الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح حديث "مثَل الإسلام"
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسِّر وأعن يا كريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام عَلَى خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
فقد خرَّج الإمام أحمد، والنسائى، والترمذي (1) من حديث النوَّاس بن
سمْعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاً تَعْوَجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاً تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عز وجل، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ: "وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ" وهذا لفظ الإمام أحمد.
وعند الترمذي زيادة: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2).
وحسَّنه الترمذي (3)، وخرَّجه الحاكم (4)، وقال: صحيحٌ عَلَى شرط مسلم، لا أعلم له عِلَّة.
ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم الَّذِي حكاه عن ربه عز وجل مثل الإسلام بالصراط المستقيم. وقد سمَّى الله دينه الَّذِي هو دين الإسلام
(1) أخرجه أحمد (4/ 182، 183)، والنسائي في "الكبرى"(11233)، والترمذي (2859).
(2)
يونس: 25.
(3)
كما في "التحفة"(9/ 61) أما المطبوع ففيه: حديث غريب. وذكر المنذري في "الترغيب"(3/ 171) قول الترمذي: حديث حسن غريب.
(4)
في "المستدرك"(1/ 73).
صراطًا مستقيمًا في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1).
ولد فُسِّر الصراط هنا بكتاب الله. وكتاب الله فيه شرح دين الإسلام، وبيانه وتفضيله والدعوةُ إِلَيْهِ.
وعن جابر قال: "الصراط المستقيم هو الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض".
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3).
وخرَّج الإمام أحمد والنسائي في "تفسيره" والحاكم (4)، من حديث ابن
مسعود قال: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ، ثَمَّ قَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا". وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ". ثُمَّ قَرَأَ: "{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " (3).
وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (5)، من حديث مجاهد، عن الشّعبي، عن جابر، قال:"كُنَّا جُلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فَخَطَّ خَطًّا هَكذَا أَمَامَهُمْ، قال: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ". وَخَطَّينِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّينِ عَنْ شِمَالهِ، وقال: "هَذَا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ
(1) الفاتحة: 6 - 7.
(2)
المائدة: 15 - 16.
(3)
الأنعام: 153.
(4)
أخرجه أحمد: (1/ 435، 465)، والنسائي في "الكبرى"(11174/ 1، 11175/ 2)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 318).
(5)
أخرجه أحمد (3/ 397)، وابن ماجه (11).
وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَطِّ الأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآية:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاً تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية".
وقد رُوي عن ابن مسعود "أنَّه سُئل عن الصراط المُستقيم فَقَالَ: تركنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفُه في الجنة، وعن يمينه جوادٌ [وعن شماله جواد](1) وثُمَّ رجالٌ يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إِلَى النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهى به إِلَى الجنة. ثم قرأ ابنُ مسعود:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} خرَّجه ابنُ جرير (2) وغيرُه.
وإنَّما سُمّي الصراطُ صراطًا؛ لأنًه طريقٌ واسع سهل، يُوصل إِلَى المقصود، وهذا مثل دين الإسلام فى سائر الأديان؛ فإنَّه يُوصل إِلَى الله وإلى داره وجِواره، مع سهولته وسعته.
وبقيةُ الطرق -وإن كانت كثيرة- فإنَّها كلِّها مع ضيقها وعُسرها لا تُوصل إِلَى الله؛ بل تقطع عنه وتُوصل إِلَى دار سخطه وغضبه ومجاورة أعدائه، ولهذا قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4).
والإسلامُ العام هو دين الله الَّذِي كان عليه جميع الرسل؛ كما قال نوح {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (5) وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (6) وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ
(1) ليست بالأصل، والمثبت من "تفسير الطبري"(8/ 65).
(2)
في "تفسيره"(8/ 65).
(3)
آل عمران: 85.
(4)
آل عمران: 19.
(5)
يونس: 72.
(6)
الحج: 78.
يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاً تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) وقال عن يوسف أنَّه قال: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2) وقال تعالى عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) وقال عن الحواريين أنهم قالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (4).
وقد وصف الله في سُورة الفاتحة الصراط بأنَّه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (5).
ثم سمَّى الله الذين أنعم عليهم في سُورة النساء، وجعلهم أربعة أصناف: النبيين، والصِّديقين، والشهداء، والصالحين، فدلَّ عَلَى أنَّ هؤلاء كلَّهم عَلَى هذا الصراط المستقيم، فلا يخرج عنهم إلَاّ إمَّا مغضوبٌ عليه، وهو من عَرف الصراط وسلك غيره عمدًا كاليهود والمشركين، وإمّا ضالٌّ جاهل يسلك غير الصراط جهلاً، ويظن أنَّه الصراط.
وحقيقةُ الإسلام. الاستسلام لله تعالى والانقياد لطاعته، وأمَّا الإسلام الخاص، فهو دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ومُنذ بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أحد دينا غير دينه، وهو الإسلام الخاص [و] (6) بقية الأديان كفرًا؛ لما تضمَّن اتباعها من الكفر بدين محمد والمعصية لله في الأمر باتباعه؛ فإنه ليس هناك إلَاّ أحد أمرين:
إمَّا الاستسلام لله والانقياد لطاعته وأوامره، وهو دين الإسلام الَّذِي أمر الله تعالى به.
(1) البقرة: 132.
(2)
يوسف: 101.
(3)
النمل: 44.
(4)
المائدة: 111.
(5)
الفاتحة: 7.
(6)
زيادة يقتضيها السياق.
وإمَّا المعصية للَّه والمخالفة لأوامره، وذلك يستلزم طاعة الشيطان؛ لأنّ الشيطان يأمر بسلوك الطرق التي عن يمين الصراط وشماله، ويصد عن سلوك الصراط المستقيم؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1) وقال تعالى حاكيًا عن الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (2) وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (3).
وصح عن ابن مسعود (4) أنه قال: إنَّ هذا الصراط مُحتضر، تحضره الشياطين [ينادون] (5): يا عبد اللَّه، هذا الطريق، هلمَّ إِلَى الطريق، فاعتصموا بحبل اللَّه؛ فإنَّ حبل اللَّه هو القرآن.
وهذا كما أنَّ الكتب المنزَّلة والرسل المُرسلة وأتباعهم يدعون إِلَى اتباع الصراط المستقيم، فالشيطانُ وأعوانه وأتباعه من الجن والإنس يدعون إِلَى بقية الطرق الخارجة عن الصراط المُستقيم؛ كما قال تعالى:{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (6). والإسلامُ له هو الاستسلام والإذعان والانقياد والطاعة.
(1) يس: 60 - 61.
(2)
الأعراف: 16 - 18.
(3)
الحجر: 39 - 42.
(4)
أخرجه الدارمي في "السنن"(2/ 524)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 355).
(5)
زيادة ليست في "الأصل" والمثبت من "سنن الدارمي" و"شعب الإيمان".
(6)
الأنعام: 71.
والإسلام قد فسَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل (1) بالشهادتين، مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والصيام.
وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر (2) أنَّ الإسلام بُني عَلَى هذه الخمس -يعني: أنَّه أركانُ بنائه التي لا يقوم البناء إلَاّ عليها، وبقيةُ الأعمال داخلة في مسمَّاه أيضًا.
ورُوي من حديث أبي الدرداء مرفوعًا (3)، ومن حديث حُذيفة مرفوعًا وموقوفًا، وعدَّ مِن سهامه الجهاد (4).
وأفضل الإسلام أنْ يَسلم المسلمون من لسانه ويده (5)، ومن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه (6) و [في](7)"صحيح مسلم"(8) عن عبد الله بن سلَاّم، قال: "يينما أنا نائم إذ أتاني رجلٌ فَقَالَ لي: قُم، فأخذ بيدي فانطقتُ معه فَإِذَا أنا بجواد من شمالي. قال: فأخذت لآخذ فيها، فَقَالَ: لا تأخذ فيها فإنَّها طُرق أصحاب الشمال، فَإِذَا جواد منهجٌ عن يميني، فَقَالَ لي: خذ هاهنا، قال: فأتى لي جبلًا، فَقَالَ لي: اصعد. قال: فجعلتُ إذا أردت أنْ أصعد خررتُ عَلَى استي. قال: حتى فعلتُ ذلك مرارًا. قال: ثم انطلق حتى أتى عمودًا رأسمه فى السماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلْقة. قال لي: اصعد
(1) أخرجه أحمد (1/ 28، 51، 52)، ومسلم (8).
(2)
أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(1/ 43).
(4)
أخرجه البزار كما في "كشف الأستار"(336، 337).
(5)
أخرجه البخاري (10، 6484)، ومسلم (40).
(6)
أخرجه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.
وأخرجه الترمذي (2318) من حديث مالك عن الزهري عن علي بن حسين مرسلاً. وقال الترمذي: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك مرسلاً، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.
(7)
في "الأصل": "ومن" والمثبت أنسب للسياق.
(8)
برقم (2484/ 150)، وفيه قصة.
فوق هذا. قلتُ: كيف أصعد هذا ورأسُه في السماء. قال: فأخذ بيدي فدخلَ بي، فَإِذَا أنا متعلِّق بالحلْقة، ثم ضرب العمود فخرَّ وبقيتُ متعلقًا بالحلْقة حتى أصبحت. قال: فَأتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ قَالَ: «أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طَرِيقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طَرِيقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ وَلَنْ تَنَالَهُ، وَأَمَّا الْعَمُودُ فَهُوَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَنْ تَزَالَ مُتَمَسِّكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ» .
وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (1).
فأخبر صلى الله عليه وسلم-وهو الطريق القاصد- عليه، يعني: أنه يُوصل إِلَيْهِ، وأنَّ من السبيل ما هو جائر عن القصد غير مُوصل.
فالسبيل القاصد هو الصراط المستقيم، والسبيل الجائر هو سبيلُ الشيطان الرجيم، وقد وحَّد طريقه في أكثر المواضع، وجَمع طُرق الضلال؛ لأنّ طريق الحق أصلُه شيء واحد، ودين الإسلام العام كما سبق، وهو توحيدُ الله وطاعته، وطُرق الضلالة كثيرة متبوعة، وإنْ جمعها الشرك والمعصية.
قوله: "وعلى جنبتي الصراط سُوران" ثم فسّرهما بحدود اللَّه.
والمرَاد أنَّ الله تعالى حد حدودًا ونهى عن تعديها؛ فمن تعدَّاها فقد ظلم نفسه وخرج عن الصراط المستقيم الَّذِي أمر بالثبوت عليه.
ولما كان السور يمنع مَن وراءه مِن تعديه ومجاوزته سمَّى حدود اللَّه سورًا؛ لأنّه يمنع من دخله مِن مجارزته وتعدي حدوده.
قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (2) وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إِلَى قوله:
(1) النحل: 9.
(2)
البقرة: 229.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاً تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) وقال: {نَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاً تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاً يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3).
وفي حديث أبي ثعلبة الخُشني، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاً تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ أَشْيَاءً فَلَا تَنتَهِكُوهَا، وَحَّدَّ حُدُودًا فَلاً تَعْتَدُوهَا"(4).
فحدودُ اللَّه تُطلق ويُراد بها غالبًا ما أذن فيه وأباح؛ فمن تعدَّى هذه الحُدود فقد خرج مما أحلَّه اللَّه إِلَى ما حرَّمه، فلهذا نُهِيَ عن تعدي حُدود الله؛ لأنّ تعديها بهذا المعنى محرَّم.
ويُراد بها تارة ما حرَّمه الله ونهى عنه.
وبهذا المعنى يُقال: لا تقربوا حدود اللَّه؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاً تَقْرَبُوهَا} (5) بعد أنْ نهى عن ارتكاب المفطرات في نهار الصيام، وعن مباشرة النساء في الاعتكاف في المساجد.
فأراد بحدوده هاهنا ما نهى عنه؛ فلذلك نهى عن قُربانه.
(1) النساء: 13 - 14.
(2)
البقرة: 229.
(3)
الطلاق: 1.
(4)
أخرجه الطبراني فى "الكبير"(22/ 589)، الدارقطني في "السنن"(4/ 1831 - 184)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 17).
وأخرجه البيهقي في "السنن"(10/ 12) موقوفًا عَلَى أبي ثعلبة.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الثلاثين (2/ 150 - الرسالة): هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني، وله علتان:
إحدهما: أن مكحولًا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما.
الثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه عَلَى أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر. وانظر "علل الدارقطني"(6/ 324 برقم (1170). وانظر "غاية المرام" للألباني (ص 17 - 19)،
(5)
البقرة: 187.
فإنَّه تعالى جعل لكل شيء حدًّا، فجعل للمباح حدًّا وللحرام حدًّا، وأمر بالاقتصاد عَلَى حد المباح وأنْ لا يتعدى، ونهى عن قربان حد الحرام.
ومما سمِّي فيه المحرمات حدودًا، قول النبي: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالمُدَاهِنِ (1) فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اقْتَسَمُوا سَفِينَةٍ
…
" (2) الحديث المعروف. والمراد بالقائم عَلَى حدود الله: المنكر للمحرمات والناهي عنها.
وفي حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ (3) اتَّقُوا النَّارِ، اتَّقُوا الحُدُودَ -قالها ثلاثا". خرَّجه الطبراني والبزار (4). ومُراده بالحدود: محارم الله ومعاصيه -وقد تطلق الحدود باعتبار العقوبات المقدَّرة الرادعة عن الجرائم المغلَّظة. فيقال: حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر.
وهو هذا المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"(5) لما شفع في المرأة التي سرقت.
وفي حديث: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ» (6).
وقال علي: أقيموا الحدود عَلَى ما ملكت أيمانكم (7).
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بردة: «لَا تَجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عز وجل» (8) فقد اختلفوا في المراد بالحد هنا: هل هو الحدود المقدَّرة شرعًا، أم المُراد بالحد ما حدّه الله ونهى عن قربانه؛ فيدخل فيه سائر
(1) المداهنة والإدهان كالمصانعة، وداهن: أظهر خلاف ما أضمر. "اللسان" مادة: (دهن).
(2)
أخرجه البخاري (2493، 2686) من حديث النعمان بن بشير.
(3)
أصل الحجزة موضع ضد الإزار، ثم قيل للإزار: حجزة للمجاورة. "اللسان" مادة: (حجز).
(4)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(11/ 10953)، و"الأوسط"(2874)، والبزار كما في "كشف
الأستار" (3480).
(5)
أخرجه البخاري (2375، 3732، 3733، 6887، 6788، 6800)، ومسلم (1688).
(6)
أخرجه أحمد (5، 314، 316، 326).
(7)
أخرجه أبو داود (4473)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 304)، أحمد (1/ 89، 95، 145) عن
علي مرفوعًا.
(8)
أخرجه البخاري (6848، 864، 6850)، ومسلم (1708).
المعاصي، ويكون المرُاد: النهي عن تجاوز العشر جلدات بالتأديب ونحوه، مما ليس عقوبة عَلَى محرَّم.
هذا فيه اختلافٌ مشهور بين العُلماء.
وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1).
وقال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (2).
والمرُاد بحدود الله هاهنا: ما يفصل لون الحلال والحرام، ويتميَّز به أحدهما من الآخر.
وقد مدح اللهُ الحافظين لحدوده في قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ} (3).
وفي الحديث المرفوع من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ رَجُلًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ، فَخَالَفَ أَمْرَهُ ونَهْيِهِ، فَيُمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَبِئسَ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي، فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا دُونَهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَخَيْرُ حَامِلٍ، حَفِظَ حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي"(4).
والمرُاد بحفظ الحدود هنا: المحافظةُ عَلَى الواجبات والانتهاء عن المحرمات.
وفي حديث النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهَاتٌ لَا يَعْلَمُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطُهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ" وهو حديث متفقٌ عَلَى صحته (5).
(1) البقرة: 230.
(2)
التوبة: 97.
(3)
التوبة: 112.
(4)
أخرجه ابن أبي شبية في "المصنف"(10/ 491 - 492).
(5)
أخرجه البخاري (52، 2051)، ومسلم (1599).
فمثَّل المحرَّمات في هذا الحديث بالحمى، وهو ما يحميه الملوك وتمنع من قُربانه، وجعل الحلال بيِّنًا والحرام بيِّنًا، ومُراده: الحلال المحض والحرام المحض؛ فإنَّ لكل منهما حُدودًا معروفة في الشريعة، وجعل بينهما أمورًا مشتبهة عَلَى كثير من الناس، لا يدرون هل هي من الحلال أم من الحرام، فدَّل عَلَى أنَّ من الناس من لا يشتبه عليه حُكمُها، فيعلم أنَّها حلالٌ أو أنها حرام.
فأمَّا من اشتبه عليه حُكمُها فإنَّ الأولى له أنْ يتقيها ويجتنبها؛ كما قال عُمر: "ذروا الربا والريبة"(1).
وأخبر أنَّه من وقع في الأمور المشُتبهة وقع في الحرام، والمراد: أنَّ نفسَه تدعوه مِن ارتكاب الشبهات إِلَى ارتكاب الحرام.
ومثَّله بالراعي حول الحمى يُوشك أنْ يرتع فيه، فأمَّا من بعُد عن الحِمى فإنَّه ييعُد وقوعُه في الحرام؛ ولهذا قال من قال من السلف: اجعل يينك وبين الحرام شيئًا مِن الحلال.
وفي الحديث المرفوع، الَّذِي خرَّجه "الترمذي" (2):«لاً يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاً بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ البَأْسُ» .
وهذه الأمور المشتبهات منها ما يقوى شبهُه بالحرام، ومنها ما ييعُد شبهُه بالحرام، ومنها ما يتردد، الشبهة بين الحلال والحرام.
فالأوَّل يقوى فيه التحريم، والثاني يقوى فيه الكراهة، والثالث يتردد فيه، واجتنابُ الكل حسن، وهو الأفضل والأولى.
وقولُه: "فيهما -يعني: السورين- أبوابٌ مفتحة، وعلى الأبواب سُتور مُرخاة".
(1) أخرجه أحمد (1/ 36)، وابن ماجه (2276).
(2)
برقم (2451) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ثم فسَّر الأبواب المُفتحة بمحارم الله، لما شبّه حُدود الله بالسورين المكتنفين للصراط يَمنة ويَسرة -والسورُ يقتضي المنع، وأصل الحد في اللغة المنع- شبَّه المحارم بالأبواب المفتحة في السوريين اللذين هما حد الصراط المستقيم ونهايته.
وجعل الأبواب مفتحةً غير مغلقةٍ ولا مُقفلة، وجعل عليها ستورًا مُرخاة، بحيث يتمكن كلُّ أحد من رفع تلك الستور وولوج تلك الأبواب.
وهكذا الشهوات المحرَّمة، فإنَّ النفوس متطلعة إليها وقادرة عليها، وإنَّما يمنع منها مانعُ الإيمان خاصة. والنفوسُ مولعة بمطالعة ما مُنعت منه؛ كما في الحديث:"لَو يُمنَع النَّاس فت البعر لقالوا فيه الدر"(1).
وفي حديث آخر مرفوع: "لو نهيتُ أحدَهم أنْ يأتي الحجون لأوشك أنْ يأتيه مرارًا وليس له إِلَيْهِ حاجة"(2).
وحكايةُ ذي النون المِصري مع يوسف بن الحسين الرازي في الطبق الَّذِي أرسله، وأمره أنْ لا يكشفه معروفة.
والمحرَّمات أمانةٌ من الله عند عبده، والسمعُ أمانة، والبصرُ واللسانُ أمانة، والفرج أمانة وهو أعظمها.
وكذلك الواجبات كلها أمانات: كالطهارة، والصيام، والصلاة، وأداء الحقوق إِلَى أهلها؛ قال اللَّه تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (3) ثم ذكر حُكمه، فَقَالَ:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4).
(1) ذكره الغزالي في "الإحياء" وقال العراقي: لم أجده. (كشف الخفاء للعجلوني 2/ 163، 211)، و (المصنوع لعلي القاري 1/ 150).
(2)
أخرجه الترمذي في "العلل الكبير"(3/ 846).
(3)
الأحزاب: 72.
(4)
الأحزاب: 73.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (1). وفي رواية: "حُجبت" (2) بدل: "حُفَّت".
فاللهُ -سبحانه- امتحن عباده في هذه الدار بهذه المحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النفس داعيًا إِلَى حبها مع تمكن العبد منها وقُدرته عليها.
فمن أدَّى الأمانة، وحفظ حدودَ الله ومنع نفسه ما يُحبه من محارم الله كان عاقبته الجنةُ؛ كما قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3).
فلذلك يحتاج العبدُ في هذه الدار إِلَى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله عز وجل كما في الحديث:"المجاهدُ مَن جاهد نفسه في الله عز وجل"(4).
فمن كانت نفسُه شريفة، وهِمَّته عالية لم يرض لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ ولا يرضى بالخيانة إلَاّ مَن لا نفس له.
قال بعضُ السلف: رأيتُ المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة.
وقال آخر منهم: تركتُ الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.
وقال آخر: مَن عمل في السر عملاً يستحيي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قدر.
قال بعضهم: ما أكرم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله عز وجل. فمن ارتكب المحارم فقد أهان نفسه.
(1) أخرجه مسلم (2822).
(2)
أخرجه البخارى (6487).
(3)
النازعات: 40.
(4)
أخرجه أحمد (6/ 21، 22)، وأبو داود (2500)، والترمذي (1621)، والنسائي في "الكبرى""تحفة الأشراف"(8/ 11038) من حديث فضالة بن عبيد.
وفي المثل المضروب أنَّ الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غيِّر اسمي؛ فإنه قبيح. فَقَالَ له: أنت خائن، لا يصلح لك غير هذا الاسم. قال: فجرّبنى. فأعطاه شقة لحم، وقال: احفظ لي هذه إِلَى غد وأنا أغيِّر اسمك.
فجاع، وجعل ينظر إِلَى اللحم ويصبر. فلما غلبته نفسُه قال: وأي شيء أعمل باسمي، وما كلب إلا اسم حسن فأكل.
ولهذا المعنى شبَّه الله عالمَ السُّوء الَّذِي لم ينتفع بعلمه بالكلب؛ فَقَالَ تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1).
والمُراد بهذا المثل أنَّ من لم يزجره علمُه عن القبيح صار القبيحُ عادة له، ولم يؤثر فيه علمُه شيئًا، فيصير حالُه كحال الكلب اللاهث؛ فإنَّه إنْ طرد لهث وإنْ تُرك لهث، فالحالتان عنده سواء.
وهذا أخسُّ أحوال الكلب وأبشعها، فكذلك مَن يرتكب القبائح مع جهله ومع علمه، فلا يؤثر علمُه شيئًا؛ ولذلك مثل مَن لا يرتدع عن القبيح بوعظ ولا زجر ولا غيره، فإنَّ فعل القبيح يصير عادةً، ولا ينزجر عنه بوعظ ولا تأديب ولا تعليم؛ بل هو متبعٌ للهوى عَلَى كل حال، فهذا كل من اتبع هواه، ولم ينزجر عنه بوعظ ولا غيره.
وسواء كان الهوى المتُبَع داعيًا إِلَى شهوة حسية، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، أو إِلَى غضب وحقدٍ وكبر وحسد، أو إِلَى شُبهة مضلة فى الدين.
وأشد ذلك حال من اتبع هواه فى شبهة مضلة، ثم من اتبع هواه في غضب وكبر وحقد وحسد، ثم من اتبع هواه في شهوة حسية.
(1) الأعراف: 175 - 177.
ولهذا يُقال: إنَّ مَن كانت معصيته في شهوة فإنَّه يُرجى له، ومن كانت معصيتُه في كبر لم يُرج.
ويُقال: إنَّ البدع أَحَبّ إِلَى إبليس من المعاصي؛ لأنَّ المعاصي يُتاب منها والبدع يعتقدها صاحبُها دينًا فلا يتوب منها.
والمقصود أنَّه لما كانت النفسُ والهوى داعيين إِلَى فتح أبواب المحارم وكشف ستورها وارتكابها، جعل الله عز وجل لها داعيين يزجران مَن يُريد ارتكاب المحارم وكشف ستورهما.
أحدُهما: داعي القرآن، وهو الداعي عَلَى رأس الصراط يدعو الناس كلَّهم إِلَى الدخول في الصراط والاستقامة عليه، وأنْ لا يعرجوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا يفتحوا شيئًا من تلك الأبواب التي عليها الستور المُرخاة؛ قال اللَّه عز وجل حاكيًا عن عباده المؤمنين أنهم قالوا:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (1) والمُراد به القرآن عند أكثر السلف.
وقال حاكيًا عن الجن الذين استمعوا القرآن، أنهم لما رجعوا إِلَى قومهم قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (2).
وقد وصف اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأنَّه يدعو الخلق بالكتاب إِلَى الصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (3).
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (4).
(1) آل عمران: 193.
(2)
الأحقاف: 30 - 31.
(3)
إبراهيم: 1.
(4)
المؤمنون: 73 - 74.
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق بالقرآن إِلَى الدخول في الإسلام الَّذِي هو الصراط المستقيم؛ وبذلك استجاب له خواصُّ المؤمنين كأكابر المهاجرين والأنصار، ولهذا المعنى قال مالك: فُتحت المدينة بالقرآن. يعني: أنَّ أهلها إنَّما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن.
كما بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير قبل أنْ يُهاجر إِلَى المدينة، فدعا أهلَ المدينة إِلَى الإسلام بتلاوة القرآن عليهم، فأسلم كثيرٌ منهم.
قال بعضُ السلف: من لم يردعه القرآنُ والموت، لو تناطحت الجبالُ يين يديه لم يرتدع.
وقال آخر: من لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء: الإسلام، والقرآن، والمشيب؛ كما قيل: كفى الشيبُ والإسلام للمرء ناهيًا.
قال يحيى بن مُعاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.
منع الهوى مِن كاعبٍ ومدام.
ومَن كان في الدُّنْيَا قد خرج عن الاستقامة عَلَى الصراط، ففتح أبواب المحارم التي في ستور الصراط يمنة ويسرة، ودخل إليها -سواء كانت المحارم من الشهوات أو من الشبهات- أخذته الكلاليبُ التي عَلَى ذلك الصراط يمنة ويسرة، بحسب ما فتح في الدُّنْيَا من أبواب المحارم ودخل إليها. فمنهم المكدوش في النار، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو.
رأى بعضُ السلف -وكان شابًّا- في منامه كأن الناس حُشروا، وإذا بنهر من لهب النار عليه جسرٌ يجوز الناسُ عليه يُدعون بأسمائهم، فمن دُعي أجاب، فناجٍ وهالك. قال: فدُعي باسمي، فدخلتُ في الجسر، فَإِذَا حد كحد السيف يمور دي يمينًا وشمالًا. فأصبح الرجلُ أبيض الرأس واللحية مما رأى.
سمع بعضُهم قائلاً يقول:
أمامي موقف قُدَّام ربي
…
يُسائلني وينكشف الغطاءُ
وحسبي أنْ أمرّ عَلَى صراط
…
كحد السيف أسفلُه لَظاء
فغُشي عليه.
قال الفُضيل يبشر: بلغني أنَّ الصراط مسيرة خمسة عشر ألف فرسخ؛ فانظر كيف تكون عليه.
قال بعض السلف: بلغنا أنَّ الصراط يكون عَلَى بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعضهم كالوادي الواسع.
قال سهلُ التستُري: من دقَّ عَلَى الصراط في الدُّنْيَا عرض له في الآخرة ومن عرض له في الدُّنْيَا الصراط دق عليه في الآخرة.
والمعنى: أنَّ مَن صبَّر نفسه عَلَى الاستقامة عَلَى الصراط، ولم يعرج عنه يمنة ويسرة، ولا كشف شيئًا من الستور المُرخاة عَلَى جانبيه مما تهواه النفوسُ من الشهوات أو الشبهات؛ بل سار عَلَى متن الصراط المستقيم حتى أتى ربَّه وصبر عَلَى دقة ذلك عرض له الصراط في الآخرة، ومن وسَّع عَلَى نفسه الصراط في الدُّنْيَا فلم يستقم عَلَى جادته، بل كشف ستوره المُرخاة من جانبيه يمنة ويسرة، ودخل مما شاءت نفسه من الشهوات والشبهات دقَّ عليه الصراط في الآخرة، فكان عليه أدق من الشَّعر.
أمَا آنَ يا صاح أنْ تسْتَفيقَا. . . وأنْ تتناسَى الهَوى والفُسوقَا
وقد ضحِكَ الشيبُ فاحزنْ لهُ. . . وصارَ مساؤُكَ فيه شُروقَا
ألا فازجرِ النفسَ عنْ غيِّها. . . عساكَ تجوزُ الصراطَ الدَّقيقَا
ودونَ الصراطِ لَنَا موقفٌ. . . به يتناسَى الصديقُ الصَّديقَا
فتُبصرُ ما شئتَ كَفًّا تُعضُّ. . . وعينًا تسحُّ وقلْبا خَفُوقَا
إذا أطبقتْ فوقَهُم لم تكنْ. . . لسَمع إلا البكاء والشهيقَا
شرابُهُم المُهْلُ في قعرِهَا. . . يقطّعُ أوصالَهُم والعُروقَا
قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: كُلِ الحلالَ، وادعُ بما شئتَ.
وقالَ لرجل: اعبدِ اللَّهَ سرًّا، حتى تخرجَ على الناسِ يومَ القيامةِ (كمينًا)(1).
ومما أنشدَ بعضُهم:
أروحُ وقد ختمتُ على فؤادِي. . . بحبِّكَ أنْ يحلَّ به سِواكَا
فلو أنِّى استطعتُ غضضتُ طَرفِي. . . فلم أبصرْ به حتَّى أراكَا
أحبُّكَ لا ببعْضِي بل بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّك لي حِراكَا
ويقبُحُ مِن سواكَ الفعلُ عندِي. . . وتفعلُه فيحسُنُ منكَ ذاكَا
وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعي معه اشترَاكَا
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدود. . . تَبَيَّن مَن بكى مِمَّنْ تباكَى
فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهَوى من قد تَشَاكَا
تم الكتاب بحمد الله وعونه، وصلَّى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
…
(1) سقط مقدار ورقة في المخطوط (10ب، 11أ) و (ق11/ب) تبدأ بـ: "بي فيقول إنما أبطأ بك