389.

(3)

و

(4)

المصدر السابق 2/ 391.

(5)

انظر: المصدر السابق 2/ 392 - 393.

(6)

انظر: المصدر السابق 2/ 395.

(7)

انظر: المصدر السابق 2/ 397 - 398.

ص: 1892

العلمانيين والحداثيين: "الحاكمية" و"العبودية" التي يرى أنها تسعى (في المساهمة في تكبيل الإنسان بكل أنماط القيود التي تجعله قابلًا لأي نظام اجتماعي/ سياسي ينتزف قواه ويقضي على إنسانيته)

(1)

.

ثم يتوجه بتلبيس لا يستطيع معه إخفاء حقده فيقول: (وحين يحصر الخطاب الديني العلاقة بين اللَّه والإنسان في بعد "العبودية" وحده فإنه يستحضر المعنى المجازي للعبودية، بل يصر على تأكيد الدلالة الحرفية، وهي الدلالة التي تتأكد بطريقة حاسمة حين توضح في سياق التأويل الحرفي لصورة الإله الملك صاحب العرش والكرسي والصولجان والجنود التي لا حصر لها)

(2)

.

وهكذا تطفح عقيدته الساخرة باللَّه تعالى وملائكته الكرام وبالشريعة الإسلامية كلها، فلا يستطيع الانفكاك -مع كثرة التلاعب والالتواء اللفظي- من ظهور غدد وبثور الإيدز العلماني على وجه كتابته الكالحة.

ومن أمثلة ذلك غير ما سبق قوله: (إن إصرار الخطاب الديني على اختصار علاقة الإنسان باللَّه في بُعد "العبودية" بالمعنى الحرفي التاريخي إصرار يصادم الموقف الإسلامي ذاته)

(3)

.

كيف ذلك؟ لا يجيب، بل يسترسل بعد تقرير هذا الكلام فيقول: ("الحاكمية" مفهوم يتنامى في أطروحات الخطاب الديني على مقولة "العبودية" -ثم يسوق بعض الآيات الآمرة بالتحاكم إلى اللَّه ورسوله ثم يقول- إن الدعوة إلى تحكيم الرسول عليه السلام في أي خلاف يشتجر بين اثنين أو بين جماعتين أمر طبيعي في بنية المجتمع العربي آنذاك، ألم يختلفوا في شأن الحجر الأسود فاتفقوا على أن يرضوا بحكم أول الداخلين، ولم يكن ذلك يعني إعطائه

(4)

أي صلاحيات خارج إطار الخلاف موضوع الحكم،

(1)

المصدر السابق 2/ 399.

(2)

المصدر السابق 2/ 400.

(3)

المصدر السابق 2/ 401.

(4)

هكذا والصحيح: إعطاءه.

ص: 1893

النص لم يتحدث عن الحكم بالمعنى الشامل الواسع الذي يطرحه الخطاب الديني)

(1)

.

وهكذا بكل كذب ومغالطة يصادر النص القرآني ودلالته القطعية، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}

(2)

ويجعل حكم اللَّه ورسوله المأمور به مثل الحكم الطارئ الذي حدث قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم عند وضع الحجر الأسود، ويعمم ذلك تعميمًا ظالمًا جائرًا مؤداه: أن تحكيم الرسول كان عند قريش في شأن الحجر الأسود بعد أن اختلفوا فيه مجرد عادة كانت تحدث في بنية المجتمع آنذاك، الذي لم يعط محمدًا صلى الله عليه وسلم صلاحية الحكم في غير هذه القضية، وهذا هو معنى الآية، ومدلولها -حسب جهله وكذبه- أي أنه لا حكم في الإسلام ولا حكم للإسلام مطلقًا، وأن الرسول لم يحكم إلَّا في قضايا محدودة، حسب العرف في عصره ذلك.

وهذا كله مغالطة مكشوفة، وجهل فاضح، ولكن العلمانيين لا يستحيون!!.

ويمضي أبو زيد في تطبيق جهالاته فيطالب بالمساواة بين الذكور والإناث في الميراث، ثم أحكام اللباس واللحية وطريقة الطعام تحت ستائر التضليل العلماني المهترئ، مثل الاحتجاج بدلالة مغزى النص

(3)

الذي يريد به فتح المجال للاجتهادات العلمانية الحداثية!!؛ لكي تلعب بنصوص الشريعة كيف شاءت، ذلك أن "مغزى النص" يقوم عنده على إلغاء دلالته الظاهرة والمعهودة عند السلف والمعروفة عند المسلمين طوال تاريخهم، ومثل الاحتجاج بما يسميه المضمر والمسكوت عنه في النص

(4)

، وهو نوع من التأويل الباطني الحداثي يسوقه ضمن فذلكة بنيوية متهافتة.

(1)

المصدر السابق 2/ 402.

(2)

الآية 65 من سورة النساء.

(3)

انظر: المصدر السابق 2/ 404، 405.

(4)

انظر: المصدر السابق 2/ 405 - 406.

ص: 1894

وكل ذلك لكي يخلص إلى مقصده المنحصر في إسقاط حكم اللَّه جملة وتفصيلًا من خلال العبث بنصوص الشريعة الإسلامية، ونصب أحاييل المصطلحات والألفاظ المولدة سفاحًا في بيوت الدعارة الفكرية، والتزاوج السفاحي مع المذاهب الأوروبية والفلسفات المادية.

ومن نتاج ذلك ما قاله الصادق النيهوم: (. . . منذ مطلع القرن الهجري الأول، كان الفقه الإسلامي يتلقى علومه بحماسة كبيرة في مدرسة التوراة)

(1)

.

ثم يستشهد على ذلك بقضية الحيض والحجاب فيقول: (وكان موضوع الطمث، قد أعيد إلى خانة "النجاسة" من جديد، فتحولت المرأة المسلمة خلال فترة الطمث إلى امرأة "غير طاهرة" مرة أخرى، وعمد الفقهاء إلى إبطال صلاتها وصيامها طوال أيام الحيض في فتوى، لا تستند إلى نص القرآن بل تستند إلى قول التوراة. . . وفي ظروف هذا الانقلاب العبراني على لغة القرآن، قامت القيامة سرًا، وبعث عالم التوراة حيًا في واقع المسلمين، فأصبح عزل المرأة المسلمة فريضة في أصل الشريعة، وتحولت المرأة نفسها إلى "حرم" لا يراه سوى الأقارب، وصار النظر إلى جسدها خطيئة، وتصاعدت هذه الحرب السماوية ضد المرأة إلى حد جعل مجرد لمس يدها "نجاسة" تنقض الوضوء. . . فحجاب المرأة ليس شريعة من أي نوع، بل منهجًا تربويًا مكتوبًا بلغة السحرة، قاعدة النظرية أن "المرأة مخلوق نجس" وقاعدته العملية أن يقنع المرأة نفسها بقبول هذه الشخصية)

(2)

.

وهكذا نرى المرض العلماني يستولي على عقل صاحبه حتى يجعله يتخبط في الجهالات تخبط الغريق، بيد أنه يجب أن يعلم أن هذا الكاذب المسمى الصادق النيهوم حين يتحدث عن الإسلام بهذه الطريقة ليس لأنه يؤمن بالإسلام، فهو أصلًا ينكره ويجحده، ويريد نقضه، ويسعى في هدمه وإزاحته من واقع الحياة، ومن يطالع كتابه "الإسلام في الأسر" يوقن بهذا.

(1)

و

(2)

مجلة الناقد، العدد 13 تموز 1989 م/ 1409 هـ: ص 7.

ص: 1895

ويتبين له كيف يستخدم الآيات والأحاديث وقضايا ومصطلحات الإسلام استخدامًا مغالطًا مضللًا كاذبًا، في محاولة سبئية دائبة لطمس الإسلام، وتشويه حقائقه، والتلاعب بمضامينه تحت سيل من الآراء الباطلة وإلادعاءات الكاذبة ليكونوا رأس رمح في الغارة الجديدة على الإسلام وأهله، وليثبتوا لأسيادهم أنهم قاموا بالدور المرسوم لهم في حرب دين اللَّه وأوليائه.

يقول أحدهم: (أن أهم خطر يواجه الإسلام الآن يكمن في الدعوة إلى تحويله من عقيدة إلى نظام للحكم "ثابت وأزلي" لم يوجد أبدًا، ولن يوجد في المستقبل أيضًا، أن القوة الروحية والثقافية للإسلام "وهذا هو جوهره" تكمن في دعواه من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية)

(1)

.

ويقول: (إن الذين يريدون إقامة أنظمة دينية، أنظمة تتطابق فيها السماء مع الأرض، إنَّما يرتكبون خطأً كبيرًا بحق الدين نفسه، وهو خطأ يشير إلى سذاجة فهمهم للدين والدنيا في آن. . . إن الذين يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية ينبغي أن يقولوا لنا أولًا: أي شريعة يعنوان؟ إن كل مذهب يمتلك تصورًا خاصًا به عن الدولة الإسلامية التي يريدها، وهي تصورات سوف تقود الإسملام المتحول إلى أنظمة سياسية فقهية إلى ظلمات القرون الوسطى، إلى الحروب والمجازر)

(2)

.

(هذا الإسلام الذي يرتبط ببتر الأطراف وتعليق الأكف على واجهات المساجد وضرب الأعناق بالسيوف فى مهرجانات شعبية، ورجم النساء بالحجارة، واتخاذ العبيد والجواري، وتحويل النساء إلى عاهرات باسم الشرع "زواج المتعة" لا يُمكن أن يشكل جوهر الرسالة التي حملها محمد إلى البشرية)

(3)

.

(1)

المصدر السابق العدد 13: ص 18 والقول لفاضل العزاوي.

(2)

المصدر السابق: ص 19 للكاتب نفسه.

(3)

المصدر السابق: ص 19 للكاتب نفسه.

ص: 1896

وقبل ذلك يذكر استطلاعًا قام به أحد الألمان أيام الحرب العالمية، يقوم على سؤالين:"هل تؤمن باللَّه؟ وكيف تتصور اللَّه؟ " ثم يذكر جملة من الإجابات: (تقول إحدى النساء: "اللَّه حزين ينبغي علينا أن نواسيه"، ويرى أحد الرجال: "كان اللَّه موجودًا ولكنهم قتلوه" وتقول امرأة أخرى: "هناك إلهان، إله للأغنياء وإله للفقراء" ثم تضيف: "أحدهما شديد، ولكن لا سلطان له، وآخر رفيق ولكنه طاغ طاغ")

(1)

.

تعالى اللَّه وتقدس عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

بهذا النقل يسوغ الكاتب العلماني الحداثي فكرته القائمة على هذه المعاني الإلحادية، وفي آخر المقال يمتدح الشيوعية التي يزعم أنها هي وحدها (القادرة على تقديم برامج ومواقف مختلفة، تعكس مستويات الوعي المختلفة والقدرة على فهم الإبداع التاريخي)

(2)

.

أمَّا عبد الرحمن المنيف فإنه يصرخ بأنه (لا يسعنا تصور مجتمع قائم على أسس دينية في زمننا الحاضر، فالدين بات مسألة شخصية لا يتعدى هذا التخوم، لذا يستحيل قيام مجتمعنا على دعائم دينية كما يستحيل إغضاء

(3)

على أحد الأديان صفة الشمولية الكونية)

(4)

.

والمتفرنس المتغطرس محمد أركون الذي يهرب من كل شيء يسأل عنه أو يتحدث عنه إلى التحليل والتفلسف الفارغ والاحتيال الكاذب والدسيسة الخادعة تحت مسمى التحليل والدراسة؛ سئل: (هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ فأجاب:

(1)

المصدر السابق: ص 19 للكاتب نفسه.

(2)

المصدر السابق: ص 24.

(3)

هكذا والصواب: إضفاء.

(4)

رأيهم في الإسلام: ص 21.

ص: 1897

تندرج عبارة "دعوة شاملة" في معرض خطبة دينية، يجب تحليل هذا المفهوم الكوني على ضوء معطيات تاريخية وثقافية جديدة. . . بالنسبة للإسلام، كما لباقي الديانات يتعين تجديد مفهوم الكونية والشمولية، وكيف سيتمكن الإسلام من الانسجام مع هذه الثقافة الكونية الشاملة المستقبلية! فهي مسألة تستدعي التأمل)

(1)

.

ويعد هذه المراوغة لم يستطع إلَّا التصريح عندما سئل: هل يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟ أجاب: (أرفض هذه الصيغة، فالإسلام ليس بنظام حكم، لا تاريخيًا ولا عقائديًا)

(2)

.

أمَّا محمود المسعودي فإنه يعبر عن وجهة نظره العلمانية الرافضة لحكم الإسلام، فيجعل أساس ذلك، جعل الإنسان محورًا، بناء على ثقافته الفرنسية والتلقين الفرنسي الذي تلقاه من شبابه، فيقول: (. . . كأبناء جيلي، شبيت على أيدي موجهين فرنسيين، فلقنوننا الأدب الفرنسي. . . فكان لنا بمثابة عصارة الثقافة والحضارة إنسانية. المحور كان الإنسان في مكانته وكرامته ورسالته الإنسانية، إلى جانب هذا، انطبعنا على تحديد للإنسان، ضيق متحجر، فنحن من خلق اللَّه، وما جاء به الخالق يسيره القدر، أي اللَّه.

كتب علينا تقصي أسس لثقافتنا تبني على نظرة جديدة حول الإنسان وعيشة البيئي، غير تلك الموروثة عن أجيال الانحطاط)

(3)

.

ويقول أيضًا: (. . . المسؤولية والعظمة التي يتحلى بها الكائن البشري، كممثل للَّه في الكون، فينبغي عليه الخلق والإبداع لينوب عن الخالق في عمله الخارق، فعليه إذًا، رسم خطوط مصيره وابتداع ذاته أولًا، فالإنسان عطية الطبيعة حسب القرآن، والفطرة إطار خالي

(4)

يملأه

(5)

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 151.

(3)

المصدر السابق: ص 155.

(4)

و

(5)

هكذا والصواب إطار خالٍ يملؤه الإنسان.

ص: 1898

الإنسان، تلك هي مغامرة المدنيات والثقافات. . . فعليه إذًا إبداع ذاته، وتغيير العالم وخلق ظروف حياته في هذه الفانية. . . .)

(1)

.

ثم يصل في إجابته على الأسئلة إلى نقطة النهاية حيث قال: (يتحتم إدخال تعديلات على أحكام الشرع، والتسليم بأن بعض نصوصه. تجاوزها الزمن وضروريات الحياة العصرية)

(2)

.

وإن كان المسعودي التونسي يشير إلى الإسلام في مقطتفات من كلامه، على أساس أنه لا ينفي وجود الإسلام ولا أثره، وفق النظرة العلمانية، فإننا نجد غيره من حداثيي المغرب يعتبرون الإسلام واللغة العربية غزوًا دينيًا ولغويًا واقتصاديًا، ويعتبرونه استعمارًا تسلط على بلاد المغرب، وفتوحات عسكرية، تسلطت على الناس.

فهذا هو نبيل فارس البربري الجزائري يقول: (إن وصف تلك البلاد بالمغربية جغرافيًا وأحيانًا بالمستغربة، له دلالة رمزية أكيدة، وإذا ذكرنا تعرضها لغزوات لغوية، اقتصادية ودينية، لفهمنا تسمية "المغرب" هذه -وهي مستوردة أصلًا إذ أطلقها الآخرون عليها- فمصدرها غربة الأصل، ومردها نظرة العرب لهذه البلاد أبان فتحها. . .

. . . هيكلية الإسلام الذاتية المرتبطة بحلم التوسع الامبراطوري حلم الأمة الواحدة العائدة بقوة وعنف. ينبغي إذًا تخطي أمل العودة للأصل والقديم، بالنسبة لنا نحن المغاربة، الإسلاه ظاهرة تاريخية وافقت فتوحات عسكرية واستعمار)

(3)

.

ويقول البربري الجزائري الآخر كاتب ياسين الذي يتمنى أن اسمه كاتب لينين: (قبل الاستقلال كنت على قناعة من انتسابي إلى ماض أسطوري، بالتحديد إلى القبائل العربية الفاتحة، مثل بني هلال، ذلك أن في

(1)

المصدر السابق: ص 161.

(2)

المصدر السابق: ص 163.

(3)

المصدر السابق: ص 184 - 185.

ص: 1899

تلك الحقبة الزمنية ما كان "الإسلام العربي" ظاهرة خطيرة، بل كنا نتوسله ضد الاستعمار، أمّا اليوم وبعد كل ما حصل يجب القضاء على الأساطير. . .

ترى هل أن "الإسلام العربي" هو جزء من صميم شخصيتنا أم لا؟ أنا أقول: لا، ومجرد النفي هذا ينطوي على إرادة القضاء على تلك التصورات، فبالنسبة إلى المرأة الجزائرية يشكل الإسلام العربي طوقًا لا يحتمل، كما يشكل "التعريب" -لكونه سلاحًا سياسيًا ووسيلة تلاعب بالعواطف- بالنسبة إلينا في الجزائر، جرحًا داميًا نازفًا وآفة، من هنا القول: إن كل ما يتعلق بالإسلام العربي يتطلب توضيحًا، بغية الحد من الأضرار التي يلحقها بنا)

(1)

.

ويسترسل في هذه العنصرية الحاقدة والإلحادية الوقحة فيؤكد أنه يجب (الحذر من الأوهام والادعاءات العقائدية الدعائية من أجل العروبة، من هنا تمردي على القول بأن الجزائر عربية. . . لا وجود لعرق عربي، برأي، لذا يجب أن ننفض غبار الغموض، القاتل والمتأتي من تفاعل وتزاوج اللغة والدين: الدين العربي الإسلامي، كلنا مأخوذ وبنسب متفاوتة بهذا المعتقد. . .

لقد فرض علينا الإسلام دينا، وذلك في بلد يقول بالاشتراكية نظامًا وهو أمر على جانب كبير من الخطورة. . .)

(2)

.

فهذا والذي قبله يحاربون الإسلام كله في أي مظهر ظهر، وفي أي صورة من الصور: في لغة أو شريعة أو حكم أو منهج حياة، أو سلوك، إنهم كما وصفهم زميلهم الماركسي الجزائري رشيد بوجدره "عرب الخدمات الفرنسية"، وذلك في قوله: (الكلام الذي قاله المؤدب والقاسمي وآخرون ممن عرفوا ككتاب مغاربيين فرانكفونيين، يعد فضيحة حقيقة، يقولون أيضًا

(1)

المصدر السابق: ص 193.

(2)

جريدة الشرق الأوسط، عدد 6345 في 12/ 4/ 1996 م/ 1416 هـ: ص 21.

ص: 1900

إن الفرنسية هي لغة التحرر، واللغة العربية هي لغة الدين والعبادة واللاهوت؛ لأنهم يجهلون التراث واللغة والحضارة العربية الرائعة، إن موقفهم يعبر عن جهل وخيانة بل وعن خبث، وليسوا الوحيدين المعروفين بمفهوم "عرب الخدمات الفرنسية" الذين يستجيبون لأيديولوجية تعادي الحضارة العربية الإسلامية. . . إنه وصولية سياسية وإذا أردت أصولية أيديولوجية، وللأسف مثل هؤلاء يعدون أنفسهم حداثيين وتقدميين بالرغم من أن أدبهم يستجيب لمقاييس غير إبداعية، والدليل على ذلك ضحالة وضعف الكثير من الكتابات الأدبية التي يروج لها في الإعلام الغربي. . . عرب الخدمات الفرنسية يجحدون اللغة الفرنسية؛ لأنها تضمن لهم العيش باسم الأدب والصحافة -ثم يتحدث عن كاتب ياسين فيقول- للأسف لقد قال ما يرضي أسياده، وأنا لن أمسح له هذا الموقف، وسيبقى وصمة عار في جبينه، وسياسيًا ياسين يختلف عن الذين ذكرتهم، وسياق مواقفه تختلف من الأدباء المغاربين الذين "أدمنوا" على الانتهازية السياسية، لكنه بدوره يجهل الحضارة العربية الإسلامية، ووقع في فخ الخلط بين الموقف السياسي والمعرفة الحضارية والثقافية والتاريخية، في حين أن البعض "عرب الخدمة" لا يجهلون الحضارة العربية الإسلامية والإبداع الأدبي العربي، لكنهم منافقون لأغراض مصلحية ومادية)

(1)

.

وهذه شهادة رجل من أهل الحداثة، ومن الذين تربو على الفكر المادي، بل هو من أجرأ الحداثيين على الاعتراف بالكفر إلى حد أنه يقول:(التدين عندنا خبث)

(2)

، ويقول:(أنا الملحد)

(3)

ويصرح بأنه يسعى التشكيل اتحاد ملحدين جزائريين يمكنهم الدفاع عن أنفسهم كجماعة، يكفيها شيء من الأقدام والجرأة لتفرض احترامها. . . نحن الأقلية المظلومة يعتري التباعد علاقاتنا مع السلطة خلافًا للمسلمين المؤمنين، فمن السهل أن

(1)

جريدة الشرق الأوسط، العدد 6345 ففي 12/ 4/ 1996 م: ص 21 أجرى الحوار بو علام رمضاني.

(2)

و

(3)

رأيهم في الإسلام: ص 166 - 167.

ص: 1901

تكون مسلمًا في هذه البلاد، ولكن من الصعوبة بمكان أن تكون ملحدًا)

(1)

.

هذا الملحد الماركسي المتبجح يعلن عن خبرة ودراية عن الحداثيين الذين يمثلون -حسب قوله- "عرب الخدمات الفرنسية"، وسوف نجد أيضًا "عرب الخدمات الأمريكية" مثل الصايغ وجبران والريحاني و"عرب الخدمات الماركسية" مثل بو جدرة والبياتي وسعدي يوسف وبسيسو، و"عرب الخدمات اليهودية" مثل أميل حبيبي وسميح القاسم وتوفيق زياد، وكل هؤلاء يشهدون بواقعهم وبأشخاصهم وكتاباتهم على هذه الأوصاف الملازمة لهم.

ومن الأسماء الذين نص عليهم رشيد بو جدرة على أنهم من عرب الخدمات الفرنسية: عبد الوهاب المؤدب

(2)

، الذي يقول:(لا أعتقد أن التوحيد هو تقدم بالنسبة للوثنية)

(3)

.

ويؤكد في ادعائية فجة أنه لا يتم بلوغ الكمال الإنساني إلَّا بعيدًا عن الضغوط الدينية في سبيل حياة أفضل بين الناس، بفعل منطق لا يحتاج معه الاستعانة باللَّه

(4)

، ولما سئل:(هل يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم قال: كلا)

(5)

.

أمَّا عادل ظاهر فلن أنقل من كلامه شيئًا في هذا الصدد، وذلك لكثرته، وبشاعته، وامتلائه بالأكاذيب والجهالات والمغالطات التي يصوغها -

(1)

المصدر السابق: ص 169.

(2)

عبد الوهاب المؤدب، حداثي علماني مغربي من ذوي الارتباط بالثقافة الفرنكفونية الفرنسية، يرى أن سمو التوحيد يتطلب برهانًا كما الوثنية، ويشكك في أمية النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى أن عصر الخلفاء الراشدين لم يكن سوى مسرح للحروب الأهلية، ولقول أنه يدين بدين ابن عربي وينادي بالانفتاح على الأديان، وأنه لا يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظامًا للحكم، بل يخشم أن يأتي حكم الإسلام. انظر: انظر: رأيهم في الإسلام: ص 213 - 228.

(3)

رأيهم في الإسلام: ص 226.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 227.

(5)

المصدر السابق: ص 228.

ص: 1902

كما يظن بجهله- في أسلوب فلسفي، وقد تحدث في ندوة دار الساقي في لندن عن "الإسلام والعلمانية"

(1)

وأطلق أباطيله، ونفث بعض حقده على الإسلام والمسلمين متظاهرًا بالموضوعية والنقاش المجرد، ولكن خبيئة قلبه المريض أبت عليه إلَّا أن يبدي ما استتر، ويظهر ما اختفى، ومثل هذا وأشنع منه وأخبث ما سطره بيده الشلاء في كتابه "الأسس الفلسفية للعلمانية"

(2)

الذي أفاض فيه من الأقوال الخائبة، التي ينصر بها الإلحاد والعلمانية، ويحارب بها الإسلام لا في مجال الحكم والتشريع فحسب، بل في كل مجال من مجالات الإسلام، من العقائد والأحكام، والأصول والقواعد، ابتداءً بمحاولة هدم الوحي، والنبوة، وانتهاء بمحاولة هدم التطبيق والعمل المبني على الوحي والنبوة.

غير أن كتابته في هذا الكتاب وغيره تتميز بالإسهاب الممل، والغموض والتفكك والالتواء، وعدم القدرة على الإفهام والإيضاح، ومحاولة التفلسف الجوفاء، والبلادة في الأسلوب، وهو ما يذكر بقول الناقد الحداثي حامد أبو أحمد

(3)

، الذي يصف فعل الحداثي الذي: (اقتطع بعض أجزاء مفرقة من الكتاب الأجنبي ثم ترجمها مع بعض التصرف أو الاختصار، ثم ربط هذه الأجزاء المبعثرة بطريقة الربط التي شاعت في كثير من الكتب خلال العشرين عامًا الماضية، وهي طريقة يعلم الكافة الآن أن لها خصائص محددة من بينها أنك يا عزيزي القارئ ينبغي أن تضرب رأسك في الحائط حتى تفهم، وإذا لم تفهم فهذا أفضل؛ لأنك في هذه الحالة لن تكتشف

(1)

الإسلام والحداثة: ص 71 - 100.

(2)

الأسس الفلسفية للعلمانية لعادل ظاهر، إصدار دار الساقي، ويقع في 429 صفحة.

(3)

حامد حامد يوسف أبو أحمد، ناقد حداثي متخصص في الأدب الأسباني، حصل على الدكتوراه من جامعة مدريد، أستاذ مشارك في معهد اللغات والترجمة بجامعة الملك سعود، له كتب عديدة أكثرها مترجم، ومنها رواية من قتل موليرو للكاتب البيرواني ماريوبارجس يوسا، التي أحدثت ضجة كبيرة بسبب الجنس المكشوف فيها، وله كتاب نقد الحداثة مع إشادة ومديح لبعضهم، كشف فيه عن بعض سوءات الحداثيين. انظر: الغلاف الخلفي لكتابه نقد الحداثة.

ص: 1903

طرق التزوير التي لجأنا إليها، وستظل تحس بالقصور تجاه هذه العلوم الجديدة التي لا يفهمها إلَّا جنس ثالث من المثقفين، الذين لا يمتون إلى العرب ولا إلى العجم بأية صلة. . .، ومن ثم فليس غريبًا أن يحس القارئ المتخصص بغربة ليتها تشبه غربة المتنبي في شعب بوان، ولكنها غربة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، وأنا حقيقة ما زلت في حيرة من هذه الظاهرة الغريبة: كيف استطاعت ثلة من المؤلفين العرب أن تفرض على الثقافة العربية نوعًا غريبًا من التأليف لم تشهده هذه الثقافة على امتداد تاريخها الطويل؟!.

لقد تعامل المؤلفون العرب القدامى مع الثقافة الوافدة تعاملًا يعكس روح الانتصار التي كانت تستشرفها النفوس العربية الأبية، وتحققها على أرض الواقع، أمَّا تعاملنا الحالي فليس إلَّا انعكاسًا لروح الهزيمة المسيطرة على أرض الواقع)

(1)

.

إن من يقرأ كتابات عادل ظاهر وأركون وبنيس وأدونيس وغيرهم يجد مصداق هذا القول الذي ذكره أبو حامد، بل يجد أشنع مما وصف.

وإذا انتقلنا إلى "عرب الخدمات الأمريكية" فإننا نجد أحد كبار ممثليهم المسمى "هشام شرابي" يقول: (إن الإنسان قادر بمفرده "ودونما حاجة إلى العودة إلى نص ديني أو شبه ديني" على أن يعرف ما الذي ينبغي له أن يقوم به على المستوى السياسي والاجتماعي والقانوني والإداري)

(2)

.

ومن الحضيرة ذاتها: جابر عصفور الذي سبق نقل كلامه في مواطن عديدة، حيث جعل القدر والشرع مهانة للإنسان وإذلالًا له وفرض وصاية عليه، وإيهامًا بالهداية، مع سخرية باللَّه تعالى وشرعه ودينه، وهو بكل هذا يسعى في نسف الأصول الشرعية التي ينبني عليها التشريع الإسلامي، ويسارع في نقض الإسلام ومناقضته

(3)

.

(1)

نقد الحداثة: ص 80 - 81.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 127.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 183، 184، 187.

ص: 1904

أمَّا عزيز العظمة الذي لا يخفى إلحاده، ولا يتوارى بعداوته للإسلام، فإنه قد أكثر من الانتصار للعلمانية الإلحادية خاصة، على طريقة عادل ظاهر، وقد سجل معظم آرائه في كتابه المسمى "العلمانية من منظور مختلف"

(1)

الذي بسط فيه ما يظنه هدمًا للدين والملة، ونقضًا للحكم والشريعة، ووضع الأسس التي يكون بها ترسيخ العلمانية في الواقع، وعلى كل حال فالكتاب في مجمله وتفصيله يحتوي على الرفض الصريح للإسلام، والرد الواضح لحكمه جملة وتفصيلًا، والسعي لهدم أصول التشريع الإسلامي، ونماذج الحكم الإسلامي ابتداءً بقرون الهجرة الأولى، وفيه محاولات فلسفية مفككة وانتصارات علمانية خطابية، وادعاءات حداثية جوفاء كل ذلك في سبيل نصر اللادينية

(2)

.

ولعزيز العظمة مقالات منشورة في مجلات الحداثة، ومشاركات في ندواتهم، منها ندوة الإسلام والحداثة التي كرر فيها مقولاته الهدامة، حيث تعرض لأصول الفقه واعتبره مجرد أداة لتسويغ الأحكام الشرعية

(3)

، وتحدث عن الإجماع على أنه ممارسة سلطانية تسلطية

(4)

، وتحدث عن الحج واعتبر شعائره مجرد طقوس جاهلية وأساطير مأخوذة من الجاهلية

(5)

، ثم عقب بعد كل ذلك بتقرير أن أحكام الكفر والردة لا قيمة لها في هذا العصر؛ لأنها أصبحت ممجوجة

(6)

إلى آخر ما سرده من أقاويل علمانية، حداثية، تدل غاية الدلالة على أن القوم قد تظافروا على رفض أحكام الإسلام.

وهو في هذا كله يحاول تقوية أصول العلمانية وبث الحياة في أعجاز نخلها المنقعر، وتشييد بنيانها بلبنات الرماد الكفري الممزوج بسراب الإلحاد والمادية.

(1)

و

(2)

العلمانية من منظور مختلف لعزيز العظمة إصدار مركز دراسات الوحدة العربية ويقع في 378 صفحة.

(3)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 265.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 262.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 266.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 270.

ص: 1905

ومن أقوال شعراء الحداثة التي فيها رفض شريعة اللَّه وحكمه والتعدي عليها والتفاخر بمخالفتها ومناقضتها قول نزار قباني المستبيح للزنا:

(فكرت أن استولدك قصيدة

فكرت في ليالي الشتاء الطويلة

أن اعتدي على جميع الشرائع

وأزرع في رحمك عصفورًا

يحفظ سلالة العصافير

فكرت في ساعات الهذيان واحتراق الأعصاب

أن استنبت في أحشائك

غابة أطفال

يحفظون تقاليد الأسرة

في كتابة الشعر

ومغازلة النساء)

(1)

.

ويذكر الخليفة ساخرًا به، متحدثًا عنه على أنه مجرد شهواني متلاعب، ثم يعلن أنه يبصق فوق وجهه ووجه دولته، وفي هذا تعبير واضح عن بغضه ورفضه لحكم الإسلام الذي عرف في التاريخ بأن الخليفة هو رمزه ومحور إنجازه، وفي ذلك يقول:

(أدخل مثل البرق من نافذة الخليفة

أراه لا يزال مثلما تركته

منذ قرون سبعة

مضاجعًا جارية روميّة

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 2/ 445 - 446.

ص: 1906

اقرأ آيات من القرآن فوق رأسه

مكتوبة بأحرف كوفية

عن الجهاد في سبيل اللَّه، والرسول

والشريعة الحنفية

أقول في سريرتي:

تبارك الجهاد في النحور

والأثداء

والمعاصم الطرية

يا حضرة الخليفة

أعبر من سرادق الحريم كالمنية. . .

أدخل مثل الموت من نافذة الخليفة. . .

أبصق فوق وجهه

وفوق وجه الدولة العلية)

(1)

.

أمَّا أحمد دحبور فإنه يعترض على حكم اللَّه تعالى في رجم الزانية، ويدافع عن رذيلة الزنا من خلال دفاعه عن ما يسميه "العاشقة" فيقول تحت عنوان "ماذا تغني العاشقة":

(من ضفائرها تسحب العاشقه

رحمة، رحمة

ويطوف بها الراجمون

يد اللَّه فوق الأنام ويحتفلون بأمر من اللَّه.

(1)

المصدر السابق 3/ 253 - 256.

ص: 1907

ثم يجاء لسيدنا بالغلام المخلد

حتى إذا ما قضى وطرًا منه

ألقى على رأسها حجرًا

ومضى، طاهر الثوب واليد

حقل من النفط يمتد بين عباءاته والهدى

رحمةً، رحمةً

ويمر وزير الهبات

فيثني على بارئ الكائنات بما هو أهل

رحمة، رحمة، رحمة

ثم يندلق الموت

يختلط النفط بالدعوات

ولا ضوء في الداجيات

هي الحكمةُ الظلمةُ الأمةُ الموت

والعلم الأمريكي. . .،

(1)

لم يبق إلَّا. . .،

(2)

وتصعد من هوة الرجم قبره

فيفيق على صوتها شاهدان ومقبرة

وتطير فيشهدها الخلق:

من جرحها البرق

(1)

و

(2)

هذه النقاط في أصل النص.

ص: 1908

في صوتها الحق

والحزن بين علاماتها الفارقه. . .

. . . بيت المال يرفل بالحلال

ويشعل النفط المبارك للجواري الصالحات نقود سيدنا

فيوقدن الشموع لليلهِ حبًا

ويرفع بئره نخبًا

فتسقط جمرة من عامه الهجري

حيث يموت أربعة من الأطفال حرقًا. . .

. . . هكذا يخسف المتنبي

ويحذف من شرعة المؤمنين الحرام

هكذا، ركعة تجفل القدس منها

وينشق عنها كتاب الصلاة

فيختلط النفط بالدعوات ولا ضؤ في الداجيات. . .

. . . لماذا أصلًا تنقلب الأحلام إلى بقرات؟

ثم لماذا لا نتجول في الممنوع

فنسأل عن أسعار النفط وختم الجوع

وندخل كل القاعات المضروبة بالشمع الرسمي الأحمر. . .

. . . الأرض بساط اللَّه.

بساط اللَّه الآن يحاط بجيش اللَّه الأمريكي

فمن جهة بالنار

ومن جهة بصلاة العار

ص: 1909

وخلفهما حكم عدل يتساقط عدلًا

فاستغفر، واختر أحد الموتين

أو ارحل، دون وطن)

(1)

.

وهي مقطوعة طويلة انتخبتُ منها ما يناسب الاستشهاد، وقد ملأها بالسخرية باللَّه تعالى ودينه وشريعته ومزج ذلك -تهكمًا واستخفافًا- بالنفط، إشارة إلى هذه البلاد التي تحكم محاكمها على الزناة بالحد الشرعي، وألصق كل ذلك بالأمريكان، حسب التفكير اليساري أيام كانت دولتهم الناصرية وأمها السوفيتية، فكان المثقف اليساري الذي يريد إثبات يساريته لابد أن يذم عدوه بالعمالة للامبريالية والأمريكان، واليوم وبعد أن تغيرت الأمور، واستطار شأن اليهود والأمريكان نراهم يهرعون للعق موائد الامبريالية التي طالما اعتبروها عدوة الشعوب، مثيرة الحروب، واعتبروها سبة لا يعادلها سبة؛ ولذلك نادى دحبور في هذه المقطوعة بعد أن سبّ اللَّه تعالى وتقدس، فقال:

(بساط اللَّه يحاط بجيش اللَّه الأمريكي. . .)

(2)

.

ثم قال بعد ذلك:

(يا أعداء العلم الأمريكي اتحدوا)

(3)

.

وعلى أية حال فإن العداوة لدين اللَّه وشريعته تقتضي أن يكون المعادي لها والرافض لتطبيقها قد انتمى إلى عقيدة أخرى، ارتضى منهجها وقبل حكمها، ودعى إلى سبيلها المظلم، أيًا كان هذا المنهج أو الحكم أو السبيل، فما دام أنه ليس منهج الإسلام ولا حكم اللَّه ولا سبيل المؤمنين، فليس إلَّا الضلال والردى، بأي اسم تسمى، وبأي شعار ظهر، وإلى أي دولة أو مذهب أو فلسفة انتمى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ

(1)

ديوان أحمد دحبور: ص 507

(2)

و

(3)

المصدر السابق: ص 516 - 517.

ص: 1910

(21)

وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}

(1)

.

ويقول علاء حامد مؤسسًا قاعدة إلحاده: (نحن الحقيقة وما عدانا هو الوهم، نحن الحقيقة والحقيقة نحن، وطالما أن اللَّه حقيقة، فلسنا سوى اللَّه، الأمطار دموعه، والريح زفرته، والغضب بواكينه، والعلم عقله، والإنسان وسيلته، والسلطان رغبته، والكون سلوته.

وإذا كان اللَّه والإنسان واحد [كذا] لا يتجزء فلماذا يعجز الإنسان عن المعرفة الكلية؟!)

(2)

.

وهذه القاعدة الإلحادية المتمثلة في تأليه الإنسان هي أساس رفضهم للدين، وردهم لحكم رب العالمين، واعتناقهم للمناهج الأرضية، وتقديسهم للأحكام البشرية.

وعلى هذه القاعدة جرى علاء حامد في غيه الإلحادي، فراح يسوق اعتراضاته الجاحدة، وانتقاداته الساخرة لأحكام شرع اللَّه، فاعترض على قضية الميراث وزعم -جهلًا وادعاءً- أنها كانت قبل الأديان ثم قامت الأديان بترجمتها توجمة غير أمينة

(3)

، واعترض على الوصية في التركة

(4)

، ودعا إلى المساواة المطلقة بين الرجل والأنثى

(5)

، ودعا إلى نبذ الزواج والمعاشرة الزوجية التي سنها الدين ونظم أمورها

(6)

، واعتبر العقوبات الشرعية في قطع السارق ورجم الزاني المحصن وقتل القاتل عقوبات قاصوة عن النظرة الحديثة التي يجب أن تسود

(7)

، وتهكم بأحكام الحجاب وبالمتحجبات

(8)

، وشرع يصف الأديان -ويقصد الإسلام- بالعجز والقصور

(1)

الآيات 19 - 22 من سورة فاطر.

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 8.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 181.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 183.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 186، 189.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 187.

(7)

انظر: المصدر السابق: ص 206، 209، 212 - 213.

(8)

انظر: المصدر السابق: ص 207.

ص: 1911

والتبدل فقال: (إن أحكام الأديان ليست سوى قطع شطرنج على مربع الحياة يُمكن في أي وقت من الأوقات استبدالها بصيغة أكثر نضجًا واتساقًا مع العصر)

(1)

.

ثم قال: (شرائع الأديان أصبحت الآن في أغلبها كسيحة عن ملاحقة التطور المذهل للبشرية)

(2)

.

ومثله نوال السعداوي في روايتها "سقوط الإمام" المليئة بالانحرافات الكفرية، فيما يتعلق باللَّه تعالى ورسله واليوم الآخر، وقد سبق نقل أشياء من ذلك، أمّا ما يتعلق بأحكام الشريعة فقد اتخذتها هدفًا لسخريتها، ورفضها وردها، بدأ من سخريتها بالإمام الذي تصوره في صورة هزلية هابطة، وتجعله مرة الحاكم والخليفة، ومرة تصفه بأنه هو اللَّه

(3)

، تعالى اللَّه وتقدس.

وتتحدث عن بعض أحكام الشرع ساخرة هازئة مثل حديثها عن الرجم

(4)

والختان

(5)

، والوضوء والصلاة

(6)

، والحجاب

(7)

، والسخرية بكل أحكام الشرع

(8)

، وبتطبيق الشريعة مع مخاطبة دنيئة للَّه تعالى

(9)

.

أمّا شوقي عبد الحكيم

(10)

فإنه يجعل أحكام الإسلام ضمن الأساطير

(1)

المصدر السابق: ص 195.

(2)

المصدر السابق: ص 198.

(3)

انظر: سقوط الإمام: ص 11، 16.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 19.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 88.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 106.

(7)

انظر: المصدر السابق: ص 112.

(8)

انظر: المصدر السابق: ص 11، 88، 112.

(9)

انظر: المصدر السابق: ص 126.

(10)

شوقي عبد الحكيم، حداثي مصري، له كتاب موسوعة الفلكلور والأساطير الشعبية حشاه بالتكذيب للوحي، حيث جعل القرآن العظيم والحديث الشريف من مصادر الأساطير الشائعة بين الناس، وجعل جملة من الحقائق الواردة في الوحي أساطير.

ص: 1912

والخرافات، حيث جعل سيادة الرجل على المنزل وعلى المرأة خرافة

(1)

، وجعل الميراث خرافة

(2)

، وكذلك الشعائر العبادية الاستعاذة والرقى والطهارة وأحكام الحيض

(3)

، وجعل السعي بين الصفا والمروة من شعائر الجاهلية ومن الخرافات

(4)

، وكذلك الختان

(5)

.

وبالجملة فالقوم قد استهدفوا أحكام شرع اللَّه تعالى بالرفض والرد والهدم، لكي يتمكنوا من إقامة شرائع جاهلياتهم المعاصرة، ومناهج ضلالاتهم المظلمة.

‌الأمر الثاني: زعمهم بأنه لا حكم في الإسلام:

ففي سياق حربهم المستعرة ضد الإسلام وأحكامه وعقائده وحضارته، نصبوا أحابيل التلبيس، ووضعوا شرك التدليس، بحثًا عن أي ثقب يعينهم على تضليل أبناء المسلمين وغسل عقولهم، وإخراجهم من دينهم.

ومن ذلك أنهم يظهرون في مسرح المحترم للدين، فيدعون مرة أنهم يريدون تنزيهه عن النزول إلى ألاعيب الحكم والسياسية، ويدعون أخرى أنهم عارفون بالدين، مطلعون على حقيقته، وأنهم قد تبين لهم أن دين الإسلام ليس فيه إشارة للحكم أصلًا، وليس فيه أحكام دولة وسياسة ونظام حياة، بل هو مجرد عقائد بحتة وأخلاق، وهو في أحسن الأحوال -عند بعضهم- علاقة بين الفرد وربه، يحدد الفرد بنفسه نوعية ومكان وزمان هذه العلاقة بالكيفية التي يريد.

وبما أنهم قد استنسخوا عقائدهم الحداثية والعلمانية عن أسيادهم الغربيين، الذين ورثوا ثمرات الصراع الطويل بين الكنيسة والعلم، والكنيسة

(1)

انظر: موسوعة الأساطير: ص 16.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 16.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 19.

(4)

انظر: المصدر السابق: 57.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 59.

ص: 1913

والإنسان والحياة والتقدم، فما كان أمامهم إلَّا أن يحاربوا الدين كله، سعيًا لإسقاط هيمنة الكنيسة الظالمة الجاهلة المحرفة، وإسقاط تسلط أرباب الدين الظلمة، ولكنهم لم يكتفوا برفع الظلم عن أنفسهم من خلال تبيين الحقيقة على وجهها ومعرفة الدين الحق، أو من خلال رفع مظالم الرهبان والقساوسة، بل اتجهوا بكل عنف وقسوة وطيش لهدم الدين كله، ونفي الألوهية والربوبية، وتأليه الإنسان.

ولما أخذ أبناء المسلمين عنهم في هذا العصر ما أخذوا من عقائد وأفكار، أخذوا هذه القضايا، ونقلوا حلقات الصراع بين الكنيسة والعلم والعقل والإنسان، وأحداثها الدامية الطويلة، نقلوها إلى الإسلام دين العلم والعقل واحترام الإنسان، والذي لم يكن يومًا مّا ضد أي شيء من هذه القضايا، بل كان لها راعيًا وحافظًا وحارسًا وحاميًا.

ولكن الحقد الذي انغرست بذوره في قلوب وعقول المستطرقة عقولهم من أبناء المسلمين، أبت إلَّا أن تنبت ثمار الشنآن فأصبحوا كما قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}

(1)

.

فإذا ذكر هيجل أو نيتشه أو ماركس أو سارتر أو سيبنوزا إذا هم يستبشرون، وإذا ذكر اللَّه تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو علماء المسلمين أو مصطلحات الإسلام أو مضامين الإيمان إذا وجوههم مظلمة كأنما أغشيت قطعًا من الليل مظلمًا.

وقد شاهدت ذلك ورأيته رأي العين في كتبهم ومجلاتهم وفي مجامعهم وأنديتهم، وما ذاك إلَّا لتأثير العقيدة الضالة في قلوبهم.

فالفكر عندهم ما قاله الغرب أو تلامذته من طه حسين والطهطاوي حتى عشماوي وعصفور وأدونيس، فإذا دار الكلام عن هؤلاء وأضرابهم وأشباههم بل وحتى أتباعهم من فروخ الحداثة الصغار؛ سموا ذلك الكلام

(1)

الآية 45 من سورة الزمر.

ص: 1914

فكرًا وأدبًا وحوار مثقفين، وندوة فكرية، وأمسية نقدية أو أدبية.

وإذا جيء بقول اللَّه تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام أحد من علماء المسلمين أو مفكريهم قالوا هذه خطابية ووعظ، وكلام مدرسي، وإنشاء مدرسي، وربما قالوا: هذه أصولية وتطرف وإرهاب!!!.

كل ذلك لأن القوم قد أشربوا العجْل الحداثي وتعلقوا بالسامريّ العلماني، وأقعوا عاكفين عليها، حتى أصابتهم الذلة في عقولهم وقلوبهم فأصبحوا يرون الحق باطلًا ويسعون لحربه واجتنابه، ويرون الباطل حقًا ويسعون لنشره واتباعه وتكثير سواد أتباعه، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}

(1)

.

وقد بدأت دعوى: أنه لا حكم في الإسلام من بدايات الاتصال بالغرب، اتصال التلمذة والشعور بالنقص، والتبعية المفعمة بتقليد الغالب المسيطر، حيث عاد المنهزمون إيمانيًا وفكريًا ليطرحوا فكرة عزل الدين عن الحياة على أساس أنها هي قاعدة التقدم والنهضة والرقي والازدهار!! حسب ما شُبَّه لهم، وحسب ما تلقنوه في الغرب، أو ما وصل إليهم من خلال المبتعثين والصحف التي كان يسيطر عليها نصارى الشام ومصر، من موارنة وأقباط.

وحيث إن هذه الطلائع في جو لا يسمح لها بإنكار الدين كله ومحاربته والسعي للقضاء عليه، أو لأنهم ما زالت عندهم بقية من اعتراف بالدين بصورة ممسوخة مجزوءة، فإنهم لم يعلنوا الحرب الشاملة عليه، كما هو حال العلمانيين اليوم.

ولذلك طرحت طلائع العلمانية فكرة أنه لا حكم في الإسلام، وكان من أبرز من دعا إلى ذلك رفاعة الطهطاوي، وعلي عبد الرازق

(2)

، وخير

(1)

الآية 152 من سورة الأعراف.

(2)

علي عبد الرازق، عالم مصري أزهري، سافر إلى إنجلترا ودرس في جامعة أكسفورد =

ص: 1915

الدين التونسي

(1)

، وغيرهم ممن عجن في معامل فرنسا وبريطانيا، ثم استمدوا قوتهم في ظل الاستعمار، وتمدد فكرهم بهدوء وفعالية تحت هيمنة وحماية الانتداب البريطاني خاصة، الذي مد نفوذه إلى التعليم والإعلام والسياسة.

حتى تخرج في معامل التفريخ التغريبي جيل بل أجيال لا تشك في بعض قضايا الإسلام كالحكم والتشريع، بل تشك وتجحد وتضاد الإسلام كله جملة وتفصيلًا.

لقد كانت "مدرسة المعلمين العليا"

(2)

-مثلًا- إحدى المؤسسات المكملة للتخطيط الدنلوبي الإنجليزي، وأحد المراحل الأولى للعلمانية المرسومة بعناية من قبل الغرب في مخططهم طويل الأمد المضاد للإسلام، ولقد كانت الحركات القومية والروابط الأدبية والمجامع الثقافية المهجرية، وغير المهجرية تقوم بالدور ذاته.

ولقد كانت الصالونات الأدبية المرعية من الدولة البريطانية ذات أثر بالغ ونفوذ كبير في احتضان فراخ الغرب وتخريجهم

(3)

ليكونوا عينًا وأذنًا

= وعاد منتكس العقيدة فألف كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي نفى فيه أن يكون الإسلام نظام حكم، وقد رد عليه جملة من العلماء والكتاب المسلمين، انتخب عضوًا لمجلس النواب، ثم بمجلس الشيوخ وانتدب بعد ذلك لإلقاء محاضرات بقسم الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، وكان عضوًا مجمعيًا بالقاهرة، ولد في 1888 م، وتوفي في 1966 م. انظر: الصراع بين القديم والجديد 2/ 1260.

(1)

خير الدين التونسي، ولد سنة 1225 هـ، وهو شركسي الأصل قدم إلى تونس صغيرًا فاتصل بصاحبها الباي أحمد، وتقلد مناصب عالية آخرها الوزارة، ثم أبعد عنها فذهب إلى السلطان عبد الحميد في الآستانة فولاه الصدارة العظمى فاستقال ونصب عضوًا في مجلس الأعيان إلى أن توفي سنة 1308 هـ في الاستانة، ويعتبر التونسي من أوائل الذين زعموا أنه لا حكم في الإسلام. انظر: الأعلام 2/ 327.

(2)

انظر: واقعنا المعاصر: ص 230.

(3)

انظر: ما كتبه الأستاذ محمد قطب عن صالونات مي زيادة وهدى شعراوي ونازلي فاضل، وطريقة عمل هذه الصالونات وبعض أسماء روادها ومن تخرج فيها في كتابه "واقعنا المعاصر": ص 309 - 311.

ص: 1916

للغرب، وعقلًا مستعارًا لأفكاره ومناهجه ومبادئه، وليكونوا في الوقت ذاته عدوًا وحزنًا للأمة ودينها ومقومات نهضتها وحياتها.

ولقد وصل نفوذهم إلى الأزهر، وإلى من ينتسب إلى العلم والدين فأصدروا الفتاوى العجيبة في تبرير القوانين الوضعية، وتسويغ الحكم الجاهلي، والدفاع عن الحكومات الكافرة التي تتحكم في رقاب وبلاد المسلمين

(1)

.

نعم لم يكن الأمر في أول نشأته محاربة للدين بصورة مكشوفة، فقد كان المخطط البريطاني يقتضي عدم استفزاز مشاعر المسلمين بالمعارضة الجريئة أو المواقف الفاصلة ضد الدين، كان يمشي على الأسلوب الإنجليزي المعروف (بطيء ولكنه أكيد المفعول)

(2)

.

ولكن جوهر عملهم كان يرتكز على وضع نقطة صغيرة هي"الحضارة الغربية" بجانب المرتكز الأول والوحيد الذي هو "الإسلام" ثم الدعوة إلى تلك النقطة الصغيرة وتسمينها قليلًا قليلًا، حتى تكبر وتضخم، وتصبح نقطة ارتكاز ثانية في حياة المسلمين إضافة إلى الإسلام، ومع التضاؤل التدريجي المدروس والموجه ضد الإسلام الذي "كان" نقطة ارتكاز وحيدة، يتعاظم شأن النقطة الثانية ويستعلي شأنها، من خلال ما يضخ لها من عوامل القوة والدعاية والإمداد المادي والمعنوي، حتى يأتي وقت تصبح فيه تلك النقطة الضئيلة هي نقطة الارتكاز الرئيسة، وتصبح نقطة الارتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية تكاد تنمحي من الوجود. لقد استغرقت عملية الانتقال التدريجي ما يقرب من قرن من الزمن، ولكنها عملية مستمرة لا تتوقف، بل تتوسع على الدوام

(3)

.

وما نراه اليوم من تفاقم الانحراف، وانتفاش العلمانية وانتفاخ الإلحاد والفساد، والمجاهرة بذلك والحماية له ليس إلَّا حلقة في سلسلة الانحراف

(1)

انظر: فتاوى محمد عبده ورشيد رضا في واقعنا المعاصر: ص 331 - 340.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 312.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 209 - 210.

ص: 1917

والتغريب الذي، بدأ ضئيلًا صغيرًا، وكبر حتى أصبح أعظم فتنة تواجه المسلمين في هذا العصر.

وعلى الرغم من أن عباد الغرب وشياطينه تصوروا أنهم قد تجاوزوا مرحلة التلبيس والشبهات، إلى مراحل الهجوم الثوري الهدام المدمر الموجه مباشرة إلى الإسلام، جحدًا ورفضًا وردًا ومناقضة علمية وعملية؛ إلَّا أنهم فوجئوا بقوة الصحوة الإسلامية، وأثرها وامتدادها الفعال والمؤثر، فعادوا إلى أسلوبهم القديم في التشكيك وإثارة الشبهات والأقاويل عن الإسلام، من داخل الإسلام، وما حديث الحداثيين والعلمانيين اليوم والذي يسترجعون فيه أصول الحكم لعلي عبد الرزاق وأقوال الطهطاوي والتونسي

(1)

إلَّا من ضمن هذا المخطط التغريبي التخريبي.

ومن هذا المنطلق استعاد العلمانيون والحداثيون أكل قيئهم القديم، والذي من ضمنه زعمهم بأنه لا حكم في الإسلام.

وفي كتاب "رأيهم في الإسلام" الشواهد الكثيرة على هذا، يقول عبد الرحمن منيف:(لا يسعنا تصور مجتمع قائم على أسس دينية في زمننا الحاضر، فالدين بات مسألة شخصية)

(2)

.

ولما سئل هل يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟.

أجاب: (. . . يبقى على الإسلام كثقافة وحضارة ومجموعة قيم أن يساهم في إغناء المجتمع بمعالم جديدة قد تزيده إنسانية، من هذا المنطلق يُمكن للدين المشاركة في إعادة بناء وتنظيم المجتمع، بشرط أن يستند هذا

(1)

أعيد اليوم طباعة كتب هؤلاء وكتب طه حسين وقاسم أمين وغيرهم، وأنزلت في الأسواق بأسعار رمزية، ضمن سلسلة طويلة من الكتب العلمانية المدعومة رسميًا؛ لمقاومة الإسلام باسم مكافحة الظرف الديني، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الآية 36 من سورة الأنفال]، وقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [الآية 21 من سورة المجادلة].

(2)

رأيهم في الإسلام: ص 21.

ص: 1918

التنظيم إلى ركائز علمانية، على ضوء مقتضيات العصر)

(1)

.

ولما وجه هذا السؤال إلى يوسف الخال أجاب بسؤال خبيث قائلًا: (هل أن أحكام الشريعة إلهية أم من صنع البشر وبالتالي تحتمل التطوير؟، وفي معرض هذا الاستفهام توقفنا مسألة أخرى: هل القرآن منزل حرفيًا أم أوحي به معنى وروحًا، كما هي الحال بالنسبة للدين المسيحي)

(2)

.

وأجاب أميل حبيبي على السؤال نفسه بقوله: (لو كان في الشريعة الإسلامية أحكام كفيلة بإنشاء وإدارة دولة عصرية لتحقق الحلم، وفي الواقع لم يتحقق)

(3)

.

أمَّا البياتي فيقول: (الإسلام كما غيره من الأديان، حضارة وثقافة ولا يسعه فرض نهج حياة أو نظام سياسي معين. . . العدالة الإلهية في القرآن والإنجيل هي عدالة العالم الآخر، فلما

(4)

استعجال تطبيقها في عالمنا الأثيم؟ ذاك يتعارض والتعاليم الدينية)

(5)

.

ويجيب آخر على السؤال الآنف الذكر قائلًا: (لا أعتقد ذلك، ولا يُمكنها اعتماد أي دين كان)

(6)

.

ويجيب على السؤال نفسه حسين بن أحمد أمين

(7)

بقوله: (لا طبعًا إذا اكتفت الشريعة باقتباس أحكامها من القرآن والسنة فقط)

(8)

.

(1)

المصدر السابق: ص 22.

(2)

المصدر السابق: ص 28.

(3)

المصدر السابق: ص 46.

(4)

هكذا والصواب: فلم.

(5)

المصدر السابق: ص 52.

(6)

المصدر السابق: ص 76 والقائل هو إدوار الخراط.

(7)

حسين أحمد أمين، علماني مصري، شديد الهجوم على الإسلام والمتمسكين به ينطلق من قاعدة إلحادية شيوعية، والده هو الكاتب المصري أحمد أمين.

(8)

المصدر السابق: ص 79.

ص: 1919

وهو الذي قيل عنه في، الكتاب نفسه بأنه (قال بفكرة مرفوضة لدى الأوساط الشعبية، وأن تقبلتها الأوساط القانونية، تعتبر أن الشريعة -إذا ما درست وحللت دون أفكار مسبقة- ليست إلهية بالكامل وإنّما نتيجة تطور تاريخي لجملة تقاليد وعادات وانتماءات متعددة وأحيانًا متناقضة)

(1)

.

أمّا يوسف إدريس الذي وصفه مؤلفا كتاب رأيهم في الإسلام بأن (الصدمات التي أحدثها نضاله العلماني فصدع أوصال الإسلام الرجعي)

(2)

أجاب على السؤال المذكور بالنفي القاطع، أي: يعتقد أنه لا يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم

(3)

.

أمّا لويس عوض فيرى أن الإسلام دين علماني!!! ولذلك استطاع أن يتغلب على بيزنطيا

(4)

. وأجاب على السؤال بقوله: (كلا، فليس لدى الإسلام نظام سياسي خاص)

(5)

.

ويجيب آخر بقوله: (أنا أدعو للدولة العلمانية، التي تبدو أكثر ملاءمة لإدارة مجتمع عصري، بينما يعني الإسلام بعلاقات الفرد مع ربه ومع الغير)

(6)

.

ويجيب آخر بكلام مائع متردد مؤداه أنه لا حكم في الإسلام

(7)

.

أمَّا أركون فإنه لا يفارق ضبابية التعبير والكتابة وعماياتها فيقول: (بينما تنطلق الدعوة لتطبيق الشريعة اليوم من مفاهيم الإسلام الدينية والفقهية الحقة)

(8)

.

(1)

المصدر السابق: ص 79.

(2)

المصدر السابق: ص 94.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 99.

(4)

و

(5)

المصدر السابق: ص 112.

(6)

المصدر السابق: ص 122 والقول لجمال الغيطاني.

(7)

انظر: المصدر السابق: ص 131 والقول لأحمد بهاء الدين.

(8)

المصدر السابق: ص 149، والنص دليل على عما ية التعبير عند قائله، والعجمة والضبابية المسيطرة على أسلوبه.

ص: 1920

وقبل ذلك يقول: (إن استجابت

(1)

محاولات أسلمة المجتمع، حاليًا، عن طريق تطبيق الشريعة لحاجات أدبية وسياسية، فيعوزها التقصي عن واقع الفقه الإسلام عبر التاريخ)

(2)

. أي: أن علماء المسلمين وعقول المسلمين من عصر النبوة إلى اليوم لم يصلوا إلى ما وصل إليه أركون الذي تقصى عن واقع الفقه الإسلامي عبر التاريخ!!.

ولما سئل هل يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؛ أجاب: (أرفض هذه الصيغة فالإسلام ليس بنظام حكم لا تاريخيًا ولا عقائديًا)

(3)

.

أمّا رشيد بو جدرة فإنه يعلن أنه ملحد وماركسي ويجيب على السؤال بقوله: (إطلاقًا هذا مستحيل. . . لا أرى كيف يُمكن للإسلام أن يكون نظام حكم، علمًا بأنه لم يكن أبدًا كذلك)

(4)

.

ويجيب أحد زملائه الماركسيين الحداثيين بإجابة اعتقادية بحتة قائلًا: (الدين أفيون الشعوب)

(5)

. وأجاب على السؤال بقوله: (كلا)

(6)

.

أمّا كاتب ياسين فإن إجابته أصرح في العداوة حيث يقول: (لدينا كل الدوافع لمحاربة العروبة الإسلامية)

(7)

. وهو بالتالي يجيب على السؤال بالنفي القاطع أن يكون في الإسلام نظام حكم.

ومن المغرب أجاب أحد الحداثيين قائلًا: (لا، لم يعد ذلك بالإمكان)

(8)

،

(1)

هكذا والصواب: استجابة.

(2)

المصدر السابق: ص 149، والنص دليل على عماية التعبير عند قائله، والعجمة والضبابية المسيطرة على أسلوبه.

(3)

المصدر السابق: ص 151.

(4)

المصدر السابق: ص 175.

(5)

المصدر السابق: ص 177، والمقصود هو طاهر وطار الشيوعي الجزائري.

(6)

المصدر السابق: ص 182.

(7)

المصدر السابق: ص 196.

(8)

انظر: المصدر السابق: ص 200.

ص: 1921

وقال: (العودة لدولة شرعية دينية أضحت مستحيلة)

(1)

.

وأجاب عبد الوهاب المؤدب من المغرب بالنفي القاطع، ولما سئل هل النظام الإسلامي للحكم مرحلة حتمية على الشعوب العربية! قال:(أخشى أن يكون الجواب نعم، وأتمنى أن يكون لا)

(2)

.

هذا بعض ما جاء في كتاب رأيهم في الإسلام الذي كان موجهًا أصلًا لاستقصاء آراء التلامذة النجباء الذين درسوا في الغرب أو نشأوا على العقائد الغربية، لمعرفة مدى رسوخ عداوتهم للإسلام، ومدى استيعابهم للحقد المبرمج الذي تلقوه ضد شريعته ومنهاجه.

‌الأمر الثالث: زعمهم بأن أحكام الإسلام لا تلائم العصر ولا يُمكن اعتماد الإسلام نظاما للحكم:

فمن جهلهم بالإسلام، وتغلغل العداوة في قلوبهم ضده، وانبهارهم بالغرب، واسترقاقهم لمذاهبه وعقائده ومناهجه، أطلقوا أحكامهم الجاهزة، وأقاويلهم الملقنة لهم، دون أدنى تمحيص أو نظر أو تأمل، وفق متطلبات "الإمعية" التي وصفها أبو جدرة بأنها (وصولية سياسية وإذا أردت أصولية ايديلوجية)

(3)

، ووصف زمرته من حداثي البلاد المغربية بأنهم (عرب الخدمات الفرنسية).

ومثل ذلك يقال عن سائر الإمعات من عرب الخدمات الغربية والروسية.

وقد مرّت معنا شواهد من كلامهم في الإجابة على السؤال: "هل يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟ " وقد أطبقوا على أنه

(1)

المصدر السابق: ص 211 والمقصود هو عبد الكبير الخطيبي.

(2)

المصدر السابق: ص 228.

(3)

جريدة الشرق الأوسط، العدد 6345 في 12/ 4/ 1996 م الموافق ذو القعدة 1416 هـ: ص 21.

ص: 1922

لا يُمكن للإسلام أن يكون نظام حكم في دولة عصرية.

ويقول عبد الرحمن منيف: (ولست أرى في الزكات

(1)

، مثلًا، سبيلًا لحل مشكلة الفقر، كما لا أعتقد أن ما راج في فجر الإسلام قابل للتطبيق حاليًا)

(2)

.

ويقول محمود المسعودي من تونس: (. . . يتحتم إدخال تعديلات على أحكام الشرع والتسليم بأن بعض نصوصه تجاوزها الزمن وضروريات الحياة المعاصرة)

(3)

.

ويقول بو جدرة: (الإسلام لا يتفق ودولة حضارية)

(4)

.

‌الأمر الرابع: الزعم بأن حكم الإسلام سبب للتخلف وعائق عن التقدم وأنه لا تحرر فيه بل هو ضد الحرية:

وهذا تابع في المعنى للأمر الثالث، وقد سبقت الشواهد الكثيرة على قولهم هذا عند الكلام عن توحيد الألوهية، وعن النبوة، والوحي، وقد عبر عن هذا المعنى الهابط أدونيس في قوله عن الإسلام وأحكامه:

(في أرضنا شبح يتمطى

وسرابًا ورملًا

ويملأ أعماقنا يباسًا

ويملؤها دكنة ومحلًا

وفي أرضنا ملل يبدع المقابر

وينثرها، عبر أيامنا، أنينًا وعبر خطانا، مجازر)

(5)

.

(1)

هكذا والصواب: الزكاة.

(2)

رأيهم في الإسلام: ص 16.

(3)

المصدر السابق: ص 163.

(4)

المصدر السابق: ص 175.

(5)

الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 129 ونحو ذلك في: ص 130 - 131.

ص: 1923

وقد نقلنا في الوجه الأول قوله وقول جبران أنه لابد من هدم الشريعة؛ لأنها تعادي حرية الإنسان الكاملة، وتفتحه المليء

(1)

، ثم أضاف قائلًا:(فالشريعة هي الإرهاب الإنساني بامتياز، بل إن المجتمع لا يكون طاغية ولا يكون عدوًا للتقدم والحرية إلَّا بالشريعة واستنادًا إليها، إن الطغيان والعبودية من ثمار الشريعة)

(2)

.

ومثل هذا القول الردي كتبه الخال فقال: (. . . مسألة الانحطاط والنهضة والتقدم ارتبطت دومًا، وثيق الارتباط، بمشكلة إخضاع الدنيا للدين والمجتمع للشريعة)

(3)

.

ولما سئل: هل تأخذ ظاهرة اليقظة الدينية التي برزت في السنوات العشر الماضية منحى إيجابيًا؟ قال: (لا، لا تتمتع بأي وجه إيجابي)

(4)

.

ويصف بحقد نصراني عارم من يدعو إلى نشر دين اللَّه وهديه في الأرض بقوله: (الخبيث الذي يدعي عن غير اقتناع أن الخضوع للشريعة الإسلامية واجب على كل المجتمعات، ويضم هذا التيار عدد من المثقفين لا يستهان به)

(5)

.

وعندما يتحدث البياتي شارحًا رأيه في كتاب رأيهم في الإسلام يقول: (حرية الإنسان لا ترتهن بدين أو عقيدة، فهي أولًا وآخرًا، حرية معتقة مطلقة، وما المدينة المثالية إلَّا حيث يرتع الإنسان حرًا فيبتاع عقائد لخدمة حريته)

(6)

.

علمًا بأن البياتي يدين بالشيوعية، ويعتقد الماركسية ويتبنى العلمانية، وينتمي إلى الحداثة، فلِمَ لم يجعل هذه مضادة لحرية الإنسان مع ما فيها

(1)

انظر: الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 181.

(2)

المصدر السابق 3/ 181 - 182.

(3)

رأيهم في الإسلام: ص 26.

(4)

و

(5)

المصدر السابق: ص 29.

(6)

المصدر السابق: ص 51.

ص: 1924

من إصر وأغلال جاهلية، أم أن المراد محاربة دين الإسلام وعقائد الإيمان؟ ومن هذا المنطلق أجاب البياتي على السؤال السابق المذكور عند الكلام عن الخال بأن ظاهرة اليقظة الدينية (ليست بالظاهرة الإيجابية)

(1)

.

وآخر من حداثيي ونصارى لبنان يقول: (. . . الشعارات، كالإسلام الأصولي

(2)

، الوطن، القومية لم تعد تجدي نفعًا)

(3)

.

وآخر من حداثيي المغرب يجيب عن السؤال المتعلق بظاهرة اليقظة الدينية قائلًا: (ليست بالظاهرة الإيجابية، غير أنها طبيعية وعادية، إنها تشكل عاملًا معيقًا للتطور الاجتماعي)

(4)

.

أمَّا جابر عصفور فإنه يعتبر القدر والشرع مهانة للإنسان وإذلال وفرض وصاية وعائق

(5)

.

أمّا نزار فيصوغ موقفه من الشريعة في شكل تفعيلات فيقول:

(- إن الجريمة عاطفية

- إن النساء جميعهن مغامرات، والشريعة عندنا ضد الضحيه. .

- يا سادتي إن المخطط كله من صنيع أمريكا، وبترول

الخليج هو الأساس، وكل ما يبقى أمور جانبيه

- ملعونة أم السياسة. . نحن نحب أزنافور

والوسكي بالثلج المكسر، والعطور الأجنبيه

- إن النساء بنصف عقل. . والشريعة عندنا

(1)

المصدر السابق: ص 56.

(2)

هكذا.

(3)

المصدر السابق: ص 60، والكلام لرشيد الضعيف.

(4)

المصدر السابق: ص 182، والكلام لطاهر وطار.

(5)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 183، 184، 187.

ص: 1925

ضد الضحيه

- كل القوانين القديمة والحديثة عندنا ضد الضحيه)

(1)

.

‌الأمر الخامس: زعمهم بأن أحكام الشريعة بشرية وليست إلهية:

على الرغم من جحد أكثرهم لوجود الإله العظيم جل جلاله إلَّا أنهم في سعيهم الحثيث لتلويث عقول المسلمين، وإتراعها بالتشويه والتلبيس والمخادعة، وقذف الشكوك في القلوب وغرس الريب مكان اليقين؛ يستعملون أي قضية تخدم مسلكهم ولو كانوا لا يؤمنون بها.

وسواء كان جحدهم لألوهية اللَّه تعالى جحدًا كاملًا، أو كان جحدهم لبعض الألوهية أو بعض مقتضياتها، فإن المؤدى واحد، والمصب واحد، إنه المستنقع الجاهلي الآسن.

ومن مزاعمهم في هذا الباب قول النيهوم: (فمنذ مطلع القرن الهجري الأول كان الفقه الإسلامي يتلقى علومه بحماسة كبيرة في مدرسة التوراة)

(2)

.

ومن ذلك التساؤل الخبيث الذي أجاب به يوسف الخال عن سؤال وجه إليه عن إمكانية اعتماد دولة عصرية على نظام الحكم في الإسلام قال: (هل أن أحكام الشريعة إلهية أم من صنع البشر وبالتالي تحتمل التطوير؟ وفي معرض هذا الاستفهام تستوقفنا مسألة أخرى: هل القرآن منزل حرفيًا أم أوحي به معنى وروحًا، كما هي الحال بالنسبة للدين المسيحي)

(3)

.

أمَّا حسين أحمد أمين، فيجعل الإسلام عقيدة وشريعة مجرد قيم عادلة جاءت مشوبة بتقاليد البدو، ويصوغ هذا القول في سياق امتداح وتبجيل للإسلام، وهو في الحقيقة ذم وشتم وتنقص، بقول: (لا تحد الإسلام تخوم المفاهيم الدينية، كالدين المسيحي، وإنَّما يتعداها فيطبع الواقع بطابعه

(1)

الأعمال الشعرية لنزار 3/ 233.

(2)

مجلة الناقد، العدد 13 تموز 1989 م/ 1409 هـ: ص 7.

(3)

رأيهم في الإسلام: ص 28.

ص: 1926

الحضاري المشوب بالتقاليد البدوية التي حملها معه زادًا من أرض نشوئه، فالإسلام حضارة كما غيرها من الحضارات، يقوم على قيم دائمة عادلة، ومشروعه في هذا المجال فحسب)

(1)

.

أي أن الإسلام عنده -وفي أحسن الأحوال- جاء من عند اللَّه، وانتقل إلى الناس مشوبًا بالتقاليد البدوية، أي أنه من صنع البشر، وليس من وحي اللَّه تعالى؛ ذلك ليسقط عنه القداسة، تمهيدًا لإلغائه وإلقائه في ساحة التلاعب العلماني، ثم ليصل إلى القول بأن الإسلام المشاب بالتقاليد البدوية لا يتوافق مع العصر ولا مع الحضارة!!، وهذا ما صرح به قائلًا:(. . . إن عنينا باليقظة عودة لعادات وتقاليد الصحابة فذاك ضعف وعرقلة لكل تقدمية وسبيل للرجعية)

(2)

.

ويعبر حسن حنفي عن هذه العقيدة الباطلة بفتواه العلمانية في أن الحدود الشرعية ليست مطلقة

(3)

.

أمّا نصر أبو زيد فيتلاعب بالمفاهيم قائلًا بأن (الدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيًا في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها)

(4)

.

وهو قول طالما ردده العلمانيون في محاولة التواري لشن الهجوم على الإسلام من داخل الإسلام، فإذا قيل لهم في ذلك شيء قالوا نحن نناقش الفكر الديني، أمّا الإسلام فله قداسته:{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}

(5)

.

ولكن اللَّه أخرج أضغانهم وفضح بواطنهم المظلمة، فها هو أبو زيد لم يستطع الاستتار بمقصده فقال: (وإذا كان الفكر الديني يجعل قائل

(1)

المصدر السابق: ص 83.

(2)

المصدر السابق: ص 84.

(3)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 233.

(4)

قضايا وشهادات 2/ 384.

(5)

الآية 30 من سورة محمد.

ص: 1927

النصوص -اللَّه- محور اهتمامه ونقطة انطلاقه فإننا نجعل المتلقى - الإنسان بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي تاريخي هو نقطة البدء والمعاد)

(1)

.

ثم ينفي أن يكون القرآن هو كلام اللَّه تعالى، ويجعل اعتقاد المسلمين بأنه كلام اللَّه المنزل مجرد تبرير ديني لوضع اجتماعي؛ وذلك لأن القائل بذلك:(يضفي على رؤيته تلك قداسة يستمدها من امتدادها التراثي وعبق التاريخ موهمًا أنها الإسلام ذاته)

(2)

.

ثم يرجح قول المعتزلة في خلق القرآن، ثم يصل إلى غايته حين يجعل النصوص الشرعية وما بني عليها وما يستنبط منها مجرد نصوص لغوية، وذلك في قوله:(إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية)

(3)

.

وهنا ظهر المخبوء وتجلت حقيقة نظرته إلى الدين من خلال نظرته إلى نصوص الوحي، فما دامت النصوص عنده لغوية ومخلوقة، فهي مثل أي نص لغوي ومثل أي مخلوق بشري قابلة للمناقشة والرد والرفض، وقابلة للاستمرار والانقطاع، وليس فيها أي قداسة، بل القداسة عنده مجرد وهم مصطنع، يقول:(الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول بأن النصوص الدينية نصوص لغوية، شأنها شأن أي نصوص أخرى في الثقافة)

(4)

.

ثم يصرح بأن الوحي أصبح بشريًا (صار الإلهي بشريًا أو تأنس الإلهي)

(5)

.

وبناء على ذلك فإنه يجعل "الحاكمية"

(6)

التي يقول بها علماء الإسلام ودعاته وأولياؤه مجربى وهم قائم على اعتبار أن الوحي من عند اللَّه، وأن النص الشرعي نص مقدس.

(1)

المصدر السابق 2/ 387.

(2)

المصدر السابق 2/ 388.

(3)

المصدر السابق 2/ 389.

(4)

و

(5)

المصدر السابق 2/ 391.

(6)

انظر: المصدر السابق 5/ 402.

ص: 1928

وعلى هذا الخبط الأعمى والتخرصات الجاهلة بنى أبو زيد وأتباعه مواقفهم المخاصمة والمناقضة للإسلام كله، بل هم قوم خصمون، جاهلون، في طغيانهم يعمهون.

ومن ذلك قول علاء حامد في روايته الإلحادية: (نجد أن نظام التوارث هذا سابقًا

(1)

على صيغ الأديان، وأن الصورة التي رسمتها الأديان ليست سوى ترجمة غير أمينة لما سبقها من تشريعات)

(2)

.

وهذا جهل فاضح، ومحاولة لإيجاد جذور قديمة للإلحاد، وذلك بجعله التشريعات الجاهلية في الميراث أو غيره أسبق من الأديان المنزلة من عند اللَّه تعالى.

أمَّا أدونيس فيزعم أن التشريعات من وضع الخليفة، وذلك في سياق حديثه عن تاريخ المسلمين الذي يتجه دائمًا إلى ذمه وإلصاق كل العيوب والنقائص به، يقول:(وضع السيد الخليفة قانونًا من الماء، شعبُه المرق الطين، سيوف مصهورة، وضع السيد تاجًا مرضعًا بعيون الناس، هل هذه المدينة آيٌ؟ هل ثياب الناس من ورق المصحف)

(3)

.

‌الأمر السادس: قولهم بوجوب فصل الدين عن الدولة وعن الحياة؛ لأن الدين -عندهم- شأن شخصي؛ ولأنهم يعتقدون أن إخضاع الدنيا للدين مشكلة وكارثة:

وهذا في الحقيقة من الدعاوى المجردة، والمزاعم التي يحاولون بثها وترسيخها على أنها حقيقة قاطعة، ومسلمة يقينية ثابتة، مع أن النصوص الشرعية والأدلة العقلية، واتفاق الأمة كلها في مختلف أعصارها وأمصارها تدلى كلها على وجوب العبودية للَّه تعالى والدينونة له في كل شأن من شؤون الحياة.

(1)

هكذا

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 181.

(3)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 280.

ص: 1929

وليس للعلماني إزاء هذه الحقيقة القاطعة إلَّا أحد موقفين:

إمّا أن يدعي بأن الإسلام ديانة روحية وقيم خلقية، وعقائد غيبية مجردة ولا ينظم إلَّا علاقة الفرد بربه، ولا علاقة له بما وراء ذلك من أمور الحياة، ومناشط البشر، وهذا من الكذب الجلي، والبهتان المكشوف؛ إذ الأدلة على عكس ذلك تمامًا، وقد علم الناس قديمهم وحديثهم وعالمهم وعاميهم أن الإسلام قد غطى بأحكامه وشرائعه كل أوجه الحياة، وجميع فروع المعاش، وهذا القول فيه تكذيب بآلاف الأدلة القطعية من القرآن العظيم والسنة النبوية، وفيه من الافتراء على العقل والحس والواقع والتاريخ ما لا يخفى على ذي بصيرة وعقل.

وإمَّا أن يدعي بأن أحكام الإسلام وشرائعه لم تعد صالحة للتطبيق في هذا العصر، أو أن الزمان قد تجاوزها، أو أن إخضاع الدنيا للدين مشكلة وكارثة، أو أن أحكام الدين قاسية وبشعة ولا تناسب عصر التحرر والانفتاح، وكفر المجترئين على هذه الأقوال مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فقد جعل اللَّه إبليس في نار جهنم خالدًا فيها لرده على اللَّه أمرًا واحدًا؛ فكيف بالعلمانيين الذين يردون كل شرائع الإسلام، ويناقضونها، ويستكبرون على اللَّه وعلى دينه؟.

يقول المنيف بأن الدين مسألة شخصية، وليس له صفة الشمولية الكونية، ولا يُمكن قيام مجتمع على أساس ديني

(1)

، ويرى الخال أن الانحطاط والنهضة ارتبطت دومًا بمشكلة إخضاع الدنيا للدين، والمجتمع للشريعة

(2)

.

وينفث النصراني المتهود، الحداثي المناضل في فلسطين!! أميل حبيبي

(3)

، أحقاده على الإسلام ونظامه في مواضع كثيرة، منها أنه لما سئل

(1)

انظر: رأيهم في الإسلام: ص 21.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 26.

(3)

أميل حبيبي، حداثي نصراني الأصل يهودي الانتماء، ولد في حيفا عام 1922 م، =

ص: 1930

عن النظام الإسلامي للحكم وهل هو مرحلة حتمية على الشعوب العربية؟ أجاب: (بالنسبة إلى الدين شأن شخصي، وعند تخطيه هذا الحد يصبح شعارًا. . . نحن العرب في الأراضي المحتلة نرفض النضال باسم الدين)

(1)

.

أمَّا كونه يرى الدين شأنًا شخصيًا فذلك من فروع العقائد النصرانية الحديثة، بعد التجديدات العصرية الملحقة بها!!، وله أن يقول ذلك عن دينه المحرف، أمَّا دين الإسلام فإنه أعلى من أن تطوله أيدي الأقزام وأذهان الأنعام، ولكنا نرى أنه يتحدث عن فلسطين وكأنه أحد مالكيها، ويرفض النضال فيها باسم الدين، وهذا واللَّه من التطاول البغيض الذي عم اليوم حتى أصبح النصراني والشيوعي والعلماني والمنافق يتحدث باسم المسلمين وعن ديار المسلمين، ولاشك أن إبعاد الإسلام عن الحرب ضد اليهود هو أعظم وأكبر أهداف اليهود، ولكن هذا الحداثي صاحب رواية "المتشائل" ليس إلَّا أداة في الأيدي اليهودية التي وهبته الجنسية، ولديه جواز سفر يهودي -هو وسميح القاسم

(2)

- يتنقل به في الأرض على أنه من مواطني الدولة اليهودية.

أمَّا نصر أبو زيد فإنه يرى أن (الدعوة إلى أسلمة العلوم والآداب والفنون دعوة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب إنها دعوة تؤدي إلى تحكيم الفكر الديني الخاضع لملابسات الزمان والمكان والموقف الاجتماعي في مجالات فكرية، عقلية وإبداعية)

(3)

.

= اشترك في تأسيس جريدة الاتحاد لسان حال الحزب الشيوعي الفلسطيني حصل على الجنسية الإسرائيلية وانتخب عضوًا في الكنيست الإسرائيلي تحت لائحة الحزب الشيوعي، أعماله مليئة بالرموز النصرانية، والمضامين العلمانية مناوئ لدين الإسلام، موالٍ لليهود، ولذلك حصل على جنسيتهم، ونال جوائزهم، وله عند الحداثيين العرب الدرجة العالية والاحترام الكبير، هلك عام 1416 هـ انظر: رأيهم في الإسلام: ص 37.

(1)

رأيهم في الإسلام: ص 46.

(2)

انظر: جريدة الشرق الأوسط، العدد 6345 في 12/ 4/ 1996 م الموافق ذو القعدة 1416 هـ: ص 21 تحت عنوان حملة الجوازات الإسرائيلية متخوفون من المنع الثقافي.

(3)

قضايا وشهادات 2/ 385.

ص: 1931

ويرى البياتي أن العدالة الدينية إنَّما هي عدالة أخروية، وأن استعجالها في عالمنا الأثيم يعارض الدين

(1)

.

وهكذا يظهر الماركسي المادي في مسوح المعترف بالدين والمشفق عليه من التلوث والتدنيس، وهو الذي لم يبق جهدًا في جحد وجود اللَّه تعالى وألوهيته والسخرية بذاته العلية وأسمائه وصفاته والتكذيب للوحي والأنبياء.

وقد سبق نقل أقوال عديدة من كلامهم في هذا الصدد، كقول أحدهم:(الإسلام كأي دين آخر يجب أن يبقى منفصلًا عن الدولة والنظام السياسي)

(2)

، وقول حسين أحمد أمين في أن اليقظة الدينية لا تأخذ أى منحى إيجابي بل تزيد الوضع تفاقمًا ورجعية

(3)

.

وعلى نحو الشفقة الكاذبة التي أطلقها البياتي في القول المذكور آنفًا، يقول النصيري الملحد أدونيس:(كان الدين صلة بين الإنسان واللَّه، فتحول إلى صلة بين الإنسان والدولة، الدين صار جزءًا من مؤسسات الدولة، وبذلك ضمر)

(4)

.

‌الأمر السابع: القول بوجوب تفسير الإسلام تفسيرًا عصريًا، وتطبيقه تطبيقًا علمانيًا:

وهو قول يجري في مجرى المخادعة والتلبيس، وضمن حرب المصطلحات المفاهيم وأحابيل اللُعب العلمانية ضد دين اللَّه تعالى. . فهم يظهرون من خلال هذا القول -أحيانًا- في مظهر من يعترف بالدين ويحترمه ويقدسه، ويريد بقاءه واستمراره، والمحافظة على أثره في الواقع.

وبعد أن تلبس الذئاب جلود الخرفان، وتُظهر الأفاعي لين جلدها،

(1)

انظر: رأيهم في الإسلام: ص 52.

(2)

المصدر السابق: ص 76 والقول لأدوار الخراط.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 86.

(4)

أسئلة الشعر: ص 140.

ص: 1932

تتبدى بعد ذلك الحقيقة وتتجلى، حين تسمع أنهم يريدون الإسلام مفسرًا بطريقة عصرية، أو بمنهج "تنويري"، أي أنهم يريدون إسلامًا تتلاعب به الأهواء الكفرية وتتقاذفة الشبهات الضلالية العلمانية، حيث لا يبقى بعد ذلك إسلام ولا إيمان.

إنهم بهذه الدعوى يكشفون خبث طواياهم، ولؤم مسالكهم، ولو قال قس نصراني أو كاهن يهودي بأنهم يريدون تفسير الإسلام تفسيرًا يهوديًا أو نصرانيًا؛ لكان هذا القول -رغم بشاعته وانحرافه وكفره- أقرب من قول العلماني والحداثي أنه يريد تفسير الإسلام أو تطبيقه بطريقة علمانية حداثية؛ لأن الملة الحداثية والعلمانية تقوم أصلًا على "اللادينية" فكيف يتفق هذا مع هذا القول؟!.

أضف إلى ذلك ما في رصيدهم الخائب من عداوات مستعرة ضد الإسلام، وأحقاد طائشة ضد شريعة اللَّه تعالى ومسعى دائب لهدمه وتشويهه وإبادته، فكيف يتفق هذا مع هذا الطرح السخيف؟!.

يقول عبد الرحمن منيف: (يبقى على الإسلام، كثقافة وحضارة ومجموعة قيم، أن يساهم في إغناء المجتمع بمعالم جديدة قد تزيده إنسانية، من هذا المنطلق يُمكن للدين المشاركة في إعادة بناء وتنظيم المجتمع، بشرط أن يستند هذا التنظيم إلى ركائز علمانية على ضوء العصر)

(1)

.

ويقول توفيق الحكيم عندما سئل: هل يُمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام ونظام حكم: (ممكن، ولكن يتعين اعتماد تفسيرات جديدة تتفق والمفاهيم العصرية، والمؤسف تبني البعض تفسيرات القرون الوسطى للنصوص الدينية)

(2)

.

ويقول لويس عوض: (. . . وإذا تمكن الإسلام من التغلب على

(1)

رأيهم في الإسلام: ص 22.

(2)

المصدر السابق: ص 105.

ص: 1933

"بيزنطيا" سابقًا؛ فلأنه كان دينًا علمانيًا أكثر من الدين المسيحي في القرن السابع)

(1)

.

ويقول آخر: (أنا أدعو للدولة العلمانية، التي تبدو أكثر ملاءمة لإدارة مجتمع عصري، بينما يعني الإسلام بعلاقات الفرد ربه ومع الغير، لقد تبدل المجتمع وتغيرت أحواله فلم يعد كالمجتمع الإسلامي في مكة والمدينة أيام النبي، يمكن للإسلام وضع المبادئ الأساسية للمجتمع وعدم الاهتمام مباشرة بعملية التطبيق، فمبدأ الزكاة مثلًا لا يمنع من فرض ضرائب بالمعنى العصري للكلمة، إذ أن فرضها سبيل للعدالة الاجتماعية، إحدى مبادئ الإسلام عملًا بالقول بأن البشر خلقوا متساوين كأسنان المشط)

(2)

.

وفي سؤال وجهه مؤلف كتاب "أسئلة الشعر" إلى يوسف الخال، قال فيه:(قرأت منذ فترة كتابًا للأب ميشال حايك يتصور فيه أنه لا يُمكن حل القضية الفلسطينية إلَّا بتنصير المسلمين، على اعتبار أنهم يؤمنون مع المسيحيين بنزول المسيح لتخليصهم، كيف تتصور أنت من وجهة نظر مسيحية شرقية مستقبل القضية الفلسطينية، في الوقت الذي يعتبر فيه كثير من المسيحيين أن قيام إسرائيل هو نبؤة إنجيلية؟)

(3)

.

أجاب الخال قائلًا: (ليس من الضروري أن يتنصر العالم الإسلامي، وهذا غير وارد، لا يستطيع البت فيه إلَّا اللَّه، وكل ما يُمكن قولهم إن الإسلام يجب أن يعاد تفسيره في ضوء معطيات الحضارة الإنسانية الواحدة. . .)

(4)

.

‌الأمر الثامن: السخرية بأحكام الإسلام:

وقد بينا كيف يستخدم أعداء الإسلام السخرية لمحاربة الدين،

(1)

المصدر السابق: ص 112.

(2)

المصدر السابق: ص 122.

(3)

أسئلة الشعر: ص 163.

(4)

قضايا وشهادات 2/ 394.

ص: 1934

وهدمه، وتدنيسه، وقد ذكرت جملة كبيرة من الشعائر والأحكام في الفصل الأول من هذا الباب، وسوف أذكر هنا بعض الأحكام الشرعية التي أجالوا حولها عبارات سخفهم وسخريتهم واستخفافهم.

فمن ذلك كلام نصر أبو زيد عن حرمة الغناء

(1)

، وعن أحكام الرق والعتق

(2)

، وعن حكم أخذ الجزية

(3)

، واعتراضه وسخريته بحكم تحريم الربا

(4)

، ومسألة ميراث البنات

(5)

، واعتراضه على مبدأ لا اجتهاد فيما فيه نص

(6)

.

ويقول النصراني المتهود أميل حبيبي: (. . . ليس كل ما حرمه الإسلام كان منتشرًا في الجاهلية فأين كانت العرب العاربة تجد مثلًا لحم الخنزير؟ كانت صعاليكهم تبحث عن الماء في الفيافي حتى تموت عطشًا، فأين كانت تجد الخمرة؟ ولو وأد العرب بناتهم "في الجاهلية" لانقرضوا. . .

. . . حتى يومنا هذا. . . تئد البنين والبنات وتئد المستقبل وهو في الأرحام. . . فأسدلوا على وجوههن البرقع والخمار وحجبوهن جيلًا بعد جيل وحتى يومكم هذا. . . تراثنا هو ما خلفه لنا الفعلة والأكارون لا ما خلفه لنا مدعو الخلافة الأكالون النكارون)

(7)

.

ويقول توفيق الحكيم: (. . . باعتقاد بعضهم أن في اعتماد الإسلام نظامًا يتحقق المجتمع المزدهر كما وُصف في التاريخ، علمًا بأن المجتمع الإسلامي، ككل مجتمع، يقوم على أفراد يتصفون بالقوة حينًا وبالضعف أحيانًا، ويظن الشباب الطالع الداعي لتطبيق الشريعة أن قطع يد السارق يضع

(1)

أسئلة الشعر: ص 163.

(2)

المصدر السابق 2/ 395.

(3)

و

(4)

المصدر السابق 2/ 357، 398.

(5)

المصدر السابق 2/ 404.

(6)

المصدر السابق 2/ 404 ونحو ذلك قاله عادل ظاهر. انظو: الإسلام والحداثة: ص 75.

(7)

رأيهم في الإسلام: ص 40.

ص: 1935

حدًا للسرقة، هذه الرغبة في العودة إلى الماضي، وحتى إلى العصر الحجري، تتأتى من يأس بالحاضر والمستقبل، وفقدان الجذور الثقافية)

(1)

.

ويصف أحدهم حكم القرآن بأنه مفاهيم العصور القديمة، ويصف حكم عبد الناصر بأنه حكم شرعي

(2)

.

أمَّا أركون فإنه يورد قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

(3)

ثم يقول: (إنني أنتفض بلا ترو حيال مواقف يستمدها البعض من فكرة وجود حالات فريدة في الإسلام لا تأتلف مع أوضاع أخرى، فيستبيح الجهاد كل الأعمال، أمر لا يُمكن التسليم به)

(4)

.

ويقول أحدهم في كذب وسخرية بالإسلام وأحكامه قائلًا: (تستوقفنا نماذج أخرى كالتمييز بين إسلام الرجل وإسلام المرأة، فالدين يشهد هذا النوع من الانقسام الداخلي، إذ أن إسلام المرأة ينطوي على ممارسات سحرية وعادات وخرافات تتفاعل وسط الأسرة)

(5)

.

ويسرد العلماني المحترق عادل ظاهر في ندوة الحداثة والإسلام جملة من الأحكام الشرعية، وينتقد الذين يرون ثبات هذه الأحكام، ويرى أن ذلك دليل على فساد موقفهم.

والأحكام التي ذكرها هي: أنصبة الورثة في التركة، وعدد مرات الطلاق، والحدود المنصوص عليها كحد الجلد، أو قطع يد السارق، أو جلد الزانية، والمحرمات مثل الربا وشرب الخمر وقذف المحصنات والقتل وشهادة الزور

(6)

.

(1)

المصدر السابق: ص 103.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 128. والقول لأحمد بهاء الدين.

(3)

الآية 5 من سورة التوبة.

(4)

المصدر السابق: ص 149 - 150.

(5)

المصدر السابق: ص 207، والكلام لعبد الكبير الخطيبي.

(6)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 82 - 83.

ص: 1936

ويصور صلاح عبد الصبور القضاء الشرعي في صورة هزيلة، ويجعل الأحكام الشرعية محلًا للتلاعب وذلك في مسرحيته مأساة الحلاج

(1)

.

أمَّا نزار قباني فإن كثرة أقواله الساخرة بأحكام الشرع تحتاج إلى حيز كبير من هذا البحث، وتكفي بعض النماذج الدالة على المراد، ويكفيك من شر سماعه!!.

يقول نزار في هجومه على الثقافة والتراث وأحكام الشرع:

(ثقافتنا

فقاقيع من الصابون والوحل

فما زالت بداخلنا

راوسب من "أبي جهل"

وما زلنا، نعيش بمنطق المفتاح والقفل

نلف نساءنا بالقطن، ندفنهن في الرمل

ونملكهن كالسجاد

كالأبقار في الحقل

ونهزأ من قوارير بلا دين ولا عقل

ونرجع آخر الليل

نمارس حقنا الزوجي كالثيران والخيل

بلا شوق بلا ذوق ولا ميل. . . .

قضينا العمر في المخدع

وجيش حريمنا معنا

(1)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 553 - 557.

ص: 1937

وصك زواجنا معنا

وصك طلاقنا معنا

وقلنا: اللَّه قد شرّع

ليالينا موزعة

على زوجاتنا الأربع

هنا شفة، هنا ساق

هنا ظفر، هنا إصبع

كأن الدين حانوت

فتحناه لكي نشبع

تمتعنا "بما أيماننا ملكت"

وعشنا في غرائزنا بمستنقع

وزورنا كلام اللَّه بالشكل الذي ينفع

ولم نخجل بما نصنع

عبثنا في قداسته

نسينا نبل غايته

ولم نذكر سوى المضجع

ولم نأخذ، سوى زوجاتنا الأربع

أنا طروادة أخرى أقاوم كل أسواري

وأرفض كل ما حولي ومن حولي بإصرار

أقاوم واقعي المصنوع

من قش وفخار

ص: 1938

أقاوم كل أهل الكهف، والتنجيم، والزار

تواكلهم تآكلهم تناسلهم كأبقار. . . .

تظل بكارة الأنثى

بهذا الشرق عقدتنا وهاجسنا)

(1)

.

ومن هذا الهجوم السافر على أحكام الإسلام، والسخرية بها وتدنيسها يتبين مقدار ما ينطوي عليه قلبه المظلم من كراهية لدين اللَّه القويم، فهو ينتقد ساخرًا ممارسة الجنس مع الزوجات، ويدعو في مواضع كثيرة إلى الزنا والدعارة والمتاجرة بالأعراض والأبضاع، بل كل دواوينه القذرة تختصر المرأة إلى مجرد أعضاء للجنس والتلاعب الداعر.

ومن أقواله الساخرة بأحكام الشرع وعفة المرأة قوله:

(حين كنا في الكتاتيب صغارًا

حقنونا بسخيف القول ليلًا ونهارًا

درسونا:

"ركبة المرأة عورة"

"ضحكة المرأة عورة"

"صوتها، من خلف ثقب الباب عورة"

(2)

.

إلى أن يقول:

(خوفونا، من عذاب اللَّه إن نحن عشقنا

هددونا، بالسكاكين، إذا نحن حلمنا

فنشأنا، كنباتات الصحارى

(1)

الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 634 - 639.

(2)

المصدر السابق 1/ 659.

ص: 1939

نلعق الملح ونستاف الغبارا)

(1)

.

ويقول أيضًا:

(وحين تصير الحرية مومسًا سرية غير مرخص لها بمزاولة

المهنة. . فأنت منفي

وحين يقتلونك إذا كنت مؤمنًا. . ويقتلونك إذا كنت

مشركًا. . ويقتلونك إذا قلت "أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه"

ويقتلونك إذا لم تقلها. . فأنت منفي)

(2)

.

ويقول:

(أشهد أن لا امرأةً

قد غيرت شرائع العالم إلَّا أنت

وغيرت خريطة الحلال والحرام

إلَّا أنت)

(3)

.

ولغيره ممن يُسمون شعراء الحداثة ومن كتاب الرواية الحداثية الكثير من هذا القبيل

(4)

.

(1)

المصدر السابق 1/ 660.

(2)

المصدر السابق 2/ 295.

(3)

المصدر السابق 2/ 745.

(4)

انظر: أمثلة لذلك قول فاضل العزاوي في مجلة الناقد، عدد: 13 ص 18 - 24، وقول جمال الغيطاني في رأيهم في الإسلام: ص 122، وقول جابر عصفور في الإسلام والحداثة: ص 183، 187، وقول عبد الوهاب المؤدب في رأيهم في الإسلام: ص 227، وأقوال نزار في الأعمال الشعرية له 2/ 445، 490، 3/ 249 - 258، وأقوال معين بسيسو في الأعمال الشعرية له: ص 19، 259 - 261، 292 - 293، وأقوال سميح القاسم في ديوانه: ص 69، 278، 711، وقول المقالح في ديوانه: ص 477 - 478، 481، وقول علاء حامد في مسافة في عقل رجل: ص 195، 206، 209، 207، وقول عبد الرحمن منيف في مدن الملح 2/ 322، 323، 3/ 257، =

ص: 1940

‌الوجه الثاني من أوجه انحرافاتهم: دعوتهم إلى تحكيم غير الإسلام

.

وهذه نتيجة حتمية لكل تلك المقدمات الضالة المنحرفة، فمن لم يرضى باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا وبالقرآن والسنة دستورًا، فلابد أنه قد رضي بأشياء أخرى، وهذا هو الواقع فعلًا، وأقرب شيء يستدل به هو انتماؤهم للحداثة، التي تبين بالأدلة الكثيرة القاطعة أنها ملة كفرية مناقضة كل المناقضة للإسلام عقيدة وشريعة.

ثم انتماؤهم للعلمانية التي هي في الحقيقة "اللادينية" وافتخارهم بهذين الانتمائين، ودعوتهم إليها، ودفاعهم عنهما، والسعي في نشرهما ونصرهما.

ولاشك أن بعض ذلك كافٍ في أعطاء تصور كامل عن مقدار البون الشاسع بينهم وبين الإسلام بل بعض ذلك فيه ما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا!!.

وفيه من البهت المكشوف والكذب المفضوح والعداء السافر للدين، والرد الصريح لعقائده وشرائعه، والاجتراء الكافر، ما يُعلم معه بالضرورة من دين الإسلام أن القوم في وادٍ والإسلام في وادٍ آخر، وقد استحق زعيمهم إبليس صفة الخلد في نار جهنم أبد الآبدين؛ لأنه رد على اللَّه أمرًا واحدًا، فكيف بهؤلاء الذين يردون كل عقائد الإسلام وشرائعه، ويسعون في آيات اللَّه معاجزين ويدعون إلى حرب الإسلام جادين عامدين؟.

فهذه قاعدة عامة يُمكن من خلالها تصور ما هم عليه من دعوة إلى تحكيم غير الإسلام، بيد أنهم في فروع هذه القاعدة قد تشعبوا إلى شعب كثيرة.

فمنهم الداعي إلى الشيوعية الماركسية، المنتمي إليها، أو إلى فرعها الاقتصادي المسمى بالاشتراكية، وهؤلاء كانوا كثرة أيام كانت للشيوعية دولة تحميها وتنشرها، وهي دولة الاتحاد السوفيتي، وقد استمر بعضهم في هذا الاتجاه موقنًا بأنه ماركسي أكثر من ماركس ولينين، ويرى أن تلك التجارب

= وقول نوال السعداوي في روايتها "سقوط الإمام": ص 11، 88، 106، 112.

ص: 1941

المنهارة في روسيا وشرق أوروبا وغيرها ليست إلَّا تجارب خاطئة لفكرة هي في الأصل صائبة

(1)

.

ومنهم الداعي إلى القومية العربية

(2)

، وأكثرهم ينتمي إلى اليسار، ويعتبر من أدباء الواقعية الاشتراكية، وسبب ذلك أن أكبر الأحزاب القومية مثل الناصرية

(3)

والبعثية

(4)

وحركة القوميين العرب

(5)

تبنت الخط اليساري واتخذت من الاتحاد السوفيتي والصين قبلة لها.

(1)

من أصحاب هذا الاتجاه: عبد الوهاب البياتي، وسميح القاسم، ومحمود درويش، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وغسان كنفاني، وبدر السياب في أول أمره، وسعدي يوسف، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، ورجاء النقاش، وحسين مروة، ومهدي عامل، وعبد المنعم تليمة، ومحمد مندور، وامطانيوس ميخائيل، وكاتب ياسين، ورشيد بو جدرة، وطاهر وطار، وحسن حنفي حسب ما صرح به عن نفسه في الإسلام والحداثة: ص 238، وأميل حبيبي، وجمال الغيطاني قبل أن يتجه للصوفية الفلسفية، ومثله محمد الفيتوري، ومحمد دكروب، وحنا منيه، وعبد الرحمن الخميسي، وعبد الرحمن الشرقاوي في مرحلة سابقة، وأحمد سليمان الأحمد، وغالي شكري، وطيب تزيني، بى فيصل دراج، وغالب هلسا، وغيرهم ممن عرفوا بأدباء الكتلة الشرقية، أو أدباء الواقعية الاشتراكية التي هي الصياغة الأدبية للماركسية.

(2)

من أصحاب هذا الاتجاه: سليمان العيسى، ومحمد صالح عبد الرضا، وعبد الأمير معله، ومحمد العلي، عبد العزيز المقالح، ومحمد جميل شلش، وعبد اللَّه البردوني، وعبد الرحمن منيف، والسياب بعد مرحلة الشيوعية، وممدوح عدوان، ومنيف الرزاز، وحميد سعيد، وسامي مهدي، وحصة المنيف، وأحمد بهاء الدين، وعبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور.

(3)

الناصرية: نسبة إلى عدو الإسلام والمسلمين جمال عبد الناصر، والناصرية عقيدة قومية اشتراكية علمانية، نشات على عين الأمريكان والروس كما في كتاب لعبة الأمم لما يلزكوبلاند، وقامت بدور كبير في التمكين لللادينية في مصر وغيرها، وأتاحت الفرص لدولة اليهود أن تتوسع في بلاد المسلمين، وقامت بمعاداة الإسلام والمسلمين وقتل علمائهم ودعاتهم وسجنهم والتنكيل بهم. انظر: موسوعة السياسة 6/ 549.

(4)

البعثية: نسبة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه النصراني السوري ميشيل عفلق، وهي تشابه الناصرية في المبادئ والغايات، وإن كانت أوسع تاثيرًا وأدق تنظيمًا، وعداوة البعثية للإسلام والمسلمين مما لا يماري فيه اثنان. انظر: حزب البعث تاريخه وعقائده لكاتب هذه الأسطر.

(5)

حركة قومية يسارية تتبنى الخط الماركسي، أسسها النصراني جورج حبش وامتد أثرها =

ص: 1942

وكلهم يدعون إلى تحكيم غير الإسلام.

ومنهم الداعي إلى الليبرالية

(1)

الغربية، وهي ذات فروع عديدة في الثقافة والمذاهب الفكرية خاصة، وعلى إثر سقوط الاتحاد السوفيتي وشيخوخة الناصرية، وتآكل حزب البعث وانكساره بعد حرب الخليج، وما تبعها من "استسلام" لليهود باسم السلام، استدبر جملة من الحداثيين والعلمانيين قبلتهم الأولى في موسكو وبكين ووارسو وبرلين، واتجهوا صوب واشنطن ولندن وباريس ومدريد وتل أبيب، وانتقلوا من أقصى اليسار الاشتراكي إلى اليمين الديموقراطي، وكلما ازدادت هيمنة أمريكا واستكبارها، وارتفعت راية اليهود وقويت شوكتهم، ازداد عدد المنتمين إلى هذا الاتجاه الليبرالي الديموقراطي الرأسمالي، وقد نجد في أسماء هذا الاتجاه من كان ماركسيًا قحًا أو قوميًا متعصبًا فإذا به يصبح بين عشية وضحاها ليبراليًا متحررًا

(2)

!!.

وأيًّا ما كانت الانتماءات والتسميات فإن الكفر ملة واحدة، ويد واحدة

= إلى دول الجزيرة العربية مثل اليمن ودول الخليج، ويكفي في معرفة موقفها من الإسلام أنها ماركسية ذات قيادة نصرانية!!. انظر: موسوعة السياسة 2/ 231.

(1)

الليبرالية: مذهب غربي رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والحياة العامة. انظر: موسوعة السياسة 5/ 566 - 567.

(2)

من أصحاب هذا الاتجاه: عصابة شعر: الخال وأدونيس وأنسي الحاج ونذير العظمة وغيرهم، وجبرا إبراهيم جبرا، وتوفيق صايغ، وسعيد عقل، وغالي شكري في مرحلته الثانية، ومثله عبد الرحمن المنيف بعد تركه للبعث، ويظهر ذلك في كتابه الأخير الديمقراطية أولًا الديمقراطية دائمًا، وسهيل إدريس، ومحمد الماغوط، وسلمى الخضراء الجيوسي، وسعد اللَّه ونوس، وشلة الفرنكفونية مثل طاهر بن جلون وعبد الوهاب المؤدب وكاتب ياسين ورشيد بو جدرة وطاهر وطار وغيرهم، وحسين أحمد أمين، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، ومحمد أركون، وعلي أومليل، وعزيز العظمة، وعادل ظاهر، ولويس عوض، ومحمد عابد الجابري، ومحمد بنيس، ومحمود المسعودي، ونوال السعداوي، وهشام شرابي، وإسماعيل مظهر، وأنطون سعادة، وأمين الريحاني، وبلند الحيدري، وجابر عصفور، ونصر حامد أبو زيد، وزكي نجيب محمود، وغيرهم كثير.

ص: 1943

ضد الإسلام والتوحيد. وسواء صحت نسبة من ذكرت من الأسماء إلى هذا الاتجاه أو ذاك أو لم تصح، فإنه مما لاريب فيه أن صاحبه يدعو إلى تحكيم غير الإسلام، بل وإلى إبطال الإسلام، وإزاحته عن التأثير في شؤون الحياة، وكفى بذلك إثمًا مبينًا.

• • •

ص: 1944

‌الفصل الثالث السخرية من الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية

إن للأخلاق في الإسلام منزلة عظيمة ودرجة كبيرة، ومكانة سابقة إلى درجة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صاحب الخلق الحسن أكمل الناس إيمانًا، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة"

(2)

.

وذلك أن التقيد بالأخلاق الحسنة ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى يقتضي المصابرة والمجاهدة، وذلك بتحمل مشقة مخالفة الهوى، ومشقة معالجة أمور الحياة الاجتماعية المتقبلة، على أن حسن الخلق لا يغني عن فروض العبادات كما أن الفروض نفسها لا يغني بعضها عن بعض، فأداء فرض

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها 3/ 466، وأبو داود في كتاب السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه 5/ 60، والدرامي في كتاب الرقاق، باب: في حسن الخلق 1/ 719.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 2/ 250 مختصرًا، والحاكم مختصرًا وصححه الذهبي 1/ 3، وذكره في مجمع الزوائد بهذا اللفظ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه على بن سعيد بن بشير. قال الدارقطني: ليس بذاك وبقية رجاله رجال الصحيح 8/ 22، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 327 برقم 1578.

ص: 1945

الصلاة لا يغني عن أداء فرض الصيام، وأداء الصلاة والصيام لا يغني عن أداء فريضة الحج لمن استطاع وهكذا.

وقد جعل الإسلام حسن الخلق جماعًا للفضائل كلها، كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:"البر حسن الخلق"

(1)

الحديث.

والبر هو جماع أفعال الخير، ونعته النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حسن الخلق.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الخلق الحسن من الأمور التي تجلب الحسنات الكثيرة فقال: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، فإن اللَّه يبغض الفاحش البذيء"

(2)

.

وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب الخلق الحسن ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة"

(3)

.

بل أخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنَّما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"

(4)

.

وهذا القول وحده كافٍ في الدلالة على المنزلة الكبيرة للأخلاق في دين اللَّه القويم، ويُمكن أن تتبين منزلة الأخلاق ودرجتها في الإسلام وبعض أحكامها وأقسامها من خلال ما يلي:

‌أولًا: ما المراد بالأخلاق؟ وما صلتها بالسلوك والآداب

؟:

الأخلاق جمع خلق وهو (صفة مستقرة في النفس -فطرية أو

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تفسير البر والإثم 3/ 1980، والترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في البر والإثم 4/ 597، والدارمي في كتاب الرفاق، باب: في البر والإثم 1/ 718.

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق 4/ 362، وأبو داود كتاب الأدب، باب: ما جاء في حسن الخلق 5/ 150.

(3)

أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق 4/ 363، وأبو داود كتاب الأدب، باب: في حسن الخلق 5/ 150.

(4)

أخرجه أحمد في المسند بهذا اللفظ 2/ 381، ومالك في الموطأ في كتاب حسن الخلق، باب: ما جاء في حسن الخلق 2/ 904 بلفظ: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق".

ص: 1946

مكتسبة- ذات تأثير في السلوك محمودة أو مذمومة)

(1)

.

فأمَّا استقرار الخلق في النفس، فهو أصل، فإن كان الخلق حميدًا كانت آثاره حميدة، وإن كان ذميمًا كانت آثاره ذميمة.

وهذه الصفة المستقرة في النفس قد تكون فطرية جُبل الإنسان عليها، وتكون مكتسبة استفادها من التعلم أو التخلق أو من الاعتقاد أو من المجتمع المحيط به، وهذه الصفة المستقرة في النفس يُمكن معرفتها وقياسها عن طريق قياس آثارها في سلوك الإنسان.

وليست كل الصفات المستقرة من قبيل الأخلاق، بل منها غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق، والذي يميزها عن جنس هذه الصفات، كون آثارها في السلوك قابلة للحمد أو للذم، ومع ذلك فهناك بعض التشابك بين الأخلاق والغرائز، فالأكل عند الجوع بدافع الغريزة ليس فيه ما يحمد أو يذم من جهة السلوك الأخلاقي، لكن الشره الزائد عن حاجات الغريزة العضوية أمر مذموم؛ لأنه أثر لخلق مذموم، هو الطمع المفرط

(2)

.

أمّا السلوك الإرادي للإنسان فمنه ما هو أثر من آثار خلق في النفس محمود أو مذموم، كالعطاء عن جود، والإمساك عن شح، والاعتراف عن حب للحق، والإنكار عن كبر، والتحمل عن صبر، ومن السلوك ما هو استجابة لغريزة من غرائز الجسد كالأكل المباح عن جوع، والشرب المباح عن ظمأ، ومنه ما هو استجابة لغريزة من غرائز النفس الفطرية كالسعي في اكتساب الرزق تلبية لداعي الفطرة، والاستمتاع المباح تلبية لطلب النفس، والترويح عن النفس بشيء من مباحات اللهو واللعب ومن السلوك ما هو استجابة إرادية لترجيح فكري، كأن يرى بفكره أن هناك مصلحة ومنفعة في سلوك ما، فتتوجه إرادته لممارسته، وعلى هذا معظم أعمال الناس اليومية في وجوه الكسب، ومن السلوك ما هو من قبيل الآداب الشخصية أو

(1)

الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني 1/ 10.

(2)

انظر: المصدر السابق 1/ 10 - 11.

ص: 1947

الاجتماعية، كآداب الأكل والشرب واللباس والتأنق ونظافة الجسد، وإبداء كل حسن في ذلك احترامًا لأذواق الناس وتكريمًا لهم، ومراعاة لمشاعرهم، وربّما يكون التزام بعض هذه الآداب أثرًا من آثار خلق في النفس محمود.

ومن السلوك ما هو طاعة للتكاليف والأوامر الشرعية أو غير الشرعية، وقد تكون هذه الأوامر والتكاليف ملزمة بسلوك أخلاقي، أو ملزمة بأعمال هي من قبيل العبادات المحضة في حالة صدور الأوامر من قبل الشرع، أو ملزمة بأعمال هي من قبيل الآداب، أو ملزمة بأعمال تحقق المصالح والمنافع للناس، ومن السلوك ما هو من قبيل العادات، وقد ترجع إلى موجه أخلاقي أو موجه غريزي، أو موجه تكليفي أو موجه اجتماعي، وقد لا تكون إلَّا مجرد ممارسات عابثة استحكمت بالعادة، ومن السلوك ما هو من قبيل التقاليد الاجتماعية التي تسري في سلوك الأفراد بعامل التقليد المحض أو بقوة التأثير الاجتماعي، وقد تكون هذه التقاليد حسنة وقد تكون سيئة، وبهذا يتضح أن السلوك الإرادي الإنساني له أنواع شتى، فليس كل سلوك مظهرًا من مظاهر الأخلاق في النفس الإنسانية

(1)

.

‌ثانيًا: السلوك الظاهر يدل على الخلق المستقر في النفس:

سبقت الإشارة إلى أن الخلق في حقيقته تكوين خاص ثابت في النفس فطري أو مكتسب له ظواهر في السلوك، وهذا يدل على أن السلوك الأخلاقي يدل على الخلق الأصيل الثابت في قرارة النفس، وإن كانت هذه الدلالة ظنية وليست قطعية؛ لأنه قد يكون السلوك الظاهر صادرًا عن تكلف وتصنع أو خوف أو طمع، أو محبة مدح أو خوف قدح، وقد يكون صاحبه مخلصًا يريد تطويع نفسه وترويضها وقسرها حتى تكتسب الكريم ولو لم يكن ذلك من أصل طبعها.

فقد يجود الشحيح لغاية في نفسه، فنسمي هذا السلوك عطاءً كريمًا، ولكن صاحب هذا العطاء غير متصف بخلق الجود، وإنَّما ظهر ذلك منه

(1)

هذا كله مقتبس من كتاب الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/ 11 - 13.

ص: 1948

تكلفًا أو لطلب المدح أو لدفع القدح، أو يتطبع بذلك ليتحول بالتدريب والعادة إلى اكتساب خلق الجود، ومع ذلك فليس حاله، وإن تطبع كحال المفطور على خلق الجود

(1)

.

‌ثالثًا: ضبط السلوك وتوجيهه نحو الأحسن والأجمل واعتناق مكارم الأخلاق والتزام فضائل الآداب واجتناب الأخلاق الذميمة، كل ذلك من مقتضيات العقل السليم والدين القويم والفطرة المستقيمة

.

كما أن رذائل الأخلاق وانفراط السلوك وتوجيهه نحو الأقبح والأخبث من الأمور التي تخالف العقل السليم والدين القويم والفطرة السليمة.

فأمَّا دلالة الدين على القضية فواضحة غاية الوضوح.

وأمَّا دلالة العقل والفطرة فإنه مما يُمكن التمييز به بين الأخلاق الحميدة عن غيرها: التقاء النفوس البشرية على استحسان الأخلاق الحميدة كالأخذ بالحق أو الخير أو الجمال وإن خالف الهوى، وترك الباطل والشر والقبح وإن وافق الهوى والشهوة.

وعلى استقباح الأخلاق الذميمة كالأخذ بالباطل أو الشر أو القبح، وترك الحق أو الخير أو الجمال اتباعًا للهوى أو الشهوة، وعلى هذا فيمكن أن يقال على سبيل التفريع بأن الخلق المحمود: صفة ثابتة في النفس فطرية أو مكتسبة تدفع إلى سلوك إرادي محمود عند العقلاء، وعكس هذا في الخلق المذموم

(2)

.

إذن فكل سلوك أو خلق فردي واجتماعي التقت النفوس البشرية مهما اختلفت أديانها ومذاهبها وعاداتها وتقاليدها ومفاهيمها، على اعتباره وتلقيه بالقبول، فهو سلوك وخلق محمود والعكس بالعكس؛ وذلك أن النفوس فطرت على محبة الخلق الجميل وبغض الخلق الذميم، والعقول تدرك حسن الخلق الحسن وقبح الخلق الذميم، ولكنها لا تستقل بالأمر والنهي، أو الوعد

(1)

انظر: المصدر السابق 1/ 17.

(2)

انظر: المصدر السابق 1/ 16.

ص: 1949

بالثواب أو الإيعاد بالعقاب، فإن ذلك من حق الشرع الذي جاء بما يوافق العقول والفطر لا بما يخالفها.

فمن تفلسف وادعى قبح الأخلاق المحمودة، أو حسن الأخلاق المذمومة؛ فإنه محجوج بالعقل والفطرة والشرع.

ومثله في ذلك مثل من يستقبح الماء الزلال ويستحسن البول النجس، أو يستقبح الفاكهة الطيبة الناضجة، ويستحسن العذرة، فإن الفطرة والعقل والشرع على عكس استحسانه واستقباحه.

فالعقل يدرك الحسن والقبح فيما هو ملائم للطبع أو مضاد له، فإذا لاءم الغرض الطبع فحسن، كاللذة والحلاوة، وإذا نافره فهو قبيح كالألم والمرارة، وهذا القدر معلوم بالحس والعقل والشرع، مجمع عليه بين الأولين والآخرين بل هو معلوم عند البهائم

(1)

.

أمَّا الحسن والقبح المتعلق بالشرع بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب أو المدح والثواب، وهل يعلم ذلك بالعقل أم لا يعلم إلَّا بالشرع أم يعلم بهما معًا؟.

فهذا محل افتراق وتنازع، والقول الحق في ذلك هو قول أهل السنة والجماعة، وحاصله أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكمًا في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحًا لاستحقاق الأمر والنهي والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه أو ينهي عن نقيض ما أدرك العقل قبحه؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن، عملًا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات اللَّه سبحانه وتعالى فلا حكم إلَّا من الخطاب الشرعي ولا أمر ولا نهي إلَّا من قبل الشارع الحكيم، وخطابه

(1)

انظر: مجموع الفتاوى 8/ 90، 308، 309، ومفتاح دار السعادة 2/ 44، ومدارج السالكين 1/ 330، وإرشاد الفحول: ص 7.

ص: 1950

وأمره ونهيه جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن والأمر به، وتقبيح القبيح والنهي عنه

(1)

.

وهذا كله يصدق على الأخلاق التي أمر بها الإسلام لحسنها والتي نهى عنها لقبحها.

فمكارم الأخلاق يؤيدها الفكر العلمي ويستحسنها ويحث عليها، ورذائل الأخلاق يؤيد العقل اجتنابها ويستقبحها ويحث على البعد عنها، وهي إضافة إلى ذلك فطرية مغروسة في وجدان الناس، فإنه من المعلوم أن في فطر الناس ميلًا إلى مكارم الأخلاق، ورغبة داخلية في ممارسة كل سلوك تدفع إليه، وفي فطر الناس نفور واشمئزاز من رذائل الأخلاق، ورغبة داخلية باجتنابها واجتناب كل سلوك هو من آثارها، وهي إضافة إلى ذلك وفوق ذلك تعود إلى القاعدة الإيمانية في الإسلام، التي تلزم بطاعة اللَّه في أوامره ونواهيه، وأتي منها التوجيه للعمل بمكارم الأخلاق واجتناب رذائلها وقرنت ذلك بالوعد بالثواب لمن أطاع والوعيد بالعقاب لمن عصى

(2)

.

‌رابعًا: ارتباط الأخلاق بالأيمان والعبادة للَّه تعالى

.

إن عقيدة الإسلام ليست مجرد عقيدة قلبية مجردة معزولة في الوجدان، وليست مجرد ألفاظ تردد على الألسن أو تدون في الكتب، وليست مجرد تفكير عقلي أو ثقافة ذهنية فقط، وليست مجرد جهد بدني أو عمل جوارحي فقط، بل هي ذلك كله؛ إذ الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.

(1)

انظر: هذه القضية في مفتاح دار السعادة 2/ 76، 9، 12، 39، 44، 57، ومدارج السالكين 1/ 231 و 3/ 488، 490، وشفاء العليل: ص 435، ودرء التعارض 8/ 493، ومجموع الفتاوى 11/ 677 و 8/ 428، 436، وسلم الوصول لشرح نهاية السول 1/ 83 - 84، ولوامع الأنوار البهية 1/ 284، وشرح الكوكب المنير 1/ 300 - 322، وتيسير التحرير 1/ 383 - 387، وروح المعاني للألوسي 14/ 94 و 15/ 37 - 42.

(2)

انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/ 22 - 23.

ص: 1951

ومن تأمل دين الإسلام وجده -في التقسيم المنهجي أو التصنيفي- يدور حول عدة قضايا هي العقيدة والشعيرة والشريعة والأخلاف، فالأخلاف ربع الإسلام -إن صحت التسمية والقسمة- وهي مربوطة بالعقيدة، موصولة بها، مثل ارتباط الشريعة والشعيرة.

ويتبين هذا الارتباط من خلال النظر إلى الإسلام على حقيقته الصحيحة، على أنه وحدة كاملة متشابكة مترابطة لا انفصال بين أجزائها وعناصرها وأقسامها في الواقع، وإن جرى على ألسنة وأقلام أهل الإسلام تقسيمه إلى عبادات وعادات أو عقائد وشرائع وأخلاق، فهذا التقسيم هو من الناحية النظرية التعليمية التصنيفية حيث جرى العرف العلمي على تجميع كل فئة منها تحت كلية من الكليات.

‌وإذا نظرنا إلى أوجه الارتباط بين العقيدة والأخلاق وجدناها تتمثل فيما يلي:

1 -

إن العقيدة الإيمانية هي أساس الدين، وأصل كل شيء في ملة الإسلام، فالمصلي يصلي للَّه تعالى مؤمنًا بألوهيته وربوبيته مطيعًا أمر رسوله راجيًا ثوابه في المعاد، وكذلك صاحب الخلق الحسن، يظهر خلقه الحسن في سلوكه راجيًا -في حال احتسابه- الأجر من اللَّه تعالى؛ لأنه يطيع أمر اللَّه الإله الحق، ويقتدي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك يطبق لوازم إيمانه باللَّه ورسوله والوحي والمعاد.

2 -

أن الإيمان باللَّه تعالى يندرج تحت الدوافع الأساسية للأخلاق، بل هو من أعظم الدوافع وأهمها وأقواها تأثيرًا في غرس فضائل الأخلاف وتعهدها وجعلها سلوكًا، وفي النهي عن رذائل الأخلاف.

3 -

لارتباط الخلق بالإيمان نجد أن دين الإسلام يعتمد في غرس الفضائل وتعهدها والنهي عن الرذائل على صدق الإيمان وكماله، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . . 5/ 2240، ومسلم في كتاب اللقطة، باب: الضيافة ونحوها 2/ 1352.

ص: 1952

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله"

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحياء والإيمان قرنا جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان"

(3)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم عن الغدر: "الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن"

(4)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"

(5)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"

(6)

.

4 -

وعلى ما سبق يُمكن القول بأن الإيمان القوي يلد الخلق القوي، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان أو فقدانه؛ لأن الإيمان قوة مانعة عن الدنايا، دافعة إلى المكرمات، وما أكثر الآيات المبدوءة بقوله

(1)

أخرجه الحاكم عن أنس 4/ 165، وذكره في صحيح الجامع 2/ 950 برقم 5387.

(2)

أخرجه الحاكم في كتاب الإيمان عن ابن عمر 1/ 22، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي، وذكره في مجمع الزوائد 1/ 92، وهو في صحيح الجامع برقم 1630، 1/ 331.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان 1/ 12، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان. . . 1/ 63، وغيرهما.

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في العدو يؤتى على غرة 3/ 212، وأحمد في المسند عن الزبير بن العوام 1/ 166.

(5)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 154، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 96، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، وهو في صحيح الجامع برقم 7179 جـ 2/ 1205.

(6)

أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة 4/ 350، والحاكم 2/ 992 وذكره في مجمع الزوائد 1/ 97، وهو في صحيح الجامع برقم 5381، 2/ 994.

ص: 1953

تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وبعدها يرد الأمر بالفضيلة والخير والبر أو النهي عن الرذيلة والشر والإثم، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}

(1)

، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(2)

، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}

(3)

، وغيرها من الآيات.

فالإيمان واتباع منهج الإسلام سلوك إرادي توجبه فضائل الأخلاق، وهو -في الوقت نفسه- يدل ويوصل إلى فضائل الأخلاق، وينهى ويحذر عن وذائلها، والإيمان في حقيقته يستلزم كل الفضائل ويستلزم النهي والمفارقة لكل الرذائل، بل هو كذلك في صميمه إضافة إلى ما يستلزمه ويقتضيه.

5 -

الإيمان في أصله إذعان للحق واعتراف به وانقياد، وهذا عمل أخلاقي عظيم تطلبه النفوس التواقة، بخلاف الكفر فهو استكبار عن الحق ورد له وتعال عليه، وهذه دناءة خلقية عظيمة، تنحط إليها النفوس الرذيئة.

ومن هنا يُمكن أن نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"

(4)

.

فأحسن الناس خلقًا لابد أن يكون أصدقهم إيمانًا وأخلصهم نية، وأكثرهم التزامًا بما يجب على العباد نحو ربهم من عبادة، وأكثرهم التزامًا بحقوق الناس المادية والأدبية، فالأسس الأخلاقية والأسس الإيمانية ذات أصولٍ نفسية واحدة، وإن كانت بعض الأوامر الشرعية تستند إلى محض التعبد لكونها أوامر من اللَّه تعالى، يجب إنفاذها على الوجه الذي أمر اللَّه به كعدد ركعات الصلاة وهيئاتها، ولا يستدعيها أساس أخلاقي منفصل عن

(1)

الآية 135 من سورة النساء.

(2)

الآية 27 من سورة الأنفال.

(3)

الآية 119 من سورة التوبة.

(4)

سبق تخريجه: ص 1945.

ص: 1954

الإيمان، فيُظن أنه لا ترابط بين هذا وذاك، غير أنها في الحقيقة مترابطة، لكونها عائدة إلى الإيمان وهو في أساسه إذعان للحق واعتراف به وانقياد له، ومن هنا نقول بأن هذه الفصيلة الخلقية توجب القيام بهذه الطاعة من جهة أن اللَّه تعالى أمر بها، إذ الفضيلة الخلقية توجب طاعة اللَّه تعالى لأنه الخالق المنعم المالك الإله الحق المبين

(1)

.

وخلاصة القول: أن الإيمان باللَّه تعالى وعبادته مما توجبه الأخلاق الفاضلة، ومن أولى الواجبات التي تفرضها مكارم الأخلاق، وأن الكفر باللَّه ورفض عبادته من أقبح رذائل الأخلاق؛ لأنه إنكار للحق من عدة وجوده: فهو إنكار لربوبية اللَّه تعالى -مع أن كون اللَّه تعالى رب لكل شيء وخالق كل شيء حقيقة قاطعة واضحة تفرض نفسها على كل منصف محب للحق- وهو جحود لألوهية اللَّه واستكبار عن عبادته، وهذا الجحد والاستكبار أشنع الرذائل الخلقية وأخبثها.

6 -

وفي الإسلام ارتباط بين العبادة والأخلاق، ذلك أن العبادة هي كمال المحبة مع كمال الخضوع للَّه -جلَّ وعلا-، والقيام بذلك واجب أخلاقي متحتم، وعدم القيام به كفر ورذيلة أخلاقه شنيعة.

والفضيلة الخلقية في العبادة باللَّه تعالى تفرض على الإنسان أنواعًا من السلوك الأخلاقي الراقي منها الإيمان باللَّه؛ لأنه الإله الحق، ومنها الاعتراف له بكمال الأسماء والصفات والأفعال، ومنها شكره على نعمة التي لا تحصى، وطاعة أوامره واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره؛ ذلك أن طاعة من تجب طاعته، وتصديق من يجب تصديقه ظاهرة خلقية يدفع إليها حب الحق وإيثاره، وبغض الباطل واطرحه، والذين يستكبرون عن عبادة اللَّه تعالى محرمون من هذه الفضيلة الخلقية الجليلة، مقارفون لرذيلة خلقية شنيعة هي الاستكبار، كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ

(1)

انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/ 43 - 44.

ص: 1955

إِلَيْهِ جَمِيعًا}

(1)

، وقال سبحانه عن عبادة الملائكة:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}

(2)

.

ولو ذهبنا نستقصي الأوامر والنواهي الشرعية فإننا نجدها -إضافة إلى هذا المعنى الأساسي- تشير من قريب أو من بعيد إلى خلق قويم أو تنهى عن خلق ذميم، فالمعاملات كلها قائمة على أساس الحق والعدل ومعلوم أن حب الحق أحد الأسس الأخلاقية العامة، وقائمة على مجانبة الظلم، وهذا مرتبط بالأخلاق أيضًا.

ومن تأمل أحكام البيع والإجارة والقرض وأحكام النكاح والطلاق، وأحكام الحدود الشرعية والقضاء، وجدها تدل على هذه المعاني الخلقية أوضح دلالة، وتدل في فرعياتها على فرعيات خلقية كثيرة، بل نجد فيها ألوانًا من الحكمة الخلقية والمقصد الخلقي لا يوجد في غيرها من أحكام القوانين الأرضية الجاهلية.

بل إذا تأملنا العبادات الشرعية المحضة مثل الشعائر التعبدية وجدناها تشير إلى معاني أخلاقية، فالصلاة -وهي الركن الثاني- قال اللَّه عنها:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}

(3)

والصيام قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كلان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم"

(4)

.

وفي فريضة الحج قال اللَّه تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}

(5)

.

(1)

الآية 172 من سورة النساء.

(2)

الآية 206 من سورة الأعراف.

(3)

الآية 45 من سورة العنكبوت.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم 1/ 806، والبخاري بنحوه في كتاب الصوم، باب: فضل الصوم 2/ 2670، وأبو داود في كتاب الصوم، باب: الغيبة للصائم 2/ 768.

(5)

الآية 197 من سورة البقرة.

ص: 1956

وفي عموم الأمر بالعبادة نجد هذه الروابط الوثيقة بين الخلق والعبادة، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه عن المفلس فقال:"أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار"

(1)

.

وفي هذا دلالة قوية على أهمية أمر الخلق، وعظم منزلته، فالمتدين الذي يباشر بعض العبادات، ويبقى بعدها بادي الشر، كالح الوجه، قريب العدوان، كيف يحسب إنسانًا تقيًا

(2)

؟ ولذلك عده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مفلسًا.

وخلاصة القول: أن الأخلاق ذات مكانة عالية، ومنزلة مرموقة ودرجة سامقة في الإسلام، وهي متصلة بوشائج متداخلة مع عقيدة الإسلام وعباداته وأحكامه وتشريعاته وهي مطلوبة من المؤمن، مأمور بها، منهي عن ضدها، موعود عليها بالثواب الجزيل من اللَّه الكريم.

‌وإذا انتقلنا إلى الجاهلية المعاصرة وموقفها من الأخلاق فإننا نجدها تخبطت في شأنها بشتى أنواع التخبط، ومن ذلك:

1 -

أنها في جحدها لوجود اللَّه تعالى أو في جحدها لألوهيته وحقه في العبادة والطاعة قارفت أعظم الرذائل الخلقية، وجانبت أعظم الفضائل الخلقية وبيان ذلك في أن الإيمان باللَّه وعبادته أمر توجبه فضائل الأخلاق الفكرية، بل هو أسمى الفضائل وأبرز مظاهر الكمال الخلقي في الإنسان؛ ذلك لأن اعتناق الحق والاعتراف به والتزامه فضيلة خلقية لها مستند من العقل السليم والفطرة القويمة.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم 3/ 1997، والترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/ 613.

(2)

انظر: خلق المسلم للغزالي: ص 12.

ص: 1957

وشكر المنعم بالوجود والحياة والعقل وسائر النعم واجب أخلاقي متحتم، وعدم شكره والاستكبار عليه رذيلة أخلاقية شنيعة، فيها الكبر والكذب والتكذيب وكراهة الحق، والظلم إضافة إلى ما في لوازم ذلك من فساد كبير في الأخلاق والسلوك والعمل.

2 -

أن النفس الإنسانية منذ تكوينها وتسويتها أُلهمت فطرتها إدراك طريق الفجور، وأعظمه وأخبثه الشرك، وطريق التقوى وأعظم التقوى التوحيد والإيمان، وهذا الحس الفطري الذي تدرك به الخير والشر والحق والباطل في بعض أوجهه فضيلة خلقية يسعى المؤمن في تنميتها وتزكيتها، ويسعى الكافر فى تدسيتها ودفنها والهبوط بها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}

(1)

فالإيمان باللَّه وبدينه ورسوله أعظم ما يعتنقه المكلف، والكفر أشنع ما يعتنق، وبالإيمان تتزكى القلوب والأعمال والأخلاق، وتشرق حياة الإنسان بالعمل الصالح والخلق القويم، وبالكفر تتدنس القلوب والأعمال، وتظلم حياة الكافر بالعمل الفاسد والخلق الدنيء.

ومن نظر في حياة المؤمنين الصادقين وأخلاقهم وأعمالهم، وحياة الكافرين والمنافقين والمشككين وأخلاقهم وأعمالهم، وجد البون الشاسع والفرق الهائل، الذي هو أعظم في سعته من الفرق بين الثرى والثريا، وأكبر في حقيقته من الفرق بين البصل والمسك، وأجلى في ذاته من الفرق بين التراب والجوهر.

ومن تأمّل أحوال فلاسفة الأخلاق القدماء والمعاصرين وقارنها أدنى مقارنة مع أحوال الأنبياء وأخلاقهم تبينت له هذه الفوارق، وما ذلك إلّا لما في الكفر من ظلام وتخبط وفساد، وما في الإيمان من نور واستقامة وصلاح.

3 -

أن النظرة المادية التي تسلطت على أفكار فلاسفة الغرب الماديين

(1)

الآيات 7 - 10 من سورة الشمس.

ص: 1958

قادتهم إلى اعتبار الإنسان مادة مجودة من الروح وآفاقها، وسلكته في سلك الحيوان.

أبطلت تميزه واختصاصه، وألغت تفرده، ونظمته في نظام الحيوانية الهابطة، فهو في نظرهم مخلوق ذو طبيعة واحدة تتحدد بحدود الجسد والغرائز، جسمه هو مصدر طاقته، وغرائزه هي الموجه له، وتصرفاته الغريزية هي عالمه الأوحد.

إلغاء كامل وصريح ومتعمد لإنسانية الإنسان، وجحد للحقيقة الروحية والرغبات والأشواق والآفاق، والسلوكيات المنبثقة عنها.

مصادرة كاملة لكل القيم العليا في الإنسان: قيم الحق والخير والجمال والحرية والإخاء والحب، وتحويلها إلى مجرد وسائل، أو حيل يحتال بها الإنسان لتحقيق مراداته الغرائزية.

4 -

بناء على هذه النظرة المادية الحيوانية للإنسان أقامت أوروبا سياستها واقتصادها وحياتها الاجتماعية والنفسية بمعزل عن القيم الروحية، وبمعزل عن الأخلاق، وبمعزل عن الدين كله جملة وتفصيلا.

وكانت النتيجة هذا الانفلات الرهيب في الأخلاق، والصراع المدمر العنيف، والشد والجذب في داخل النفس والمجتمع بصورة تتلف المشاعر وتمرض الأعصاب وتدمر النفوس وتسحق الإنسان، حتى وصلت حوادث الانتحار والجنون والأمراض النفسية والعصبية إلى درجة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، لقد وصلت النظرة المادية للإنسان إلى أنحاء عديدة أصيلة من الحياة العامة، وأثرت في تصورات إنسان الغرب وسلوكه وسائر مناشطه، وظهر تأثيرها جليًا في مجال الأخلاق والسلوك، وكلها تعود إلى التصور الأعور للكيان الإنساني، التفسير الناقص قصير النظر محدود الرؤية الذي جعلوه أساسًا شاملًا لمنطلقاتهم الفكرية والعملية، إنه التفسير المادي الحيواني للإنسان، وبناء عليه تفرعت نظراتهم للإنسان وأعماله وأخلاقه، ومن أظهر ذلك:

‌أولًا: التفسير المادي

الذي يقول: إن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث

ص: 1959

عن الطعام، واللهاث خلف الظواهر الاقتصادية، وحصر إنساينة الإنسان في العبودية الخانعة للمال والتأليه الأعمى للمادة، وبناء على ذلك فالاقتصاد -عند الماركسيين أصحاب التفسير المادي-، أو البحث عن الطعام والشراب هو منبع كل عقيدة وتصور، وأساس كل قيمة وسلوك وخلق.

وقد تفرع عن هذه النظرية الحمقاء مصائب كثيرة عادت بالبلاء والهلاك على الناس الذين اتبعوها، على أنه يجب ألّا ننسى أن الإطار الفلسفي لهذه النظرية الهابطة مأخوذ من نظرية داروين، وأن المنهج التطبيقي منقول عن هذه النظرية الخرافية مع إضافة فرضيات فلسفية أخرى، ولا يصح أن ننسى مطلقًا أن هناك مصدرًا مهمًا لنظرية التفسير المادي الماركسي يتمثل في التراث اليهودي التلمودي والنفسية اليهودية، المشهورة بعبادتها للمال، وتأليهها للكسب، وحقدها الحارق على البشرية وقيمها وتراثها ومقدساتها.

وإذا أخذنا الأخلاق -وهي مجال حديثنا هنا- مثالًا للتفسير المادي الماركسي بخلفياته المادية الداروينية، وخلفياته اليهودية الساعية في الأرض فسادًا؛ وجدنا أصحاب هذا الاتجاه ينظرون إلى القيم والأخلاق بمنظارين:

أحدهما: أن القيم والأخلاق ليست سوى انعكاس للأحوال المادية والاقتصادية القائمة في أي وقت من الأوقات، وكل وضع اقتصادي أو مادي قائم هو الذي ينشيء كل ما يتعلق بالدين والأخلاق والأسرة، وكلما تغيرت الأوضاع الاقتصادية المادية تغير الدين والأخلاق.

يقول فردريك إنجلز: (إن الناس عن وعي أو لا وعي يستمدون مفاهيم الأخلاقية -في التحليل الأخير- من العلاقات العملية التي يقوم عليها وضعهم الطبقي، أي من العلاقات الاقتصادية التي ينتجون بها ويتبادلون فيها)

(1)

.

وقول مجموعة من العلماء والأكادميين السوفييت في كتابهم الموسوعة الفلسفية تحت عنوان "الأخلاقية" (شكل من أشكال الوعي الاجتماعي

(1)

نصوص مختاره من إنجلز: ص 159، جمع جان كانابا، ترجمة وصفي النبي.

ص: 1960

تنعكس وتثبت فيه الخصال الأخلاقية للواقع الاجتماعي. . .، ويتحدد طابع الأخلاقية بفعل النظام الاقتصادي والاجتماعي، ويعكس مستواها المصالح الطبقية. . .)

(1)

.

وعندما ذكرت آنفًا الجذر الدارويني لهذه النظرة المادية الاقتصادية الحيوانية، فإن ذلك لم يكن لمجرد استنتاج من فحوى هذا المذهب، وإن كان الاستنتاج يدل على هذا المقصد بجلاء، بل إن فردريك إنجلز ينص على هذه المرجعية في تلخيص بليد يدل على عته فكري، ويدل على إيمانٍ بغيبٍ مّا، وإن كان هذا الغيب خرافة.

يقول إنجلز: (منذ مئات عدة من ألوف السنين كان يعيش في مكان ما من الدائرة الاستوائية عرق من القردة الشبيهة بالبشر بلغت تطورًا رفيعًا بوجه خاص، وقد أعطانا داروين وصفًا تقريبًا لهذه القردة التي قد تكون أسلافنا. . . وقد أخذت هذه القردة -متأثرة بالدرجة الأولى دون شك بنمط- معيشتها الذي يتطلب أن تنجز الأيدي من أجل التسلق غير وظائف الأرجل، أخذت تفقد عادة الاستعانة بأيديها من أجل السير على الأرض واتخذت أكثر فأكثر مشية عمودية، وهكذا ثم اجتياز الخطوة الحاسمة لانتقال القرد إلى إنسان -وبعد كلام طويل يضيف قائلًا- ينسى الناس أن الظروف الاقتصادية لحياتهم هي منشأ الحقوق التي لديهم مثلما أنهم نسوا أنهم قد نسلوا من عالم الحيوان)

(2)

.

ثانيهما: أن الأخلاق وجميع أصولها وأسسها ليست قيمًا ثابتة بل هي نسبية متحولة فلا ثبات لها ولا قدسية، وهذه القضية مبنية على جحدهم أن الإنسان مخلوق للَّه تعالى من عدم، ومبنية على أن التطور أمر حتمي لازم لا فكاك منه مطلقًا، وهذا مأخوذ عن الداروينية.

قال علماء السوفييت في موسوعتهم الفلسفية: (ليست القواعد

(1)

الموسوعة الفلسفية: ص 14.

(2)

نصوص مختارة من إنجلز: ص 160 - 162.

ص: 1961

والعلاقات الأخلاقية شيئًا يبزغ مرة وإلى الأبد، كما يعتقد المتافيزيقيون، وليست الأخلاقية من محض خلق العقل أو الروح، كما يؤكد المثاليون واللاهوتيون)

(1)

.

ويقول إنجلز: (وهكذا فإننا نرفض كل محاولة لإلزامنا بأية عقيدة أخلاقية مهما كانت على اعتبارها شريعة أخلاقية أبدية، نهائية، وثابتة أبدًا، بحجة أن للعالم الأخلاقي أيضًا مبادئه الدائمة التي تنهض فوق التاريخ، وفوق الفوارق بين الأمم. . إنا ننادي على النقيض من ذلك بأن سائر النظريات الأخلاقية قد كانت حتى هذا التاريخ، في آخر تحليل، نتاجًا لأوضاع المجتمع الاقتصادية السائدة في زمنها)

(2)

.

ويقول أيضًا: (منذ اللحظة التي تطورت فيها الملكية الخاصة للأشياء المنقولة كان لابد لجميع المجتمعات التي تسود فيها هذه الملكية الخاصة أن يكون فيها هذه الوصية الأخلاقية المشتركة: لا تسرق، فهل يعني أن تصبح هذه الوصية وصية أخلاقية سرمدية؟ كلا أبدًا!، ففي مجتمع أزيلت منه دوافع السرقة. . . لا يُمكن أن يرتكبها مع مرور الزمن غير مجانين، كم سيضحك الناس من الواعظ الأخلاقي الذي يود أن يعلن على رؤوس الأشهاد الحقيقة السرمدية: لا تسرق.

ولهذا فإننا نرفض كل طمع بأن تفرض علينا أية عقائدية أخلاقية كقانون سرمدي نهائي لا يتزعزع بعد اليوم بذريعة أن لعالم الأخلاق هو أيضًا مبادئه الدائمة، التي هي فوق التاريخ والفوارق القومية)

(3)

.

هذه أصول نظرتهم إلى القيم والأخلاق في الناحية الفلسفية، أمَّا من الناحية التطبيقية فقد سعت الشيوعية إلى إبادة كل خلق إنساني أصيل باعتباره شيئًا من الفردية المحرمة، أو باعتباره حيلة برجوازية للاستغلال والسيطرة!!

(1)

موسوعة الفلسفة: ص 14.

(2)

من الترجمة العربية لكتاب أنتي دوهرنج: ص 114 - 115 نقلًا عن كتاب مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب: ص 297 - 298.

(3)

نصوص مختارة من إنجلز: ص 160.

ص: 1962

فالأسرة والزواج -عندهم- من بقايا البرجوازية ومن التصورات اللاهوتية المترسبة، ولذلك دعت الشيوعية إلى الجنس المشاع والإباحية المطلقة، وجعلت ذلك من أهم أهداف الثورة الشيوعية.

وقد تبنت الدول الشيوعية عمليًا محاربة الدين وأعلنت ذلك رسميًا وقامت بتدريس الكفر والإلحاد، وبذلت كل الوسائل للتنفير من الدين والأخلاق، واعتبرت أن الحق والعدل والفضيلة والصدق وغيرها من الفضائل الخلقية مجرد هراء، ولا وجود لشيء من ذلك إلّا في أذهان اللاهوتيين والمثاليين!!.

واعتبروا بث هذه الأفكار ونشوها عنوانًا للوعي والتقدم والنضال الشريف، واعتبروا أي دعوة للدين أو للإصلاح الأخلاقي أو الاجتماعي علامة تخلف ورجعية يجب على الثورة الشيوعية مقاومة ذلك، ويجب على الثوار المناضلين استئصال أولئك بالقتل والاغتيال.

وفي سياق التعصب الشيوعى الماركسي لا يسمح لأي أحد أن يناقش أو ينافس العقيدة الماركسية، ولابد أن تسيطر على كل مناحي الحياة، فالعلم يجب أن يكون أداة لبث الإلحاد، وترسيخ العقيدة الماركسية والأدب والفن لابد أن يكون في بوتقة "الواقعية الاشتراكية" والإعلام يقوم بالدعاية للشيوعية ومشاريعها وشخصياتها، والدعاية المضادة للمخالفين والمناوئين لها.

‌ثانيًا: التفسير الجنسي الحيواني:

يعتبر اليهودي فرويد أشهر من تبنى التفسير الجنسي ونشره ودافع عنه بتعصب شديد، ولم يكن فرويد أول من تحدث عن اللامعقول ولا الجانب الشهواني من الطبيعة البشرية، بل هو أظهر من تجرأ فأشار إلى هذه الجوانب، لقد كانت أوروبا تعج بالآراء والأفكار الجنسية الشهوانية (ولم يكن فرويد هو العالم الوحيد الذي كان يبحث في الجنس وقضاياه، بل كان هناك أيضًا العالم الاشتراكي الرائد في علم الجنس هافلوك إليس، ففي العشرينات من القرن العشرين، سقط الاحتشام الفكتوري المألوف، وقد أصدرت الروائية البريطانية إلينور جلن روايتها "ثلاثة أسابيع" حيث روت فيها

ص: 1963

قصة خيالية تدور حوادثها حول مباهج الزنا والتزاني، الأمر الذي لم يكن ليفهمه أو بالأحرى ليتسامح به العهد الفكتوري، وقد لاقت روايتها هذه رواجًا مذهلًا. . .)

(1)

.

جاء فرويد في هذا الجو المحموم مدفوع بخلفيته اليهودية الحاقدة

(2)

على البشرية، وبمزاجه الساخر بل لقد كان "كلبي المزاج"

(3)

و (كان أيضًا دوغماتيًا شديد التزمت)

(4)

، وورث عن داروين نظرته القائلة بحيوانية الإنسان، وتوافق ذلك مع خلفياته اليهودية التي تقرر أن ما عدا اليهود هم ليسوا سوى حيوانات في هيئة بشر خلقوا ليكونوا خدمًا لشعب اللَّه المختار!!.

تمازجت هذه الأمور كلها في عقلية فرويد فخرج بنظريته الجنسية الحيوانية.

أمَّا الدين فكانت معاول الهدم قد توجهت ضده في أوروبا التي فرحت بالخلاص من ضغط وهيمنة الدين النصراني المحرف المليء بالتحريف والسيطرة الظالمة من رجاله، واستفاد فرويد من هذه الفرصة أيما استفادة، فراح ينشر فكرته الجنسية بكل حرية وجرأة بل بكل تعصب وتزمت.

رسم فرويد صورة ثابتة لكيان الإنسان على أساس الجانب الحيواني المادي في الإنسان، وتمددت فكرته المدمرة تحت ظل البحث العلمي، وتحت شعار علم النفس!!.

ولئن كان ماركس نظر إلى النفس الإنسانية من خلال عالمها الخارجي ومن خلال المؤثرات الخارجية، الاقتصادية بالذات؛ فإن فرويد نظر إلى

(1)

تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 500 - 501.

(2)

ظهرت مؤلفاته بالعربية والألمانية والإنجليزية وغيرها تؤكد أن فرويد كان يصدر في كتابته عن نفس يهودية خالصة، اقرأ بالعربية كتاب الدكتور صبري جرجس، وبالألمانية أو الإنجليزية كتاب يونج تلميذ فرويد بعنوان "ذكرياتي محن فرويد". انظر: الإنسان بين المادية والإسلام لمحمد قطب: ص 27 هامش رقم 1.

(3)

و

(4)

تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 500 - 501.

ص: 1964

النفس الإنسانية من خلال عالمها الداخلي، ولكنهما وصلا في النهاية إلى نتيجة واحدة في موضوع الدين والأخلاق، واتخذوا التفسير الحيواني للحياة الإنسانية وللإنسان.

التقى ماركس وفرويد عند نقطة تسخيف الدين والأخلاق واعتبارهما قيمًا غير أصيلة في الحياة البشرية، وإنّما انعكاسًا لشيء آخر، مادي في أصله وحيواني.

بيد أن فرويد كان أفحش وأخبث في تلويثه للنفس الإنسانية والانحطاط بها إلى الحضيض، وذلك من خلال نظريته المسماة نظرية التحليل النفسي

(1)

حين قرر أن الحياة النفسية للإنسان ليست حيوانية فحسب ولكنها كلها تنبع من جانب واحد، من جوانب الحيوان جانب الجنس، الذي اعتبره العامل المهم بل الوحيد المسيطر على كل تصرفات الإنسان، ويُمكن تلخيص حيوانية فرويد -التي يطلق عليها اسم نظرية التحليل النفسي- في عدة نقاط:

1 -

الإنسان ليس مخلوقًا للَّه تعالى، بل هو نتاج الطبيعة، وهو في أصله حيواني.

2 -

الإنسان ليس فيه شيء اسمه الروح بل هو مجرد جسد.

3 -

التكوين النفسي للإنسان على ثلاث درجات بعضها فوق بعض، أولها وأدناها الطاقة الشهوانية وموطنها الذات السفلي وهي طاقة جنسية لها السيادة التامة، ثانيها النفس الواعية التي تواجه المجتمع وتحتك به، وتحاول التوفيق بين الرغبات المتناقضة في داخل النفس، وبين الحقيقة المادية الخارجية، ثالثها الذات العليا، وهذه تنشأ من تلبس الطفل بشخصية والده،

(1)

مدرسة من مدارس علم النفس، وطريقة لمعالجة الأمراض العقلية والعصبية قام بتطويرها سيغموند فرويد، تشدد بصورة خاصة على ظاهرة العقل الباطني أو اللاشعور، وتقوم على اعتبار الإنسان مجرد مادة وحيران في الأصل والمنشط، وأن أصل جميع تحركاته وأعماله في اليقظة والمنام تنبع من الدافع الجنسي. انظر: موسوعة علم النفس: ص 66.

ص: 1965

وحينئذ تنشأ عقدة أوديب كنتيجة طبيعية لحب الولد لأمه حبًا جنسيًا، يحول وجود الأب دون تحقيقه، فيتكون في نفس الطفل نحو أبيه شعور مزدوج من الحب والكراهة في آن واحد.

4 -

عقدة أوديب، محور من محاور نظرية التحليل النفسي عند فرويد وأتباعه، وأصل قولهم بهذه العقيدة، وأختها الأخرى المسماة عقدة الكترا، تلك الخرافة الخيالية التي افترضها فرويد وصدقها، وتبعه على ذلك من تبعه، وملخص هذه الخرافة المستمدة أصلًا من خرافة داروين: أن الأبناء في مطلع البشرية اتجهوا نحو أمهم بدافع الرغبة الجنسية، فوجدوا والدهم عائقًا في طريق رغبتهم فقتلوه، فأحسوا بالندم على قتله، فتعاهدوا على تقديس ذكراه فعبدوه، ومن هنا نشأ الدين ونشأت عبادة الأب التي تحولت فيما بعد إلى عبادة للطوطم، ولما وجدوا أنهم سوف يتقاتلون على الأم قرروا تحريمها على أنفسهم بدلًا من الخصام، فنشأت القيم، وهكذا بقيت هذه الحادثة تطبع البشرية بهذا الطابع منذ ذلك الزمان وحتى الآن، فكل طفل يعشق أمه بدافع الجنس، وكل طفل يكبت ذلك العشق فتنشأ عقدة أدويب نسبة إلى أوديب التي تقول الأساطير الإغريقية، أنه قتل أباه وتزوج أمه دون أن يعلم حقيقة ما فعله.

وكذلك الطفلة تعشق أباها بدافع الجنس ثم تكبت هذا العشق فتنشأ في نفسها عقدة الكترا، التي تعني في مدرسة التحليل النفسي تعلق الابنة بوالدها، وشعورها بالعداء نحو والدتها التي تنافسها أو تستبد بالوصال الجنسي مع أبيها، وهذه الرغبة ناتجة عن وعي أو غير وعي في نفس الطفلة، وتسفر عن الشعور بالعداء والبغض للأم كما تؤدي إلى شعور بالذنب نتيجة تضارب عواطف الفتاة.

5 -

من عقدة أوديب والكترا، والكبت الملاصق لهما يقرر فرويد أن الدين والأخلاق والتقاليد والقيم العليا تنشأ وتنطلق من هاتين العقدتين، فالكبت الذي بدأ منذ قتل الأبناء والدهم مستمر لم ينته، ويتحول دائمًا إلى قلق نفسي دائم لا يترك البشرية في راحة، وإنّما اخترع

ص: 1966

الناس الأديان -حسب قول فرويد- لحل هذه المشكلة.

6 -

ومن هذه المنطلقات والتحليلات والتفريعات توجه فرويد نحو الدين والأخلاق والتقاليد والقيم العليا يدنسها ويقذرها في نفوس الناس، ويغمسها في مستنقع الجنس، ثم يخرج حلوله بعد ذلك من المستنقع ذاته يتقاطر منها الجنس المكبوت.

7 -

ينشأ الضمير والأخلاق عند فرويد من قضية الكبت والقمع للشهوات الجنسية، أي أن الضمير والأخلاق ليست موجودة في عالم الحقيقة وإنّما هي خرافة تنشأ بسبب عوامل الكبت والقهر.

8 -

ينفي فرويد كل قيمة خلقية ذاتية؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور أن إنسانًا يُمكن أن يتنازل عن متعته من أجل قيمة عليا أو خلق قويم.

9 -

يفسر فرويد الدوافع الإنسانية النبيلة تفسيرات تدنيسية تُذهب جلالها وتطمس ما فيها من خير وإشراق، فهو يعتبر كل ارتفاع خلقي مجرد حيلة لا شعورية لمداراة خسة هابطة، وكلما ازداد الإنسان رقيًا وخلقًا وتطهرًا في الظاهر كان ذلك عند فرويد دليلًا على عمق مشاعر الإجرام والنذالة التي يكبتها في لاشعوره.

10 -

يفسر كذلك كل العلاقات العاطفية بالتفسير التدنيسي نفسه، فحزن الأهل على ميتهم -مثلًا- ليس شعورًا بالحزن على فراقه، ولكنه مداراة للفرحة الخفية التي يحس بها الأقارب عند التخلص من هذا الشخص الذي يكرهونه ويتمنون موته، والولد يكره والده، والبنت تكره أمها، والزوجة تبغض زوجها وتتمنى له الموت، وليس هذا عنده على مستوى المشاعر الفردية، بل يمتد حتى يشمل الحياة النفسية كلها بين الأفراد والمجتمعات، فالجميع يكبتون مشاعر الكراهية الثابتة في نفوسهم تجاه من يتظاهرون بحبه، وليس في حسابه أي سمو إنساني، ولن يحدث مثل هذا السمو -إن حدث- إلّا بالكبت القهري للنوازع، ولا سبيل عنده لارتفاع الإنسان عن أي رذيلة في سبيل خلق أو قيم عليا أو فكرة قويمة.

11 -

ينكر فرويد جميع المعنويات، وينكر كل حقيقة خارجة عن

ص: 1967

نطاق الأرض، وبناء على ذلك يعالج المرضى ويفسر الأحلام. فلا غيب عنده ولا روح، ولا شيء خلف المادة ومعطياتها وفرعياتها، أمَّا الدين فقد ذكرنا في نقطة سابقة خرافة قتل الأبناء لأبيهم ثم أسفوا لذلك وقدسوا ذكراه وعبدوه، وهكذا ظهرت أول ديانة في الأرض حسن خرافة فرويد، ولذلك عادى فرويد الدين واعتبره خطرًا على الإنسان؛ لأنه يعتقد أن الدين يصرف الانسان عن التعامل مع الواقع إلى أوهام تفسد عليه حياته.

12 -

يعتبر فرويد الأخلاق والتقاليد والقيم العليا وسلطة المجتمع حراس كبت وقهر، يتوبصون بالفرد الدوائر ليفتكوا به ويوقعوه في سلطانهم ويخضعوه لمشيئتهم، والفرد في صراع دائم ضد هؤلاء الحراس بوعي أو بغير وعي يبحث عن أي فرصة للانقضاض عليهم علانية إذا أمن، أو خفية واحتيالًا إذا خشي العاقبة.

وعلى هذا المبدأ يصور فرويد مريض العقل والنفس والمصاب بالجنون والهستيريا والانفصام، والمجرم والشاذ، يصورهم جميعًا ضحايا لكبت المجتمع والأخلاق والقيم، وضحايا الدين ووخز الضمير، ضحايا هذه العوائق التي تحطم الفرد وتكبت غرائزه وتحطم كيانه.

13 -

وبناء على ذلك فإنه يصور أن الإنقاذ للإنسان والخلاص له من العقد النفسية والاضطرابات العصبية والهلوسات وانهيار الأعصاب إنّما يحصل بإزالة هذه الحواجز: "الدين، الخلق، الحالة الاجتماعية، القيم، الضمير، التقاليد" وإطلاق المشاعر المكبوتة.

لقد سمى هذه الأشياء "المشاعر العليا" بعد أن وجه إليه النقد الشديد واعترف بوجودها ولكنه أصر على القول بأنها جميعًا تنشأ من قهر النوازع الفطرية في عقدة أوديب، أي أنه اعترف بها اعترافًا أسوأ من النفي.

14 -

بنى كل أحكامه على تجاربه في الشاذين والمتخلفين والمجرمين، وكل تجاربه كانت في هذه الأصناف، ومن هؤلاء الشواذ استنبط أحكامه وعممها على الأصحاء مشيًا على قاعدته القائلة أن في كل

ص: 1968

إنسان قدرًا من الشذوذ، وأن كل البشر مصابون بعقدة أوديب أو عقدة الكترا، ثم يتغلبون عليها بطريقة ما.

وبناء على هذه الأحكام المستمدة من الشاذين، والمأخوذة من جيل معين هو جيله الذي عاش فيه، ومن مجتمع معين هو المجتمع الأوروبي، عمم فرويد أحكامه على البشرية كلها في جميع أحقابها الماضية والراهنة والآتية، وعلى جميع أنماط ومناشط البشر باختلاف بيئاتهم وخلفياتهم وعقائدهم وأديانهم.

15 -

يرى فرويد أن الإنسان ليس له إلّا أحد طريقين، إمَّا انطلاقة الطاقة الشهوانية الجنسية انطلاقًا حرًا، أي "حيوانيًا" وإمَّا الكبت المدمر للاعصاب المبدد للطاقات المفسد للحياة.

16 -

الحياة كلها جنس، ومنبثقة من خلال الجنس، والجنس يبداء منذ أن يولد الإنسان، فهو يولد جنسًا خالصًا في إهاب طفل حيواني صغير، وكل أعمال الطفل تعبير عن طاقة الجنس، فالرضاعة ومص الإيهام والتبول والتبرز والالتصاق بالألم كلها جنس في جنس ولمقصد جنسي.

17 -

لقد لخص فرويد خطته كلها لتلميذيه يونج وأدلر بقوله: إننا ينبغي أن نحطم كل العقائد الدينية، ونجعل من الجنس عقيدة

(1)

.

(1)

نقلت واقتبست هذه الأقوال من:

1 -

الإنسان بين المادية والإسلام: لمحمد قطب: ص 19 - 46، 215.

2 -

دراسات في النفس الإنسانية: له: ص 74 - 75، 159 - 160، 171، 196 - 197، 198 - 204، 208، 245 - 247، 249، 253، 354، 273.

3 -

التطور والثبات في حياة البشر: له أيضًا: ص 45 - 51.

4 -

مذاهب فكرية معاصرة: له أيضًا: ص 107 - 124.

5 -

الموسوعة الفلسفية: لعبد المنعم الحفني: ص 307 - 309.

6 -

تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 497 - 501.

7 -

الموسوعة الفلسفية: لعلماء وأكادميين سوفييت: ص 331.

8 -

موسوعة علم النفس: ص 43، 46، 66، 77 - 78، 92، 94، 181، 229، 231، 233.

ص: 1969

هذه نظرية فرويد التي أثرت في الحياة الغربية كما لم تؤثر نظرية أخرى باستثناء سابقتها المسماة نظرية النشوء والارتقاء، التي تأثر بها فرويد أيما تأثر، فماذا صنع فرويد ونظريته في الحياة الغربية في مجال الأخلاق والقيم؟.

لقد نزع عن الإنسان إنسانيته وألقاه في حضيض الحيوانية، بل أفحش في تصوير حيوانية الإنسان، حين صور أن الحياة الإنسانية ليست حيوانية فحسب، ولكنها كلها تنبع من جانب واحد من جوانب الحيوان، من الجنس، من الغريزية الشهوانية، وعلى ذلك فإن أي عائق يعوق انطلاق هذه الغريزة فهو كبت يجب تجاوزه بل يجب تحطيمه، وأهم هذه العوائق عند فرويد الدين والأخلاق، التي اعتبرها قيما غير أصيلة في الحياة البشرية، وإنّما هي -عنده- انعكاس لشيء آخر، مادي في أصله وحيواني.

إذن فالأخلاق والقيم مجرد خرافة وزيف يمارسها الناس مع بعضهم عن طريق المخادعة والتلبيس.

وبهذا الشكل استطاغ فرويد تلويث فكرة الدين والأخلاق والتقاليد وتقذيرها وتدنيسها في نفوس الناس، حتى لقد اجترأ في خبث يهودي معهود - فسمى التسامي الخلقي شذوذًا، وقرر أن الكبت الجنسي خطر على الكيان النفسي والعصبي؛ لأنه يصيب النفس بالعقد والاضطرابات.

طارت هذه النظرية الجنسية في آفاق الحياة الغربية، وأصبح فرويد قواد الجيل الحديث إلى كل رذيلة وانحطاط و (امتد تأثيره إلى ميادين التربية والتعليم والآداب والفنون والدين والفلسفة والأخلاق والثقافة الشعبية)

(1)

.

لقد كان أثره عنيفًا في الحياة الغربية، اعتنقت الجماهير آراءه، وظاهرهم في ذلك كثير من العلماء، بل توسع بعضهم في تفسير هذه النظرية واستطرد مع لوازمها ومقتضياتها في تواصل جذري مع نظرية داروين التي تعتبر أصلًا ومنطلقًا لنظرية فرويد، إلى حد أن أحدهم كتب كتابًا عن

(1)

تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: ص 498.

ص: 1970

الإنسان ودراسة أحواله العضوية والجنسية والاجتماعية فلم يجد ما يسمى به الإنسان إلّا اسم "القرد العاري"

(1)

حيث جمع في هذه التسمية بين داروين وفرويد، فالإنسان حيوان بل قرد، وهو عاري لأن أصله كما افترضت خرافة فرويد، حيوان شهواني جنسي تساقط عنه الشعر واستقامت قامته، وعاش بغريزة الجنس ومن أجلها!!.

انطلق الغربيون جماهير وعلماء خلف خرافة فرويد، وانغمسوا في مفاهيمها نظريًا وعمليًا، فانطلقت الغرائز بلا حد ولا ضابط، وتهدمت القيم والأخلاق والتقاليد؛ لأن فرويد أخبرهم بأن هذه عوائق في سبيل الانطلاق، وبدأ الناس -وخاصة الشباب وصناع الفن الإعلامي- ينظرون إلى الأخلاق والدين نظرة عداء ومناقضة، ويعتبرون وجودها أو الحديث عنها حديثًا عن أشياء وهمية وغير منطقية، بل أشياء معادية للتحرر والانطلاق، وليست -في أحسن الحالات- إلّا تراثًا من الماضي العتيق الذي كأن غارقًا في التخلف والرجعية والانكبات.

وسرت في الجماهير لوثات عديدة شكلت عقليتها وممارساتها وأهدافها ونظرتها للكون والإنسان: لوثة داروين المتمثلة في حيوانية الإنسان، والتطور المطلق بلا حدود، ولوثة فرويد المتمثلة في الإباحية الجنسية، والعداء للدين والأخلاق.

‌نشأ الجيل الغربي وقد رسمت أمامه طريقان:

‌أحدهما: احترام وصايا الدين، والأخلاق، والمجتمع

، وتقدير القيم المعنوية والخلقية، وهذه قال فيها فرويد وسائر المتأثرين به من فلاسفة وتربويين وإعلاميين وعلماء نفس واجتماع، بأن هذه القضايا ليست أصيلة ولا ذات جذور، وليست ثابتة، بل هي ناشئة عن الكبت، واتباعها يولد الكبت والمرض والاضطراب والتخلف الشخصي والاجتماعي.

‌الثاني: تحطيم العوائق من أجل التحرر والانطلاق

، والزعم بأنه لا تتم

(1)

القرد العاري لديز موندمور يس ترجمة ميشيل أزرق ومراجعة محمد قجة.

ص: 1971

سعادة الفرد إلّا بسحق الدين والأخلاق وتقاليد المجتمع، وأول ما تبدأ سعادة الفرد وحريته بالحصول على اللذة الجنسية وإطلاقها من قيود القيم الخلقية والدينية، ليتحقق للفرد شعوره بذاته واستقلاله وحريته وسعادته.

وبالطبع لقد اختار الناس الطريق الثاني، فهو أسهل وألذ، ولا يكلف شيئًا، في حين أن الطريق الأول قد تحطمت أسباب بقائه منذ الصراع القديم بين الكنيسة والعلم.

وبعد الحرب العظمى الأولى وجدت الأرض الاجتماعية والنفسية القابلة لهذه النظرية فقد جند للحرب ملايين الشباب وعاشوا في أتونها سنين عديدة تحت ألوان القصف والتدمير الحسي والمعنوي، وقتل منهم الملايين وبعد انتهاء الحرب انفلت البقية من خنادق القتال بعد كبت وقهر الحرب ضمأى يبحثون عن أي شيء يروي غرائزهم المشتعلة.

وكانت المرأة قد أخرجت من بيتها بعد قتل عائلها، تبحث عن الرزق في المصنع وفي غيره، وهناك وقعت الواقعة وكانت الفرصة مناسبة لاتباع تعاليم خرافة فرويد، وكانت الظروف كلها تدفعهم للانطلاق في هذا المضمار، ووجدوا في فرويد ونظريته المتكأ العلمي -كما زُعم لهم- فانطلقوا خلف نزواتهم الجنسية الملتهبة.

وتحولت القضية تحولًا كاملًا، فبدلًا من ظهور أصحاب التحلل الخلقي والشذوذ الجنسي في هيئتهم الحقيقة كمجرمين وشاذين ومنحرفين، هيأت لهم نظرية فرويد السند العلمي -بزعمهم- ليقولوا إنّما نحن من أتباع العلم، ورواد التقدم، وطلائع التحرر، وهذه أولى بالاتباع وأحق بالاعتناق من أساطير الأخلاق والدين.

وتركزت الفتنة في أول أمرها فيما أسموه "تحرير المرأة" فأخرجوها في الشوارع عارية سافرة وبغضوا إليها المنزل والاستقرار فيه، وجعلوا العمل في المنزل وتربية الأولاد سبة تنفر منها كل امرأة عصرية، وكتب في ذلك الكتاب والصحفيون والإعلاميون والأدباء، وتحركت الأفلام السينمائية ثم التلفازية ثم أشرطة الفيديو تصور المرأة عارية داعرة داعية إلى الفساد،

ص: 1972

وتحركت بيوت الأزياء، ومعارض الأزياء وأدوات الزينة، ووسائل الدعاية متخذة من المرأة سلعة وأسلوبًا للترويج من خلال إظهار المفاتن وكشف العورات.

وأضحت هذه كلها وغيرها صورة عادية من صور الحياة الاجتماعية، وأضحى المجتمع المنحل لا يستغني -لشدة ألفه وانطماس بصيرته- عن المرأة الفاتنة الجذابة بجسدها بل بعورتها!!.

وأصبحت هذه الفتنة جزءًا من الحياة، واستمر الحال في ازدياد، حتى أصبح لكل فتاة عشيقها أو صديقها الذي تمارس معه الجنس كاملًا في أغلب الأحيان، وأصبح الأمر عرفًا اجتماعيًا عاديًا لا يستطيع أحد أن يفكر في استنكاره فضلًا عن الجرأة في ذلك، إلّا بقية قليلة ضعيفة تنادي في خضم هذه الأمواج المتلاطمة بالعودة إلى الدين والأخلاق، ويضيع صوتها، بل توصم بالجنون والتخلف والرجعية، فقد استقر عند الجميع أن الدين والأخلاق عوائق لابد من تحطيمها!!.

وتمادى الحال حتى وجدت بيوت الدعارة المحمية من الدول، وجمعيات الشاذين والشاذات الذين يطالبون بحقوق التحرر الكامل كما يريدون، وتصل قوتهم إلى حد دخولهم نسيج السياسة والحياة العامة ليطالبوا بالمزيد من التحلل والشذوذ والمزيد من الحماية، وطلب سن القوانين لحماية حقوق أصحاب الشذوذ والجريمة والانحراف، كما حدث في بريطانيا حينما خرج الشذاذ من الرجال في كامل زينتهم وعريهم واضعي المساحيق على وجوهم والحلي في آذانهم وأعناقهم، مبرزين مؤخراتهم كاتبين عليها عبارات الدعاية لفاحشة اللواط، خرجوا في مظاهرة عارمة في شوارع لندن يطالبون بتشريع قانون يبيح للبالغين إقامة علاقات الشذوذ الجنسي، وإبطال كون ذلك مخالفًا للقوانين، وبالفعل حصلوا على ذلك في عام 1409 هـ/ 1989 م

(1)

.

(1)

انظر: المجتمع العاري: ص 23، 108.

ص: 1973

وعندما حصلت الضجة حول "جيرمي ثورب" زعيم حزب الأحرار البريطاني حول علاقته الشاذة بالشاب "نورمان سكوت" لم يكن من هذا الزعيم السياسي إلّا أن احتج بأن القانون البريطاني الجديد يحميه من المؤاخذة على هذا الفعل ولو كانت العلاقة تعود إلى خمسة عشر عامًا من قبل

(1)

، بل وقف الشاب في المحكمة يقول:(إنهم يضطهدوني بسبب علاقتي الجنسية مع جيرمي ثورب)

(2)

وهو يعني الصحافة التي اتخذت من الحدث مجالًا للإثارة والتسلية وتصفية الحسابات السياسية.

ولم تعد هذه الأمور تشكل في حس الغربي أي مراجعة أو مؤاخذة أخلاقية، فقد أضحى عدد الشواذ في بريطانيا وحدها حسب إحصائيات عام 1413 هـ - 1993 خمسة ملايين شاذ

(3)

.

هذه بعض الأمثلة على بعض آثار نظرية فرويد، وسوف أذكر المزيد من ذلك بعد ذكر بعض الآراء الفلسفية والنظرية في قضية الأخلاقي، والتي كان ذات تأثير في هذا الميدان وإن كانت دون تأثير ماركس وفرويد، وسوف أجمل ذكر هذه المذاهب والآراء، في النقطة التالية:

ثالثًا: جملة مذاهب في الأخلاق تعود إلى الشجرة المادية المترعرة في الغرب:

أ- المذهب العقلي في الأخلاق، ويستند أصحابه إلى العقل في تقرير الخير وقواعد السلوك وأشهر أصحابه سبينوزا وكانط

(4)

حيث يرى هذا

(1)

المصدر السابق: ص 106 - 108.

(2)

المصدر السابق: ص 107.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 106.

(4)

عمانوئيل كانط، ولد عام 1136 هـ/ 1724 م، وتوفي 1218 هـ/ 1804 م، أثر في عصره وشطر الفلسفة الحديثة إلى شطرين ما قبل كانط وما بعده، وسيطرت فلسفته على القرن التاسع عشر برمته، تقوم فلسفته على النزعة العقلية ثم النزعة التجريبية التي أخذها عن هيوم، وتوصف فلسفته بأنها مثالية نقدية، يرى أن العقل دائمًا هو مصدر الحقائق وشكك في المعرفة الميتافيزيقية. انظر: الموسوعة الفلسفية: ص 372، ومعجم الفلاسفة: ص 474.

ص: 1974

الأخير أن القانون الخلقي ينبع من العقل وحده لا عن ابتغاء مرضاة أحد، أو تحصيل منفعة، فإذا قرر العقل ذلك وجب اتجاه الإرادة نحوه، ومن ثم يصبح القانون الخلقي ضرورة ويستحيل أمرًا يقيد الإرادة ويلزمها، ومن ثم يصبح أمرًا كليًا مطلقًا، ويرى أنه لا ارتباط بين الأخلاق والإيمان باللَّه تعالى؛ لأنه يزعم أن العقل النظري قد عجز عن التدليل على وجوده، وإن استلزم العقل العملي افتراضه، ومع ذلك فإنه يرى أن الدين لم يسبق الأخلاق ولم يحددها، وأن الأخلاق، على العكس، هي التي أدت إلى الدين

(1)

.

وعلى الرغم من أن نظرية كانط هذه تعد أمثل من النظريات المادية البحتة أو الحيوانية الصرفة إلّا أنها لا تبعد كثيرًا عن المجال المادي، وإن عد الفلاسفة نظرية كانط من الفلسفات والنظريات المثالية، إلّا أن ذلك لا يبعدها عن الإطار المادي، وذلك حين استبعد الإيمان باللَّه تعالى والدين عن الأخلاق، أو قلل من شأنهما.

ولولا اللَّه تعالى ما استند قانون الأخلاق إلى أساس متين، ولولا الدين ما استقامت الأسس الأخلاقية ولا استمرت، ويُمكن القول بأن حاجة الإنسان في الاحتفاظ بأخلاقه إلى وجود اللَّه ضرورة لأنه بيده وحده مكافأته عليها حيث لا مكافيء، وهذا ما لا يزال يقوله أنصار الدين من أنه لا أخلاق معولّا عليها من غير دين

(2)

.

أمَّا سبينوزا اليهودي الهولندي فقد سبق الحديث عن فلسفته، ويهوديته في مواضع من هذا البحث

(3)

.

(1)

انظر: الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحفني: ص 31، 375 - 377، والأخلاق عند كانت لعبد الرحمن بدوي، وفلسفة الدين والتربية عند كانت له.

(2)

انظر: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 3/ 69 لمصطفى صبري، وقد ناقش رحمه الله كانط في كلامه عن وجود اللَّه وعن قضية الأخلاق من: ص 65 إلى: ص 83.

(3)

انظر: ص 1058، 2088 من هذا الكتاب.

ص: 1975

ب - المذهب الطبيعي في الأخلاق، وسمي طبيعيًا لأن أصحابه يحددون معنى الخير بمفهوم طبيعي -حسب قولهم- فكل ما يؤدي إلى لذة أو منفعة للناس فهو خير

(1)

، ومن هذا المذهب انبثقت الفلسفة المعاصرة المسماة بـ "البرجماتية"

(2)

، والتي أثرت في الأخلاق والسياسة وعظم تأثيرها في السلوك السياسي المعاصر وخاصة في أمريكا التي تقوم سياستها على البرجماتية، أي الذرائعية، ويتبعها في ذلك -تقليدًا وانهزامًا- كثير من الدائرين في فلكها، فالأخلاق عند البرجماتيين هي التي تكون لها نتائج طيبة، وهي التي توصل إلى المراد، بغض النظر عن نوعية هذه الأخلاق، وقد تأثرت هذه الفلسفة البرجماتية الأمريكية بنظريات أحد أعلام البرجماتية

(3)

الذي كان بدوره متأثرًا بنظرية داروين؛ ولذلك كانت بهذه المثابة من المادية، وعدم الثبات، فالمعيار عندهم للحقيقة والخلق والقيم هو نجاح الأفكار والوصول إلى الأهداف، بل وصف هذا البرغماتي المؤسس العمل الصادق بأنه المفيد

(4)

.

وعلى هذا فلا إيمان عند البرجماتيين بأخلاق ولا قيم، بل هي عندهم نسبية وغير ثابتة، ومقياس نجاح كل شيء الوصول إلى نتيجة.

وتوجه الغرب بقيادة أمريكا اليوم إلى هذه الفلسفة بكليته، وأقام

(1)

انظر: المعجم الفلسفي لعبد المنعم الحنفي: ص 31.

(2)

البرجماتية: مذهب فلسفي، يقيس صدف القضية بنتائجها العملية، فليس هنالك معرفة أولية في العقل تستنبط منها نتائج صحيحة، بغض النظر عن جانبها التطبيقي بل الأمر كله مرهون بنتائج التجربة الفعلية العملية التي تحل للإنسان مشكلاته، ولما كان تقدم العلم يغير -عندهم- من صدق القضايا، فالصالح في ظروف سابقة يصبح غير صالح في الظروف الراهنة كان "الحق" أمرًا نسبيًا يقاس إلى زمن معين ومكان معين ومرحلة من التقدم العلمي معينة، وأشهر أعلام البرجماتية تشاركس بيرس، ووليام جيمس وجون ديوي وفرديناد شيلر. انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1/ 335، 841، والمعجم الفلسفي: ص 32، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 93 مدخل إلى الفلسفة المعاصرة: ص 85 - 130.

(3)

هو جون ديوي. انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1/ 841 - 842.

(4)

انظر: المعجم الفلسفي: ص 93. والمقصود جون ديوي.

ص: 1976

الأعراف السياسية والأخلاقية على نوع من التهذيب النفعي الذرائعي، بعيدًا عن التهذيب الخلقي الإنساني؛ لأن الأخلاق عندهم ليست أصيلة ولا مستقرة، بل هي متغيرة حسب المصلحة؛ ولأن طبيعة الغرب طبيعة مادية نفعية، وعلى ذلك ترتبت أفكاره ومشاعره وسلوكياته، وانطلق في دركات الانحطاط الخلقي بصراحة حمقاء، وألقى قناع الحياء، بل راح ينظّر لهذا الانحدار ويفلسف له، ويسعى في ترسيخه واقعًا عمليًا بين الناس في كل الأرض، وما إعلام الشهوات الهائجة، وسياسة الظلم الأهوج، والمكاييل المزدوجة التي تمارسها أمريكا والدول الأوروبية إلّا نماذج لهذه البرغماتية المادية المبرأة من كل إنسانية، والمشبعة بكل ألوان النتن والسخف والجهالات.

ويقول بعض المنبهرين أن هذه السياسة قد نجحت في السيطرة، ونجحت في تحرير الإنسان والرقي به، واستمرارها دليل نجاحها.

وهذه الفكرة من فرعيات المذهب البرجماتي، فليس الأخلاقيات الأمريكية البرجماتية بذات نجاح في ذاتها، وما يتصوره المنهزمون نجاحًا في الواقع ليس إلّا نتاجًا لقوة السيطرة، وتحكم القوى، وتغلب القوي، وإلّا فما قيمة فلسفة أو نظرية أو ممارسة تنكر كل القيم العليا وتؤمن بالمادية النفعية، وتنكر إنسانية الإنسان، وتصهره في بوتقة الذرائعية، وتنهيه في المستنقع الجنسي الإباحي وتظلمه وتسلب حقوقه، وتتلاعب بإمكانياته وقدراته، من أجل الوصول بها إلى خدمة ومنفعة ثلة متحكمة من اليهود ومطاياهم؟.

والمتأمل بعين البصيرة المتفتحة في حال الإنسان هناك، وفي وقائع الأحداث اليومية، والجرائم الخلقية وفي عدد زوار العيادات النفسية، وفي إحصائيات الانتحار والمخدرات والسطو والفتك والاغتصاب يوقن إلى أي مدى أثرت هذه الفلسفة البرغماتية وما ظاهرها من فرويدية وداروينية.

أمَّا النظر في تطبيقات الأخلاق البرغماتية في سياسة التعامل مع الدول والشعوب الأخرى فإنه يدرك لا محالة -إن كان له بصيرة-

ص: 1977

الروح اليهودية في التصرفات والمواقف والعلاقات، روح العلو والفساد، كما أخبر سبحانه وتعالى في قوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}

(1)

، وقوله جلّ شأنه في شأنهم:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}

(2)

يجد أخلاقيات السياسة الظالمة المستعلية، المجاهرة بظلمها وعلوها وفسادها، ويجد أنه ليست لديهم مشاركة وجدانية لغيرهم في سعادة أو ألم؛ لأنهم أنانيون مفرطون في أنانياتهم، نفعيون يسعون فيما فيه سعادة أنفسهم، وتحقيق مصلحتهم، ولو كان ذلك على جثث الأبرياء أو من خلال الخوض في وحول دمائهم أو في غابات أشلائهم!!.

جـ - مذهب العاطفة في الأخلاق، ويمجد أصحاب هذا المذهب العاطفة على صورتها الحيوية أو على صورة التعاطف والمحبة، ويجعلون أساس الأخلاق ما تستحسنه أو تميل إليه

(3)

.

د - مذهب الإرادة الأخلاقية، ومخترعه "نيتشه" ويصف القائلون به الخير بأنه كل ما يعلي في الإنسان شعوره بالقوة وإرادة القوة، والشر بأنه كل ما يصدر عن ضعف، وقد كان هذا المذهب سابقًا على فرويد، ولذلك لم يخف فرويد إعجابه بنيتشه رغم عداء نيتشه لليهود، وذلك لما في كتب نيتشه وفلسفته من نقد للدين والقيم والتقاليد والأخلاق، بل وما فيها من هدم وزعزعة لهذه القضايا

(4)

.

وعلى فلسفة نيتشه هذه قامت النازية في ألمانيا وفعلت بالعالم ما فعلت، وهي تطبيق أخلاقي عسكري وسياسي لفلسفة إرادة القوة

(5)

.

(1)

الآية 4 من سورة الإسراء.

(2)

الآية 64 من سورة المائدة.

(3)

انظر: المعجم الفلسفي لعبد المنعم الحفني: ص 31 ومن أصحاب هذا المذهب آدم شميث وشوبنهاور.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 31، 489 - 490.

(5)

انظر: الموسوعة السياسة 6/ 545.

ص: 1978

هذه بعض النظريات الفلسفية الأخلاقية التي كان لها التأثير البالغ في الحياة الغربية المعاصرة، سواء في مجال الأفكار والمفاهيم -وهي الأساس- أو في مجال التطبيق والممارسة، بيد أن أهم محاور الأخلاق هناك تعود إلى:

1 -

القول بنسبية الأخلاق، وأنه ليس لها حقائق ثابتة، بل هي خاضعة للتبدل والتغير.

2 -

القول بأن الإنسان أو الظروف المحيطة به هي مصدر الأخلاق والقيم.

3 -

فصل الأخلاق عن الدين.

4 -

حرية الإنسان لا تتم إلّا بالتخلي عن العوائق وهي الدين والأخلاق.

وبعد هذا، سوف أذكر شيئًا من تأثيرات هذه الفلسفات على أعمال وتصرفات الإنسان الغربي، وسوف أورد أولًا نَماذج من حياة مفكريهم وفلاسفتهم وأدبائهم ومنظوي الأخلاق عندهم!!، ولنبدأ بذكر المبدعين الذين هم قدوة الأدباء والفنانين المنهزمين من أبناء البلاد الإسلامية.

جاء في كتاب "الجنس والنفس في الحياة الإنسانية" في فصل عن الشذوذ الجنسي، عنوان "الجنسية المثلية

(1)

والإبداع" قال فيه: (هنالك ما يسترعي الانتباه والملاحظة في أن ممارسة الجنسية المثلية بدرجة أو أخرى تكثر في المجال الفني والإبداعي، ولا يعرف تمامًا فيما إذا كان تفسير ذلك يعود إلى أسس بايولوجية تكمن وراء الاتجاهين الجنسي والإبداعي، أو أن طبيعة الظروف الحياتية لبعض المبدعين هي التي تساعد على نشوء ذلك، ومع أن من المستحيل على أحد أن يعطي نسبة وقوع الجنسية المثلية في حياة المبدعين، إلّا أن هنالك الكثيرين من المبدعين في مجال أو آخر ممن

(1)

معنى الجنسية المثلية أن يواقع الرجل الرجل أو المرأة المرأة، وهو المعروف عند المسلمين بمسمى اللواط والسحاق.

ص: 1979

عرفوا نزعتهم الجنسية المثلية، ومن هؤلاء الرسام والنحات مايكل أنجلو، وليوناردودفينشي والموسيقار شايكوفسكي، وواجنر، والكتاب: فلوبير وأوسكار وايلد، وجين كوكتو، والشاعر فيرلان، وغيرهم كثيرون ممن مارسوا الجنسية المثلية بصورة حصرية أو غالبة، ونحن لا نستطيع بيان الأثر لهذه الممارسة على أعمالهم الإبداعية، وإن كان هنالك ما يسوغ النظرية التي تفسر مقدرة بعض المبدعين على وصف دقائق الحياة الشعورية للأنثى، كما هو الحال في وصف فلوبير لمدام بوفاري، على أساس تمتعهم بميول جنسيته ثنائية، وقد يجد الباحث ما يسند هذه النظرية في دراسته للأعمال الإبداعية عند بعض المبدعين)

(1)

.

ثم أضاف في الهامش: (وقد لوحظ أن بعض ممارسي الجنسية المثلية في بعض المجتمعات يتباهون بممارستهم ويتفاخرون علنًا بها وبأنهم ينتمون إلى فئة مختارة تتميز ليس بانحرافهم في الحب وإنّما بشخصيتهم المرهفة الإحساس والإبداعية في الفنون، كما لوحظ أن الكثيرين من الذين يعرفون بجنسيتهم المثلية في هذه المجتمعات يمارسون أعمالًا فنية أو مسرحية)(1).

وقد شرح كولن ولسن

(2)

بعض الدوافع النفسية والإبداعية في قضية الشذوذ الجنسي وأورد في كتابه "أصول الدافع الجنسي" تفصيلًا مشينًا وقذرًا للواط عند بعض الكتاب والأدباء الغربيين ومقاطع من كلامهم في هذه القضية وغيرها من أمور الدعارة وأحوال الشاذين والمومسات

(3)

.

(1)

الجنس والنفس في الحياة الإنسانية للدكتور علي كمال: ص 253.

(2)

كولن ولسن، كاتب وفيلسوف وجودي إنجليزي، اتخذ الوجودية الجديدة مذهبًا له، سجل وقائع حياته في كتابه رحلة نحو البداية، وكتب مجموعة كتب فلسفية ودراسات أدبية نقدية، وروايات من أشهرها: الرواية القذرة "ضياع في سوهو"، وله سقوط الحضارة واللامنتمي وما بعد اللامنتمي، وغيرها، مارس وجوديته في الجنس والمخدرات والشذوذ والبغاء الجماعي، وغير ذلك كما ذكر ذلك عن نفسه.

(3)

انظر: أصول الدافع الجنسي لكولن ولسن: ص 30 - 35، وكان كلامه عن لورنس واللواط، وتحليلات ولسون نايت وهيرشفيلد للاتجاه اللوطي عند لورنس، ثم يذكر بول دي ريفر وكتابه المجرم الجنسي، ويذكر مجموعة من القصص والروايات الشاذة =

ص: 1980

والكتاب كله مليء بالشواهد والأمثلة الكثيرة على أنواع اللواط وزنا المحارم والشذوذ والدعارة والانحراف عند الكتاب والأدباء والروائيين والشعراء الغربيين التي حكوها أو مارسوها.

ولم نذهب مع كولن ولسن في دراسته لروايات وكتب الآخرين؟ وروايته "ضياع في سوهو" أكبر شاهد على مقدار الانحلال والفوضى الخلقية، سواء في الجانب التأليفي الكتابي الإبداعي -كما يحلو لهم أن يقولوا- أو في الجانب الواقعي حيث يصف ولسن حي سوهو الشهير في لندن، والذي قال عنه:(كان حي سوهو قد خيب أملي، كنت أتوقع أن أجد فيه نوعًا مثاليًا من حرية الروح)

(1)

.

هذا الحي الذي خيب الأمل الوجودي لدى ولسن، أي أنه لم يجد فيه الأشباع كما كان يطمح، وصفه في روايته ضياع في سوهو أدق ما يكون الوصف، الحياة الشهوانية الحيوانية في صورة حقيقية دقيقة واضحة، ووصف التشرد والضياع والتفاهة والعربدة والشذوذ والإجرام والإباحية الجنسية، وغير ذلك من الحياة التي يعيشها أهل سوهو، حيث تمثل هذه الرواية وهذا الحي الصورة الصارخة عن الحياة الغربية، المرآة العاكسة للموت الإنساني والضياع البشري، للأجساد الهائمة عطشًا في أودية الجنس كل أنواع الجنس، أجساد صارخة بالشهوة والشهوة فقط، نموذج للحرية الفرويدية ولانسحاق الأخلاق والقيم والانسلاخ من كل إنسانية لأجل الوصول إلى لا شيء. . .، لا عقيدة ولا خلق ولا ضوابط ولا قيم ولا حتى تقاليد متوارثة عن الأقدمين، لا طموح ولا آفاق ولا أشواق ولا أهمية، سوى تلك الآفاق الجنونية التي تتسلل إلى أدمغتهم من خلال سجائر الأفيون.

الرواية شاهد موت للإنسانية في الغرب، ودليل عدمه واضمحلاله

= مثل يوليس وبئر الوحدة، ولوليتا وعشيق الليدي شاترلي التي اقتبس من انتشارها أنهم على استعداد لتقبل النظرة القائلة بأن العملية الجنسية الواردة في هذه الكتب ليست غير طبيعية كلية، ثم يذكر بعد ذلك الرواية الجنسية العلقم وما بعد لانجوس ولسون.

(1)

رحلة نحو البداية: ص 212.

ص: 1981

وتلاشيه في بحيرات النتن، في الجنس والخمر والحشيش، في التفاهة والعربدة والمجون والسقوط والضياع

(1)

، وصدق اللَّه القائل:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}

(2)

.

أمَّا كتابه "رحلة نحو البداية" الذي خصصه للحديث عن نفسه وفكره وحياته وفلسفته في الحياة، لا باعتباره مجرد كاتب وروائي بل كما قال مترجم هذه الرواية أن ويلسون اكتشف أنه (منقذ الفلسفة الغربية من الأفلاس)

(3)

، فما هي حياته التي وصفها في هذا الكتاب، إنها قصة حياة الضياع والتشرد والتيه والانحلال، حياة التناقض والتشاكس والعبثية والضنك، سواء كان ذلك في وصفه لحياته أو لحياة أمثاله من الكتاب والفلاسفة، أو لحياة بعض عامة الناس.

وسوف أذكر بعض مفردات هذه الحياة مشيرًا إلى صفحاتها في الهامش: الضجر والفراغ، اللامبالاة، الافتقار للهدف، اللواط الذي وقع به وهو صغير، وسمى الفصل الرابع "العدمية" وبدأه بذكر إحساسه العميق بعبثية الحياة، وكراهته للجنس البشري، وتفكيره في قتل نفسه، ووصفه للدياثة، وكتابته لرواية عن الشذوذ الجنسي على ضوء فلسفة فرويد، وإلحاده، وعبادته للشيطان، ووصفه للشذوذ الجنسي بين أفراد الجيش البريطاني، وأثر الدعايات التجارية الجنسية في إثارة الجنس لدى الشباب، وتصويره لبعض أعماله الداعرة، وعلاقته بأحد الشاذين جنسيًا، وشرحه عن المقاصد الجنسية والنفسية والخلقية لروايته طقوس في الظلام، وتصريحه بأن الحضارة تجعلهم خانعين كالأغنام ثم تقتل أرواحهم من الجوع والجدب، وانضمامه إلى مجموعة الفوضوين في لندن، وذكره علاقته الداعرة مع فتاة شيوعية والجنس القذر معها وإصابته بالعجز الجنسي، ووصفه لحياة التشاكس

(1)

انظر: رواية ضياع في سوهو ترجمة يوسف شرور وعمر يمق، وكتاب أوروبا إلى أين؟: ص 56 - 59 ليوسف فرنسيس.

(2)

الآية 12 من سورة محمد.

(3)

رحلة نحو البداية: ص 3، والقول للمترجم سامي خشبة.

ص: 1982

والضنك الذي يعيشه وشعوره بالتفاهة وسعيه مرة أخرى إلى الانتحار، ووصفه لعلاقة جنسية انتهازية مع فتاة متشردة بلا أسرة ولا منزل ولا نقود، وذكره لمجموعة من الكتاب الغربيين ونماذج من حياتهم الفاسدة المنحرفة المنحطة، وخصص الفصل الثالث عشر للحديث عن الجنس، وفيه ذكر نماذج من دعارته ومطاردته للنساء، وتحبيذه لحياة الدعارة، وذكره لتجربة تعاطيه لمخدر المسكالين وكيف وصف التجربة في كتاب ما بعد اللامنتمي، وذكره لحالات استغواء الأساتذة لتلميذاتهم الصغيرات وعمل الفاحشة فيهن

(1)

.

أمَّا أحاديثه عن الجنس وأوصافه وأحواله وممارساته المتنوعة فأكثر من إمكانية إحصائية هنا، وفي هذا الكتاب أبلغ الشواهد على الحياة الغربية الخلية من القيم والأخلاق ممثلة في سلوك منظر وفيلسوف الشباب في بريطانيا وأمريكا.

ومن نماذج الانحرافات الخلقية والهبوط والعدمية ما كتبه اليساري الإيطالي محبوب الحداثيين العرب "ألبرتو مورافيا"

(2)

الذي تخصص في وصف الجنس بأشكاله وألوانه البهيمية.

وقد وصف بأنه (جعل من نفسه شاهدًا على قضايا عصره. . .، وطمح أن يصبح ضمير عصره والشاهد على مشكلاته، وقد دفعه هذا الطموح على الرغم من النجاحات الباهرة التي حققتها أعماله الروائية ويخص

(1)

انظر: رحلة البداية: ص 9، 15، 16، 37، 64، 74، 75، 80، 83، 86، 89 و 90، 99، 108، 122 - 123، 126، 138، 160 و 168 - 171 و 178، 178، 194 - 197 و 201، 217 - 218، 225 - 226، 272، 361 - 363، 380 - 425، 395، 402، 415، 417. الفقرات المفصولة بواو مقلوبة تجد رقم صفحاتها هنا، أمَّا إذا كانت الصفحات معطوفة على بعضها بالواو أو بعلامة (-) فهذا تابع للفقرة نفسها وليس لما يليها.

(2)

ألبرتومورافيا كاتب وروائي إيطالي، ولد في روما 1907 م، كتب مجموعة من الروايات، وانتمى للحزب الشيوعي الإيطالي وسعى في ترشيح نفسه للبرلمان، وقد توفي في السنوات القليلة الماضية. انظر: الموسوعة السياسة 6/ 417 - 418.

ص: 1983

من بينها بالذكر السأم، والملتزم، واللامبالون، والرومانية الحسناء، والحب الزوجي، وأنا وهو، والانتباه، والاحتقار، دفعه إلى ممارسة العمل الصحفي وإلى كتابة تحقيقات مطولة في موضوعات تتمحور حول معاناة الإنسان المعاصر. . .)

(1)

.

هذا المديح كتبه عنه أحد العرب المعجبين!!، وإذا أخذنا روايته "أنا وهو" وجدناها أبشع مثال عن الانحدار الخلقي الذي وصل إليه الغرب، فهو يعني نفسه بلفظ "أنا" ويعني فرجه بلفظ "هو" وتدور الرواية حول تأثير الفرج على العقل والتصرف والسلوك، بل الرواية تدل كلها على أن المتحكم في الإنسان والمتصرف في مشاعره وأحاسيسه وأعماله هو الفرج

(2)

، وهي باختصار تطبيق روائي لنظرية فرويد.

أمَّا روايته الانتباه فتدور حول قصة صحفي يمل من زوجته ومن معاشرتها جنسيًا، فيهجرها ويسافر في رحلات طويلة، وحين عاد من سفره وجد زوجته بغيًا تدير مواعيد البغاء في منزله، ويكتشف أن ابنتها منه بالزنى قد كبرت وأصبحت جميلة فيقع في غرامها ويمارس معها الزنى

(3)

.

وله مجموعات قصصية يدور بعضها حول الجنس والزنى والفساد الخلقي

(4)

.

وإذا نظرنا إلى سلوكيات أخرى من سلوكيات أصحاب الاتجاهات الحديثة والفلسفات المادية وماذا آلوا إليه وجدنا -مثلًا- أن ماركس انتحرت زوجته وثلاث بنات له، وكانت إحداهن تمارس الدعارة في الشوارع، وهو نفسه مات ميتة غامضة.

(1)

الموسوعة السياسية 6/ 418.

(2)

انظر: روايته "أنا وهو" ترجمة نبيل المهايني.

(3)

انظر: روايته "الانتباه" ترجمة جورج طرابيشي.

(4)

انظر: مجموعته: "تسير نائمة، محرومة من الغريزة، مخطوفة، مشردة، الدولاب" ترجمة نهاد محرم، والمجموعة الأخرى:"حياة أخرى، لنلعب لعبة معدنية، جاهلة، بنت طيبة، شهيرة"، ترجمة نهاد محرم.

ص: 1984

وفي كتاب "نهاية عمالقة في حضارة الغرب" إشارات عديدة لحياة ماركس الهابطة، ومن ذلك ما كتبته الأستاذة الجامعية "فرانسواز ليفي" تحت عنوان "كارل ماركس تاريخ برجوازي ألماني" ففي هذا الكتاب ص 357 اتهام له بالتجسس وعلاقته المشبوهة بالكولونيل "بانجيا" الذي يعمل لحساب الحكومة الروسية، وفي ص 176 أنه كان يعيش في حي الباغيات "سوهو" في لندن سنة 1267 هـ/ 1850 م، وثبت في سلوكه الاختلاس وسرقة أموال الفقراء، وتزوج البارونة جيني المنتسبة إلى أعرق العائلات البروسية والتي أنجبت منه العديد من الأطفال، وكان يعايشها في منزلها الخادمة هيلين التي أنجبت من ماركس عن طريق السفاح، وقد قالت زوجة ماركس:"لو أنه خير لي أن أعيش مرة أخرى لما تزوجت"، أمَّا "اليانور" و"لورا" بنتا ماركس فقد انتحرتا، وإحداهما اختارت لذلك مع زوجها عيد رأس السنة

(1)

.

وأمَّا نيتشه فقد عاش مجنونًا ومات في مصحة عقلية

(2)

.

وأمَّا فرويد فقد مات مصابًا بالعصاب، وكان مدمن مخدرات، حيث كان جميع أصدقائه يعرفون أنه كان يتعاطى الكوكايين لمحاربة الخجل واكتساب الشجاعة والثقة، بل كان ينصح مرضاه بتعاطيه وزعم أنه دواء له مفعول سحري، ولما أدمن بعض مرضاه عليه وهوجم بسبب ذلك سنة 1304 هـ/ 1887 م قال بأن الكوكايين والخمر والمورفين ليست في ذاتها سببًا للإدمان، وإنّما المدمن شخص ضعيف الإرادة مؤهل للتعود والإدمان.

وكان فرويد كثير التطير والتشاؤم وخاصة من اليوم 17 في الشهر، وسيطرت عليه فكرة أنه سيموت في عمر 62 سنة وبالتحديد سنة 1336 هـ/ 1918 م وحينما مر عليه العام دون أن يموت قال بأنه لم يعد يثق في الخوارق ولا يؤمن بها.

يُمكن هنا ملاحظة الموضوعية وعمق الاستدلال!!!.

(1)

انظر: العقلانية هداية أم غواية: ص 23، ونهاية عمالقة في حضارة الغرب لرشدي فكار: ص 65 - 71.

(2)

انظر: ص 121 من هذا الكتاب.

ص: 1985

وقد كان فرويد ملتزمًا في زواجه بيهوديته بل كان يرى أنه كان يقوم في جمعية التحليل النفسي بدور موسى التحليل النفسي وليس موسى التوراة، وكان يخاطب أحد زملائه قائلًا:"إذا كنت أنا موسى فأنت المسيح لاستعادة أرض الميعاد"، ومن سيرته أنه فكر بالانتحار مرات، وكان مدمن تدخين وكان يقول:"لا حياة بدون تدخين"، وأخبر عنه ارنست جونس أقرب المقربين إليه أن كل أنواع المعاناة والعوارض التي كانت في حياته آتية من "الذهانية العصابية التي كان يعاني منها فرويد"، وبعد سرطان الذقن الذي أصابه، وانبعثت منه الروائح الكريهة قال لطبيبه:"والآن كل شيء يعني الآلام المتصلة، ولم يعد للحياة أي معنى يستحق الذكر" وطلب منه أن يضع حدًا لآلامه بمضاعفة جرعة المورفين حتى يموت، وبالفعل حقنه الطبيب بجرعات كبيرة قاتله حتى هلك، وأحرق بناء على وصيته ووضع رماده في مزهرية قديمة، وهكذا أعلن عابد الحياة المنبهر بها أنه لم يعد لها أي قيمة، وانهارت أمام ناظره معبودته الدنيا التي كان يعتبرها الأولى والأخيرة

(1)

.

وسارتر قال على فراش الموت: ائتوني بقس، وقال: لقد قادتني فلسفتي إلى الهزيمة

(2)

.

ولوي ألتوسير الفيلسوف البنيوي الماركسي الفرنسي، شارح كتب ماركس، وصاحب المنهج التجديدي في الماركسية والذي وصفه رئيس فرنسا بأنه "عقل فرنسا" ذبح زوجته ونقل للمصحات العقلية، وبقي فيها حتى توفي سنة 1410 هـ/ 1990 م

(3)

.

والقاص الأمريكي أرنست همنغواي صاحب الرواية الشهيوة الشيخ والبحر، انتحر سنة 1380 هـ/ 1961 م

(4)

.

(1)

انظر: نهاية عمالقة: ص 104 - 118، والعقلانية هداية أم غواية؟: ص 21.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 24.

(3)

انظر: الموسوعة السياسية 1/ 260، ومعجم الفلاسفة: ص 79 - 81، والعقلانية هداية أم غواية: ص 23، ومجلة الناقد 9/ 17.

(4)

انظر: العلمانية لسفر الحوالي: ص 483. وممن انتحر من العرب رجاء عليش الذي أطلق على نفسه الرصاص. انظر: مجلة الناقد 1/ 71، وكذلك خليل حاوي.

ص: 1986

هذه حياة قدوات المنبهرين والمخدوعين من المستغربين الداعين إلى محاكاة الغرب وتقليده والسير على منواله واقتفاء آثاره في الفكر والأخلاق والسلوك.

أمَّا الأمثلة من الحياة العامة الغربية فهي كثيرة لا يُمكن استقصاؤها؛ لأنه لا يُمكن جمع البحر في فنجان

(1)

، ولكن نستدل ببعض الشواهد الدالة على مدى الانحراف الأخلاقي والانهيار السلوكي والجرائم وأنواع الانحطاط في حياة الغربيين:

1 -

خمسة ملايين شاذ جنسيًا في بريطانيا

(2)

.

2 -

جاء في كتاب "الثورة الجنسية" لبيتريم ساروكين مدير مركز الأبحاث بجامعة هارفارد ما نصه: (إننا محاصرون من جميع الجهات بتيار مطرد من الجنس يغرق كل غرفة من بناء ثقافتنا وكل قطاع من حياتنا العامة، وهذه الثورة التي تعبر بنا آخذة في تغيير حياة كل رجل وكل امرأة في أمريكا أكثر من أي ثورة أخرى في هذا العصر)

(3)

.

3 -

صرح جون كيشلر أحد علماء النفس الأمريكيين في شيكاغوا أن 90 % من الأمريكيات مصابات بالبرود الجنسي، وأن 40 % من الرجال مصابون بالعقم، وأن الإعلانات التي تعتمد على صور الفتيات العارية هي السبب في هبوط المستوى الجنسي للشعب الأمريكي

(4)

.

4 -

نشرت مجلة الجمعية الطبية البريطانية مقالًا بعنوان "الحمل عند فتيات المدارس" جاء فيه: أن بنات المدارس غير المتزوجات اللواتي يحملن وهن في سن يتراوح بين 16 و 19 سنة أصبحن مشكلة تواجه الهيئات الطبية والاجتماعية في بريطانيا، كما أنهن يسببن المشاكل

(1)

انظر: كتاب أوروبا إلى أين؟ ليوسف فرنسيس.

(2)

المجتمع العاري: ص 106 نقلًا عن مجلة الحوادث اللبنانية.

(3)

المصدر السابق: ص 21.

(4)

المصدر السابق: ص 22.

ص: 1987

لأنفسهن ولأهلهن، ولكن مع ذلك قسم منهن يستطعن العمل وكسب عيشهن ومنهن من يتزوجن بمن حملن منهم، إلّا أن المشكلة الحقيقية تأتي عند التلميذات اللواتي يحملن دون السادسة عشرة، وذلك لكونهن لا يستطعن الزواج ولا العمل، وهنا تاتي مشكل الأهل أيضًا الذين عليهم تدبير أمرهن، لقد بلغ عدد التلميذات اللواتي وضعن أطفالهن وهن دون السادسة عشرة حوالي "200" فتاة في منتصف الخمسينات في إنكلترا وويلز، ولكن هذا العدد ازداد بشكل مضطرد خلال العشرين سنة الأخيرة فبلغ "1743" في عام 1973 م، وفي نفس العام بلغت الإجهاضات التي تمت بمعرفة القانون "3090" في فتيات في نفس الأعمار مما رفع عدد حالات الحمل غير الشرعية إلى "4833" وفي عام 1975 م بلغ عدد التلميذات اللواتي وضعن أطفالهن بدون زواج إلى "3526" إلّا أن نسبة الإجهاضات انخفضت بنسبة 2.5 %

(1)

.

5 -

في عدد واحد من صحيفة "فرانس سوار" جاء ما يلي: في أربع وعشرين ساعة مضت حدث ما يأتي:

- في مدينة ديجون، على كتف باريس، ثمانية أولاد بينهم ست فتيات يتولون بسادية عجيبة تعذيب طفل في الثالثة عشرة من عمره، فبعدما أوثقوا يديه ورجليه راحوا يضربونه ويوخزونه بالإبر وينتفون شعيرات مّا من جسده النحيل، ولا يكتفون بذلك كله بل أصلوا الحديد على النار وكووا له ظهره بعلامات ط.

- في "ليل" خطفت سيدة من مطعم شعبي كي تمارس الجنس -رغم إرادتها- مع امرأة في مثل سنها.

- في "ليل" أيضًا الرجل المسن المتقاعد جورج فالون قتل بيده ثلاثة صبية يتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والعشرين.

- في "الهافر" اعتقل البحار "بون زينفر" لاعتدائه على أولاد صغار.

(1)

المصدر السابق: ص 46.

ص: 1988

- في المترو بين محطتي "سان ميشال" و"داكلاركي" اغتُصبت فتاة لا تتعدى الثالثة عشرة من العمر

(1)

.

ونشرت الصحيفة في العدد نفسه إحصائية كاملة للدعاوى التي نظرت فيها محكمة "السين" في ذلك اليوم وهي: 235 حالة ضرب وجرح حتى الموت، 358 تعذيب أولاد، 1007 اغتصاب، 2110 قتل 388 سرقة بدون مبرر، 41 سرقة موصوفة

(2)

.

ثم أضافت الصحيفة قائلة: إنه في اليوم الواحد تغتصب 130 امرأة أو فتاة، ويقتل 19 شخصًا ويعذب 30 شخصًا كل دقيقتين، وكل 20 ثانية تحدث سرقة، وكل 4 دقائق هناك عملية اختلاس، وكل ربع ساعة هناك سرقة سيارة، وكل 4 دقائق يخلع بيت

(3)

.

6 -

وفي مقابلات أجراها مراسل مجلة الحوادث البيروتية مع مجموعة من الشباب الباريسي في الحي اللاتيني أجابه أحدهم قائلًا: (نحن كالكومبيوتر نعمل في خط وخطة واحدة: على الذين أعدوا لنا الحياة، وبرمجوها لنا أن يحاسبوا أنفسهم عنا، نحن تعساء مرصودون بوجه الحياة شرًا كانت أم خيرًا، أمَّا السجن فلا يخيفنا بل يقتل الإحساس ويقوي روح العنف فينا، والثالث يعلق: ما دامت الحياة قصيرة تافهة مصطنعة فلم لا نسرع؟ لم لا نقتل أو نسرق أو نغتصب؟ والرابع يستطرد: نحن كلنا ضحايا أمراض الأخلاق، نحن نعيش في عالم متوحش فقد ضميره، وراح يتقاتل مع أخيه بالمخلب والناب والسكين، ويقاتل فيه أقوياؤه ضعفاءه، وتسوده فلسفات الإجرام والنهب والسلب وتحكمه مبادئ مادية عمياء ومصالح باردة. . .)

(4)

.

ويواصل الصحفي مشاهداته في ساحات باريس ساحة "بيكال": (هذا لص محترف يريد سرقة سيارة، وهذا بائع الهيروين بالمفرق يبيع بالشمة،

(1)

المصدر السابق: ص 73 - 75.

(2)

و

(3)

المصدر السابق: ص 76 - 77.

(4)

المصدر السابق: ص 79 - 80.

ص: 1989

وثالث مريض جنسيًا يبحث عن طريدة، والطريدة في باريس موجودة في كل مكان، تلقاها منذ الصباح في ميدان "الأوبرا" على الرصيف، وعند الفجر في "السان ميشال" أو "السان جرمان دي بري" وبين غروب الشمس وحلول الظلام تسرح على "العمياني" هنا وهناك وهنالك، وعلى الرصيف المواجه لفندق "غير ان أوتيل" صبية شقراء تدعوك لقبول دعوة حب صريحة بـ 500 فرنك لليلة الواحدة ومائتين للجلسة العابرة، فإذا راق لك العرض حملتك في سيارتها الصغيرة المنمنة وطارت بك إلى شقتها في البناء القديم في الحي المتاخم لميدان الأوبرا. . . في ساحة الأوبرا طلوعًا ناحية المطعم شبان يعرضون أجسادهم للبيع بحفنة من الفرنكات أو الدولارات لا فرق، قتيات يعرضن أجسادهن على مثيلاتهم من بنات جنسهن مقابل كذا فرنكات في الساعة

(1)

.

7 -

أوردت مجلة "رياليتيه" أن بين كل عشر نساء في باريس ست نساء شاذات، وبين كل عشرة رجال هناك أربعة يفضلون حب الجنس الواحد، ويعملون بمبادئه

(2)

.

8 -

في ساحة "البغال" يجد المار من هناك فئة الشباب الذين يتزينون على شاكلة النساء ويلبسون لباسهن، ويتبرجون بحليهن ويتصايحون ويتنهدون، والبوليس ليس مكلفًا بمطاردة هؤلاء فالحرية تكفل لهم حق التحرك كيفما اتفقت لهم أو شاؤوا

(3)

.

9 -

من حوادث باريس هذا الخبر: اعترضت ثلاث فتيات جميلات طريق شاب وسيم وأصعدنه بالقوة معهن في السيارة، وأمام منزل مهجور يقع وسط غابة ترجلت الفتيات وترجل الفتى المخطوف وهو يسأل مستغربًا: ماذا تردن مني؟ فأجابته الكبرى وهي لم تتجاوز سن السادسة عشرة: سوف تقوم باغتصابنا الواحدة تلو الأخرى ورفض الشاب، لقد أصيب بصدمة نفسية

(1)

و

(2)

المصدر السابق: ص 82 - 83.

(3)

المصدر السابق: ص 85.

ص: 1990

قاتلة جعلته عاجزًا عن ممارسة الجنس، وكان انتقامهن منه رهيبًا: أوثقنه إلى جذع شجرة، وقتلنه رجمًا بالحجارة

(1)

.

10 -

في عام 1413 هـ/ 1993 م تقول الأكسبرس أن جرائم الشباب الفرنسي ارتفعت خلال عشر سنوات بنسبة 156 %، وأكثرهم من الشباب الذين تعدوا مرحلة المراهقة ولم يصلوا إلى سن الرجولة بعد

(2)

.

11 -

بروز ظاهرة صور السفاحين والمجرمين على قمصان الشباب والفتيات، رمزًا لافتخارهم واعتزازهم بهؤلاء المجرمين

(3)

.

12 -

تقول نشرة صدرت في نيويورك عام 1413 هـ/ 1993 م أن أكثر من 35 % من النساء الأمريكيات يتعرضن للضرب المبرح من قبل أزواجهن، ونسبة كبيرة من هؤلاء النسوة يصبن بإصابات بالغة، ويقول مدير شرطة نيويورك في حديث له عن هذه القضية، إن أكثر من مائتي امرأة تنقل شهريًا إلى المستشفى نتيجة إصابات كبيرة وتهشيم ضلوع أو كسر في العظام من قبل الأزواج

(4)

.

13 -

جاء في إحصائيات المؤسسة الأمريكية الاجتماعية أن هناك على الأقل مئة ألف فتى وفتاة في الولايات المتحدة يمثلون الأفلام الجنسية، وهناك أكثر من مليون فتى وفتاة لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة يهربون من منازلهم، وهناك ميلونان ونصف المليون من الفتيان والفتيات يمارسون "التحشيش" على جميع مستوياته، وثلاثة ملايين ولد من الجنسين يعملون في الدعارة

(5)

.

14 -

في نيويورك وفي الشارع الثامن منه حيث الحي المشهور بأنه

(1)

المصدر السابق: ص 87 - 88.

(2)

المصدر السابق: ص 93.

(3)

المصدر السابق: ص 96.

(4)

المصدر السابق: ص 103 - 104.

(5)

المصدر السابق: ص 116.

ص: 1991

حي الحشاشين والسكارى والمعربدين تطالعك مئات الصور من الأولاد الذكور تتراوح أعمارهم ما بين تسع سنوات إلى تسع عشرة سنة يعرضون أنفسهم لمن يمارس معهم الشذوذ مقابل المال، 50 % من هؤلاء من بورتوريكو، و 30 % من السود، و 20 % من البيض، وهؤلاء الأولاد لا يأوون إلى منازلهم، بل إلى دور السينما في أكثر الأحيان، وإذا عادوا إلى منازلهم فيعودون عند مطلع الفجر حيث يجدون أهاليهم بانتظارهم ليقبضوا منهم ما جنوه خلال الليل، أو لا يجدونهم لا فرق، فيجب على هؤلاء الأولاد أن يناموا ليستيقظوا في مساء اليوم التالي ليعودوا إلى الشارع الثامن النيويوركي ليفتشوا عن المشتري

(1)

.

15 -

صدر في بريطانيا كتاب بعنوان "في البالوعة" يتحدث فيه أحد أعضاء "جماعة التافهين" عن نفسه وعن جماعته يقول: (نحن نريد أن يرانا الناس مختلفين نحن نريد أن نبدو لهم كالشياطين والناس لا يستطيعون التوقف عن النظر في وجوهنا وملابسنا؛ لأننا سحرناهم وفتناهم بهذه التقليعة إنهم جميعًا يقفون مشدوهين ويظنون بأننا خياليون غريبو الأطوار)

(2)

.

وصورة غلاف الكتاب تدل فعلًا على أن فكر هؤلاء التافهين هو على مستوى عنوان الكتاب، فالغلاف عبارة عن صورة فتاتين:

الأولى حلقت شعرها إلّا من خصلات قصيرة، رفعت إلى أعلى بمادة صمغية ودهنت بلون فضي براق فبدأ صلع رأسها في بعض أجزاء من رأسها وخاصة في المقدمة، أما رقبتها فلفتها بحلقة جلدية مثل التي تربط في أعناق الكلاب، ووجها أقرب للبشاعة بسبب الأصباغ المتنافرة التي لطخت بها وجهها.

أمَّا الفتاة الأخرى فهي أكثر بشاعة حيث حلقت كل شعرها وظهرت صلعاء وزاد من بشاعتها تلك الأصباغ السوداء التي امتدت من عينيها إلى

(1)

المصدر السابق: ص 119 - 120.

(2)

في البالوعة: ص 1 - 2 نقلًا عن كتاب جولة في عالم التيه: ص 15.

ص: 1992

مؤخرة رأسها بشكل متموج مرعب بشع، أمَّا أذنها فقد ثقبت بستة ثقوب لتضع فيها الأقراط بشكل فوضوي.

هذا الكتاب وما فيه ومن فيه تعبير عن جماعة أعلنت نفسها باسم "التافهين" بديلًا عن جماعات سابقة هي الخنافس والهيبيز والقرود

(1)

.

يقول أحد المدرسين عنهم في إحدى المعاهد البريطانية: (بكل أمانة أنك تنمو في هذا المجتمع معتادًا لظهورهم بل لا تستطيع أن تلاحظ هذا الأمر بعد فترة، فأحد هؤلاء التافهين تراه مميزًا بعلامات أو ندبات في وجهه أوجدتها الحروق أو الآلات الحادة القاسية، إنه أمر سخيف حقًا عندما تفكر فيه، أن يكون عندك أحد الطلبة من هؤلاء الشباب ذوي الشعور المصبوغة باللون القرنفلي ومن دون حواجب وأمواس الحلاقة معلقة بشحمتي أذنيه، جالسًا أمامك على منضدته في قاعة الدرس يناقشك في قصيدة من قصائد شكسبير)

(2)

.

ويقول أحد التافهين في هذا الكتاب واصفًا حادثة: (بعصبية وغضب شديد يقول: إذا أردت أن تشاهد مثلًا فرقة موسيقية أو غيرها من الفرق الأخرى فإنه يجب عليك الاصطفاف أيامًا في الطابور حتى يمكنك أن تشتري تذكرة دخول حفلهم الموسيقي العامر، إنك بهذه التذكرة سوف تذهب إلى جزيرة الأعباء الثقيلة وأقول ثقيلة لأنك ستجد في مكان حفلهم -وعادة تكون في مكان فسيح واسع كملعب رياضي أو حديقة كبيرة- الطين في كل مكان والمستنقعات والناس يبولون على أكياس النوم وفي كل اتجاه ومكان بشكل فوضوي. . .)

(3)

.

16 -

في أمريكا جامعة باسم "سير جورج وليمز" لديها الكثير من المنح الدراسية وتشترط في المتقدم لها أن يكون "لوطيًا أو مخنثًا"

(4)

.

(1)

انظر: جولة في عالم التيه والضياع: ص 14.

(2)

في البالوعة: ص 3 - 4 نقلًا عن جولة في عالم التيه: ص 15.

(3)

في البالوعة: ص 33 نقلًا عن جولة في عالم التيه: ص 20.

(4)

انظر: جولة في عالم التيه: ص 43.

ص: 1993

17 -

في مدينة لوس أنجلوس في كلفورنيا يتجمع أكثر 300 ألف من الشاذين جنسيًا

(1)

.

18 -

نشرت مجلة أخبار اللوطيين الصادرة في بريطانيا خبرًا بالخط العريض مفاده أن (الدين سبب لكل المشاكل في الدنيا)

(2)

.

19 -

نشرت جريدة الرأي العام الكويتية عن رئيس وزراء الهند موراجيس ديساي أنه يشرب بوله على الريق كل صباح ويقول: هذا نافع جدًا جدًا، ولست بحاجة لأدفع ثمنه إنه بالمجان، وهو أيضًا نافع لتدليك الجسد وليس لي فقط بل إن شقيقتي شفيت بعد جرعات من بولي

(3)

!!.

20 -

كانت جمعيات الشذوذ الجنسي موجودة في أمريكا وبريطانيا تحت تسمى "كلوزت براكتيس" وكانوا يقومون بمزاولة كل أكمالهم في الخفاء، حتى قام أحد ضباط الصف اليهود بوضع قطعة كبيرة خلفه في مكتبه العسكري في أمريكا وكتب فيها "أنا لوطي" فقام الجيش بطرده وقامت الدنيا ولم تقعد على الجيش لاتخاذه مثل هذه الخطوة، ونشرت التايمز الأمريكية صورته على غلاف الصفحة الأولى، ودُعى إلى عدد كبير من المؤتمرات ليلقى فيها محاضرات، وبعدها فجأة انتشرت جمعياتهم في كل مكان فدم تبق جامعة تقريبًا في الولايات المتحدة أو في أوروبا أو في استراليا أو في نيوزلندة إلّا وفيها فرع للشذوذ الجنسي، ولقد استطاعوا أن يجعلوا الكثير من الممثلين والمطربين وحتى الوزراء ينضمون إلى مثل هذه الجمعيات فمثلًا في مقاطعة كوبيك في كندا يوجد ثلاثة وزراء يعلنون جهارًا نهارًا أنهم شاذون جنسيًا ولذلك أصدروا قوانين كلها تؤيد الشذوذ الجنسي بالخفاء

(4)

.

هذا ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الشواذ جنسيًا استطاعوا في

(1)

و

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 43.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 42.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 43 - 44. .

ص: 1994

أمريكا بعد تولي بل كلنتون وفي عام 1413 هـ/ 1993 م أن يستصدروا أمرًا إلى الجيش بتوسيع توظيف الشاذين جنسيًا في قطاعات الجيش، كما أنه أتاح لجماعات الضغط من لوطيي كلفورنيا وغيرها أن يدخلوا في الانتخابات بشعاراتهم ومشروعاتهم الجنسية، وبالفعل نجح مجموعة من الشاذين جنسيًا للدخول في الكونجرس ومجلس الشيوخ.

ولما ذهبت إلى أمريكا في رمضان سنة 1414 هـ كانت أجهزة الإعلام تتحدث عن الشاذين، وأنه يجب التعامل معهم على أنهم أسوياء، ومواطنون عاديون، وليسوا شواذًا كما كان يقال!!، واقترحت برامج للأطفال والأسر لإشاعة هذه الفكرة بين الناس، من أجل تطبيع علاقة هؤلاء الشواذ بقطاعات المجتمع!!.

وكان مما ألقي في هذه البرامج أنه يلزم تجاوز عُقُد الماضي حينما كان يمنع الشواذ من التمثيل النيابي والعمل في الجيش، ذلك أن الحقبة الأخيرة قد أتيحت لهم فيها الفرص الواسعة حتى لقد أصبح من أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ ما يزيد على خمسة عشر نائبًا يعرفون بالشذوذ ويعلنون ذلك ولا يخفون به، وهناك أضعاف هذا العدد من النواب والوزراء وكبار شخصيات الحكومة الأمريكية الذين لم يعلنوا عن كونهم من الشاذين جنسيًا، وهم في الحقيقة كذلك، وهكذا كانت هذه الحيثيات وغيرها من أجل تطبيع الشذوذ في المجتمع.

وفي 14/ 9/ 1414 هـ وأنا في مدينة "تيمبي" من ولاية "أرزونا" كتبتُ عن إحدى المحطات التلفازية هذه المعلومات، كل عشرين ثانية تسرق سيارة، وكل ثماني عشرة ثانية حالة اغتصاب، يوجد في المنازل الأمريكية اثنان وخمسون مليون كلب وأربعة وخمسون مليون قط تُربى ويُعتنى بها، بل بعضهم استعاض بها عن أبنائه وبناته الذين تركوا المنازل أو طردوا منها، وعرضت برامج ومقترحات لحل مشكلات البنات القواصر من إحدى عشرة سنة إلى سبع عشرة سنة اللاتي يحملن سفاحًا ويضعن أطفالًا، أو يقمن بعمليات إجهاض، وبعض هذه البرامج جاء بعنوان "طفلات يحملن ويضعن

ص: 1995

أطفالًا"، وتوجد جماعة ذات انتشار في الولايات الأمريكية تعبد الشيطان ومن طقوسها ذبح أحد البشر، فإن لم يتهيا ذلك ذبحوا أحد الحيوانات بصورة بشعة، ومن المشاهدات شعار جامعتي "تنبي" على شكل شيطان، وفي بعض الإسكانات الجامعية توجد حمامات مشتركة بين الجنسين ومفتوحة على بعضها بحيث يُرى من يغتسل ومن يتغوط، ومن المشاهد المالوفة عند الإشارات ومداخل الفنادق فئة "الهوملس" الذين لا منازل لهم، يبحثون عن أي مأوى أو أي قوت، وبعضهم يضيف أنا ممن قاتل في فيتنام، وفي محلات بيع أدوات الإجرام والتجسس ترى صواعق كهربائية لشل قدرة الخصم وبخاخات تفعل ذلك أو تدمع العين، وأجهزة تجسس صغيرة تباع لعامة الناس، وأصابع تفجير وسكاكين مخفاة في أقلام وساعات، وثياب واقية ضد الرصاص، وكتب تعلم الإجرام مثل: كيف تقتل الآخرين؟، كيف تنتقم؟، تقنية الاختطاف، القتل بالخنق، كيف تتخلص من المطاردة، كيف تتغلب على مطاردة البوليس، كيف تخفي شخصيتك، وهناك محلات لبيع أدوات الجنس، وفيها من القذارة ما لا يخطر على بال.

وذهبت إلى مدينة سان فرانسيسكو، ومررت مع أحد المسلمين من شارع هناك اسمه "شارع كاسترو" في وسط المدينة، فقال: سأريك نموذجًا للتقدم الأمريكي!!.

وكان هذا الشارع شارع الشاذين جنسيًا. . . وهناك رأيت ما تقشعر له الأبدان، رجال وفتيان من كل الأعمار ونساء كذلك، كل اثنين متشابكين بالأذرع (يوجد عرف لدى الأمريكان أنه لا يأخذ أحد بيد الثاني أثناء المشي إلّا كان هذا دليلًا على عشق جنسي بينهما، سواء كانا رجلين أو امرأتين أو رجلًا وامرأة).

ورأيت في هذا الشارع مقاهي وخمارات يقف الرجل خلف الرجل في وضع جنسي قذر، ويجلس الرجل في حجر الآخر، ويقبل أحدهما الآخر على الشفاه وفي الوجنات.

وهناك المكتبات ومحلات الفيديو المليئة بالصور الجنسية للشاذين من

ص: 1996

الجنسين وصور الأعضاء التناسلية وصور العورات بطريقة مكشوفة فاحشة قذرة خبيثة غاية الخبث، وأمام مطعم صغير في هذا الشارع مجسم للشطيرة المسماة عندهم "الهامبرجر" وبدلًا من أن يكون وسط الشطيرة لحمًا أو غيره مما يؤكل كان الموجود في هذا المجسم ذكر رجل!!.

ويقال أن البرج العالي في هذه المدينة والذي يشرف على أكثر أجزائها صممه ونفذه هؤلاء الشواذ وجعلوه في شكل ذكر رجل!!.

وفي هذا الشارع وفي غيره ترى أشكالهم الملفتة، أقراط كثيرة في آذانهم وأنوفهم وأثدائهم ووجناتهم ورقابهم، معلقة في الجلد المخرم لهذا الغرض، أمّا الملابس وأشكال شعر الرأس والصور المنقوشة على الأجساد وعلى الملابس، والأصباغ على الوجوه، فشيء يفوق الوصف لكثرته وبشاعته وشذوذه.

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}

(1)

.

21 -

جاء في جريدة أخبار اللوطيين في 6 مارس سنة 1980 م/ 1400 هـ ما يلي: (لمدة ست سنوات كنا في مساعدة جماعة الشاذين جنسيًا، إننا نعتبر هذه المساعدة لهم خدمة إنسانية نقوم بها مع سبعين من المتطوعين الذين نذروا أوقاتهم للرد على استفسارات ما يقارب من ثلاثمائة ألف مكالمة هاتفية في كافة المواضيع، فنحن نمدك بمعلومات وبيانات عن النوادي والحانات والفنادق وتجمعات الشاذين من كافة الاتجاهات والميول، ونحن بالإضافة إلى ندردش مع الوحيدين وغير المحبوبين، وبابنا دائمًا مفتوح لكم، فنحن نقدم هذه الخدمة المجانية خلال الأربع والعشرين ساعة في اليوم على مدار فصول السنة، إن المتطوعين لهذا العمل لا يأخذون مقابلًا لهذا العمل ولكن حتى نستمر في هذه الخدمة الإنسانية فإن ذلك يكلفنا كثيرًا. . .)

(2)

.

(1)

الآية 72 من سورة الحجر.

(2)

جولة في عالم التيه والضياع: ص 47.

ص: 1997

22 -

جاء في جريدة السياسة الكويتية في 22/ 8/ 1977 م/ 1397 هـ هذا الخبر: (قدم خمسمائة شخص يمثلون حوالي خمسين جمعية ورابطة من جمعيات الشذوذ الجنسي بمظاهرة أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك للمطالبة بإلغاء أي تفرقة في المعاملة لأعضاء هذه الجمعيات تقوم على أساس السلوك الجنسي الشاذ وقد بعث المتظاهرون برسالة إلى سكرتير عام الأمم المتحدة يطالبونه فيها بإنهاء الوضع الحالي الخاص بسكوت الأمم المتحدة عن موضوع "الحريات الخاصة بالشواذ جنسيًا". . .)

(1)

.

هذه قطرة صغيرة من بحار الانحرافات ومحيطات الانحلال الخلقي، وهي على قلتها -بالنسبة للواقع هناك- تدل دلالة واضحة على مقدار الانتكاس الذي وصلت إليه البشرية في تلك البلاد وعلى ضخامة الهبوط والسقوط الذي تردت إليه تلك الأمم التي تتحدث دعاياتها الإعلامية عن الإنسانية الرفيعة، والضمير وحقوق الإنسان.

(قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئًا

كما أكلوا الإنسان أو شربوا)

(2)

ومع كل ذلك ما زلنا نرى الدمى من أبناء البلاد الإسلامية ينادون بالسير على هذا الطريق النتن المظلم، المدمر المحطم لكل قيمة إنسانية!!.

لقد استطاع الغرب المتقدم في أمور التقنية والمكتشفات، والمسيطر بقوته العسكرية والاقتصادية والصناعية أن يبهر ضعفاء العقول من أبناء الشعوب الضعيفة المسماة -تلطفًا- دول العالم الثالث، أو الدول النامية، فأقبلوا على الغرب يأخذون ما لديه بلهف، ويتلقون ما عنده بشغف.

ومن هؤلاء الذين بهروا بالغرب وما فيه، أبناء البلاد الإسلامية، فقد تسابق كثير منهم، وخاصة أصحاب التأثير المعنوي والحسي في استجلاب ما في الغرب، بل أسوأ ما فيه، جلبوا الفكر والثقافة والفنون

(1)

المصدر السابق: ص 49.

(2)

لعيني أم بلقيس: ص 69 لعبد اللَّه البردوني.

ص: 1998

القائمة على فلسفة مادية حيوانية، وسعوا في تعميم النمط الغربي، وتطبيع السلوك الغربي، وتكسير معاقد الأخلاق الإسلامية ومفاصل الروابط الاجتماعية، ولقد عرف أعداء الإسلام أن الأخلاق الإسلامية تمثل صلب الحياة الاجتماعية والنفسية، فجندوا لتحطيمها وتكسيرها جيوش الإفساد والفتنة.

وأول أمر بدأوا به أمر العقيدة والإيمان؛ لأنها تمثل المنبع العظيم للأخلاق، فاتجهوا إلى التشكيك الجاحد، والتدنيس الفاسد لكل قضايا الإيمان، ابتداءً بالإيمان باللَّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

واتجهوا إلى مصادر الشريعة الإسلامية، فمكروا مكرهم، وتناولوا أصول الشريعة وقواعد الملة وكليات الدين تناول المتلاعب المشوه الحاقد، ولما علموا أن تفهم الإسلام تفهمًا سليمًا هو الذي يمد نبع الإيمان بالعلم الصحيح، ويمد تطبيقاته بالممدد الخالص عمدوا إلى العلوم الإسلامية فكرسوا حربهم عليها وركزوا جهدهم ضدها، وقد استخدموا في سبيل تهديم الأخلاق الإسلامية عدة وسائل منها:

1 -

الغزو الفكري، الذي يستهدف زعزعة ركائز الأخلاق التي تمدها بالقوة والأصالة والثبات ومتى حصلت الهزيمة الفكرية والاعتقادية تبعتها هزائم أخرى، منها الهزيمة الأخلاقية، وهذا ما نراه ونشاهده في سائر طبقات المنهزمين.

2 -

إيجاد الأجواء الفاسدة المفسدة، وغمس الناس في الفساد الخلقي، وتهيئة البيئات المناسبة للإنحراف السلوكي والأخلاقي.

3 -

الإفساد من خلال النساء، فهم أولًا أفسدوا المرأة وأخرجوها من عرشها المكين، من عفافها وحجابها ومكانتها السامقة التي وضعها لها دين اللَّه القويم، ثم أفسدوا بها.

- أفسدوا المرأة بالتعليم الفاسد، والتربية الجاهلية المنحرفة، حتى خرجت الفتيات وهن مثقلات بالمفاهيم الباطلة والعادات الفاسدة، وهى تظن أو تزعم أو يُزعم لها أن هذه هي الثقافة العصرية، وهذا هو التقدم، وهذا

ص: 1999

هو التحرر، فها هي الفتاة تحمل الشهادة الجامعية أو الشهادة العليا!! أليست هذه هي علامة التقدم؟.

ومن هذا المجال انطلقت المرأة أمّا ومعلمة وعاملة تضع بصمات ما تأثرت به على الأجيال اللاحقة، فتوالى الفساد والإفساد وتكاثرت أسبابه.

- وأفسدوا المرأة بدعوتها إلى العمل وإخراجها من بيتها، بدعوى عدم تعطيل نصف المجتمع وقالوا: نضعها في العمل المناسب لأنوثتها أو لتقاليد المجتمع، ولما استقر الأمر وقبل به الناس جعلوها سكرتيرة للرجال ومضيفة في الطائرات والفنادق، وموظفة في الدوائر العامة والشركات، وعاملة في المحلات التجاربة تجذب المشتري بأنوثتها ودلالها!!.

- وأفسدوا المرأة بالأزياء البعيدة عن الحشمة والعفاف والمليئة بالشذوذ والإغراء، وحركوا في داخل المرأة مرضى حب البروز، البروز بملابسها وفتنة جسدها، بل أوصلوها إلى مستنقع الاستعراض والإغراء.

- وأفسدوا المرأة بالفنون المختلفة، وسخروا الوسائل الجذابة والمؤثرة وذات الفاعلية السريعة مثل السينما والتلفاز والمسرح والمجلات والجرائد والقصص والروايات، والإذاعة، وسائر وسائل الإعلام، وقبض المنحرفون أو الضعفاء المنهزمون على أزمة هذه الوسائل فسخروها لهدم الأخلاق وتحطيم القيم، وغرس الرذائل والمفاسد والانحرافات، حتى لقد سمّوا تبرج المرأة واستعراضها بمفاتن جسدها وغنجها بكلامها وحركاتها سموه فنًّا، وأطلقوا على العري والاختلاط أسماء التقدم والتحضر.

وكانت هذه الأمور -المتزايدة في شرها- سببًا عظيمًا في تهديم أخلاق المسلمين، فانهار العفاف الذي عرفت به نساء المسلمين من عهد النبوة إلى عهد قريب وتمزق كيان كثير من الأسر المسلمة، وتبدل الاعتزاز بأخلاق الإسلام والاستمساك بسلوكياته، إلى سخرية به وتهاون ومضادة ومناقضة، واندفعت المرأة المسلمة إلى تقليد الكوافر الفواجر، وتسابقت الخطى في سرعة عمياء صماء حتى فقدت معظم بلدان المسلمين طابع

ص: 2000

الاحتشام، وأضحى السفور والتبرج والاختلاط سمة عادية مقبولة عند كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه.

وأمام هذا الطوفان الهائل من الفساد والإفساد إفساد المرأة والإفساد من خلالها، تحركت غرائز الشباب وتملكت عقولهم الشهوات، ومتى غرق العقل في الشهوة، وتدنست النفس في الغريزة أمكن أهل الشر وبغاة العلو بالباطل التلاعب بالعقائد والأفكار والسلوك وسائر الأخلاق الشخصية والاجتماعية، وأمكن سلب إخلاصهم لأمتهم ومجتمعهم وبلادهم.

وهذا ما حصل فعلًا في كثير من بلدان المسلمين، حيث استطاع الأعداء أن يسخروا فئات من أبناء هذه البلدان ليسعوا في الأرض فسادًا وليكونوا كما قال اللَّه تعالى:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)}

(1)

.

4 -

الإفساد بالخمر والمخدرات، لقد دخل الاستعمار بلاد المسلمين وما فيها من يجاهر ببيع الخمر أو صنعه، وما فيها من يفكر أن يتحاكم إلى غير الإسلام، وما في مجتمعاتهم من تخرج سافرة عارية أو شبه عارية، ولم يخرج الاستعمار من هذه البلدان إلّا وشرع اللَّه مستبعد، ومكانه القوانين الجاهلية، والمرأة متبرجة مختلطة مسترجلة، والخمر تصنع وتباع كأنها الماء الزلال!!.

عملوا على نشر المسكرات والمخدرات بين أبناء المسلمين لما فيها من إضرار على العقول والنفوس والأجساد والأخلاق، وها هي بريطانيا أيام قوتها كانت تستعمر الصين وترضخه لسلطانها بوسائل عديدة منها "الأفيون والحشيش" وقد علم من استقراء أحوال المجتمعات والأفراد أن المفاسد يجر بعضها بعضًا، والخمر أم الخبائث تجر إلى المخالطة الفاسدة، ثم إلى جلسات الاستمتاع بالفاحشة وإلى القتل والمعاداة، بل تجر إلى خيانة الأمة "الخيانة العظمى" والتبرع بأسرارها، والتنازل عن مقومات قوتها، وتسليم

(1)

الآية 27 من سورة النساء.

ص: 2001

مقاليد أمرها إلى الأعداء المبغضين الطامعين المخربين

(1)

.

وقد شهدت بلاد المسلمين من أضرار هذه المفسدات دواهي عظيمة، في الدين والخلق والعلاقات، بل في كل أسباب القوة والتمكن.

5 -

الإفساد بوسائل اللهو، وأعظم قضية تسلطت عليها وسائل اللعب واللهو "خلق الجدية" الذي كان من سيما المسلمين، ومن أشهر صفاتهم، لقد تبدل ذلك من خلال هذه الوسائل التي جُعلت في أذهان الشباب وأعراف المجتمعات ضرورة لا يُمكن الاستغناء عنها!! فأصبح الميل إلى اللعب والهزل وسفساف الأمور خلقًا بارزًا في كثير من شباب المسلمين، واستتبع ذلك ما استتبعه من محبة للدعة وتخلق بالباطلة وتبرم بالعمل وهروب من العمل الجاد النافع، والبحث عن أسباب المتعة، وقتل الأوقات باللهو واللعب، هذا إذا كانت هذه الوسائل مباحة أو غير محرمة.

أمّا وسائل اللهو المحرمة كأندية. القمار ودور اللهو المحرم ومسارح الاختلاط والرقص، وأفلام الخلاعة، وصور الفجور، ومجالس الموسيقى، وكتب القصص التافهة، ومسهرات الاختلاط، وأمسيات المجون، وغير ذلك من وسائل الإلهاء والتمتع بالحرام والفساد، فهذه فعلت وتفعل في الأخلاق والسلوك مثلما تفعله الخمر والمخدرات في القضاء على الأخلاق النبيلة والعادات الكريمة، وغرس النجاسات الفكرية والخلفية والاجتماعية مكانها.

إضافة إلى سرقة أعمار الشباب، والقضاء على حياتهم من خلال تبديد أوقاتهم، ومن تامل ميادين الرياضة وما في بواطنها من إلهاء وإغراء وتلاعب

(1)

يذكر في هذا الصدد قصة الطيارين المصريين الستمائة الذين أسكرهم عميل الموساد في ليلة الرابع من يونيو حزيران 1967 م/ 1386 هـ، والتي كان في صبيحتها أول يوم من هزيمة حزيران، وكانت تلك الليلة الحمراء المترعة بالخمر ورقصات سهير زكي، والموسيقى الصاخبة، ونجوم السينما وطالبات الجامعات المنطرحات في أحضان الطيارين المصريين، سببًا رئيسًا للهزيمة. انظر تفصيل ذلك في كتاب تحطمت الطائرات عند الفجر لباروخ نادل وخاصة الصفحات: ص 161 - 262، 271، 272، 266 - 267، 278 - 299.

ص: 2002

بالعواطف والقيم، وما في طياتها من إسراف وتشاحن وتباغض، وما في نتائجها من تخدير للعقول والقلوب، وتعطيل للطاقات، أيقن كم جرت هذه الملهيات على المسلمين من مصائب، أظهرها ما يشاهد في كثير من الشباب من ولاء وبراء للكرة، وما فيهم من تعلق وشغف بالتفاهات، وانشغال بالترهات، وانصراف عن ما به عزّ الأمم والأوطان من علم نافع وصناعة مثمرة وزراعة تؤمن العيش المستقل، وسلاح يؤمن القوة الفاعلة.

ومن كان في قلبه أدنى غيرة على الإسلام والمسلمين لابد أنه سيتأثر كثيرًا، ويحزن كثيرًا على هذا الشباب الضائع بين وسائل اللهو واللعب، ووسائل المجون والإنحلال.

6 -

الإفساد بالمال، فالمال عنصر فعال في حياة الناس، تشترى به الذمم الضعيفة، وتستذل من خلاله أمم، وتغير به أحوال، وكم اشترى الأعداء بالمال نفوسًا ضعيفة ووجهوها لتفسد الأخلاق، وتنشر الفساد، ومكنوا لها بالأموال لتفعل الأفاعيل في ذمم الناس وسلوكياتهم.

فالرشوة فساد خلقي يقع بالمال، ويستثمر المفسدون المرتشي بعد إهانته بالرشوة ليكون يدًا لهم في تنفيذ مآربهم، فكم من خائن لأمته، وكم من متواطئ مع أعدائها، وكم من ساع في تنفيذ مخطط الأعداء، اشتريت ذمته بالمال.

ولقد أُفسد بالمال من أخلاق المسلمين التجارية ما لا يخطر على بال، فحل الجشع والشح مكان العطاء والبذل وسهل للفاسدين أسباب الاحتكارات المحرمة، والمكاسب المحرمة، وانفتحت أبواب الكسب غير المشروع، وساغ عند الناس التعامل بالربا وبيع الخمر وقبول الرشوة، وبذل المال في المحرمات والأمور المفسدة، فأدى ذلك إلى موت الفضيلة عند كثيرين، والرضى بالخنوع والذل والهوان، ما دامت الأوضاع تهيء المكسب المالي، وماتت روح التضحية والفداء، وانقرضت معاني العزة الحضارية الإنسانية المؤمنة، وحل محل ذلك ذميم الأخلاق من أنانية ومحبة للذات وتتبع للمصلحة وقبول بالذلة، ورضى بالهزيمة، وتسويغ للرذيلة ودفاع عن الباطل، وركون إلى الهوان.

ص: 2003

7 -

الإفساد بالترف وكثرة الرفاهية، قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}

(1)

.

وبالنظر في التاريخ البشري وتتبع أحداث الحياة وجُد أنه إذا أغرقت أمة في الترف والبطر، وتمادت في حياة الرفاهية الباذخة سرت إليها عوامل الضعف والتمزق؛ ذلك أنها بالرفاه المفرط والترف الطاغي تنسي اللَّه تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)}

(2)

وتنسي الموت واليوم الآخر، وتطمئن إلى الدنيا وزخارفها، وتركن إلى الترف وتجري وراء الملذات المتجددة، فتتحطم عندئذٍ القيم والأخلاق، ويتنافس المترفون في البحث عما يشتهون، ويفنون أعمارهم وطاقاتهم في ابتكار ما به يلتهون، ويتفننون في اصطياد المتع، وكلما شبعوا من متعة انتقلوا إلى غيرها في نهم، وبحثوا عن سواها بعد أن أملّهم السأم.

فإذا هم في حمأة الشهوات المحرمات، وفي مستنقع الملذات المهلكات، رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وغفلوا عن كل أسباب العز والتمكين، والتقدم والرقي، واتبعوا أمر كل جبار عنيد، يحقق لهم أسباب الملذات، ويؤمن لهم طرق الشهوات، وقلوب المترفين قاسية غليظة فاقدة للرحمة والعطف الإنساني، بعيدة عن الشفقة على الضعفاء والفقراء، بل ربّما ارتكبت في حقهم الشناعات من أجل تحقيق مراداتهم الباذخة، وما أنباء الترف الروماني والفارسي ببعيدة عن الأذهان، فقد قص التاريخ من أنبائهم وأخبار بذخهم الشيء الكثير، وكيف أودى بهم ذلك، حين أوجد من الأدواء الخلقية والاجتماعية والأمراض السلوكية ما عجل بذهابهم واندراس آثارهم

(3)

.

إن من طبيعة أهل الترف والبذخ -إضافة ما سلف- أنهم يعارضون

(1)

الآية 16 من سورة الإسراء.

(2)

الآيتان 6، 7 من سورة العلق.

(3)

انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 56، 71 - 74.

ص: 2004

الإصلاح، ويتصدون للمصلحين بالحرب والإيذاء، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)}

(1)

.

وقال تعالى: {. . . وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}

(2)

.

وقال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)}

(3)

.

وقد أدرك أعداء الإسلام والمسلمين أن الرفاهية والترف والانغماس في اللذات أمور تسبب البطر، وتوقف التفكير السليم والإنتاج والتقدم، وتعرقل أي طموح نحو الحضارة، وتصيب الأمة بانهيار خلقي وسلوكي يقودها إلى الهزال والضعف والاستكانة، والتعلق بالقشور من ظواهر الحياة، وترك موجبات القوة والمجد والعزة والسؤدد، فعملوا على إغراق الذين بسط اللَّه لهم الرزق من أبناء المسلمين في أنواع الترف والرفاهية والمتع المحرمة، وزينوا لهم سبل اللهو والدعة والتلاعب بالأموال والأعراض، فاستعذب هؤلاء هذه الطرق الغاوية، واستسلموا لدواعي الإغراء وآثروا لذاتهم وشهواتهم، وتدافعوا نحو أسواق الترف وميادين البطر المعيشي، باذلين الأموال، مقتنصين الشهوات فكان من ذلك فساد الأخلاق والآداب، وكان منه الوقوع في حضيض التخلف والتبعية، ووهن العزيمة عن التطلع إلى مجد مؤثل.

(1)

الآيات 34 - 37 من سورة سبأ.

(2)

الآيتان 116، 117 من سورة هود.

(3)

الآية 58 من سورة القصص.

ص: 2005

إضافة إلى أن الأعداء قد اتخذوا منهم جسورًا لتنفيذ المآرب الخبيثة، وابتزوا أموالهم واقتنصوا خيراتهم وامتصوا طاقاتهم المادية، واستخدموها ضدهم، وقووا بها مخططاتهم المستهدفة إذلال المسلمين وإبقاءهم في دائرة الهوان والتبعية.

8 -

الإفساد بالسلطة، تكاد تكون شهوة الحكم والسلطان في نفوس بعض الناس من أقوى الوغبات المتحكمة والشهوات الآسرة التي تهون على صاحبها ارتكاب الفضائع، واقتراف الوذائل والجرائم العظيمة.

ويعرف الأعداء هذه الحقيقة من حقائق النفوس فولجوا من خلالها إلى أصحاب النفوس الضعيفة الذين لا يخشون اللَّه ولا يرجون الدار الآخرة، فاستخدموهم، وأفسدوا من خلالهم الأخلاق والعقائد بما لا يعلم قدره وامتداده إلّا اللَّه تعالى.

عرفوا مواطن ضعفهم فرسخوها ونموها، وضمنوا استمرارهم بالحماية الدائمة لهم، وأغروهم بالاستمرار في تحكيم القوانين الجاهلية التي تدمر الأديان والأخلاق وتسوغ الرذائل وتحميها، وكان في هؤلاء الأرضية القابلة للإغراء والتحريش، بما تلبسوا به من شهوات مهلكة وشبهات قاتلة.

علموهم أخلاق السياسة المعاصرة القائمة على الذرائعية "البرغماتية" وعلى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة "الميكيافيلية" أخلاق السياسة المعاصرة التي لا تؤمن بفضيلة من الفضائل، ولا تحترم قيمة من القيم الخلقية، حتى غدت رذائل الكذب والغدر والخداع والنفاق والوعود المزمع إخلافها ابتداءً ونقض العهود والمواثيق، والتعدي والظلم والفجور في الخصومة والادعاءات الباطلة، وسلب الحقوق وانتهاك الأعراض وغير ذلك من الفضائع من الأمور التي لا يستنكرها العاملون في ميادين السياسة، بل يعدونها من الحذق والمهارة السياسية.

فنشأ من جراء هذه الرذائل السياسية انهيار خلقي وسلوكي عام، بما يراه الناس ويسمعونه، وبما تقذف به أجهزة الأعلام من تبريرات وتسويغات وتصريحات لا تزيد أمر الإنحراف إلّا رسوخًا.

ص: 2006

أضف إلى ذلك ما لديهم من أجهزة البحث والاستخبار التي تقوم على تصيد الأخبار والأشخاص من خلال النساء والخمور والمخدرات والرشاوى وشراء الذمم، وبيع الضمير والأخلاق في الحجرات المظلمة.

ومن اطلع على الكتب التي تحدثت عن أجهزة الاستخبارات وأشخاصها وفضائحها تيقن كم في حشو هذه الأجهزة من بلاء مدمر للدين والأخلاق والقيم والتقاليد.

9 -

التركيز على إفساد الفتيان والفتيات، من خلال إرسال الأشياء المفسدة إليهم تحت أسماء مختلفة، علمية وفنية وصناعية وتجارية وسياحية ورياضية، لتقوم بعمليات الإفساد عن طريق الاختلاط بالبنين والبنات، والتأثير عليهم ببهرج مظاهر الحياة وزينتها ولذاتها، وبالمبتكرات الضالة من النظريات والأفكار، ومن الأزياء والفنون التي تستهوي النفوس ويغريها بالمحكاة والتقليد.

فإذا أضيف إلى ذلك أن الأجيال الناشئة جاهلة بدينها، عديمة الحصانة في فكرها، عديمة المناعة النفسية ضد أي غزو فكري أو نفسي أو أخلاقي، تبين فضاعة ما يُمكن أن يصل إليه الأعداء في التأثير على الفتيان والفتيات.

بيد أنهم لم يكتفوا بذلك -على فضاعته- بل استدرجوا أبناء المسلمين وبناتهم إلى معاقل الفساد والإفساد، وهم بحال من انعدام الحصانة الفكرية والنفسية، فأثر عليهم الأعداء أبلغ التأثير، ومسخوهم وغيروا نفوسهم وعقولهم وغرسوا فيهم الاستخفاف بالقيم والأخلاق، وصنعوهم على أعينهم أخبث صناعة، فعادوا مثقلين بالأمراض الخلقية والنفسية، يحملون بين المسلمين رسالة أعدائهم وبأسلوب أشد عنفًا وأكثر وقاحة وأعظم تأثيرًا.

وماذا يتوقع من قوم تربوا في أكناف الشبهات الفكرية وتقلبوا بين أعطاف الشهوات التي امتصت منهم المروءة والدين والخلق، ورمتهم في زوايا دروب الحياة، حيث الفراغ والفساد والهوان والفتنة والفساد؟.

وهكذا استطاعت العلمانية في البلدان الإسلامية أن تجد مجالها

ص: 2007

الأوسع في الوصول إلى صميم الحياة بهذه الوسائل المفسدة

(1)

.

وما سلم من تأثيرها إلّا من سلّمه اللَّه، وهم قلة إزاء الأعداد الهائلة التي استجابت كليًا أو جزئيًا لهذه المفسدات، وليس هذا من باب التشاؤم المبالغ فيه أو النظرة السوداوية كما يقول أرباب التبرير والتفاؤل الأخرق، بل الواقع في بلدان العالم الإسلامي يشهد بأعظم وأشنع مما وصفت، وخاصة بين قطاعات المثقفين والإداريين والإعلاميين، وبين فئات الشباب والشابات إلّا من رحم اللَّه، وقليل ما هم.

ولا يعني ذلك أن الأمة انسلخت تمامًا عن كل قيمها وأخلاقها، ولكن الكلام هنا عن آثار هذه الوسائل في حياة المسلمين وتأثرهم بها، سواء قل هذا التأثر أو كبر، عظم أو صغر، ومما لا ريب فيه أن ذلك من أعظم طموحات ومشروعات أهل العلمنة والحداثة، وسوف أورد من أقوالهم ما يدل على تبنيهم الحرب ضد أخلاق الإسلام وقيمه، وسعيهم في إيجاد قيم وأخلاق شهوانية أو مادية حيوانية مستوردة، وكلا الأمرين متداخلان، بل هما وجهان لعملة واحدة.

فأمَّا محاربتهم للأخلاق الإسلامية والسخرية بها وبأهلها فإنه يتبين ذلك بالعودة إلى موقفهم من الإيمان باللَّه تعالى والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، حيث تبين بالشواهد في الفصول المختصة بهذه الأركان أن الحداثيين في شأنها بين جاحد ملحد مجاهر بجحده وإلحاده، وشاك مرتاب يصب ضلاله في نهاية الأمر في مستنقع الكفر، وهم بهذا الجحد والريب يكسرون معاقد الأخلاق الفاضلة ويحطمون صلب القيم الأخلاقية عند المسلمين.

ذلك أن الأخلاق في الإسلام -كغيرها- تنبع من العقيدة الإسلامية القويمة، التي تصون وتحمي وتعلي وترفع الإنسان في كل شؤون حياته وكل مناشط أعماله، وهي الجذر الحقيقي لكل الفضائل والأخلاق، وكل الآداب

(1)

اقتبست الكلام السابق عن وسائل الإفساد الخلقي من كتاب أجنحة المكر الثلاثة لعبد الرحمن الميداني: ص 341 - 384.

ص: 2008

والسلوكيات التي يسير عليها المسلم، حتى التي جبل عليها يعملها بمقتضى إيمانه، محتسبًا الأجر في ذلك، راجيًا ثواب اللَّه وجنته.

وإذا نظرنا إلى العداوة الشرسة التي تنضح بها ألسنتهم وأقلامهم ضد أصول العقيدة الإسلامية وأركان الملة الحنيفية تبين أنهم لا يستهدفون بهذه العداوة عقيدة مجردة بل يستهدفون مع ذلك مقتضيات ولوازم هذه العقيدة، ومنها الأخلاق.

وليس هذا مأخوذًا من فحوى كلامهم أو لازم ضلالهم، بل من نصوصهم الصريحة.

فهذا هو أدونيس يعتبر هدم كل ما يعيق حرية الإنسان واجبًا على المبدع!! ويذكر من ذلك الشريعة والمجتمع بل يذكر اسم اللَّه تعالى وتقدس، يقول:(لا يستطيع الإنسان، كما يرى جبران في "المجنون" وفي نتاجه كله، إن يصبح نفسه، إلّا إذا هدّم كل ما يعادي حريته الكاملة وتفتحه المليء، وما يقف حاجزًا دون طاقته الخلاقة، وتتجسد هذه القوة المعادية، كما يرى جبران، فيما يسميه "الشريعة" بتنويعاتها وأشكالها السلطوية الماورائية، والاجتماعية: اللَّه "بالمفهوم التقليدي"، الكاهن، الطاغية، الإقطاعي، الشرطي)

(1)

.

ثم يضيف بعد أن ذكر طريقته في هدم الشريعة: (وتكشف هذه الطريقة في رفض الشريعة عن براءة الإنسان المطلقة، وعن تجاوز إنسانيته لكل شريعة، فالإنسان قبل الشريعة، وهو الأصل. . . الشريعة في نظر جبران ترتبط دائمًا بمقتضيات المحافظة، وبما يغتصب السيادة الحقيقية، فالشريعة خداع واغتصاب، إنها مؤامرة الذين يريدون أن يظلوا أسيادًا على عبيد، أو أن يكونوا ساحقين، فالشريعة هي الإرهاب الإنساني بامتياز، بل إن المجتمع لا يكون طاغية، ولا يكون عدوًا للتقدم والحرية إلا بالشريعة واستنادًا إليها)

(2)

.

(1)

و

(2)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 181 - 182.

ص: 2009

على هذا الأصل الذي أسسه أدونيس، وتبعه من تبعه من المقلدين له اتجهت سهامهم نحو كل ما له صفة مؤسسة ثابتة، وخاصة ما كان ينبع من عقيدة الإسلام ويتفرغ من شريعته.

ولاشك أن الأخلاق من أعظم الأمور التي لها سلطة معنوية على النفوس تمنعها من التردي والفساد، كما أن رقابة المجتمع المسلم على سلوك الناس له تأثير وفاعلية؛ ولذلك يطالب الحداثيون بتحطيم سلطة الأخلاق وتهديم سور المجتمع، وإبادة ضوابط السلوك والآداب؛ لأنها تشكل سدًا أمام رغباتهم الضالة وشهواتهم الفاسدة، وتعيق تقدمهم وانتصارهم الذي يأملون.

وفي النص السابق من كلام أدونيس وجبران إشارة واضحة على تبنيهم رأي فرويد القائل بأن الدين والأخلاق والمجتمع عوامل كبت لابد من تخطيها وتجاوزها، وهذا يؤكد مقدار التبعية والمحاكاة في الأفكار والمشروعات التي يقدمها الحداثيون.

ومن هنا كانت أعمالهم وأقوالهم في شأن الأخلاق تستهدف هدم الأخلاق، وجحد وجودها واعتبارها نسبية اعتبارية ليست أصيلة ولا ثابتة، وتذم الأخلاق القوية والسلوكيات الفاضلة، وتعتبر الاستمساك بها علاقة تخلف وجمود، في الوقت الذي أغدقوا فيه مدائحهم على الأخلاق الرذيلة، ودعوا إليها واعترفوا بمقارفتهم لها مفاخرين!!.

وعودة إلى أدونيس وموقفه الحداثي التأصيلي الذي يرسمه لأتباعه في قضية الدين والأخلاق، يقول عن كتاب المجنون لجبران (قلت أن كتاب المجنون هدمي، وهو لذلك يضعنا في مناخ العدمية، نشعر أن الأخلاق والقيم الدينية تهدمت في العالم الذي يسكنه المجنون، لم تعد ثمة غاية ولا اتجاه، ولم يعد ثمة نور يضيء ولا طريق، بل لم يعد ثمة مكان. . . كل نقد جذري للدين والفلسفة والأخلاق يتضمن العدمية، ويؤدي إليها، وهذا ما عبر عنه نيتشه بعبارة "موت اللَّه" وقد رأينا أن جبران قتل اللَّه هو كذلك،

ص: 2010

على طريقته، حين قتل النظرة الدينية التقليدية إليه. . .)

(1)

.

تعالى اللَّه عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

وليس هناك أصرح من هذا القول الذي يفوه به هذا الباطني النجس فيما يتعلق بالدين وأصوله والأخلاق ومنزلتها، وما من شك أن حرب الأخلاق تعود إلى الفوضى، وأن الفوضى مقصد أساسي من مقاصد الحداثة، وقد أشرت في مواضع من هذا البحث إلى دعوتهم إلى الفوضى وتبنيهم لها باعتبارها أصلًا من أصولهم وغاية من غاياتهم.

ثم يشرح أدونيس خطة تهديم الأخلاق عند جبران، وجبران مجرد قناة يخوض فيها أدونيس إلى بالوعة الحداثة، يقول أدونيس: (ومن الواضح أن جبران لا يحلل تحليلًا فلسفيًا أو علميًا القيم التي يهدمها، وإنّما يعرضها بشكل يجعلها مشبوهة فمتهمة، فمرفوضة، إنه يحاول بتعبير آخر، أن يظهر خطأ التفسيرات التي تقدمها الأديان والأخلاق التقليدية للعالم والإنسان، فيما يدعو إلى محو المذهبية القيمية، ويؤكد على فاعلية الحياة والإنسان الذي يبتكر القيم الجديدة، الأخلاق التقليدية هي التي تعيش الخوف من اللَّه، وتنبع من هذا الخوف.

الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيش موت اللَّه، وتنبع من إله جديد، إنه إذن يهدم الأخلاق التي تضعف الإنسان وتستعبده ويبشر بالأخلاق التي تنميه وتحرره، إنه يهدم الأخلاق السلبية، الانفعالية التي تتقبل الراهن الموروث من القيم، ويبشر بالأخلاق الإيجابية الفعالة التي تخلق هي نفسها القيم، إنه يريد بالتالي أن يحل محل الفكر المأخوذ بأخلاق المستقبل محل الفكر المأخوذ بأخلاق الماضي؛ ولهذا فإن كتاب "المجنون" دعوة لقلب نظام القيم)

(2)

.

ثم يضيف واصفًا ما ترتب على هذه الخطة الثورية الانقلابية المضادة

(1)

المصدر السابق: ص 178.

(2)

المصدر السابق: ص 178 - 189.

ص: 2011

للقيم والأخلاق، ويجعل هذا المترتب على مستويات منها:(أن القيم القديمة تتخلخل وتنهار، يرافق ذلك ضعف في الدين والأخلاق. . . ويتميز المستوى الثالث بهيام فوضوي، يمتزج فيه ازدراء كل شيء بهدم كل شيء، أمّا المستوى الرابع فهو مستوى الكارثة، حيث يموت القديم، ويتحول الإنسان، أي يولد من جديد بهدي مبادئ جديدة، وحياة جديدة، العدمية إذن مرحلة انتقال)

(1)

.

هذا النص الأدونيسي يظهر الموقف الحداثي من الأخلاق ومن أساسها الديني.

وهو مليء بالتناقض والمغالطة، فهو يصف الأخلاق الجديدة التي تريد الملة الحداثية إيجادها مكان ما يسميه الأخلاق القديمة؛ يصفها بأنها الأخلاق الإيجابية الفعالة، وهو الذي سبق أن وصف بأن كل نقد جذري للدين والفلسفة والأخلاق يتضمن العدمية، ويؤدي إليها، وهو الذي قال بعد ذكره للأخلاق الحداثية الإيجابية -حسب زعمه- بأن هذه الأخلاق تتسم بالهيام الفوضوي، والهدم والعدمية!!.

فهو إمّا أن يكون في حالة تناقض بين وصف أخلاق الحداثة والعلمنة والإلحاد بالإيجابية ووصفها بالعدمية والفوضية، وإمَّا أنه يرى أن هذه العدمية والفوضوية هي الأخلاق الإيجابية التي يمتدحها ويشيد بها ويدعو إليها، والمتتبع لكلام أدونيس ومواقفه وجملة مبادئه يجد أن هذا الوجه الأخير هو المخصوص عند أدونيس بالإيجابية.

فهو في تأصيل الأصول من تلمود الحداثة، يبحث في زبالات الملاحدة القدامى مثل أبي بكر الرازي وابن الراوندي وأضرابهم ويأتي بكلامهم في جحد النبوة والوحي ويتهكم بالقرآن بل يجحد نزوله، ثم يورد مدح الوجودي الملحد "عبد الرحمن بدوي"

(2)

لصنوه الرازي الملحد الذي

(1)

المصدر السابق: 178 - 189.

(2)

عبد الرحمن بدوي، مصري وجودي الاعتقاد، يتبنى الإلحاد ويدافع عنه، ألف في ذلك =

ص: 2012

وصفه بأنه ينزع نزعة فكرية حرة، وأنه ينحو منحى تنويريًا

(1)

!!.

ثم يخلص أدونيس بعد ذلك إلى أن زنادقة الفلاسفة أصحاب عقل ونظر عميق وتأمل!! ومن ذلك جاء ردهم للوحي وجحدهم للنبوة، وهذا مديح يريد أن يستجلبه لنفسه ولزمرته، وبعد كل ذلك يقول:(من هنا لا يعود العقل مقياسًا للمعرفة وحسب، وإنّما يصبح كذلك مقياس الأخلاق، فالعقل هو مقياس التمييز بين الخير والشر. . . فالعقل أصل المعرفة والحرية أصل الأخلاق)

(2)

.

ولا يدري الناظر في هذا الكلام أي وجه للعقل والمعقول عند إنسان يرى أن القيم الجديدة والموصوفة بالإيجابية وهي الفوضوية والعديمة والهدم والتدمير، وهذه الأمور بطبيعتها مخالفة للعقل مناقضة له، وإلّا أصبحت القرود والأفاعي والعقارب والذباب أكثر عقلانية وأوسع إيجابية من الإنسان!!.

يقول أدونيس: (من المستحيل الدخول في العالم الآخر، الكامن وراء العالم الذي تثور عليه، دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع والنفي)

(3)

.

هذه الفوضى هي التي تعبر عنها إحدى الناقدات الحداثيات بقولها: (العلمنة أو الدنيوية. . . أي نزع التقديس والأسطرة عن سطح العالم والتاريخ. . . العلمنة هي إحدى مكتسبات الحداثة الثانية، والدينامية الهائلة للحداثة تكمن في أنه لا شيء مقدس بالنسبة لها، لا شيء محرم. . .، كل

= كتاب من تاريخ الإلحاد في الإسلام، احتفى فيه بالزنادقة والملاحدة، وأبرز شخصياتهم على اعتبار أنهم أهل تحرر وانطلاق، له جملة من المؤلفات يدور في مجملها على محور التغريب والمدافعة عن المستشرقين بشدة، والدعوة لإحياء تراث الفلاسفة مثل ابن سينا والفارابي والسهروردي المقتول، وترجمة الفلسفات الغربية وتسويقها. انظر: معهم حيث هم لسالم حميش: ص 120 - 139.

(1)

انظر: الثابت والمتحول 2 - تأصيل الأصول: ص 84 - 85.

(2)

المصدر السابق: ص 86.

(3)

زمن الشعر: ص 46.

ص: 2013

شيء مباح، لا شيء ينجو من دراسة العلم الذي اخترق سر الطبيعة. . . أصبح الإنسان مع نزع هالة التقديس والألوهة عن الكون ومدبره، أصبح يقع في مركز الكون، ويشكل مبدأ القيم والغايات، وعندئذٍ ترسخت الحركة الإنسانوية، توقف الإنسان عن الدوران حول المقدس، وحلت مشروعية إنسانية جديدة محل المشروعية الدينية السابقة، ونتج عن ذلك أخلاق جديدة وقوانين جديدة تنطبق على البشر دون استثناء ودون اعتبار اللون والعرق أو المذهب والدين)

(1)

.

إذن فتهديم القيم والأخلاق مطلب حداثي لا يختص به أدونيس دون غيره، ولا مذهب حداثي دون آخر، طالما أن الحداثة مبنية على مبدأ العلمنة الجاحدة لألوهية اللَّه تعالى كليًا أو جزئيًا، وطالما أن الحداثة والعلمانية تنادي بإيجاد قيم جديدة تقوم على الفوضى ونزع القداسة والاحترام عن كل شيء، وتنادي بأنه لا شيء محرم ولا شيء ممنوع، أي أنهم -في مجال الأخلاق- لا يمانعون تأصيلًا أو تطبيقًا من الزنى بالمحرمات ولا تعاطي المخدرات ولا ممارسة الظلم والفتك والخيانة، ولا مزاولة الكذب والغدر والسرقة والنشل واللوطية واحتراف الدعارة والعربدة وكل أنواع القذارات الخلقية؛ لأنه لا شيء محرم عند أهل الحداثة والعلمانية، حسب ما ورد في النص السابق، بل حسب ما صرحت به بعد ذلك في قولها:(كانت خطوة إخراج الجنس والجسد من ظلمات المحرم إلى علنية اللغة وعلنية الممارسة مفصلًا جوهريًا في سقوط المقدس)

(2)

.

ومثل ذلك قول ناقد حداثي: (النص الحديث أيًا كان جنسه أو نوعه، جسدي، فشاعريته هي شاعرية الرغبة والحاجة والشهوة والعطش إلى جسد الآخر، إنه تمتمات الجسد)

(3)

.

من هنا يُمكن فهم الشاعرية الحداثية!! وآفاق الحداثة!! وما يترتب

(1)

قضايا وشهادات 2/ 102، والقول لأنيسة الأمين.

(2)

المصدر السابق 2/ 105.

(3)

المصدر السابق 2/ 285. والقول لعبد الرزاف عيد.

ص: 2014

على ذلك من أخلاق بهيمية حيوانية، وسلوكيات شهوانية جنسية، وحتى في التعبيرات النقدية والشعرية البحتة لا يذرون التعبير الجنسي، فالشاعر يلد القصيدة، والمقطوعة الفلانية في طور المخاض، والمبدع بتزاوج مع بيئته ومجتمعه، والقصيدة الجنينية تصل إلى دور التكون، والولوج إلى رحم القصيدة، والشبق الإبداعي، والكلمة النطفة، وافتضاض النص، وغير ذلك من الألفاظ والعبارات ذات الدلالات الجسدية الشهوانية التي هي حاجتهم الملحة، ومشروعهم الأساسي، وطموحهم العالي، حسب ما عبر عنه أنسي الحاج في قوله: (والحاجة اليوم أراها إلى كتابة تمزق حجابها بعدما تمزق وجدانها، إلى كتابة تقول المحرم والممنوع والمخيف والمهول والرائع والمدهش والمذهل والساحر والرهيب، ولو لعنت ورجمت واضطهد أصحابها حتى الموت.

تقول البسيط والمرعب، القريب والأقصى، ضمن نظامها الخاص الذي هو حتمًا، مهما انحرفت، نظام الإغراء، أي الفتنة الإلهية.

الحاجة إلى كتابة الجري، عري الذات والفكر والدخيلاء، والحلم والكابوس والنظر والبصيرة والشوق والاستيهام والنوايا، عري المنطق، عري الاقتناع، أي الشك، عري الإيمان، عري المحاكمة الذاتية والموضوعية، عري الخطايا، عري الضعف والانحلال، عري الجنون، عري السقوط، عري الصلاة العارية والهرطقة العارية، والعربدة العارية)

(1)

.

ولم يتوقف الأمر بهم عند حد هذه العربدة العارية كمطلب أساسي من مطالبهم، بل تجاوزوا ذلك إلى حد اعتبروا فيها الإباحية الجنسية أساس كل تقدم وحرية!!، بل أساس الحضارة.

ها هو أنسي الحاج يقول: (العربي الذي يتكلم بسخرية عن حرية التصرف بالجسد ظنًا منه أن الخرية السياسية أهم، يقصد أن الحرية السياسية "محترمة" بينما الأولى مخجلة، فضلًا عن كونها "بدعة غربية".

(1)

مجلة الناقد، العدد 1 تموز 1988 م/ 1408 هـ: ص 7.

ص: 2015

الفصل بين الحريتين خرافة، استخفاف بجوهر الحرية، وهو أنها كل، وهو يتجاهل كون الحرية الشخصية، النفسية الحميمة، هي الأساس لكل حرية، وللحريات السياسية والاجتماعية)

(1)

.

منطوق هذا الكلام أنه لا يُمكن حصول التحرر السياسي والاجتماعي إلّا بالتحرر الجنسي، أي أنه لا يصبح الفرد أو المجتمع متصفًا بالحرية حتى يمارس الدعارة الجنسية كما يريد، حين تعاشر الزوجة على فراش زوجها من تريد، وحين يُلاط بالولد، ويُزنى بالبنت، وحين تقام بيوت الدعارة وبيوت الشذوذ الجنسي، حين تمارس العملية الجنسية على قارعة الطريق، بل حين يزني الرجل بأمه وأخته وابنته، هذه هي الحرية الجنسية التي يدعو إليها أنسي الحاج ويعتبرها أساس كل حرية.

وهي الدعوة نفسها التي فاه بها الداعر الحداثي الكبير نزار قباني في قوله: (الجنس هو صراعنا الأبدي، والكابوس الذي يفترسنا ليلًا ونهارًا، وإذا كنت تسألني عن حجم هذه المشكلة الجنسية فإنني أقول لك إنها بحجم جماجمنا تمامًا، بحيث لا يوجد تلفيف واحد من تلافيف النخاع العربي، غير مصاب بورم الجنس، أنا يائس من كل ثورية تجعل الجنس على هامش دعوتها، ويائس من كل نظام تقدمي، يترك جسد الإنسان العربي في بئر الكبت، ومضاجعة غلافات مجلات الجنس.

إن الأرض العربية حبلى بألوف المشاكل والعاهات التاريخية، لكن مشكلة الجنس هي رأس الأفعى، وما لم يقطع هذا الرأس فسيبقى جسد العربي، وفكره وسلوكه، وعلاقاته بالحياة والأشياء جسدًا متقيحًا ومتورمًا، وواقعًا تحت مورفين الرغبات والأحلام. . . إنني لا أؤمن أصلًا بإمكان قيام حضارة يكون فيها جسد الإنسان منفيًا عنها، فالشعوب التي يفترسها هاجس الجنس في صحوها ونومها لا يُمكن أن تكتب أو تفكر أو تقوم بأي إنجاز حضاري)

(2)

.

(1)

المصدر السابق، العدد 9 مارس 1989 م: ص 8.

(2)

أسئلة الشعر: ص 198 - 199.

ص: 2016

وهكذا نرى كيف يلخص نزار قباني قضية التقدم والحضارة في الجزء السفلي من الإنسان.

إن القضية الجنسية هي التي استنزفت حياته أكثر من ربع قرن، وهو ينظر إلى العالم من خلال ثقب صغير أحمر، حسب قول مؤلف كتاب أسئلة الشعر

(1)

في أسئلته التي وجهها إليه، وكانت من إجاباته ما سبق نقله، ومنها. قوله: (العالم العربي ثوب مليء بآلاف الثقوب، ولا أوافقك على أن مشكلة الجنس لدينا هي ثقب صغير لا يُمكن تفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية من خلاله، إنها كما قلت بحجم حياتنا وحجم أيامنا، وإذا كان فرويد النمساوي المتحضر قد فسر العالم كله تفسيرًا جنسيًا، وربط الإنسان والحضارة بشجرة الجنس، فماذا تنتظر من عربي مثلي أن يفعل؟!.

إنني أتطلع من حولي إلى المجتمع العربي، فأرى فكرة العيب والشرف والعرض تقيم حصارًا طرواديًا حول الجنس الثاني وتعزله عن ممارسة أي نشاط اقتصادي ذي قيمة.

إذًا فنظرتنا المتخلفة إلى الجنس هي وراء تخلفنا الاقتصادي ووراء انقسام المجتمع العربي جنسيًا إلى قارتين منفصلتين، وهذا ما يدفعني إلى اعتبار الجنس مشكلتنا الأساسية، ومتى وجدت هذه المشكلة حلولها، فإن بقية المشاكل ستحل نفسها بنفسها)

(2)

.

وللعاقل أن يتصور كيف يمكن أن تحل المشكلة مع اليهود جنسيًا، وكيف يُمكن أن تحل مشكلة الغذاء ومشكلة التسليح، ومشكلة الهيمنة الغربية، والنفوذ اليهودي، ومشكلة الردة العلمانية، وغير ذلك من مشكلات الأمة الإسلامية، كيف تحل جنسيًا حسب القول الداعر لنزار قباني؟!!.

لقد أفنى عمره في وصف الأعضاء الجنسية، والدغدغة الحسية للمراهقين والمراهقات، واستخدام المنبهات الجنسية الداعية إلى الإغراء

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 198، 199.

(2)

المصدر السابق: ص 199 - 200.

ص: 2017

والرذيلة، حتى لقد درس مؤلف كتاب "أسئلة الشعر" بعض قصائد قباني مقارنة مع صنوه سعيد عقل استبيانًا إحصائيًا، فخرج بهذه النتائج: (أثبت الأحصاء الذي أجريته لمفردات خمس قصائد لكل من الشاعرين "يقصد قباني وسعيد عقل":

أ- أن مفرداتهما تتشابه إلى درجة تدعو إلى الدهشة.

ب- أن ترداد المفردة على اختلاف اشتقاقها في القصيدة الواحدة عند نزار أكثر منها عند سعيد)

(1)

.

ويقول هذا الناقد بعد أن ذكر مجموعة ألفاظ ترد عند قباني وسعيد عقل، وأنها استحالت (في شعرهما إلى هرمونات أنثوية أدمنّا على تعاطيها، ودمى لغوية لا علاقة لها بالكون والحياة)

(2)

.

ثم يقول بعد أن وصف شاعرية نزار الجنسية: (إن اعتماد الشعر على المنبهات الحسية الحادة لا يشير إلى انعدام الذوق بقدر ما يشير إلى بدائيته وحاجته إلى التدريب)

(3)

.

ويقول: (إن ملاحظة سريعة لجدول الاستجابات الآتي تؤكد لنا أن جمهور سعيد يتألف من عينات بدائية الثقافة أو متخلفة عنها، ومن صغار السن والمراهقين)

(4)

.

وليس الأمر عند نزار قباني مجرد تنظر فرويدي جنسي، أو دعوة شهوانية مجردة، بل هي عنده ممارسة وعمل، فعندما سأله المؤلف المشار إليه قائلًا:(قبل أن يموت عمر بن أبي ربيعة أقسم أنه لم يحل تكته على حرام قط، هل هناك مثل هذه الغربة بين حياة نزار قباني وشعره؟)

(5)

.

(1)

المصدر السابق: ص 15.

(2)

المصدر السابق: ص 16.

(3)

المصدر السابق: ص 20.

(4)

المصدر السابق: ص 21.

(5)

المصدر السابق: ص 191.

ص: 2018

ويُمكن هنا ملاحظة السؤال وما يتضمنه من تحريض وانتقاد العفة عن ممارسة فاحشة الزنى، وكانت إجابة قباني على السؤال استجابة فكرية وعملية لهذا التحريض، حيث أجاب على السؤال قائلًا: (لو كان هذا التصريح الخنفشاري لعمر صحيحًا، لكانت شاعريته موضع شكل كبير، ولكان شعره مسلسلًا جيمس بونديًا كاذبًا، إنني أشك في الرواية والراوي، واعتبر هذه الوثيقة المزورة مؤامرة لفصل الشعر عن الشاعر.

بالنسبة لي لا انفصام بين التجربة والتعبير عنها، بين الفم والصوت، كل تفاصيل حياتي اليومية معجونة بالشعر. . . إن الشعر مشتبك بجزئيات حياتي اليومية، وبكل تفاصيلها الصغيرة، كما تشتبك كرة الصوف ببعضها في مخالب قطة المنزل، إن حياتي وشعري ملتحمان كما اللحم بالعظم، ولا يُمكن فصلهما إلّا بالموت، حياتي كلها مصورة ومفرغة في هذا الإناء هو شعري، إنني لم أترك تجربة واحدة من تجاربي، مهما كانت صغيرة، في العتمة. . . شعري هو صورتي الفوتوغرافية الرسمية الموزعة على كل المدن وكل المخافر، وهي التي تحمل علاماتي المميزة وخطوط بصماتي كل الأشياء التي اصطدمت بها عيني وأحاسيسي خلال رحيلي الطويل في قارات العالم تتحرك وتتنفس في قصائدي)

(1)

.

هذا الاعتراف الصريح الذي يؤكد فيه قباني أن شعره شعر الدعارة والجنس، والليالي الحمراء، والمغامرات النسوية والأعضاء الجنسية، هو شعر نابع عن تجربة وواقع معاش.

وكفى بهذا التنظير "القباني" والاعتراف الصريح شهادة على مقدار الانحلال الخلقي الذي انحدرت إليه الحداثة وغاصت في مستنقعه، إنها الكتابة والممارسة التخريبية القذرة التي يسعون في نشرها ونصرها، في مفاخرة متبجحة على نحو قول أنسي الحاج: (مهما سالم الكاتب التخريبي

(1)

المصدر السابق: ص 191 - 192.

ص: 2019

سيظل يصيب، ومهما أحب سيظل يشعل الحرائق، ومهما انحط خلقيًا سيظل أعلى من عصره)

(1)

.

ليس هناك تبجح أصرح من هذا، المنحط القذر والهابط النجس يرى أنه أعلى وأطهر وأفضل من المستقيمين الفضلاء النبلاء، ولا غرو فالمجنون يرى أنه أعقل من كل العقلاء، والزانية النجسة الخبيثة ترى أنها أفضل من العفيفات الطاهرات!!.

ومن النص السابق يُمكن تصور النفسية والعقلية التي يفكر بها أهل الملة الحداثية.

التخريب عندهم بناء، والإفساد لديهم هو عين الإصلاح، والانحطاط في عرفهم علو وارتفاع، والتبعية هي الاستقلال، والعبودية للغرب هي التحرر، وهكذا إلى آخر القائمة، التي توضح غاية الوضوح عنوان ومضمون الحداثة.

وفي إحدى المقالات عن الرواية العربية يتحدث عبد الرحمن منيف عن هموم الروائي العربي، ويعد منها "المحرمات" ومنها السياسة والعربي والجنس، ويدعو إلى تجاوزها لأنها حسب قوله:(مصالح أشخاص أو فئات أو طبقات قبل أن تكون ضرورة أو قداسة أو حاجة تعني الجماهير)

(2)

.

وفي الدراسة النقدية الدعائية التي أجراها إحسان عباس عن الشعر العربي المعاصر خصص فصلًا بعنوان "الموقف من الحب" بدأه بقوله: (نحن نعيش في عصر فرويد: جملة قد تحمل معاني عديدة وقد تكون فارغة من المعنى، ولكنها تشير إلى إنهيار الحواجز بين الحب والجنس)

(3)

.

ثم يذكر نزار قباني ويذكر نماذج من أقواله الجنسية وعباراته التي يكثر من تداولها.

(1)

مجلة الناقد، العدد العاشر إبريل 1989 م/ 1409 هـ: ص 11.

(2)

الناقد، العدد 18 ديسمبر 1989 م/ 1409 هـ: ص 14.

(3)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 135.

ص: 2020

وأنقل هنا مجموعة من إشارته حول ذلك، يقول بعد أن أورد أبياتًا قال عنها:(. . . أرى فيها لحظة كشف، لحظة إضاءة كان نزار يومئ إليها إيماء سريعًا من قبل. . .)

(1)

.

ويقول: (إنه اتخذ الجنس مسكنًا، وأصبح الحب كله متشابهًا. . . على ضوء هذا الفهم يستطيع القارئ أن يقرأ قصائده "مصلوبة النهدين" و"طائشة الظفائر" و"همجية الشفتين" وغيرها مما يجرى هذا المجرى ليكتشف أن خوف الشاعر من ضياع الحيوية الشعرية -لا من ضياع العفة والفضيلة- هو الذي يحدد للحب "ومن ثم للجنس" أبعاده وقيمه، فنزار إذن لم يتحدث عن الحب، بمعناه العاطفي الذي يظنه الكثيرون، إنّما تحدث عنه بمعنى جديد حين جعله طرفًا في قوتي صراع كبيرتين)

(2)

.

ورغم هذه الصيغة التبريرية لم يستطع إحسان عباس أن يتجاوز ما لا يستطيع تجاوزه في وصفه لقباني وأقواله، كما في ثنايا قوله السابق، وكما. في قوله الأشبه بالدعاء:(يُمكن أن نسمى نزار شاعر المرأة؛ لأنه ينصفها؛ لأنه -وهو يحاول أن ينصفها- يرى فيها محض امرأة، لا فنانة شاعرة، ذلك لأنها في أقصى حالات الشاعرية تتمنى الفناء -حبًا وجنسًا- في الرجل)

(3)

.

وهذا كذب على قباني ومخالف لحقيقة أقواله وأفعاله التي سبق ذكر شيء منها، فهو لا يرى المرأة إلّا جسدًا ومتعة ومستودعًا للشهوات والنزوات، ومختبرًا لمغامرات أهل العهر والدعارة والزنى فأي إنصاف للمرأة في هذا؟.

أليس هو القائل:

(تعبت من السفر الطويل حقائبي

وتعبت من خيلي ومن غزواتي

لم يبق نهد أسود أو أبيض

إلّا زرعت بأرضه راياتي

(1)

المصدر السابق: ص 136.

(2)

المصدر السابق: ص 136 - 137.

(3)

المصدر السابق: ص 138.

ص: 2021

لم تبق زاوية بجسم جميلة

إلّا ومرت فوقها عرباتي

فصلت من جلد النساء عباءة

وبنيت أهرامًا من الحلمات

وكتبت شعرًا لا يشابه سحره

إلّا كلام اللَّه في التوراة)

(1)

وهو القائل عن المرأة:

(بدراهمي، لا بالحديث الناعم

حطمت عزتك المنيعة كلها بدراهمي

ربما حملتُ من النفائس والحرير الحالم

فأطعتني وتبعتني

كالقطة العمياء، مؤمنة بكل مزاعمي

فإذا بصدرك، ذلك المغرور، ضمن غنائمي

أين اعتدادك؟ أنت أطوع في يدي من خاتمي

قد كان ثغرك مرة ربي، فأصبح خادمي

آمنت بالحسن الأجير وطأته بدراهمي

وركلته وذللته، بدُمًى بأطواقٍ كوهم الواهم)

(2)

.

وله مقطوعة طويلة يبرر فيها لإحدى عشيقاته -بعد أن فرغ منها جنسيًا- تنقلاته بين داعرة وأخرى، جاعلًا المرأة مجرد متاع ونشوة وجنس

(3)

.

ويخاطب أخرى قائلًا:

(كان عندي قبلك قبيلة من النساء

انتقي منها ما أريد، وأعتق ما أريد

(1)

الأعمال الشعرية 1/ 464 - 465.

(2)

المصدر السابق 1/ 346 - 347.

(3)

انظر: المصدر السابق 2/ 106 - 108.

ص: 2022

كانت خيمتي بستانًا من الكحل والأساور

وضميري مقبرة للأثداء المطعونة

كنت أتصرف بنذالة ثري شرقي

وأمارس الحب، بعقلية رئيس عصابة

وحين ضربني حبك على غير انتظار

شبت النيران في خيمتي

وسقطت جميع أظافري

وأطلقت سراح محظياتي

واكتشفت وجه اللَّه)

(1)

.

فهذه مكانة المرأة عند نزار، وهذه نظرته إليها، بل هذا جزء يسير من كلام كثير مليء بالاستخفات والتدنيس للمرأة، ومع ذلك يسمونه شاعر المرأة، ويقول إحسان عباس بأنه أنصف المرأة!!.

ويُمكن أن يلاحظ أنه في استخفافه وإهانته للمرأة بجعلها مجرد ساحة لغزواته الجنسية، يمزج ذلك بالاستخفاف باللَّه تعالى كما في المقطوعتين السابقين، وهذا آت من مقصد خبيث ومن عقيدة نجسة، تتجلى في أن قباني لشدة عداوته للَّه تعالى وبغضه لدينه وشريعته، لايدع فرصة إلّا ولج منها إلى تنفيس هذه الضغائن الجاهلية، كما أنه في طرحه الدنس لقضية المرأة يواجه وضعًا اجتماعيًا فيه بعض الاحترام والتقدير للمرأة، وذلك من آثار الدين القويم في النفوس، ولذلك توجه قباني إلى أصل الدين بالاستخفاف والتدنيس والسخرية ليحطم البقية الباقية في أفئدة الذين يتلقون كلامه، ويقرأون كتبه، أو على الأقل يخفف من نفوسهم الإجلال والتقدير الواجب للَّه تعالى، فإذا حصل على هذا أمكنه أن يمارس امتهانه للمرأة على أي طريقة شاء.

(1)

المصدر السابق 2/ 504 - 505.

ص: 2023

ثم سيجد بعد ذلك من الكذابين المنافقين من يقول بأن نزار شاعر المرأة، وأنه احترم المرأة وأنصفها وأقام لها ميزانًا في الحياة!!.

بيد أنه لا يصح أن نستبعد من كلام إحسان عباس ما قاله عن قباني وشعره بأنه (فيه أصابع ثقافية فرويدية واضحة)

(1)

، وأنه يعيش الصراع بين الحب وعقدة أوديب

(2)

، وأنه يحاول وصف توق المرأة الممض إلى حرية الحب وحرية الجنس، وخوفها من أن تصل إلى مرحلة يكف فيها الجسد عن الاعتزاز بثماره

(3)

.

وهي شهادة يطلقها هذا الناقد تناقض قوله السابق عن إنصاف قباني للمرأة، وشهادة تدل على مقدار الانحراف الخلقي عند الحداثيين شعراء ونقادًا، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك ما سبق نقله عن قباني أنه لم يكتب قصيدة إلّا ولها رصيد من ممارسة واقعية.

وعندما سئلت نازك الملائكة: (ماذا تقولين إذن في شعر نزار قباني وهو شاعر لا يهتم بالأخلاق مطلقًا لا بل إنه يهاجمها ويسخر منها. . .؟)

(4)

.

أجابت، وكان من إجابتها قولها:(. . . كنت دائمًا أنفر من الوشاح الجنسي الذي يلف كثيرًا من قصائده. . . الأقسام الأخيرة من كتبه فيها يلوح الشاعر وكأنه شرير قاس ممتليء قصائده بالبثور المشوهة، وهذا الشعر لا فن فيه، ولا يشف عن شيء، وتولد القصائد مقتولة)

(5)

.

غير أنه ينبغي التنبه إلى أن هذا المواقف الناقدة لنزار لا تعني أن الحداثة قد برئت من الدعوة إلى الانحطاط الأخلاقي أو أن الحيوانية الجنسية والدعارة الشهوانية خاصة بنزار قباني، نعم هو من أكثرهم غرقًا في هذا

(1)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 138.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 139.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 140.

(4)

و

(5)

قضايا الشعر الحديث: ص 209.

ص: 2024

الوحل، ولكن لكل واحد منهم نصيبه من هذا الوحل.

لاسيما أنهم يكادون يتفقون على أن الدين والأخلاق من العوائق التي يرون وجوب القضاء عليها، على نحو مما قاله الطاهر بن جلون في رواية ليلة القدر على لسان إحدى الشخصيات:(كنت أصارع الشعور بالذنب، والدين، والأخلاق، والأشياء التي كانت تهدد بالظهور ثانية، كما لو أنها تروم توريطي، تلطيخي، خيانتي، وتدمير القلة القليلة التي كنت أحاول الحفاظ عليها من كياني)

(1)

.

ويلخص علاء حامد موقف الحداثة من الأخلاق وأسسها الدينية في قوله: (إن نهاية مطاف الأديان لو دققنا العقل فى مغزاها ومضمونها نجد أنها تعريف للإنسان بمضمون الخطأ والصواب، هذا المضمون الذي يمر بمرحلة احتضار بعد أن هجرت القوانين الوضعية والعرف السائد أغلب ما فيه من أحكام، وبعد أن طرحت أرضًا كثيرًا من المسلمات الدينية التي استحوذت على العقل فترة ليست بالقصيرة، واستطاعت أن تدفن تحت أرضها في عصور الظلام بسطوة وقوة الداعين لها، نور العقل وضياء المنطق وومضه العلم، لم يعد ملائمًا العودة إلى هذا المضمون أو الدعوة إلى الارتماء في أحضانه، مثل هذه الدعوة إذا لم يواكبها فكر مستنير)

(2)

.

فهم يرون أن مفهوم الصواب والخطاء قد انقرض، وأن قضية الخير والشر قد انتهت، وعلى ذلك يُمكن عمل أي شيء في مجال الأخلاق، والتصرف بأي شيء في مجال السلوك، وبعد ذلك لم يعد لهؤلاء من قضية يدافعون عنها إلّا قضية الانحلال وتمجيد الرذائل، والدعوة إلى الشذوذ والشهوة، والحيوانية المطلقة من كل ضابط.

فعلاء حامد صاحب النص السابق يحارب فكرة الزواج والارتباط بين

(1)

ليلة القدر: ص 64.

(2)

مسافة في عقل رجل: ص 158.

ص: 2025

الرجل والمرأة برباط النكاح، داعيًا إلى حرية اختيار المرأة من تريد بأي شكل تريد

(1)

.

وروائية حداثية تصف الشباب المتحضر -حسب رأيها- بأنهم (ما عادوا يتمنون الزواج باكرًا وما عادوا بذلك الكبت، يسافرون ويتعرفون ويصاحبون أجمل جميلات العالم، صغيرات في السن أقرب إلى القاصرات)

(2)

.

ثم تذكر قصة عن فتاة من صحراء الجزيرة العربية تترك العباءة وتتبرج وترتبط في علاقة جنسية مع مغني الروك الأوروبي وتتعرف على الرجال غير المختونين وتقول بأن جسمها هو مصب الشعور إلى آخر ما في أقوالها ووصفها من تحلل ودعوة ضمنية إلى السفاح والدعارة

(3)

.

ومن ضمن انحدارات الحداثة في قضية الأخلاق نجد أنهم لا يفتأون وهم يحاربون الأخلاق الإسلامية يشيدون ويمجدون الرذائل الخلقية، والتحليل الخلقي ويدعون إلى ذلك وينافحون عنه باعتباره قضية أصيلة من قضايا الحداثة، ولا تكاد تجد أحدًا منهم يتصف بالعفة في نظره أو علاقاته مع النساء، أمَّا الرذائل الخلقية الأخرى من سرقة وانتحال فيكفي في الدلالة على ذلك أنهم سرقوا وانتحلوا فكرة الحداثة بحروفها ومعانيها ثم زعموا أنها من تأليفهم وإبداعهم

(4)

.

إضافة إلى ما في هذه المسروقات من ضلالات وكفريات وشكوك

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 187.

(2)

مسك الغزال لخان الشيخ: ص 94.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 105 - 109.

(4)

يُمكن أن يذكر في هذا الصدد انتحالات أدونيس كما ذكرها مؤلفوا الحداثة مثل كتاب "أدونيس منتحلًا" وكتاب "أفق الحداثة وحداثة النمط"، وانتحالات وسرقات غيره مثلما ذكر حامد أبو أحمد في نقد الحداثة، وما ذكره الأستاذ أحمد الشيباني رحمه الله عن انتحالات عبد اللَّه الغذامي في كتابه "الخطيئة والتكفير"، وقد نشر ذلك في ملحق الأربعاء التابع لجريدة المدينة.

ص: 2026

وجاهليات تدل على بغضهم للحق ومحبتهم للباطل، وكفى بهذا الخلق ذمًا وإثما، فإذا علم كم في عقائدهم وأعمالهم من خيانة للَّه ولرسوله وللمؤمنين وللأمة تبين مقدار استحكام الشر في قلوبهم، يقول أدونيس في معرض تفاخرة واستعلائه على اتباعه:

(وأنا ذلك الإله

الإله الذي سيبارك أرض الجريمة

إني خائن أبيع حياتي

للطريق الرجيمة

إنني سيد الخيانة)

(1)

.

ويقول شارحًا أسس أخلاقه الحداثية:

(جئتكم فلبست الجريمة

وحملت إليكم رياح الجنون)

(2)

.

ويتطاول في فحولة جنسية موجهة إلى أتباعه ومحببه والمدافعين عنه فيقول:

(أبحث عما يعطي للكلمة عضوًا جنسيًا، وعما يثقب السماء)

(3)

.

وإذا أزحنا العبارة الأخيرة التي يدنس فيها السماء لخبث إلحادي مستبطن في قلبه، وقلنا للمحاكين له والمناضلين عنه والذائبين في حبه أو حب شعره ها هو مقداركم عند أدونيس، بل ها هي نظرته إليكم!!، ولست أدري على الخصوص ماذا ستقول مؤلفة الكتاب التبجيلي "مسار التحولات قراءة في شعر أدونيس"؟، خاصة وهو القائل عن المرأة:

(ثقب في جيبي اهترأ العالم، حواء حامل في سراويلي

(1)

الأعمال الشعرية 1/ 343 - 344.

(2)

المصدر السابق 1/ 351.

(3)

المصدر السابق 1/ 384.

ص: 2027

أمشي على جليد ملذاتي، أمشي بين المحير والمعجز أمشي في وردة)

(1)

.

ومن دعواته إلى الرذيلة والتحلل الخلقي قوله:

(خذيني إليك

يا بيت الفتنة، وبيت الرغبة، وبيت النشوة

ناغيني بغيبك

ادمجيني فيك، أدرجيني معك)

(2)

.

ومن عقيدته الفرويدية قوله:

(نجمّل قشرة الأرض

نجنسن الكون)

(3)

.

وقوله:

(حيث أعلّم حياتي أن تكون طريقًا واحدًا: الجسد. . .)

(4)

.

ومن جراء عقيدته الإباحية، تجده يستشهد بكلام سلفه الزنديق الشلمغاني فيقول في إحدى المقاطع:

(ويقول الشلمغاني:

اتركوا الصلاة والصيام وبقية العبادات

لا تناكحوا بعقد

أبيحوا الفروج

(1)

المصدر السابق 2/ 276.

(2)

المصدر السابق 2/ 376 - 377.

(3)

المصدر السابق 2/ 379.

(4)

المصدر السابق 2/ 380.

ص: 2028

للإنسان أن يجامع من يشاء)

(1)

.

ويعود ويستند إلى خلفيته الباطنية فينادي القرمطي قائلًا:

(استغونا أيها السيد استدرجنا

قل لنا من كذب ومخرق

مَنِ البلية

من خدع الجسد بنواميسه؟

استغونا استدرجنا

نتوافق نتناصر

ننصب الدعوة

وندخل في تميمة الإباحية

رقعة من شمس البهلول -

يبيح الأموال والفروج

يجمع النساء ويخلطهن بالرجال

حتى يتراكبوا، هذا من صحة

الود والإلف اطفئوا المصابيح

تناهبوا النساء اطفئن المصابيح

تناهبن الرجال)

(2)

.

واضح أن هذه النصوص صريحة الدلالة على التوجه الأخلاقي الإباحي، بحيث لا تحتاج إلى تعليق أو توضيح.

(1)

المصدر السابق 2/ 548.

(2)

المصدر السابق 2/ 565 - 566.

ص: 2029

وفي المقطع نفسه يستعير الخطاب القرمطي وينادي النساء، بالنداء الباطني نفسه فيقول:

(اعصرن يا نساء السواد شقاءكن لينهمر عنبًا وحنطة وتمرًا

املأن القرى بمزق التيجان والعروش

انكسرن مرايا مرايا وادخلن في النثار وليكن ذلك احتفاء بزواج آخر

ثقبن الآفاق بأظافركن ولتكن صدوركن حلبات

ولتكن حناجركن مزامير للمعسكرات ودنانًا للعطشى

وفي الليل، حين يطرح التعب مهاميزه

قلن لأجسادكن أن تنتج على أجسادنا دراريع ديباج

وغلائل حرير

ليزدهر أيضًا وأيضًا خشخاش الشهود

لتتوهج أيضًا وأيضًا قوس الموت

نعقد حلفًا مع الصعاليك

ننشيء سلطة الرغبات)

(1)

.

ويعترف بالرذيلة واللواطة قائلًا:

(1930

(2)

الشمس قدم طفل

(3)

عرفت أقل من امرأة

لأنني تزوجت بأكثر من امرأة

(- عرفت أقل من رجل

(1)

المصدر السابق 2/ 569 - 570.

(2)

و

(3)

هكذا في كتابه، وهي من الإبداعات الحداثية التي لا يفهمها إلّا سدنة الحداثة، وكهنة الباطنية!!.

ص: 2030

لأنني تزوجت بأكثر من رجل)

أعلّنا:

الزواج غبار)

(1)

.

وهذه الإعلان الشيوعي الإباحي، يتوافق مع عقيدته الإلحادية، والتحرر الذي يدعو إليه، والذي -من خلاله- نظر إلى جبران خليل جبران كأحد المبدعين، وطليعة من طلائع الحداثة، يقول أدونيس في الثابت والمتحول (ولعل التحرر كما ينظر إليه جبران يتمثل أكثر ما يتمثل في التحرر الجنسي، وفي آرائه حول هذه المسألة ما يتيح لنا أن نقول إن جبران من رواد الثورة الجنسية المعاصرة.

يعتبر جبران أنه مدين بكل شيء "بكل ما هو أنا" كما يعبر، للمرأة، فهي فاتحة النوافذ في بصره، والأبواب في روحه، وهو يرى أن الجنس طاقة خلاقة، وأنه موجود في كل شيء في الروح كما في الجسد، ويتنبأ بأن آفاق الحرية الجنسية ستتسع بحيث سيجيء يوم تترك فيه العلاقة بين الرجال والنساء حرة فعلًا، ويكون بوسع الرجل فيه أن يقول للمرأة هل لك أن تعرفيني جنسيًا لمدة ثلاث ساعات ومن بعدها لا يتعرف واحدنا على الآخر من جديد؟، ثم له أن يقدم لها لقاء ذلك ما تريد كما يقدم لقاء الأشياء الأخرى، ومن أجل تعميق هذه العلاقة الحرة بين الرجل والمرأة، يقف جبران ضد الزواج، فعلاقة الزواج ليست خلاقة إلّا في حالات استثنائية نادرة)

(2)

.

ويُمكن لمن أراد تفصيلات حياة جبران في هذه القضية أن يعود إلى كتاب أضواء جديدة على جبران لتوفيق صائغ

(3)

.

وفي كتاب أحاديث عن جبران ذكر أحدهم أن مشاهير "نساء جبران"

(1)

المصدر السابق 2/ 662.

(2)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 188.

(3)

انظر: أضواء جديدة على جبران: ص 23 - 46، 105 - 114، 117 - 136.

ص: 2031

ثماني عشرة امرأة وذكر أسماءهن

(1)

، ولما سئل لماذا في نظرك لم يتزوج جبران أجاب اليس بالضرورة أن يتزوج كل رجل وأين الغرابة إذا ظل جبران في عداد العازبين ورافقت حياته علائق نسائية متعددة سواء أكانت هذه العلائق إعجابًا متبادلًا فقط، أم كان في بعضها علائق جسدية.

ثم إن جبران أوضح رأيه في الزواج مرتين منفصلتين وبفكرتين مختلفتين:

مرة لما سألته شقيقته مريانا لماذا لا يتزوج أجابها: ما دمت أستطيع أن أُفْرح عددًا من النساء فلماذا تريدينني أن أفرح امرأة واحدة. . .)

(2)

.

ثم يطرح المؤلف سؤالًا عن الشذوذ الجنسي عند جبران، حسب ما يشاع عنه

(3)

.

وحسبك من مذهب وعقيدة هؤلاء هم روادها ودعاتها، بكل ما فيهم من انحرافات وضلالات وخبث، يبغضون الطيب الذي فطر الإنسان عليه وهو النكاح، ويحبون الخبيث النجس المحرم وهو السفاح، ويدعون إليه ويمارسونه في حياتهم، بل يدعون إلى الإباحية المطلقة.

جاء في مجلة الدستور تحت عنوان "أسرار نجيب محفوظ في رسائله الخاصة" تفاصيل رسالته التي أرسلها إلى صديقه الدكتور أدهم رجب، والتي لما نشرت أثارت غضب نجيب محفوظ، لما فيها من كشف عن شخصيته وحياته الخاصة ونزواته وتأثير عالم الحشيش والحشاشين في أدبه.

يقول نجيب في هذه الرسالة: (. . . عرفت في هذا الصيف أديبًا شابًا موهوبًا ولطيفًا معًا، ولهذا الأديب عوامة، نقضي فيها نصف الليل الأول ما بين الحشيش والأوانس، وانقلب أخوك شيئًا آخر -لمدة الإجازة فقط طبعًا- بل علمني البوكر سامحه اللَّه، فغدوت مقامرًا، وليس بيني وبين دكتور

(1)

انظر: أحاديث عن جبران: ص 75 - 76.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 77.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 108.

ص: 2032

الأمراض التناسلية إلّا خطوة، فانظر كيف يتدهور الأديب على آخر الزمن، وقد وفيت أخبار السياسة حقها لعنها اللَّه وكلامك فيها يقع من نفسي موقع الحق والهوى معًا. . . تصور أنه انفجرت من أسبوعين قنبلة في شارعنا، وعلى بعد عشرين مترًا من بيتنا، وكان من نتائج ذلك أن بطلت حفظ الحشيش في البيت استعدادًا للتفتيش. . .)

(1)

.

وإذا أردنا المزيد فلناخذ دراسة باروت عن ديوان "لن" لأنسي الحاج وفيها بيان لبعض أنواع الانحطاط الخلقي والفساد والرذائل، يقول باروت:(إن "لن" لأنسي الحاج. . . كتابة فضائحية، لقد كان ممكنًا لأنسي الحاج أن يسمي قصيدته "فقاعة الأصل" بـ "الاستمناء" لكأن فضائحية ذلك تذكرنا بعنوان "السحاقيات" العنوان الأصلي الذي وضعه "بودلير" لـ "أزهار الشر" فلقد أراد أنسي الحاج في "لن" أن يكون شاعرًا مارقًا ملعونًا منحطًا، أن يستوحي تلك الأخلاقية المخيفة عند "بودلير" و"الشعراء الملعونين" و"المنحطين" وأن يبحث عن الشعر في هول العيب، إذ أن توق أنسي الحاج ينصب على تحقيق "لذة اللعنة" ففي "فقاعة الأصل" أو "القصيدة المارقة" كما يسميها أنسي، يشخص فقاعات الأستمنائي "شارلوت" حيث يتبحر الملعون الخليقة، وهو يستمني، ويصل إلى لذة لعنته بالتحلل من القيم والمروق عليها)

(2)

.

ثم يورد باروت مقاطع من ديوان "لن" مليئة بالقذارة حيث يصف أنسي الحاج عملية الاستمناء، ثم يقول باروت: (بل إن الانتهاك الفضائحي لـ "الملعون يصل إلى درجة انتهاك الخطاب الوطني في مرحلة اتساع الدور الاجتماعي والسياسي لهذا الخطاب، واستقطابه قوى اجتماعية واسعة، ففي "نشيد البلاد" يجابه أنسي لذة "الخيانة" بعد أن جابه في "شارلوت" لذة "اللعنة" وهما في الآن ذاته لذة المروق والكشف عن انحطاط القيم وتفككها وتحللها:

(1)

مجلة الدستور تاريخ 21/ 8/ 1989 م/ 1410 هـ: ص 47 - 48. وانظر: أدب نجيب محفوظ: ص 52.

(2)

الحداثة الأولى: ص 90.

ص: 2033

يا بلادي، في الموت إذا استرعيتك فلرحمك

أوسعه، أطرز ضفته بروثي، لأرفع علمك عضوي

أوهمك ذلك "مسيحي" أنام أشبعك بوهم عضوي

أنت، تصدقين وترتاح أعصابك، عضوي أنت

عضوي أنت؟

يا بلادي عضوي الليل، إنك تخذلين استهزائي

ماذا أعطيك؟

- خائن

(1)

من هنا فـ "الملعون" في شعر الحاج، هو إنسان قلق مجنون يائس، متمرد، فضائحي منحط، معزول، مارق، لا قيمي، ومريض كبير، إن الأطروحة الجمالية الكبرى في "لن" هي التفكك الروحي والقيمي والجسدي لـ "الفرد" من كونه ملعونًا، أي ما يسميه أنسي بتشرش السرطان في الروح والجسد وفي العالم أيضًا، ولم ير أنسي في زمنه إلّا "زمن السرطان" الذي يعيش فيه تفككه الروحي "الأزلي" ومجابهته العبثية للمستحيل، وفي هذا التفكك يعيش أنسي إشكالية في لعنة الجماعة له، واشمئزازه منها، ويقود اللعنة إلى أقصاها. . . وبذلك يندرج "لن" في انتهاك كل مقدس، إذ أن "لن" هو الرفض المارق، اللاعن الملعون، لكل ما هو سائد. . .)

(2)

.

هذه الاعترافات الإبداعية!! والنقدية تمكن أي دارس لهذا التيار أن يطلع على حجم القذارة الخلقية، والإنحطاط الخلقي والسلوكي، المبرر لها تحت لافتات الإبداع والحرية!! والمسوغة بالأساليب الدراسية، والمسوقة بالدراسات النقدية.

(1)

هذه الكلمات أوردها باروت من ديوان "لن" لأنسي الحاج.

(2)

الحداثة الأولى: ص 90 - 91.

ص: 2034

يقول أدونيس في رسالة إلى يوسف الخال: (ربما يكمن جديد مجموعتك في نظرتك للمرأة، نحن هنا نقرع أبوابًا توصلنا إلى الحياة والعيش في مدينة الجنس، أو قل مدينة الجسد، لهذه المدينة حضورها ولها محاريبها والبخور، المرأة هنا تنصهر في لهيب من الميتافيزياء الشعرية، تذوب في رؤيا الشاعر. . . إنّما هي جنس وميتافيزياء، جسد أبدي الحضور ساحر وأخاذ)

(1)

.

فهذه هي موازينهم ونظرتهم إلى المرأة، ومع ذلك لا يخجلون من التبجح الكاذب بأنهم يكرمون المرأة!!، فيا له من إكرام يقوم على اعتبارها مجرد جنس وجسد، ومستودع نزوة وشهوة!!.

ويشرح إحسان عباس موقف صلاح عبد الصبور من المرأة فيقول عنه بأنه (يشترك مع نزار في الوقوف عند المظاهر الحسية من عالم المرأة)

(2)

.

ثم يورد جملة من الكلمات والمقاطع الجنسية له ويعلق قائلًا: (في القديم كان الحب يخضع للترتيب والحسبان، كانوا يقولون نظرة فابتسامة فسلام. . . الخ، أمّا اليوم فإن العاشق العصري قد يلتقي بمحبوبته "من قبل أن يبتسما" وقد يذوق العاشقان مايذوقانه قبل أن يشتهياه، فالحب لحظة شبق تضيع قبل أن تتحدد أبعادها أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر، وهذا ما حدث للشاعر ذات يوم في فينا، ومع ذلك فإنه أحب تلك اللحظة، ووجد فيها انفراج حزنه المقيم، وحمد اللَّه "رغم نقمته على السماء" على ما قيض له من شعور ولو عابر بالحياة:

تبارك اللَّه الذي قد أبدعك

وأحمد اللَّه الذي ذات مساء

على جفوني وضعك

(3)

(1)

زمن الشعر: ص 233.

(2)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 141.

(3)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 214.

ص: 2035

وواضح أن الشاعر هنا يتحدث عن الحب وهو يعني الجنس. . .)

(1)

.

والمقطوعة التي يشير إليها إحسان عباس من ديوان صلاح عبد الصبور هي التي سماها في ديوانه "أغنية من فيينا"، ومنها قوله:

(كانت تنام في سريري، والصباح

منسكب كأنه وشاح

من رأسها لردفها

وقطرة من مطر الخريف

والنفس المستعجل الخفيف

يشهق في حلمتها

وقفت قربها، أحسها، أرقبها، أشمها

النبض نبض وثني

والروح روح صوفي سليب البدن

أقول، يا نفسي، رآك اللَّه عطشى حين بل غربتك

جائعة فقوتك

تائهة فمد خيط نجمة يضيء لك

يا جسمها الأبيض قل: أأنت صوت؟

فقد تحاورنا كثيرًا في المساء

يا جسمها الأبيض قل: أأنت خضرة منوره؟

يا كم تجولت سعيدًا في حدائقك

يا جسمها الأبيض قل: أأنت خمره؟

(1)

اتجاهات الشعر العربي: ص 143 - 144.

ص: 2036

فقد نهلت من حواف مرمرك

سقايتي عن المدام والحباب والزبد

يا جسمها الأبيض مثل خاطر الملائكة

تبارك اللَّه الذي قد أبدعك

وأحمد اللَّه الذي ذات مساء

على جفوني وضعك. . .

تشابكت أكفاء واعتنقت

أصابع اليدين

تعانقت شفاهنا، واقترفت

في قبلة بليلة منهومه)

(1)

.

هذا اعتراف صريح برذيلة الزنا وممارسة فاحشة باسم الحب، الذي تحول عندهم إلى مجرد مضاجعة شهوانية.

وعلى الرغم من وضوح المعنى في هذه المقطوعة بصورة قطعية، وإيضاح إحسان عباس لمضمونها الجنسي إلّا أن هناك من يتمحل الأعذار الباردة، ويحاول أن يؤول هذا الكلام تأويلًا تعسفيًا، وهو مع كل هذا التأول والتعسف لم ينف عن الشاعر الوقوع في الجريمة الأخلاقية، يقول مؤلف كتاب قضية الشعر الحديث بعد أن ذكر هذه المقطوعة: (إن المرأة التي يتحدث عنها الشاعر لم تكن مومسًا رخيصة تعطي جسدها لكل من يريده ويدفع الثمن، بل كانت امرأة عادية من نساء الغرب ذات كرامة وتهذيب، وهذه أيضًا حقيقة لن يسلم بها الذين لا يعرفون البيئة الغربية واختلاف تقاليدها ومقايسها الأخلاقية، فهم لا يستطيعون أن يصدقوا أن امرأة ليست من بائعات الهوى ولا من الساقطات المبتذلات ترضى بأن تحدث لها هذه

(1)

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 213 - 215.

ص: 2037

التجربة، والتجربة العابرة، مع رجل غريب عنها لم ترتبط به برابطة الزواج الشرعي، أمَّا الذين يعرفون اختلاف الأوضاع والقيم فسيدركون أن الشاعر لا يكذب ولا يبالغ حين يتأمل جسمها. . .

نعود إلى شكرانه اللَّه فنقول: لو كان ذلك الشكران قاصرًا على مجرد حاجة جسدية حققت عن طريق تعده تقاليدنا حرامًا لكان فيه من التجديف ومن المفارقة غير المقصودة مما تجده في كلام لص يشكر اللَّه أن مكنه من سرقة المنزل دون أن يقبض عليه، أو في دعاء لص يعتزم السرقة فيقول: ربنا يستر! أمّا هذا الشعر فهو أعلى كثيرًا من هذا المستوى؛ لأن النشوة لم تكن مجرد تلذذ حيواني. . .)

(1)

.

ويُمكن هنا ملاحظة التعسف والادعاء الكاذب، فهو يزعم أن المرأة ليست مومسًا، ولا دليل له على ذلك، بل المتبادر أن من تعرض نفسها على الراغبين هي من المومسات، ثم هو يزعم أنها امرأة ذات كرامة وتهذيب، بالمقاييس الغربية الجاهلية، ولم يذكر في كلامه قط أي مقياس شرعي لهذه الجريمة، بل قال بأن تقاليدنا تعد هذا الفعل حرامًا، وفي هذا دلالة انسلاخ عن الدين ومعاييره وأحكامه، بل تدنيس له وتهوين من شأنه حين عد تحريم الزنا من التقاليد.

أمَّا حديثه التبريري عن الأوضاع الاجتماعية والخلقية في الغرب، وحسبانه ذلك من المبررات التي تسوغ للشاعر أن يدخل تنور الزنى، دون أي اعتبار لدين أو خلق، فهذه التقاليد الجاهلية الغربية ليست مسوغًا إلّا إذا اعتبرنا أن شرب البول في الهند -مثلًا- مسوغًا لشاعر حداثي أن يمتدح ذلك ويعده من التقدم والحضارة، أو القتل والعدوان وعصابات الإجرام والمخدرات الشائعة في الغرب، مسوغًا للإبداع الحداثي أن يمتدح ويجرب مثل هذه الأمور!!.

لقد ترسخ عند أهل الحداثة أن الإبداع لا يأتي إلّا من خلال ممارسة،

(1)

قضية الشعر الجديد لمحمد التويهي: ص 156 - 157.

ص: 2038

فجربوا المخدرات والزنى والشذوذ وحكوا ذلك في كتبهم، ومن أجل ذلك تصدى الناقد محمد مندور لمواجهة هذا الفهم الحداثي القائم على شهوة تلبست بشبهة فقال:(والذي نلاحظ بوجه عام هو أن أدباءنا وخاصة شعراءنا المعاصرين قد فسروا عبارة التجربة البشرية بمعناها الضيق فقالوا إنها التجربة الشخصية التي يجب أن يصدر عنها الشاعر، وإلّا كان شعرًا كاذبًا، وبذلك أدخلوا على الأدب وبخاصة الشعر مقاييس الصدق والكذب، وفسروا الصدق بأنه ما كان صادرًا عن تجربة شخصية ومعاناة حقيقية للأديب أو الشاعر، وفسروا الكذب بالتصنع المفتعل الذي لا يستند إلى تجربة. . .)

(1)

.

(الوهم الخاطئ الذي يسيطر أحيانًا على بعض الأدباء الناشئين، فيدفعهم إلى الانحلال والعربدة والتسكع في الحياة بحجة اكتساب التجارب الشخصية التي يظنون أن لا غنى لهم عنها لكتابة الأدب أو قرض الشعر)

(2)

.

وإذا كان محمد مندور يتحدث عن بعض فئات الشباب في عصره فإن الحديث اليوم عن الحداثة يقتضي أن ننظر في حياتهم وشعرهم وتجاربهم بصورة أوسع، حسب ما في كتبهم من مجنون وخلاعة واعترافات بالفواحش والخبائث.

والذي يهمنا في كلام مندور أنه لاحظ هذه الظاهرة وسجلها في كتابه، وهو الذي لا يتهم من قبل الحداثيين، بل هو من طلائعهم الأوائل، ولذلك تحدث عن بعضٍ، أمَّا اليوم وقد سيطرت المفاهيم الإنحلالية وأصبح الأصل عندهم التحلل من القيم وأضحى ذلك لديهم من أهم المعالم الثقافية والأدبية والعملية، على غرار ما جاء فيما سبق نقله، وأمثاله من الأقوال التي تثبت أنهم جعلوا الإنحراف الخلقي أحد ثوابتهم، كما جعلوا هدم الفضيلة والطهارة والنقاء والخير أصلًا من أصولهم.

يقول أحد نقاد الحداثة: (. . . تظهر الحداثة سواء في الغرب أو في

(1)

الأدب ومذاهبه: ص 9 - 10.

(2)

المصدر السابق: ص 12.

ص: 2039

العالم الثالث، على أنها محل انبثاق عوامل القطيعة والحلول الوسطى، بجانب عوامل النظام وارتساء التقليد، فالحركية الملازمة لها على كل المستويات "الاجتماعية والمهنية والجغرافية والزواجية وفي الموضة والتحرر الجنسي. . . ليست الحداثة هي امتساخ كل القيم، بل إنها التفكيك العام لكل القيم القديمة دون تجاوزها، إنها التباس كل القيم تحت شعار نوع من الاختلاط المعمم، لن يعود هناك لا خير ولا شر، لكننا مع ذلك لم نعد خارج الخير والشر)

(1)

.

وها هو طليعة الحداثة والعلمانية "نجيب محفوظ" الحاصل على جائزة نوبل من اليهود بعد مسيرة طويلة من التشكيك في الدين والإفساد في الأخلاق، يقود عصابات الروائيين العرب إلى ذات المخاضة التي خاض فيها، يقول الدكتور السيد أحمد فرج في كتابه "أدب نجيب محفوظ": (كانت الرذيلة هي قاعدة أعمال نجيب محفوظ، أمَّا الفضيلة فهي استثناء، ومع هذا إن وجدت تكون من النوع السلبي الباهت، يصنع الكاتب كل ذلك عن إيمان به وقناعة وعمد وسبق إصرار، والدليل على أنه يبيت النية مسبقًا لصنع هذا المجتمع غير السوي أن شابًا سأله في ندوة مجلة الشباب: لماذا تركز في رواياتك على الشخصيات المنحرفة خاصة المرأة، ولماذا تركز على الانحرافات الجنسية فقال:"لا توجد رواية من رواياتي خالية من شخصية واحدة على الأقل"، سوية وفاضلة، إذن فالفضيلة عنده استثناء لا قاعدة، ومع هذا فإن الشخصيات التي يزعم أنها سوية وفاضلة، فهي في العادة شخصيات باهتة لا دور لها في رواياته غير الفرجة ومشاهدة الأحداث، أو أنه جاء بها ليدلل على أن المتدينين سلبيون لأنهم متدينون.

ويعلل الأديب الكبير اندفاعه الجارف إلى تصوير الانحراف -خاصة انحراف المرأة والتركيز على الانحرافات الجنسية حتى لتصل إلى ما يُمكن أن نطلق عليه البغاء الوحشي- بأن الانحراف هو ملهمه الأساسي للإبداع، يقول في ذلك: "لولا الانحراف لم أكن لأكتب، أو على الأقل فلكل كاتب

(1)

قضايا وشهادات 3/ 391 - 393.

ص: 2040

دواعي إلهام، والكاتب المهتم بمجتمعه تدفعه إلى الكتابة مواطن النقص الموجودة به في محاولة لعلاجها وأنا حينما اكتب عن الانحراف، فالجنس شيء ضخم جدًا في الحياة، بل هو الحياة ذاتها، ولكني حين أعالجه أفعل ذلك بجدية، وليس بالعبث أو بالإثارة"، وهو بطبيعة الحال لا يقول الحق، ولكن كيف يبرر إشاعة الفاحشة بين الناس، إنه يقنع عبد الدايم الموظف الصغير في "القاهرة الجديدة" بأنه يقبل أن يقاسمه الوزير في زوجته فيوافق، وفي "خان الخليلي" في بيت من البيوت يقدم رجل البيت الحشيش وتقدم زوجته الجنس للزائرين، والجو العام "لزقاق المدق" مليء بالجنس وكل أنواع الشذوذ ورائحة البغايا التي تفوح في "بداية ونهاية" وكذلك في "الثلاثية" ثم يأخذ الخط البياني في الارتفاع من رواية لأخرى حتى يصل الذروة في "الحب تحت المطر، ورحلة ابن فطومة" "والباقي من الزمن ساعة" وغيرها)

(1)

.

وقد ملأ الدكتور السيد أحمد فرج كتابه القيم بالشواهد الكثيرة والملخصات المهمة لانحرافات نجيب محفوظ. ولو أخذنا رواية "الخبز الحافي" كمثال من الأمثلة التي يُمكن الاستدلال بها على الإنحطاط الخلقي والإنحلال السلوكي، لوجدنا أن صاحبها قد ملأها بالاعترافات الشخصية المنحرفة من زنا ولواط وحشيش وتشرد وقوادة ونشل وغير ذلك، وكتب عنه أحد نقاد مجلة الناقد قائلًا: (هو حقًا كاتب رجيم يرجمه المتطهرون. . . يرجمه كل التقليديين والمتوائمين والحريصين على التزام المعايير والقوانيين والكوابت والكوابح والسير داخل الخطوط المحدودة الممهدة، والأنماط المعدة الجاهزة.

وهو جدير بأن يرجمه كل هؤلاء ومن إليهم، ذلك أن عالمه يقع بعيدًا جدًّا عن عوالمهم، بعيدًا جدًا لا إلى أعلى، ولا إلى يمين أو يسار، ولكن إلى أسفل، أصدق وصف أجده لشكري تمدني به العامية المصرية حين

(1)

أدب نجيب محفوظ: ص 53 - 54.

ص: 2041

تصف رجلًا بأنه "سفلي". . . محمد إذن - كاتب سفلي بهذا المعنى، فأهم ما في عالمه، وما يثير اللفظ حوله وحول أعماله، إنّما هو صادر عن أسفل المجتمع وأسفل الجسم معًا. . . في السيرة الروائية والرواية كلتيهما هذا الذي يصدم القارئ التقليدي الآمن: المشاهد الجنسية المكتوبة بالكلمات "ذوات الحروف الأربعة" بلا محاولة للتغطية أو التورية أو الرمز أو التلميح، الأعضاء تتسمى بأسمائها، والممارسات باسمائها، وكل خطر قد ارتفع، ولعل هذه المشاهد -بالذات- هي مصدر اللغط حول شكري وعمله، وهي ما تطرح السؤال الأساسي: هل يكتب محمد شكري أدبًا "بورنوغرافيا"

(1)

، أو أدبًا "أزرق" على غرار أفلام السينما الزرقاء؟. . .

ولأن الجنس هدفه اللذة -وليس الإنسان من أجل إعمار الكون! - فلا تسل عن الممارسة: سوية هي أم شاذة، والحقيقة أنه منذ انشغل الفتى "بعضوه وحده" وهو يمارس كافة الممارسات: مع النبات "المرأة - الشجرة" والحيوان، ومع ذات الجنس: يغري صبيًا صغيرًا ويغتصبه، ويسلم ذكورته لأجنبي "حساس" يلتقطه بسيارته من أحد شوارع المدينة. . .

أمَّا إذا خلا العالم من هذا كله -وهل يخلو؟ - بقي له الاستمناء أي تحول الذات إلى موضوع طلبًا للذة! إنه ينمو ويشب ويتفتح وعيه في عالم خلا من الكوابح والضوابط ومحددات السلوك. . . في طنجة

(2)

: ماذا يُمكنك أن تجد سوى المهربين والمجرمين والقوادين والبغايا واللصوص والشواذ وكل الخارجين على كل الأعراف والقوانين؟ خليط من نفايات الأجناس والجنسيات، تجذبهم إليها الميناء المفتوحة على البحر والمحيط، يتصارعون ويهربون ويقودون ويتقاتلون، ويدخلون السجون ويرحلون، وصاحبه "الخبز الحافي" ملقى في القاع، وعليه أن يشق لنفسه طريقًا وسط الشر بالشر: يتعارك ويسرق ويتسول ويطلب اللذة، يعرف الكيف والحشيش

(1)

بورنوغرافيا: مصطلح يعني أفلام وصور الجنس المكشوف.

(2)

هي المدينة التي جعلها محمد شكري محور روايته، حيث عاش وترعرع في محاضن الفساد والرذيلة والانحلال، حسب ما ذكر عن نفسه في هذه الرواية.

ص: 2042

وأقراص المعجون والخمر والمبغى، يبيت في الحدائق والأفران والسكك، في الحظيرة تبول فوقه فرس، ويتعرض -وهو اللص- للسرقة، وينام غير آمن من التعرض للاغتصاب. . .، وقد استطاع محمد شكري أن يرسم في "الخبز الحافي" صورة فنية منسقة لتكون وعي الصبي من خلال صدامه بعالم مدبب ذي أشواك وأنياب، عالم خارج عن الكتلة الرئيسية للمجتمع، واقف في مواجهتها، معادٍ لها، رافض لقوانينها وأعرافها ومواضعاتها وأنماط سلوكها، متخذ تجاهها سبل التسول منها أو سرقتها أو اغتصابها أو العدوان عليها، يستمد قوانينه من عالم المواخير والسجون وكل مؤسسات الخارجين على كل القوانين: المجرمين والشواذ والسكارى والبغايا واللصوص والمهربين. . .

إنه يلوك أفكارًا وجودية طوال الوقت، ولا يجد له ملاذًا إلّا في الجنس "الذي يمارسه في حفلات جماعية غالبًا" والمخدر، وهو قادر على استبطان رؤيته والتعبير عنها وهو تحت تأثير المخدر. . .، لقد رفض كل ما هو "طبيعي ومقدور" رفض أن يكون مثل هذا أو ذاك من عقلاء الناس، رفض الزواج والاستقرار والعمل، لكن المشكلة لا يقف عند حدود الرفض، بل يتجاوزها إلى ما يشبه كراهة الإنسان. . . من حيث هو كذلك. . . في لغة محمد شكري غنائية واضحة، خاصة حين يتوقف لينظر داخله، وهو تحت تأثير المخدر أو حرقة الشبق. . .)

(1)

.

هذا تلخيص مختصر لما في الرواية القذرة من مضامين، تعمدت أن أنقله من قلم كاتب حداثي ومجلة حداثية بدلًا من استخراج هذه المضامين من الرواية نفسها، حتى لا يقول قائل بأن هذا من التحامل أو تحميل الكلام ما لا يحتمل.

والعجيب في الأمر أن هذا الناقد الحداثي بعد أن ذكر كل هذه

(1)

مجلة الناقد، العدد الثالث عشر، يوليو 1989 م/ 1409 هـ: ص 66 - 70، والمقال لفاروق عبد القادر بعنوان محمد شكري هذا الكاتب الرجيم.

ص: 2043

القذارات الخلقية والسفلية السلوكية، يختم كلامه بالثناء على محمد شكري وعلى طريقته

(1)

، ويصفه بأنه يضع أسسًا أخلاقية مغايرة، وهو قول يدل على عمق السرطان الانحلالي في حياة وسلوك وأفكار هؤلاء الذين يفاخرون بالنجاسة، ويتمدحون بالنذالة، ويمجدون الخبث والقذارة والعفن، يقول هذا الناقد: (محمد شكري ظاهرة متفردة بين كتاب الأدب العربي المعاصر: يتفرد بتجربة حياته التي كان لها أكبر الأثر في طريقة تعبيره عنها، إنه لا يتعمد أن يقص بطريقة معينة لكنه يحاول أن ينقل لقارئيه الخبرات التي وشمت جسده وروحه، ولعله من قاع ما يبدو أنه "لا أخلاقي" يضع أسس

(2)

"أخلاقية" مغايرة)

(3)

.

لقد بلغ بهم التبجح بالرذيلة درجة لا تعقل ولا تستساغ، وإن قارئ هذه الرواية النجسة ليحس بتحول هذا الإنسان إلى حضيرة الحيوانية بل إلى أبشع من ذلك، ومع ذلك تجد المدائح والإطراءات، والتبريرات الهزيلة، والدفاع السخيف، والامتداح للرذيلة والسخف والفساد والهوان، ولنأخذ على ذلك مثالًا غير ما سبق، ففي كتاب "الكتابة خارج الأقواس" يخصص مؤلفه فصلًا بعنوان من "العبث إلى التمرد" يتحدث فيه عن محمد شكري وروايته "الخبز الحافي" وليس بالإمكان نقل كل ما في هذا الفصل ولكن أكتفي ببعض الشواهد.

يقول المؤلف: (. . . كانت رواية الكاتب المغربي محمد شكري "الخبز الحافي" حجرًا ألقاه في بحيرة النقد العربي الراكدة فراحت دوائره المتلاحقة المتوالية تنكسر الواحدة تلو الأخرى على شاطيء القارئ العربي، لا تمنحه إلّا فرصة مراقبتها وهي تركض نحو العدم، دون أن تمكنه من

(1)

ونحو هذا الصنيع ما كتبه الحداثي عبده وزان في مجلة الناقد، العدد التاسع، مارس 1989 م/ 1409 هـ: ص 61 - 63 تحت عنوان أول سيرة ذاتية عربية لا تهاب الجرأة الغامضة.

(2)

هكذا والصواب أسسًا.

(3)

مجلة الناقد، العدد الثالث عشر، يوليو 1989 م/ 1409 هـ: ص 70.

ص: 2044

إدراك محنة ذلك الحجر الذي أحدث كل هذه الدوائر.

ثم يتناول قضية كون هذه الرواية سيرة ذاتية -علمًا أن مؤلفها كتب تحت عنوانها عبارة "سيرة ذاتية روائية 1935 - 1956"

(1)

- وراح هذا المحامي الحداثي يتمحل في الكلام ويتقعر في العبارات حول واقعية أحداث هذه الرواية!! ثم ختم تقعره البنيوي الألسني بقوله: (من هنا لا يصبح معنى للتساؤل عما إذا كان هذا الحدث قد وقع أو أنه لم يقع، وتتساوى عندها فرضية الحدث أو احتماله بل استحالته كذلك، فالحقيقة الوحيدة في النص الإبداعي هي هذه الحقيقة اللغوية

(2)

. . .

لو فرضنا جدلًا أن هذه القصة تصويرًا لسيرة ذاتية للمؤلف فإن مجرد كتابتها انطلاقًا من بداية محدودة للوصول إلى نهاية محدودة معناه وضعها بين قوسين هما البداية والنهاية اللتان اختارهما لها المؤلف على نحو قاصد، ومن شأن هذين القوسين أن يفصلاها عن جملة التراكمات اليومية التي يحياها الإنسان. . .، ولعل مما زاد إغراء التساؤل عما إذا كانت هذه السيرة ذاتية للمؤلف تلك العبارة التي جاءت تذييلًا للعنوان وهي "سيرة ذاتية روائية 1935 - 1936"

(3)

فأحالتها إلى ما يشبه المذكرات والاعتراف بأحداث محددة في سنوات محددة عن عمر كاتبها، ومع ما في هذه العبارة من احتمال التضليل إلّا أن علينا أن ندرك محاولة المؤلف ربطها بنموذجية الضياع التي عاشها الجيل الذي ينتمي إليه، وكذلك محاولة غرسها في صميم وجدان المتلقي الذي يشاطره هموم المرحلة دون أن يعني هذا أنها صورة تسجيلية لواقع معين عاشه هو على نحو خاص. . .)

(4)

.

ماذا يريد أن يقول هذا المحامي الحداثي؟ إنه يحاول أن ينفي أن

(1)

انظر: الخبز الحافي: ص 5.

(2)

هذا وفق خرافة المذهب البنيوي والمنهج الألسني التي يتبنى الكاتب نشرها والدفاع عنها كعقيدة ومنهج.

(3)

الصواب 1935 - 1956 كما في الرواية: ص 5.

(4)

الكتابة خارج الأقواس لسعيد السريحي: ص 97 - 100.

ص: 2045

تكون هذه الرواية الجنسية الداعرة الواصفة حياة التشرد والضياع، صورة واقعية لحياة أحد زملائه أو أساتذته في الحداثة؛ لأن الرواية تحتوي الإدانة السلوكية الكاملة للحداثيين الذين امتدحوا أو دافعوا عن هذه الرواية أو عن صاحبها.

ومع ذلك لم يتوقف عند هذا الحد في نفي كونها سيرة ذاتية رغم كتابة مؤلفها ذلك تحت عنوانها، بل تجاوز ذلك إلى الفصل الأخلاقي المتعمد - على الطريقة العلمانية بين الأخلاق والنقد، ثم التبرير الهابط لاستخدام الجنس في هذه الرواية، يقول الكاتب المشار إليه:(ومن تلك الدوائر الراكضة نحو العدم والتي أحدثتها رواية محمد شكري عندما ألقى بها في بحيرة النقد العربي الراكدة تلك النظرة إليها على أنها من الأعمال الإباحية التي كتبت لدغدغة الغرائز والشهوات، وهو حكم جزئي، إن وجد لدى المربين والقائمين على أمور المجتمع ما يبرره فإنه لا يجد له ما يبرره عند النقاد، ذلك أنه حكم على صفحات أو أسطر محدودة من الرواية مبتورة عن سياقها الذي وردت فيه، وهو حكم ينطوي على تجاهل لذلك الجو المأساوي الكئيب الذي تم توظيف الجنس في ثناياه لكي يؤدي دورًا محددًا باعتباره فعالية من فعاليات النشاط الإنساني من ناحية، وباعتباره بعدًا رمزيًا يكشف من خلال توتر العلاقة بينه وبين الأبعاد الأخرى عن جملة من الحقائق الإنسانية من ناحية ثانية)

(1)

.

ويتمدد في عباراته الاعتذارية الممزوجة بالمدائح المبطنة للرواية وكاتبها على مدار مايزيد عن عشر صفحات، لا هدف لها إلّا نفي أن تكون الرواية سيرة ذاتية لمحمد شكري، ونفى أن تكون الرواية مجرد جنس وحشيش وخمر ولواط ونشل، ومحاولة إثبات أن لها أبعادًا إنسانية عميقة، ولها معايير خلقية حديثة تتفق والحياة خارج أقواس الضوابط الخلقية والسلوكية والدينية.

(1)

المصدر السابق: ص 100 - 101.

ص: 2046

ويكفي القارئ العاقل أن ينظر في الدفاع الواهي عن كون هذه الرواية سيرة شخصية لمحمد شكري، مع إصرار المؤلف أنها سيرة ذاتية، ليقيس على ذلك بقية المقال، الذي يوصل إلى قارئه صورة من صور التضليل والمخادعة الحداثية، والدفاع الباهت الهابط عن رواية قال عنها نقاد الحداثة بأنها رواية سفلية، جنسية، عبثية، كما سبق ذكره ونقله عن نقاد حداثيين.

وبعيدًا عن قول أي ناقد وتحليل أي كاتب، لا يُمكن لقارئ هذه الرواية، إذا كان ممن يحترم عقله وعلمه وثقافته إلّا أن يخرج بنتيجة واحدة مؤداها: أن هذه الرواية وصاحبها في أسفل دركات الانحطاط الخلقي وأردى درجات البهيمية الشهوانية.

وكما اتكأ أدونيس على خلفيته الباطنية وأخذ من الشلمغاني مضامينه الإباحية، نجد حسن حنفي، يتكي تنلى فلاسفة الصوفية ويثني عليهم لعدم تفريقهم بين النكاح والسفاح، والشذوذ الجنسي، يقول:(. . . والصوفي يتحدث بحرية تامة مع اللَّه، ويتكلم عن علاقته العشقية مع اللَّه وأنه لا فرق بين الذكر والأنثى، اللَّه يعامله جنسيًا وهو يعامل اللَّه جنسيًا، الشيخ الصوفي مع المريد والمريد مع الشيخ، ولا فرق بين الشذوذ الجنسي والنكاح الطبيعي. . .)

(1)

.

وهكذا نجد أن الحداثيين يبحثون في أروقة النجاسة التاريخية وسراديب التحلل المعاصر لتبرير التحلل وتمجيدا الرذائل وتسويغ الانحراف.

ومن تمجيد الرذائل الخلقية مدح أنسي الحاج للجريمة، وتبريره للإجرام، وذلك في قوله:(الجريمة سلك كالرهبنة، ولها عفتها وصوفيتها، وكلما أوغل المجرم في سلكه ازداد ترقيًا في المقام، والمجرم الكبير زاهد بما ليس جريمة كما هو القديس زاهد بما ليس اللَّه)

(2)

.

وفي الوقت الذي يتهكم فيه بالدين ويسب اللَّه رب العالمين يعتبر أن

(1)

الإسلام والحداثة: ص 389.

(2)

خواتم: ص 63 - 64.

ص: 2047

الجنس من الأمور المقدسة، ولذلك لا يجب أن يخدش هذا المقدس عنده بأي شيء ولو كان بالنكتة، ولعله فى تقديسه للجنس يمثل عقيدة بعض الطوائف الهندية التي تعبد فرج الرجل والمرأة، يقول الحاج:(وأكره النكتة، كذلك، لأنها معلبة، موجهة لتوليد "ضحك السهرات" الأكثر سخافة، وأمّا النكتة الجنسية فلأنها، فوق ذلك تهرج في موضوع مقدس، مهيب ككل آية هو الجنس)

(1)

.

ومن هذا الهيام بالجنس استطرد واصفًا الأدب قائلًا: (يحاول الأدب لا محاكاة الطبيعة بل تقليد العناق الجنسي)

(2)

.

إن هذا الوصف ينطبق حقيقة على أدب الحداثة المغموس في بالوعات الجنس، كما أرادوا تنظريًا وتطبيقيًا وممارسة؛ ولذلك لم يُخف إنسي الحاج إعجابه بنظرائه من ذوي الانحطاط الخلق، وذلك في قوله:(إعجابي بمفرغي عبقرياتهم في الضياع، في العقم، (بالكسل، الكحول، المخدرات، النساء، الهرب، فيه حب لهم، فهمٌ لهم، وفهمٌ عبرهم، وعبر نموذجهم التبذيري، لرسالة ما عن حقيقة العلاقة التي يجب أن تقوم بين المبدع وعمله)

(3)

.

لا يتوقع من منغمس في الضياع والفساد والشر والرذيلة أن يصدر منه أقل من هذا، بيد أن المهم أن نستدل بهذا القول وأشباهه الكثيرة على أسس التصور الأخلاقي لدى أصحاب هذا الاتجاه.

وليس هذا قولًا فذًا، بل لهم في تمجيد الرذائل الخلقية الباع الكبير، والكلام الكثير

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 99.

(2)

المصدر السابق: ص 112.

(3)

المصدر السابق: ص 125، ونحو ذلك عند محمد الماغوط في الآثار الكاملة: ص 59.

(4)

انظر أمثلة على ذلك في: الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 136، 141، وزمن الشعر له: ص 46، واتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 137، 138 - 139، 140، 141، 143، ومجلة الناقد عدد 9: ص 8، والعدد الثامن عشر: ص 4 - 5، 18، وديوان =

ص: 2048

أمَّا الموقف العدائي ضد الأخلاق القويمة والسلوكيات الفاضلة فتشهد به أقوالهم السابقة، المتضمنة مدح الرذائل والانحرافات الخلقية، وهذا يلزم منه ذم أضدادها من الفضائل والمكرمات.

بيد أنه يلزم الحكم عليهم بالصريح دون اللازم، وقد سبق ذكر شيء من ذلك في معاداتهم للأخلاق الفاضلة، وسوف أذكر هنا بعض الشواهد مشيرًا إليها إشارات سريعة.

فها هو أحدهم يصف القرآن العظيم كلام اللَّه تعالى بأنه فاتح لشهية الجماع

(1)

، وفي هذا تدنيس قبيح، وتشويه مقصود للقرآن العظيم الدال على كل مكرمة، والناهي عن كل نقيصة ورذيلة، ونحو هذا القول، الكتاب الذي ألفه أحد الحداثيين بعنوان "الجنس في القرآن"، ومن فصوله "أصل الجنس في القرآن"، والدلالات المحيطة به، وثنائية الجنس في القرآن والعلاقات القائمة بينهما، والجنس بين بعديه الدنيوي والأخروي في القرآن"

(2)

، وقد ملأه بالألفاظ والمعاني الفرويدية، والتدنيس والاستخفاف بكلام اللَّه وشريعته.

وعلى منواله جرى الكاذب المسمى بالصادق النيهوم، حين تعرض لأحكام الإسلام وأخلاقه، في كتاب "الإسلام في الأسر" خاصة في الفصل الرابع عشر "سر وراء الحجاب"

(3)

الذي ملأه بالتهكم بالعفاف والحجاب والفضيلة وأحكام الختان التي اعتبرها من اختراع سكان الصحراء ثم من

= صلاح عبد الصبور: ص 8، 11، 222، ومظفر النواب: ص 97، 98، 113، وديوان أمل دنقل، مقدمة المقالح له: ص 17، وامتداح نزار قباني للوجودية فكرة وممارسة في الأعمال الشعرية له: 11/ 330، 332، ودعوته للتمرد والدعارة 2/ 397، 398، 497، وسقوط الإمام: ص 75، 82، 136، 142، وانظر الفصل المخصص عن الجنس عند نجيب محفوظ في أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب للدكتور سيد أحمد فرج: ص 263 - 308.

(1)

انظر: مجلة الناقد، عدد 8: ص 69 والقول لعبود سليمان.

(2)

انظر: الجنس في القرآن لإبراهيم محمود، وهذه الفصول المشار إليها تقع في الصفحات: ص 25 - 154.

(3)

انظر: الإسلام في الأسر: ص 111، وفي مجلة الناقد عدد 13: ص 6 - 7.

ص: 2049

اختراعات اليهود، وأمَّا حسين أحمد أمين فإنه يمجد بهيام علماني مشروعات خلع الحجاب عن المرأة، وإخراجها إلى الشارع والعمل والاختلاط ويأسف أشد الأسف للدعوة الجديدة المنتشرة بين الشباب والشابات لعودة الحجاب

(1)

.

وأمَّا حسن حنفي فإنه ينادي باختراق المحرمات الثلاث في ثقافتنا -حسب قوله- وهي الدين والجنس والسياسة

(2)

.

وأمَّا محمد بنيس فإنه تناول هذا المضمون بصيغة أخرى حين تعرض له باعتباره من أعظم عوائق التقدم عندها، ثم عمم الحكم على الحجاب الذي يريد إزالته، وكانه يريد المحرم أو الذي له اعتبار حكمي شرعي أو اعتباري عرفي، وقال بأن الحجاب في المرأة والبيت واللَّه تعالى والجنس والسياسة، ثم نادى بوجوب تمزيق الحجاب عن هذه كلها

(3)

.

وهي دعوة صريحة للكفر والرذيلة الخلقية والفوضى والانحلال ومعاداة فجة للاستقامة والفضائل وكل أصولها.

أمَّا نزار فإنه في دعوته إلى الجنس ينادي بتعاطيه علنًا بالأسنان والأظافر، والتخلص من ميراث القبيلة وشريعة الجاهلية في الحسب والنسب، ويعتبر الجنس أساس كل تقدم وحضارة

(4)

، ويتصدى جبرا إبراهيم جبرا لكيل الشتائم ضد الحجاب والمتحجبات

(5)

، وكيل الثناء للفاجرات، وشتم العفيفات

(6)

وامتداح الفجور والإباحية النسائية والدعارة

(7)

.

(1)

انظر: رأيهم في الإسلام: ص 82.

(2)

انظر: الإسلام والحداثة: ص 387.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 390.

(4)

انظر: أسئلة الشعر: ص 197 - 198.

(5)

انظر: المجموعات الشعرية لجبرا: ص 40، ونحو ذلك في: الإسلام والحداثة: ص 291 - 292 كلام لمالك شبل.

(6)

انظر: المصدر السابق: ص 50 - 54.

(7)

انظر: المصدر السابق: ص 92 - 93، 107، 180.

ص: 2050

أمَّا توفيق صايغ فإنه يعتبر المحافظة على عذرية البنت مجرد تزمت شرقي ينبيء عن حب لرؤية الدم

(1)

، وأبشع من هذا القول وأخبث ما سطرته نوال السعداوي بخبث إباحي علماني حداثي في كتابها "دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي"، حيث خصصت كلامًا طويلًا عن "مفهوم العذرية وحشدت قصصًا مأساوية تذكر أنها مرت بها في عيادتها لتخلص إلى أن مفهوم العذرية مشكلة شرقية تدل على التزمت في قضايا العيب والشرف"

(2)

.

ثم تحدثت عن "الشرف والدم في عصرنا الحديث" وساقت في مطلعها ملخصًا "لدعاء الكروان" لطه حسين ثم أقوالًا أخرى لنجيب محفوظ وغيرهما، لتقول إن مفهوم الشرف وأخلاقيات الشرف الشائعة عند المسلمين ليست سوى علامة تخلف وظلم يمارسها المجتمع ضد المرأة

(3)

.

وفي كتاب "المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف" أصرح العبارات المحاربة لمفاهيم الأخلاق والفضيلة والعفاف

(4)

إضافة إلى محاربة شرع اللَّه تعالى ومناقضته والتهكم بأحكامه وقضاياه.

وفي كتاب "مباهج الحرية" ينقل المؤلف رأي حداثي كبير في قضية العيب والحرام، وهذا نصه:(الاستمتاع بالحياة ليس عيبًا ولا حرامًا، إن العيب هو التمتع على حساب الآخرين واحتياجاتهم، والمعاب أساسًا هو سلطة القمع والنهب، أمَّا الحرام فهو تلك التابوهات المتجسدة في أوامر وموانع صارمة تحرم المتعة على الإنسان، وتثير الشعور بالخطيئة والندم، وتصدر عن سلطة قمعية، بطركية، لاهوتية)

(5)

.

(1)

انظر: المجموعات الشعرية: ص 264 - 265.

(2)

انظر: دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص 17 - 30.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 790 - 796.

(4)

انظر: المرأة العربية والمجتمع التقليدي لسلوى الخماش.

(5)

مباهج الحرية في الرواية العربية لشاكر النابلسي: ص 127، والقول لغالب هلسا.

ص: 2051

ويقول: (إن من مهام الأديب الدعوة إلى الاستمتاع بالحياة، ورفض مفهوم بؤس الحياة الفاشي، وتأكيد كل ما هو واقعي وصادق في إطار التجربة الحية)

(1)

.

وفي الكتاب الذي خصصه مجموعة من العلمانيين للمرأة وسموه "هاجر" تحدث نصر أبو زيد تحت عنوان "المرأة البعد المفقود في الخطاب الديني" وكال فيه الشتائم الحداثية في صيغ "التماهي" و"البنيوية" والدراسات المغالطة، المستهدفة تقويض أحكام الإسلام القاضية بالعفة والحياء والتكريم للمرأة

(2)

.

وتحت عنوان "في القيم" خصصوا الحديث فيه عن "مفهوم الشرف" وتحدث فيه ثلاثة منهم، وأولهم امرأة اعتبرت أن الحديث عن الشرف دعارة في الرأي والكلمة تصيب بالغثيان واعتبروه ازدواجية في المعايير الأخلاقية، وأن الشرف في النهاية التزام بالذات وبالآخرين

(3)

.

واعتبر الثاني أن مفهوم الشرف مفروض من قبل الرجل -الأقوى اقتصاديًا- على المرأة، وذلك لكي يحقق مصلحته

(4)

.

أمَّا ثالث المتحدثين فكانت نوال السعداوي التي كررت مقولاتها المناوئة لعفاف المرأة وحجابها والداعية إلى الاختلاط والتبرج والحرية الجنسية

(5)

.

أمَّا أمل دنقل فإنه يغني لكي تستعيد المرأة راية الفكر السليبة:

(ولكي يهوي حجاب الخوف عن

روح ربات الحجال المستريبة)

(6)

(1)

المصدر السابق: ص 129.

(2)

انظر: هاجر كتاب المرأة "1": ص 51 - 84.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 164 والقول للطيفة الزيات.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 166.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 168 - 171.

(6)

ديوان أمل دنقل: ص 430.

ص: 2052

ونحوه قول نزار:

(قضينا العمر في المخدع

وجيش حريمنا معنا

وصك زواجنا معنا

وصك طلاقنا معنا

وقلنا اللَّه قد شرع

ليالينا موزعة

على زوجاتنا الأربع)

(1)

.

ثم يضيف:

(تظل بكارة الأنثى

بهذا الشرق عقدتنا وهاجسنا

فعند جدارها الموهوم قدمنا ذبائحنا

وأولمنا ولائمنا

نحرنا عند هيكلها شقائقنا

قرابينًا. . . وصحنا "واكرامتنا"

صداع الجنس مفترس جماجمنا

صداع مزمن بشع من الصحراء رافقنا

فأنسانا بصيرتنا، وأنسانا ضمائرنا)

(2)

.

لقد قلب نزار القضية رأسًا على عقب، فحول العفاف والشرف إلى

(1)

الأعمال الشعرية 1/ 636.

(2)

المصدر السابق 1/ 639.

ص: 2053

عقدة وهاجس جنسي، في حين أن الصداع المزمن والهاجس المستمر المفترس للعقول والجماجم هو حال الذي لا يرى الحضارة إلّا جسدًا وجنسًا، ولا يرى التقدم للإنسان إلّا من خلال الأعضاء التناسلية.

ولنأخذ مثالًا على مقدار ما وصل إليه من إباحيته، يقول:

(كنا ثمانية معًا

نتقاسم امرأة جميلة

كنا عليها كالقبيلة

كانت عصور الجاهلية كلها

تعوي بداخلنا

وأصوات القبيلة)

(1)

.

ويقول:

(كنت أريد

أن أنهي عصر البربرية

وأقتل آخر الخلفاء

كان في نيتي -عندما أحببتك-

أن أكسر أبواب الحريم

وأنقذ أثداء النساء

من أسنان الرجال

وأجعل حلماتهن

ترقص في الهواء متهيجة

(1)

المصدر السابق 2/ 123.

ص: 2054

كحبات الزعرور الأحمر)

(1)

.

وهكذا ينصب أحابيل كلماته وتلاعباته اللفظية ليخدع السذج والمغفلين، يقلب المعاني قلبًا كاملًا، فهو كمن يصف الظلام بالضياء، والنور بالعتمة، وليس هذا عجيبًا على امرئ طمست الجاهلية والشهوانية بصيرته، ولكن العجب أن ترى أفواج المعجبين والمعجبات يحطون على إفرازاته الكلامية هذه.

وفي معرض ذمه لأخلاق العفاف عند المسلمات ودعوته إلى الإباحية يضع أمه رمزًا لذلك ويقول:

(فأمي "دقة قديمة" ولا تفهم كيف يكون للمرأة

حب أول وثان وثالث وخامس عشر

أمي تؤمن برب واحد وحبيب واحد وحب واحد)

(2)

.

هذه "الدقة القديمة" التي يصف بها نزار عفاف المسلمات هي التي يسعى في أكثر كلامه إلى وأدها وإذهابها من الواقع جملة وتفصيلًا، ليقوم في مكانها سوق النخاسة الذي يصول فيه الشهوانيون ويجولون على كيان المرأة، بعد أن يخدعوها بأن هذه هي الحرية، وهذا هو التقدم.

وعلى كل حال فإنه قد أكثر من هذا الكلام وكرره تكرارًا مملًا

(3)

.

وعلى نحو من هذا الهجوم على العفاف قول محمود درويش:

(تقول شيئًا ما عن النهر

المخبأ في عباءات النساء القادمات من الخريف)

(4)

.

(1)

المصدر السابق 2/ 398.

(2)

المصدر السابق 2/ 728.

(3)

انظر: المصدر السابق 2/ 636، 667، 728، 806 - 807، 875، 912 - 913 و 3/ 23.

(4)

ديوان محمود درويش: ص 637.

ص: 2055

وفي رواية الخبز الحافي دعوة صريحة للزنا ومحاربة للزواج وتبرير للدعارة وفرح بها وبأهلها

(1)

.

‌وفي ختام هذا الفصل أذكر بعض الأمثلة على الانحراف الخلقي عند الحداثيين

من خلال كلامهم الداعي إلى هذه الانحرافات، أو من خلال ممارساتهم التي اعترفوا فيها بالانحلال الخلقي، وهي شواهد قليلة من بحر هائل متلاطم لا يُمكن حصر كل ما فيه، وهذه الشواهد مجرد قطرة من ذلك البحر، وسوف أشير إليها إشارات عابرة تتضمن ما قالوه في كتبهم وفق الترتيب المعجمي:

‌1 - الإباحية الجنسية:

من أخلاقيات الحداثة دعوتهم إلى الإباحية الجنسية من خلال استخراجهم لأقوال الزنادقة من الصوفيين والباطنيين، وإشادتهم بها، ودعوتهم إلى الأخذ بما فيها، ومن خلال تقريرهم أن الإباحية هي أصل التحرر والتحضر والإزدهار، وأن الحرية الجنسية أساس كل حرية، وأن خطوة إخراج الجنس والجسد من المحرم إلى علنية الممارسة واللغة من المفاصل الأساسية، مع اعترافات واضحة بالمعاشرة الجنسية الجماعية، ودعوة إلى تطبيع الجنس، واقتفاء آثار الغرب في ذلك، والإتيان بكلام على لسان امرأة لها عشاق يضاجعونها جميعًا وهي تفاخر بذلك، والدعوة إلى ممارسة الجنس في الطريق

(2)

.

(1)

انظر: الخبز الحافي: ص 209، 85، 112، 165، 188، 221 - 222، والشطار: ص 44، 49، 52، 98، 131، 157.

(2)

انظر: الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 548، 566، 569 - 570، والثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 188 - 189، وقضايا وشهادات 2/ 105، ومجلة الناقد عدد: 9 ص 7، 8 كلام أنسي الحاج، وأسئلة الشعر: ص 180، 181 كلام نزار قباني، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 222، والآثار الكاملة للماغوط: ص 92 - 93، 107، 108، والمجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 133، 187، 408، وخواتم لأنسي الحاج: ص 25 - 41، ومظفر النواب شاعر المعارضة السياسية: ص 49 وفيها أشاروا إلى القصيدة الإباحية، لعلاء الدين عبد المولى المنشورة في مجلة ألف، العدد 14 ص 36 - 39، وديوان أمل دنقل: ص 17 من مقدمة المقالح للديوان، وديوان دنقل أيضًا =

ص: 2056

‌2 - احتراف الدعارة:

تضمن هجومهم على مبادئ الشرف والعيب والعرض، الإشادة والامتداح للدعارة، وبيوتها وأربابها، ووصف أحوال المومسات، وإظهار التعاطف معهن، وتصوير أحوالهن مع الزناة، والتمني على لسان أستاذ داعر أن يجد كل ذكر من طلابه مع أنثى من طالباته يواقعها، والإطناب في الثناء على البغايا واعتبارهن نمودج تحرر وانطلاق، مع تبرير للتلاعب بالمرأة والانتقال جنسيًا بين امرأة وأخرى

(1)

.

وقد رسم لهم سارتر زعيم الوجودية من ضمن من رسم طريق الدعارة من خلال حياته مع عشيقته يوفوار، ومن خلال الكتاب الذي ألفه سنة 1946 م/ 1365 هـ بعنوان "المومس المحترمة"

(2)

!!.

‌3 - الاستمناء:

وصف لحالات استمناء وصفًا مفصلًا، وتبرير لهذه العملية، وجعل

= ص 225 - 226، والأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 431، 2/ 123 - 124، 236، 504، 3/ 236، وديوان محمود درويش: ص 71 - 72، وديوان سميح القاسم: ص 230 - 232، وذكريات الجيل الضائع: ص 47 - 50، ودراسات عن الرجل والمرأة لنوال السعداوي: ص 883 - 900، والدراسة التبريرية لشاكر النابلسي عما أسماه "الحرية الجنسية عند غادة السمان" في كتابه مباهج الحرية في الرواية العربية: ص 412 - 417، ففي هذه الدراسة كثير من ملامح الحداثة العربية وأصول نظرتهم إلى الجنس.

(1)

انظر: ديوان السياب قصيدة المومس العمياء: ص 509 - 542، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 744 - 745، 795، 767 - 768، والمجموعات الشعرية لجبرا: ص 92 - 93، 107، 180، 115 - 116، ومظفر النواب: ص 98، والأعمال الشعرية لنزار 1/ 530، 535، 2/ 108، 112، 118، 147، 150، 153، 123 - 124، 236، والآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 96، 106، ومدن الملح 1/ 234، 236، 2/ 52 - 53، 499، والخبز الحافي: ص 42 - 44، 45 - 46، 48، 60، 62، 134، 165، 188، وأقصى درجات العزلة لابن جلون: ص 101 - 107، ودراسات عن المرأة والرجل لنوال السعداوي: ص 284، 883، 797، وامرأة عند نقطة الصفر: ص 95 - 99، 104.

(2)

انظر: نهاية عمالقة في حضارة الغرب: ص 120.

ص: 2057

السبب الرئيسي في حدوثها فقدان الاتصال المطلق بين الفتيات والفتيان، وعدم توفر المال اللازم لمعاشرة المومسات، وجعل الاستمناء ممارسة عادية طبيعية لا توجب المنع والتحريم، وصياغة هذه الأقوال في لهجة علمية مصطنعة تضفي هالة كاذبة على أقوالهم الفاسدة، وذكر بعضهم للصور الجنسية وصور أغلفة المجلات المصرية واستمناؤه على صور الفنانات، ووصف أحوال فتاة تتحسس أعضاءها وتكتسحها الرغبة

(1)

.

‌4 - الاعتراف بالعربدة والانحلال:

الاعتراف سيد الأدلة -كما يقال- وفي كتب أهل الحداثة من الاعترافات المشينة ما يدل دلالة قاطعة على المستوى الأخلاقي الذي يعيشه أهل هذه الملة، حيث جعلوا العربدة وإغراق البشرية بطوفان النشوة والشهوة، والتباهي بالدخول في غرف الحب الضيقة وفتح أقفال الجنس، والاعتراف الصريح بأن ما يقال في الشعر من وصف للمارسات الجنسية قد وقع حقيقة، بل المفاخرة بذلك، والاعتراف بأن الشعر الجنسي هو مستودع ذكريات الشاعر وفضائحه وممارسته الواقعية، ووصف حالته مع الطفل الناتج عن الزنى بامرأة، واستبسالهم في الدفاع عن الرذيلة، والإقرار باحتراف الرذيلة والدعارة باسم الحب، وأحدهم يطالب الصحافة بالاعتراف به كواحد من أكبر فوضوي التاريخ، وكثير منهم يقر بممارسة الضياع وتعاطي الخمور والحشيش والتلصص من شقوق الأبواب، والتشرد وعشق الفضلات، ومعاشرة نساء عديدات من بلدان عديدة، وهناك من يعترف باللواط وممارسته داخل المسجد، وارتياد أماكن السكارى والبغايا والحشاشين، وتعاطي الحشيش في المسجد، وممارسة القوادة والسرقة والنشل

(2)

.

(1)

انظر: الخبز الحافي: ص 35 - 36، 110، 161، 163، 215، والشطار: ص 28، 101، 133، وأقصى درجات العزلة لطاهر بن جلون: ص 97 - 101، والذي يحاول أن يظهر فيه رداء طبيب نفساني فرويدي متخصص!!، ورواية ليلة القدر له: ص 35.

(2)

انظر: قضايا وشهادات 3/ 392، وفيها أن من أصول حركة الحداثة الموضة والتحرر الجنسي وقضايا وشهادات 2/ 285، وفيه أن من سمات النص الحداثي: العودة إلى البدائية في الغريزة الجنسية وشاعرية الشهوة والجسد، ومجلة الناقد العدد الأول: ص 7، =

ص: 2058

‌5 - أعضاء الجنس:

غرق الحداثيون إلى أذقانهم في ذكر الأعضاء الجنسية، ومواطن الإثارة في المرأة، واستخدموا ألفاظ الإغراء الجنسية بصورة مكشوفة أحيانًا، وبصورة رمزية في أحيان أخرى بل وصفوا أعمالهم التأليفية والشعرية بأوصاف جنسية، فأحدهم يريد أن يعطي الكلمة عضوًا جنسيًا، والآخر يخرج من فرج الكلمة، والثالث يفتض القصيدة.

بل حتى المواطن والبلدان وصفوها بأوصاف الجنس فدمشق امرأة لها ثديان وصنعاء خصر ونحر وبيروت فرج مومسة.

ويصرون على تحويل الأشياء والأحداث إلى أنثى وأعضاء تناسل مثل قول أحدهم: افتض بكارة هذا الليل، وقول الآخر: كانت الجرائد تبيع للرماة أعضاءها التناسلية، وقول الآخر: يا وطني يا امرأة تفتح فخذيها للريح الغربية، ووصف الآخر لضوء القمر بقوله: مني القمر.

أمّا أوصاف العملية الجنسية، ووصف فرج المرأة وفرج الرجل وما حولهما وما فيهما، ووصف المؤخرة فقد أطنبوا فيه غاية الإطناب، وأبدأوا

= وأسئلة الشعر: ص 182، 191، 196، والقول لنزار قباني، وقضايا الشعر الحديث: ص 250، والقول لنزار أيضًا، والمجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 96، وديوان أمل دنقل: ص 85، 248، والأعمال الشعرية لنزار 2/ 108، 112، 2/ 118، 147، 150، 153، 398، 498، وديوان سميح القاسم: ص 230 - 232، والآثار الكاملة لمحمد الماغوط: ص 38، 45، 46، 214، 99، والخبز الحافي: ص 167، 30، 112، 227، 10 - 10، 117، والشطار: ص 38، 42، 52، 85، ومسك الغزال: ص 91، وتوفيق صايغ سيرة شاعر ومنفي: ص 84، 85، 86، 87، 88، 90، 91، وفيها اعترافات لتوفيق صايغ واعترافات عنه، وأضواء جديدة على جبران: ص 105 - 131، وأحاديث عن جبران: ص 75 - 77، 102، 108، والجنوبي أمل دنقل لعبلة الرويني: ص 47، 57، 64، 65، وأقص درجات العزلة لطاهر بن جلون مليء بالاعترافات الانحلالية، ولا استأذن أحدًا: ص 99، ونقل الدكتور السيد أحمد فرج في كتاب "أدب نجيب محفوظ": ص 52، اعتراف نجيب محفوظ في رسالة لأحد أصدقائه بالحشيش والزنى والقمار، ورواية الإنكار لرشيد بو جدرة: ص 133 - 150، 123، 125.

ص: 2059

القول في ذلك وأعادوه وكرروه، ليحققوا غايتهم في تطبيع الجنس والنجاسة، وتحطيم الحشمة والفضيلة والعفة، وترويج الرذيلة والدعارة والانحلال

(1)

.

(1)

انظر شواهد ذلك في: الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 384، 509، 510، 513 - 514، 515، 516، 517، 519، 520، 521، 522 - 525، 527، 529، 530، 533، 534، 536، 545 و 2/ 69، 73، 100، 103، 111، 181، 398، 469، 471، 498، 508، 568، 579، 585، 587، 588، 589، 590، 597 - 603، 605، 606، 614، 615، 619، 646، 647، 655 - 658، 662، واتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 92 حيث قرر أن الشاعر الحديث يألف الصور الجنسية، وص 137، 138، 139، ومجلة الناقد، العدد الأول 14 - 19 قصة بعنوان (من تاريخ مؤخرة) ليوسف الشاروني يتحدث فيها عن الإست وأحوالها وأوصافها، ومجلة الناقد، العدد التاسع: ص 44، 45 مقال لهادي محمد جواد، ومجلة الناقد، العدد العاشر: ص 7، والعدد الثامن عشر: ص 4 - 5، وقضايا وشهادات 2/ 243، وديوان السياب: ص 535، وديوان البياتي 2/ 310، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 148، 319، 400، 401، 412، 415، 419، 420، 421، 428، 440، 791، 792، والأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 130، 273، والمجموعات الشعرية لجبرا: ص 18، 27، 85، 92، 106، 108، 111، 121، 125، 149، 154، 189، 208، 209، 215، 216، 217، 232، 243، 242، 243، والمجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 228، والأعمال الشعرية لنزار قباني 1/ 230، 232، 236، 245، 314، 436، 464، 465، 524، 525، 530، 535، 541، 548، 656، 662، 768، 2/ 44، 46، 54، 67، 87، 88، 89، 91، 99، 118، 123، 190، 193، 196، 197، 198، 199، 200، 201، 217، 245، 262، 263، 311، 344، 376، 401، 446 - 445، 455، 572، 574، 603، 607، 702، 744، 839، 840، 843، 845، 846، وديوان محمود درويش: ص 276، 294 - 295، 337، 339، 375، 379، 536، 553، 564، 622، وورد أقل: ص 23، والأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 691، وديوان سميح القاسم: ص 621، والأعمال الشعرية لممدوح عدوان 2/ 30 - 47، 48 - 55، والخبز الحافي: ص 35، 37، 42 - 44، 45 - 46، 48، 60، 62، 134، 224، والشطار: ص 57، 83، وسقوط الإمام: ص 76، 106، ومسك الغزال: ص 49 - 50، 59، وألف وعام من الحنين: ص 6، 19، 27، 32، 35، 38، 51 - 52، 59، 60، 67، والإنكار: ص 133 - 150، 123، 125، ومدن الملح 1/ 482، 310، 392، 393، ومباهج الحرية في الرواية العربية: ص 413 - 416.

ص: 2060

‌6 - أعمال الجنس:

كما غرقوا في وصف أعضاء الجنس، فقد غرقوا أيضًا في وصف الأعمال الجنسية، وتفصيل ذلك تفصيلًا واسعًا قذرًا، والتباهي بذكر أحوالهم الخسيسة مع المومسات، والشاذين، في وقاحة وجرأة وبذأة لا نظير لها إلّا في مجلات وأفلام الجنس

(1)

.

‌7 - امتهان المرأة:

طالما ردد أهل الضلال والانحراف أنهم يسعون إلى تكريم المرأة وإعلاء شأنها، ورفع مكانتها، وهذه دعاوى عريضة يكذبها واقعهم المنظور، وكلامهم المنشور.

ويتجلى امتهانهم للمرأة أنهم سعوا في هدم أخلاقياتها المرتبطة

(1)

انظر: الأعمال الشعرية لأدونيس 1/ 213 - 217، 218، 236 - 237، 509، 510، 513 - 514، 181 و 2/ 386 - 387 - 389، 598، 606، 662، 682 - 683، 706، ومجلة الناقد، العدد التاسع: ص 44 - 45، والعدد العاشر: ص 7، وديوان السياب: ص 556، 679، 680، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 213 - 215، 320 - 321، 322، 328، 839، والأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال: ص 273، 364، والمجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 133، 187، 203، 240، 340، 341، وخواتم: ص 112، 115، وديوان سعدي يوسف: ص 44، 146، وديوان أمل دنقل: ص 90، 102، 163، 167، 303، 304، والأعمال الشعرية لنزار 1/ 541، 548 و 2/ 445 - 446، 574، وديوان محمود درويش: ص 276، 294 - 295، 337، 339، والآثار الكاملة للماغوط: ص 161 - 165، 186، 204، 213، 219، 230 - 231، 302، وديوان الفيتوري 1/ 140، 252، 123، والأعمال الشعرية لممدوح عدوان 2/ 30 - 47، 48 - 55، 94، ولا أستأذن أحدًا لسميح القاسم: ص 73، 81، ومدن الملح 2/ 52 - 53، 57، 58، 83، 85، 86، 234، والخبز الحافي: ص 135، 160 - 161، وليلة القدر: ص 98، وأقصى درجات العزلة كل الكتاب مليء بوصف أعمال الجنس، ومباهج الحرية في الرواية العربية: ص 132 - 133 حيث بين دور الجنس عند الروائيين غالب هلسا ويوسف إدريس، ومدى الغرق في مستنقع الجنس كما بين في: ص 213 دور الجنس والخمر والحشيش في روايات مؤنس الرزاز ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وتبريراته الباردة لذلك 215، وانظر: موسم الهجرة إلى الشمال: ص 84.

ص: 2061

بالإسلام عقيدة وشريعة، فحاربوا الحجاب والعفاف والفضيلة والاحتشام ودواعي الشرف وأسباب الكرامة، ونادوا -في المقابل- بالتبرج والاختلاط، ونبذ العفة، واطراح الحشمة، واقتراف الرذيلة، وقطع أسباب الشرف، ورميها في زبالات المهانة والإذلال.

رفعوا -كاذبين- شعارات حقوق المرأة، ولافتات حرية المرأة، وهم في الحقيقة لا يرون فيها غير متنفس لشهواتهم الحيوانية، ومستودع لنزواتهم البهيمية.

يلتذون برؤيتها عارية لإشباع رغبة الزنى في عيونهم، ويلتذون بسماعها صارخة متأوهة لإشباع نزوة الزنى في أسماعهم، ويستمتعون بمخالطتها متبرجة، ثم منطرحة ذليلة تحت أقدام شهواتهم، فإذا ما استنفدوا شبابها وزهرة حياتها رموها رمي النعال الممزقة في سلة المهملات.

لا يرون في المرأة غير الجسد العاري، والرغبة الهائمة، والأعضاء الجنسية، ولا يريدون منها غير ما يريد الذئب من الشاة، يريدون لحمها، فإذا ما شبعوا أو ملُّوا قذفوها في مقلب القمامة، فإذا هي بلا دين ولا خلق ولا عفة ولا احتشام، وبلا زوج أو أبناء، امتص المجرمون رحيق حياتها، واستخدموها استخدام الآلة، ثم طرحوها، وراحوا يبحثون عن غيرها.

صدقت المرأة دعاوى التحرر والكرامة، فماذا جنت؟.

جنت المهانة والإذلال والتشرد والشتات، وأكبر شهادة ذلك ما قالته النساء اللواتي كن يعملن في "الفن" وأقوال واعترافات "الفنانات التائبات" من أكبر البراهين على ما ذكرنا.

ومن ينظر إلى كلام الحداثيين الداعين إلى حرية المرأة ومكانة المرأة سيجد الدليل الصارخ على بشاعة الامتهان للمرأة.

ها هو أدونيس يخاطب صنوه يوسف الخال بعد أن قرأ "قصائد في الأربعين" للخال، فيقول:(ربما يكمن جديد مجموعتك في نظرتك للمرأة، نحن هنا نقرع أبوابًا توصلنا إلى الحياة والعيش في مدينة الجنس أو قل مدينة الجسد. . .)

(1)

.

(1)

زمن الشعر: ص 233.

ص: 2062

ويشهد إحسان عباس بأن صلاح عبد الصبور: (يشترك مع نزار في الوقوف عند المظاهر الحسية من عالم المرأة)

(1)

، ويشهد أن الحب الذي يردده هؤلاء ليس إلّا علاقة جسدية (. . . إن "ظاهرة الحب" نفسها قد أصابها التغير بفعل الزمن، فجفت، وأصبحت قاصرة على العلاقات الجسدية)

(2)

.

وإذا جئنا إلى "شاعر المرأة" كما يسمون، إلى نزار قباني، فإننا نجده قد جرد المرأة من كل إنسانية حين تحدث عنها باعتبارها عشيقة أو داعرة، أو مطرودة من دوائر العشق الجنسى وبيوت الدعارة، أو عارضة جسد، وقد خاطبه أحد النقاد في سؤال موجه إليه، قائلًا:(لكن شعر الحب لديك، إذا نظرنا إليه بعين المدرسة التحليلية في علم النفس، نجده صورة لتلك العقد الفرويدية. . .)

(3)

.

وقال له في سؤال آخر بعد أن لخص مشاكل العرب كلها في الجنس: (هل تستأهل مشكلة العرب الجنسية أن تستنزف من حياتك الشعرية أكثر من ربع قرن؟)

(4)

.

وقال أيضًا: (أنا أرى أنك تنظر إلى العالم من خلال ثقب أحمر صغير، وتضخم ما تراه إلى حد تصل به إلى تفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية من خلاله)

(5)

.

هذا الشاعر الحداثي الكبير يتحدث عن المرأة بصورة مغالطة، ولا يستحيي مطلقًا من مواصلة الحديث وهو يتناقض في السطر الواحد، فعندما سئل (أتصور أن المرأة في شعرك لم تكن قضية، بقدر ما كانت

(1)

اتجاهات الشعر المعاصر: ص 141.

(2)

المصدر السابق: ص 151، وأورد شواهد على هذا من شعر فدوى طوقان وسلمى الخضرا الجيوسي.

(3)

أسئلة الشعر: ص 197، والسؤال موجه من منير العكش مؤلف هذا الكتاب.

(4)

المصدر السابق: ص 198.

(5)

المصدر السابق: ص 199.

ص: 2063

بطاقة إلى الجماهير، أعني أن المرأة في شعرك "مضافة" تزوقها كل مرة بما يرضي أذواق الضيوف ويخدرهم -أجاب قائلًا-. . . المرأة هي الآن عندي أرض ثورية، ووسيلة من وسائل التحرر، إنني أربط قضيتها بحرب التحرر الاجتماعي التي يخوضها العالم العربي اليوم، إنني أكتب اليوم لأنقذها من أضراس الخليفة، وأظافر رجال القبيلة، إنني أريد أن أنهي حالة المرأة الوليمة، أو المرأة "المنسف" وأحررها من سيف عنترة وأبي زيد الهلالي.

ما لم نكف عن اعتبار جسد المرأة "منسفًا" تغوص فيه أصابعنا وشهواتنا، وما لم نكف عن اعتبار جسدها جدارًا نجرب عليه شهامتنا، ورصاص مسدساتنا، فلا تحرير إطلاقًا، إن الجنس هو صداعنا الكبير في هذه المنطقة، وهو القياس البدائي لكل أخلاقياتنا التي حملناها معنا من الصحراء، يجب أن يعود للجنس حجمه الطبيعي، وأن لا نضخمه بشكل يحوله إلى غول أو عنقاء، الكائنات كلها تلعب لعبة الجنس بمنتهى الطهارة، والأسماك والأرانب والأزاهير والعصافير وشرانق الحرير والأمواج والغيوم كلها تمارس طقوس الجنس بعفوية شفافة، إلّا نحن فقد اعتبرناه طفلًا غير شرعي، وطردناه من مدننا، وجردناه من حقوقه المدنية)

(1)

.

هذا النص لوحده يناقض أوله آخره تناقضًا صريحًا فهو يزعم بأنه لا ينظر إلى المرأة باعتبارها مجرد جسد، ثم ينادي بتطبيع الجنس وجعل الممارسة الجنسية المفتوحة متاحة كما تحصل بين الأسماك والأرانب والطيور، وهو ينادي بإنقاذ المرأة -حسب زعمه- من أضراس الخليفة وأظافر رجال القبيلة، ولكن إلى أين؟ إلى الدعارة الفاضحة والنهش المتاح لكل ناب وسن، وهو القائل:(أنا رجل يرفض أن يلعب الحب خلف الكواليس، ولذلك نقلت سريري إلى الهواء الطلق)

(2)

، والقائل:(أرى أن فكرة العيب والشرف والعرض تقيم حصارًا طرواديًا حول الجنس الثاني. . .)

(3)

، والقائل: (إن

(1)

المصدر السابق: ص 180.

(2)

المصدر السابق: ص 181.

(3)

المصدر السابق: ص 199.

ص: 2064

الرجولة كما يفهمها مجتمع الرجال لدينا، هي القائمة على الكسر، والقمع وإلغاء إرادة الأنثى. . . فمن النظام الأبوي إلى النظام الزوجي، تنتقل المرأة من معتقل إلى معتقل. . . من رجل مباحث إلى رجل مباحث)

(1)

.

أي أن التحرر الذي يريده للمرأة أن تنتقل من يد داعر إلى يد داعر آخر، ومن سرير زانٍ إلى سرير زان آخر.

والناظر في شعر هذا الداعر يجد فيه أوضح شاهد على مراده من تحرير المرأة، بل هو يعترف بأن ما كتبه من شعر جنسي وأوصاف جسدية، وعبارات شهوانية، لم يأت من خيال تأليفي بل من واقع عملي (بالنسبة لي لا انفصام بين التجربة والتعبير عنها بين الفم والصوت، كل تفاصيل حياتي اليومية معجونة بالشعر)

(2)

.

(ما كتبته عن المرأة لم يكن اختراعًا أو تأليفًا. . . وإنّما هو معاناة "ميدانية" حسب الاصطلاح العسكري)

(3)

.

قال أحد الكتاب عن نزار وموقفه من المرأة بعد أن أورد قوله:

(اجلسي خمس دقائق. . .

لا يريد الشعر كي يثقب الورق العاري

سوى خمس دقائق

فاعشقيني لدقائق

واختفي عن ناظري بعد دقائق)

(4)

:

(المرأة إذن لاستدرار اللذة، كما هي أداة لاستدرار القصيدة مجرد عود كبريت يشتعل فيشعل الحرائق. . . أي أن المرأة عنده إثارة أو استثارة، ولها

(1)

المرأة في شعري وفي حياتي: ص 25.

(2)

أسئلة الشعر: ص 191.

(3)

المرأة في شعري وفي حياتي: ص 27.

(4)

فتافيت شاعر: ص 133 - 134.

ص: 2065

وظيفتان: وظيفة بيولوجية بحتة تمتد سحابة خمس دقائق، ووظيفة أخرى مرتبطة بالأولى من شأنها توليد القصيدة في نفس الشاعر)

(1)

.

وقال كاتبان معجبان بنزار وأشعاره الجنسية: (عرفنا المرأة في شعر قباني وكان نوفوتيه ودار أزياء وجارية بصيغة جديدة تنعم -بعد تحطيم العلاقات الاجتماعية البائدة- بنعمة التحرر من ثيابها)

(2)

.

إن قصائد قباني يُمكن تلخيصها في أنها تدور حول الأوصاف الحسية للمرأة لجسدها ولملابسها الداخلية ولأدوات الزينة وأشياء غرفة النوم في لغة نرجسية، وعبارات جنسية مكرورة مملة.

كل هذا معجون بلهجة جزار لا ينظر إلى المرأة إلّا باعتبارها لحمًا، بعضه يصلح الآن، وبعضه من كثرة الاستعمال فسد، وبعضه قد تعفن من زمن، أي أنه لا يمتهن المرأة فقط بل يهينها ويذلها ويعجن كرامتها بالطين والقاذورات

(3)

.

وأطلت الحديث عن هذه القضية لكونها من أهم محاور الفساد الأخلاقي الذي يتسلل من خلاله دعاة الرذيلة، وأطلت في الكلام عن نزار قباني لكونه زعيم من زعماء هذا الاتجاه الإنحلالي النجس، مع أن الاستهانة بالمرأة ليس خاصًا بقباني، بل لكل حداثي نصيبه من هذه الاستهانة صراحة أو ضمنًا

(4)

، ويكفي في ذلك أن مذاهب الحداثة والعلمانية في جملتها تحتوي على استهانة عظمى بالمرأة، وبالإنسانية جمعاء.

(1)

فتافيت شاعر: 133 - 134.

(2)

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسة لعبد القادر الحصيني وهاني الخير: ص 48.

(3)

انظر: مصداق ذلك في الأعمال الشعرية له 1/ 309، 346، 464، 682 و 2/ 106 - 107، 108، 112، 118، 147، 150، 153، 504.

(4)

انظر: اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 137، 138 - 139، وقضايا وشهادات 2/ 105، وديوان المقالح: ص 571، والآثار الكاملة للماغوط: ص 204، 213، 218، 219، 230 - 231، 302، والشطار: ص 52. 98، وألف وعام من الحنين: ص 52، وفتافيت شاعر: ص 132، 134 - 145.

ص: 2066

يقول أنسي الحاج: (امرأة لا تتوقف عند حدود الجرأتين الكتابية والاجتماعية فهما أقل الجرآت شأنًا، بل تتعداها إلى الجرأة الوجدانية والنفسية، فتصور لنا أكثر وأعمق مما اعتدناه من مشاعر وتجارب مللناها. . .)

(1)

.

‌8 - الإنسان مجرد جسد:

هذه قاعدة فرويد التي بنى عليها مذهبه الجنسي المظلم وتبعه في ذلك المقلدون من أبناء البلاد الإسلامية، فاعتبروا الإنسان جسدًا بلا روح، ولحمًا ودمًا بلا آفاق ولا أشواق ولا قيم، ولذلك انحدروا مع هذا المفهوم الطيني إلى وحول نتنة من الأخلاقيات والسلوكيات المنحرفة، واعتبروا وجودهم في الدنيا فرصة وحيدة يجب أن تستغل استغلالًا كاملًا في كل ما من شأنه تحقيق الرغبة الجسدية، وتحصيل الشهوة الحيوانية، وحتى الحب الذي هو عاطفة إنسانية راقية، جذبوها من علوها وأنزلوها إلى مستنقع الجنس أمّا آفاق النفس وأشواق الروح وأبعاد الغيب فهم أبعد الناس عن هذه الأمور؛ لأن جسديتهم وطينتهم تحتم عليهم أن يكونوا في دائرة الجثمان

(2)

.

‌9 - بغض الوالدين:

إذا كان بر الوالدين عبادة عند المسلم، فإن بغض الوالدين وكراهية سلطة الأب أصل من أصول الانطلاق الحداثي كما يحلو لهم أن يقولوا، أمَّا التعبير السلوكي والعملي عن هذا البغض فقد سطره محمد شكري في روايته الخبز الحافي

(3)

، فهو يصف كيف كان يتجسس على والديه ويسمعها وهما في حالة الجماع، ثم يطنب في شرح مقدار بغضه لوالده، ويكيل له الشتائم

(1)

خواتم: ص 30 - 31.

(2)

انظر: اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 124، 147 - 148، 151 - 152، وقضايا وشهادات 2/ 105، 285، وأسئلة الشعر: ص 180، 198 - 200، وخواتم: ص 25 - 40، وديوان محمود درويش: ص 276، ومسافة في عقل رجل: ص 158 - 159، ومباهج الحرية: ص 414.

(3)

انظر: الخبز الحافي: ص 26 - 27، 36، 91، 93، 97، 71، 78، 95، 98.

ص: 2067

القذرة بل يذكر أمنيته في قتل والده، ثم لما مات والده فرح بذلك وذهب ليبول على قبره.

أمَّا ابن جلون فإنه يسجل هذه الظاهرة في رواية ليلة القدر حيث يجعل الفتاة التي هي محور الرواية تذهب إلى قبر والدها فتنبشه وتلقي فيه كلما كان قد أعطاها في حياته باعتبارها ولدًا ذكرًا

(1)

.

أمَّا نوال السعداوي فتتناول مسألة الوالدين تحت عناوين: البنت، الأسرة والكبت، الأسرة والمدينة، سيكولوجية الأب، وكلها تصب فى إناء الدعوة إلى التمرد على الأب والخروج عن طاعته

(2)

.

‌10 - بيوت الدعارة:

سبق عند ذكر احتراف الدعارة بيان إشادتهم وامتداحهم للمومسات، وبائعات الهوى، وهنا نشير إلى شغفهم ببيوت الدعارة ومحبتهم لها، وذكرها في كتاباتهم ذكر تبجيل وثناء؛ ذلك أنهم قد ألفوا هذه البيئات، والإنسان يحب ما ألف.

تجد في شعرهم وكتاباتهم الأخرى مدح الحانة وبيوت العري، ومنازل البغايا، أو ذكر أحداثها على أنها من الأمور العادية والممارسات الطبيعية

(3)

، ومن المعلوم كم في هذه البيوت من مدمرات للأخلاق ومحطمات للقيم ومهلكات للسلوك القويم، وكم فيها من قيح وصديد ينشيء الرذائل الخلقية، ويربي الانحراف والجريمة.

‌11 - التشرد:

يعدون التشرد والضياع نوعًا من الإبداع والانطلاق من عوامل الكبت،

(1)

انظر: ليلة القدر: ص 43.

(2)

انظر: دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص 31، 37، 96، 176 - 183.

(3)

انظر: ديوان السياب: ص 6، 7، 213، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 320 - 321، 322، 328، والخبز الحافي: ص 135، 167، 49، 112، 221 - 222، والشطار: ص 131، 157، وليلة القدر: ص 85، 96، ودار المتعة لوليد إخلاصي: ص 31 - 38، 226، 243، وغيرها من الصفحات.

ص: 2068

ولذلك وصفوه وأعجبوا بأصحابه الذين يمارسونه

(1)

.

‌12 - الجنس أساس كل شيء:

قاعدة من قواعدهم التي ينطلقون منها على آثار أستاذهم اليهودي فرويد، وقد سبق نقل كلام نزار في أن الجنس أساس الحضارة والتقدم، وكلام أنسي الحاج في أن الحرية الجنسية أساس كل حرية وأن الإبداع شهوة جنسية قبل كل شيء، أمَّا محمد شكري فإنه ينادي أغرق نفسك في الجنس تنسى الهموم

(2)

، وأمَّا أنسي الحاج فيقول:(الجنس يأتي معه بحبه التعري لا العري، تعرٍ لا نهاية له. . . في التهتك حسابات دقيقة جدًّا لا غنًى عنها وإلَّا انحرف وتشوه. . . عندما يرميك شبقك بين أحضان جسدك يستنير محياك كملاك. . .، وهل يكون أن من ألذ ما في المرأة أن يملكها سواك، فتبرز قيمتها لك كمشهد، وكملك لآخر، أشهى ما فيه متعة سرقتها؟، لماذا أتوب عن هذياني الجنسي وهو أكثر ما يعيدني إلى الفردوس؟)

(3)

.

‌13 - الجنس مع الحيوانات:

يعترف محمد شكري بأنه مارس الجنس مع الحيوانات: الدجاجة، العنزة، الكلبة، العجلة، ثم يصف بعض هذه الممارسات

(4)

.

‌14 - الحانات:

مدحوها ووصفوها وصف المحب المعجب أو ذكروها على أن

(1)

انظر: الآثار الكاملة للماغوط: ص 214، والخبز الحافي: ص 40، 72، وقد سبق ذكر المقالات والكتب التي أشادت برواية الخبز الحافي وبصاحبها، وهذه الإشادة تتضمن الإعجاب بالتشرد والفوضوية التي عاشها محمد شكري.

(2)

انظر: مجلة الناقد، العدد التاسع: ص 8، وأسئلة الشعر: ص 198 - 200، وقضايا الشعر الحديث: ص 318، والشطار: ص 44، 49، وشقة الحرية: ص 316.

(3)

خواتم لأنسي الحاج: ص 25 - 28.

(4)

انظر: الخبز الحافي: ص 33.

ص: 2069

وجودها وانتشارها في بلاد المسلمين من الأمور الطبيعية

(1)

.

‌15 - الحب هو الجنس:

الحب تلك العاطفة الإنسانية النبيلة تحولت عند الحداثيين والعلمانيين إلى جنس، فقد كثر في كلامهم الإشارة إلى الحب بهذا المعنى، يقول إحسان عباس:(نحن نعيش في عصر فرويد: جملة قد تحمل معاني عديدة، وقد تكون فارغة من المعنى، ولكنها تشير إلى انهيار الحواجز بين الحب والجنس)

(2)

.

وهذه النظرة الفرويدة التي شاعت في الغرب، فكان من ثمارها ما سبق شرحه، حتى إن الرجل ليقول للمرأة تعالى نمارس الحب لمدة كذا دقيقة، أو يصف بأنه مارس الحب مع فلانة لمدة كذا، وكذلك فعل المقلدون من أبناء المشرق:

(الجنس كان مسكنًا جربته لَمْ ينه أحزاني ولا أزماتي

والحب أصبح كله متشابهًا كتشابه الأوراق في الغابات

أنا عاجز عن عشق أية نملة أو غيمة عن عشق أي حصاة

مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي)

(3)

(. . . إنه اتخذ الجنس مسكنًا وأصبح الحب كله متشابهًا. . . إن خوف الشاعر من ضياع الحيوية الشعرية -لا من ضياع العفة والفضيلة- هو الذي يحدد للحب "ومن ثم للجنس" أبعاده وقيمه، فنزار إذن لم يتحدث عن الحب بمعناه العاطفي الذي يظنه الكثيرون، إنّما تحدث عنه بمعنى جديد. . .)

(4)

.

(1)

انظر: ديوان السياب: ص 6، 7، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 320 - 321، 322، 328، والخبز الحافي: ص 112، والشطار: ص 131.

(2)

اتجاهات الشعر العربي: ص 135.

(3)

الأعمال الشعرية لنزار 1/ 466.

(4)

اتجاهات الشعر العربي: ص 136 - 137، ونحو ذلك: ص 141، 144، 147.

ص: 2070

(وهو في ثقافته وفكره يريد للمرأة أن تتحرر، رغم أنه يراها بسبب وضعه الأول مقيدة بأغلال الحب والجنس، وقد رآها متحررة، وأعجب بتحررها)

(1)

.

ويورد هذا الناقد جملة من أقوال الشعراء الحداثيين ويخلص بنتائج منها قوله بعد إيراد كلام لصلاح عبد الصبور: (في القديم كان الحب يخضع للترتيب والحسبان، كانوا يقولون نظرة فابتسامة فسلام. . . الخ، أمّا اليوم فإن العاشق العصري قد يلتقي بمحبوبته "من قبل أن يبتسما" وقد يذوق العاشقان ما يذوقان قبل أن يشتهياه، فالحب لحظة شبق تضيع قبل أن تتحد أبعادها أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر)

(2)

.

أمَّا عند أدونيس الذي يرى العلاقة بالمرأة تتم (عن طريق الحب الجسد كما تعبر عن ذلك قصيدته تحولات العاشق)

(3)

. (يجب أن تتذكر أنه في خلال الثلاثين سنة الماضية، قد تم تطوران كبيران -إلى جانب تطورات أخرى- وهما تطور وضع المرأة، وتطور فكرة الحب)

(4)

. ("ظاهرة الحب" أصابها التغير بفعل الزمن فجفت وأصبحت قاصرة على العلاقات الجسدية)

(5)

.

وقد صرح نزار قباني بأنه يحارب ألوان الحب الشرقي

(6)

، وهي دعوة للدعارة على الطريقة الغربية، ويصرح بأنه يتعاطى الحب بالأسنان والأظافر

(7)

، ويقصد الجنس، وهو كلام شائع ذائع عندهم، مألوف في

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 140.

(2)

اتجاهات الشعر العربي: ص 143 - 144.

(3)

المصدر السابق: ص 147.

(4)

المصدر السابق: ص 149.

(5)

المصدر السابق: ص 151.

(6)

أسئلة الشعر: ص 197.

(7)

المصدر السابق: ص 198.

ص: 2071

كتبهم ودواوينهم ورواياتهم

(1)

.

أمَّا نوال السعداوي فتطلق تصريحًا انحلاليًا تقول فيه: (المرأة الواعية الذكية لا تفصل بين الحب والجنس)

(2)

.

‌16 - الحشيش والمخدرات:

تجد ذكر الحشيش والمخدرات في كتاباتهم، بين وصف لتعاطيهم لها، أو وصف للحشاشين وأصحاب المخدرات باعتبارهم من الأسوياء، واعتبار وجودهم وجودًا طبيعيًا، بل أحيانًا يشيرون إلى ذلك إشارة إعجاب وتبجيل وثناء كما قال أنسي الحاج:(إعجابي بمفرغي عبقرياتهم في الضياع، في العقم "بالكسل، الكحول، المخدرات، النساء، الهرب" فيه فهمٌ لهم، فهمٌ عبرهم، وعبر نموذجهم التبذيري، لرسالة ما عن حقيقة العلاقة التي يجب أن تقوم بين المبدع وعمله)

(3)

.

وإذا كان أمل دنقل من أصرح النماذج على الارتباط الإبداعي!! بين الشعر الحديث والمخدرات والخمور، كما جاء في كتاب "الجنوبي"

(4)

لزوجته، وكما جاء في اعتذارية المقالح وتبريراته لهذا السلوك الشائن عند أمل دنقل

(5)

، ويشبهه في هذا السلوك محمد شكري الذي وصف أحوال تسكعه وعربدته مع الحشاشين وفي المواخير بل وحتى التحشيش في المسجد

(6)

، وليست خاصة تعاطي الحشيش أو مدحه أو التهوين من شأنه

(1)

انظر: ديوان السياب: ص 213، وديوان صلاح عبد الصبور: ص 213 - 215، 724، 745، وأحد عشر كوكبًا لمحمود درويش: ص 78، 79، والشطار: ص 49.

(2)

دراسات عن المرأة والرجل: ص 201.

(3)

خواتم: ص 125.

(4)

انظر: الجنوبي أمل دنقل: ص 57، 64، 106، 115.

(5)

ديوان أمل دنقل: ص 25 - 30.

(6)

انظر: الخبز الحافي: ص 30، 40، 41، 112، 131، 227، والشطار: ص 38، 132، 159.

ص: 2072

مقتصرة على هذين فقد شاعت هذه الظاهرة عندهم حتى أصبحت أمرًا عاديًا

(1)

.

‌17 - الخمر:

أكثروا من ذكر أم الخبائث وامتداحها بل إن تعاطيها عندهم من أبسط الأمور وأهونها، وليست قصة موت صلاح عبد الصبور في ليلة غناء ورقص وخمر ببعيدة عن أذهان الحداثيين

(2)

.

أمّا أقوالهم الواصفة للخمر وأحوالهم معها فكثيرة

(3)

.

‌18 - الزنى:

سبق عند الكلام من احتراف الدعارة بيان موقفهم من هذه الفاحشة المقيتة، وكيف أنهم نظروا إليها على أنها من أبسط الأشياء، بل دعوا إلى انتشارها من خلال تهوينها، ووصف أحوال الزناة والزواني بتمجيد وثناء، واعترافاتهم بالزنى، وهذا وحده كافٍ في الدلالة على درجة الأخلاق عندهم

(4)

.

(1)

انظر: السباحة في بحيرة الشيطان لغادة السمان، حيث حكت فيه تجربتها مع المخدرات، والمجموعات الشعرية لجبرا: ص 115 - 116، وشقة الحرية: ص 167، ومباهج الحرية في الرواية العربية: ص 213 - 215 حديثه عما أسماه مثلث الجنس والحشيش والخمر في روايات مؤنس الرزاز وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغالب هلسا.

(2)

انظر: هذه القصة التي حدثت في منزل أحمد عبد المعطي حجازي، وقد حكاها حجازي مفصلة في قضايا الشعر الحديث: ص 257، وحكتها عبلة الرويني في كتابها الجنوبي: ص 106، وكان من الحاضرين تلك الليلة جابر عصفور والرسام بهجت عثمان وأمل دنقل.

(3)

انظر -مثلًا-: خواتم: ص 125، ومظفر النواب شاعر المقاومة: ص 45، 52 - 53، وديوان سميح القاسم: ص 230 - 232، 561، والآثار الكاملة للماغوط: ص 38، 45، 46، 67، 217، والخبز الحافي: ص 40، 49، 77، 131، 227، والشطار: ص 38، ومسك الغزال: ص 110، 113، 124، 137، 155، وشقة الحرية: ص 316، 408، ومباهج الحرية: ص 213 - 215، وموسم الهجرة إلى الشمال: ص 103، 110، 116، 125، 126، 145 - 147، 160.

(4)

انظر: أمثلة على ذلك في ديوان أمل دنقل: ص 85، 140، 142، 148، والأعمال =

ص: 2073

‌19 - الزنى بالمحارم:

لم يقتصر شرهم على ذكر الزنى بالأجنبيات، بل تعدى ذلك إلى الزنا بالمحارم، ففي رواية ليلة القدر قصة زنى رجل بأخته ورجل كان يجامع ذريته

(1)

، وفي دراسة نقدية لها اعتبرت هذه القصة وخاصة زنا المحارم من الانتهاك الحداثي المرغوب ومن كسر الممنوع والمحرم والانتقام من الماضي، وهي مشروعات حداثية معروفة

(2)

، وفي رواية الشطار لمحمد شكري ذكر فتاة واقعها والدها وتبريره لهذه الشناعة

(3)

.

‌21 - السحاق:

يذكرونه كأمر طبيعي وممارسة عادية، ويدرسه بعضهم على أساس أنه نتيجة كبت الوالدين للفتاة، وعدم إعطائها حريتها ومحاصرتها بمفاهيم الشرف والعذرية، ومنعها من اختيار صديقها وعشيقها

(4)

.

= الشعرية لنزار 1/ 340 - 342، 346 - 348 و 2/ 429، وديوان محمود درويش: ص 35، وديوان المقالح: ص 135 - 138، 256 - 257، والخبز الحافي: ص 35، 42، 44، 45، 46، 48، 60، 62، 134، 147، 165، 181، 188، 209، 221 - 222، والشطار: ص 86، 131، وليلة القدر: ص 84، 85، ومسك الغزال: ص 49 - 50، 78، 94، 140، 184، رواية سلطانة لغالب هلسا: ص 371 - 397، وألف وعام من الحنين لبوجدرة: ص 6، وتوفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى: ص 84، 88، وأحاديث عن جبران: ص 75 - 77، 102، وأقصى درجات العزلة أكثر الكتاب، ومدن الملح 1/ 234 و 2/ 52 - 53، 57، 58، 83، 85، 86، 234، 405، 432، 499، 500، وشقة الحرية: ص 322، 409، وعرس بغل: ص 44، امرأة عند نقطة الصفر: ص 92، ومباهج الحرية: ص 126 عن غالب هلسا، وموسم الهجرة: ص 158 - 165.

(1)

انظر: ليلة القدر: ص 52، 68، 69.

(2)

انظر: مجلة الناقد، العدد التاسع: ص 8.

(3)

انظر: الشطار: ص 49، 50، ورواية الإنكار لبوجدرة: ص 133 - 150، واللاز لوطار: ص 188 - 192.

(4)

انظر: مسك الغزال: ص 47، 53، 54، 65، 84، ودراسات عن المرأة والرجل لنوال السعدي: ص 255، 286، وديوان أمل دنقل: ص 225.

ص: 2074

‌22 - العبارات القذرة:

إن التعفف عن ذكر الأشياء القذرة بأسمائها أو الإشارة إليها بالكناية والتعريض، دليل على رفعة الذوق، وسلامة السلوك، وفي الإسلام تسميات من هذا القبيل مثل قضاء الحاجة، والغائط، والجماع، والنكاح، والمقارفة والبضع، والعذرة، وغير ذلك.

أمَّا عديمو الذوق ومنتكسو الفطر فلا يأبهون بترديد أحقر وأقذر العبارات، وهذا منتشر في كتبهم ويُمكن العودة إليها حسب الإحالات؛ لأن نقلها هنا مما يتنافى مع الاحتشام والتعفف

(1)

.

‌23 - العري:

يُمكن تسمية أدب الحداثة أدب العري، فهم عراة من العقل والدين والأخلاق، ودعاة إلى التعري، وخاصة تعري المرأة، تعريًا كاملًا، أو تعريًا تصبح فيه كاسية عارية.

يقول أنسي الحاج: (الجنس يأتي معه بحبه، التعري لا العري تعرٍ لا نهاية له. . . لا أحب عري المرأة وهي غافية، أريدها حاضرة لتعيه، لتؤهله، ليجرفها، لتشرف على دواره ودواري، النوم يحيدها، يلغي "الموقف" ويجعل مفاتنها حرفًا ميتًا، فائحًا برائحة الإهمال والحقيقة)

(2)

.

(1)

انظر: الحداثة الأولى: ص 217 حيث ذكر بذاءة أنسي الحاج في ألفاظه ودافع عنه، ومجلة الناقد، العدد الثالث عشر: ص 66 - 70 قصيدة لنزار بعنوان سيكولوجية قطة، والمجموعات الشعرية لجبرا: ص 106، والمجموعات الشعرية لتوفيق صايغ: ص 160، 228، 408، ومظفر النواب شاعر المعارضة: ص 38 - 40، 74، 89 حيث ذكر المؤلفان بذاءة النواب الشهيرة وبررا ذلك ودافعا عنه، وذكرا نماذج من هذا الألفاظ، والأعمال الشعرية لمعين بسيسو: ص 13، والخبز الحافي: ص 12، 31، 53، 54، 65، 78، 90، 101، 103، 107، 121، 122، 205، 206، 207، 212، والشطار: ص 13، 33، 55، 57، 85، 43، 70، وألف وعام من الحنين: ص 26، 35، وتوفيق صايغ سيرة شاعر: ص 90، 91.

(2)

خواتم ص: 25 - 26.

ص: 2075

هذه هي المرأة في ميزانهم، وهذه هي الردة الحيوانية التي يريدون قذف الإنسانية فيها.

وليس دعوتهم للعري مختصة بالمرأة، بل فيهم من ينادي بحرية التعري وإنشاء نوادي للعراة، وما يحدث على الشواطيء والمسارح والسينما وأفلام الدعارة إلّا نماذج من التطبيق الحداثي العلماني لهذه الدعوة الحيوانية دعوة العري والدعارة، ومع ذلك يطالبون بإيجاد نوادٍ للعراة على غرار ما عند أسيادهم الغربيين

(1)

.

‌24 - القوادة:

من لوازم احتراف الدعارة، ومحبتها، وجود القوادين الذين يجلبون الزناة إلى الزواني، وقد اعترف بعضهم بممارسة ذلك

(2)

، ووصف بعضم بتفصيل ابتهاجي حالته مع قواد وزانية

(3)

، وهناك من وصف القوادة وأعمالها بشكل تهويني

(4)

.

‌25 - اللوطية:

هذه الرذيلة الخلقية الشاذة، شاعت في الغرب واستسيغت وأخذها تلامذة الغرب يريدون نشرها بين المسلمين وإشاعتها على أساس أنها حرية شخصية وممارسة للتحرر والانطلاق.

(1)

انظر: ديوان السياب: ص 6، 7، والأعمال الشعرية لنزار 1/ 143، والآثار الكاملة للماغوط: ص 235، والأعمال الشعرية لممدوح عدوان 2/ 30 - 47، 48 - 55، وهو ممن يعتقد عقيدة داروين وفرويد، وقد كتب على غلاف كتاب القرد العاري:(إن هذا الذي اسمه الإنسان ليس سوى قرد تساقط عنه الشعر، وهو يعيش في تجمعات بشرية ليست سوى حظائر أو حدائق حيوان بشرية. . .، وقراءة هذا الكتاب ضرورية مهما كانت النتائج قاسية، إنها ضرورية مثل النظر إلى المرأة لإدراك مقدار الاتساخ والتشوه في الوجوه). وانظر: الشطار: ص 147، 128، وليلة القدر: ص 68، ومسك الغزال: ص 139، 153، 163، وقصة حب مجوسية: ص 66.

(2)

انظر: الشطار: ص 85.

(3)

انظر: سلطانة لغالب هلسا: ص 371 - 397.

(4)

امرأة عند نقطة الصفر: ص 104.

ص: 2076

يقول رشيد بو جدرة: (أي أديب عربي تعرض للواط في كتاباته؟ لا أحد، فأنا أول من تجرأ على ذلك في كتابي "التطليق")

(1)

.

ويعترف محمد شكري باللواط ويصف حالات لواط منها ما ذكره -تدنيسًا- من لواط في المسجد.

أمَّا ابن جلون فإنه يذكر من يتهيج جنسيًا برؤية مؤخرات الساجدين في الصلاة، وغير ذلك من العبارات الرمزية والصريحة التي تشير إلى اللوطية وكأنها من الأمور المعتادة الخفيفة التي لا ضير فيها

(2)

.

هذه بعض الأمثلة السريعة التي يمكن من خلالها أن تعطي صورة عن الانحرافات المتعلقة بالسلوك والأخلاق عند أصحاب الحداثة، وتبين إلى مدى ما وصلت بهم المحاربة للأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية، ويكفيك من شر سماعه!!.

بيد أنه سيقال عند هذه الأمثلة بأن الشاعر أو الروائي يحكي الواقع ويصور الحال كما هو، ولا تثريب عليه في ذلك.

والحقيقة أن الفن والأدب في العصر الحديث يتدهور كل يوم بدعوى "الواقعية" واقعية المادة وواقعية الحيوان، ومن ثم فقد الآفاق السامية والمقاصد السامقة، فقد الجمال ومعاني الفضيلة والخير بهبوطه السحيق في مستنقعات الرذائل، وتحول باسم الواقعية أو التحررية أو المعاصرة إلى ناقل للأمراض الخلقية، ومروج للفساد والباطل، فما أعظم الخرافة التي يعيش فيها هؤلاء ومن تابعهم، وما أفضع الهوة التي ينحدرون إليها!!.

الواقع حقيقة ما في ذلك ريب، ولكن الارتفاع فوق الواقع إلى آفاق

(1)

رأيهم في الإسلام: ص 172.

(2)

انظر: ديوان صلاح عبد الصبور: ص 520، 521، والخبز الحافي: ص 65، 67، 112، 216، والشطار: ص 10 - 11، 117، وليلة القدر: ص 28، ومسك الغزال: ص 93، 94، 168، والإنكار لرشيد بوجدرة: ص 123، وأحاديث عن جبران: ص 108، وشقة الحرية: ص 165، وعرس بغل: ص 124.

ص: 2077

القيم وآفاق الإصلاح حقيقة كذلك، بل هي الحقيقة الإنسانية الراقية، أمَّا الواقعية البليدة التي تنكر قدرة الإنسان على السمو، وتسعى إلى تمريغ النفس الإنسانية في تراب القذارة، فهي من إفرازات دارون وماركس وفرويد والبراجماتزم، واقعية رعناء جثمانية شهوانية؛ ذلك أن النفس الإنسانية لا تنحصر في الطعام والكساء والجنس والرغبات المادية.

(والفنون الحديثة تنحو هذا المنحى الأحمق، لكي تكون فنونًا واقعية، الفنانون والنقاد المحدثون يسخرون من الفنون القديمة التي كانت تبرز الجانب الأبيض من الإنسان كأنما كله فضيلة!، ويدعون في مقابل ذلك إلى تسجيل الإنسان بحسب واقعه، يعني تسجيل الجانب الأسود من طبيعته وكأنما كله رذيلة! أستغفر اللَّه! إن الحديث عن الفضيلة والرذيلة من تراث الماضي البائد الذي يجعل للفنون وللحياة كلها هدفًا أخلاقيًا، وتلك أفكار رجعية، نحن اليوم معنيون بدراسة "الواقع" وتسجيله صافيًا من الخرافات والأوهام!.

وفي ظل هذه العقيدة راح الفنانون الغربيون يمزقون الإنسان مزقًا ويمرغونه في الوحل، نزوات الجسد، نوازع الفطرة، صراع الحيوان، خسة الطبع، التواء المشاعر، هذه هي الدراسة الحديثة للإنسان كما ينعكس من كثير من ألوان الفن الحديث.

وما أريد أن أقول إن البشر ملائكة، ولا إن الفن ينبغي أن يصورهم ملائكة، ولكن الواقعية الحقة ينبغي أن تشمل الواقع الكبير، وأن تكون أكثر إشادة باللحظات الشفافة الرائعة منها باللحظات المعتمة الغليظة؛ لأن الواقع الأكبر يقول: إن هدف الحياة ليس مجرد استمرار الحياة على سطح الأرض، وإنّما هو الوصول بها إلى مرتبة الجمال والكمال.

صراع الجسد حقيقة، غلبة التوازن الفطرية على المبادئ والمثل حقيقة، ضعف الإنسان ورضوخه لنزواته حقيقة، ولكن ارتفاعه فوق الواقع حقيقة كذلك يلمسها كل إنسان في نفسه حين يحقق كيانه كإنسان. والفن ينبغي أن يشمل الواقع كله بلا تمييز، الواقع الأكبر والأصدق في التصوير.

ص: 2078

وما نعني حين ندعو إلى "تطهير" الفن من واقعيته السخيفة أن نغفل لحظات الضعف والهبوط، أو نلغي تصوير المشاعر الخسيسة من الحساب، أو تصور الإنسان ملاكًا بلا خطايا ولا أخطاء. كلا! وإنّما نعني أن يكون الضوء مركزًا على لحظات الارتفاع فوق الواقع لا على اللحظات الهابطة إلى عالم الضرورة)

(1)

.

هذا كله يقال لمن كان يؤمن بالقيم وقيمة الإنسان ويعتذر بالواقعية ونقل الواقع، وإن كان أكثرهم لا يؤمنون بقيم ولا أخلاق، ولا يعتذرون بمثل هذه الأعذار، بل يعتبرون كل ذلك من التخلف الذي لابد من تحطيمه وتجاوزه.

• • •

(1)

في النفس والمجتمع لمحمد قطب: ص 112 - 113.

ص: 2079

‌الفصل الرابع الانحرافات في القضايا الاجتماعية والنفسية

يعتبر هذا الفصل تكملة للفصل السابق وتتمة له، فقد سبق أن ذكرت فيه أصول السلوك والأخلاق، والتي تنطبق على الجماعة كما تنطبق على الفرد، وتصح في الذات الواحدة منفردة كما تصح في الذوات مجتمعة.

فالسلوك الاجتماعي الظاهر يدل على الخلق المستقر في نفوس أفراد ذلك المجتمع.

كما أن ضبط السلوك الاجتماعي وتوجيهه نحو الأحسن والأجمل والدعوة إلى التزام مكارم الأخلاق وفضائل الآداب واجتناب الأخلاق الذميمة كل ذلك من مقتضيات العقل والدين والفطرة، وهو من الأمور التي يجب العناية بها والرعاية لها والمحافظة عليها، من خلال بث الإيمان وحفظه وتقوية أسباب رسوخه؛ لأن الأخلاق والسلوك الاجتماعي والفردي مرتبط بالإيمان، ومتداخل مع العبادات.

وما أحدثته الجاهلية المعاصرة في الأخلاق الشخصية من انحرافات وصل تأثيره إلى الأخلاق الاجتماعية.

فالمجتمعات التي اهتز إيمانها باللَّه تعالى، وجودًا أو ألوهية، أو التي لم تقم بواجب العبادة له سبحانه، تكون بذلك قد وضعت أكبر مدمر لصرحها الاجتماعي، بمقارفة أعظم الرذائل الخلقية ومجانبة أعظم الفضائل

ص: 2080

الخلقية، ذلك أن أسمى وأبرز مظاهر الكمال الخلقي الإيمان باللَّه تعالى وعبادته الذي توجبه فضائل الأخلاق الفكرية؛ لأن اعتناق الحق والاعتراف به والتزامه فضيلة خلقية تستند على العقل السليم والفطرة القويمة.

وشكر الخالق المالك المتصرف المنعم بسائر النعم واجب أخلاقي، وعدم شكره انحطاط خلقي شنيع، يتضمن الكبر والكذب والتكذيب والظلم وكراهة الحق.

أضف إلى ذلك ما يترتب علي ضعف الإيمان أو اهتزازه أو انعدامه من فساد كبير في الأخلاق والسلوك والعمل.

فالمجتمع المؤمن يسعى في إيجاد الفضائل وتكميلها، وإلغاء الرذائل وتقليلها، والمجتمع الكافر عكس ذلك، وشواهد ذلك من التاريخ الإنساني كثيرة جدًا، كلها تنطق بأن المجتمع كلما اقترب من اللَّه إيمانًا وعبادة كانت فضائله الاجتماعية أكثر ودرجات السلوكية أرقى، وارتفاعه في سلم الأخلاق والآداب أسرع وأقوى وأمكن.

وكلما نسي اللَّه نسيه اللَّه، فتردى في دركات الرذائل، وتعثرت خطاه، وانتكس وارتكس.

ومن تأمل قصص الأمم السالفة، وكيف كانت حياة المؤمنين وأخلاقهم وأعمالهم، وحياة الكافرين وأخلاقهم وأعمالهم وجد الفرق الهائل في مسيرة حياة المجتمع وفي مصيره.

ومن تأمل الحياة الاجتماعية المعاصرة للغرب، وما وصلت إليهم حياتهم من جراء النظرة المادية التي قادتهم إلى اعتبار الإنسان مادة مجردة من الروح معزولة عن الوجدان، مفصولة عن القيم والآفاق العالية، وهنا ماج المجتمع في بعضه كما تموج القطعان، حيث بطل تميزه الإنساني واختصاصه وانتظم في سلك الحيوانية الهابطة، بناء على اعتقادهم أن الإنسان ليس له إلّا طبيعة واحدة محدودة بحدود المادة والجسد، وموجه بغرائزه، وخاصة، غريزة الجنس.

ص: 2081

وهنا حصل الإلغاء الكامل والصريح لإنسانية المجتمعات، والجحد الصريح للحقيقة الروحية، والآفاق والأشواق الإنسانية والقيم العليا، قيم الحق والخير والجمال والإخاء والمودة، وتحويلها إلى وسائل يُحتال بها للوصول إلى المآرب والرغبات المادية والشهوانية.

وبناء على هذه النظرات المادية الحيوانية أقام الغرب سياسته وقوانينه، وحياته الاجتماعية والنفسية، بمعزل عن القيم الروحية، والأخلاق، وقبل ذلك كله بمعزل عن الدين.

وكانت نتيجة ذلك التخبط المروع لهذه المجتمعات، والصراع الوحشي، والتمزق العنيف، وحياة التشاكس والضيق، وتلف المشاعر ومرض الأعصاب ودمار النفوس، وسحق الإنسان، حتى وصلت حوادث الجنون والانتحار والتفكك الأسري إلى أرقام قياسية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.

ولولا غلالة رقيقة من الأداء الإداري، والتفوق التقني، والغلبة العسكرية، والمساواة القانونية لكانت هذه المجتمعات قد انهارت وتآكلت من داخلها.

وقد شهد بذلك بعض مفكريهم وحذروا من الدمار القادم

(1)

.

وكل ذلك يعود إلى استبعاد الدين وإلغاء الإيمان باللَّه تعالى من الحياة، وعزل الحياة عن ذلك تمام العزل، وإلى التصور الأعور للكيان الإنساني، والتفسير الناقص، قصير النظر، محدود الرؤية، الذي جعلوه الأصل الكلي لمنطلقاتهم الفكرية والعملية.

وإذا عدنا إلى أظهر الفلسفات التي أثرت في الحياة الاجتماعية وجدناها:

(1)

انظر: على سبيل المثال سقوط الحضارة لكولن ولسن، والإنسان ذلك المجهول لأكسيس كاريل، وإنسانية الإنسان لرينيه دوبو.

ص: 2082

‌أولًا: التفسير المادي الذي يقول أن نشاط الإنسان وحركة المجتمع هي في اللهاث خلف الظواهر الاقتصادية والخنوع للمال والتأليه الأعمى للمادة

.

وهذا التفسير المادي الاقتصادي الطبقي الذي نادى به كارل ماركس، والذي عرف "بالمادية التاريخية" التي تحولت إلى دولة ومذهب اجتماعي وتيار فكري وسياسي واقتصادي، بسط نفوذه على رقاع في العالم، وطبق نظامه السياسي والاجتماعي على شعوب ودول.

وتحولت الفلسفة المادية التاريخية من فلسفة ونظرية ونمط تفكير محض إلى ميدان الواقع والتجربة والتطبيق، وأخذت طريقها إلى أجهزة دول وحياة مجتمعات، مستخدمة كل وسائل الدعاية والسياسة والقمع والإرهاب الفكري والمادي وكل طرائق الفتنة والتدمير والخراب.

على الرغم من أن المادية الجديلة لم تقم على أساس علمي باعتراف أصحاب النظرية أنفسهم، وكذلك كان شأن المادية التاريخية وكل ما تفرع عن ذلك من ضروب السياسة والاقتصاد الذي يسمى الاشتراكية العلمية وغير ذلك.

ومن أهم مبادئ الفلسفة الماركسية أن الفرد لا قيمة له إزاء الجماعة، ولذلك كانت هذه النظرية لا تتصل بالأفراد؛ لأنهم -عند ماركس- أضعف في نظره من أن يؤثروا في التغيير الاجتماعي، المحصور في الجماعات والطبقات، حيث الصراع الاقتصادي المسيطر والمحرك الأول الذي يوجه حركة المجتمع وحركة التاريخ.

فليس التاريخ البشري في التفسير الماركسي سوى صراع الطبقات الذي سوف ينتهي بفوز الطبقة التي تنسجم مع تطور وسائل الانتاج، والعلاقات الاقتصادية الناشئة عنها، ويتواصل الصراع حتى تنجح الطبقة العاملة "البلوريتاريا" في الوصول إلى الحكم فتسقط الملكية الخاصة، وتعم العدالة التامة والمساواة الحقيقية، حيث يتحول البشر جميعًا -حسب زعمهم- إلى طبقة واحدة تنتهي مع وجودها الحروب ويحل العدل والرخاء والسلام.

ص: 2083

ويزعم الماركسيون أن فلسفتهم هذه مبادئ حتمية مرتكزة على أسس علمية، لا تقبل النقاش فضلًا عن الرد، كما أنهم يزعمون شمولية مذهبهم وعدم جواز تجزئته، كما أنهم يصرون -بشدة وعنف- على تفسير كل جوانب الحياة وفق هذه المبادئ التي يقدمونها كمزيج من عناصر فلسفية واجتماعية وسياسية واقتصادية.

ومع إصرار شديد وعنيف أن ما عداهم من مذاهب وأنظمة لا تستحق الوجود، بل سوف تجتاحها حتمية المادية التاريخية الجدلية وتقضي عليها

(1)

.

هذا المبدأ الإلحادي احتوى من أسباب الهدم والتخريب ما لم يحدث في كثير من المبادئ المادية، ففيه التدمير لمقومات الحياة الإنسانية الكريمة، والتشويه المروع لتاريخ البشرية، وقيم الأخلاق، فتاريخ البشرية في نظر الماركسية ليس سوى العامل الاقتصادي وليس سوى البحث الدائب عن الطعام.

فليست هناك أية قيمة -عندهم- للمجتمعات سوى القيمة المادية الاقتصادية، وليست هناك أي قيم إلّا ما ينبثق عن هذه المادية، فلا مساواة اجتماعية حقيقية إلّا المساواة الاقتصادية، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بالصراع الطبقي الحتمي الوقوع.

فالعلاقات البشرية لا تحددها -حسب فلسفتهم- الأخلاق أو العقائد الدينية أو القيم الإنسانية أو التقاليد الاجتماعية، بل يحددها العامل الاقتصادي وحده دون سواه، فليست الإنسانية في تاريخها الطويل سوى آلات صماء عمياء رعناء في دولاب العامل الاقتصادي الجبري الذي لا يُمكن أن تتخلف نتائجه.

(1)

انظر: أسس الفلسفة الماركسية لـ: ق. أفانا سييف ترجمة عبد الرزاق الصافي 8 - 164، ودفاعًا عن الماركسية ردًا على مختلف منتقديها لموريس كورنفورث، والشيوعية خلاصة كل ضروب الكفر والموبقات والشرور والعاهات لأحمد عبد الغفور عطار، ومذهب ذوي العاهات للعقاد والشيوعية والإسلام لعباس العقاد وأحمد عبد الغفور عطار، وحوار مع الشيوعيين في أقبية السجون لعبد الحليم خفاجي، نقض أوهام المادية الجدلية للبوطي، الشيوعية والإنسانية للعقاد.

ص: 2084

وبناء على الصراع الطبقي فالمجتمعات عندهم في صراع دائم بين الطبقة المستغلة والطبقة الفقيرة بين الرأسمالية الامبريالية والطبقة الكادحة، وسوف تنتهي الحرب -كما يقولون- إلى فوز الطبقة الفقيرة الكادحة، وبذلك يتطور المجتمع تطورًا ثوريًا يقضي تمامًا على الطبقة المستغلة.

فإذا أضيف إلى ذلك موقفهم من القيم والأخلاق وزعمهم أنها نسبية إضافية ليس لها حقيقة ذاتية، ولا فطرية، تبين مقدار ما جنته هذه النظرية الهدامة على المجتمعات التي ابتليت بها.

فقد انحط الإنسان عندهم إلى كائن حيواني يبحث عن الطعام ويصارع من أجله، كفعل حيوانات الغابة ولا غرو أن تكون هذه نظرتهم للإنسان فقد أخذت الماركسية فكرة حيوانية الإنسان وحتمية التطور من الداروينية.

فما دام الإنسان -كما يزعمون- حيوانًا نشأ من الخلية الوحيدة وتطور من ذاته، ولا قيم له ولا أخلاق ولا دين، وليست لحياته الفردية أية قيمة إزاء الحياة الاجتماعية، وليست حياته الاجتماعية إلّا الصراع والتنازع من أجل المعيشة، فماذا يُمكن أن يكون هذا الإنسان وهذا المجتمع؟.

لا شك أن في ضوء التفسير المادي الحيواني للإنسان وللمجتمع لابد أن تهبط الأفكار والمشاعر والأخلاق والنظم وسائر سلوكيات الأفراد والمجتمع، حتى تصير في مستوى الحيوان في نظر الماركسية التي ترى العلاقات في دنيا الناس لا تختلف عنها في دنيا الحيوان إلا اختلافًا شكليًا، لا علاقة له بالضمائر والأخلاق والعقيدة والقيم العليا والآفاق المشرقة.

وقد رأى الناس من سيئات النظم الماركسية، وبليات الممارسات الشيوعية ما عجل بزوالها واندثارها على أيدي أبنائها الذين ترعرعوا في أحضانها، وقد سجل بعض ذلك مفكرين وكتاب من أوروبا كانوا شيوعيين أو متعاطفين مع دول الكتلة الشيوعية

(1)

، بل قد سعى العمال في بولندا -

(1)

انظر على سبيل المثال المثال: الأديب ومفوض الشرطة لجورج بالوشي هورفات، والخمور الفكرية لأرثر كوستلر، والاشتراكية الوافدة من الصقيع لجان بول سارتر، =

ص: 2085

وهم محور الفكرة الشيوعية- إلى إسقاط الحكم الشيوعي، وبدأت الشعوب المضطهدة تحت الحكم الماركسي تتململ، ولما أحس رئيس ما كان يعرف بـ "الاتحاد السوفيتي" أن الكارثة توشك أن تقع سعى لإدخال تعديلات جذرية في النظام الاقتصادي وأسلوب الحكم بل في أساس الفلسفة الماركسية، والذي عرف بإعادة البناء، ولكن ذلك لم يمنع من الكارثة بل عجل بوقوعها، فإعادة البناء "البيروسترويكا" كانت في عام 1985 م/ 1405 هـ، وفي عام 1991 م/ 1411 هـ تفكك الاتحاد السوفيتي وسقط النظام الشيوعي وتهاوت الدول التابعة له في شرق أوروبا ودول العالم الثالث، وتحول معظمها إلى الجانب المادي الآخر، الجانب الليبرالي الغربي

(1)

.

‌ثانيًا: الفلسفة النفعية الذرائعية، وهي المسماة بـ "البرجماتية

" وهي الشائعة اليوم في أمريكا والدول الأوروبية ويسعون في نشرها في العالم وخاصة في المجال السياسي، وقد سبق في الفصل السابق الحديث عنها، وعن آثارها النفسية والأخلاقية والاجتماعية، وهي التي تتمدد اليوم فوق قطاع كبير من الحياة الاجتماعية والسياسية في أمريكا وأوروبا.

‌ثالثًا: فلاسفة كان لهم أثر في المسألة الاجتماعية في الغرب:

‌1 - توماس هوبز

(2)

997 هـ - 1090 هـ/ 1588 - 1679 م:

أبو الفلسفة التحليلية، إنجليزي، كان والده قسيسًا، بدأ بنقد الفكر الأرسطي، مستفيدًا من كشوفات وفلسفات سابقة، وخاصة بيكون الذي التقى به في باريس، وزار جاليلو في إيطاليا وأوحت له فلسفته تعميم علم الحركة على الإنسان والمجتمع.

= والطبقة الجديدة لميلوفان دجيلاس، والثورة والثقافة لأندره جيد، ولويس فيشر، وريتشارد رايت، والاعتراف لأرتورلوندون.

(1)

انظر: كتاب المعلومات 1994 - 1995 م، إصدار الآفاق المتحدة: ص 294 - 295.

(2)

سبق ذكره.

ص: 2086

وله أفكار وفلسفات متشعبة في أمور الحياة والكون والإنسان والذي يهم في موضوع الاجتماعي أن هوبز عالج موضوع المجتمع على أساس نظرية التعاقد الاجتماعي، حيث يرى خلافًا لأرسطو أن الإنسان ليس اجتماعيًا بطبعة، ويرى هوبز أن البشر في حالتهم الفطرية الأولى لا ينفكون يتنازعون ويتقاتلون، وينظر كل فرد منهم إلى الآخر نظرة ملؤها الخوف والشك، وكان من نتيجة ذلك -حسب نظرته- هذا العراك المتصل والحروب الدائمة، وشأن المجتمع في هذا عنده شأن الكون الطبيعي، الذي يعتمد على الحركة بين أجزائه وما فيها من جذب ومقاومة، فهو في نظرته هذه مادي، يرى أن الكون يسير سيرًا آليًا، وكل ما يقع فيه مسير -حسب فلسفته- بقوة مادية، وبناء على هذه التسوية بين المجتمع والطبيعة في الصراع الاجتماعي الذي قاسه على الحركة الكونية، رأى أن كل فرد يسعى لتحقيق ذاته والمحافظة عليها، ولا يحصل ذلك إلّا بزوال الخوف، والخوف لا يزول إلّا بالتعاهد والتعاقد، بحيث يتفق الجميع على أن يتناول كل فرد عن جزء من حقوقه وحريته المطلقة فيحد من مطالبه ولا يحاول الظفر بكل ما يشتهي، فيصبح مقيدًا لصالح المجموع الذين ثم بينهم هذا التعاقد، وبهذا يقوم المجتمع وتنشأ الدولة، في مجتمع مدني له حكومة معينة تحمي من الفوضى وعدوان الأفراد على بعضهم وينشط في المجتمع الإنتاج والنشاط الصناعي والزراعي والتجاري وأي نشاط إنساني آخر.

ويغالي هوبز مغالاة شديدة حين جعل الدولة كل شيء، فلا حقيقة إلّا ما تنادى به، ولا حق إلّا ما ترضاه، ويجب أن تقاس قيم أي عمل من الأعمال بما تفرضه من قانون، فهي عنده كما وصفها في بعض كتبه "التنين الجبار" الذي يبتلع في جوفه كل الأفراد، فالدولة تبتلع الأفراد وتنمحي شخصياتهم وإرادتهم أمام شخصيتها وإرادتها، وأفضل أنواع الحكومات عنده حكومة الفرد المتفوق في عقله وحكمته؛ لأنه يرى أنه إن كانت له مطامع ومصالح شخصية فإنها تقتصر عليه وحده، وهذا وضع أفضل -حسب رأيه- من الوضع الآخر الذي تتعدد فيه المصالح الشخصية.

فهو من دعاة الحكم المطلق باعتباره يغني عن المنازعات الحزبية

ص: 2087

وفوضى الديمقراطية التي تكرس التنابذ والتخاصم، ومن المؤثرين للملكية باعتبار أن من مزاياها أن واحدًا فقط قد يجاوز العدل ويسيء الحكم، وكان من أنصار الملك الإنجليزي شارل الأول، ولما انتصر عليه البرلمان خشي هوبز على حياته ففر إلى فرنسا، ونشر آنذاك كتابه "المواطن" الذي عني فيه ببيان الصلة بين الدولة والكنيسة، وذهب فيه إلى حد أن أعطى الدولة سلطة تقرير المعتقدات الدينية والقواعد الأخلاقية، وفرض الطاعة للدين الذي ترتضيه؛ لأنه طالما أن ظاهرة الدين -حسب رأيه- ظاهرة طبيعية، فالدولة هي التي تحتويه وتحسم الخلاف فيه لإقرار النظام، وتعتبر فلسفته مبنية على قضية اللذة والألم والخوف، وهو فيلسوف مادي، يتضح ذلك بجلاء من خلال كتابه "الجسم" الذي قال فيه بأن الوجود مادي، وهو وجود أجسام، وأن القول بوجود موجودات غير جسمية قول متناقض، ووصف الأجسام بخاصيتين فقط هما الامتداد والحركة، وما سوى ذلك طالما أنه مغاير للحركة فهو ليس من الأجسام، فهو يرد الحياة النفسية للإنسان والوحش إلى الحركة والجهد قياسًا على المادة، والأرواح عنده لا وجود لها كجواهر خاصة، ويرفض هوبز -في مذهبه- في القانون والدولة نظريات الأصل الإلهي للمجتمع، ويرى الماركسيون أن نظرية هوبز -رغم كونها ديكتاتورية برجوازية لمصالح الطبقة المستغلة- إلّا أنها أوجدت بذور تقدير مادي للظواهر الاجتماعية، خاصة أنه أقام فلسفته على أساس نزعة مادية حسية، وكشف عن عداء متصلب للدين ورجاله، حتى أصبح نعت "هوبزي" يستخدم في وصف الماديين والملحدين

(1)

.

‌2 - سيبنوزا

(2)

1042 - 1088 هـ/ 1632 - 1677 م:

الحاخام اليهودي الذي تأثر بفلسفة ديكارت، وشكك في الدين والوحي، وقال بخلود المادة، وأنكر خلق الخلق من عدم، متأثرًا أيضًا

(1)

انظر: المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية لعمر عودة الخطيب: ص 107 - 108، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 505 - 507، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت ص 563، ومعجم الفلاسفة: ص 653 - 655، وموسوعة أعلام الفلسفة 2/ 549 - 552.

(2)

سبقت ترجمته: ص 1058.

ص: 2088

بأحد فلاسفة اليهود اسمه "ابن عزرا" وكتاب متصوفة اليهود الذين يقولون بأن المادة حية، وآمن بمذهب وحدة الوجود بمفهومه الغربي الأكاديمي كما سبق بيانه عند ترجمته، وكانت لآرائه المادية أبلغ التأثير على مادية القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأثر تفكيره على تطور الإلحاد، وقد أثنى إنجلز على آراء سبينوزا الفلسفية ثناءًا كبيرًا، ويعتبر خليفة لتوماس هوبز.

وعلى الرغم من مادية وإلحاد سبينوزا إلّا أنه لم يتخل عن يهوديته ولم يتخلص منها، مما حدا بمؤلف كتاب الموسوعة الفلسفية أن يقول:(لا شك أن سبينوزا كان يهوديًا حتى النخاع، وأن مذهبه كان رؤيا فلسفية للتلمود، وجاء على خطى التراث اليهودي. . .)

(1)

، أمَّا الحرمان اليهودي الذي حصل ضد سبينوزا من قبل الكهنة اليهود، والذي يدافع به المعجبون بسبينوزا، فإنه كما قال المؤلف المشار إليه:(لم يكن يقوم بسبينوزا إلّا اليهود، وفي ألمانيا جرت مشادة ربما كانت تمثيلية يهودية، بين المفكرين اليهود، روجت لها وسائل الإعلام اليهودية)

(2)

.

ثم أضاف: (وظهر الطابع اليهودي في فلسفته بشكل جلي في روسيا القيصرية، حيث كان يشرف على ترجمته وطبعه دور نشر يهودية، وكان شباب اليهود في المنظمات التقدمية والثورية يعرضون فكر سبينوزا بتفسيرات مادية، وإنه لأمر يدعو إلى الشك أن تجد المذهب الفلسفي يحتمل كل التفسيرات، وينفذ إلى كل البلاد والفلسفات من خلال اليهود وحدهم، وإنه لامر يدعو إلى الشك أكثر تكون دراسة سبينوزا في مجتمعات خاصة مغلقة، تشبه الجمعيات اليهودية القبلانية السرية، وأن يطلقوا عليه اسم "ماركس بدون اللحية" أضف إلى ذلك امتلاء المذهب بالألفاظ التي توهم بالدلالات وهي لا تدل على شيء، وانطماس الغائية فيه حتى انتهى إلى الآلية المطلقة، وتناقضه بين نفي العقل عن الجوهر وصدور العقل عنه مع ذلك، وترديه إلى

(1)

الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 241.

(2)

الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحفني: ص 241.

ص: 2089

القول بأن الشر فكرة ناقصة يحسبها الشرير كاملة فأقام مذهبًا لا أخلاقيًا بالرغم من دعواه بغير ذلك)

(1)

.

هذا ما يتعلق ببعض جوانب الحياة والنشأة والفكر لديه، أمَّا ما يتعلق بالجانب الاجتماعي فإن سبينوزا يتفق مع هوبز في أن الناس كانوا قبل نشأة المجتمع يعيشون في حالة فوضى لا ينظمهم قانون ولا يسودهم نظام، فكانت القوة عندهم هي "الحق" فمن استطاع أن يصل إلى شيء فهو حق له، ولم تكن لدى الناس قبل تكون المجتمعات أي فكرة عن الصواب والخطأ أو العدل والظلم، فكل إنسان في تلك الحالة لا ينظر إلَّا إلى مصلحته، مما أدى إلى وجود مخاطر بسبب هذه الفوضى التي تؤثر على المصلحة نفسها، مما دفع الناس إلى التعاون والتآزر لدرء الخطر، فتكون نتيجة هذا الشعور المجتمع الإنساني الذي قام أصلًا -في رأيه- على أساس نفعي، يتمثل في التعاقد بين الأفراد والدولة التي تتمتع بقدر من السلطان.

ويبرى -خلافًا لهوبز- أن غاية الدولة أن تكفل الحرية وتعمل على الرقي والنمو والكمال، وأي نظام يحقق ذلك فلا بأس به، وإن كان يفضل هو شخصيًا النظام الديموقراطي، مع انتقاده له؛ لأنه لا يخلو من عيب فادح، وهو أنه يهيء للسوقة والرعاع أن يصلوا إلى مراكز القوة، ولذلك اقترح أن يخصص الحكم لذوي الكفاية الممتازة والدراية الواسعة.

وتعتبر الفلسفة المادية الحديثة مدينة لسبنوزا في أصلها ومفاصلها الأساسية، وقد أثر تأثيرًا قويًا على المادية الإلحادية ودفع إلى تطوير الإلحاد ونشره في سائر الفروع الإنسانية

(2)

.

ومن ذلك المسألة الاجتماعية كما سبق بيانه في نظرته إلى أصل الاجتماع الإنساني وفي كيفية إدارته بعد ذلك.

(1)

الموسوعة الفلسفية لعبد المنعم الحفني: ص 241.

(2)

انظر: المسألة الاجتماعية: ص 109 - 110، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 237 - 241، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 545 - 547، ومعجم الفلاسفة: ص 329 - 332، والموسوعة الفلسفية لأكادميين سوفييت: ص 242 - 243.

ص: 2090

‌3 - جان جاك روسو 1124 - 1192 هـ/ 1712 - 1778 م:

ولد في جنيف ومات في باريس، كان برتوستنتًا ثم تحول إلى الكاثوليكية، وجاب المدن والأقطار، وتعرف على فلاسفة وعلماء عصره وكتب كثيرًا، ويبدو أن حياته القاسية أصابته بعقدة اضطهاد فكان سيء الظن بالناس، دائم التشهير بهم وبنفسه، وكان شديد الكبرياء، كثير الخجل والكسل، وكانت شخصيته بالغة التعقيد وصعبة للغاية ومضطربة عقلًا، مقرونة حياته بالفشل في أكثر أعماله مليء بالإحباط وخيبة الأمل والبؤس والمرارة، وخاصة بعد أن عومل من قبل صالونات الأدباء والفلاسفة في باريس معاملة لم يكن يرجوها، وكانت هذه الصالونات يشرف عليها ويرعاها نساء باريسيات مسرفات في الرذائل والعشق والغزل، ويتسترن تحت رعاية الفن، وكان يحضر هذه المجتمعات رجال البلاط وعلية القوم في فرنسا، في جو متألق بالأحاديث والمحادثات الممزوجة بالدسائس الاجتماعية والفضائح الجنسية، والإغراق في جو المرح والهزل والمزاح والضياع، فنفر روسو من هذا الجو ووجده أشبه ما يكون بمدينة لوط "سادوم" بملاهيها الفاسقة المترفة وبفلاسفتها المزورين.

ومن هنا رد روسو أسباب سقوط حضارات مصر واليونان وروما إلى آثار الترف، وعبودية مترفيها للذائذ والشهوات

(1)

، كان روسو قارئًا نهمًا وحالمًا واسع الخيال، ولكن لم يكن بالشخص الكفؤ للمجتمع وللحياة الاجتماعية.

ويعتبر روسو فيلسوف الثورة الفرنسية التي حدثت بعده، ويشاركه في ذلك فولتير

(2)

، وقد كانا متعاصرين متناقضين في كل شيء، بل لقد حارب

(1)

وهذا استنتاج صحيح، وفي القرآن العظيم قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الآية 16 من سورة الإسراء].

(2)

هو: فرانسو ماري أرويه دي فولتير، فرنسي ولد سنة 1105 هـ/ 1694 م، صنم من أصنام الحداثة والعلمنة، ومؤلفاته قبلتهم الفكرية، يقول بأن دينه هو الإنسانية، =

ص: 2091

فولتير وجماعة الفلاسفة العقلانيين روسو محاربة شديدة، وساعدوا السلطة في العمل على نفيه ونجحوا في ذلك، ولكنهم فشلوا في إزالة الآثار التي خلفتها مؤلفاته في نفوس القراء.

وكانت خصومته شديدة مع جميع فلاسفة باريس الذين اعتادوا الاجتماع في صالون الملحد الشهير هولباخ

(1)

.

وأهم أفكار "روسو" التي ذكرها مؤلف كتاب "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث" وغيره من المعتنين بالفلسفة والفلاسفة ما يلي:

1 -

يرى أن الفنون كانت دائمًا مفسدة للحضارة الأمر الذي جعله عرضة للهجوم والنقد.

2 -

عرف "روسو" بتناقض أقواله، ولذلك اختلف الناس من بعده في أقواله، فمنهم من قال إنه ينادي بالديموقراطية، ومنهم من قال بل نادى بالديكتاتورية الاستبدادية، كما أن البعض يعود بأصول الاشتراكية إلى فلسفة روسو، وكذلك بالفاشستية المعاصرة، ويتحدث الدارسون الاجتماعيون عن روسو باعتباره يرجح المجتمع على حساب الفرد، وآخرون يرون أن روسو كان إلى جانب الفرد.

3 -

عرف "روسو" بنظرية "العقد الاجتماعي" عمدة الثورة الفرنسية، وملخصها ما يلي:

يرى أن الإنسان صالح في طبيعته وأن الشر هو من عمل المجتمع، ومن هذا المنطلق يستطيع المرء السير في أي واحد من الاتجاهين اللذين نراهما واضحين لدى روسو، فقد يقرر أحدهم أنه نظرًا لأن الإنسان صالح

= وأنه يؤمن بإله غير الذي جاءت به الأديان، ولذلك حاربها وأنكر النبوة والوحي، سجن في الباستيل ثم نفي لمدة ثلاثين عامًا ثم عاد فخرجت باريس لاستقباله وذلك قبل وفاته بشهور سنة 1192 هـ/ 1778 م. انظر: الموسوعة الفلسفية 349، وموسوعة أعلام الفلسفية 2/ 170، معجم الفلاسفة: ص 434.

(1)

سبقت ترجمته.

ص: 2092

في طبيعته فعندئذ ليست ثمة ضرورة للمجتمع كليًا، وهذه هي النظرية الفوضوية التي تبناها بعض أتباع روسو، وكان روسو أحيانًا يعظ بهذه النظرية، ولكني تبنى في الواقع نظرية مخالفة لها -وهذا من تناقضه- فالمجتمع، كما يرى روسو، بعيد كل البعد عن كونه غير ضروري، إذ أنه الضروري الضرورة المطلقة بالنسبة للفرد، وإن مهمتنا -حسب قول روسو- أن نعيد بناءه وتحويله من قوة مفسدة إلى قوة نبيلة ترتفع بالإنسان، وهكذا انطلق روسو عارضًا في كتابه "العقد الاجتماعي" مواصفات دولة طوباوية

(1)

ديمقراطية اشتراكية.

ويرى أن الدولة لا تنشأ من العائلة، ويقول: إن الحب والزواج هما بدعتان مشؤومتان من بدع الحضارة وتمثلان مؤامرة حبكتها النساء، وأن الملكية الخاصة هي اختراع مشؤوم أيضًا، جاءت نتيجة للاغتصاب وهي مجلبة للظلم والطمع واللامساواة والحروب، ولذلك فالدولة عنده ليست طبيعية ولا عضوية، وهو على خلاف فلسفة هوبز لا يرى أن البشر قد سلموا مختارين وأحرارًا بالخضوع لدولة هوبز الاستبدادية، فالدولة تنشأ عن عقد، ولكن حتى اليوم لم يشترع العقد السليم المطلوب، فبعض البشر الأقوى من غيرهم الأقل أخلاقًا، قد فرضوا إرادتهم مستخدمين قوة مخاتلة وغدارة، والأكثرية الساحقة من الناس ساذجة سهلة الانخداع، لكنها لابد أن تستيقظ، ويقظتها ليست بعيدة، وينبغي للبشر أن يتخذوا عقدًا اجتماعيًا يرتكز إلى المساواة بغية تأمين حرياتهم العامة وممارستها، وهم لن ينصبوا ملكًا عليهم، بل سينصبون أنفسهم حكامًا، فالملك إنما هو "الإرادة العامة" وهذه هي إرادة الجميع "الشعب" كله جماعيًا وسياسيًا، ويرى النقاد أن روسو في هذه النظرية، ما كاد يحرر البشر حتى استبعدهم لهذا التجريد أي "الإرادة العامة"، زد على ذلك أن الفرد يدين بجميع حقوقه للدولة، فعقد روسو لا يحتفظ

(1)

الطوباوية لفظ مشتق من الكلمة اليونانية طوبا، وتدل على ما لا يوجد في أي مكان، ويراد بها كل فكرة أو نظرية لا تتصل بالواقع أو لا يُمكن تحقيقها. انظر: المعجم الفلسفي: ص 113.

ص: 2093

للفرد بأية حقوق طبيعية؛ لأنه يعتقد عدم وجود أي حق للفرد خارج المجتمع، فالمرء لا حق له في حال الطبيعة، بل له فقط سلطة القوة.

وقد رأى الناس كيف أساء الدكتاتوريون استعمال "إرادته العامة" خلال الثورة الفرنسية التي انفجرت بعد سنوات قليلة من وفاته.

كما أن روسو جعل من أصول نظريته وجود "دين مدني""دين ربوبي رسمي" يتوجب على كل مواطن أن يدين به يعاقب الخارج عليه بالإعدام

(1)

، ومن هنا اعتبر روسو النموذج الأول للفاشية، من حيث أنه يدعو إلى دين تفرضه الدولة على مواطنيها بالقوة والإرغام.

وقد ارتبط اسم روسو بالإلحاد والزندقة المعروفين في القرن الثامن عشر، على الرغم من أن مقاومته للملاحدة والزنادقة كانت السبب الكبير وراء خلافه مع فولتير، وحقيقة الأمر أن روسو كان جريئًا في تحديه للدين، وخروجه على أخلاق وتقاليد عصره، ومن أهم آرائه الاجتماعية والأخلاقية، إنه نفى العنصر الإيماني من الأخلاق، وجعل مدار ذلك كله المصلحة الدنيوية المجردة، الملخصة في تحقيق أحسن طرائق التعاون مع المجتمع في الحدود الدنيوية فقط، ومن أجل الوصول إلى المنفعة الخاصة أو العامة إذا أمكن ذلك، ومن أجل تعويض النقص الخطير في فصل الدين عن الأخلاق جعل للمجتمع دينًا مدنيًا لا يدع للفرد ناحية من نواحي الحياة مستقلة عن الحياة المدنية.

وهذا الدين الذي يوجبه روسو ليس دينًا سماويًا، ولكن يقول ينبغي أن يكون للإنسان والمجتمع دين وفي الوقت نفسه لن يخضع لأي إله، وهذا أيضًا من تناقضه.

والمتجردون من تلامذته يرون أن الدولة التي يريدها روسو هي الدولة التي بلغت الكمال المطلق، حيث تنتفي فيها كليًا المصالح الأنانية وتصبح هذه المصالح مندمجة تمامًا في الإرادة العامة، حيث يبلغ التضامن

(1)

المعجم الفلسفي للحفني: ص 217.

ص: 2094

الاجتماعي ذروة الكمال، وحيث يجب أن يدين الفرد بالولاء المطلق للمجتمع الكامل.

والحكومة المثالية في نظره هي الحكومة الديمقراطية المحضة، ويتبع هذا أن الوحدة الحكومية ينبغي أن تكون وحدة صغيرة، ويطالب بحكومة مركزية ضعيفة، والديمقراطية الغربية النيابية التمثيلية السائدة اليوم لو اطلع عليها روسو لضحك من تبجحهم بأنها ديمقراطية؛ لأنها على خلاف نظرته التي أسسها في العقد الاجتماعي، ومع ذلك فإن روسو في الحقيقة كان مؤيدًا ونصيرًا لجماعات صغيرة تقيم دولًا مترابطة ترابطًا رخوًا من خلال نوع من الاتحاد، ويعد روسو عند الأوروبين رائد التجديد المطلق وداعية الإصلاح الشامل لحضارة يراها فاسدة ميؤسًا من صلاحها، وداعية المساواة والديمقراطية والبساطة والاشتراكية والعودة إلى الطبيعة، والمستقبلية المتفائلة، ولكثرة تناقضاته لا يزال الباحثون في فكره حتى اليوم يتجادلون حول معانيه ومراداته، ويعدونه واضع لبنات الرومانسية، إلّا أنهم ما زالوا حتى اليوم يرون كتابه "اعترافاتي" من أعظم المنجزات بما فيه من جرأة جنسية حتى أن كولن ولسن قال عن نفسه في "رحلة نحو البداية" لما تحدث عن الجنس:(في هذا الكتاب لم أحاول أن أكون صريحًا صراحة روسو؛ لأن ما يُمكن أن اعترف به أقل بكثير مما كان لدى روسو لكي يعترف به، ولقد تصرفت في حياتي دائمًا تصرفًا عادلًا تمامًا وملائمًا لما تمليه على أفكاري -وفي الهامش- يشير إلى كتاب جان روسو الشهير "اعترافاتي" الذي كان أول الاعترافات الصريحة في العصر الحديث، ويعتبر مرجعًا لتربية الفيلسوف وعناصر التحرر التي كونت موقفه الاجتماعي والفكري والنفسي المتحرر)

(1)

.

ولما انفجرت الثورة الفرنسية جعلت اسمه على كل لسان وشفه مع اسم فولتير ولقبت روسو بالفيلسوف الأول، ورغم تناقضاته الهائلة، ورغم الأمراض العقلية التي كان يعاني منها أصبح "العقد الاجتماعي" يشكل تحولًا

(1)

رحلة نحو البداية: ص 380.

ص: 2095

في المسار الفكري الاجتماعي في أوروبا

(1)

.

‌4 - كانت

(2)

1137 - 1219 هـ/ 1724 - 1804 م:

عما نويل كانت هذا الفيلسوف الألماني الذي أحيط بهالات من الإعجاب والانبهار والمديح، يعتبر مذهبه أحد تيارات الفكر الفلسفي في القرن التاسع عشر، بل أكبر التيارات على الإطلاق، ويعتبر كانت عند الأوروبين من أعظم الفلاسفة، بل يعتبر كذلك عند المقلدين من أبناء العالم الإسلامي الذين يحذرون غاية الحذر من نقده، فهو عندهم أعجوبة الأعاجيب في صحة القياس، وضبط الحكم وجودة النظر في الدقائق والجلائل، حتى وصل الحال بأحد المنبهرين إلى القول:(ولا يستسهلن أحد أن ينقد من آراء كانت، وإن ظهر له في بادئ الأمر أنها ضعيفة السند، فإن من أشد الغرور أن يجترئ امرؤ على هذا العقل الفذ الذي قل أن ينجب الزمان مثله، فينظر إلى رأي من آرائه نظرة استخفات أو تسرع، وليذكر الذي يقف هذا الموقف، أنه ما من اعتراض خطر له إلّا وقد خطر قبله لكانت، ووزنه بميزان لا يذر صغيرة ولا كبيرة، ولا يسقط من حسابه من شيء)

(3)

.

(1)

انظر: تاريخ الفكر الأوروبي لرونالد سترومبرج: ص 200 - 214، ومنه أخذت أكثر هذه المعلومات، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 216 - 217، والمسألة الاجتماعية: ص 110 - 113، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 498 - 507، ومعجم الفلاسفة: ص 299 - 303، وتاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم: ص 195 - 198.

(2)

سبقت ترجمته.

(3)

الكلام للعقاد في كتابه: مطالعات في الكتب والحياة: ص 368 نقلًا عن المسألة الاجتماعية لعمر عودة الخطيب: ص 131، وللمقارنة يُمكن أن نقرأ النقد التالي من غربيين يقول هرور:(إن نقد كانط نسيج من اللطائف ومن ضروب التخلف، والفلسفة النقدية ذات أثر ضار على الأخلاق، وعلى السعادة الداخلية للإنسان)، ويقول فردريك شليغل:(لقد برهن كانط على أكمل وجه على مثالية الواقعي، لكنه لم يبرهن على واقعية المثالي، وبالتالي لم يبرهن على واقعية الواقعي). ويقول فكتور كوزان: (لا مناص من التسليم بأن القسم المذهبي من كتب النقد الثلاثة لا يصمد لفحص جاد فهو مع ذاته على تناقض دائم لا يصدق). انظر هذه الأقوال في معجم الفلاسفة: ص 477 - 478.

ص: 2096

هذا نوع من الانبهار والانشداه الغريب يظهر مقدار الإعجاب الغرب ومفكريه، ودرجة "كانت" على وجه الخصوص عند المقلدين المهازيل.

وسوف أعرض هنا جملة أقوال كانت في القضية الاجتماعية ونرى هل هي بالعصمة التي حاول المنبهر وصفه بها!!.

نشر كانت في سنة 1199 هـ/ 1784 م شرحًا موجزًا لنظريته السياسية تحت عنوان "المبدأ الطبيعي للنظام السياسي من حيث علاقته بفكرة تاريخ عالمي شامل"، ويعني بالمبدأ الطبيعي لأي نظام الصراع الذي يوجد متأصلًا في الفرد ضد المجتمع، ويعد كانت صدام الفرد ضد المجتمع خيرًا وإيجابية، بل يراه أمرًا ضروريًا لكل تقدم مأمول، وهو عنده الباعث الحقيقي للنزعة الاجتماعية، يوضح فكرته مقررًا: أن البشر لو كانوا كلهم بشرًا اجتماعيًا لترهل الإنسان وجمد، ولذا فإن من الضروري أن يكون هناك مزيج معين من الفردية والمنافسة، ليتمكن البشر من البقاء والنماء.

يبتدئ كانت وينتهي في القضية الاجتماعية إلى تقرير قاعدة أن "الصراع باعث الاجتماع".

ولكن بالرغم من ذلك -يرى- أنه سرعان ما يدرك البشر أن هذا الصراع يجب أن يحصر داخل حدود معينة، وأن تنظمه القواعد والعادات والقوانين، وهنا يكمن عنده أصل تطور المجتمع المدني، فهذه الفردية التي يعبر عنها بـ "اللااجتماعية" هي التي أرغمت البشر على الانتظام في مجتمع، وهي بالنسبة للأفراد أرغمتهم على إنشاء اتحاد مدني ينتظمه القانون، فاستطاع الأفراد أن يتخلصوا بذلك من الحال الطبيعية وارتباطها الهمجي، وأن يتعاقدوا على المحافظة على السلام.

أمَّا بالنسبة للشعوب -بوصف الشعب تراكمًا للأفراد ليس غير- فإن هذه الروح الفردية تدفع كل شعب لممارسة حرية طليقة من كل قيد في علاقاته الخارجية، وعلى ذلك فيمكن أن تترقب كل دولة من أية دولة أخرى ذلك الشر والعنف الذي أرغم الأفراد على التعاقد الاجتماعي لصون السلام.

ص: 2097

ويفسر التاريخ بأن معناه وحركته بأكملها أنه هو الذي يتجه بالأمم كما اتجه بالأفراد من قبل إلى التخلص من الحالة الطبيعية للمجتمعات الإنسانية، وإلى التعاقد فيما بينها لحفظ السلام، ووضع حدود للعدوان والمشاحنة والعنف والتوسع المتزايد والمستمر للسلام.

وفي تفسيره لتاريخ الجنس البشري يعود إلى مبدئه الأساسي "الصراع" باعتباره وسيلة للتقدم، ويدخل في أبواب الفرض والتخمين، فيحول هذه الفرضية التي اخترعها إلى نظرية يفلسف بها تاريخ الجنس البشري، ويحيل -كأي فيلسوف مادي- على الطبيعة صنع الأشياء، فهي التي أوجدت الدستور السياسي الكامل الداخلي والخارجي في الجنس البشري الذي ليس إلّا منفذًا لمخطط خفي وضعته هذه الطبيعة!!.

ومن المعروف عن كانت أنه تأثر بالفيلسوف الملحد "هيوم" وقال عنه بأنه أيقظه من سباته الاعتقادي، ولذلك اتجاه إلى تيار النزعة التجريبية التي قرأها عند هيوم.

وقد توجه كانت إلى هذه النزعة بقوة وقرر بأن العقل هو مصدر الحقائق، كالحقائق الرياضية التي لا يشك في ثبوتها، ولكنه شك في المعرفة الميتافيزيقية وفي قدرة العقل على الحصول على هذه المعرفة، ولذلك قرر بأن العقل حاجز عن التدليل على وجود اللَّه "جلَّ وعلا"، ولكن ما سماه العقل العملي يقدر على افتراضه، أو كما قال لو كان لنا حدس عقلي لكانت الميتافيزيقية علمًا، ولكن حدسنا حسيًا وليس عقليًا، وبناء على ذلك فقد أبعد كانت قضية الدين والإيمان عن مسائل الأخلاق وروابط المجتمع

(1)

.

‌5 - أوجست كونت 1213 - 1274 هـ/ 1798 - 1857 م:

فيلسوف وضعي فرنسي، ولد لأسرة شديدة التعلق بالكاثوليكية

(1)

انظر: المسألة الاجتماعية: ص 127 - 132، ومنه جلّ المعلومات، ومعجم الفلاسفة: ص 274 - 478، والموسوعة الفلسفية للحفني: ص 372 - 377.

ص: 2098

والملكية، ولم يكن أحد من أفراد هذه الأسرة صحيحًا عقليًا، وكان كونت عصبي المزاج، ووقع بعد عام 1241 هـ/ 1825 م تحت تأثير مرض عقلي، وازداد عليه في قرب عام 1245 هـ/ 1829 م وحاول أن ينتحر غرقًا في نهر السين، وبقي مريضًا في عقله في صورة مستمرة زهاء عامين، وكان شديد الكراهية لأسرته، وكفر باللَّه تعالى وأبغض الملكية وعاداها، بسبب بغضه لأهله، ورد فعل ضدهم لتعلقهم الشديد بالدين والملكية، وتزوج من بغي واستمر زواجه بها سبع عشر عامًا كانت وبالًا عليه، وعاش فترات طويلة من الضياع والعوز المادي، وكانت حياته سلسلة من الإحباطات والعلاقات الفاشلة، والتقى بالفيلسوف "سان سيمون" وتأثر به أبلغ تأثر وانطبع بكثير من آرائه وأفكاره، ثم اختلفا وتعاديا، وتعرف كونت في سنة 1260 هـ/ 1844 م على "كلوتيلد دي فو" وهي امرأة في الثلاثين من العمر متزوجة، وزوجها كان خارج فرنسا، وكانت مصابة بالسل، وبقي كونت معها صديقًا وعشيقًا إلى أن ماتت بعد عامين، فانصرف إلى عبادتها بكل ما في الكلمة من معنى، وستطال هذه العبادة كل الأشياء والذكريات التي بقيت له منها، وسيظهر أثرها واضحًا في مذهبه بما بات يعطيه للمرأة بصفة عامة من دور، وفي وقت احتضاره أحاط به تلامذته الذين سيتولون من بعده تنفيذ وصيته، كان يحتضن الأشياء التي تركتها كلوتيلد، وحرم زوجته في وصيته من الإرث، بعد أن عدد نقائصها وعيوبها، وأورث منزله الذي علم فيه السنوات الأخيرة من حياته للجمعية الوضعية وما تزال هذه الجمعية قائمة إلى اليوم.

يُعد أوجست كونت والد "علم الاجتماع" المعاصر، حسب ما جاء في الكتب التي ترجمت له، وهو في الوقت ذاته رائد "المدرسة الوضعية".

جاء كونت بعد أن حصلت في أوروبا تقلبات اجتماعية وفكرية كبيرة، وحصلت فجوات هائلة في بنية الحياة هناك بعد أن سقطت مقومات الماضي التي كانت تملأ الحياة الغربية، ذهبت الأنظمة والأوضاع التي دامت قرونًا متوالية، وأنهار الدين النصراني، وتضعضعت مبادئ الأخلاق، واهتزت قواعد المجتمع، كل ذلك أتى عقيب العصر الذي يسمونه عصر التنوير، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث تم هدم الماضي، ولم يتم بناء

ص: 2099

شيء جديد بعد، وكان الشيء الوحيد الذي تعلقت به الأنظار متسلية عما وقع بها هو التطور التقني، ولكن ذلك لم يستطع أن يغطي على الأسقام الكبيرة التي أعقبت هدم القيم والتقاليد والأقطار الماضية، ونقض الكنيسة حجرًا حجرًا وتقويض بنيانها المعنوي، الذي تلاه الفراغ الروحي والنفسي والاجتماعي، فعلى الرغم من ضلال الكنيسة وخرافة تعاليمها، إلّا أنها كانت تمثل دينًا يأوي الناس إليه ويقتبسون منه مسيرة حياتهم الاجتماعية، على ما في ذلك -كما أسلفت- من ضلال وجور وخداع واستغلال، ولكنه كان على كل حال دينًا، أو قل شبه دين، يربط بين السماء والأرض بنوع من الرابطة ولو كانت واهية.

بعد أن سقطت هذه الرابطة وتمزقت تمامًا وأصبح الإنسان الغربي مقعيًا على الأرض، التفت يبحث عن شيء يتشبث به، وتوجه زعماء الفكر إلى العقل الذي تحرر من سلطان الكنيسة وحقق انتصارات في مجال الطبيعة، لعلهم يجدون فيه "الدين الجديد".

هنا برز أوجست كونت، الهائج المضطرب المعادي للكنيسة بقوة، فأطلق مبادئ "الدين الجديد" الدين المادي الدنيوي الذي لا يمت إلى دين الكنيسة ولا إلى أي دين سماوي بصلة، وكان هذا الدين تحت شعار "الفلسفة الوضعية العقلية".

بدأ كونت بدراسة التاريخ البشري -حسب زعمه- فاكتشف القانون الذي سارت عليه الحياة البشرية، كما يقول.

ودراسة تاريخ العقل البشري التي ادعاها كونت هي في الحقيقة دراسة للعقل الأوروبي؛ لأنه قد صرح بأن الهند والصين -مثلًا- لم يسهما في تطوير العقل البشري، فهذه أول النقائص في فلسفته، وبداية الادعاءات.

ثم وضع القانون القائل بأن التقدم البشري، والعقول والعلوم مرت بثلاث مراحل:

1 -

اللاهوتية، وهي مرحلة خرافة، فيها تقدم الآلهة للإنسان مبدأ التفسير والفعل.

ص: 2100

2 -

الميتافيزيقية، وهي مرحلة الدين، وفيها تنوب مناب القوى الإلهية قوى مجردة ولا شخصية.

3 -

الوضعية، وهي مرحلة العلم والعقل "مرحلة الفلسفة الوضعية" حيث يتوقف الإنسان والعقل والعلم عن البحث في العلة الأولى، ويقتصر على دراسة قوانين الظواهر وترتيبها من الخاص إلى العام، حيث تكون الوسيلة الأولى في هذه الدراسة هي الملاحظة ثم يأتي التجريب ثم تأتي المقارنة، التي هي أداة علم الاجتماع، الذي يُدَّعَى أنه أول من قال به

(1)

، وبعلم الاجتماع هذا يرى كونت أن الإنسان يحقق لنفسه الوعي ويفهم التركيب المنطقي لعقله، وينفذ إلى المراحل الثلاث التي مرّ بها، ويرى أن التقدم الاجتماعي يتحقق عندما تكون لكل أعضاء المجتمع الآراء نفسها، ومحور التقدم عنده أن يصل الإنسان إلى "علمية" المرحلة الثالثة، وذلك بتجريد العقل من الغيبيات والخرافات والأوهام، ويقصد بذلك الدين، وبعد أن يتجرد العقل من هذه الغيبيات

(2)

فعليه أن يركز على قضية "الواقع والتاريخ"

(3)

الذي هو أساس الأسس في الفلسفة الوضعية، التي من أعظم مهامها العمل على "محو فكرة الحق"

(4)

التي تعود -عنده- إلى أصل لاهوتي أي "ديني" وتفترض سلطة أعلى من الإنسان، ولذلك وجب مقابل محو فكرة الحق والدين، أن يوجد الناس دينًا آخر، هو "الدين الوضعي" دين أرضي مقابل الدين السماوي، دين ينتقل بالناس من الواقع إلى النافع.

وقد استخلص كونت أن الأديان تتلخص في عقيدتين "اللَّه" سبحانه وتعالى و"الخلود" فعمد إلى هذين المفهومين واستخرج للفلسفة الوضعية ما يوافق ذلك، فجعل "المضمون الوضعي" مقابل "الألوهية" أي أن يكون هناك

(1)

ثبت عكس هذا القول في الحياة الغربية نفسها فقد سبق كونت -مثلًا- "كبتيليه" الذي أطلق اسم "العلم الاجتماعي الطبيعي"، فكيف بغير هذا من المفكرين والفلاسفة غير الغربيين.

(2)

و

(3)

و

(4)

هذه كلها من أصول الحداثة.

ص: 2101

فكرة كلية أزلية عظيمة تتصل بها نفوس الناس، وتتلخص هذه الفكرة عنده في "الإنسانية" التي يجب -عنده- أن تحل محل الإله، طالما أن الدين جاجة ملازمة للمجتمع، وخاصة من خواص النوع الإنساني، وديانة الإنسانية هي عبادة الإنسانية باعتبارها الموجود الأعظم الذي تتشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والآتية، وهنا يأتي المضمون الوضعي الآخر الذي هو "الخلود".

فالإنسانية هي العقيدة والديانة الوضعية المتطورة لعقيدتي "اللَّه" جل جلاله، و"الخلود" التي كانت البشرية تؤمن بها في المرحلة الثانية، وبذلك تكون الإنسانية قد تخلصت من العقائد الدينية الغيبية، وما يتصل بها من قيم وأخلاق وشرائع ونظم اجتماعية وغيرها، واعتبارها مجرد أفكار ومحاولات إنسانية متخلفة جاءت في مرحلة كانت فيه البشرية قاصرة وغير مكتملة وغير ناضجة

(1)

.

ومن هنا فرع كونت ومن جاء بعده هذه القضية، فعلى الناس بعد اعتناق الدين الوضعي الجديد، وعبادة الإله الجديد "الإنسانية" عليهم أن يستخرجوا النظم والمثل والقيم والأخلاق والتنظيم الاجتماعي منه وحده دون سواه.

وهنا نشأ علم الاجتماع اللاديني، المادي، الأرضي، الدنيوي، الذي يجعل الإنسان مجرد شيء من الأشياء، وما كانت نظرية كونت هذه لتأخذ مكانها من الشيوع والانتشار والتطبيق لولا جهود تلميذه اليهودي الفرنسي "أميل دوركايم" الذي طور أقوال كونت وأنزلها إلى "أرض الواقع ووضع لها قواعد، وأهتم على ضوء الفلسفة الوضعية الإلحادية بالمشاكل العملية

(2)

.

(1)

هذا أصل من أصول الحداثة.

(2)

انظر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 380 - 383، ومعجم الفلاسفة: ص 498 - 502، وموسوعة أعلام الفلسفة 2/ 301 - 305.

ص: 2102

‌6 - دوركايم

(1)

1275 - 1336 هـ/ 1858 - 1917 م:

ورث هذا اليهودي الفرنسي الناشيء في أسرة متدينة علم الاجتماع بهيئته الوضعية من أوجست كونت، وسعى جاهدًا في دهاء تلمودي هدام إلى استثمار هذه الفلسفة في الواقع المعاش، وأصبح رائدًا لعلم الاجتماع بعد كونت، وأستاذًا في جامعة السوربون، وكان تابعًا لكونت ثم صار ناقدًا له.

يرى دوركايم أنه لا تصح دراسة الاجتماع من خلال أفكار وانفعالات الأفراد، ولكن مباشرة من خلال استقراء الأنظمة والآداب والفنون التي يعتبرها جميعًا من مظاهر الحياة في المجتمعات الإنسانية، ويتمثل فيها جميعًا الضمير الجماعي الذي يفعل فعله في الأفراد، ويضغط عليهم إلى حد قسرهم على اتخاذ مواقف قد تختلف مع آرائهم الخاصة، ومعنى أن الاستقراء إحصائي هو أن دراسة الانتحار مثلًا كواقعة اجتماعية يعني دراسة المعدل الإحصائي للانتحار في المجتمع، فهو يرى أن الانتحار ظاهرة اجتماعية بمعنى أن ارتباط حدوثه بين الرجال أكثر من النساء والشيوخ والأطفال، وفي شهور الربيع أكثر من بقية السنة، حيث الرجال أكثر اندماجًا في مجتمعاتهم، وشهور الربيع أكثر من الشهور اقترانًا بالنشاط الاجتماعي، ومن ثم لا يكون هناك تفسير لزيادة معدل الانتحار إلّا التفسير الاجتماعي، وبهذا المنظور المادي البحت.

ويرى دوركايم أن كل مجتمع له نظامه التربوي الذي يفرض نفسه بقوة على أفراده، وهو في أغلبه من عمل الأجيال السابقة، ومن ثم فالتربية هي تأثير الأجيال البالغة على الأجيال التي لم تنضح بعد للحياة يتطلبها المجتمع السياسي ككل، والطبقة المفروض أن ينتسب إليها بشكل خاص، والتربية في الطور الوضعي الذي يعنيه ويقصده دوركايم تربية علمانية عقلية، فهو يرى أن الأخلاق في المجتمعات الدنيا دينية، لكنها في الطور الوضعي اجتماعية تستهدف مصلحة الجميع.

(1)

سبقت ترجمته.

ص: 2103

وهكذا أراد دوركايم أن يهدم الدين، والأخلاق من جذورها، فأقام ما أسماه "فلسفة العقل الجمعي" وادعى أن العقل المشترك للمجتمع هو الموجه لكل فرد فيه، بل هو المكون لكل فكرة في كل فرد، ومنشيء المذاهب والعادات والمفاهيم

(1)

.

ومحور فكرة دوركايم في العقل الجمعي أن المجتمع هو الكيان الإنساني، وقد أخذها الماركسيون من بعد ليكون أساسًا لمذهبهم الاقتصادي ونظريتهم الاجتماعية التي جعلت اهتمامها مركزًا على المجتمع مضحية بالفرد، وقد اتجه دوركايم بخلفياته اليهودية التي أخبر اللَّه عنها بأنهم يسعون في الأرض فسادًا، وركز في دراساته الاجتماعية على:

أ- تفسير أية ظاهرة اجتماعية تفسيرًا ماديًا لا يعترف بوجود اللَّه تعالى ولا بالغيبيات، ولا بأي شيء وراء العالم المادي.

ب- اختراع فكرة "العقل الجمعي" الذي يحرك الناس دون إرادة منهم ولا تفكير، ولا قدرة على المقاومة، وحين يعرف العقل الجمعي تجد أنه موجود خارج عقول الأفراد، وهو ليس مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقًا لعقل أحد منهم، ولا لمزاجه الخاص، وهو يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم، وهم لا يملكون إلّا أن يطيعوه ولو على غير إرادة منهم.

وهذا العقل الجمعي المزعوم والمسيطر، دائم التغير فهو يبيح اليوم ما منعه بالأمس والعكس، دون ضابط ولا منطلق معقول.

وبناء على هذا فلا يُمكن -عند دوركايم- أن يكون هناك ثبات لشيء من القيم إطلاقًا

(2)

، فلا الدين ولا الأخلاق ولا السلوك ولا الآداب ولا سائر القيم لها ثبات، بل هي دائمة التغير، يغيرها

(1)

من هذا المنطلق نجد أن الحداثيين يرون الخروج على المجتمع وأخلاقه ومذاهبه أصلًا للحداثة الفكرية والأدبية.

(2)

وهذا أصل حداثي أصيل.

ص: 2104

ويؤثر فيها العقل الجمعي الذي لا سلطان للبشر عليه ولا حول لهم ولا قوة معه.

وكما ادعى أوجست كونت إلهًا هو "الإنسانية" فقد ادعى دوركايم إلهًا آخر هو "العقل الجمعي" وراحوا جميعًا يتعبدون لهذه الآلهة المزعومة، ويخضعون لسلطانها وقهرها وغلبتها التي لا يُمكن الفكاك منها مطلقًا، حيث يبقى الناس أمام تلك الأرباب المدعاة بلا اختيار ولا حرية ولا تصرف ولا إرادة، إنها الجبرية المادية متمثلة في هذا التصور المادي الإلحادي، كما تمثلت في الجبرية الاقتصادية الماركسية.

جـ- سعى دوركايم إلى إلغاء مقتضيات الفطرة الإنسانية النازعة إلى الإيمان باللَّه تعالى وعبادته وإلى فضائل الأخلاق، وإلى بناء الحياة الاجتماعية على نظام الأسرة القائم على الزواج، وادعى بكل جرأة تخريبية أن الدين والأسرة والزواج التي كان يظن أنها من الفطرة ليست كذلك؛ لأن التاريخ -حسب زعمه- يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان.

د- يفسر دوركايم الدين والأخلاق في المجتمعات الإنسانية تفسيرًا ماديًا بحتًا، ويزعم أنها وليدة أسباب اجتماعية فقط، وليس لها سند من الحقيقة، وليس لها دوافع في الفطرة الإنسانية

(1)

.

وهكذا غرس دوركايم بأسطورته الخرافية "العقل الجمعي" مجموعة من الأمراض الاعتقادية والسلوكية والاجتماعية، وقد أخذ عن داروين فكرة التطور الدائم، وفكرة القهر الخارجي الذي يقهر الفرد على غير رغبة ذاتية منه فيطوره رغمًا عنه، وأخذ عنه التفسير الحيواني للإنسان، فهو لا يفتأ يستشهد في كل حالة بما يحدث في عالم الحيوان

(2)

.

(1)

و

(2)

انظر: الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 183 - 184، وكواشف زيوف: ص 333 - 346، والتطور والثبات في حياة البشر: ص 51 - 57.

ص: 2105

7 -

فلاسفة المذهب الذرائعي

(1)

"البرجماتية" وقد سبق الحديث عن البرجماتية وأثرها، وقد صاغ هؤلاء الفلاسفة الفكرة الذرائعية النفعية، الملخصة في أن السعي لبلوغ غايات مستقبلية فردية أو اجتماعية أو سياسية، واختيار الوسائل للوصول إليها هي العلامة والمعيار على وجود الخصائص العقلية في ظاهرة مّا.

على أن بين أعلام الفلسفة البرغماتية أوجه اختلاف تفصيلية داخل المذهب الذرائعي لا يعنينا هنا الخوض في تفاصيلها.

بيد أن هذه النظرية النفعية أوصلت المجتمع الغربي إلى التمزق؛ لأن تحقيق مصالح الأفراد لا يُمكن إلّا بالصراع والمغالبة، والاحتيال، والمراوغة، وهذا ما تجيزه البرجماتية ما دام يوصل إلى المصلحة، بل لقد جعلوا الأديان رابطة اجتماعية مصلحية، وكذلك سائر الروابط الاجتماعية مثل الأسرة والزواج والأبناء، وحتى المساعي الاجتماعية ذات الصبغة الإنسانية البحتة.

وعندهم أن الدين والأخلاق يحب أن تدرس على أنها واقع داخلي نفسي يتم تقيمهما على أساس نتائجها العملية، وليس على أساس مصدرها ومنبعها.

يقول أحد فلاسفة البرغماتية: (انظروا في الآثار ذات البعد العملي التي نظن أنه من الممكن أن ينتجها موضوع تصورنا، إن تصورنا لهذه الآثار هو كل تصورنا للموضوع)

(2)

.

(1)

وأشهرهم:

1 -

تشارلس بيرس 1255 - 1333 هـ/ 1839 - 1914 م. انظر ترجمته وتفصيل أفكاره في الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 125، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 297.

2 -

وليام جيمس 1258 - 1328 هـ/ 1842 - 1910 م. انظر ترجمته وتفصيل فلسفته في الموسوعة الفلسفية للحفني: ص 125، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 375.

3 -

جون ديوي 1276 - 1372 هـ/ 1859 - 1952 م. انظر ترجمته وفلسفته في الموسوعة الفلسفية للحفني 199، وموسوعة أعلام الفلسفة 1/ 463.

(2)

موسوعة أعلام الفلسفة 1/ 298. والقول لتشارلس بيرس.

ص: 2106

وهذا يعني أن النية الداخلية تحدد الموضوع في ذات الإنسان قبل أن يتصوره في الخارج، ذلك أن الذريعة هي أساس المعرفة عند البرجماتي

(1)

.

ويرى بعض فلاسفتهم أن علم التربية يجب أن يخضع لمبدأ عملي؛ لأن المطلوب هو تخريج أناس عمليين لا يهتمون بالفكر المجرد.

وبناء على الفلسفة البرغماتية فإن الغطرسة الغربية تغطي على أذهان وعقول الناس هناك، وتتمثل في وهم صارخ يطل من حياتهم وممارساتهم، ويتسلل إلى المستعبدين في الشرق فيملأ ما في نفوسهم من تفاهة وهزيمة وفراغ، مؤدى هذا الوهم "البرغماتي" أنه طالما أن الغرب قد ارتقى صناعيًا وتقنيًا وبنى وشيد المصانع ووصل إلى الأفلاك وحاز القوة، فذلك دليل على أن مساره الفكري والخلقي والاعتقادي صحيح وجيد، ولمن أراد أن يصل إلى الرقي والازدهار، فلابد أن يسلك المسالك الفكرية والاجتماعية والاعتقادية التي سلكها الغرب.

ومنشأ هذه الخرافة أن العظمة العلمية تستبع حتمًا أن يكون الإنسان كله قد ارتقى، فلابد إذن أن تكون الأخلاق والعادات والتقاليد الموجودة في عصر الذرة ومجتمع التقنية، أفضل من مثيلاتها في العصور السابقة!!.

وما دام الإنسان في المجتمع الغربي لا يؤمن بإله ولا يتقيد بخلق، ويستبيح الفوضى الجنسية، وينكر القيم العليا ولا يقر بأسرة ولا يطيع أوامر الدين، ولا يتردد في استعمال أي وسيلة للوصول إلى منفعته ومصلحته، فلابد إذن أن يكون هذا كله هو الحق؛ لأن هذا هو عصر العلم والنور والحقيقة!!.

وقد نسي الغارقون في هذه الخرافة أن المقياس الحقيقي لعظمة الإنسان ليس هو جهاز الحاسب الآلي ولا ارتياد الفضاء، ولا الأقمار الصناعية ولا الصاروخ، ولا القنبلة الذرية التي يدمر بها الحياة والأحياء، وإنّما المقياس الحقيقي للحضارة والرقي خلفية هذا كله من عقيدة صحيحة

(1)

انظر: المصدر السابق الصفحة نفسها.

ص: 2107

وخلق قويم، وأثر هذا في مشاعره وعواطفه، وكيانه النفسي على وجه العموم، فإذا انطوى الإنسان والمجتمع على عقيدة صحيحة، وفكرة عن الإنسانية أوسع وأشمل وأعمق من الأفكار المادية، وفكرة عن الحياة أكبر وأرفع، فقد ارتقى حقًا.

ولن يكون الغرب قط راقيًا حتى يغير نظرته للأحياء والحياة والأشياء، ويقيم فلسفة على أساس غير البراغماتزم أو غير الغاية النفعية للأعمال.

وإنّما ينكر الغرب المادي "البرجماتي" كل القيم العليا ويؤمن بالمادية النفعية، لأسباب عديدة منها ظروف البيئة الأوروبية التي جعلت شعوبًا مختلفة تزدحم على رقعة ضيقة من الأرض قليلة الخيرات فأصبح الصراع هو الغالب على طبائعهم، لا التعاون والحب، وصارت تسيطر على مشاعرهم تلك الواقعية المادية التي لا ترتفع عن محيط الأرض وعالم الضرورة، فهو إذن عيب اضطرتهم إليه ظروف معينة وليس مزية تشتهى كما يتصور المغفلون.

وامتلاك التقنية والقوة لا يستلزم النفور من مقومات الإنسانية الحقة، ما دام قد أمكن عمليًا أن يجتمع هذا وذاك حين كان العالم الإسلامي -وقت تمسكه بالإسلام- يمتلك القوة العملية والحربية والسياسة والاقتصادية، أضف إلى ذلك أن امتلاك القوة على الأسس المادية النفعية لم يجلب للإنسانية غير الخراب والدمار والظلم، فهو قائم على الصراع لا على الحب، وعلى أن الغلبة للأقوى لا لصاحب الحق، وعلى أن التسلط والقهر والظلم والعدوان لا ضير فيها ما دامت تصدر من دولة عظمى

(1)

.

ومن مجموع هذه المذاهب والفلسفات، والآراء الفكرية، تكونت الحياة الاجتماعية الغربية، حياة تقوم على نبذ الدين والخلق، وأصبحت الديانة فيه للمادة والجنس والشهرة والغلبة، وأضحى الترابط الاجتماعي قائمًا على الروابط النفعية، والصلات المصلحية.

(1)

انظر: الإنسان بين المادية والإسلام: ص 218 - 221.

ص: 2108

لقد اجتمعوا في سفينة مخروقة يقودها بحارون معتوهون، مجتمع يعيش الإفلاس والحيرة والضياع والتمزق والأمراض العصبية والعاهات النفسية.

يقول رينيه دوبو

(1)

: (ووصف الإنسان بأنه "آلية من الذرات ليس إلّا" لا يؤدي تفسيرًا كاملًا لطبيعته، والأسباب التي يتبعها الباحث في هذا الموضوع تحدد نوع الملاحظات التي يستطيع القيام بها، فإذا اختار العالم دراسة الإنسان بالطرق الفيزيائية - الكيماوية، فمن الطبيعي أن يكتشفوا فقط المحددات الفيزيائية والكيماوية في حياته، وأن يجدوا أن جسمه هو آلية من الذرات، إلّا أنهم بذلك يهملون الخصائص الإنسانية التي لها، على الأقل، نفس القدر من الأهمية. . . والتعريف الميكانيكي لحياة الإنسان يخطيء الهدف؛ لأن ما هو إنساني في الإنسان هو نفسه بالتحديد "غير ميكانيكي")

(2)

.

ويقول: (منذ قرنين تقريبًا والإنسان الغربي يعتقد أن خلاصه سيأتي عن طريق الاكتشافات التكنولوجية، ولا جدال في أن المكتشفات التكنولوجية زادت من غناه المادي، وحسنت صحته العضوية، إلّا أنها لم تجلب له بالضرورة الغنى والصحة اللذين يولدان السعادة)

(3)

.

ويقول: (من أسوأ نتائج الحياة العصرية بالنسبة لمخطط "التحضر" الأمريكي "كيستوفر الكسندر" "عارض الاعتزال والاستقلال الذاتي"، يقول "الكسندر": إن أكثر الناس يستعملون بيوتهم من ضغوط العالم الخارجي ويمارسون العزلة الاجتماعية كشكل من أشكال وقاية الذات وفي النهاية يصبح الانسحاب والاعتزال عادة ويصل الناس لنقطة لا يستطيعون معها -بل ولا يريدون- السماح للآخرين بولوج عالمهم الذاتي الخاص بهم)

(4)

.

(1)

سبقت ترجمته.

(2)

إنسانية الإنسان: ص 168.

(3)

المصدر السابق: ص 186.

(4)

المصدر السابق: ص 194.

ص: 2109

ويقول: (تعب الكثير من الناس من هذا السباق المجنون للتغيير الدائم، وأنهك هذا الصراع البالغين، أمَّا المراهقون فلقد أصبحوا لايجدون فيه أية قيمة تذكر، وعندما يشاهد هؤلاء جميعًا تعقيد الحياة المدوخ، والجهود المهووسة لاختراع تكنولوجيات جديدة لتحل مشاكل خلقتها

(1)

التكنولوجيات نفسها، يعلو صراخهم: قفو

(2)

هذا العالم، فنحن نريد أن نخرج منه)

(3)

.

ويقول: (العلاقات المتبادلة بين بني البشر هي، بالطبع، من أهم العوامل التي يأخذها المخططون بعين الاعتبار، ولكن لا يعرف في هذا المجال إلّا القليل من احتياجات الإنسان الحقيقية، وكثير من علماء الانثروبولوجيا

(4)

وعلماء الاجتماع ينظرون بحزن وتشاؤم إلى آثار الشروط المحيطية العصرية على العلاقات الإنسانية، ولا يجدون كبير أمل في قدرة الوضع الحاضر على توفير الحاجات الأساسية لقيام صلات ودية حميمة بين أفراد قلائل كما يحصل فقط في المجموعات البدائية الصغيرة

(5)

، "وفي المجتمع القديم كان الإنسان مرتبطًا بالإنسان، أمَّا في التجمعات الحديثة -ولا يُمكن تسمية هذه التجمعات مجتمعًا- فيعيش الإنسان وحيدًا، وكل شواهد الطب النفساني تشير إلى أن عضوية الإنسان في جماعة أو مجتمع تقويه وتمكنه من الإبقاء على توازنه أمام الصدمات العادية في الحياة، وتساعده على تربية أولاد يكونون بدورهم سعداء مرنين، وهكذا تظهر الحلقة المفرغة، وفقدان الانتماء للجماعة في جيل ما قد يجعل الناس في الجيل القادم أقل قدرة على الاندماج في عضوية الجماعة والمدنية، وهي في أساسها محطمة لحياة الجماعات الصغيرة، تترك الرجال والنساء تعساء يشعرون بالوحدة)

(6)

.

(1)

و

(2)

هكذا الصحيح صنعتها، أمَّا قوله: قفوا، فالصواب: أوقفوا.

(3)

المصدر السابق: ص 198.

(4)

الانثروبولوجيا سبق شرحها: ص 764.

(5)

هذا يدل على جهل أو تجاهل الكاتب للإسلام وتاريخه وحضارته وحياته الاجتماعية.

(6)

المصدر السابق: ص 204.

ص: 2110

ويقول واصفًا الحياة الأمريكية والأوروبية: (في أيامنا هذه يهتم "المجتمع العظيم"! على ما يظهر بخلق طبقة متوسطة ومدنية مادية مكسوة بالمظاهر التافهة)

(1)

.

ويقول أيضًا: (والحقيقة على ما يظهر، أن بيئتنا وطرق معيشتنا تؤثر بعمق على مواقفنا ومواقف الأجيال المقبلة، وليس هناك شيء أكثر كربًا وغمًا، بالنسبة لمستقبلنا القريب والبعيد، من الانحطاط وبشاعة مراكزنا الحضرية الكبيرة، واضطراب وسائل النقل العامة، والتركيز الزائد على الراحة المادية الأنانية، وفقدان السلوك الفردي والاجتماعي والتضحية "بالكيف" في مجال الإنتاج والتربية، والنقص في ردود الفعل المبدعة تجاه الأخطار بخاصة يثبط الهمم ويبعث على اليأس؛ لأن كل الناس المفكرين يعون الحالة الحاضرة، وهم متلهفون لعمل شيء ما لإصلاحها، ولكن لا يُمكن القيام بعمل جماعي؛ لأن هذا النوع من العمل يحتاج إلى إيمان موحد

(2)

، وهو غير موجود، وبسبب حاجتنا لهذا الإيمان يصبح البحث عن معنى لحياتنا أهم واجباتنا في هذه الأيام)

(3)

.

ثم ذهب في الصفحات اللاحقة يشرح عجز العلم ومحدوديته، وعجز العلوم المادية ومحدوديتها عن فهم معنى للحياة أو إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والنفسية القائمة اليوم، ثم عاد يذكر فائدة الإيمان الموحد عندما كان يحكم المجتمعات، وهنا يشير إلى النصرانية، ويذكر أثر الإيمان في إيجاد القيم ثم أثر القيم في المجتمعات

(4)

.

(1)

المصدر السابق: ص 208.

(2)

رغم داروينية المؤلف رينيه دوبو إلّا أنه يدعو إلى إيمان موحد غير الداروينية والفرويدية والمادية الشائعة لديهم، وهو لا يشير إلى نوعية هذا الإيمان، ولا مصدره، والعودة إلى الإيمان هو الحل السليم إذا كان هذا الإيمان صحيحًا.

(3)

المصدر السابق: ص 218.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 220 - 221.

ص: 2111

ثم يصف الجنوح الاجتماعي الشائع في أمريكا قائلًا: (. . . يجب اعتبار أكثر الناس في بلاد المدنية الغربية -وبخاصة أمريكا اليوم- من المجانين؛ لأنهم يتصرفون وكأنما المقياس الوحيد لسلوكهم هو إرضاء رغباتهم ودوافعهم الغريزية الآنية دون النظر لعواقب ذلك على باقي الطبيعة وعلى الذرية، وتستنكر الكتب المدرسية الملاحظة غير المسؤولة التي أطلقها (لويس الخامس عشر)"من بعدي فليكن الطوفان" ومع ذلك فنحن نستعمل الأرض كأننا آخر جيل يسكنها ونتصرف اجتماعيًا كأنما نريد أن نُعذر أعمالنا السيئة بالتساؤل: ماذا صنعت ذريتي من أجلي؟؟. . . والخطورة ليست فقط مقصورة على "اغتصابنا" للطبيعة بل في تهديدنا لمستقبل البشرية نفسه)

(1)

.

(وكل المجتمعات المتأثرة بمدنية الغرب تتبع "توراة التنمية" كعقيدة وتدور في دائرة تشبه "حلقات ذكر الدراويش" وتقول هذه التوراة: "انتجوا أكثر لكي تستهلكوا أكثر ثم لكي تنتجوا أكثر" ولا يحتاج الإنسان لكي يكون عالم اجتماع حتى يدرك أن هذه هي فلسفة مريضة مجنونة. . .)

(2)

.

ثم يضيف: (وأنا أشك أنا في استطاعة البشرية تحمل أسلوب حياتنا السخيف لمدة أطول دون أن تفقد أفضل ما في الإنسانية، وعلى الرجل الغربي أن يختار مجتمعًا جديدًا، وإلّا فإن المجتمع الحديث سيفنيه)

(3)

.

ثم ينقل كلام بعض علماء التقنية الغربيين القائلين بأن: (هناك عناصر في الموقف الحاضر يُمكن إيجاد أجوبة لها في التكنولوجيا، ولكن هناك عناصر أخرى لا يُمكن للتكنولوجيا أن تجيب عليها وهي تتعلق إلى حد ما بموضوع نظرتنا الفلسفية الأساسية بالنسبة للإنسان وما يعني تطبيقها)

(4)

.

ويقول: (أصبحت المدن العصرية، وبخاصة الحواضر الأميركية الضخمة كابوسًا مزعجًا؛ لأنها تفشل باطراد في توفير محيط مرضٍ للحاجات

(1)

المصدر السابق: ص 222 - 223.

(2)

المصدر السابق: ص 229.

(3)

و

(4)

المصدر السابق: ص 234 - 235.

ص: 2112

غير المتغيرة في طبيعة الإنسان البيولوجية ولتطوره الثقافي)

(1)

.

ويقول: (وستعاني مجتمعاتنا، لا محالة، من كوارث بيولوجية ونفسية ما لم تنمي بيئات تكنولوجية وحضرية تتناسب حقًا وحاجات الإنسان

(2)

، فأمراض المدنية وتمرد الشباب هي إنذارات بأن العافية البدنية والصحة العقلية والرضى العاطفي كلها تحتاج لأكثر من الغنى المادي وإنتاج الأشياء ومعرفة أسرار الذرة)

(3)

.

يقول كولن ولسن في "سقوط الحضارة": (وكنت كلما تغلغلت في دراسة اللامنتمي شعرت بأنه ليس غير عرض من أعراض هذا العصر، فأمَّا من حيث الجوهر فهو عاصي، وأمَّا سببب عصيانه فهو انعدام الجانب الروحي في حضارتنا الغنية ماديًا)

(4)

.

(. . . ولم يكن أمرًا شديد الأهمية أن أستنتج أن اللامنتمي هو عرض من أعراض تدهور الحضارة؛ لأن اللامنتمين يظهرون كالبثور على جلد الحضارة، ويميل الإنسان إلى أن يكون على طبيعة محيطه، فإذا كانت الحضارة مريضة روحيًا فإن الفرد يعاني من المرض ذاته)

(5)

.

وقال: (. . . قال لي شاب كان يلوح عليه أنه كان مغرمًا بوظيفته المدنية: "أمر يدمر الروح، أليس كذلك؟ " وهذه هي عبارة عادية، إلّا أنني لم أكن قد سمعتها من قبل، وقد استعدتها في ذهني وكأنها إلهام، إنه ليس أمرًا يدمر الروح، وإنّما يدمر الحياة، إن الروائح التي تنبعث من خمود قوة الحياة تشبه الروائح المنبعثة من الماء الراكد، وهكذا يتسم الكيان كله)

(6)

.

(1)

المصدر السابق: ص 249.

(2)

وهو حل إجمالي قاصر، والمراد من النص إثبات مقدار الإنهيار الاجتماعي.

(3)

المصدر السابق: ص 252.

(4)

سقوط الحضارة: ص 5.

(5)

المصدر السابق: ص 6.

(6)

المصدر السابق: ص 9.

ص: 2113

ويقول في "رحلة نحو البداية": (الحضارة تجعلنا جميعًا خائفين كالأغنام، ثم تقتل أرواحنا من الجوع والجدب)

(1)

.

ويذكر مؤلف كتاب "نهاية عمالقة في حضارة الغرب" تحت عنوان نهاية عمالقة أو عمالقة النهاية قائلًا: (إلى أي حد يجسد من اخترناهم من العمالقة أزمة لهذه الحضارة في سيرتها؟ وهل هي أزمة عابرة وطارئة تنصب على وظائف الحضارة، وتتجاوز بتصحيحها كما يتصور ذلك مرجو التفاؤل، أم أنها أزمة عضوية تنذر بالتفكك والانهيار كما يذهب إلى ذلك دعاة التشاؤم ومقروره؟ ففي نظر هؤلاء المتشائمين: الحضارة استلبت لإشباع شهوة الاستهلاك، متمردة على كل ما يوقف أو يحد من هذا المد سواء في ذلك الإطار القيمي أو الروحي بل وفي بعض المناحي الإنسانية، فالعد النازل قد بدأ لحضارة الأشياء بعد أن تنكرت للإنسانية وباسم الإنسان فاختنقت ذاتيًا، لا نتيجة لقوة أعدائها وخصومها أو من يتطلعون بميراثها، ولا مصداقية لنبوءات "كارل ماركس" الخاصة بالتدمير الذاتي للرأسمالية، فالتدمير حاليًا لا يُرى على مستوى شق معين من هذه الحضارة الغربية، وإنّما على مستوى شقيها الليبرالي والماركسي، فالأم واحدة وإن اختلفت المبررات، والوسائل والركيزة الثلاثية التي يعتمد عليها كل شطر توجد بالضرورة لدى الشطر الآخر، ونعني بذلك المعرفة التكنولوجية الأسس العلمية، التطبيق الصناعي، وما يملياه من برمجة وعقلنة على مستوى الانتاج والتبادل والاستهلاك. . . الأزمة أعم وأعمق نتيجة لتعدد العوامل المهيئة لها، بل بخصوصيات هذه الحضارة في حد ذاتها باعتبارها حضارة ركزت على الوعاء والقالب للإنسان كجسد إشباعًا ورفاهية ورخاء، وتلذذًا بالمقتنيات التي استلب بها في النهاية، ونسيت أو تناست، جهلت أو تجاهلت الأبعاد الأخرى للإنسان وفي الصدارة إنسانية الإنسان.

فـ "مركيز"

(2)

أحد فلاسفة المصر حينما ركز على الإنسان ذي البعد

(1)

رحلة نحو البداية: ص 178.

(2)

هربرت ماركيز أو ماركوز فيلسوف أمريكي ألماني الأصل أستاذ للفلسفة والسياسة في =

ص: 2114

الواحد لهذه الحضارة، لم يكن بعيدًا عن هذا المنظور، ودعوته إلى مواجهة

حضارة التدمير وتجاوزها وما عاصر ذلك من أحداث في نهاية الستينات، متمركزة أساسًا في أواسط الشباب في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما، مما جعل هذا الفيلسوف يتصدر من بين المبشرين بأفول حضارة الغرب)

(1)

(2)

.

وحقيقة الأمر أن واقع المجتمعات اللادينية في الأرض مما تعجز "العبارات عن تصوير فضائعه وانحداراته وجرائمه وأهواله وأزماته، والتي يزيد من خطورتها وفضاعتها أنهم يسعون في نشرها في العالم، ويسعى الأغبياء المقلدون في استجلاب هذه الشرور إلى مجتمعاتهم، وينادون بهدم الدين وتحطيم الأخلاق وتفكيك المجتمع، والتمرد على الأب والأسرة، محاكاة للغربيين الذين نادوا في أول عهد ما يسمى "النهضة الحديثة" بهذه الأمور، آملين أن يجدوا منبعًا آخر للأخلاق والروابط الاجتماعية غير الدين.

والواقع أنهم كانوا فاقدين للدين الصحيح، وسالكين في طرق الانهيارات الأخلاقية، فكانت مشكلتهم الخاصة أنهم يبحثون عن شيء يسد هذا الفراغ الهائل في نفوسهم، ويلتمسون منبعًا للأخلاق غير الدين، فانغمسوا في التصورات الفلسفية المادية القاحلة، فجاءت النتائج أنهم تخلوا كليًا حتى عن صورة الدين وإيحاءاته التي ظلت منذ زمن طويل -رغم التحريفات والخرافات في هذا الدين- تسقي شجرة الأخلاق عندهم، ثم

= سان دييغو في كالفورنيا، ولد في برلين 1315 هـ - 1898 م، وتوفي سنة 1409 هـ - 1989 م. انظر: موسوعة أعلام الفلسفة 2/ 435، ومعجم الفلاسفة: ص 576.

(1)

ينبغي الإشارة هنا إلى مقال تركي الحمد الذي نشره في الشرق الأوسط بعنوان "هل أن الغرب يسقط؟ " والذي يقرر فيه أن سقوط الغرب بعيد، بل يكاد يقول بأنه مستحيل!!!.

(2)

نهاية عمالقة في حضارة الغرب لرشدي فكار: ص 129 - 130، وقد ذكر مجموعة فلاسفة ممن لهم رأي في قرب سقوط المدنية الغربية ومنهم راسل، وسارتر وهيدجر، وكارل جاسبرس وكامي.

ص: 2115

جاءت الأجيال اللاحقة لتكون أكثر مادية وعلمانية من الأجيال السابقة لأنها توغلت أكثر في الابتعاد عن الدين والقيم، بل أصبحت تصفها بأنها مجرد وهم وخيال، وتلى ذلك النزول من المنحدر إلى المنزلق، ومنه إلى مستنقع المادية الحيوانية البحتة، ومن سطح المستنقع إلى عمقه إلى حمأة الطين الشهواني والحيواني.

وهكذا أزاحت العلمانية اللادينية ميثاق الحياة حين أزاحت الدين عن الحياة، ومع إقصاء الدين أقصيت الأخلاق لأنها أصلًا مستمدة من الدين.

أزيحت الأخلاق والدين عن السياسة، فأصبحت الغاية تبرر الوسيلة وأضحت البرغماتية النفعية أساسًا، وأزيحت عن الاقتصاد منذ الثورة الصناعية، بتحليل الربا، والغش والخداع والكذب وشغل الناس بالتوافه من أجل الربح، وشن الحروب وسلب خيرات البلدان، وترسيخ الاستعمار من أجل إيجاد الأيدي العاملة وإيجاد أسواق لترويج البضائع، وإشاعة الفواحش الإعلامية لجلب الأهواء الشهوانية، وأزيحت في مجال العلم التجريبي البحت فلم يعد البحث العلمي من أجل العلم والحقيقة -كما كانت الدعاوى الغربية- بل أصبح العلم مسخرًا للاستكبار والسيطرة ومصاحبًا للمصالح والأهواء والشهوات، بل أصبح وسيلة لإخراج الناس عن دينهم بدعوى أن العلم يناقض الإيمان.

أضحى العلم جسرًا للإلحاد، وسببًا اتخذه الملاحدة لتقويض الدين والأخلاق بزعم أن الدين والعلم التجريبي لا يلتقيان.

وأُزيح الدين والأخلاق من الفكر فأصبح التبجح بالكفر والرذيلة من سمات التقدم والتحضر!! أمَّا الفنون ووسائل الإعلام، فقد أضحت السوق الواسعة لترويج الأضاليل والجاهليات والمفاسد الخلقية والرذائل السلوكية.

وهذه الأمور جميعها عملت في المجتمع عمل النار في الهشيم، وظهرت آثارها فيه ظهورًا صارخًا يدل غاية الدلالة على دمار آت، وأهوال قادمة على تلك المجتمعات.

ومع كل ذلك مازلنا نرى عبيد الأهواء والشبهات والشهوات يلجّون في

ص: 2116

طغيانهم، ويصرون على أن درب الهلاك هذا هو درب النجاة والنهضة والتقدم، وما من علماني أو حداثي في بلاد المسلمين إلّا وهو يدعو بهذه الدعوة أو ببعض مفرداتها، مستدبرين الهدى والخير والضياء، ومستقبلين قبلة المغضوب عليهم والضالين.

وسوف نرى في ما تبقى من هذا الفصل الشواهد العديدة على مقدار انحرافاتهم في القضايا الاجتماعية والنفسية، بيد أنه لابد من التنبيه على أن القضايا الاجتماعية تنبع من أحوال نفسية، وتؤثر فيها في الوقت نفسه، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

(1)

وقال جل جلاله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا}

(2)

.

ومن هذه الحقيقة وجب الربط بين القضايا النفسية والقضايا الاجتماعية.

وقد شرحت في الفصل السابق لهذا الاتجاه النفسي الذي شاع في الغرب فأثر في سلوكهم وأخلاقهم، كما أشرت إلى شيء من ذلك فيما مضى من هذا الفصل، وعلى ذلك فإن الكلام عن انحرافاتهم في القضايا الاجتماعية سيتضمن انحرافاتهم في القضايا النفسية مع ذكر وجه فيه الربط بين الانحراف النفسي والاجتماعي.

‌وانحرافاتهم في أوجه عديدة منها:

1 -

المضادة للمجتمع ومعاداته.

2 -

السعي في إفساد المجتمع.

3 -

إسقاط مفاهيم الأخلاق والقيم والتقاليد من المجتمع.

4 -

نفي قيام مجتمع على أساس ديني.

(1)

الآية 11 من سورة الرعد.

(2)

الآية 53 من سورة الأنفال.

ص: 2117

5 -

الدعوة لتطبيق الحياة الاجتماعية الغربية.

6 -

المضادة للأسرة ونظام العائلة، ومعاداة الأب خاصة.

7 -

أثر الإنحراف النفسي في الانحراف الاجتماعي.

كل هذه الأوجه وغيرها مما فاضت به كتب ومجلات وأعمال الحداثيين والعلمانيين، والشواهد عليها عديدة، ويُمكن القول بإجمال قبل الدخول في تفاصيل انحرافاتهم - أن مما يدل على انحرافاتهم في القضايا الاجتماعية والنفسية، ما وضعوه لأنفسهم من أصول سبق ذكر أكثرها في ثنايا البحث ومنها:

1 -

زعمهم أنه ليس هناك حقائق مطلقة.

2 -

دعوتهم إلى استباحة المحرمات، والتحرر من الضوابط، وإسقاط موازين الحلال والحرام.

3 -

دعوتهم إلى التعددية الوثنية، ومضادة التوحيد ومبدأ الوحدة.

4 -

دعوتهم إلى إيجاد مفهومات حديثه شمولية جذرية.

5 -

الهجوم على التراث والثقافة الدينية "الإسلامية" والثقافة والعربية.

6 -

دعوتهم إلى الرفض والتمرد والثورة على كل شيء، والانقلاب على الأصول والمفاهيم الكلية والقواعد.

7 -

تأليه الإنسان، والدعوة إلى الإنسانية مبدأ وغاية.

8 -

ممارسة التعمية والغموض، ومضادة الإفهام والوضوح والظهور.

9 -

الدعوة إلى الخروج عن المألوف والسائد، ونفي السائد ورفضه.

10 -

إعادة النظر في كل شيء، وممارسة الشك والسؤال في كل قضية.

11 -

الدعوة إلى القطيعة مع الماضي والمضادة له والانفصال عنه ومعارضته.

ص: 2118

12 -

القضاء على فكرة الثابت، والزعم بأن كل شيء متحول متطور، والزعم بأن كل فكرة أو قضية لها سمة الثبوت فهي تخلف.

13 -

الدعوة إلى تأليه العقل والعلم المادي، والادعاء بأن حرية العقل "بالمفهوم العلماني" أساس كل تحديث وتقدم.

14 -

الزعم بأنه لا حرية للإنسان إلّا بهدم الشريعة والإسلام والأخلاق.

15 -

رفض العبادة للَّه تعالى، واعتبار الدين تخلفًا وفشلًا، والادعاء بأن النهضة لا تتم إلّا بالفصل بين الدين والحياة، وبنقل مركز الثقل من السماء إلى الأرض فقط.

16 -

تبنى الهدم والفوضى، والخلخلة للأفكار والمعتقدات الراسخة، وتصريحهم أن التخريب حيوي وهو أول الواجبات، ومن علائمه المهمة الهذيان والعبث والجنون.

17 -

الدعوة إلى إسقاط القداسة، واختراق المقدس وتدنيسه.

18 -

إدانة الفعل والوعي، وقوانين العلم والنظام والمنطق، وكل ما تعارف عليه الناس وكل مؤسسي وثابت.

19 -

تفكيك كل القيم والمعايير، وزعزعة وخلخلة كل الموازين الماضية.

20 -

كما أنه يجب أخذ التقنية عن الغرب، فإنه يجب أخذ الأفكار والثقافة والفنسفات والمذاهب والقيم.

21 -

الحداثة رؤيا شاملة للحياة والوجود، وهي عقيدة ومضمون أبدي، ومفهوم حضاري جديد كامل.

وهذه الأصول الحداثية التي تدور عليها معظم أقوال وأعمال أهل الحداثة تدل كلها مجملة وكل واحد منها على حده، على موقفهم المعادي للمجتمع، بل الاتجاه التدميري لمقومات وأسسه ومؤسساته، وخاصة المجتمع المسلم الموجود أو المأمول.

ص: 2119

‌الوجه الأول: المضادة للمجتمع ومعاداته:

يرى الحداثيون أن المجتمع الذي فيه بقايا من الدين وأخلاقه وقضاياه؛ عائق من عوائق انطلاقاتهم، ومعوق من معوقات مشروعاتهم؛ ولذلك سعوا جاهدين في تفكيك المجتمع ومؤسساته.

ويظهر ذلك في انحرافهم الاعتقادي المتمثل في جحدهم لربوبية اللَّه تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، فإنه هذا الجحد سيقود حتمًا إلى محاربة المجتمع الذي يؤمن بهذه الأمور ويعتقدها، وسيعهم في إبعاد المجتمع عن هذه القضايا الأساسية والمهمة سوف يقود المجتمع -ولابد- إلى التفكك والتمزق والضياع، والواقع أكبر الشواهد على ذلك، فإن الأمة لما تخلت عن عقيدتها أو عن بعض عقيدتها أصابها الوهن والهزيمة والشتات.

ثم إذا نظرنا إلى التصورات الاعتقادية التي استمدها الحداثيون والعلمانيون من الوثنيات القديمة والحديثة ومن الأديان المحرفة، وجدنا أنهم أضافوا عوامل أخرى تزيد من تفكيك المجتمع ودماره وإلحاق الفوضى به وبجميع مؤسساته.

لاسيما إذا تذكرنا ما سبق ذكره في الفصل الرابع من الباب الأول من دعوتهم إلى إلحاق بلاد المسلمين أو بعضها بالغرب من خلال الفكرة المتوسطية التي نادي بها أنطون سعادة وأدونيس والخال وسائر عصابة شعر، والتي دعا إليها طه حسين ولويس عوض وسلامة موسى وغيرهم.

فهذا الإلحاق والدمج الذي يرجوه ويأمله المتغربون العملاء والمقلدون الأغبياء هو دعوة صريحة إلى تدمير المجتمع وتحطيم قوائمه وهدم أركانه وتقويض بقايا ما ورثه من الدين القويم والخلق السليم.

ثم إذا نظرنا في موقفهم من النبوة والوحي والتي كان بسببها توحد الأمة وقيام المجتمع الإسلامي على الأسس الصحيحة القوية، ونظرنا كيف عادى الحداثيون النبوة والأنبياء والوحي والكتب المنزلة وخاصة القرآن العظيم، تبين أي ضرر يردون إلحاقه بالمجتمع.

ص: 2120

أمَّا موقفهم العملي من نظم الإسلام ومحاربتهم الأكيدة ومعادتهم الشديدة لحكم الإسلام، فإنها تضيف بصورة عملية أفتك الأسلحة المضادة للمجتمع والداعية إلى انهياره وتمزيقه، وكذلك موقفهم المحارب للأخلاق الإسلامية، والداعي إلى الرذائل الخلقية والانحلال والفوضى.

ويضاف إلى كل ما سبق ذكره ما لهم من مواقف وأقوال صريحة في هذا الصدد، وقد سجل إحسان عباس موقفهم من المجتمع في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر"، ومما جاء فيه أن من الحداثيين من (يعتقدون بلا ريب أن الفرد والمجتمع يمثلان طرفي صراع)

(1)

.

ثم بين وجه رؤيتهم لهذا الصراع الذي أضحى محورًا من محاور شعرهم، وذكر أمثلة لذلك كرواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وكلام ممدوح عدوان في قصيدته "العابرون كالرعد" ثم يتساءل إحسان عباس:(كيف يكون الوضع بالنسبة لشاعر كان يجد هويته أولًا ثم بسبب عوامل متعددة أحس بالاغتراب من بعد، وبفقدان تلك الهوية؟)

(2)

.

ثم أضاف: (ويبدو لي أنه لابد لوضع هذه القضية في موضعها الصحيح من أن نميز -في الصراع بين الفرد والمجتمع- مواقف متفاوتة فهناك الغربة أو الاغتراب، وهناك الثورة على المجتمع، وهناك التأقلم بالمناخ الاجتماعي، وهناك العزلة الكلية عن المجتمع)

(3)

، ثم راح يشرح هذه البدائل.

ثم ذكر إلحاح بعضهم على قضية صراع الطبقات، سواء كان ذلك

(1)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 153. ومصداق ذلك قول سعيد السريحي: (من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمرًا قدريًا لا مندوحة له عنه دهان آمن في ظاهر الأمر أو باطنه بكل أعرافها وخضع لكل تقاليدها في حياته العامة) الكتابة خارج الأقواس: ص 37.

(2)

المصدر السابق: ص 154.

(3)

المصدر السابق: ص 155.

ص: 2121

على أساس ماركسي أو وجودي أو سوريالي

(1)

.

ثم عرج بعد ذلك على الثورة الحداثية في أي صورة من صورها المذهبية، ثم شرح مضمون هذه الثورة قائلًا:(. . . إن الثورة حين تعتمد التحطيم ترتبط بالإخافة لمن لا يقدرون على تصور كل نتائجها، وهؤلاء يخشون إلى درجة الرعب انهيار سلطة الأب، وتفكك نظام العائلة، وبالتالي تقشعر نفوسهم من التحدي للسماء، ذلك أن إنسانية الإنسان -دون أي شيء آخر- تعني فيما تعنيه إشاحة الوجه عن كل ما هو وراء الغيب، وهذه سمة بارزة في الشعر الحديث، ولا يخفف من وقعها أن نحتال لها بالتفسيرات والتوجيهات)

(2)

.

هذا النص الذي كتبه الناقد الحداثي يؤكد ما سبق ذكره من أن انحرافهم الاعتقادي وتحديهم للدين وجحدهم للغيب هو أساس مواقفهم العملية في القضايا الاجتماعية.

لقد أصبح تفكيك المجتمع وانهياره حلمًا من أحلام أهل هذه الملة؛ ليتحقق لهم غرس أمراضهم في الأجزاء المفككة دون مقاومة.

وممن صرح بذلك كاهن الحداثة النصيري أدونيس حين تحدث عن معروف الرصافي

(3)

باعتباره أبًا للحداثة، واتخذ أقواله المنحرفة جسرًا يعبر من خلالها عن آرائه، كما اتخذ جبران من قبل لهذا الغرض، يقول أدونيس: (إن قراءة الرصافي تكشف لنا عن شخص يدهشه واقع العلم على صعيد التغير والتطور. . . يبدو لنا، في هذه القراءة أنه يتبنى من حيث الموقف الفكري، العلم ومنجزاته بحماسة من يفضل الحاضر والمستقبل، على الماضي، وأن الماضي لا يمثل الكمال، وليس أسطورة أو رمزًا يحرك الطاقة النفسية ويوجهها، كذلك يبدو، تبعًا لذلك، أنه لا يريد أن يحافظ على بنية النظام الاجتماعي، بل يحلم، على العكس، بتفككه

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 156 - 157.

(2)

المصدر السابق: ص 158.

(3)

سبقت ترجمته.

ص: 2122

وانهياره، لكي تولد بنية أفضل مسايرة للعلم)

(1)

.

وفي موضع آخر يمتطي أدونيس جبران فيذكر أنه استطاع أن يغير علاقة الإنسان مع الكون ومع اللَّه -حسب زعمه- ويذكر في ذلك أن الإنسان لم يعد عبدًا للَّه، ولم تعد العلاقة بينهما علاقة خالق ومخلوق، بل اجترأ في طغيان واضح فزعم أن اللَّه -جلَّ وعلا وَتقَدَّس- أصبح هو والإنسان يمثلان كيانًا واحدًا

(2)

، ثم يخلص من هذه الإلحاديات قائلًا:(ونستطيع أن نجد هنا ما يذكرنا بالثورة على الأب، في الجيل الحاضر، فالأب رمز للماضي، واللَّه، كأب، رمز لما هو خارج التاريخ، لا يتغير ولا يتجدد، رمز لشريعة خارجية ثابتة، أي رمز لكل ما يناقض المستقبل؛ لأن الوجود المليء الكامل، في النظرة الأبوية هو الماضي، أمّا المستقبل فعدم ونقص)

(3)

.

تعالى اللَّه عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.

في هذا النص يكشف لنا أدونيس وأضرابه العلاقة التقليدية المعروفة من عهد الجاهلية الأولى، بين الإلحاد وتدمير المجتمع ومؤسساته، والتي منها الأسرة متمثلة في الأب رائد الأسرة.

وفي موضع آخر من تلمود الحداثة يحدد أدونيس في بياناته الحداثية مراده بمواجهة "السائد" -وهي عبارة يرددها الأتباع الصغار كثيرًا- وقد ذكر أن السائد الذي تجب مواجهته هو المتمثل في (مؤسسات المجتمع العربي: "العائلة، المدرسة، الجامعة، التشريع، السياسة، الدين، الثقافة بأشكالها الإعلامية والأدبية. . .، وهكذا فإن العائلة في المجتمع العربي ما تزال أسيرة التكوين القبلي -الثيوقراطي

(4)

-، والمدرسة العربية ليست تقليدية وحسب،

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة 70 - 71.

(2)

انظر: المصدر السابق 3/ 172 - 173.

(3)

المصدر السابق 3/ 173.

(4)

ثيوقراطي، هو إقامة النظام على أساس ديني، ولما تخلصت أوروبا من حكم الكنيسة ودينها المحرف، اعتبروا بناء على ذلك أن أي حكم يقوم على أساس ديني =

ص: 2123

بل رجعية أيضًا فيما تدرسه وفي طرق تدريسها على السواء، والدين ما يزال مهيمنًا على الحياة المدنية بكاملها، وعلى الحياة الثقافية والتشريعية والسياسية، وما يزال الوعي الطبقي مطموسًا بهذه الهيمنة الدينية، على الأخص، المؤمنون جماعة واحدة، أمة واحدة. . . الخ"؛ ولذلك فإن الصراع الطبقي ما يزال هو الآخر مطموسًا. . . لنقل، إذن، إن المجتمع العربي ما يزال في بنيته الإيديولوجية الغالبة، مجتمعًا تقليديًا، غير أنه، مع ذلك، يتحرك أيديولوجيا، بقيادة أقلية طليعية في اتجاه الحداثة)

(1)

.

ولبئسما سولت لهم أنفسهم إذ عمدوا إلى الضلالات يدعون إليها، وإلى المجتمع يسعون في تخريبه وتمزيقه كما عبر عن ذلك أدونيس في قوله:

(استدرك -

أقول لخطواتي اتحدي بأحلامي

وأرسم لمشروعاتي تخطيطات:

في جنون الجسد شفاء للروح

تاريخ الأعضاء تعقيب على تاريخ الرغبة

أسمع ريحًا تشافه الحجر وعارًا يواطيء الغيم

وما أغمض الكلام الواضح

وحين أذكر بيروت، أعني

دمشق الرياض بغداد القاهرة

أذكر قبائل تتهدم وأغتبط

= فهو تخلف، وتساوي لفظة الثيوقراطية عندهم لفظة الرجعية، وقد أخذ هذا المعنى المنهزمون من أبناء المسلمين وصاروا يحاربون حكم الإسلام ويدعون إلى الشرك العلماني تقليدًا للغرب. انظر: موسوعة السياسة 1/ 928.

(1)

الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة: ص 240.

ص: 2124

كأن المستقبل يتربى على يدي!)

(1)

.

طموحاته ومشروعاته تهديم المجتمعات وتقويض عواصم بلاد الإسلام، وهدم القبائل الذي يغتبط به لا يعني به سوى معاداة هذه المجتمعات والسعي في إبطال مقوماتها الشرعية والأخلاقية والاجتماعية، وكل ذلك يؤكد بشكل قاطع رفض هؤلاء لكل مجتمع انبنى على دين الإسلام أو تأثر به.

ومن معاول هدمهم توجههم إلى الأب والأسرة بعداوة تقويضية هدامة، ومن ذلك دعوتهم إلى تحلل المرأة وفسادها على حد تعبير أحدهم: (الحداثة بالنسبة للمرأة العربية هي مثلها بالنسبة للمراهق، وتختصر بكلمة حادة وحاسمة "الرفض" وترى الحداثة كأنها ليست بتبني طريقة جديدة في العيش والتفكير بقدر ما هي رفض القديم، إنّما من الملفت أنه في ما يتعلق بالأخلاق الجنسية، الحداثة ليست سوى إرادة اللا، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الحداثة كانت، ومنذ البدء، مطابقة لتحرر وانطلاق المرأة وانتهت بأن أصبحت مطابقة للتحرر الجنسي، تسير الأمور وكأن المرأة العربية، ترفض من الآن فصاعدًا كونها الضحية الأبدية. . . هذا الرفض يعاش فرديًا، ومنذ اللحظة التي تعي فيها المرأة ذاتها وجسدها، في زمن اجتماعي يقع تحت ضغط الحداثة، إنّما هذا الرفض لا يطال حياتها فقط، إنّما يطال كل المستوى العلائقي مرة واحدة. . . ما ترفضه المرأة، هو وضعية القاصر، أي الدور التقليدي السلبي اجتماعيًا، أم - زوجة، تابعة لسلطة رجل مالك للأولاد والأرزاق، إذًا ترفض المرأة ما تربت عليه، حيث في غفلة عنها جعلوها قاصرة بواسطة العنف الرمزي المقنع للتربية الأخلاقية السائدة. . . الخروج من الاستلاب الإيديولوجي بدأ يضرم النار في الحياة الزوجية، إن إعادة النظر في توزيع الأدوار، ووعي المرأة لهويتها وإرادتها بالاستقلالية، وبحثها عن شخصية منعتقة من الشعارات والنماذج التقليدية دفعها للتساؤل حول معنى

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 416.

ص: 2125

حياتها كمرأة حول معنى التزامها العاطفي. . .)

(1)

.

ثم تنقل قولًا طويلًا عن الخصائص الاجتماعية للأسرة العربية وهو قول يظهر صاحبه فيه أنه مجرد واصف، غير أنه في الحقيقة يملأ وصفه بالعبارات المنفرة من الأسرة ومن نظامها ومن الوالدين والأب خصوصًا، ويضفي عقيدته التدميرية على ألفاظه وعباراته.

ثم تستخرج الكاتبة من ذلك نتائج تابعة لأصلهم البغيض المستهدف مضادة المجتمع ومعاداته وإرادة تحطيمه، فتقول: (إذًا يُمكن وصف مستويات التحرر عند المرأة العربية على الشكل التالي:

- انعتاق من الاستلاب البيولوجي "وتقصد التحرر والانحلال الجنسي".

- مسألة نسبية للمستوى الإيديولوجي حسب درجة الوعي الطبقي.

- رضوخ وخضوع تام للمستوى العاطفي.

والمستوى العاطفي يطال علاقات الحب والزواج، اللذة والرغبة، وكل الاقتصاد النفسي للفرد. . .)

(2)

.

ثم أضافت: (إن الخروج من المؤسسات الدينية والقبلية، الإيديولوجية والأسرية، يفتح الباب واسعًا أمام الحرية، إنّما حرية الحداثة ذات المرجعية الضبابية في مجتمع سجين تقليديته وتكراريته الباهتة)

(3)

.

وهكذا تمد الحداثة بساط فسادها، من خلال إفساد المرأة، وإفساد الأسرة، التي يتحقق لهم من خلالها إفساد المجتمع وتدميره والقضاء المبرم على كل أركانه وأسسه ومؤسساته.

أمَّا فئة الحداثيين الذين يترفعون عن المجتمع بحجة تفوقهم عليه!! أو

(1)

قضايا وشهادات 2/ 109 - 111، والقول لأنسية الأمين تحت عنوان "امرأة الحداثة العربية".

(2)

و

(3)

المصدر السابق 2/ 113.

ص: 2126

بحجة الترفع عن الانغماس في المباشرة، والالتزام، أو بغير ذلك من الحجج

(1)

، فإن الحديث عنهم هنا مما لا يعنينا إلّا من جهة أنهم يرون -حسب ملتهم الحداثية- أنهم البشر الأرقى والأعلم والأفضل، وهم في الحقيقة عكس ذلك تمامًا، بل العامة والأميون من المسلمين خير منهم، بل واحد من هؤلاء العامة خير في إيمانه وأخلاقه من جملة الحداثيين والعلمانيين، فبم يكون ترفعهم على المجتمع؟ أبالمحاكاة والتقليد للغربيين، أم بالهبوط والانحلال؟.

وغني عن الذكر ما في نتاج الحداثيين الماركسيين والوجوديين من مضامين معادية للمجتمع وفق رؤيتهم الماركسية أو الوجودية، التي سبق في مواضع من هذا البحث ذكر مضامينها، ومواقفها العدائية والتدميرية للمجتمع.

وفي شعر البياتي وسعدي يوسف ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وفي نتاج أميل حبيبي وغالب هلسا، ورشيد بوجدرة، الأدلة الكثيرة على أثر الماركسية في اتباعها هؤلاء، وقل مثل ذلك عن أتباع الوجودية وخاصة مجلة "آداب" وأتباعها.

ثم قل مثل ذلك في اتباع المذاهب الحداثية الأخرى.

‌الوجه الثاني: السعي في إفساد المجتمع:

من الأمور البديهية التي يكتشفها كل من يطلع على نتاج الحداثة الفكرية أو الأدبية أن السعي في الفساد على نحو مقصود مبرمج هادف من أهم مشروعاتهم وأعظم غاياتهم.

وقد ذكرت في الفصل السابق لهذا الفصل شواهد كثيرة على ذلك، من كلامهم واعترافاتهم، ودعواتهم الصريحة إلى الرذائل والمفسدات، بل وتفاخرهم بذلك، واعتبارهم من علامات التقدم والنهضة.

تهيجت شهواتهم فانقادوا لها هائمين، وتشعبت شبهاتهم فانساقوا معها

(1)

انظر: بسط ذلك في الحداثة في الشعر العربي المعاصر بيانها ومظاهرها: ص 223 - 227.

ص: 2127

تائهين، وهلكوا بين الشبهات والشهوات واستبسلوا في الدعوة إلى الرذائل وتمجيدها، والتفاخر بالتحلل الخلقي والفساد.

غرقوا في مستنقعات الجنس والخمر والحشيش وبيوت الدعارة وبذلوا جهدهم الفكري والعملي لانحراف المجتمعات في هذه المستنقعات.

جعلوا المرأة مجرد جسد، وناضلوا في إخراجها عارية من الملابس والقيم والعفاف والشرف، بل أبغضوا وعادوا مفاهيم العفاف والشرف والعرض، بل قالوا لا وجود للأخلاق أصلًا؛ لأنها نسبية اعتبارية!!، ركزوا جهودهم من خلال وسائلهم على إفساد المرأة والشبان والشابات، من قبيل قول أدونيس:

(إن رأيت على مدخل الجامعة

نجمة خذ يديها

إن رأيتِ على مدخل الجامعة

كوكبًا عانقيه

وكتبنا على مدخل الجامعة

التواريخ تنهار، والنار قطعي خطانا

لهب يتغلغل في جثة الأرض

نستأصل العائلة

ونقيم الصداقة/ غنوا

للشقوق التي يتحرج الدهر/ هذا

زمن يتفتت/ غنوا

لهجوم الفجيعة)

(1)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 491.

ص: 2128

‌الوجه الثالث: إسقاط مفاهيم الأخلاق والقيم من المجتمع:

وأي مجتمع خلا من هذه المفاهيم فهو ركام من رماد، لا يلبث غير قليل فينهار ويتداعى، وقد سبق بسط هذه القضية في الفصل السابق على هذا الفصل.

‌الوجه الرابع: نفي قيام مجتمع على أساس ديني:

لأن الدين أكبر مانع لفسادهم، وأظهر قوة في مقابل أعمالهم المنحرفة، ومشروعاتهم الباطلة.

وأيضًا لأن قيام المجتمع على أساس ديني يؤدي إلى تماسكه وتآزره، وهذا ما يبطل مخططاتهم ويفسد أعمالهم الهدامة.

ثم إنهم إذا تحقق لهم نزع الدين عن الحياة الاجتماعية استطاعوا غرس عقائد الإلحاد والشك، وهذا وحده كافٍ في تمزيق أي مجتمع وإحلال الدمار به.

وما يشاهد اليوم في المجتمعات الكافرة الماركسية أو الليبرالية أكبر دليل على ذلك، وما يشاهد كذلك في المجتمعات الإسلامية التي يحاول المرتدون جرها إلى حضيض الردة ومستنقع العلمانية، من أكبر الأدلة على هذا، فقد (حملت أوروبا إلى الشرق الفلسفات التي قامت على إنكار أسس الدين وإنكار القوة المصرفة لهذا العالم، القوة الواعية التي أخرجت هذا العالم من العدم إلى الوجود وبيدها زمام الكون "الإله، الخلق الأمر" وعلى إنكار الشرائع السماوية، وإنكار القيم الروحية والخلقية، منها ما تبحث في علم الحياة والنشوء والارتقاء، ومنها ما تتصل بالأخلاق، ومنها ما تدور حول علم النفس، ومنها ما موضوعها الاقتصاد والسياسة، ومهما اختلفت هذه الفلسفات في ألوانها وأهدافها وأسسها، فإنها جميعها تلتقي على النظرية المادية المحضة إلى الإنسان وإلى الكون والتعليل المادي لظواهرهما وأفعالهما.

غزت هذه الفلسفات المجتمع الشرقي الإسلامي وتغلغلت في أحشائه

ص: 2129

وكانت أعظم ديانة ظهرت بعد الإسلام في التاريخ، أعظمها انتشارًا وأعمقها جذورًا وأقواها سيطرة على العقول والقلوب، وأقبل عليها زهرة البلاد الإسلامية وزبدتها عقلًا وثقافة، وساغتها وهضمتها ودانت بها كما يدين المسلم بالإسلام، والمسيحي بالمسيحية بكل معنى الكلمة، فهي تستميت في سبيلها وتقدس شعارها وتجل قادتها ودعاتها وتدعو إليها في أدبها ومؤلفاتها، وتحتقر كل ما يعارضها من الأديان والنظم والعقليات وتؤاخي كل من يدين بها، فأفرادها أمة واحدة وأسرة واحدة ومعسكر واحد. . .

إنها ردة، أعود فأقوال: اكتسحت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وغزت الأسر والبيوتات، والجامعات والكليات والثانويات والمؤسسات، فما من أسرة مثقفة -إلّا من عصم ربك- إلّا وفيها من يدين بها أو يحبها أو يجلها، وإذا استنطقته أو خلوت به أو أثرته عرفت أنه لا يؤمن باللَّه، أو لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يؤمن بالقرآن كالكتاب المعجز الخالد ودستور الحياة، وأفضلهم من يقول إنه لا يفكر في مثل هذه المسائل ولا يهتم بها كبير اهتمام)

(1)

.

بيد أن الحداثيين قد أبعدوا النجعة في مراعي الزقوم الإلحادي، وكانوا أبشع مثال على هذه الردة الكبيرة التي مارسوها وبذلوا غاية جهدهم لصبغ المجتمعات الإسلامية بها.

فها هو أدونيس يصور المجتمع العربي -حسب رؤيته الباطنية والحداثية- تصويرًا أسودَ؟، ويصفه بأنه رجعي مستهلك ثابت رجعي تراثي، وسبب ذلك -عنده- أنه مجتمع متدين، يقول: (هذا السلوك السائد في الحياة العربية إنّما هو سلوك يناقض الثقافة بعامة

(2)

، ويناقض الكتابة بخاصة، فمهم الثقافة يتضمن الاستقلال: يؤكد تفتح الإنسان إلى أقصى حد

(3)

بقواه الخاصة ووسائله الخاصة، ذلك أن الثقافة هي الحلول التي

(1)

ردة ولا أبا بكر لها: ص 6 - 8.

(2)

يقصد ثقافة الإلحاد والانحلال.

(3)

يريد تفتحه على كل الضلالات والانحرافات.

ص: 2130

ييتكرها الإنسان لمشكلاته، أمَّا هذا السلوك فيتضمن التبعية، أي الخضوع لسلطة فوق سلطة الإنسان، الحلول جاهزة سلفًا، والإنسان في هذا السلوك يؤكد استسلامه لإرادة سامية تتجاوزه "يقصد اللَّه -جلَّ وعلا-" والاستسلام استسلام للأكمل، لما يتجاوز إرادة الإنسان، وفي هذا نفي للثقافة، أو فيه توكيد على أن الثقافة هي حفظ الماضي واستعادته باستمرار، وهكذا تتحول السياسة والثقافة إلى نوع من التدين، والواقع أن كلا منها ليس إلّا مجموعة من المواقف الدينية تتقنع في السياسة بقشرة وطنية وفي الثقافة بقشرة فكرية، يبدو في هذا المنظور أن الذي تكلم وكتب في المجتمع العربي هو اللَّه وحده، وأن تراثنا يمثل نوعًا من الكتابة الأولى، وكل كتابة يكتبها الإنسان يجب أن تكون شرحًا أو تفسيرًا لهذه الكتابة الأولى.

المجتمع الذي يتأسس على مفهوم الكتابة الأولى مجتمع أمر ونهي مجتمع وعيد وعقاب، مجتمع طقسي، حرفي، يمنع النقد، يمنع طرح مشكلات أو أسئلة جديدة، والكتابة فيه لا تقبل إلّا إذا انطلقت من الكتابة الأولى، فجاءت تسويغًا لها، وشرحًا، واستعادة، وتذكرًا، هذا المجتمع هو في جوهره مجتمع قمع وإرهاب)

(1)

.

وهذا القول يتضمن الدعوة إلى ترك الدين ليصل المجتمع إلى السلوك الموافق للثقافة والاستقلال حسب معاييره الإلحادية الساقطة.

ثم هو يشير إلى قضية الأمر والنهي والوعيد وامتناع النقد، باعتبارها معالم للتخلف.

وأدونيس وطائفة الحداثيين والعلمانيين يمارسون هذا ويدعون إلى ممارسته، فهم تحت طائلة الأمر والنهي التي ترد عليهم من أساتذتهم زعماء المذاهب الفكرية والأدبية.

ومن اطلع على نتاجهم وأفكارهم وأعمالهم وقارن ذلك مع سيرة وأعمال أصحاب المذاهب الفكرية والأدبية الغربية لم يخرج إلّا بنتيجة واحدة

(1)

زمن الشعر: ص 81 - 82.

ص: 2131

هي: أن هؤلاء أتباع مطيعون طاعة عمياء، ومقلدون تقليدًا أعمى يرجون معه ثواب ومديح أسيادهم والمكافآت المعنوية والحسية.

ويشكلون لأنفسهم مجتمعًا فكريًا وعمليًا يحاط بالطقسية الكهنوتية الكاملة، لا يقبلون معها نقدًا ولا يرتضون أسئلة ولا يسمحون لغيرهم أن يدخل مجتمعاتهم الإعلامية أو المنبرية أو التأليفية، وهو ما كتب عنه بعض الكتاب والصحفيين باسم "الشللية".

وعلى كل حال فإن طموحهم العلماني لعزل المجتمع عن تأثير الدين ما زال يحدوهم فكريًا وعمليًا إلى ترديد الزعم بأنه لا يُمكن قيام مجتمع على أساس ديني بعبارات متنوعة، على حد تعبير من يصرح بذلك مكذبًا للتاريخ الإسلامي، وللواقع المعاصر الذي قامت فيه مجتمعات على أساس دين الإسلام، وممن صرح بهذا التصريح المغالط الحداثي عبد الرحمن منيف القائل:(لا يسعنا تصور مجتمع قائم على أسس دينية في زمننا الحاضر، فالدين بات مسألة شخصية لا يتعدى هذه التخوم، لذا يستحيل قيام مجتمعنا على دعائم دينية، كما يستحيل إضفاء على أحد الأديان صفة الشمولية الكونية)

(1)

.

أمَّا يوسف الخال فيقسم التيارات الإسلامية إلى صادق وجاهل وخبيث حسب رأيه في موقفهم من تطبيق الإسلام على المجتمعات فـ (الخبيث الذي يدعي عن غير اقتناع أن الخضوع للشريعة الإسلامية واجب على كل المجتمعات، ويضم هذا التيار عدد

(2)

من المثقفين لا يستهان به)

(3)

.

ويطلق أحدهم تصريحًا ثوريًا بعيدًا عن أي احترام لديه للأمة أو عقول الناس فيقول: (. . . إنها فكرة متطرفة أن نحاول اليوم تطبيق نظام اجتماعي يعود لما قبل خمس عشر قرنًا)

(4)

.

وأمثال هذا الكلام كثير في كتبهم ومجلاتهم ومحاضراتهم.

(1)

رأيهم في الإسلام: ص 21.

(2)

هكذا.

(3)

المصدر السابق: ص 29.

(4)

المصدر السابق: ص 121. والقول للحداثي المصري جمال الغيطاني.

ص: 2132

‌الوجه الخامس: الدعوة لتطبيق الحياة الاجتماعية الغربية في المجتمعات الإسلامية:

رغم أن التحلل والتفكك الاجتماعي سمة تلك المجتمعات، ورغم أن بعض عقلائهم يطلق صرخات التحذير، إلّا أن الأتباع المبهورين من أبناء البلاد الإسلامية قد عميت أبصارهم وصمت آذانهم، فأصبحوا غربيين أكثر من الغرب!!.

وقد ذكرت في الفصل الرابع من الباب الأول الأقوال الكثيرة التي تشهد بانتمائهم العضوي والفكري للغرب، للفكرة المتوسطية أو الفينيقية، وتشهد بحربهم وبغضهم لهذه الأمة عقيدة ولغة ومكانًا وتاريخًا وحضارة.

على أن هذا الموقف لا يأتي في كلامهم بشكل عرضي، بل هو من أظهر مبادئهم وأسس عقائدهم وقد اعترفوا بذلك بافتخار في أحيان كثيرة، وبانتقاد من بعضهم في بعض الأحيان، وقد نقلت ذلك في الفصل المشار إليه فأغنى ذلك عن إعادته هنا

(1)

.

ومن أكبر حججهم في الدعوة "للاستغراب" الثقافي والاجتماعي زعمهم أنه كما استوردنا الثلاجة والغسالة والمكيف والسيارة وسائر المصنوعات فإنه لا مانع بل يجب أن نستورد العقائد والأفكار والقيم والنظام الاجتماعي والسلوك النفسي.

ومع ما في هذه الحجة من هزال وسخف إلّا أنهم لا يفتأون يرددونها زاعمين أن الحداثة تشتمل على كلا الأمرين: "التقنية والعقائد" أو "العلوم التجريبية والقيم والأفكار"

(2)

، وأنه لابد من استيراد الجميع إذا كانت هناك إرادة للتقدم والتحضر والرقي!!.

(1)

انظر: ص 707 - 714 من هذا الكتاب.

(2)

انظر أمثلة لهذه الأقوال في: الثابت والمتحول 3/ 238، 268، وقضايا وشهادات 2/ 257، والإسلام والحداثة: ص 185 والقول لجابر عصفور، وص 328، 355، 358 والقول لمحمد أركون، وص 378 والقول لهاشم شرابي، وقضايا الشعر الحديث: ص 296، 298 والقول ليوسف الخال، وشعرنا الحديث إلى أين: ص 19.

ص: 2133

مع ملاحظة أن نفيهم لقيام مجتمع على أساس ديني يتوافق مع دعوتهم لتطبيق الحياة الاجتماعية على مجتمعات المسلمين، بل هما وجهان لمقصد واحد تلقوه عن أسيادهم، ورددوه وروجوه، ليكونوا بذلك طليعة الأعداء.

‌الوجه السادس: المضادة للأسرة ونظام العائلة والوالدين وخاصة الأب:

تعد الأسرة البنية الأولية للمجتمع، الذي يتكون من أفراد وأسر.

وفي إطار انحرافاتهم الاجتماعية، والتوائهم النفسي، توجهوا إلى الخلية الأولى للمجتمع بالمضادة والمحاربة، والسعي في تقويض نظام الأسرة، وقد مرّ معنا في الفصل السابق أمثلة لمعاداتهم للوالدين ومحاربتهم وبغضهم للأب خاصة.

فعند ابن جلون تذهب فتاة روايته إلى قبر والدها فتنبشه وتلقي فيه بعض ما تركه

(1)

.

وعند محمد شكري تفصيل طويل لبغضه لوالده وشتمه له، وتمنيه قتله، وفرحه بموته، وذهابه إلى قبره ليبول فوقه

(2)

.

وأمَّا نوال السعداوي فتتناول موضوع الأسرة والوالدين في كتابها دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي على مشرحة علمانيتها وانحلالها الداعية إلى تفكيك الأسرة والتمرد على الأب والخروج عن طاعته

(3)

.

أمَّا أدونيس فإنه يعبر عن هذا المقصد بقوله:

(لهب يتغلغل في جثة الأرض

(1)

انظر: ليلة القدر: ص 43.

(2)

انظر: الخبز الحافي: ص 26 - 27، 36، 91، 93، 97، 71، 78، 95، 98.

(3)

انظر: دراسات عن المرأة والرجل: ص 31، 37، 96، 176، 183.

ص: 2134

نستأصل العائلة)

(1)

.

وقد نقلت عنه في مطلع هذا الفصل حلمه الذي مدده من خلال معروف الرصافي في تفكيك المجتمع ونظامه، واعتبار ذلك أول الطريق للتحضر والتقدم

(2)

، بل ومناداته صراحة بالثورة على الأب والنظام الأبوي في أي شكل من الأشكال جاء

(3)

.

وتصريحه بأنه ضد مؤسسات المجتمع "العائلة والمدرسة والدين"

(4)

، ويتحدث أحد نقادهم عن الطموح الحداثي النضالي!! فيقول:(تريد أن نحل أزمة الأب؟ إذن علينا أن نكون في الطليعة النضالية مع إعطاء هذا التعبير شموله الكامل، فنحارب حقول العائلة والمجتمع والسياسة، في جميع الحقول وحيث نرى مجالًا للجهاد، لنعط عواطفنا القوة الكافية لتصبح سيلًا جارفًا، بدلًا من أن تكون ألوانًا باهتة تلصق بنا لصقًا، لنتعلم الحقد والكره والحب)

(5)

.

ولعل في هذا النص الخلاصة لموقفهم من المجتمع، ووسائلهم في ذلك.

ويذكر إحسان عباس الأجواء التي ترعرعت فيها الحداثة ومن ضمنها: (اهتزاز وضع العائلة أو تفككها، وضياع سلطة الأب، والعلاقات الجديدة بين الأب والأبناء "أو انعدام العلاقات" واستعلاء قضية "الجنس" واحتلالها مقام الأهمية، والاستشفاء في معالجة الكبت "العفة القديمة" بإشباع الرغبات، كيف فعلت كل هذه في توجيه الشعر، وقبل كل ذلك كيف غيرت مفهوم العصبية العائلة، وحطمت القيم القديمة، وأبدت التساهل في تصوير الشذوذ، وأوجدت معنى جديدًا للحب. . .)

(6)

.

(1)

الأعمال الشعرية لأدونيس 2/ 491.

(2)

انظر: الثابت والمتحول 3/ 71.

(3)

انظر: المصدر السابق 3/ 173.

(4)

انظر: المصدر السابق 3/ 239 - 240.

(5)

بحثًا عن الحداثة: ص 117 نقلًا عن مجلة الآداب إبريل 1954 م/ 1374 هـ: ص 39 - 40.

(6)

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: ص 50.

ص: 2135

ثم يذكر الثورة الحداثية وكيف تعتمد التحطيم والدعوة إلى (انهيار سلطة الأب، وتفكيك نظام العائلة)

(1)

.

‌الوجه السابع: أثر انحرافهم في القضايا النفسية في الانحرافات الاجتماعية:

مرّ في الفصل السابق توضيح الأصل الكبير الذي اعتمده الغربيون في دراستهم للنفس الإنسانية ذلك الأصل المسمى بمدرسة "التحليل النفسي" التي يتزعمها اليهودي "فرويد"، وذكرنا مجمل هذا الاتجاه، وما يتضمنه من دلالات وإيحاءات وما ترتب عليه من ممارسات عملية على مستوى الفرد والجماعة.

لقد تغلغلت نظرية داروين ووليدتها نظرية فرويد النفسية في الحياة الاجتماعية الغربية، والحياة الاجتماعية التابعة للغرب، فأثرت أعظم التأثير في الأخلاق والتقاليد الاجتماعية والقيم العليا، والممارسات والعلاقات الاجتماعية والدولية والسياسية.

لقد أصبح المجتمع بناء على هذه النظريات في هيئة قطيع يعيش الحياة الجنسية المحمومة، ويلهث كل فرد منه خلف مصلحته الذاتية وشهوته الحيوانية وملذاته ورغباته الأنانية.

إن الأصل الذي رسخته الحداثة من خلال اعتقاداتها المادية، وفلسفتها الحيوانية، ورؤيتها الدنيوية البحتة كلها تعود من قريب أو بعيد بتصريح أو تلميح إلى جعل الإنسان مجرد كائن أرضي لا علاقة له بخالق أو إله، ولا نصيب فيه لروح بل هو جسد محض يعيش مكبوتًا -حسب زعمهم- تحت ضغط الدين والأخلاق والمجتمع، ولا حرية له إلّا بالقضاء على هذه الأمور.

وهذا الإنسان لا يتحقق كيانه ولا تظهر إبداعاته إلّا بعيشه بعيدًا عن هذه

(1)

المصدر السابق: ص 158.

ص: 2136

العوائق، فالدين أفيون وخرافة، والأخلاق من اختراع الإنسان وهي غير ثابتة، والمجتمع عدو، أو كما تقول الوجودية:"العدو هو الآخر".

فما الذي حدث بعد نزع إنسانية الإنسان، وبعد إلقائه في جب الحيوانية، وبعد تلويث فكرة الدين والأخلاق والتقاليد القويمة، وتقذيرها وتدنيسها؟.

لقد ارتكست النفوس، وتحطمت مقومات المجتمع وأصبحت الغرائز والشهوات والأهواء هي المسيطرة والغالية، أمّا القيم والأخلاق فقد زويت في زوايا النسيان، وإن مارسها أحد فلغرض مصلحي أو باستحياء واعتذار وتبرير.

انفلت عقد المجتمع وتناثرت حباته على قارعة الإهمال أو في مزابل الأرجاس.

وجاء المنخدعون من أبناء المسلمين بأسوأ وأقذر ما لدى الغرب المريض، جاؤوا بالأمراض والعلل النفسية والاجتماعية، ينشرونها على أنها هي وسائل الإنقاذ، ويبشرون بها على أنها هي مقومات النهضة، وهي في الحقيقة ليست سوى السم الزعاف والمرض العضال، الذي يشتكي منه عقلاء الغرب اليوم.

جاؤوا بنفسيات مريضة بالجنس والدعارة والانحلال، زاعمين أن ذلك من مقتضيات التحضر والتحرر!!، ونزلوا ساحة المجتمعات الإسلامية بهذه النفسيات الملتوية المريضة، وبأفكار مترعة بالجهل والضلال والانحراف، وأعملوا معاولهم في بنيان هذه المجتمعات، وما زالوا في هذا العمل التخريبي سائرين، ولن يكفوا حتى يروا المجتمعات الإسلامية الممزقة مفتتة أكثر، لينعموا بالفتات وفتات الفتات، ويسعدوا بذوبان هذه المجتمعات بصورة كاملة في مجتمعات أسيادهم وطواغيت المذاهب العلمانية والحداثية، ولكن اللَّه غالب على أمره، والأمة -بعون اللَّه- محفوظة، وما زالت في عروق أبناء المسلمين دماء تثور حمية لدينها وأمتها.

• • •

ص: 2137

‌الفصل الخامس الانحرافات في القضايا السياسية والاقتصادية

القضايا السياسية والاقتصادية عبارة عن تطبيق عملي للعقيدة، وتنفيذ واقعي للأفكار التي يؤمن بها الإنسان.

و (من المعلوم بداهة، أن لكل أمة من أمم الأرض عقيدة، آمنت بها ورضيت بأن تكون قاعدتها الفكرية، تبنى عليها أقكار حياتها، وعلى أساس هذه العقيدة، تعالج كل مشكلاتها، وتحل على أساسها قضاياها، وتسن بموجبها أنظمتها وقوانينها، وتحدد بها وجهة نظرها في الحياة، وتعين غايتها في الدنيا فقط.

وبعبارة أخرى أن جميع أنظمة الحياة، وجميع حلول مشكلاتها ومعالجة قضاياها، تنبثق عن عقيدة تلك الأمة، وتبنى عليها، وتسير بتوجيهها، فكان بذلك لكل نظام عقيدة.

وهذه العقيدة هي الضمانة الحقيقة لحسن تطبيق الأنظمة في المجتمع، وهي الحارس الأمين من الإساءة في التطبيق والتنفيذ، كما هي الدافع الذاتي الذي يوجد الأخلاص الخالص، والولاء الصادق لكل الأنظمة ومعالجات المشكلات.

وبقدر صحة وصلاح العقيدة، تكون صحة وصلاحية النظام المنبثق عنها، وبذلك تسعد الأمة سعادة حقة، يسيطر عليها الاطمئنان الروحي

ص: 2138

والارتياح النفسي الدائميان، وترفل الأمة بالرفاهية الحقيقية في حياتها، وتأخذنا بالعروج نحو سلم المجد والرقي.

أمَّا إذا كانت العقيدة فاسدة أو خاطئة، فإن ما انبثق عنها من أنظمة، وما بني عليها من أفكار تكون فاسدة وخاطئة؛ لأن ما قام على الفاسد فاسد)

(1)

.

وعلى هذا الأساس يُمكن أن نتبين ما يُمكن أن تتضمنه عقائد أهل العلمنة والحداثة من فساده واضطراب في ما ينبثق عنها من نظم سياسية واقتصادية.

وقبل الشروع في بيان الانحرافات في هذين المجالين، أود أن أذكر بعض القضايا:

‌القضية الأولى:

أن الحداثة مفهوم شمولي يمتد -حسب قول أصحاب هذه الملة- إلى كل نواحي الحياة، فليست الحداثة مقتصرة على الأدب والنقد، كما يظن بعض قاصري الفهم، أو كما يتذرع بعض الماكرين من الحداثيين، في معرض تسويق الحداثة على المغفلين.

وها هي بعض الأقوال المثبتة لهذه الحقيقة:

- يتحدث أحدهم عن الحداثة في الشعر فيقول تحت عنوان "رؤيا شاملة للحياة والوجود": (أمّا المضمون فإن أهم سماته الجديدة هو تحول القصيدة الحديثة إلى ما يشبه الرؤيا الشاملة للحياة والوجود، بمعنى أن المضمون الفكري لم يعد مقسمًا إلى خانات كما كان معروفًا في النصف الأول من هذا القرن، شعر: قومي ووطني واجتماعي ووجداني، إن المضمون الفكري هو الآن مزيج متجانس من كل هذه الموضوعات أو معظمها في سياق فكري فني واحد)

(2)

.

(1)

حكم الإسلام في الاشتراكية: ص 33 - 34.

(2)

مجلة الناقد، العدد الثامن: ص 26 - 27. والقول لشوقي بغدادي.

ص: 2139

- ويقول آخر: (. . . الحداثة فعل شمولي من جهة، وكوني من جهة ثانية، والمقصود بشمولية الحداثة إنها لا تقتصر على جهة معينة وتهمل الجهات الأخرى، إنها تشمل كل نواحي الحياة تقريبًا. . . وهي فعل كوني ما إن تنشأ وتفعل فعلها في مكان حتى تنتشر سريعًا وتعم في كل الأرجاء)

(1)

.

- ويقول غالي شكري عن الحداثة: (إنها كل لا يتجزأ من الأفكار والمشاعر والقيم، والحداثة التي لا تواجه السائد ليست حداثة على الاطلاق، فالحداثة الحقيقية ثورة في المجتمع والفكر والفن، والمبدع الحديث هو إنسان ثوري. . . الحداثة بهذا المعنى رؤيا ثوربة تقتحم السائد في عقر داره اللغوية، الفكرية، الاجتماعية، إنها تبادر إلى الاشتباك ولا تنتظر الإذن من أحد)

(2)

.

ويقول في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين؟ ": (مفهوم الحداثة عند شعرائنا الجدد. . . مفهوم حضاري أولًا، هو تصور جديد تمامًا للكون والإنسان والمجتمع، والتصور الحديث وليد ثورة العالم الحديث في كافة مستوياتها الاجتماعية والتكنولوجية والفكرية، ولذلك فهي ثورة عالمية وإن قادتها حضارة الإنسان الغربي)

(3)

.

- ويقول أدونيس: (إن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاجها الجمهور العربي ليست تلك التي تسليه أو تقدم له مادة استهلاكية ليست تلك التي تسايره في حياته الجارية، وإنّما هي التي تعارض هذه الحياة أي تصدمه: تخرجه من سباته، تفرغه من موروثه، وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها،

(1)

المصدر السابق، العدد نفسه: ص 31 والقول لحنا عبود.

(2)

المصدر السابق، العدد التاسع: ص 15.

(3)

شعرنا الحديث إلى أين؟: ص 114 ونحو هذا في كتابه ذكريات الجيل الضائع: ص 57 وكتاب برج بابل، النقد والحداثة الشريدة: ص 128، 130.

ص: 2140

وذلك من أجل تهديمها كلها، أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد)

(1)

.

- ويقول أحد نقاد الحداثة: (. . . الحداثة إذن ليست دعوى شبيهة بالعصرية، فهذه الأخيرة دعوة شكلية سطحية، تتعلق بمظاهر الأشياء. . . الشعر الحديث "موقف" من الكون كله لهذا كان موضوعه الوحيد "وضع الإنسان في هذا الوجود")

(2)

.

ويقول أيضًا: (الحداثة موقف حضاري من الوجود، الحداثة رؤيا، حساسية، تشكيل)

(3)

.

ويذكر هذا الناقد كيف بدأت ثورة الحداثة فيقول: (بدأت ثورة في "المضمون" وهذه أنتجت ثورة في "الشكل")

(4)

.

ويقول أيضًا: (لقد استعار شعراء الحداثة العرب صلب الرؤية الغربية في طلب التغيير. . . فالسعي إلى تغيير العالم بعدًا لتحقيق الذات يصدر أساسًا عن موقف حضاري لا يقيم للدين الشأن الأكبر في هذا العالم كما تؤمن حضارة الشرق بل يؤمن بطاقات الإنسان المتفوق وقدراته)

(5)

.

- ويقول الناقد الحداثي المغربي محمد بنيس: (. . . الحداثة في هذا العصر، غربية التصور والتحقق، لفعلها صفة الشمول. . . وفعل الشمول معناه أن الحداثة ليست اختيارًا قوليًا، يطأ العبارة وينتهي عند ملفوظها، بل هو نمط حياة، وتصور مجتمع، وثقافة تقنية تكتسح الإنسان والطبيعية)

(6)

.

ويقول: (نحن جميعًا متورطون في الحداثة، والحداثة حداثات، حداثة الدولة، وتتمثل خصوصًا في تقنية التجهيز والقمع، ولا اختيار

(1)

زمن الشعر: ص 76 ونحو هذا في: ص 273.

(2)

الحداثة في الشعر العربي المعاصر: ص 59.

(3)

المصدر السابق: ص 65.

(4)

المصدر السابق: ص 349.

(5)

المصدر السابق: ص 351.

(6)

حداثة السؤال: ص 109.

ص: 2141

للدولة العربية في هذه التقنية، فالغرب هو الذي يختار نمط الغرب المسموح به أو المرغوب فيه للعالم العربي، وهذه حداثة مقطوعة الجذور عن الماضي والمستقبل معًا

(1)

، إنها، باختصار، حداثة هيمنة فرد أو فئة تتضمن، كشرط وحيد لاستمرارها وضمان هذا الاستمرار، استعباد وهزيمة الأمة والوطن

(2)

.

حداثة المؤسسات المضادة، بما يحددها كطريقة للتنظيم الاجتماعي، والتكتل السياسي، والمفارقة هنا هي أن هذه المؤسسات -كمعطى غربي بالأساس- تنبني فيه على مرتكزات الحداثة، التي هي الديمقراطية، وحرية التعبير، واعتبار الوطن أو الأمة أو الأممية، ظلت في العالم العربي تهجس بالسلطة والدولة كنموذج لبنيتها، مما أعطاها وضعية امتداد للسلطة لا بديل لها، لذلك تحول هذا النمط الحداثي من التنظيم الاجتماعي، والتكتل السياسي، في العالم العربي، إلى وسائط تتضمن استمرار الدولة - الهيمنة، على مستوى البناء القَبَلي لقاعدتها الاجتماعية، والتسييد الضابط للممارسة السلطوية، بفؤيتها وقبيلتها وتراتبها الخاضع للواحدية المتعالية

(3)

، والتنظير المستقر في جوف ثوابت الفكر اللاهوتي المانعة لإبدال الرؤية إلى مسألة الأقليات، العقد الاجتماعي، والفعل الثقافي، والارتباط بين القيادة والقاعدة، وتفضيل مبدأ الاجتهاد على مبدأ حرية التعبير.

حداثة المعرفة، بتشعباتها، ومن ضمنها حداثة الإبداع، في مختلف الأجناس الأدبية، والفنون التشكيلية، والسينما والمعمار)

(4)

.

(1)

و

(2)

وكأن الحداثة الفكرية والأدبية ليست كذلك؟!! إنه يريد بهذا الكلام إضفاء صفة الأصالة والتحرر والرقي على الحداثة في جوانبها الفكرية والأدبية، والتي لا تنفك مطلقًا عن الوصف الذي وصف به حداثة الدولة.

(3)

سبق أن بين في كتابه مراده بالواحدية المتعالية، وأظهر معانيها عنده "توحيد اللَّه تعالى" فالواحدية من أبرز معانيها التوحيد، والمتعاليات من أظهر ذواتها: اللَّه جلّ وتعالى وتقدس.

(4)

المصدر السابق: ص 127.

ص: 2142

وله كلام مكرر بعبارات متقعرة يحاول بها إثبات شمولية ما يسميه الفعل الحداثي، وخاصة في كتابه "الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاته"، الذي حشده بأقوال كهنة المعبد الحداثي في هذا الصدد

(1)

.

- أمَّا محمد أركون فيطلق فقاعاته اللفظية المعهودة فيقول: (. . . الحداثة تتجاوز المجال العربي والإسلامي لكي تخص كل شعوب الأرض أنها ظاهرة كونية)

(2)

.

ويطرح الجبرية الحداثية باعتبارها أمرًا مفروغًا منه، لا فكاك من الأخذ بها والانطلاق من ساحتها، يقول ذلك في يقينية شمولية تقديسية تعسفية، يقول:(. . . إننا مجبرون منهجيًا على الانطلاق من ساحة الحداثة العقلية والفكرية؛ لأن الحداثة أضافت مشاكل جديدة لم تكن تطرح سابقًا، وافتتحت منهجيات جديدة تتيح لنا توسيع حقل المعرفة دون إدخال يقينيات دوغمائية، تعسفية، هذا هو الشئ الجديد فعلًا، وهنا يكمن جوهر الحداثة)

(3)

.

وغير خاف على كل ذي عقل أن كل صاحب عقيدة أو فكرة أو ملة يستطيع أن يصف عقيدته وفكرته وملته بهذا الوصف، ما دام أن القضية في ميدان الادعاء والدحض العرية من أي برهان، وعلى هذا فجوهر الحداثة حسب كلام أركون ليس جوهرًا بل مجرد دحروجة نتنة فرح بها الجعلان فراحوا يدحرجونها بأفواههم.

- أمَّا البياتي فإنه يعبر عن هذه الديانة الجديدة تعبيرًا رمزيًا، يخاطب فيه الأتباع المحاكين بصورة أولية، ثم يخاطب غيرهم بصورة ثانوية، وهو في هذا الخطاب يظهر في قالب فرعوني مستكبر، متعالٍ متغطرس، كما يفعل أدونيس وقباني، يقول البياتي تحت عنوان "الشعر يتحدى":

(1)

انظر: الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاته لمحمد بنيس: ص 12 - 21، 33 - 38، 47 - 56.

(2)

الإسلام والحداثة: ص 354.

(3)

المصدر السابق: ص 361.

ص: 2143

(سأنفخ الرماد في عيونكم

وأدلق الخمر على جباه كباركم:

يا أيها السادة، يا أشباه. . .

الشعر لا تطاله أوامر النقاد، الشاعر في رؤياه

يقودكم، سأمانَ، من أنوفكم

عبر التعاسات

ولا يقاد كالحصان في سراه

فلتخفضوا يا سادتي الجباه)

(1)

.

- وبلغ بهم الحال في تصوير شمولية الحداثة أن أوصولوا الشاعر إلى درجة النبوة، والحداثة إلى درجة الديانة، يقول يوسف الخال في بيانه الشعري الذي يقول عنه بعضهم:(صدور بيان يوسف الخال كان بالتأكيد العلامة البعيدة لهذا الوعي الغربي المغاير كان ذلك 31 يناير كانون الثاني 1957 م بعد سنتين من عودة يوسف الخال من أمريكا التي كان سافر إليها في 1948 م)

(2)

.

يقول الخال في بيانه: (إن الشاعر الذي يصل فى قصائده إلى النبوة هو الذي يعرف كل شيء ولا يعرف، هو الذي يقول ولا يقول، هو الذي لا يكون في العالم رغم أنه موجود فيه، هو الذي يكشف لنا أكثر الحقائق قوة دون أن يكون متأكدًا منها. . . الشاعر وحش يقف ضد كل شيء ويهدم حتى نفسه عندما يجد ذلك ضروريًا. . . إن حلم القصيدة في كل العصور هو حلم التجاوز، وترسيخ دين جديد لا يفرض تعاليم جديدة وإنّما يجعلنا نعرف أنفسنا والعالم الذي نعيش فيه بدون كلمات)

(3)

.

(1)

ديوان البياتي 1/ 337.

(2)

الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها لمحمد بنيس: ص 12.

(3)

قضايا وشهادات 3/ 178.

ص: 2144

ولو ذهبت استعرض أقوالهم فى هذا الصدد لطال الكلام، وفيما ذكرته كفاية للدلالة على المراد.

‌القضية الثانية:

اعترافهم بالتبعية للغرب:

لقد استفاض ذلك عنهم، وثبت ثبوتًا لا يقبل الشك والمراء، بل وصل بهم الحال إلى حد التفاخر بالتبعية، ولولا أنني نقلت ذلك في مواضع من هذا البحث، وأشرت إلى المراجع العديدة، لكنت أثبت هنا من كلامهم ما يؤكد هذه القضية

(1)

.

وصفوة القول إن القوم قد انغمسوا إلى آذانهم في تقاليد ومحاكاة الغرب، والتبعية الفكرية والسلوكية لمذاهب الغرب ونظمه وأخلاقه.

وقضية الارتماء في أحضان الغرب قضية عادية مسلم بها عند الحداثيين والعلمانيين، بل ومفتخر بها، إلّا أن بعضهم -مع إقراره بالتبعية- يبحث عن المسوغات، ويلتمس المبررات ويأتي بالفذلكات الكلامية، والتأويلات اللفظية لإضفاء مشروعية لهذه التبعية.

وبعضهم يمعن في المغالطة فيزعم أنه لا يوجد هناك شرق وغرب بل هناك حضارة إنسانية واحدة!! وثقافة عالمية موحدة، فليس هناك -حسب زعمهم- ما يجب الاحتياط ولا الحذر؛ لأنه لا يوجد في الواقع شيء يسمى الغزو الفكري!!.

وهذه الأقوال من جنس الادعاءات الحداثية الكثيرة، وما أكثر الدعاوى في هذه الملة!!، حتى أنه من الممكن أن تسمى "مذهب ذوي الادعاء".

وإلّا فكيف يقول عاقل بأنه لا يوجد غزو فكري، ولا توجد تبعية ومذهبهم أتى من هناك، ورموز هذا المذهب من هناك وامتداده الفكري، والدعم المعنوي والمادي كله من هناك؟، وقد شهد بعض الحداثيين والعلمانيين بذلك، مستنكرين هذه التبعية العمياء، ولكن على استحياء، حتى

(1)

انظر: ص 712 - 715 من هذا الكتاب.

ص: 2145

لا ترميهم الكثرة الكاثرة من الحداثيين بالتقوقع والانعزال!!.

يقول أحدهم: (يؤثر كثيرون "من الشعراء" عدم الكتابة إلّا انعكاسًا كليًا لمرآة الحداثة الغربية، واذ نعترف بأن الغرب اليوم يقدم لنا غالبية عناصر الحداثة الأدبية الشعرية، فإن الانقياد والانمحاء الكلي أمام نماذجه يجرداننا من تكوين لغاتنا الشعرية الخاصة)

(1)

.

ويقول الماركسي اللبناني حسين مروة منتقدًا التبعية للشق الغربي من أوروبا وساكتًا أو مدافعًا عن التبعية للشق الشرقي من أوروبا "الماركسية" على وجه الخصوص: (لقد كنا في لبنان مصابين بانتشار ألوان من الأدب والفن الانحلاليين، وكان معظم أدبائنا وفنانينا متأثيرين بالمؤسسات الأجنبية والمدارس الفرنسية في الأدب والفن والفلسفة، من رمنطيقية وسوريالية وانطباعية ووجودية، يقلدونها جميعًا، ويتعصبون لها، ويقفون بوجه الحركة الواقعية في الأدب)

(2)

.

فهو يعترف بتبعية زملائه للغرب وارتمائهم المهين في أحضانه، ويدافع عن تبعية أخرى "الواقعية الاشتراكية" التي كانت اللسان المعبر عن الكتلة الشيوعية الماركسية والتي كان حسين مروه من أنشط مروجيها ودعاتها الحزبيين والفكريين، وكانت مجلة الثقافة الوطنية المنبر الذي تصرخ منه حناجر الماركسيين.

وعلى كل حال فإن تبعيتهم للغرب بشقيه اللبرالي والماركسي لا تحتاج إلى بيان وتوضيح وشواهد فهي من الجلاء والوضوح بمكان لا لبس فيه ولا غموض، ومن مقتضيات هذه التبعية، ما نجده في كتابات وممارسات العلمانيين والحداثيين، في الجوانب السياسية والاقتصادية، موضع الحديث في هذا الفصل.

(1)

قضايا وشهادات 3 - 215 نقلًا عن مجلة حزيران يونيو 1989 م الموافق 1409 هـ: ص 45 من مقال لأنطوان أبو زيد.

(2)

مجلة الثقافة الوطنية، العدد 62 في 15 تموز 1954 م/ 1373 هـ: ص 4.

ص: 2146

‌القضية الثالثة:

محاربتهم للحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره وهو ما سبق الكلام عنه مستقلًا في الفصل الثاني من الباب الرابع من هذا البحث.

فهم لا يرضون باللَّه ربًا ولا بالإسلام دينًا ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وليس ببعيد على قوم أنكروا وجود اللَّه أو شككوا فيه، وأنكروا ألوهية اللَّه عز وجل، وجحدوا الثوابت أو ارتابوا فيها، وجحدوا الوحي ونفوا المعاد، ليس ببعيد عليهم أن يكونوا ألد الأعداء لشريعة الإسلام، وللدين الحنيف.

ولقد فاضت أفواههم ببغض هذه الشريعة وما تخفي صدورهم أكبر، دعوا إلى محاربة تطبيق الشريعة، وزعموا أنها ضد التقدم والتحرير والنهضة، فنادوا بأبعادها من الواقع ضد الذين يدعون إلى تطبيق شرع اللَّه.

ودعوا في مقابل ذلك إلى تحكيم الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، أو الماركسية والاشتراكية، واجتهدوا في وضع الدساتير والأنظمة الوضعية الجاهلية.

وجملة القول أنهم رفضعوا حكم اللَّه أصلًا، وزعموا أنه لا يلائم العصر، وأنه لا يُمكن اعتماد الإسلام نظامًا للحكم، وزعموا أنه سبب للتخلف وعائق عن التقدم، وأنه لا تحرر فيه بل هو ضد الحرية، وزعموا أن أحكام الشريعة بشرية من صنع البشر وليست إلهية، ودعوا لفصل الدين عن الدولة لأنهم يرون أن إخضاع الدنيا للدين مشكلة وكارثة.

وسخروا بأحكام الإسلام، وقالوا بوجوب تفسيرها تفسيرًا عصريًا وتطبيقه تطبيقًااَ علمانيًا، إلى غير ذلك من المواقف والتي يتجلى منها موقفهم العدائي تجاه الإسلام وتحكيم شريعته، وهذا الموقف مما يكاد يتفق عليه جميع الحداثيين والعلمانيين ومنه تتجسد انحرافاتهم في القضايا السياسية والاقتصادية.

‌وأوجه انحرافاتهم في القضايا السياسية والاقتصادية كثيرة أظهرها:

1 -

دعوتهم إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية الجاهلية، وإخضاع الأمة لها.

ص: 2147

2 -

الانتماء لأعداء الإسلام والمسلمين، والعمالة لهم، وتمجيد رموزهم السياسية، والدعوة لمشروعاتهم.

‌الوجه الأول:

دعوتهم إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية الجاهلية، وإخضاع الأمة لها:

من ثمرات التأثر السلبي في عقائد المستغربين من أبناء البلاد الإسلامية، أن انصاعوا لمقتضيات تلك العقائد التي تأثروا بها، وانساقوا في مجرى المشروعات المنبثقة عن تلك العقائد الجاهلية ذات الجذور الوثنية أو الكتابية المحرفة.

إن نتاج الأفكار والتصورات في الواقع من الأمور الحاصلة والمشاهدة، ولا يجحد ذلك إلّا جاهل أو مغرض، والناظر في أصول اعتقادات الحداثيين والعلمانيين يجد أن دعوتهم إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية غير الإسلامية، والسعي في إخضاع الأمة لهذه النظم، من الأمور المتصورة عقلًا، والموجودة واقعًا.

والناظر في الأطروحات السياسية والاقتصادية لأهل الحداثة يجد كل شيء سوى الإسلام، بيد أن أظهر المذاهب التي يحومون حولها هي:

1 -

الليبرالية الغربية ممثلة في الديمقراطية، والرأسمالية.

2 -

اليسارية ممثلة في الماركسية والاشتراكية.

وعندما كان الاتحاد السوفيتي دولة قائمة ترعى الاتجاه اليساري اتجه معظم الحداثيين العرب إليه، فعاشوا وداروا في فلكه زاعمين أنهم بذلك يقاومون "الامبريالية" الأمريكية والأوروبية فكانوا كمن فر من الرمضاء إلى النار.

سلبتهم الماركسية دينهم وعقولهم، وأحيتهم في دوامة الأوهام، وغرتهم بالأماني الباطلة، والأحلام الزائفة، وراحوا يجرون لاهثين خلف سراب الوعود والدعايات الإعلامية السوفيتية، وانعجنوا في الجدلية والطبقية،

ص: 2148

والتفسير المادي للحياة، وخادعوا أنفسهم أولًا ثم طفقوا يخادعون غيرهم بنشر المادية الجدلية والاشتراكية العلمية -حسب تسمياتهم- وكلما ظهرت عورة من عورات الشيوعية في أي بلد حكمته، انبروا يدافعون، مكذبين الحقائق مؤكدين الأكاذيب، حتى صدقت عليهم وعلى مذهبهم تسمية "مذهب ذوي العاهات"

(1)

.

اتخذوا موسكو وبكين وبلغراد وبرلين قبلة لهم، وزعموا أن الحكم والنظام فيها هو أفضل وأحسن ما وجد على وجه الأرض، وأن البشرية لا يُمكن أن تسعد إلّا بدخولها "جنة الماركسية"!! وطال نعيقهم في إطراء الدول التي حكمت بالماركسية والاشتراكية.

مفرداتهم تدور حول ما قاله ماركس ولينيين من أمثال: أزلية المادة وأبديتها، وأسبقيتها في الوجود على الفكر، والطبيعة الخالقة الموجدة، والجدلية الديالكتيكية، وصراع الأضداد، وقوانين المادة هي التي تحكم الحياة، والتطور عملية حتمية لا تتوقف، وأنها ممتدة إلى كل شيء، كما أن حكم الشيوعية مرحلة حتمية لا يُمكن أن تتخلف أو تتأخر، وأن كل شيء من التاريخ إلى الواقع ومن الجماد إلى الإنسان خاضع للأسس المادية الجدلية، التي تمتد إلى الدين والأخلاق والأسرة والمجتمع، ورددوا قائلين أن كل القيم والأخلاق والسلوكيات والأديان ليست إلّا مجرد انعكاس للوضع المادي والاقتصادي، وأنه لا توجد قيم ثابتة تحكم التطور، وأن التطور هو الذي يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادي والاقتصادي، وانطلقت أفواههم بالسخرية من الدين وأحكامه وتشريعاته وأخلاقه، وبدا حنقهم واضحًا وثورتهم عظيمة على الدين وسائر رموزه، وتنافسوا في هذا الميدان أقبح منافسة، مع سخرية بالحق والعدل والخير ومعاييرها، والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية، واعتبروا عدوهم اللدود بعد الدين والأخلاق الملكية الفردية، فسعوا في حربها بشتى أنواع المحاربة، وإذا أرادوا نبز أحد بسوء وصفوه بالدين أو الأخلاق أو الملكية

(1)

اسم كتاب للعقاد.

ص: 2149

الفردية، وأقفلوا كل أبواب الإصلاح السياسي أو الاجتماعي إلّا عن طريق إلغاء الدين والأخلاق والملكية الفردية، إلغاء باتًا لا هوادة فيه ولا مثنوية.

وفي دعوة هؤلاء الأتباع لتطبيق النظرية الماركسية في السياسة والاقتصاد قاموا بكل ما يستطيعون القيام به، من ثورات وانقلابات عسكرية كما حصل في السودان وجنوب اليمن، ومن دعوات دعائية نضالية ثورية كما حصل في جميع الأحزاب الشيوعية العربية التي أشرف على تأسيسها ورعايتها بل وقيادتها ثلة من اليهود

(1)

.

(1)

مثل هنري كورييل اليهودي الذي كان وراء إنشاء إلأحزاب الشيوعية في مصر والسودان. انظر: كتاب هنري كورييل رجل من طراز فريد، تأليف جيل بيرو، ترجمة كميل داغر، وفي هذا الكتاب: ص 91 مجموعة أسماء يهودية أسست الحزب الشيوعي المصري حيث قال: (في يوم من الأيام قرر كل من راوول كورييل، وروزيب، ويمون أغبون، ومارسيل إسرائيل "كان هنري بعيش مرحلة الكيت كات" إنهم الحزب الشيوعي المصري).

وانظر: كتاب ومشيناها خطى للسوداني أحمد سليمان الذي كان من مؤسسي الحزب الشيوعي السوداني، وقد ذكر في كتابه هذا أثر اليهود في تأسيس الشيوعية في مصر والسودان وفي موسوعة السياسة 2/ 459 أن الحزب كان يضم أبناء الأقليات والأجانب من الأرمن واليهود واليونان" وفيها أثر هنري كورييل وخاصة على الجناح الشيوعي "حدتو": ص 461 لرفعت السعيد، وانظر: هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية لإبراهيم فتحي.

ومثل يوسف سليمان اليهودي المسمى فهدًا زعيم الحزب الشيوعي العراقي ومؤسسه. انظر: موسوعة السياسة 2/ 401، وفيها أن أعضاء اللجنة المركزية في هذا الحزب تميزت بغلبة الآشوريين واليهود مثل يعقوب كوهين ويوسف هارون زليخة ويهودا الصديق وشلومو دلال وغيرهم. انظر: موسوعة السياسة 2/ 402 - 406 وانظر: كتاب كتابات الرفيق فهد، من وثائق الحزب الشيوعي العراقي وللتاريخ لسان لمالك سيف.

ولم يقتصر أثر اليهود العراقيين على إنشاء الحزب الشيوعي، بل كان لهم الدور البارز في تأسيس حزب البعث في العراق، ومن أبرز الأسماء اليهودية في قيادة الحزب: سعيدة ساسون موشى من محلة السعدون في بغداد وكانت مخطوبة لليهودي ساسون شلومو دلال الذي أصبح سكرتيرًا عامًا للحزب الشيوعي العراقي، ولكن تزوجها زكي خيري عضو القيادة الحزبية البعثية حاليًا، وتعرف هذه اليهودية بين الرفاق في الحزب باسم سعاد خيري "أم يحيى"، ومنهم الياهو =

ص: 2150

وكان الشيوعيون من أبناء البلاد الإسلامية أشد شيوعية من الروس أنفسهم، وأعتى، وأشد غلوًا، وكانت دعواتهم السياسية والاقتصادية تقوم على إلغاء الملكية الفردية وإحلال الملكية الجماعية بدلًا منها، علمًا أن كثيرًا منهم كان يتمتع بحياة فردية مرفهة، وملكية فردية إقطاعية.

ودعوا إلى إلغاء الطبقات بإقامة ديكتاتورية البروليتاريا وإبادة الطبقات الأخرى، وكان بعضهم يعيش حياة طبقية مترفة.

ودعوا إلى كفالة الدولة لجميع المواطنين في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالًا ونساءً، مع تبنيهم قضية المساواة في الأجور، وتطبيق مبدأ من كل بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته، وزعموا أنهم يسعون إلى إلغاء الحكومة في المستقبل وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة.

الحكومة عندهم هي المتصرف الوحيد، واللجنة المركزية هي قلب الحكومة، وللحكومة واللجنة إدارة الملكية العامة بدلًا من الأفراد والمجتمع، ولكي تقضي الدولة على الطبقية فلابد أن تتولى كل السلطات في يدها وتقبض على الأمور بقبضة من حديد، وهي التي تكفل كل فرد، وعلى كل فرد من الرجال والنساء أن يعمل ومن لا يعمل لا يأكل، والدولة أو قل الحزب الشيوعي بل اللجنة هي المالك الوحيد والمسيطر الوحيد على الإنتاج والعمل والتسويق والسياسة والثقافة وكل شيء.

هذه نظرتهم ودعوتهم وأسس عقيدتهم السياسية والاقتصادية، وقد عاشت هذه الفكرة عيشة التناقض في النظرية والتطبيق، منذ أول نشاتها كفكرة وعقيدة، ومنذ أول نشأتها تطبيقًا وممارسة بالثورة البلشفية عام 1917 م/ 1335 هـ.

= مصري، ومنهم ماولين مير عزرا، والتي كانت عضوًا في اللجنة النسائية في الحزب، ومعروفة بين البعثيين باسم "خولة". انظر: جريدة المدينة، العدد 8629 يوم الأحد 13 جمادى الآخرة 1411 هـ.

ص: 2151

فقد كانت الشيوعية تمر بتغيرات جوهرية من عهد إلى عهد، والناظر في عهود الحكام الروس من لينين إلى جورباتشوف يجد البون الشاسع الهائل ليس في القشرة والأسلوب بل في الجوهر والمضمون بين حقبة وأخرى.

ومع ذلك تجد الاتباع الأغرار، مرضى العقول والقلوب، يدافعون ويبحثون عن التأويلات الباردة والتبريرات الخائبة.

وقد انكشفت عورات الأنظمة الماركسية من زمان نشأتها وقوتها وتمكنها

(1)

.

فإلغاء الملكية الفردية وإحلال الملكية الجماعية كانت مجرد أسطورة فقد تحولت الأموال والملكيات إلى أعضاء الحزب الشيوعي وأعضاء اللجنة الماركسية، وتفانوا في تصفية بعضهم ليحوز كل منهم أكبر قدر من الأموال والملكيات.

أمّا الدولة حامية حقوق الضعفاء والكادحين -حسب زعمهم- فقد أضحت كابوسًا ثقيلًا باستبدادها البشع، وظلها المرهف، وفتكها المتواصل.

فما من بلد حكمته الشيوعية إلَّا وأصبح الإنسان فيه مسحوقًا والكرامة الإنسانية فيه معدومة، فجو الإرهاب الدائم الذي تمارسه الأنظمة الشيوعية على الشعوب تحت حجج المحافظة على النظام والأمن ومكافحة الامبريالية والأعداء أضحى السمة المميزة لهذه الأنظمة، وجو الجاسوسية المظلم من أبرز الظواهر التي انصبغت بها هذه الأنظمة المادية الظالمة، حتى أصبحت الشعوب المحكومة بالشيوعية تعيش أزمات الثقة الحادة، حين لا يأمن الوالد

(1)

انظر على سبيل المثال: الأديب ومفوض الشرطة لجورج بالوشي هورفات، والخمور الفكرية لأرثركوستلر، والطبقة الجديدة لميلوفان دجيلاس، والاشتراكية الوافدة من الصقيع لسارتر والثورة والثقافة لأندره جيدو لويس فيشر وريتشارد رايت والاعتراف لآرثور لوندون، وحوار مع الشيوعيين في أقبية السجون لعبد الحليم خفاجي، ومشيناها خطى لأحمد سليمان المحامي، والفلاح: قصة الحياة والموت في روصيا السوفيتية لفالتين جونز اليز وجوليان جركن، تعريب: أحمد فؤاد الأهواني.

ص: 2152

ولده ولا الزوج يأمن زوجته ولا الأخ يأمن أخاه.

وأصبح الأخذ بالظنة والمعاقبة بمجرد التهمة من الأعمال العادية التي تمارسها هذه الأنظمة المستبدة، ويكفي تقرير سري من مخبر ليكون سببًا في فصل الإنسان من عمله والتضييق عليه في رزقه أو سجنه، أو حتى قتله، ضمانًا لاستمرار النظام من المؤامرات السرية!!، وكم شهدت المعتقلات والمشانق وصحارى الثلج في سيبريا من إرهاب وظلم طال ملايين البشر، ووصلت آثاره إلى سائر طبقات الشعب الذي لم يبق له من شعور سوى شعوره بالظلم والهوان والحرمان.

أراد هذا النظام زيادة الإنتاج من خلال نزع الفردية، ومن خلال القوة والإكراه، فكانت النتيجة أن تردى الإنتاج كيفًا وكمًا.

وحين اكتشف الشيوعيون ذلك حاولوا علاج المشكلة بتمليك الفلاحين جزءًا من المحاصيل لأنفسهم والدار التي يسكنونها وأدواتها وأثاثها، وفي هذا تراجع صريح عن مبادئ الشيوعية التي لم تستطع بكل وسائل القهر أن تجعل الملكية الجماعية بديلًا للملكية الفردية ذات الخاصية التحفيزية الفطرية في نفس كل إنسان.

أمَّا زعمهم في إنشاء مجتمع غير طبقي بإلغاء جميع الطبقات سوى طبقة العمال "البروليتاريا" فقد نجحوا في إلغاء طبقة الإقطاعيين والأثرياء، وجعل الجميع فقراء، لقد أنجزوا إنجازًا ضخمًا حين جعلوا الغني فقيرًا والفقير أشد فقرًا!!، والطبقة التي برزت من بين هؤلاء جميعًا هي طبقة "الحزب" التي تتكون من عدة طبقات أعلاها اللجنة المركزية، وأدناها العضوية العادية، هذه الطبقة امتلكت جميع مميزات الطبقات الاقطاعية، سواء في الامتلاك أو في نوع المعيشة أو في النفوذ والسلطان.

فالشعب يعيش حياة الكدح والفقر، في مساكن جماعية ودورات مياه مشتركة، وحياة مادية ضئيلة النفقات، مرصودة الحركات، في حين أن عضو الحزب يتمتع بالسكنى المتميزة والنفقات المتميزة والنفوذ والحماية، وكلما ترقت درجته الحزبية زادت امتيازاته.

ص: 2153

فإذا كان الشعب الروسي -مثلًا- يتكون من مئتين وستين مليونًا من البشر، والحزب الشيوعي يتكون من خمسة ملايين، فإن معنى ذلك أن هذه الملا يين الخمسة هي الطبقة المتميزة المحظوظة -على درجات مقعالية من الحضوة والحظ- أمّا البقية فإنها ليست سوى مجموعة من القطع البشرية التي لا وزن لها ولا قيمة ولا كيان، تعيش تحت طائلة النظم العسكرية الحديدية التجسسية، التي بلغت من السوء والبشاعة والاستخفاف بالإنسان ما يكاد يعد من الخيال.

ومع ذلك تسمع التشدق بحقوق الإنسان ورفعة الإنسان في ظل الأنظمة الماركسية، ويزيدون الطين بلة حين يزعمون أنهم يمثلون "الديمقراطية" الحقيقية

(1)

، وأنهم يدافعون عن الطبقات الكادحة والشعوب المضطهدة!!.

لقد كدح الفقراء تحت حكم الماركسية أشد الكدح ونالوا أقل الجزاء، في حين استمتع غيرهم "بفائض القيمة" لأنهم من الحزب الوحيد الحاكم الذين ينال أفراده كل أسباب الرفاه والمتعة من عرق الكادحيين، يسكنون القصور، ويأكلون الأطايب ويعالجون بالأدوية المستوردة، ويتنقلون في السيارات الفارهة، أمّا طبقة العمال والكادحين فيسكنون الأكواخ أو المجمعات السكنية البئيسة، ويأكلون ويشربون الأردى ومن خلال القطّارة الحزبية، ويعالجون بالأدوية المحلية الرديئة ويتنقلون في سيارات النقل العام ويعملون كالآلات ثم يعودون إلى الغرق في حماة الخمر والجنس.

على أن أبشع أوجه البشاعة في هذه الأنظمة الشيوعية المستبدة أنه لا يستطيع أحد أن يقول كلمة نقد واحدة في الزعيم أو في الحزب أو في النظام، فمن فعل ذلك فله الويل والثبور، والقتل أيسر السبل للتخلص من هذا العنصر الشوير!! ولا يضاهي ذلك عندهم إلَّا أن يضبط أحدهم متلبسًا بالدين!!.

(1)

لا يعني هذا الإقرار بالديمقراطية فهو صورة أخرى عن التلاعب بالبشر ولكن بصورة مسرحية أكثر إتقانًا من المسرحية الماركسية.

ص: 2154

وكم أهلكوا من الشعوب المسلمة في سيبريا، بسبب إسلامهم، وقد قتل ستالين في عهده ثلاثة ملايين ونصف من المسلمين لما طالبوا بحرية ممارسة حياتهم الإسلامية.

ومع كل هذه الحقائق الواقعة والثابتة والتي شهد بها من عايش الشيوعية ومارسها، ونشأ في أجوائها وتقلب في بلدانها

(1)

، إلَّا أننا نجد أن أتباع الماركسية والاشتراكية من الحداثيين يدافعون عنها ويكذبون الحقائق ويدعمون الأباطيل، يتغنون برموز الظلم والفساد والانحراف، ويتباهون بالتقدمية الماركسية التي هي عين الانحطاط والهوان، ويتشدقون بالعدالة والحرية التي لا وجود لها أصلًا في واقع أي بلد حكمته الشيوعية، وعندما كانت الشيوعية في أوج طغيانها وظلمها وفسادها، وخاصة في حقبة الستينات والسبعينات الميلادية كان أتابعهم من أبناء البلاد الإسلامية في أوج نشاطهم اليساري، ونضالهم الشيوعي حتى لا تكاد تجد حداثيًا شهيرًا إلا وهو ينتسب إلى الزمرة الماركسية أو يحوم حولها في فلك اليسارية الذي دارت فيه الأحزاب القومية كالناصرية والبعثية، وحركة القوميين العرب، التي أخذت من الماركسية البشعة أبشع وأخبث ما فيها، وبقي القوم يلهثون في هذا المضمار، ويتنافسون في إظهار شيوعيتهم أو يساريتهم، ويتسابقون إلى الغوص في المستنقع المادي الماركسي الاشتراكي الدنس، وإذا أراد أحدهم أن يظهر في رداء العالمية، أو تطلع أن يوصف بالتقدمية استخدم الأسماء والرموز والمضامين الماركسية في تقديس كامل، وتحدث عنها بإجلال وإكبار وتمجيد ومدح مفرط.

وبقوا على هذا المنوال حتى انكشفت عورات الماركسية للعالم كله، وانفك الطوق الحديدي، وانقشع الغبار الدعائي، وبدأ العمال -الذين جاءت الشيوعية باسمهم ولأجلهم- يظهرون تذمرهم وغضبهم على الأنظمة الماركسية، بالتظاهرات والإضرابات، ومن البدايات التي حصلت في هذا

(1)

انظر: المراجع الشاهدة بذلك في هامش رقم 1: ص 2152 من هذا البحث.

ص: 2155

السياق اضطرابات عمال بولندا عام 1400 هـ/ 1980 م التي تواصلت في صراعها ضد النظام الماركسي حتى قامت الانتخابات الحرة في 1409 هـ/ 1989 م التي أنهت الحكم الشيوعي الذي دام خمسًا وأربعين سنة

(1)

.

وفي هذه الحقبة تولى ميخائيل غورباتشوف حكم روسيا في عام 1405 هـ/ 1985 م وكان البنيان الشيوعي قد ظهر تصدعه فأراد إعادة البناء وسعى لترميم الجدران المتهالكة وأدخل تعديلات جذرية تمس الأصول الاعتقادية الماركسية، وانتقد الممارسات والخلفيات الفكرية الماركسية، ودعا إلى إدخال إضافات جديدة في النظام الاقتصادي وأسلوب الحكم، فكانت "البيروسترويكا" أو إعادة البناء التي أطلقها غورباتشوف هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد انهدم البناء، وتداعت أركانه وتفكك الاتحاد السوفيتي في 6 سبتمبر 1991 م/ 1411 هـ

(2)

، وأعلنت الجمهوريات التي كانت منضوية تحته الاستقلال الكامل عنه، وتسابقت بما فيها روسيا الاتحادية إلى الانضواء تحت الرداء المادي الآخر رداء الديمقراطية الغربية، وتحول أبناء الماركسية الذين عاشوا في أحضانها ونشأوا على أفكارها، تحولوا إلى النظرية المعاكسة تمامًا، وراحوا يلعنون ويشتمون الشيوعية ويكشفون عيوبها، ويظهرون للعالم كله الحقائق التي كانت تغطيها الدعاية السوفيتية بأغاليطها وأكاذيبها، وبدأت تنهار الأنظمة الماركسية في البلدان الأخرى، واحدة تلو الأخرى، وما إن أحس الناس وخاصة العمال والكادحين بخفة ضغط الطوق الحديدي حتى ثاروا وانتقموا، ومن أظهر الأمثلة على ذلك ما حدث في رومانيا وإثيوبيا وألمانيا.

وكان اليساريون العرب في بداية الأمر يفركون عيونهم غير مصدقين، أو غير مريدين التصديق لأنهم يرون ويسمعون دوي انهيارات الدين الذي طالما اعتنقوه.

(1)

انظر: كتاب المعلومات 1994 - 1995 م: ص 194.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 294 - 295.

ص: 2156

وبدأ بعضم يناضل على الطريقة الشيوعية المعهودة، ويدعي أنها مجرد أزمة وتزول، أو أنها اجتهادات تطويرية داخل الماركسية، خاصة بعد أن ظهر كتاب غورباتشوف "البيروسترويكا" إعادة البناء

(1)

، الذي أقر فيه صراحة وضمنًا بفساد السلوك السياسي والاقتصادي في الدولة السوفيتية، ودعا إلى الحوار مع الآخرين بدلًا من الصراع الذي هو أساس العقيدة الشيوعية، ودعا إلى الحوافز المادية والسوق الحرة والملكية الفردية، وغير ذلك من الدعوات المناقضة تمامًا للعقائد والماركسية

(2)

.

وفوجيء الأتباع في البلدان الإسلامية بانهيار الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه، فأصابتهم الفاجعة، وبدأوا يذوبون أو تذوب مفردات الماركسية والتقدمية، فسكتوا تمامًا بعد مرحلة الدفاع أيام البروسترويكا، وتحول معظمهم إلى الجانب الآخر المتناقض تمامًا، إلى الليبرالية الغربية وانتقل الرفاق الثوار إلى غربيين ديمقراطيين ليبراليين برغماتيين، بين عشية وضحاها.

أمَّا القضية المحورية في العالم الإسلامي "قضية القدس وفلسطين" فقد كانت دولة الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف بدولة اليهود المسماة "إسرائيل"، وكان قبل قيام دولة البلاشفة في عام 1335 هـ/ 1917 م التقى لينين بالزعيم اليهودي الصهيوني حاييم وايزمن في مدينة زوريخ السويسرية، وبحضور كارل راديك والكاتب الصهيوني جاك ليفي والبروفسور اليهودي النمساوي مولير فاندسيم العضو في الحركة الاشتراكية والبروفسور اليهودي البولندى دافيد هارن، وذلك في عام 1334 هـ/ 1916 م وعقدت سلسلة من الاجتماعات بين لينين ووايزمن في منزل الصناعي اليهودي دانيال شوين بحث فيه المخطط الثوري الاشتراكي الماركسي لهدم القيصرية في روسيا، وبحث أيضًا المخطط اليهودي للشرق الذي وضعته لجنة من زعماء

(1)

و

(2)

انظر: كتاب "عملية إعادة البناء والتفكير السياسي الجديد لنا وللعالم أجمع"، تاليف غورباتشوف وترجمة وليد مصطفى واكر مدانات وآخرون.

ص: 2157

الاشتراكيين اليهود الأوروبيين في النمسا عام 1325 هـ/ 1908 م، وهو المخطط الذي يهدف إلى فتح أبواب الشرق للشعب اليهودي ليستقر في فلسطين ويؤسس دولة له هناك

(1)

.

وقد اتفقا على مجموعة من الخطوط الاستراتيجية العامة منها إن فتح أبواب الشرق واستقرار اليهود في فلسطين يتوقف بالدرجة الأولى على تدمير الدولة العثمانية

(2)

.

ولما دخل لينين إلى روسيا مع لفيف من رفاقه الروس والبولنديين كان في عدة آلاف من اليهود الذين فروا من الجيش الروسي القيصري في انتظاره، وذلك في سنة 1335 هـ/ 1917 م وكانت المصارف اليهودية والأثرياء اليهود قد قدمو الأموال لترسيخ أقدام اليهود في الثورة اللينينية الناشئة حتى وصل كثير منهم إلى موضع القيادة.

وقد استطاع زعماء الحركة الماركسية اليهود أن يتغلغلوا داخل هذه الدولة الجديدة وأن يضعوا الخطوات العملية للاستفادة من وجودها، وكانوا من واضعي الطوق الحديدي لعزلها عن العالم الخارجي

(3)

، ولم يكد يمر العام الثاني على مولد الدولة الماركسية في روسيا حتى باشرت اللجنة التي شكلها لينين برئاسة تروتسكي بتنفيذ المخطط المتفق عليه مع وايزمن وقادة الحركة الصهيونية اليهودية، وأول ما قامت به دولة البلاشفة لتحقيق طموح اليهودي إقامة دولة يهودية في فلسطين على أساس اشتراكي ماركسي أنها أوفدت اثنين من اليهود هما "جاك شابيليف وراوول كارنبورغ" لإنشاء حزب ماركسي يكون قاعدة لنشر المبادئ الاشتراكية الماركسية في المنطقة، وبالفعل تألف الحزب الماركسي في فلسطين، سنة 1337 هـ/ 1919 م، ومنه تسللت تعاليم كارل ماركس إلى الأقطار العربية المجاورة، وفي غضون سبع سنوات ثم تأليف أربع أحزاب ماركسية في مصر سنة 1339 هـ/ 1921 م، وفي سوريا

(1)

و

(2)

انظر: دور الدول الاشتراكية في تكوين إسرائيل: ص 16 - 17.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 24.

ص: 2158

سنة 1342 هـ/ 1924 م، وفي لبنان سنة 1343 هـ/ 1925 م، وفي العراق سنة 1345 هـ/ 1927 م، ثم أرسلت موسكو في سنة 1338 هـ/ 1925 م إلى فلسطين "جابوتنسكي" اليهودي الشيوعي، الذي كانت مهمته تقوم على تدريب الشباب اليهود لحماية المهاجرين اليهود، واغتصاب الأراضي، وأمد البلاشفة في موسكو اليهود الروس بالمال لشراء الأراضي لتوطين اليهود الذين سيفدون من روسيا على عدة مراحل إلى فلسطين، وبعثت موسكو بعثة من اليهود لدراسة الأراضي وطافت البعثة جميع أرجاء فلسطين ودرست أوضاعها وأنواع أتربتها ووضعت تقريرها بالاشتراك مع خبراء الوكالة اليهودية، وحملته إلى لينين وتروتسكي مع مجموعة من الخرائط، وقامت موسكو بتشجيع هجرة اليهود من روسيا إلى فلسطين، ففي الفترة من 1339 هـ - 1358 هـ/ 1921 م - 1939 م هاجر نحو 165 ألف يهودي بينهم مجموعة من الضباط وصف الضباط الذين حاربوا في صفوف الثورة البلشفية، إضافة إلى 280 ألف من أوروبا الشرقية، وقد نشرت هذه الحقائق كلها في كتاب "إلى أرض الميعاد" للبروفسور "زاندا" الذي نشر في براغ سنة 1356 هـ/ 1937 م وكتاب "من ستالين إلى وايزمن" لمؤلفه "أرماند سنيتر" الذي نشر في باريس عام 1358 هـ/ 1939 م، وفيه يبين أن الأموال التي تدفقت على اليهود لشراء الأراضي وإنشاء المستعمرات والقرى لتوطين اليهود في فلسطين، كانت نسبتها حتى عام 1358 هـ/ 1939 م كما يلي: الاتحاد السوفيتي 40 %، أوروبا الشرقية 28 % وأوروبا الغربية 16 % والولايات المتحدة 19 % وأمريكا الجنوبية 4 %

(1)

.

أمَّا الدعم بالأسلحة فحديثه طويل مترامي الأطراف

(2)

، أمَّا المواقف السوفيتية في هيئة الأمم فكانت في حقيقتها لصالح اليهود، ففي أول معركة سياسية خاضها العرب في هيئة الأمم المتحدة في 28 نيسان 1947 م/ 1366 هـ ركزت الكتلة الشيوعية، بزعامة المندوب السوفيتي "غروميكو" حملتها على نقطة رئيسية قوامها انتزاع اعتراف بشرعية الكيان اليهودي في

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 25 - 29.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 32 - 35 وكتاب الروس قادمون لإبراهيم سعده.

ص: 2159

فلسطين، وفي محاضر هيئة الأمم كلام غرميكو وزميله التشيكي التي يطالبون فيها بصراحة الاعتراف بحق لليهود في فلسطين، وأن الشعب اليهودي خلق ليعيش حرًا كغيره من الشعوب، وعلى هيئة الأمم أن تحقق لهم رغباتهم في الاعتراف بحقوقهم في فلسطين

(1)

.

ولما عرض مشروع قرار التقسيم في أيلول 1947 م/ 1366 هـ أيدت الكتلة السوفيتية المشروع بحماس شديد، ودافعت عنه بقوة حتى أقر في جلسة 29 تشرين الثاني 1947 م/ 1366 هـ

(2)

، وفي ربيع سنة 1948 م/ 1367 هـ هدد الاتحاد السوفيتي باستخدام القوة لصيانة الأمن وحماية الدولة اليهودية

(3)

، واعتبرت الدولة الماركسية أن تدخل بعض الدول العربية لنجدة الشعب الفلسطيني غزوًا خارجيًا، وصرحت بأنها ستلجأ إلى استخدام جميع الوسائل لمعونة الشعب اليهودي وحماية حقوقه في فلسطين

(4)

.

ولا جدال في موقف المعسكر الغربي بزعامة بريطانيا ثم أمريكا في إيجاد دولة اليهود وحمايتها، ولكن الغش والتدليس الذي مارسته الماركسية من خلال دعاياتها ومن خلال الأحزاب الماركسية التابعة لها في البلدان العربية أظهرت الأمور على عكس الحقيقة، ودلست وبررت.

وإذا أخذنا أصل نشأة هذه الأحزاب، وأنها نشأت على يد اليهود، كما سبق بيانه، ثم إذا نظرنا إلى الزعامات اليهودية التي سيطرت على هذه الأحزاب، والأقليات الأخرى من الأرمن والآشوريين واليونان ونصارى

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 42 - 51 وكتاب الروس قادمون لإبراهيم سعده.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 42 - 51.

(3)

و

(4)

المصدر السابق: ص 51 ولمن أراد المزيد من التفصيلات في هذه القضايا جميعًا وغيرها فلينظر كتاب: "حقيقة المواقف الشيوعية من القضية الفلسطينية" لعابد سليمان المشوخي، وفيه بسط العلاقة بين الشيوعية، واليهودية: ص 23 - 29، ودعم الشيوعية لليهود المغتصبين بالتدريب، والهجرة: ص 31 - 34، وتاييد الشيوعي لليهود في المحافل الدولية: ص 37 - 50 ثم تصريحات وأقوال الشيوعيين المناصرة لليهود ودولتهم: ص 51 - 67.

ص: 2160

العرب، كل ذلك يوصل إلى النتيجة الحتمية في أن هذه الأحزاب كانت أداة لتنفيذ المآرب اليهودية في المنطقة.

وقد تمسكت الأحزاب الشيوعية العربية بالمواقف السوفيتية وأعلنت -تبعًا لروسيا- قبول قرار التقسيم، بل دافع الماركسيون العرب عن هذا القرار واعتبروه قرارًا حكيمًا!!، وكان ممن أعلن تمسكه بهذا القرار وبسائر المواقف السوفيتية المؤيدة في حقيقتها لليهود، والمخادعة في ظاهرها للعرب، كل من الحزب الشيوعي الأردني

(1)

، وفرعه المسمى التنظيم الشيوعي الفلسطيني في الضفة الغربية

(2)

، والحزب الشيوعي التونسي الذي كان في حقيقته أحد فروع الحزب الشيوعي الفرنسي

(3)

، والحزب الشيوعي السوداني

(4)

، والحزب الشيوعي السوري اللبناني

(5)

، والحزب الشيوعي العراقي

(6)

، والحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان أكثر أعضائه من اليهود منذ نشأته، وكانت مواقفه المؤيدة لليهود وللدولة العبرية من أصرح المواقف وأجلاها

(7)

، وقد عملت الانقسامات عملها في هذا الحزب، وكان مما خرج من تحت هذا الحزب: حزب "راكاح""القائمة الشيوعية الجديدة" بقيادة "مائير فلينر" وانضم إليه مجموعة كبيرة من العرب الماركسيين وخاصة شعراء الحداثة المعروفين بشعراء الأرض المحتلة وأشهرهم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم

(8)

، والحزب الشيوعي المصري بسائر أقسامه المنشقة عن بعضها مثل "ايسكرا""الشرارة" و"تحرير الشعب" و"حدتو"

(1)

و

(2)

انظر: موسوعة السياسة 2/ 322 - 323.

(3)

انظر: المصدر السابق 2/ 370 - 371.

(4)

انظر: المصدر السابق 2/ 372 - 376، وكتاب التائب من الردة الشيوعية أحمد سليمان: ومشيناها خطى.

(5)

انظر: المصدر السابق 2/ 376 - 383.

(6)

انظر: المصدر السابق 2/ 401 - 406، وكتاب العضو السابق في الحزب مالك سيف "للتاريخ لسان".

(7)

انظر: المصدر السابق 2/ 410 - 414.

(8)

انظر: المصدر السابق 2/ 308.

ص: 2161

و"الراية" و"حزب العمال الثوريين" و"الحزب الشيوعي المصري الموحد" وغيرهم ممن كان في دائرة الفلك السوفيتي، وضمن المخطط اليهودي ليونس "هنري كورييل" وشندي "هيلل شفارتز" أو مارسيل إسرائيل

(1)

، والحزب الشيوعي المغربي المؤسس على يد مجموعة من الشيوعيين الفرنسيين واليهود المغاربة، والذي تحول اسمه إلى حزب التقدم والاشتراكية

(2)

.

وحركة القوميين العرب التي أسسها بعض طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت أبرزهم جورج حبش "النصراني الماركسي الفلسطيني" ووديع حداد وهاني الهندي والكويتي أحمد الخطيب، وقد أعلنت هذه الحركة تبنيها الماركسية اللينينية وأسهمت الحركة في تكوين الجبهة القومية في اليمن وهي التي فرخت النظام الماركسي في عدن وحضرموت، والجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي التي تفرعت إلى الجبهة الشعبية في البحرين وجبهة تحرير ظفار وعمان، وقد كانت هذه الحركة الماركسية تضم في عضويتها مجموعة من الحداثيين والعلمانيين العرب وخاصة من دول الخليج واليمن

(3)

.

وقد كانت هذه الحركات مرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بسياسة "الكومينترن"

(4)

التي كانت توجه الأحزاب والأفراد توجيهًا مركزيًا لمصالح الاتحاد السوفيتي، وقد نشأت الأحزاب الشوعية الشيوعية العربية

(1)

انظر: المصدر السابق 2/ 458 - 464، وكتاب هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية لإبراهيم فتحي، وتاريخ الحركة الشيوعية المصرية لرفعت السعيد، وكتاب هنري كورييل رجل من طراز فريد لجيل بيرو.

(2)

انظر: المصدر السابق 2/ 296.

(3)

انظر: المصدر السابق 2/ 231 - 232.

(4)

الكومينترن: هي المركز الرسمي الرئيسي للحركة الشيوعية في العالم وكان مقره الاتحاد السوفيتي قبل زواله، وكانت تصدر من قيادته التوجيهات السياسية وغيرها لسائر فروع الأحزاب الشيوعية في العالم، ومن خلاله تم ربط هذه الأحزاب بمصالح الدولة السوفيتية. انظر: موسوعة السياسة 2/ 259.

ص: 2162

في ظل هذا المناخ، وتحولت إلى أداة لتنفيذ مآرب السوفييت الأعلى، إضافة إلى تغلغل اليهود والأرمن واليونان وغيرهم من الأقليات ذات النفوذ المباشر والقيادي والفعال، وفي داخل هذه الأحزاب، وفي أجوائها نشأت وترعرت الكوادر الحداثية اليسارية

(1)

، وسارت في الدرب الماركسي أبعد ما يكون السير حتى إنه ليصدق عليهم القول بأنهم: ماركسيون أكثر من السوفييت

(2)

.

أمَّا الشق الثاني من المادية الغربية والذي تهاوى على دبقه الشطر الآخر من الحداثيين، فهو:"الليبرالية الغربية" بشتى أطروحاتها ونتاجاتها الاعتقادية والسياسية والاقتصادية.

(1)

انظر: موسوعة السياسة 2/ 258 - 259.

(2)

انظر مصداق ذلك في الكتاب التالية:

1 -

روجيه غارودي بعد الصمت حول فلسفة الردة عند غارودي وآفاقها فى الوطن العربي لطيب تزيزني.

2 -

من التراث إلى الثورة حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي: تحت سلسلة مثروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة في إثني عشر جزءًا لطيب تزيني.

3 -

على طريق الوضوح المنهجي: للتزيني أيضًا.

4 -

فصول في الفكر السياسي العربي: له أيضًا.

5 -

حوار مع فكر حسين مروة: شارك في الحوار سبعة وعشرون من داخل التيار الفكري الماركسي.

6 -

مفكرون عرب يناقشون كريم مروة في القومية والاشتراكية والديمقراطية والدين والثورة: وشارك فيه تسعة وثلاثون من اليساريين العرب.

7 -

النظرية والممارسة في فكري مهدي عامل: ندوة فكرية شارك فيها سبعة وعشرون من اليساريين والماركسيين العرب.

8 -

الواقع والمثال مساهمة في علاقات الأدب والسياسة: للماركسي فيصل دراج.

9 -

الأدب الجديد والثورة: للماركسي اللبناني محمد دكروب.

10 -

وشخصيات وأدوار: لدكروب أيضًا، وفيه حورات ومقابلات مع رموز فكرية وأدبية ماركسية.

11 -

دراسات في الإسلام: لحسين مروة ومحمد أمين العالم ومحمد دكروب وسمير سعد.

ص: 2163

ماذا نسمع اليوم من أرباب الحداثة والعلمنة سوى اللهج الدائم بالديمقراطية والتأكيد المستمر في تقديس هائم على غرار قول عبد الرحمن منيف: (الديمقراطية أولًا، الديمقراطية دائمًا)

(1)

.

أمَّا سواقط الجراب الغربي الليبرالي من المذاهب الفكرية والأدبية فلابد أن تجد لكل واحد منها دعاة ورعاة من أبناء البلاد الإسلامية، من الحداثيين والعلمانيين.

ومن أمثلة ذلك "الوجودية"

(2)

و"السوريالية"

(3)

و"البنيوية"

(4)

و"البرناسية"

(5)

و"البرغماتية"

(6)

و"الرومانسية"

(7)

و"الشخصانية"

(8)

و"الواقعية"

(9)

و"الوضعية"

(10)

وغيرها من الفلسفات والمذاهب الغربية التي انخرط في سلكها المستغربون، أهل التحضر والعصرية والتقدم والنضهة والتنوير!! كما يطلقون على أنفسهم، وعلى عقولهم المستطرقة ونفوسهم المستعبدة.

(1)

الديمقراطية أولًا، الديمقراطية دائمًا كتاب حديث لعبد الرحمن منيف بعد رحلة تنقلاته من الماركسية إلى البعثية اليسارية الاشتراكية ثم أخيرًا إلى ليبرالية ديمقراطية غربية.

(2)

و

(3)

و

(4)

و

(6)

و

(7)

و

(9)

و

(10)

سبق إيضاحها. انظر: فهرس المصطلحات.

(5)

البرناسية نسبة إلى برناس جبل في اليونان تزعم الخرافات اليونانية أنه مقر أبولون وربات الفنون المعنية بالغناء والشعر والرسم والرقص. . . إلخ، والبرناسيون جماعة من شعراء فرنسا اتخذوا موقفًا مناهضًا للرومانسية، ونادوا باللافردية والفن لأجل الفن وغيرها. انظر: المعجم الأدبي لجبور عبد النور: ص 50.

(8)

الشخصانية مذهب فلسفي يعطي الشخص البشري قيمة لا تضاهى، وقد جاء هذا المذهب كردة فعل لسوء معاملة الأشخاص في المجتمع الغربي الصناعي الذي اعتبرهم في مستوى الآلة، وقد قرر فيلسوف الشخصانية ايمانويل مونييه أن للشخص قيمة مطلقة لا يجوز انتهاكها، وعلى ذلك فقد أضحت الشخصانية نظرية أخلاقية واجتماعية تقوم على القيمة المطلقة للشخص، فإليها يرد كل شيء. انظر: المعجم الفلسفي: ص 101، ومعجم المصطلحات والشواهد: ص 249، وموسوعة السياسة 3/ 444.

ص: 2164

لهجوا بالديمقراطية لهج الوثني بصنمه، واعتبروها المنقذ الوحيد لكل آلام البشرية وأدوائها.

هذه الكلمة التي اعتبووها بلسمًا لكل داء، وشفاء لكل مرض، وطريقًا لأي تقدم.

"الديمقراطية" كلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين هما "الشعب" و"السلطة" ومعناها طريقة الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب بحيث يكون الشعب هو الرقيب والمشرع بواسطة نوابه، وتعتبر الرأسمالية بتفرعاتها العديدة الوجه الاقتصادي للديمقراطية الليبرالية، كما أن الديمقراطية الليبرالية هي الوجه السياسي للرأسمالية.

وقد أخذ الغرب هذا النمط من الإغريق، بعد أن عاش ما يزيد عن ألف عام في ظل الامبراطورية الرومانية والقانون الروماني المتسم بالإقطاعية والظلم الذي تؤيده الكنيسة

(1)

ويحميه رجال الدين، حيث لم يكن للناس مع الإقطاعيين الذين يسمون النبلاء والأشراف ورجال الدين أي وجود إنساني إلَّا كونهم مجموعة من القطع الآدمية اللاصقة بالتراب حيث لا حقوق لهم ولا كرامة، ولا منزلة، وعليهم كل الواجبات والعقوبات.

وفي أجواء هذه المظالم انفجرت الثورة الفرنسية، التي قامت على فلسفة وتراث الإغريق والرومان، حيث ارتدت إلى الوراء تبحث عن شيء يحل مشكلاتها وينظم حياتها بديلًا عن الإقطاع والدين، فوقع اختيارهم على "الديموقراطية" حيث تكون الطبقة المسحوقة "طبقة الشعب" هي الطبقة الثائرة التي تسعى إلى المشاركة في الحكم والسلطان، ويتحول المال من الإقطاعيين ليصبح رأسمالٍ في أيدي الطبقة الجديدة، "الطبقة الرأسمالية" التي بدأت تزدهر بعد تحول الإنتاج من القطاع الزراعي إلى القطاع الصناعي بعد اختراع الآلة، وكانت هذه الطبقة الجديدة هي الأداة المناسبة في الثورة الجديدة التي بدأت بالثورة الفرنسية تحت الشعارات التي وضعتها الماسونية

(1)

سبق تفصيل هذا في الفصل الأول من الباب الأول.

ص: 2165

اليهودية لهذه الثورة وهي "الحرية والإخاء والمساواة" ليتحقق لليهود ما يطمحون إليه من مآرب.

وبعد نضال طويل بين الديمقراطية والأوضاع السابقة لها استمر قرابة قرن من الزمن استقرت الديمقراطية على شكلها الراهن في أوروبا وأمريكا.

وبناء على التفاعلات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوروبا ظهرت الديمقراطية، فهي إذن نبتة ملائمة للطينة الأوروبية، متفاعلة مع أجواء أوروبا، مرتوية من مائها، ضاربة الجذور إلى اليونان.

وحين استقرت الديمقراطية على شكلها الراهن تمحورت حول قضيتين، الأولى: إشراف الشعب على أعمال الحكومة، بحيث تكون له الرقابة الكاملة على تصرفاتها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والتربوية. الثانية: إعطاء الشعب كل حقوقه، ومنحه الحرية في الأعمال والتصرفات ومنح كل فرد هذا الحق ما دام "مواطنًا".

وكلمة مواطن ومعناها الراهن من المصطلحات التي استحدثتها الديمقراطية، تحت الشعار العلماني "الدين للَّه والوطن للجميع" فأصبح المواطنون جميعًا متساويين -نظريًا- في جميع الحقوق والواجبات.

وكان من هذه الحقوق حق التنقل بحرية، وحق العمل المقرر نظريًا، والمعاق عمليًا بكثرة العاطلين والمتشردين ومحترفي اللصوصية والإجرام والمخدرات، وحق العمل هذا -رغم قوانينه العادلة نظريًا- بعيد عن الأسس الإنسانية والأخلاقية؛ لأنه إنَّما قام للقضاء على الأوضاع الإقطاعية ولتحقيق أكبر قدر من الربح بأي وسيلة من الوسائل، وأقربها وأيسرها، تطويل ساعات العمل وخفض الأجور، وطرد العامل من عمله إذا لم يقم بالعمل المطلوب منه.

ولذلك قامت النقابات العمالية، ثم استعملت الإضراب وسيلة للحد من جشع الرأسماليين، الذين يلجأون بدورهم إلى جيوش العاطلين لتشغيلهم بأجور زهيدة مستغلين حاجتهم وفقرهم، ثم لجأوا إلى تشغيل المرأة بنصف أجر الرجل، وعلى إثر ذلك حدث للمرأة ما حدث من اختلاط وضياع

ص: 2166

وفساد، ثم تفجرت قضية مساواة المرأة في الأجور، واستمرت لتصبح دعوة لمساواتها بالرجل في كل شيء.

ونشأ من هذه الأوضاع المتأزمة بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال نفسية عداء وصراع متواصلة، وعداوات متوالية انعدمت معها معاني الإنسانية والتراحم.

ومن الأمور التي جاءت بها الديمقراطية بعد كفاح مرير "حق التعلم" حيث كان هذا الحق مقصورًا على السادة والنبلاء والأشراف وسائر طبقات الإقطاعيين وأبناء علية القوم، أمَّا سائر الشعب فيعيش في جهالة تامة وأمية كاملة، وبعد صراع طويل استطاعت الديمقراطية وبعد حقبة من الزمن أن تفرض حق التعلم للرجال أولًا ثم بعد فترة للنساء، وكان بعد ذلك ما كان من تدرشى الفلسفات المادية والإلحادية واختلاط البنات بالأولاد وغير ذلك.

وتعتبر الحقوق السياسية، أبرز الحقوق الديمقراطية وأظهرها حق الانتخاب وحق الترشيح وحق الاحتجاج وحرية الكلام وحرية الاجتماع، وما يتبع ذلك من حقوق الإشراف على الحكومة وتوجيهها ونقدها والاعتراض على أعمالها.

كل ذلك حق مثبت -نظريًا- لأي مواطن.

كما أن هناك مجموعة من الضمانات التي نادت بها الديمقراطية أشهرها:

"ضمانة الاتهام" ومقتضاها ألّا يؤاخذ أحد إلَّا بدليل، ولا يعاقب إلّا ببرهان، وأن الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت تهمته، فلا يحبس أو يوقف إلَّا بمقتضى حقيقية تستوجب ذلك.

ومنها "ضمانة التحقيق" ومقتضاها ألّا يكره المتهم على الاعتراف، ولا يستخدم معه أي أسلوب من أساليب الضغط لحمله على الاعتراف، سواء بالترهيب أو الترغيب أو الاستدراج.

ومنها "ضمانة الحكم" ومقتضاها أن يحكم على المتهم بالعقوبة

ص: 2167

المقررة قانونًا بلا زيادة، ومن حق المتهم النقض والاستئناف.

ومنها "ضمانة التنفيذ" بحيث تنفذ العقوبة المقررة من المحكمة دون زيادة.

ومنها "ضمانة المحاكمة" كإقامة المتهم من يدافع عنه "المحامي" ويدفع أجرته إن كان يملك ذلك، أو تدفع المحكمة ذلك، ومن حق المتهم أن يمتنع عن الإجابة على أي سؤال يوجهه إليه القاضي ومن حق المحامي منع -بحكم معرفته بالقانون- موكله من الإجابة على سؤال تضره إجابته، ومن حقه استدعاء الشهود الذين يرى أن شهاداتهم تنفعه في قضيته، وحق طلب التاجيل والاستئناف.

وتعتبر هذه الحقوق والضمانات اليوم من مقاييس التحضر الإنساني وهي جديرة بان تكون كذلك

(1)

، لو سارت على وجهها الصحيح وكانت على أسس من الإيمان.

بيد أن الديمقراطية وأشياعها من المستغربين تعيش مآزق قاتلة توشك أن تأتي على بنيانها من القواعد، والذي يهم في هذا المجال الإشارة إلى قضيتين أساسيتين:

‌القضية الأولى:

أن الديمقراطية الغربية بسائر فروعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية نشأت على جذور من الوثنية الإغريقية، والمادية الإلحادية، وهذه النشأة جعلت هذه الفكرة مبتوتة الصلة بالروح والإنسانية والقيم العليا والأخلاق الفاضلة؛ ذلك لأنها عديمة الصلة بالإيمان بل معادية أشد العداء للإيمان باللَّه والآخرة.

ومن هذا المنطلق تكون الديمقراطية وجهًا آخر للمادية الماركسية ولكن في صورة ملطفة، فالماركسية تضرب الدين وأهله بقفاز من حديد، والديمقراطية تفعل ذلك ولكن بقفاز من حرير.

(1)

انظر: مذاهب فكرية معاصرة: ص 178 - 198.

ص: 2168

وما التشاحن الظاهر بين الديمقراطية والماركسية إلَّا على الكيفيات والسبل، وإلّا فهم جميعًا في مستنقع الوثنية والمادية.

أمَّا شهادة بعضهم ضد بعض فهي كما قال اللَّه تعالى عن أسلافهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}

(1)

، فقد صدق كل فريق فيما قاله عن الآخر وإن كان كاذبًا فيما يدعيه لنفسه من فضيلة وخير وامتياز.

ويُمكن للمطلع على النقد الماركسي الموجه إلى الديمقراطية الغربية والرأسمالية والليبرالية أن يجد أشياء عديدة مما صدقت فيه الماركسية في نقدها للديمقراطية الغربية، كما تجد العكس.

وإذا أردنا أن نقوم الديمقراطية من أساسها ومنطلقها فلننظر في العقيدة التي أنبتت عليها، ولننظر من المعبود الذي يوجه ويشرع ويحكم في هذه الملة الحديثة؟.

وقضية من المعبود ليست قضية هامشية ولا غيبية مجردة، بل هي قضية أصيلة من صميم احتياج الإنسان، وعليها يتوقف مصير الإنسان في الدنيا بدرجة أكبر وأخطر مما يظنه الماديون وأتباعهم.

ويتفرع من قضية "من المعبود؟ " قضية أخرى تضاهيها في الأهمية والمنزلة والمكانة وهي "من المشرع؟ " التي قامت من أجلها الثورات التاريخية والصراع الإنساني الطويل؛ بسبب المظالم التي تقع من المشرعين الذين يشرعون لأجل مصالحهم، ومصالح طبقتهم وأعوانهم، فيثور المضطهدون لرفع هذا الظلم.

والظلم هو طابع الجاهلية التي يشرع فيها البشر للبشر، ذلك أن المجتمع الجاهلي لابد أن ينقسم بطبيعته إلى فئتين: سادة في يدهم القوة والحكم والنفوذ والسلطان والمال والتشريع والتنفيذ، وعبيد يقع عليهم النفوذ والسلطان وينفذ فيهم التشريع.

(1)

الآية 113 من سورة البقرة.

ص: 2169

المشرع الحقيقي في الديمقراطية الليبرالية كما في أي جاهلية لا تحكم بشرع اللَّه: هم البشر، ثم هم طبقة معينة من هؤلاء البشر، لهم مصالح معينة ومطامع معينة وأهواء عديدة، لا تتحقق بصورتها التي يريدونها إلَّا على حساب الآخرين.

الحاكم الحقيقي في الديمقراطية الليبرالية هو "الرأسمالية" التي بيدها زمام التحكم في كل شيء فهي تملك وتحكم وتشرع وتنفذ، وإن كان الحكم والتشريع في المؤلفات النظرية والدعاية الإعلامية هو "الشعب". "الرأسمالية" التي يتحكم في زمامها اليهود عباد الذهب والمال، هي التي تدير مسرحية "الديمقراطية" هي "المشرع" الحقيقي، هي التي تضع التشريعات للمحافظة على مصالحها، على حساب مصالح الناس الذين خدعوا بالشعارات، وانساقوا بعد عملية التلاعب بأفهامهم وعقولهم في هذا الميدان مصفقين مبتهجين كما قال الشاعر:

(هي الشاة تتبع جزارها

وتنسى ببرسيمه ثارها

تباع وتشرى من الذابحين

وتجهل في البيع أسعارها

يجرجرها الحبل في عنقها

الذليل فتحسبه غارها

ترى مدية الذبح مصقولة

تضيء فتكبر أنوارها)

(1)

حقيقة أن الرأسماليين في الغرب هم السادة والمشرعون والمنفذون لا يكاد يجهلها أحد، والشعب "العبيد" يعلم ذلك، ولكن هذه الحقيقة صيغت لهيم بصورة مخادعة، حتى أصبحت أمرًا مسلمًا به لا نكير فيه، ولا مخالف له، إلّا أقل القليل من العقلاء الأحرار الذين لا أثر لهم ولا صوت.

لقد استخف أصحاب الأموال "الرأسماليون" من اليهود وغيرهم بالناس فأطاعوهم فاستعبدوهم كما أخبر اللَّه تعالى عن فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}

(2)

.

(1)

ديوان الزبيري: ص 102.

(2)

الآية 54 من سورة الزخرف.

ص: 2170

صحيح أن العبيد في ظل الديمقراطية الليبرالية هم في أحسن حال وجد فيه العبيد في أية جاهلية من جاهليات التاريخ بسبب طبيعة الرأسمالية الحرة، التي عجز أصحابها عن تحقيق الربح والمآرب الأخرى إلَّا عن طريق إعطاء قسط محدود من الحرية.

ولكن هذا لا يغير من حقيقة أنهم عبيد ينفذون بطوعهم أوامر الأسياد، ويمثلون الدور المطلوب منهم على خشبة المسرحية الديمقراطية.

وكل حكم بغير شرع اللَّه -مهما تسمى من أسماء واتخذ من شارات- هو في الحقيقة يقسم الناس إلى أسياد وأرقاء، إلى أرباب يشرعون ويحكمون وينفذون ما حكموا به وعبيد يطبق عليهم الحكم والتشريع وينفذون ما طلب منهم.

ولا خلاص من هذه الهاوية إلَّا بالعبودية الخالصة الكاملة للَّه تعالى، العبودية التي منها تنبثق حرية البشر، وبها تلغى الطواغيت والأرباب ويتحرر الناس من العبوديات المختلفة والمتشاكسة، ليكونوا عبيدًا للَّه وحده دون سواه.

أمَّا كيف أصبحت الرأسمالية هي المعبود والمشرع والحاكم والمنفذ والمتحكم، فتلك قصة طويلة، أهم مقاطعها كما يجري في الواقع اليوم:

تقول الديموقراطية إن الفرد حر حرية كاملة، يتخذ قراره دون ضغط وإكراه، ويعبر عن رأيه بحرية تامة، ويدعو لرأيه بكل ما يستطيع من وسائل الدعاية، ويختار المرشح الذي يمثله في البرلمان الذي يشرف على أعمال الحكومة ويهيمن على تصرفاتها، هكذا تقول الدعاية الديمقراطية

(1)

، وحين نتأمل الحقيقة، ونرى من الذي يصوغ لهذا الفرد أفكاره؟ من الذي يشكل "الرأي العام" الذي يوجه هذا الفرد لاتخاذ قراره؟ واختيار مرشحة؟.

إن الذين يقوم بذلك "وسائل الأعلام" من صحافة وإذاعة وتلفاز وسينما وأفلام ومراكز بحث ومؤلفات، فمن الذي يملك وسائل الإعلام؟ إنها الرأسمالية.

(1)

انظر: النشرة التي كتبتها وكالة الإعلام الأمريكية بعنوان "ما هي الديمقراطية": ص 2 - 6.

ص: 2171

وبيد من رؤوس الأموال، البنوك والمصانع والتجارة؟ إن جلها بيد اليهود، كما هو معروف مشهور، إذن الذي يملك رأس المال هو الذي يملك وسائل الإعلام، وهو الذي يؤثر في الرأي العام.

وامتلاك الرأسماليين لوسائل الأعلام عديدة، منها الملكية المباشرة للصحف ودور النشر والإذاعات ومحطات البث التلفازي المحلي والعالمي، ووكالات الأنباء، ودور السينما.

ومنها الامتلاك غير المباشر من خلال تقديم الدعم للصحف ومحطات التلفاز، في صورة مساعدات وهبات وإعانات، أو في صورة شراء صفحات للإعلان، وبذلك تغطي الصحيفة والمحطة عجزها المالي المحتم، وتربح أرباحًا طائلة.

ويكفي رفع الدعم أو امتناع الشركات والمؤسسات المالية والصناعية عن الإعانات أو الإعلانات يكفي ذلك في الاجهاز على أية صحيفة أو محطة، تخرج عن إدارة أصحاب رؤوس الأموال، ولا بأس عندهم أن تحدث بعض المناوشات السطحية والانتقادات القشرية، التي لا تصل إلى جوهر الحقيقة وعمق القضية، بل هذا أمر في صالح المسرحية الديمقراطية.

فإذا كانت وسائل الإعلام التي تشكل الرأي العام واقعة تحت هيمنة الرأسمالية إلى هذا الحد فإن من البديهي أن تصوغ الرأسمالية الأفكار والتوجهات وفق إرادتها ومصلحتها، أو على الأقل بما لا يتعارض مع المصالحة الحقيقية للرأسماليين.

فإذا أراد أصحاب مصانع التبغ ترويج نتاج مصانعهم فإنه لا يُمكن أن يقف أحد أمام ذلك، لا الأطباء ولا المرضى ولا منظمة الصحة العالمية، ولا الشعب الذي يجلب له الدخان كل الأمراض والعلل القاتلة، ولا الدول التى تخسر من جراء معالجة المرضى بسبب التدخين ملايين الدولارات.

فإعلانات الدخان أشهر وأقوى الإعلانات، ومن باب المخادعة والضحك على ذقون البشر، ولتمرير المسرحية "الليبرالية" يكتبون تحت الإعلان المشوق سطرًا صغيرًا "التدخين سبب رئيسي لأمراض السرطان" أو "التدخين يضر بصحتك ننصحك بالامتناع عنه" ونحو ذلك.

ص: 2172

لماذا أراد الرأسماليون من تجار السلاح، وغالبهم من اليهود، كما هو الواقع، وكما أخبر اللَّه عنهم:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}

(1)

تحريك المصانع الحربية فانهم يحركون وسائل الإعلام لتنشر أخبارًا قصيرة مثيرة تثير عند الرأي العام -المعروف بأنه غافل- شيئًا من التطلع والانتباه، ثم تزيد وسائل الإعلام في طول الخبر، وتأتي بتفاصيل تزيد من لهيب التطلع من خلال عناوين الإثارة، ثم تصبح القضية الهاجس المستمر بالمقالات والمقابلات والتحليلات والندوات، ثم يشد حبل الإثارة، ثم تأخذ الصحافة في استطلاع "الرأي العام" الذي صنعته ووجهته وسائل الإعلام، فإذا الرأي العام متحمس!! إذن لابد من مطالبة الدولة بالتحرك التي جرى التأثير عليها أيضًا، وأصبحت تحت ضغط التأثر والتحرك الجماهيري، ويتحرك النواب لتحفيز الحكومة وتحريكها وتبدأ في الإعداد ثم تنطلق شرارة الحرب، ويباع السلاح وتتحرك مصانع أصحاب رؤوس الأموال "وغالبهم من اليهود" وتتحرك المآرب الخفية من وراء الحرب، وتتحقق الأهداف المطلوبة من وراء "المشروع"

(2)

.

وهكذا نرى كيف يُتلاعب بالعقول في تلك المجتمعات، ويُوجه "الرأي العام"، وتصنع قناعات الناس بصنع "العقل الجمعي".

إن ملايين البشر هناك يعيشون بلا رأي محدد ولا انتماء معين، وإذا كانت هذه هي طريقة تشكيل الرأي العام الذي يجري في الدول الليبرالية، فكيف تكون الديمقراطية هي حكم الشعب؟!.

(فالحياة في أمريكا مثلًا إنَّما تقودها الصفوة التي فيها، وليسوا الذين نراهم يصفقون في المسابقات التلفزيونية، ولا الذين يتسكعون وتدمرهم المخدرات، بل هم نخبة)

(3)

من أساتذة الجامعات، وأعضاء مراكز البحوث،

(1)

الآية 64 من سورة المائدة.

(2)

انظر: مذاهب فكرية معاصرة: ص 205 - 207 ومنه اقتبست الكلام السابق عن الديمقراطية والرأسمالية.

(3)

كلهم أو جلهم من الرأسماليين واليهود خاصة، أو ممن يدور في فلكهم ويسير وفق مخططهم شاء أو أبى، علم أو لم يعلم.

ص: 2173

ومديري الشركات الكبيرة، ومديري البنوك، ووكلاء المخابرات الداخلية والخارجية والأعضاء الحاليين والسابقين في الكونجرس، وكبار القضاة والمحامين، وعناصر المافيا، ورؤساء النقابات، ورجال البيت الأبيض وعشرة في السيتي بنك وتشارتر بنك، وتسعة في مقر أرامكو، وثمانية في دهاليز بنك النقد الدولي، وسبعة من رؤساء تحرير الصحف، وستة من رؤساء الجمعيات اليهودية والماسونية، وبقية المائتي مليون يعيشون على هامش الحياة، همهم البطون والجنس، وتجدهم بين رفوف السوبرماركت أو أمام التلفزيون، أو في زاوية من مطاعم ماكدونالدز.

إن خمسين ألفًا فقط هم الذين يوجهون مسيرة أمريكا الحضارية سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا ونفسيًا والبقية تتبع، وهذا هو الشأن في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد السوفيتي والصين واليابان والهند)

(1)

.

إن الإنسان العادي الذي يسمونه "رجل الشارع" الذي منه يتكون الشعب، مشغول بأحواله المعيشية الخاصة عن النظر والتدبر في الأمور العامة، وتكوين رأي مستقل فيها، وذلك لسببين: أحدهما عام لا يختص ببيئة معينة ولا سن معين وهو أن الأغلبية الساحقة من الناس لا تحب أن تشغلى نفسها بالأمور العامة، ولا تستطيع الصبر على متابعة أحوالها المتنوعة والمتغيرة، ولا على التعمق فيها، وليس لديها الوسائل المعينة لها على ذلك من معلومات ودربة وطول تفقه وتدبر، وإحاطة بالأسباب والنتائج فتترك هذه الأمور لفئة معينة من الناس وتكل إليها هذه المهام الشاقة.

والسبب الثاني: خاص بطبيعة الجاهلية عمومًا وطبيعة الليبرالية الديمقراطية على وجه الخصوص وهي التي يشرف عليها ويوجهها اليهود.

تتمثل هذه الخاصية في التلهية الدائمة لرجل الشارع، التلهية التي ينفق عليها أصحاب القرار من يهود ورأسماليين ملايين الدولارات، لإشغال الناس "الشعب" بأمور معاشهم ثم انشغالهم بأمور اللهو والاستمتاع، ليتفرغ أصحاب النفوذ والقرار لأمورهم ومشروعاتهم ومخططاتهم، دون تدخل أو

(1)

صناعة الحياة 87 - 88.

ص: 2174

حتى تنغيض من الجماهير المخدوعة، والملبس عليها باللعبة الكبيرة لعبة الديمقراطية، التي جعلت من هذه الوسائل غاية تتهافت عليها قطعان الشعوب المخدوعة بشعارات "الحرية".

السينما تقذف بالأفلام والمسارح تغص بالزوار، وحلبة الرقص، وأفلام الجنس، والنزهة بين الأصدقاء والصديقات، والحفلات الجنسية، والمسابقات الرياضية، ومسابقات ملكات الجمال، والأغاني الصاخبة ونوادي العراة، وجماعات الشاذيين والشاذات وغيرها وغيرها من الملهيات والمفسدات كلها تقوم بالدور التخديري للقطعان البشرية التي تزدحم على هذه الموارد وتشرب منها شرب الهيم، في جذل وسرور، وهنا تربح الرأسمالية -أو قل اليهودية- أرباحًا مركبة: تربح المال الذي ينفقه الهائمون في تيه اللهو والفساد من أبناء الدول الديمقراطية!!، وتربح إفساد "الأميين {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}

(1)

وتربح تلهيتهم عما يدور حولهم، ليخطط المخططون وهم في مأمن كامل عن يقظة "الشعب" المحكوم من قبل هذه الأقلية المتحكمة.

هذا هو حال الديمقراطية على الحقيقة، فأين هو "الرأي العام" الحقيقي الذي يوجه السياسة في الدول الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية؟ صحيح أن هناك نوابًا وهناك برلمان يقول فيه النائب كل ما يريد أن يقول: ولكن من هم النواب في الواقع؟ وكيف يصلون إلى البرلمان؟.

وهل يتاح لأي إنسان أن يصل إلى البرلمان ويوجه الأمور من هناك، كما تقول النظرية الديمقراطية؟.

لابد أن يدخل النائب المعركة الانتخابية، وهو في حاجته إلى تكاليف عالية لا يقدر عليها إلَّا الأغنياء، فلابد أن يكون غنيًا أو يبحث عمن يتحمل عنه الأعباء الباهضة للمعركة الانتخابية، فلابد من حزب، والحزب لابد له من ممولين وهنا تعود الحبال مرة أخرى وبصورة أكثف إلى أيدي

(1)

الآية 75 من سورة آل عمران.

ص: 2175

الرأسماليين "ولا ينبغي أن ننسى اليهود" ذوي المكر والدهاء والعنصرية وعبادة المال.

فإذا دخل الإنسان الحزب فإنه يصبح إنسانًا آخر؛ لأنه لكي يصبح "محترفًا" في عالم السياسة فعليه أن يكون مع حزبه، مع برامجه وخططه وأهدافه، التي سبق أن تعهد بها للممولين وجماعات الضغط، للرأسماليين، ولليهود على وجه الخصوص، فإن كان الحزب في سدة الحكم فهو ملتزم بتأييد الحكومة في كل تصرفاتها وبالدفاع عنها، سواء كان مقتنعًا في نفسه بالتأييد أو الدفاع أو كير مقتنع، وإن كان حزبه خارج الحكم فهو ملتزم بمعارضة الحكومة سواء كان مقتنعًا بالمعارضة أو غير مقتنع بها، وإن كان مستقلًا عن الأحزاب، فلابد أن يسعى في تحقيق رغبة مموليه، واستجلاب رضاهم، ولذلك تسمع الدعايات الانتخابية الكبيرة، وتسمع شعارات العدل والإنسانية والمبادئ، فإذا وصلوا إلى الحكم تصرفوا وفق رغبة الرأسماليين وجماعات الضغط، ولطالما سمع الناس هناك نقد الأحزاب المعارضة للحزب الحاكم، فإذا وصلت إلى الحكم سلكت ذات السلوك الذي كان تنتقده هذه الأحزاب، نعم هناك من الأحرار من يصل إلى البرلمان ويقول قولة الحق وينقد بمحراحة ويطالب بحقوق أصحاب الحقوق، ولكن كم عدد هؤلاء؟ وما هو ثقلهم في المجالس النيابية؟.

إن القرارات تؤخذ بالتصويت، وهنا تضيع أصوات القلة من الأحرار وأصحاب المبادئ والمواقف في الخضم الهائل من أصحاب المنافع والأهواء، أضف إلى ذلك أنه تتشكل في داخل المجالس النيابية مجموعات ضغط متكتلة، فأين يكون مثل هذه الأقلية النادرة من الأحرار؟ إن دخلوا في الكتل ذابوا، وإن انعزلوا عنها ضعفوا؟.

وهكذا تمضي الديمقراطية في لعبتها الكبيرة ومسرحيتها الضخمة، فأين إذن حكم "الشعب"؟ وأين هي"حرية الرأي"؟.

وقد يجد بعض الذين يستشعرون الظلم والاضطهاد تحت أنظمة الاستبداد أن الديمقراطية -حتى وهي بهذه الحالة من التلاعب الخداع- خير

ص: 2176

من الاستبداد والظلم الصريح، ولكنهم يغفلون أو يتغافلون عن الأصل الاعتقادي الذي تقوم عليه الديمقراطية، ويغفلون عن أن الوصول إلى تطبيقها كاملة كما هي في الغرب اليوم يحتاج إلى نضال طويل وجهاد مستمر، كما فعلت أوروبا، وخير من هذا وذاك أن تلتزم الأمة بعبادة ربها بتطبيق شرعه، وأن تبذل جهدها ونضالها في سبيل تحقيق المنهج السليم من الأهواء والأغراض والأدواء، بدلًا من بذل الجهد في سبيل تحقيق "الديمقراطية" بكل عاهاتها وأمراضها التي لا تفتأ تزداد مع تقدم الزمن.

نعم توجد حرية في النظم الديمقراطية، ولكنها في قضية الحكم والتشريع حرية ملجومة بلجام في أيدي السادة "الرأسمالية" كما سبق بيانه، أمَّا الحرية الحقيقية التي تتيحها للشعوب فهي "الحرية الشخصية" والتي تعني حرية الإلحاد وحرية الفساد الخلقي التي يلتقي في تأييدها والدفاع عنها الجميع: الحكام والمحكومون، الرأسماليون والفقراء، والأحزاب التي تحكم وأحزاب المعارضة!!.

أي أن الحرية هناك حرية موجهة، فحين تمس مصالح الرأسمالية وجماعات الضغط وخاصة "اليهود" فلا حرية على الإطلاق، ويكفي -مثلًا- أن يطلق على شخص من الهائمين بالحرية وصف المعاداة للسامية ليكون ذلك سببًا في القضاء المبرم عليه وعلى مستقبله.

أمَّا حين تكون الحرية حرية الفساد والإفساد والكفر والإلحاد، فتلك حرية مطلقة لا قيود عليها ولا حدود لها على الإطلاق، ولذلك أصبح من البدهيات أن تجد وتسمع كل أنواع الانحرافات الخلقية، والسلوكيات الجنسية متاحة بكل أنواعها إلَّا الاغتصاب؛ لأنها تقع بالقوة لا بالرضي، وحتى لو كان فعل الزوج مع زوجته من غير رضاها فهو عندهم اغتصاب!!، أمَّا بقية أنواع السلوكيات الجنسية فإنها من الحرية!!، الشذوذ، أندية العراة، الاختلاط الداعر، بل يُمكن القول بأن الغابات والحدائق العامة والمنتزهات مسارح لكل ألوان السلوك الجنسي فضلًا عن الفنادق والمنازل والنوادي، وقد سبق تفصيل بعض أحوالهم الخلقية والاجتماعية في الفصل

ص: 2177

المختص بالأخلاق فأغنى ذلك عن إعادته هنا، إذ المراد توضيح أن الحرية الديمقراطية المفتوحة هي ما يتعلق بالأمور الشخصية، وخاصة أمور الفساد الخلقي والانحراف الاعتقادي.

وما قيمة الإنسان بغير عقيدة صحيحة؟ وما قيمته بلا أخلاق؟.

والديمقراطية أبعد ما تكون عن العقيدة الصحيحة؛ لأنها ظلت تحت شعارات الحرية تشجع الإنسان الغربي على التحلل من دينه وعقيدته لكونها من الأمور الشخصية التي يتصرف فيها الإنسان على ما يريد، فمن شاء أن يبقى على عقيدة ودين فله ذلك، وليتحمل ما يأتيه من سخرية من المجتمع ومن الصحف ومن أهل الفكر وأهل الفن ومن القصاص والمسرحيين والإعلاميين ورسامي "الكريكاتير" وليستمتع بأجواء التخذيل والتهكم التي تتفنن في صرفه عن الدين والعقيدة، ومن شاء أن يلحد فليلحد ولن يعارضه أحد؛ لأن ذلك من حريته الشخصية، وسوف يجد التشجيع والتأييد لأنها "تحرر" و"اجتراء" و"تطور" و"تنور" وكذلك الأخلاق فمن شاء أن يكون صاحب أخلاق فليفعل وليصبر على كل أنواع النقد اللاذع والتهكم الدائم من كل طبقات المجتمع، الذي ينظر إليه باعتباره حالة مرضية تحتاج إلى علاج.

ومن شاء أن يتحلل من الأخلاق والقيم والتقاليد فيلفعل وسيجد الاحتفال والتأييد والتشجيع والتجيل من الكتاب المتحررين!! ومن أصحاب الفن والأعلام، وأصحاب النوادي والمواخير.

وهنا يُمكن أن نرى الأصابع اليهودية التي من شأنها الإفساد في الأرض {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}

(1)

تعبث بكل ما يُمكن أن يحسب لصالح الإنسان وإنسانيته، وكل ما يُمكن أن يكون ملجأ للإنسان من الشتات والضياع والتمزق؛ لكي يصبح الإنسان -بعد أن يتردى في الإلحاد والبهيمية

(1)

الآية 64 من سورة المائدة.

ص: 2178

- عجينة لينة يُمكن توجيهه حيث تريد هذه القوى الفاعلة والمؤثرة، وحيث يشتهي أصحاب "رأس المال".

وهنا يُمكن لنا أن نعلم من المستفيد من لعبة "الديمقراطية" ونعلم الظروف التي ألبست فيها الشعوب هذا الثوب الشفاف فإذا هي كاسية عارية، كاسية بالدعاية والتنظير والشعارات البراقة، عارية من الحقيقة والمضمون الصحيح للعدالة والحرية.

إن تلك الحقوق والضمانات التي تنص عليها الديمقراطية تتبخر أمام استمداد وسيطرة الطبقة المتنفذة، ويضيع الخير الضئيل الذي كسبته الشعوب بالحقوق والضمانات في وسط هذا الشر الهائل الذي يحققه الأشرار والمفسدون في الأرض من وراء هذا النظام المخلخل المليء بالعيوب والثقوب والمثالب

(1)

.

‌القضية الثانية:

أن الديمقراطية الليبرالية تحولت إلى وثن مؤله، وأصبح أبناء ما يسمى العالم الثالث يتنافسون في تأليه هذا الوثن فالحكام والدول تحاول أن تظهر

(1)

اقتبست جلّ الكلام عن الديمقراطية وعيوبها من مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب: ص 178 - 257، وخاصة الصفحات: 201، 202، 203، 204، 205، 206، 207، 211، 212، 213، 214، 215، 216، 219، 220، 224، 229.

ثم من الكتب التالية: المتلاعبون بالعقول لهربرت شميللر وخاصة الصفحات: ص 13 - 40، 43 - 79، 81 - 100، 103 - 130، 136 - 160، والكتاب كله مليء بالشواهد والنقد الحقيقي للعبة الديمقراطية وكتاب أعمدة الاستعمار الأمريكي ومصرع الديمقراطية في العالم الجديد للكاتبين الأمريكيين فكتور بيرلو والبرت إن كان، وكتاب من يجرؤ على الكلام عن اللوبي الصهيوني وسياسات أمريكا الداخلية والخارجية لبول فندلي، وكتاب حكومة العالم الخفية لشريب سبيريد وفيش، وكتاب أحجار على رقعة الشطرنج لوليام غاي كار، وكتاب كيف تحكم أمريكا لماكس سكيومور ومارشال كارتر وانك، وأمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب لصلاح الخالدي.

ص: 2179

في ثوب الديمقراطية، والمستغربون من أبناء هذا العالم يرون أنه لا منقذ لهم من التخلف والاستبداد والظلم إلَّا باستيراد الديمقراطية، وبرز المثقفون والأدباء والكتاب والإعلاميون على صالة العرض يسوّقون الديمقراطية الليبرالية ويدعون لها ويبشرون بمجيئها باعتبارها المنقذ الوحيد والمخلص الفريد لكل الآلام.

وكل هذه الفئات تحاول أن تظهر بمظهر الداعي المخلص، والمحامي البارع عن الليبرالية والديمقراطية وسائر رموزها وممارساتها.

وبعيدًا عن شعارات أسواق المزاد القائمة اليوم في الأنظمة العلمانية في البلدان الإسلامية، والمنابر الصحفية والثقافية التي يسيطر عليها العلمانيون والحداثيون، والتي تتنافس جميعًا في إثبات ولائها وانتمائها للديمقراطية الليبرالية، بعيدًا عن كل ذلك، وعن ما سبق ذكره من المضامين الاعتقادية والأخلاقية والسياسية الفاسدة التي تحتويها الديمقراطية في واقعها الغربي الراهن؛ نجد أن هؤلاء الذين تفننوا في رفع شعارات الديمقراطية لم يأخذوا منها إلَّا الأسواء والأرداء والأخبث، أمّا ما فيها من حقوق وضمانات فإنهم أبعد الناس عنها تطبيقًا، وأكثر تشدقًا بها حتى من الغربيين أنفسهم.

ولنأخذ فئة الحداثيين والعلمانيين الذين يعتبرون أنفسهم الدعاة الخلص للديمقراطية والليبرالية الغربية؛ نجد أنهم يتشدقون بحرية الرأي، وأنهم يطرحون الرأي والرأي الآخر؛ لأن ذلك من مقتضيات الليبرالية، ولكننا نجدهم في واقع الأمر يمارسون الاستبداد الإعلامي والثقافي، فلا يسمحون لغيرهم بالكتابة أو التحدث من منابرهم، حتى ولو كان حداثيًا صرفًا أو علمانيًا خالصًا ما دام لا يحمل التوجه الذي تتجه فيه المؤسسة الإعلامية أو الثقافية.

وقد رأينا أنه حين سيطر بعض أدباء الواقعية على بعض الملاحق أو الأندية الأدبية كيف استبعد ومنع أدباء الألسنية والبنيوية من المشاركة، وكذلك العكس.

ص: 2180

وما حصل من صراع بين مجلة شعر التي تمثل التيار الليبرالي الغربي الأمريكي خاصة، ومجلة آداب التي تمثل التيار الليبرالي الوجودي، ومجلة الثقافة الجديدة التي تمثل التيار الماركسي أكبر شاهد على مقدار ديمقراطية القوم

(1)

!!.

هذا هو موقفهم "التحرري" من بعضهم، أمّا غيرهم ممن يتبنى الأصالة، وينتمي إلى الأمة، ويحترم التراث فليس له عندهم أي مكان، بل هو محروم مطرود حتى ولو ظهر في غاية الوداعة والتلطف والحوار الهادئ!! فأين هي الديمقراطية والحرية؟!.

أمّا الإداريون والاقتصاديون الذين يتشدقون بالديمقراطية في البلدان الإسلامية، فهم في الحقيقة ذئاب في جلود نعاج، يتخذون الديمقراطية شعارًا للتمكين واستدرار العطف والدعم من أسيادهم الغربيين الذين يعلمون أحوالهم مفصلة، ولكنهم يبقونهم لينفذوا المخطط الغربي "اليهودي والنصراني" الذي يهدف إلى بقاء الأمة في دائرة التبعية والضعف.

في الغرب تجري المسرحية الديمقراطية بشكل متقن، ويؤدي الجميع أدوارهم بدقة، أمّا المستغربون من أبناء البلاد الإسلامية فهم يؤدون المسرحية ببشاعة القرود، إلى حد أن نتائج الانتخابات!! تظهر بنسبة 99.99 % أمّا المجالس النيابية فحدّث عن مهزلتها ولا حرج!!.

وعلى رغم بشاعة وانحراف الديمقراطية في الغرب إلَّا أنها تعتبر بالنسبة للديمقراطية المدعاة عند المقلدين في الشرق، نوعًا من التفوق والعدالة، لم يستطع المقلدون ولم يريدوا أن يكونوا على هذا المستوى، كما أن أسيادهم في الغرب لا يريدون لهم أكثر مما هم عليه، بل قد يريدون منهم أن يمارسوا البشاعة تحت رداء الديمقراطية بأكثر مما هم عليه.

(1)

انظر: الحداثة الأولى: ص 24، 33 - 34، 35، 36، 47، 60، 48.

ص: 2181

وكلا الطائفتين من المستغربين والمؤلهين للديمقراطية نجحوا في أخذ الجانب الأشد ظلامًا في ليبرالية وديمقراطية الغرب، "حرية الفساد والإفساد".

فمن شاء أن يرتد عن دينه ويلحد فهو حر، يجب أن تحميه الدولة، وتشيد به وسائل الإعلام، ولا أدل على ذلك من قضية علاء حامد ونصر حامد أبو زيد.

أمَّا حرية الفساد الأخلاقي فتنبئك عنها المسارح ودور السينما ونجوم الفن، وشواطئ العري والاختلاط الموجه والمبرمج والمحمي، والعفة المطاردة والمحاربة، والخمور والمخدرات، والرشاوى والعمالة للأعداء!! وغير ذلك مما يطول شرحه.

أمَّا حرية الفساد الاقتصادي فتجد خبرها في البنوك الربوية والمعاملات المالية الظالمة، والاحتكارات والغش والعمولات وغير ذلك مما يندرج تحت أخلاقيات "الرأسمالية".

‌القضية الثالثة:

إذا كان الغرب يتشدق بالحرية والديمقراطية، ويقوم وكلاؤه بالدفاع عنه والدعوة إلى الاستقسام بأزلامه.

يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان ورفع المظالم عن المضطهدين، ورد عدوان المعتدين، والحكم بالقسط بين المتحاكمين، إلى غير ذلك من الشعارات والعبارات التي تأتي مرة باسم النظام الدولي الجديد، ومرة باسم الديمقراطية، ومرة باسم الليبرالية التحررية، ومرة باسم الإرادة الدولية، إلى غير ذلك من الأسماء واللافتات.

ولكننا إذا نظرنا إلى موقفهم من قضايا المسلمين، وجدنا أن الأمور تختلف والمعايير تضطرب والأحكام تتأرجح.

وما موقف الغرب الديمقراطي الليبرالي من قضية المسلمين في البوسنة

ص: 2182

والشيشان وكشمير والفلبين ومسلمي الحبشة إلَّا بعض الشواهد على عدوانية الغرب وعدوانه واضطهاده.

وما من قضية في العصر الحاضر حصلت بين المسلمين وغيرهم إلَّا كان الغرب في الصف المقابل!!، وما القضية المحورية في حياة المسلمين أعني قضية فلسطين ببعيدة عن الأذهان، فقد وهبت بريطانيا فلسطين لليهود وحمتهم ومكنت لهم، ثم لما ورثت أمريكا إرث العرش الملكي البريطاني اعتبرت دولة اليهود ولاية من ولاياتها بل أهم.

الغرب الديمقراطي بقيادة أمريكا وضع ثقله المادي والمعنوي في جانب دولة اليهود المغتصبة الظالمة ضاربًا عرض الحائط بكل القيم الديمقراطية التي يتشدق بها.

الديمقراطية الليبرالية هي التي غرست الكيان اللقيط في وسط بلاد المسلمين، وهي التي أمدته بالقوة البشرية والمالية والعسكرية، وما تزال الديمقراطية الليبرالية هي التي تحمي وتدافع عن هذا الكيان حتى من مجرد النقد أو الاحتجاج، وهي التي تقوم ولا تنام إذا حصل لأحد من اليهود ما يؤذيه!!.

الديمقراطية الغربية بقيادة أمريكا هي التي أنشأت المصانع الحربية لليهود، والمفاعلات النووية، وهي التي تمنع أي مساواة عسكرية للدول العربية بدولة اليهود فضلًا عن التفوق عليها.

والديمقراطية الغربية هي التي تقف اليوم خلف عملية السلام ليتحقق لليهود بالانفتاح والتطبيع ما لم يتحقق بالضغط والتهديد.

ولا عجب أن يقف الغرب وخاصة أمريكا هذه المواقف من دولة اليهود، فإن صناع الحياة في الغرب هم الرأسماليون والإعلاميون، والسياسيون اليهود

(1)

.

(1)

انظر: مواقف الغربية وخاصة الأمريكية من قضية فلسطين الإسلامية وغيرها من القضايا في الكتب التالية: =

ص: 2183

ولكن العجب هو غرق بعض أبناء البلدان الإسلام في الأوهام والسير خلف السراب والتسابق نحو الهاوية، عمالة، أو انخداعًا بشعارات الحرية "الليبرالية" والديمقراطية، قال اللَّه تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}

(1)

، وقال سبحانه: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى

= 1 - لعبة الأمم للجاسوس الأمريكي ما يلزمكوبلاند.

2 -

الفخ الأمريكي لمحمد الشافعي وشارك فيه مجموعة من الكتاب والمفكرين.

3 -

الخيار شمشون، أسرار وخفايا الترسانة النووية الإسرائيلية، لسيمور هيرش.

4 -

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لكمال الهلباوي.

5 -

قضايا العالم الإسلامي في ظل النظام العالمي الجديد لأحمد منصور.

6 -

أضواء على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لأحمد منصور.

7 -

رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي الجزء الأول لمحمد بن عبد الغني النوواوي.

8 -

أمريكا والعرب، السياسة الأمريكية في الوطن العربي في القرن العشرين: لنظام شرابي.

9 -

دم ابراهام، رؤية إلى الثرق الأوسط: لجيمي كارتر ترجمة سامي جابر.

10 -

الغرب في مواجهة الإسلام، معالم ووثائق جديدة لمازن الطبقاني.

11 -

من آفات الاستشراق الأمريكي المعاصر لمازن المطبقاني.

12 -

أصول التنصير في الخليج العربي، دراسة ميدانية وثائقية لكونوي زيقلر ترجمة مازن مطبقاني.

13 -

عصو المفوض السامي الأمريكي لنصر شمالي.

14 -

الولايات المتحدة الأمريكية والصراع العربي الإسرائيلي.

15 -

القضية الفلسطينية في الاستراتيجية الأمريكية المشكلات والخيارات: لروبرت ج. برانغر.

16 -

إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية في الثمانينات: لكميل منصور.

17 -

النفط العربي والتهديدات الأمريكية بالتدخل 1393 - 1409 هـ/ 1973 - 1989 م: لمروان بحيري.

18 -

المساعدة الأمريكية لإسرائيل الرباط الحيوي: توماس ر. ستوفر.

19 -

دفاع أم عدوان؟ القوانين الأمريكية لضبط صادرات السلاح والاجتياح الإسرائيلي للبنان: وليم اسبنوزا، لس جنكه.

(1)

الآية 120 من سورة البقرة.

ص: 2184

مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}

(1)

.

‌الوجه الثاني: الائتماء لأعداء الأسلام والمسلمين، والعمالة لهم:

لم يكتف المنهزمون باستعارة أنماط الفكر السياسي والاقتصادي الغربي، بشقيه الماركسي والليبرالي، حتى انخرطوا ملتمسين رضا الأسياد - في انتماء صريح وعمالة واضحة لأعداء الإسلام والمسلمين.

يقول يوسف الخال: (إن الحضارة الغربية هي حضارتنا نحن بقدر ما هي حضارة الفرنسي والألماني والروسي الخ ونحن لا قيمة لنا في العالم العربي إن بقينا في خارجها ولم نتبنها من جديد، ونتفاعل وننفعل بها، إن هذه الحضارة هي نحن بقدر ما هي هم)

(2)

.

بل يصل به الحال الاندماجي مع الغرب أن يرد على من يقول بأن أوروبا سوف تنهار وتنحط فيقول: (وانحطاط أوروبا وهم يتعلل به الخصوم، وجهل يذهب ضحيته السطحيون، هل الانحطاط في الحرية الإنسانية؟)

(3)

.

ويتضح من خلال هذا الطرح أن الغرب بكل مؤسساته الفكرية والسياسية والاقتصادية هو الهوية التي تتم بها حقيقة الحداثة، التي لا تكتفي بمجرد المحاكاة والاستعارة والتقليد، بل تواصل حتى تصل إلى الاندماج الكامل، ويصبح المنتمي الحداثي ممثلًا لحضارة الغرب وسياسته وأنماط حياته ولئن كانت عصابة "شعر" أصرح في إعلان اندماجها في الغرب، وكذلك التيارات اليسارية وخاصة الماركسية أصرح في إعلان اندماجها بالكتلة الشيوعية، إلَّا أن هناك من يكابر هذه الحقائق ويحاول أن يغطيها بكافة الأغطية.

(1)

الآية 52 من سورة المائدة.

(2)

مجلة شعر، العدد الخامس عشر صيف 1960 م/ 1379 هـ: ص 139.

(3)

المصدر السابق: ص 137، وهذا القول يذكر بمقال لتركي الحمد سبق الإشارة إليه بعنوان "هل أن الغرب يسقط؟ ".

ص: 2185

علمًا بأن التصور العقلي المجرد يدل على هذا الانتماء، والعمالة لتلك النظم والمؤسسات الليبرالية أو الماركسية، فمن اعتقد عقيدة قوم فلابد أن ينتمي إليهم، ويواليهم ويحبهم، ويتمنى سيادة نظامهم ومنهجهم، هذه بديهية أولية، ومع ذلك فلن نقف عند حدودها وإن كانت واضحة المعالم بل سوف نأتى بالشواهد من كلامهم هم.

هذه مجلة "شعر" بشخصياتها الحداثية الشهيرة: أدونيس والخال وخليل حاوي قبل انتقاله عنهم، تقود -حسب زعمها- المشروع النهضوي، ولكن كيف؟ إنه مشروع الاندماج والذوبان الكامل في الغرب، حيث يقرر أدونيس إنه في (الأصل لا شرق ولا غرب، في الأصل الإنسان)

(1)

.

إنها التتمة العملية للمشروع السياسي الذي أعلنه أنطون سعادة بعد عودته من أمريكا، والذي سارت على خطواته عصابة شعر.

يقول باروت واصفًا مشروع "المعاصرة" عندهم وهو غير منكر عليهم: (هكذا تأسست أطروحة "المعاصرة" ليس بوصفها اقتلاعًا بل بوصفها "نهضة" دعوة إلى الجذور، وستعبر "الحضارة المتوسطية" عن ذلك تمامًا، فيوسف الخال يشير من إنكلترا إلى البحر المتوسط "بحرنا العظيم الخالد)

(2)

.

إن الاندماج بالغرب عند هؤلاء لا يعني الاندماج الفكري أو الثقافي أو الفني فحسب كما قد يتصور البعض بل هو أيضًا الاندماج السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد أطنب باروت وأكثر من الشواهد الدالة على هذا الارتباط الاعتقادي والعضوي بين أعضاء "شعر" والغرب

(3)

.

ومن خلاصة أقواله قوله: (. . . بدا مشروع الحداثة الذي قادته "شعر" وكانه المشروع الغربي الحداثي في الثقافة العربية، لم تستطع "شعر" أن تنفصل عن هذا المشروع، بل كان هاجسها في "المعاصرة" يرتكز على إنتاج

(1)

الحداثة الأولى: ص 14، وانظر: ص 2102 من هذا الكتاب.

(2)

المصدر السابق: ص 15.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 15 - 29.

ص: 2186

حداثة شعرية متماهية مع حداثة النموذج)

(1)

.

وهم في مشروعهم هذا ينطلقون من عداوة عقائدية للإسلام والتراث، ومن منطلقات طائفية، فأكثرهم من نصارى لبنان الذين يرون حتى مجرد الدعوة إلى القومية العربية، على مخالفتها للإسلام، يرونها مرادفة للإسلام، ومحاربة للنصرانية، ولذلك ركزوا على الانفصال عن التراث والعربية، والانتماء إلى الغرب إلى البحر إلى الحضارة المتوسطية كما يقولون

(2)

.

وما استخدامهم للأسطورة وشعوبيتهم القاحلة وعداوتهم الصريحة للدين إلَّا بعض الأدلة على هذا الانتماء والارتماء.

ولكن هل هذا وحده هو الذي حفزهم للانتماء للغرب أم أن هناك أشياء أخرى؟.

يجيب على هذا السؤال مؤلف كتاب "بحثًا عن الحداثة" فيقول: (. . . بعد حركة التغاير المتواصلة منذ أوائل القرن،. . . أضيف عناصر احتدام جديدة ببروز الدور الأمريكي في المنطقة بعد العام 1953 م على الصعيد الثقافي، فقد قامت في مصر مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، وبدأت بمدفوعاتها السخية باستقطاب أعمدة الثقافة العربية آنذاك من كل الاتجاهات

(3)

. . . إن التدخل الأمريكي كان يحمل طابع توجيه حركة التغاير العربية إلى أفق محدد، وسنرى كيف لعبت مجلة "شعر" دورًا في سياق هذا التوجيه وبأية لغة، وكيف وفرت لها اتجاهات من خارجها مستندًا أوليًا لتحاول شق طريق إلى مستقبل خاص للشعر العربي)

(4)

.

وما هو نبأ مؤسسة فرنكلين التي أشار إليها الكاتب والتي ذكر أنها استقطبت أعمدة الثقافة العربية من كل الاتجاهات؟.

(1)

المصدر السابق: ص 23.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 26 - 27، 128.

(3)

هذا يدل على أن الاستقطاب الأمريكي لم يكن لممجموعة شعر بل لكل الاتجاهات الحداثية.

(4)

بحثًا عن الحداثة: ص 38.

ص: 2187

أنشأت المخابرات الأمريكية " C.I.A" منظمة ظاهرها الثقافة وباطنها تجنيد العملاء من الكتاب والمثقفين، وتسمى هذه المنظمة "المنظمة العالمية لحرية الثقافة"، وقد بقيت هذه المنظمة تعمل أعمالها السرية من خلال كتاب وشعراء ونقاد الحداثة حتى انكشفت علاقتها بالمخابرات المركزية الأمريكية، حين نشرت النيويورك تايمز في التحقيقات التي قام بها كارل برنشتين والذي بين أن هذه المنظمة ومجلاتها التي تصدرها بمختلف اللغات، ومنها العربية، ليست سوى أحد أقنعة المخابرات الأمريكية، وقد نوقشت هذه القضية في الكونغرس الأمريكي عام 1384 هـ/ 1965 م

(1)

.

ومن المجلات والمؤسسات والنشاطات الثقافية التابعة لهذه المنظمة:

1 -

مجلة "حوار" التي كانت تصدر في بيروت وكان رئيس تحريرها توفيق صايغ.

ولما انكشفت علاقة المنظمة العالمية لحرية الثقافة بالمخابرات الأمريكية كابر توفيق صائغ ونافح، ولكنه اضطر للاعتراف بذلك عندم! نشر "ستيفن سبندر" الشاعر الانكليزي ورئيس تحرير مجلة "انكاونتر" التابعة للمنظمة العالمية لحرية الثقافة اعترافه، بأنه خدع من قبل المخابرات المركزية الأمريكية

(2)

، وقد وجد اليسار العربي في مصر والعراق الفرصة سانحة لشن الهجوم على التيار الذي كانوا يعتبرونه عميلًا للإمبريالية يوم كان لليسار صولة وجولة، وكان في الوقت ذاته يخضع بعمالة مشابهة للكتلة الشيوعية.

وسوف أنقل هنا قول أحد الراصدين لهذه القضية التي تصدى لها من منطلق الدفاع عن توفيق صايغ، يقول: (واجه توفيق صايغ أزمة "حوار" الأولى حين منع العدد "5" تموز - أب، يوليو أغسطس 1963 م من دخول العراق في 25/ 7/ 1963 م بعث توفيق برسالة إلى وزير الإرشاد في

(1)

المصدر السابق: ص 42، 59.

(2)

انظر: أفق الحداثة وحداثة النمط: ص 55، 76، وتوفيق صايغ مسيرة شاعر ومنتقى: ص: 146 - 148.

ص: 2188

الجمهورية العراقية يسأله فيها عن سبب منع "حوار" ومصادرتها "ولما لم يتلق ردًا بعث برسالة أخرى في أب - أغسطس 1963 م، وقبل ذلك كانت صحف بيروت والقاهرة قد بدأت حملتها على "حوار" في أيلول - سبتمبر 1962 م بدأت مجلة "الصياد" البيروتية بمهاجمة "حوار" لارتباطها بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة في باريس، وحتى قبل صدور "حوار" ثم تكثفت الحملة الهجومية على "حوار" في القاهرة، ثم انتقلت مجددًا إلى بيروت في أواخر 1963 م.

المنظّر الأساسي لهذه الحملة كان رجاء النقاش على صفحات "أخبار اليوم" وفي بيروت شنت الهجوم على حوار وصايغ "الأنوار" و"الصياد" و"الشعب" و"النداء" و"الآداب" و"صوت العروبة" ولكن الحملة لم تشتد إلَّا في أواسط 1965 م، وعنفت بعد رفض يوسف إدريس لجائزة "حوار" ولا يُمكن فهم هذا الهجوم على "حوار" وعلى "المنظمة العالمية" بمعزل عن ازدياد معاداة الغرب في مطلع الستينات وتسلم اليسار المصري مقاليد الصحافة في القاهرة، رأى رجاء النقاش أن مجلة حوار تدافع عن حرية زائفة و"غريبة علينا" ثم شهد مطلع 1966 م هجومًا عنيفًا على "حوار" في مجلة "العلوم " محررها "منير البعلبكي" في عدد شباط - فبراير 1966 م، حمل عبد العزيز الدسوقي "القاهرة" حملة شعواء على حوار وعلى مقالة لويس عوض "الأهرام 19/ 11/ 1965 م" التي شخص فيها أزمة الثقافة في مصر، معتبرًا الدسوقي أن هذا التشخيص دفاع مبطن عن حوار، وفي عدد أيار 1966 م هاجم ياسين نزال النصير "البصرة" حوار ودافع عن عوض، وفي العدد نفسه رأى طلعت همام "القاهرة" أن حوار تميع الاشتراكية.

المعركة مع حوار احتاجت إلى وقت، إلى حين نشرت صحيفة "النيويورك تايمز" 27/ 4/ 1966 م مقالة زعمت فيها أن "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" تدعمها وكالة المخابرات المركزية "سي. آي. إي"، وأن هذه المنظمة تمول مجلات "أنكاونتر" الإنكليزية و"بروف" الفرنسية و"حوار" العربية. كانت صحيفة روز اليوسف القاهرية، بالمرصاد فأشارت في عددها الصادر بتاريخ 23/ 5/ 1966 م إلى مقالة نيويورك تايمز وبدأت المعركة مع

ص: 2189

حوار على مستوى عالي ومحتدم، وفي 30/ 5/ 1966 م ذكرت روز اليوسف ما يلي:"بعث الكاتب غالي شكري إلى روز اليوسف صورة من الرسالة التي بعث بها إلى توفيق صايغ رئيس تحرير مجلة حوار جاء فيها: "واليوم وقد نشرت روز اليوسف هذا الخبر المرفق بتعليق الدكتور لويس عوض، أرى من واجبي أن أضيف هذا السبب الجديد "تبعية حوار للمخابرات الأمريكية" في امتناعي عن الكتابة في حوار، راجيًا باسم علاقتنا الشخصية أن تعيد النظر في موقفك أيضًا فلست أشك أنك أكبر من أن تشارك أو تتعامل مع جهة أجنبية

(1)

لم تعد مشبوهة بل مدموغة بالتبعية لوكالة المخابرات الأمريكية")

(2)

.

(وفي أوائل حزيران يونيو 1966 م أصدر نائب رئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القوي والسياحة في مصر عبد القادر حاتم، قرارًا بمنع حوار من دخول مصر بعد أن تأكدت السلطات المصرية أن المخابرات المركزية الأمريكية تمول "حوار" الأهرام 6/ 6/ 1966 م، روز اليوسف 6/ 6/ 1966 م)

(3)

.

وكان لويس عوض قد انبرى يدافع عن مجلة حوار وابن ملته توفيق صايغ، ومما قاله في هذا الدفاع: (. . . أسباب دفاعي

(4)

الأدبي عن توفيق صايغ ومجلته في الماضي فبسيطة وواضحة، فأنا قد عرفت توفيق صايغ في فترة ما بين 1951 م و 1953 م بجامعة برنستون، ووجدت فيه مثقفًا فلسطينيًا أهلًا لكل احترام وجدته رجلًا متحرر الفكر في هدوء. . . هذه الاتهامات

(1)

ينبغي هنا التنبيه إلى أن غالي شكري نفسه كان مثل توفيق صايغ ولكن في الشق الآخر في الماركسية والواقعية الاشتراكية. انظر: ذلك في كتابه ذكريات الجيل الضائع: ص 49 - 50، 53 - 58، 135 - 141، كما أنه في الوقت ذاته لم يتخل عن "قبطيته" التي يتخذها الغرب الديمقراطى وسيلة لإخضاع مصر سياسًا واقتصاديًا. انظر: كتابه الأقباط في وطن متغير.

(2)

توفيق صايغ مسيرة شاعر ومنفي: ص 137 - 138.

(3)

المصدر السابق: ص 140.

(4)

وهذا دفاع ساقط لأمور عديدة أهمها أن توفيق صايغ قد اعترف بعلاقة مجلته بالمخابرات الأمريكية. انظر: كتاب توفيق صايغ مسيرة شاعر ومنفى: ص 161 - 162.

ص: 2190

كانت تأتي من جوانب متناقضة، كانت تاتي من جانب الشيوعيين فأقول لنفسي: ربما في الأمر مغالاة فقد دأب بعض الشيوعيين أن يقولوا عن كل من خالفهم في الرأي إنه عميل الاستعمار، وكانت تأتي من جانب الأخوان المسلمين فأقول لنفسي: وهؤلاء بيتهم من زجاج فهم آخر من يحل له أن يقذف الحجارة، وكانت تأتي من بعثيين تائبين فأقول لنفسي: هؤلاء في أواصرهم في لبنان حيث المجلات الأدبية تقتتل حتى الموت في سبيل الرواج. . . كنت أقول: للنقاد المصريين والعرب: ربما كنتم تغالون في أمر حوار، إن كل ما أراه فيها هو ما أراه في المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وهو أنها منبر ثقافي تجمع حوله اليسار المعادي للماركسية، وأكثرهم من الماركسيين الذين ثاروا على الماركسية: ستيفن سبندر، ايناتزيو سيلوني، ارثر كيسلر، الخ، كلهم كانوا شيوعيين وكلهم ثاروا على الشيوعية، إن هذه أحدث الأساليب العلمية في مقاومة الشيوعية أن يخاطب المثقفون التقدميون بلغة الثقافة التقدمية حتى لا ينحرفوا إلى الشيوعية، والمنظمة العالمية لحرية الثقافة انشئت لتجميع المثقفين التقدميين ضد الشيوعية على أسس ثقافية تقدمية، وهذا أمر مشروع في حرب العقائد الدائرة رحاها اليوم في العالم ونحن نفعله في مصر حين تصدر مجلة "الفكر المعاصر" التي يرأس تحريرها الدكتور زكي نجيب محمود

(1)

أن الاعتراض الوحيد الذي أرى وجاهته في موضوع المنظمة وحوار هو أنهما قائمتان بتمويل مؤسسات ثقافية أجنبية، وهما تعترفان بهذا صراحة، وتعلنانه في كل مناسبة، وهذا أشرف ألف مرة من أولئك السادة الذين يقبضون من الأجانب في الظلام ويمشون بين الوطنيين كالشرفاء)

(2)

(3)

.

هذا الدفاع الذي استبسل فيه لويس عوض عن حوار والمنظّمة العالمية وتوفيق صايغ، ليس دفاعًا عن هؤلاء فحسب بل هو دفاع عن نفسه أيضًا،

(1)

لاحظ التبريرات الهابطة، والأعذار السخيفة، التي يغطي بها لويس عوض على انتمائه للغرب وعمالته لهم.

(2)

هذا اعتراف من لويس عوض بوجود عملاء في الظاهر وفي السر.

(3)

توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى: ص 151 - 152.

ص: 2191

وبوابة خلفية لتسويغ عمله المشابه لعملهم وسوف يأتي ذكر ذلك بعد قليل، بيد أن من أهم ما يذكر هنا أن لويس عوض يدافع عن المنظمة وعملائها مثل مجلة حوار ومجلة انكاونتر؛ لأنه من المشاركين فيها وقد نشر فيهما الكثير من مقالاته وشعره وفصول من روايته العنقاء

(1)

.

ورغم دفاعات لويس عوض عن أشباهه، فقد توالت الحملات على توفيق صايغ ومجلته "حوار" ونشرته "النهار" حتى أغلقها بعد أن أصبحت عمالتها للمخابرات الأمريكية أظهر إنجازاتها، وذلك في 21/ 5/ 1967 م الموافق 1387 هـ، ولكن بعد أن استقطبت أقلام مجموعة كبيرة من الكتاب الحداثيين

(2)

.

وقد اعترف توفيق صايغ بعلاقة مجلته بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة وأن هذه المنظمة تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وأنها قد أمدته بالمال طوال سنين عديدة

(3)

.

2 -

مجلة "شعر": التي قامت أصلًا على أفكار أنطون سعادة، ودعواته للاندماج في الغرب والانفصال عن العرب والإسلام، تحت شعار الفكرة المتوسطية، وقد سبق تفصيل هذه القضية، وهذه وحدها كافية في الدلالة على العمالة التي هي أساس فكرة المجلة، فلقد تبنت مجلة شعر الاتجاه الأسطوري الوثني وأغرقت في ذلك غاية الإغراق، وسعت في ترويج أفكار الاندماج بالغرب، في جذوره التاريخية وواقعه المعاصر أديبًا من خلال منبر مجلة شعر المؤسسة لهذا الغرض أصلًا، وسياسيًا من منبر

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 155.

(2)

هذه بعض أسمائهم: صلاح عبد الصبور ونزار قباني ويوسف غصوب ولويس عوض ومحمد الماغوط وسلمى الخضراء الجيوسي وليلى بعلبكي وغادة السمان ووليد إخلاصي وزكريا تامر وعبد السلام العجيلي. انظر: كتاب توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى: ص 141، وقد سعت غادة السمان وعارف الريس قبيل إغلاق المجلة في الحصول على تمويل لها من الكويت. انظر: المصدر السابق: ص 157.

(3)

انظر: اعترافه هذا في كتاب توفيق صايغ سيرة شاعر: ص 161 - 164.

ص: 2192

الحزب القومي السوري لأنطون سعادة

(1)

.

وكانت عصابة شعر تتلقى الدعم السخي من المخابرات الأمريكية من خلال "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" وفرعها المسمى "مؤسسة فرنكلين" التي بدأت بمدفوعاتها السخية تستقطب أعمدة الثقافة العربية الحديثة

(2)

.

يقول أحد الحداثيين: (إن التدخل الأمريكي كان يحمل طابع توجيه حركة التغاير الغربية إلى أفق محدد، وسنرى كيف لعبت مجلة "شعر" دورًا في سياق هذا التوجيه وبأية لغة، وكيف وفرت لها إتجاهات من خارجها مستندًا أوليًا لتحاول شق طريق إلى مستقبل خاص للشعر العربي)

(3)

.

في عام 1376 هـ/ 1957 م برزت إلى الوجود مجلة شعر وافتتح أول أعدادها بمقتطفات لشاعر أمريكي

(4)

، وفي ذلك أبلغ دلالة على انقطاع بين المجلة -كما يقول أحد نقاد الحداثة- وبين السياق التاريخ - الاجتماعي الذي ولدت فيه

(5)

.

ويطرح هذا الناقد في دراسته للبنية التحتية لمجلة شعر بعض المقولات التي طرحتها مجلة شعر وأصرت على ترويجها، وبيان المغزى من هذه المقولات، يقول: (إن مقولات من نوع "الشعر في عالم اليوم" و"التجارب المعاصرة" و"أعماق الوجود الإنساني" تمحو كل الفروقات الثقافية

(6)

، وتمحو بالتالي إشكالياتها جذريًا، وتصل -ويبدو أن هذا هو الهدف- إلى طمس أي نوع من الانقسام الذي يعانيه عالم اليوم بين ثقافات تعرضت للتخريب والتشويه وثقافات مسيطرة، أي أنها بالنتيجة تنفي ما هو جوهري

(1)

انظر: ص 159 - 757 من هذا الكتاب.

(2)

انظر: بحثًا عن الحداثة: ص 38، 56.

(3)

المصدر السابق: ص 38.

(4)

انظر: المصدر السابق: ص 39.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 41.

(6)

ينبغي إيضاح أن هذه المقولات وأشباها وأخطر وأجرأ منها هي الطاغية اليوم على كتابات الحداثيين من غير نكير.

ص: 2193

في الإشكالية العربية السياسية لتصل إلى موقف سياسي مغاير للمواقف السياسية التي مثلها كتاب وشعراء آخرون، إذن يستهدف نفي السياسي التمهيد لدعوة سياسية أخرى، فما معنى هذا؟.

ثمة صفحة مطوية بعناية وإن كانت قد نشرت جزئيًا في أواخر الخمسينات تتعلق بالنشاط التحتي لمثل هذه التوجيهات الأدبية، وتلقي هذه الصفحة الضوء على ما يبدو دعوة للتجديد.

هذه الصفحة هي صفحة الممارسات التي مارسها بعض أصحابها مجلة "شعر" في الوقت نفسه الذي كانوا يدعون فيه إلى "اللاسياسية" و"اللاتخريب" فقد تبنوا سياسات مضادة للتيارات القومية والاشتراكية العربية آنذاك، حين عقدوا بمساهمة "منظمة حرية الثقافة" المعروفة كأحد وجوه وكالة المخابرات الأمريكية مؤتمر روما للأدب العربي في العام 1961 م. . .)

(1)

.

(. . . وجاءت الأسطورة لتلعب هذا الدور مدعومة بمرجعية ثقيلة الوزن والتأثير بفعل التضخيم الإعلامي المقصود، والمرجعية التي نعنيها هي طرح أسماء بعض الشعراء الغربيين مع إحاطتهم بهالة خرافية تجعلهم مثلًا يحتذى في كل إبداع. . .

يدلنا إلى هذا أن تعبير "الشعر المعاصر" كان يعني حقيقة ما يكتبه الغير وفق انتفاء واضح لا يترك مجالًا للتأويل في أن ما هو "عالمي" و"معاصر" هو الغربي تحديدًا، فطوال أحد عشر عددًا من أعداد مجلة شعر بين عامي 1957 - 1959 م اقتصرت ترجماتها للشعر في عالم اليوم على الشعر الغربي: 11 شاعرًا من الثقافة الانجلو - ساكسونية، 9 شعراء فرنسيين، أسباني واحد.

. . . فالتيار التغريبي الحديث يحاول صياغة الإشكالية الثقافية وضمنها إشكالية البحث عن الحداثة بمعزل عن كل الفروقات التي تبعثها علاقات

(1)

بحثًا عن الحداثة: ص 41 - 42.

ص: 2194

الأقطار العربية بالغرب في ذروة تصاعد التغلغل الأمريكي، وبداية احتلاله لمواقع الاستعمار القديم)

(1)

.

إن الناظر في شخصيات مجلة شعر يدرك عمق العمالة والولاء لأعداء الأمة، فها هو يوسف الخال رئيس تحرير المجلة ورئيس اللقاء الأسبوعي "خميس مجلة شعر"، تخرج في الفلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت، وأقام في نيويورك ثماني سنوات التحق خلالها بالأمم المتحدة ثم عاد إلى لبنان عام 1374 هـ/ 1955 م وهو مغمور مجهول ليقوم بإنشاء مجلة "شعر" ويجمع معه أدونيس وخليل حاوي ونذير عظمة وأسعد رزوق وأنسي الحاج وخالدة سعيد، وكل من هؤلاء له تاريخه المجهول أو المشبوه

(2)

، وكل منهم -أيضًا- مليء بالحقد الدفين على الأمة، والتطلع والسعي لإذابة الأمة والمجتمع والثقافة في أحماض الحياة الغربية.

ويظهر بجلاء من خلال الاتجاهات الداعية إلى الليبرالية الديمقراطية الغربية، أن هذه المجلة هي إحدى الجسور المطلية بطلاء الثقافة والأدب، هذه الاتجاهات الموجودة داخل مجلة شعر هي الاتجاه القومي السوري نسبة إلى الحزب القومي السوري، وهو الاتجاه الذي غلب على المجلة منذ بداية صدورها، وينتمي إلى هذا الاتجاه كل من يوسف الخال وأدونيس ونذير عظمه وفؤاد رفقة وخالدة سعيد ومنير بشور ومحمد الماغوط وغيرهم، والاتجاه الثاني: اتجاه إقليمي لبناني، وهو الاتجاه الذي بدأ مع بداية المجلة ثم نما مرحلة بعد أخرى حتى غلب عليها في المرحلة الأخيرة من حياتها وينتمي إليه كل من أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ وأسعد رزوق وغيرهم

(3)

.

وكلا الاتجاهين اجتمعا في محورين أساسيين أحدهما طائفي نصراني ونصيري، والثاني ليبرالي غربي، كما عبر عن ذلك أحد نقاد الحداثة في

(1)

المصدر السابق: ص 41 - 43.

(2)

انظر: أفق الحداثة وحداثة النمط: ص 18 - 19.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 19 - 20.

ص: 2195

قوله: (أمَّا على المستوى الفكري فقد جمعت الطرفين اتجاهاتهما اليمينية، ونزعتهما الشديدة إلى التغرب "نسبة إلى الغرب" والتشبث بأطراف الدعوات الليبرالية في مواجهة ما يعتبرانه بطريقة أو أخرى، قمعًا عنصريًا وطائفيًا)

(1)

.

ويضيف هذا الناقد تصنيفًا آخر لجماعة شعر غير ما سبق فيقول: (. . . وبحكم عوامل أخرى تربوية ودراسية ودينية توزع هؤلاء، ومن تعاون معهم من خارج المجلة بين الثقافتين: الفرنسية والانكلوسكسونية فكان من أبرز ممثلي الثقافة الأولى: أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ، وخالدة سعيد، وأبرز ممثلي الثقافة الأخرى: يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ وإبراهيم شكر اللَّه، وكان كثيرون ممن ساندوا المجلة في نشاطها موزعين، بقدر أو آخر، بين هؤلاء، وكان ثمة استثناء وحيد بينهم هو فؤاد رفقة الذي وجد ضالته في الثقافة الألمانية)

(2)

.

ثم يضيف قائلًا: (. . . إن تجمع شعر كان يدعي خلاف ما يمارس كان يرفض "السياسة" و"الإيديولوجيا" وهو مسيس ومؤدلج إلى عنقه، بل كان هذا التجمع يعمل عمل حزب سياسي كامل: مجلة، وندوة أسبوعية، ودار نشر تصدر كتبًا ذات لون خاص، وجوائز تمنحها المجلة، وامتداد إلى الصحف اليومية، ومبشرون ومراسلون، واتصالات عربية، وأخرى عالمية، ومجلة أخرى "أدب" وتهريب أعداد ممنوعة الخ، بل كان التجمع يطمح إلى عقد مؤتمرات سنوية، وإنشاء رابطة وإعانة النابهين على الدراسة أو الإقامة مدة في الخارج، فماذا بقي من أساليب العمل الحزبي؟!.

يقول يوسف الخال، والحديث عن خميس مجلة شعر، بعد ستة شهور من صدورها "هذا الخميس ندوة لا تتوخى أن تكون هيئة منظمة تنظيمًا مسبقًا، بل جماعة تنمو نموًا عضويًا، يتخذ شكله التنظيمي الخارجي مع الزمن وفق حيوية أفرادها واستعدادهم الفكري والروحي" ترى هل تبدأ الأحزاب والحركات السياسية عملها بطريقة أخرى؟ ويضيف الخال إلى ذلك

(1)

المصدر السابق: ص 21.

(2)

المصدر السابق: ص 23 - 24.

ص: 2196

قوله: "إن هذه الندوة ستظل قائمة مهما كان عدد حضورها، كما ستظل مفتوحة لجميع الشعراء ومحبي الشعر في هذا البلد".

ولكننا سنجد الندوة قد تحولت بعد حين إلى ندوة مغلقة، فانتقلت من صالة فندق "بلازا" إلى إحدى قاعات نادي خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم إلى بيت يوسف الخال، وعدل التجمع صيغة اجتماعاته، فلم يسمح بحضورها إلَّا للأعضاء ومدعويهم، ولم تفتح إلَّا لمدعويين معنيين يدعوهم التجمع من لبنان ومن أقطار عربية أخرى)

(1)

.

3 -

ومن منابر المؤسسة الأمريكية، المنظمة العالمية لحرية الثقافة مجلات "أدب" و"أصوات" و"مواقف"، وقد ولغت فيما ولغت فيه كل من "حوار" و"شعر" وتعتبر من الأوكار الثقافية ذات المقاصد السياسية، والاستخباراتية، المرتبطة بالمخابرات المركزية الأمريكية

(2)

.

4 -

مؤتمر روما الذي عقد في تشرين الأول 1961 م/ 1380 هـ، ويعتبر المؤتمر أحد مناشط جماعة شعر، وقد أسهم في إعداده وتمويله "منظمة حرية الثقافة" التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وقد تحدث محمد الأسعد في كتابه "بحثًا عن الحداثة" عن هذا المؤتمر ونشاطات جماعة مجلة "شعر" قائلًا:(. . . عقدوا بمساهمة "منظمة حرية الثقافة" المعروفة كأحد وجوه وكالة المخابرات الأمريكية مؤتمر روما للأدب العربي في العام 1961 م، وبعد 21 عامًا من عقد هذا المؤتمر اعترفت إحدى المشاركات فيه في حديث شخصي ليس للنشر بأن المنظمين لم يكونوا أميريكيين فقط، بل ومن الصهاينة أيضًا)

(3)

.

ويضيف في الهامش قائلًا: (في اللقاء الشخصي ذكرت الشاعرة سلمى الجيوسي التي حضرت المؤتمر: إن منظميه لم يكونوا أميركيين فقط، بل

(1)

المصدر السابق: ص 39 - 40.

(2)

بحثًا عن الحداثة: ص 48، وأفق الحداثة وحداثة النمط: ص 56، والقصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 148 - 150.

(3)

بحثًا عن الحداثة: ص 42.

ص: 2197

كانوا من الصهاينة أيضًا، وقد عللت استجابة بعض الأدباء العرب إلى مثل هذه الأنشطة بالسذاجة التي كانت صفة غالبة في رأيها على أدباء الخمسينات!!)

(1)

.

ولا ينبغي أن ننسي الدور الذي قام به "سيمون جارجي" مسؤول الفرع العربي لمنظمة حرية الثقافة، في تدبير العملاء لهذه المنظمة واستقطابهم لأعمالها تحت أقنعة الثقافة والحداثة، كما أنه كان العقل المحرك لمؤتمر روما

(2)

.

وقد سجل بدر شاكر السياب موقفه من "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" ومؤتمر روما الذي كان السياب أحد أركانه، يقول السياب: (لا يسعني وأنا أمر في أعقاب المحنة القاسية التي ظللت أعانيها لأكثر من عام، إلَّا أن أذكر الدور المشرف الذي وقفته تجاهي "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" والحق أنها كانت الجهة الوحيدة التي أمدتني بالعون السخي دون "مدائح" أكيلها لها وأستجديها فيها أن تساعدني.

أوفدتني "المنظمة" إلى المملكة المتحدة في زمالة لمدة سنة لتتيح لي الفرصة كي أعالج نفسي هناك، وخصصت لي راتبًا شهريًا قدره ستون جنيهًا استرلينيًا، وبعد أن راجعت الأطباء والأخصائيين وحجز لي سرير في واحد من أحسن مستشفيات لندن، أرسلت لي المنظمة شيكًا بخمسمائة جنيه أسترليني أنفقها على علاجي. . . أرسلت المنظمة مستشارها الأستاذ سيمون جارجي كي يراني ويطمئن على وضعي ويدبر أمر سفري إلى باريس للمعالجة هناك، وتم. الاتفاق على أن أطير إلى باريس برفقة صديق يعتني بي، وأن يكون كل ذلك -بما فيه تكاليف إقامتنا في باريس- على نفقة المنظمة، وفي باريس وجدت نفسي محاطًا بالرعاية والعناية من موظفي المنظمة والعاملين فيها. . . وزودت بالأدوية التي وصفها لي الطبيب على

(1)

المصدر السابق: ص 57.

(2)

انظر: أفق الحداثة وحداثة النمط: ص 56، وبحثًا عن الحداثة: ص 42.

ص: 2198

حساب المنظمة. . . وإنني ليؤلمني، وأنا في هذه الحال أن أقرأ التهم الباطلة التي تكال للمنظمة، لمجرد أنها أصدرت مجلة قد تنافس المجلة الفلانية، وعملت على إبراز أدباء قد ينافسون الأدباء الفلانيين.

كان أول ما عرفت المنظمة في مؤتمر الأدب العربي الذي عقد في روما في شتاء 1961 م وكانت المنظمة هي التي عملت على عقده، لقد كان ذلك المؤتمر تظاهرة قومية عربية في وسط أوروبا. . . وأشهد أن المستشرقين المدعوين إلى المؤتمر كانوا أكثر عروبة في مواقفهم من بعض الجهات العربية. . . أن موقف أية منظمة ثقافية غربية، لا يُمكن أن يختلف كثيرًا عن أحسن موقف غربي من قضايا العرب، وفيما يخص قضية فلسطين: الحياد بين العرب واليهود. . .)

(1)

.

هذا الكلام يناقض كل المناقضة ما أثبتناه سابقًا من كتابات الحداثيين واعترافاتهم حول ارتباط المنظمة العالمية لحرية الثقافة وسائر مناشطها بالمخابرات الأمريكية.

ولندع هذا كله جانبًا ونسأل، لماذا تنفق هذه المنظمة كل هذه الأموال وترعى كل هذه الرعاية هذا الإنسان المشلول؟ هل عُرفت المخابرات الأمريكية أو أية مخابرات أخرى أنها تعمل الأعمال الإنسانية من أجل الإحسان؟ أو من أجل الثقافة؟ إلَّا إذا كانت لها مآرب من وراء هذا الدعم والمساعدة!!.

ولقد كان السياب يعي أي شيء تريده المنظمة ومجلة شعر ففي (رسالة من السياب إلى يوسف الخال في 4/ 4/ 1961 م ذكر حول محاضرته التي كان يعدها لمؤتمر روما أنه "انتهى من كتابة المحاضرة وجاءت مليئة بأفكار تتفق وأفكار منظمة الثقافة الحر من حيث نظرتنا "أسرة مجلة شعر" إلى الالتزام ونظرة الآخرين. . .)

(2)

.

(1)

توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى: ص 164 - 165.

(2)

بحثًا عن الحداثة: ص 57.

ص: 2199

وبعيدًا عن نظرية التآمر لنا أن نسأل أيضًا: ما العلاقة بين التنشئة والرعاية التي لقيها السياب من أستاذه الإنجليزي أثناء دراسته في دار المعلمين

(1)

، وعلاقته باليهود يوسف سلمان "فهد" وساسون دلال ويهودا صديق الذين كانوا يرأسون الحزب الشيوعي العراقي

(2)

، ثم علاقته الأخيرة بمنظمة حرية الثقافة ومجلة حوار ومجلة شعر؟.

وعلى كل حال فقد كان مؤتمر روما تحت إدارة ورعاية اليهود الصهاينة، كما أقر بذلك بعض من حضر

(3)

، وكانت عناوين ندواته ومداولاته تصب في إطار تقوية النشأة الحديثة التي غرست في جسد الأمة باسم الحداثة، وقد أسهم في هذا المؤتمر مجموعة كبجرة من العرب من بلدان عديدة، ومن المستشرقين

(4)

5 -

مؤسسة فرنكلين: وهي أيضًا من فروع وكالة الاستخبارات الأمريكية، وكانت تستقطب كتاب الحداثة: (. . . فقد قامت في مصر مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، وبدأت بمدفوعاتها السخية باستقطاب

(1)

انظر: قضايا الشعر الحديث: ص 290.

(2)

انظر: بدر شاكر السياب لإحسان عباس: ص 89 - 96، 104 - 107، 108.

(3)

انظر: شهادة سلمى الجيوسي في كتاب بحثًا عن الحداثة: ص 57.

(4)

من المسهمين في هذا المؤتمر أدونيس بوصفه رئيسًا لتحرير مجلة شعر، وجمال أحمد من السودان، وعائشة بنت الشاطيء من مصر، ومحمد برادي سكرتير رابطة الكتاب في المغرب العربي، وسلمى الجيوسي شاعرة من الأردن "فلسطينية"، وجبرا إبراهيم جبرا، وسيمون جارجي، وألبرت حوراني، ويوسف الخال بوصفه صاحب مجلة شعر، وخليل رامزسركيس، وبدر شاكر السياب، ومحمد الفاسي مدير الجامعات في مراكش، وتوفيق صايغ، وفؤاد كعبازي أديب ليبي ووزير دولة، وجميل صليبا أستاذ في الجامعة السورية، ومحمد عزيز الحبابي، رئيس رابطة الكتاب في المغرب العربي، ونجيب محفوظ، ومحمود المسعدي من تونس، ومحمد مزالي صاحب مجلة الفكر، ومحي الدين محمد من مصر وعيسى الناعوري من الأردن، وجميل حموده رسام عراقي، وعبدو الخولي مراصل المنظمة العالمية لحرية الثقافة في القاهرة، ومحمد صباغ من المغرب، ومولود معمري من الجزائر، وكاتب ياسين من الجزائر، وأسعد رزوق من لبنان. انظر: كتاب الأدب العربي المعاصر أعمال مؤتمر روما 1380 هـ/ 1961 م: ص 24 - 27.

ص: 2200

أعمدة الثقافة العربية آنذاك من كل الاتجاهات، وكان الأسرع إلى خدمتها أقطاب التقليدية، فقدموا لكتبها المترجمة وبحثوا في الموضوعات التي اقترحتها)

(1)

هذا ما قاله صاحب كتاب "بحثًا عن الحداثة".

ثم أضاف قي الهامش: (في إعلان واحد من إعلانات مؤسسة فرنكلين عن مطبوعاتها المترجمة وردت أسماء: طه حسين ومحمد عوض محمد، وسهير القلماوي ولويس عوض، وأحمد زكي أبو شادي، وتوفيق الحكيم، وكانت مهمة بعضهم الترجمة وبعضهم الإشراف والتقديم "الآداب يناير 1955 م"، ويبدو أن نشاط هذه المؤسسة قد امتد إلى بيروت والعراق أيضًا، حيث ورد في مراسلات السياب المنشورة ما يفيد أن يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا كانا من متعهدي توزيع أعمال الترجمة على الأدباء العرب. . .)

(2)

.

6 -

جهات أخرى تمولها المنظمة العالمية لحرية الثقافة التابعة للمخابرات الأمريكية، ذكر مؤلف كتاب "توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى" أسماء جهات غير حوار وشعر تأخذ الدعم من هذه المنظمة وذلك في معرض الدفاع عن الصايغ وحوار ناقلًا الكلام عن توفيق الصائغ نفسه، وقد ذكر أن المنظمة (تتبنى حلقات دراسية دولية ذات أهمية لطبقة المثقفين العرب، ومن بين هذه المؤسسات لجنة التخطيط القومي في الجمهورية العربية المتحدة

(3)

، وجمعية المهندسين المصرية، ومعهد الإدارة العامة بالقاهرة وجامعة الخرطوم)

(4)

.

7 -

أسماء كانت لها علاقة بالمنظمة: ذكر أنسي الحاج في معرض دفاعه عن توفيق صايغ ومجلة حوار ومجلة شعر، بل في دفاعه أيضًا عن

(1)

بحثًا عن الحداثة: ص 38.

(2)

المصدر السابق: ص 56. وانظر: أفق الحداثة وحداثة النمط: ص 56، 76.

(3)

هكذا كان اسم مصر وسوريا لما اتحدتا في زمن عبد الناصر.

(4)

توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفي: ص 149.

ص: 2201

"المنظمة العالمية لحرية الثقافة" ذكر مجموعة من الأسماء الذين كانوا على علاقة بهذه المنظمة، كما ذكر لويس عوض مجموعة أخرى

(1)

وقد أعلنت المنظمة عن اعتزازها باستقطاب الكتاب والمثقفين الحداثيين من جميع الاتجاهات فقالت: (نحن فخورون بأننا قد ساعدنا على إعانة عدد لا يحصى من الأساتذة والكتاب والصحفيين، ومن بينهم السياب وتوفيق صايغ، سواء أكانوا ليبراليين أم محافظين أم اشتراكيين في كفاحهم من أجل حرية التعبير الثقافي في أية بقعة من بقاع الأرض)

(2)

.

ولنا أن نستطلع نتاج هؤلاء الذين كافحوا من أجل حرية التعبير الثقافي كما أرادت "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" لنجد أن نتاجهم مسخر لهدم دين الإسلام ونقض تعاليمه، ومضادة أحكامه وتكذيب أخباره، والسخرية والاستخفات بكل ما له علاقة بالمسلمين من أخلاق وسلوكيات وحياة اجتماعية ومسيرة حضارية تاريخية، ومسخر كذلك -في الوقت نفسه- لبناء الوثنيات الجاهلية، والعقائد الإلحادية، والمذاهب المادية وترويج النظم الغربية من ماركسية إلى وجودية إلى ليبرالية ديمقراطية رأسمالية، وتسويق النمط الغربي في الأخلاق والسلوك والمجتمع.

من هنا فقط كان فخر هذه المنظمة الاستخبارية، واحتفالها ودعمها لهؤلاء الذين ينفذون خططها، أو على الأقل يلتقون معها في هدف واحد، بل ويلتقون حتى مع أضداد هم من اليساريين الماركسيين وغيرهم في غاية واحدة، وهذا ما شهد به أحدهم قائلًا: (إن بعض المثقفين لا يعطون سوى السم في الدسم، باسم التجديد، وباسم الرفض وباسم التقدمية وما إلى ذلك، ومن الغريب أن يلتقي التقدمي مع عميل "منظمة حرية الثقافة" في نفس المنطلقات، فكيف يُمكن أن تكون ماركسيًا، ونفس منطلقاتك هي

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 140 - 142، ومن الأسماء التي ذكراها: محمد مندور وبنت الشاطيء وسهير القلماوي وعبد الرحمن بدوي والسياب وصلاح عبد الصبور وقباني ويوسف غصوب والماغوط وسلمى الخضرا الجيوسي وليلى بعلبكي وغادة السمان ووليد إخلاصي وزكريا تامر وعبد السلام العجيلي ولويس عوض.

(2)

المصدر السابق: ص 150.

ص: 2202

نفس منطلقات جماعة حرية الثقافة التي كانت تصدر "حوار" وسواها؟ عندما كنا نقول: إن "حوار" وجماعتها مخابرات أمريكية كانوا يقولون لنا: لا، أنتم تشتمون العالم، ثم اعترف الرجل نفسه وأغلق مجلته، وقال: أنا كنت مضللًا أو مغررًا به، ولكن أنت الماركسي الذي لا يُمكن أن تكون مع الرأسمالي كيف تكون منطلقاتك الفكرية نفس منطلقات الرأسمالي والاستعماري والرجعي؟)

(1)

.

وليست العمالة والولاء للأعداء مقتصرة على المنظمة المذكورة وفروعها، بل هناك الكثير غيرها، ومما عرف:

• "‌

‌ جماعة إخوان الحرية

":

وكانت في مصر ويرأسها الجاسوس الإنجليزي المحترف "كرستوفر سكيف"، وقد حاكمت الثورة المصرية أعضاء هذه الجماعة باعتبارهم عملاء ومنهم لويس عوض الذي أهدى كتابه "بلوتولند وقصائد أخرى" إلى زعيمه كرستوفر سكيف في سنة 1366 هـ/ 1947 م، وكان سكيف هذا مبشرًا، وكان يقوم في الجامعة بعمل تبشيري وسياسي في آن واحد، ومن أعوانه ناظر المدرسة الخديوية الجاسوس "فرنسيس" وهو أحد مؤسسى جماعة أخوان الحرية، و"دافنيس الأعرج" و"بيفن" وكانوا جميعًا يتظاهرون بالعلم والثقافة، ويستقطبون العملاء لصالح أجهزة المخابرات البريطانية

(2)

.

ولئن ذهبت جماعة أخوان الحرية بذهاب ملك الخديوي فإن ورّاث العرش الملكي البريطاني واصلوا المخطط، فكان لويس عوض العضو القديم في جماعة إخوان الحرية التابعة للمخابرات البريطانية عضوًا جديدًا في المنظمة العالمية لحرية الثقافة التابعة للمخابرات الأمريكية

(3)

.

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 237 والكلام لشفيق الكمالي.

(2)

انظر: أباطيل وأسمار: ص 477 - 478، 506.

(3)

انظر: توفيق صايغ سيرة شاعر ومنفى: ص 154 - 155.

ص: 2203

وقد نشرت جريدة الجزيرة السعودية في صفحة أدب وثقافة ملخصًا لكتاب ألفه الصحفي اليهودي الصهيوني "موسى ايلمون" بعنوان "رحلة إلى مصر" وفيه يقول لويس عوض: (أعتقد أن اللقاء المتجدد بين المصريين والإسرائيليين سيخلق وضعًا ثقافيًا مثيرًا للاهتمام، وكلم أتمنى أن يحدث ذلك مثلما حدث قديمًا قبل خروج اليهود من مصر، إن مصر يجب أن تنفرد حضاريًا، ولذلك فعليها ألا تتجه شرقًا إلى دمشق أو بغداد، ولكن إلى الشمال والغرب حيث أوروبا، إنني لست قوميًا وأفتخر بأنني علماني)

(1)

.

ثم ذكر المؤلف إن مجموعة أدباء مصريين تهافتوا إلى دولة اليهود يتقربون ويتملقون وخص بالذكر توفيق الحكيم

(2)

، علمًا بأن هذا المؤلف اليهودي كان من أبرز السفاحين اليهود، وكان في عام 1367 هـ/ 1948 م ضابطًا في الجيش الإسرائيلي يمارس الذبح والإرهاب على المسلمين كغيره من اليهود المجرمين.

•‌

‌ مؤسسات "ركفلر" اليهودي الأمريكي و"فورد" و"فلبرايت

":

وهي مؤسسات تقدم الدعم للدارسين وللبحوث المتعلقة بالعالم الإسلامي، وبخاصة الدعوات الإسلامية فيه

(3)

، إضافة إلى عنايتها بالمستغربين من أبناء البلاد الإسلامية، وخاصة الذين أعلنوا مواقفهم العلمانية والحداثية المضادة للإسلام أو المشككة فيه.

فها هي مؤسسة "فلبرايت" في القاهرة تستقطب هذه الفئة وتقربها، وتستكتبها وتوظفها، وتغدق عليها ألوان المساعدات المعنوية والمادية، وممن استقطبتهم "فلبرايت" الكاتب الحداثي العلماني نصر حامد أبو زيد، الذي نال الحظوة من هذه المؤسسة وغيرها، ولما قرر الهرب من مصر بعد أن قام بعض الغيورين على دينهم وأمتهم بالمطالبة بمحاكمته، وجد

(1)

و

(2)

جريدة الجزيرة، العدد الصادر في 10/ 3/ 1402 هـ.

(3)

انظر: الغرب في مواجهة الإسلام لمازن مطبقاني: ص 34.

ص: 2204

الأيدي التى تحتضنه والجامعات التي تستقبله من أسبانيا حتى فرنسا ومن أمريكلا حتى هولندا

(1)

.

أمَّا المساعدات المالية لعلاء حامد وأشباهه، فمن أهم المناشط لهذه المؤسسات اليهودية الأمريكية، أضف إلى ذلك الأبحاث المشتراه بل المدفوعة الأتعاب سلفًا، والتي تصب كلها في تسويق الليبرالية الغربية والسلام مع اليهود، وفي التنفير من الإسلام وقضاياه باسم دراسة الإسلام السياسي.

•‌

‌ مجلة الآداب البيروتية:

وهي المجلة التي تبنت العقيدة الوجودية الإلحادية وراحت تدعو إليها وتبشر بها، وتنشر الكتب والقصص الوجودية من سارتر حتى كولن ولسن.

(والملاحظ أن مجلة "الآداب" قد لعبت دورًا في طرح "الالتزام" و"الشعر" و"الثقافة" في إطار الأطروحات الوجودية، وزاد هذا الميل في السنوات اللاحقة بوصف الوجودية أصفى تعبير عن مشكلات الإنسان العربي، وهكذا انعكست الصراعات الحقيقية في الحياة السياسية والاجتماعية على بنية الكتابة، ولم يبق إلَّا خطوة وتصل الصيغة الوجودية حركة الشعر العربي المعاصر بالصيغة "الأسطورية" التي تبنتها مجلة أخرى، وفي سياق آخر، تلك هي مجلة "شعر" التي قادت الصيغة الوجودية إلى نهايتا المنطقية أي إلى المفهوم الميتاقيزيقي للشعر)

(2)

(3)

.

إذن فقد التقت مجلة آداب مع مجلة شعر في صيغة واحدة، وإن كانتا في الظاهر تعلنان العداوة.

ويكفي في الدلالة على مسلكها التآمري المضاد للأمة والدين أنها تبنت

(1)

وممن يتلقى الدعم من "فولبرايت" الباحث العلماني عاطف العراقي وغيره كثير.

(2)

هذا المفهوم الذي نجدهم من خلاله يجعلون الحداثة ديانة مقدسة، والشاعر نبي والإبداع وحي، والمبدع إله، وقد سبق بيان هذا في الفصول المختصة بالألوهية والنبوة.

(3)

بحثًا عن الحداثة: ص 36 - 37.

ص: 2205

"الوجودية" المادية الإلحادية، وروجت لأبشع أنواع الفساد الاعتقادي والاجتماعي، من خلال الدعوة إلى هذه العقيدة الوجودية الإلحادية، ونشر نتاج أصحابها، وصناعة نجوم من المنبهرين والمقلدين لهذه العقيدة الإلحادية.

ومع كل ذلك ودلالته على البراء من الأمة والولاء لأعدائها، فإننا نجد أن أحد أعلام الحداثة يؤكد هذا المعنى حيث وصف هذه المجلة وأصحابها بالعمل في خدمة الاستعمار.

جاء في مجلة الآداب نفسها أن (الأستاذ عبد الوهاب البياتي اتهم مجلة الآداب بالعمل في خدمة الاستعمار، وستقيم عليه الآداب دعوى قدح وذم لدى المحاكم العراقية. . .)

(1)

.

وتلك تهمة لم يبرأ منها البياتي فقد كان هو بعقيدة الشيوعية وانتمائه الماركسي يمارس الدور نفسه ولكن لصالح الاتحاد السوفيتي والأممية الشيوعية العالمية.

ومما يؤسف له أن نجد بعض الناس يثني على مجلة الآداب وعلى رئيس تحريرها، ويشيد بدورهم في كشف خيانة أعداء الأمة العربية والإسلامية

(2)

!!، بل يقول بصريح العبارة: (وأنتم تعلمون أنه بانتهاء الأمجاد الرومانسية ممثلة في توقف مجلة الرسالة -إذ أدت هذه المدرسة دورها- قامت مجلة الآداب وعمدتها المثقف الفذ سهيل إدريس لترعى أدب الحداثة بكل أجناسها.

ولست أقول أن مجلة الآداب تمثل خطًا إسلاميًا ملتزمًا، فالمفكر المسلم غائب عن أدب الحداثة.

وإنّما أقول إنها صاحبة موقف عربي ووطني، وما وقعت فيه من حماقات الوجودية إنَّما هو اجتهادات خاطيء، وليس عمالة ومؤامرة وقحة.

(1)

المصدر السابق: ص 55 نقلًا عن مجلة الآداب، عدد آب 1954 م: ص 71.

(2)

انظر: كتاب القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز لأبي عبد الرحمن الظاهري: ص 133.

ص: 2206

وهي ذات الفضل في بلورة أدب الحداثة من منطلق النظرية الفنية.

بيد أن مجلة شعر -رغم قصر عمرها- استطاعت أن تسحب البساط من تحت سهيل إدريس وتفقده أهم جمهوره، ذلك أن سهيلًا ومجلته يعملان بإخلاص للنظرية، وأولئك قوى تدعمها المؤسسات الأجنبية والقوى المعادية. . . ويكفى سهيلًا ومجلته أنه أول المنتبهين للمفسدين في شعر وحوار ومواقف)

(1)

.

وهذا القائل يعلم قبل غيره أن مجلة الآداب ورئيس تحريرها قامت على العقيدة الوجودية المتفرعة عن الإلحاد، ويكفي انسلاخها عن الإسلام في الحكم عليها، فكيف وقد أضافت إليه الدعوة إلى الإلحاد وأنواع الضلالات؟!.

فلماذا هذا التهوين والتسويغ والقول بأنها "حماقات وجودية جاءت من اجتهاد خاطيء"؟.

أي اجتهاد في نقض الإسلام وبناء الكفر؟، أليس هذا التلطيف لهذه الجرائم البشعة من خيانة اللَّه ورسوله وخيانة الأمانة ومخادعة الأمة؟.

لو أن شخصًا اعتدى على هذا الكاتب ثم جاء يشتكيه ويحاكمه إلى آخر، فأخذ هذا يثني على سمت المعتدي وحسن بزته، وجمال طلعته ويقول إن ما وقع فيه من حماقات بالاعتداء على فلان إنَّما هو اجتهاد خاطيء.

أيرضى الكاتب بهذا الحكم؟.

أمَّا زعمه أن هذه الحماقات الوجودية ليست عمالة ولا مؤامرة فيكذبه منزع هذا المذهب ومورده، واتجاهاته الاعتقادية والاجتماعية والسياسية،

(1)

المصدر السابق: ص 149 - 150.

ص: 2207

وشخصيات أصحابه، ثم يكذبه القول الذي نقلناه آنفًا عن البياتي وهو حداثي أعرف بأصحابه وزملائه وأهل ملته.

أمّا ثناؤه على موقفها من عصابة شعر وحوار ومواقف، فيمكن النظر إليه من خلال الصراع المماثل بل والأكبر الذي كان بين الرأسمالية والشيوعية وأذيالهما في سائر البلدان.

فهل أصبح الشيوعيون في قائمة الإخلاص والنزاهة؛ لأنهم فضحوا مخططات خصومهم الرأسمالية؟، وهل أضحى الليبراليون في القائمة نفسها؛ لأنهم كشفوا مثالب وعيوب الشيوعيين؟.

إن طبيعة الباطل أنه ومنطقه على منوال ما أخبر اللَّه سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}

(1)

.

فلماذا يا أهل الإسلام تعطون الدنية في دينكم؟ ولماذا تشاركون ولو بشطر كلمة في تأييد الكفر وملله؟، ألم تقرأوا قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}

(2)

.

ولماذا هذا التدليس الخطير على الأمة بالثناء العاطر على رموز الردة والإلحاد والإدلاء بشهادات التبرئة لهم من العمالة والخيانة؟.

أليس من الجدير أن يعظ هذا المؤلف نفسه بأقوال أشياخ لهم في باب الولاء والبراء لسان صدق عالي الذكر؟، وهو القائل: (وليس من شيمة العربي أن تتجاذبه الظنون نتيجة أحداث تاريخية مضللة ثم قد يموت ولم يدرك سر هذه الأحداث.

(1)

الآية 113 من سورة البقرة.

(2)

الآية 22 من سورة المجادلة.

ص: 2208

إن الأحداث - منذ وجدت الكواليس تظل رؤيتها معتمة، ولا يُعرف تأويلها إلَّا بعد عقد أو عقدين أو ثلاثة.

بل أقرب من ذلك تصفيق ذوي الغيرة الإسلامية - منذ أحمد شوقي للطاغية الماسوني مصطفى كمال يظنون أنه نصير الإسلام ولم يندموا إلَّا بعد إعلانه العلمانية

(1)

، فهؤلاء خدعتهم الأحداث السريعة المضللة؛ لأن بواعث الحدث التي صنعها سفلة الدونمة من يهود أسبانيا لم تكن على بالهم.

أمَّا اشتراط المنقاش والمبضع فيفرضه واقع التناقضات لقراءة الفكر في هذين القرنين.

سيرى القارئ بالمنقاش أن معظم الحركات الإصلاحية في الأدب والفكر والسياسة ذات انتماء سياسي، ومجمع سري منذ محفل إيزيس إلى محفل مصر الفتاة إلى محفل الأفغاني كوكب الشرق وإلى أن يشاء اللَّه، وسيرى أن الغلبة لهذه الحركات في الواقع المعاش، وسيرى أنها تتنافى مع ثوابته الفكرية فضلًا عن منافاتها لأعراف مجده التاريخي، وسيرى في أقزام هذين العصرين الذين خرقت شهرتهم الآفاق من هو من غير أبناء مجدنا. . حابانا بدعاية القومية والوطنية وهو عدو لتاريخنا بكل أمجاده، وفيهم أكثر من وجه قبيح مغرر به، وفيهم كثيرون لم يخفوا طائفيتهم، وإذا علمت أن المروج للدعاية الفكرية مدان -فضلًا عن كونه متهمًا- فذلك أحرى؛ لأن تحاكم دعايته بإيجابيات فكرية، وسيرى أن هذه الحركات ذات الغلبة لم تسفر عن خير لا في التصور ولا في السلوك، وسيرى أن الساحة خالية بإطلاق من اختلاف -أو مجرد حوار- في كيفية صنع إبرة. . .

رأيت أحد حاخامات الأدب الحديث في بلادي -من الأميين في ثقافتهم التافهين في تفكيرهم- لا يؤمن بشيء من علوم الآخرة والدنيا إلَّا

(1)

فكيف يكون حال من اعتذر وأثنى على طغاة الوجودية وقد أعلنوا وجوديتهم من أول أمرهم؟!.

ص: 2209

بقصيدة التفعيلة والمزيد من القصة والرواية والمسرحية والموسيقى واللوحة التشكيلية والغرق في شهوات الإحساس الفني!، ولم يدر هذا المسكين أن هذه الفنون وسائل إيحاء وتسويل جمالي تحتاجها الأمة فنًا ملتزمًا بعد إرساء واقعها من قيمتي الحق والخير!)

(1)

.

لقد صدق غاية الصدق وأجاد غاية الجودة في هذا الوصف، فيا ليته لم يستثن مجلة الآداب ولا البياتي ولا عبد الصبور ولا عبد المعطي حجازي

(2)

؛ لأن الجميع ضمن إطار وضعه الذي ذكر وإن كانوا على درجات في ذلك "ليسوا سواء".

•‌

‌ الجوائز الأدبية والثقافية:

لقد اتخذ أعداء الإسلام وسائل عديدة لاجتذاب ذوي القلوب المريضة من الذين يسارعون فيهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، ومن الذين يطلبون رضى الناس، بل رضى شر الناس.

وكان من أبرز وسائلهم إعطاء الجوائز ومنحها لاستقطاب بعض، واستهواء قلوب تتطلع إلى نيل ما نال غيرها.

وقد أحيطت هذه الجوائز بهالات الدعاية، وبهارج التزويق فأصبح الحصول عليها أمنية الأمنيات وغاية الغابات، عند من خف ميزانهم، وضعف إيقانهم باللَّه وبدينه، ومن أشهر الجوائز أظهرها "جائزة نوبل" التي يسيطر عليها ويوجهها زمرة من اليهود بل من الصهاينة.

وكان من آخر الأحداث الأدبية التي ضجت بها وسائل الإعلام نيل نجيب محفوظ لهذه الجائزة.

فقد اعتبرها المصفقون في مدرجات العبث والضياع قفزة إلى العالمية،

(1)

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: ص 173 - 175.

(2)

انظر هذه الاستثناءات الإطرائية في: المصدر السابق: ص 149 - 154.

ص: 2210

وتنافسوا في إطراء الجائزة وصاحبها، وكان الأمة قد نالت نواصي العزة والتمكين لما حصل أحد القصاصين على جائزة يهودية!!.

لقد تراقص العلمانيون والحداثيون والفارغون فرحًا على دقات طبل "نوبل" وفرحوا بالجائزة التي "جعلت أدب العرب في مصاف الآداب العالمية!! " فرح الجعل بدحروجته فهل كانت الجائزة بريئة المقصد، أم أنها كغيرها من الجمعيات والمنظمات الثقافية والأدبية والفكرية الغربية لها وجهان ظاهره العلم والثقافة، وباطنه العمالة والفساد؟، وقد رصد الدكتور السيد أحمد فرج تفصيلات هذه القضية من بداية نجيب محفوظ حتى حصوله على جائزة نوبل، وقد أجاد في رصد "ظاهرة نجيب محفوظ" وحيثيات نيله هذه الجائزة.

وسوف أحاول هنا تلخيص أبرز ما ذكر مما له علاقة بهذا الموضوع:

أ) - بداية نجيب محفوظ: (قيل إن الذي اكتشف نجيب محفوظ ولفت الأنظار إليه هو المستشرق المبشر "جومييه" راهب دير الدمنيكان بحي العباسية بالقاهرة، ويؤكد رشيد الزواوي في كتابه: "أحاديث في الأدب" أنه بعد ظهور الثلاثية بدأ الناس يقرون بموهبة نجيب محفوظ، خاصة إثر المقال الذي كتبه الأب جومييه، فقد أحس هذا الراهب بذوقه الناقد أن فنًا جديدًا يولد في مصر، فكتب مقالًا عن الملحمة الروائية الجديدة لنجيب محفوظ بالفرنسية، ويقرأ طه حسين المقال، ويبادر بقراءة نجيب محفوظ، ويهتم به اهتمامًا خاصًا، ويكشف عن أن فن الرواية الأدبية قد بدأ يظهر في الساحة الأدبية على يد الروائي نجيب محفوظ)

(1)

.

ب) - كان محفوظ وفديًا ثم تحول إلى اليسار الوفدي ثم بعد الثورة إلى الاشتراكية العلمية، ليصبح من غلاة التيار الاشتراكي أيام عبد الناصر، وفي تلك الفترة (برز بأهم نتاجه في عمل أرضى الزعيم. . . وهو عمل إبداعي شيطاني لم يسبق له مثيل في أي عمل أدبي من آداب الأمم قاطبة

(1)

أدب نجيب محفوظ: ص 47 - 48.

ص: 2211

سواء كانت متدنية أو علمانية ملحدة، وأطلق عليه "أولاد حارتنا" نشر مسلسلًا في أكبر جريدة تنطق بلسان الحكومة هي جريدة الأهرام في نوفمبر وديسمبر سنة 1959 م)

(1)

.

جـ) - بدأ نجيب محفوظ غزله مع اليهود منذ كتب "خان الخليلي" أي منذ عام 1365 هـ/ 1946 م ومنحوه رضاهم قبل أن يمنح الجائزة، بدأ الغزل مع اليهود من قبل أن يقوم كيانهم الخبيث في بلاد المسلمين فلسطين، وفي عهد السادات تحول الغزل إلى صبابة، فصارح الرئيس باهمية الصلح مع اليهود

(2)

.

ومن إعجابه باليهود واهتمامه بهم إيراده لهم في رواياته في صورة جذابة طيبة ذكية وجميلة، كل ذلك في رواياته من "خان الخليلي" حتى "المرايا" حتى "زقاق المدق" حتى "الحب تحت المطر" و"قلب الليل"

(3)

.

د) - مبادرة نجيب محفوظ للتطبيع مع اليهود، حيث أكد أنه هو صاحب المبادرة وأن السادات تبعه في ذلك، وإقراره بدوره في مشووع إرضاء الصهيونية هو أحد أكبر العوامل لنيله جائزة نوبل.

يقول نجيب محفوظ: (في أعقاب نكسة 1967 م جمع د. ثروت عكاشة "وزير الثقافة حينذاك" بعض المثقفين، وأصحاب الرأي لتبادل الأفكار وكان رأيي الذي أعلنته وقتها ضرورة العودة إلى الديمقراطية تمهيدًا للتفاوض مع إسرائيل ثم ناديت بالسلام مع إسرائيل بجريدة الأهرام، حضرها العقيد القذافي في أواخر 1970 م في بداية حكم السادات)

(4)

.

(وكان في خلال أحاديثه الضحفية لا يفتأ يعيد إلى ذاكرة من يهمهم الأمر موافقته للصلح مع إسرائيل، والصداقة معها، وإذا أدلى

(1)

المصدر السابق: ص 48 - 49.

(2)

انظر: المصدر السابق: ص 50 - 51.

(3)

انظر: المصدر السابق: ص 65 - 69 حيث ذكر المؤلف شواهد من كلامه.

(4)

المصدر السابق: ص 63 نقلًا عن مجلة الشباب عدد مارس 1989 م: ص 7 - 8.

ص: 2212

بحديث صحافي حشر فيه حديث مقاطعة الدول العربية لرواياته من أجل صداقته لليهود، ثم يفصل سبب المقاطعة كأن يقول:"في أول عهد السادات جاء القذافي إلى جريدة الأهرام وسألنا ماذا نفعل أمام الاحتلال "نعمل إيه في هذا الوضع" قلت: نحارب، قال: "مش ممكن"، قلت: نفاوض، أيدني توفيق الحكيم وحسين فوزي، أما حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام فقد غير الموضوع، وأذكر أن القذافي لم يوافق، وفي عام 1975 م قلت في حديثي لجريدة القبس الكويتية: "إنني ضد اللاسلم واللاحرب لأنها حالة تستنزفنا، وأن المفاوضة هي مواجهة الموقف بواقعية، ولم يكن السادات في ذلك الوقت قد فكر في المبادرة، والعجيب أن السادات كان يهاجمنا قبل المبادرة، ويعد المبادرة قال: إننا نؤيده. . . السلام بيننا وبين إسرائيل شيء مفروغ منه، وتستطيع من خلاله أن نلعب دورًا لمصلحة فلسطين عن طريق السلام لا الحرب)

(1)

.

هـ) - نجيب محفوظ قبل الجائزة.

يدرك نجيب محفوظ أن الجوائز عمومًا لها أهداف، وأن جائزة نوبل خاصة لها غايات خاصة، ولها سمة يهودية أشد خصوصًا.

يقول نجيب محفوظ في وضوح وصراحة: (ما من جائزة إلَّا ومن ورائها شروط ما؛ لأنه لا يُمكن أن أرصد مالي لجائزة إلَّا وعندي هدف، أنا أعمل جائزة ألف جنيه لقصة فيكون وراءها سؤال، أي نوع من القصة؟ وإلّا فلماذا أرصدها؟ لهدف سياسي، لسبب ديني، أو لسبب اجتماعي، وجائزة نوبل تعبر عن قيم الحضارة الغربية، ويوم أن منحت لمنشق روسي، لم تكن تكيد لروسيا، وإنَّما اعتبرت أن الشيوعية هدم لقيم الحضارة الغربية الأصلية، وعندما أخذ أحد الكتاب منها موقفًا واحتج عليها شجعته لأنها تشجع قيمها)

(2)

.

(1)

المصدر السابق: ص 63 - 64.

(2)

المصدر السابق: ص 60. والكلام قاله نجيب محفوظ في مجلة المصور ونقله محمد =

ص: 2213

إذن نجيب محفوظ يعرف الغايات السياسية والثقافية من وراء جائزة نوبل.

وعلى ذلك -ولسبب يعرفه هو، أو تقتضيه المرحلة- فقد أعلن بأنه (لو قدر ومنح هذه الجائزة فسيرفضها)

(1)

.

ولما أجرى أحد الصحفيين معه حوارًا في هذا الشأن اعتبر الجائزة والفرح بها واللهاث خلفها من علامات القصور!!، سأله الصحفي قائلًا:(لم ينل الأدب العربي جائزة نوبل حتى الآن هل ترد ذلك إلى قصور في جهود الترجمة، أم أن هناك العوامل السياسية التي تتدخل، ولا تجعل تلك الجائزة مقياسًا للأدب؟ فأجاب نجيب قائلًا: هذا سؤال مهم، فأنا لم أفكر أبدًا فى جائزة نوبل، وأعجب كيف أننا نشغل بالنا ليل نهار بهذه الجائزة، وكأننا لم نكتب أدبًا، أو لن يكون لنا أدب إذا لم نفز بها، وهو أمر مخجل يعكس عدم الثقة بالنفس، والنظر إلى تراثنا الأدبي الهائل على أنه قليل القيمة، مع أنه ليس كذلك أبدًا، لا ينبغي أن نشغل أنفسنا بتلك الجائزة أفرادًا ومجتمعًا فهي ليست جوازًا للمرور إلى عالمية الأدب وليست مقياسًا للأدب الجيد)

(2)

.

وفي كتاب "على نار هادئة" سأله مؤلفه: (إذا منحت لك جائزة نوبل هل سترفضها مثلما فعل سارتر؟ فأجاب نجيب محفوظ: نعم سأرفض هذه الجائزة لو منحوني إياها، لأن البعض اعتقد أنني أدعو إلى السلام وكامب ديفيد من أجل الحصول على جائزة نوبل التي تسيطر عليها الصهيونية العالمية، وأضاف إنني أدعو إلى السلام في نظر هؤلاء لكي أحظى برضا تلك المنظمات التي تتحكم في منح الجائزة لمن تريد، لهذا فإنني سأرفض

= مورو في مجلة العالم الإسلامي الأسبوعية، عدد يناير 1989 م/ 1409 هـ: ص 51.

(1)

المصدر السابق: ص 58.

(2)

نشرت هذه المقابلة مجلة الكويت في العدد 77 جمادى الأولى 1409 هـ يناير 1989 م: ص 48، ونشر في الشرق الأوسط في 24/ 12/ 1987 م/ 1407 هـ، ونقلت ذلك من كتاب أدب نجيب محفوظ: ص 126.

ص: 2214

جائزة نوبل لو منحت لي بالفعل لأنني في الحقيقة غني عن رضا الصهيونية. . . إن هذه الجائزة ككل جائزة تقوم على أساسين: الأساس الأول: عمل يشترط فيه درجة من التفوق، الأساس الثاني: تحقيق مضمون معين لا يخلو من خط سياسي بالمعنى العام. . .)

(1)

.

و) - منح جائزة نوبل لنجيب محفوظ:

ولكن كل الكلام السابق ذهب أدراج الرياح فبمجرد أن منح الجائزة طار بها فرحًا وأعلن مباشرة قبوله بها وافتخاره بالثقة الكريمة!! واعتبر ذلك اعترافًا بعالمية الأدب العربي!!.

وإذا أخذنا في الاعتبار الغزل لليهود المنسوج بهدوء في روايات نجيب محفوظ ثم مبادرة الصلح مع اليهود، فإننا سنجد المبرر الكافي لرضا أصحاب جائزة نوبل، الذين ذكر نجيب محفوظ أنهم تسيطر عليهم الصهيونية العالمية.

غير أن ذلك وحده ليس كافيًا في إعطائه الجائزة، وإن كان ذا أثر كبير، واعتبار أكبر عند يهود جائزة نوبل.

ولكن هناك السبب الآخر الذي لا يقل أهمية عن سابقه وقد أشار إليه نجيب محفوظ حين بين أن أحد أسس منح الجائزة أن تكون الأعمال محققه لمضمون معين، فما المضمون الذي دارت عليه كتابات نجيب محفوظ لينال من خلالها جائزة نوبل؟.

لقد كرس نجيب محفوظ كل أعماله الروائية لقلب المعايير الثابتة في المجتمع المسلم، وزعزعة أركان التدين والعبادة والأخلاق والقيم.

فقد أفشى -من خلال رواياته- في المجتمع المسلم جرأة خبيثة في الشك في الدين والسخرية باللَّه تعالى ورسله، وأفشى قيمًا أخلاقية يحرص كل عدو للإسلام والمسلمين على انتشارها في المجتمع المسلم ليضعف ويتفكك.

(1)

المصدر السابق: ص 59.

ص: 2215

أثار الإلحاد تحت أسئلة الشك والريب التي تبدو في ظاهرها بريئة وساذجة، وأثار أمور الجنس بصورة تجعل الفاحشة هينة بسيطة، وتسوغ تعاطي الجنس كالماء والهواء، وتسوغ شرب الخمر والحشيش والرذائل الخلقية

(1)

.

وضع نجيب محفوظ كل هذه القضايا وغيرها على لسان شخصيات رواياته، ونطق هو بها ولكن من خلف أقنعة هذه الشخصيات التي تبدو أنها لا تفرض رأيها، وأنها مجرد صور لبعض حالات موجودة في المجتمع، ولكن القارئ يخرج منها وقد اشتعلت في ذهنه أسئلة الشك، والتهب في قلبه جحيم الجنس إلّا من عصم اللَّه.

لقد حقق نجيب محفوظ الشرط الثاني لنيل الجائزة، وهو ربط المجتمع والأمة بالقيم والأفكار والعقائد الغربية، وبذلك رضي عنه اليهود والنصارى.

بيد أن أهم عمل أشارت إليه لجنة جائزة نوبل هو روايته "أولاد حارتنا" التي هي نفثة سم زعاف من صدر مريض، وعقل خرب، وقلب مليء بالحقد على الإسلام والمسلمين.

إن الروائي يدس فكره بين شخصيات روايته، ويوصل رأيه من خلال الحوارات والمواقف العديدة. يقول نجيب محفوظ في هذا الصدد:(إن الأديب يختار شخصياته لأنه وجدها صالحة للتعبير عن شيء ما في نفسه، كان يجدد شخصية تتسم بالضياع، وكان الأديب وقتها يشعر بالضياع أو شخصية ثائر وكان وقتها يعاني من ثورة مكبوتة. . .، المهم أن الرواية ككل يجب أن تعبر عن وجهة نظري)

(2)

.

لقد قرر نجيب في رواية أولاد حارتنا أن يسلك مسلك نيتشه الذي

(1)

انظر: المصدر السابق: ص 51.

(2)

مجلة الشباب، عدد إبريل 1989 م/ 1409 هـ: ص 22 و 23 نقلًا عن أدب نجيب محفوظ: ص 56.

ص: 2216

دعا إلى موت الإله حسب عقله المخبول! جعل "الجبلاوي" كبير الحارة رمزًا عن اللَّه تعالى، و"جبل" أحد الحواة الذين يلعبون بالثعابين "موسى" عليه الصلاة والسلام، وصور رفاعة "عيسى" كواحد من المعتوهين، وجعل قاسم في دور رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجعله مدمن خمر وحشيش وزير نساء وتدور الرواية وأحداثها في دائرة استخفاف وسخرية باللَّه تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

أي أن الرواية التي ذكرت في حيثيات نيله لجائزة نوبل تعلن الحرب على الإيمان، وتعلن الإلحاد بصورة سافرة، فقد نال نجيب رضا عصابة "نوبل" من اليهود وأذيالهم من الوجهتين السياسية والفكرية.

وقد ترجمت روايته "أولاد حارتنا" إلى اللغة السويدية بعنوان "موت الإله" وجاء في تقرير لجنة منح الجائزة بالأكاديمية السويدية على لسان "ستوري ألن""سكرتير الأكاديمية" وهو -أي نجيب محفوظ- يتحمل مسؤولية موت "الجبلاوي" أي الإله)

(1)

.

وقد شهد مجموعة من الكتاب بالمرمى السياسي والفكري من وراء منح نجيب هذه الجائزة.

فقد عقدت مجلة الأزمنة البيروتية ندوة حول ظروف منح الجائزة لنجيب محفوظ، ومما جاء فيها: (إن جائزة نوبل تمثل الرؤية الغربية، ولا يُمكن أن نتخيل كاتبًا عربيًا على صراع ضد الإسرائيليين، مستمرًا في صراعه معهم يحصل على الجائزة؛ لأن هذا لا يتفق مع التصور الغربي للأمور، ولا أستبعد أن يكون للجنة هذه الجائزة جهاز استخبارات خاص، فقد قررت سنة 1972 م منح الكاتب الأرجنتيني "جورجي لويس بورجنس" الجائزة لكنه حرم منها قبل أسبوع واحد من إعلانها لسبب غريب هو أنه يحابي ذكر الزعيم الفاشي موسوليني، ويتحدث عنه بعطف شديد فحرم الجائزة إلى الأبد، والكاتب الإسرائيلي المجهول "عجنون" ينالها، ولم تكن

(1)

المصدر السابق: ص 123.

ص: 2217

له أعمال ذات قيمة، ولم تكن له كتب مترجمة إلى لغات أخرى)

(1)

.

(إن العامل السياسي لعب دوره في قضية منح نجيب محفوظ الجائزة، فقد ظهر نجيب محفوظ على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، وأعطى مقابلات لنقاد وأدباء وصحافيين إسرائيليين، وهذا ما جعله أقرب إلى مفهوم الغربيين من غيره من الأدباء، كما أن الرئيس أنور السادات أقرب إلى الغربيين من الرئيس عبد الناصر للسبب نفسه، أنا أدخل العامل السياسي، وأراه مباشرًا، إنه صار إسرائيليًا في نظرته السياسية، أو تجنس إسرائيليًا)

(2)

.

وأخيرًا أنقل كلامًا لأحد اليهود قاله في ندوة عقدت في جامعة تل أبيب في 19/ 12/ 1980 م/ 1400 هـ حول دعم "علاقة السلام" بين مصر وإسرائيل وشارك في الندوة مصطفى خليل رئيس وزراء مصر في نظام السادات، وبطرس غالي وزير خارجيته ومجموعة من أساتذة جامعة تل أبيب اليهود، ومنهم البروفسور "ساسون سوميخ" الذي قال:(أثناء زيارتي لجامعة عين شمس في مصر ساءني جدًا أن أجد مكتبتها مليئة بالكتب التي ألفها متعصبون من الإخوان المسلمين ضد اليهود، ولكن الذي آلمني أكثر أنني وجدت هذه الكتب تباع في المكتبات وأكشاك الصحف بحرية تامة، وإنني لا أعتب على أدباء مصر الذين يعطفون على إسرائيل كالحكيم ومحفوظ إذا لم يفعلا شيئًا لمنع هذه الكتب المناهضة لإسرائيل، لأنني أعلم أنهما لا يستطيعان ذلك. . .)

(3)

.

فهل بعد ذلك من قول في مدى عمق الولاية من هذه الفئة لأعداء الإسلام؟.

وهل من شك في أن جائزة نوبل، لا تعطى إلَّا لمن رضيت عنه المجامع اليهودية والصهيونية على وجه الخصوص؟.

(1)

مجلة الأزمنة، العدد 15 في مارس وإبريل 1989 م/ 1409 هـ: ص 72 - 73. والكلام لعلي شلش، نقلًا عن كتاب أدب نجيب محفوظ: ص 62 - 63.

(2)

المصدر السابق. والكلام لعيسى بلاطه أستاذ الأدب العربي في جامعة ماكفيل بكندا.

(3)

عداء اليهود للحركة الإسلامية لزياد محمود علي: ص 97 - 98.

ص: 2218

ومع جلاء هذه الحقيقة حتى لنجيب محفوظ فإن الملاحق الثقافية والفنية ما فتئت تبكي على عدم وصول الجائزة -قبل نجيب- لمن يستحقها.

ففي ملحق الحياة الثقافية في مجلة اقرأ عنوان "هكذا تصل الجوائز إلى الذين لا يستحقونها" وتحته ما يلي: (جائزة نوبل لا تعترف بالمبدعين العرب، وبعيدًا عن أي ظلال قومية أو وجدانية، فإن نقادًا عالميين يعترفون الآن بعالمية، عدد من الكتاب العرب، ومع ذلك فلا تزال أسماء مثل نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وأدونيس بعيدة عن التكريم. . . أبواب نوبل مقفلة أمام العرب، ولكن من تراه يكتب تلك التقارير النقدية التي تشكل الطريق إلى الاختيار؟ ذات يوم كتبت إحدى المجلات الفرنسية الأدبية تقول: "هل يوجد حقًا وراء أعضاء الأكاديمية السويدية رجال مقنعون، يحملون مسدسات مجهزة بكاتم للصوت هم الذين يختارون الرجل الذي يتربع على عرش الأدب لمدة عام كامل؟ " كثيرون في العالم الثالث قالوا إن أجهزة استخبارات وعلى رأسها الـ "سي. آي. إي" بالطبع تشارك في الاختيار، لكن هذا ظل مجرد كلام وإن كان واضحًا، إن للاختيار دائمًا ظلالًا سياسية مقنعة)

(1)

.

وفي ملحق آخر يتباكى أصحاب الملحق على عدم منح الجائزة لكتاب وأدباء عرب، تحت عنوان "أسئلة حول ترشيح الحبابي لجائزة نوبل، ومشكلات الكتابة بالفرنسية)

(2)

.

فإذا كان هذا الكلام عن جائزة نوبل والعداء -آنذاك- معلن ضد اليهود والصهيونية، فماذا تتوقع منهم اليوم، وموائد السلام تبسط، والأكلة على قصعتها من كل المذاهب والمناهج الحداثية والعلمانية.

(1)

مجلة اقرأ، العدد 590 في 13/ 2/ 1407 هـ ص 36.

(2)

جريدة الرياض، العدد 7095 في 5/ 2/ 1408 هـ.

ص: 2219

•‌

‌ جائزة الإبداع الأدبي في إسرائيل:

وهي جائزة لا غبار على توجهها السياسي والثقافي، وقد منحت في سنة 1412 هـ للحداثي الفلسطيني النصراني "أميل حبيبي" الذي قال بعد إعلان ترشيحه للجائزة:(أشكر أعضاء لجنة التحكيم ذوي الحيثية الأدبية والعلمية المرموقة، على قرارهم منحي جائزة الإبداع الأدبي في إسرائيل، وأقدر وزير الثقافة زبلون هامر على قيامه بتبليغي بالجائزة شخصيًا)

(1)

.

وكلمات الفرح والشكر هذه لم يكتبها يهودي أو أمريكي، وإنَّما حداثي عربي له عند الحداثيين العرب المقام الرفيع، إنه أميل حبيبي الذي يقول عنه إسحاق الشيخ يعقوب في ملحق الثقافة في جريدة عكاظ: (. . . اختار لنفسه البقاء والتشبث بالأرض

(2)

عندما أدبر الكثيرون من بني جلدته، وانخرط في نار المعركة، وصلب قلبه على عوسجة رعناء، وتنسم عطر الأرض، وأعطى ولا يزال يعطي من نزيف قلبه وملكوت خطاباته المفعمة بالطيبة، الشامخة في الوطنية، المشبوبة على عزة النفس، وقسم الحياة الحرة الكريمة، تلكم الخطابات التي لم تنل من شرف وطنيتها جزمة جلواز ولا سلطان مال ولا جاه محتل، عرفته المحافل الثقافية والأدبية كأحد الروائيين المبدعين المرموقين الذين ينفردون بحضور أدبي وخصوصيات جديرة بالدراسة والتدقيق. . . هذا الكاتب الفلسطيني الكبير المناضل الجسور ضد الصهيونية)

(3)

.

كل هذه المدائح الكاذبة المغالطة للواقع، القالبة للحقائق، سردها هذا الكاتب، والظاهر أنه من منطلق اجتماعه مع أميل حبيبي في "الواقعية الاجتماعية" والنظرة الديالكتيكية للأمور، وهو الكاتب الذي نعى على تركي الحمد تركه لهذا الاتجاه وتحوله إلى الاتجاه الليبرالي الغربي.

(1)

جريدة المسلمون في تاريخ 1/ 10/ 1412 هـ.

(2)

إشارة إلى بقاء أميل حبيبي في فلسطين وحصوله على الجنسية الإسرائيلية!!.

(3)

جريدة عكاظ، العدد 8488 في 10/ 3/ 1410 هـ - 1989 م: ص 11.

ص: 2220

قال هذا الكاتب هذه الأقوال عندما ذهب أميل حبيبي إلى مؤتمر في "عشق آباد" عاصمة تركمانستان قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث التقى هناك ببقايا الشيوعيين والماركسيين واليساريين العرب، لترميم ما يُمكن ترميمه من الرداء الماركسي المهتريء، وفي المؤتمر قال أميل حبيبي كلمته الصهيونية:(فلتكفوا أيها العرب عن التدخل في القضية الفلسطينية)

(1)

.

وقد اعتبر هذا الكاتب المدافع والمبجل لأميل حبيبي أن النقد الذي وجه إليه إنَّما هو (تكريس للنزعة الشوفينية)

(2)

.

وهي من العبارات المستهلكة التي طالما رددها الماركسيون.

وهذا المديح والإطراء الزائد يدلنا على نوعية من الاحتفاء الحداثي، حتى ولو كان في الأمر قلب كامل للحقائق، فمن هو أميل حبيبي هذا؟.

لقد استنكر بعض الكتاب العرب قبوله لهذه الجائزة اليهودية التي لا تمنح إلَّا لشخص قدم لدولة اليهود الخدمات الكبيرة، وطالب بعضهم بمراجعة "حبيبي" لموقفه قبل أن يستلم الجائزة من وزير الثقافة الإسرائيلي في 15 مايو 1993 م/ 1413 هـ، الذي يوافق مرور أربعة وأربعين عامًا على اغتصاب اليهود لأرض الإسراء.

ولكن الذين يعرفون أميل حبيبي تمام المعرفة لم يفاجأوا بأخذه للجائزة، التي تعتبر اعترافًا من اليهود بفضل من ينالها، وتتويجًا منهم لهذا الرجل الذي بذل في خدمة اليهود ودولتهم أكثر عمره، ابتداءً بقبوله الطوعي للجنسية الإسرائيلية، ودخوله الكنيست عضوًا ممثلًا للحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح"، وانتهاءً بدعواته المتواصلة للاعتراف بإسرائيل والتعايش السلمي معها وتطبيع العلاقات معها والحياة تحت ظل حكم اليهود

(3)

.

وقبوله لهذه الجائزة ما هو إلَّا حلقة من حلقات التآمر والعمالة والولاء

(1)

و

(2)

جريدة عكاظ، العدد 8488 في 10/ 3/ 1410 هـ - 1989 م: ص 11.

(3)

انظر: رأيهم في الإسلام: ص 37 - 47، ومقال الأستاذ بكر بصفر في جريدة المسلمون 1/ 10/ 1412 هـ بعنوان ضعف الطالب والمطلوب.

ص: 2221

لأعداء الإسلام، وجزء من مقلب "العفن الثقافي" الذي انغمست فيه التيارات الحداثية.

•‌

‌ جائزة الغنكور:

وهي الجائزة الفرنسية التي لا تعطى إلَّا لعمل روائي يطابق المواصفات التي رسمها واشترطها "أدمون غنكور" الروائي والمؤرخ الفرنسي، في وصيته حول الجائزة قبل ما يقارب المائة عام.

جائزة تعطى لمن يخدم المآرب الثقافية والسياسية الفرنسية، لكي تظل هذه المآرب على قيد الحياة، من خلال صنائعها من الكتاب والأدباء.

وممن أعطي هذه الجائزة الحداثي المغربي "طاهر بن جلون" صاحب الانحرافات العديدة والتي سجلها في روايته "ليلة القدر" وكتابه "أقصى درجات العزلة" وقد نقلت عنهما في مواضع من هذا البحث ما يدل على مقدار انحرافاته الاعتقادية والخلقية.

رجل أدار ظهره لبلاده وأمته وحضارتها وتاريخها، والاطلاع على نتاج هذا الرجل يعطى برهانًا كافيًا على السبب الذي اختير من أجله لجائزة "الغنكور" ويخرج بتصور شامل عن الرسالة الهدامة التي يحملها بن جلون، والسر الذي جعل الفرنسيين يكرمونه بهذه الجائزة في المركز الثقافي الفرنسي في تونس

(1)

.

ولنأخذ شهادة أحد عتاة الحداثة وهو رشيد بوجدرة الذي أدلى عن العصابة "الفرنكوفونية" بشهادات صريحة واضحة غاية الوضوح حيث قال: (. . . الكلام الذي قاله المؤدب والقاسمي وآخرون ممن عرفوا ككتاب

(1)

انظر: صحيفة المدينة المنورة، العدد 7726 في 9/ 11/ 1408 هـ المقال القيم للأستاذ بكر إبراهيم بصفر بعنوانإ الطاهر بن جلون ما بعد احتفالات الغنكور". وانظر: الأربعاء الأسبوعي في 17/ 10/ 1408 هـ مقابلة مع بن جلون أجراها فريد قائد ص 4.

ص: 2222

مغاربيين فرانكفونيين، بعد فضيحة حقيقية، ويقولون أيضًا إن الفرنسية هي لغة التحرر واللغة العربية هي لغة الدين والعبادة واللاهوت؛ لأنهم يجهلون التراث واللغة والحضارة العربية الرائعة، إن موقفهم يعبر عن جهل وخيانة بل وعن خبث، وليسوا الوحيدين المعروفين بمفهوم "عرب الخدمات الفرنسية" الذين يستجيبون لإيديولوجية تعادي الحضارة العربية الإسلامية. . . إنه أصولية سياسية، وإذا أردت وصولية أيديولوجية. . . عرب الخدمات الفرنسية، يمجدون اللغة الفرنسية لأنها تضمن لهم العيش باسم الأدب والصحافة. . .، قبلهم كاتب ياسين هو الذي قال: إن اللغة العربية لغة ميتة، للأسف هو الآخر هدم للآيديولوجيا الفرنكوفونية بالرغم من أنه مبدع حقيقي، للأسف لقد قال ما يرضي أسياده، وأنا شخصيًا لن أمسح له هذا الموقف وسيبقى وصمة عار في جبينه، وسياسيًا ياسين يختلف عن الذين ذكرتهم، وسياق مواقفه تختلف عن الأدباء المغاربيين الذين "أدمنوا" على الانتهازية السياسية، لكنه بدوره يجهل الحضارة العربية الإسلامية، ووقع في فخ الخلط بين الموقف السياسي والمعرفة الحضارية العربية الإسلامية والإبداع الأدبي العربي، لكنهم منافقون لأغراض مصلحية ومادية في فرنسا لم يعطوني جائزة خلال 25 سنة كتابة، وفي ألمانيا وإيطاليا وأمريكا تحصلت على عدة جوائز، بل أحصل في إيطاليا على جائزة كل سنة. . .)

(1)

.

•‌

‌ جائزة اللوتس:

وتمنحها منظمة كتاب آسيا وأفريقيا، الموظفة لخدمة الفكر الاشتراكي، وهذه الجائزة لا تقدم إلَّا لمن سار في خدمة الشيوعية، داعيًا إليها، وكان معبرًا عنها في بلاده، ساعيًا لتمكينها سياسيًا واعتقاديًا في مجتمعه.

وقد احتشدت طوابير اليسار العربي للحصول على هذه الجائزة.

(1)

جريدة الشرق الأوسط، عدد 6345 في 12/ 4/ 1996 م/ 1416 هـ: ص 21.

ص: 2223

ومن الذين حصلوا عليها "حسين مروة"

(1)

الماركسي اللبناني، وزميله الفلسطيني الماركسي "غسان كنفاني"

(2)

، وثالثهم الماركسي الآخر "أبو سلمى: عبد الكريم الكرمي"

(3)

، وغيرهم من عتاة الاتجاه الماركسي.

•‌

‌ الولاء للأحزاب الماركسية:

انتمت مجموعة من الحداثيين للأحزاب الماركسية انتماءً عضويًا وبعضهم وصل إلى مواضع قيادية في هذه الأحزاب، واستتبع هذا الانتماء أن أصبحوا أداة تنفيذ للمآرب الشيوعية الاعتقادية والسياسية وغيرها، وإخضاع الأمة لإرادة الدول الشيوعية.

يقول حسين أحمد أمين: (. . . المخرج الوحيد يكون بخضوع العالم الإسلامي، بعد عشرات السنوات، للاتحاد السوفيتي ليكتسب حينئذٍ وجودًا فعالًا في الميدان العالمي)

(4)

.

هكذا يطرح الشيوعيون واليساريون عمومًا فكرتهم، فليس المطلوب عندهم السير في فلك الدولة الشيوعية الكبرى، بل الخضوع لها، وعندما يسأله عبد الرحمن منيف هل يُمكن اعتماد نظام الإسلام لدولة عصرية يشكك في ذلك، بل ينفي ذلك ويطالب بدولة علمانية ويطالب بـ (دراسة حقة للمجتمعات العربية بمنظار الاشتراكية. . .)

(5)

.

وهكذا في سلسلة طويلة من الولاء للشيوعية والاشتراكية ولاءً يستهدف ربط الأمة بقافلة القطعان التابعة للشيوعية، إلى حدٍّ جعل شاعرًا مثل الفيتوري يقول: (إنني لا أشك في أصالة بعض المبدعين في هذه الحركة،

(1)

انظر: شخصيات وأدوار في الثقافة العربية للماركسي محمود دكروب: ص 256.

(2)

المصدر السابق: ص 274.

(3)

المصدر السابق: ص 276.

(4)

رأيهم في الإسلام: ص 85.

(5)

المصدر السابق: ص 17.

ص: 2224

لكني أشك في توجهاتهم ورؤاهم السياسية)

(1)

.

أعضاء الأحزاب الشيوعية، والدائرون في فلك اليسارية أدوات لتسويغ الإلحاد، وتبرير التصرفات الماركسية، وأبواق مديح للمدن الشيوعية والشخصيات والرموز الشيوعية، سواء منهم المرتبط تنظيمًا بالأحزاب الماركسية، أو السائر تحت مظلة غبار هذه الأحزاب ممن يطلق عليهم أدباء الكتلة الشرقية أو أدباء الواقعية الاشتراكية

(2)

.

(3)

(1)

قضايا الشعر الحديث: ص 327.

(2)

من الحزبيين محمود أمين العالم في مصر ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأميل حبيبي في فلسطين وهؤلاء في حزب "راكاح" الشيوعي الإسرائيلي وغسان كنفاني وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي في حزب ماركسي فلسطيني آخر وحسين مروة ومحمد دكروب ومحمد عيتاني ورئيف خوري ومهدي عامل من لبنان، وحنامينه من سوريا، والبياتي وسعدي يوسف من العراق.

ومن الماركسيين أو اليساريين غير الحزبيين -حسب علمي- رجاء النقاش ومحمد مندور وعبد المنعم تليمة وعبد العظيم أنيس والفيتوري سابقًا وعبد الرحمن منيف سابقًا وعبد الرحمن الخميسي وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد سليمان الأحمد بدوي الجبل وشقيقه أحمد وأليبر أديب وإلياس خليل زخريا وكامل عياد.

ولا يُمكن بالطبع نسيان الحزبيين البعثيين والناصريين أمثال عبد الرحمن منيف في مرحلته الثانية وسليمان العيسى، ومحسن الموسوي ومحمد صالح عبد الرضا وعبد الأمير سعد، ومحمد العلي وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وغيرهم، سواء منهم من بقي في هذه الأحزاب أو انفصل عنها وبقي ضمن الكتلة اليسارية. انظر: علاقة حزب البعث بالحداثة في كتاب حزب البعث تاريخه وعقائده: ص 63 - 71.

(3)

انظر -على سبيل المثال-:

1 -

ديوان البياتي 1/ 238، 243 عن مصانع الكادحين التي هي العصر الذهبي، و 1/ 224 إلى شرق برلين، و 1/ 248 وأغنيات لأطفال وارسو، و 1/ 254 للكادحين في العراق، و 1/ 298 لعمال المناجم في الأورال، و 1/ 323 قصيدة إلى ماوتسي تونغ، و 1/ 324 مدائح لماوو للشيوعية، و 1/ 325 عشرون قصيدة من برلين، و 1/ 329، 1/ 329 دعوة للشيوعية وتمجيد للشيوعيين، و 1/ 332 برلين وفيها أموت من أجلك تحت الراية الحمراء يا مدينة الأحلام، و 1/ 334 قصيدة إلى أمهات جنود ألمانيا الديمقراطية، و 1/ 335 إلى العامل ببتربابرتز، و 1/ 340 إلى مؤتمر السلام في برلين، و 1/ 341 إلى مس بيجام ومؤتمر الكتاب في موسكو، و 1/ 342 إلى ذكر ديمتروف، و 1/ 343 مدح لماركس وانجلز ولينين، و 1/ 346 إلى أناسيكرز، =

ص: 2225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= و 1/ 347 إلى بوتكر عميد المعهد الآسيوي في برلين، و 1/ 347 مدائح للشيوعية والشيوعيين، و 1/ 350 ألمانيا الشرقية وبرلين، و 1/ 387 - 379 إلى مكسيم غوركي ولينين وموسكو، و 1/ 417 إلى فلاديمير ما ياكوفسكي والروس، و 1/ 419 موسكو في الشتاء ومدائح للشيوعيين، و 1/ 470 مدائح للمناضل الشيوعي الكادح وعمال المصانع، و 1/ 471 إلى بروكوفيف، و 1/ 482، 487 مرثية لناظم حكمت، و 2/ 17 رموز شيوعية، و 2/ 38 - 39 مدح المناضلين العمال وهجاء للماضدين لهم، و 2/ 44 دعوة لشرارة ثورة ماركسية، و 2/ 151 مراثي لوركا، و 2/ 162، 319، 343 إلى جيفارا، و 2/ 162 - 163 الثورة الشيوعية الحمراء آتية حتمًا، و 2/ 182 مدح لفيتنام الشيوعية، و 2/ 248، 252 يا عمال ويا فقراء العالم اتحدوا، و 2/ 263 - 267 امتداح ثورة عمال بارش 1871 م كومونة بارش، و 2/ 308 ناظم حكمت ولوركا، و 2/ 329 أيتها الثورة يا حبي الأول يا رايات الأمل الحمراء، و 2/ 350، 358 - 361، 337 مدائح وإطراءات طويلة للشيوعية والشيوعيين وناظم حكمت، و 2/ 368، 398 إلى رفائيل البرتي، و 2/ 341، 440 امتداح هافانا وجيفارا ولوركا، وغير ذلك كثير.

2 -

ديوان صلاح عبد الصبور: ص 228 - 230 قصيدة مدائح وتمجيد للوركا الشيوعي الأسباني، وص 764، 766 مصطلحات وتعابير ماركسية.

3 -

وديوان سعدي: ص 125 امتداح البلوريتاريا، وص 132 مدح الشيوعية، وص 133 - 136، وص 489 مدح نضال الشيوعية والعمال، وص 158 إشادة بالشيوعية ولينين والمدن السوفيتية والكتب الشيوعية، وص 353 - 355 قصيدة في الذكرى المئوية لميلاد لينين ومديح للبلاشفة والماركسية وأفكارها، ووقفة خشوع عند قبر لينين، وص 359 قصيدة عن لوركا، وص 490 - 491 عن لينين والسوفييت، وص 493 قصيدة إلى الاشتراكية، وص 522 عن أنطونيو بيريز شيوعي من غواتيمالا.

4 -

وديوان محمود درويش: ص 44 ليتني عامل مقهى في هافانا، وص 68 - 70 قصيدة لوركا: امتداح وثناء وتعظيم لهذا الشيوعي الأسباني.

5 -

والأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو: ص 8 - 10 مدائح وإشادة بروفائيل ألبرتي ولوركا، وص 12، 14، 15، وص 16 مدانح لجيفارا ومنغستو، ويفتشنكو، وبيترفايس، 18 - 22 مدائح لناظم حكمت والشيوعية، وقيسين كولييف وموسكو وأناتولي ميخائيل، وص 28، 30 مديح لرسول حمزاتوف وافتخاره بهدايا الكونياك التي تدمها له، ومدح لتروتسكي، وص 62 مديح لثورة ماو الصينية وكيف هدمت المعابد وبعثت الحياة، وص 80، 82 مدح بكين والعمال ولينين وخالد بكداش الشيوعي الكردي، وص 92 - 93 إطراء لفهد الزعيم الشيوعي اليهودي العراقي، وص =

ص: 2226

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 77، 105، 126، 127، 134، 149، 159، 306 مدائح عديدة للشيوعية ورموزها والرفاق والموجة الحمراء والفجر الأحمر، وص 127 - 128 هجاء للذين يحاربون أو يقامون الشيوعية، وص 652، 555، 281 بطاقة معايدة إلى بوشكين، وص 1344 إلى رامبو، وص 652 إلى لوركلا، وص 531 تمجيد وثناء لجوزيف اتيلا الشاعر الشيوعي الهنغاري، شاعر البروليتاريا، وص 535 إلى ما ياكوفسكي، وص 585 قصيدة فلسطينية إلى لينين، وص 660 - 663 مديح للينين وبتوغراد والبلاشفة وما ياكوفسي وموسكو والساحة الحمراء، وربط بلاد العرب بهذه الرموز، وص 685، 686 طشقند وبفتشنكو ولوداو ماشا وجانا وكلها أسماء شيوعية.

6 -

وديوان سميح القاسم: ص 125 - 126 مديح للشيوعية ومنجلها ومصانعها، وص 183 غيفار، وص 265 - 269 صاحب دار العودة محمدية، يمتدح ماركسية سميح القاسم ويشيد بالماركسية والزعم بانها لم تعد تعني الكفر والإلحاد، وص 271 مقدمة ديوان طلب انتساب للحزب، وص 272، 274، 285 - 287، 372، 327، 376، 389 رموز وشعارات ماركسية، مطرقة ومنجل والتبشير بجنة الشيوعية، وصحوته على دعوة الشيوعية، وص 281 - 294 امتداح للشيوعية وذم للدين وإلحاد باللَّه العظيم، وص 330 إلى فيدل كاسترو، وص 336 إلى غرستوف نجاثا الشيوعي الإفريقي، وص 338 إلى ثوار فيتكونغ، وص 608 - 616 إلى يفتنشنكو معاتبة له لتعاطفه مع اليهود، وص 346 - 348، وقصيدة الطريق كلها مديح وإشادة ودعوة للشيوعية، وص 379 - 381 يتحدث بافتخار عن عقيدته الشيوعية وانتشارها في البلدان، وص 399 - س 404 برلين وامتداح للشيوعية وركوع لها، وص 508 تمنياته أن تصبح البلاد العربية شوعية حمراء، وفي ديوانه لا أستأذن: ص 104 - 106 ثناء على غورباتشوف وافتخار بالانتماء إلى الشيوعية، وص 110 قضيدة إلى رفائيل ألبرتي.

7 -

وديوان توفيق زياد: ص 3 أول ديوان له بعنوان شيوعيون، وص 5 - 10 قصيدة شيوعيون تمجيد وإطراء فج، وامتداح كبير للشيوعية والشيوعيين وذم للعرب، وص 11، 13، 13 - 18، 23 - 28، ومديح للشيوعية وعمال موسكو والحزب الشيوعي ولينين، وص 68 - 72 قصيدة مديح للومومبا، وص 73 - 75، 321، 349، 473، 567، 577 - 579، 586، 590 - 594 مدائح دعائية ومناشدات ماركسية للعمال مثل اتحدوا أيها الكادحون الملخصون، عامل من السودان، يا عامل يا كادح، عمال مصانع، عمال باريس وثورتهم الأولى، وص 77 - 82 تمجيد للشيوعي اليهودي العراقي "فهد" وذم شديد لأعداء الشيوعية، وص 91 - 24 مديح للروس وتبشير بانتصارهم وانتصار الشيوعية، وص 99 - 100 التبشير والدعوة إلى الشيوعية بلهجة خطابية فجة، وص 150 - 153 ثلاث أغنيات لناظم حكمت مديح له وذم =

ص: 2227

ومما تميز به أتباع اليسار وخاصة أتباع الماركسية منهم التغني والتبجيل الممل للرموز السياسية والاقتصادية الشيوعية مثل أسماء المناضلين!! الشيوعيين، وأسماء المواقع والمدن، والإنجازات!! الشيوعية، والمواطن

= لعدنان مندريس، وص 202 - 204 مديح لكوبا وفخر بالشيوعية، وص 265 - 268 مديح وإطراء شديد لما ياكوفسكي ولينين، وص 280، 293 الحتمية التاريخية الماركسية، وص 341 - 342 طموحات ومشروعات ماركسية، وص 350 التبتل والخشوع والعبادة أمام ضريح لينين، وص 351، 353، 415 - 420، 414، 421، 414 - 437، 563، 571، 577 - 579، 588 - 589، 590 - 594، 563 - 622 كلها مدائح للشيوعية ورموزها وتاريخها ودفاع عنها وتبشير بها.

8 -

وديوان المقالح: ص 12 مديح لرامبو ولوركا وماياكوفسي وناظم حكمت والبياتي، وص 65 لوركا وتشبيه الزبيري رحمه الله به، وص 71 قصيدة البرجوازي ذات مضامين ماركسية، وص 139 - 142 قصيدة إلى بكين تمجيد للشيوعية وماو والتبشير بالشيوعية الصينية، وص 145 - 146 بغض الأغنياء أو إرادة سحقهم وحرقهم وتبجيل الكادحين والفقراء.

9 -

وديوان الفيتوري 1/ 263، 345، 349 مدائح للكنغوي الشيوعي لومومبا، 1/ 354 عن نكروما.

10 -

والأعمال الشعرية لممدوح عدوان 1/ 31 رثاء في غيفارا، 1/ 113 قصيدة مهداة إلى نيرودا.

11 -

وكتاب معهم حيث هم: لسالم حميش: ص 38، 39، 40، 60 عبد اللَّه العروي يصر على أن الماركسية نظام متكامل وينتقد هامشية الماركسيين وعدم تعمقهم في الماركسية، وتقديسه لماركسي!!.

12 -

شعرنا الحديث إلى أين "لا خوف من انتماء محمود درويش وزملائه للحزب الشيوعي راكاح": ص 248.

13 -

دراسات في الشعر العربي الحديث: لامطانيوس ميخائيل، وفيه دراسة للاتجاه الماركسي والثوري: ص 237 - 278.

وانظر: الكتب التالية فهي مليئة بالواهد على هذا الاتجاه ومضامينه الداعية إلى هذه الجاهية المسماة بالماركسية: الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر لمحمود أمين العالم، والعرب والفكر التاريخي لعبد اللَّه العروي، ومفهوم الحرية له أيضًا، وتراثنا كيف نعرفه لحسين مروه، والرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم، وحرارات وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية لحنامنية، وصوت السنوات الضوئية لعبد الوهاب البياتي.

ص: 2228

والتواريخ المرتبطة بقيام الشيوعية، وغير ذلك

(1)

.

•‌

‌ الولاء لليهود:

سبق في الفصل الرابع من الباب من الباب الأول ذكر التصورات الحداثية المتأثرة باليهودية، وذكر الشواهد العديدة على هذه القضية الخطيرة، وفيها أكبر الدلالة على الموالاة للمفسدين في الأرض، والتعاطف معهم، والاقتباس منهم.

بيد أن هناك بعض التصريحات الحداثية الدالة -سياسيًا- على العمالة والولاء لليهود.

ومن ذلك قول يوسف الخال: (يخطيء من يزعم أن إسرائيل إنّما وجدت كرأس جسر للغرب. . . أنا أعتقد أن القضية الفلسطينية لا تفهم على حقيقتها إلَّا باعتبارها جزءًا أساسيًا من المسألة اليهودية عبر التاريخ فمنذ أن خرج اليهود ومن مصر أحدثوا مشكلة كانت، أول الأمر، محلية، ثم صارت مشكلة رومانية، ثم بيزنطية، ثم لما انتشروا في العالم صارت مشكلة عالمية.

والتاريخ بجميع مراحله، كان معنيًا بحل هذه المشكلة، والإنسان يعجب بهذا الشعب القليل العدد الذي لاقى جميع أصناف الاضطهاد، على أجيال عديدة، ولكنه ظل متمسكًا بشخصيته الفريدة التي لم يتنازل عنها، وبادعائه بأنه شعب اللَّه المختار، وأنه معد لأن يخلص العالم، هذه الظاهرة تدع الإنسان بفكر بكون المسألة اليهودية ليست مجرد مسألة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية مثلًا إيجاد مأوى لهم وخصوصًا بعد اضطهاد النازية لهم، مع أن هذا لاصق بجلد المسألة لا بقلبها.

ولا يكفي أن يفسر البعض نفوذ اليهود في العالم وقدرتهم على العودة إلى فلسطين تفسيرًا قائمًا على أساس ماركسي أو سياسي أو اجتماعي، ذلك لأن جوهر القضية هو أن اليهودية دين ودنيا، ولذلك فهي مرتبطة بجذور

(1)

سبق الحديث بالتفصيل عنها.

ص: 2229

تاريخية في أرض معينة، وإذا كان هذا صحيحًا، فإن حل القضية يجب أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار. . .)

(1)

.

ليست هناك مناصرة لليهود وتأصيل لنظريتهم -من وجهة نظر صهيونية- أبلغ من هذا القول.

ولما سئل الماركسي رشيد بوجدرة: من هو العدو الأول للإسلام حاليًا؟ أجاب: (إنهم المتعصبون

(2)

لا الصهاينة ولا الشيوعيون. . .)

(3)

.

أمَّا محمود درويش فإنه لم يجد أفضل من أسلوب المعاتبة الودية الباردة لرفيقته اليهودية "تولميت" التي التقى بها في البار وفي المخدع وأظهرت يهوديتها، ومع ذلك عاشرها جنسيًا، وعاتبها باستحياء على هذا الموقف ولكنه قالها في ليلة عناق جنسي:(كل قومياتنا قشرة موز)

(4)

، ثم يسترسل في الكلام عنها في كلمات على لسان هذه الداعرة اليهودية، التي تعاشر يهوديًا يؤمن بأحقية اليهود في أرض المسلمين في فلسطين، وتعاشر محمود درويش الذي أقنعها بإسقاط قشور القوميات والعقائد حسب وصفه

(5)

.

ويعاتب سميح القاسم رفيقه بل أحد كبار شعراء السوفييت "يفجني إيفتشنكو" الذي قال بأنه لا يعرف الحقيقة عن القضية الفلسطينية ومأساة اللاجئين

(6)

، والذي قال في قصيدة له بعنوان "بابي يار" وهو واد في الاتحاد السوفيتي ذبح فيه هتلر بعض اليهود وقد ضمن سميح القاسم أقواله هذه في مقطوعته العتابية، وشرح معناها في الهامش، ومن ضمن أبيات

(1)

أسئلة الشعر: ص 164.

(2)

يقصد دعاة الإسلام وحماته.

(3)

رأيهم في الإسلام: ص 176.

(4)

ديوان محمود دروش: ص 339.

(5)

انظر: المصدر السابق: ص 332 - 341.

(6)

انظر: ديوان سميح القاسم: ص 608.

ص: 2230

إيفتشنكو التي ضمنها سميح قوله:

(وأنا أبدو يهوديًا لنفسي

وأنا درايفس

والمشتوم والمبصوق في وجهي

أنا المكروه والمطعون في أعماق حسي)

(1)

.

ثم يقول له سميح القاسم عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح":

(عرفتك واحترمتك

يا شقيقي في الجراحات في الماضي الحزين

وشقيقي في كفاح اليوم

والمستقبل الخصب بما فوق الظنون

يا شقيقًا ما رأيتك

ألف عفوٍ. . .)

(2)

.

ويستمر في هذا القبيل، الذي إن دل على شيء فإنّما يدل على أن ايفتشنكو اعتز بأصله اليهودي ودافع عن أمته، في حين أن هذا -وهو أحد شعراء الأرض المحتلة!! - ينزوي محاورًا في لطف وخجل بل مادحًا شقيقه في الماركسية.

أمَّا زميله توفيق زياد المسمى زورًا "شاعر الشعب والقضية" فإن أحد الحداثيين الذين قدموا لديوانه، على الطريقة الاحتفالية الحداثية المعهودة،

(1)

المصدر السابق: ص 614.

(2)

المصدر السابق: ص 610.

ص: 2231

وامتدحه بقوله: (إن هذا الشعر يخلو من الشوفينية

(1)

، ومن كره اليهود كيهود)

(2)

.

وقوله: (ثمة نقطة هامة وهي خلو شعر توفيق زياد وزملائنا الآخرين في الأرض المحتلة من النزعة الشوفينية البغيضة، فلم تعد القومية إقليمية محدودة بل اتسعت وأصبحت قومية إنسانية، إنه لا يكره اليهودي ولكنه يكره الصهيوني العسكري، الذي حل محل أهله المشردين، إنه يكره البرجوازية سواء أكانت يهودية أم عربية، ويكره السلطة العسكرية اليمينية، راجع قصيدته أيخمان بشكل خاص، يخاطب الشعب اليهودي، وينبهه إلى خطر السلطة اليمنية)

(3)

.

أي أن زياد وزملاءه من شعراء الأرض المحتلة لا يعارضون اليهود كيهود، وإنَّما يعارضون الصهيونية والحكم اليميني حسب القول السالف، وهذا يعني أنه لا مانع عنده من حكم اليهود وسلطتهم إذا كانت بيد اليسار اليهودي، وليست هناك عمالة ومخادعة للناس وموالاة للأعداء أخبث ولا أبشع هذه العمالة.

أمَّا تقسيم اليهود إلى معتدلين وصهاينة ويسار ويمين فليست سوى لعبة يهودية اصطنعها اليهود وروجوها وانطلت على كثيرين

(4)

.

أمَّا قصيدته "ايخمان" ففيها مخاطبة عاطفية لليهود:

(ومداخن الأفران قائمة كآلهة المنايا

مستنقع الموت. . . للقتل المطل من الخبايا

(1)

الشوفينية مصطلح من أصل فرنسي، يرمز إلى التعصب القومي المتطرف، نسبة إلى جندي فرنسي يدعى "نيقولا شوفان" الذي كان يحارب بتعصب شديد تحت قيادة نابليون، وأكثر من يستخدم هذا المصطلح الشيوعيون واليساريون، لوصم الأفكار والممارسات المخالفة لهم وخاصة ذات الطابع الشديد. انظر: موسوعة السياسة 3/ 503.

(2)

ديوان توفيق زياد "ي" والقول لعز الدين المناصرة الذي قدم لهذا الديوان.

(3)

المصدر السابق: "ض".

(4)

انظر: أضواء جديدة على لعبة اليمين واليسار لعماد الدين خليل.

ص: 2232

علقه!! علق علها ترتاح أرواح الضحايا

وانشر كفاحك، لن يعيد الدهر هاتيك البلايا)

(1)

.

هل يُمكن أن يقول يهودي لقومه أكثر من هذا؟! ومن قوله مخاطبًا اليهود:

(يا شعب قل للظالمين: أتحسبون بأنكم ستخلدون)

(2)

.

وله قصيدة "المناشير المحترقة" قال في مقدمتها: (إلى الأصدقاء اليهود الذين وزعوا المناشير عن الشهداء الخمسة في تل أبيب -ساحة ديزنكوف- فاعتدى عليهم أُجراء البوليس ومزقوا ثيابهم وحرقوا لهم المناشير وكتبهم التي كانوا يحملونها)

(3)

.

وكان مما قاله لهؤلاء اليهود:

(الورة أحمل. . والسلام الحق. . والحب العميق

هذي يدي

يا أصدقاء كفاحنا في كل ضيق

في كل عرق نابض

عهد الصديق إلى الصديق)

(4)

.

فإذا كان هذا قولهم وموقفهم أيام كان الموقف الرسمي من دولة اليهود ظاهر العداء والخصام، فماذا سيقول هؤلاء اليوم وقد جثت ركب كثيرة عند حائط المبكى وباب الكنيست تطلب السلام؟!.

ولست أريد أن أعيد ما سبق الكلام عنه عند جائزة نوبل التي استحقها في زمن متقارب نجيب محفوظ وأنور السادات لموقفهما الموالي لليهود.

(1)

ديوان توفيق زياد: ص 184.

(2)

المصدر السابق: ص 185.

(3)

المصدر السابق: ص 35.

(4)

المصدر السابق: ص 37. وانظر: اعترافه بإسرائيل في ص 466.

ص: 2233

كما لا أريد إعادة الكلام عن كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين وخدمته لليهودية، واحتفاء الصهيونية به

(1)

، أو مجلة "الكاتب المصري" ذات الاتجاه والدعم اليهودي، وأثر سلامة موسى فيها

(2)

.

كل ذلك وغيره مما ظهر وعرف، وأكثر منه مما دار خلف الحجب يدل على أن هذه الاتجاهات الحداثية والعلمانية ليست سوى شعرات نتنة نبتت تحت آباط اليهود.

وبعد هذا الإيضاح لأوجه الولاء لأعداء الإسلام والبراء من الإسلام وأهله، ماذا يُمكن أن أقول بعد أن طم سيل الرأسمالية الأمريكية واليهودية العالمية، وتسابق كثيرون في ترتيل تعاليم التلمود؟.

• • •

(1)

انظر: تفصيل ذلك في أدب نجيب محفوظ: ص 64 - 67.

(2)

انظر: أباطيل وأسمار: ص 142.

ص: 2234

‌الخاتمة

1 -

بيان أسباب الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر.

2 -

مقترحات لمواجهة الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر.

وبعد هذه المسيرة مع أدب وفكر "الحداثة" في شعبها الاعتقادية والعملية، وفي أصولها الفلسفية الغربية، وفروعها التقليدية العربية وممارساتها الفعلية، يتضح ومن خلال الميزان الاعتقادي والرؤية النقدية العقلية، والاعترافات الصريحة لأهل هذا الاتجاه؛ ما يلي:

أولًا: الحداثة نبتة غربية جيء بها لإكمال أدوار التسلط الاستعماري التي مارسها الغرب ضد بلاد المسلمين في القرون المتأخرة.

ثانيًا: الحداثة فكرة مستعارة، وعقيدة مستوردة، كتبت بأقلام عربية الحرف أجنبية الولاء.

ثالثًا: من أهم أغراض الحداثة الهدم والتخريب وإحداث الفوضى في العقائد والأخلاق وفي النظم والعلاقات.

رابعًا: ليست الحداثة مجرد تجديد في الأشكال والأساليب والمناهج الفنية، بل هي عقائد وإيديولوجيات شتى، تجتمع تحت مقصد واحد هو: مضادة الدين الحق، ومناقضة الإيمان واليقين، وغرس الضلالات والإلحاد والشكوك.

ص: 2235

خامسًا: الحداثة لا تخالف الإسلام فحسب بل تناقضه تمام المناقضة، وتسعى في هدمه وإزاحته من القلوب والعقول والأعمال، أو على أقل الأحوال التشكيك في ثبوته وصحته وجدواه.

سادسًا: بالنظر إلى كلامهم ومواقفهم من الإيمان باللَّه تعالى نجد أنهم في الربوبية:

أ - نفوا وجوده تعالى أو شككوا في ذلك.

ب - نفوا أن اللَّه تعالى هو الخالق المالك المدبر.

جـ - نسبوا الأبدية للمخلوق، وقالوا بأزلية العالم والخلق.

د - نسبوا الخلق إلى غير اللَّه تعالى، وسموا غيره من المخلوقين خالقًا.

هـ - نسبوا الربوبية إلى غير اللَّه تعالى.

و- سخروا واستخفوا باللَّه الخالق الرب العظيم جل جلاله، وتعمدوا تدنيس صفة الربوبية.

وأمَّا ألوهية اللَّه تعالى فقد انحرفوا وضلوا من خلال:

ذ - نفيهم لألوهية اللَّه تعالى.

2 -

نفي بعض خصائص ألوهيته تعالى.

3 -

جحد حق العبادة للَّه تعالى، والسخرية بالعبادة ومظاهرها.

4 -

العبودية لغير اللَّه تعالى.

5 -

تأليه غير اللَّه تعالى، ووصف غير اللَّه -جلَّ وعلا- بالألوهية.

6 -

الحيرة والشك في الغاية من الحياة، ووجود الإنسان، والزعم بأن الوجود عبث.

7 -

السخرية والتدنيس والاستخفاف باللَّه تعالى وألوهيته جلَّ وعلا.

8 -

احترام الكفر والإلحاد وملل الكفر وامتداح أهلها والثناء على أقوالهم وأعمالهم الضالة.

ص: 2236

وأمَّا أسماء اللَّه وصفاته فقد ضلوا فيها من عدة أوجه هي:

1 -

وصف اللَّه تعالى وتسميته بأسماء وأوصاف النقص ووصفه جل وعلا بما لم يصف به نفسه، وإضافة أشياء إليه تهكمًا واستخفافًا به تعالى وتقدس.

2 -

نفي أسماء اللَّه تعالى وصفاته الثابتة له في الوحي المعصوم.

3 -

وصف غير اللَّه تعالى وتسميته بأوصاف وأسماء اللَّه تعالى.

4 -

السخرية بأسماء اللَّه وصفاته، ومخاطبته تعالى بما لا يليق به.

سابعًا: أمَّا الركن الثاني من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة فقد نفوا وجود الملائكة ووصفوهم بما لا يليق بهم في تهكم بغيض وسخرية خبيثة، وألحقوا أسماء وأوصاف الملائكة بغيرهم.

ثامنًا: أمَّا الكتب المنزلة فقد ضلوا فيها بجحدهم الوحي جملة وتفصيلًا، وجعل ما جاء فيها من جملة الأساطير المختلقة، ونفوا أن يكون القرآن العظيم كلام اللَّه، أو أن تكون أخباره حقيقية، أو أوامره لازمة، وأخضعوه للمناهج الفلسفية الغربية الضالة المنحرفة.

تاسعًا: جحدوا وجود الرسل أو شككوا في ذلك، ونفوا الصدق عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك بجعل ما جاؤوا به من ضمن الأساطير، مع بغض للرسل واستهانة وسخرية بهم وبأعمالهم وأقوالهم، وإطلاقهم الأقوال الضالة في أن الرسل والرسالات مناقضة للعقل وسببًا للتخلف، مع ترديد أقوال الكافرين والملحدين الأقدمين التي أطلقوها على الرسل الكرام، إضافة إلى إطلاقهم أسماء وأوصاف الرسل على شعراء وأدباء الحداثة وأشباههم من المنحرفين.

عاشرًا: جحدوا اليوم الآخر، ونفوا البعث، واعتبروا موت الإنسان فناءً لا شيء بعده، وادعوا أن الإيمان بالآخرة من أسباب التخلف؛ لأن الحياة الدنيا -عندهم- هي المقر الوحيد للإنسان، وزعموا أن الدنيا أبدية لا تفنى ولا تبيد، مع سخريتهم واستخفافهم باليوم الآخر وما وراءه، واستهزائهم بالجنة ونعيمها والنار وعذابها.

ص: 2237

حادي عشر: نفوا وجود قدرٍ قدّره اللَّه تعالى، وجعلوا القدر مجرد خرافة وكذب، وذموا القدر، واعترضوا عليه، وجعلوا الإيمان به سببًا للتخلف والتحجر والمهانة، وتهكموا بقدرة اللَّه وقَدَرِهِ وبالمؤمنين به، مع نسبتهم التقدير والقدر إلى غير اللَّه تعالى.

ثاني عشر: جحدوا كل الغيبيات التي جاء بها الإسلام؛ لأن الإنسان عندهم مجرد جسد تطور عن حيوان، وجعلوا الإيمان بالغيبيات الحقيقية التي أثبتها الوحي من أسباب التخلف الرجعية، مع سخرية بهذه الغيبيات الثابتة، واستخفاف بالمؤمنين بها، وإيمان بغيبيات تناسب أهواءهم وضلالهم مثل الإيمان بنظرية داروين وحتميات ماركس واعتقاد أزلية المادة، والإيمان بالوثنيات الجاهلية القديمة.

ثالث عشر: عبثوا في كلامهم بالمصطلحات والشعائر الإسلامية، واستخدموا أصلهم في الهدم والفوضى والعبث والتخريب ضد الألفاظ والمضامين الإسلامية، قاصدين بذلك تدنيس المقدس واستباحة المحرم والتحرر من المنع، وإسقاط موازين الحلال والحرام.

رابع عشر: حاربوا حكم الإسلام، ورفضوه جملة وتفصيلًا، وزعموا أنه لا حكم في الإسلام، وأن أحكامه لا تلائم العصر ولا يُمكن اعتماد الإسلام نظامًا للحكم، وأن حكم اللَّه تعالى من أسباب التخلف والإعاقة عن التقدم، وأن أحكام الإسلام ليست من عند اللَّه بل هي بشرية من صنع البشر، مع دعوة إلحادية صريحة بوجوب فصل الدين عن الحياة وعن الدولة والسياسة خاصة، وإخضاعه للتفسيرات العصرية والتطبيقات العلمانية، مع سخرية بأحكام الإسلام، ودعوة صريحة إلى تحكيم غيره من النظم والفلسفات والمناهج الأرضية الجاهلية.

خامس عشر: سخروا من الأخلاق الإسلامية، بل جحدوا وجود الأخلاق تحت دعاوى نسبية الأخلاق، ومزاعم أنها من عوامل الكبت والتخلف؛ ولذلك تبنوا الدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية ومارسوا ذلك

ص: 2238

فعلًا في سلوكهيم واعترفوا به، واستعاروا مذاهب وسلوكيات الغرب وسعوا في ترويجها قولًا وعملًا، ومن ذلك: جعلهم الإباحية الجنسية أساس التحرر السياسي والاجتماعي، واعتبارهم المرأة مجردة جسد ومستوح للشهوات الجنسية، وإشادتهم بالرذائل الخلقية ودعوتهم إليها وممارستهم لها، مع عداوتهم وذمهم للأخلاق الفاضلة، ودعوتهم للإباحية الجنسية والإغراق في وصف الأعضاء الجنسية وأعمال الجنس والحشيش والمخدرات والخمر والدعارة.

سادس عشر: فسروا الحياة الاجتماعية والنفسية تفسيرات مادية حيوانية، فأمَّا القضايا النفسية فساروا فيها على منوال فرويد واقتفوا آثار فلسفته الحيوانية المادية، وأمَّا القضايا الاجتماعية فقد تبنوا معاداة المجتمع ومضادته، وسعوا في إفساده، من خلال إسقاط مفاهيم الأخلاق والقيم من المجتمع، ونفي قيام مجتمع على أساس ديني، والدعوة لتطبيق الحياة الاجتماعية الغربية في المجتمعات الإسلامية، مع مضادة للأسرة ونظام العائلة والوالدين.

سابع عشر: بناء على خلفياتهم الاعتقادية الضالة سعوا إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية الجاهلية محكمين أسيادهم في ذلك، داعين إلى تطبيق هذه النظم وساعين في إخضاع الأمة لطواغيت هذه النظم، وإلحاقها بمعسكرات الشرق والغرب، مع اعترافهم صراحة بالانتماء فكريًا وعمليًا لأعداء الإسلام، والعمالة الظاهرة والخفية لهم.

ثامن عشر: عند التأمل في كلامهم ومواقفهم وأعمالهم وخلفياتهم الاعتقادية ومنطلقاتهم الفكرية، يلاحظ بوضوح أنهم يستندون إلى قواعد فكرية جاهلية، تمتد من الوثنيات الإغريقية والآشورية والفرعونية حتى تصل إلى فروعها المادية المعاصرة من مذاهب الغرب وفلسفاته وعقائده المتفرعة من الشجرة الخبيثة شجرة المادية الملعونة.

ومن تأمل الأصول والمحاور الاعتقادية والفكرية لأدب الحداثة التي

ص: 2239

سبق ذكرها في ثنايا البحث

(1)

، يجد الثمرات المرة السائة التي أنتجتها هذه الشجرة.

‌1 - بيان أسباب الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث:

‌أولًا: أسباب داخلية:

1 -

التخلف الاعتقادي، وهذا من أعظم الأسباب وأخطرها؛ ذلك أن المتخلف عن فهم العقيدة الإسلامية الصحيحة، لابد أن يكون أرضًا قابلة لأمراض الشبهات وأسقام الأهواء.

2 -

الجهل بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا، ومن هذا الباب ولجت أنواع الانحرافات الكثيرة ودخلت الدواخل على كثير من أبناء المسلمين، فاصبحوا يشربون سموم الشبه والأباطيل ويتلقونها وكأنهم يتلقون الهدى والخير والصلاح.

ويأخذون أقوال أعداء الإسلام في الإسلام وتاريخه وحضارته أخذ التسليم والقبول، وتنغرس الشكوك في قلوبهم تجاه دين اللَّه لأول عارض من شبهه.

3 -

الشعور بالنقص أمام الغرب وإنجازاته، قادهم ذلك إلى الاستكانة الهزيلة والذلة المهينة والتبعية العمياء، والتقليد الأجوف، والخلط الأحمق بين التقنية والأفكار، حيث سولت لهم جهالاتهم قضية مؤداها: أنه من تقدم في أمور التقنية فلابد أن يكون متقدمًا في فكره وعقيدته وسلوكه، فانجرفوا في محاكاة عمياء يقلدون الغرب في أسوأ وأنتن ما لديهم، في العقائد والأفكار والأخلاق وسائر ما يسمى بالعبوم الإنسانية.

4 -

الانبهار بالغرب، وهذا تابع في المعنى للسبب السابق حيث قادهم هذا الانبهار إلى دهشة غطت على عقولهم ودانت على قلوبهم فتهاووا كالفراش على لهيب الماديات الغربية وضلالاتها.

(1)

انظر: ص 59 - 63، 1653، 1656، 2118 من هذا الكتاب.

ص: 2240

5 -

قابلية الاستعمار والغزو الاعتقادي والفكري، وهذا سبب مستقل من أسباب الانحراف وهو في الوقت نفسه نتيجة للأسباب السابقة.

6 -

الفساد التعليمي في كثير من بلدان المسلمين، حيث قل في التعليم أو عدم تعليم حقائق الإسلام وبراهينه، بل أصبح مكان ذلك تعليم ضلالات الغرب وفلسفاته وشكوكه على أساس أنها هي الحق المبين والسبيل الوحيد للتقدم والحضارة!!.

7 -

وجود أجهزة التوجيه والتأثير بأيدي الجاهلين بالدين أو المعادين له أو الخائفين منه.

8 -

الحفاوة الظاهرة بالمنحرفين، وإبرازهم في الإعلام، على أنهم أصحاب فكر وعقل ومعرفة وحرص على مصلحة الناس والأوطان، وقدوات ثقافية وسلوكية، ومرجعيات علمية لحل مشكلات الناس والنوازل التي تنزل بهم والمستجدات، بل وجعلوهم مفتين في كل القضايا شرعية وسياسية واجتماعية وثقافية.

9 -

استخدام أساليب المخادعة، فمع جحدهم للدين وتشكيكهم في قضاياه نجدهم يظهرون في لبوس المعترف به والمحترم له، وخاصة في البلدان التي يخشون فيها إظهار حقائق إلحادهم وشكهم.

ومع عمالتهم للأعداء فكريًا أو عمليًا، نجدهم يظهرون في ثياب الأصالة والحرص على مصلحة البلاد والعباد.

أمَّا ألفاظهم التلبيسية المخادعة فكثيرة خطيرة، تبدو غامضة ملغزة أو فضفاضة مراوغة، وتحتها الأفاعي والحيّات والدواهي والبليات.

10 -

السفر إلى بلاد الغرب والغرق في مستنقعات أفكارهم وفلسفاتهم ومذاهبهم وآدابهم، وأخذ ذلك مأخذ القبول والتصديق، ونقله إلى بلاد المسلمين.

11 -

استخدام الأحزاب العلمانية ومؤسساتها وآلياتها العديدة لنشر الأفكار والمعتقدات المنحرفة كما فعلت الأحزاب الشيوعية العربية وحزب

ص: 2241

البعث والحزب الناصري وسائر الأحزاب العلمانية، وكما يفعله اليوم التيار الليبرالي العلماني.

12 -

استخدام وسائل الإعلام والنشر بشكل كبير من قبل رموز الانحراف، وسيطرتهم -تقريبًا- على المحافل والمهرجانات والأندية الأدبية.

13 -

وفرة إنتاج المنحرفين في مقابل قلة إنتاج أضدادهم.

14 -

التساهل في الرقابة على أعمالهم وإنتاجهم ووسائل انتشارهم، والتشديد على الجهات المقابلة لهم.

15 -

بروز نشاط عدد من الكتاب والمؤلفين من النصارى والدروز والرافضة والنصيريين وأمثالهم من أهل الفرق والملل الضالة.

16 -

سعيهم في إحياء وإبراز شخصيات وأعمال المنحرفين السابقين، ونشر ذلك على نطاق واسع، وجعلهم نماذج مثالية للإقتداء.

17 -

كثرة موارد الشبهات والشهوات، وضعف ما يقابلها من أسباب العلم النافع والإيمان والتقوى.

18 -

قلة المتخصصين في شأن الانحرافات الاعتقادية المعاصرة، وغياب علماء الدين -إلَّا من رحم اللَّه- عن هذا الميدان الخطير.

‌ثانيًا: أسباب خارجية:

1 -

تسلط أعداء الإسلام وتفوقهم التقني والسياسي والإداري والاقتصادي.

2 -

سيطرة الأعداء على مواطن التأثير والتوجيه في بلاد المسلمين.

3 -

سعيهم في مسخ أبناء المسلمين، وسلخهم من دينهم، وغرس الشبهات في قلوبهم، وغمسهم في مستنقعات الشهوات والعمالة.

4 -

حفاوتهم بالمنسلخين من دينهم وقيمهم، والسعي في التمكين لهم في مواطن التأثير، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، وحمايتهم.

5 -

سعيهم في إبقاء المسلمين في دوائر التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والإعلامية والمعيشية، والفكرية والثقافية.

ص: 2242

‌2 - مقترحات لمواجهة الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر:

أ - الاهتمام بتحصين أبناء المسلمين بالعلم النافع، والتركيز على إيضاح الإسلام بالأسلوب المناسب لهذا الزمان، بحيث يراعى في مناهج التعليم والتوجيه غرس اليقين الإيماني وتجلية حقائق الإسلام في كل المجالات بطريقة تثبت حقائق الدين، وترد على الشبهات، وتكشف أساليب المنافقين.

ب - إعادة النظر في موقف المتخصصين الشرعيين غير المبالين بالانحرافات في الأدب.

ت - تركيز الاهتمام في الكليات الشرعية وخاصة في أقسام العقيدة على دراسة الانحرافات العلمانية والحداثية وكشفها ونقدها.

ث - الاهتمام بالأدب الإسلامي وتوسيع دائرته في الجامعات ووسائل الإعلام، وتقوية رابطته وتقديم الدعم المادي والمعنوي لها.

جـ - قيام العلماء بدورهم في كشف زيوف الانحرافات الاعتقادية في الأدب الحديث وفضح رموزه والتحذير منهم.

حـ - إبعاد المنحرفين عن مواطن التأثير التعليمي والإعلامي والثقافي، وعن مواطن النفوذ.

خـ - تشديد الرقابة على وسائل النشر والإعلام والمجامع الثقافية والأندية الأدبية، وعدم السماح للمنحرفين فكريًا واعتقاديًا بالولوج من خلالها إلى أذهان الناس وقلوبهم.

د - وضع ضوابط دقيقة لقضايا الابتعاث، وقصره على الجوانب الضرورية.

ذ - تقوية المراكز الإسلامية في بلاد الغرب؛ لتكون مثابة للمبتعثين، لحفظ دينهم وأخلاقهم وإبعادهم عن أسباب الإفساد والعمالة.

ر - فضح الرموز المنحرفة، والتحذير منها، وبيان حقيقة الأفكار

ص: 2243

والعقائد والمواقف التي يتضمنها كلامهم أو أعمالهم، وإيضاح ذلك لعموم الأمة، وللمثقفين خاصة.

ز - إيضاح الفرق بين التقدم المادي المجرد، والحضارة الحقيقية القائمة على سلامة الاعتقاد وصحة العبادة واستقامة السلوك.

س - ترسيخ مبدأ الولاء والبراء، وبيان أن تحسين الكفر والحفاوة بأهل الانحراف والضلال يناقض دين اللَّه تعالى.

ش - كشف أساليب المخادعة والتلبيس العلماني، وما يجري في لحن أقوالهم من خبث وبلاء.

ص - إتاحة المجال لأهل الإسلام المطلعين على أحوال المنحرفين، لمناقشتهم في تجمعاتهم وفي وسائل الإعلام، ومجادلتهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

ض - المناقشة والحوار مع المغرر بهم والمخدوعين الذين اتبعوا رموز هذه الانحرافات عن جهل وغفلة.

ط - الحصول على فتاوى من علماء الإسلام البارزين عن حكم الإسلام في الانحرافات الاعتقادية المعاصرة، بشكل واضح وصريح ونشرها في مختلف الوسائل.

ظ - على الذين يتحملون شرف منازلة هذه الأفكار الضالة والعقائد الزائفة أن يكونوا على وعي عميق بجذور هذه الأفكار ومضامينها ورموزها ومصطلحاتها، وغير ذلك من الأسباب العلمية والثقافية، والأنماط التحاورية، ولا يكفي في هذا المضمار مجرد العاطفة أو العلم بالشرع دون استبانة سبيل المجرمين، بل لابد من العلم بالشرع والعلم بالواقع.

ع - ضرورة إنشاء مراكز ثقافية تكون مهمتها رصد ما يكتبه المنحرفون من أبناء البلاد الإسلامية، والرد عليهم، وكشف أساليبهم، وإمداد الباحثين بالمعلومات عن الاتجاهات المنحرفة، وصلاتها، وأهدافها، وأساليبها وأعمالها.

ص: 2244

غ - إنشاء المجلات والصحف التي تنشر العقيدة الصحيحة من خلال أنماط وأساليب أدبية جديدة، مع تشجيع القائم منها.

ف - الاهتمام بالإعلام المسموع والمقروء والمرئي وتسخيره لإيضاح الفكر السليم، وكشف شبهات الانحرافات والسموم الاعتقادية والفكرية.

وفي ختام هذا البحث أحمد اللَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

ولست أدعي الكمال والإحاطة بهذا الموضوع ولا المقاربة، وحسبي أني بذلت من الجهد ما أرجو معه الثواب من اللَّه الكريم، والعفو منه -سبحانه- عن الخطأ والزلل، والحمد للَّه أولًا وآخرًا وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه.

• • •

ص: 2245

‌فهرس مصادر ومراجع البحث

(1)

(حرف الألف)

1 -

الآثار الكاملة: لمحمد الماغوط، دار العودة - بيروت، بدون تاريخ.

2 -

أباطيل وأسمار: لمحمود شاكر، مطبعة المدني - القاهرة، الطبعة الثانية 1972 م.

3 -

الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر: لعبد الحميد جيدة، دار الشمال للطباعة والنشر والتوزيع طرابلس - لبنان، طبعة 1986 م.

4 -

اتجاهات الشعر العربي المعاصر: لإحسان عباس، دار الشروق للنشر والتوزيع - الأردن، الطبعة الثانية 1992 م.

5 -

أجنحة المكر الثلاثة: لعبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق - بيروت، الطبعة الثالثة 1402 هـ/ 1982 م.

6 -

الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة: للشيخ عبد الرحمن الدوسري، مكتبة دار الأرقم - الكويت، الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م.

7 -

أحاديث عن جبران: لرياض حنين، مؤسسة نوفل - بيروت، الطبعة الأولى 1983 م.

8 -

أحجار على رقعة الشطرنج: لوليام غاي كار، ترجمة: سعيد جزائري، دار النفائس - بيروت، الطبعة الرابعة 1401 هـ.

9 -

أحد عشر كوكبًا: لمحمود درويش، دار الجديد، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1992 م.

10 -

أخبار أبي تمام: لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي، حققه خليل عساكر وآخران، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت.

11 -

أخطاء المنهج الغربي الوافد: لأنور الجندي، دار الكتاب اللبناني - بيروت، الطبعة الأولى 1974 م.

(1)

لم أدخل في هذا الفهرس الكتب التي اكتفيت بالإشارة إليها في صلب البحث، كما لم أدخل فيه الصحف والمجلات.

ص: 2259

12 -

الأخلاق الإسلامية وأسسها: لعبد الرحمن الميداني، دار القلم - دمشق، الطبعة الثالثة 1413 هـ - 1992 م.

13 -

الأخلاق عند كنت: للدكتور عبد الرحمن بدوي، الناشر: وكالة المطبوعات - الكويت 1979 م.

14 -

الأدب الجديد والثورة: محمد دكروب، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الثالثة 1990 م.

15 -

الأدب المعربي المعاصر: أعمال مؤتمر روما 1961 م، دار الشمال للطباعة والنشر والتوزيع - طرابلس لبنان، الطبعة الأولى 1990 م.

16 -

الأدب من الداخل: لجورج طرابيشي، دار الطليعة - بيروت، الطبعة الثانية 1981 م.

17 -

أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب: للدكتور سيد أحمد فرج، دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م.

18 -

الأدب ومذاهبه: للدكتور محمد مندور، دار نهضة مصر للطبع والنشر - القاهرة، بدون تاريخ.

19 -

أدونس أو تموز: لجيمس فريزر، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، نشر: دار الصراع الفكري بيروت 1957 م.

20 -

أدونيس منتحلًا: لكاظم جهاد، إفريقيا الشرق، طبعة 1991 م.

21 -

الأديب والالتزام: للدكتور نوري حمودي القيسي، نشر جامعة بغداد، طبع دار الحرية - بغداد 1400 هـ.

22 -

الأديب ومفوض الشرطة: لجورج بالوشي هورفان، دار الكاتب العربي للتأليف والترجمة والنشر - بيروت.

23 -

إرشاد الفحول: لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة - بيروت، 1399 هـ.

24 -

الإرهاب: لفرج فودة، دار مصر الجديدة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1988 م.

25 -

أزمة الإسلام السياسي: للدكتور حيدر إبراهيم علي، مركز الدراسات السودانية، الطبعة الثانية 1991 م.

26 -

الأساطير: لأحمد كمال زكي، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.

27 -

أسئلة الشعر: لمنير العكش، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1979 م.

28 -

إسرائيل في الاستراتيجية الأميركيه في الثمانينات: لكميل منصور، الطبعة الأولى 1980 م بيروت.

29 -

أسس الفلسفة الماركسية: لـ ق. افاناسييف، ترجمة: عبد الرزاق الرصافي، دار الفارابي - بيروت الطبعة الرابعة 1984 م.

30 -

الأسس الفلسفية للعلمانية: لعادل ظاهر، دار الساقي، الطبعة الأولى 1993 م.

31 -

الأسس النفسية: للإبداع الفني: للدكتور مصطفى سويث، دار المعارف - مصر، بدون تاريخ.

ص: 2260

31 -

الأسطورة: للدكتور ك. ك. راتفين، ترجمة: صادق جعفر الخليلى، منشورات عوبدات.

32 -

الأسطورة في الشعر المعاصر: لأسعد مرزوق، منشورات آفاق - بيروت 1959 م.

33 -

أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربى الحديث: لتريثا عوض، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1968 م.

34 -

الأسلام السياسي: لمحمد سعيد العشماوي، سينا للنشر - القاهرة، الطبعة الثانية 1989 م.

35 -

الإسلام على حقيقته: للقذافي، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، وبدون تاريخ.

36 -

الإسلام في الأسر: للصادق النيهوم، رياض الريس للكتب والنشر - لندن، الطبعة الأولى 1991 م.

37 -

الإسلام وأوضاعنا السياسية: لعبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابقة 1406 هـ - 1986 م.

38 -

الإسلام والحداثة: لعبد المجيد الشرفي، الدار التونسية للنشر، طبعة 1991 م.

39 -

الإسلام والحداثة: ندوة مواقف، شارك فيها مجموعة من الحداثيين، دار الساقي، الطبعة الأولى 1990 م.

40 -

الإسلام والسياسة: للدكتور محمد عمارة، دار التوزيع والنشر الإسلامية - القاهرة، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م.

41 -

الإسلام والعروبة: لمجدي رياض، مركز الحضارة العربية، الطبعة الأولى 1989 م.

42 -

أسلوب جديد في حرب الإسلام: لجمعان عايض الزهراني، رابطة العالم الإسلام، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1991 م.

43 -

الإسماعيلية تاريخ وعقائد: لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة - باكستان، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

44 -

الاشتراكية الوافدة من الصقيع: لجان بول سارتر، دار الكاتب العربي للتأليف والترجمة والنشر بيروت.

45 -

إشكاليات القراءة وآليات التأويل: لنصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربى - بيروت، الطبعة الثانية 1992 م.

46 -

الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر، دار الكتاب العربي - بيروت، بدون تاريخ.

47 -

أصل الأنواع: لشارلس روبرت داروين، ترجمة: إسماعيل مظهر، بدون ناشر ولا تاريخ.

48 -

أصوات ثقافية من المغرب العربي: لأحمد فرحات، الدار العالمية للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ.

49 -

أصول التنصير في الخليج العربي: لكونوي زيقلر، ترجمة: مازن صلاح مطبقاني، مكتبة ابن القيم - المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م.

ص: 2261

50 -

أصول الدافع الجنسي: لكولن ولسن، ترجمة: يوسف شرورو وسمير كتّاب، دار الآداب - بيروت الطبعة الثالثة 1986 م.

51 -

أصول الشريعة: لمحمد سعيد العشماوي، سينا للنشر، الطبعة الثالثة 1992 م.

52 -

الأصولية الإسلامية ضمن سلسلة الدين والثورة في مصر: للدكتور حسن حنفي، مكتبة مدبولي القاهرة، بدون تاريخ.

53 -

أضواء جديدة على جبران: لتوفيق صايغ، رياض الريس للكتاب والنشر، طبعة 1990 م.

54 -

أضواء جديدة على لعبة اليمين واليسار: للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م.

55 -

أضواء على ركن من التوحيد: لعبد العزيز بن حامد، دار مكة المكرمة، بدون طبعة وبدون تاريخ.

56 -

أضواء على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: لأحمد منصور، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.

57 -

الاعتراف: لأرثور لوندون، دار الكاتب العربي للتأليف والترجمة والنشر - بيروت.

58 -

الأعلام (قاموس تراجم): لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الخامسة 1980 م.

59 -

الأعمال السياسية الكاملة: لنزار قباني، منشورات نزار قباني - بيروت، الطبعة الخامسة أيلول سبتمبر 1983 م.

60 -

الأعمال الشعرية الكاملة: لأدونيس، دار العودة - بيروت، الطبعة الرابعة 2/ 1/ 1985 م.

61 -

الأعمال الشعرية الكاملة: لمعين بسيسو، دار العودة - بيروت، الطبعة الثالثة 1/ 10/ 1987 م.

62 -

الأعمال الشعرية الكاملة: لممدوح عدوان، دار العودة - بيروت 1986 م.

63 -

الأعمال الكاملة: لتوفيق صايغ، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى نيسان إبريل 1990 م.

64 -

أعمدة الاستعمار الأمريكي ومصرع الديموقراطية في العالم الجديد: لفيكتور بيرلو، ألبرت!. كان تعريب: منير البعلبكي، دار العلم للملايين 1980 م.

65 -

اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية: لبرهان غيون، دار التنوير - بيروت، الطبعة الثانية 1987 م.

66 -

أفق الحداثة وحداثة النمط: لسامي مهدي، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد، طبعة 1988 م.

67 -

الأقباط في وطن متغير: لغالي شكري، دار الشروق، طبعة 1411 هـ - 1991 م.

68 -

اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: لابن تيمية، تحقيق: الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، بدون ناشر، الطبعة الأولى 1404 هـ.

ص: 2262

69 -

أقصى درجات العزلة: لطاهر بن جلون، ترجمة فيصل قنبلة جلول، دار الحداثة - لبنان الطبعة الأولى 1981 م.

70 -

أقواس الهزيمة: للدكتور غالي شكري، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع - القاهرة للطبعة الأولى 1990 م.

71 -

الالتزام الإسلامي في الشعر: لناصر بن عبد الرحمن الخنين، دار الأصالة - الرياض، الطبعة الأولى 1408 هـ.

72 -

الالتزام في الشعر العربي: للدكتور أحمد أبو حاقة، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى 1979 م.

73 -

ألف شخصية عظيمة: إعداد بلانتاجيت سومرسيت فراي، ترجمة مازن طليمات، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1988 م.

74 -

ألف وعام من الحنين: لرشيد بو جدرة، ترجمة: مرزاق بقطاش، المؤسسة الوطنية للكتاب - الجزائر الطبعة الثانية 1984 م.

75 -

اللَّه يتجلى في عصر العلم: لجون كلوفر مونسما، ترجمة: الدمرداش عبد المجيد سرحان، مؤسسة الحلبي وشركاه - القاهرة، الطبعة الثالثة 1968 م.

76 -

امرأة عند نقطة الصفر: لنوال السعداوي، دار الآداب - بيروت، الطبعة الرابعة 1985 م.

77 -

أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب: لصلاح عبد القاح الخالدي، دار المنارة - جدة الطبعة الأولى 1405 هـ.

78 -

أمريكا والعرب، السياسة الأمريكية في الوطن العربي في القرن العشرين: لنظام شرابي رياض الريس للكتب والنشر - لندن، طبعة عام 1995 م.

79 -

أنا وهو: للبرتومورافيا، ترجمة: نبيل المهايني، دار الآداب - بيروت، الطبعة الثانية 1988 م.

80 -

الانتباه: للبرتومورافيا، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب - بيروت، الطبعة الثالثة 1983 م.

81 -

الإنسان بين المادية والإسلام: لمحمد قطب، دار الشروق - بيروت، القاهرة، الطبعة السادسة 1400 هـ - 1980 م.

82 -

الإنسان والداروينية: لمحمد صالح كريم خان، مطبعة الجمهور - الموصل، طبعة 1976 م.

83 -

إنسانية الإنسان: لرينيه دوبو، تعريب: نبيل الطويل، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى 1399 هـ - 1979 م.

84 -

الإنكار: لرشيد بو جدرة، ترجمة: صالح القرمادي، المؤسسة الوطنية للكتاب - الجزائر طبعة 1984 م.

85 -

أهواء العصر ومقتضيات العصر (محاضرة): لجعفر شيخ إدريس، ألقاها على طلاب السنة التمهيدية للماجستير في كلية الشريعة في الرياض عام 1402 هـ.

ص: 2263

86 -

أوروبا إلى أين؟: ليوسف فرنسيس، تقديم: سهير القلماوي، مكتبة مدبولي - القاهرة بدون تاريخ.

87 -

أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج: لتوفيق الواعي، الوفاء للطباعة والنشر - المنصورة الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م.

88 -

الإيمان: لعبد المجيد الزنداني، دار القلم - دمشق، ومكتبة طيبة - المدينة المنورة، الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م.

89 -

الإيمان أركانه وحقيقته ونواقضه: للدكتور محمد نعيم ياسين، دار الفرقان، الطبعة السادسة 1407 هـ - 1987 م.

90 -

أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: لمحمد أركون، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الأولى 1993 م.

(حرف الباء)

91 -

البئر الأولى (سيرة ذاتية): لجبرا إبراهيم جبرا، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة 1987 م.

92 -

البحث عن الجذور: لخالدة سعيد، إصدار دار مجلة شعر - بيروت عام 1960 م.

93 -

بحثًا عن الحداثة: لمحمد الأسعد، مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت، الطبعة الأولى 1986 م.

94 -

البداية والنهاية: للحافظ ابن كثير، مكتبة المعارت - بيروت، الطبعة الثالثة 1978 م.

95 -

بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره: للدكتور إحسان عباس، دار الثقافة - بيروت، الطبعة الخامسة 1983 م.

96 -

برج بابل، النقد والحداثة الشريدة: لغالي شكري، رياض الريس للكتب والنشر - لندن الطبعة الأولى 1989 م.

97 -

البرهان في علوم القرآن: للسيوطي، دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1391 هـ - 1972 م.

98 -

البيان والتبيين: لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي - بيروت، الطبعة الرابعة.

(حرف التاء)

99 -

تاريخ آداب العرب: مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الرابعة 1394 هـ - 1974 م.

100 -

تاريخ الإلحاد في الإسلام: لعبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية - القاهرة 1945 م.

101 -

تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية - بيروت، بدون تاريخ.

102 -

تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، الوحدة، الانقسام، الحل 1957 - 1965 م: لرفعت السعيد، شركة الأمل للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة، الطبعة بدون تاريخ.

ص: 2264

103 -

تاريخ خليفة بن خياط: لخليفة بن خياط، تحقيق: الدكتور أكرم ضياء العمري، دار طيبة - الرياض الطبعة الثانية 1405 هـ - 1985 م.

104 -

تاريخ الشعر العربي الحديث: لأحمد قبش، بدون ناشر، طبعة 1391 هـ - 1971 م.

105 -

تاريخ الصحابة العربية: لفيليب دي طرازي، المطبعة الأدبية - بيروت، طبعة 1913 م.

106 -

تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: لدونالد سترومبرج، ترجمة: أحمد الشيباني، طبعة مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1984 م.

107 -

تاريخ الفكر الأوروبي الحديث: لدونالد سترومبرج، ترجمة: أحمد الشيباني، دار القارئ العربي، الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م.

108 -

تاريخ الفلسفة اليوناني: ليوسف كرم، دار القلم، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1977 م.

109 -

التبصير في الدين: لأبي المظفر الإسفراييني، تحقيق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب - بيروت الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

110 -

التجديد في الشعر الحديث: للدكتور يوسف عز الدين، كتاب النادي الأدبي الثقافي جدة، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

111 -

التجديد في شعر المهجر: لأنس داود، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، طبعة 1967 م.

112 -

تجربتي الشعرية: لعبد الوهاب البياتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت الطبعة الثالثة 1993 م.

113 -

تحت راية القرآن: مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة السابعة 1394 هـ - 1974 م.

114 -

التحديات التي تواجه المرأة العربية في نهاية القرن العشرين: لمجموعة من الكتاب، من منشورات جمعية تضامن المرأة العربية في مصر، طبعة 1986 م.

115 -

تحطمت الطائرات عند الفجر: لباروخ نادل، مكتبة الحرمين، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م.

116 -

تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين: للدكتور صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي - القاهرة، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1992 م.

117 -

تحكيم القوانين: للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مطابع شركة الصفحات الذهبية الرياض، الطبعة الثانية 1403 هـ.

118 -

التخويف من النار: لابن رجب الحنبلي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

119 -

التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: لمحمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: الدكتور أحمد حجازي السقا، المكتبة العلمية - بيروت، طبعة 1402 هـ - 1982 م.

120 -

تراثنا. . كيف نعرفه؟: لحسين مروة، مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت، الطبعة الأولى 1985 م.

ص: 2265

121 -

تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير: لمحمد إبراهيم مبروك، دار ثابت، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م.

122 -

تزييف الوعي: لفهمي هويدي، دار الشروق، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م.

123 -

التصريح بما ورد في نزول المسيح: لمحمد أنور شاه الكشميري الهندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، ودار القرآن الكريم - بيروت، الطبعة الثالثة 1401 هـ - 1981 م.

124 -

التطور عملياته ونتائجه: لإدوارد أودودس، ترجمة: الدكتور أمين رشيد حمدي، والدكتور رمسيس لطفي، مراجعة وتقديم: الدكتور محمد رشاد الطوبي، الناشر: عالم الكتب القاهرة سنة 1969 م.

125 -

التطور والثبات في حياة البشر: لمحمد قطب، دار الشروق، الطبعة الرابعة 1400 هـ - 1980 م.

126 -

التعريفات: للشريف علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

127 -

تفسير القرآن العظيم: لأبي الفداء ابن كثير، دار الأندلس - بيروت، الطبعة الرابعة 1983 م.

128 -

التفسير النفسي للأدب: لعز الدين إسماعيل، دار العودة - بيروت، بدون تاريخ.

129 -

تقريب التهذيب: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار المعرفة - بيروت، الطبعة الثانية 1395 هـ - 1975 م.

130 -

تلبيس إبليس: لابن الجوزي، دار الكتب العلمية - بيروت، بدون تاريخ.

131 -

توحيد الخالق: لعبد المجيد الزنداني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، ودار المجتمع جدة، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.

132 -

توفيق صايغ، صيرة شاعر ومنفي: لمحمود شريح، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة 1989 م.

133 -

التوفيق على مهمات التعاريف: لمحمد عبد الرؤوف المناوي، تحقيق: محمد رضوان الراية، دار الفكر - دمشق، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م.

134 -

تهافت العلمانية: لعماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، طبعة 1401 هـ - 1981 م.

(حرف الثاء)

135 -

الثابت والمتحول 1 - 3: لعلي أحمد سعيد "أدونيس"، دار العودة - بيروت، الطبعة الرابعة 1983 م.

136 -

ثقافة الضرار: لجمال سلطان، دار الوطن للنشر - الرياض، الطبعة الأولى 1413 هـ.

137 -

الثورة والثقافة: لأندره جيد - لويس فيشر - ريتثارد رايت، دار الكاتب العربي للتأليف والترجمة والنشر - بيروت.

ص: 2266

(حرف الجيم)

138 -

جامع الأصول في أحاديث الرسول: لابن الأثير الجزري، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني ومطبعة الملاحة، طبعة 1389 م.

139 -

جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لابن جرير الطبري، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف - مصر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.

140 -

جامع الرسائل: لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار المدني - جدة، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1984 م.

141 -

جامع العلوم والحكم: لابن رجب الحنبلي، دار المعرفة - بيروت، بدون تاريخ.

142 -

جاهلية القرن العشرين: لمحمد قطب، دار الشروق، طبعة 1398 هـ -1978 م.

143 -

جذور العلمانية: للدكتور السيد أحمد فرج، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة، الطبعة الرابعة 1411 هـ - 1990 م.

144 -

جمهرة أشعار العرب: لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، دار صادر - بيروت.

145 -

الجمهورية: لأفلاطون، ترجمة ودراسة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، طبع سنة 1974 م.

146 -

جناية الشعر الحر: لأحمد فرح عقيلان، نادي أبها الأدبي، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1982 م.

147 -

الجنس في القرآن: لإبراهيم محمود، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 1994 م.

148 -

الجنس والنفس في الحياة الإنسانية: للدكتور علي كمال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984 م.

149 -

الجنوبي أمل دنقل: لعبلة الرويني، دار سعاد الصباح، الطبعة الأولى 1992 م.

150 -

جهادنا الثقافي: لجمال سلطان، مركز الدراسات الإسلامية - بريطانيا، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م.

151 -

جولة في عالم التيه والضياع: لنجيب عبد اللَّه الرفاعي، مكتبة الفلاح، بدون تاريخ.

(حرف الحاء)

152 -

الحداثة الأولى: لمحمد جمال باروت، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الطبعة الأولى 1991 م.

153 -

الحداثة بين التعمير والتدمير: للدكتور حسن بن فهد الهويمل، دار المسلم - الرياض، الطبعة الأولى 1413 هـ.

154 -

الحداثة تعود: للدكتور حلمي محمد القاعود، دار المعارج الدولية للنشر، الطبعة الأولى 1412 هـ.

155 -

حداثة السؤال: لمحمد بنيس، المركز الثقافي العربي - بيروت، الطبعة الثانية 1988 م.

ص: 2267

156 -

الحداثة عبر التاريخ مدخل الى نظرية: لحنا عبود، منشورات اتحاد الكتاب العربي 1989 م.

157 -

الحداثة في الشعر: ليوسف الخال، دار الطليعة - بيروت، الطبعة الأولى 1978 م.

158 -

الحداثة في الشعر العربي المعاصر بيانها ومظاهرها: للدكتور محمد حمود، دار الكتاب اللبناني بيروت، الطبعة الأولى 1456 هـ - 1986 م.

159 -

الحداثة في نظور إيماني: للدكتور عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي للنشر والتوزيع - الرياض الطبعة الأولى 1409 هـ - 1988 م.

160 -

الحداثة في ميزان الإسلام: للشيخ عوض القرني، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م.

161 -

الحركات الباطنية في العالم الإسلامي: للدكتور محمد أحمد الخطيب، مكتبة الأقصى، عمان الأردن، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م.

162 -

حزب البعث تاريخه وعقائده: سعيد بن ناصر الغامدي، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1411 هـ.

163 -

حصوننا مهددة من داخلها: للدكتور محمد محمد حسين، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1397 هـ - 1977 م.

164 -

حق المرأة بين مشكلات التخلف الاجتماعي ومتطلبات الحياة: لعزيز السيد جاسم، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 1980 م.

165 -

الحقيقة الغائبة: فرج فودة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع - القاهرة، الطبعة الثانية 1988 م.

166 -

حقيقة المواقف الشيوعية من القضية الفلسطينية: لعابد سليمان المشوخي، مكتبة المنار، الأردن الزرقاء، الطبعة الأولى 1404 هـ.

167 -

حكاية زهرة: لحنان الشيخ، دار الآداب، الطبعة الثانية 1989 م.

168 -

حكم الإسلام في الاشتراكية: لعبد العزيز البدري، المكتبة العلمية - المدينة، الطبعة الثانية 1384 هـ - 1965 م.

169 -

حكم الأصوات النساء العربيات يتكلمن: لعائشة لمسين، ترجمة: الدكتور حافظ الجمالي، طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1987 م.

170 -

الحكومة الإسلامية: لأبي الأعلى المودودي، تعريب: أحمد إدريس، المختار الإسلامي - القاهرة الطبعة الثانية 1400 هـ - 1980 م.

171 -

حكومة العالم الخفية: لشيريب سبيريد وفينتش، ترجمة مأمون سعيد، دار النفائس - بيروت الطبعة الرابعة 1402 هـ.

172 -

الحكيم في حديثه مع اللَّه، ومدرسة المتمردين على الشريعة: للدكتور عبد العظيم المطعني، دار الكتاب الإسلامي - مصر، طبع عام 1403 هـ.

173 -

الحل الإسلامي فريضة وضرورة: للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشرة 1405 هـ - 1985 م.

ص: 2268

174 -

الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشرة 1405 هـ - 1985 م.

175 -

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة 1400 هـ - 1980 م.

176 -

حوارات مع مسلمين أوروبيين: للدكتور عبد اللَّه قادري الأهدل، دار القلم - سوريا.

177 -

حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية: لحنامينه، دار الفكر الجديد - بيروت، الطبعة الأولى 1992 م.

178 -

حوار مع الشعر الحر: لسعد دعبيس، مؤسسة شباب الجامعة - اسكندرية، الطبعة الأولى 1971 م.

179 -

حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون: عبد الحليم خفاجي، دار الأنصار، دار القلم - القاهرة والكويت، الطبعة الثانية 1397 هـ- 1977 م.

180 -

حوار مع فكر حسين مروة: لمجموعة من الكتاب والمفكرين العرب، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى 1990 م.

181 -

حول تطبيق الشريعة: لمحمد قطب، مكتبة السنة، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م.

182 -

حول الدين والديمقراطية: لنجيب محفوظ، الدار المصرية اللبنانية - القاهرة، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1995 م.

(حرف الخاء)

183 -

الخبز الحافي: لمحمد شكري، دار الساقي، بدون تاريخ.

184 -

خصائص التصور الإسلامي: لسيد قطب، دار الشروق، الطبعة السابعة 1402 هـ - 1982 م.

185 -

الخصائص العامة للإسلام: للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1405 هـ - 1985 م.

186 -

الخطاب العربي المعاصر: لغادي إسماعيل، الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1992 م.

187 -

خلف الحجاب، موقف الجماعات الإسلامية من قضية المرأة: لسناء المصري، سينا للنشر - مصر الطبعة الأولى 1989 م.

188 -

خلق المسلم: لمحمد الغزالي، دار القلم، دمشق - بيروت، الطبعة الثانية 1400 هـ - 1980 م.

189 -

الخمور الفكرية: لآرثر كوستلر، دار الكاتب العربي للتأليف والترجمة والنشر - بيروت.

190 -

خواتم: أنسي الحاج، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة 1991 م.

ص: 2269

191 -

الخيار شمشون، أسرار وخفايا الترسانة النووية الإسرائيلية: لسيمور هيرش، ترجمة: فريق من الخبراء العرب، دار الكتاب العربي - القاهرة، دمشق، الطبعة الأولى 1412 هـ.

(حرف الدال)

192 -

دار المتعة: لوليد إخلاصى، رياضى الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى كانون الثاني - يناير 1991 م.

193 -

درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام، الطبعة الأولى 1399 هـ - 1979 م.

194 -

دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: لنوال السعداوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، الطبعة الثانية 1990 م.

195 -

دراسات في الإسلام: لحسين مروة، ومحمد دكروب، ومحمود أمين العالم، وسمير سعد، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الرابعة 1987 م.

196 -

دراسات في الشعر العربي الحديث: لإمطانيوس ميخائيل، المكتبة العصرية - بيروت، الطبعة الأولى 1968 م.

197 -

دراسات في النفس الإنسانية: لمحمد قطب، دار الشروق، طبعة 1394 هـ - 1974 م.

198 -

دراسات في نقد الشعر: لإلياس خوري، دار ابن رشد، بدون تاريخ.

199 -

دع القلق وابدأ الحياة: لدايل كارينجي، تعريب: عبد المنعم الزيادي، دار الندوة الجديدة بيروت، طبعة 1987 م.

200 -

دفاع أم عدوان؟ القوانين الأمريكية، لضبط صادرات السلاح، والاجتياح الإسرائيلي للبنان: لوليم اسبوزا، ولس جنكه، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1983 م قبرص.

201 -

دفاعًا عن الماركسية، ردأ على مختلف منتقديها: لموريس كورنفورث، دار الفارابي - بيروت الطبعة الأولى 1985 م.

202 -

دليل الناقد الأدبي: للدكتور ميجان الرويلي، والدكتور سعد البازعي، العبيكان، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1995 م.

203 -

دم أبراهام، رؤية إلى الشرق الأوسط: لجيمي كارتر، ترجمة سامي جابر، دار المروج - بيروت 1986 م.

204 -

دور الدول الاشتراكية في تكوين إسرائيل المخططات السياسية، الاتفاقيات السرية، والمعونات الاقتصادية، الأهداف والعلاقات: لإبراهيم الشريفي، الشركة العامة للطباعة، الطبعة الأولى 1378 هـ - 1967 م.

205 -

الدولة الإسلامية: لأبي بكر الجزائري، المكتب الإسلامى، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م.

ص: 2270

206 -

الديانات والعقائد في مختلف العصور: لأحمد بن عبد الغفور عطار، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م.

207 -

الديمقراطية أولًا الديمقراطية دائمًا: لعبد الرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1992 م بيروت.

208 -

الدين والتحرر الثقافي: للدكتور حسن حنفي، مكتبة مدبولي - القاهرة، بدون تاريخ.

209 -

ديوان أبي الطيب المتنبي: شرح أبي البقاء العكبري، شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده - مصر، الطبعة الأخيرة 1391 هـ - 1971 م.

210 -

ديوان أبي الطيب المتنبي: دار بيروت للطباعة والنشر 1403 هـ.

211 -

ديوان أحمد دحبور: دار العودة - بيروت، طابعة 1983 م.

212 -

ديوان البارودي: محمود سامي البارودي، صححه علي الجارم ومحمد شفيق معروف، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1953 م.

213 -

ديوان بدر شاكر السياب: دار العودة - بيروت، طبعة 1971 م.

214 -

ديوان توفيق زياد: دار العودة - بيروت، بدون تاريخ.

215 -

ديوان دعبل بن علي الخزاعي: جمعه وحققه الدكتور محمد يوسف نجم، دار الثقافة - بيروت 1409 هـ.

216 -

ديوان الزبيري: لمحمد أحمد الزبيري، دار العودة - بيروت، الطبعة الأولى 1398 هـ - 1978 م.

217 -

ديوان سعدى يوسف: دار العودة - بيروت، الطبعة الثالثة 1988 م.

218 -

ديوان سميح القاسم: دار العودة - بيروت، طبعة 1973 م.

219 -

ديوان صلاح عبد الصبور: دار العودة - بيروت، طبعة 1986 م.

220 -

ديوان عبد العزيز المقالح: دار العودة - بيروت، الطبعة الثانية 1980 م.

221 -

ديوان عبد الوهاب البياتي: دار العودة - بيروت، الطبعة الرابعة 1995 م.

222 -

ديوان الفيتوري: لمحمد الفيتوري، دار العودة - بيروت، طبعة 1979 م.

223 -

ديوان محمود درويش: دار العودة - بيروت، الطبعة الثانية عشر 1987 م.

224 -

ديوان نازك الملائكة: دار العودة - بيروت، الطبعة الثانية 1981 م.

(حرف الذال)

225 -

ذكريات الجيل الضائع: لغالي شكري، الدار العربية للكتاب، طبعة 1984 م.

(حرف الراء)

226 -

رأيهم في الإسلام: حوار صريح مع أربعة وعشرين أديبًا عربيًا: للوك باربولسكو وفيليب كاردينال، دار الساقى، الطبعة الثانية 1990 م.

227 -

رجال الشيعة في الميزان: لعبد الرحمن عبد اللَّه الزرعي، دار الأرقم - الكويت، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

ص: 2271

228 -

رجال ونساء أسلموا: لعرفان كامل العشي، دار القلم - الكويت، الطبعة الثانية 1398 هـ - 1978 م.

229 -

رحلة في عقول مصرية: لإبراهيم عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990 م.

230 -

رحلة نحو البداية: لكولن ولسن، ترجمة: سامي خثبة، دار الآداب - بيروت، الطبعة الثالثة 1988 م.

231 -

الرد على المخالف من أصول الإسلام: لبكر بن عبد اللَّه أبو زيد، دار الهجرة للنشر والتوزيع بدون تاريخ.

232 -

ردة ولا أبا بكر لها: لأبي الحسن الندوي، مكتبة السداوي للنشر والتوزيع - القاهرة، والمكتبة الملكية - مكة المكرمة، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1992 م.

233 -

الرسائل: لمحمود درويش وسميح القاسم، دار العودة - بيروت، طبعة 1990 م.

234 -

رسائل الحب والحياة: خليل حاوي، دار النضال - بيروت.

235 -

رسائل فلسفية: لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي، دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة الثالثة 1979 م.

236 -

رسالة في اللاهوت والسياسة: لاسبينوزا، ترجمة: حسن حنفي، دار الطليعة 1981 م - بيروت.

237 -

الرسل والرسالات: للدكتور عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م.

238 -

روجيه جارودي بعد الصمت: للدكتور الطيب تزيني، دار ابن خلدون - بيروت، الطبعة الثانية 1983 م.

239 -

الروح: لابن القيم، دار الندوة الجديدة - بيروت، بدون تاريخ.

240 -

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني: لأبي الفضل السيد محمود الألوسي، إدارة الطباعة المنيرية - دار إحياء التراث العربي - بيروت، بدون تاريخ.

241 -

الروس قادمون: لإبراهيم سعده، المكتب المصري الحديث، الطبعة الرابعة بدون تاريخ.

242 -

رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي، الجزء الأول: مؤامرة الدويلات الطائفية: لمحمد ابن عبد الغني النوادي، الطبعة الأولى 1403 هـ.

(حرف الزاي)

243 -

زاد المعاد: لابن القيم، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1401 هـ - 1981 م.

244 -

زمن الشعر: لأدونيس علي أحمد سعيد، دار العودة - بيروت، الطبعة الثالثة 1983 م.

ص: 2272

(حرف السين)

245 -

سقط الزند: لأبي العلاء المعري، دار بيروت للطباعة والنشر 1400 هـ - 1980 م.

246 -

سقوط الإمام: نوال السعداوي، دار المستقبل العربي - القاهرة، الطبعة الأولى 1987 م.

247 -

سقوط الحضارة: لكولن ولسون، دار الآداب - بيروت، الطبعة الثالثة 1982 م.

248 -

سلسلة الأحاديث الضعيفة: لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1398 هـ.

249 -

سلطانة: لغالب هلسا، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1987 م.

250 -

السلفية والوطنية: لعبد القادر الشاوي، مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت، الطبعة الأولى 1985 م.

251 -

سلم الوصول لشرح نهاية السول: لمحمد بخيت المطيعي، المطبعة السلفية - مصر.

252 -

سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

253 -

سنن الدارمي: لأبي محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، طبعة دار الدعوة استانبول - تركيا عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

254 -

سنن أبي داود: للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، طبعة دار الدعوة استانبول - تركيا، عام 1401 هـ، ضمن سلسلة الكتب الستة.

255 -

سنن ابن ماجه: لمحمد بن يزيد القزويني، طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا، عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

256 -

سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية الأمام السندي: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني، طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا، عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

257 -

سباحة في بحيرة الشيطان: لغادة السمان، منشورات غادة السمان - بيروت، طبعة 1987 م.

258 -

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: لكمال الهلباوي، معهد الدراسات السياسية - إسلام آباد الطبعة الثانية 1413 هـ.

259 -

سير أعلام النبلاء: للذهبي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1402 هـ - 1982 م.

(حرف الشين)

260 -

شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة: لمحمد دكروب، مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت الطبعة الأولى 1987 م.

ص: 2273

261 -

شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد الحنبلي، دار الآفاق الجديدة - بيروت، بدون تاريخ.

262 -

شرح أصول الإيمان: لابن عثيمين، دار الوطن، الطبعة الأولى 1410 هـ.

263 -

شرح العقيدة الطحاوية: لعلي بن أبي العز الدمشقي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مكتبة دار البيان - دمشق، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م.

264 -

شرح العقيدة الواسطية: لابن عثيمين، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية 1415 هـ.

265 -

شرح الكوكب المنير: لابن النجار محمد بن أحمد الفتوحي، تحقيق: الدكتور محمد الزحيلي والدكتور نزيه حماد، دار الفكر بدمشق، نشر: مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بدون تاريخ.

266 -

شرح الواسطية: لمحمد خليل هراس وعبد الرزاق عفيفي، طباعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، طبعة 1402 هـ - 1982 م.

267 -

الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية: للدكتور عمر سليمان الأشقر، دار الدعوة، الطبعة الأولى 1983 م - 1404 هـ.

268 -

شريعة اللَّه حاكمة، ليس بالحدود وحدها: للدكتور علي جريشة، مكتبة وهبة، طبعة 1397 هـ - 1977 م.

269 -

الشطار: لمحمد شكري، دار الساقي، الطبعة الأولى 1992 م.

270 -

شعراء السعودية المعاصرون، التاريخ والواقع: لأحمد كمال زكي، دار العلوم للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

271 -

الشعراء العربي الحديث الشعر المعاصر بنياته وإبدالاتها: لمحمد بنيس، دار توبقال للنشر بالمغرب الطبعة الأولى 1990 م.

272 -

الشعر العربي المعاصر: يوسف اليوسف، منشورات اتحاد الكتاب العربي، دمشق 1980 م.

273 -

الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية: للدكتور عز الدين إسماعيل، طبع دار العودة - بيروت، الطبعة الثالثة.

274 -

شعرنا الحديث إلى أين؟: للدكتور غالي شكري، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الثانية 1978 م.

275 -

الشعوبية الجديدة: لمحمد مصطفى رمضان، بدون ناشر ولا تاريخ.

276 -

شفاء العليل: لابن القيم الجوزية، دار التراث - القاهرة، بدون تاريخ.

277 -

شقة الحرية: لغازي القصيبي، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية 1994 م.

278 -

الشهاب الراصد: لمحمد لطفي جمعة، طبعة المقتطف والمقطم عام 1926 م.

279 -

الشيوعية: لأحمد عبد الغفور عطار، دار الأندل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م.

280 -

الشيوعية والإسلام: لعباس محمود العقاد، وأحمد عبد الغفور عطار، دار الأندلس للطباعة والنشر بيروت، الطبعة الثانية 1392 هـ - 1972 م.

ص: 2274

281 -

الشيوعية والإنسانية: لعباس محمود العقاد، دار الاعتصام، الطبعة الثانية 1399 هـ - 1979 م.

(حرف الصاد)

282 -

صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري، طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا، عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

283 -

صحيح الجامع الصغير وزيادته: لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1406 هـ -1986 م.

284 -

صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج، طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا، عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

285 -

الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث: للدكتور الكتاني، دار الثقافة - المغرب الطبعة الأولى 1403 هـ - 1982 م.

286 -

الصراع الفكري في الأدب السوري: لأنطون سعادة، طبعة بيروت الثانية.

287 -

صراع مع الملاحدة حتى العظم: لعبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق - بيروت، الطبعة الثالثة 1402 هـ.

288 -

صفات المنافقين: لابن القيم، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الرابعة 1399 هـ.

289 -

صفة الصفوة: لابن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري، دار المعرفة - بيروت، الطبعة الثانية 1399 هـ - 1979 م.

290 -

صفة النفاق وذم المنافقين: لأبي بكر الفريابي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م.

291 -

صناعة الحياة: لمحمد أحمد الراشد، دار المنطلق - دبى، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م.

292 -

صوت السنوات الضوئية: لعبد الوهاب البياتى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1992 م.

293 -

الصوفية والسوريالية: لأدونيس، دار الساقي، الطبعة الأولى 1992 م.

(حرف الضاد)

294 -

ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة: لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم - دمشق الطبعة الثالثة 1408 هـ - 1988 م.

295 -

ضياع في سوهو: لكولن ولسن، دار الآداب - بيروت، الطبعة الخامسة 1982 م.

(حرف الطاء)

296 -

الطبقة الجديدة: لميلوفان دجيلاس، دار الكتاب العربي للتأليف والترجمة والنشر - بيروت.

ص: 2275

297 -

طريق الهجرتين وباب السعادتين: لابن القيم، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م.

(حرف العين)

298 -

عالم الملائكة الأبرار: للشيخ عمر الأشقر، مكتبة الفلاح ودار النفائس، الطبعة السادسة 1411 هـ - 1991 م.

299 -

العبر في خبر من غبر: للذهبي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زعلول، دار الباز للنشر والتوزيع مكة المكرمة، ودار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.

300 -

العجوز والبحر: لأرنست همنغواي، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر - بيروت، بدون تاريخ.

301 -

عداء اليهود للحركة الإسلامية: لزياد محمود علي، دار الفرقان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م.

302 -

عرس بغل: للطاهر وطار، دار ابن رشد للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1983 م.

303 -

العصريون معتزلة اليوم: ليوسف كمال، الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

304 -

عصر المفوض السياسي الأمريكى: لنصر شمالي، دار الحقائق للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1984 م.

305 -

العقد الفريد: لابن عبد ربه الأندلسي، دار الكتاب العربي - بيروت، بدون تاريخ.

306 -

العقلانية هداية أم غواية: لعبد السلام البسيوني، الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.

307 -

عقيدة أهل السنة والجماعة: للشيخ ابن عثيمين، بدون ناشر، طبعة 1406 هـ.

308 -

العقيدة الصحيحة وما يضادها: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض، طبعة 1403 هـ - 1983 م.

309 -

على طريق الوضوح المنهجي: للطيب تيزيني، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى 1989 م.

310 -

العلمانية: للدكتور سفر الحوالي، دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م.

311 -

العلمانية من منظور مختلف: لعزيز العظمة، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1992 م.

312 -

العلمانية وآثارها الخبيثة: لمحمد شاكر الشريف، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1411 هـ.

ص: 2276

313 -

علم التوحيد: لعبد العزيز الربيعة، بدون ناشر، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989 م.

314 -

العلمنة والدين، الإسلام، المسيحية، الغرب: لمحمد أركون، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي الطبعة الأولى 1990 م.

315 -

العلم يدعو للإيمان: لكريس موريسون، ترجمة: محمود صالح الفلكي، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، الطبعة الخامسة 1965 م.

316 -

عملية إعادة البناء والتفكير السياسي الجديد: لغورباتشوف، ترجمة: الدكتور وليد مصطفى، والدكتور أكرم مدانات، وغيرهما، دار الكرمل للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1988 م عمان.

317 -

العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم: لمحمد بن إبراهيم الوزير اليماني، تحميق شعيب الأرناؤوط، دار الثير، عَمَّان - الأردن، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.

(حرف الغين)

318 -

الغارة على التراث الإسلامي: لجمال سلطان، مكتبة السنة، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م.

319 -

الغرب في مواجهة الإسلام، معالم ووثائق جديدة: لمازن المطبقاني، مكتبة ابن القيم - المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م.

320 -

غزو من الداخل: لجمال سلطان، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1991 م.

321 -

غيم لأحلام الملك المخلوع (شعر): لمحمد علي شمس الدين، دار ابن خلدون - بيروت، الطبعة الأولى 1977 م.

(حرف الفاء)

322 -

فتافيت شاعر قائع معركة مع نزار قباني: لجهاد فاضل، دار الشروق، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1989 م.

323 -

الفتاوى السعدية: م لعبد الرحمن بن سعدي، طبعة المعارف - الرياض.

324 -

فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن بن قاسم مطبعة الحكومة - مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399 هـ.

325 -

فتح الباري: لابن حجر العسق لاني، رثاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض، بدون تاريخ.

326 -

الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: للدكتور هشام جعيط، ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الطليعة - بيروت، بدون تاريخ.

327 -

الفخ الأمريكي: لمحمد الشافعي، دار الشباب العربي - مصر 1991 م.

328 -

الفرق بين الفرق: لعبد القاهر بن طاهر الإسفراييني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة - بيروت، بدون تاريخ.

ص: 2277

329 -

الفصل في الملل والأهواء والنحل: لأبي محمد ابن حزم الظاهري، دار الفكر، طبعة 1400 هـ - 1980 م.

330 -

فصول في الفكر السياسي العربي: للطيب تيزيني، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى آذار 1989 م.

331 -

الفكر الإسلامي قراءة علمية: لمحمد أركون، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماط القومي - بيروت طبعة 1987 م.

332 -

فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام: لصالح بن عبد الرحمن العبود، دار طيبة - الرياض، الطبعة الأولى 1401 هـ.

333 -

الفلاح: قصة الحياة والموت في روسيا السوفيتية: كتبها فالنتين جوانز اليز وجوليان جركس، تعريب: الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، طبعة دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه.

334 -

الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها: لفؤاد زكريا، الطبعة الثانية.

335 -

فلسفة الدين والتربية عند كنت: للدكتور عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى 1980 م.

336 -

الفنون الصغرى، السفر الخامس: لأبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري، نادي الطائف الأدبي الطبعة الأولى 1415 هـ - 1985 م.

337 -

الفهرست: لابن النديم، دار المعرفة - بيروت، نشر دار الباز بدون تاريخ.

338 -

الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم الستة والكتاب: لحمد بن ناصر آل معمر التميمي، تحقيق: عبد السلام بن برجس بن ناصر العبد الكريم، دار العاصمة - الرياض، الطبعة الأولى 1407 هـ.

339 -

فوضى الحداثة: للدكتور عبد اللَّه الحامد، مذكرة مكتوبة بخط اليد، من محاضرات ألقاها على طلاب الدراسات العليا في كلية اللغة جامعة الإمام - الرياض.

340 -

في البحث عن لؤلؤة المستحيل، دراسة لقصيدة أمل دنقل: مقابلة خاصة مع ابن نوح: للدكتور سيد البحراوي، دار الفكر الجديد - بيروت، الطبعة الأولى 1988 م.

341 -

في بيت أحمد أمين: لحسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي - القاهرة، الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م.

342 -

في السجال الفكري الراهن: للطيب تيزيني، دار الفكر الجديد - بيروت، الطبعة الأولى 1989 م.

343 -

في الشعر الجاهلي: لطه حسين، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة 1926 م.

344 -

في الشعر الجاهلي: لمحمد فريد وجدي، طبعة دائرة المعارف، القرن العشرين بمصر 1926 م.

345 -

في ظلال القرآن الكريم: لسيد قطب، دار الشروق، الطبعة السابعة 1398 هـ - 1978 م.

346 -

في مسيرة الحياة: لأبي الحسن الندوي، دار القلم - دمشق، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م.

ص: 2278

347 -

في النفس والمجتمع لمحمد قطب، دار الشروق، الطبعة الخامسة 1400 هـ - 1980 م.

348 -

في النقد الحديث، دراسة في مذاهب نقدية حديثة وأصولها الفكرية: للدكتور نصرت عبد الرحمن مكتبة الأقصى، عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1399 هـ - 1979 م.

(حرف القاف)

349 -

قالوا عن الإسلام: للدكتور عماد الدين خليل، الندوة العالمية للشباب الإسلامي - الرياض، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.

350 -

القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المطبعة الأميرية ببولاق - مصر، الطبعة الثالثة 1301 هـ.

351 -

قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية: لسامي ذييان وآخرون، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 1990 م.

352 -

قبل السقوط: لفرج فودة، بدون ناشر، طبعة 1985 م.

353 -

القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، دراسة في الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة: لموريس بوكاي، دار المعارف - لبنان، الطبعة الرابعة 1977 م.

354 -

القرامطة، أصلهم، نشأتهم، تاريخهم، حروبهم: لعارف ثامر، دار مكتبة الحياة - بيروت بدون تاريخ.

355 -

القرد العاري: لديزموند موريس، ترجمة: ميشيل أزرق، مراجعة: محمد قجة، دار الحوار سورية، الطبعة الأولى 1984 م.

356 -

قصة الأدب في العالم: لأحمد أمين وزكي نجيب محمود، طبعة مكتبة النهضة المصرية عام 1943 م.

357 -

قصة الأدب المهجري: لمحمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني - بيروت، بدون تاريخ.

358 -

قصة حب مجوسية: لعبد الرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الرابعة 1987 م - بيروت.

359 -

القصيدة الحديثة وأعباء التجاوز: لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مطابع الفرزدق - الرياض الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م.

360 -

قضايا الشعر الحديث: لجهاد فاضل، دار الشروق، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م.

361 -

قضايا الشعر المعاصر: لنازك الملائكة، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الخامسة 1978 م.

362 -

قضايا العالم الإسلامي في ظل النظام العالمي الجديد: لأحمد منصور، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.

ص: 2279

363 -

قضايا وشهادات عدد 1: كتاب ثقافي دوري: عنوانه/ طه حسين، العقلانية، الديمقراطية، الحداثة، إصدار مؤسسة عيبال - قبرص.

364 -

قضايا وشهادات 2 صيف 1990 م: كتاب ثقافي دوري، عنوانه/ الحداثة، إصدار مؤسسة عيبال - قبرص.

365 -

قضايا وشهادات عدد 3 شتاء 1991 م: كتاب ثقافي دوري، عنوانه/ الحداثة 2، إصدار مؤسسة عيبال - قبرص.

366 -

قضايا وشهادات العدد 4 في خريف 1991 م: كتاب ثقافي دوري، عنوانه: الثقافة الوطنية، إصدار مؤسسة عيبال - قبرص.

367 -

قضايا وشهادات عدد 5 ربيع 1992 م: كتاب ثقافي دوري، عنوانه/ الثقافة الوطنية، إصدار مؤسسة عيبال - قبرص.

368 -

قضية تطبيق الشريعة في العالم الإسلامي: للدكتور صلاح الصاوي، بدون ناشر، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1990 م.

369 -

قضية الشاعر الجديد: للدكتور محمد النويهي، دار الفكر، الطبعة الثانية 1971 م.

370 -

القضية الفلسطينية في الاستراتيجية الأمريكية المشكلات والخيارات: لروبرت ج. برانغر، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1983 م قبرص.

371 -

القواعد المثلى في صفات اللَّه وأسمائه الحسنى: لمحمد بن صالح بن عثيمين، دار طيبة - الرياض بدون تاريخ.

372 -

القيم الخلقية في النقد العربي إلى نهاية القرن الرابع الهجري: للأستاذ مطلق بن محمد بن شايع العسيري، رسالة ماجستير من جامعة الإمام - كلية اللغة عام 1407 هـ.

(حرف الكاف)

373 -

كائنات الشوق الآخر: لعبد اللَّه البردونى، دار الحداثة - بيروت، الطبعة الثانية 1987 م.

374 -

الكارثة التي تهددنا: لصلاح عيسى، مكتبة مدبولي - القاهرة، الطبعة الأولى 1987 م.

375 -

الكامل في الأدب: لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق: محمد أحمد الوالي، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ.

376 -

الكامل في التاريخ: لابن الأثير، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الرابعة 1403 هـ - 1983 م.

377 -

كتابات الرفيق فهد: نشره فخري كريم، دار الفارابي - بيروت، حزيران 1976 م.

378 -

الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل: لعبد العزيز المقالح، طبعة بيروت 1978 م.

379 -

الكتابة خارج الأقواس: لسعيد السريحي، نادي جازان الأدبي، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1986 م.

380 -

الكتابة السوداء: أصدرته مجموعة أصوات في مصر عام 1988 م.

ص: 2280

381 -

الكتابة ضد الكتابة: لعبد اللَّه الغذامي، دار الآداب - بيروت، الطبعة الأولى 1991 م.

382 -

الكليات: لأبي البقاء الكفوي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.

383 -

كنت أشكو إلى الحجر: لعبد الوهاب البياتى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1993 م.

384 -

كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة: لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.

385 -

كيف تحكم أمريكا: لماكس سكيدمور، مارشال كارتر وانك، ترجمة: نظمي لوقا، مراجعة: محمد علي ناصف، الدار الدولية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1988 م.

(حرف اللام)

386 -

لا أستأذن أحدًا: لسميح القاسم، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة 1988 م.

387 -

لا إله إلَّا اللَّه عقيدة وشريعة ومنهاج حياة: لمحمد قطب، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1413 هـ.

388 -

لافتات: لأحمد مطر، مطابع دار القبس - الكويت، الطبعة الأولى 1984 م.

389 -

لتطبيق الشريعة لا للحكم: لخليل عبد الكريم، كتاب الأهالي يصدر عن جريدة الأهالي، طبعة 1987 م.

390 -

لزوم ما لا يلزم: لأبي العلاء المعري، دار بيروت للطباعة والنشر 1403 هـ.

391 -

لسان العرب: لابن منظور، دار صادر - بيروت، بدون تاريخ.

392 -

لعبة الأمم: لمايلزكوبلاند، ترجمة: مروان خير، مكتبة الزيتونة - لبنان، الطبعة الأولى 1970 م.

393 -

اللاز: للطاهر وطار، دار ابن رشد للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، 1403 هـ - 1983 م الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر.

394 -

اللامنتمي: لكولن ولسن، دار الآداب - بيروت، الطبعة الثالثة 1982 م.

395 -

للتاريخ لسان، ذكريات وقضايا خاصة بالحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه حتى اليوم: لمالك سيف، دار الحرية للطباعة والنشر - بغداد، بدون تاريخ.

396 -

لن، ديوان: لأنسي الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثانية 1982 م.

397 -

لن تلحد: لأبي عبد الرحمن الظاهري، مكتبة تهامة - جدة، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

398 -

لوامع الأنوار البهية: لمحمد بن أحمد السفاريني، المكتب الإسلامي - بيروت، بدون تاريخ.

ص: 2281

399 -

ليلة القدر: للطاهر بن جلون، ترجمة: محمد الشركي، مراجعة: محمد بنيس، دار توبقال للنشر - المغرب، الطبعة الثانية 1988 م.

(حرف الميم)

400 -

مائتي سؤال وجواب في العقيدة (أعلام السنة المشهورة): لحافظ بن أحمد الحكمي، دار الاعتصام بدون تاريخ.

401 -

ما الأدب؟: لجون بول سارتر، ترجمة: محمد غنيمي هلال، دار العودة - بيروت 1984 م.

402 -

ما بعد اللامنتمي: لكولن ولسن، دار الآداب - بيروت، الطبعة الخامسة 1981 م.

403 -

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: لأبي الحسن الندوي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثامنة 1404 هـ - 1984 م.

404 -

ما هي الديمقراطية؟: لمجموعة من المؤلفين الأمريكان، وكالة الأعلام الأمريكية 1990 م.

405 -

مباهج الحرية في الرواية العربية: للدكتور شاكر النابلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 1992 م.

406 -

المتلاعبون بالعقول: لهربرت أ. شيللر، ترجمة: عبد السلام رضوان، عالم المعرفة - الكويت 1407 هـ - 1986 م.

407 -

متهم بالكفر يبحث عن محكمة: للدكتور حمود العودي، الحقيقة برس - بيروت، طبعة 1988 م.

408 -

المثقفون العرب والغرب: لهشام شرابي، دار النهار - بيروت 1970 م.

409 -

المجتمع العاري بالوثائق والأرقام: من رسائل جمعية الإصلاح بالأمارات، دار الفتح، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1993 م.

410 -

مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد الميداني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل - بيروت الطبعة الثانية 1407 هـ - 1987 م.

411 -

مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي: لأحمد قبش، دار الرشيد - دمشق وبيروت، الطبعة الثالثة 1405 هـ - 1985 م.

412 -

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1402 هـ.

413 -

المجموعات الشعرية الكاملة: لجبرا إبراهيم جبرا، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة 1990 م.

414 -

المجموع الثمين: لابن عثيمين، دار الوطن - الرياض، الطبعة الأولى 1410 هـ.

415 -

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن ابن قاسم وابنه محمد، طبعة إدارة البحوث العلمية والإفتاء - الرياض، الطبعة الأولى 1398 هـ.

ص: 2282

416 -

مجموعة رسائل الإمام حسن البنا: لحسن البنا، المؤسسة الإسلامية - بيروت، بدون تاريخ.

417 -

مجموعة قصصية (تسير نائمة، محرومة من النريزة، محظوظة، متشردة، الدولاب): للبرتومورافيا، ترجمة: نهادءحوم، دار ابن زيدون، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

418 -

مجموعة قصصية (حياة أخرى، لنلعب لعبته، معدنية، جاهلة، بنت طيبة، الشهيرة): للبرتومورافيا، ترجمة: نهاد محرم، دار ابن زيدون - بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ -1986 م.

419 -

المحاورة، مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة: للدكتور صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1993 م.

420 -

مداخلات: لعلي حرب، دار الحداثة للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1985 م.

421 -

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثانية 1393 هـ - 1973 م.

422 -

المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين: لنجيب البهبيتي، دار الثقافة - المغرب، الطبعة الأولى 1398 هـ - 1978 م.

423 -

مدن الملح، جـ 1 التيه، جـ 2 الأخدود، جـ 3 تقاسيم الليل والنهار، جـ 4 المنبت، جـ 5 بادية الظلمات: لعبد الرحمن المنيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1989 م.

424 -

مذاهب الأدب الغربي لرؤية إسلامية: للدكتور عبد الباسط بدر، لجنة مكتبة البيت - شركة الشعاع للنشر - الكويت، طبعة 1405 هـ - 1985 م.

425 -

مذاهب فكرية معاصرة: لمحمد قطب، دار الشروق، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

426 -

مذهب ذوي العاهات: لعباس محمود العقاد، المطبعة الفنية الحديثة، الطبعة الأولى 1977 م.

427 -

المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف: للدكتور سلوى الخماش، مكتبة العالم الثالث - ودار الحقيقة - بيروت، الطبعة الثالثة 1981 م.

428 -

المرأة في شعري وفي حياتي: لنزار قباني، منشورات نزار قباني - بيروت، الطبعة الثانية 1982 م.

429 -

المربد مواسم ومعطيات: لعبد الحميد العلوجي، دار الشؤون الثقافية العامة - وزارة الثقافة والإعلام - العراق، الطبعة الأولى 1986 م.

430 -

المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة: للدكتور يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة - القاهرة طبعة 1413 هـ - 1992 م.

431 -

المرشد لتراجم الكتاب والأدباء: لغيثة بلحاج، دار توبقال للنشر - الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987 م.

ص: 2283

432 -

مزرعة الحيوانات (رواية): لجورج أوريل، تعريب: الدكتور نبيل صبحي، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

433 -

مسار التحولات قراءة في شعر أدونيس: لأسيمة درويش، دار الآداب - بيروت، الطبعة الأولى 1992 م.

434 -

المساعدة الأمريكية لإسرائيل، الرباط الحيوي: لتوماس ر. ستوفر، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1983 م قبرص.

435 -

مسافة في عقل رجل: لعلاء حامد، بدون ناشر ولا تاريخ نشر.

436 -

المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية: لعمر عودة الخطيب، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1399 هـ - 1979 م.

437 -

المستشرقون: لنجيب العقيقي، دار المعارف - مصر، الطبعة الرابعة بدون تاريخ.

438 -

مستقبل الثقافة في مصر: لطه حسين، مطبعة المعارف - مصر، سنة 1938 م.

439 -

مسك الغزال: لحنان الشيخ، دار الآداب - بيروت، الطبعة الأولى 1988 م.

440 -

مسند أبي يعلى: للحافظ أحمد بن علي التميمي، تحقيق: حسن أسد، دار المأمون للتراث، دمشق وبيروت، الطبعة الأولى 1409 هـ.

441 -

مسند الإمام أحمد بن حنبل: طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا، عام 1401 هـ ضمن سلسلة الكتب الستة.

442 -

المسيحيون والعروبة: لرياض نجيب الريس، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة 1988 م.

443 -

مشكاة المصابيح: للخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الثانية 1399 هـ - 1979 م.

444 -

مظاهر الأسطورة: لمرسيا الياد، ترجمة نهاد خياضة، درا كنعان للدراسات والنشر - دمشق الطبعة الأولى 1991 م.

445 -

مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية، قراءة في تجربته الشعرية: لعبد القادر الحصيني وهاني الخير، المنارة - دمشق، الطبعة الأولى 1994 م.

446 -

معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد: لحافظ الحكمي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.

447 -

المعجم الأدبي: لجبور عبد النور، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الأولى 1979 م.

448 -

معجم الأساطير: لماكس شابيرو، رودا هندريكس، ترجمة: حنا عبود، دار الكندي للترجمة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1989 م.

449 -

معجم الطبراني الكبير: للحافظ أبي القاسم سليمان الطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، مطبعة الأمة - بغداد، وزارة الأوقاف والشئون الدينية.

450 -

معجم العلوم السياسية الميسر: للدكتور أحمد سويلم العمري، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 م.

ص: 2284

451 -

معجم الفلاسفة: لجورج طرابيشي، دار الطليعة للنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1987 م.

452 -

المعجم الفلسفي: من إصدار مجمع اللغة العربية في مصر، عالم الكتب - بيروت، طبعة 1399 هـ - 1979 م.

453 -

معجم لغة الفقهاء: لمحمد رواس قعله جي، وحامد صادق قينبي، طبعة دار النفائس، بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1408 هـ.

454 -

المعجم المختص بالمحدثين: للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: الدكتور محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق - الطائف، الطبعة الأولى 1408 هـ.

455 -

معجم المصطلحات الأدبية: لإبراهيم فتحي، الموسوعة العربية للناشرين المتحدين، الطبعة الأولى 1986 م.

456 -

معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: للدكتور سعيد علوش، دابى الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى 1405 هـ.

457 -

معجم المصطلحات العربية في اللفة والأدب: لمجدي وهبه وكامل المهندس، مكتبة لبنان، الطبعة الثانية 1984 م.

458 -

معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: لجلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر - تونس، بدون تاريخ.

459 -

معجم المناهي اللفظية: لبكر بن عبد اللَّه أبو زيد، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م.

460 -

مع خليل حاوي في مسيرة حياته وشعره: لإيليا الحاوي، دار الثقافة، بدون تاريخ.

461 -

معركة التقاليد: لمحمد قطب، دار الشروق، طبعة 1398 هـ -1978 م.

462 -

معركة المصحف في العالم الإسلامي: لمحمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، الطبعة الثالثة 1391 هـ - 1971 م.

463 -

المعلومات 1994 م - 1995 م: إعداد مكتب الآفاق المتحدة الاستشاري، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م.

464 -

معهم حيث هم، لقاءات فكرية: للدكتور حميش، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الثانية 1988 م.

465 -

معين بسيسو بين السنبلة والقنبلة: لمجموعة من المؤلفين، كتاب لوتس - تونس، الطبعة الأولى 1986 م.

466 -

المفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة: ليوسف الصديق، الدار العربية للكتاب - تونس، الطبعة الثانية 1980 م.

467 -

مفاهيم ينبغي أن تصحح: لمحمد قطب، دار الشروق، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1987 م.

468 -

مفتاح دار السعادة: لابن القيم، دار الكتب العلمية - بيروت، بدون تاريخ.

ص: 2285

469 -

المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سعيد سيد كيلاني، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ.

470 -

مفكرون عرب يناقثون كريم مروة في القومية والاشتراكية والديمقراطية والدين والثورة: لمجموعة من الباحثين والكتاب العرب، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى كانون الثاني 1990 م.

471 -

مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن: لنصر أبو زيد، المركز الثقافي العربي - بيروت، الطبعة الأولى 1990 م.

472 -

مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي: للدكتور عبد الباسط بدر، دار المنارة - جدة، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.

473 -

مقومات التصور الإسلامي: لسيد قطب، دار الشروق، الطبعة الأولى 1406 هـ -1986 م.

474 -

ملاحظات نحو تعريف الثقافة: لأليوت، ترجمة شكري عياد، المؤسسة المصرية العامة - القاهرة.

475 -

الملعوب: لفرج فودة، دار مصر الجديدة - القاهرة، الطبعة الأولى 1988 م.

476 -

الملل والنحل: لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، بهامش الفصل في الملل والملل، دار الفكر 1400 هـ.

477 -

من آفاق الاششراق الأمريكي المعاصر: لمازن المطبقاني، مكتبة ابن القيم - المدينة المنورة 1409 هـ.

478 -

من الاجتهاد إلى نقد العقل الاسلام: لمحمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي - بيروت الطبعة الأولى 1991 م.

479 -

من التراث إلى الثورة: للطيب تيزيني، دار دمشق - دمشق، ودار الجيل - بيروت، الطبعة الثالثة 1979 م.

480 -

منهاج الإسلام في الحكم: لمحمد أسد، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الخامسة 1978 م.

481 -

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية: لابن تيمية، تحقيق: للدكتور محمد رشاد سالم، مطبوعات جامعة الإمام، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

482 -

منهج التربية الإسلامية: لمحمد قطب، دار الشروق، الطبعة السادسة 1402 هـ - 1982 م.

483 -

من يجرؤ على الكلام: لبول فندلي، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت، الطبعة السادسة 1408 هـ - 1988 م.

484 -

موجز تاريخ النقد الأدبي: لفيرنون هول، ترجمة محمد شكري مصطفى وعبد الرحيم حبر، دار النجاح - بيروت 1971 م.

485 -

موسم الهجرة إلى الشمال: للطيب صالح، دار العودة - بيروت، الطبعة الثانية 1969 م.

ص: 2286

486 -

موسوعة أعلام الفلسفة العرب والأجانب: لزوني إيلي ألفا، مراجعة: جورج نخل، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.

487 -

موسوعة السياسة: تحت إشراف عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1990 م.

488 -

موسوعة الحضارة العربية الإسلامية: لمجموعة من المؤلفين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بدون تاريخ.

489 -

الموسوعة العربية الميسرة: بإشراف محمد شفيق غريال، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

490 -

موسوعة علم النفس: للدكتور أسعد رزوق، مراجعة: الدكتور عبد اللَّه عبد الدائم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 1987 م.

491 -

الموسوعة الفلسفية: عبد المنعم الحفني، دار ابن زيدون - بيروت، الطبعة الأولى بدون تاريخ.

492 -

الموسوعة الفلسفية: من وضع لجنة الأكاديميين السوفييت، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة - بيروت الطبعة السادسة 1987 م.

493 -

موسوعة الفلكلور والأساطير العربية: لشوقي عبد الحكيم، دار العودة - بيروت، الطبعة الأولى 1982 م.

494 -

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: إصدار الندوة العالمة للشباب الإسلامي - الرياض الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م.

495 -

الموضوعية البنيوية: للدكتور عبد الكريم حسن، الجداول الملحقة المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع - بيروت 1983 م.

496 -

الموطأ: للإمام مالك بن أنس، طبعة دار الدعوة، استانبول - تركيا، عام 1401 هـ، ضمن سلسلة الكتب الستة.

497 -

موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية: لمحمد عبد الهادي المصري، دار طيبة، الطبعة الأولى 1411 هـ.

498 -

موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: للشيخ مصطفى صبري، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثانية 1401 هـ - 1981 م.

499 -

مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: إعداد عبد العزيز الرومي وآخران، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

500 -

ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة - بيروت بدون تاريخ.

(حرف النون)

501 -

نبت الصمت، دراصة في الشعر السعودي المعاصر: للدكتور شاكر النابلسي، العصر الحديث للنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.

ص: 2287

502 -

النثر المهجري، المضمون وصورة التعبير: للدكتور عبد الكريم الأشتر، دار الفكر الحديث - بيروت 1964 م.

503 -

نحو ثورة في الفكر الديني: للدكتور محمد النويهي، دار الآداب، الطبعة الأولى 1983 م.

504 -

النذير: لفرج فودة، دار مصر الجديدة - القاهرة، الطبعة الأولى 1989 م.

505 -

النزوحات الكبرى ومعالم الأدب العربي بعد الحرب العالمية الثانية: لحنا عبود، دار الحقائق - بيروت الطبعة الثانية 1982 م.

506 -

نشأة العلمانية ودخولها إلى المجتمع الإسلامي: للدكتور محمد زين العرمابي، دار العاصمة - الرياض الطبعة الأولى 1407 هـ.

507 -

نصوص مختارة من إنجلز: جمه جان كانابا، ترجمة وصفي النبي، طبعة - دمشق 1972 م.

508 -

نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية: للدكتور صلاح الصاوي، دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض، الطبعة الأولى 1412 هـ.

509 -

النظرية والممارسة في فكر مهدي عامل، ندوة فكرية: نظمها مركز البحوث العربية باشتراك عدد من الباحثين والكتاب، دار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى 1989 م.

510 -

النفط العربي والتهديدات الأميركية بالتدخل 1973 م - 1979 م: لمروان بحيري، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1980 م - بيروت.

511 -

النقد الأدبي عند اليونان: للدكتور بدوي طبانة، المطبعة الفنية الحديثة، مكتبة الأنجلو المصرية الطبعة الثانية 1389 هـ.

512 -

النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي: لمحمد أحمد المغراوي وتقديم شكيب أرسلان، المطبعة السلفية 1929 م.

513 -

نقد الحداثة: للدكتور حامد أبو أحمد مؤسسة اليمامة الصحفية جريدة الرياض، الطبعة الأولى 1415 هـ.

514 -

نقد العلمانية: للدكتور محمد التكريتي، دار المنطلق، الطبعة الثانية 1415 هـ - 1994 م.

515 -

نقد كتاب في الشعر الجاهلي: لمحمد فريد وجدي، طبعة دائرة معارف القرن العشرية - مصر 1926 م.

516 -

نقض أوهام المادية الجدلية لنقض أصول الشعر الحر: لإسماعيل جبرائيل العيسى، دار الفرقان عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

517 -

نقض أوهام المادية الجدلية: للدكتور محمد سعيد البوطي، دار الفكر - دمشق، الطبعة الثانية 1399 هـ - 1979 م.

518 -

نقض كتاب في الشعر الجاهلي: لمحمد الخضر حسين، المطبعة السلفية ومكتباتها - القاهرة 1945 م.

519 -

نهاية عمالقة في حضارة العرب: لسيد أبو دومة، مكتبة وهبة - القاهرة، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989 م.

ص: 2288

520 -

النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناجي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، بدون تاريخ.

(حرف الهاء)

521 -

هاجر، كتاب المرأة: سينا للنشر، الطبعة الأولى 1993 م.

522 -

هذا الشعر الحديث: لعمر فروخ، دار لبنان للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى بدون تاريخ.

523 -

هكذا علمني ورد زورث: لابن عقيل الظاهري، مكتبة تهامة - جدة، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1983 م.

524 -

هجمة علمانية جديدة ومحاكمة النص القرآني: للدكتور كامل سعفان، دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، بدون تاريخ.

525 -

هموم الثقافة العربية: لفرحان صالح، دار الحداثة للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1988 م.

526 -

هنري كوريل رجل من طراز فريد، الحركة الشيوعية المصرية بمنتصف القرن: لجيل بير، تعريب وتقديم: كميل داغر، دار النضال للطباعة والشر - بيروت، الطبعة الأولى 1986 م.

527 -

هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية: لإبراهيم فتحي، دار النديم للنشر والتوزيع والصحافة - القاهرة، الطبعة الأولى 1989 م.

528 -

هوامش على دفتر التنوير: لجابر عصفور، المركز الثقافي العربي - بيروت، الطبعة الأولى 1994 م.

(حرف الواو)

529 -

الوابل الصيب: لابن القيم، دار الكب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.

530 -

واقعنا المعاصر: لمحمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة - جدة، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م.

531 -

الواقع والمثال مساهمة في علاقات الأدب والسياسية: للدكتور فيصل دراج، دار الفكر الجديد بيروت، الطبعة الأولى 1989 م.

532 -

وجهًا لوجه. . الإسلام والعلمانية: ليوسف القرضاوي، دار الصحوة للنشر، الطبعة الأولى 1987 م/ 1408 هـ.

533 -

وجهة الإسلام (مجموعة من الجوث): للمستشرقين: هاملتون جب، وماسينون، وكامبغمابر، وبرج، وفرار، ترجمة: محمد عبد الهادي أوريده، طبعة عام 1934 م.

534 -

ورد أقل (شعر): لمحمود درويش، دار توبقال للنشر - المغرب، الطبعة الثانية 1990 م.

ص: 2289

535 -

الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر: لمحمود أمين العالم، دار الثقافة الجديدة، الطبعة الثانية 1988 م.

536 -

وفيات الأعيان: لابن خلكان، تحقيق: الدكتور إحسان عباس، دار صادر - بيروت بدون تاريخ.

537 -

الولايات المتحدة الأمريكية والصراع العربي الإسرائيلي: ليوسف سلمان، دار الحقائق للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى 1984 م.

538 -

ومشيناها خطى، صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى (الجزء الأول): لأحمد سليمان، دار الفكر للطباعة والنشر - الخرطوم، الطبعة الأولى 1403 هـ.

539 -

ومشيناها خطى، صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى (الجزء الثاني): لأحمد سليمان، دار القلم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1406 هـ.

(حرف الياء)

540 -

يوسف إدريس 1927 م - 1991 م: كتاب أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، يحتوي على مجموعة مقالات عن يوسف إدريس بعد موته، إشراف: للدكتور سمير سرحان، إعداد: اعتدال عثمان، طبع عام 1991 م.

541 -

اليوم الآخر، 3. الجنة والنار: لعمر الأشقر، مكتبة الفلاح، طبعة 1406 هـ - 1986 م.

542 -

اليوم الآخر، 1. القيامة الصغرى: لعمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.

543 -

اليوم الآخر، 2. القيامة الكبرى: لعمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1986 م.

544 -

اليوم والغد: سلامة موسى، الطبعة المصرية عام 1927 م.

• • •

ص: 2290