الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح حديث "لبيك اللهم لبيك"
بسم الله الرحمن الرحيم
خرَّج الإمام أحمد، والحاكم (1)، من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه دعاءً، وأمره أن يتعاهد به أهلَه كل يوم، قال: "قُلْ حِينَ تُصْبِحُ: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ، اللهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ وَمَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، إِنَّكَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
اللهُمَّ إِنَِي أَسْأَلُكَ اللهُمَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، أَعُوذُ بِكَ اللهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً، أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ، اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ" معناه: إجابة لدعائك مرة بعد مرة. وليس المراد به حقيقة التثنية، بل المراد التكرير والتكثير والتوكيد؛ كقوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (2) يعني: مرة بعد مرة.
(1) أحمد في "المسند"(5/ 191)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 516). وصححه الحاكم.
(2)
الملك: 4.
وأصلُه: من (لب)(1) بالمكان: إذا لزمه وأقام فيه؛ فكأنَّ الملبِّي يُجيب دعوة الله ويلزم ذلك. ويقتضي أيضاً: سُرعة الإجابة مع الدوام عليها.
وقوله: "وسعديك" يعني: إسعادًا بعد إسعاد. والمعنى: طاعة بعد طاعة.
وأصلُه: أنَّ المُنادي إذا دعا غيره، فإنَّ المجيب لدعائه يجيبُه إسعادًا له ومساعدة. ثم نُقل ذلك إِلَى مُطلق الطاعة، حتى استُعمل في إجابة دعاء الله عز وجل؛ وحُكي عن العرب: سُبحانه وسعدانه، عَلَى معنى أسبحه وأطيعه؛ تسمية للإسعاد بسعدان، كما يسمى التسبيح سبحان، ولم يُسمع بسعديك مفردًا.
ولا شك أنَّ اللَّه تعالى يدعو عباده إِلَى طاعته، وإلى ما فيه رضاه، وما يوجب لهم به سعادة الآخرة، فمن أجاب دعاءه واستجاب له فقد أفلح وأنجح؛ قال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2)، وقال تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (3) وقال حكاية عن الجن الذين يستمعون القرآن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (4).
ولهذا يقولُ المُلبي في الحج: لبيك اللهم لبيك. يعني: إجابة لدُعائك وطاعة لك، حيثُ دعوتنا إِلَى حج بيتك.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوله في دُعاء الاستفتاح في الصلاة -وقد قيل: إنَّه كان يقولُه في قيام الليل، وقد قيل: إنه كان يقوله في استفتاح المكتوبة-: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ،
(1) لبب: "نسخة".
(2)
يونس: 25.
(3)
إبراهيم: 10.
(4)
الأحقاف: 31.
تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك". خرَّجه مسلم (1) من حديث علي رضي الله عنه.
وروي من حديث حذيفة مرفوعًا (2)، وموقوفًا (3) وهو أصح، يدعو محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيقول:"لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، وَالْمُهْتدَي مَنْ هَدَيْتَ، عَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ رَبَّ الْبَيْتِ".
فَإِذَا كان العبد في صبح كل يوم، يقول: اللهم لبيك وسعديك. فإنه يُريد بذلك أني أصبحتُ مجيبًا لدعوتك، مُسرعًا إليها، مقيمًا عَلَى طاعتك، ممتثلاً لأوامرك، مجتنبًا لنواهيك. فَإِذَا قال هذا بلسانه فالواجبُ أنْ يتبع ذلك بعمله؛ ليكون مُستجيبًا لدعوة الله قولًا وفعلًا.
وإنْ قال ذلك ثُم خالفه بعمله، فقد كذَّب قولُه عملَه، وهو جديرٌ أنْ يُجاب كما يُجَابُ مَنْ حجَّ بمالٍ حرام، وقال: لبيك اللهم لبيك. فيُقال: لا لبيك ولا سعديك.
وفي بعض الآثار أنَّ الله عز وجل يُنادي كلَّ يوم: "ابن آدم ما أنصفتني، أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ فتذهب إِلَى غيري، وأُذْهِبُ عنك البلايا وأنت تعكف عَلَى الخطايا. ابن آدم: ما اعتذارك غدًا إذا جئتنىِ؟ ".
كم دعاك إِلَى بابه فما أجبت ولا لبَّيت، كم استدعاك إِلَى جنابه فقعدت وأبيت، كم عُرضت عليك واجباتُه فتكاسلت وتوانيت، وزُجرت عن منهياته فما انزجرت وتماديت، كم سمعت داعي الحق فتصاممت، وكم رأيت آياته في الخلق فتعاميت.
(1) في "صحيحه" برقم (771).
(2)
أخرجه الحاكم (4/ 573).
(3)
أخرجه الطيالسي في "مسنده"(55 رقم 414) والنسائي في "الكبرى"(11294)، والبزار في مسنده (2926 البحر الزخار) وغيرهم من طريق صلة بن زفر قال: سمعت حذيفة يقول: يجمع الناس في صعيد واحد
…
فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: لبيك وسعديك
…
الحديث. قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 377): رواه البزار موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح.
فيا من جسدُه حي وقلبه ميت، يا ليتك أجبت منادي الهدى حين ناداك يا ليت.
شعر:
يا نفس ويحك قد أتاك هُداك
…
أجيبي فداعي الحق قد ناداك
كم قد دُعيت إِلَى الرشاد فتُعرضي
…
وأجبت داعي الغي حين دعاك
طُوبى لمن أجاب داعي "الهدى"(1) إذا دعاه، يا قومنا أجيبوا داعي الله.
هكذا يا عبد سوء هكذا
…
عبد سوء أنت لم تصلح لنا
هكذا يا عبد سوء هكذا
…
بعدما قاربتنا جانبتنا
كم قد دعوناك فما أجبتنا
…
واختبرناك فما أعجبتنا
قولُه صلى الله عليه وسلم: "والخير في يديك" إشارة إِلَى أن الله عز وجل إنَّما يدعو عباده إِلَى ما هو خير لهم، مما يُصلح دينهم ودنياهم وآخرتهم؛ فإنَّه يدعوهم إِلَى دار السلام، ويدعوهم ليغفر لهم ذنوبَهم. فَإِذَا سارع العبدُ إِلَى إجابة دعوة ربه بتلبيته والاستجابة له، قال مع ذلك: والخيز في يديك؛ إشارةَ إِلَى أني (أستجيبُ)(2) لدعوتك طمعًا في نيل الخير الَّذِي كله بيديك، وأنت لا تدعو العبد إلَّا إِلَى ما هو خير له في دنياه وآخرته.
يا هذا، لو دعاك مخلوقٌ ترجو خيره لأسرعت إجابته، مع أنه لا يملك لك ولا لنفسه ضرًّا ولا نفعًا. فكيف لا تُسارع إجابةَ مَن الخيرُ كلُّه بيديه، ولا يدعوك إلَاّ لخير يُوصله إليك؟!
ألم يرث التقوى أناس صدق
…
فقادهم التقى خير المقاد
أما يقل الإله إلي عبيدي
…
فكل الحير عندي في المعاد
قولُه: "ومنك وبك وإليك" يحتمل أنَّ مراده أن الخير كله منك وبك وإليك
(1) الهداة: "نسخة".
(2)
استجبت: "نسخة".
يعني: أنَّ مبدأ الخير منك؛ كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (1).
وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) فاللَّه تعالى هو المبُتدئ بالخير، فمنه بدأ ونشأ. والخيرُ به، يعني: أنَّ دوامه واستمراره وثبوته باللَّه، ولو شاء اللَّه لنزعه وسلبه صاحبه. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} (3) يعني: أنَّ دوام هذه النعمة عليك من اللَّه كما أن ابتداءها منه.
والخيرُ إِلَيْهِ: بمعنى أَنَّه يرجع بصاحبه إِلَى الله في الآخرة، وإلى جِواره وقُربه فى جنات النعيم. فينتهي الخيرُ بصاحبه إِلَى اللَّه عز وجل.
ويُحتمل أنَّ المراد بقوله: "ومنك وبك وإليك": أنَّ العبد نفسه باللَّه ومن اللَّه وإلى الله؛ كما في حديث الاستفتاح: "أنا بك وإليك" ولعل هذا أظهر. ويكون معنى الكلام؛ أنَّ العبد وجودُه من اللَّه تعالى، فإنه كان عدمًا فأوجده اللَّه وخلقه، وهو في حال وجوده في الدُّنْيَا باللَّه. أي أنَّ ثباته وقيامه باللَّه، فلولا أنَّ اللَّه يُقيم الوجود وما فيه من أنواع الخلق لهلك ذلك كله وتلف. ومن أسمائه الحيُّ القيوم؛ وقال:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (4). وفي الأثر المعروف في قصة القارورتين: "يا مُوسى، لو نمتُ لسقطت السماء عَلَى الأرض".
وبعد انتقال العباد من هذه الدار فإنَّ مرجعهم إِلَى اللَّه، كما قال تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (5) ثم قال: {تُرْجَعُونَ} (6) في آيات كثيرة.
وفي هذا المعنى قال بعضُ العارفين: حقيقة التوحيد أنْ يكون العبد فانيًا في الله عز وجل يرى الأشياء كلَّها به وله، وإليه ومنه، كما قال عامر بن عبد قيس: ما نظرتُ إِلَى شيءٍ إلَّا رأيت الله فيه.
(1) النحل: 53.
(2)
الجاثية: 13.
(3)
الإسراء: 86.
(4)
فاطر: 1 4.
(5)
يونس: 4.
(6)
البقرة: 28.
تبارك من أوجد الإنسان من عدم
…
وأقامه ولولا الإله لم يقم
إِلَيْهِ مرجعه وهو باعثة
…
بعد الممات والأجداث والرمم
قولُه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدِيرٌ". ذكر الخطَّابي في كتاب "الدُّعاء" له أن قوله:
"فمشيئتك" رُوي بضم التاء وفتحها، وأن من رواه بالضم فإنَّ المعنى: الاعتذار بسابق الأقدار العائقة عن الوفاء بما أَلْزَمَ العبدُ نفسَهُ مِن النذور والأيمان. قال: وفي هذا طرفٌ من الجبر. قال: والصواب رواية من رواه بفتح التاء عَلَى إضمار فعل. كأنّه قال: فإني أقدّم مشيئتك في ذلك، وأنوي الاستئناء فيه طرحًا للحنْث عني عند وقوع الحلف.
قال: وفي ذلك حجة لمن ذهب مذهب المكيين، في جواز الاستئناء منفصلاً عن اليمين.
قلتُ: الصواب: هذا المعنى عَلَى (كلا)(1) الروايتين. أعني: رواية الضم، ورواية النصب.
وليس المرُاد برواية الضم الاعتذار بالقدر، وإنَّما المعنى: فمشيئتُك بين يدي ذلك كلِّه مقدَّمة. فهو مبتدأ حُذف خبره.
ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود في "سُننه"(2) بإسناده، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: مَن قال حين يُصبح: اللهم ما حلفتُ من حلِفٍ أو قلتُ من قولٍ أو نذرتُ من نذرٍ فمشيئتك بين يدي ذلك كلّه، ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، اللهم اغفر لي وتَجَاوَزْ عنِّي، اللهم فمن صلَّيتَ عليه فعليه صلاتي، ومن لعنتَ فعليه لعنتي. كان في استثناءِ يومه ذلك".
فقد صَرَّحَ أبو داود بأن المراد بهذا الاستثناء بالمشيئة أنه يكون استثناء في يومه ذلك، يعني: فيما يحلف به وينذره ويقوله في ذلك اليوم.
(1) برقم (5078) عن أبي ذر.
(2)
كذا بالأصل، والصواب:"كلتا".
وهذا صريحٌ في أنَّه يكون استثناء في ما يستقبله من الكلام في يومه ذلك.
وأما قولُ الخطابي -أنَّه يمتنع الحنث- كقول من يقول ذلك في الاستثناء (المتصل)(1) بعد الكلام -كما حكاه عن المكيين. فأصلُ ذلك أنَّه قد رُوي عن المكيين، كعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار وابن جُريج وغيرهم أنه ينفع الاستثناء بعد مُدة من اليمين.
ورُوي ذلك عن ابن عباس من وجوه، وقد طعن فيها كلِّها غيرُ واحد، منهم القاضي إسْماعيل المالكي، والحافظ أبو موسى المديني، وله في ذلك مصنَّفٌ مُفرد.
ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (2) قال: هي خاصةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. خرَّجه الطبراني من وجه ضعيف.
ورُوي ذلك عن ابن جُريج أيضًا.
وقالت طائفةٌ: إِنَّمَا أراد هؤلاء أنَّ هذا الاستثناء المنُفصل، يحصل به امتثال قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (3) وسببُ نزولها: أن قومًا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة، فَقَالَ: غدًا أخبركم، ولم يقل: إنْ شاء الله، فاحتبس الوحي عنه مدة، ثم نزلت هذه الآية.
وفي الحديث "الصحيح"(4) أنَّ سليمان عليه السلام قال: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ
…
". الحديث.
وفي الحديث: أنَّ بني إسرائيل، لو لم يقولوا: إنْ شاء الله، لما اهتدوا أبدًا.
يعني: إِلَى البقرة التي أمروا بذبحها.
(1) المنفصل: "نسخة".
(2)
الكهف: 24.
(3)
الكهف: 23 - 24.
(4)
أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1654).
وفي الحديث الَّذِي في "المسند" و"السنن"(1): أنَّ يأجوج ومأجوج يحفرون كلَّ يوم السد حتى يكادوا يروا منه شُعاع الشمس، ثم ينصرفون ويَقُولُونَ غدًا نفتحه. فَإِذَا رجعوا من الغد وجدوه كما كان أولاً فلا يفتحونه، حتى يأذن اللهُ في فتحه، فيَقُولُونَ: غدًا نفتحه -إنْ شاء اللَّه- فيرجعون فيجدونه كما تركوه فيفتحونه.
قال سعيد القداح: بلغني أن موسى عليه السلام كانت له إِلَى اللَّه حاجة فطلبها فأبطأت فَقَالَ: ما شاء اللَّه، فَإِذَا حاجته بين يديه فتعجب، فأوحى اللَّه إِلَيْهِ: أما علمت أن قولك: ما شاء اللَّه أنجح ما طلعت به الحوائج.
قال إبراهيم بن أدهم: قال بعضهم ما سأل السائلون مسألة هي أنجح من أن يقول العبد: ما شاء الله، ما شاء اللَّه. قال: يعني بذلك: التفويض إِلَى الله.
وكان مالك بن أنس كثيرًا ما يقول: ما شاء اللَّه، فعاتبه رجلٌ عَلَى ذلك.
فرأى في منامه قائلًا يقول: أنت المُعاتب لمالك عَلَى قوله: ما شاء الله؟ لو شاء مالك أنْ يثقب الخردل بقوله: ما شاء اللَّه فعل.
قال حماد بن زيد: جعل رجلٌ لرجلٍ جُعلًا عَلَى أنْ يعبر نهرًا، فعبر حتى إذا قرب من الشط، قال: عبرتُ والله. فَقَالَ له رجل: قل: ما شاء الله. فَقَالَ: شاء اللَّه أو لم يشأ. قال: فأخذته الأرض.
فلا ينبغي لأحد أنْ يُخبر بفعل يفعله في المستقبل إلَاّ أنْ يُلحقه بمشيئة اللَّه؛ فإنَّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والعبد لا يشاء إلَّا أن يشاء الله له.
فَإِذَا نسي هذه المشيئة ثم ذكرها ولو بعد مدة فقد امتثل ما أُمر به، وزال عنه الإثم، وإنْ كان لا يرفع عنه الكفارة ولا الحنِث فى يمنيه. ولهذا في كلام أبي الدرداء (2): اللهم اغفر لي وتجاوز عني. فلم يسأل إلَاّ رفع الإثم دون رفع الكفارة.
(1) أخرجه أحمد (2/ 510، 511)، والترمذي (3153)، وابن ماجه (4080) عن أبي هريرة مع اختلاف بعض الألفاظ.
(2)
أبو داود (5087) عن أبي ذر.
وكذا روي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (1) قال: يقول: إذا حلفت (ونسيت)(*) الاسشناء فاستثن إذا ذكرت، ولو بعد خمسة أشهر وستة أشهر، فإنَّه يجزئك ما لم تحنث. خرَّجه آدم بن أبي إياس في "تفسيره".
وعلى هذا حَمل قولَ ابن عباس وأصحابه طائفةٌ من العُلَمَاء، منهم: أبو مسعود الأصبهاني، وابن جرير الطبري.
وكذا يُقال في هذا الحديث في تقديم الاستثناء في اليمين؛ فإنَّ تقديمه أبعد من تأخيره عن اليمين، فإنَّ اليمين لم تُوجد بعد بالكلية وفي تأخيره قد وجدت.
وقد قال مالك في الاستثناء في اليمين: إنْ ذكر المشيئة يُريد بها الاستثناء (نفعه)(**) ذلك في منع الحنث، وإنْ كان إنَّما (ريد) (
…
) امتثال قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2)(لم يحنث)(****)، فإني أرى الكفارة. نقله ابنُ المنذر وغيره، وكذلك حكاه أبو عُبيد عن بعض العُلَمَاء.
وتردد بعضُ العُلَمَاء في وجوب الكفارة في هذا القَسَم؛ لتردد نظره بين اللفظ والمعنى. فلفظُه معلَّقٌ بالمشيئة، ومعناه الجزم بالفعل غير معلق، وإنَّما ذكر الاستثناء تحقيقًا وتأكيدًا للفعل.
وفي الجملة: فينبغي حملُ حديث زيد بن ثابت عَلَى هذا المعنى، وأنْ يُقدِّم المشيئة عَلَى كل قولٍ يقولُه، وحَلْفٍ يحلفهُ، ونذر ينذرُه؛ ليخرج بذلك من عُهدة استقلال العبد بفعله، وليحقق العبدُ أنَه لا يكون مما يعزم عليه العبدُ ويقوله؛ من حَلْفٍ ونذرٍ وغيرهما الأ ما شاء الله وأراده؛ ولهذا قال بعده:"ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك عَلَى كل شيء قدير".
(1) الكهف: 24.
(*) فنسيت: "نسخة".
(**) فيمنعه: "نسخة".
(
…
) أراد: "نسخة".
(2)
الكهف: 23.
(****) ثم حنث: "نسخة".
فتبرَّأ من حوله وقوته ومشيئته بدون مشيئة الله وحوله وقوته، وأقرَّ لربِّه بقدرته عَلَى كل شيء، فإن العبد عاجزٌ عن كل شيء إلَاّ ما أقدره عليه ربَّه.
ففي هذا الكلام: إفرادُ الربِّ بالحوْل والقوة، والقُدرة والمشية، فإن العبد غيرُ قادرٍ عَلَى ذلك كله إلَاّ عَلَى ما يقدره مولاه، وهذا نهاية توحيد الربوبية.
وللشافعي رحمه الله من أبيات:
ما شئتَ كان وإنْ لم أشأ
…
وما شتُ إِنَّ لم تشأ لم يكن
وقد حمل طائفةٌ -منهم الإمام أحمد- كلامَ ابن عباس في تأويل الآية عَلَى وجه آخر، وهو أنَّ الرجل إذا قال لا أفعل كذا وكذا، ثم أراد فعلَه فإنَّه يستثني، ثم يقول: إنْ شاء الله، ثم يفعلُه ويتخلَّصُ بذلك من الكذب إِن لم يكن قد حلف عليه بيمين.
وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قال: لا أفعل كذا، لا يفعله أبدًا. فَإِذَا قيل له: لَمْ تحلف. يقول: هذا أشد -يعني الكذب- لو كنتُ حلفت كان أهون، كُنت أكفر يميني وأفعله.
وسُئل الإمام أحمد عمَّن يقول لا آكل، ثم يأكل. قال: هو كذب، لا ينبغي أنْ يفعل ذلك. (ونقل)(*) الوليدُ بن مسلم في كتاب "الأيمان والنذور" -عن الأوزاعي، في رجل كُلِّم من شيءٍ فيقول: نعم، إنْ شاء اللَّه (ومن نيته أن لا يفعل) (**) قال: هذا الكذب والخُلف. قال: إنَّما يجوز المُستثنى في اليمين. قِيلَ لَهُ: فإن قال: نعم إنْ شاء الله، (ومن نيته) (
…
) أنْ يفعل، ثم بدا له أن لا يفعل. قال: له (ثُنياه)(****).
وهذا يدل عَلَى أن الاستثناء بالمشيئة في غير اليمين، إِنَّمَا ينفع لمن لم يكن مصممًا عَلَى مخالفة ما قاله من أول كلامه.
(*) وسُئِلَ: "نسخة".
(**) وما نيته إلا أن لا يفعل: "نسخة".
(
…
) ما بنيته: "نسخة".
(****) استتناؤه مخالفة ما قال. "نسخة".
قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ما صلَّيتُ من صلاة فعلى من صليتَ وما لعنتُ من لعن فعلى مَن لعنتَ".
قال الخطَّابي: الوجهُ أن تُرفع التاء من "صلَّيت ولعنت" في الأولى، وأن تنصبها منهما في الأخرى.
والمعنى: كأنّه يقول: اللهم اصرف صلاتي ودعائي إِلَى من (اختصصته)(*) بصلاتك ورحمتك، واجعل لعنتي عَلَى من استحق اللعن عندك واستوجب الطردَ والإبعاد في حُكمك، ولا تؤاخذني بالخطأ مني في (وضعها)(**) غير موضعها (وإحلالها) في غير محلها.
قال: وإنَّما يصح عَلَى هذا التأويل، إذا كان قد سبقت منه صلاةٌ أو لعن لغير المستحقين. قال: وقد يُحتمل أن يكون إِنَّمَا دعا بالتوفيق، واشترط في مسألته العصمة؛ لئلا يجري عَلَى لسانه ثناءٌ إلا لمن يستحق الثناء من أوليائه، ولا ذم إلَاّ لمن يستحقه من أعدائه. كأنّه (يقول) (****): اللهم احفطي حتى لا أوالي إلَاّ أولياءك، ولا أعادي إلا أعداءك. قال: والوجه الأول إِنَّمَا ينصرف إِلَى الماضي، والوجه الآخر إِلَى المستقبل، والله أعلم. انتهى.
قلتُ: التفسير الأول أصح؛ يشهد له قولُ أبي الدرداء: اللهم فمَنْ صليتَ عليه فعليه صلاتي، ومَنْ لعنتَ فعليه لعنتي.
وقول الخطابي: إِنَّ هذا الوجه إِنَّمَا ينصرف إِلَى الماضي. ضعيفٌ؛ بل الصواب أنَّه ينصرف إِلَى المستقبل، (وأنَّ) (*****) المراد: ما لعنتُ في هذا اليوم من لعن، وما صلَّيت فيه من صلاة -يعني: ما ألعن وما أصلي.
وهذا ما تقدم في قوله: ما قلتُ من قولٍ، أو نذرتُ من نذرٍ، أو حلفتُ من حلفٍ، فمشيئتُك بين يديه.
(*) خصصه: "نسخة".
(**) وضعي إياها: "نسخة".
(
…
) وأحلها: "نسخة".
(****) قال: "نسخة".
(*****) وإنما: "نسخة".
وقد وافق الخطَّابي -كما تقدم عنه- أنَّ المراد به ما يقوله ويحلفه، وينذره في المستقبل، فكذلك الصلاة واللعن.
واعلم أنَّ العبد مبتلى بلسانه، يلعن به من يغضب عليه ويمدح به مَن يرضى عنه. وكثيرًا ما يمدح مَنْ لا يستحق المدح، ويلعن مَنْ لا يستحق اللعن.
وقد ورد في غير حديث: أنَّ اللعنة إذا لم يكن الملعون بها أهلاً لها رجعت (عَلَى)(*) اللاعن.
واللعنُ دعاء، فربَّما أُجيب وأصاب ذلك الملعون. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي لعنت بعيرَها أنْ ترسله، وقال:"لا تصحبنا ناقةٌ ملعونة"(1).
وكان بعضُ السلف لا يدخل بيته بشيءٍ ملعون، ولا يأكل من بيض دجاجةٍ يلعنها، ولا يشرب من لبن شاة لعنها. قال بعضهم: ما أكلتُ شيئًا ملعونًا قط.
وذكر ابنُ حامد من أصحابنا، عن أحمد قال: مَن لعن عبده فعليه أن يُعتقه، أو شيئًا من ماله: أنَّ عليه أن يتصدَّق.
قال: ويجيءُ في لعن زوجته أنَّه (يلزمه)(**) أن يطلقها؛ ويشهد لها - في الزوجة- وقوعُ الفرقة بين المتلاعنين، لمَّا كان أحدُهما كاذبًا في نفس الأمر قد حقَّت عليه اللعنةُ والغضب.
فَإِذَا قدمُ العبدُ من أول نهاره في دعائه: أنَّ ما لعن من لعن، فإنَّه لاحقٌ بمن لعنه الله، وما أثنى من ثناء فهو لاحق بمن أثنى عليه الله. فقد خلص بذلك من إثم لعن من لا يستحق اللعن، أو مدح من لا يستحق المدح، إذا وقع ذلك سهوًا أو غلطًا، أو عن قوة غضب ونحوه.
فأمَّا من (يتعمد) (
…
) ذلك عن علمه بالحال ففي دخوله في هذا الشرط نظر، مع أنَّ عموم اشتراطه يقتضي دخوله فيه.
(*) إِلَى: "نسخة".
(1)
أخرجه مسلم (2596).
(**) عليه: "نسخة".
(
…
) تعمد: "نسخة".
وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَه اشترط أنَّه من سبه أو لعنه أو ضربه في غضب ونحوه، أنَّه يكون له كفارة وصلاة (1). وفي رواية: وهو غير مُستحق.
وهذا إِنَّمَا يكون إذا ظن استحقاقه لذلك، ثم تبين أنه غير مستحق.
قوله صلى الله عليه وسلم: " {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ".
مأخوذٌ من دعاء يُوسف عليه السلام حين قال: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) الآية، والله عز وجل وفي أوليائه في الدُّنْيَا والآخرة، يتولَّى حفظَهم وكلاءتهم وهدايتهم وحراستَهم، في دينهم ودنياهم ما (داموا)(*) أحياء، فَإِذَا حضرهم الموتُ توفَّاهم عَلَى الإسلام، وألحقهم بعد الموت بالصالحين.
وهذا أجلُّ النعم وأتمها عَلَى الإطلاق؛ وقد قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عند وفاته:
" {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} "(3).
وقول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (4) قيل: إنَّه دعا لنفسه بالموت، وهو قولُ جماعة من السلف، منهم الإمام أحمد.
فَيُستدل به عَلَى جواز الدعاء بالموت من غير ضر نزل به.
وقيل: إنَّه إِنَّمَا دعا لنفسه بالموت عَلَى الإسلام عند نزول الموت، وليس فيه دعاءٌ بتعجيل الموت كما أخبر عن المؤمنين أنهم قالوا في دُعائهم:{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (5) ويؤيِّد التفسير الأوّل: أنَه عقَّبه بالدعاء بالشوق إِلَى لقاء اللَّه، وهو يتضمَّن الدعاء بالموت.
(1) أخرجه أحمد (6/ 45)، ومسلم (2600) من حديث عائشة، وأخرجه أحمد (2/ 390، 488، 496) " (3/ 400)، ومسلم (2601) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد (3/ 333، 384، 391، 400)، ومسلم (2602) من حديث جابر، وأخرجه أحمد (4/ 454) من حديث سودة امرأة أبي الطفيل.
(2)
يوسف: 101.
(*) كانوا: "نسخة".
(3)
أخرجه البخاري (4586)، ومسلم (2444)[86] من حديث عائشة.
(4)
يوسف: 101.
(5)
آل عمران: 193.
واستدل من جوَّز الدعاء بالموت وتمنّيه بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1)، ثم ذمَّهم عَلَى عدم تمنيه بسبب سيئاتهم، وعلى حرصهم عَلَى طول الحياة في الدُّنْيَا. وكذلك قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية (2).
وفي "المسند"(3) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يتمنينَّ أحدٌ الموت إِلَاّ من وثق بعمله".
فمن كان له عملٌ صالح فإنَّه يتمنَّى القدومَ عليه، وكذلك مَنْ غلب عليه الشوقُ إِلى لقاء اللَّه عز وجل.
وأمَّا من تمنى الموت خوف فتنة في الدين، فإنَّه يجوز بغير خلاف. وقد بسطنا الكلام عَلَى هذه المسائل في غير هذا الموضع.
قولُه صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ فِي وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءٍ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» .
هذه الثلاث خصال قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أئه كان يدعو بها في غير هذا الحديث أيضًا من حديث عمَّار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) وقد شرحنا حديثَه بتمامه في موضع آخر.
فأمَّا الرضا بالقضاء: فهو من علامات المُخبتين (5) الصادقين في المحبة، فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكلِّ ما يقضيه عليها من مؤلمٍ ومُلائم.
سيان إنْ لاموا وإنْ عَذلوا
…
ما لي عن الأحباب مصطبرُ
لابد لي منهم وإنْ تركوا
…
قلبي بنار الهجر يستعرُ
وعلي أنْ أرضى بما حكموا
…
وأطيع في كل ما أمروا
(1) البقرة: 94.
(2)
الجمعة: 6، 7.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 350).
(4)
أخرجه أحمد (4/ 264)، والنسائي في "الصغرى"(1305)، وفي "الكبرى"(1228).
(5)
المتواضعين أو الخاشعين أو المطمئنين.
إذا امتلأت القلوبُ بالرضا عن المحبوب، صار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره.
قال عُمر بن عبد العزيز: أصبحتُ وما لي سرور إلَاّ في مواقع القضاء والقدر.
دخلوا عَلَى بعض التابعين في مرضه، فَقَالَ: أحبه إلي أحبه إِلَيْهِ.
إِنْ كان (سركم)(*) ما قد بُليت به
…
فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم
حشب سُلطان الهوى أنه يُلذ كلَّ ما يؤلم.
وربَّما اختار بعض (المحبين)(**) الذُّلَّ عَلَى العزِّ، والفقر عَلَى الغنى، والمرضَ عَلَى الصحة، والموت عَلَى الحياة.
عزّي ذُلي وصحتي في سقمي
…
يا قوم رضيتُ في الهوى سفك دمي
عُذّاليَ كفُّوا فمن ملامي ألمي
…
من بات عَلَى (مواعد اللقا) (
…
) لم ينم
وإنَّما قال صلى الله عليه وسلم: "الرضا بعد القضاء" لأنّ ذلك هو الرضا حقيقة.
وأما الرضا بالقضاء قبل وقوعه فهو عزمٌ عَلَى الرضا، وقد تنفسخ العزائم (عند) (
…
) وقوع الحقائق.
ومع هذا فلا ينبغي أن يستعجل العبدُ البلاءَ؛ بل يسأل الله العافية؛ فإنْ نزل البلاء تلقَّاه بالرضا.
قُتل لبعضهم ولدان في الجهاد، فجاءه الناسُ يعزّونه بهما فبكى، وقال: ما أبكي عَلَى قتلهما، ولكن كيف كان رضاهما عن الله حين أخذتهما السيوف!
إِنْ كان سكّان الغصا
…
رضوا بقتلي فرضا
والله ما كنت لما
…
يهوي الحبيب مُبغضا
صرت لهم عبدًا وما
…
للعبد إِنْ يعترضا
من لمريض لا يرى
…
إلَاّ الطبيب المُمرضا
(*) سروركم: "نسخة".
(**) الصالحين: "نسخة".
(
…
) مواعيد اللقاء: "نسخة".
(****) مع: "نسخة".
وأمَّا بَرد العيش بعد الموت. فالمرادُ به: طيب العيش (ولذاته)(*)، وما تقر به عين صاحبه.
فإنَّ البرد يحصل به قُرة عين الإنسان وطيبها، وبرد القلب يوجب انشراحه وطمأنينته، بخلاف حرارة القلب والعين.
ولهذا في الحديث: "طهر قلبي بالماء والثلج والبرد"(1).
ودمعةُ السرور باردة، بخلاف دمعة الحُزن فإنها حارة.
فبردُ العيش هو طيبه ونعيمه، وفي الحقيقة إنَّما يكمل طيب العيش ونعيمه في الآخرة لا في الدُّنْيَا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا عيش إلَاّ عيش الآخرة"(2).
وسببُ ذلك أنَّ ابن آدم مركبٌ من جسد وروح، وكل منهما يحتاج إِلَى ما يتقوت به ويتنعم به، وذلك هو عيشه.
فالجسدُ عيشه: الأكلُ والشرب، والنكاح واللباس والطيب، وغير ذلك من اللذات الحسية.
ففيه بهذا الاعتبار مُشابهة بالحيوانات في هذه الأوصاف.
وأمَّا الروح: فهي لطيفة، وهي روحانية من جنس الملائكة. فقوتُها ولذتها وفرحها وسرورُها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها، وفيما يقرب منه مِن طاعته في ذكره ومحبّته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه.
فهذا هو عيشُ النفس وقُوتُها، فَإِذَا فقدت ذلك مرضت وهلكت؛ أعظم مما يهلك الجسد بفقد طعامه وشرابه؛ ولهذا يوجد كثير من أهل الغِنى والسعة يُعطي جسده حظِّه من التنعيم ثم يجد ألمًا في قلبه ووحشة، فيظنَّه الجهال أنَّ
(*) ولذاذته: "نسخة".
(1)
أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598) عن حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (6368)، ومسلم (589) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه البخاري (6413)، ومسلم (1805) عن حديث معاوية بن قرة. وأخرجه البخاري (6414)، ومسلم (1804) من حديث سهل بن سعد.
هذا يزول بزيادة هذه اللذات الحسية، وبعضُم يظن أنه يزول بإزالة العقل بالسُّكر. وكلُّ هذا يزيد الألم والوحشة.
وإنما سببُه أنَّ الروح فقدت قوتها وغذاءها، فمرضت وتألَّمت.
إذا كُنت قوت النفوس ثم هجرتها
…
فلن تصبر النفس التي أنت قوُتُها
ستبقى بقاء الضبِّ في الماء أو كما
…
يعيش ببيداء المفاوز حوتُها
قال بعضُ العارفين لقوم: ما تعدُّون العيش فيكم. قالوا: الطعام والشراب، ونحو ذلك. فَقَالَ: إنَّما العيش أن لا لقى منك جارحة إلَاّ وهي تجاذبك إِلَى طاعة اللَّه وعزَّ وجلَّ.
مَن عاش مع اللَّه طاب عيشه، ومن عاش مع نفسه وهواه طال طيشه.
قال الحسن: إنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا أطيب الحياة بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذَّة حبّه في قلوبهم.
وأكل إبراهيمُ بن أدهم مع أصحابه كِسرًا يابسة، ثم قام إِلَى نهرٍ فشرب منه بكفه، ثم حمد اللَّه، تم قال: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيام الحب، عَلَى ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب. فَقَالَ بعضُ أصحابه: يا أبا إسحاق، طلب القومُ الراحة والنعيم فأخطئوا (الصراط) (*) المستقيم. فتبسم ثم قال: من أين لك هذا.
أهل المحبة قومٌ شأنهم عجب
…
سرورهم أبدٌ وعيشهم طرب
العيش عيشهم والملك ملكهم
…
ما الناس إلا هم بانُوا أو اقتربوا
قيل لبعض العارفين -وقد اعتزل عن الخلق-: إذا هجرتَ الخلقَ مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم لأجله.
(*) الطريق: "نسخة".
ويُروى عن المسيح عليه السلام، أنَّه قال: يا معشر الحواريين، كلِّموا الله كثيرًا، وكلموا الناس قليلًا. قالوا: كيف نكلم اللَّه كثيرًا؟! قال: اخلوا بذكره، اخلوا (بذكر نعمائه)(*) اخلوا بمناجاته.
ما أطيبَ عيشَ مَن يخلو بحبيب
…
يَلْتَذُّ بِهِ من غير مُحَاشاةِ رقيب
أعيا مرضي بكم كلّ طبيب
…
من أمَّل فضلَ مثلِكم كيفَ يَخِيب
واعلم أنَّ الجمع بين هذين العيشين في دار الدُّنْيَا غيرُ ممكن، فمن اشتغل يعيش روحه وقلبه وحصل له منه نصيب وافر لها عن عيش جسده وبدنه، ولم يقدر أنْ يأخذ منه نهاية شهوته، ولم يقدر أنْ يتوسَّع في نيل الشهوات الحسية، وإنما يأخذ منها بقدر ما تقوم به حاجة البدن خاصة، فينتقص بذلك عيشُ الجسد، ولا بد.
وهذه كانت طريقةُ الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وكان اللَّه يختار أنْ يقلل نصيبهم من عيش أجسادهم، (ويوفر)(**) نصيبهم مِن عيش قلوبهم وأرواحهم.
قال سهل التستُري: ما آتى الله عبدًا مِن قُربه ومعرفته نصيبًا إلَاّ حرمه من الدُّنْيَا بقدر ما أعطاه من معرفته وقربه، ولا آتاه من الدُّنْيَا نصيبًا إلَّا حرمه (من) (
…
) معرفته وقُربه بقدر ما آتاه من الدُّنْيَا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصد في عيشه غاية الاقتصاد، مع ما فتح اللَّهُ عليه من الدُّنْيَا والملُك، ومات ولم يشبع من خُبز الشعير، وكان يقول:«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلِ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (2).
(*) بدعائه: "نسخة".
(**) ويوف: "نسخة".
(
…
) منه: "نسخة".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285)، والنسائي (7/ 61) من حديث أنس.
والنساءُ والطيب فيهما قوَّة الروح، بخلاف الطعام والشراب، فإنَّ الإكثار منهما يقسّىِ القلب ويفسده، وربما أفسد البدن أيضاً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَابُدَّ فَاعِلاً، فَثُلُثٌ طَعَام، وَثُلُثٌ شَرَاب، وَثُلُثٌ نَفَس» (1).
قال بعضُ السلف: قلَّةُ الطعام عونٌ عَلَى التسرُّع إِلَى الخيرات.
وقال آخر: ما قلَّ طعامُ امرئ إلَّا رق قلبُه ونديت عيناه.
وقال إبراهيمُ بن أدهم: الشِّبع يميت القلب، ومنه يكون الفرحُ والمرح والضحك.
وقال أبو سليمان: إِنَّ النفس إذا جاعت وعطِشت صفي القلبُ ورق، وإذا شبِعت ورويت عمي القلب.
وقال: مفتاح الدُّنْيَا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
وقيل للإمام أحمد: يجدُ الرجلُ رقَّة من قلبه وهو يشبع؟ قال: ما أرى.
ولهذا المعنى شرع اللَّه الصيام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُواصل في صيامه أيامًا فلا يأكل ولا يشرب، وإذا سُئل عن ذلك يقول:"إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي"(2) يُشير إِلَى أنَه يستغني عن قُوت جسده بما يمنحه اللهُ من قوت روحه، عند الخلوة به والأنس بذكره ومناجاته مما يُورده عَلَى قلبه من المعارف القُدسية والمواهب الإلهية.
لها أحاديثُ من ذكراكَ تُشغلها
…
عن الطعام وتلهيها عن الزاد
واعلم أنَّ عيش الجسد يُفسد عيشَ الروح وينغصه، وأمَّا عيشُ الروح فإنَّه يُصلح عيشَ الجسد، وقد يُغنيه عن كثيرٍ مما يحتاج إِلَيْهِ من عيشه.
(1) أخرجه أحمد (4/ 132)، والترمذي (2380)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 177)، وابن ماجه (3349) من حديث المقدام بن معدي كرب.
(2)
أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103) من حديث أبي هريرة.
كان بالبصرة رجلٌ من المجتهدين في الطاعة، وكان قليل المطعم، وبدنُه غير مهزول، فسُئل عن سبب ذلك، فَقَالَ: ذلك مِن فرحى بحب الله، إذا ذكرتُ أنَّه ربي وأنا عبده لم يمنع بدني أنْ يصلح.
وسُئل أبو الحسن بن بشار: هل يكون الوليُّ سَمينا. قال: نعم إذا كان الولي أمينًا. قِيلَ لَهُ: كيف، واللَّهُ يبُغض الحبر السمين. قال: إذا علم الحبر عبدَ مَن هو ازداد سمنًا.
وكان بشر يخطر في داره، ويقول: كفى لي عِزًّا أني لك عبد، وكفى لي فخرًا أنك لي رب.
نُسبت لكم عبدًا وذلك بغيتي
…
وتشريفُ قدري نسبتي لعُلاكم
فكل عذاب في هواكم يلذُ لي
…
وكل هوانٍ طيِّبٌ في هواكم
لحا (1) الله قلبي إنْ تغير عنكم
…
وإن مال في الدُّنْيَا لحب سواكم
فمن وفَّى نفسه حظها من عيش جسده بالشهوات الحسية كالطعام والشراب؛ فسد قلبُه وقسا، وجلب له ذلك الغفلةَ وكثرة النوم. فنقص حظُّ روحه وقلبه من طعام المناجاة وشراب المعرفة، فخسر خُسرانًا مبينًا.
قال بعضُهم: مساكين أهل الدُّنْيَا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب شيء فيها.
قيل: وما هو؟ قال: معرفةُ اللًه عز وجل، فمن عاش في الدُّنْيَا ولا يعرف ربَّه ولا يتنعم بخدمته، فعيشُه عيش البهائم.
نهارُك يا مغرورُ سهوٌ وغفلة
…
وليلك نومٌ والردى (2) لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غِبه
…
كذلك في الدُّنْيَا تعيش البهائم
(1) يقال: لحا لي الرجل أي شتمه ولامه وعنفه، وقيل: إِنَّ الملاحاة هي الملاومة، والمباغضة، ومنه لحاه الله لحيًا، أي: قبحه ولعنه. "اللسان" مادة: (لحي).
(2)
الردى: الهلاك "اللسان" مادة: (ردي).
فالصالحونُ كلهم قللوا من عيش الأجساد، وكثَّروا من عيش الأرواح، لكن منهم من قلَّل من عيش بدنه ليستوفيه في الآخرة، وهذا تاجرٌ. ومنهم من فعل ذلك خوفًا من الحساب عليه في الآخرة.
والمحققون فعلوا ذلك تفريغًا للنفس عمَّا يشغل عن الله، لتتفرَّغ القلوبُ للعكوف عَلَى طاعته وخدمته، وذكره وشكره، والأنس والشوق إِلَى لقائه.
فإنَّ الأخذ من عيش الأجساد أكثر من قدر الحاجة يُلهي عن الله، ويشغل عن خدمته.
قال بعضُهم: كلُّ ما شغلك عن الله فهو عليك شؤم، فلا كان ما يُلهي عن الله؛ إنه يَضر ويُردي، إنَّه لشؤم.
فما تفرَّغ أحدٌ لطلب عيش الأجساد، وأعطى نفسَه حظَّها من لك إلَاّ ونقص حظُّه من عيش الأرواح، وربما مات قلبُه من غفلته عن الله وإعراضه عنه، وقد ذمَّ الله من كان كذلك فَقَالَ تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} الآية (1).
ثُم إِنَّ ما حصَّلوه من شهواتهم ينقطع ويزول بالموت، وينقص بذلك حظُّهم عند الله في الآخرة. فإن كان ما حصلوه من شهواتهم من حرام فذلك هو الخسرانُ المُبين؛ فإنَّه يُوجب العقوبة الشديدة في الآخرة.
فلمَّا لم يجتمع في الدُّنْيَا للعبد بلوغُ حظّه من عيش رُوحه وبلوغ (نهايته)(*) من عيش جسده، جعل الله للمؤمنين دارًا جمع لهم فيها ما بين هذين الحظَّين عَلَى نهاية ما يكون من الكمال، وهي الجنة.
فإنَّ فيها جميعَ لذات الأجساد وعيشها ونعيمها؛ كما قال الله تعالى:
{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} (2) وقال: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا
(1) مريم: 59.
(*) نهاية حظه: "نسخة".
(2)
الزخرف:71.
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (1) ولا ينقصُ ذلك حظَّهم من لذات أرواحهم؛ فإنَّه تتوافر لذات قلوبهم، وتتزايد عَلَى ما كانت للمؤمنين في الدُّنْيَا، مما لا نسبة لما كان في الدنيا إِلَيْهِ.
فإنَّ الخبر في الدُّنْيَا يصير هناك عيانًا، فأعلى نعيمُهم هناك رؤية اللَّه عز وجل ومشاهدته، وقُربه ورضاه، ويحصل لهم بذلك نهايةُ المعرفة به والأُنس، وتتزايد هنالك لذةُ ذكره عَلَى ما كانت في الدُّنْيَا؛ فإنهم يُلهمون التسبيح كما يلهمون النفسَ، وتصير كلمةُ التوحيد لهم كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا. فعُلم بهذا أنَّ العيش الطب عَلَى الحقيقة لا يحصل في الدُّنْيَا، إِنَّمَا يكون بعد الموت. فإن من يُوفر حظَّه من نعيم روحه وقلبه في الدُّنْيَا يتوفَّر في الآخرة أيضًا، ومن توفَّر حظُّه من نعيم جسده في دنياه وسرَّ بها نقص في الدُّنْيَا ونقص به أيضًا حظه من نعيم الآخرة.
ومع هذا فهو نعيمٌ منغَّص لا يدوم ولا يبقى، وكثيرًا ما يُنغَّص بالأمراض والأسقام، وربما انقطع وتبدَّل صاحبه بالفقر والذل بعد الغنى والعز. وإنْ سلم من ذلك كلِّه فإنه ينغصه الموتُ، فَإِذَا جاء الموت فما كان مَن تنعم بالدنيا ولذاتها كأنّه ما ذاق شيئًا من لذاتها، خصوصًا إنْ انتقل بعد الموت إِلَى عذاب الآخرة؛ كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} إِلَى قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (2).
وكان الرشيدُ قد بنى قصرًا، فلما فرغ منه ونجزه وفرشه استدعى فيه بطعامٍ وشراب وملاهي، واستدعى أبا العتاهية، فَقَالَ له: صِف لي ما نحن فيه من العيش. فأنشأ يقول:
عِش ما بدا لك سالماً
…
في ظل شاهقة القُصور
يُسعى عليك بما اشتهيت
…
لدى الرَّواح وفي البكور
فذا النفوس تقعقعت (3)
…
في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنًا
…
ما كنت إلَاّ في غُرور
(1) ق:35.
(2)
الشعراء: 205 - 207.
(3)
تقعقعت: اضطربت وتحركت. "القاموس المحيط" مادة: (قعقع).
فبكى الرشيد. فَقَالَ له الوزير: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته. فَقَالَ الرشيد: دعه؛ فإنَّه رآنا في عمى، فكره أنْ يزيدنا عمى.
نظر بعضُ المترفين عند موته إِلَى منزله فاستحسنه، فَقَالَ:
إنَّ عيشًا يكون آخره الموت
…
لعيش معجَّل التغيص
ثم مات من يومه.
وقال آخر:
يا غنيّ بالدنانير
…
مُحب اللَّه أغنى
وقال آخر:
إِنَّمَا الدُّنْيَا وإنْ سرَّ
…
ت قليل من قليل
إنَّما العيش جوار اللَّه
…
في ظل ظليل
حيث لا تسمع ما يؤذيـ
…
ك مِن قال وقيل
وقال آخر:
وكيف يلذ العيش من كان عالمًا
…
بأنَّ إله الحلق لابد سائله
فيأخذ منه ظلمه لعباده
…
ويجزيه بالخير الَّذِي هو فاعله
فالأشقياءُ في البرزخ في عيش ضنك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (1).
وقد رُوي عن أبي سعيد الخدري، مرفوعًا وموقوفًا (2): أنَّ المعيشة الضنك عذاب القبر، يضيق عليه قبرُه حتى تختلف أضلاعُه، ويسلَّط عليه تسعة وتسعون تنينًا.
فأما عيشهم في الآخرة فأضيق وأضيق، فأما من طاب عيشه بعد الموت فإن طيب عيشه لا ينقطع؛ بل كلما جاء تزايد طيبه. ولهذا سئل بعضهم: من أنعم
(1) طه: 124
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 381) مرفوعًا، والطبري في "التفسير"(16/ 164) موقوفًا.
الناس عيشًا؟ فَقَالَ: أجسام في التراب قد أمنت العذاب، فانتظرت الثواب.
فهذا في البرزخ في عيش طيب.
رئي معروف في المنام بعد موته، وهو يُنشد:
موت التقي حياة لا نفاد لها
…
قد مات قومٌ وهم في الناس أحياء
وكان إبراهيم بن أدهم يُنشد:
ما أحد أنعم من مُفرد
…
في قبره أعماله تؤنسُه
منعَّم الجسم وفي روضة
…
زيَّنها الله (في)(*) مجلسه
رئي بعضُ الصالحين في المنام بعد موته، فَقَالَ: نحن بحمد الله في برزخ محمود، نفترشُ فيه الريحان ونتوسد فيه السندس والإستبرق إِلَى يوم النشور.
رئي بعضُ الموتى في المنام فسئل عن حال الفُضيل بن عياض، فَقَالَ: كُسي حلَّة لا تقوم لها الدُّنْيَا بحواشيها.
فأمَّا عيشُ المتقين في الجنة فلا يحتاج أنْ يُسأل عن طيبه ولذته، ويكفى في ذلك قوله تعالى:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (1) الآيات، ومعنى راضية أي: عيشةٌ يحصل بها الرضى. وفسَّر ابنُ عباس قوله: هنيئًا بأنه لا موت فيها، يُشير إِلَى أنَّه لم يهنهم العيش إلَّا بعد الموت والخلود فيها.
قال يزيدُ الرقاشي: أمن أهلُ الجنة الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام فهنيئًا لهم في جوار اللَّه طول المقام.
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2)، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} إِلَى آخرها (3) «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ وَسُرُرِهِ وَقُصُورِهِ
(*) فهي: "نسخة".
(1)
الحاقة: 21 - 24.
(2)
الذاريات: 15.
(3)
القمر: 54 - 55.
مَسِيرَةَ أَلْفَيْ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» " (1).
وقال طائفةٌ من السلف: وإنَّ المؤمن له بابٌ في الجنة من داره إِلَى دار السلام، يدخل منه عَلَى ربه إذا شاء بلا إذن.
قال أبو سُليمان الداراني: وإذا أتاه رسولٌ من ربِّ العزة بالتحية واللُّطف، فلا يدخل عليه حتى يستأذن عليه، يقول للحاجب: استأذن لي عَلَى ولي الله، قال: لستْ أصل إِلَيْهِ. فَيُعْلِمُ ذلك الحاجبُ حاجبًا آخر حتى يصل إِلَيْهِ، فذلك قوله:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (2).
فَللَّه ذَاك الْعَيْش بَين خيامها
…
وروضاتها والثغرُ فِي الرَّوْض يبسم
وَللَّه كم من خيرةٍ إِن تَبَسَّمت
…
أَضَاء لَهَا نورٌ من الْفجْر أعظم
وَللَّه واديها الَّذِي هُوَ موعد
…
الْمَزِيد لوفد الْحبّ لَو كنتَ مِنْهُم
بذيالك الْوَادي يهيم صبَابَة
…
محب يرى أَنَّ الصبابة مغنم
وَللَّه أفراحُ المحبين عِنْدَمَا
…
يخاطبهم مَوْلَاهُم وَيُسلِّم
وَللَّه أبصارٌ ترى الله جهرة
…
فَلَا الْغَيْم يَغْشَاهَا وَلَا هِيَ تسأم
فيا نظرةً أَهْدَت إِلَى الْقلب نظرة
…
أَمن بعْدهَا يسلو الْمُحب المتيم
فروحك قرّب إِن أردْت وصالهم
…
فَمَا غلبت نظر تشري بروحك مِنْهُم
وأقدم وَلَا تقنع بعيش منغص
…
فَمَا فَازَ باللذات من لَيْسَ يُقدم
فَصم يَوْمك الْأَدْنَى لَعَلَّك فِي غَد
…
تفوز بعيد الْفطر وَالنَّاس صَوّم
فيا بَائِعا هَذَا ببخس معجل
…
كَأَنَّك لَا تَدْرِي بلَى سَوف تعلم
فَإِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة
…
وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم
قوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ".
(1) أخرجه أحمد (2/ 13، 64)، والترمذى (2553، 3330) من حديث ابن عمر. وذكر الترمذي اختلافًا في رفع الحديث ووقفه.
(2)
الإنسان: 20.
فهذا يشتمل عَلَى أعلى نعيم المؤمنين في الدُّنْيَا والآخرة، وأطيب عيشٍ لهم في الدارين.
فأمَّا لذَّةُ النظر إِلَى وجه الله عز وجل، فإنَّه أعلى نعيم أهل الجنة، وأعظم لذة لهم؛ كما في "صحيح مسلم"(1) عن صُهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى المُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُون: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ يُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، أَلَمْ يُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَة. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) ".
وفي رواية لابن ماجه وغيره (3)، في هذا الحديث:"فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ".
وأخرج الدارمي (4)، من حديث ابن عمر مرفرعًا:"إِن أهل الْجنَّة إِذا بلغ بهم النَّعيم كل مبلغ فظنُّوا أَنه لَا نعيم أفضل مِنْهُ، تجلَّى الربُّ تبارك وتعالى عَلَيْهِم فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجه الرَّحْمَن فينسون كلَّ نعيم عاينوه حِين نظرُوا إِلَى وَجه الرَّحْمَن".
وأخرجه الدارقطني (5) بنقصان منه وزيادة، وفيه: فيقول: "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلِّلُونِي وَكَبِّرُونِي وَسَبِّحُونِي، كَمَا كُنْتُ تُهَلِّلُونِي وَتُكَبِّرُونِي وَتُسَبِّحُونِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَيَتَجَاوَبُونَ بِتَهْلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ تبارك وتعالى لِدَاوُدَ عليه السلام:
يَا دَاوُدُ، قُمْ مَجِّدْنِي فَيَقُوم دَاوُد فَيُمَجِّدُ رَبَّهُ عز وجل".
وفي "سُنن ابن ماجه"(6) عن جابر مرفوعًا: بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ
(1) برقم (181).
(2)
يونس: 26.
(3)
أخرجه ابن ماجه (1871)، والنسائي في "الكبرى"(11234/ 1)، وأحمد (4/ 332، 333)، (6/ 15).
(4)
في "الرد عَلَى الجهمية"(189)، وفي الرد عَلَى المريسي (229).
(5)
في "الرؤية"(176).
(6)
برقم (184).
يَا أَهْلَ الجنة، وذلك قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَّبٍ رَّحِيمٍ} (1)، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيْهِ مِنَ النَّعِيمِ دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ".
وخرَّج البيهقيُّ (2) من حديث جابر مرفوعًا: "إِنَّ أَهْلَ الْجنَّة يرونَ رَبهم عز وجل عَلَى نَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَأَزِمَّتُهَا مِنْ زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ بكُثبان من مسك أذفر أَبيض فتثير عَلَيْهَا ريحًا يُقَال لَهَا: المُثيرة، حَتَّى تَنْتَهِي بهم إِلَى جنَّة عدن وَهِي قَصَبَة الْجنَّة. فَتَقول الْمَلَائِكَةُ: رَبنَا جَاءَ الْقَوْم. فَيَقُول: مرْحَبًا بالصادقين، مرْحَبًا بالطائعين. قَالَ: فَيكْشف لَهُم الْحجاب، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ويتمتَّعون بنوره حَتَّى لَا يبصر بَعضهم بَعْضًا ثمَّ يَقُول: ارْجعُوا إِلَى الْقُصُور بالتحف. فيرجعون وَقد أبْصر بَعضهم بَعْضًا. فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) ".
وفي "مسند البزار"(4)، من حديث حذيفة مرفوعًا، في يوم المزيد:"إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ تِلْكَ الْحُجُبَ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ، فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ، لَوْلا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى أَلَاّ يَحْتَرِقُوا لاحْتَرَقُوا؛ مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقد خفوا عَلَى أَزوَاجهم مِمَّا غشيهم من نوره، فَإِذا صَارُوا تراد النورُ وتراد وَأمكن، حَتَّى يرجِعوا إِلَى صورهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا".
ويُروى من حديث أنس (5) مرفوعًا: "إِن الله يَقُول لأهل الْجنَّة إِذا (استزادهم) (*) وتجلَّى لَهُم: سَلام عَلَيْكُم يَا عبَادي، انْظُرُوا إِلَيّ فقد رضيتُ عَنْكُم. فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ. فتتصدَّع لَهُ مَدَائِن الْجنَّة وقصورها ويتجاوب فُصُول شَجَرهَا وأنهارها وَجَمِيع مَا فِيهَا: سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ. فاحتقروا الْجنَّة وَجَمِيع مَا فِيهَا حِين نظرُوا إِلَى وَجه الله عز وجل".
(1) يس: 58.
(2)
في "البعث والنشور"(448).
(3)
فصلت: 32.
(4)
أخرجه البزار في "المسند" كما في " كشف الأستار"(3518).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 256)، وابن أبي شيبة (2/ 150) وابن أبي الدُّنْيَا في "صفة الجنة"(90) وغيرهم.
(*) استزارهم: "نسخة".
ويُروى من حديث علي (1) مرفوعًا: "إِنَّ الله عز وجل يَتَجَلَّى لأَهْلِ الجَنَّة عَنْ وَجْهِهِ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا نِعْمَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَتَعَالَى:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (2).
ويُروى من حديث أبي جعفر مُرسلاً (3): "إِنَّ أهل الْجنَّة إِذا زاروا رَبهم تبارك وتعالى، وكشف لَهُم عَن وَجهه، قَالُوا: رَبنَا أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام، وَلك حق الْجلَال وَالْإِكْرَام، فَيَقُول تَعَالَى: مرْحَبًا بعبادي الَّذين حفظوا وصيتي، وراعوا عهدي، وخافوني بِالْغَيْبِ، وَكَانُوا مني عَلَى كل حَال مشفقين، فَقَالُوا: وَعزَّتك وعظمتك وجلالك مَا قدرناك حق قدرك، وَمَا أدينا إِلَيْك حَقك؛ فَائذن لنا فِي السُّجُود لَك. فَيَقُول لَهُم عز وجل: إِنِّي قد وضعت عَنْكُم مُؤنَة الْعِبَادَة، وأرحت لكم أبدانكم. فطالما أنصبتم لي الْأَبدَان، وأعنيتم الْوُجُوه؛ فَالْآن أفضيكم إِلَى روحي ورحمتي وكرامتي، فاسألوني مَا شِئْتُم، وتمنوا عَليّ أعطكم أمانيكم؛ فَإِنِّي لم أجزكم الْيَوْم بِقدر أَعمالكُم، وَلَكِن بِقدر رَحْمَتي وكرامتي.
فَمَا يزالون فِي الْأَمَانِي والعطايا والمواهب، حَتَّى إِن المقصّر مِنْهُم فِي أمْنِيته ليتمنَّى مثلَ جَمِيع الدُّنْيَا مُنْذُ خلقهَا الله إِلَى أَن أفناها. فَيَقُول لَهُم الرب تبارك وتعالى: لقد قصَّرتم فِي أمانيكم ورضيتم بِدُونِ مَا يحِق لكم فقد أوجبتُ لكم مَا سَأَلْتُم وتمنيتم، وألحقتُ بكم ذريتكم وزدتكم مَا قصرت عَنهُ أمانيكم.
قَالَ عبد الرَّحْمَن بنُ أبي ليلى: إِذا تجلَّى لَهُم رَبُّهم لَا يكون مَا أُعطوا عِنْد ذَلِك بِشَيْء.
قَالَ الْحسن: إِذا تجلَّى لأهل الْجنَّة نسوا كلَّ نعيم الْجنَّة.
وكان يقول: لو علم العابدون أنّهم لا يرون ربَّهم في الآخرة لماتوا.
(1) أخرجه اللالكائي (852)، وأورده ابن القيم في "حادي الأرواح"(ص 368) من طريق يعقوب بن سفيان، ورواه أبو بكر المقرئ في "زيادات مسند أبي يعلى" كما في "المطالب العالية"(5205) وإسناده ضعيف جدًّا.
(2)
سورة ق: 35.
(3)
أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة الجنة"(53)، وأبو نعيم في "صفة الجنة"(411).
وقال: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيبَ الحياة، وذاقوا نعيمَها بما وصلوا إِلَيْهِ من مُناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من حلاوة حبّه في قلوبهم. لا سيما إذا خطر عَلَى بالهم ذكرُ مشافهته، وكشف ستور الحُجب عنه في المقام الأمين والسرور، وأراهم جلالَه، وأسمعهم لذَّة كلامه، ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياتهم.
أملي أن أراك يومًا من الدهر
…
فأشكو لك الهوى والغليلا
وأُناجيك من قرب وأبدي لك
…
هذا الجوى وهذا النُّحُولَا
قال وهب: لو خُيِّرت بين الرؤية والجنة لاخترتُ الرؤية.
رئي بشر في المنام، فسُئل عن حاله وحال إخوانه، فَقَالَ: تركتُ فلانًا وفلانًا بين يدي الله يأكلان ويشربان ويتنعَّمان. قِيلَ لَهُ: فأنت؛ قال: علم قلَّة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إِلَيْهِ.
يا حبيب القلوب ما لي سواك
…
اوحم اليوم مذنبًا قد أتَاكا
أنت سُؤلي ومنيتي وسُروري
…
طال شوقي متى يكون لقاكا
ليس سُؤلي من الجنان نعيم
…
غير أني أريدها لأراكا
قال ذُو النون: ما طابت الدُّنْيَا إلَاّ بذكره، ولا طابت الآخرة إلَاّ بعفوه، ولا طابت الجنة إلَاّ برؤيته.
ولو أنَّ الله احتجب عن أهل الجنة لاستغاث أهل الجنة من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.
كان بعضُ الصالحين يقول: ليت ربِّي جعل ثوابي من عملي نظرةً إِلَيْهِ، ثم يقول: كن ترابًا.
كان علي بن الموفَّق يقول: اللهم إنْ كنت تعلم أنِّي أعبدُك خوفًا مِن نارك فعذِّبني بها، وإنْ كنت تعلم أنِّي أعبدك حُبًّا لجنتك فاحرمنيها، وإنْ كنت تعلم
أنما عبدتك حبًّا مني لك وشوقًا إِلَى وجهك الكريم فأبحنيه، واصنع بي ما شئت (1).
سمع بعضُهم قائلاً يقول:
كبُرت همة عبد طمعت في أنْ تراكا
…
وما حسبت أنْ ترى من رآكا
ثم شهق شهقة فمات.
لما غلب الشوقُ عَلَى قلوب المُحبِّين استروحوا إِلَى مثل هذه الكلمات، وما تخفي صدورُهم أكبر!
تجاسرتُ فكاشفتك لما غلب الصبر
…
فإنْ عنفني الناسُ ففي وجهك لي عذر
أبصارُ المُحبين قد غضت من الدُّنْيَا والآخرة، فلم تفتح إلَاّ عند مشاهدة محبوبهم يوم المزيد.
أروح وَقد ختمتَ عَلَى فُؤَادِي
…
بحبك أَنْ يحل بِهِ سواكا
فَلَو أَنِّي اسْتَطَعْت غضضت طرفِي
…
فَلم أنظر بِهِ حَتَّى أراكا
أحبك لَا ببعضي بل بكلي
…
وَإِنْ لم يبْق حبك لي حراكا
وَفِي الأحباب مَخْصُوص بوجد
…
وَآخر يَدعِي معي اشتراكا
إِذا استكبت دموعي فِي خدودي
…
تبيَّن من بَكَى مِمَّن تباكا
فَأَما من بَكَى فيذوب وجدًا
…
وينطق بالهوى من قد تشاكا
كان سحنون المُحب يُنشد:
وَكَانَ فُؤَادِي خَالِيًا قبل حُبّكم
…
وَكَانَ بِذكر الْخلق يلهو ويمرح
(1) في ذلك نظر، إذ العبودية الحقة لا بد وأن تجمع بين الحب والخوف والرجاء. قال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] وقال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
فَلَمَّا أن دَعَا قلبِي هَوَاك أَجَابَهُ
…
فلست أرَاهُ عَن فنائك يبرح
رُميت ببعد عَنْك إِن كنت كَاذِبًا
…
وَإِن كنت فِي الدُّنْيَا بغيرك أفرح
وَإِن كَانَ شَيْء بالبلاد بأسرها
…
إِذا غبت عَن عَيْني لعَيْنِي يملح
فَإِن شِئْت واصلني وَإِن شِئْت لَا تصل
…
فلست أرى قلبِي لغيرك يصلح
وأمَّا الشوق إِلَى لقاء الله فهو أجل مقامات العارفين في الدُّنْيَا؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يدعو: "اللهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، وَخَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، وَإِذَا أَقْرَرْتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَأَقِرَّ عَيْنِي مِنْ عِبَادَتِكَ" (1).
وإنما قال: "مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" لأنَّ الشوق إِلَى لقاء الله يستلزم محبة الموت، والموتُ يقع تمنيه كثيرًا من أهل الدُّنْيَا؛ بوقوع الضرَّاء المُضرة في الدُّنْيَا، وإن كان منهيًّا عنه في الشرع.
ويقع من أهل الدين تمنيه؛ لخشية الوقوع في الفتن المُضلَّة.
فسأل تمنّي الموت خاليًا من هذين الحالين، وأنْ يكون ناشئًا عن محض محبَّة الله والشوق إِلَى لقائه؛ وقد حصل هذا المقامُ لكثيرٍ من السلف. قال أبو الدرداء: أَحَبّ الموتَ اشتياقًا إِلَى ربي.
وقال أبو عُتبة (الخواص)(**): كان إخوانكم لقاء الله أحب إليهم من الشَّهد.
وقالت رابعةُ: طالت عليّ الأيامُ والليالي بالشوق إِلَى لقاء الله.
ومكث فتح بن (شخرف)(2) ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إِلَى السماء، ثم رفع رأسه فَقَالَ: طال شوقي إليك فعجَّل بالقدوم عليك.
(*) إذا: "نسخة".
(1)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 282).
(**) الخولاني: "نسخة".
(2)
في المطبوع "شخروق" والصواب ما أثبتناه. انظر "طبقات الأولياء" لابن الملقن (ص 222، 274، 319)، و"طبقات الصوفية"(ص 11، 143) و"سير أعلام النبلاء"(3/ 93) و"تاريخ بغداد"(12/ 384).
وكان بعضُهم يقول في مناجاته: قبيحٌ بعبد ذليل مثلي يعلم عظيمًا مثلك.
اللهم إنك تعلم أنك لو خيَّرتني أنْ تكون لي الدُّنْيَا منذ خُلقت أتنعم فيها حلالاً لا أُسْأَلُ عنها يوم القيامة، وبين أن تخرج روحي الساعة (1).
قال بعض السلف: إذا ذكرتُ القدومَ عَلَى اللَّه كُنت أشد اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حرَّه إِلَى الشراب الشديد بردُه.
أشتاق إليك يا قريب نائي
…
شوق الظامي إِلَى زُلال المائي
قال الجنُيد: سمعتُ سريًّا يقول: الشوقُ أجل مقام العارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق بالشوق لها عن كل شيء يشغله عمَّن يشتاق إِلَيْهِ.
رئي داود الطائي في المنام عَلَى منبر عالٍ، وهو ينشد:
ما نال عبدٌ من الرحمن منزلة
…
أعلى من الشوق إنَّ الشوق محمود
لا زال المُحبُّون يروضون أرواحهم في الدُّنْيَا حتى خرجت عن أبدان الهوى وصارت في حواصل طير الشوق، فهي تسرح في رياض الأُنس وترد حياضَ القُدس، ثم تأوي إِلَى قناديل المعرفة المُعلقةِ في المحل الأعلى حول العرش؛ كما قال بعضُ العارفين: القلوب جوَّالة، فقلبٌ يدور حول العرش، وقلبٌ يجول حول الحُش، كلَّما حلَّت نسماتُ القُدس من أرجاء الأُنس عَلَى أغصان قلوب الأحباب، تمايلت شوقًا إِلَى ذلك الجنَاب.
كان بعضُ السلف يمشي أبدًا عَلَى قدميه من الشوق، وكان بعضُهم كأنّه مخمورٌ من غير شراب (2).
(1) كذا؛ وقد سقط: "لاخترت أن تخرج نفسى الساعة". انظر "استنشاق نسيم الأنس"(96) للمؤلف.
(2)
لم يكن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولا خير في هدي جانب هديه صلى الله عليه وسلم.
يريحني إليك الشوقُ حتى
…
أميل من اليمين إِلَى الشمال
ويأخذني لذكركم رياح
…
كما نشط الأسير من العقال
أهل الشوق عَلَى طبقتين:
أحدهما: من أقلقه الشوقُ ففني اصطبارُه؛ كان أبو عُبيدة الخوَّاص يمشي ويضرب عَلَى صدره، ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه.
كان داود الطائي يقول بالليل: همُّك عطَّل عَلَيَّ الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وشوقي إِلَى النظر إليك أوبق مني اللذات، وخالف بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب.
أحبابي أمَّا جِفن عيني فمقروح
…
وأمَّا فؤادي فهو بالشوق مجروح
يذكرني مرُّ النسيم عهودكم
…
فأزداد شوقًا كلّما هبت الريحُ
أراني إذا ما أظلم الليلُ أشرقت
…
بقلبي من نارِ الغرام مصابيح
أصلي بذكراكم إذا كُنت خاليًا
…
ألا إِنَّ تذكار الأحبَّة تسبيح
الطبقةُ الثانية: من إذا أقلقهم الشوقُ سكَّنهم الأُنس باللَّه، فاطمأنت قلوبُهم بذكره، وأنسوا بقُربه.
وهذه حالُ الرسول صلى الله عليه وسلم وخواص العارفين من أمته.
وسُئل الشَّبلي: بماذا تستريح قلوبُ المحبّين والمشتاقين؟ فَقَالَ: بسرورهم بمن أحبُّوه واشتاقوا إِلَيْهِ.
أموت إذا ذكرتُك ثم أحيا
…
ولولا ما أؤمل ما حييتُ
فأحيا بالمنى وأموت شوقًا
…
فكم أحيا عليك وكم أموت
كانت بعضُ الصالحات تقول: أليس عجبًا أنْ أكون حية بين أظهركم، وفي قلبي من الاشتياق إِلَى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ.
أموت اشتياقًا ثم أحيا بذكركم
…
وبين التراقي والضلوع لهيب
فوا عجبا موت المشوق صبابة
…
ولكن بقاه فى الحياة عجيب
هذه أحوالٌ لا يعرفها إلَاّ من ذاقها.
لا يعرف الوجدَ إلَاّ من يُكابده
…
ولا الصبابة إلَاّ من يُعانيها
فأمَّا من ليس عنده منها خبر، فربما لام أهلَها.
يا عاذل المشُتاق دعه فإنّه
…
لديه من الزفرات غير حشاكا
لو كان قلبك قلبه ما لمته
…
حاشاك مما عنده حاشاكا
قولُه صلى الله عليه وسلم: "أَعُوذُ بِكَ اللهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُه".
استعاذ من أربعة أشياء: أحدها: الظلم من الطرفين، وهو أنْ يظلم غيره أو يظمه غيره.
وخرَّج أبو داود (1) من حديث أم سلمة، قالت:"مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ".
وخرَّجه الترمذي (2) وصححه، ولفظُه:"اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نُزَلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا".
فمن سلم من ظُلم غيره، وسلم الناسُ من ظلمه: فقد عُوفي وعوفي الناسُ منه. وكان بعض السلف يدعو: اللهم سلِّمني وسلِّم مني.
(1) برقم (5094).
(2)
برقم (3427).
والثاني: العُدوان. وفرَّق اللَّه بين الظلم والعُدوان، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إِلَى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} (1) الآية.
وقد يُفرَّق بين الظلم والعُدوان، بأنَّ الظلم: ما كان بغير حق بالكلية، كأخذ مالٍ بغير استحقاق شىء منه، وقتل نفس لا يحل قتلها.
وأمَّا العُدوان: فهو مُجاوزة الحدود وتعديها فيما أصلُه مباح، مثل أنْ يكون له عند أحدٍ حقٌّ من مال أو دم أو عرض، فيستوفي أكثر منه. فهذا هو العُدوان، وهو تجاوز ما يجوز أخذه فيأخذ ماله أخذه وما لي له أخذه، وهو من أنواع الربا المحرَّمة.
وقد ورد السَّبَّتَان بالسَّبة ربا.
والظلم المُطلق: أخذُ ما ليس له أخذه، وأخذ شيءٍ منه من مال أو عرض أو دم. كلاهما في الحقيقة ظلم.
وفي "الصحيح"(2) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول اللَّه عز وجل: يا عبادي، إنِّي حرمت الظلمَ عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا".
وفي "الصحيحين"(3) عنه صلى الله عليه وسلم قال: "الظلم ظلمات يوم القيامة".
وفيهما (4) عنه صلى الله عليه وسلم قال: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»
وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (5) الآية.
وفي البخاري (6) عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» .
(1) النساء: 29 - 30.
(2)
أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.
(3)
أخرجه البخاري (2447)، ومسلم (2579) من حديث ابن عمر.
(4)
أخرجه البخارى (4686)، ومسلم (2583) من حديث أبي موسى.
(5)
هود: 102.
(6)
أخرجه البخاري (2449) من حديث أبي هريرة.
وفي "صحيح مسلم"(1) عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ:«إِنَّ المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْضِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَُقْضِي مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .
وفي الحديث (2): " «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تَتَقاضَى الشَّاة الْجَماء (3) مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ".
وفي حديث عبد الله بن أنيس: (وليَسْأَلَنَّ الحجر لم نكت الحجر، وليسألن العود لم خدش صاحبه".
فخِف القضاء غدًا إذا وافيت ما
…
كسبت يداك اليوم بالقسطاس
في موقف ما فيه إلَاّ شاخص
…
أو مهطع (4) أو مقنع بالراس
أعضاؤهم هي الشهودُ وسجنهم
…
نارٌ وحاكمهم شديد الباس
إِنْ تمطل اليوم الحقوقَ مع الغنى
…
فغدًا تؤديها مع الإفلاس
والظلمُ المحرَّم تارة يكون في النفوس، وأشده في الدماء. وتارة في الأموال، وتارة في الأعراض، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في خُطبته في حجة الوداع:"إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا"(5) وفي رواية: ثم قال: "اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(6).
(1) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة.
(3)
الجماء: التي لا قرن لها. "النهاية"(1/ 300).
(4)
مهطع: أقبل عَلَى الشيء ببصره فلم يرفعه وقيل: الَّذِي ينظر في ذل وخشوع. "اللسان" مادة: (مطع).
(5)
أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة.
(6)
أخرجه الدارقطني فى "السنن"(3/ 26) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 100)، (8/ 182) من حديث أنس.
وفي "صحيح مسلم"(1) عنه صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
فظلمُ العباد شرٌّ مكتسب؛ لأنَّ الحق فيه لآدمي مطبوع عَلَى الشُّح، فلا يترك من حقه شيئًا، لاسيما مع شدة حاجته يوم القيامة، فإنَّ الأم تفرحُ يومئذ إذا كان لها حقٌّ عَلَى ولدها، لتأخذه منه.
ومع هذا، فالغالبُ أنَّ الظالم تُعجَّل له العقوبة في الدُّنْيَا وإنْ أُمهل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم (2):«إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} (3) الآية.
قال بعضُ أكابر التابعين لرجل: يا مُفلس. فابتُلي القائل بالدَّين والحبس، بعد أربعين سنة.
وضَرب رجلٌ أباه وسحبه إِلَى مكان، فَقَالَ الَّذِي رآه: إِلَى ها هنا! رأيتُ هذا المضروب قد ضَرب أباه، وسحبه إِلَيْهِ!
وصادر بعضُ وزراء الخلفاء رجلًا، فأخذ منه ثلائة آلاف دينار. فبعد مدة غضب الخليفة عَلَى الوزير، وطلب منه عشرة آلاف دينار، فجزع أهلُه من ذلك، فَقَالَ: ما يأخذ مني أكثر من ثلاثة آلاف دينار كما كنتُ ظلمتُ. فلما أدَّى ثلاثة آلاف دينار وقَّع الخليفةُ بالإفراج عنه، فسبحان مَن هو قائمٌ عَلَى كل نفس بما كسبت، إنَّ ربك لبالمرصاد.
حاكمُ العدل لا يجور، وإنَّما يُجازي بالعدل. وميزانُ عدله لا يُحابي أحدًا؛ بل يتحرَّر فيه مثاقيلُ الذر ومثاقيل الخردل، وكما تدين تدان.
فجانب الظلمَ لا تسلُك (طريقته)(*)
…
عواقبُ الظلم تُخشى وهى تنتظر
وكل نفس ستُجزى بالذي عملت
…
وليس للخلق من دينهم وطر
(1) أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
هود:102.
(*) مسالكه: "نسخة".
الثالث: مما استعاذ منه: وهو اكتساب الخطيئة؛ قال اللَّه عز وجل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (1).
وفسِّرت إحاطة الخطيئة بالموت عَلَى الشرك، وفسِّرت بالموت عَلَى الذنوب الموجبة للنار من غير توبة منها.
فكأنَّ ذنوبه أحاطت به من جميع جهاته، فلم يبق له مخلصٌ منها.
فالخطايا تُحيط بصاحبها حتى تُهلكه؛ وقد ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل الخطايا التي يتلبس بها العبد بمثل درع ضيقة يلبسها، فتضيق عليه حتى تخنقه، ولا تنفك عنه إلا بعمل الحسنات، من توبة أو غيرها من الأعمال الصالحة؛ ففى "المسند"(2)، عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ (خَنِيقَة) (*)، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» .
فلا يخلص العبد من ضيق الذنوب عليه وإحاطتها به إلَاّ بالتوبة والعمل الصالح.
كان بعضُ السلف يُردد هذين البيتين بالليل، ويبكي بكاءً شديدًا:
ابكِ لذنبك طول الليل مجتهدًا
…
إنَّ البكاء معول الأحزان
لا تنسَ ذنبك في النهار وطوله
…
إِنَّ الذنوب تحيط بالإنسان
الرابع مما استعاذ منه: الذنب الَّذِي لا يُغفر. ويدخل فيه شيئان. أحدُهما: الشرك؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
…
} (3) الآية.
والثاني: أنْ يعمل العبدُ ذنبًا ولا يُوفَّق لسبب يمحوه عنه؛ بل يلقى اللَّه من غير سبب ملح له، فلا يُغفر له؛ بل يُعاقب عليه، فإنَّ الله إذا أَحَبّ عبدًا أوقعه
(1) البقرة:81.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 145).
(*) ثُم خنقته: "نسخة".
(3)
النساء: 48، 116.
في ذنب له، ووفقه لأسباب يمحوه عنه: إمَّا بالتوبة النصوح، وفي ابن ماجه (1) عن ابن مسعود مرفوعًا: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
وإمّا بحسنات ماحية {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (2) وإمَّا أن يُتلى بمصائب مكفّرة؛ فمن وُرد اللَّه به خيرًا يُصب منه. ولا تزال البلايا بالمؤمن حتى يمشي عَلَى الأرض وليس عليه خطيئة.
وإمَّا أنْ يُغفر له بشفاعة بإذن الله لمن يأذن فيها، وإما أن يغفر لمجرّد فضله ورحمته من غير سبب آخر، فحينئذ يكون هذا الذنب مغفورًا.
قال بعضُهم: إذا أحبَّ اللهُ عبدًا لم يضره ذنب، ومرادُه أنه يمحوه عنه، وربما يجعل الذنب في حقه سببًا لشدة خوفه من ربَّ وذله وانكساره له، فيكون سببًا لرفع درجة ذلك العبد عنده.
وإذا خذل عبدًا وقضى عليه بذنبٍ لم يوفِّقه لشيء من ذلك، فلقي الله بذنبه من غير سبب يمحوه عنه في الدُّنْيَا، ثم يؤاخذه عليه في الآخرة ولا يغفره، فهذا هو الذنب المُستعاذ منه ها هنا.
وحاصلُ الأمر: أنَّ مَن عامله الله في ذنوبه بالعدل هلك، ومن عامله بالفضل نجا؛ كما قال يحى بن مُعاذ: إذا وضع عدله عَلَى (عبد)(*) لم ييق له حسنة، وإذا بسط فضله عَلَى عبد لم يبق له سيئة.
يا ويلنا من موقف ما به
…
أخوف من أنْ يعدل الحاكم
يا رب عفوا منك عن مذنب
…
أسرف إلا أنّه نادم
قولُه صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ؛ فِإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيْدًا، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ وَلَكَ
(1) برقم (4250).
(2)
هود: 114.
(*) عبده: "نسخة".
الحَمدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ".
هذا الدعاءُ استفتحه بقوله: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ".
وقد قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} (1) الآية.
وفىِ "صحيح مسلم"(2): "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
وفي "المسند" والترمذي (3): أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فَقَالَ:"لقد استُجيب لك؛ فاسأل".
والمسئولُ في هذا الدعاء أنَّ العبد يعهد إِلَى ربه في هذه الحياة الدُّنْيَا، ويُشهده، وكفى به شهيدًا أنَّه يشهد له بأصول الإيمان التي من وفَّى بها فقد نجا. وهي الشهادةُ لله بالوحدانية، وأتبعها بالشهادة له بالملُك والحمد والقُدرة عَلَى كل شيء، والشهادة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة، والشهادة لله بأنَّ وعده حق ولقاءه حق، وأنَّ الجنة حق والنار حق، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور. وقد تضمَّنت هذه الشهادة أصولَ الإيمان الخمسة؛ فإنَّ من شهد لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة فقد شهد بما أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالشهادة به، وهو أصول الإيمان الخمسة كلِّها. وهي: الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر.
(1) الزمر: 46.
(2)
برقم (770) من حديث عائشة.
(3)
أخرجه أحمد (5/ 231، 235)، والترمذي (3527) من حدث معاذ.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه صلاة الليل: "أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ"(1).
وقد أخبر اللَّه تعالى عن هُود عليه السلام أنَه قال لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (2).
وقد وردت الأحاديث بفضل من عهد إِلَى ربِّه في الدُّنْيَا هذا العهد، واستشهده عَلَى نفسه بمثل هذه الشهادة؛ ففي "سُنن أبي داود" (3) عن أنس موقوفًا:"مَن قَال حِين يُصبح أو يمسي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. أَعْتَقَ اللَّهُ رُبُعَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ".
وأخرج النسائي والترمذيّ بمعناه (4).
ورُوي معناه: من حديث سلمان (5)، وعائشة.
وفي "المُسند"(6) عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ
(1) أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) من حديث ابن عباس.
(2)
هود: 54 - 55.
(3)
برقم (5069).
(4)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(6/ 6) برقم (9837/ 6) عن أنس، والترمذي (3501) بمعناه عن أنس. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
(5)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(6/ 220)، و"الدعاء"(299، 300)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 523) من حديث سلمان.
(6)
(1/ 412).
الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. إِلَّا قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ. فَيُدْخِلُهُ اللهُ الْجَنَّةَ". قال القاسمُ بن عبد الرحمن: ما في أهلنا جارية إلا تقول هذا في خدرها.
قولُه صلى الله عليه وسلم: "وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ، وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ" هذا كما في حديث ابن مسعود (1) المتقدم: "فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ". والمقصودُ من ذلك: سؤالُ العبد لربه أنْ يتولَاّه برحمته، وأنْ لا يكله إِلَى نفسه.
وفي كتاب "اليوم والليلة" للنسائي (2): عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَأَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ اسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، ولَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ".
وخرَّجه الطبراني (3)، وزاد فيه:"ولَا إِلَى أحدٍ منَ الناسِ".
وخرَّج أبو داود والنسائي (4): من حديث أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دَعْوَة الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت".
وقال قتادة: لما نزل قولُه تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (5) الآيات، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ"(6).
(1) أخرجه أحمد في "المسند"(1/ 412).
(2)
برقم (570).
(3)
في "الأوس"(3565)، (8021).
(4)
أخرجه أبو داود في "السنن"(5090)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 167) برقم (10487/ 25).
(5)
الإسراء: 74.
(6)
أخرجه الطبري في "التفسير"(15/ 89).
وفي "سُنن أبي داود"(1) عن عبد اللَّه بن حوالة، قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَرَجَعْنَا وَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا وَقّدْ عَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ» .
فَإِذَا وفَّق اللهُ عبدًا توكل بحفظه وكلاءته، وهدايته وإرشاده، وتوفيقه وتسديده. وإذا (أخذله) (*) وكله إِلَى نفسه أو إِلَى غيره؛ ولهذا كانت هذه الكلمة:"حسبنا اللَّه ونعم الوكيل" كلمة عظيمة، وهي التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قال الناس: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم (2)، وقالتها عائشةُ حين ركبت الناقة لمَّا انقطعت عن الجيش (3)، وهي كلمةُ المؤمنين.
فمن حقَّق التوكلَ عَلَى اللَّه لم يكله إِلَى غيره، وتولَّاه بنفسه.
وحقيقةُ التوكل: تَكِلَةِ الأمور كلِّها إِلَى من هي بيده؛ فمن توكَّل عَلَى اللَّه في هدايته وحِراسته وتوفيقه وتأييده ونصره ورزقه، وغير ذلك من مصالح دينه ودنياه تولَّى اللهُ مصالحه كلَّها؛ فإنه تعالى ولي الذين آمنوا. وهذا هو حقيقةُ الوثوق برحمة الله؛ كما في هذا الدعاء:"فإنى لا أثق إلا برحمتك".
فمن وثق برحمة ربِّه ولم يثق بغير رحمته، فقد حقَّق التوكل عَلَى ربه في توفيقه وتسديده. فهو جدير بأن يتكفَّلَ اللهُ بحفظه، ولا يكله إِلَى نفسه.
وفي هذا الحديث وصفَ النفسَ بأوصاف ذميمة، كلُّ ذلك حذرًا أنْ يُوكل العبد إِلَى ما هذه صفاته، وهي أربعةُ أوصاف: الضَّيعة، والعورة، والذَّنب، والخطيئة.
(1) برقم (2535).
(*) خذله: "نسخة".
(2)
أخرجه البخاري برقم (4563، 4564) عن ابن عباس.
(3)
أخرجه البخاري برقم (4141)، ومسلم برقم (2770).
فالضيعةُ: هي الضياع. فمن وكل إِلَى نفسه ضاع؛ لأنّ النفس ضيعة؛ فإنًها لا تدعو إِلَى الرُّشد، وإنَّما تدعو إِلَى الغي.
والعورة: هي ما ينبغي سترُه لقبحه ودناءته، فكذلك النفس لقُبح أوصافها وسوء أخلاقها الذميمة.
والذنبُ والخطيئة معناهما مُتقارب أو متحد، وقد يراد بأحدهما الصغائر وبالآخر الكبائر.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى النفسَ بأنها أمَّارة بالسوء، فَقَالَ تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (1) فمن رحمه الله عصمه (من)(*) السوء الَّذِي تأمر به النفس.
وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه أنْ يقول في كل صباح ومساء وعند نومه: "أعوذ بك من شر نفسي"(2).
وأمّا من وكله إِلَى نفسه ولم يرحه؛ فإنَّه يُجيب داعي نفسه الأمارة بالسوء، فيفعل كل سوء تأمره به نفسُه.
وفي "المسند" والترمذي (3) مرفوعًا: " «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عز وجل» .
فقسَّم الناسَ إِلَى قسمين: كيّس، وعاجز. فالكيّسُ: هو اللَّبيب الحازمُ العاقل، الَّذِي ينظر في عواقب الأمور، فهذا يقهر نفسَه ويستعملُها فيما يعلم أنَّه ينفعها بعد موتها، وإن كانت كارهةٌ لذلك.
والعاجز هو الأحمقُ الجاهل، الَّذِي لا يفكر في العواقب؛ بل يتابع نفسه عَلَى ما
(1) يوسف: 53.
(*) عن: "نسخة".
(2)
أخرجه أحمد (1/ 9، 10، 297)، وأبو داود (5067)، والترمذي (3392)، والنسائي في "الكبرى" برقم (1/ 7691، 7715/ 1)(9839/ 8) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (1/ 14) من حديث أبي بكر.
(3)
أخرجه أحمد (4/ 124)، والترمذى (2459).
تهواه، وهي لا تهوى إلَّا ما تظن أنَّ فيه لذتها وشهوتها في العاجل وإنْ عاد ذلك بضرٍّ لها فيما بعد الموت، وقد يعود ذلك عليها بالضرر في الدُّنْيَا قبل الآخرة.
فهذا هو الغالب واللازم، فيتعجَّل -هو لنفسه- العارَ والفضيحة في الدُّنْيَا، وسقوطَ المنزلة عند اللَّه وعند خلقه، والهوان والخزي، ويُحرم بذلك خير الدُّنْيَا والآخرة، من علمٍ نافع ورزق واسع وغير ذلك.
ومَن خالف نفسَه ولم يُتبعها هواها تعجَّل بذلك الجزاء في الدُّنْيَا، ووجد بركة ذلك من حصول العِلْم والإيمان والرزق وغير ذلك.
وقيل لبعضهم: بما بلغ الأحنفُ بن قيس فيكم ما بلغ؟ قال: كان أشد الناس سُلطانًا عَلَى نفسه.
فهذه النفس تحتاج إِلَى مُحاربة ومجاهدة ومعاداة؛ فإنَّها أعدى عدو لابن آدم، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المُجاهد من جاهد نفسه في الله"(1) ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"(2).
وقال الصِّديقُ لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند موته: أوَّل ما أُحذرك نفسك التي بين جنبيك.
وفيه يقول بعضُهم: كيف احترازي من عدوي، إذا كان عدوي يين أضلاعي؟!
وقال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها (3). ويقال: إنَّه الجهاد الأكبر، ورُوي مرفوعًا (4) من وجه ضعيف.
(1) أخرجه أحمد (6/ 20، 21، 22)، والترمذي برقم (1621). قال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
(2)
أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير"(343) من حديث ابن عباس. قال العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 3): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان أحد الوضاعين.
(3)
أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير"(368).
(4)
أخرجه أبو داود (2519).
فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزَّ بذلك؛ لأنّه انتصر عَلَى أشد أعدائه وقهره، وأسره واكتفى شرَّه، قال تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فحصر الفلاح في وقاية شح نفسه، وتطلُّعها إِلَى ما مُنعت منه، وحرصِها عَلَى ما يُضيرها مما تشتهيه: من علو وترفع، ومال وجاه، وأهل ومسكن، ومأكل ومشرب، وملبس وغير ذلك.
فإنَّها تطلع إِلَى ذلك كلِّه وتشتهيه، وهو عين هلاكها، ومنه ينشأ البغيُ والحسد والحقد؛ فمن وقي شح نفسه فقد قهرها، وقصرها عَلَى ما أُبيح لها وأُذن لها فيه، وذلك عين الفلاح.
كان بعض العارفين يُنشد:
إذا ما (عدلت)(*) النفس
…
عن الحق زجرناها
وإن مالت عن الأخرى
…
إِلَى الدُّنْيَا منعناها
تخادعنا ونخدعها
…
وبالصبر غلبناها
لها خوف من الفقر
…
وفي الفقر أنخناها
وبكل حال، فلا يقوى العبدُ عَلَى نفسه إلَاّ بتوفيق الله إياه وتوليه له، فمن عصمه الله وحفظه تولَاّه، ووقاه شح نفسه وشرها، وقوَّاه عَلَى مُجاهدتها ومعاداتها.
ومن وكله إِلَى نفسه غلبته وقهرته، وأسرته وجرَّته إِلَى ما هو عين هلاكه، وهو لا يقدر عَلَى الامتناع كما يصنع العدوُّ الكافر إذا ظفر بعدوه المسلم؛ بل شر من ذلك؛ فإن المسلم إذا قتله عدوه الكافر كان شهيدًا، وأمّا النفس إذا تمكّنَتْ من صاحبها قتلته قتلاً يَهلك به في الدُّنْيَا والآخرة.
(1) الحشر: 9.
(*) عدت: "نسخة".
وهذا معنى الحديث الَّذِي رُوي مرفوعًا: " «لَيْسَ عَدُوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا يَومَ القِيامةِ، وَإِنْ قَتَلَكَ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ. أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» (1).
فلهذا، كان من أهم الأمور سؤال العبد ربَّه أنْ لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين.
يا رب هئ لنا من أمرنا رشدا
…
واجعل معونتك الحُسنى لنا مددا
ولا تكلنا إِلَى تدبير أنفسنا
…
فالعبد يعجز عن إصلاح ها فسدا
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
ختم الدعاء بسؤال مغفرة الذنوب والتوبة؛ قال بعض السلف: الدُّنْيَا إما عصمة الله أو الهلكة، والآخرة إمَّا عفو الله أو النار.
فمن حصل له في الدُّنْيَا التوبة، وفي الآخرة المغفرة: فقد ظفر بسعادة الدُّنْيَا والآخرة. وقد تكرر في الكتاب والسنة ذكر الأمر بالتوبة والاستغفار؛ قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} (2) الآية، وقال تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (3) الآية.
وأخبر عن هود عليه السلام، وصالح وشعيب عليهم السلام. أنَّهم أمروا أممهم بالاستغفار والتوبة، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (4) الآيتان.
وتركُ الإصرار هو التوبة.
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 294) برقم (3445)، وفي "مسند الشاميين" برقم (1668) من حديث أبي مالك الأشعري. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 245): وفيه محمد بن إسماعيل ابن عياش وهو ضعيف.
(2)
المائدة: 74.
(3)
هود:3.
(4)
آل عمران: 135 - 136.
وفي "صحيح مسلم"(1)، عن الأغر المُزني، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» .
وخرَّجه النسائي (2)، ولفظه:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثرَ مِنْ سَبعينَ مَرَّةٍ» .
وفي "صحيح البخاري"(3)، عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"وَاللهِ إِنِّي إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِليهِ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثرَ مِنْ سَبعينَ مَرَّةٍ".
وخرَّجه النسائي، وابن ماجه (4)، ولفظهما:"إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِليهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ".
وفي "المسُند"(5) عن حُذيفة، قال: كان في لساني ذرب عَلَى أهلي، ما أعدوه إِلَى غيرهم. فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، يَا حُذَيْفَةُ؟ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ".
وفيه (6)، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ".
وفي "السنن الأربعة"(7)، عن ابن عمر قال: إِنْ كنا لنعد للنبي صلى الله عليه وسلم فى المجلس الواحد مائة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم الغفور".
(1) برقم (2702).
(2)
في "الكبرى"(10278/ 11) من حديث أنس.
(3)
برقم (6307).
(4)
النسائي في "الكبرى"(10268/ 3)، وابن ماجه في "السنن"(3815).
(5)
(5/ 394، 396، 397، 42).
(6)
أخرجه أحمد (4/ 410)، (5/ 394).
(7)
أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، والنسائي في "الكبرى"(10292/ 1)، وابن ماجه (3814). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وإنَّما قدَّم ذكرَ الشهادة بالتوحيد عَلَى طلب المغفرة؛ لأنّ التوحيد أعظم الأسباب التي تُستجلب بها المغفرة، وعدمُه مانع من المغفرة بالكلية؛ وفي الحديث (1):"ابن آدم إِنَّ جِئْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".
وفي حديث سيد الاستغفار (2) البدايةُ بذكر التوحيد قبل طلب المغفرة. وإذا اعترف العبدُ بذنبه وطلب المغفرة من ربِّه، وأقر له أنَّه لا يغفر الذنوب غيره كان جديرًا أنْ يُغفر له؛ ولهذا قال في الحديث:"فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوب إلَاّ أنت" وكذلك في دُعاء سيد الاستغفار، وكذلك في الدعاء الَّذِي علَّمه الصديق أنْ يقوله في صلاته.
وإلى هذا الإشارة في القرآن: {ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (3).
وفي حديث أبي ذر (4) المرفوع: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى المَغْفِرَةِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي".
وفى حديث علي (5)، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي".
وفي "الصحيح"(6): حديثُ الَّذِي أذنب ذنبًا فَقَالَ: "رَبِّ عَمِلْتُ ذَنْبًا
فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ عز وجل: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ الذَّنْبَ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابعَة: فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ". يعني: ما دام على هذا الحال، كلما أذنب استغفر.
(1) أخرجه أحمد (5/ 147، 148، 153، 155، 196، 180)، وابن ماجه (3821) من حديث أبي ذر.
(2)
أخرجه البخاري (6306).
(3)
آل عمران: 135.
(4)
أخرجه أحمد (5/ 154، 177)، والترمذي (2495)، وابن ماجه (4257).
(5)
أخرجه أحمد (1/ 97، 115، 128)، وأبو داود (2602)، والترمذي (3446)، والنسائي في "الكبرى"(8799/ 1).
(6)
أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758) من حديث أبي هريرة.
وفي "السنن"(1)، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» .
التوبةُ والاستغفار تُقبل في جميع آناء الليل والنهار، وفي "صحيح مسلم" (2) مرفوعًا:«إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» .
ولكن بعض الأوقات أرجى قبولًا، فَإِذَا وقعت التوبةُ والاستغفار في مظان الإجابة كان أقرب إِلَى حصول المطلوب؛ ولهذا مدح اللَّهُ تعالى المُستغفرين بالأسحار، قال:{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3)، وقال:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (4).
وفي "الصحيح"(5)، حديثُ النزول، وأنَّ الله يقول كل ليلية حين يبقى ثلثُ الليل الآخر:"هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ".
قال الفُضيل بن عياض: ما من ليلةٍ اختلط ظلامُها، وأرخى الليل سربال سترها، إلَّا نادى الجليلُ جل جلاله: مَن أعظم مني جودًا، والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنَّهم لم يعصوني، وأتولَّى حفظَهم كأنهم لم يُذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل عَلَى العاصي وأتفضَّل عَلَى المسيء. من ذا الَّذِي دعاني فلم أُلبِّه، أمَّن ذا الَّذِي (سألني)(*) فلم أعطه، أمّن ذا الَّذِي أناخ ببابي فنحيتُه. أنا الفضل ومني الفضل، أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومِن كرمي (أن)(**) أغفر للعاصي بعد
(1) أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559). وقال الترمذي: هذا حديث كريب، إِنَّمَا نعرفه من حديث أبي نضيرة، وليس إسناده بالقوي.
(2)
برقم (2759) من حديث أبي موسى.
(3)
الذاريات: 18.
(4)
آل عمران: 17.
(5)
أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة.
(*) يسألني: "نسخة".
(**) أني: "نسخة".
المعاصي، ومِن كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنَّه لم يعصني. فأين عني يهرب الخلائق، وأين عن بابي ينتحيَّ العاصون (1). ما للعصاة مهرب من الله إلَاّ إِلَيْهِ، فيهربون منه إِلَيْهِ.
هربت مِنْهُ إِلَيْهِ
…
بَكَيْت مِنْهُ عَلَيْهِ
وَحقه هُوَ سؤلي
…
لَا زلت بَين يَدَيْهِ
حَتَّى أنال وأحظى
…
بِمَا أرجي لَدَيْهِ
أَسَأْت وَلم أحسن وجئتك تَائِبًا
…
وَأَنِّي لعبد عَن موَالِيه يهرب
يؤمل غفرانًا فَإِن خَابَ ظَنّه
…
فَمَا أحد مِنْهُ عَلَى الأَرْض أخيب
وهذا معنى: "لا ملجأ منك إلا إليك" هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة عبده ممن فقد راحلته بأرض مهلكة، حتى يئس من الحياة ثم وجدها.
يا مطرود احذر أنْ تُفارق عتبة بابهم، يا مرميَّا بالبُعاد إياك أنْ تبعد عن جنابهم، يا مهجورًا ابْكِ وترام عليهم، يا متوعَّدا بالعقاب لا تهرب منهم إلَاّ إليهم.
في حديث جابر، المرفوع:"إِنَّ الْعَبْدَ (لِيَدْعُو) (*) اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُوهُ حَتَّى يَقُولُ عز وجل لِمَلَائِكَتِهِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَى أَنْ يَدْعُوَ غَيْرِي فَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَهُ".
كان رجلٌ من أصحاب ذي النون يطوف في السِّكك يبكي، ويُنادي: أين قلبي، أين قلبي، مَن وجد قلبي؟! فدخل يومًا بعضَ السكك، فوجد صبيًّا يبكي وأمّه تضربه، ثم أخرجته من الدار وأغلقت الباب دونه. فجعل الصبي يلتفت يمينًا وشمالاً، ولا يدري أين يذهب ولا أين يقصد. فرجع إِلَى باب
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 92).
(*) ليدع: "نسخة".
الدار، فوضع رأسه عَلَى عتبته فنام، فلما استيقظ جعل يبكى، ويقول: يا أمَّاه، مَن يفتح لي الباب إذا أغلقت عني بابك، ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني، ومَن ذا الَّذِي يئويني بعد أنْ غضبت عليَّ؟ فَرَحمَتْهُ أمُه، فقامت فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع عَلَى خده متمعِّكًا (1) في التراب.
ففتحت البابَ وأخذته حتى وضعته في حِجرها، وجعلت تُقبله وتقول: يا قُرَّة عيني وعزيز نفسي، أنت الَّذِي حملتني عَلَى نفسك، وأنت الَّذِي تعرَّضت لما حلَّ بك، لو كنت أطعتني لم (تلق)(*) منى مكروهًا.
فتواجد (2) الرجلُ، ثم قام وصاح، وقال: قد وجدتُ قلبي، قد وجدتُ قلبي.
هكذا ينبغي أن يكون حالُ العبدُ مع ربه.
إذا هجروا عزًّا وصلنا تذلُّلًا
…
وإنْ بعدوا يأسًا قرُبنا تعللا
وإنْ غلَّقوا بالهجر أبواب وصلهم
…
وقالوا ابعدوا عنا طلبنا التوصلا
وقفنا عَلَى أبوابهم نطلب الرِّضى
…
عَلَى التُرب عفَّرنا الحدود تذللا
أشرنا بتسليم وإنْ بعُد المدى
…
إليهم وكلَّفنا الرياح التحملا
(آخره والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وصلى اللَّه عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم)(**).
…
(1) متمعك: أي تقلب وتمرغ في التراب. "لسان العرب" مادة: (معك).
(*) يكن: "نسخة".
(2)
فتواجد أي حزن "لسان" مادة: (وجد).
(**) تم هذا الحديث وشرحه، والحمد لله وحده وصل اللهم عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم: