الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَرحُ
دَليلِ الطَّالبِ لِنَيْلِ المَطَالِبِ
تَأليفُ
الشَّيخ عَبد الله بنِ أحمد بن يحيى المَقدِسِيِّ
1091 هـ
تحقِيقُ
أحمَد بن عَبد العزيز الجمّاز
المُجَلَّدُ الأَوَّلُ
دَارُ أطْلس الخضراء
للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم
شَرحُ
دَليلِ الطَّالبِ لِنَيْلِ المطَالِبِ
(1)
جَمِيْعُ الحُقُوقِ مَحفُوظَةٌ
الطَّبعَةُ الأولى
1436 هـ - 2015 مـ
دَارُ أطلس الخضراء
للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - الرياض
هاتف: 4266104 - 4266963 فاكس: 4257906
www.facebook.com/DARATLAS
twitter:@dar-atlas
dar-atlas@hotmail.com
المُقَدِّمَة
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونعوذُ بالله مِن شُرورِ أنفُسِنَا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فَلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فإنَّ كتابَ "دليل الطالب لنيل المطالب" للشَّيخ الفَقيه مَرعِي بنِ يوسفَ الكَرْمِي الحنبلي، المتوفى سنَةَ (1033 هـ) من أهمِّ المتونِ العلميَّةِ في فقهِ المذهَبِ الحنبليِّ، وحُقَّ له أن يكونَ كذلك؛ إذ هو من أعظَمِ الكُتبِ نَفعًا، وأكثرِهَا جَمْعًا، وأوضَحِهَا إشَارَةً، وأسلَسِهَا عِبَارَةً، وأوسَطهَا حَجمًا، وأغزَرِهَا عِلمًا، وأحسَنِهَا تفصِيلًا وتَفرِيعًا، وأجْمَعِهَا تَقسيمًا وتنوِيعًا، وأكمَلِهَا تَرتِيبًا، وألطَفِها تَبويبًا، قد حوى غالِبَ أُمَّهَاتِ مسَائلِ المَذهَبِ، فمَن حصَّلها فقد ظَفِرَ بالكَنزِ والمطلَبِ، فهو كما قال مصَنِّفُهُ فيه:"بالغتُ في إيضَاحِه رَجاءَ الغُفرَانِ مِن اللهِ جَلَّ وعَلا، وبيَّنتُ فيه الأحكَامَ أحسَنَ بَيانٍ". ولقد صَدَقَ وبَرَّ ونصَحَ، فهو الحَبْرُ الإمَامُ، فإن مَن نَظَر فيه بعَين التَّحقيقِ والإنصَاف، وَجَدَ ما قال حقًّا وافيًا بالمرَاد من غير خلافٍ
(1)
.
(1)
اقتبست هذا النص من مقدمة المرداوي في "الإنصاف" في وصفه "للمقنع" دون ما بين المعكوفين منه، فأنزلته على "الدليل" وحق له هذا الوصف.
قال صاحِبُ "السحب الوابلة": فهو من الكُتبِ التى يُعتَمدُ عليها، فإنَّه خُلاصَةُ صَحيحِ المذهب
(1)
.
وإنَّه لمَّا كانَت منزلَتُه بهذه المثابَةِ، تسابَقَ لخدمتِه أهلُ العلِم والفَضلِ؛ بإيضاحِ خَفيِّ مكنونَاتِه، وشَرحِ ما أُغلِقَ من عِباراتِه، وذِكرِ مُستَندِه بنصوصِه وتَعليلاتِه. فوضَعوا عليه الشروحَ والحَواشي، والتعليقاتِ والزوائدِ.
وإن مِن أوائِلِ أولئكَ العلماءِ الذينَ عُنوا بهذا المتنِ الشيخُ عبد الله بنُ أحمدَ بنُ يحيى المقدسيُّ الكرميُّ، حيثُ وضعَ عليه هذا الشرحَ الذي بينَ يديكَ.
وقد امتازَ بخصائِصَ عَديدَةٍ من أهمِّها:
أولًا: أنَّ مؤلِّفَه قَريبٌ من الشيخِ مرعيّ عِلمًا ونَسبًا، أمَّا العِلمُ: فهو ابنٌ لأحَدِ أكابرِ تلامِذَةِ الشيخِ مرعِيّ، وهو الشيخُ العلَّامَةُ أحمدُ بن يحيى المقدسىُّ الكرميُّ. وأمَّا النَّسبُ: فالشيخُ مَرعيٌّ عَمٌّ لأَبيه. وذلك قرينةٌ على دِرايَةِ المؤلِّف بخفيِّ المرادِ مِن العِبارَات.
إضافةً إلى أنَّ جدَّه لأمِّه هو الشيخُ العلامةُ محمد بنُ أحمد المرداويُّ، المتوفَّى سنةَ 1026 هـ، أحدُ أكابرِ مشايخِ منصور البُهوتيِّ ومرعيٍّ وغيرِهما مِن كبارِ الحنابلةِ في مِصرَ. وقد صرَّح المصنِّفُ بهذِه الصِّلَةِ في آخرِ "بابِ الإجارة" من شرحِه هذا.
وبهذا يكُونُ المؤلِّفُ ينتَمي لأحَدِ بُيوتَاتِ الحنابِلَةِ الكَبيرَةِ في زمنه، مما زانَهُ قَدرًا ورِفعةً وشَرفًا.
(1)
انظر "كشف النقاب" لابن حمدان ص (90).
ثانيًا: حِرصُه على ذِكرِ الدَّليلِ والتعليلِ في غالِبِ مَسائلِه، دونَ تعرُّضِه للخِلاف، إلا ما ندر، خصوصًا في المذهب.
ثالثًا: شَرحُه لألفَاظِ المتنِ بعِباراتٍ موجزَةٍ، رَكَّب فيها الشرحَ بالمتنِ فصارَا كمَتنٍ واحِدٍ.
رابعًا: ذِكرُه لزيادَاتِ المسائِلِ، والفَوائدِ، والفروع، والتنبيهاتِ.
خامسًا: أنه زادَ المتنَ وزَانَه رَونَقًا وبهاءً بالتَّرتيباتِ البديعَةِ، والتقسيماتِ المُنيفَةِ، والتنويعَاتِ المفصِّلَةِ، والحدودِ المبيِّنَةِ.
سادسًا: كثرةُ نقولِه عن كُتُبِ الأصحابِ واعتمادِه لها، خصُوصًا المتأخرين مِنهُم؛ ابتداءً من المرداوي في "الإنصاف"، ومرورًا بالحجَّاويِّ في "الإقناع"، والفُتُوحي في "المنتهى" و"معونة أولي النهى"، وانتهاءً بالشيخ مَرعيٍّ في "غاية المنتهى"، والبُهوتي في "دقائق أولي النهى"، و"إرشاد أولي النهى"، و"حواشي الإقناع"، و"كشاف القناع"، و"الروض المربع".
سابعًا: اعتِناؤُهُ باختِيارَاتِ الشيخِ تقيِّ الدِّينِ ابنِ تيميَّةَ، ونقلُهُ عنه كَثيرًا.
ثامنًا: نقلُ العلماءِ عنه في شُروحِهِم واستفادتُهم منه، كما صَنَعَ ابنُ عوض في "فتح وهاب المآرب"، وابنُ حميد في "حاشيته على المنتهى"، وغيرُهما.
تلك خصائصُ جَليلةٌ تُنبئُ عن أهميَّةِ هذا الشرحِ، وجعلِه في دَرجَةٍ عاليةٍ عندَ عُلماء المذهَبِ.
وهذا ما جعَلَني أعقِدُ العزمَ على إخراجِه محقَّقًا، مُستعينًا بالله وحدَه؛ ليُفيدَ منه طلبهُ العلِمِ، وينهلوا من مَعينِه الصَّافى. وذلك بعدَ أن يسَّرَ اللهُ تعالى الحصولَ على نسخةٍ خطيَّةٍ منه.
وبتوفيقٍ مِن اللهِ تمَّ ما أردتُ، بعدَ أن بذَلتُ ما بوسعِي من الجهدِ والوقتِ؛ لإخراجه على هذه الصورَةِ التي أضعُها بين يَديكَ. والله سبحانَه المستعانُ، وعليه التُّكلان، فما كان فيه من صوابٍ فمِن الله وحدَه، فهو الموفِّقُ له والمعينُ عليه، وما كانَ فيه من خطأ فمنِّي ومن الشَّيطانِ، والله بريءٌ من ذلك ورسولُه.
أسأل الله تعالى أن يجعلَه عملًا مُباركًا، وأن ينفعَ به عبادَه المؤمنين، وأن يغفرَ لي ولوالِدَيَّ وللمسلِمين، والحمدُ لله أوَّلًا وآخِرًا، وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآلِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
وكتَبه
أحمَد بن عَبد العزيز الجمّاز
1/ 3/ 1436 هـ
شقراء - السعودية
ترجمة الشيخ مرعي الكَرمي
(1)
نسبه:
هو العالم العلامةُ الشيخُ مَرعيُّ بن يوسفَ بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف الكرمي المقدسي، الأزهري المصري، الحنبلي.
ولادته ونشأته وطلبه للعلم:
ولد الشيخ مرعي في طولكَرَم المدينةُ المعروفةُ في فلسطين، ونَشأَ فيها، وتلقَّى عُلومَه الأولى فيها، ثم رحَلَ إلى بيتِ المقدِس ليأخُذَ عن علمائِه، فأقامَ مدَّةً مِن الزَّمن، بعدَها رحَلَ إلى مصرَ؛ حيثُ الجامعُ الأزهرُ، وفيه استكمَلَ دِراسَتَه، وأخذَ عن عددٍ من العلماءِ والمشايخ، ثم تصدَّر للإقراءِ والتدريسِ والتأليف، وتولَّى المشيخَةَ بجامِعِ السلطانِ حَسَن في القاهرة.
لقد كان مُنهمكًا في تحصيلِ العلومِ انهماكًا كُليًا؛ حيثُ قطعَ زمانَه بالإفتاءِ والتدريس، والتحقيق والتصنيف، حتى صار أحدَ أكابرِ عُلماءِ الحنابلةِ بمصر.
مشايخه:
تلقَّى الشيخُ مرعيٌّ العلمَ عن عددٍ كبيرٍ من العلماءِ والمشايخِ في بَلَدِه طُولكَرم، والقدس الشريف، والقاهرة، ومن هؤلاء:
(1)
انظر ترجمته في "خلاصة الأثر"(4/ 358)(مختصر طبقات الحنابلة)(ص 98)، "الأعلام"(7/ 203)، "المدخل" لابن بدران (ص 226)، "السحب الوابلة"(2/ 1118).
1 -
الشيخ العلامة محمد بن أحمد المرداوي القاهري، فقيهُ الحنابلةِ وشيخُهم في عَصره، توفي بمصر سنة 1026 هـ.
2 -
المفسِّرُ المحدِّثُ الواعظُ محمد بن حجازي بن محمد بن عبد اللَّه الأكراوي، توفي في القاهرة سنة 1035 هـ.
3 -
الشيخ الفَرَضي يحيى بن موسى الحجَّاوي المقدسي الدمشقي.
4 -
العالم المحقق أحمد بن محمد الغنيمي الأنصاري، فقيه مصر، توفي سنة 1044 هـ.
تلاميذه:
ممن أخذ عن الشيخ مرعي في مصر:
1 -
الشيخ محمد بن موسى الجمَّازي المالكي، توفي بمصر سنة 1065 هـ.
2 -
العالم عبد الباقي بن عبد الباقي البعلي، المعروف بابن (فقيه فِصَّه)، وتوفي بدمشق سنة 1017 هـ.
3 -
الشيخ أحمد بن يحى الكرمي المقدسي، توفي بالقاهرة سنة 1091 هـ. وهو والد مصنف "شرح الدليل".
مؤلفاته:
1 -
الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة.
2 -
أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمتشابهات.
3 -
قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن.
4 -
بهجة الناظرين في آيات المستدلين.
5 -
دفع الشبهة والغرر عمن احتج على المعاصي بالقدر.
6 -
غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى.
7 -
الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية.
8 -
دليل الطالب لنيل المطالب. وهو أصل هذا الشرح.
ثناء العلماء عليه:
قال محمد أمين المحبي عنه: أحدُ أكابِرِ عُلماءِ الحنابلةِ بمصرَ، كان إمامًا محدثًا فقيهًا، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفة تامة بالعلوم المتداولة.
وقال محمد جميل الشطي: شيخُ الإسلام، وأحد العلماء الأعلام، فريد عصره وزمانه، ووحيد دهره وأوانه، صاحب التآليف العديدة، والتحريرات المفيدة، العلامة بالتحقيق والفهامة بالتدقيق.
وقال ابن حميد: العالم العلامة، البحر الفهامة، المدقق المحقق، المفسر المحدث الفقيه، الأصولي النحوي، أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر.
ووصفه الشيخ بكر أبو زيد بأنه من مجتهدي المذهب المتأخرين.
وفاته:
توفي بمصر في شهر ربيع الأول سنة 1033 هـ رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
ترجمة الشيخ عبد اللَّه المقدسي
(1)
نسبه:
هو الشيخ عبد الله بن الشيخ أحمد بن يحيى بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الحنبلي الكرميُّ؛ نسبةً لطورِ كَرم، مِن قرى نابلس، ثم المقدسىُّ.
وبذلكَ يكونُ الشيخُ مرعيٌّ عَمًّا لوالِدِه
(2)
.
ثناءُ العلماء عليه:
قال الغَزِّي في "النعت الأكمل"
(3)
: الشيخ الفاضل، الإمام الفقيه، العالم الهمام.
وقال الزركلي: فلكىٌّ من فقهاءِ الحنابِلة.
مؤلفاته:
1 -
" شرح دليل الطالب" وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.
2 -
"تحفة الألباب في بيان حكم ذوات الأذناب" فرغ من تأليفها في رمضان سنة 1078 هـ منها نسخة بخط مؤلفها في دار الكتب المصرية برقم (236) رياضيات عربي.
(1)
انظر ترجمته في "النعت الأكمل" ص (255)، "معجم المؤلفين"(6/ 33)"هدية العارفين"(2/ 31)"الأعلام"(4/ 70).
(2)
وقد صرح بذلك في آخر "كتاب الجنائز"، وفى (باب الوليمة) من "كتاب النكاح". وفي ترجمة الشيخ أحمد - والد المصنف - في "النعت الأكمل" ص (249)، "السحب الوابلة"(1/ 277) ذكرٌ لابنه الشيخ عبد الله.
(3)
"النعت الأكمل" ص (255).
3 -
"تحفة اللبيب وبغية الأريب في ربع الدائرة والمجيب"
(1)
.
4 -
"رسالة في معرفة أوقات الليل بالكواكب الثابتة وحركتها"
(2)
.
وفاته:
ذكرَه الغَزي في "النعت الأكمل"
(3)
ضِمنَ مَن لم تؤرَّخ وفاتُه من أهلِ الطبقَةِ الثامنَةِ "مَن وقَعَت وفاتهم من سنة 1076 هـ إلى خِتامِ سنة 1100 هـ".
إضافَةً إلى أنَّه قد ذَكَرَ في كتابِه "تحفة الألباب" أنه قد فَرَغ من تأليفِه في رمضَان سنَةَ 1078 هـ كما هو مرقومٌ في آخِرِها.
وفي "باب الوليمة" من شرحه هذا ذَكَرَ والِدَه المتوفَّى 1091 هـ وتَرحَّم عليه، مما يدلُّ على أنَّه كان حيًّا تلك السنة، وهو آخرُ ما تبيَّن لي من تاريخِ وفاتِه، والله أعلم.
* * *
(1)
لعلها التي عناها في "شرح الدليل" في الشرط الثامن من شروط الصلاة (استقبال القبلة) بقوله: "وعملتُ رسالة أيضًا في وضعِ الأرباعِ، وهو ربعُ المقنطراتِ والمجيبِ، ورسالةً في معرفةِ العملِ بهم".
(2)
وقد ذكرها في (استقبال القبلة) الشرط الثامن للصلاة.
(3)
"النعت الأكمل" ص (255).
توثيقُ نِسبَةِ الكتَابِ إلى مُؤلِّفِه
أولًا: لا شكَّ أنَّ هذا الشَّرحَ هو لمؤلِّفِه الشيخ عبد الله المقدسي الحنبليِّ، يتبيَّنُ ذلك مما يلي:
1 -
ذِكرُ عنوانِ الكتابِ واسمِ المؤلِّفِ على طُرَّةِ النُّسخَةِ الخطيَّة، حيث رُقِمَ:"كتابُ شرح دليل الطالب لنيل المطالب، تأليف الشيخ العلامة عبد الله المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى آمين، إنه أرحم الراحمين".
2 -
نقلُ العُلماءِ عَنه في شُروحِهم واستفادتهُم منه، ونِسبَتُهم الكتابَ إليه، كما صَنَعَ ابنُ عَوضٍ في "فتح وهاب المآرب"، وابنُ حُمَيدٍ في "حاشيته على شرح المنتهى"، وغيرهما
(1)
.
3 -
أنَّ بعضَ مَن ترجَم لـ" دليل الطالب" يذكُرُ هذا الشرحَ، وأنه لعبد الله المقدسيِّ، وممَّن صنَعَ ذلك الشيخُ بكر أبو زيد في "المدخل المفصل"(2/ 794).
ثانيًا: إذا ثبتَ ذلك، فمَن هو الشيخُ عبدُ الله المقدسي؟
قال الشيخ بكرُ أبو زيد رحمه الله في "المدخل المفصل"
(2)
عندَما ذكَرَ الكتابَ ومؤلِّفَه، قال: ولم يتحرَّر لي مَن هو عبد الله المقدسي؟.
قلتُ: لقد تحرَّرَ ذلك، بحمدٍ من الله وفضلٍ، وأنَّه مَن تقدَّمَت ترجمتُه آنفًا: الشيخُ عبدُ الله بنُ الشيخ أحمدَ بنُ يحى بن يوسف بن أبي بكر بن
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 107)، "حاشية ابن حميد"(1/ 227).
(2)
"المدخل المفصل"(2/ 794).
أحمد بن أبي بكر بن يوسفَ بنُ أحمدَ الحنبلىُّ الكرميُّ المقدسيُّ.
فيكونُ الشيخُ مرعيٌّ عمًّا لوالِدِه. كما تقدَّم. ويُثبِتُ ذلك أمورٌ أهمُّهَا ما يلي:
1 -
نقلُه عَن عمِّ والِده الشيخ مرعيٍّ، وتصريحُه بذلك النَّسب في آخر "كتاب الجنائز"، وفي آخر "باب إخراج الزكاة"، وفي "كتاب الصيام"، وفي السادس والسابع من محظوراتِ الإحرام، وفي "باب الوليمة من كتاب النكاح" وغيرِها. بالعِبارَةِ التالية:"قالَ عمُّ والدي العلَّامةُ الشيخُ مرعي في كتابِه "غايةِ المُنتهَى" " ونحوها.
وليسَ ثمَّتَ أحدٌ مِن تلامِذَةِ الشيخِ مرعيٍّ يَكونُ عَمًّا لهُ سِوى الشيخِ أحمدَ بنِ يحى المقدسيِّ، كما هو مَذكُورٌ في ترجمَةِ الشيخَينِ مَرعيٍّ وأحمَدَ، مما يُبيِّنُ أنَّ الكتابَ لابنِ أحمدَ بنِ يحيى المقدسِي.
إضافة إلى أن أحمدَ بنَ يحيى لهُ ولدٌ اسمُهُ عبدُ الله، وقد وُصِفَ بالمشيَخَةِ عِندَما ذُكِرَ في ترجمَةِ والِدِه في "النعت الأكمل"، و"السحب الوابلة" وغيرِهما، حيثُ إنَّه رَوَى حِكايَةً عن والِدِه الشيخِ أحمَدَ
(1)
.
2 -
أن الشيخَ معروفٌ بعلمِ الفَلَكَ، وقد أشارَ إلى ذلك مَن تَرجَم له، ونسَىبَ إليه بعضَ الكتبِ في هذا الفَنِّ، كما نَصَّ هو في "شرح الدليل" في "شرط استقبالِ القبلة" على مؤلَّفَينِ مِن مُؤلَّفَاتِه في عِلمِ الفَلَك، وأحدُهما:"رسالةٌ في وضعِ الأرباعِ وهو ربعُ المقنطَراتِ والمجيب" ويعني بذلِكَ:
(1)
انظر "النعت الأكمل" ص (249)، "السحب الوابلة"(2/ 277).
الرسالةَ المذكورةَ في ترجمتِه في "معجم المؤلفين"(6/ 33): "تحفة اللبيب وبغية الأريب في ربع الدائرة والمجيب".
3 -
ذُكِرَ في ترجمته أيضًا أن له رسالةً باسم: "تحفة الألباب في بيان حكم ذوات الأذناب" فرغَ مِن تأليفِها في رمضانَ سنَةَ 1078 هـ وبالرجوع إلى أصل النسخة الخطية - وهي من محفوظات دار الكتب المصرية برقم (178) - رأيت أنه كتب على طرتها: للعلامة عبد الله بن أحمد المقدسي الحنبلي. وفي ورقة الفهرسة: عبد الله بن أحمد بن يحيى المقدسي الحنبلي.
وبهذينِ الأَمرَين يتبيَّنُ أنَّه من عُلمَاءِ الفَلَكِ إضافةً إلى عِلمِ الفِقهِ الحنبليِّ، وأنَّه المؤلِّفُ لهذا الشرح، وتِلكَ الرسائِلِ المذكورَةِ.
عِلمًا بأنه لم يُخْلِ كتابَه هذا مِن ذِكرِ بعضِ المسائِلِ الفلكيَّةِ، ولقد رأيتُهُ صَنَعَ ذلكَ في:(استقبالِ القبلة - صلاة الكسوف - آخر صلاة الاستسقاء).
ملاحظة: الظاهرُ أنَّ المصنِّفَ لم يُتمَّ شرحَه، بل توقَّف قلمُه عندَ "باب قتال البغاة" من "كتاب الحدود". وهذا يَعني أنَّه لم يترُك إلَّا جُزءًا يَسيًرا آخرَ الكِتابِ.
وقُلتُ ذلكَ لأَمرَين:
الأوَّلُ: أنَّ النُّسخَةَ الخطيَّةَ قد انتَهت عندَ ذلك القدر، ولم تُختَم بما هو مُعتادٌ عندَ خَتمِ الكُتبِ من المصنِّف أو النَّاسِخ. وعلى تَقدير أنَّ بها
سَقطًا في آخرِها، فالظَّاهرُ أنه لم يتجاوز ورقَاتٍ يَسيرةً.
الثاني: أنَّ ابنَ عوضٍ المرداويَّ في كتابِه "فتح وهاب المآرب" قد أكثرَ النَّقلَ عن "شرح المقدسي" هذا، وهو الذي يَعنيه بالرَّمز:"ع ب"
(1)
. وكانَ آخرُ نَقلٍ نقلَه عنه هوآخرَ تعليقٍ في "باب حدِّ القذف" ولم يَنقُل بعدَ ذلك عنهُ حرفًا واحدًا، مما يدلُّ على أنَّ كتابَ المقدسيِّ قد انتَهى إلى هذا القدر. والله أعلم.
* * *
(1)
وقد تتبعتُ كلَّ نقلٍ ختمه بهذا الرمز وقابلته بشرح الدليل فوجدته مطابقًا له حرفًا حرفًا، وقد أشرت بعد كل نقل إلى موضعه في "الفتح" بهوامش هذا الشرح.
تنبيه: ذكرت في مقدمة تحقيقي لكتاب" فتح وهاب المآرب" أن هذا الرمز يستعمله ابن عوض للشيخ منصور البهوتي على وجه العموم في كتبه جميعها. وهو وهمٌ مني؛ سببه: توافقُ مصدر النقلِ بين ابن عوضٍ وعبد الله المقدسي؛ إذ كلاهُما ينقلُ عن منصور خصوصًا من كتابيه "الكشاف" و "الدقائق".
وصفُ النسخة الخطيَّة
أمَّا بالنِّسبَةِ لمتن "دليل الطالب" فقَد اعتمَدتُ في تحقيقِه على خمسِ نُسخٍ خطيَّة، ذكرت تفاصيلَها في النسخَةِ التي أفردتُهَا بالطباعَةِ في مجلّدٍ واحدٍ، تولَّت "دار التوحيد للنشر" طباعتَه ونَشرَه.
وأمَّا "شرح دليل الطالب" فقَد يسَّرَ اللَّه تعالى الحصولَ على نُسخَةٍ خطيَّةٍ ضِمنَ مخطوطاتِ مكتبَة آل عبد اللطيف، المحفوظَةِ بخزينةِ المخطوطاتِ بدَارة الملك عبد العزيز. تفضَّلَ الإخوَة في مركَز المخطوطات بتزويدِي بمصوَّرَةٍ منها، فشَكرَ الله لهم حسنَ صَنيعِهم وفاضِلَ تعاونهم، وباركَ في جهودِهم.
وهي على الوصف التالي:
رقم الحفظ: (4238) فقه حنبلي.
المجموعة: آل عبد اللطيف.
رقم التسلسل: (45).
عنوان المخطوط: "شرح دليل الطالب".
عدد أوراقها: (395) لوحة، كل لوحة تحوي صفحتين.
عدد الأسطر لكل صفحة: (25) سطرًا.
لا يوجد تاريخٌ لنَسخِها، ولا اسمُ النَّاسِخِ لها؛ بسَبب نقصٍ في آخرِ النسخة.
ملاحظات:
• يوجد بالنَّسخَةِ سَقطٌ في أوَّلها بمقدارِ صَفحَتين خطِّيتين تقريبًا، وفي وسطها في "كتاب الوصية" سقطٌ آخرُ بمقدارِ أربعِ لوحاتٍ من المخطوطِ شَمِلَ بقيَّةَ باب الموصى به، وبابِ الموصى إليه، عدا السطرين الأخيرين منه.
وأما آخرها فقد توقَّفَت النسخةُ عند "باب قتال البغاة" في "كتاب الحدود" وفي غالب الظن أن المؤلف توقف عند هذا القدر من الشرح ولم يكمل الكتاب، كما تقدم.
• قد أتلَفَت الأرضَةُ جُزءًا كبيرًا من كَعبِ النسخَةِ؛ مما تسبَّب منه تآكلُ الهوامش الوسطى للصفحات، إلا أنه بحمد الله لم يصلْ إلى الجزءِ المكتوب.
• خط النُّسخَةِ متوسِّطُ الجودَةِ، وبها تصحيف لبعضِ الكلمات، وأخطاءٌ نحويَّةٌ ليسَت قليلَةً.
• على النسخة بعضُ الهوامش والتعليقاتِ، لم أُثبِتها.
• كتب متنُ الدليل باللون الأحمر؛ تمييزًا له عن الشرح.
• النسخة عليها تملُّكُ الشيخِ عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ثمَّ تملّكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العزيز العبد اللطيف الباهلي.
نسأل اللَّه التوفيقَ والسدادَ والإخلاصَ في القولِ والعملِ.
* * *
المنهج في تحقيق الكتاب
أمَّا بالنَّسبَةِ لمتن "دليل الطالب" فقد اعتمدتُ النسخةَ التي قُمتُ بتحقيقِها في مجلَّدٍ واحدٍ، تولَّت "دار التوحيد للنشر" طباعتَه ونشرَه.
وأما "شرح دليل الطالب" فقد اتبعتُ في تحقيقِه الخطواتِ التالية:
1 -
تمَّ نسخُ الشرحِ من واقِع النسخَةِ الأصليَّةِ.
2 -
قابَلتُ المنسوخَ معَ أصلِ المخطوطَةِ، للتأكّدِ من سلامَةِ النَّسخِ.
3 -
قابَلتُ ما نقَلَه المصنفُ على مصادِرِ النقلِ. وقد أكثَرَ النقلَ من كُتبِ مُتأخِّري الأصحابِ، خُصوصًا شرحَي الشيخِ مَنصور على "المنتهى" و"الإقناع"، مما يسَّر علىَّ قراءةَ المخطوطِ، وتصويب الأخطاء الواردَةِ فيه، وفقًا لمصدر النقل.
4 -
وثَّقتُ النقولَ للمراجع التي نَقلَ عنها المصنِّفُ مُباشرةً في الغَالِب، دونَ ما نقلَ عنه بواسِطةٍ، بذكِرِ المرجعِ حسَب المطبوع من مصادر النقل.
5 -
صحَّحتُ الأخطاءَ النحويَّةَ والتصحيفَاتِ الواردَةَ في المخطوط، مُعتَمِدًا على مَصادِر النقل، دونَ الإشارةِ لذلك، رغبةً في اختصارِ الهوامش.
6 -
علَّقتُ على ما رأيتُه يحتاجُ لتعليقي فيما يتعلَّقُ بمسائلِ العقيدَةِ بعبارةٍ موجَزَةٍ ونقلٍ لطيفٍ.
7 -
علَّقتُ على بعضِ العبارات المبهمة - وهو قليل - لتقريبِ المرادِ، بعبارَةٍ موجزَةٍ.
8 -
عرَّفتُ باختصار ببعضِ الكلماتِ الغريبة، معتمدًا كتبَ المعاجِمِ وغيرِها.
9 -
وضعتُ علاماتِ الترقيمِ والفواصلِ حسبَ الإمكان.
10 -
تمييزُ مَتنِ الدليلِ عن الشرحِ بوضعِه يينَ قَوسَين هِلاليَّين وجعلِه بخطٍّ عريضٍ.
11 -
عزوتُ الأحاديثَ وآثارَ الصحابةِ إلى مخرِّجيها على وجهِ الاختصار، واعتنيتُ بذكرِ أحكامِ الشيخ ناصر الدين الألباني، على ما لم يكُن في الصحيحين أو أحدِهما.
هذا، وأسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يجعله عملًا مباركًا، وأن ينفع به الإسلام وأهله، وأن يجعله سبًا للفوز برضوانه، والحمد للَّه أولًا وآخرًا، وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
وكتبه
أحمَد بن عَبد العزيز الجمّاز
1/ 3/ 1436 هـ
شقراء - السعودية
نماذج من صور المخطوط
الصفحة الأولى من النسخة الأصل
الصفحة الثانية من النسخة الأصل
الصفحة الأخيرة من النسخة الأصل
شَرحُ
دَليلِ الطَّالبِ لِنَيْلِ المطَالِبِ
تَأليفُ
الشَّيخ عَبد الله بنِ أحمد بن يحيى المَقدِسِيِّ
1091 هـ
تحقِيقُ
أحمَد بن عَبد العزيز الجمّاز
بسم الله الرحمن الرحيم
قال العبدُ الفقيرُ إلى اللَّه تعالى مَرعيُّ بن يوسفَ الحَنبليَّ المقدسيُّ:
الحمدُ للَّهِ
(الحمدُ)
(1)
: هو الثناءُ باللِّسانِ على قصْدِ التعظيمِ، سواءٌ تعلَّقَ بالنعْمةِ أو بغيرِها.
والشكْرُ: فعلٌ يُنبئُ عن تَعظيمِ المُنعِمِ، لكونِهِ مُنعِمًا، سواءٌ كان باللسانِ، أو بالجنانِ، أو بالأركانِ.
فمَورِدُ الحمدِ هو: اللِّسانُ وحدَهُ. ومُتَعلَّقهُ: النعْمةُ وغيرُها. والشكْرُ يَعمُّ اللِّسانَ وغيرَهُ. ومُتعلَّقُهُ: النعْمةُ فقطْ.
فالحمدُ أعمُّ
(2)
مِن الشُّكرِ باعتبارِ المتعلَّقِ، وأخصُّ باعتبارِ المورِدِ. وعكسُه
(3)
الشكْرُ. فبينَهُما عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ، لأنهما يجتمعانِ في مادةٍ، وهو الثناءُ باللِّسانِ في مقابلةِ الإحسانِ. ويفترقانِ في صدْقِ الحمدِ فقطْ على الوصْفِ بالعلمِ والشجاعةِ، وصِدقِ الشّكْرِ فقطْ على الثناءِ بالجنانِ أو الأرْكانِ في مقابلةِ الإحسانِ.
وقيلَ: الحمدُ أعمُّ من الشكْرِ. وقيل: هما سواءٌ.
والألفُ واللَّامُ فيه للعمومِ، أي: يَستَحِقُّ المحامدَ كلَّها.
واخْتُلِفَ في اشتقاقِهِ، فقال النضرُ بنُ شميلٍ: هو مشتقٌّ من "الحمدةِ" وهي: شِدَّةُ لهبِ النارِ. وقال ابنُ الأنباريِّ: هو مقلوبٌ من المدحِ من قولِهِمْ: ما أطيبَهُ، وأيطبَهُ.
(1)
سقط من أول المخطوط مقدار صفحتين، بما فيهما مقدمة المؤلف.
(2)
سقطت: "أعم" من الأصل.
(3)
في الأصل: "وعكس".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(للَّهِ): اسمٌ للذَّاتِ الواجبِ الوجودِ، المستحقِّ لجميعِ المحامدِ. ولهذا لم يَقلْ: الحمدُ للخالقِ والرازقِ، مما يوهِمُ اختصاصَ استحقاقِهِ الحمد
(1)
بوصفٍ دونَ وصفٍ.
وذهبَ الخليلُ بنُ أحمدَ، وأبو حنيفةَ: أنه ليس بمُشْتقِّ
(2)
. وذهبَ آخرون - وحكاه سيبَوَيْه عن الخليلِ - إلى خلافِهِ. فقيلَ: هو من أَلَهَ - بالفتح - إلاهةً. أي: عَبدَ عِبادَةً. والمعنى: أنَّه مسْتحقٌّ للعبادةِ دونَ غيرِها. وقال المُبَرِّدُ: هو منْ قولِ العربِ: أَلِهْتُ إلى فُلانٍ. أي: سَكنْتُ إليه.
وأصلُهُ: إلهٌ، لقولِهِ تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزّخرُف: 84] فأُدْخِلَتْ عليه الألف واللَّامُ، فصارَ: الإلَهَ. ثمَّ أُلقيتْ حركةُ الهمزةِ على لامِ التعريفِ، ثمَّ سكِّنَتْ، وأُدْغمتْ في اللَّامِ الثانيةِ، فصارَ: اللَّه. ثمَّ فُخِّمَ، إجلالًا له وتعظيمًا، فقيلَ: الله
(3)
.
واخْتيرَ لفظُ الجلالةِ دون بقيةِ الأسماءِ، لأنه اسمُ اللهِ الأعظمِ، عند أكثرِ أهلِ العلمِ، وللإشارةِ إلى أنَّه تعالى كما يستحقُّ الحمدَ لصفاتِهِ، يستحقُّهُ لذاتِهِ.
ولم يعطفْ جملةَ الحمدِ على جملةِ البسملةِ، إيذانًا بأنَّ
(4)
كلًّا من الجملتينِ مستقلٌّ بأداءِ المقصودِ. وأخَّرَها عنها، اقتداءً بكتابِ اللهِ تعالى، حيثُ قدِّمتْ فيه
(1)
سقطت: "الحمد" من الأصل.
(2)
في الأصل: "أنه مشتقٌّ".
(3)
انظر: "المبدع"(1/ 20).
(4)
تكررت: "بأن" في الأصل.
ربِّ العالمين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّه وحدَه لا شريكَ له، مالكُ يومِ الدينِ.
وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه
البسْملةُ على الحمدَلَةِ.
(ربِّ): وهو لُغةً: السيِّدُ والمالكُ والمعبودُ. وهو اسمُ فاعلٍ حُذِفَتْ أَلِفُهُ، كما قيل: بارٌّ و: بَرٌّ.
(العالمينَ) جمعُ عالمْ - بفتْحِ اللَّامِ - ومدْلُولُهُ: على ما سوى اللهِ تعالى. وتخصيصُهُ بذِي الروحِ، أو بالناسِ، أو بالثقلينِ، أو الملائكةِ، أو بالثلاثةِ مع الشيطانِ، أو بني آدمَ، أو بأهلِ
(1)
الجنَّةِ والنَّارِ، أو بالرجحانِ، يحتاجُ إلى دليلٍ ونقلٍ عن المتقدمينَ.
(وأشهدُ): أي: أعلمُ. (أنْ لا إِلَهَ) أي: لا معْبودَ بحقٍّ في الوجودِ (إلَّا اللهُ، وحدَهُ) في ذاتِهِ، فلا نظيرَ لَهُ، ولا شريكَ لَهُ في ملكِهِ، ولا معينَ لَهُ في فعلِهِ (لا شرِيكَ له) أي: لا مشاركَ لَهُ في مُلكِهِ.
(مالكُ يومِ) وهو ما بينَ طلوعِ الشمسِ وغروبها. والمرادُ: مُطلقُ الوقتِ (الدِّينِ) هو يومُ الجزاءِ من خيرٍ وشرٍّ. سُمِّيَ بِهِ يومُ القيامةِ: لأنَّه محلُّ المجازاةِ؛ أو لأنَّهُ لا ينفعُ فيه إلا الدِّينُ الحقُّ.
(وأشهدُ) أي: أعلمُ (أنَّ محمَّدًا): علَمٌ منقولٌ من اسمِ مفعولٍ، موضوعٌ لكثرَةِ خصاله الحميدةِ. سُمِّيَ بِهِ؛ إلهامٌ مِن اللهِ تعالى لجدِّهِ عبدِ المطَّلبِ، على وفْقِ
(1)
تكررت: "أهل" في الأصل.
ورسوُله، المبيِّنُ لأحكامِ شرائعِ الدِّين، الفائزُ "بمُنتَهى الإرادَات" من ربِّه، فمَنْ تمسَّك بشَريعتِه، فهوَ من الفَائزين، صلى اللَّه وسلم عليه وعلى جَميعِ الأنبياءِ والمرسلين،
تسميتِهِ تعالى لهُ بِهِ قبلَ الخلقِ بألفي عامٍ على ما وردَ
(1)
. (عبْدُهُ) قدَّمه امتثالًا لما في الحديثِ الصحيحِ
(2)
: "ولكنْ قولوا: عبدُهُ ورسولُهُ" ولأنَّه أحبّ الأسماءِ إلى اللهِ تعالى. (ورسولُهُ) يُعلَمُ منه: أنَّ بينهما عمومًا وخصوصًا.
(المُبَيِّنُ) أي: المُوَضِّحُ (لأحكامِ): جمعُ حُكْمٍ (شرائعِ الدِّينِ): جمعُ شريعةٍ، وهي لغةً: مَشْرعَةُ الماءِ، أي: مَوْردُ الشاربِ. واصطلاحًا: وضعٌ إلهي سائقٌ لذوي العقولِ باختيارِهِم المحمودِ، إلى ما يُصلِحُهم في مَعاشِهم ومعادِهم. والإضافةُ في الدِّينِ: بيانيَّة، كما عُلِمَ من تفسيرِ الشريعةِ
(3)
بما ذكرَ. ويُطلقُ الدِّينُ على العادةِ، والسيرةِ، والحسابِ، والقهرِ، والقضاءِ، والحكمِ، والطاعةِ، والجزاءِ، والبرِّ.
(الفائزُ بمنتهَى الإراداتِ) أي: بعَليِّ المطالبِ. وفيه براعةُ استهلالٍ؛ لأنَّهُ مختصرٌ منْهُ (مِن رَبِّه) أي: مالِكِهِ. فمَنْ تمسَّكَ بشريعتِهِ فهو من الفائِزِينَ الفَرِحينَ.
صلى الله عليه وسلم وهي مِن اللهِ: رحمةٌ، ومن الملائكةِ: استغفارٌ، ومن النَّاسِ: الدعاءُ. والسَّلامُ بمعنى: السَّلامةِ من كلِّ آفةٍ ونقصٍ.
(وعلى جميعِ الأنبياءِ والمرْسَلينَ) وهو: إنسانٌ حرٌّ ذكرٌ من بني آدمَ، أُوحِيَ
(1)
يشير إلى حديث: "مكتوب على باب الجنة: لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه، عليٌّ أخو رسول اللَّه؛ قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام" أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 256) والطبراني في "الأوسط"(5498) من حديث جابر. قال الألباني: موضوع. "الضعيفة"(4901).
(2)
أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر.
(3)
في الأصل: "الشرعيةِ".
وعلى آلِ كلٍّ وصحبِه أجمعين.
إليه بشرعٍ، وأُمِرَ بتبليغِهِ، وذاكَ الرسولُ، وهو أخصُّ من النبىِّ، فإنَّهُ: إنسانٌ حرٌّ ذكرٌ من بني آدمَ، أُوحِيَ إليه بشرع، ولم يُؤْمَرْ بتبليغِهِ. وهم: أي: الرسُلُ: ثلاثمائةٍ وثلاثةَ عشَرَ. وقيل: أربعةَ عشَرَ. وقيل: غيرُ ذلك.
(وعلى آلِ كلٍّ) وهم أتْباعُهُ على دينِهِ، على المشهورِ. وأصلُه: أوَل. تحرَّكَتْ الواوُ وانفتَحَ ما قبلَها وقُلبتْ ألِفًا، قاله الكسائي لسماعِهِ تصغيرَهُ على أُوَيْل. أو: أهْل. قُلِبتْ الهاءُ همزةً، ثمَّ الهمزةُ ألفًا، قالَهُ سيْبَوَيْه، لتصغيرِهِ على أُهيْل.
(وصحبِهِ أجمعينَ): اسمُ جَمْعٍ لصاحِبٍ، بمعنى: الصحابي. وهو: مَنِ اجتمعَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم اجتماعًا متعارَفًا
(1)
في يقظةٍ، أو لقيَه، أو رآه بعد البعثةِ مؤمنًا. وتَبطُلُ صحبتُهُ بردَّتِهِ إنْ ماتَ عليها، كسائرِ أعمالِهِ.
والمرادُ باللُّقِي: المتعارَفُ بالأبدَانِ، وهو يشملُ لُقيَّ البصيرِ والأعمى كابنِ أمِّ مكتومٍ، وغيرِ المميزِ كعبدِ اللَّهِ بنِ الحارثِ، فإنَّه جِيءَ به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فحنَّكَهُ.
واحتُرِزَ بـ "يَقظة": عمَّن رآهُ منامًا.
وبقولِهم: "حيًّا": عمَّن رآه ميتًا، كأبي ذئبٍ الشاعرِ، خالدِ بنِ خويلدِ الهذليِّ، فإنَّه لما أسلَمَ وأُخْبرَ بمرضِهِ صلى الله عليه وسلم، فسافرَ ليراه، فوجدَهُ ميِّتًا.
وبقولِهم: "مسلمًا": عمَّنْ اجتمعَ به قبلَ النَّبوةِ ولمْ يرَهُ بعدَ ذلك، كزيدِ بنِ عمرٍو، فإنَّه ماتَ قبلَ البعثَةِ، ومَنْ رآه وهو كافرٌ ثمَّ أسلَمَ بعد موتِه.
وبقولهم: "ولو ارتد": عمَّن ارتدَّ في زمنِه صلى الله عليه وسلم أو بعدَ موتِه، أو قُتِلَ على الردَّةِ، كابنِ خَطَلٍ وغيرِهِ. ويدخلُ فيه: مَنْ ارتدَّ ثمَّ رجعَ إلى الإسلامِ وماتَ مسلمًا؛
(1)
في الأصل: "متعرافا".
وبعدُ:
كالأشعثِ بنِ قيسٍ.
وقولِهم: "ولو جنيًّا": يدخلُ فيه مَنْ لَقيَ النبىَّ صلى الله عليه وسلم من الجنِّ
(1)
الذين قدِموا عليه من نَصيبَين، وأسلموا، وهم تسعةٌ أو سبعةٌ
(2)
من اليهودِ.
وعطفُ الأصحابِ على الآلِ الشاملِ لبَعضِهم، يَشملُ الصَّلاةَ والسَّلامَ على
(3)
باقيهم فهو من عطفِ الخاصِّ على العامِّ
(4)
.
ويجوزُ الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ استقلالًا من غيرِ كراهيةٍ. رويَ أنَّ عليًّا قال لعُمرَ: صلى اللهُ عليكَ.
(وبعدُ): كلمةٌ يؤتى بها للانتقالِ من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخرَ، اقتداءً بفعلِه صلى الله عليه وسلم في خُطَبِهِ ومراسلاتِهِ.
وتُبنى على الضمِّ، حيث حُذِفَ المضافُ إليه، ونُوِىَ معناه. وأجازَ الفَرَّاءُ النصبَ مع التنوينِ، والرفعَ معه. وأجازَ ابن
(5)
هشامٍ فتحَ الدالِ، وأنكرَه النحَّاسُ.
وأوَّلُ مَنْ أتى بها: قيل: داودُ عليه السلام، وأنه فصلُ الخطابِ الذي أُوتيه. وقيل: يعقوبُ عليه السلام، لما روي في "غريبِ مالك": أنه لما جاءَه الموتُ، قال من جملةِ كلامِهِ: أمَّا بعدُ، فإنا أهلَ بيتٍ موكَّلٌ بنَا البلاءُ. وقيل: يعربُ بنُ قحطانَ.
(1)
سقطت: "من الجن" من الأصل.
(2)
في الأصل: "أو تسعة".
(3)
سقطت: "على" من الأصل.
(4)
انظر: "فتح وهاب المآرب"(1/ 50).
(5)
سقطت: "ابن" من الأصل.
فهذا مختصرٌ فى الفقه
وقيل: كعبُ بنُ لُؤىٍّ. وقيل: قُسُّ بنُ ساعدةَ.
قال ابنُ حجرٍ
(1)
: والأوَّلُ أشْبَهُ. ونجمعُ بينه وبين غيرِهِ بأنَّ الأوَّلَ هو الأولُ بالنسبةِ إلى الأوليةِ المحضةِ، والبقيةَ بالنسبةِ إلى العرب
(2)
خاصَّةً، ثم يُجمعُ بينهم بالنسبةِ إلى القبائلِ.
(فهذا مختصرٌ) وهو: ما قلَّ لفظُهُ، وكثُرَ معناه
(في الفقهِ) وهو لغةً: الفهمُ. أي: إدراكُ معنى الكلامِ.
واصطلاحًا: معرفةُ الأحكامِ الشرعيةِ الفرعيةِ بالفعلِ، أو بالقوةِ القريبةِ. هكذا حدَّه بعمق أصحابِنا.
واحترزَ بـ"معرفةِ الأحكامِ": عن مَعرفةِ الذواتِ، كزيدٍ وعمرٍو. وبـ"الشرعيةِ": عن معرفةِ الأحكامِ غيرِ الشرعيةِ، كاللغويةِ، وسائرِ العلومِ غيرِ الأصوليةِ. وبـ" الفرعيةِ": عن الأصوليةِ، كأصولِ الدينِ، وأصولِ الفقهِ، والأحكامِ العقليةِ، كنسبةِ الشيء إلى غيرِهِ إيجابًا كـ: قامَ زيدٌ. أو سلبًا كـ: لمْ يقُمْ.
والحكمُ الشرعيُّ: مدلولُ خطابِ الشرعِ.
والمرادُ بقولِهم: بالفعلِ، أي: بالاستدلالِ. وبالقوةِ القريبةِ، أي: من الفعلِ المتهيئ، لمعرفتِها بالاستدلالِ.
وموضوعُه: أفعالُ المكلفين؛ من حيثُ عروضُ الأحكامِ لها.
واستمدادُه: من الكتابِ، والسنةِ، والإجماعِ، والقياسِ.
(1)
"فتح الباري"(2/ 470).
(2)
في الأصل: "العرفِ".
على المذهبِ
وفائدتُه: امتثالُ أوامرِ اللهِ واجتنابُ نواهيه: المحصِّلان للفوائدِ الدنيويةِ والأخرويةِ.
(على مذهبِ)
(1)
المذهبُ في الأصلِ يصلُحُ للمكانِ والزمانِ، والمصدرِ، ثم نُقِلَ لما قاله المجتهدُ بدليلٍ، وماتَ قائلًا به. قال ابنُ مفلحٍ في "أصوله": مذهبُ الإنسانِ: ما قاله، أو جرى مجراه من تنبيهٍ أو غيرِهِ.
"فائدةٌ": اعلمْ أن الإمامَ أحمدَ رحمه اللَّه تعالى، لم يؤلِّفْ كتابًا مستقلًّا في الفقهِ، وإنَّما أُخِذَ مذهبُهُ من أجوبتِهِ، وتآليفِه في غيرِ الفقهِ، ومن أقوالِهِ وأفعالِهِ.
والمقيسُ على كلامِه: مَذهبُهُ في الأصحِّ. وما أجاب فيه بكتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ، أو قولِ بعضِ الصحابةِ، فهو مذهبِه، لأنَّ قولَ الصحاليِّ حجةٌ عنده على الأصحِّ.
وما رواه من سنةٍ أو أثرٍ وصحَّحه أو حسَّنه، أو رضيَ سندَه، أو دوَّنه في كتبه ولم ردَّه، ولم يُفْتِ بخلافِهِ، فهو مذهبُهُ في الأصحِّ. اختاره الأكثرُ.
وإذا قال قولًا بدليلٍ، ثم آخرَ بخلاف الأوَّلِ، فالثاني مذهبُهُ. اختارَه في التمهيد" و"الروضة" و"العمدة" وغيرهن. وقدَّمه في "الرعاية" وغيرها.
فإذا نُقل عنه قولانِ صريحانِ مختلفانِ في وقتين، وتعذرَ الجمعُ بينهما، فإن عُلِمَ تاريخُهما فالثاني مذهبُهُ، وإلا فأقربهما من الكتابِ والسنةِ، أو الأثرِ وقواعدِه، أو مقاصدِه، أو أدلتِه.
فإن وافقَ أحدُ قوليه مذهبَ غيرِه، فما الأولى؟ قال في "الرعاية": يحتملُ جهين. قال في "الإنصاف": قلت: الأوْلى ما وافقَه. انتهى.
وإن أمكن الجمعُ بحملِ عامٍّ على خاصٍّ، أو مطلقٍ على مقيدٍ، فكلٌّ منهما
(1)
في الأصل: "مذهب".
الأحمدِ مذهبِ الإمامِ أحمدَ،
مذهبُه على الأصحِّ، فيُعمَلُ بكل في محلِّه.
(الأحمدِ) أي: الأرضى للَّه تعالى. (مذهبِ الامامِ أحمدَ) أي: الطريقةِ المنسوبةِ إليه. وهو: أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلِ بنِ هلالِ بنِ أسدِ بنِ إدريسِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حيَّانِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أنسِ بنِ عوفِ بنِ قاسطِ بنِ مازنِ بنِ شيبانَ بنِ ذُهلِ بنِ ثعلبةَ
(1)
بنِ عُكابةَ بنِ صعبِ بنِ علىٍّ بنِ بكرِ بنِ وائلِ بنِ قاسطِ بنِ هِنْبِ
(2)
- بكسر الهاء وسكون النون، ثم باء موحدة - بنِ أفصى - بالفاء والصاد المهملة - بنِ دُعْمِي بنِ جَديلة بنِ أسدِ بنِ ربيعةَ بنِ نزارِ بنِ معدِّ بنِ عدنان المَرْوزيّ البغداديُّ. ذكرَه الخطيبُ، والبيهقىُّ، وابنُ عساكرَ، وابنُ طاهرٍ. الشيبانىُّ؛ نسبةً لجدِّه شَيبان المذكور، رضي اللَّه تعالى عنه.
حملتْ به أمُّه بمَرْو، وولدَ ببغدادَ في ربيعٍ الأوَّلِ سنةَ أربعٍ وستين ومائةٍ. ودخلَ مكةَ والمدينةَ، والشامَ واليمنَ، والكوفةَ والبصرةَ والجزيرةَ، وتوفي ببغدادَ يومَ الجمعةِ ثاني عشر
(3)
ربيعٍ الأولِ. والمشهورُ: الآخِر. وجزمَ به في "شرحِ الأصلِ"
(4)
للمصنِّفِ عن ابنِهِ عبدِ اللهِ، سَنةَ إحدى وأربعينَ ومائتين، عن سبعٍ وسبعينَ سنةً. وأسلَمَ يومَ موتِهِ: عشرون ألفًا من اليهودِ والنصارى والمجوسِ. وفضائلُه كثيرةٌ، ومناقبُه شهيرةٌ.
(1)
في الأصل: "ثلعبة"، وينظر "سير أعلام النبلاء" 11/ 177.
(2)
في الأصل: "هندب".
(3)
سقطت: "عشر" من الأصل.
(4)
"معونة أولي النهى"(1/ 151).
بالغتُ فىِ إيضاحه؛ رجاءَ الغفران، وبيَّنتُ فيه الأحكامَ أحسنَ بيان، لم أذكُرْ فيه إلَّا ما جزم بصحته أهلُ التصحيح والعِرفان، وعليه الفتوى فيما بينَ أهلِ الترجيح والإتقان، وسمَّيتهُ بـ"دليل الطالب لنيل المطالب".
واللَّهَ أسألُ أن ينفع به من اشتغل به، وأن يرحَمَني والمسلمين، إنَّه أرحمُ الراحمين.
من مصنفاتِهِ: "المسندُ" ثلاثون ألف حديثٍ. و"التفسيرُ" مائةٌ وخمسون ألفًا. و"الناسخُ والمنسوخُ"، و"التاريخُ"، و"المقدَّمُ والمؤَخَّرُ في كتابِ اللهِ"، و"جواباتُ القرآنِ"، و "المناسكُ الكبيرُ" و"الصغيرُ"
(1)
.
(بالغتُ في إيضاحِهِ) أي: بيانِهِ (رجاءَ الغُفْرانِ، وبينتُ) أي: وضَّحَّتُ فيه.
(الأحكامَ) جمعُ حكمٍ (أحسنَ بيانٍ. لم أذكرْ فيه إلا ما جزمَ بصحتِهِ أهلُ التصحيحِ والعرفانِ) وهم العلماءُ (وعليه الفتوى فيما بينَ أهلِ الترجيحِ والإتقانِ).
(وسمَّيتُه) أي: جَعلتُ عليه هذا الاسمَ عَلَمًا (بدليلِ الطالبِ). أي: المُرشدِ (لنيلِ المطالِبِ) أي: المقاصدِ (واللهَ أسألُ أن ينفعَ به من اشتغلَ به، وأن يرحَمَني) وأن يغفرَ لي (والمسلمين، إنه أرحمُ الراحمين).
* * *
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 12).
كِتَابُ الطهارةِ
وهي: رفعُ الحدثِ،
(كتابٌ) هو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أو مفعولٌ لفعلٍ محذوفٍ، كـ:"اقرأ". أي: هذا مكتوبٌ جامعٌ لمسائلِ الطهارةِ وما يتعلقُ بها.
ومُسمَّى الكتب والتراجم؛ أبدَى السيد الجُرْجاني، رحمه الله، سَبعَ احتمالاتٍ. المختارُ منها: أنها اسمٌ للألفاظِ باعتبارِ دلالتِها على المعاني.
والكتبُ في الأصلِ مشتقَّةٌ من الكَتْبِ، وهو الجَمعُ، يقالُ: تَكتَّبتُ بنو فلان، إذا اجتمَعوا. ومِن الكتابةِ، لاجتماعِ الحروفِ. فإن قيل: الكتابُ مصدرٌ كالكتبِ، فلا اشتقاقَ؟ أُجيبَ: بأن الكتابَ مصدرٌ مزيدٌّ، والكتبُ مصدرٌ مجردٌ. وقد ذكرَ السعدُ التفتازانيُّ وغيرُه: أن المصدرَ المزيدَ مشتقٌّ من المجردِ. وأيضًا: الكتابُ الواقعُ في استعمالِ الفقهاءِ: إما بمعنى اسمِ الفاعلِ، أو اسمِ المفعولِ، فالحكمُ عليه بالاشتقاقِ بهذا الاعتبارِ. أو المراد بقولهم: مشتقٌّ. أي: مأخوذٌ، لا الاشتقاقَ المعهودَ.
(الطهارةُ) مصدرُ طهُرَ - بضم الهاء - ولا يتعدَّى إلا بالتضعيف. وطَهَرَ - بفتح الهاء - مصدرُه: الطُّهر، بضم الطاء.
وهو لغةً: النظافةُ والنزاهةُ عن الأقذارِ.
وشرعًا: ما ذكرَه المصنِّفُ بقولِهِ: (وهي رفعُ الحدثِ). أي: زوالُ الوصفِ المقتَضِي للمنعِ من الصَّلاةِ ونحوها، بفعلِ الوضوءِ والغُسلِ.
قال في "المغني"
(1)
: إنَّما سُمِّيَ الوضوءُ أو الغسلُ طهارةً، لكونِه ينقِّي الذنوبَ
(1)
"المغني"(1/ 33).
وزوالُ الخَبَثِ.
والآثامَ، كما وردَ في الأخبارِ.
فإن قيل: غَسلُ الميِّتِ ليس عن حدثٍ؟ أُجيبَ: بأنه أمرٌ تعبديٌّ، ولهذا قال في الأصلِ: وما في معناه.
(وزوالُ الخبثِ). أي: النجاسةِ. والخبثُ لغةً: ما استقْذَرَهُ الطبعُ السليمُ.
بابُ المياهِ
بابُ الشيءِ: ما يُتوصلُ به إليه، كبابِ الدَّارِ. فبابُ المياهِ: ما يُتوصلُ به إلى الوقوفِ على مسائِلِها. وقد يُطلقُ على الصِّنفِ، فيقالُ: أبوابٌ مبوبةٌ. أي: أصنافٌ مصنَّفةٌ.
وأصلُ باب: بَوَب، لقولهم في الجمع: أبوابٌ، لكن تحرَّكتِ الواو، وانفتحَ ما قبلها، فقلِبتْ ألفًا، فصار بابًا.
والمياهُ: جمعُ ماءٍ. وساغَ جمعُهُ باعتبارِ ما تنوعَ إليه شرعًا.
الماء: جوهرٌ بسيطٌ لطيفٌ سيَّال بطبعِهِ. والمرادُ بالبسيطِ: ما لمْ
(1)
يتركبْ من أجزاءٍ مختلفةِ الطبائعِ، كالعناصرِ الأربعةِ. وخرجَ به: ما تركَّبَ منها. وبلطيف: الكثيفُ كالترابِ. وبسيَّال: نحوُ الهواء. وبطبعِه: بقيةُ المائعاتِ، فإنها تسيلُ بالمعالجةِ. وله لونٌ على المشهورِ، لا أنه لا لونَ له، وإنما يتلونُ بلونِ إنائِهِ.
وإنما جُمِعَ جمعَ كثرةٍ، وهو لما فوقَ العشَرةِ -وهلَّا جُمِع جمعَ قِلَّة فقيل: الأمواه. مع أن أنواعه ثلاثةٌ؟ - لوجهين: أحدُهما: أنَّ فِعال بالكسر عند الكوفيين،
(1)
في الأصل: "من لم".
وأقسامُ الماءِ ثلاثةٌ:
أحدُها: طَهُورٌ وهو الباقي على خِلْقَتِه، يرفعُ الحدثَ، ويُزيلُ الخبثَ.
جمع قلةٍ. والثاني: أنه جُمِعَ كذلك، لكثرةِ ما في الدنيا منه.
واستدلَّ بعضُهم على أنَّ له لونًا بقوله عليه الصلاة والسلام في الحوضِ: "أشدّ بياضًا من اللبنِ"
(1)
. ذكرَهُ ابنُ هُبيرةَ.
(وأقسامُ الماءِ ثلاثة) لأنَّه إمَّا أن يجوزَ به الوضوءُ، أو لا. والأولُ: طَهورٌ. والثاني: إمَّا أن يجوزَ شزبُه أو لا. والأولُ: طاهِرٌ. والثاني: نجِسٌ.
(أحدُها: طَهور) بفتح الطاء، وأمَّا بضمِّها، فالمصدرُ. قاله اليَزيديُّ. وحُكي فَتحُهما وضمُّهما. وهو أشرفُ الأنواعِ، ولذلك قدَّمه، ولأنه المقصودُ. قال ثعلبٌ: طَهورٌ - بفتح الطاء -: الطاهِرُ في ذاتِهِ، المُطهِّرُ لغيرِه.
(وهو) أي: الماءُ الطهورُ: (الباقي على خِلقَتِهِ) أي: على الخلقةِ التي خُلِقَ عليها، وهي الطَّهوريةُ، بأن لم يطرأْ عليه وصف يقيَّدُ به فيخرجُه عن الإطلاقِ. وهو: ماءُ البحرِ، وما نزل
(2)
من السماءِ، أو نبعَ من الأرضِ، وذوبُ الثلجِ والبرَدِ.
(يرفعُ) وحده (الحَدَثَ) نَصَّ عليه. وهو: ما أوجبَ وُضوءًا أو غسلًا. وهو اسمٌ للخارِجِ مطلقًا. ويطلقُ أيضًا على المعنى القائمِ بالبدنِ المقتضي للمَنعِ من الصَّلاةِ ونحوِها.
(ويُزيلُ الخَبَثَ) عطفٌ على قولِهِ: "يرفعُ الحدثَ" والخبثُ لغةً: ما يُستقذرُ.
(1)
أخرجه أحمد (35/ 255)(21327)، ومسلم (2300) من حديث أبي ذر، وأخرجه مسلم (2301) من حديث ثوبان.
(2)
في الأصل: "نز".
وهو أربعةُ أنواعٍ:
ماءٌ يحرم استعمالُه، ولا يرفعُ الحدثَ ويزيلُ الخبثَ، وهو ما ليس مُباحًا.
وماءٌ يرفعُ حدثَ الأنثى لا الرجلِ البالغِ والخُنثى، وهو ما خلتْ به المرأةُ المكلفةُ لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ.
وشرعًا: كلُّ مُستقذَرٍ يمنعُ صحةَ الصَّلاةِ، حيثُ لا مُرخِّصَ؛ مخفَّفًا، أو متوسِّطًا، أو مُغلَّظًا، كبولِ صبيٍّ لم يأكلِ الطعامَ لشهوةٍ، وكنجاسةٍ من غير كلبٍ وخنزيرٍ وهو مُغلَّظًا.
(وهو) أي: الماء (أربعةُ أنواعٍ):
(ماءٌ يحرمُ استعمالُه، ولا يرفعُ الحدثَ) مطلقًا (ويزيلُ الخبثَ. وهو ما ليس مباحًا) قال المصنِّفُ: سواءٌ استعملَه ناسيًا أو جاهلًا.
"فائدة": قال في "المُبْدعِ"
(1)
: واختلفَ الأصحابُ: لو سبَّلَ ماءً للشرب، هل يجوزُ الوضوءُ منه مع الكراهةِ، أو يحرمُ؟ على وجهين. وقيل: يكرهُ الغسلُ لا الوضوء. اختاره الشيخ تقي الدين. وظاهرُ كلامِهم: لا يُكرهُ ما جرى على الكعبة، وصرَّح به غيرُ واحدٍ.
وصحَّح في "الإقناع"
(2)
: لا يجوزُ الوضوءُ بالماءِ المسبَّلِ.
(وماءٌ يرفعُ حدثَ الأنثى، لا الرجلِ البالغِ) وقيل: وصَبيٍّ (والخُنثَى) إلحاقًا له بالرَّجُلِ احتياطًا (وهو: ما خَلَتْ به المرأةُ المكلَّفةُ) ولو كافِرةً. لا المميِّزَةُ (لطَهارَةٍ) لا لشُربٍ ونحوِه (كامَلَةٍ) وقيل: أو بَعْضِها (عن حَدَثٍ) لا عَن خَبَثٍ، أو طُهْرٍ مُستحبِّ. وأن يكونَ خُلُّوهَا بالماءِ كخَلَوةِ نكاحٍ. فيزولُ حُكمُ الخَلْوةِ
(1)
"المبدع"(1/ 35).
(2)
"الإقناع"(1/ 38).
وماءٌ يكره استعمالهُ معَ عدمِ الاحتياجِ إليه، وهو ماغ بئرٍ بمقبَرَةٍ، وماءٌ اشتدَّ حرُّه أو بردُه،
بمشاهَدةِ مميِّزٍ وكافِرٍ وامرأةٍ، لحديثِ:"نهى النبىِّ صلى الله عليه وسلم أن يَتوضَّأَ الرجلُ بفَضلِ طهورِ المرأةِ". رواه الخمسةُ
(1)
. وهو أمرٌ تعبديٌّ لا يُعْقلُ معناه.
"فائدةٌ": قال في "الإنصاف"
(2)
: وظاهرُ ما تقدَّمَ: أنها إذا خلتْ بالترابِ للتَّيمُّمِ، لا تؤثرُ خلوتُها. وهو المذهبُ. وفيه احتمالٌ: أنَّ حُكمَه حكمُ الماءِ.
وظاهِرُه أيضًا: أنه لا تأثيرَ لذلك في إزالةِ الخبثِ به في حقِّ الرجلِ. وهو المذهبُ. وظاهرُه أيضًا: أنه لا تأثيرَ لخَلْوةِ الخُنثى المُشكِلِ بالماءِ القليلِ للطهارةِ. وهو المذهَبُ. وفيه وجهٌ: أنَّه كالمرأةِ.
(وماءٌ
(3)
يُكرَه استعمالُه مع عدمِ الاحتياجِ إليه، وهو: ماءُ بئرٍ بمقبَرةٍ) بتثليث الباء مع فتح الميم. وبفتح الباء مع كسر الميم. أي: يُكره استعمالُ مائِها.
وظاهرُ كلامِ الإمامِ: مطلقًا، في أكلٍ وشربٍ وطهارةٍ وغيرِها. وكذا بئرٌ بغَصبٍ، أو أجرةُ حَفرِهَا غَصبٌ. وكذا ما ظُنَّتْ نجاستُه.
قال في "الفروع" في بابِ الأطعمةِ: وكَرِه أحمدُ ماءَ بئرٍ بينَ القبورِ، وشوكَها، وبقلَها.
(وماءٌ اشتدَّ حرُّه أو برْدُه) قاله ابنُ عبدوس
(4)
في "تذكرته"؛ لأذاه ومنعِه كَمَالَ
(1)
أخرجه أحمد (17865)، وأبو داود (82)، والترمذي (64)، والنسائي (343)، وابن ماجه (373) من حديث الحكم الغفاري. وصححه الألباني.
(2)
انظر "الإنصاف"(9011)، "معونة أولي النهى"(1/ 158).
(3)
في الأصل: "وأما ماء".
(4)
في الأصل: "قُندس".
أو سُخن بنجاسةِ، أو سُخِّن بمغصُوبٍ، أو استُعمِل في طهارةٍ لم تجب، أو في غُسلِ كافرٍ، أو تغيَّر بمِلحٍ مائيِّ، أو بما لا يُمازِجُه كتغيُّرِه بالعودِ القَماريِّ،
الطهارةِ
(أو سُخِّنَ بنجاسَةٍ) ويُكره ماءٌ سُخِّنَ بنجاسَةٍ، ظُنَّ وصولُهَا إليه أو احتُمِلَ، أو لا، حصينًا كان الحائِلُ أو غَيرَ حَصينٍ، ولو بَرَدَ. ويُكره إيقادُ النَّجِسِ. وإنْ عَلِمَ وصولَ النجاسةِ إليه، وكان يَسيرًا، فنَجِسٌ. وعنه: لا يكره. اختارَه الشريفُ وابنُ عقيلٍ، وصحَّحه الأزْجىُّ.
ومحلُّ كراهتِهِ: إن لمْ يُحتَجْ إليه؛ لأنَّ كراهتَهُ من طريقِ الورَعِ، ومعَ الحاجةِ إليه يتعيَّنُ وجوبُ استعمالِهِ.
(أو سُخِّنَ بمغصُوبٍ) ونحوِه كمسروقٍ، أو ثمنُه محرَّمٌ. ذكره في "الرعاية"(أو اسْتُعمِلَ في طهارةٍ لم تجبْ) كتجديدِ وضوءٍ، أو غُسلٍ مسنونٍ، والغَسلَةِ الثانيةِ والثالثةِ في الوضوءِ أو الغُسلِ الواجِبين، حيثُ تمَّتْ الأُولى.
(أو في غُسْلِ كافرٍ) لأنَّه لم يرفعْ حدثًا
(1)
، ولم يُزِلْ نجَسًا. والكافرُ - ولو شملَ الذميَّةَ التي تغتسلُ من الحيضِ والنفاسِ؛ لحلِّ وطئهِا لزوجِها المسلمِ - لا يَسلبُه الطهوريَّةَ؛ لأن الكافرَ ليس من أهلِ النيةِ؛ لأنَّه غُسل مُبيحٌ لا رافِعٌ.
(أو تغيَّرَ بمِلحٍ مائيٍّ) أي: أصلُه الماءُ؛ لأنَّه منعقدٌ من الماءِ، بخلافِ المعدنيِّ، فيسلبُه الطهوريَّةَ (أو بما لا يمازِجُه) أي: يخالِطُه (كتغيُّرِهِ بالعُودِ القَماريِّ) بفتح القَاف؛ نِسبةً إلى قَمَار: بَلدَة بالهندِ. وقال في "المطلع": بكَسرِ القاف. إذا كان
(1)
في الأصل: "حدثه".
وقِطَعِ الكافُورِ، والدُّهن.
قِطَعًا، ولم يتغيَّرِ الماءُ بتحلُّلِ أجزاءٍ منه فيه. قال صاحبُ "الرعايةِ": وإن دُقَّ أو طُحِنَ طحنًا
(1)
ناعِمًا، أو انماع
(2)
فيه، فهو كزَعفَرَانٍ، وخَل (وقِطَعِ الكافُورِ) لأنَّ فيه دُهنيَّةً يتغيَّرُ بها الماءُ.
ووجهُ الكراهةِ: أن القياسَ: تغيُّرُ الماءِ بالطاهِرِ يَسلبُه الطهوريَّةَ. لكنْ لمَّا كان هذا التغيُّرُ عن مجاورةٍ، لا عن ممازجةٍ اغتُفِرَ.
قال شارحُ الأصلِ
(3)
: وفي معناه: ما تَغيَّرَ بالقَطِرَانِ والزِّفتِ والشَّمعِ؛ لأنَّ فيه دُهنيةً يتغيرُ بها الماءُ.
إذا كان قِطعًا: احترزَ به عن المسحوقِ، فإنه يَسلبُ الماءَ طَهوريتَهُ، لتحلُّلِ أجزائه فيه واختلاطِهِ به.
(والدُّهنِ) أي: مِن زيتٍ ونحوِه، على اختلافِ أنواعِهِ. قال الجدُّ الشهابُ: وظاهرُ كلامِهم: سواءٌ كان مُطيَّبًا أو لا. وقيَّده بعضُ الشافعيةِ بكونِه غيرَ مُطيَّبٍ. وهو قويٌّ. انتهى.
قال ابنُ نصرِ اللهِ: الإطلاقُ يقتَضي أنَّه لا فرقَ بين تغيرِ اللَّونِ والطعمِ والرائحةِ. وفي تغيُّرِ اللَّونِ والطعمِ من غيرِ تمازجِهِ نظرٌ!.
وقال ابنُ قُندسٍ: وعلَّلوه بأنَّه تغيرُ مجاورةٍ لا مخالطةٍ، فلم يغيرْ. وهذا التعليلُ إنَّما يصحُّ إذا غيَّرَ ريحَه فقط. قاله في "حاشية المحرر". وقال في "حاشيةِ
(1)
سقطت: "طحنًا" من الأصل.
(2)
كلمة غير واضحة بالأصل، ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
"معونة أولي النهى"(1/ 160).
ولا يكره ماءُ زمزمَ إلا في إزالةِ الخَبَثِ.
وماءٌ لا يكره، كماءِ البحرِ، والآبارِ، والعيونِ، والأنهار، والحمَّام، والمسخَّنِ بالشَّمسِ،
الفروعِ"
(1)
: يمكنُ أن يقالَ بالفرقِ بين الدُّهنِ وقطعِ الكافورِ؛ لتحللِ الأجزاءِ من الثاني دون الأوَّلِ.
(ولا يُكرَهُ ماءُ زمزمَ) أي: ولا يُكرهُ الوضوءُ به، ولا الغُسلُ؛ لأنَّه عليه السلام وأصحابُه توضَّئوا منه
(2)
. ويُقاسُ عليه: الغُسلُ. وأما قولُ العباسِ
(3)
: لا أُحِلُّها لمغتَسلٍ. محمولٌ على مَن يُضيِّقُ بالاغتِسالِ به على الشُّرَّابِ عنه؛ للكثرةِ
(4)
والزحامِ. وقال النوويُّ
(5)
: ما يقالُ عن العباسِ من النهيِّ عن الاغتسالِ من ماءِ زمزمَ، ليس بصحيحٍ.
"فائدةٌ": لا يُكرهُ ما جرى على الكعبةِ، في ظاهرِ كلامِهم، قالَه في "الإقناعِ"
(6)
.
ويُكرهُ ماءُ زمزمَ في إزالةِ الخبثِ، وإليه أشارَ بقولِهِ:(إلَّا في إزالةِ الخبثِ) تعظيمًا له. وقيلَ: يحرمُ
(وماءٌ لا يُكرهُ، كماءِ البحرِ، والآبارِ، والعيونِ، والأنهارِ، والحمَّامِ، والمسخَّنِ بالشمسِ) سواءٌ كان في قِطرٍ حارٍّ أو باردٍ، وسواءٌ سخنَ قصدًا أو اتفاقًا، وسواءٌ كان في إناءٍ صغيرٍ ونحوِه أو لا. وما حُكِيَ أنَّه يورثُ البرصَ، غيرُ صحيحٍ عن
(1)
"حاشية الفروع"(1/ 59).
(2)
رواه عبد اللَّه في زوائد (المسند)(564) من حديث علي. وحسنه الألباني في "الإرواء"(13).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (5/ 114).
(4)
في الأصل: "الكثرة".
(5)
انظر "المجموع"(1/ 91).
(6)
"الإقناع"(1/ 6).
والمتغيِّرِ بطُولِ المُكْثِ أو بالرِّيح من نحو ميتةٍ، أو بما يشُقُّ صونُ الماءِ عنه كطُحْلُبٍ، وورقِ شجرٍ، ما لم يوضَعا.
أهلِ الطبِّ. وأما الحديثُ
(1)
: "فإنه يورثُ البرصَ" فقالَ الدارقطنىُّ: يرويه خالدُ بن إسماعيلَ، وهو متروكُ الحديثِ.
(والمتغيرِ بطولِ المُكثِ) في أرضٍ، أوآنيةٍ من أَدَمٍ أو نحاسٍ أو غيرِها؛ لمشقَّةِ الاحترازِ منه. ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم:"توضأَ من بئرٍ كأنَّ ماءَه نُقاعةُ الحنَّاءِ"
(2)
.
(أو بالريحِ) بسبَبِ حَملِها الرائحَةَ الخبيثةَ إلى الماءِ، فيتروَّحُ بها؛ للمشقَّةِ (مِن نحوِ ميتةٍ) ولو نجِسَةً.
(أو ما يَشقُّ
(3)
صونُ الماءِ عنه، كطُحْلُب) بضمِّ الطاءِ وفتحِها: خُضرَةٌ تعلو الماءَ الراكدَ بسببِ الشمسِ غالبًا.
(ووَرقِ شجرِ
(4)
) لمشقَّةِ الاحترازِ عنه. سقَطَ فيه بغَيرِ فعلِ آدميٍّ. وكذا ما نَبَتَ في الماءِ، والسمكُ ونحوُه، والجرادُ ونحوُه، وما تلْقيه الرياحُ والسيولُ، وما تغيرَ بممرِّه أو مقرِّه، كمعدنِ كِبريتٍ أو نحوِه، فكلّه غيرُ مكروهٍ.
قال الشيخُ تقىُّ الدينِ رحمَه اللهُ تعالى: تخصيصُ ورقِ الشجرِ، مفهومُه: أنَّه لو وقعَتْ ثمارُ الأشجارِ في الماءِ أنَّه يسلبُه الطهوريَّة، قولًا واحدًا، فإنه لا يشقُّ التحرُّزُ من ذلك. وقَلَّ ما يوجدُ من الثمارِ على حافاتِ الأنهارِ. (مَا لَمْ يوضعَا) أي: عن قَصدٍ.
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 38)، والبيهقي (1/ 6) من حديث عائشة. قال الألباني: موضوع. "الإرواء"(18).
(2)
لم أجده بهذا اللفظ.
(3)
في الأصل: "أو ما يشق".
(4)
في الأصل: "الشجر".
الثاني: طاهرٌ يجوز استعمالُه في غيرِ رفعِ الحدثِ وزوالِ الخبثِ، وهو ما تغيَّر كثيرٌ مِنْ لونِه، أو طعمِه، أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ،
القسمُ (الثاني) مِن أنواعِ المياهِ: (طاهرٌ) غيرُ مطهِّرٍ. وحكْمُهُ: أنه يجوزُ استعمالُهُ في العاداتِ دونَ العباداتِ. فيجوزُ شرْبُهُ والطبخُ والعجْنُ ونحوُ ذلك، ولا يرفعُ حدثًا، ولا يزيلُ خبثًا، ولا يُستعملُ في طهارةٍ مندوبةٍ.
(يجوزُ استعمالُهُ في غيرِ رفعِ الحدثِ وزوالِ الخبَثِ) أي: كلِّ مُستَقْذَرٍ.
(وهو) أي: الطاهرُ (ما تغيَّرَ كثيرٌ مِن لونِهِ، أو طعمِهِ، أو ريحِهِ، بشيءٍ طاهرٍ) من غيرِ جنسِ الماءِ، لا يشقُّ صونُ الماءِ عنه، سواءٌ بطبخٍ فيه، كمَرَقِ الباقِلاءِ أو الحمِّصِ ونحوِه، أو لم يطبخْ، كما لو سقَطَ فيه زَعفَرانٌ أو نحوُه فتغيَّرَ به؛ لأنَّه زالَ إطلاقُ اسمِ الماءِ عنه، وزالَ عنه أيضًا معنى
(1)
الماءِ؛ لأنَّه صارَ لا يُطلبُ شرْبُه.
وعنه: ما تغيَّرَ أحدُ أوصافِه بغيرِ طبخٍ، باقٍ على طهوريتِهِ.
ورُدَّ: بأنه تغيرَ بممازجٍ طاهرٍ يمكنُ صونُه عنه، أشبَهَ المتغيرَ بالطبخِ.
وعنه: أنه يرفعُ الحدثَ مع عدمِ غيرِه.
وعُلمَ منه: أنَّ ما تغيرَ جميعُ أوصافِهِ، أو كلُّ صفةٍ منها بطاهرٍ، أو غلبَ عليه، طاهرٌ بالاُولى. وأنَّ يسيرَ صفةٍ لا يسلبُه الطهوريَّةَ؛ لحديثِ أحمدَ، والنسائيِّ
(2)
، عن أمِّ هانئٍ: أنه عليه السلام اغتسلَ هو وزوجتُه ميمونةُ، من قَصعةٍ فيها أثرُ العجينِ.
(1)
في الأصل: "اسمُ".
(2)
أخرجه أحمد (44/ 465)(26895)، والنسائي (240)، وصححه الألباني.
فإن زال تغيُّره بنفسه عاد إلى طَهوريَّته.
ومن الطاهرِ: ما كان قليلًا واستُعمل في رفعِ حدثٍ،
(فإنْ زالَ تغيُّرُه بنَفسِه، عادَ إلى طَهوريَّتِه. ومِن الطاهرِ: ما كان قليلًا، واستُعمِلَ في رفعِ حدثٍ) أكبرَ أو أصغرَ. قال في "الفروعِ": اختارَه الأكثر
(1)
. ودليلُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسلْ أحدُكم في الماءِ الدائمِ وهو جنبٌ" رواه مسلمٌ
(2)
.
وعنه
(3)
: أنه باقٍ على طهوريتهِ. اختارَه ابنُ عقيلٍ، وأبو البقاءِ، والشيخُ تقيُّ الدينِ.
ولا يَصيرُ مُستعملًا إلَّا بانفِصَالِه، أي: بأوَّلِ جُزءٍ انفصَلَ. فعلى هذا: هو طهورٌ قبل انفصالِ جزءٍ من المنغمسِ فيه.
وكذا يَسلبُه الطهوريَّةَ اغترافُه بيدِه أو فمِه، أو وضعُ رجلِه أو غيرِها في قليلٍ بعدَ نيةِ غُسلٍ واجِبٍ، لا اغترافُه بيدِه لوضوءٍ، ولو بعدَ غسلِ وجهِهِ. وهو المذهبُ. لمشقَّةِ تكررِهِ. ما لمْ ينوِ غسلَها فيه.
قال في "الإنصافِ"
(4)
: ويصيرُ الماءُ مستعملًا في الطَّهارَتَين بانتقالِه من عضوٍ إلى آخرَ بعدَ زوالِ اتصالِهِ، لا بتردُّدِهِ على الأعضاءِ المتَّصلةِ، على الصحيحِ.
ولا يُشترطُ نيةُ الاغترافِ عندَ محلِّ غسلِ الواجبِ، خلافًا للشافعيَّةِ. واحتُرِزَ به عن الكثيرِ المستعملِ في رفعِ الحدثِ، فإنَّه طهورٌ.
(1)
"الفروع"(1/ 71).
(2)
أخرجه مسلم (283) من حديث أبي هريرة.
(3)
في الأصل: "غير" وانظر "معونة أولي النهى"(164).
(4)
انظر "الإنصاف"(1/ 79)، "الإقناع"(1/ 9).
أو انغمسَتْ فيه كلُّ يدِ المسلمِ المكلَّف، النائمِ ليلًا نومًا ينقض الوضوءَ، قَبلَ غسلِها ثلاثًا
(أو انغمسَتْ فيه) أي: في الماءِ القليلِ (كُلُّ يدِ المسلمِ المكلَّفِ، النائمِ ليلًا، نومًا ينقضُ الوضوءَ، قبلَ غسلِها ثلاثًا) هو مَعطوفٌ على قولِهِ: "قليلًا واستُعمِلَ
(1)
" فلا يَسلبُه غَمسُ بعضِها فيه. والمرادُ باليدِ هنا: إلى الكُوعِ؛ لأنَّه المفهومُ عندَ الإطلاقِ في لغةِ العربِ. والإجماعُ على ذلك في قولِه تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
ولم يفرَّقْ بين كونِ اليدِ نوى غسلَها بالغمسِ أو الحصولِ، أو لا؛ لعمومِ الخبرِ. وقوله
(2)
: "ثلاثًا" فلا يَكفِي مرَّةً، أو مرَّتَين.
وخُصَّ الحكمُ بالمسلمِ المكلَّفِ؛ لأنَّ الصحابةَ المكلَّفين همُ المخاطبون بذلك. وبنومِ الليلِ: من قولِه: "باتت" والمبيتُ لا يكونُ إلَّا بالليلِ. وخُصَّ النومُ بما ينقضُ؛ لأنَّ غيرَهُ لا أثرَ لَهُ.
والأصلُ في ذلك حديثُ: "إذا استيقظَ أحدُكم من نومِهِ فليغسلْ يديه قبلَ أن يُدخِلَها في الإناءِ ثلاثًا، فإنَّ أحدَكم لا يدري أين باتتْ يدُهُ". رواه الشيخان
(3)
، إلَّا أنَّ البخاريَّ لمْ يذكرْ "ثلاثًا".
والمرادُ بالليلِ: إلى طلوعِ الفَجرِ. وخُصَّ الحكمُ بنومِ الليلِ؛ لأنَّه يطولُ، فيكونُ احتمال إصابةِ النجاسةِ.
(1)
في الأصل: "وقليل استعمل".
(2)
أي: في الخبر.
(3)
أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة.
بنيةٍ، وتسميةٍ، وذلك واجبٌ.
(بنيةٍ وتَسميةٍ، وذلك) أي: النيةُ والتسميةُ (واجِبٌ) وهو تَعبُّديٌّ. ولو باتتْ مكتوفةً، أو بجِرابٍ - بكسرِ الجيمِ - ونحوِه ككيسٍ صفيق
(1)
.
ولا يفرَّقُ بين المطْلَقةِ والمشدودةِ بنحو جِرابٍ؛ لعمومِ الخبرِ، ولأنَّ الحكمَ إذا عُلِّقَ
(2)
على المظنَّةِ، لمْ تُعتَبر حقيقةُ الحكمةِ، كالعِدَّةِ لاستبراءِ الرحمِ من الصغيرةِ والآيسةِ.
ويُستَعملُ الماءُ الذي غُمسَ فيه كلَّ اليدِ في الوضوءِ والغُسلِ، وإزالةِ النجاسةِ. وكذا ما غَسَلَ به ذكرَه وأنثييه؛ لخروجِ مذي - إن لمْ يوجدْ غيرُه؛ لقوةِ الخلافِ. والقائلون بطهوريتِه أكثرُ من القائلين بسلبِها، مع تيممٍ وجوبًا؛ لأنَّ الحدثَ لمْ يرتفعْ؛ لكونِ الماءِ غيرَ طهورٍ. فإن تركَ استعمالَه أو التيممَ بلا عذرٍ، أعادَ ما صلَّى به؛ لتركِهِ الواجبَ عليه، وإنْ كانَ لعذرٍ، فلا، كما يُعلمُ من كلامِهم فيما يأتي. ولا أثرَ في غمسِها في مائعٍ طاهرٍ، لكن يُكرَهُ غمسُها في مائعٍ، وأكلُ شيءٍ رطبٍ بها. قاله في "المبدعِ"
(3)
.
ولو استيقظَ محبوسٌ من نومِه فلا يدري: أهو نومُ ليلٍ أو نهارٍ؟ لمْ يجبْ غسلُهما. فعلى هذا: لا يُسلبُ الماءُ الطهوريَّةَ بغمسِ يدِه فيه. ويُستعملُ الماءُ الذي غُمسَ فيه يدُ النائمِ من نومِ الليلِ في نحوِ أكلٍ وشربٍ.
وظاهرُ كلامِ صاحبِ الأصلِ
(4)
: أنَّه يجوزُ تقديمُ استعمالِهِ على التيممِ
(1)
في الأصل: "ضيق".
(2)
في الأصل: "تعلق".
(3)
"المبدع"(1/ 109).
(4)
انظر "منتهى الإرادات مع حاشية عثمان"(1/ 17).
الثالثُ: نجسٌ يحرمُ استعمالُه إلَّا لضرورةٍ، ولا يرفعُ الحدثَ، ولا يُزيلُ الخبثَ، وهو ما وقعت فيه نجاسةٌ وهو قليلٌ، أو كان كثيرًا وتغيَّر بها أحدُ أوصافِه.
فإن زال تغيُّره بنفسه،
وعكسُه. وفي "الإقناع"
(1)
: استعملَه ثمَّ تيمَّمَ.
وطهورٌ منعَ منه لخَلْوةِ المرأةِ المكلَّفةِ لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ أولى بالاستعمالِ، معَ عدمِ غيرِه، من هذا الماءِ؛ لبقاءِ طهوريَّتِه، ويَتيمَّمُ بعدَ استعمالِ هذا الماءِ.
(الثالثُ) من أنواعِ المياهِ: (نجسٌ) بتثليثِ الجيمِ، وسكونِها، وهو ضِدُّ الطاهرِ. ولا يجوزُ استعمالُه إلَّا لضرورةٍ، كلُقمَةٍ غَصَّ بها وليس عندَه طهورٌ ولا طاهرٌ، أو لعَطشِ معصومٍ من آدميٍّ وبهيمةٍ، سواءٌ كانتْ تؤكلُ أو لا، ولكنْ لا تُحلَبُ قَريبًا، أو لطفءِ حريقٍ مُتلِفٍ، أو لبَلِّ الترابِ وجعلِه طينًا يُطيَّنُ به ما لا يُصلَّى عليه، لا نحوَ مسجدٍ
(2)
.
وهو لغةً: الشَّيءُ المستقذرُ (يحرمُ استعمالُه) مع عدمِ الضرورةِ.
(ولا يرفعُ الحدثَ، ولا يُزيلُ الخبثَ، وهو ما وقعَتْ فيه نجاسَةٌ وهو قَليلٌ، أو كان كثيرًا) إجماعًا، حكاه ابنُ المنذرِ (وتغيَّرَ بها أحدُ أوصافِهِ) من لونِهِ، أو طعمِهِ، أو ريحِهِ، عن ممازجةٍ أو مجاورةٍ؛ تغيُرًا يسيرًا أو كثيرًا.
(فإنْ زالَ تغيرُه بنفسِه) أي: بلا وضعِ شيءٍ فيه من ترابٍ، أو مسكٍ، أو جامدٍ، أو مائعٍ، أو غيرٍ ذلك، فإنَّه لا يَطهُرُ بذلك.
(1)
"الإقناع"(1/ 8).
(2)
انظر "الإنصاف"(1/ 109).
أو بإضافة طَهورٍ إليه، أو بنزحٍ منه ويبقى بعده كثيرٌ، طهُر.
والكثيرُ قُلَّتانِ: تقريبًا،
(أو بإضافةِ طَهورٍ إليه، أو بنَزحٍ منه، ويبقَى بعدَهُ كثيرٌ) وهو قُلَّتانِ فصاعدًا (طَهُرَ) يعني: أنَّ الماءَ المنزوحَ الذي زَالَ تغيُّرُ الماءِ بنَزحِهِ، وبَقيَ بعدَهُ قُلَّتانِ فأكثرُ، طَهورٌ، بشَرطِ زوالِ التغيُّرِ منه، وأن يكونَ قُلَّتين فأكثرَ، أو زالَ تغيُّرُه بإضافةِ كَثيرٍ إليه.
"تنبيهٌ": قال ابنُ نصرِ اللهِ: تطهيرُ الماءِ النجسِ على خلافِ القياسِ من وجهين: أحدُهما: أنَّ شرطَ التطهيرِ أن يكونَ بمطهِّرٍ ينفَصِلُ عن المحلِّ، وهذا لا يشترط فيه ذلك
الثاني: أن جميع المائعات لا يُطهَّرُ نَجِسُهَا، وهذا مائعٌ، فقياسُه: أنَّ لا يُتصوَّرَ تَطهيرُه. انتهى.
(والكثيرُ: قُلَّتان تَقريبًا) أي: لا تحديدًا، فلا يضرُّ نقصٌ يسيرٌ، كرِطلٍ عراقيٍّ أو رِطلَين.
يتفرَّعُ على ذلك: أنه لو وقعَتْ نجاسةٌ في ماءٍ قدرُه
(1)
قلتان فقط، فغرفَ منه بإناءٍ، فالذي في الإناءِ طهورٌ، والباقي نجسٌ، إن قلنا: القُلَّتان تحديدًا؛ لأنَّه ماءٌ يسيرٌ فيه نجاسةٌ. وإن قلنا بالتَّقريبِ، لمْ ينجسْ، إلا أن يكونَ الإناءُ كبيرًا يُخرِجُه عن التقريبِ. وإن ارتفعَتْ النجاسةُ في الإناءِ، فالماءُ الذي في الإناءِ نجسٌ، والباقي طهورٌ
(2)
.
(1)
في الأصل: "قدر".
(2)
انظر: "فتح وهاب المآرب"(1/ 81).
واليسير: ما دونهما. وهما خُمسمائِة رِطلٍ بالعراقيِّ، وثمانون رِطلًا وسُبُعانِ ونصفُ سُبع رطلٍ بالقُدسيِّ،
"بقلال هَجَر"
(1)
: قال في "القاموسِ": قَريةٌ كانت قُربَ المدينةِ، إليها تُنسبُ القِلالُ. والقُلَّةُ: الجرَّةُ العظيمةُ
(2)
؛ لأنَّها تُقلُّ بالأيدي. أي: تُرفعُ بها. وهَجَر: بفتحِ الهاءِ والجيمِ.
(واليسيرُ: ما دونَهما) أي: دونَ القلَّتين.
(وهما) أي: القلَّتان: (خمسمائةُ رطلٍ بالعراقيِّ)، بفتحِ الراءِ وكسرِها. قال في "الإنصاف"
(3)
: وهو المذهبُ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ.
ووجهُ المذهبِ: ما روَى ابنُ جريجٍ قال: رأيتُ قِلالَ هجرَ، فرأيتُ القُلَّةَ تسَعُ قِربتين، أو قربتين وشيئًا. والقِربةُ: مائةُ رطلٍ بالعراقيِّ، باتفاقِ القائلين بتحديدِ الماءِ بالقِرَبِ، والاحتياطُ أن يُجعَلَ الشيءُ نِصفًا. فكانت القلتان بما ذكرْنا: خمسمائةِ رطلٍ بالعراقيِّ، (وثمانون رطلًا وسُبعانِ ونصفُ سُبعِ رطلٍ بالقدسيِّ) وما وافقَه في قدرِهِ كالنابلسيِّ والحمصيِّ. وأربعمائةٌ وستةٌ وأربعون رطلًا، وثلاثةُ أسباعٍ رطلٍ مصريٍّ، وما وافقَه من البلدانِ كالمكيِّ، ومائةٌ وسبعةُ أرطالٍ، وسبعُ رطلٍ دمشقيٍّ، وما وافقَه، كالصَّفدي - ودِمَشق: بكسرِ الدالِ مع فتحِ الميمِ وكسرِها - وتسعةٌ وثمانون رطلًا، وسبعَا رطلٍ حلبيٍّ، وما وافقَه كالبيروتي.
(1)
"بقلال هَجَر" ليست في الأصل أضفتها لضرورة السياق. وانظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 42).
(2)
في الأصل: "الكبيرة" وصحِّحت على هامشه.
(3)
"الإنصاف"(1/ 120).
ومساحتُهما ذِراعٌ وربعٌ طولًا وعرضًا وعمقًا.
(ومساحتُهما) أي: مساحةُ ما يَسَعُ القُلَّتَينِ من الماءِ حَالَ كَونِهِ مُربَّعًا: (ذراعٌ وربعٌ؛ طولًا وعرضًا وعمقًا) قال في "التنقيحِ": قاله ابنُ حمدان وغيرُه.
فإنْ قلتَ: ما المرادُ بالذراعِ؟ قال في "التنقيح": المرادُ: ذراعُ اليدِ. قاله القَمُوليُّ الشافعيُّ.
قال في الأصلِ
(1)
: فيسَعُ كلُّ قيراطٍ عشرةَ أرطالٍ وثُلثي رطلٍ عراقيٍّ. هذا في المربَّعِ.
وطريقُ معرفةِ ذلك: أن تضربَ البسطَ في البسطِ، والمخرجَ في المخرجِ، وتقسمَ حاصلَ البسطِ على حاصلِ المخرجِ، يخرجُ ذرعُه، فتحفظُ قراريطَه، فتقسمُ عليها الخمسمائة، يخرجُ ما ذكرَ، فبسطُ الذراعِ والربع خمسةٌ، وقد تكرَّرَ ثلاثًا؛ طولًا وعرضًا وعمقًا، فإذا ضربتَ خمسةً في خمسةٍ، والحاصلَ في خمسةٍ، بلغَ مائةً وخمسة
(2)
وعشرين، والمخرجُ أربعةٌ، وقد تكرَّرَ أيضًا ثلاثًا، فإذا ضَربت - كما تقدَّمَ - بلغَ أربعةً وستين، وهي سهامُ الذراعِ، فتقسم عليها الحاصلَ الأوَّلَ، يخرجُ ذراعٌ وسبعةُ أثمانِ ذراعٍ، وخمسةُ أثمانِ ثمنِ ذراعٍ.
فإذا بسطت ذلك قراريطَ، وجدْتَهُ سبعةً وأربعين قِيراطًا إلَّا ثمنَ قيراطٍ، فاقسمْ عليها الخمسمائةَ، يخرجُ ما ذُكِرَ.
قلتُ: ولم يذكرِ الشارحُ
(3)
قِيراطَ المدوَّرِ، وذلك بأنْ تقسمَ قيراطَ الخمسمائةِ
(1)
"منتهى الإرادات"(1/ 22).
(2)
سقطت: "وخمسة" من الأصل.
(3)
يعني: الفتوحي، صاحب "معونة أولي النهى".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على ستين، يحصلُ ثمانية وثلث، وذلك باعتبارِ تكرارِ الذراعِ.
بيان ذلك: وهو أن تقسمَ البسطَ، وهو مائةٌ وخمسةٌ وعشرون على المخرجِ، وهو أربعةٌ وستون، فيخرجُ من الأربعةِ والستين واحدٌ، ويبقى من المائةِ والخمسةِ والعشرين واحد وستون
(1)
. تنسبها لها، يخرجُ سبعةُ أثمانِ قيراطٍ، وخمسةُ أثمانِ ثمنِ قيراطٍ، فإذا بسطتها جعلت الواحد ذراعًا بأربعةٍ وعشرين قيراطًا، يبقَى من الأربعةِ والستين أحدٌ وستون بسبعةِ أثمانِ ذراعٍ، وخمسةُ أثمانِ ثمن ذراعٍ، فتحطها قراريطَ، تكونُ سبعةَ أثمانٍ بأحدٍ وعشرين قيراطًا؛ لأنَّ ثمنَ القيراطِ ثلاثةٌ في سبعةٍ، فتضمها إلى قراريط الذراعِ الأربعةِ والستين، تكونُ خمسةً وأربعين، وبقي معك خمسةُ أثمانِ الثمنِ، فثمنُ القيراطِ ثلاثةٌ في خمسةٍ بخمسةَ عشرَ، فتأخذُ منها ثمانيةً بواحدٍ، وتضمُّه إلى الخمسةِ والأربعين، فيصيرُ مجموعُها ستةً وأربعين، فاقسمْ عليها الخمسمائةَ، فيخرجُ لكلِّ واحدٍ من الستةِ وأربعين عشرةٌ، وبقيَ سبعةُ أثمانٍ، لو كانتْ ثمانيةً لحضها من الأربعين الباقيةِ من الخمسمائةِ، عشرةٌ، لكنها تعْجِزُ ثمنًا، وثمن واحدٍ وربعٍ، فمحضها ثمانيةٌ وثلاثةُ أرباعٍ، يبقَى من الأربعين ثلاثون وواحدٌ وربعٌ، فتأخذُ الثلاثين ويبقَى الواحدُ وربعٌ، وتأخذ من الستةِ والأربعين واحدًا، وتقسمُ الثلاثين على الخمسةِ والأربعين، يخرجُ ثلثان، وبقي معنا واحد من الستةِ والأربعين وسبعةُ أسباعٍ، فتجعلُ الواحدَ ثمانيةً، وتضمُّ إليه السبعة أسباعٍ، يصيرُ خمسةَ عشرَ، فتقسمُ عليها ما بقي من الثلاثين؛ وهو واحدٌ وربعٌ، فتجعلُ الواحدَ ثمانيةً، والربعُ اثنان، فتصيرُ عشرةً، تقسمُها على الخمسةَ عشرَ، يخرجُ أيضًا
(1)
في الأصل: "أحد وستين".
فإذا كان الماءُ الطهورُ كثيرًا، ولم يتغيَّر بالنَّجاسة، فهو طَهورٌ ولو مع بقائها فيه، وإن شَكَّ في كثرته، فهو نجس.
ثلثان، ومنها تصِحُّ. انتهى.
(فإذا كان الماءُ الطهورُ كثيرًا، ولم يتغيَّرْ بالنجاسةِ، فهو طهورٌ) أي: فهو باقٍ على خِلْقَتِهِ التي خُلِقَ عليها. قال في "التنقيحِ": اختارَهُ أكثرُ المتأخرين، وهو أظهرُ. ولو مع قيامِ النجاسةِ فيه، ولم يتغيرْ بها، وإليه أشارَ بقولِهِ:(ولو مع بقائِها فيه) أي: في الماءِ الطهورِ (وإن شكَّ في كثرتِه، فهو نجسٌ) أي: كثرةِ
(1)
الماءِ. يعني: أنَّه لو سقطَ فيه نجاسةٌ، ولم تغيرْه، ولم يعلمْ: هل هو قَليلٌ أو كثيرٌ؟ يعملُ باليقينِ؛ وهو جعلُه قليلًا، فينجسُ الماءُ بما سقطَ فيه؛ لأنَّ الأصلَ نقصُ الماءِ.
"فائدةٌ": ولا يلزمُه السؤالُ عن الماءِ. وكذا لو أصابَهُ ماءُ ميزابٍ، ولا أمارةَ تدلُّ على نجاستِهِ، فيُكرَهُ سؤالُهُ، ولا يلزمُ جوابُهُ. "فروع"
(2)
.
لو استعملَ من ماءٍ فيه نجاسةٌ وظنَّه كثيرًا، فوجدَهُ قليلًا، فالأصلُ: القِلَّةُ. أو في نجاسةٍ، فالأصلُ: طهارتُهُ. أو في طهارتِهِ بعدَ العلمِ بنجاستِهِ، فالأصلُ: بقاؤُه عليها. فيُعملُ بالأصلِ في ذلك.
قال في "الرعاية": ولو توضَّأَ في ماءٍ قليلٍ وصلَّى، ثمَّ وجدَ فيه نجاسةً، أو توضَّأَ من ماءٍ كثيرٍ، ثمَّ وجدَهُ متغيرًا بنجاسةٍ وشكَّ: هلْ كانَ قبلَ وضوئِهِ أو بعدَه، فالأصلُ: صحةُ طهارتِهِ وصلاتِهِ. وإن علِمَ ذلك قبلَ وضوئِهِ بأمارةٍ، أعادَ.
(1)
في الأصل: "كثر".
(2)
"الفروع"(1/ 95).
وإن اشتبه ما تجوز به الطهارةُ بما لا تجوز، لمْ يتَحرَّ، ويتيمَّم بلا إراقةٍ.
ويلزمُ من عَلِمَ بنجاسةِ شيءٍ إعلامُ من أراد أن يستعملَه.
(وإن اشتبَهَ ما تجوزُ به الطهارةُ بما لا تجوزُ، لمْ يتحرَّ). أي: لمْ ينظر أيُّهُما يَغلبُ على ظنِّه (ويتيمَّمُ بلا إراقةٍ)، أي: بلا إعدامٍ - خلافًا للخرقيِّ - لأنَّه غيرُ قادرٍ على استعمالِ الماءِ الذي تجوزُ به الطهارةُ، كمنْ عند بئرٍ لا يمكنُه وصولُ مائِهِ
(ويلزمُ من عَلِمَ بنجاسةِ شيءٍ إعلامُ مَنْ أرادَ أن يستعملَهُ) أي مَنْ علِمَ بنجاسةٍ في مذهبِ المستعمِلِ. وظاهرُهُ: ولو كان يريدُ استعمالَهُ في غيرِ الطهارةِ كالشربِ، أو كان غيرَ الماءِ. وكذا يجبُ إعلامُ مَنْ أرادَ استعمالَ الحرامِ، كما في "الرعاية".
* * *
بابُ الآنيةِ
يُباحُ اتِّخاذُ كلِّ إناءٍ طاهرٍ، واستعمالُه، ولو ثمينًا،
(بابُ الآنيةِ)
البابُ: ما يُدخلُ منه إلى المقصودِ، ويُتوصلُ به إليه. وقد يُطلقُ على الضَّفِّ. أعقبَهُ للبابِ قبلَه؛ لأنَّ الماءَ لا يقومُ إلا بها.
والآنيةُ: جمعُ إناءٍ، كالأوعيةِ: جمعُ وعاءٍ. وجمعُهما: أواني، وأواعي
(1)
. وأصلُ أوانٍ: أآني؛ أُبدلتْ الهمزةُ الثانيةُ واوًا؛ كراهةَ اجتماعِ همزتين، كآدم وأوادم.
(يباحُ اتخاذُ كلِّ إناءٍ طاهرٍ): مباحٌ اتخاذًا واستعمالًا (واستعمالُه، ولو) كان (ثمينًا) أي: كثيرَ الثمنِ، كالمتخَذِ من جوهرٍ وياقوتٍ وزُمُرُّدٍ؛ لعدمِ العلةِ التي لأجلِها حَرُمَ الذهبُ والفضةُ؛ لأنَّ هذه الجواهرَ لا يعرفُها إلا خواصُّ الناسِ، فلا تنكسرُ قلوبُ الفقراءِ؛ لأنَّهم لا يعرفونَهُ. ولا يحصلُ باتخاذِها تضييقٌ؛ لأنَّها لا يكونُ منها درهمٌ ولا دينارٌ. وأيضًا فلِقلَّتِها لا يحصلُ إتخاذُ آنيةٍ منها إلا نادرًا، ولو اتخذتْ كانتْ مصونةً لا تستعملُ غالبًا.
قال في "شرح الأصل" للمصنِّفِ
(2)
: فلو جعلَ فصَّ خاتمٍ جوهرةً ثمينةً، جازَ. ولو جعلَه ذهبًا، لمْ يجزْ.
وقولُه: "طاهرٍ" احترزَ به عن الآنيةِ النجسةِ، كالتي من جلودِ الميتةِ، وظفرِها وقرْنِها، وعصبِها وحافرِها، فإنَّه لا يجوزُ استعمالُها في المائعاتِ. وأما في
(1)
في الأصل: "وأواني".
(2)
"معونة أولي النهى"(1/ 190).
إلا آنية الذَّهبِ والفِضَّةِ،
اليابساتِ، فإن كانَ جلدًا وكان ميتةً طاهرةً في الحياةِ، فيباحُ استعمالُه في اليابساتِ. روايتان، ذكرَهما في "الرعاية".
(إلَّا آنيةَ الذهبِ والفضةِ) لحديثِ حذيفةَ
(1)
مرفوعًا: "لا تشربوا في آنيةِ الذهبِ والفضةِ، ولا تأكلوا في صحافِها، فإنَّها لهمْ في الدنيا، ولكمْ في الآخرةِ". وعنْ أمِّ سلمةَ
(2)
قالتْ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذي يشربُ في آنيةِ الذهبِ والفضةِ، إنَّما يجرجِرُ في بطْنِه نارَ جهنَّمَ". متفق عليهما. فتوعدُه عليه بالنَّارِ يدلُّ على تحريمِه، ولأنَّ في ذلك سرَفًا وخيلاءَ، وكسرَ قلوبِ الفقراءِ. والجرجرةُ: هو صوتُ وقوعِ الماءِ بانحدارِه في الجوفِ
(3)
.
يُرْوى: "نارُ جهنمَ" برفعِ الراءِ وبنصبِها. فمَنْ رفعَها
(4)
نسَبَ الفعلَ إلى النَّارِ، ومَنْ نصبَها أضمرَ الفاعلَ في الفعلِ، وجعلَ النَّارَ مفعولًا
(5)
، تقديرُه: يجرجرُ الشاربُ في بطنِه نارَ جهنمَ
(6)
.
والاستعمالُ في غيرِ الأكلِ والشربِ في معناهُما؛ لأنَّ ذكرَهُما قدْ خرجَ مخرجَ الغالبِ، وما كانَ كذلك لا يتقيدُ الحكمُ به
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (5633)، ومسلم (2067).
(2)
أخرجه البخاري (5634)، ومسلم (2065).
(3)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 51).
(4)
في الأصل: "يرفعها".
(5)
في الأصل: "مفعوله".
(6)
انظر: "المغني"(1/ 102).
(7)
انظر: "معونة أولي النهى"(1/ 186).
والمُمَوَّهِ بهما. وتصح الطهارة بها، وبالإناءِ المغصُوب.
ويُباحُ إناءٌ ضُبِّب بضَبَّةٍ يسيرةٍ من الفضةِ لغيرِ زينةٍ.
ذكرَ الثعلبيُّ في تفسيرِ سورةِ "براءةَ" قال: سُمِّيَ الذهبُ ذهبًا؛ لأنَّه يذهبُ ولا يبقَى، وسُمِّيتْ الفضَّةُ فضَّةً؛ لأنَّها تنفضُّ، أي: تتفرق
(1)
.
(والمموَّهِ بهِمَا) التَّمويهُ: أنْ يُذابَ الذهبُ أو الفضةُ، ثمَّ يُلْقى فيه النُّحاسُ أو نحوُه، فيكتَسِبُ لونَهُ.
والطَّليُ: أنْ يُجعلَ ورَقًا ثم يُطلَى به الحديدُ ونحوُه.
والتَّطعيمُ: أن يحفرَ فيه حفرًا، ثمَّ يوضعُ فيها قطعٌ من ذهبٍ أو فضةٍ على قدرِها والتكفيتُ: أن يُبْرَدَ في الحديدِ ونحوِه، حتى يصيرَ فيه شبهُ
(2)
المجاري في غايةِ الدِّقةِ، ثمَّ يوضعُ فيها شريطٌ دقيقٌ من ذهبٍ أو فضةٍ، ويُدَقُّ حتى يَلصقَ
(3)
(وتَصحُّ الطهارةُ بها) أي: بما يحرمُ اتخاذُ الإناءِ منه (وبالإناءِ المغصوبِ) وكذا المسروقُ، ومقبوضٌ بعقدٍ فاسدٍ، أو ثمنُه محرمٌ، كالخمرِ والخنزيرِ ونحوِ ذلك، بخلافِ الصَّلاةِ في غصْبٍ أو محرَّمٍ؛ لأنَّه استعمالٌ له
(4)
. وأفعالُ نحوِ الوضوءِ مِن الغَسلِ والمسحِ، ليسَت بمحرمةٍ؛ لأنَّه استعمالٌ للماءِ لا للإناءِ. وأيضًا فالنهيُّ عن نحوِ الوضوءِ من الإناءِ المحرمِ هو لخارجٍ؛ إذ الإناءُ ليس ركنًا ولا شرطًا فيه، بخلافِ البقعةِ والثوبِ في الصَّلاةِ.
(ويباحُ إناءٌ ضُبَّبَ بضَبَّةٍ يسيرةٍ من الفضةِ لغيرِ زينةٍ) بل كانتْ لحاجةٍ، كأنِ
(1)
في الأصل: "ولا تبقَى" وانظر: "الكشف والبيان"(3/ 25) عند تفسير "سورة آل عمران".
(2)
في الأصل: "من".
(3)
انظر: "معونة أولي النهى"(1/ 187).
(4)
أي: استعمالٌ للمحرَّم والمغصوب. وانظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 52).
وآنيةُ الكفَّار وثيابُهم
انكسرَ إناءُ خشبٍ أو نحوِه، فضُبِّبَ كذلك، فلا يحرمُ. لحديثِ أنسٍ: أنَّ قدحَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم انكسرَ، فاتَّخذَ مكانَ الشَّعْبِ سِلسِلةً من فضةٍ. رواه البخاريُّ
(1)
. وهذا مُخصِّصٌ لعمومِ الأحاديثِ السابقةِ.
فإنْ كانتْ يَسيرةً من ذهبٍ، أو كبيرةً من فضةٍ، حَرُمتْ مطلقًا. وكذا إنْ كانتْ يسيرةً لغيرِ حاجةٍ، وهي: أن يتعلَّقَ بها غَرَضٌ؛ بأن تدعوَ الحاجةُ إلى فعلِه، ولو وجَدَ غيرَ الفضةِ، كالحديدِ والنحاسِ. قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: مرادُهم: أن يحتاجَ إلى تلك الصورةِ، لا إلى كونِها من ذَهبٍ أو فضةٍ، فإنَّ هذه ضرورةٌ، وهي تبيحُ المنفردَ
(2)
. يعني: الخالصَ.
وتُكرَهُ مباشرتُها بلا حاجةٍ. وإن كان الماءُ يتدفقُ لو شرِبَ من غيرِ جهتِها، لمْ يُكره؛ دفعًا للحرجِ
(3)
.
(وآنيةُ الكفارِ وثيابُهم) ولو وَلِيَتْ عوراتِهم، كسراويلَ. وكذا ما صبغوه أو نَسجُوه، وماؤهم وطعامُهم، وكذا مَن لابَسَ النجاسَةَ كثيرًا، كمُدمِنِ الخَمرِ، وكَسَّاحِ
(4)
الأفنيةِ، والحائضِ، والمرضعِ، والدَّباغِ، والجزَّارِ. قال في "الإنصاف"
(5)
: وتصحُّ الصَّلاةُ في ثيابِ المرضعةِ والحائضِ والصبيِّ مع
(1)
أخرجه البخاري (3109).
(2)
"مجموع الفتاوى"(21/ 81).
(3)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 53).
(4)
الكسح: الكنس. والكساح، بفتح الكاف وتشديد السين من: كسح الكنيف، إذا نزحه وأخرج ما فيه. "معجم لغة الفقهاء"(1/ 381)، وانظر "لسان العرب"(كسح).
(5)
"الإنصاف"(1/ 159).
طاهرة.
الكراهةِ. وقدَّمه في "مجمع البحرين". وعنه: لا تُكره.
قال في "شرح المنتهى"
(1)
للمصنِّفِ في سترِ العورةِ: ويُكره لبسُ ما تُظنُّ نجاستُه لتَربيةٍ، ورضاعٍ، وحيضٍ، وصِغَرٍ، وكثرةِ ملابسةِ نجاسةٍ، وقلَّةِ التحرُّزِ منها في صَنعَةٍ، وغيرِها. انتهى.
إلَّا أن يُجمعَ بينَهم في حملِ الإباحةِ على غيرِ الصَّلاةِ، وبحملِ الكراهةِ على الصَّلاةِ، كما هو الظاهرُ من كلامِ "الإنصاف". انتهى.
(طاهِرةٌ) مُباحَةٌ؛ لقولِه تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهو يَتناولُ ما لا يقومُ إلَّا بآنيةٍ، ولأنَّه عليه السلام وأصحابَه، توضَّئوا من مزادةِ مشركةٍ. متفقٌ عليه
(2)
. ولأنَّ الأصلَ الطهارةُ، فلا تزولُ بالشكِّ. وبدنُ الكافرِ طاهرٌ، وكذا طعامُه وماؤُه، وما صبغه
(3)
أو نسجَه، ولو لمْ تحلَّ ذبيحتُهم، كالمجوسيِّ، والوثنيِّ، والمشركِ.
قيل لأحمدَ عن صَبغِ اليهودِ بالبولِ؟ فقال: المسلمُ والكافرُ في هذا سواءٌ، ولا يُسألُ عن هذا، ولا يُبحثُ عنه. فإن عَلِمتَ فلا تُصلِّ فيه حتى تغسلَه. انتهى. ويَطهرُ بغَسلِه، ولو بَقيَ اللَّونُ.
وسألَه أبو الحارثِ: عن اللَّحمِ يُشْتَرى من القصَّابِ؟ قال: يُغسَلُ. وقال الشيخُ تقيُّ الدينِ: بدعةٌ
(1)
"معونة أولي النهى"(2/ 41).
(2)
أخرجه البخاري (3571)، ومسلم (682) بمعناه من حديث عمران بن حصين.
(3)
في الأصل: "وما صنعه".
ولا ينجسُ شيءٌ بالشَّكِّ ما لمْ تُعلم نجاستُه.
وعَظمُ الميتةِ، وقرنُها، وظُفُرها، وحافرُها، وعصبُها، وجلدُها، نجس،
(ولا ينجسُ شيءٌ بالشكِّ، ما لمْ تُعلمْ نجاستُه) هذا هو المذهبُ. والشكُّ: خِلافُ اليقينِ. قالَه في "القاموسِ".
وأما اليقينُ: فقال الشيخُ موفقُ الدِّينِ في مقدمةِ "الروضة في الأصول"
(1)
: ما أذعنَتِ النفسُ للتصديق به، وقطعتْ به، وقطعتْ بأنَّ قطعَها به صحيحٌ. وفي "الكشاف"
(2)
: هو إتقان
(3)
العلمِ بانتفاءِ الشكِّ والشبهةِ عنه. وقال الفخرُ الرازيُّ
(4)
: هو العلمُ بالشيءِ بعدَ أنْ كان صاحبُه شاكًّا فيه.
(وعظمُ الميتةِ) يشملُ: السِّنَّ (وقرنُها، وظفرُها، وحافرُها، وعصبُها، وجلدُها، نجسٌ) لقولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وأجزاؤُها المذكورةُ من جملتِها.
والميتةُ في الشرعِ: اسمٌ لكلِّ حيوانٍ خرجتْ رُوحُه بغيرِ ذكاةٍ. وقد يُسمَّى المذبوحُ في بعضِ الأحوالِ: ميتةً، كذبيحةِ المجوسيِّ. والمرادُ هنا: الميتةُ النجسةُ، فلا يَرِدُ ميتةُ الآدميِّ والسمكِ وسائرِ حيواناتِ البحرِ المأكولةِ، فإنَّ عظمَ ذلك، والظفرَ، واللبنَ من الآدميِّ الميتِ، طاهرٌ.
والميتةُ: بالتخفيفِ والتشديدِ. والتخفيفُ أكثرُ. ويُلحقُ بذلك: كلُّ ذبحٍ لا يُفيدُ إباحةَ اللَّحمِ، كذبحِ المجوسيِّ، ومتروكِ التسميةِ، وذبحِ المُحرِمِ للصَّيدِ.
(1)
"روضة الناظر"(1/ 22).
(2)
"الكشاف"(1/ 83).
(3)
في الأصل: "انتقالُ".
(4)
"تفسير الرازي"(1/ 202).
ولا يطهُر بالدِّباغ.
(ولا يطهرُ) الجلدُ (بالدباغِ) نقلَه الجماعةُ عن أحمدَ. ورُويَ عن عمرَ، وابنِه، وعائشةَ، وعمرانَ بنِ حصينٍ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُكيمٍ
(1)
، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه كتبَ إلى جُهينةَ: "إني كنتُ رخَّصتُ لكم في جلودِ الميتةِ، فإذا جاءَكم كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتةِ بإهابٍ ولا عصبٍ
(2)
". رواه أحمدُ، وقال: إسنادُه جيدٌ. ورواه أبو داودَ وليس فيه: "كنتُ رخصتُ". بل هو من روايةِ الطبرانيِّ والدارقطنيِّ. وفي لفظٍ: "أتانا كتابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ وفاتِه بشهرٍ، أو شهرين". وهو ناسخٌ لما قبلَه؛ لتأخُّرِه. وكتابُه عليه السلام كلفظِه، ولذلك لزمتْ الحجةُ مَنْ كُتِبَ إليه، وحصلَ له البلاغُ. ولأنَّه جزءٌ من الميتةِ، فلا يطهرُ بالعلاجِ، كلحمِها.
ونقلَ جماعةٌ أخيرًا: طهارتَه. لكنَّ المذهبَ الأولُ عندَ الأصحابِ.
ويباحُ دبغُ الجلدِ النجسِ بالموتِ، واستعمالُه بعدَه - ظاهرُه: ولو لمْ يَغسلْه. وعندَ مَن يقولُ: إنَّه يطهرُ. لا بدَّ من غَسلِه - في يابسٍ. واحترزَ بقولِه: النَّجسُ بالموتِ: عمَّا كان نجسًا في الحياةِ، كالكلبِ والخنزيرِ، وكما فوقَ الهرِّ خِلقَةً مما لا يُؤكلُ لحمُه، كسباعِ البهائمِ وجوارحِ الطيرِ، فإنَّه لا يُباحُ دبغُها ولا استعمالُها؛ لأنَّ الدباغَ إنَّما يؤثرُ في نجاسةٍ حادثةٍ بالموتِ، فيبقَى ما عداه على أصلِ التحريمِ.
ويُشترطُ فيما دُبغَ به أن يكونَ مُنَشِّفًا للرُّطوبةِ، مُنِّقيًا للخبثِ، بحيثُ لو نُقِعَ
(1)
في الأصل "حكيم". والحديث أخرجه أحمد (31/ 74)(18780)، وأبو داود (4128)، والطبراني في "الأوسط"(104)، وصححه الألباني في "الإرواء"(38).
(2)
تكررت: (ولا عصبٍ) في الأصل.
والشعرُ، والصوفُ، والريشُ، طاهرٌ إذا كان من ميتةٍ طاهرةٍ في الحياة، ولو غيرَ مأكولةٍ، كالهِرِّ والفأرِ.
الجلدُ بعدَه في الماءِ لمْ يفسدْ، كشَبٍّ
(1)
، وقَرَظٍ
(2)
، وعَفْصٍ .. وذرق حمام، فلا يحصلُ الدبغُ بنجسٍ
(3)
، ولا بغيرِ منشِّفٍ للرطوبةِ، مُنَقٍّ للخبثِ، بحيثُ لو نُقِعَ الجلدُ بعدَه في الماءِ لفَسدَ.
ولا يَفتَقِرُ الدَّبغُ إلى فعلٍ، فلو وقَعَ الجلدُ في مَدبَغَةٍ فاندبغَ، كفَى. وجَعلُ المُصرانِ وَتَرًا دِباغٌ. وكذلك الكَرِشُ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يجوزُ استعمالُ الجلدِ المدبوغِ في مائعٍ، ولو لمْ ينجسِ الماءُ.
"فائدةٌ": يجوزُ الخرزُ بشعرٍ نجسٍ، ويجبُ غَسلُ ما خُرِزَ به رَطبًا. قال في "الإقناع"
(4)
: مع الكراهةِ. قال في "الغاية"
(5)
للمصنِّف: ويحرمُ الخرزُ بشعرِ آدميٍّ؛ لحرمتِه.
(والشعرُ، والصوفُ، والريشُ، طاهرٌ، إذا كان من ميتةٍ طاهرةٍ في الحياةِ، ولو غيرَ مأكولةٍ، كالهرِّ والفأرِ) فإنَّه لا ينجسُ بالموتِ. نقلَ الميمونيُّ: صوفُ الميتةِ لا
(1)
قال الأزهري: "الشَّبُّ" من الجواهر التي أنبتها الله تعالى في الأرض يدبغ به يشبه الزاج. "المصباح المنير"(شبب).
(2)
القَرَظُ: شجر يُدْبَغُ به. وقيل: هو ورَقُ السلَم يُدْبَغُ به الأَدَمُ. "لسان العرب"(قرظ).
(3)
كذا في الأصل! ولعل الصواب: "فلا يحصلُ الدبغُ بنجسٍ كذرق حمام" وفي "روضة الطالبين"(1/ 41) للنووي: "قالوا: ويكون الدباغ بالأشياء الحرِّيفَة، كالشَّبِّ، والقَرَظِ
…
ويحصلُ بمتنجِّسٍ وبنَجِسِ العَينِ، كذَرْقِ حمامٍ، على الأصح فيها".
(4)
"الإقناع"(1/ 20).
(5)
"الغاية"(1/ 59).
ويُسنَّ تغطيةُ الآنيةِ، وإيكاءُ الأسقيةِ.
أعلمُ أحدًا كرهَهُ.
والأصلُ في ذلك: قولُه تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]. والآيةُ في سياقِ الامتنانِ، فالظاهرُ: شمولُها لحالتي الحياةِ والموتِ. والريشُ مقيسٌ على الثلاثةِ المذكورين.
قال في "الفروع"
(1)
: وعنه: نجسٌ، وفاقًا للشافعيِّ. قال: لأنَّه ميتةٌ. وكذا من حيوانٍ حيٍّ لا يؤكلُ.
وأما أصولُ ذلك، فنجسةٌ؛ لأنَّها من أجزاءِ الميتةِ.
وفي طهارتِها بالغَسلِ وجهانِ، صوَّبَ في "تصحيح الفروع"
(2)
: عدمَ التطهيرِ به.
واحترزَ بقولِه: من طاهرٍ. عن نحوِ شَعرِ الحُمُرِ الأهليةِ، والبغالِ، وسباعِ البهائمِ، وريش جوارحِ الطيرِ، كالصقرِ والعقابِ، فإنَّهما نجسانِ؛ لأنَّهما نجسانِ قبلَ الموتِ، فقد زادَ به نجاستُهما.
ولو كان الشعرُ من غيرِ مأكولٍ، كالهرِّ والفأرِ، فإنه طاهرٌ. وأصولُ ذلك نجسةٌ مطلقًا.
وفي "المستوعب": يحرمُ نتفُ نحوِ صوفٍ من حيٍّ. وفي "النهاية": يُكرَه
(3)
ولا يجوزُ استعمالُ شعرِ الآدميِّ؛ لحرمتِه.
(1)
"الفروع"(1/ 119).
(2)
"تصحيح الفروع"(1/ 122).
(3)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 58).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما أُبينَ من حيوانٍ حيٍّ فهو كميتته؛ طهارةً ونجاسةً. فما قُطعَ من السمكِ، مع بقاءِ حياتِه، طاهرٌ، بخلافِ ما قُطعَ من بهيمةِ الأنعامِ، إلا نحوَ الطريدةِ، والمسكِ وفأرتِه. وكذا ما تَساقطَ من قرونِ الوعولِ في حياتِها. وفيه احتمالٌ بطهارتِها، كالشعرِ.
فعلى هذا: ما أُبينَ في الحياةِ من سمكٍ، وجرادٍ، وآدميٍّ، وما لا نفسَ لها سائلةٌ، طاهرٌ. وما أُبينَ من غير ذلك، نجسٌ، ولو من مأكولٍ.
"تتمةٌ": جلدُ الثعلبِ، كلحمِه، نجِسٌ.
* * *
بابُ الاستنجاءِ وآدابِ التخلِّي
الاستنجاءُ: هو إزالةُ ما خرجَ من السبيلينِ بماءٍ طَهورٍ، أو حَجَرٍ طاهرٍ
(بابُ الاستنجاءِ وآدابِ التخلِّي)
لغةً: استفعالٌ مِن: نجوتُ الشجرةَ. أي: قطعتُها، فكأنَّ المستنجي قطعَ الأذى عنه باستعمالِ الماءِ. قال ابنُ قتيبةَ
(1)
: هو مأخوذٌ من النَّجْوَةِ؛ وهي: ما ارتفعَ من الأرضِ؛ لأنَّ مَنْ أرادَ قضاءَ الحاجةِ استترَ بذلك.
وقيل: هو من النجْوِ، وهو: القَشْرُ والإزالةُ، يقالُ: نجوتُ العودَ، إذا قشرتَه، ونجوتُ الجلدَ عن الشاةِ، نجيتُه، إذا سلختَه. وقيل
(2)
: أصلُه: نَزعُ الشيءِ من موضعِهِ، وتخليصُه، ومنه: نجوتُ الرطبَ واستنجيتُه، إذا جنيتَه.
ويُسمَّىَ الاستنجاءُ بالحجرِ ونحوِه: استجمارًا؛ من الجِمارِ، وهي: الحجارةُ الصغارُ.
وعبَّرَ بعضُ الأصحابِ عن هذا البابِ بـ"الاستطابةِ"، قال في "القاموس": واستطابَ: استنجَى، كأطَابَ.
والآدابُ: جمعُ أدبٍ، ويأتي معناه في القَضاءِ. والتخلِّي: قضاءُ الحاجةِ مِن البولِ والغائطِ؛ لأنَّه يكونُ منفردًا بذلك.
وشرعًا: (الاستنجاءُ: هو إزالةُ ما خرَجَ) معتادًا وغيرَه (مِن السَّبيلَين) قُبُلٍ أو دُبُرٍ، أصليٍّ (بماءٍ طهورٍ، أو) إزالةُ حُكمِه بما يقومُ مقامَ الماءِ من (حَجَرٍ طاهرٍ
(1)
"غريب الحديث"(1/ 159)، وانظر "الشرح الكبير"(1/ 187).
(2)
سقطت: "وقيل" من الأصل. وانظر: "المطلع" ص (8).
مباحٍ مُنْقٍ.
فالإنقاءُ بالحجرِ ونحوِه: أن يبقَى أثرٌ لا يزيلُه إلا الماء.
ولا يُجزئ أقلُّ من ثلاثِ مَسَحَات تعمُّ كلُّ مسحَةٍ المحلَّ.
مباحِ مُنْقٍ) ونحوِه كخَشبٍ وخِرَقٍ. ويسمَّى: استجمارًا؛ من الجمارِ، وهي: الحَجارةُ الصغارُ.
فلا يَصحُّ بمحرَّمٍ، كمغصوبٍ، وذهبٍ وفضةٍ.
واحترزَ بقولِه: "مباح" أيضًا: عن كلِّ ما يحرُمُ الاستجمارُ به من الرَّوثِ، والعظمِ، والطعامِ، وما له حرمةٌ، والمتصلُ بحيوانٍ، فإنَّ ذلك لا يجزئُه الاستجمارُ به.
وقوله: "طاهر" فلا يَصحُّ بنَجسٍ.
وقوله: "منقٍّ": اسمُ فاعلٍ من: أنقى. أي: قالِعٌ. فلا يجزئُ بأملسَ من زجاجٍ ونحوِه، ولا بشيءٍ رَخْوٍ أو نديٍّ
(1)
؛ لأنَّه إذا لمْ ينقِّ، لمْ يحصلِ المقصودُ منه.
ثَمَّ ذكرَ المصنِّفُ الإنقاءَ بقولِهِ: (فالانقاءُ بالحجرِ ونحوِه) كخشبٍ وخِرَقٍ: (أن يبقَى أثرٌ لا يزيلُه إلَّا الماءُ) والإنقاءُ بالماءِ: عودُ خشونةِ المحلِّ كما كان. وظنُّه كافٍ، فلا يُشترطُ التحقُّقُ. قال في "الإنصاف"
(2)
: لو أتى بالعددِ المعتبرِ، اكتفى في زوالها
(3)
بغلبةِ الظنِّ. ذكرَهُ ابنُ الجوزيِّ في "المذهبِ". وقال في "النهاية": لا بدَّ من العلمِ بذلك.
(ولا يجزئُ أقلُّ من ثلاثِ مسَحَاتٍ، تعمُّ كلُّ مسحةٍ المحلَّ) إما بحجِرٍ ذي
(1)
في الأصل: "وندي".
(2)
"الإنصاف"(1/ 223).
(3)
في الأصل: "إزالتِها".
والإنقاءُ بالماء: عَوْدُ خُشُونة المحلِّ كما كان، وظنُّه كافٍ.
وسُنَّ الاستنجاءُ بالحجر، ثم بالماء، فإن عَكَسَ كُرِه،
شعبٍ، أو ثلاثةِ أحجارٍ.
قال في "الإنصاف"
(1)
: وكيفما حصلَ إنقاءٌ في الاستجمارِ أجزأَ. وقال القاضي وغيرُه: المستحبُّ أن يُمرَّ الحجرَ الأوَّلَ من مقدَّمِ صفحتِهِ اليمنى إلى مؤخَّرِها، ثم يُديرُه على اليسرى حتى يرجعَ إلى الموضعِ الذي بدأَ منه، ثمَّ يُمرُّ الثاني من مقدَّمِ صفحتِه اليسرى كذلك، ثم يُمرُّ الثالثَ على المسرَبَةِ والصَّفحَتين، فيستوعبُ المحلَّ في كلِّ مرةٍ. انتهى.
(والانقاءُ بالماءِ: عَودُ خُشونة المحلِّ كما كان) قال في "المبدع": الأَوْلى أن يُقال: أن يعودَ المحلُّ إلى ما كان؛ لئلا ينتقضَ بالأمردِ ونحوِه
(2)
. ومَشى الشيخُ عليها في "الغاية"، وفي هذا المصنَّفِ تَبعَ فيها صاحبَ الأصلِ.
(وظنُّه كافٍ) أي: الإنقاءُ. فلا يشترطُ التحقُّقُ كما تقدَّمَ.
(وسُنَّ الاستنجاءُ بالحجرِ، ثم بالماءِ) بعدَ الحجرِ؛ لقولِ عائشةَ رضي الله تعالى عنها للنِّساءِ: مُرْنَ أزواجَكُنَّ أن يُتبعوا الحجارةَ بالماءِ، فإني استحييهم، وإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يفعلُه. رواه أحمدُ - واحتجَّ به في روايةِ حنبلٍ - والنسائيُّ والترمذيُّ
(3)
وصحَّحَه. ولأنَّه أبلغُ في الإنقاءِ (فإن عْكسَ) فقدَّمَ الماءَ على الحجرِ (كُره) نصًّا؛ لأنَّ الحجرَ بعدَ الماءِ يُقذرُ المحلَّ.
(1)
"الإنصاف"(1/ 227).
(2)
"المبدع"(1/ 94).
(3)
أخرجه أحمد (41/ 181)(24639)، والترمذي (19)، والنسائي (46) بلفظ:"أن يغسلوا عنهم" بدل "أن يتبعوا الحجارة بالماء" وصححه الألباني في "الإرواء"(42).
ويجزئُ أحدُهما، والماءُ أفضلُ.
ويُكرهُ استقبالُ القبلةِ واستدبارُها في الاستنجاء.
(ويجزئُ أحدُهما) أي: الحجرُ أو الماءُ، لحديثِ أنسٍ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدخلُ الخلاءَ، فأحملُ أنا وغلامٌ نحوي إداوةً مِن ماءٍ، وعَنَزَةً، فيَستنجي بالماءِ. متفقٌ عليه
(1)
. وحديثُ جابرٍ مرفوعًا
(2)
: "إذا ذهبَ أحدُكم إلى الغائطِ، فليستَطِبْ بثلاثةِ أحجارٍ، فإنَّها تجزئُ عنه".
(والماءُ) وحدَهُ (أفضلُ) من الحجَرِ وحده
(3)
؛ لأنَّه يطهِّرُ المحلَّ، وأبلغُ في التنظيفِ. وروَى أبو داودَ عن أبي هريرةَ مرفوعًا: نزلَتْ هذه الآيةُ في أهلِ قُباءَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قال: كانوا يستنجون بالماءِ، فنزلَتْ فيهم هذه الآيةُ
(4)
. فإنَّه ينقِّ العينَ والأثرَ.
(ويُكره استقبالُ القبلةِ واستدبارُها) ببولٍ وغائطٍ (في الاستنجاءِ) بفَضَاءٍ، أي: بلا حائلٍ، ولا يُكره في البنيانِ؛ لحصولِ الحائلِ. ويكفي بفَضَاءٍ انحرافُه، ولو يسيرًا، يمنةً أو يَسرَةً؛ لفواتِ الاستقبالِ والاستدبارِ. ويكفي حائلٌ كاستتارِه بدابَّةٍ، وجدارٍ، وجبلٍ، ونحوِه، وإرخاءُ ذيلهِ. قالَ
(5)
في "الفروعِ": وظاهرُ كلامِهم: لا
(1)
أخرجه البخاري (152)، ومسلم (271).
(2)
أخرجه أحمد (41/ 288)(24771)، وأبو داود (40)، والنسائي (44) من حديث عائشة لا من حديث جابر. وصححه الألباني في "الإرواء"(48).
(3)
في الأصل: "ونحوِه".
(4)
أخرجه أبو داود (44)، وصححه الألباني في "الإرواء"(45).
(5)
في الأصل: "قاله".
ويحرُم بروثٍ، وعظمٍ، وطعامٍ، ولو لبهيمة، فإن فَعَل، لمْ يجزِئْهُ بعدَ ذلك إلا الماء، كما لو تعدَّى الخارجُ مَوضِعَ العادة.
يُعتبرُ قربُه منها، كما لو كان في بيتٍ
(1)
. ولو
(2)
كان الحائلُ كمُؤْخِرَةِ رَحلٍ؛ لحصولِ السترِ به
(3)
.
(ويحرُمُ بروثٍ)، أي: الاستجمارُ، ولو لمأكولٍ (و) يحرُمُ بـ (عظمٍ) ولو من مذكّى؛ لحديثِ مسلمٍ
(4)
عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "لا تستنجُوا بالرَّوثِ ولا بالعظامِ، فإنَّه زادُ إخوانِكم من الجنِّ". والنهيُ يقتضي الفسادَ، وعدمَ الإجزاءِ
(و) يحرُمُ (بطعامٍ، ولو) كان الطعامُ (لبهيمةٍ)؛ لأنَّه عليه السلام، علَّلَ النهيَ عن الرَّوثِ والعظمِ بأنه زادُ الجنِّ، فزادُنا وزادُ دوابِّنَا أَوْلى؛ لأنَّه أعظمُ حرمةً. وبذي حُرمةٍ، ككُتُبِ فقهٍ وحديثٍ.
وحرُمَ أيضًا بمتصلٍ بحيوانٍ، كذنَبِ البهيمةِ، وما اتصلَ بها من نحوِ شعرٍ وصوفٍ؛ لأنَّ له حرمةً، فهو كالطعامِ، وبجلدِ سمكٍ، أو حيوانٍ مذكَّى، أو حشيشٍ رطبٍ، أو ذهبٍ وفضةٍ، ومتنجسٍ.
(فإنْ فعلَ، لمْ يجزئْه بعدَ ذلك) أي: ما تقدَّمَ. (إلَّا الماءُ، كما لو تعدَّى الخارجُ موضعَ العادةِ) بأن انتشرَ شيءٌ من الخارجِ على شيءٍ من الصَّفْحةِ، أو امتدَّ إلى الحشفةِ امتدادًا غيرَ معتادٍ؛ لأنَّ الاستجمارَ في المحلِّ المعتادِ رخصةٌ لأجل
(5)
(1)
"الفروع"(1/ 127).
(2)
سقطت: "لو" من الأصل.
(3)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 69).
(4)
أخرجه مسلم (450).
(5)
في الأصل: "لأنَّ".
ويجبُ الاستنجاءُ لكلِّ خارجٍ إلَّا الطاهرَ، والنجِسَ الذي لمْ يلوِّثِ المحلَّ.
المشقَّةِ في غسله؛ لتكرارِ
(1)
النجاسةِ فيه، بخلافِ غيرِه، كما لو تعدَّتْ لنحوِ يدِه أو رجلِه، فيتعينُ الماءُ لما تعدَّى، ويُجزئ الحجرُ في الذي في محلِّ العادةِ. قال في "الفروعِ": وظاهرُ كلامِهم: لا يمنعُ القيامُ الاستجمارَ ما لمْ يتعدَّ الخارجُ، خلافًا للشافعيِّ، ولا يجبُ الماءُ لغيرِ المتعدي. نصَّ عليه. وقيل: بلى. ويتوجَّه: مع اتصالِه. ولا
(2)
للنادرِ، خلافًا لمالكٍ
(3)
. وإن شكَّ في انتشارِ الخارجِ، لمْ يجبْ الغَسلُ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُه.
(ويجبُ الاستنجاءُ) بماءٍ، أو نحوِ حجَرٍ. (لكلِّ خارجٍ) من سبيلٍ، ولو نادِرًا كالدودِ؛ لعمومِ الأحاديثِ (إلا الطاهرَ) كالمنيِّ والريحِ، (و) إلا الخارجَ (النجسَ الذي لمْ يُلوِّثِ المحلَّ) قطعَ به في "التنقيح"، خلافًا لما في "الإنصاف"؛ لأنَّ الاستنجاءَ إنَّما شُرِعَ لإزالةِ النجاسةِ، ولا نجاسةَ هنا
(4)
.
"فائدةٌ": قال في "الإنصاف"
(5)
: لو كانتْ النجاسةُ على غيرِ السبيلين، أو على السبيلين غيرَ خارجةٍ منهما، صحَّ الوضوءُ قبل زوالِها، على الصحيحِ من المذهبِ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وقطعَ به أكثرُهم.
(1)
في الأصل: "تكرار".
(2)
سقطت: "ولا" من الأصل.
(3)
"الفروع"(1/ 137).
(4)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 77).
(5)
"الإنصاف"(1/ 236).
فَصْلٌ
يُسنُّ لداخلِ الخَلاءِ تقديمُ اليُسرى، وقولُ: بسم اللَّه، أعوذُ باللهِ من الخُبْثِ والخَبائِثِ.
قال في "الحاشية"
(1)
: فإن كانت النجاسةُ على غيرِ السبيلِ، أو عليه غيرَ خارجةٍ منه، صحَّ الوضوءُ والتيممُ قبل زوالِها. انتهى.
(فصلٌ)
(يُسنُّ لداخلِ الخلاءِ): بالمدِّ وفَتحِ الخاءِ. وأصلُه: المكانُ الخالي، سُمِّيَ به موضعُ الحاجةِ؛ لخلائِه في غيرِ وقتِها. وقال الجوهريُّ: سُمِّيَ بذلك لكونِه يُتخلَّى فيه. أي: ينفردُ. وقال أبو عبيدٍ: يقالُ لموضعِ الغائطِ: الخلاءُ، والمذهبُ، والمرفقُ، والمرحاضُ
(2)
.
(تقديمُ اليسرَى) أي: رجلِه اليسرَى دُخولًا. أي حالَ دخولِه الخلاءَ. وكذا في دخولِ الحمامِ والمغتَسَلِ ونحوِهما، كالسوقِ، ومكانِ المعصيةِ، ولمريدِ قضاءِ الحاجةِ بالصحراءِ.
(وقولُ: بسمِ اللهِ أعوذُ باللهِ من الخُبْثِ والخبائثِ) الخُبْثُ: بإسكانِ الباءِ. قالَه أبو عبيدةَ. وذكرَ القاضي عياض: أنه أكثرُ رواياتِ الشيوخِ، وفسَّرَه بالشرِّ. والخبائثُ: الشياطينُ. فكأنَّه استعاذَ من الشرِّ وأهلِه.
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 46).
(2)
انظر "المطلع" ص (8).
وإذا خرجَ قدَّم اليُمنى، وقالَ: غفرانَكَ،
وقال الخطابيُّ: هو بضمِّ الباءِ، وهو: جمعُ خبيثٍ، والخبائثُ: جمعُ خبيثةٍ. فكأنَّهُ استعاذَ من ذُكرانِ الشياطينِ وإناثِهم. وقيل: الخبثُ: الكفرُ. والخبائثُ: الشياطينُ.
(وإذا خرجَ قدَّمَ اليُمنى) لأنَّها أحقُّ بالتقديمِ إلى الأماكنِ الطيبةِ. وكذا في خروجِه من الحمَّامِ والمُغْتَسلِ ونحوِهما.
وفي غيرِ البنيانِ يقدِّمُ يسراه إلى موضعِ جلوسِه، ويمناه عند منصرفِه، مع ما
(1)
تقدُّمٍ. قاله في "الإقناع"
(2)
.
وعكسُه: مسجدٌ، وانتعالٌ، ومنزلٌ، ولبسُ نحوِ قميصٍ وخفٍّ وسراويلَ. فيقدِّمُ الأيمنَ على الأيسرِ؛ لما روى الطبرانيُّ في "المعجم الصغير"
(3)
عن أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا انتعلَ أحدُكم فليبدأْ باليمنَى، وإذا خلعَ فليبدأ باليسرَى".
(وقالَ: غفرانَك) أي: ويُسنُّ قولُ الخارجِ من خلاءٍ ونحوِه
(4)
: غفرانَك؛ لحديثِ عائشةَ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ من الخلاءِ قال: "غفرانَك". رواه الترمذيُّ
(5)
وحسنَه. وهو منصوبٌ على المفعوليةِ، أي: أسألُك غفرانَك، من:
(1)
سقطت: "ما" من الأصل.
(2)
"الإقناع"(1/ 23).
(3)
أخرجه الطبراني في "الصغير"(48)، وهو عند البخاري (5856)، ومسلم (2097).
(4)
في الأصل: "ونحوه قول".
(5)
أخرجه الترمذي (7)، وأحمد (42/ 124)(25220). وصححه الألباني في "الإرواء"(52).
الحمد لله الذي أذهَب عنِّي الأذَى وعافاني.
ويُكرهُ في حالِ التَّخلِّي استقبالُ الشمسِ والقمرِ، ومَهَبِّ الرِّيحِ، والكلامُ،
الغَفْرِ، وهو: السَّتْرُ. فلمَّا خَلَصَ مما يُثقلُ البدنَ، سألَ الخلاصَ مما يُثقلُ القلبَ، وهو الذَّنْبُ، لتكْمُلَ الراحةُ.
وسُنَّ له أيضًا أن يقولَ: (الحمدُ للهِ الذي أذهبَ عني الأذى وعافاني) لحديثِ أنسٍ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ من الخلاءِ يقولُه. رواه ابنُ ماجَه
(1)
. وفي "مصنَّفِ عبدِ الرزاقِ"
(2)
: أنَّ نوحًا عليه السلام، إذا خرجَ من الخلاءِ كانَ يقولُ
(3)
: الحمدُ للهِ الذي أذاقني لذتَه، وأبقى فيَّ منفعتَه، وأذهبَ عني أذاه.
(ويُكرَهُ في حالِ التخلي استقبالُ الشمسِ والقمرِ) لما فيهما من نورِ اللهِ تعالى، وقد روي أنَّ معهما ملائكةً، وأن أسماءَ اللهِ مكتوبةٌ عليهما.
(و) يُكره له استقبالُ (مهبِّ الريحِ) لئلا
(4)
يَرُدَّ عليه البولَ فينجسَه. أي: مع عدمِ الحائلِ في الجميعِ.
(و) يُكره (الكلامُ) أي: في الخلاءِ ونحوِه، مطلقًا، سواءٌ كان مباحًا في غيرِه كسؤالٍ عن شيءٍ، أو مستحبًّا كإجابةِ مؤذنٍ، أو واجبًا كردِّ سلامٍ. نصًّا، لقولِ ابنِ
(1)
أخرجه ابن ماجه (301). وضعفه الألباني في الإرواء (53).
(2)
لم أجده عند عبد الرزاق، وهو عند ابن أبي شيبة (1/ 12)، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(4469) من حديث عائشة.
(3)
سقط "كانَ يقولُ" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهي"(1/ 71).
(4)
سقطت: "لئلا" من الأصل.
والبول في إناءٍ،
عمرَ: مَرَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فسلَّمَ عليه وهو يبولُ، فلم يردَّ عليه. رواه مسلمٌ وأبو داودَ
(1)
، وقال: يُروى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تيممَ ثم ردَّ على الرجلِ السلامَ
(2)
.
وإنْ عطَسَ، حَمِدَ بقلبِه. وجزمَ صاحبُ "النظم" بتحريمِ القراءةِ في الحُشِّ وسطْحِه، وهو متجهٌ: على حاجتِه. وفي "الغنية": لا يتكلمُ ولا يذكرُ، ولا يزيدُ على
(3)
التسميةِ، والتعوذِ. انتهى. لكن يجبُ تحذيرُ نحو ضريرٍ وغافلٍ عن هلكةٍ
(4)
.
والمرادُ بكراهةِ الكلامِ في الخلاءِ: كراهتُه وهو على قضاءِ الحاجةِ، كما مرَّ في حديثِ ابنِ عمرَ بمعناه، لا بعدَهُ، وهو في الخلاءِ.
(و) يُكره (البولُ
(5)
في إناءٍ) بلا حاجةٍ، نصًّا. فإنْ كانتْ، لمْ يُكره؛ لقولِ أميمةَ
(6)
بنتِ رُقيقةَ، عن أمِّها: كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قَدَحٌ من عَيْدانٍ تحتَ سريرِه، يبولُ فيه بالليلِ. رواه أبو داود
(7)
. والعَيدانُ، بفتحِ العينِ: طِوالُ النخلِ.
ومن الحاجةِ أيضًا: كما لو كان في المسجدِ وقدْ أُغلقتْ أبوابُه، وليس به محلٌّ لقضاءِ الحاجةِ. ويحرمُ البولُ في المسجدِ في الإناءِ بلا حاجةٍ.
(1)
أخرجه مسلم (370)، وأبو داود (16).
(2)
أخرجه أبو داود (331)، وصححه الألباني.
(3)
سقطت "على" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهى" 1/ 67.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 67).
(5)
في الأصل: "بوله".
(6)
في الأصل: "أمية". وهو خطأ. وانظر: "الإصابة"(13/ 166).
(7)
أخرجه أبو داود (24) عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة عن أمها. وصححه الألباني.
وشَقِّ، ونارٍ، ورَمَادٍ.
ولا يكُره البولُ قائما.
ويحرمُ استقبالُ القبلة واستدبارُها في الصحراء بلا حائلٍ، ويكفي إرخاءُ ذيلِهِ.
(و) يُكره في (شَقٍّ) الشَّقُّ - بالفتحِ - هو الثقْبُ النازلُ المستطيلُ.
(و) يُكره في (نارٍ، ورمادٍ) فإنَّ البولَ على النارِ يورِثُ السقمَ، ويؤذي برائحتِه. وكذا على الرَّمادِ.
(ولا يُكره البولُ قائمًا) إنْ أمِنَ تلوثًا وناظرًا
(ويحرُمُ استقبالُ القبلةِ واستدبارُها في الصحراءِ بلا حائلٍ، ويكفي إرخاءُ ذيلِهِ) أي: ويحرُمُ بفضاءٍ لا بنيانَ فيه، استقبالُ القبلةِ واستدبارُها ببولٍ أو غائطٍ؛ لقولِه عليه السلام:"شرِّقوا أو غرِّبوا". رواه الشيخان
(1)
. ويجوزُ في البنيانِ، لما روَى الحسنُ بنُ ذكوانَ، عن مرْوانَ الأصفرِ قال: رأيتُ ابنَ عمرَ أناخَ راحلتَهُ، ثم جلسَ يبولُ إليها. فقلتُ: يا أبا عبد الرحمنِ، أليسَ قد نُهِي عن هذا؟ فقال: إنَّما نُهيَ عن هذا في الفضاءِ، أمَّا إذا كان بينَك وبينَ القبلةِ شيءٌ يسترُك، فلا. رواه أبو داود وابنُ خزيمةَ والحاكمُ
(2)
وقال: على شرطِ البخاريِّ. والحسن بن ذكوان
(3)
وإنْ كان جماعةٌ ضعَّفوه، فقد قوَّاه جماعةٌ
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (144)، ومسلم (264) من حديث أبي أيوب.
(2)
أخرجه أبو داود (11)، وابنُ خزيمةَ (60)، والحاكمُ في "المستدرك"(1/ 256)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(61).
(3)
سقطت: "والحسن بن ذكوان" من الأصل.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 69).
وأن يبولَ أو يتغوَّطَ بطريقٍ مسلوكٍ، وظلٍّ نافعٍ، وتحتَ شجرةِ عليها ثَمرٌ يُقصَدُ، وبين قبورِ المسلمين. وأن يلبثَ فوقَ حاجتِه.
"ويكفي إرخاءُ ذيلِهِ": قاله في "الفروع"
(1)
. وقد تقدَّمَ الإشارةُ إليه. ويتوجهُ: كسُترةِ صلاةٍ.
(وأن يبولَ أو يتغوطَ) أي: يحرُمُ أن يبولَ أو يتغوطَ (بطريقٍ مسلوكٍ، وظلٍّ نافعٍ) وكذا مشمَسٌ زمنَ الشتاءِ، ومُتحدَّثُ الناسِ - قال الشيخُ في "غاية المنتهى"
(2)
: ويتجه: لا على حرامٍ
(3)
. يعني: لأنَّه يجوزُ البولُ والغائطُ - لحديثِ معاذٍ مرفوعًا: "اتَّقوا المَلَاعنَ الثلاثَ: البرازُ في المواردِ، وقارعةِ الطريقِ، والظِّلِّ" رواه أبو داود وابنُ ماجه
(4)
. وبالصَّفا والمروةِ، ومحلِّ الرَّمي.
(و) يحرُمُ (تحتَ شجرةٍ عليها ثمرٌ يُقصدُ) أي: سواءٌ يؤكلُ أو لا؛ لأنَّه يُفسدُه، وتعافُه النَّفسُ. فإنْ لمْ يكنْ عليها ثمرٌ، لمْ يحرمْ، إن لمْ يكنْ لها ظلٌّ نافعٌ؛ لأنَّه يزولُ بالأمطارِ إلى مجيءِ الثمرةِ.
(و) يحرمُ (بينَ قبورِ المسلمين) لأنَّه يحصلُ به تأذيةٌ، وأذيةُ المسلمِ حرامٌ، وحرمتُه باقيةٌ حيًّا وميتًا.
(و) يحرمُ (أن يَلبثَ فوقَ) قدرِ (حاجتِهِ) أي: وهو على البولِ أو الغائطِ، لا في الخلاءِ بعد قيامِه، ولهذا علَّلوا المسألة: فإن فيه كشفَ عورةٍ بلا حاجةٍ. وقد قيل:
(1)
"الفروع"(1/ 127).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 61).
(3)
سقطت: "حرام" من الأصل.
(4)
أخرجه أبو داود (26)، وابنُ ماجه (328)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(62).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنه يُدمي الكبدَ، ويورثُ الباسورَ. وروى الترمذيُّ
(1)
عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: إياكمْ والتَّعري، فإنَّ معكم من لا يُفارقكم إلا في الغائطِ، وحين يُفضي الرجلُ إلى أهلِه، فاسْتَحْيوهم وأكْرِموهم.
"فائدةٌ": ويحرمُ منعُ المحتاجِ إلى الطَّهَّارةِ
(2)
، ولو وُقِفَتْ على طائفةٍ معيَّنةٍ، كمدرسةٍ ورباطٍ، ولو في مِلكِه، ولا أجرةَ. وإن كان في دخولِ أهل الذمَّةِ طهَّارَةَ المسلمين تضييقٌ أو تنجيسٌ، أو إفسادُ ماء
(3)
ونحوه، وجبَ منعُهم. قاله الشيخُ تقي الدين.
قال الشيخ منصور
(4)
: وفي معناهم: من عُرِفَ - من نحو الرافضة - بالإفسادِ على أهلِ السنةِ، فيُمنَعُون من مطاهِرِهم.
* * *
(1)
أخرجه الترمذي (2800)، وضعفه الألباني.
(2)
بتشديد الهاء، أي: الميضأة المعدَّة للتطهير، والحش. انظر "كشاف القناع"(1/ 142).
(3)
في الأصل: "أو فسادها".
(4)
"دقائق أولي النهي"(1/ 78).
بابُ السِّواكِ
(بابُ السواكِ)
اسمٌ للعودِ الذي يُتسوَّكُ به، وكذلك المِسواكُ، بكسر الميم. قال ابنُ فارسٍ: سُمِّيَ بذلك لكونِ الرجلِ يُردِّدُه في فيه ويحرِّكُه. يقالُ: جاءتْ الإبلُ تَسَاوكُ. إذا كانت أعناقُها تضطربُ من الهزالِ. وقيل: من ساكَ، إذا دلَكَ. وهو يُذكَّرُ ويُؤنَّثُ. وقيل: يُذكَّرُ فقط. وجمعُه: سُوُكٌ ككُتُب. ويقالُ: سُؤكٌ بالهمزِ.
واشتقاقُه: قيل: هو مشتقٌّ من الدَّلكِ. وقيل: من التمايلِ، يقالُ: استاكتْ الإبلُ، إذا تمايلتْ، قال في "المطلع": والأوَّلُ أصحُّ. ويطلقُ السواكَ على الفعلِ
(1)
.
وهو شرعًا: استعمالُ العودِ في الأسنانِ؛ لإذهابِ التغير ونحوِه.
وأوَّلُ من استاكَ إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام. قاله الحجاويُّ في "الحاشية".
قال في "الفروع"
(2)
: السواكُ باعتدالٍ يُطيِّبُ الفمَ والنَّكْهةَ، ويجلو الأسنانَ، ويُقوِّيها، ويَشدُّ اللِّثةَ، قال بعضُهم: ويُسمِّنُها، ويقطعُ البلغمَ، ويجلو البصرَ، ويمنعُ الحفرَ - أي: تقشرُ أصولِ الأسنانِ - ويذهبُ به، ويُصحُّ المعدةَ، ويُعينُ على الهضمِ، ويُشهِّي الطعامَ، ويصفِّي الصوتَ، ويسهِّلُ مجاري الكلامِ، وينشِّطُ، ويطردُ النومَ، ويخفِّفُ عن الرأسِ، وفمِ المعدةِ. انتهى.
(1)
انظر "المبدع"(1/ 98)، "المطلع" ص (10).
(2)
"الفروع"(1/ 147).
يُسن بعودٍ رَطْبٍ لا يتفتَّت.
وهو مسنونٌ مطلقًا، إلَّا بعدَ الزوالِ للصَّائم، فيكره،
قال بعضُهم
(1)
: وتغذية جائعٍ، ومُضاعفةُ أجرٍ، ورضا ربٍّ، وإرهابُ عدوٍّ، وإرغامُ الشيطانِ، وتذكيرُ الشهادةِ عندَ الموتِ.
(يُسنُّ بعودٍ رطبِ) أي: ليِّن. ولو عَبَّر به "كالمقنع" وغيرِهِ، لكانَ أولى. فيشملُ اليابسَ المندَّى. قالهَ الشيخ منصورٌ في "شرحِه"
(2)
. (لا يتفتَّتُ) في الفمِ
(وهو) أي: السواكُ (مسنونٌ) خبَرٌ لـ"السواك"(مطلقًا) جميع الأوقاتِ والأحوالِ؛ لحديثِ عائشةَ: "السواكُ مطهرةٌ للفمِ، مرضاةٌ للربِّ". رواه الشافعيُّ، وأحمدُ، وابنُ خزيمةَ، والبخاريُّ تعليقًا
(3)
. ورواه أحمدُ أيضًا عن أبي بكرٍ
(4)
وابنِ عمرَ
(5)
. وروى مسلمٌ وغيرُه
(6)
عن عائشةَ: أنه عليه السلام، كان إذا دخلَ بيتَه بدأَ بالسواكِ.
(إلا بعدَ الزوالِ للصائمِ، فيُكره) لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "لَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ من ريحِ المسكِ". متفقٌ عليه
(7)
. وهو إنَّما يظهرُ غالبًا بعدَ
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 65).
(2)
"دقائق أولي النهي"(1/ 79).
(3)
أخرجه الشافعي في الأم 1/ 23 - ومن طريقه البيهقي 1/ 34 - وأحمد 40/ 240، 390 (24203، 24332)، والنسائي (5)، وابن خزيمة (135)، وعلقه البخاري عقب (1933). وصححه الألباني في الإرواء (66).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 186)(7).
(5)
أخرجه أحمد (10/ 106)(5865).
(6)
أخرجه مسلم (253)، وأحمد (42/ 358)(25553).
(7)
أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).
ويُسنُّ له قبلَه بعُودٍ يابسٍ، ويباحُ برطْبٍ.
الزوالِ. ولأنَّه أثر عبادةٍ مُستطابٌ شرعًا، فتستحبُّ إدامتُه، كدمِ الشَّهيدِ عليه.
(ويُسنُّ له قبله بعودٍ يابسٍ) للصائمِ قبلَه؛ لقولِ عامرِ بنِ ربيعةَ: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما لا أُحصي، يتسوَّكُ وهو صائمٌ. رواه أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
. وعن عائشةَ مرفوعًا: "مِن خيرِ خصالِ الصائمِ: السواكُ". رواه ابنُ ماجه
(2)
. وهذان الحديثان محمولان على ما قبلَ الزوالِ؛ لحديثِ البيهقيِّ عن عليٍّ مرفوعًا
(3)
: "إذا صمتمْ فاستاكوا بالغداةِ، ولا تستاكوا بالعشيِّ". والرَّطبُ مَظنَّةُ التحلُّلِ منه، فلذلك أُبيحَ السواكُ به، بخلافِ اليابسِ، فيستحَبُّ كما تقدَّمَ
(4)
.
(ويباحُ) السواكُ (بـ) عودٍ (رطبٍ): أي: ليِّن، كما عبَّرَ في "الوجيز" وغيرِه. فيشملُ الأخضرَ واليابسَ المندَّى. قال في "الهداية" "وشرحها" للمجد: ويكونُ يابسًا قد نُدِّي بالماءِ. قال: وذلك لخضرةٍ تتحلَّلُ منه أجزاءٌ، واليابسُ من غيرِ بللٍ ربَّما جَرَحَ. فينعكسُ مقصودُ التنظيفِ والتطهيرِ؛ والسواكُ إنَّما هو مطهرةٌ، كما جاءَ الخبرُ. انتهى.
ولا فرقَ بينَ سائرِ الأعوادِ على المذهبِ. وفي "الرعاية الكبرى": من أراكٍ، أو زيتونٍ، أو عُرجُونٍ، واقتصرَ عليها كثيرٌ من الأصحابِ.
وفي "الفروع"
(5)
: يُكره بقَصَبٍ كريحانٍ ورمَّانٍ وآسٍ ونحوِها. قال بعضُهم:
(1)
أخرجه أحمد (24/ 447)(15678)، وأبو داود (2364)، والترمذي (725). وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1677)، وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه البيهقي (4/ 274) موقوفاً على عليٍّ، وضعفه الألباني في "الإرواء"(67).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 81).
(5)
"الفروع"(1/ 148).
ولم يُصبِ السنَّة مَنِ استاكَ بغيرِ عُودٍ.
ويتأكَّدُ عند وُضُوءٍ، وصلاةٍ، وقراءةٍ،
ولا يتسوكُ بما يجهلُه؛ لئلا يكونَ من ذلك، أي: المذكور.
"فائدةٌ": يستحبُّ غسلُ ما على السواكِ بسبب التسوكِ، وإن لمْ يغسلْه، ولم يكنْ عليه شيءٌ كثيرٌ، فلا بأسَ، وإن كان سواكَ غيرِه
(ولم يصبِ السنَّةَ من استاكَ بغيرِ عودٍ) كمَن استاكَ بإصبعِهِ أو خرقةٍ؛ لأنَّه لا يحصلُ به الإنقاءُ كالعودِ. ولأنَّ الشرعَ لمْ يردْ به
(ويتأكدُ عندَ وضوءٍ) لحديثِ أحمدَ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا:"لأمرتهم بالسواكِ مع كلِّ وضوءٍ" وهو للبخاريِّ تعليقًا
(1)
.
(و) عندَ (صلاةٍ) لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: " لولا أن أشقَّ على أمتي [لأمرتهم بالسواكِ عند كل صلاة" رواه الجماعة
(2)
. وفي لفظ لأحمد]
(3)
: "لفرضتُّ عليهم السواكَ، كما فرضتُ عليهم الوضوءَ"
(4)
. قال الشافعيُّ: لو كان واجبًا لأمرَهم به، شقَّ أو لمْ يشقَّ.
(و) عندَ (قراءةِ) قرآنٍ؛ تطييبًا للفم، حتى لا يتأذَّى الملَكُ عند تلقِّي
(1)
أخرجه أحمد (12/ 374)(7412)، وعلقه البخاري قبل حديث (1934). وصححه الألباني في "الإرواء"(70).
(2)
أخرجه البخاري (887)، ومسلم (252)، وأحمد (2/ 272)(967)، وأبو داود (46)، والترمذي (22)، والنسائي (7)، وابن ماجه (287).
(3)
سقط ما بين المعكوفين من الأصل. والتصويب من "دقائق أولي النهى"(1/ 82).
(4)
أخرجه أحمد (3/ 334)(1835) من حديث تمام بن العباس عن أبيه. وصححه الألباني في "الصحيحة"(3067).
وانتباهٍ من نومٍ، وتغيُّر رائحةِ فَمٍ، وكذا عندَ دخولِ مسجدٍ ومنزلٍ، وإطالةِ سُكُوتٍ، وصُفْرة أسنَانٍ.
ولا بأس أن يتسوَّك بالعودِ الواحدِ اثنان، فصاعِدًا.
فَصْلٌ
يُسنُّ حَلقُ العانِة
،
القراءة
(1)
منه.
(و) يتأكدُ عندَ (انتباهٍ من نوم) ليلٍ أو نهارٍ.
(و) عند (تغيرِ رائحةِ فمٍ، وكذا عند
(2)
دخولِ مسجدٍ ومنزلٍ، وإطالةِ سكوتٍ، وصُفرةِ أسنانٍ. ولا بأسَ أنَّ يتسوَّكَ بالعودِ الواحدِ؛ اثنان فصاعدًا) يعني: ويجوزُ أن يستاكَ بالعودِ الواحدِ، اثنان فأكثرَ.
(فصلٌ)
(يسنُّ حلقُ العانةِ) وهو: الشعرُ النابتُ حولَ الفَرجِ بالحَلقِ، وإن استعمَلَ النُّورَةَ
(3)
، فحسنٌ. وله قصُّه
(4)
وإزالتُه بما شاءَ. والتنويرُ في العورةِ وغيرِها، فعلَه أحمدُ، وكذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم. رواه ابنُ ماجه من حديثِ أمِّ سلمةَ
(5)
.
(1)
في الأصل: "القرآنِ".
(2)
سقطت: "عند" من الأصل.
(3)
النُّورَةُ: بضم النون، حجر الكلس، ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر. "المصباح المنير".
(4)
في الأصل: "قصها".
(5)
أخرجه ابن ماجه (3751)، وضعفه الألباني.
ونتفُ الإبطِ، وتقليمُ الأظفار، والنظرُ في المِرَآة،
وأولُ من صُنِعَتْ له النورةُ ودخلَ الحمَّامَ: سليمانُ بنُ داودَ عليهما السلام؛ وذلك أنه لما تزوجَ بلقيسَ قالتْ: لمْ يمسني حديدٌ قطٌّ. فقال سليمانُ للشياطينِ: انظروا إلى شيءٍ يَذهبُ بالشعرِ، فقالوا: النورةُ. فكانَ أولَ من صُنِعَتْ له
(1)
(و) يسنُّ (نتفُ الإبطِ) لحديث أبي هريرةَ مرفوعًا: "الفطرةُ خمسٌ: الختانُ، والاستحدادُ، وقصُّ الشاربِ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبطِ". متفقٌ عليه
(2)
.
ويستحبُّ دفنُ ما أخذَهُ من أظفارِه أو شعرِه. قال أحمدُ: كانَ ابنُ عمرَ يفعلُه. وهو بكسر الباء
(3)
.
(و) يسنُّ (تقليمُ الأظفارِ) مخالِفًا، وغَسلُها بعدَه، يومَ الجمعةِ قبلَ الزوالِ. فيبدأُ بخِنصَرِ اليُمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهامِ، ثم البِنصَرِ، ثم السبابةِ، ثم إبهامِ اليسرَى، ثم الوسطى، ثم الخنصرِ، ثم السبابةِ، ثم البنصرِ. وسُنَّ أن لا يحيفَ عليها في السفرِ والغزوِ.
ويفعلُ ذلك كلَّ أسبوعٍ، ويُكره تَرْكُه فوقَ أربعين.
(و) يسنُّ (النظرُ في المرآةِ) بكسرِ الميمِ مع المدِّ والهمزِ. ويسنُّ أن يقولَ عندَ نظرِه فيها: "اللهم كما حسَّنتَ خَلقي، فحسِّنْ خُلُقي، وحرِّمْ وجهي على النَّارِ"
(4)
.
(1)
انظر "الآداب الشرعية"(3/ 321).
(2)
أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257).
(3)
أي: الإبط.
(4)
أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير"(438) من حديث عائشة، وأخرجه أبو يعلى (2611) من حديث ابن عباس، وروي عن جمع من الصحابة. وقال الألباني في "الإرواء" (74): ومما سبق يتبين أن هذه الطرق كلها ضعيفة
…
من أجل ذلك لا يصح الاستدلال بالحديث على مشروعية هذا الدعاء عند النظر في المرآة .. نعم لقد صح هذا الدعاء عنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا دون تقييد بالنظر في المرآة.
والتطيُّبُ بالطِّيب، والاكتِحالُ كُلَّ ليلةٍ في كلِّ عينٍ ثلاثًا، وحفُّ الشارب، وإعفاءُ اللِّحية، وحرُم حلقُها، ولا بأس بأخذِ ما زادَ على القبضةِ منها.
(و) يسنُّ (التطيُّبُ بالطِّيبِ) يسنَّ للرجلِ بما يَظهرُ ريحُه ويخفى
(1)
لونُه، وللمرأةِ في غيرِ بيتِها عكسُه؛ لحديثِ أبي أيوبَ مرفوعًا:"أربعٌ من سُننِ المرسلين: الحياءُ، والتعطرُ، والسواكُ، والنكاحُ". رواه أحمدُ
(2)
.
(و) يسنُّ (الاكتحالُ كلَّ ليلةٍ، في كلِّ عينٍ ثلاثًا) قبلَ النومِ بإثمدٍ مُطيَّبٍ بمسكٍ؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: "كان يكتحلُ بالإثمدِ كلَّ ليلةٍ قبلَ أن ينامَ، وكان يكتحلُ في كلِّ عينٍ ثلاثةَ أميالٍ". رواه أحمدُ، والترمذيُّ، وابنُ ماجه
(3)
.
(و) يسنُّ (حفُّ الشاربِ) أو قصُّ طرَفِه. وحفُّه أَوْلى، وهو المبالغةُ في قصِّهِ. ومنه السِّبالان، وهما طرَفاه؛ لحديثِ أحمدَ
(4)
: "قصُّوا سِبالاتِكم، ولا تشبَّهوا باليهودِ". سُمِّيَ بالشاربِ؛ لانغماسِه في الشرابِ
(5)
.
(و) يسنُّ (إعفاءُ اللحيةِ، وحرُمَ حلقُها، ولا بأسَ بأخذِ ما زادَ على القبضةِ منها) ولا يُكره أخذُ ما زادَ على القبضةِ، وما تحتَ حلقِه. وأخَذَ أحمدُ من حاجبَيه وعارضَيه. نقلَهُ ابنُ هانئٍ.
(1)
في الأصل: "وخفي".
(2)
أخرجه أحمد (38/ 554)(23581)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(75).
(3)
أخرجه أحمد (5/ 343)(3320)، والترمذي (2048)، وابن ماجه (3499) من حديث ابن عباس. وقال الألباني في "الإرواء" (76): ضعيف جدًّا.
(4)
أخرجه أحمد (36/ 613)(22283) من حديث أبي أمامة. بلفظ: "قُصُّوا سِبَالَكُم ووفِّرُوا عَثَانِينَكُم وخالِفُوا أهل الكتاب" وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(7114).
(5)
في الأصل: "الشرب".
والخِتانُ واجبٌ على الذَّكَرِ والأُنثى عند البلُوغ، وقبلَه أفضلُ.
(والختانُ واجبٌ على الذَّكرِ والأنثى عندَ البلوغِ، وقبلَه أفضلُ) الختانُ: أخذُ جلدةِ الحشفةِ. وقال جمعٌ: إن اقتصرَ على أكثرِها، جازَ، هذا في الذكرِ. والأنثى: أخذُ جلدةٍ فوقَ محلِّ الإيلاجِ، تُشبه عَرْفَ الديكِ. ويسُتحبُّ أن لا تؤخذَ كلُّها. نصًّا؛ لحديثِ:"اخفضِي ولا تَنْهكي، فإنَّه أنضرُ للوجهِ، وأحظَى عندَ الزَّوجِ" رواه الطبرانيُّ، والحاكمُ
(1)
، عن الضحاكِ بنِ
(2)
قيسِ مرفوعًا.
وللرجلِ جبرُ زوجتِه المسلمةِ عليه. ودليلُ وجوبه: قولُه صلى الله عليه وسلم لرجلٍ أسلمَ: "ألقِ عنك شعرَ الكفرِ، واختتنْ". رواه أبو داودَ
(3)
.
وإن ترَكَ الختانَ من غيرِ ضرر
(4)
، وهو يعتقدُ وجوبَه، فَسَقَ. قاله في "مجمع البحرين". ومَنْ وُلدَ ولا قُلفةَ له، سقطَ وجوبُه
(5)
.
وقوله: "عند البلوغِ" متعلِّقٌ بـ: "يجبُ"؛ لأنَّه قبلَ ذلك ليس مُكلَّفًا. وزمنُ صغرٍ أفضلُ؛ لأنَّه أقربُ إلى البرءِ. قال في "الإنصاف"
(6)
: على الصحيحِ من المذهبِ. زادَ جماعةٌ كثيرةٌ من الأصحابِ: إلى التمييزِ. قال الشيخُ
(7)
: هذا المشهورُ. وقال في "الرعايتين"، "والحاويين": يُسنُّ ما بين سبعٍ إلى عشرٍ.
فإن خافَ على نفسِه تلفًا أو ضررًا، سقطَ وجوبُه.
(1)
أخرجه الطبراني (8137)، والحاكم (3/ 603)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(336).
(2)
في الأصل: "وعن". والمثبت من مصدر التخريج، و"دقائق أولي النهي"(1/ 86).
(3)
أخرجه أبو داود (356)، وحسنه الألباني.
(4)
في الأصل: "ضرورةٍ".
(5)
انظر: "الإقناع"(1/ 35).
(6)
"الإنصاف"(1/ 269).
(7)
مراده: الشيخ تقي الدين.
بابُ الوُضُوءِ
(بابُ الوضوءِ)
بضمِّ الواو: فِعلُ المتوضئِ من الوضاءَةِ، وهي: النظافةُ والحسنُ؛ لأنَّه ينظفُ المتوضئَ ويحسنُه. وبفَتحِها: الماءُ يُتوضَّأُ به.
فُرِضَ مع الصَّلاةِ. رواه ابنُ ماجه. وذلك قبلَ الهجرةِ بسَنةٍ. وليس من خُصُوصيَّاتِ هذه الأمَّةِ، وإنما الخاصُّ بها الغرَّةُ والتحجيلُ.
وشرعًا: استعمالُ ماءٍ طَهورٍ
(1)
في الأعضاءِ الأربعةِ: الوجهِ
(2)
، واليدينِ، والرأسِ، والرجلينِ، على صفةٍ مخصوصةٍ يأتي بيانُها.
ويجبُ بحدَثٍ أي: بسببِه. وفي "الانتصار": بإرادةِ الصَّلاةِ بعده. قال ابنُ الجوزيِّ: لا تجبُ الطهارةُ عن حدثٍ ونجسٍ قبل إرادةِ الصَّلاةِ، بل تُستحبُّ. قال في "الفروع": ويتوجَّهُ: قياسُ المذهبِ: بدخولِ الوقتِ؛ لوجوبِ الصَّلاةِ؛ إذ وجوبُ الشرطِ بوجوبِ المشروطِ. وبه جزَمَ في "الإنصاف"
(3)
.
قال في "الفروع": ويتوجَّهُ مثلُه في غُسلٍ، قال الشيخُ تقي الدين: وهو لفظيٌّ. أي: والخلافُ لفظيٌّ، لا في المعنى، فلا يجبُ الوضوءُ ولا الغسلُ إلا بعد دخولِ الوقتِ وإرادةِ الصَّلاةِ.
(1)
في الأصل: "طور".
(2)
في الأصل: "وهي الوجه".
(3)
انظر "الفروع"(1/ 192)، "الإنصاف"(2/ 5).
تجِبُ فيه التسميةُ، وتسقُطُ سهوًا،
لكن ناقَشَ فيه ابنُ نصرِ اللهِ، وابنُ قندسٍ في "حاشية الفروع" بغَسلِ الشَّهيدِ، وغُسلِ الحائضِ لجنابةٍ عليهِما قبله؛ إذ مقتضى ذلك: أنَّ الواجِبَ ثبَتَ بالحدثِ؛ إذ لو كان بإرادة
(1)
الصَّلاةِ أو بدخولِ الوقتِ، لما أوجبوه بدونهما.
قلتُ: وهذا غيرُ واردٍ على كلامِ الأصحابِ، إذ هو في وضوءٍ أو غُسلٍ يُرادُ للصلاةِ؛ بدليلِ السِّياقِ. قال المصنِّفُ في "الغاية"
(2)
: "ويجبُ بحدثٍ عند إرادةِ ما يَتوقفُ على طهارةٍ" وهذه العبارةُ أحسنُ من غيرِها! أو أنَّه يجبُ وجوبًا موسَّعًا، ويتحتَّمُ بإرادةٍ الصَّلاةِ، أو بدخولِ الوقتِ.
(تجبُ فيه التسميةُ) أي: قولُ: بسمِ اللهِ، لا يقومُ غيرُها مقامَها، كاسمِ الخالقِ، أو بسم الرحمنِ، أو القدوسِ، ونحوِه، أو اللهُ أكبرُ، لمْ يجزئه.
ومحلُّها: اللِّسانُ؛ لأنها ذكرٌ. ومحلُّ كمالِها: عقبَ النيةِ؛ لتشملَ كلَّ مفروضٍ أو مسنونٍ. ومحلُّ الإجزاءِ: عندَ أوَّلِ واجبٍ.
والدليلُ على وجوبِها: ما روى أبو هريرةَ رضي الله تعالى عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لا صلاةَ لمن لا وضوءَ له، ولا وضوءَ لمن لمْ يذكرِ اسمَ اللهِ عليه". رواه أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجه
(3)
.
(وتسقطُ سهوًا) نصًّا - قال الشيخُ في "الغاية"
(4)
: وتسقطُ جهلًا - لحديثِ:
(1)
في الأصل: "بادرة".
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 70).
(3)
أخرجه أحمد (15/ 243)(9418)، وأبو داود (101)، وابن ماجه (399)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(81).
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 70).
وإن ذكَرها في أثنائهِ ابتدأ.
وفروضُه ستَّة:
"عُفي لأمتي عن الخطأِ والنسيانِ"
(1)
.
(وإن ذكرَها في أثنائِه ابتدأً) الوضوءَ؛ لأنَّه أمكنَه أن يأتيَ بها على جميعِه، فوجبَ، كما لو ذكرها في أوَّلِه. صحَّحه في "الإنصاف"، وحكاه في "الفروع"
(2)
. وقيل: يأتي بها حيثُ ذكرَها، ويَبني على وضوئِه. قطعَ به في "الإقناع"
(3)
. قال الشيخُ في "الغاية"
(4)
: ويتجه: ويَبني معَ ضِيقِ وقتٍ، أو قلَّةِ ماءٍ.
وعنه: أنها فَرضٌ لا تَسقُطُ بحالٍ.
وعُلمَ مما تقدَّمَ: أنه لو لمْ يذكرْها حتى فرَغَ من وضوئِه، لمْ يلزمْه إعادتُه.
وتَكفي إشارةُ أخرسَ ونحوِه كالمعتَقَلِ لسَانُه بها؛ لأنَّ ذلك غَايةُ ما يمكِنُه. قال ابنُ نصرِ اللهِ: وقد يُلحقُ بذلك مَنْ توضأَ في مكانٍ يمتنعُ عليه ذكرُ اللهِ فيه.
والإشارةُ إمَّا بالإصبَعِ، أو بالطَّرفِ، أو برأسِه.
(وفروضُه ستةٌ) أي: الوضوءِ. جَمعُ فرضٍ، وهو: ما يترتبُ الثوابُ على فعلِه، والعقابُ على تركِه. وهو ستةٌ:
(1)
أخرجه ابن حبان (7219)، والطبراني (11274)، والبيهقي 7/ 356 من حديث ابن عباس بلفظ:"إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرجه ابن ماجه (2045) بلفظ: "إن الله وضع
…
". وصححه الألباني في "الإرواء" (82).
(2)
انظر "الإنصاف"(1/ 277)، "الفروع"(1/ 173).
(3)
"الإقناع"(1/ 41).
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 70).
غَسلُ الوجه، ومنه المضمضةُ والاستنشاقُ، وغَسل اليدين مع المِرفقين، ومسحُ الرأس كلِّه،
أحدُها: (غسلُ الوجهِ) لقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. (ومنه) أي: من الوجهِ (المضمضةُ والاستنشاقُ) للفمِ والأنفِ؛ لدخولِهما في حدِّه، وكونِهما في حكمِ الظاهرِ؛ بدليلِ غسلِهما من النجاسةِ، وفِطرِ الصائمِ بعَودِ القيءِ بعدَ وصولِ شيءٍ إليهما.
(و) الثاني: (غَسلُ اليدين معَ المِرفَقين) لقولِه تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. وكلمةُ "إلى" تستعملُ بمعنى "مع" كقولِه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
فيجبُ إدخالُ المرفقين في الغَسلِ. والمرفق - بكسر الميم وفتح الفاء، وعكسه - سُمِّيَ به لأنَّه يُرتَفَقُ به في الإتِّكاءِ عليه. وقد روى الدارقطنيُّ
(1)
عن جابرٍ قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا توضَّأَ، أدارَ الماءَ على مرْفقيه.
(و) الثالثُ: (مسحُ الرأسِ كلِّه) لقولِه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباءُ فيه للإلصاقِ، فكأنَّه قال: امسحوا رؤوسَكم. قال ابنُ بَرهان: من زعمَ أن الباءَ للتبعيضِ، فقد جاءَ أهلَ
(2)
اللغةِ بما لا يعرفونه. ولأنَّ الذين وصفوا وضوءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكروا أنَّه مسحَ رأسَه كلَّه. وما رُوي أنَّه عليه السلام مسحَ مقدَّمَ رأسِه، فمحمولٌ على أن ذلك مع العمامة، كما جاء مفسَّرًا في حديثِ المغيرةِ بنِ
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 83)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع".
(2)
في الأصل: "عن".
ومنه الأذنان، وغَسلُ الرجلين مع الكعبين،
شعبةَ
(1)
، ونحن نقولُ به. وعَفَى في "المبهج"، و"المترجم" عن يسيرِه، للمشقَّةِ. وصوَّبه في "الإنصاف". قال الزركشي: وظاهرُ كلامِ الأكثرين بخلافِه
(2)
.
(ومنه الأذنانِ) الأذُنُ: بضمِّ الهمزة معَ ضمِّ الذال المعجمة، وسكونها. لحديثِ ابنِ ماجه وغيرِه
(3)
من غيرِ وجهٍ مرفوعًا: "الأذنانِ من الرأسِ". فيجبُ مسحُهُما.
(و) الرابعُ: (غسلُ الرجلين معَ الكَعبين) لقولِه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] قُرئ: أرجلَكم. بالنصب، وهي قراءةُ ابنِ عامرٍ، فتكونُ معطوفةً على المغسولِ. وقُرئ بالجرِّ؛ للمجاورةِ. كقولِه تعالى:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] بالمجاورةِ ليومٍ. مع أنَّه صفةٌ لعذابٍ، وهو منصوبٌ. ورُدَّ بأن الإعرابَ بالمجاورةِ شاذٌّ، فلا ينبغي حملُ الكتابِ العزيزِ عليه.
وقيل: بل بالعطفِ على الممسوحِ، وأنَّ المرادَ: مسحُ الخفين، على قراءةِ الجرِّ، وغسلُ الرجلين على قراءةِ النصبِ.
وإذا احتملتْ الأمرين: وجبَ الرجوعُ إلى فعلِه عليه السلام؛ لأنَّه مبيِّنٌ، إما بقولِه، وإما بفعلِه، وقد قال عليه السلام في حديثِ عمرِو بنِ عبَسة
(4)
: ثم غسلَ
(1)
يشير إلى حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح ناصيتَه، وعمامتَه، وعلى الخفين. أخرجه النَّسَائِيّ (107)، وصححه الألباني.
(2)
انظر "الإنصاف"(1/ 348).
(3)
أخرجه ابن ماجه (444). وهو عند أبي داود (134)، والترمذي (37) من حديث أبي أمامة. وصححه الألباني في "الإرواء"(84).
(4)
في الأصل: "عشة" والحديث أخرجه أحمد (28/ 239)(17019)، وأصله عند مسلم (832).
والترتيبُ،
رجليه كما أمرَ اللهُ. فثبَتَ أنَّ اللهَ تعالى إنَّما أمرَ بالغَسلِ، لا بالمسحِ.
ويَحتَمِلُ أنه أرادَ بالمسحِ: الغَسلَ الخفيفَ. قال أبو علي الفارسيُّ: العربُ تسمِّي خفيفَ الغَسلِ: مَسحًا. فيقولون: تمسَّحتُ للصَّلاةِ. أي: توضَّأتُ
(1)
.
وخُصَّتِ الأرجلُ بذلك دونَ بقيةِ الأعضاءِ؛ لأنها تُقصدُ بصبِّ الماءِ كثيرًا، فهي في مظنَّةِ الإسرافِ المنهيِّ عنه، فلذلك عطفتْ على الممسوحِ؛ تنبيهًا على الاقتصارِ في صبِّ الماءِ. وقيل: إلى الكعبين. ليزولَ وهْمُ مَنْ يظُنُّها ممسوحةً؛ إذ المسحُ لمْ يحددْ في كتابِ اللهِ تعالى، بخلافِ الغَسلِ
(2)
. وحينئذٍ معنى القراءتين واحدٌ؛ وهو الغَسلُ.
والمرادُ بالكعبين
(3)
: قال الجوهري: الكَعبُ: العظمُ الناتئُ عند ملتقى الساقِ والقَدَمِ. وأنكرَ الأصمعيُّ قولَ الناسِ: إنه في ظَهرِ القَدمِ. قاله في "المطلع"
(4)
.
(و) الخامسُ: (الترتيبُ) بين الأعضاءِ، كما ذكرَ اللهُ تعالى؛ لأنَّه أدخلَ ممسوحًا بين مغسولَينِ، وقطعَ النظير
(5)
عن نظيرِه، وهذه قرينةُ إرادةِ الترتيبِ. وتوضَّأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مرتَّبًا، وقال:"هذا وضوءٌ لا يقبلُ اللهُ الصَّلاةَ إلا به"
(6)
أي: بمثلِهْ
(1)
انظر "الشرح الكبير"(1/ 298).
(2)
"شرح الزركشي"(1/ 195).
(3)
في الأصل: "بالكفَّين".
(4)
"المطلع" ص (14).
(5)
في الأصل: "النظر".
(6)
قال الألباني في الإرواء (85): لا أعلم له أصلاً بذكر الترتيب فيه، إلا ما سيأتي من رواية ابن السكن عن أنس - ثم ذكره نقلًا عن الحافظ في "التلخيص" - ثم ضعفه الألباني. والحديث أخرجه ابن ماجه (419)، والبيهقي 1/ 80 من حديث ابن عمر، وليس فيه ذكر الترتيب.
والموالاةُ.
وما رُوي عن عليٍّ: ما أُبالي إذا أتممت
(1)
وضوئي بأيِّ أعضائي بدأتُ
(2)
. قال أحمدُ: إنَّما عَنَى به اليُسرى قبلَ اليمنى؛ لأنَّ مخرجَهما في الكتابِ واحدٌ. وروى أحمدُ بإسنادِه: أنَّ عليًّا سُئِلَ، فقيل له: إنَّ أحدَنا يستعجلُ فيغسلُ شيئًا قبل شيءٍ؟ فقالَ: لا، حتى يكونَ كما أمرَ اللهُ تعالى.
وما رُويَ عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: لا بأسَ أن تبدأَ برجليك قبلَ يديك في الوضوءِ
(3)
. فلا يُعرفُ له أصلٌ.
والواجبُ الترتيبُ، لا عدمُ التنكيس. فلو وضَّأه أربعةٌ في حالةٍ واحدةٍ، لمْ يجزئْه. ولو انغمسَ في ماءٍ راكدٍ أو جارٍ، ينوي رفعَ الحدثِ، لمْ يرتفعْ، حتى يخرجَ مرتبًا مع مسحِ رأسِه في محلِّه، على ما تقدَّمَ: أنَّ الجاري كالراكدِ، خلافًا لما ذكرَه جمعٌ هنا. وإن نكَّسَ وضوءَه، لمْ يحتسبْ بما غسلَه قبلَ وجهِه. وإنْ توضَّأَ منكسًا أربَع مراتٍ، صحَّ وضوؤه إذا كان متقاربًا يحصلُ له من كلِّ وضوءٍ غسلُ عضوٍ
(4)
. ولو غسلَ أعضاءَه دُفعةً واحدةً لمْ يصحَّ، إلَّا غَسلُ وجهِه.
(و) السادسُ: (الموالاةُ) لحديثِ خالدِ بنِ معدانَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي وفي ظهرِ قَدَمِه لُمعةٌ قدرَ الدرهمِ ولم يصبْها الماءُ، فأمرَه أن يعيدَ الوضوءَ. رواه أحمدُ وأبو داودَ
(5)
، وزادَ:"والصَّلاة". وفي إسنادِه بقيَّةُ، وهو ثقةٌ، روى له
(1)
في الأصل: "غمسْتُ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 43)، والدارقطني (1/ 88).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 43)، والدارقطني (1/ 89).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 99).
(5)
أخرجه أحمد 24/ 251 (15495)، وأبو داود (175) من حديث خالد بن معدان، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مسلمٌ. ولو لمْ تجبْ الموالاةُ، لأمر بغسلِ اللُّمْعَةِ فقط. ولأنَّ الوضوءَ عبادةٌ يفسدُها الحدثُ، فاشترطت
(1)
لها الموالاةُ، كالصَّلاةِ. ولم يُنقلْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه توضَّأَ إلا متواليًا. ولم يُشترطْ في الغُسلِ ترتيبٌ ولا موالاةٌ؛ لأنَّ المغسولَ فيه بمنزلةِ عضوٍ واحدٍ.
وهي: أن لا يؤخِّرَ غَسلَ عضوٍ حتى يجفَّ ما قبله بزمنٍ معتدلٍ، أو قدرِه - أي: قدرِ الزمنِ المعتدلِ - من غيرِه، أي: غيرِ المعتدلِ؛ بأن كان حارًّا أو باردًا.
قال العلامةُ الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(2)
: الاعتبارُ في المعتدلِ بما بين ليلٍ ونهارٍ.
وتفوتُ الموالاةُ إن جفَّ عضوٌ، أو بعضُه قبلَ غسلِ ما بعدَهُ، أو بقيَّتِه؛ لاشتغالٍ بتحصيلِ ماءٍ يُتَمِّمُ به وضوءَه، أو إسرافٍ، أو إزالةِ نجاسةٍ، أو إزالةِ وسَخٍ ونحوِه، كجبيرةٍ حلَّها لغيرِ طهارةٍ، بأن كان ذلك في غيرِ أعضاءِ الوضوءِ، فإن
(3)
كان فيها، لمْ يؤثِّرْ؛ لأنَّه إذنْ من أفعالِ الطهارةِ.
ولا يضرُّ اشتغالُه بسنَّةٍ من سننِ الوضوءِ، كتخليلِ لحيةٍ، أو إسباغِ الماءِ، أي: إبلاغِه مواضعَه من الأعضاءِ؛ بأن يوفِّىَ كلَّ عضوٍ حقَّه. وإزالةِ شكٍّ، وإزالةِ وسوسةٍ؛ لأنها شكٌّ في الجملةِ.
= عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الألباني في "الإرواء"(86).
(1)
في الأصل: "لما اشترطت".
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 71).
(3)
في الأصل: "بأن".
وشروطُه ثمانية:
انقطاعُ ما يوجبُه، والنيةُ،
ولما انهى
(1)
الكلامَ على فروضِ الوضوءِ، شرعَ في شروطِه، فقال:
(وشروطُه) وهي (ثمانيةٌ):
(انقطاعُ ما يوجبُه) مِن سبيلٍ، أو غيرِه كقيءٍ. وهذا التعبيرُ أَوْلى من قولِ صاحبِ الأصلِ:"وفراغُ خروجِ خارجٍ" إذ لا يَشملُ نحوَ لمسٍ ونحوِه.
(و) الثاني: (النيةُ) لخبرِ: "إنَّما الأعمالُ بالنياتِ"
(2)
أي: لا عملَ جائزٌ ولا فاضلٌ إلا بها. ولأنَّ النصَّ دلَّ على الثوابِ في كلِّ وضوءٍ، ولا ثوابَ في غيرِ منويٍّ إجماعًا. قالَه في "الفروع"
(3)
. ولأنَّ النيةَ للتمييزِ. ولأنَّه عبادةٌ، ومن شرطِها النيةُ. وأما استقبالُ القبلةِ وسترُ العورةِ، فنيةُ الصَّلاةِ تضمَّنتْهُما؛ لوجودِهما فيها حقيقةً، بخلافِ الوضوءِ فإن الموجودَ منه في الصَّلاةِ حُكمُه، وهو ارتفاعُ الحدثِ، لا حقيقتُه. ولذلك لو حلَفَ لا يتوضَّأُ، وكان متوضِّئًا، ودامَ على ذلك، لمْ يحنثْ، بخلافِ السترةِ والاستقبالِ.
إنَّما اشتُرِطتْ النيةُ لطهارةِ الحدثِ دون طهارةِ الخبثِ؛ لأنَّ طهارةَ الحدثِ بابُها الفعلُ، فأشبهتْ الصَّلاةَ، وطهَارةُ الخبثِ بابُها التركُ، فأشبهتْ تركَ الزنى.
سِوى غُسلِ كِتابيةٍ لزوجٍ أو سيدٍ مسلم
(4)
من حيضٍ أو نفاسٍ. وسوى مسلمةٍ
(1)
في الأصل: "انتهى".
(2)
أخرجه البخاري (1، 54)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب.
(3)
"الفروع"(1/ 163).
(4)
في الأصل: "أو مسلمة".
والإسلامُ، والعقلُ، والتمييزُ، والماءُ الطهور المُباح، وإزالةُ ما يمنعُ وصولَه، والاستنجاء.
ممتنعةٍ من غُسلِ لزوجٍ مِن حيضٍ، حتى إنه لا يطؤها ما دامَت
(1)
كذلك. فتُغسَّل قَهرًا من أجلِ حقِّ الزوجِ، ويباحُ له وطؤُها. ولا نيةَ مُشتَرطةٌ هنا؛ للعذرِ. والصحيحُ: لا تصلِّي به، ذكرَهُ في "النهاية".
ويُنوىَ الغُسلُ عن ميتٍ ومجنونةٍ غُسِّلا؛ لتعذّرِ النيةِ منهُما
(2)
.
(و) الثالثُ: (الإسلامُ).
(و) الرابعُ. (العَقلُ) سِوى ما تقدَّمَ، وهو: الكتابيةُ والمجنونةُ، إذا اغتَسلتا من نحوِ حيضٍ.
(و) الخامسُ: (التمييزُ) لأنَّه أدنى سنٍّ يعتبرُ قصدُ الصغيرِ فيه شرعًا، فلا يصحُّ وضوءٌ ولا غسلٌ ممَّنْ لم يميِّزْ.
(و) السادسُ: (الماءُ الطهورُ المباحُ) أي: إباحةُ الماءِ. فلو توضَّأَ أو اغتسلَ بمغصُوبٍ، أو ماءٍ عقدُهُ فاسدٌ، أو وقفٌ للشربِ، أو مِن الآبارِ المحرَّمةِ الاستعمال؛ كآبارِ دِيارِ ثمودَ، غيرِ بئرِ الناقةِ، لم يصحَّ. والظاهرُ: أن المرادَ إن كان عالمًا ذاكرًا، كما صرحوا به في الصَّلاةِ والحجِّ، وإلا فيصحُّ؛ لعدمِ الإثمِ إذنْ.
(و) السابعُ: (إزالةُ ما يمنعُ وصولَه) أي: الماءِ إلى البَشَرةِ؛ ليحصُلَ الإسباغُ المأمورُ به.
(و) الثامنُ: (الاستنجاءُ) أو الاستجمارُ. وتقدَّمَ بيانُهُ.
(1)
في الأصل: "ما دا".
(2)
انظر "معونة أولي النهى"(1/ 258).
فَصْلٌ
فالنيةُ هُنا: قصدُ رَفعِ الحَدَثِ
.
أو قَصدُ ما تجِبُ له الطهارةُ، كصلاةٍ، وطوافٍ، ومَسِّ مُصحَفٍ.
أو قصدُ ما تُسَنُّ له، كقراءةٍ، وذكرٍ، وأذانٍ، ونومٍ، ورفع شكٍّ
(فصلٌ)
(فالنيةُ هنا: قصدُ رفعِ الحدثِ): فالنيةُ المعتبرةُ في الوضوءِ: قصدُ رفعِ الحدثِ أي: الوصفِ القائمِ بالبدنِ، المانعِ من الصَّلاةِ ونحوِها.
قال في "المبدع"
(1)
: والمرادُ رفعُ حكمِه، وإلا فالحدثُ إذا وقعَ لا يرتفعُ.
قلتُ: هذا إذا أُريدَ بالحدثِ نفسُ الناقضِ، وأمَّا إذا أُريدَ به الوصفُ المذكورُ، فإنَّه يرتفعُ، فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ.
"تنبيهٌ": لا يضرُّ مع الإتيانِ بالنيةِ المعتبرةِ نيةُ التبردِ، أو ما لا تشرعُ له الطهارةُ كالبيعِ. وإن نوى صلاةً معينةً لا غَيرَها، ارتفعَ مطلقًا، وإن فرَّقَ النيةَ على أعضاءِ الوضوءِ، جازَ
(2)
.
(أو قَصْدُ ما) أي: فعلٍ كصلاةٍ، أو قولٍ كقراءةٍ (تجِبُ له الطهارةُ) أي: الوضوءُ أو الغسلُ (كصلاةٍ، وطوافٍ، ومسِّ مُصحفٍ) فإنَّ الطهارةَ واجبةٌ في هذه الصورِ.
(أو قصدُ ما تُسنُّ له) الطهارةُ من قولٍ أو فعلٍ (كقراءةِ) قرآنٍ (وذكرِ) اللهِ تعالى (وأذانٍ، ونومٍ، ورفعِ شكٍّ) والمرادُ بالشكِّ: مطلقُ التردُّدِ، لا ما زعَمَ الأصوليون
(1)
"المبدع"(1/ 117).
(2)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 59).
وغضبٍ، وكلامٍ محرَّمٍ، وجلوسٍ بمسجدٍ، وتدريسِ علمٍ، وأكل.
فمتى نَوَى شيئًا من ذلِكَ، ارتفعَ حدَثُه.
ولا يَضرُّ سَبقُ لِسانِه بغَيرِ ما نَوى، ولا شكُّه في النِّية، أو في فَرضٍ، بعد فراغِ كلِّ عبادة.
وإن شكَّ فيها في الأثناء، استأنف.
أنه: ما استوى طرفاه من إثباب ونفيٍ. (وغَضَبِ، وكلامِ محرمٍ) أي: لغيبةٍ أو قذفٍ (وجلوسٍ بمسجدٍ، وتدريسٍ علمٍ) وقيل: وكَتابةٍ. (وَأكلٍ) وشربٍ لجُنُبٍ. وفي "النهاية": وزيارةِ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
. قالَه في الأصلِ
(2)
.
(فمتى نوَى شيئًا من ذلك) أي: ما تجبُ له الطهارةُ، أو تُسنُّ، (ارتفعَ حدثُه) أي: الوصفُ القائمُ به.
(ولا يَضرُّ سَبقُ لسانِه بغيرِ ما نوى) أي: عندَ تلفظِه بالنيةِ، كقولِ مَنْ أرادَ الوضوءَ: نويتُ الصومَ. لأنَّ النيةَ محلُّها القلبُ، لا اللِّسان.
(ولا) يضرُّ (شكُّه في النيةِ، أو في فرضٍ بعد فراغِ كلِّ عبادةٍ) أي: لا يضرُّ شكٌّ في النيةِ أو الطهارةِ بعدَ الفراغِ. وكذا لو شكَّ في غسلِ عضوٍ أو مسحِه بعده. أما قبل الفراغَ فكمَنْ يأتي بما شكَّ فيه، إلا أنْ يكونَ وهمًا كالوسواسِ، لم يلتفتْ إليه. وكذا سائرُ العباداتِ؛ عملًا باليقينِ.
(وإن شكَّ فيها)، أي: في الطهارةِ، أو النيةِ (في الأثناءِ: استأنفَ). أي: لزمَهُ استئنافُها، كما لو شكَّ في نيةِ الصَّلاةِ، وهو فيها؛ لأنَّ النيةَ هي القصدُ. وإن غسلَ
(1)
لا دليل على سنية الطهارة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
"منتهى الإرادات"(1/ 49).
فصلٌ في صفة الوُضوءِ
وهي
(1)
: أن ينوي، ثم يُسمِّيَ، ويغسلَ كفَّيهِ، ثم يتمضمضُ ويستنشِقُ، ثم يغسِلُ وجهَهُ مِنْ منابتِ شعرِ الرأسِ المعتادِ،
بعضَ أعضائِه بنيةِ الوضوءِ، وبعضَها بنيةِ التبرُّدِ، ثم أعادَ ما غسلَه بنيةِ التبردِ بنيةِ الوضوءِ، أجزأَ، ما لم يطلِ الفصلُ.
وعُلِمَ مما تقدَّمَ: أنَّه لو أبطلَ النيةَ في أثناءِ طهارتِه، بطلَ ما مضى منها. قال في "الإنصاف": على الصحيحِ من المذهبِ. اختارَه ابنُ عقيلٍ، والمجدُ في "شرحِه"، وقدَّمه في "الرعايتين" و"الحاويين". وقيل: لا يَبطلُ ما مَضَى منها. جزمَ به المصنِّفُ في "المغني". انتهى
(1)
.
(فصلٌ في صفةِ الوضوءِ)
أي: كيفيتِه الكاملةِ (وهي: أن يَنوي) رفعَ الحدثِ، أو
(2)
استباحةَ نحوِ صلاةٍ، أو الوضوءَ لها
(ثم يُسمِّيَ) فيقولُ: بسمِ اللهِ. لما تقدَّمَ. وعُلمَ منه: أنه يجبُ تقديمُ النيةِ على التسميةِ، فلو قَدَّمَ التسميةَ، لَمْ يُعتدَّ (بها ويغسلَ كفَّيه) ثلاثًا.
(ثم يتمضمضُ) ثلاثًا (ويستنشقُ
(3)
) ثلاثًا (ثمَّ يَغسلُ وجهَه) ثلاثًا. وحَدُّه: (مِن منابتِ شعرِ الرأسِ المعتادِ) غالبًا، فلا عِبرةَ بالأفرعِ، بالفاء: الذي ينبتُ شعرُه في
(1)
"الإنصاف"(1/ 320).
(2)
سقطت: "أو" من الأصل.
(3)
في الأصل: "ثم يستنشق".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بعضِ جبهتِه، ولا بالأجلحِ: الذي انحسرَ شعرُه عن مقدَّمِ رأسِه، إلى النازلِ مِن اللَّحيينِ -بفتح اللام وكسرها، وهما: عظمانِ في أسفلِ الوجهِ- والذَّقَنِ، وهو: مجمعُ اللحيةِ. طولًا. فيجبُ غسلُ ذلك مع مُستَرسِلِ شعرِ اللِّحيةِ طولًا، وما خرجَ منه عن حدِّ الوجهِ عرضًا؛ لأنَّ اللحيةَ تشاركُ الوجهَ في معنى التوجُّهِ والمواجهةِ، بخلافِ ما نزلَ من الرأسِ.
وحَدُّ الوجهِ عرضًا: من الأُذنِ إلى الأذنِ. وهو ما بينَ الأذنين، وهما ليسا منه. وأمَّا إضافتُهما إليه في قولِه صلى الله عليه وسلم:"سجدَ وجهي للذي خلقَهُ وصوَّرَه، وشقَّ سمعَه وبصرَه". رواه مسلمٌ
(1)
. فللمجاورةِ. ولم يُنقلْ عن أحدٍ ممَّنْ يُعتدُّ به أنَّه غسلَهُما مع الوجهِ
فيدخلُ فيه عِذارٌ، وهو: شعرٌ نابتٌ على عظمِ الذقنِ ناتيءٍ يحاذي صِماخَ الأذنين.
ويدخلُ فيه
(2)
عارضٌ، وهو: ما تحتَ العِذارِ إلى الذَّقنِ. قال الأصمعيُّ: ما جاوزَتْه الأذنُ: عارضٌ.
ولا يدخلُ فيه صُدغٌ، بضم الصاد، وهو: ما فوقَ العِذارِ يحاذي رأسَ الأذنِ، وينزلُ عنه قليلًا.
ولا تحذيفٌ، وهو: الخارجُ إلى طرفي الجبينِ في جانبيِ الوجهِ بينَ النَّزَعَةِ: ومنتهَى العِذارِ.
(1)
أخرجه مسلم (771) من حديث عليٍّ.
(2)
سقطت: "فيه" من الأصل.
ولا يُجزئُ غَسلُ ظاهرِ شعرِ اللِّحيةِ، إلَّا أنْ لا يصفَ البشرةَ، ثم يغسِلُ يديه مع مِرفَقَيه، ولا يضُّرُ وسخٌ يسيرٌ تحتَ ظُفرٍ ونحوِه،
ولا يدخلُ النزعتان، وهما: ما انحسرَ عنه الشعرُ من جانبيِ الرأس
(1)
، أي: جانبي مقدَّمِه.
"تتمةٌ": يُستحبُّ تعاهدُ المَفْصِلِ بالغَسلِ، وهو: ما بينَ اللِّحيةِ والأذنِ. نصًّا.
(ولا يجزئُ غسلُ ظاهرِ شعرِ اللحية إلا أن) يكونَ الشعرُ كثيفًا (لا يصفُ البشرةَ) فيجزئُه غسلُ ظاهرِه، لحصولِ المواجهةِ به دون البشرةِ تحتَه، فتعلَّقَ الحكمُ به. وفي "الرعاية": يُكرَهُ غسلُ باطنِها. وصحَّحه في "الإنصاف"، وتبعَه في "الإقناع"
(2)
.
تتمةٌ: إن كان بعضُ الشعرِ كثيفًا، وبعضُه خفيفًا، وجبَ غسلُ بشرةِ الخفيفةِ، وظاهرِ الكثيفِ. قاله في "الشرح"
(3)
.
قال في "الغاية"
(4)
: ولا يَغسِلُ داخلَ عينٍ، بل يُكره. ولا يجبُ من نجاسةٍ، ولو أَمِنَ الضررَ. ويتَّجهُ احتمالٌ: ودَمعُه طاهرٌ. قاله العلامةُ الشيخُ مرعي.
(ثم يغسلُ يديه مع مرفقيه) ثلاثًا (ولا يضرُّ وسخٌ يسيرٌ تحتَ ظفرٍ ونحوِه) كداخلِ أنفِه؛ لأنَّ هذا مما
(5)
يكثرُ وقوعُه عادةً، فلو لمْ يصحَّ معه الوضوءُ لبيَّنه عليه الصلاة والسلام؛ إذ لا يجوزُ تأخيرُ البيانُ عن وقتِ الحاجةِ.
(1)
في الأصل: "الوجه".
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 112).
(3)
"الشرح الكبير"(1/ 337).
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 75).
(5)
في الأصل: "إنَّما".
ثم يمسحُ جميعَ ظاهِرِ رأسِهِ من حدِّ الوجه إلى ما يُسمَّى قَفًا، والبياضُ فوقَ الأذُنين منهُ
وألحقَ به الشيخُ
(1)
: كلَّ يسيرٍ مَنَعَ الماءَ، كدمٍ وعجينٍ، في أي عضوٍ كان -ومَنْ خُلقَ بلا مِرفقٍ غَسلَ إلى قدرِه في غالبِ الناسِ-
قال الشيخُ منصورٌ في "حاشيتِه على المنتهَى"
(2)
: ومِثلُه: ما يعلقُ بأصولِ الشعرِ من قَملٍ ونحوِه، وما يكونُ بشقُوقِ الرِّجل من الوسَخِ.
وممَّنْ
(3)
يشقُّ التحرزُ منه، كأربابِ الصنائعِ والأعمالِ الشاقَّةِ من الزراعةِ وغيرِها. اختارَهُنَّ في "التلخيص"، وأطلَقَهُنَّ في "الفروع".
(ثمَّ يمسحُ جميع
(4)
ظاهرِ رأسِه) بالماءِ، فلو مسحَ البشرةَ، لم يجزئ، كما لو غسلَ باطنَ اللحيةِ. ولا يمسحُ المسترسلَ، ولا يجزئُ ولو
(5)
ردَّه وعقَدَه على رأسِه؛ لأنَّه ليس منه. ومعَ فقدِ شعرٍ تُمسَحُ بشرةٌ، ومع فقدِ بعضٍ يُمسَحَانِ، وإن نزلَ عن مَنبَتِه ولم ينزلْ عن محلِّ فرضٍ فمسحَ عليه، أجزأَه، ولو كان ما تحته محلوقًا. ولا يُعفى عن تركِ شيءٍ من الرأسِ بلا مسحٍ، ولو للمشقَّةِ
(6)
. وقال الكعبريُّ في كتابِه "المنهج": وعفَى بعضُهم عن تركِ بعضِه للمشقَّةِ. وتبعَه في "الإقناع".
وهو (مِن حدِّ الوجهِ إلى ما يُسمَّى قفَا، والبياضُ فوقَ الأذنين منه) يُمِرُّ ندْبًا
(1)
مراده: الشيخ تقي الدين.
(2)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 63).
(3)
أي: ويصح الوضوء ممن يشق .. إلخ وانظر "الإنصاف"(1/ 344).
(4)
سقطت: "جميع" من الأصل.
(5)
في الأصل: "لو".
(6)
انظر: "غاية المنتهى"(1/ 75).
ويُدخِلُ سبَّابتيه في صِماخِ أذُنيه، ويمسحُ بإبهاميه ظاهرَهُما،
يديه من مقدَّمِه إلى قفَاه، واضعًا طرفَ إحدى
(1)
سبَّابتيه على طرفِ الأُخرى، وإبهامَيه على صُدغَيه، ثمَّ يَردُّهما، ولو خافَ نشرَ شعرٍ، بماءٍ واحدٍ. مشَى عليه في "الإقناع"، وتبعَه في "الغاية"
(2)
.
"فائدةٌ": لو مسحَ رأسَه، ثم حلقَه، أو غسلَ عضوًا، ثم قَطعَ منه جُزءًا أو جلدةً، لم يؤثِّرْ؛ لأنَّه ليس ببدلٍ عمَّا تحتَه. وإن تطهَّرَ بعدَ ذلك، غسَلَ ما ظهرَ.
وإن مسَحَ على معقوصٍ بمحلِّ الفرضِ، ولولا العقصُ
(3)
لنزلَ عنه، لم يجزئْه، لعروضِ العقصِ. ذكرَهُ المجدُ. وكذا لو مسحَ على مخضوبٍ بما يمنعُ وصولَ الماءِ إليه.
(ويُدخلُ سبَّابتيه في صِماخِ أذنيه، ويمسحُ بإبهاميه ظاهرَهُما) لما في النسائيِّ
(4)
، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسحَ برأسِه وأذنيه، باطنَهما بالسبابتين، وظاهرَهما بإبهاميه.
قال في "الشرح"
(5)
: ولا يجبُ مسحُ ما استترَ بالغضاريفِ؛ لأنَّ الرأسَ الذي هو الأصلُ لا يجبُ مسحُ ما استترَ منه بالشعرِ، فالأُذُنُ أَوْلَى. انتهى
(1)
في الأصل: "أحد".
(2)
انظر: "الإقناع"(1/ 44)، "غاية المنتهى"(1/ 76).
(3)
العَقيصَة: الشعر المعْقُوص وهو نحوٌ من المضْفُور. وأصلُ العقْص: اللَّيُّ، وإدْخال أطْرَاف الشَّعر في أُصُوله. "النهاية"(عقص).
(4)
أخرجه النَّسَائِيّ (102). قال الألباني: حسن صحيح.
(5)
في الأصل: "شرح المصنف" وانظر "الشرح الكبير"(1/ 353)، "معونة أولي النهى"(1/ 272).
ثم يَغسِلُ رجليه مع كعبيه، وهما العظمان الناتئان.
والغضاريفُ: جمعُ غضروفٍ، وهو داخلُ قُوفِ
(1)
الأُذنِ -بضم القاف- أي: أعلاها. أو مستدارُ سَمِّها. أي: خَرقِها.
"تنبيهٌ": لا يُسنُّ مسحُ العنقِ. قال في "الإنصاف"
(2)
: وهو الصحيحُ من المذهبِ. وعنه: يُسنُّ. اختارَهُ في "الغنية"، وأبو البقاءِ، وابنُ الصيرفيِّ، وابنُ رزينٍ. وفاقًا لأبي حنيفةَ.
ويجزئُ المسحُ للرأسِ والأُذنِ على أيِّ كيفيةٍ، بيدِه، وبحائلٍ. قال في "الإنصاف"
(3)
: والصحيحُ من المذهبِ: أنَّ المسحَ بحائلٍ يجزئُ مطلقًا. فيَدخُلُ في ذلك: المسحُ بخشبةٍ أو بخرقةٍ مبلولتين ونحوِهما.
ولا يجزئُ من غيرِ مسحٍ، ولا يجزئُ أيضًا غسلُهما من غيرِ مسحٍ. ولا يُستحبُّ تكرارُ مسحٍ.
(ثم يغسِلُ رجليه مع كعبيه) ثلاثًا، (وهما: العظمانِ الناتئانِ) أي: المرتفعانِ، اللذان في أسفلِ الساقِ من جانبي القدمِ. قال أبو عبيدٍ: الكعبُ: هذا الذي في أصلِ القدمِ مُنتهى الساقِ، بمنزلة كعابِ القنا
(4)
. وقوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المَائدة: 6] حجةٌ لذلك. أي: كلُّ رِجل تُغسَلُ إلى الكعبين. ولو أرادَ جميعَ الأرجلِ لذكره بلفظ الجمعِ، كما قال:{إِلَى الْمَرَافِقِ} [المَائدة: 6]
(1)
في الأصل: "فوق".
(2)
"الإنصاف"(1/ 291).
(3)
"الإنصاف"(1/ 346).
(4)
انظر: "معونة أولي النهى"(1/ 247).
فَصْلٌ
وسُننُه ثَمانيةَ عشرَ:
استقبالُ القبلةِ، والسواك، وغَسْلُ الكفِّين ثلاثًا،
ويَصُبُّ الماءَ بيُمنى يديه على كِلتا رِجليه، ويغسلُهما باليسرى، ندبًا.
والأَوْلى تركُ الكلامِ على الوضوءِ. وظاهرُ كلامِ الأكثرِ: لا يُكره السلامُ، ولا ردُّه.
(فصلٌ)
(وسنَنُه): جمعُ سنةٍ، وهي: ما يثابُ على فعلِهِ، ولا يعاقبُ على تركِه (ثمانيةَ عَشَرَ) أي: سننُ الوضوءِ. وسُمِّيَ وضوءًا؛ لتنظيفِه المتوضِّئَ، وتحسينِه:
أحدُها: (استقبالُ القبلةِ) أي: أن يستقبلَ القبلةَ في الوضوءِ. قال في "الفروع"
(1)
: وظاهرُ ما ذكرَهُ بعضُهم: يستقبلُ القبلةَ. ولا تصريحَ بخلافِه، وهو متجهٌ في كلِّ طاعةٍ، إلا لدليلٍ.
(و) الثاني: (السواكُ) وتقدَّمَ الكلامُ عليه.
(و) الثالثُ: (غسلُ الكفين ثلاًثا) لأن عثمانَ بنَ عفانَ، وعليًّا، وعبدَ اللهِ بنِ زيدٍ رضي الله تعالى عنهم، وصفوا وضوءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكروا أنه غسلَ كفيه ثلاثًا
(2)
. ولأنَّهما آلةُ نقلِ الماءِ إلى الأعضاءِ، ففي غسلِهما احتياطٌ.
(1)
"الفروع"(1/ 185).
(2)
أخرجه البخاري (159) من حديث عثمان. وأخرجه النَّسَائِيّ (95) من حديث عليٍّ.
وأخرجه البخاري (185)، ومسلم (235) من حديث عبد الله بن زيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويجبُ غسلُهما للقيامِ من نومِ ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ؛ تعبَّدًا، بنيَّةٍ شُرطتْ، وبتسميةٍ وجَبَتْ.
وعلى الصحيحِ: لا تجزئُ نيةُ الوضوءِ عن نيةِ غسلِهما على المذهبِ المشهورِ. ولأنَّها طهارةٌ مفردةٌ، لا من الوضوءِ
(1)
.
ويسقطُ غسلُهُما والتسميَةُ سهوًا.
وقيل: غسلُهما معلَّلٌ بوهمِ النجاسةِ، كجعلِ العلَّةِ في النومِ استطلاقَ الوكاءِ بالحدثِ، وهو مشكوكٌ فيه. وقيل: غسلُهما معللٌ بمبيتِ يدِه ملابِسةً للشيطانِ.
فعلى هذا: يكونُ غسلُهما لمعنًى فيهما، فلو استعملَ الماءَ ولم يُدخلْ يدَه في الإناءِ، لم يصحَّ وضوؤُه، وفسدَ الماءُ؛ لأنَّ المعنى الذي فيهما
(2)
غيرُ مقصودٍ.
قال الشيخُ منصورٌ في "حاشيته على الإقناع"
(3)
: الظاهرُ: أنَّ
(4)
التقييدَ بالوضوء جريٌ على الغالبِ، فلا مفهومَ له. ويقاسُ عليه: الغسلُ، وإزالةُ النجاسةِ؛ إذ عدمُ صحةِ الوضوءِ؛ لفسادِ الماءِ، وإذًا لا فرقَ بينه وبينهُما.
وظاهرُ كلامِهم هنا: فسادُ الماءِ، وإن لم يحصلْ في جميعِ اليدِ. لكنْ لو كان الماءُ كثيرًا، وتوضَّأ
(5)
، أو اغتسلَ، أو أزالَ به نجاسةً، بحيث لم يحصلْ في اليدين ماءٌ قليلٌ، فالطهارةُ صحيحةٌ؛ لعدمِ تأثيرِ غمسهِما في الماءِ الكثيرِ. قال في "الشرح"
(6)
: فإنْ
(1)
انظر "معونة أولي النهى"(1/ 241).
(2)
في الأصل: "إليهما".
(3)
"حواشي الإقناع"(1/ 96).
(4)
سقطت "أن" من الأصل.
(5)
في الأصل: "أو توضأ".
(6)
"الشرح الكبير"(1/ 76).
والبداءةُ قبلَ غسلِ الوجهِ بالمضمضةِ والاستنشاقِ،
توضَّأَ القائمُ من نومِ اللَّيلِ من ماءٍ كثير، أو اغتَسلَ منه بغَمسِ أعضائِه فيه، ولم ينوِ غَسلَ اليدِ من نومِ الليل، فعندَ من أوجبَ النيةَ لا
(1)
يرتفعُ حدثُه، ولا يجزئُ عن غسلِ اليدِ من النَّومِ؛ لأنَّه لم ينوه. انتهى.
وفي "المستوعب"
(2)
: إنْ كان وضوؤُه من ماءٍ قليلٍ أدخلَ كفَّيه فيه قبلَ غسلِهما، لم يصحَّ وضوؤُه؛ لما بيَّنا أنَّ ذلك الماءَ يصيرُ غيرَ مطهِّرٍ. وإنْ كان وضوؤُه من ماءٍ أكثر من قلتين، أو
(3)
من ماءٍ قليلٍ لم يُدخلْ يدَه فيه؛ بأنْ صبَّ على وجهه
(4)
بإناءٍ، أو صَمَدَ لأُنبوبٍ، فجرى على وجهِه، فوضوؤهُ صحيحٌ.
(و) الرابعُ: (البداءةُ قبل غسلِ الوجهِ بالمضمضةِ والاستنشاقِ) بيمينِه. واستنثارٍ بيسارِه؛ لما رُوي عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه: أنَّه دعا بوَضوءٍ فتمضمضَ واستنشقَ واستنثرَ بيدِه اليُسرى، ففعلَ هذا ثلاثًا، ثُمَّ قال:"هذا وضوءُ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ". رواه أحمدُ والنسائيُّ
(5)
.
قال في "الإنصاف"
(6)
: يستحبّ تقديمُ المضمضةِ على الاستنشاقِ، على الصحيحِ من المذهبِ.
(1)
في الأصل: "لم".
(2)
"المستوعب"(1/ 68).
(3)
سقطت: "من ماءٍ أكثر من قلتين أو" من الأصل والمثبت من "المستوعب" و"حواشي الإقناع".
(4)
سقطت: "وجهه" من الأصل.
(5)
أخرجه أحمد (2/ 301)(1027)، والنسائي (19)، وصحح إسناده الألباني.
(6)
"الإنصاف"(1/ 282).
والمبالغةُ فيهما لغيرِ الصائم، والمبالغةُ في سائرِ الأعضاء مطلقا،
وإنما قدمتْ المضمضةُ؛ لأنَّ الفمَ أشرفُ من الأنفِ؛ ولكونِ الفم محلَّ القراءةِ والذِّكرِ. وإنما لم يجبْ تقديمُهما على غسلِ الوجهِ؛ لأنَّ الفمَ والأَنفَ منه.
(و) الخامسُ: (المبالغةُ فيهما) أي: في المضمضةِ والاستنشاقِ (لغيرِ الصائمِ) لقولِه عليه السلام في حديثِ لقيطِ بنِ صَبِرةَ: "وبالغْ في الاستنشاقِ، إلا أنْ تكودنَ صائمًا". رواه الخمسةُ
(1)
، وصحَّحه الترمذيُّ. وعن ابنِ عباسٍ مرفوعًا:"استنثروا مرتين بالغَتَين، أو ثلاثًا". رواه أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجه
(2)
. وتُكره لصائمٍ.
فالمبالغةُ في المضمضةِ: إدارةُ الماءِ بجميعِ الفمِ. والمبالغةُ في الاستنشاقِ: جذبُ الماءِ إلى أقصى أنفٍ.
والواجبُ في الاستنشاقِ: جذبُ الماءِ إلى باطنِ أنفٍ، وإن لم يبلغْ أقصاهُ أو أكثرَهُ. وله بلعُه؛ لأنَّ الغَسلَ حصلَ، كإلقائِه.
(و) السادسُ: (المبالغةُ في سائرِ الأعضاءِ مطلقًا) أي: في الوضوءِ والغُسلِ، ومع الصومِ والفطرِ.
والمبالغةُ في بقيةِ الأعضاءِ: دلكُ، أي: عركُ، ما يَنبو
(3)
عنه الماءُ، أي: لا يطمئنُّ إليه.
(1)
أخرجه أحمد (26/ 306)(16380)، وأبو داود (142)، والترمذي (788)، والنسائي (87)، وابن ماجه (407). وصححه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 460)(2011)، وأبو داود (141)، وابن ماجه (408). وصححه الألباني.
(3)
في هامش الأصل: "أي تباعد".
والزيادةُ في ماءِ الوجه، وتخليلُ اللِّحية الكثيفةِ، وتخليلُ الأصابعِ،
(و) السابعُ: (الزيادةُ في ماءِ الوجهِ) ليعمَّ جميعَه.
(و) الثامنُ: (تخليلُ اللحيةِ الكثيفةِ) بكفٍّ من ماءٍ يضعُه من تحتها بأصابعِه مشتبكةً؛ لحديثِ أنسٍ مرفوعًا: كان إذا توضَّأَ، أخذَ كفًّا من ماءٍ، فجعلَه تحتَ حنكِه، وخلَّلَ به لحيتَه، وقال:"هكذا أمرني ربي". رواه أبو داودَ
(1)
. أو يضعُه من جانبيها، ويعرُكُ لحيتَه.
قال في "الإنصاف"
(2)
: ويكونُ ذلك عندَ غسلِها، وإن شاءَ إذا مسحَ رأسَه. نصَّ عليه.
وكذا عَنْفَقَةٌ
(3)
، وشاربٌ، وحاجبانِ، ولحيةُ أُنثى وخُنثى، يسنُّ تخليلُها إذا كثفت.
(و) التاسعُ: (تخليلُ الأصابعِ) من اليدين والرجلين؛ لحديثِ لقيطِ بنِ صَبِرةَ
(4)
: "وخَلِّلْ بينَ الأصابعِ". قال في "الشرح"
(5)
: وهو في الرِّجلينِ آكدُ.
قال القاضي وغيرُه: بخنصرِ اليُسرى. ويَبدأُ من الرجلِ اليُمنى بخنصرِها، واليسرى بالعكسِ؛ ليحصلُ
(6)
التيامنُ في التخليلِ. زادَ بعضُهم: من أسفلِ الرِّجلِ.
(1)
أخرجه أبو داود (145)، وصححه الألباني.
(2)
"الإنصاف"(1/ 286).
(3)
العنفقة: شعيرات بين الشفة السفلى والذقن. "المعجم الوسيط"(عنفق).
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
(5)
"الشرح الكبير"(1/ 286).
(6)
في الأصل: "ويحصل".
وأخذُ ماءٍ جديدٍ للأذنين، وتقديمُ اليُمنى على اليُسرى، ومجاوزةُ محلِّ الفَرض، والغسلةُ الثانيةُ والثالثةُ،
(و) العاشرُ: (أخذُ ماءٍ جديدٍ للأذنينِ) لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ: أنَّه رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتوضَّأُ، فأخذَ لأذنيهِ ماءً خلافَ الذي لرأسِه. رواه البيهقيُّ
(1)
وصحَّحه.
(و) الحادي عشر: (تقديمُ اليُمنى على اليُسرَى) ليحصلَ التيامنُ. قال القاضي والشيخُ عبدُ القادرِ: وإذا أرادَ أن يناولَ
(2)
إنسانًا توقيعًا أو كتابًا، فليَقصِد يمينَهُ. وتَناولُ الشيءِ من يدِ غيرِه باليُمنى. ذكرَه ابنُ عقيلٍ من المستحسناتِ
(3)
. ولا يُكره بيسارِه مطلقًا. أي: مع القدرة وعدمِها.
(و) الثاني عشرَ: (مجاوزةُ محلِّ الفرضِ) لقولِه عليه السلام: "إنَّ أمتي يأتون يومَ القيامةِ غرًّا محجلين من أثرِ الوضوءِ، فمَنِ استطاعَ منكمْ أنْ يطيلَ غرَّتَه فليفعلْ". متفقٌ عليه
(4)
.
(و) الثالث عشرَ: (الغسلةُ الثانيةُ والثالثةُ) لحديثِ عليٍّ: أنَّه عليه السلام، توضَّأَ ثلاثًا ثلاثًا. رواه أحمدُ، والترمذيُّ
(5)
، وقال: هذا أحسنُ شيءٍ في البابِ وأصحُّ.
وليس ذلك بواجبٍ، لحديثِ ابنِ عباسٍ: توضَّأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرَّةً مرَّةً. رواه
(1)
أخرجه البيهقي (1/ 65)، وقال: وهذا إسناد صحيح. قال الألباني: هو كما قال البيهقي: إسناده صحيح، لكنَّه شاذٌّ. "الضعيفة" تحت الحديث (1046).
(2)
في الأصل: "ينال".
(3)
كذا في الأصل، وفي "كشاف القناع" (1/ 244):"المستحبات".
(4)
أخرجه البخاري (136)، ومسلم (246) من حديث أبي هريرة.
(5)
أخرجه أحمد (2/ 247)(928)، والترمذي (44). وصححه الألباني.
واستصحابُ ذِكر النية إلى آخرِ الوضوء، والإتيانُ بها عند غَسل الكفَّين،
الجماعةُ
(1)
إلا مسلمًا.
ولو غسلَ بعضَ أعضاءِ الوضوءِ أكثرَ من بعضٍ، لم يُكره. ويُكره فوقَ الثلاث
(2)
؛ لما روى عمرُو بنُ شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألُه عن الوضوءِ، فأراه ثلاثًا ثلاثًا. وقال:" هذا الوضوءُ، فمن زادَ على هذا فقدْ أساءَ وتعدَّى وظلمَ". رواه أحمدُ، والنسائيُّ، وابنُ ماجه
(3)
.
(و) الرابعَ عشرَ: (استصحابُ ذكرِ النيةِ إلى آخرِ الوضوءِ) أي: بأنْ يستحضرَها في جميعِ الطهارةِ؛ لتكونَ أفعالُها كلُّها مقترنةً بالنيةِ. ويجزئُ استصحابُ حكمِها؛ بأن لا ينويَ قطعَها، فإن عزبتْ من خاطرِه، لم يؤثرْ ذلك في الطهارةِ، كما لا يؤثرُ في الصَّلاةِ.
ويجبُ تقديمها
(4)
على الواجبِ من العباداتِ؛ لأنَّ النيةَ شُرطتْ لصحةِ واجباتِها، فيعتبرُ كونُها كلُّها بعد النيةِ، فلو فَعَلَ شيئًا من الواجباتِ قبلَ وجودِ النيةِ، لم يعتدَّ به. ولا يضرُّ تقدمُها بزمنٍ يسيرٍ، ويضرُّ
(5)
بزمنٍ كثيرٍ عُرْفًا
(6)
.
(و) الخامسَ عشرَ: (الإتيانُ بها عندَ غَسلِ الكفينِ) وهو أوَّلُ مصنونٍ وُجِدَ قبلَ
(1)
أخرجه البخاري (157)، وأحمد (3/ 499)(2072)، وأبو داود (138)، والترمذي (42)، والنسائي (80)، وابن ماجه (411).
(2)
في الأصل: "الثلاثة".
(3)
وأحمد (11/ 277)(6684)، والنسائي (140)، وابن ماجه (422). وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(6989).
(4)
في الأصل: "تقدمها".
(5)
في الأصل: "ولا يضر".
(6)
انظر "معونة أولي النهى"(1/ 260).
والنُّطقُ بها سِرًّا. وقول: أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، مع رفعِ بصرِه إلى السماء بعدَ فراغِه
واجبٍ، وهو التسميةُ، كما في "التنقيح" و"الإقناع". فعلى هذا: يكونُ أولُ المسنوناتِ استقبالَ القبلةِ، لا غَسلَ الكفينِ لغيرِ القائمِ من نومِ الليلِ. فتأَمَّلْ.
(و) السادسَ عشرَ: (النطقُ بها سرًّا) ليوافقَ لسانُه قلبَه. قال العلامةُ الشيخُ تقيُّ الدينِ: واتفقَ الأئمةُ على أنَّه لا يُشرعُ الجهرُ بها وتَكريرُهَا، بل مَنْ اعتادَهُ ينبغي تأديبُهُ. وكذا بقيَّةُ العباداتِ .. قال: ويُعزَلُ عن الإمامةِ، إن لم ينتهِ.
(و) السابعَ عشرَ: (قولُ: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، مع رفعِ بصرِه إلى السماءِ بعدَ فراغِه) من وضوئِه. قال في "الفائق": وغُسلٌ، لحديثِ عمرَ مرفوعًا:"ما منكم من أحدٍ يتوضَّأُ، فيُبلغُ أو يُسبغُ الوضوءَ، ثم يقولُ: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، إلا فتحتْ له أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ، يدخلُ من أيِّها شاءَ". رواه مسلمٌ، والترمذيُّ
(1)
، وزادَ:"اللهمَّ اجعلْني من التوابين، واجعلْني من المتطهرين". رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ
(2)
. وزادَ في " الإقناع"
(3)
: "سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُك وأتوبُ إليك". لحديثِ النسائيِّ
(4)
عن أبي سعيدٍ.
(1)
أخرجه مسلم (234)، والترمذي (55).
(2)
أخرجه أحمدُ (1/ 274)(121)، وأبو داودَ (169).
(3)
"الإقناع"(1/ 50).
(4)
أخرجه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(9909)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2333).
وأن يتولى وضوءَه بنفسِه من غَيرِ مُعاونَةٍ.
(و) الثامنَ عشرَ: (أنْ يتولى وضوءَه بنفسِه من غيرِ معاونةٍ) ويباحُ مُعينٌ، وسُنَّ كونُه عن يسارِه.
ولا يصحُّ وضوؤُه أو غسلُه إنْ أُكره فاعلٌ بغيرِ حقٍّ، أما إنْ أُكْره بحقِّ، كما لو أَكره قِنَّه على ذلك، فإنه يَصحُّ.
ويباحُ تنشيفٌ. وتركُهما
(1)
أفضلُ. وكُرِه نفضُ ماءٍ. وقد يجبُ معينٌ ولو بأجرةِ مثلٍ في حقِّ نحوِ أقطعَ.
وقال العلامةُ الشيخُ مرعي
(2)
: ويتجه: وجوبُ تنشيفٍ لمتيمِّمٍ لضيقِ وقتٍ.
قال ابنُ القيمِ: والأذكارُ التي تقولُها العامةُ على الوضوء
(3)
عند كلِّ عضوٍ، لا أصلَ لها عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصحابةِ، والتابعين، والأئمةِ الأربعةِ، وفيه حديثٌ كذبٌ عليه صلى الله عليه وسلم.
(1)
أي: المعين والتنشيف. وانظر "مطالب أولي النهى"(1/ 122).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 77).
(3)
سقطت: "على الوضوء" من الأصل.
بابُ مسحِ الخُفَّين
يجوزُ بشروطٍ سبعة:
لُبسهُما بعد كمالِ الطهارةِ بالماءِ،
(بابُ مسحِ الخفينِ)
أعقبه للبابِ
(1)
الذي قبلَه؛ لأنَّ مسحَ الحائلِ بدلٌ عن مسحِ ما تحتَهُ.
والمسحُ عليهما من خصائصِ هذه الأمةِ، وأجمعَ أهلُ السنةِ على جوازِه، وخالفَ فيه الشيعةُ. قال الإمامُ أحمدُ: ليس في قلبي من المسحِ على الخفين شيءٌ؛ فيه أربعون حديثًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال الحسنُ: حدَّثَني سبعون من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّه مسحَ على الخفين.
وما في معناهما: أي: معنى الخفين؛ كالجوربين والجرموقين
(2)
، وكذا العمامةُ والخمارُ
(3)
.
وهو رخصةٌ. والمسحُ أفضلُ من الغَسلِ.
(يجوزُ) المسحُ على الخفين (بشروطٍ سبعةٍ):
أحدُها: (لبسُهما بعد كمالِ الطهارةِ بالماءِ) لحديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ قال: كنتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ في سيرٍ، فأَفْرغتُ عليه من الإداوةِ
(4)
، فغسلَ وجهَه،
(1)
في الأصل: "بالباب".
(2)
الجُرْمُوقُ: ما يُلبسُ فوق الخفّ. "المصباح المنير"(جرم).
(3)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 67).
(4)
في الأصل: "الإدوة" والإداوة، بالكسر: المطهرة. "القاموس المحيط". (أدو).
وسترُهما لمحلِّ الفرضِ ولو بربطِهما،
وغسلَ ذراعيه، ومسحَ برأسِه، ثمَّ أهويتُ لأنزِعَ خفَّيه. فقال:"دعْهما؛ فإنِّي أدخلتُهما طاهرتين". فمسحَ عليهما. متفقٌ عليه
(1)
.
وعنه أيضًا قال: قلنا: يا رسولَ اللهِ، أيمسحُ أحدُنا على الخفينِ؟ قال:"نعمْ، إذا أدخلَهما وهما طاهرتانِ". رواه الحميديُّ في "مسندِه"
(2)
.
فلو لبسَه على طهارةِ تيمُّمٍ، لم يصحَّ المسحُ عليه -ووجهُ المذهبِ: أنَّ التيممَ لا يرفعُ الحدثَ، فقد صدقَ عليه أنَّه غسلَه وهو محدثٌ -أو غسَلَ رجلًا، ثم أدخلَها الخفَّ، ثم الثانيةَ، ثم أدخلَها إياه، أو لبسَ الخفين محدثًا، ثم توضأَ، وغسلَ رجليه داخلَ الخفينِ، أو لبسَهما متطهرًا، فأحدثَ قبلَ أن تصلَ القدمُ إلى موضعِها، أو نوى جنبٌ رفعَ حدثيه، وغَسَلَ رجليه ثمَّ أدخلَهما في خفَّيه، ثمَّ أتمَّ طهارتَه، خلعَ، ثُمَّ لبسَ قبلَ الحدثِ، وإلا لم يمسحْ. وكذا تفصيلُ عمامةٍ ونحوِها.
(و) الثاني: (سترُهما لمحلِّ الفرضِ ولو بربطِهما) فلو ظهرَ منه شيءٌ وجبَ الغسلُ، ولم يجزِ المسحُ؛ إذ لا يُجمعُ بينَ البدلِ والمُبدَلِ في محلٍّ واحدٍ، وكما لو غسلَ إحدى الرِّجلين، فيجبُ غسلُ الأخرى.
ولو كان السترُ بمخرَّقٍ أو مفتَّقٍ، وينضَمُّ بلُبسِه، أو كان القَدَمُ يبدو بعضُه لولا شدُّه، أي: ربطُه. أو شَرَجُهُ، بالشين المعجمة والجيم. فلا يشترطُ في الساترِ كونه صحيحًا. والمشرجُ: كالزَّرْبُولِ له ساقٌ وعُرًى، يدخلُ بعضُها في بعضٍ، فيسترُ محلَّ الفرضِ، فيصحُّ المسحُ عليه؛ لأنَّه ساترٌ يمكنُ متابعةُ المشيِ فيه، أشبهَ غيرَ ذي
(1)
أخرجه البخاري (206)، ومسلم (274).
(2)
أخرجه الحميدي (758)، ومن طريقه الدارقطني (1/ 197).
وإمكانُ المشيِ بهمَا عُرفًا، وثبوتُهما بنفسِهما، وإباحتُهما، وطهارةُ عينِهِما،
الشَّرَجِ. فإن لم ينضمَّ بلبسِه ولا غيرِهِ، لم يصحَّ المسحُ عليه، كبيرًا كان الخرق
(1)
أو صغيرًا، من محلِّ الخرز
(2)
أو غيرِه.
(و) الثالثُ: (إمكانُ المشي بهما عرفًا) لا كونه يمنعُ نفوذَ الماءَ، أو معتادًا، فيصحُّ على خفٍّ من جلدٍ، ولبدٍ، وخشبٍ، وحديدٍ، وزجاجٍ لا يصفُ البشرةَ، ونحوِه، حيثُ أمكنَ المشيُ فيه؛ لأنَّه يمكنُ متابعة المشيِ فيه ساترًا لمحلِّ الفرضِ، أشبهَ الجلدَ. وقد يحتاجُ إلى بعضِها في بعضِ البلادِ، ولا يضرُّ عدمُ الحاجةِ في غيرِه
(3)
.
(و) الرابعُ: (ثبوتُهما بنفسِهما) فإنْ لم يثبتْ إلا بشدِّه، لم يجزِ المسحُ عليه؛ لفقدِ شرطِه.
(و) الخامسُ: (إباحتُهما) فلا يصحُّ على مغصوبٍ، ولا حريرٍ لرجلٍ، أي: مع الضرورةِ وعدمِها، فلا يصحُّ. وإن خافَ بنزعِه سقوطَ أصابعه من بردٍ؛ لأنَّ المسحَ رخصةٌ فلا تستباحُ بالمعصيةِ، كما لا يستبيحُ المسافرُ الرخصَ بسفرِ المعصيةِ. وسواءٌ كان خفًّا، أو عمامةً، أو خمارًا، أو جبيرةً. ومُذَهَّبٌ ونحوُه.
(و) السادسُ: (طهارةُ عينِهما) أي: الممسوحِ. فلا يصحُّ على نجسِ العينِ، خفًّا كان أو جبيرةً، أو غيرَهما. ولو في ضرورةٍ. ويتيمم
(4)
مَنْ لبسَ ساترًا نجسًا مع الضرورةِ بنزعِه. ويعيدُ ما صلَّى به؛ لحملِه الشماسةَ.
(1)
سقطت: "الخرق" من الأصل.
(2)
في الأصل: "الخرق".
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 128).
(4)
في الأصل: "وتيمم". والمثبت من "دقائق أولي النهى" 1/ 128.
وعدمُ وصفِهما البَشَرةَ.
فيمسحُ المقيمُ، والعاصِي بسَفَرِهِ، مِنْ الحدثِ بعدَ اللُّبسِ يومًا وليلةً، والمسافرُ ثلاثةَ أيامٍ بليالِيهنَّ.
فلو مسح في السفرِ ثم أقامَ،
(و) السابعُ: (عدمُ وصفِهما البشرةَ) لصفائِه، أو خفتِه.
(فيمسحُ المقيمُ) ولو كان عاصيًا بإقامتِه، كمَن أمره سيِّدُه بسفرٍ، ثُمَّ أقامَ. والمسافرُ دونَ المسافةِ (و) يمسحُ (العاصي بسفرِه من الحدثِ بعد اللُّبسِ يومًا وليلةً) كما لو سافرَ لأخذِ مَكْسٍ، أو قطعِ طريقٍ. أها العاصي في السفرِ المباحِ، كشربِ الخمرِ، مثلًا، فإنَّه يمسحُ مسحَ مسافرٍ؛ لأنَّ سفرَه ليسَ معصيةً، فجازَ له الرخص.
(و) يمسحُ (المسافرُ ثلاثةَ أيامٍ بلياليهنَّ) لمَنْ بسفرِ قصرٍ لم يعصِ به. أي: بالسفرِ؛ بأنْ كانَ غيرَ محرَّمٍ ولَا مَكروه، ولو عصَى فيه؛ لقولِه عليه السلام: "للمسافرِ ثلاثةُ أيامٍ ولياليهنَّ، وللمقيمِ يومٌ
(1)
وليلةٌ". رواه أحمدُ، ومسلمُ، والنسائيُّ، وابنُ ماجه
(2)
، من حديثِ عائشةَ.
(فلو مسحَ في السفرِ، ثمَّ أقامَ) قبلَ مضىِّ مدتِه، أتمَّ مسحَ مقيمٍ، إنْ بقَي منه، وإلا خلعَ في الحالِ. ولو مسحَ في السفرِ أكثرَ من يومٍ وليلةٍ، ثمَّ دخلَ في الصَّلاةِ، فنوَى الإقامةَ في أثنائِها، بطلَتْ
(3)
.
(1)
في الأصل: "يومًا".
(2)
أخرجه أحمدُ (2/ 145)(749)، ومسلمُ (276)، والنسائي (129)، وابنُ ماجه (552).
(3)
انظر "مطالب أولي النهى"(1/ 134).
أو في الحضَرِ ثمَّ سافرَ، أو شكَّ في ابتداءِ المَسحِ، لم يَزِد على مسحِ المُقيم.
ويجبُ مسحُ أكثرِ أعلَى الخفِّ،
ولو تلبَّسَ بالصَّلاةِ في سفينةٍ، فدخلَ البلدَ في أثنائِها، بطلتْ. قال الشيخُ مرعي
(1)
: إقامةً تمنعُ القصرَ.
(أو في الحضرِ، ثمَّ سافرَ) لم يزدْ على مسحِ مقيمٍ، تغليبًا للحضرِ
(أو شكَّ في ابتداءِ المسحِ) بأن لمْ يدرِ أمسحَ مقيمًا أو مسافرًا؟ لأنَّ الأصلَ الغَسلُ، والمسحُ رُخصةٌ، فإذا شكَكنَا في شَرطِها رجعْنا إلى الأصلِ.
فإنْ كان قد صلَّى بعدَ اليومِ والليلة مع الشك، ثم
(2)
تيقَّن، فعليه إعادة ما صلى مع الشك؛ لأنَّه صلى مع طهارةٍ لم يكنْ له أنْ يصلِّيَ بها، فهو كما لو صلَّى معتقدًا أنَّه محدثٌ؛ ثم ذكرَ أنه متطهرٌ، فإنَّ وضوءَه صحيحٌ، ويلزمُه إعادةُ الصَّلاةِ
(3)
.
(لم يزدْ على مسحِ مقيمٍ) لأنَّه اليقينُ، وما زادَ عليه لم يتحققْ شرطُه، والأصلُ عدمُه.
(ويجبُ مسحُ أكثرِ أعلى الخفِّ) أي: أكثرِ ظاهرِ أعلى ذلك، فلا يجزئُ مسحُ باطنِه. والمجزئُ: أن يكونَ خِططًا بالأصابعِ. وقال الشافعيُّ: يجبُ ما يُسمَّى مسحًا. وقال أبو حنيفةَ: قدرَ ثلاثِ أصابعَ. وقال مالكٌ: كل الأعلى
(4)
.
وعُلمَ منَ المتنِ: أنَّه لا يجزئ مسحُ النصفِ فأقلَّ مِن الأعلى؛ لأنَّ الأصلَ أن البدلَ على حكمِ الأصلِ، لكن تركناه هنا للنصوصِ في ذلك، وأقمْنا الأكثرَ مقامَه،
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 80).
(2)
سقطت: "ثم" من الأصل.
(3)
انظر "الشرح الكبير"(1/ 404).
(4)
في الأصل: "كالأعلى".
ولا يجزئُ مسحُ أسفلِه وعقِبهِ، ولا يُسَنُّ.
فإنَّه أقربُ. وقد أقيمَ الأكثرُ مقامَ الكلِّ في كثيرٍ من الأحكامِ.
وسُنَّ المسحُ بأصابعِ يدِه، من أصابعِ رجليه إلى ساقِه؛ يمسَحُ رجلَه اليمنى بيدِه اليمنى، ورجلَه اليسرى بيدِه اليسرى؛ لحديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ في صفةِ وضوءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ثمَّ توضَّأَ، ومسحَ على الخفين، فوضعَ
(1)
يدَه اليمنى على خُفِّه الأيمن، ووضعَ يدَه اليسرَى على خفِّه الأيسر، ثم مسحَ أعلاهما مسحةً واحدةً، حتى كأني أنظرُ إلى أثر
(2)
أصابعِه على الخفين. رواه الخلَّالُ
(3)
. ورُوي عن عمرَ: أنه مسحَ حتى رُؤي أثرُ أصابعِه على خفيه خطوطًا.
والمستحبُّ أن يَفرِجَ أصابعَه. قاله في "الشرح"
(4)
.
(ولا يجزئُ مسحُ أسفلِه) أي: أسفلِ الخفِّ (وعَقِبِه) إن اقتصرَ عليهما. قال في "الإنصاف"
(5)
: قولًا واحدًا. (ولا يُسنُّ) مسحُهما مع أعلى الخفِّ. قال في "الإنصاف": على الصحيحِ من المذهبِ؛ لقولِ عليِّ: لو كان الدينُ بالرأي، لكان أسفلُ الخفِّ أولى بالمسحِ من ظاهرِه، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفَّيه. رواه أحمدُ، وأبو داودَ
(6)
. وأما
(7)
حديثُ المغيرةِ: أنَّه عليه السلام مسحَ
(1)
في الأصل: "ثم وضع".
(2)
في الأصل: "طرفِ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 170)، ومن طريقه البيهقي (1/ 292).
(4)
"الشرح الكبير"(1/ 419).
(5)
"الإنصاف"(1/ 417).
(6)
أخرجه أحمدُ (2/ 139)(737)، وأبو داودَ (162)، وصححه الألباني.
(7)
في الأصل: "من".
ومتى حصلَ ما يُوجِبُ الغُسلَ، أو ظَهَرَ بعضُ محَلِّ الفرضِ، أو انقَضَتِ المدَّةُ، بطَلَ الوضوءُ.
أعلى الخفِّ وأسفلَه
(1)
. فقال الترمذيُّ: إنَّه معلولٌ. وقال: سألتُ أبا زرعةَ ومحمدًا عنه؟ فقالا: ليسَ بصحيحٍ. وقال أحمدُ: إنه من وجهٍ ضعيفٍ.
(ومتى حصلَ ما يوجبُ الغسلَ، أو ظهرَ بعضُ محلِّ الفرضِ) بأن ظهرَ بعضُ قَدَمٍ، من نحوِ خفٍّ مسح عليه، استأنفَ الطهارةَ. أو ظهرَ من عمامةٍ ممسوحةٍ بعضُ رأسٍ، وفحُشَ، استأنفَ الطهارةَ؛ لأنَّ مسحَ العمامةِ قامَ مقامَ مسحِ الرأسِ، ومسحَ الخفِّ أُقيمَ مقامَ غسلِ الرِّجلين، فإذا زالَ الساترُ الذي جعلَ بدلًا، بطلَ حكمُ طهارتِه، كالمتيممِ يجدُ الماءَ. ولو انكشَطتْ ظِهارةُ
(2)
الخفِّ، وبقيتْ بطانتُه، لم يضرَّ.
أو انتقضَ بعضُ العمامةِ الممسوحةِ، ولو كَورًا، استأنف الطهارة؛ لأنَّه كنزعها لزوالِ الممسوحِ عليه.
أو انقطعَ دمُ مستحاضةٍ ونحوِها، كمن به سلسُ بولٍ أو قروحٌ سيَّالةٌ، استأنفَ الطهارةَ؛ لأنَّ طهارتَه إنَّما صحَّتْ للعذرِ، فإذا زالَ العذرُ بطلتْ على الأصلِ، كمن تيمَّمَ لمرضٍ، وعُوفي منه.
(أو انقضتْ المدةُ، بطلَ الوضوءُ)، أي: مدةُ المسحِ؛ لأنَّ طهارتَهُ مؤقتةٌ، فبطلت
(3)
بانتهاءِ وقتِها، كخروجِ وقتِ الصَّلاةِ في حقِّ المتيممِ. وعلى أنَّ الحدثَ
(1)
أخرجه أحمد (3/ 134)(18197)، والترمذي (97)، وضعفه الألباني.
(2)
الظِّهارة: بالكسر: نقيض البطانة. "القاموس المحيط": (ظهر).
(3)
سقطت: "فبطلت" من الأصل.
فَصْلٌ
وصاحبُ الجَبيرةِ إنْ وضعَها على طهارةٍ، ولم تتجاوزْ محلَّ الحاجةِ، غَسَلَ الصَّحيحَ ومسحَ عليها بالماءِ، وأجزأ، إلَّا وجبَ، مع الغَسلِ، أنْ يتيمَّم لها.
ولا مَسْحَ
لا يتبعَّضُ في النقضِ، فإذا خلعَ، عادَ الحدثُ -أي: النقفق- إلى العضوِ الذي مسحَ الحائلَ عنه، فيسري إلى بقيةِ الأعضاءِ، فيستأنفُ الوضوءَ، وإن قرُبَ الزمنُ. قال أبو المعالي وغيرُه: إنَّ هذا هو
(1)
الصحيحُ من المذهبِ عندَ المحققين.
(فصلٌ)
(وصاحبُ الجبيرةِ) وهي: ما يُشدُّ على كَسرٍ أو جُرحٍ، أو نحوِهما، من خشبٍ وخرقٍ ونحوِهما
(2)
.
(إنْ وضعَها على طهارةٍ، ولم تتجاوزْ محلَّ الحاجةِ) أي: لم تتجاوزْ محلَّ الحاجةِ، وهو موضعُ الكسرِ، أو الجرحِ، وما أحاطَ به، مما لا يمكنُ الشدُّ إلا به (غسلَ الصحيحَ) بالماءِ (ومسحَ عليها) أي: على الجبيرةِ (بالماءِ، وأجزأَ) ذلك (وإلَّا) بأنْ تجاوزتْ محلَّ الحاجةِ، ووضعتْ على غيرِ طهارةٍ (وجبَ مع الغسلِ، أن يتيمَّمَ لها
(3)
. ولا مسحَ) أي: فلا يصحُّ المسحُ إنْ لم ينزعْها؛ لأنَّه يكونُ تاركًا
(1)
سقطت: "هو" من الأصل.
(2)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 68).
(3)
سقطت: "لها" من الأصل.
ما لَم تُوضَع على طهارةٍ وتتجاوزِ المَحلَّ، فَيَغسِلُ، ويمسحُ، ويتيمم.
غسلَ ما يمكنُه غسلُه من غيرِ ضررٍ.
ومحلُّ الحاجةِ: هو محلُّ الكسرِ، أو الجرحِ، وما لابدَّ من وضعِها عليه؛ لأنَّها لا توضعُ إلا على طرفي صحيحٍ.
وفي "شرح الهداية": وقد يتجاوزُ بها إلى جُرحٍ، أو ورَمِ، أو شيءٍ يُرتجى به البرءُ أو سرعتُه، وقد يُضطرُّ إلى الجبرِ بعظمٍ يكفيه أصغرُ منه، لكنْ لم يجدْ سواه
(1)
.
وعُلِمَ من هذا: إن تجاوزَ شدُّها محلَّ الحاجةِ، نزعَها، فإنْ خافَ الضررَ، تيمَّمَ لزائدٍ على محلِّ الحاجةِ. فيغسلُ الصحيحَ، ويمسحُ من الجبيرةِ على ما حاذى محلَّ الحاجةِ، ويتيمَّمُ لزائدٍ. وإنْ مسحَها كلَّها مع التيمُّمِ، فلا بأسَ. ولهذا أشارَ إليه بقولِه:(ما لمْ توضعْ على طهارةٍ، وتتجاوزِ المحلَّ)، أي: محلَّ الحاجةِ، (فيَغسِلُ) الصحيحَ، (ويمسحُ) على الجبيرةِ، (ويتيمَّمُ) للزائدِ الذي جاوزَ محلَّ الحاجةِ.
ويحرمُ الجبرُ بجبيرةٍ نجسةٍ، كجلدِ الميتةِ، والخرقةِ النجسةِ، وبمغصوبٍ. والمسحُ على ذلك باطلٌ. قاله في "الإقناع"
(2)
.
"فائدةٌ": إذا كانت الجبيرةُ في محلِّ أعضاءِ التيممِ؛ بأنْ كانتْ في الوجهِ واليدين، فإنَّه يكفيه المسحُ عليها بدلَ التيمُّمِ، فيمسحُ على الجبيرةِ التي على الوجهِ واليدينِ. فلو عمَّتْ بعضَ أعضاء التيمُّمِ، كيدٍ واحدةٍ، أو الوجهِ، فهلْ يمسحُ عليه، ويتيممُ في الباقي، أر يتيممُ للجميعِ؟ الظاهرُ: أنَّهم لم يخصوا، إلا إذا عمتْ محلَّ التيمُّمِ كلَّه، فيبقى ما عداه داخلٌ في طلبِ التيممِ. ذكرَهُ الشيخُ يوسفُ الفتوحي في هامشِ متنِ "المنتهى".
(1)
انظر " الإنصاف"(1/ 426).
(2)
"الإقناع"(1/ 56).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"تنبيهٌ": عُلِمَ مما تقدَّمَ: أنَّ الجبيرةَ تفارقُ الخفَّ في أشياء:
منها: أنَّه يجبُ مسحُ جميعِها، بخلافِ الخفِّ
ومنها: عدمُ توقيتِ الجبيرةِ بمدةٍ، بخلافِه.
ومنها: أنه لا يمسحُ عليها في الطهارةِ الكبرى، بخلافِه.
ومنها: أنَّ المسحَ عليها مخصوصٌ بحالِ الضرورة، بخلافِه.
ومنها: أنَّ المسحَ عليها عزيمةٌ، بخلافِه.
ومنها: أنه يجوزُ المسحُ فيها على الخرقةِ، بخلافِه.
ومنها: أنه لا يشترط فيها سترُ محلِّ الفرضِ، بخلافِه.
"فائدةٌ": ودواءٌ على البدنِ، ولو قارًّا في شَقِّ، وتضرَّرَ بقلعِه، كجبيرةٍ في المسحِ عليه، إنْ وضعَه على طهارةٍ، ومنعه إنْ لم يكنْ على طهارةٍ؛ لأنَّه في معناها. وكذا لو تألَّمَتْ إصبعُه فألقمَها مرارةً. وإذا كان بإصبعِه جرحٌ أو فصادٌ، وخافَ اندفاقَ الدمِ بإصابةِ الماء، جازَ المسحُ عليه، نصًّا. ذكرَه في "الإنصاف"
(1)
ملخصًا.
"تتمةٌ": وزوالُ جبيرةٍ، ولو لم يبرأْ ما تحتها، كزوالِ خفٍّ، وكذا برؤُها؛ لأنَّ مسحَها بدلٌ عن غسلِ ما تحتَها. إلَّا أنها إذا مُسحَت في الطهارةِ الكبرى وزالَت، أجزأ غَسلُ ما تحتها
(2)
؛ لعدمِ وجوبِ الموالاةِ في الطهارةِ الكبرى.
والمرأةُ كالرجلِ في جوازِ المسحِ على الحوائلِ إلا العمامةَ. ولا مدخلَ لحائلٍ في طهارةٍ كبرى إلا الجبيرةُ.
(1)
"الإنصاف"(1/ 427).
(2)
سقطت: "إلا أنها إذا مسحت في الطهارة الكبرى وزالت اجزأ غسل ما تحتها" من الأصل. والمثبت من "معونة أولي النهى"(1/ 304).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"فرعٌ": يُشرطُ في عمامةٍ ثلاثةُ شروطٍ:
أحدُها: كونُها محنَّكةً، أي: مُدارًا منها تحتَ الحنكِ. كَورٌ -بفتح الكاف- أو كَورَان، سواءٌ كان لها ذؤابةٌ، أو لَا؛ لأنَّ هذه عمامةُ العربِ، وهي أكثرُ سترًا، ويشقُّ نزعُها. قال القاضي: سواءٌ كانتْ كبيرة أو صغيرةً، أو كونُها ذاتَ ذؤابةٍ -بضم المعجمة، وبعدها همزة مفتوحة- هي: طرفُ العمامةِ المرخيُّ؛ مجازًا. وأصلُها الناصيةُ، أو منبتُها من الرأسِ، وهو
(1)
شعرٌ في أعلى ناصيةِ الفرسِ.
فإن لم تكنْ محنَّكةً، ولا ذاتَ ذؤابةٍ، لم يجزْ المسحُ عليها؛ لعدمِ المشقةِ في نزعِها، ولأنها تشبِهُ عمائمَ أهلِ الذمةِ، وقد نهي عن التشبهِ بهم. قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: المحكيُّ عن أحمدَ: الكراهةُ. والأقربُ: أنها كراهةٌ لا ترتقي إلى التحريمِ، ومثلُ هذا لا يمنعُ الترخصَ، كسفرِ النزهةِ.
والثاني: كونُها على ذكرٍ. فلا تمسحُ امرأةٌ ولا خنثى على عمامةٍ، ولو لحاجةِ بردٍ.
والثالث: سترُ العمامةِ من الرأسِ غيرِ ما العادَةُ كشفُه، كمقدَّمِ الرأسِ والأذنين، وجوانبِ الرأسِ، فيعفى عنه، بخلافِ خرقِ الخفِّ؛ لأنَّ هذا جرت العادةُ به، ويشقُّ التحرزُ منه. ولا يجبُ مسحُه، أي: ما جرتْ العادةُ بكشفِه معها، أي العمامةِ؛ لأنها نابَتْ عن الرأسِ، فانتقلَ الفرضُ إليها، وتعلَّقَ الحكمُ بها، لكنه مستحبُّ. قال في "الشرح": نصَّ عليه.
ويجبُ مسحُ أكثرِها، أي العمامةِ؛ لأنها أحدُ الممسوحين على وجهِ البدلِ، فأجزأَ مسحُ بعضِه كالخفِّ.
(1)
سقطت: "هو" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإنْ كان تحتَ العمامةِ قَلَنسوةٌ يظهرُ بعضُها، فالظاهرُ: جوازُ المسحِ عليهما، لأنَّهما صارا كالعمامةِ الواحدةِ. قالَهُ في "المغني"
(1)
.
"تنبيهٌ": لو زالَ حنكُ العمامةِ، ففي بطلانِ المسحِ وجهانِ.
قال في "الغاية"
(2)
: ومتى ظهرَ بعضُ رأسٍ وفحُشَ، أو انتقضَ بعضُ عمامةٍ، ولو كَورًا واحدًا، ولو في نحوِ صلاةٍ، بطلتْ، واستأنفَ الطهارةَ.
"فوائدٌ": الأولى: الأفضلُ في الذؤابةِ أنْ تكونَ قدرَ شبرٍ، فلو كانتْ أكثرَ، فلا بأسَ. رُوي أن ذؤابةَ ابنِ الزبير كانتْ تبلغُ سرَّتَه، أو وسطَه. وأما محلُّها: فالسنةُ أن تكونَ خلفَه، وأما ما يفعلُه بعضُ الناسِ من إخراجِ طرفِ العمامةِ عند انتهاءِ لفِّها قدرَ الإصبعِ، فليسَ بذؤابةٍ، فلا يُخرِجُ به العمامةَ عن الصمَّا، ولو جعلَ في عمامتِه خرقةً، فأرخاها ذؤابةً، فقال ابرتُ عبد الهادي: ظاهرُ كلامِهم: لا فرقَ.
الفائدةُ الثانيةُ: السُّنةُ في العمامةِ أن تكونَ بيضاءَ، ويجوزُ أن تكونَ خضراءَ، أو سوداءَ. وأما العمامةُ الزرقاءُ والحمراءُ والصفراءُ، فيُكره لبسُها؛ لأنَّ ذلك زيُّ اليهودِ والنصارى والسَّامرةِ، ولبسُ الطائفةِ الأحمديةِ العمامةُ الحمراءُ؛ لأنَّه إنما هو طارئٌ، يمنعُ كونُه زيَّ مَن ذُكِرَ.
الثالثة: لبسُ العمامةِ في حقِّ الرجلِ أفضلُ من كشفِ رأسِه، ومِن لبسِ الطاقيةِ من غيرِ عمامة. ولبسُ الطاقيةِ أفضلُ من كشفِ الرأسِ. انتهى. قاله الشيخُ يوسفُ في "حاشيته على المنتهى".
(1)
"المغني"(1/ 381).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 81).
بابُ نواقِضِ الوُضوءِ
وهي ثمانيةٌ:
أحدُها: الخارجُ من السَّبيلين، قليلًا كان أو كثيرًا، طاهرًا أو نَجِسًا.
الثاني: خروجُ النجاسةِ من بقيَّة البدَنِ.
فإن كان بولًا أو غائِطًا، نَقَضَ مطلقًا.
(بابُ نواقضِ الوضوءِ)
النواقضُ: جمعُ ناقضةٍ، لا ناقض؛ لأنَّ فاعلًا وصفًا لا يُجمعُ على فواعلَ إلا مؤنثًا. وشذَّ: فوارسُ، جمعُ فارسٍ. وقيلَ ذلك في العاقلِ، وأما غيرُه فيُجمَعُ كلٌّ منهما على فواعلَ، كما ذكرَهُ ابنُ مالكٍ وغيرُه.
واستعمالُ النقضِ في إفسادِ الوضوءِ مجازٌ؛ لأنَّ النقضَ يُستعملُ حقيقةً في البناءِ، ومجازًا في المعاني، ومنه: نقضُ الوضوءِ، ونقضُ العلةِ، وعلاقتُه الإبطالُ.
(وهي) أي: النواقضُ (ثمانيةٌ):
(أحدُها: الخارجُ) ولو كان نادرًا كالريحِ من القبلِ، والدودِ والحصى من الدُبُرِ. (من السَّبيلين) وهو: مخرجُ البولِ والغائطِ.
فينقضُ ما خرجَ من السبيلين (قليلًا كان أو كثيرًا) من بولٍ وغائطٍ (طاهرًا أو نجسًا) أي: كالمنيِّ، وكالريحِ من الدُبُرِ، وكالولدِ العاري عن الدمِ.
(الثاني) من النواقضِ: (خروجُ النجاسةِ من بقيةِ البدنِ) أي: غيرِ السبيلين، كقيءٍ وغيرِه.
(فإن كان بولًا أو غائطًا، نقضَ مطلقًا) أي: كثيرًا كان البولُ أو الغائطُ، أو
وإن كان غيرَهُما، كالدَّمِ والقيءِ، نَقَضَ إنْ فحُش في نفسِ كلِّ أحدٍ بحَسَبِه.
الثالثُ: زوالُ العقلِ،
يسيرًا. (وإن كانَ غيرَهما) أي: غيرَ البولِ والغائطِ (كالدَّمِ، والقيءِ) والقيحِ، والصَّديدِ (نقَضَ إن فحُشَ في نفسِ كلِّ أحدٍ بحسبِه) رُوي نحوُه عن ابنِ عباسٍ. قال الخلَّالُ: الذي استقرتْ عليه الروايةُ: أنَّ الفاحِشَ: ما يَستفحشُه كلُّ إنسانٍ بحسبِه، أي: في نفسِه؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "دعْ ما يريبُكَ إلا ما لا يريبُكَ"
(1)
. ولأنَّ اعتبارَ حالِ الإنسانِ بما يستفحشُه غيرُه حرجٌ، فيكونُ منفيًّا.
وبالنقضِ بخروجِ النجاسةِ الفاحشةِ من غيرِ السبيلِ قال
(2)
ابنُ عباسٍ وابنُ عمرَ.
ولحديثِ
(3)
معدانَ بنِ أبي طلحةَ، عن أبي الدرداءِ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاءَ فتوضَّأَ. قال: فلقيتُ ثوبانَ في مسجدِ دِمشق، فسألتُه؟ فقال: صدقتَ، أنا سكبتُ له وضوءَه. رواه الترمذيُّ
(4)
، وقال: هذا أصحُّ شيءٍ في هذا البابِ. قيل لأحمدَ: حديثُ ثوبانَ ثبتَ عندَك؟ قال: نعمْ.
فلا ينقض وضوءُ القصَّابينَ، فإنَّ الكثيرَ عندَنا يسيرٌ عندَهم.
(الثالثُ) من النواقضِ: (زوالُ العقلِ) كحدوثِ جنونٍ أو بِرسامٍ
(5)
، كثيرًا كان
(1)
أخرجه أحمد (3/ 248)(1723)، والترمذي (2518) من حديث الحسن بن علي. وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "قول".
(3)
في الأصل: "لحديث".
(4)
أخرجه الترمذيُّ (87)، وصححه الألباني.
(5)
البِرْسامُ: عِلَّةٌ يُهْذَى فيها. "القاموس المحيط"(برسم).
أو تغطِيتُه بإغماءٍ أو نومٍ، ما لم يكُنِ النومُ يسيرًا عُرفًا من جالسٍ
أو قليلًا، إجماعًا. (أو تغطيتُه بإغماءٍ) أو بسُكرٍ، أو شُربِ دواءٍ (أو نومٍ) هو: غشيةٌ ثقيلةٌ تقعُ على القلبِ، تمنعُ المعرفةَ بالأشياءِ. وقال البيضاويُّ
(1)
: هو حالٌ يعرضُ للحيوانِ من استرخاءِ أعصابِ
(2)
الدِّماغِ من رطوباتِ الأبخرةِ المتصاعدةِ، بحيثُ تقفُ الحواسُّ الظاهرةُ عن الإحساسِ رأسًا.
لحديثِ عليٍّ مرفوعًا: "العينُ وِكاءُ السَّه، فمنْ نامَ فليتوضَّأْ". رواه أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجه
(3)
. والسَّهُ: حَلَقَةُ الدُبُرِ.
(ما لم يكنِ النومُ يسيرًا عُرْفًا من جالسٍ) لحديثِ أنسٍ: كان أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاءَ الآخرةَ، حتى تخفقَ رؤوسُهم، ثمَّ يصلُّونَ ولا يتوضئون. رواه أبو داودَ
(4)
. ولأنَّه يكثرُ وقوعُه من منتظرِي الصَّلاةِ، فعُفِي عنه للمشقَّةِ. وإنْ رأى رؤيا، فهو كثيرٌ. وعنه: لا. وهو أظهرُ. وإن خطَرَ ببالِه شيءٌ لا يدري: أرؤيا، أو حديثُ نفسٍ؟ فلا نقضَ. ومرجعُ اليسيرِ إلى العرفِ، كما في المتنِ.
قال في "الشرح الكبير"
(5)
: قال شيخُنا: الصحيحُ: أنه
(6)
لا حدَّ له. فمتى وُجِدَ ما يدلُّ على الكثرةِ، مثلَ سقوطِ المتمكِّنِ، نقضَ، وإلا فلا.
(1)
"تفسير البيضاوي"(1/ 552).
(2)
في الأصل: "أعضاء".
(3)
أخرجه أحمدُ (2/ 227)(887)، وأبو داودَ (203)، وابنُ ماجه (477)، وحسنه الألباني.
(4)
أخرجه أبو داود (200)، وصححه الألبانى.
(5)
"الشرح الكبير"(2/ 25).
(6)
سقطت: "أنه" من الأصل.
وقائمٍ.
الرابعُ: مسُّه بيدِه
وقال الزركشيُّ
(1)
: فمن سمِعَ كلامَ غيرِهِ وفِهمَه، فليس بنائمٍ، فإنْ سمِعَه ولم يفهمْه فيسيرٌ، أو حديث نفسٍ، فلا وضوءَ عليه.
وإن شكَّ في وجودِ النومِ، أو غلَبَتِه على عقلِه، فلا نقضَ؛ لأنَّ الأصلَ الطهارةُ، فلا يزولُ عن اليقينِ بالشكِّ.
(و) اليسير عُرفًا من (قائمِ) لحديث ابنِ عباسٍ، لما باتَ عند خالتِه ميمونةَ. رواه مسلمٌ
(2)
. ولأنه يشبِهُ الجالسً في التحفظِ واجتماعِ المخرجِ، وربما كان القائمُ أبعدَ عن الحدثِ.
أما المضطجعُ والراكعُ والسَّاجدُ، فينقضُ النومُ اليسيرُ إذا حصلَ منهم، وكذلك المستنِدُ والمتكئُ والمحتبي.
قال الزركشيُّ: وإذا سقطَ الساجدُ عن هيئته
(3)
، أو القائمُ عن قيامِه، ونحو ذلك، بطلتْ طهارتُه؛ لأنَّ أهلَ العُرْفِ يعدُّونَ ذلك كثيرًا.
وعُلِمَ منه: أنَّ النومَ الكثيرَ من الجالسِ والقائمِ ناقضٌ كالمضطجعِ؛ لأنَّ النقضَ بالنومِ معلَّلٌ بإفضائِه إلى الحدثِ، ومع الكثرةِ لا يحسُّ بما يخرجُ منه، بخلافِ اليسيرِ.
(الرابعُ) من النواقضِ: (مسُّه) أي: فرجِ الآدمىِّ (بيدِه) متعلِّقٌ بمس. فلا نقضَ
(1)
انظر "شرح الزركشي"(1/ 240).
(2)
أخرجه البخاري (138)، ومسلم (763).
(3)
في الأصل: "جبهتِه".
-لا ظُفره- فرجَ الآدميِّ المتَّصلَ بلا حائلٍ،
إذا مسَّه بغَيرِها، لحديثِ أحمدَ، والدارقطنيِّ
(1)
: "من أفضَى بيدِه إلى ذكرِه" ولأنَّ غيرَ اليدِ ليسَ بآلةِ اللَّمسِ. ولو كانتْ زائدةً، ولا فرقَ بينَ بطنِ الكفِّ وظهرِها وحرْفِها؛ لأنَّه جزءٌ منها، أشبَهَ بطنَها.
والمرادُ باليدِ: إلى الكوعِ؛ لأنَّها المرادُ عندَ الإطلاقِ، كما في التيمُّمِ والسَّرِقةِ. قال ابنُ قندسٍ في "حاشية المحرر": والفقهاءُ يستعملون غالبًا المصرَّ باليدِ فقط، واللَّمسَ بجميعِ البدنِ، فيقولون غالبًا: مسَّ الذكرَ بيدِه، ولمَصرَ المرأةَ؛ لأنَّ لمسَ المرأةِ ليس مقيدًا باليدِ، بلْ يدخلون فيه اللمسَ باليدِ وبغيرِها. ولهذا يقولون: لمسَ الرجلُ المرأةَ ببشرتِه. وبعضُهم يستعملُ المسَّ باليدِ وبغَيرِها، وكذلك اللَّمسُ، إلَّا أنَّ أكثرَ استعمالِهم على الأوَّلِ. فعلى هذا: يكونُ اللمسُ أعمَّ من المسَّ؛ لأنَّ اللَّمسَ يدخلُ فيه اليدُ وغيرُها، والمسَّ مقيدٌ باليدِ. انتهى.
(لا ظفرِه) فلا ينقضُ مسُّه بالظفرِ؛ لأنَّه في حكمِ المنفصلِ (فرجَ الآدميِّ) دون سائرِ الحيواناتِ. تعمَّدَهُ، أو لا، ذكرًا أو أنثَى، صغيرًا أو كبيرًا. (المتصلَ) أي: فلا نقضَ بمسِّ الفرجِ البائنِ، كالذكَرِ المقطوعِ؛ لأنَّه لا يترتَّبُ عليه أحكامُ المتصلِ من وجوبِ الغسلِ، والحدِّ، وغيرِ ذلك. وهو صفةٌ لـ"فرجٍ".
(بلا حائلٍ) متعلِّقٌ بـ"مسِّ"؛ لقولِه عليه السلام: "مَنْ أفضى بيدِه إلى ذكره
(2)
، ليس دونَه سترٌ، فقد وجبَ عليه الوضوءُ". رواه أحمدُ والدارقطنيُّ. فإنْ مسَّ
(1)
أخرجه أحمد (14/ 131)(8404)، والدارقطنيِّ (1/ 147) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني. "الصحيحة"(1235).
(2)
سقطت: "إلى ذكره" من الأصل.
أو حَلْقَةَ دُبر، لا مسُّ الخِصْيتينِ،
بحائلٍ، فلا نقضَ.
(أو حلقةَ دُبُرِهِ) منه أو من غيرِه. وعنه: لا. قال في "الفروع"
(1)
: وهو أظهرُ.
أما مسُّ الذكرِ؛ فلحديثِ بسرةَ بنتِ صفوانَ مرفوعًا: "مَنْ مسَّ ذكرَه فليتوضَّأْ". رواه مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ. وصحَّحه الترمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ. وابنُ ماجه
(2)
. وصحَّحه ابنُ معينٍ. وقال البخاريُّ: أصحُّ شيءٍ في هذا البابِ حديثُ بسرةَ. وعن جابرٍ مثلُه، رواه ابنُ ماجه
(3)
.
وأما مسُّ غيرِ الذكرِ فلعمومِ قولِه عليه السلام: "مَنْ مسَّ فرجَه فليتوضَّأْ". رواه ابنُ ماجه
(4)
، والأثرمُ، وصحَّحه أحمدُ وأبو زرعةَ. ولحديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه:"أيما امرأةٍ مسَّتْ فرجَها فلتتوضَّأْ". رواه أحمدُ
(5)
.
وإذا نقضَ بمسِّ فرجِ نفسِه مع دعاءِ الحاجةِ إليه وجوازِه، فمسُّ فرجِ غيرِه أولى. وفي بعضِ ألفاظِ حديثِ بُشرةَ:"مَنْ مسَّ الذكرَ، فليتوضَّأْ" فيشملُ كلَّ ذكرٍ.
(لا مسُّ الخِصيتيْنِ) فلا نقضَ بمسِّ الخِصيتيْنِ وما حولَهما إلا بشهوةٍ.
والظاهرُ: أنَّ المرادَ باعتبارِ النقضِ حيثُ اعتبرتْ بأنْ مسَّ ذلك الذكَر من الأنثى، أو عكسُه. ولا بمسِّ شُفْرَي الفرجِ مطلقًا.
(1)
في الأصل: "قال المنع" وانظر "الفروع"(1/ 226).
(2)
أخرجه مالكٌ في "الموطأ"(1/ 42)، والشافعي في "الأم"(1/ 33)، "وأحمدُ (6/ 406)، الترمذيُّ (82)، وابنُ ماجه (479)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه ابن ماجه (480).
(4)
أخرجه ابن ماجه (481) من حديث أم حبيبة. قال الألباني: صحيح لغيره.
(5)
أخرجه أحمد (11/ 647)(7076)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2725).
ولا مسُّ مَحلِّ الفرجِ البائِنِ.
الخامسُ: لَمسُ بشرَةِ الذَّكرِ الأنثى، أو الأنثى الذَّكَرَ، لشهوةٍ
(ولا مسُّ محلِّ الفرجِ البائنِ) لأنَّه ليس بفرجٍ. وكذا مسَّ البائنِ؛ لذهابِ حرمتِه.
(الخامسُ) من النواقضِ: (لمسُ بشرةِ الذكَرِ الأنثى، أو الأنثى
(1)
الذكرَ؛ لشهوةٍ) لقولِه تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّساء: 43]. إذ اللَّمسُ أعمُّ من الجماعِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يُحملُ على بعضِ محتملاتِه إلا بدليلٍ، ولا دليلَ على إرادةٍ، فيُحملُ على عمومِه.
واشتُرطتْ الشهوةُ؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: القبلةُ من اللَّمسِ وفيها الوضوءُ
(2)
. فتخصيصُه القُبلةَ بذلك قرينةُ الشهوةِ
(3)
.
أما وضوءُ الرَّجلِ والمرأةِ فلا يَنتَقِض بمسِّهما الخُنثى المشكَّلِ لشهوةٍ. ولا وضوءُ الخنثى المشكَّلِ بمحرِّ رجلٍ أو امرأةٍ لشهوةٍ، على المذهبِ.
قال في "الإنصاف"
(4)
: وعليه
(5)
جماهيرُ الأصحابِ. وعنه: لا ينقضُ مطلقًا، اختارَه الشيخ تقيُّ الدينِ في "فتاويه"، وصاحب "الفائق"، ولو باشرَ مباشرةً فاحشةٍ. وقيل: إنْ انتشرَ نقَضَ، وإلا فلا. وعنه: ينقضُ مطلقًا.
(1)
في الأصل: "والأنثى".
(2)
لم أجده عن ابن عباس. وهو عند البيهقي (1/ 124) عن عمر. وعند ابن أبي شيبة (1/ 49) عن ابن مسعود.
(3)
انظر "شرح الزركشي"(1/ 265).
(4)
"الإنصاف"(2/ 42).
(5)
مراده: لمس بشرة الذكر الأنثى لشهوة.
مِنْ غيرِ حائلٍ، ولو كان الملموسُ ميِّتًا، أو عجُوزًا، أو مَحْرَمًا.
وأمَّا كونُ اللَّمس لا ينقضُ إلا إذا كان لشهوةٍ، فللجمعِ بين الآيةِ والأخبارِ؛ لأنَّه قد رُوي عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها، أنها قالتْ: فقدْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراشِ، فالتمسْتُه، فوقعتْ يدي على بطنِ قَدَمِه، وهو في المسجدِ، وهما منصوبتان. رواه مسلمٌ
(1)
. ونصبُهما دليلٌ على أنَّه يصلِّي.
ورُوي عنها أيضًا أنَّها قالتْ: كنتُ أنامُ بينَ يدي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قِبلتِه، فإذا سجدَ غمزَني، فقبضتُ رِجلي. متفقٌ عليه
(2)
. والظاهرُ: أنَّ غمزه رجليها كان من غير حائلٍ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُه. ولأنَّ اللَّمسَ ليس بحدَثٍ، وإنما هو داعٍ إليه، فاعتُبرتْ الحالُ التي تدعو فيها إليه، وهي حالُ الشهوةِ.
وقيسَ عليه مسُّ المرأةِ الرجلَ، ومتى لم ينقضْ مسُّ أنثى، استحبَّ الوضوءُ، نصًّا.
(من غيرِ حائلٍ) متعلِّقٌ بـ"لمس". فإنْ كان بحائلٍ لم ينقضْ؛ لأنَّه لم يلمسِ البشرةَ، أشبَهَ لمسَ الثيابِ. والشهوةُ بمجردِها لا توجبُ الوضوءَ، كما لو وجدتْ من غيرِ لمسٍ.
(ولو كان الملموسُ ميتًا)؛ للعمومِ، وكما يجبُ الغُسلُ بوطءِ الميتِ، (أو) كان الملموسُ (عجوزًا أو مَحرَمًا) لعمومِ لفظِ الآيةِ. ولأنَّ ذلك معتبرٌ بوجودِ الشهوةِ، فإذا وجدتْ، فلا فرقَ بين كونِ الملموسِ مظنةَ الشهوةِ، أو لا.
وقال الشافعيُّ: لا نقضَ بلمسِ ذاتِ المحرمِ. وهو قولٌ عن الإمامِ، قدَّمه في "الرعاية الصغرى".
(1)
أخرجه مسلم (486).
(2)
أخرجه البخاري (382)، ومسلم (512).
لا لمسُ مَنْ دُونَ سَبعٍ، ولا لمسُ سِنٍّ وظُفرٍ وشعرٍ، ولا اللَّمسُ بذلك.
ولا ينتقضُ وضوءُ الممسُوسِ فرجُه، أو الملموسِ بدنُه، ولو وَجَدَ شهوةً.
(لا لمسُ مَن دونَ سبعٍ) أي: لا ينقضُ مسُّ مَنْ دونَ سبعِ سنين، من ذكرٍ أو أنثى، لاُنَّه ليس محلًّا للشهوةِ.
(ولا) ينقضُ (لمسُ
(1)
سنٍّ، وظُفرٍ، وشَعرٍ) أي: ولا نَقضَ بلمسِ سنٍّ وظفرٍ وشعرٍ؛ لأنَّ ذلك لا يقعُ الطلاقُ بإيقاعِه عليه، ولا الظهارُ، ولا العتقُ؛ لكونِه ينفصلُ في حالِ السَّلامةِ، أشبَهَ لمسَ الدمعِ.
قال في "الفروع"
(2)
: ولا لمسُ سنٍّ وشعرٍ وظفرٍ، في الأصحِّ، خلافًا لمالكٍ. وقال بعضُهم: وكذا اللَّمسُ به. وهو متوجِّهٌ. وأشارَ إليه بقولِه: (ولا اللَّمسُ بذلك) أي: بالسنِّ والشعرِ والظفرِ.
ولا نقضَ بلمسِ رجلٍ لأمردَ؛ وهو الشابُّ الذي طرَّ شاربُه ولم تنبتْ لحيتُه. قاله في "القاموس". ولو لشهوةٍ، وكذا مسّ امرأةٍ امرأةً، ولو لشهوةٍ، لعدمِ تناولِ النصِّ له.
(ولا ينتقضُ وضوءُ الممسوسِ فرجُه، أو
(3)
الملموسِ بدنُه، ولو وجَدَ شهوةً) يعني: لا ينتقضُ وضوءُ ممسوسٍ فرجُه، وإنْ وجدتْ منه شهوةٌ، ولا وضوءُ ملموسٍ بدنُه لشهوةٍ، وإن وجدتْ منه شهوةٌ. بل يختصُّ النقضُ بالماسِّ واللامسِ؛ لعدمِ تناولِ النصِّ لهما.
(1)
في الأصل: "بلمس".
(2)
"الفروع"(1/ 232).
(3)
في الأصل: "ولا".
السادسُ: غَسلُ الميِّت أو بعضِهِ.
والغاسلُ هو مَنْ يُقلِّبُ الميِّتَ ويُباشِرُه، لا مَنْ يصُبُّ الماءَ.
السابعُ: أكلُ لحم الإبِلِ،
ولا نقضَ أيضًا بانتشارٍ بفكرٍ، أو تكرارِ نظرٍ.
(السادسُ) من نواقضِ الوضوءِ: (غسلُ الميتِ، أو بعضِه) مسلمًا كان أو كافرًا، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى؛ لأنَّ ابنَ عمرَ وابنَ عباسٍ كانا يأمرانِ غاسلَ الميتِ بالوضوءِ
(1)
. ولم يُعلمْ لهما مخالفٌ من الصَّحابةِ. ولأنَّ الغاسلَ لا يسلمُ غالبًا من مسِّ عورةِ الميتِ، فأقيمَ مقامَه، كالنومِ مع الحدثِ. ولو في قميصٍ.
وهو: من يُقلِّبُه ويباشرُه، ولو مرَّةً، لا مَن يصبُّ الماءَ ونحوَه. وإليه أشارَ بقولِه:(والغاسلُ: هو مَنْ يقلِّبُ الميتَ ويباشِرُه، لا مَنْ يصبُّ الماءَ) ولا ينتقضُ وضوءُ مَنْ يمَّمَه.
(السابعُ) من النواقضِ: (أكلُ لحمِ الإبلِ) علِمَه أو جهِلَه، نيئًا كان أو مطبوخًا، وسواءٌ عَلِمَ بالحديثِ الوراد فيه، أو لا؛ لحديثِ البراءِ بنِ عازبٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أنتوضأُ من لحومِ الإبلِ؟ قال: "نعمْ" قيل: أنتوضأ من لحومِ الغنمِ؟ قال: "لا". رواه أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ
(2)
. قال الخطابيُّ
(3)
: ذهبَ إلى هذا عامةُ
(1)
أثر ابن عمر: أخرجه عبد الرزاق (6107)، والبيهقي 1/ 306 من طريق عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف. وأما أثر ابن عباس: أخرجه عبد الرزاق (6101).
(2)
أخرجه أحمد 30/ 631 (18703)، وأبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494)، وصححه الألباني في "الإرواء" تحت حديث (118).
(3)
"معالم السنن"(1/ 136).
ولو نَيئًا.
فلا نقضَ ببقيَّةِ أجزائِها، كَكَبِدٍ، وقلبٍ، وطِحَالٍ، وكَرشٍ، وشَحمٍ، وكُليةٍ، ولسانٍ، ورأسٍ، وسَنَام، وكوا عَ، ومُصرانٍ، ومَرَقِ لحمٍ. ولا يحنثُ بذلِكَ مَنْ حَلَفَ: لا يأكلُ لحمًا.
أصحابِ الحديثِ.
ودعوى النسخِ، أو أنَّ المرادَ بالوضوءِ غسلُ اليدينِ، مردودٌ.
و"إبل" بكسرتين، وتسكَّن الباءُ. قال في "القاموس": واحدٌ يقعُ على الجمعِ، وليس بجمعٍ، ولا اسمَ جمعٍ، وجمعُه: آبال.
وقيل: الوضوءُ منه معلَّلٌ بأنَّها من الشياطينِ، إذْ كلُّ عاتٍ متمرِّدٍ شيطانٌ، فالكلبُ الأسودُ شيطانُ الكِلابِ. والإبلُ شياطينُ الأنعامِ، فالأكلُ منها يورِّثُ حالًا شيطانيةً، والشيطانُ يطفئُه باردُ الماءِ
(1)
.
(ولو نَيئًا. فلا نقضَ ببقيَّةِ أجزائِها) أي: الإبلِ (ككبدٍ، وقلبٍ، وطِحالٍ، وكرشٍ، وشحمِ، وكليةٍ، ولسانٍ، ورأسٍ، وسنامِ، وكوارعَ، ومُصرانٍ، ومرقِ لحمٍ) لأنَّ الأخَبارَ الصحيحةَ إنما وردتْ في اللَّحَمِ، والحكمُ فيه غيرُ معقولِ المعَنَى، فاقتصرَ فيه على موردِ النصِّ، فإنَّه أمرٌ تعبديٌّ، فلا يتعدَّى إلى غيرِه
(ولا يحنثُ بذلك مَنْ حلفَ: لا يأكلُ لحمًا) أي: لا يحنثُ مَنْ حلفَ: لا يأكلُ لحمًا، فأكلَ من بقيةِ أجزائِها، وهو ما تقدَّمَ، فإنَّه لا يحنثُ، فإنه لا يُسمى لحمًا عندَ الإطلاقِ.
(1)
انظر "المبدع"(1/ 169).
الثامن: الردَّة.
وكلُّ ما أوجبَ الغُسلَ، أوجبَ الوضوءَ، غَيرَ الموتِ.
(الثامنُ) من نواقضِ الوضوءِ: (الرِدَّةُ) لقولِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65] وقولِه عليه السلام: "الطُّهورُ شطرُ الإيمانِ"
(1)
. والردَّةُ تُبْطلُ الإيمانَ، فوجبَ أن تُبطلَ ما هو شطرُه. وقال القاضي: لا معنى لجعلِها من النواقضِ، مع وجوبِ الطهارةِ الكبرى -يعني: إذا عادَ إلى الإسلامِ- إذ وجوبُ الغسلِ ملازمٌ لوجوبِ الوضوءِ، كما ذكرَ بقولِه:(وكلُّ ما أوجبَ الغُسلَ، أوجبَ الوضوءَ، غيرَ الموتِ) كإسلامٍ، وانتقالِ منيٍّ، وحيضٍ، ونفاسٍ. وأما الميتُ فلا يجبُ وضوؤُه، بل يُسنَّ.
وعُلِمَ مما سبقَ: أنه لا نقضَ بنحوِ كذبٍ، وغيبةٍ، ورَفَثٍ، وقذفٍ، نصًّا. ولا بقهقهةٍ، ولا بأكلٍ ممَّا مسَّتْهُ النارُ. لكن يُسنُّ الوضوءُ من كلامٍ محرَّمٍ، ومن مسَّ المرأةِ؛ حيثُ قلنا: لا يوجبُ الوضوءَ.
وحديثُ الأمرِ بإعادةِ الوضوءِ والصَّلاةِ من القهقهةِ، ضعَّفه أحمدُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، والدارقطنيُّ، وهو من مراسيلِ أبي العاليةِ. قال ابنُ سيرينَ: لا تأخذوا بمراسيلِ الحسنِ وأبي العاليةِ، فإنهما لا يباليانِ عَمَّنْ أخذا.
والقهقهةُ: أن يضحكَ حتى يحصلَ من ضحكِه حرفان. ذكرَهُ ابنُ عقيلٍ.
ولا نقضَ بإزالةِ شعير ونحوِه كظفرٍ؛ لأنَّه ليس بدلًا عمَّا تحتَه، بخلافِ الخفِّ. وقدْ تقدمَ.
(1)
أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.
فَصْلٌ
من تيقَّن الطَّهارةَ وشَكَّ في الحدَثِ،
(فصلٌ)
في مسائلَ من الشكِّ في الطهارةِ، وما يحرمُ بحدثٍ
(مَنْ تيقَّنَ الطهارةَ، وشكَّ في الحدثِ) اليقينُ: ما أذعنَتِ النفسُ للتصديقِ به، وقطعتْ به، وقطعتْ بأنَّ قطعَها صحيحٌ.
والشكُّ: خلافُ اليقينِ. وعندَ الأصوليين: إنْ تساوى الاحتمالان، وإلا فالراجحُ ظنٌّ، والمرجوحُ وهمٌ.
وقال في "الكشاف"
(1)
: اليقينُ هو إتقانُ العلمِ بانتفاءِ الشكِّ والشبهةِ عنه.
وقال البيضاويُّ
(2)
: هو إتقانُ العلمِ بنفيِ الشكِّ والشبهةِ عنه بالاستدلالِ. ولذلك لم يوصفْ به علمُ الباري، ولا العلومُ الضروريةُ.
وقال الفخرُ الرازي
(3)
: هو العلمُ بالشيءِ بعدَ أنْ كان صاحبُه شاكًّا فيه. قال: ولهذا لا يُوصفُ اللهُ به. انتهى.
لكَن يقتضي كلامُه: دخولَ الظنِّ في حدِّ اليقينِ؛ لانتفاءِ الشكِّ.
قال ابنُ نصرِ اللهِ: في تسميةِ ما هنا يقينًا بعد ورودِ الشكِّ عليه، نظرٌ! نعمْ كان
(1)
"تفسير الكشاف"(1/ 83).
(2)
"تفسير البيضاوي"(1/ 127).
(3)
"تفسير الرازي"(2/ 31).
أو تيقَّن الحدثَ وشكَّ في الطَّهارةِ، عَمِلَ بما تيقَّن.
ويحرمُ على المُحدِثِ: الصلاةُ،
يقينًا، ثم صارَ الآنَ شكًّا، فاعتبرتْ صفتُه السابقةُ، وقدِّمتْ على صفتِه اللاحقةِ
(1)
(أو تيقنَ الحدثَ، وشكَّ). أي: تردَّدَ. قال في "القاموس": الشكُّ خلافُ اليقينِ (في الطهارةِ، عملَ بما تيقَّنَ) لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ، شُكِي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: الرجلُ يُخيَّلُ إليه أنَّه يجدُ الشيءَ في الصَّلاةِ؟ فقال: "لا ينصرفُ حتى يسمعَ صوتًا، أو يجدَ ريحًا". متفقٌ عليه
(2)
. ولمسلمٍ معناه مرفوعًا من حديثِ أبي هريرةَ، ولم يذكرْ فيه:"وهو في الصَّلاة"
(3)
. ولأنه تعارضَ عنده الأمرانِ بالشكِّ، فوجبَ سقوطُهما، كبيِّنَتَين تعارضَتَا، فيرجعُ إلى اليقينِ، سواءٌ غلبَ على ظنِّه أحدُهما، أو لا؛ لأنَّ غلبةَ الظنِّ إذا لم يكنْ لها ضابطٌ في الشرعِ، لم يُلتفتْ إليها، كظنِّ صدقِ أحدِ المتداعيين، بخلافِ القِبلةِ.
فعُلِمَ من هذا: أنَّه في الصورةِ الأولى باقٍ على طهارتِه؛ لأنَّه متيقنٌ الطهارةَ. وفي الصورةِ الثانيةِ فهو محدثٌ؛ لأنَّه متيقنٌ الحدثَ، والطهارةُ مشكوكٌ فيها، فعمِلَ باليقينِ.
(ويحرمُ على المحدثِ: الصَّلاةُ) حدثًا أكبرَ أو أصغرَ، مع قدرةٍ على طهارةِ صلاةٍ، لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا:"لا يقبلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طُهُورٍ، ولا صدقةً من غُلُولٍ". رواه الجماعةُ إلا البخاريَّ
(4)
.
(1)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 81).
(2)
أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).
(3)
أخرجه مسلم (362).
(4)
أخرجه مسلم (224)، وأحمد (8/ 323)(4700)، وأبو داود (59)، والترمذي (1)،=
والطَّواف، ومَسُّ المُصحَفِ
وسواءٌ الفرضُ
(1)
والنفلُ، وسجودُ التلاوةِ والشكرِ، وصلاةُ الجنازةِ. ولا يكفرُ مَنْ صلَّى محدِثًا.
وحكى النوويُّ وابنُ حزمٍ عن بعضِ العلماءِ: جوازَ الصَّلاةِ على الجنازةِ بغيرِ وضوءٍ، ولا تيمُّمٍ.
وقال المصنِّفُ في متنِ "غاية المنتهى"
(2)
: يحرُمُ بحدثٍ صلاةٌ، حيثُ لا عذرَ، ولا كفر
(3)
.
(و) يحرُمُ (الطوافُ) فرضًا كان أو نفلًا؛ لقولِه عليه السلام: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ، إلا أنَّ اللهَ أباحَ فيه الكلامَ". رواه الشافعيُّ
(4)
.
(و) يحرُمُ (مسُّ المصحفِ) وبعضِه، ولو من صغيرٍ، لقولِه تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقِعَة: 79] ولحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتبَ إلى أهلِ اليمنِ كتابًا وفيه: "ولا يمسُّ القرآنَ إلا طاهرٌ". رواه الأثرمُ، والنسائيُّ والدارقطنيُّ
(5)
. واحتجَّ به أحمدُ.
= والنسائي (139)، وابن ماجه (272).
(1)
في الأصل: "الفرائضُ".
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 85).
(3)
في الأصل: "حيث لا عذر يحرم".
(4)
أخرجه الشافعي في "المسند"(899). لكن من قول ابن عمر. وانظر "الإرواء"(121).
والحديث أخرجه الترمذي (960)، وابن خزيمة (2739) من حديث ابن عباس مرفوعًا. وصححه الألباني.
(5)
أخربخه النسائيُّ (8/ 57)، والدارقطنيُّ (1/ 122)، وصححه الألباني في "الإرواء"(122).
ببشَرتِه بلا حَائلٍ.
ويزيدُ من عَليهِ غُسلٌ بقِراءةِ القُرآنِ،
حتى جلدَهُ، وحواشِيهِ، وما فيه من ورقٍ أبيضَ؛ لأنَّه يشملُه اسمُ المصحفِ، ويدخلُ في بيعِه.
(ببثسَرَتِه) أي: ببدنِه (بلا حائلٍ) فإن كان بحائلٍ، لم يحرمْ. والمرادُ بالحائلِ: الذي لا يتبعُه في البيعِ، أما الحائلُ الذي يتبعُه فيه؛ كجلدٍ، وورقٍ أبيضَ متصلٍ به، فإنَّه لا يجوزُ مسُّه.
لا حملُه بعِلاقَةٍ، وفي كيسٍ، وصندوقٍ.
(ويزيدُ) على ذلك (مَنْ عليه غسلٌ بقراءةِ القرآنِ)، ولو آيةً؛ لما روَى عليٌّ رضي الله تعالى عنه، أنَّه صلى الله عليه وسلم لمْ يكنْ يحجبُه -أو لا يحجزُه- عن قراءةِ القرآنِ شيءٌ ليس الجنابةُ. رواه ابنُ خزيمةَ، والحاكمُ والدارقطنيُّ
(1)
وصحَّحاه.
ولا يُمنعُ من بعضِها، ولو كرَّرَ قراءةَ البعضِ، ما لم يتحيَّلْ على قراءةٍ تحرمُ؛ كقراءةِ آيةٍ فأكثرَ؛ لما يأتي: أنَّ الحيلَ غيرُ جائزةٍ في شيءٍ من أمورِ الدينِ.
وللجنبِ تهجِّيه؛ لأنَّه ليس بقراءةٍ. وتبطلُ الصَّلاةُ به، لخروجِه عن نظمِه وإعجازِه.
قال المنقِّحُ
(2)
: ويمتنعُ عليه قراءةُ بعضِ آيةٍ طويلةٍ، كآيةِ الدَّينِ.
وله قراءةُ ما وافقَ قرآنًا من الأذكارِ، ولم يقصدْه. أي: القرآنَ. كالبسملةِ،
(1)
أخرجه ابنُ خزيمةَ (208)، والحاكمُ في "المستدرك"(1/ 253)، والدارقطنيُّ (1/ 119)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(485).
(2)
انظر " التنقيح"(1/ 61).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وآيةِ الاسترجاعِ والركوبِ. فإنْ قصدَه، حرُمَ، وكذا لو قرأَ ما لا يوافقُ ذكرًا، ولم يقصدْه. وله النظرُ في المصحفِ، وله الذكرُ؛ لحديثِ مسلمٍ
(1)
عن عائشةَ رضي الله عنها: كان النبيَّ صلى الله عليه وسلم يذكر اللهَ على كلِّ أحيانِه.
ولا يحرُمُ مسُّ تفسيرٍ ونحوِه، ككتبٍ ورسائلَ فيها آياتٌ من القرآنِ. وكذا المأثورُ عن اللهِ تعالى، والتوراةُ والإنجيلُ.
ولا يحرُمُ حملُ رُقىً وتعاويذَ، وحملُ دراهمَ فيها قرآنٌ، وثوبٌ رُقِمَ فيه قرآنٌ.
ولا يحرُمُ مسُّ صغيرٍ لوحًا فيه قرآنٌ، فلا يحرُمُ مسُّ اللَّوحِ من المحلِّ الخالي من الكتابةِ؛ للمشقَّةِ.
ويحرُمُ مخالفةُ خطِّ عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي اللهُ تعالى عنه، في رسمِ واوٍ، وياءٍ، وألفٍ، وغيرِ ذلك، كمدِّ التاءِ، وربطِها، نصًّا؛ لقولِه عليه السلام:"عليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ بعدي". الحديث
(2)
.
ويُكره مدُّ الرِّجلين إلى جهةِ المصحفِ، واستدباره
(3)
، وتخطِّيه، ورميُه إلى الأرضِ بلا وضعٍ، ولا حاجةٍ. وجعلُه عندَ القبرِ منهيٌّ عنه، ولو جُعِلَ للقراءةِ هناك. ويحرُمُ السفرُ به إلى دارِ الحربِ.
وتُكره تحليتُه بذهبٍ أو فضةٍ، ويحرُمُ في كتبِ علمٍ أنْ تحلَّى؛ لتضييقِ النقدين.
(1)
أخرجه مسلم (373).
(2)
أخرجه أبو داود (4609)، والترمذي (2676) من حديث العرباض بن سارية. وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "واستداره".
واللُّبثِ في المسجدِ بلا وُضوءٍ.
ويُباحُ تطيبُه، وجعلُه على كرسيٍّ. ويُباحُ أنْ يُجعل في كيسٍ حريرٍ.
وقال ابنُ الزَّاغوني: يحرمُ كتبُه بذهبٍ؛ لأنَّه من زخرفةِ المصاحفِ. ويؤمرُ بحكِّه. وإنْ
(1)
كان يجتمعُ منه ما يُتموَّلُ، زكَّاه
(2)
.
ويُباحُ استفتاحُ الفألِ فيه، فعلَه أبو عبدِ اللهِ عبيدُ اللهِ بنُ بطةَ. ويُباحُ تقبيلُه.
وقال شيخُ الإسلامِ تقي الدين ابن تيمية: إذا اعتادَ الناسُ قيامَ بعضِهم لبعضٍ، فقيامُهم لكتابِ اللهِ أحقُّ؛ إجلالًا وتعظيمًا. قال ابنُ الجوزيِّ: إنَّ تركَ القيامِ كان في أولِ الأمرِ، ثمَّ لما كان تركُ القيامِ كالإهوان بالشخصِ، استحبَّ لمَنْ يصلحُ له القيامُ.
ويباحُ كتابةُ آيتينِ إلى الكفارِ، وتضمينُه الشعر؛ لصحةِ القصدِ، وسلامةِ الوضعِ. وأما تضمينُه لغيرِ ذلك، فظاهرُ كلامِ ابنِ القيمِ: التحريمُ، كما يحرُمُ جعلُ القرآنِ بدلًا من الكلامِ. ويجوزُ التسميةُ في الرسائلِ والحجج
(3)
.
(و) يحرُمُ (اللبثُ في المسجدِ بلا وضوءٍ) أي: لا يجوزُ لجنبٍ، وحائضٍ ونفساءَ انقطعَ دمُهما، لبثٌ فيه؛ لقولِه تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النِّساء: 43] وهو الطريقُ. وعن جابرٍ: كان أحدُنا يمرُّ
(4)
في المسجدِ جنبًا مُجتازًا. رواه سعيدُ بنُ منصورٍ
(5)
. وسواءٌ كان لحاجةٍ أو لا. ومن الحاجةِ كونُه طريقًا قصيرًا، لكنْ كرِهَ أحمدُ اتخاذَه طريقًا.
(1)
في الأصل: "إن".
(2)
سقطت: "زكاه" من الأصل.
(3)
انظر "كشاف القناع"(1/ 317) فما بعدها.
(4)
في الأصل: "نائم". والمثبت من سنن سعيد بن منصور (614 - تفسير).
(5)
أخرجه سعيد بن منصور (614 - تفسير).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإن توضَّؤوا، جازَ لهم اللُّبثُ فيه، لما روى سعيدُ بنُ منصورٍ، والأثرمُ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ قال: رأيتُ رجالًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يجلسون في المسجدِ وهم مجنبون إذا توضئوا وضوءَ الصَّلاةِ. إسنادُه صحيحٌ. قاله في "المبدع"
(1)
. قال الشيخ تقيُّ الدينِ: وحينئذٍ فيجوزُ أن ينامَ في المسجدِ، حيثُ ينامُ غيرُه.
فإن تعذرَ الوضوءُ على الجنبِ، واحتيجَ للبثِ في المسجدِ ابتداءً، أو دوامًا؛ لحبسٍ، أو خوفٍ على نفسِه أو مالِه، ونحوِه، جازَ له اللُّبثُ بلا تيمُّمٍ، نصًّا.
وتيمَّمَ جنبٌ ونحوُه للبثٍ لغُسلٍ فيه، إذا تعذرَ عليه الوضوءُ والغسلُ عاجلًا، وإنْ لمْ يحتجْ للبثٍ، خلافًا لابنِ قندس؛ لأنَّه إذا احتاجَ إليه، جازَ بلا تيمُّمٍ، نصًّا. والأوْلى أن يتيمَّمَ.
ولا يُكره غُسلٌ في المسجدِ، ولا وضوءٌ فيه، ما لم يوذِ بهما. أي: بماءِ الغسلِ والوضوءِ.
ومصلَّى العيدِ، لا مصلَّى جنائزَ، مسجدٌ. وأما صلاةُ الجنائزِ فليستْ ذاتَ ركوعٍ ولا سجودٍ، بخلافِ العيدِ.
ويُمنعُ منه مجنونٌ وسكرانُ، ومَنْ عليه نجاسةٌ تتعدَّى. ويُكره تمكينُ صغيرٍ. قال في "الآداب"
(2)
: والمرادُ: صغيرٌ لا يميزُ لغيرِ فائدةٍ. وقال: يُباحُ غَلقُ أبوابِه؛ لئلا يدخلَه مَنْ يُكره دخولُه إليه، نصَّ عليه.
(1)
"المبدع"(1/ 189).
(2)
"الآداب الشرعية"(3/ 376، 384).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويحرُمُ تكسُّبٌ بصنعةٍ فيه؛ لأنَّه لم يُبْنَ لذلك. واستثنى بعضُهم الكتابةَ؛ لأنَّها نوعُ تحصيل لعلمٍ. ويحرُمُ فيه أيضًا البيعُ والشراءُ، ولا يصِحَّانِ. وإنْ عمِلَ لنفسِه نحوَ خياطةٍ، لا لتكسُّبٍ، فاختارَ الموفقُ وغيرُه: الجوازَ. وقال ابنُ البَنَّا: لا يجوزُ.
* * *
بابُ ما يوجبُ الغُسْلَ
وهو سَبَعةٌ:
أحدُهما: انتِقالُ المنيِّ.
(بابُ ما يوجبُ الغُسلَ)
بالضم: الاغتسالُ. والماءُ يُغْتسلُ به. وبالفتحِ: مصدرُ غَسَلَ. وبالكسرِ: ما يُغْسلُ به الرأسُ من خِطميِّ وغيرِه.
وهو في اللغةِ: عبارةٌ عن سيلانِ الماءِ على الشيءِ مطلقًا.
وشرعًا: استعمالُ ماءٍ طهورٍ مباحٍ في جميعِ بدنِه على وجهٍ مخصوصٍ يأتي بيانُه.
والأصلُ في مشروعيتِه: قولُه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المَائدة: 6]. وسُمِّيَ جنبًا، لنهيه أن يقربَ مواضعَ الصَّلاةِ، أو لمجانبتِه الناسَ حتى يتطهر، أو لأنَّ الماءَ جانبَ محلَّه. ويطلقُ على الواحدِ فما فوقَه جُنُبٌ. وقد يقالُ: جُنُبانِ، وجُنبون.
(وهو) أي: الذي يوجبُ الغسلَ باعتبارِ أنواعِه (سبعة) أيها
(1)
وُجِدَ كان سببًا لوجوبهِ:
(أحدُها) أي: الأولُ: (انتقالُ المنيِّ) فيجبُ الغسلُ بمجردِ إحساسِ الرَّجلِ بانتقالِ منيِّهِ عن صُلْبِه، والمرأةِ بانتقالِهِ عن ترائِبها؛ لأنَّ الجنابةَ تباعدُ الماءِ عن
(1)
في الأصل: "أيهما".
فلو أحسَّ بانتقالِه فحَبسَه، فلم يخرُج، وجبَ الغُسْلُ. فلو اغتسَل له، ثمَّ خرجَ بلا لذَّةٍ، لم يُعِدِ الغُسْلَ.
الثاني: خُروجُه من مَخرجِه ولو دمًا.
مواضعِه، وقد وُجِدَ ذلك. ولأنَّ الغُسلَ يُراعى فيه الشهوةُ، وقد وُجدتْ بانتقالِهِ.
والمنيُّ: بتشديد الياء. وحُكي عن ابنِ الأعرابيِّ: تخفيفُه. وسُمىَ بذلك؛ لأنَّه يَمني. أي: يَصُبُّ. والمنيُّ: ماءٌ غليظٌ، يخرجُ عند اشتدادِ الشهوةِ. ومنيُّ المراُةِ أصفرُ رقيقٌ.
(فلو أحسَّ بانتقالِه فحبسَه، فلم يخرجْ، وجبَ الغُسلُ) لأنَّ الجنابةَ أصلُها البُعدُ، لقولِه تعالى:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النِّساء: 36] أي: البعيدُ. ومع الانتقالِ قد باعدَ الماء
(1)
محلَّه، فصدقَ عليه اسمُ الجنبِ. وأنكرَ أحمدُ أن يكونَ الماءُ يرجعُ
(2)
.
(فلو اغتسلَ له، ثُمَّ خرجَ بلا لذَّةٍ، لم يُعدِ الغُسلَ) لأنَّ الوجوبَ تعلَّقَ بالانتقالِ، أو الإحساسِ، وقدْ اغتسلَ له، فلم يجبْ عليه غُسلٌ ثان
(3)
، كبقيَّةِ منيٍّ خرجتْ بعدَ الغسلِ، وليس عليه إلا الوضوءُ، بالَ أو لم يَبُلْ. وقولُه:"بلا لذةٍ" فإنْ خرجَ بلذةٍ، وجبَ إعادته.
(الثاني) أي: من موجباتِ الغسلِ: (خروجُه من مخرجِه) المعتادِ (ولو) كان (دمًا) وهو أن يكونَ لونُه أحمرَ. والمخرجُ: ذكَرُ الرَّجلِ، وفرجُ المرأةِ، وقُبُلي الخُنثى المشكَّلِ.
(1)
سقطت: "الماء" من الأصل.
(2)
انظر "كشاف القناع"(1/ 328).
(3)
في الأصل: "كان".
ويشرَط أن يكونَ بلذَّةٍ،
واحترزَ بخروجِه من مخرجِه: عما لو ضربَ على صلبِه، أو نحوِه، فخرجَ المنيُّ منه، أو استدخلتْ المرأةُ في فرجِها منيَّ الرَّجلِ بقُطنةٍ، فلا غسلَ بذلك. وكذا لو وطئَ دونَ الفرجِ فدبَّ ماؤُه لفرجِها، أو دبَّ منيُّ امرأةٍ بفرجِ أخرَى؛ لتساحقهما، ثمَّ خرجَ، فلا غسلَ عليها بدونِ إنزالِها.
قال الشيخُ منصورٌ في "حاشيته"
(1)
من عدِّ المصنِّفِ الخروجَ بعد الانتقالِ موجبًا: فيه نظرٌ واضحٌ؛ إذ الغسلُ وجبَ بالانتقالِ، لا بالخروجِ، على المذهبِ. وهذه الطريقةُ في عدِّ الموجباتِ، انفردَ بها المصنِّفُ عن الأصحابِ، فإنَّهم عدُّوها ستةً، أو سبعةً بالولادةِ، على أحدِ القولينِ: خروجُ المنيِّ. وفي أثناءِ الكلامِ عليه بينوا أن الموجبَ هو الانتقالُ، حتى لو انتقلَ، ولم يخرجْ، وجبَ الغسلُ. وقد تقدمتِ الإشارةُ إليه.
وظاهرُ كلامِهم: طهارتُه
(2)
، حيثُ أطلقوا أنَّ المنيَّ طاهرٌ، وهذا منيٌّ؛ لوجوبِ
(3)
الغُسل بِخروجِه
(4)
.
"فائدةٌ": المنيُّ يُخلقُ منه الحيوانُ، لخروجِه من جميعِ البدنِ، وينقصُ به جزءٌ منه، ولهذا يُضعفُ بكثرتِه، فجُبِرَ بالغُسلِ
(5)
.
(ويشترطُ أن يكونَ بلذةٍ) أي: يعتبرُ وجودُها. فإنْ خرجَ بغيرِ لذةٍ، كمرضٍ أو
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 88).
(2)
أي: إذا خرج المنيُّ دمًا.
(3)
في الأصل: "معنى بوجوب".
(4)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 88).
(5)
انظر "المبدع"(1/ 178).
ما لم يكنْ نائمًا، ونحوَه.
بردٍ أو كسرِ ظهرٍ، لم يجبِ الغسلُ (ما لمْ يكنْ نائمًا، ونحوَه) كمغمًى عليه، وسكرانَ، ومجنونٍ، فإنه لا تُعتبرُ اللَّذةُ في هذه الحالةِ، فيجبُ الغسلُ. ويلزمُ من وجودِ اللذةِ أن يكونَ دَفْقًا، فلهذا استغنينا عن ذكرِ الدَّفقِ باللَّذةِ.
فلو خرجَ المنيُّ من غير
(1)
مخرجِه، أو من يقظانَ لغيرِ لذةٍ، لم يجبِ الغسلُ، وهو نجسٌ، كما في "الرعاية".
وإن انتبه بالغٌ، أو مَنْ يمكنُ بلوغُه كابنِ عشرٍ، وبنتِ تسعٍ، من نومٍ ونحوِه، ووجدَ بللًا ببدنِه أو ثويه، وجَهِلَ كونَه منيًّا، بلا سببٍ تقدَّمَ نومَه من بردٍ، أو نظرٍ، أو فكرٍ، أو ملاعبةٍ، أو انتشارٍ، وجبَ الغسلُ، كتيقنّه منيًّا، وغسلُ ما أصابَه من بدنٍ وثوبٍ، احتياطًا. قال في "المبدع": ولا يجبُ
(2)
.
وإنْ تقدَّمَ نومَه سببٌ من بردٍ، أو نظرٍ، أو فكرٍ، أو ملاعبةٍ، أو انتشارٍ، لم يجبِ الغسلُ؛ لعدمِ تيقنِ الحدثِ، والأصلُ: بقاءُ الطهارةِ.
قال الشيخُ منصورٌ في "شرحِه"
(3)
: قلتُ: والظاهرُ: وجوبُ غسلِ ما أصابَه من ثوبٍ أو بدنٍ، لرجحانِ كونِه مذيًا، بقيامِ سببِه إقامةَ الظنِّ مقامَ اليقينِ، كما لو وجدَ في نومِه حلمًا، فإنَّا نوجبُ الغسلَ؛ لرجحانِ كونِه منيًا
(4)
؛ لقيامِ سببِه. وقال الشريفُ أبو جعفرٍ: لا يجسبُ غسلُ الثوبِ ولا البدنِ جميعًا؛ لترددِ الأمر فيهما. نقلَه عنه ابنُ رجبٍ في ترجمتِه في "الطبقاتِ"، وقال: هذه المسألةُ تشْبِهُ مسألةَ الرَّجلينِ
(1)
سقطت: " غير" من الأصل.
(2)
انظر: "كشاف القناع"(1/ 325).
(3)
"كشاف القناع"(1/ 325).
(4)
سقطت: "منيا" من الأصل.
الثالثُ: تَغييبُ الحشَفَةِ
إذا وجدا على فراشِهما منيًّا، ولم يعلما مَنْ خرجَ منه. ثم قالَ: لكنْ ليسَ له أن يصلِّيَ بحالِه في الثوبِ؛ لأنَّا نتيقنُ بذلك حصولَ المفسدِ لصلاتِه؛ وهو إمَّا الجنابةُ، وإمَّا النجاسةُ.
أو تيقَّنَه: أي: البللَ، مذيًا. لم يجبْ غسلٌ، بل يغسلُ ما أصابَهُ وجوبًا.
ولا يجبُ الغسلُ بحلمٍ بلا بللٍ، فإن انتبَه مَنْ احتلمَ، ثمَّ خرجَ المنيُّ، وجبَ الغسلُ من حينِ الاحتلامِ.
وإنْ وجدَ منيًّا في ثوبٍ لا ينام فيه غيرُه: قال أبو المعالي والأزْجيُّ: لا بظاهرِه؛ لجوازِه من غيرِه. قال في "الإنصاف": وهو الصحيحُ، وهو مرادُ الأصحابِ فيما يظهرُ. فعليه الغسلُ، لوجودِ موجبِه. وإعادةُ المتيقنِ من الصَّلاةِ، وهو -أي
(1)
: المنيُّ- فيه، أي: في الثوبِ.
وإن كان ينامُ هو وغيرُه في الثوبِ، ووجدَ به المنيَّ، وكانا من أهلِ الاحتلامِ، فلا غسلَ عليهما؛ لأنَّ كلًّا منهما متيقنٌ الطَّهارةَ، شاكٌّ في الحدثِ.
فائدةٌ: قال في "الهدي" نقلًا عن ابنِ ماسويه: مَنْ احتلمَ فلمْ يغتسلْ حتى وطئَ أهلَه، فولدتْ مجنونًا، أو مختلًّا، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه
(2)
.
(الثالثُ) من موجباتِ الغسلِ: (تغييبُ الحشفةِ) الأصليةِ، فلا غسلَ بتغييبِ حشفةٍ، زائدةٍ، أو من خنثى مشكل، لاحتمالِ الزيادةِ. أي: إدخالُها فيه، لقولِه عليه السلام:"إذا جلسَ بينَ شُعَبِها الأربعِ، ثمَّ جهَدَها، فقد وجبَ الغسلُ"
(3)
.
(1)
سقطت: "أي" من الأصل.
(2)
انظر: "كشاف القناع"(1/ 325 - 327).
(3)
أخرجه البخاري (291)، ومسلم (348) من حديث أبي هريرة.
كلِّها، أو قَدرِها -بلا حائلٍ- في فَرجٍ، ولو دُبُرًا لميتٍ، أو بهيمةٍ أو طَيرٍ.
واحترزَ بالتغييبِ: عما لو مسَّ الذكرُ الفرجَ من غيرِ إيلاجٍ، أو وطِئَ دونَ الفَرجِ، أو تساحقَ امرأتان أو مجنونان من غيرِ إنزالٍ، فإنَّه لا غسلَ عليهم. وعما لو غيَّبَ بعضَ الحشفةِ. أو قُطعَ الذكرُ، وكان الباقي دون الحشفةِ، فعنه: لا غسلَ عليه أيضًا بدون إنزالٍ. والمرادُ: تغييبُ الحشفةِ المتصلةِ، فلا غسلَ بتغييبِ المقطوعةِ في الفرجِ.
واحترزَ بتغيبِها في الفرجِ: عمَّا لو غيبَها في ثقبٍ فوقَ المعدةِ، أو تحتها، سواءٌ كان الفرجُ مسدودًا أو مفتوحًا، فلا غسلَ عليه، ما لم ينزلْ. انتهى.
(كلِّها أو قدرِها) أي: الحشفةِ من مَقطوعِها. (بلا حائلٍ) لانتفاءِ التقاءِ الختانين مع الحائلِ؛ لأنَّه هو الملاقي للختانِ (في فرجٍ) أصليٍّ. متعلًّقٌ بـ"تغييب"، فلا غسلَ بتغييبِ حشفةٍ أصليةٍ في قُبُلٍ زائدٍ، أو قبلِ خنثى مشكلٍ؛ لاحتمالِ زيادتِه، (ولو) كان الفرجُ الأصليُّ (دبرًا)؛ لأنَّه فرجٌ أصليٌّ، أو كان الفرجُ الأصليُّ (لميِّتٍ) لعمومِ الخبرِ، (أو) كان لـ (بهيمةٍ) حتى سمكةٍ. قاله في "التعليق"؛ لأنَّه فرجٌ أصليٌّ أشبَه الآدميةَ. وطيرٍ حيٍّ أو ميتٍ، وأشارَ إليه
(1)
المصنِّفُ بقولِهِ: (أو طيرٍ) لعمومِ ما سبقَ. ولو لمْ يجدْ حرارةً، خلافًا لأبي حنيفةَ.
ولو كان ذو الحشفةِ الأصليةِ مجنونًا، أو نائمًا، أو مغمًى عليه؛ بأن
(2)
أدخلتْها في فرجِها، فيجبُ الغسلُ على النائمِ والمجنونِ والمغمى عليه، كهي. أي: كما يجبُ على المجامَعَةِ؛ لأنَّ موجبَ الطهارةِ لا يشترطُ فيه القصدُ، كسَبقِ الحدَثِ.
(1)
سقطت "إليه" من الأصل.
(2)
في الأصل: "إن".
لكن لا يجبُ الغُسلُ إلَّا على ابنِ عَشرٍ وبنتِ تِسعٍ.
وإن استدخلتْها، أي: الحشفةَ من ميتٍ، أو من بهيمةٍ، وجبَ عليها الغسلُ دون الميتِ، فلا يُعادُ غسلُه.
ولا فرقَ فيما تقدمَ بينَ العالمِ والجاهلِ (لكن لا يجبُ الغسل
(1)
إلا على ابنِ عشرٍ وبنت تسعٍ) قال الإمامُ: يجبُ على الصغيرِ إذا وطئَ، والصغيرةِ إذا وُطِئَتْ.
فيلزمُه غُسلٌ ووضوءٌ إذا أرادَ ما يتوقفُ على غسلٍ فقط، كقراءةِ القرآنِ، أو على وضوءٍ، كصلاةٍ، وطوافٍ، ومسِّ مصحفٍ.
وليس معنى وجوبِ الغسلِ أو الوضوءِ في حقِّ الصغيرِ: التأثيم
(2)
بتركِه؛ لأنَّه غيرُ مكلَّفٍ. بل معناه: أنه شرطٌ لصحةِ الصَّلاةِ أو الطوافِ، أو لإباحةِ مسِّ المصحفِ، أو قراءةِ القرآنِ
(3)
.
"فوائدٌ": الأولى: مما يتعلقُ بتغييبِ الحشفةِ من الأحكامِ أربعمائةِ حكمٍ إلا ثمانيةً: وجوبُ العدَّةِ، والحدِّ، والغسلِ، وتكميلِ المهرِ، وإحصانِ الزوجينِ، وحِلُّها لمطلِّقِها ثلاثًا، ولحوقُ النسبِ، وزوالُ العِنَّةِ، وإفسادُ الصومِ والحجِّ والعمرةِ والاعتكافِ، ووجوبُ الكفارةِ بإفسادِ الحجِّ والعمرةِ وصومِ رمضانَ، وكونُ الأَمَةِ صارتْ فراشًا للسيدِ، وتحريمُ المصاهرةِ، وتحريمُ أختِ أَمَتِه، وعمَّتِها، وخالتِها، وقطعُ تتابعِ صيامِ الكفارةِ، وتقريرُ كفارةِ الظهارِ، وكفارةُ وطءِ الحائضِ .. إلى غيرِ ذلك. ذكرَهُ ابنُ القيمِ في "تحفة المودود في أحكام المولود"
(4)
. ومَنْ تتبعَ ما يأتي
(1)
سقطت: "الغسل" من الأصل.
(2)
في الأصل: "النائمِ".
(3)
انظر "كشاف القناع"(1/ 332).
(4)
انظر "تحفة المودود" ص (152).
الرابعُ: إسلامُ الكافر، ولو مرتدَّا.
يظفرُ بأكثرِها.
الثانيةُ: لو وطئَ الخنثى بذكَرِه امرأةً، وجامَعَه رجلٌ في قُبُلِه، فعلى الخنثى الغسلُ، وأما الرجلُ والمرأةُ فيلزمُ أحدَهما الغسلُ، لا بعينِه.
ولو وطئَ الخنثى امرأةً في قُبُلِها، ووطئَ رجلٌ الخنثى في قبلِه، لزمَ الخنثى الغسلُ، ولم يلزمِ الرَّجلَ ولا المرأةَ.
ولو تواطأ رجلٌ وخنثى في دُبُرَيْهِما، فعلى كلِّ الغسلُ؛ لأنَّ الرَّجلَ وطئَ الخنثى في دُبُرِه، والخنثى موطوءٌ لرجلٍ في الدُّبُرِ.
الثالثةُ: لو قالتْ امرأةٌ: بي جنيٌّ يجامعُني كالرجلِ، فعليها الغسلُ، خلافًا لأبي المعالي. وفيه نظرٌ. قال ابنُ الجوزيِّ في قولِه تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحمن: 56] الآية. فيه دليلٌ على أنَّ الجنيَّ يغشى المرأةَ كالإنسيِّ. زادَ في "المبدع": وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من الغشيانِ الإيلاجَ؛ لاحتمالِ أن يكونَ إيلاجُه عن ملابسةٍ ببدنِه خاصةً
(1)
.
(الرابعُ) من موجباتِ الغسلِ: (إسلامُ الكافرِ) ذكرًا أو أنثى أو خنثى؛ لحديثِ قيسِ بنِ عاصمٍ: أنَّه أسَلَمَ، فأمرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسلَ بماءٍ وسدرٍ. رواه أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجه، والترمذيُّ
(2)
وحسنَه. (ولو) كان (مرتدًّا) لمساواتِه الأصليَّ في المعنى، وهو الإسلامُ، فوجبَ مساواتُه له في الحكمِ. وسواءٌ وجدَ في كفره ما
(1)
انظر "المبدع"(1/ 183)، "كشاف القناع"(1/ 334).
(2)
أخرجه أحمد (34/ 216)(20611)، وأبو داود (355)، والترمذي (605). وصححه الألباني في "الإرواء"(128). ولم أجده عند ابن ماجه.
الخامسُ: خروجُ الحيض.
السادسُ: خروجُ دَمِ النِّفاسِ.
يوجبُ الغسلَ أو لا. وسواءٌ اغتسلَ قبلَ إسلامِه أو لا. وقال الشافعيُّ: لا يجبُ عليه الغسلُ، إلا إذا كان في كفرِه ما يوجبُه.
"فائدتان": الأولى: لو اغتسلَ في كفرِه لموجبٍ، أعادَ؛ لعدمِ صحتِه. إلا الحائضَ والنفساءَ إذا اغتسلتا لزوجٍ أو سيدٍ مسلمٍ في حالِ كفرِهما، فلا يلزمُهما إعادتُه إذا أسلمتا؛ لصحتِه منهما. وعدمُ اشتراطِ النيةِ فيه؛ للعذرِ، بخلافِ ما لو اغتسلَ الكافر لجنابةٍ، ثمَّ أسلمَ، وجبَ عليه إعادتُه؛ لعدمِ صحتِه منه
(1)
.
(الخامسُ) من موجباتِ الغسلِ: (خروجُ الحيضِ) لقولِه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البَقَرَة: 222] أي: من الحيضِ. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البَقَرَة: 222] أي: اغتسلْنَ. وجهُ الدلالةِ: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أوقفَ حقَّ الزوجِ من الوطءِ الواجبِ له على اغتسالِها، فدلَّ على وجوبِه عليها؛ الأنَّ ما لا يتمُّ الواجبُ إلَّا به واجبٌ. لقولِه عليه السلام لفاطمةَ بنتِ أبي حبيشٍ:"إذا اقبلتِ الحيضةُ، فدعي الصَّلاةَ، وإذا أدبرَتْ فاغتسلي وصلِّي". رواه البخاريُّ
(2)
.
"فائدةٌ": لا يلزمُ الحائضَ أن تغتسلَ من الجنابةِ، حتى ينقطعَ الحيضُ، فإذا فعلتْ، صحَّ. قال في "الإقناع"
(3)
: بل يُستحبُّ، ويزولُ حكمُ الجنابةِ.
(السادسُ) من موجباتِ الغسلِ: (خروج دمِ النفاس) لاُنَّه دمُ حيضٍ مجتمعٌ،
(1)
انظر "كشاف القناع"(1/ 337).
(2)
أخرجه البخاري (320) من حديث عائشة.
(3)
"الإقناع"(1/ 68).
السابع: الموتُ؛ تَعبُّدًا.
وانقطاعُه شرطٌ لصحةِ الغسلِ، فلا يجبُ غسلٌ بولادةٍ عرتْ عنه. أي: الدَّمِ. ولا يحرُمُ بها وطءٌ، ولا يفسدُ صومٌ، ولا بإلقاءِ علقةٍ أو مضغةٍ؛ لأنَّه لا نصَّ فيه، ولا هو في معنى المنصوصِ عليه.
والولدُ طاهرٌ، ومع الدَّمِ يجبُ غَسلُه.
(السابعُ) من موجباتِ الغسلِ: (الموتُ؛ تعبَّدًا) لا عن حدثٍ؛ لأنَّه لو كان عنه، لم يرتفعْ مع بقاءِ سببِه. ولا عن نجسٍ، وإلا لما طهرَ مع بقاءِ سببِه للتنجيسِ، وهو الموتُ. غيرَ شهيدِ معركةٍ، أو مقتولٍ ظلمًا، فلا يغسَّلانِ، بل يُكره، ما لمْ يكنْ عليهما غسلٌ قبل الموتِ، من حيضٍ أو نفاسٍ، أو غيرِ ذلك، فيجبُ غسلُهما.
قال العلَّامةُ الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(1)
: ويتَّجه: زيادةُ ثامنٍ، وهو: خروجُ نجاسةٍ بعد غَسلِ ميتٍ، قبل سبعٍ ووضعٍ بكفنٍ.
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 90).
فَصْلٌ
وشُروطُ الغُسْلِ سَبعَةٌ:
انقطاعُ ما يوجِبُه، والنيَّةُ، والإسلامُ، والعقلُ، والتمييزُ، والماءُ الطَّهورُ المباحُ، وإزالةُ ما يمنعُ وصولَه.
وواجبُه: التسَّميةُ،
(فصلٌ)
(وشروطُ الغُسلِ سبعةٌ):
الأوَّلُ: (انقطاعُ ما يوجبُه) من نحوِ حيضٍ ونفاسٍ.
(و) الشرطُ الثاني: (النيةُ) أي: برفعِ الحدثِ الأكبرِ، أو استباحةِ ما شرطُ له الطَّهارةُ الكبرى، كقراءةِ القرآنِ، أو رفعِ الجنابةِ، أو الحيضِ، أو نحوِ ذلك.
(و) الشرطُ الثالثُ: (الإسلامُ) فلا يصحُّ من كافرٍ؛ لعدمِ صحةِ النيةِ منه.
(و) الشرطُ الرابعُ: (العقلُ) فلا يصحُّ من مجنونٍ.
(و) الشرطُ الخامسُ: (التمييزُ) وهو
(1)
من بلغَ سبعَ سنينَ.
(و) الشرطُ السادسُ: (الماءُ الطهورُ المباحُ) وقدْ تقدَّمَ.
(و) الشرطُ السابعُ: (إزالةُ
(2)
ما يمنعُ وصولَه) وقدْ تقدمَ.
(وواجبُه) أي: الغسلِ: (التسميةُ) فيقولُ: بسمِ اللهِ. لا يقومُ غيرُها مقامَها.
(1)
في الأصل: "ومن".
(2)
سقطت: "إزالة" من الأصل.
وتسقُط سهوًا.
وفرضُه: أن يعُمَّ بالماء جميعَ بدنِه، وداخِلَ فمِه وأنفِه، حتى ما يَظهَرُ مِن فَرجِ المرأةِ عِندَ القُعودِ لِحاجَتِها، وحتى باطِنَ شَعرِها.
ويجسب نقضُه في الحَيضِ والنِّفاسِ،
(وتسقطُ سهوًا) أي: التسميةُ. ولا يصحُّ تقديمُ التسميةِ على النيةِ، ولهذا قال في "الشرح"
(1)
: أي: يقولُ: بسمِ اللهِ. بعدَ النيةِ.
(وفرضُه) أي: الغسلِ: (أنْ يعُمَّ بالماءِ جميعَ بدنِه) أي: جسدِه؛ لقولِ عائشةَ: ثمَّ أفاضَ على سائرِ جسدِه
(2)
. (وداخلَ فمِه وأنفِه) أي: يتمضمضُ ويستنشقُ (حتى ما يظهرُ من فرجِ المرأةِ عندَ القعودِ لحاجتِها) وهو البولُ والغائطُ (وحتى باطِنَ شعرِها) خفيفٍ وكثيفٍ، من ذكرٍ وأنثى؛ لأنَّه جزءٌ من البدنِ، لا مشقَّةَ في غسلِه، فوجبَ كباقيه. ويتفقدُ أصولَ شعرِه، وغضاريفَ أذنيه، وتحتَ حلقِه وإبطيه، وعمقَ سُرَّتِه، وبين أَلْيتيه وطي ركبتيه. ولا يجبُ غسلُ داخلِ فرجٍ، وحشفةِ غيرِ مفتوقٍ من جنابةٍ.
ويغسلُ باطنَ شعرِ اللحيةِ والرأسِ وغيرِهما، لقولِه عليه السلام:"تحتَ كلِّ شعرةٍ جنابةٌ، فاغسلوا الشعرَ، وأنقوا البشرةَ"
(3)
. ولا فرقَ بين كونِ الشعرِ خفيفًا أو كثيفًا، بخلافِ الوضوءِ، لتكررِه.
(ويجبُ نقضُه في الحيضِ والنِّفاسِ) ولو تيقنتْ وصولَ الماءِ إلى باطنِ الشعرِ؛
(1)
"دقائق أولي النهى"(1/ 167).
(2)
أخرجه البخاري (272)، ومسلم (316).
(3)
أخرجه أبو داود (248)، والترمذي (106) من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني.
لا الجنابَةِ.
ويكفي الظنُّ في الإسباغ.
لحديثِ عائشةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا كنتِ حائضًا، خذي ماءَكِ وسدرَكِ، وامتشطي"
(1)
. ولا يكونُ المشطُ إلا في شعرٍ غيرِ مضفورٍ. ولتتحقَّق وصولَ الماءِ إلى ما يجبُ غسلُه.
وعُفي عنه في غُسلِ الجنابةِ؛ لأنَّه يكثرُ، فيشقُّ ذلك فيه، بخلافِ الحيضِ والنفاسِ.
هذا إذا لم يكنْ على رأسِها ما يمنعُ وصولَ الماءِ، كالسدرِ ونحوِه، فإنْ كان، نُقِضَ في الجنابةِ.
وكذا الرَّجلُ لا ينقضه لجنابةٍ؛ لتكررِه، فيشقُّ ذلك.
(ويكفي الظنُّ في الإسباغِ) أي: وصولِ الماء إلى البشرة. قال في "الإنصاف": يَكتَفي في الإسباغ بغلبةِ الظنِّ، على الصحيحِ من المذهبِ
(2)
، لحديثِ عائشةَ
(3)
: "ثم يخلِّلُ شعرَه بيدِه، حتى إذا ظنَّ أنَّه قد روَّى بشرتَه، أفاضَ عليه الماءَ ثلاثَ مراتٍ".
أما لو شكَّ: هل عمَّ بدنَه أو لا؛ لزِمَه تعميمُ بدنِه يقينًا، ما لم يكنْ وسواسًا. قاله في "بدائع الفوائد"
(4)
.
وقال بعضُ الأصحابِ: ويحرِّكُ خاتمَه في الغسلِ، ليتيقَّنَ وصولَ الماءِ.
(1)
لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الدارمي (773) بلفظ: "عن عائشة أم المؤمنين قالت: سألت امرأة من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحيض؟ قال خذي ماءك وسدرك، ثم اغتسلي وأنقي، ثم صبي على رأسك حتى تبلغي شؤون الرأس
…
الحديث".
(2)
"الإنصاف"(2/ 138).
(3)
أخرجه البخاري (272)، ومسلم (316).
(4)
"بدائع الفوائد"(4/ 386).
وسُنَنُهُ: الوضُوءُ قبلَه، وإزالةُ ما لوَّثه من أذىً، وإفراغُه الماءَ على رأسِه ثلاثًا، وعلى بقيَّةِ جَصدِه ثلاثًا، والتيامُنُ،
(وسننُه) أي: الغسلِ:
(الوضوءُ قبلَه) أي: وضوءًا كاملًا. ويُكره له إعادتُه بعدَهُ، إلا أنْ يَنتقضَ بمسِّ فرجِه، أو غيرِ ذلك. قاله في "المستوعب"
(1)
(وإزالةُ ما لوَّثه) طاهرًا كالمنيِّ، أو نجسًا كالمذي. إلا أنْ يكونَ جافًّا يمنعُ وصولَ الماءِ، فيجبُ (من أذىً) لحديثِ عائشةَ
(2)
: "فيُفرِغُ بيمينِه على شمالِه، فيغسلُ فرجَه" وظاهرُه: لا فرقَ بين أن يكونَ على فرجِه، أو بقيةِ بدنِه. وسواءٌ كان نجسًا، كما صرَّحَ به في "المحرر" أو مستقذرًا طاهرًا، كالمنيِّ
(3)
.
(وإفراغُه الماءَ على رأسِه ثلاثًا) أي: أصولِ شعرِ رأسِه؛ يحثي الماءَ عليه ثلاثَ حثياتٍ. (وعلى بقيةِ جسدِه ثلاثًا) بإفاضةِ
(4)
الماءِ عليه، لما روتْ عائشةُ رضي الله تعالى عنها، قالتْ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا اغتسلَ من الجنابةِ غسلَ يديه ثلاثًا، وتوضَّأَ وضوءَه للصَّلاةِ، ثمَّ يخلِّلُ شعرَهُ بيديه، حتى إذا ظنَّ روَّى بشرتَه، أفاضَ الماءَ عليه ثلاثَ مراتٍ، ثم غسلَ سائرَ جسدِه. متفقٌ عليه
(5)
.
(والتيامنُ) أي: يبدأُ بميامنِه استحبابًا؛ لحديثِ عائشةَ، قالت: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا اغتسلَ من الجنابةِ، دعا بشيءٍ نحوَ الحِلابِ -بكسرِ الحاءِ، والمحلبة
(1)
"المستوعب"(1/ 90).
(2)
أخرجه مسلم (316).
(3)
انظر: "كشاف القناع"(1/ 361).
(4)
في الأصل: "بإضافةِ".
(5)
أخرجه البخاري (272)، ومسلم (316).
والموالاةُ، وإمرارُ اليدِ على الجَسَدِ، وإعادةُ غَسلِ رِجلَيهِ بمكَانٍ آخَرَ.
ومن نوى غُسْلًا مسنُونًا أو واجِبًا، أجزأ عن الآخَرِ.
بكسر الميم وفتح اللام: إناءٌ يُحلبُ فيه. قال الخطابيُّ: إناء
(1)
يسعَ حلبَ الناقةِ -فأخذَ بكفيه فبدأَ بشقِّ رأسِه الأيمنِ، ثم الأيسرِ، ثم أخذَ بكفيه فقال بهما على رأسِه. متفقٌ عليه
(2)
.
(والموالاةُ) بين غسلِ جميعِ أجزاءِ البدنِ
(وإمرارُ اليدِ على الجسدِ) لأنَّه أنقى، وبه يَتيقنُ وصولَ الماءِ إلى مغابنه
(3)
وجميعِ بدنِه.
(وإعادةُ غسلِ رجليه بمكانٍ آخرَ) قال في "الإقناع"
(4)
: ولو كان في حمامٍ ونحوِه، مما لا طينَ فيه؛ لقولِ ميمونةَ: ثمَّ تنحَّى عن مقامِه، فغسلَ رجليه. رواه البخاريُّ
(5)
.
(ومن نوَى غسلًا مسنونًا أو واجبًا، أجزأَ عن الآخرِ)؛ لأنَّهما عبادتان فتداخلتا في الفعلِ، كما تدخلُ العمرةُ في الحجِّ.
أو نوَى رفعَ الحدثِ، وأطلقَ، فلم يقيدْه بالأكبرِ ولا الأصغرِ، أجزأَ عنهما؛ لشمولِ الحدثِ لهما.
أو نوى استباحةَ الصَّلاةِ، أو نوى أمرًا لا يباحُ إلا بوضوء وغسلٍ، كمسِّ
(1)
في الأصل: "أن" وانظر "معالم السنن"(11/ 80).
(2)
أخرجه البخاري (258)، ومسلم (318).
(3)
في الأصل: "منابتِه".
(4)
انظر "كشاف القناع"(1/ 364).
(5)
أخرجه البخاري (273).
وإن نوى رفعَ الحدثين، أو الحَدَثِ وأطلَقَ، أو أمرًا لا يُباح إلا بوُضوءٍ وغُسلٍ، أجزأ عنهُما.
ويُسنُّ الوضُوءُ بِمُا، وهو رِطلٌ وثلثٌ بالعِراقيِّ، وأُوقيتانِ وأربعةُ أسباعٍ بالقُدسيِّ، والاغتسالُ بصَاعٍ، وهو خَمسةُ أرطالٍ وثُلثٌ بالعِراقيِّ،
مصحفٍ وطوافٍ، أجزأَ عنهما، لاستلزام ذلك رفعَهُما، وأشارَ إلى ذلك بقولِه:
(وإنْ نوَى رفعَ الحدثين، أو الحدثِ وأطلقَ، أو أمرًا لا يباحُ إلا بوضوءٍ وغسلٍ، أجزأَ عنهما) وفُهِمَ منه: سقوطُ الترتيبِ والموالاة في الوضوء. فلو اغتسل إلا أعضاء الوضوء، لم يجب الترتيب فيها؛ لأنَّ حكمَ الجنابةِ باقٍ. فلو غسلَ يديه، ثمَّ رجليه، ثمَّ أفاضَ الماءَ على رأسِه، أو غسلَ يديه أو رجليه، ثُمَّ غسلَ بقيةَ جسدِه، صحَّ إن أتى بنيةٍ أخرى لذلك الباقي؛ لانقطاعِ النيةِ الأولى. ولو نوى الطهارتين، ثُمَّ أحدثَ في أثناءِ غسلِه، أتمَّه ثمَّ توضَّأَ؛ لأنَّ الحدثَ الأصغرَ لا ينافي الغسلَ، فلا يؤثرُ وجودُه فيه.
(ويُسنُّ الوضوءُ بمدٍّ) من ماءٍ، لحديثِ أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتوضأُ بالمدِّ، ويغتسلُ بالصاعِ. متفقٌ عليه
(1)
. (وهو) أي: المدُّ. زِنَتُه (رطلٌ وثلثٌ بالعراقيِّ) وما وافقَه من البلادِ. ورطلٌ وسبعُ رطلٍ، وثلثُ سبعِ رطلٍ مصريٍّ. وثلاثُ أواقٍ، وثلاثةُ أسباعِ أوقيةٍ بوزنِ دِمشق (وأوقيتان وأربعةُ أسباعٍ بالقدسيِّ) وما وافَقَه من البلادِ.
(و) سُنَّ (الاغتسالُ بصاعٍ) لحديثِ أنسٍ. وهو أربعةُ أمدادٍ. (وهو خمسةُ أرطالٍ وثلث بالعراقيِّ) وبالمصَريِّ: أربعةُ أرطالٍ وخمسةُ أسباعِ رطلٍ، وثلثُ سبعِ رطلٍ. ورطلٌ وسبعُ رطلٍ
(2)
دمشقي. (وعشرُ أواقٍ وسبعان بالقدسيِّ)
(1)
أخرجه البخاري (201)، ومسلم (325).
(2)
سقطت: "ورطلٌ وسبعُ رطلٍ" من الأصل.
وعَشْرُ أواقٍ وسُبُعَانِ بالقُدسيِّ.
ويُكره الإسرافُ، لا الإسباغُ بدُونِ ما ذُكِرَ.
ويباح الغُسلُ في المسجدِ ما لم يُؤذِ بهِ، وفي الحمَّامِ إنْ أُمِنَ الوقوعُ في المحرَّم،
وهذا ينفعُك هنا، وفي الفطرةِ، وفي الفديةِ، وفي الكفارةِ، ونذرٍ.
(ويُكره الإسرافُ) في وضوءٍ وغسلٍ، ولو على نهرٍ جارٍ؛ لحديث ابنِ ماجه
(1)
: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بسعدٍ، وهو يتوضَّأُ، فقال "ما هذا السرفُ؟ " فقال: أفي الوضوء إسرافٌ؟ قال: "نعمْ، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ ".
و (لا) يُكره (الإسباغُ) في وضوءٍ وغسلٍ (بدونِ ما ذُكرَ) من الوضوءِ بالمدِّ، والغسلِ بالصاعِ؛ لحديث عائشةَ: كانت تغتسلُ هي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ، يسَعُ ثلاثةَ أمدادٍ - أو قريبًا من ذلك. رواه مسلمٌ
(2)
.
والإسباغُ: تعميمُ العضوِ بالماءِ، بحيثُ يجري عليه. فلا يكفي مسحُه، ولا إمرارُ الثلجِ عليه، ولو ابتلَّ به العضوُ، إن لم يذبْ ويجري عليه.
(ويباحُ الغسلُ في المسجدِ) ولا يُكره (ما لم يؤذِ به) أي: بالغسلِ. وكذلك الوضوءُ ما لم يؤذِ به. وتُكره إراقةُ ماءيهما بالمسجدِ، وبما يداسُ؛ تنزيهًا للماءِ.
(و) يُباحُ (في الحمَّامِ إن أمِنَ الوقوع
(3)
في المحرَّمِ) بأنْ يسلمَ من النظرِ إلى عوراتِ الناسِ ومسِّها، ويسلمَ من نظرِهم إلى عورتِه ومسِّها؛ لما رُوي: أن ابنَ
(1)
أخرجه ابن ماجه (425) من حديث عبد اللَّه بن عمرو. وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه مسلم (321).
(3)
في الأصل: "أمن من الوقوع ".
فإنْ خِيفَ كُرِه، وإن عُلِمَ حَرُمَ.
عباسٍ دخلَ حمامًا كان بالجحفةِ
(1)
. ورُوي عنه عليه السلام أيضًا.
(فإن
(2)
خيفَ) أي: الوقوعُ في محرمٍ بدخول
(3)
الحمامِ (كُرِهَ) دخولُه. (وإن عُلِمَ) أي: الوقوعُ في محرمٍ (حَرُمَ) دخولُه، لحديثِ أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، من ذكورِ أمتي، فلا يدخلِ الحمَّامَ إلا بمئزرٍ، ومَنْ كانتْ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا تدخلِ الحمَّامَ". رواه أحمدُ
(4)
.
وأجود الحمَّاماتِ ما كان شاهقًا، عذبَ الماءِ، معتدلَ الحرارةِ، معتدلَ البيوتِ، قديمَ البناءِ.
ويُكره بناءُ الحمَّامِ، وبيعُه، وشراؤُه، وإجارتُه، وكسبُه، وكسبُ البَلَّانِ
(5)
والمزيِّنِ. قال الإمامُ أحمدُ في الذي يبني الحمَّامَ للنساءِ: ليس بعدل. وقال في رواية ابن الحكم: لا تجوز شهادة من بناه للنساء. وحرَّمه القاضي. وحملَهُ الشيخُ تقيُّ الدينِ على غيرِ البلادِ الباردةِ
(6)
وينبغي غسلُ قدميه وإبطيه بماءٍ باردٍ عند دخولِه، وأن يلزمَ الحائطَ، ويقصدَ موضعًا خاليًا، ولا يدخلَ بيتًا حارًّا حتى يعرقَ في البيتِ الذي قبلَه، ويقلِّلَ الالتفاتَ،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 103).
(2)
في الأصل: "وإن".
(3)
في الأصل: "بدل".
(4)
أخرجه أحمد (14/ 27)(8275)، وصححه الألباني في "الإرواء" تحت حديث (1949).
(5)
البلان: من يخدم في الحمام. "تاج العروس".
(6)
انظر: "كشاف القناع"(1/ 377).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يطيلَ المقامَ إلا بقدرِ الحاجةِ، ويغسلَ قدميه عند خروجِه بماءٍ باردٍ. قال في "المستوعب": فإنَّه يُذهبُ الصُّداعَ. ولا يُكره دخولُه قربَ الغروبِ، ولا بين العشاءين
(1)
.
ونقلَ عبدُ اللهِ: ما رأيتُ أبي أحمدَ بنَ حنبلٍ دخلَهُ قط، ولحقَتْه عِلةٌ، فوُصِفَ له. فقال: لي خمسون سنةً ما دخلتُه. يجوزُ أن لا أدخلَه الساعةَ.
واختارَ أبو الفرجِ ابنُ الجوزيِّ، والشيخُ تقي الدين: أن المرأةَ إذا اعتادتِ الحمامَ وشقَّ عليها تركُ دخولِه إلا لعذرٍ: أنه يجوزُ لها دخولُه. وثمنُ الماءِ على الزوجِ. صحَّحه في "تصحيح الفروع"
(2)
. وأما الوضوءُ فهو كالجنابةِ. ذكرَهُ أبو المعالي.
ولا بأسَ أن يغتسلَ عُريانًا من غيرِ كراهةٍ؛ لأنَّ موسى وأيوبَ اغتسلَا عُريانين. رواه البخاريُّ
(3)
.
وقدَّمَ في "المبدع"، و"الإنصاف" وغيرِهما: يُكره. ومشى عليه صاحبُ "المنتهى". واختارَ صاحبُ "الإقناع": عدمَ الكراهةِ.
ويُكره السَّلامُ فيه أبتداءً وردًّا. وقيلَ: لا يُكره ردُّه، بل يُباحُ. وجزَمَ به في "النظم" وتبعَه الشارحُ، وهو صاحبُ "المنتهى
(4)
" فقال: والأَوْلى جوازُه.
(1)
انظر "الإقناع"(1/ 74).
(2)
انظر: "تصحيح الفروع"(1/ 272).
(3)
أما اغتسال موسى عليه السلام، فقد رواه البخاري (278) من حديث أبي هريرة. وأما اغتسال أيوب فقد رواه البخاري أيضًا (279) من حديث أبي هريرة أيضًا.
(4)
في الأصل "الإقناع" وانظر "معونة أولي النهى"(1/ 373).
فَصْلٌ في الأغسَالِ المُستحبَّةِ
وهي ستةَ عشرَ:
آكدُها: لصلاةِ جمُعةٍ في يومِها لِذَكَرٍ حَضَرَها،
(فصلٌ في الأغسالِ المستحبةِ)
(وهي) أي: الأغسالُ المستحبةُ (ستةَ عشرَ):
(آكدُها): الغسلُ (لصلاةِ جمعةٍ) لحديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: "غسلُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ"
(1)
. وقولُه عليه السلام: "مَنْ جاءَ منكم الجمعةَ فليغتسلْ"
(2)
. متفقٌ عليهما. وقولُه: واجبٌ. أي: متأكدُ الاستحبابِ. ويدلُّ لعدمِ وجوبِه: ما روى الحسنُ، عن سمرةَ بنِ جندبٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من توضَّأَ يومَ الجمعةِ فبها ونعمتْ، ومن اغتسلَ فالغسلُ أفضلُ". رواه أحمدُ وأبو داودُ والترمذيُّ
(3)
.
(في يومِها) أي: الجمعةِ. فلا يجزئُ الاغتسالُ قبلَ طلوعِ فجرِه. والغسلُ للصَّلاةِ، لا لليومِ.
(لذَكَرٍ حضرَها) أي: الجمعةَ؛ لقولِه عليه السلام: "من جاءَ منكم الجمعةَ
(1)
أخرجه البخاري (858)، ومسلم (846).
(2)
أخرجه البخاري (877)، ومسلم (844) من حديث ابن عمر.
(3)
أخرجه أحمدُ (33/ 346)(20177)، وأبو داودُ (354)، والترمذيُّ (497)، وصححه الألباني.
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
ثمَّ لِغَسلِ ميِّتٍ، ثمَّ لعيدٍ في يومِه، ولِكُسُوفٍ، واستِسقاءٍ،
فليغتسلْ"
(1)
. ولو لم تجبْ عليه الجمعةُ، كالعبدِ والمسافرِ، إن صلَّى.
والاغتسالُ عندَ المضيِّ إليها أفضلُ؛ لأنَّه أبلغُ في المقصودِ. وعن جماعٍ أفضلُ (ثمَّ) يليه الغصلُ (لغَسلِ ميِّتِ) كبير أو صغير، ذكر أو أنثى، حرٍّ أو عبد، مسلم أو كافر. وظاهرُه: ولو في ثوبٍ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "مَنْ غسَّلَ ميِّتًا، فليغتسلْ، ومَنْ حملَهُ فليتوضَّأَ". رواه أحمدُ وأبو داودَ، والترمذيُّ
(2)
وحسنَه.
(ثُمَّ) يليه الغسلُ (لعيدٍ في يومِه) لحاضرِها، أي: الصَّلاةِ، لحديثِ ابنِ عباسٍ والفاكهِ بنِ سعدٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يغتسلُ يومَ الفطرِ والأضحَى. رواه ابنُ ماجه
(3)
. ولو صلَّى منفردًا، بعدَ صلاةِ الإمامِ؛ لأنَّ الغسلَ للصَّلاةِ، كالجمعةِ. فلا يشرع
(4)
لمنْ لم يصلِّ، ولا قبلَ طلوعِ الفجرِ.
(و) الرابعُ: (لكسوفٍ) أي: لصلاتِه
(و) الخامسُ: (استسقاء) لأنَّهما صلاتان تجتمعُ لهما الناسُ، فاستُحِبَّ الغسلُ لهما، كصلاةِ الجمعةِ والعيدينِ. قال في "الإنصاف"
(5)
: هذا المذهبُ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وقطعَ به كثيرٌ منهم. وقيل: لا يُستحبُّ الغسلُ لهما. ذكرَهُ في "التبصرة".
(1)
أخرجه أحمد (15/ 534)(9862)، وأبو داود (3161)، والترمذي (993). وصححه الألباني في "الإرواء"(144).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1315) من حديث ابن عباس. وأخرجه (1316) من حديث الفاكه. قال الألباني: موضوع.
(3)
في الأصل: "يشترط".
(4)
"الإنصاف"(2/ 119).
وجُنُونٍ، وإغماءٍ، ولاسْتِحَاضَةٍ لكلِّ صلاة، ولإحرامٍ، ولدخولِ مكةَ
(و) السادسُ: (جنونٌ) أي: من الأغسالِ المستحبَّةِ.
(و) السابعُ: (إغماءٌ) لا إنزالٌ باحتلامٍ أو غيرِه، فيهما، أي: الجنونِ والإغماءِ؛ لأنَّه عليه السلام، اغتسلَ للإغماءِ. متفقٌ عليه
(1)
. ولأنَّه لا يأمنُ أن يكونَ احتلمَ ولم يشعرْ. والجنونُ في معناه، بل أبلغُ. فإنْ أنزلَ، وجبَ الغسلُ.
فلو وجدَ المجنونُ بللًا، ولم يذكرِ احتلامًا، فصرَّحَ الزركشيُّ بأنَّه يُستحبُّ الغسلُ. وعللَّه بأنَّه يحتملُ أن يكونَ لغيرِ شهوةٍ، أو عن المرضِ المزيلِ للعقلِ.
فإن قيل: إذا وُجدَ الإنزالُ واغتسلَ له، هل يجزئُه عن المستحبِّ أم لا؟ لم أرَ فيه نصًّا، فلينظرْ.
(و) الثامنُ: (لاستحاصْةٍ لكلِّ صلاةٍ) فيُسنُّ أن تغتسلَ لكلِّ صلاةٍ؛ لأمرِه عليه الصلاة والسلام به لأمِّ حبيبةَ لما استُحيضَتْ، فكانتْ تغتسلُ لكلِّ صلاةٍ. متفقٌ عليه
(2)
.
(و) التاسعُ: الغسلُ (لإحرامٍ) بحجِّ أو عمرةٍ، لحديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم تجرَّدَ لإهلالِه، واغتسلَ. رواه الترمذيُّ
(3)
وحسَّنَه.
وحتى حائضٍ ونُفساءَ، فيسنُّ لهما الغسلُ للإحرامِ. كما صرَّحَ به في "المنتهى"
(4)
.
(و) العاشرُ: (لدخولِ مكةَ) قال في "المستوعب": حتى لحائضٍ. قال الشيخُ
(1)
أخرجه البخاري (687)، ومسلم (418) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه البخاري (327)، ومسلم (334) من حديث عائشة.
(3)
أخرجه الترمذي (830)، وصححه الألباني.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 166).
وحرمِها، ووقوفٍ بعرفَةَ، وطوافِ زِيارةٍ، وطَوافِ وداعٍ، ومَبيتٍ بمزدلِفةَ، ورميِ جِمَارٍ.
منصورٌ في "شرحه"
(1)
: قلتُ: ونفساءَ، قياسًا على الإحرامِ. وظا هرُه: ولو بالحرمِ، كمَنْ بمنًى إذا أرادَ مكةَ، سُنَّ له الغسلُ لدخولِها.
(و) الحادي عشرَ: (حرمِها) أي: مكةَ. نصَّ عليه في روايةِ صالحٍ.
(و) الثاني عشرَ: (وقوف بعرفةَ) رواه مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ
(2)
. ورواه الشافعيُّ عن عليِّ
(3)
. ورواه ابنُ ماجه
(4)
مرفوعًا.
(و) الثالثَ عشرَ: لـ (طوافِ زيارةٍ
(5)
) وهو طوافُ الإفاضةِ.
(و) الرابعَ عشرَ: لـ (طوافِ وداعٍ)؛ لأنَّها أنساكٌ يجتمعُ لها الناسُ ويزدحمون فيعرقون، فيؤذي بعضُهم بعضًا، فاستحبَّ كالجمعةِ. وظاهرُه: أنَّه لا يُسنُّ لطوافِ القدومِ.
(و) الخامسَ عشرَ: لـ (مبيتٍ بمزدلفةَ).
(و) السادسَ عشرَ: لـ (رميِ جمارٍ) ولأنَّ هذه كلَّها أنساكٌ يجتمعُ لها الناسُ، فاستُحبَّ لها الغسلُ، كالإحرامِ، ودخولِ مكةَ.
ووقتُ الغسلِ لصلاةِ الاستسقاءِ: عندَ إرادةِ الخروجِ إليها. والكسوفِ والخسوفِ: عند وقوعِهما. وفي الحجِّ: عند إرادةِ النسك الذي يُسنُّ له قريبًا منه.
(1)
"دقائق أولي النهى"(1/ 166).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(3/ 465).
(3)
أخرجه الشافعي في "المسند"(321).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1316) من حديث الفاكه بن سعد. قال الألباني: موضوع.
(5)
في الأصل: "في زيارة".
ويُتيمَّمُ للكُلِّ لحاجَةٍ، ولِمَا يُسنُّ له الوُضُوءُ، إنْ تعذَّرَ.
وعُلِمَ مما سبَقَ: أنَّه لا يُستحبُّ الغسلُ لغيرِ المذكوراتِ، كالحجامةِ، ودخولِ طيبةَ، وكلِّ مجتمَعٍ.
فإن قيلَ: هل يجزئُه غسلٌ واحدٌ لرميِ الجمراتِ كلِّها، أم بلْ
(1)
لكلِّ يومٍ غسلٌ عند رميِهِ؟ فتأملْ.
قال العلَّامةُ الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(2)
: ويتجه: زيادةُ: مَنْ ولدتْ بلا دمٍ، مراعاةً لخلافِ من أوجبَهُ.
(ويُتيَمَّمُ) استحبابًا (للكلِّ). أي: كلِّ ما يستحبُّ له الغسلُ (لحاجةٍ) تبيحُ التيمَّمَ؛ لتعذرِ الماءِ لعدمٍ، أو مرضٍ، ونحوِه.
(و) يتيمَّمُ أيضًا استحبابًا (لما يسنُّ له الوضوءُ) من قراءةٍ، وأذانٍ، وشكٍّ، وغضبٍ، ونحوِها مما تقدَّمَ (إن تعذَّرَ)، أي: الوضوءُ لحاجةٍ.
(1)
كذا في الأصل.
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 93).
بابُ التيمُّمِ
يصِحُّ بشُروطٍ ثَمانيةٍ:
النيةُ، والإسلامُ، والعَقلُ، والتَّمييزُ، والاستِنْجاءُ أو الاستجمَار.
السَّادِسُ: دخولُ وقتِ الصلاةِ، فلا يَصِحُّ التيمُّم لصلاةٍ قبل وقِتِها،
(بابُ التيمُّمِ)
لغةً: القصدُ. قالَ تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البَقَرَة: 267]. وقال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النِّساء: 43].
فُرِضَ في السنةِ السادسةَ عشرَ من الهجرةِ. وهو من خصائصِ هذه الأمةِ؛ توسعةً عليها؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يجعلْه طهورًا لغيرها.
وشرعًا: استعمالُ ترابٍ مخصوصٍ لوجهٍ ويدين، على وجهٍ مخصوصٍ. وهو عزيمةٌ، ويجوزُ بسفرِ المعصيةِ.
ولا (يصحُّ) إلا (بشروطٍ ثمانيةٍ):
أحدُها: (النيةُ). (و) الثاني: (الإسلامُ). (و) الثالثُ: (العقلُ). (و) الرابعُ: (التمييزُ)، (و) الخامسُ:(الاستنجاءُ أو الاستجمارُ).
و (السادسُ: دخولُ وقتِ الصَّلاةِ) الذي يريدُ التيمُّمَ لها. (فلا يصحُّ التيمُّمُ لصلاةٍ) حاضرةٍ، ولا لصلاةِ عيدٍ (قبلَ وقتِها). أي: فلا يصحُّ قبلَه، لقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المَائدة: 6] الآية. والقيامُ إليها إنما هو بعدَ دخولِ وقتِها. خرجَ الوضوءُ بالدليلِ، بقي التيمُّمُ على ظاهرِه. ولأنَّه
ولا لِنافلةٍ وقتَ نَهيٍ.
السَّابِعُ: تعذُّرُ استعمالِ الماءِ، إما لعدَمِه، أو لخَوفِه باستعمَالِه الضَّررَ.
ويَجبُ بذلُه للعطشَانِ مِنْ آدميٍّ أو بهيمة.
يحتملُ وجودُ الماءِ، وزوالُ العذرِ في الوقتِ، فهو غيرُ متحققٌ، لعدمِ الماءِ ووجودِ العذرِ في الوقتِ
(ولا) يصحُّ التيمّمُ (لنافلةٍ وقتَ نهيٍّ). أي: لا يصحًّ التيمُّمُ للنفلِ الممتنعِ فعلُه وقتَ نهي، لا مطلقَ النفلِ، فيصحُّ نحو
(1)
ركعتي طوافٍ، وسنَةِ فجرٍ قبلَها.
(السابعُ: تعذرُ استعمالِ الماءِ، إما لعدمِه) أي: عدمِ الماءِ. (أو لخوفِه) أي: المريضِ القادرِ على الوضوءِ بنفسِه أو غيرِه (باستعمالِه الضررَ) في بدنِه، من جرحٍ، أو بردٍ شديدٍ، ولم يجدْ ما يسخِّنُ به الماءَ. أو خوفِه باستعمالِه فوتَ رفقةٍ، أو مالِه. أو عَطَشَ نفسِه، أو غيرِه من آدميِّ أو بهيمةٍ محترميْنِ. أو احتياجَه لعجنٍ أو طبخٍ. فمَنْ خافَ شيئًا من ذلك، أُبيحَ له التيمُّمُ، دفعًا للضررِ والحرجِ عن نفسِه، ومالِه، ورفيقِه. قال ابنُ المنذرِ
(2)
: أجمعَ كلُّ مَنْ يحفظُ عنه من أهلِ العلمِ، على أنَّ المسافرَ إذا كان معَه ماء، فخشيَ العطشَ، أنَّه يُبْقي ماءَه للشُّرْبِ، ويتيمَّمُ.
(ويجبُ بذلُه للعطشانِ) ولو كان الماءُ نجسًا؛ لأنَّه إنقاذٌ من مهلكةِ (من آدميٍّ أو بهيمةٍ) محترميْنِ.
(1)
سقطت: "نحو" من الأصل.
(2)
"الإجماع" ص (34).
ومن وَجَدَ ماءً لا يكِفي لطهارته، استعمَلَهُ فيما يَكفِي وجُوبًا، ثم تيمَّمَ.
وإنْ وصَلَ المسافرُ إلى الماءِ وقد ضَاقَ الوقتُ،
(ومن وجَد ماءً لا يكفي لطهارتِه، استعملَه فيما يكفي وجوبًا، ثمَّ تيممُ) لحديثِ: "إذا أمرتُكمْ بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعْتُمْ"
(1)
. فإنْ تيمَّمَ قبلَ استعمالِه، لَمْ يصحَّ؛ لمفهومِ قولِه تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النِّساء: 43] وإنْ وجدَ ترابًا لا يكفيه، استعملَه وصلَّى، ويُعيدُ إذا وجدَ ما يكفيه من ماءٍ أو ترابٍ. قاله في "الرعاية". واقتصرَ عليه في "الإنصاف". قال الشيخُ منصورٌ في "شرحه"
(2)
: قلتُ: مقتضى ما يأتي: لا يزيدُ على ما يجزئُ، ولا إعادةَ.
وإن وجدَ جنبٌ ما يكفي أعضاءَ وضوئه فقط، استعملَه فيها ناويًا رفعَ الحدثيْنِ. ومَنْ ببدنِه نجاسةٌ، وهو محدثٌ، والماءُ يكفي أحدَهما، غسلَ به النجاسةَ، ثمَّ تيمَّمَ للحدثِ، نصًّا. قالَ المجدُ: إلا أنْ تكونَ النجاسةُ في محلِّ يصحُّ تطهيرُه من الحدثِ، فيستعملُه فيه عنهما. وكذا إنْ كانتْ النجاسةُ في ثوبِهِ أزالَها به، ثمَّ تيمَّمَ.
(وإنْ وصلَ المسافرُ إلى الماءِ وقد ضاقَ) حالٌ من فاعلِ "وصلَ" أي: وصلَ المسافرُ في حالِ ضيقِ (الوقت) عن الطهارةِ به، والصَّلاةِ في الوقتِ.
قال في "شرح المحرر": ويُفهمُ من قولِهِ: "إذا وصلَ مسافرٌ إلى الماءِ وقد ضاقَ الوقتُ": أنَّه صارَ عندَه بحيث تصلُ يدُه، ويمكنُه استعمالُه!
وليس كذلك، بلْ يُحملُ قولُه: أنَّه صارَ قريبًا، بحيثُ لو تمادَى حتى يصلَ إليه، خرج الوقت. فهو كمن عدِم الماءَ في الوقت، وتيقَّنَ وصولَه إليه في وقتِ صلاةٍ
(1)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة.
(2)
"دقائق أولي النهى"(1/ 184).
أو عَلِمَ أنَّ النَّوبةَ لا تَصِلُ إليه إلَّا بعدَ خرُوجِه، عَدَلَ إلى التيمُّمِ، وغَيرُه لا، ولو فاتَه الوقتُ.
أخرى؛ لأنَّه متى كان بحيث يمكنُه استعمالُه، لم يجزْ له التيمُّمُ؛ لأنَّه واجدٌ للماءِ.
قال ابنُ قندس في "حاشية المحرر": واعلئم أنَّ المُصنِّفَ أرادَ بهذه المسألةِ: ما إذا كان باقيًا من الوقتِ ما لا يسَمعُ الصَّلاةَ إلَّا
(1)
بالتيمُّمِ فقط، وأما إذا كان قد بقي من الوقت ما لا يسمع الصلاةَ، بلْ يخرجُ الوقتُ وهو فيها. فالقولُ بأنَّه يصلي بالتيمُّمِ، لا يظهرُ صحتُهُ؛ لأنَّه يكونُ مأمورًا لصلاةٍ تؤولُ إلى البطلانِ.
وعُلِمَ من قولِه: "وقد ضاقَ الوقتُ": أنَّه لو وصلَ إليه متمكنًا من استعمالِه، فأخَّرَ الوضوءَ لسهوٍ أو شغلٍ، حتى ضاقَ الوقتُ، فهو كالحاضِرِ، فلا يصحُّ تيمُّمُه؛ لأنَّ قدرتَه قد تحقَّقتْ، فلا يبطلُ حكمُها بتأخيرِه
(أو عَلِمَ) أي: المسافرُ. أما الحاضرُ فلا يجوزُ له التيممُ إذا عَلِمَ ذلك (أنَّ النوبةَ لا تصلُ إليه) ليستعملَه (إلا بعدَ خروجِهِ) فيتيمَّمُ، لعدمِ قدرتِه على استعمالِه في الوقتِ. فاستصحبَ حالَ عدمِهِ له، بخلافِ مَنْ وصلَ إليه، وتمكَّنَ من الصَّلاةِ به في الوقتِ، ثمَّ أخَّرَ حتى ضاقَ، فكحاضرٍ؛ لتحققِ قُدرتِه. وعلمَ منه: أنَّه إنْ توقَّعَ حصولَ النوبةِ له في الوقتِ، لزِمه الانتظارُ، ولا يجوزُ له التيمُّمُ.
(عدَلَ إلى التيمُّمِ) ولا إعادةَ.
(وغيرُه) أي: وغيرُ المسافرِ إذا كان الماءُ قريبًا، ودلَّه عليه ثقةٌ، أو علمَه قريبًا وخافَ فوتَ الوقتِ قبلَ وصولِهِ إليه في الطهارةِ به، (لا
(2)
) يجوزُ التيمُّمُ (ولو فاتَه الوقتُ).
(1)
سقطت "إلا" من الأصل.
(2)
في الأصل: "ولا".
ومَنْ في الوقت أراقَ الماءَ، أو مرَّ بهِ وأمكنه الوضوءُ، ويعلمُ أنَّه لا يجدُ غيرَه، حرُم، ثمَّ إنْ تيمَّم وصلَّى، لم يُعِدْ.
وكذا لا يصحُّ التيمُّمُ مع قربِ ماءٍ لخوفِ
(1)
فوتِ صلاةِ جنازةٍ، أو خوفِ فوتِ صلاةِ فرضٍ.
"تنبيهٌ": مَنْ عجزَ عن استعمالِ الماءِ؛ لعدمِ موضِّئٍ، وخافَ فوتَ الوقتِ بانتظارِه، وهو الوقتُ المختارُ، جازَ له التيمُّمُ.
وعُلِمَ منه: أنَّه إذا لمْ يخفْ خروجَ الوقتِ بانتظارِه، أنَّه لا يجوزُ له التيمُّمُ، ويجبُ انتظارُهُ.
وهذه الصورةُ الرابعةُ التي يجوزُ فيها التيمُّمُ؛ لخوفِ خروجِ الوقتِ. والبقيةُ: أحدُها: ما في المتنِ. والثانيةُ والثالثةُ: وهي فيما إذا علِمَهُ -أو دلَّهُ عليه ثقةٌ - قريبًا، وخافَ بقصدِه فوتَ الوقتِ، تيمَّمَ، كعدمِ تمكُّنِه من استعمالِه في الوقتِ، فأشبَهَ عادمَهُ، ولا إعادةَ عليه، وليس له تأخيرُ الصَّلاةِ.
(ومَنْ في الوقتِ أراقَ الماءَ، أو مرَّ به) أي: الماءِ (وأمكنَهُ الوضوءُ) منه، ولم يفعلْ، (ويعلمُ أنه لا يجدُ غيرَهُ) أو باعَهُ أو وهبَهُ في الوقت لغير من يلزم بذله له. أما لو أراقه قبل الوقت، أو باعه، أو وهبه قبلَه، فإنَّه لا يحرمُ عليه ذلك، ويصحُّ العقدُ مطلقًا.
وكذا لو كانَ يعلمُ -أي: يغلبُ على ظنِّه- وجودَ غيرِه في الوقتِ، ولو لم يجدْه فيه، بخلافِ لو علمَ أنَّه لا يجدُ غيرَه، (حرُمَ) عليه ذلك (ثمَّ إن تيمَّمَ وصلَّى، لم يعدْ) لأنَّه عادمٌ للماءِ حالَ التيمُّمِ، أشبَهَ ما لو فعلَ ذلك قبلَ الوقتِ.
(1)
في الأصل: "خوف".
وإن وَجَدَ مُحدِثٌ -ببدَنِه وثَويه نجاسَةٌ- ماءً لا يكفي، وجَبَ غَسلُ ثَوبِه، ثمَّ إنْ فَضَلَ شيءٌ غَسَل بدنَه، ثم إنْ فَضَلَ شيءٌ تطهَّر، وإلَّا تيمَّم.
ويصحُّ التيمُّم لكلِّ حدثٍ، وللنَّجاسة على البدن بعد تخفيفها ما أمكن، فإن تيمَّم لها قبل تخفيفِها، لم يصحَّ.
(وإنْ وجدَ محدثٌ) حدثًا أكبرَ أو أصغرَ (-ببدنِه وثوبِه نجاسةٌ- ماءً لا يكفي، وجبَ غَسلُ ثوبِهِ، ثمَّ إنْ فضلَ شيءٌ غسلَ بدنَهُ، ثمَّ إنْ فضَلَ شيءٌ تطهَّرَ، وإلَّا): إنْ لمْ يفضلْ شيءٌ، (تيمَّمَ)
(ويصحُّ التيمُّمُ لكلِّ حدثٍ) أصغرَ أو أكبرَ؛ لحديثِ عمرانَ بنِ حصينٍ، قال: كنَّا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فصلَّى بالنَّاسِ، فإذا هو برجلٍ معتزلٍ، فقال:"ما يمنعُك أن تصلِّيَ؟ " فقال: أصابتْني جنابةٌ، ولا ماءَ. قال:"عليك بالصَّعيدِ، فإنَّه يكفيكَ". متفقٌ عليه
(1)
. وحائضٌ ونفساءُ كجنبٍ.
(وللنجاسةِ على البدنِ) أي: نجاسةٍ غيرِ معفوٍّ عنها.
"فائدةٌ": قال في "الرعاية": ولا يتيمَّمُ لغَسلِ يديه من نومِ ليلٍ أو نهارٍ. وإنْ وجبَ غسلُ ذكَرِه وأنثييه من المذي، جازَ التيمُّمُ لهما بشَرطِه. ولا يجبُ لنجاسةِ استحاضةٍ تعذرتْ إزالتُها، ولا لنجاسةٍ عُفيَ عنها
(بعدَ تخفيفِها ما أمكنَ، فإنْ تيمَّمَ لها
(2)
قبلَ تخفيفِها، لم يصحَّ) التيمُّمُ. وسواءٌ كانتْ بمحلٍّ صحيحٍ أو جريحٍ؛ لعمومِ قولِهِ عليه السلام: "الصعيدُ الطيبُ
(1)
أخرجه البخاري (344)، ومسلم (682).
(2)
سقطت: "لها" من الأصل.
الثامنُ: أن يكون بتُرابٍ طَهورٍ مُباحٍ غَيرِ محتَرِقٍ، له غُبارٌ يَعلَقُ باليَدِ.
طهورُ المسلمِ"
(1)
.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يتيمُّمُ لنجاسةٍ بغيرِ بدنٍ.
(الثامنُ) من شروطِ التيممِ: (أن يكونَ بترابٍ): فلا يصحُّ تيمُّمٌ برملٍ، أو نُورةٍ، أو جِصٍّ، أو نحتِ حجارةٍ ونحوِه. والمرادُ به: ترابُ الحرثِ
(طهورٍ) بخلافِ ما تناثرَ من المتيممِ؛ لأنَّه استُعْمِلَ في طهارةٍ أباحت الصَّلاةَ، أشبَهَ الماءَ المستعملَ في طهارةٍ واجبةٍ. وإنْ تيمَّمَ جماعةٌ من موضعٍ واحدٍ، صحَّ، كما لو توضَّئوا من حوضٍ يغْترفون منه
(مباحٍ) فلا يصحُّ بمغْصوبٍ، كالوضوءِ به. قال في "الفروع"
(2)
: ولو ترابَ مسجدٍ. ولعلَّه غيرُ مرادٍ، فإنَّه لا يُكره بترابِ زمزمَ، مع أنَّه مسجدٌ
(غيرِ محترقٍ) فلا يصحُّ مما دقَّ من نحوِ خزَفٍ؛ لأنَّ الطبخَ أخرجَه عن أنْ يقعَ عليه اسمُ الترابِ
(له غبارٌ يعلَقُ باليدِ) لقولِه تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المَائدة: 6] وما لا غبارَ له لا يُمسحُ بشيءٍ منه، فلو ضربَ على نحوِ لِبْدٍ، أو بساطٍ، أو حصيرٍ، أو صخرةٍ، أو بَرذَعَةٍ
(3)
، أو شعيرٍ، ونحوِه مما عليه غبارٌ طهورٌ لِعلَقُ بيدِه، صحَّ تيمُّمُه، بخلافِ مسبخةٍ لا غبارَ لها
(1)
أخرجه أحمد (35/ 297)(21371)، وأبو داود (332)، والترمذي (124)، وصححه الألباني.
(2)
"الفروع"(1/ 296).
(3)
البرذعة: الحِلسُ الذى يُلقَى تحت الرَّحلِ. "الصحاح"(برذع).
فإن لم يَجِدْ ذلِكَ، صلَّى الفرضَ فقط على حَسَبِ حالِه، ولا يزيدُ في صَلاتِه على ما يُجزئُ، ولا إعادةَ.
(فإن لم يجدْ ذلك) أي: الترابَ الطهورَ المباحَ (صلَّى الفرضَ فقط على حسَبِ حالِه) لأنَّ الطَّهارةَ شرطٌ، فلمْ تؤخرْ الصلاة عندَ عدمِه، كالسترةِ.
قال العلَّامةُ الشيخُ مرعي في "الغاية"
(1)
: ويتجِّهُ تيمّمُه عندَ عدمِ الترابِ بكلِّ ما تصاعدَ على الأرضِ، من نحوِ رملٍ، وجِصٍّ، ونُورةٍ، أولى من صلاتِه على حسبِ حالِه؛ خروجًا مَنْ خلافِ من أوجَبَهُ. انتهى.
(ولا يزيدُ في صلاِتهِ) أي: مَنْ عدمَ الماءَ والترابَ (على ما يجزئُ) أي: فلا يقرأ زائدًا على الفاتحةِ، ولا يسبِّحُ أكثرَ من مرةٍ، ولا يزيدُ على ما يجزئ في طمأنينةِ ركوعٍ وسجودٍ وجلوسٍ بين السَّجدتين، وإذا فرغَ من الفاتحِة، ركَعَ في الحالِ. قالَه في "الإنصاف". وظاهرُهُ: لا فرقَ بين الجنبِ وغيرِه.
قال الشيخُ منصورٌ: وتقييدُه في "شرح المنتهى" للمصنِّف بالجنبِ، غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّه وإنْ اتضحَ من حيثُ القراءةُ، لم يتضحْ بالنسبةِ إلى غيرِها
(2)
. ولا يجوزُ أن يقرأ خارجَ الصَّلاةِ إن كان جنبًا.
(ولا إعادةَ) على مَنْ عدمَ الماءَ والترابَ، وصلَّى على حسبِ حالِهِ؛ لأنَّه أتى بما أُمِرَ به، فخرجَ من عهدَتِهِ.
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 104).
(2)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 107).
فَصْلٌ
واجبُ التيمُّم: التَّسميَةُ
، وتسقُط سَهوًا.
وفُروضُهُ خمسَةٌ:
مسحُ الوجهِ، ومسحُ اليدينِ إلى الكُوعَين.
(فصلٌ)
و (واجبُ التيممِ: التسميةُ) وهو أنْ يقولَ: بسمِ اللهِ. لا غير. وظاهرُهُ: ولو عن نجاسةٍ ببدنٍ كالنيةِ. (وتسقطُ سهوًا) وإنْ ذكرَها في بعضِه، ابتدأَ.
(وفروضُه خمسةٌ) في الجملةِ:
أحدُها: (مسحُ الوجهِ) ومنه اللِّحيةُ؛ لقولِه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [النِّساء: 43]، سوى ما تحتَ شعرٍ، ولو كان خفيفًا، وسوى داخلِ فمٍ وأنفٍ، ويُكره ذلك.
والثاني: (مسحُ اليدين إلى الكوعين) والكوعُ: طرفُ الزندِ الذي يلي
(1)
الإبهامَ. لقولِه تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ} [النِّساء: 43]، وإذا عُلِّقَ حكمٌ بمطلقِ اليدين، لم يدخلْ فيه الذراعُ، كقطعِ السارقِ، ومسِّ الفرجِ. ولحديثِ عمارٍ قال: بعثَني النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ، فأجنبتُ، فلم أجدِ الماءَ، فتمرغتُ في الصعيدِ، كما تتمرَّغُ الدابةُ، ثمَّ أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ
(2)
ذلك له، فقال: "إنَّما كان يكفيكَ أن تقولَ بيديك
(1)
سقطت: "يلي" من الأصل.
(2)
في الأصل "فذكر".
الثالثُ: الترتيبُ في الطهارةِ الصُّغرى.
فيلزمُ مَنْ جُرحُه ببَعضِ أعضَاءِ وضوئِه -إذا توضَّأ- أنْ يتيمَّمَ له عِندَ غَسلِه لو كانَ صَحِيحًا.
هكذا". ثمَّ ضربَ بيديه الأرضَ ضربةً واحدةً، ثمَّ مسحَ الشِّمالَ على اليمينِ، وظاهرَ كفيه، ووجهَهُ. متفقٌ عليه
(1)
.
(الثالثُ) من فروضِ التيمُّمِ: (الترتيبُ في الطَّهارةِ الصغرَى) دونَ الكبرَى، وفى ونَ نجاسةٍ على بدنٍ؛ لأنَّ التيمَّمَ مبنئ على طهارةِ الماءِ، وهو فرضٌ في
(2)
الوضوءِ دون ما سواه، وذلك بأنْ يمسحَ وجهَهُ، ثمَّ يديه. فإنْ عكسَ، لَمْ يصحَّ.
(فيلزمُ مَنْ جَرْحُه ببعضِ أعضاءِ وضوئِه، إذا توضَّأَ) ترتيبٌ؛ لوجوبِه في الوضوءِ (أنْ يتيمَّمَ له) أي: للعضوِ الجريحِ ونحوِه (عندَ غسلِه لو كان صحيحًا) فإنْ كان الجرحُ ونحوُه في الوجهِ، وعمَّه، تيمَّمَ أولًا، ثمَّ أتمَّ وضوءَهُ.
وإن كان في بعضِه، خُيِّرَ بينَ أن يغسلَ صحيحَه، ثمَّ يتيمَّمَ لجريحِه، وعكسُه، ثمَّ يتمُّ وضوءَه.
وإنْ كان في عضوٍ آخرَ، لزِمَه غسلُ ما قبلَهُ، ثمَّ كان فيه على ما ذكرَ في الوجهِ.
وإنْ كان في وجهِه ويديه ورجليه، احتاجَ في كلِّ عضوٍ إلى تيمُّمٍ في محلِّ غَسلِهِ؛ ليحصلَ الترتيبُ. فإنْ غسلَ صحيحٌ وجهَه، ثمَّ تيمَّمَ له وليديه تيمَّمًا واحدًا، لَمْ يجزئُه؛ لأدائِهِ إلى سقوطِ الترتيبِ بين الوجهِ واليدين. وأما التيمُّمُ عن جملةِ الطَّهارةِ، فالحكمُ له دونَها.
(1)
أخرجه البخاري (347)، ومسلم (368).
(2)
سقطت: "في" من الأصل.
الرابعُ: الموالاةُ، فيلزمه أنْ يُعيدَ غَسلَ الصَّحيحِ عِندَ كُلِّ تيمُّمٍ.
الخامسُ: تعيينُ النية لما يَتيمَّمُ له من حَدثٍ أو نجاسةٍ، فلا تكفي نيَّةُ أحدِهما عن الآخر،
(الرابعُ) من فروضِ التيمُّمِ: (الموالاةُ) لوجويها فيه. وهي بقدرِها في وضوءٍ.
يعني: أنه لو تأخَّرَ مسحُ يديه عن وجهِه، فإنْ كان بحيثُ لو كانَ في الوضوءِ -وهو في زمنٍ معتدلٍ- جفَّ وجهُهُ، بطلَ تيمُّمُه.
فيلزمُ مَنْ جُرْحُه ببعضِ أعضاءِ وضوئِه موالاةٌ. فلو كان برجلِه، وتيمَّمَ له عند غسلِها. ومضى ما تفوتُ فيه، ثم خرجَ الوقتُ، بطلَ تيمُّمُه (فيلزمُه أن يعيدَ غسلَ الصحيحِ عندَ كلِّ تيممٍ) كما لو أخَّرَ غسلَه حتى فاتتْ.
ولو اغتسلَ لجنابةٍ، ثمَّ تيممَ لنحوِ جُرحٍ، وخرجَ الوقتُ، لمْ يعدْ سوى التيممِ؛ لأنَّه لا يعتبرُ فيه ترتيبٌ ولا موالاةٌ.
(الخامسُ) من فروضِ التيمُّمِ: (تعيينُ النيةِ) أي: استباحةٌ (لما يتيمَّمُ له) كصلاةٍ، أو طوافٍ، فرضًا أو نفلًا (من حدثٍ) أصغرَ أو أكبرَ (أو نجاسةٍ) ببدنٍ، ويكفيه لها تيمُّمٌ واحدٌ، وإن تعددتْ مواضعُها. فإنْ نوى رفعَ حدثٍ، لم يصحَّ تيمُّمُه؛ لأنَّه مبيحٌ لا رافعٌ؛ لأنَّه طهارةُ ضرورةٍ. (فلا تكفي) مَنْ هو محدثٌ، وببدنِهِ نجاسةٌ، التيمُّمُ بـ (نية أحدِهما عن الآخرِ). وكذا الجريحُ في عضوٍ من أعضائِهِ، لا بدَّ أنْ ينويَ التيمَّمَ عن غسلِهِ؛ لحديث:"إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوَى"
(1)
. وإذا تيمَّمَ للجنابةِ، أُبيحَ له ما يُباحُ للمحدثِ من قراءةٍ ولبثٍ بمسجدٍ، دونَ صلاةٍ وطوافٍ ومسِّ مصحفٍ. وإنْ أحدثَ، لم يؤثرْ في هذا التيمُّمِ.
(1)
تقدم تخريجه.
وإن نواهُما أجزأ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لو نوَى بتيمُّمِه رفعَ الحدثِ، لم يصحَّ.
(وإنْ نواهما أجزأَ) أي: الحدثيين بتيمُّمٍ واحدٍ، أو نوى الحدثَ ونجاسةً ببدنٍ، بتيمُّمٍ واحدٍ، أجزأَ عنهما. أو نوى أحدَ أسبابِ أحدِهما. أي: الحدثين، بأنْ بالَ أو تغوَّطَ، وخرجَ منه ريحٌ ونحوُه، ونوى واحدًا منهما، وتيمَّمَ، أجزأَ تيمُّمُه عن الجميعِ. وكذا لو وُجِدَ منه موجباتٌ للغسلِ، ونوى أحدَها. لكنْ قياسُ ما تقدَّمَ في الوضوءِ: لا إن نوى أن لا يستبيحَ به
(1)
غيرَه.
"تنبيهٌ": ومَنْ نوى بتيمُّمِه شيئًا تُشترطُ له الطَّهارةُ، من صلاةٍ وغيرِها، استباحَهُ واستباحَ مثلَه. فمَنْ تيمَّمَ لظهرٍ استباحَها وما يُجمعُ إليها، وفائتةً فأكثرَ. واستباحَ دونَهُ، كمنذورةٍ، ونافلةٍ، ومسِّ مصحفِ بالأَوْلى. ولم يستبحْ ما هو أعلى منه، وهو الصحيحُ، وهو المذهبُ، وعليه جمهورُ الأصحابِ. فهذا هو الضابطُ في ذلك.
"فائدةٌ": لو نوى المراهقُ التيمَّمَ لفرضِه، تمَّ بلَغَ، لم يجزْ أنْ يصلِّيه فيه. ولو نوى به قضاءً صلَّى به أداءً، وعكسُه.
فأعلاه: فرضُ عيني، فنذرٌ، فكفايةٌ، فنافلةٌ، فطوافُ نفلٍ، فمسُّ مصحفٍ، فقراءةٌ، فلبثٌ.
وإن أطلقَها
(2)
لصلاةٍ؛ بأنْ لمْ يعيِّن بنيتِه الاستباحةَ فرضًا ولا نفلًا -أو طوافٍ- لم يفعلْ إلا نفلَهما. فلا يطوفُ به طوافَ الزيارةِ.
(1)
في الأصل: "من".
(2)
في الأصل: "أطلقهما".
ومُبطِلاتُه خَمسَةٌ:
ما أبطلَ الوضُوءَ، ووجُودُ الماءِ، وخُروجُ الوقت،
(ومبطلاتُهُ خمسةٌ) أي: مبطلاتُ التيمُّمِ خمسةٌ:
أحدُها: (ما أبطلَ الوضوءَ) كخروجِ شيءٍ من سبيلٍ، وزوالِ عقلٍ، ومسِّ فرجٍ، ونحوِه من نواقضِ الوضوء، إذا كان تيمُّمُه عن حدثٍ أصغرَ؛ لأنَّه بدلٌ عن الوضوءِ، فحكمُه حكمُه.
ويبطلُ التيمُّمُ عن حدثٍ أكبرَ بما يوجبُه، كالجماعِ، وخروجِ المنيِّ بلذةٍ، إلَّا غسلَ حيضٍ ونفاسٍ إذا تيمَّمتْ له، فلا يبطلُ بمبطلاتِ غُسلٍ ووضوءٍ، بلْ بوجودِ حيضٍ ونفاسٍ. فلو تيمَّمْت بعَد طهرِها من الحيضِ له، ثمَّ أجنبْت، فله الوطءُ؛ لبقاءِ حكمِ تيمم
(1)
الحيضِ، والوطءُ إنما يوجبُ حدثَ الجنابةِ. قاله في "الإقناع"
(2)
.
(و) الثاني من مبطلاتِ التيمُّمَ: (وجودُ الماءِ) إنْ كان تيمُّمُه لعدمِه؛ لقولِه عليه السلام: "فإذا وجدتَ الماءَ، فأمسَّه بشرتَكَ"
(3)
. ولأنَّ اللهَ تعالى إنَّما أباحَ التيممَ عندَ عدَمِه، فإذا وجِدَ، وجبَ استعمالُه.
(و) الثالثُ من مبطلاتِ التيمُّمِ: (خروجُ الوقتِ) لقولِ عليٍّ
(4)
: التيمُّمُ لكلِّ صلاةٍ. ولأنَّه طهارةُ ضرورةٍ، فتقيَّدُ بالوقتِ، كطهارةِ المستحاضةِ. فلو تيمَّمَ وقتَ الصبحِ، بطلَ بطلوعِ الشمسِ. وكذا لو تيمَّمَ بعدَ الشروقِ، بطلَ بالزوالِ. ما لم يكنْ
(1)
سقطت: "تيمم" من الأصل.
(2)
انظر "كشاف القناع"(1/ 419).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 147).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في صلاةِ جمعةٍ، فلا تبطلُ إذا خرجَ وقتُها؛ لأنَّها لا تُقضى.
ويبطُلُ التيمُّمُ لطوافٍ، وجنازةٍ، ولبثٍ بمسجدٍ، ونافلةٍ، بخروجِ الوقتِ، كالفريضةِ، على الصحيحِ من المذهبِ.
"تنبيهٌ": ظاهرُ قولِه: ويبطلُ التيمُّمُ بخروجِ الوقتِ: أنَّ التيمُّمَ مبيحٌ، لا رافعٌ، وهو صحيحٌ، وهو المذهبُ، نصَّ عليه، وعليه الأصحابُ. قال الزركشيُّ
(1)
: وهو المختارُ للإمامِ والأصحابِ.
وقال أبو الخطابِ في "الانتصار": يرفعُه رفعًا مؤقتًا بالوقتِ على روايةٍ.
وعنه: أنَّه رافعٌ، فيصلِّي به إلى حدثِهِ. اختارَه أبو محمدٍ الجوزيُّ، والشيخُ تقيُّ الدينِ، وابنُ رزينٍ، وصاحبُ "الفائق". فيرفعُ الحدثَ إلى القدرةِ على الماءِ، ويتيمَّمُ لفرضٍ ونفلٍ قبلَ وقتِهِ، ولنفلٍ غيرِ معيَّنٍ لا سببَ له وقت نهيٍّ.
وقال الشيخُ تقيُّ الدين أيضًا في "الفتاوى المصرية": التيممُ لوقتِ كلِّ صلاةٍ، إلى أنْ يدخلَ وقتُ صلاةٍ أخرى أعدلُ الأقوالِ. وعلى المذهبِ: لا يصحُّ ذلك، كما تقدمَ.
وعلى المذهبِ: يتيممُ للفائتةِ إذا أرادَ فعلَها. ذكَرَه أبو المعالي والأزجيُّ. وقال في "الفروع": وظاهرُ كلامِ جماعةٍ: إذا ذكرَها. قال: وهو أولى. ويتيممُ للكسوفِ عند وجودِه، وللاستسقاءِ إذا اجتمعوا، وللجنازةِ إذا غُسِّلَ الميتُ، أو يُمِّمَ لعدمِ الماءِ. فيعايا بها فيقالُ: شخصٌ لا يصحُّ تيمُّمُهِ حتى يتيمُّمَ غيرُه؟. وقال في "الرعاية": ووقتُ التيمُّمِ لصلاةِ جنازةٍ إذا طُهِّرَ الميتُ، وقيل: بلْ إنجازُ غَسلِه.
(1)
انظر "شرح الزركشي"(1/ 345).
وزوالُ المبيحِ له، وخَلعُ ما مَسَحَ عليه.
وإن وجَدَ الماءَ وهو في الصَّلاةِ، بطَلَتْ،
ووقتُه لصلاةِ عيدٍ ارتفاعُ الشمسِ. وقال الزركشيُّ: وقتُ المنذورةِ: كلُّ وقتٍ، على المذهبِ، ووقتُ جميعِ التطوعاتِ: وقتُ جوازِ فعلِها.
وقال في "الرعاية": وعنه: يصلِّي ما لَمْ يحدثْ. وقيل: أو يجدِ الماءَ. قلتُ: ظاهرُ هذا مشكِلٌ، فإنَّه يقتضي أنَّه على النصِّ يصلِّي وإنْ وجدَ الماءَ، وهو خلافُ الإجماعِ. قاله في "الإنصاف"
(1)
.
(و) الرابعُ من مبطلاتِ التيمُّمِ: (زوالُ المبيحِ له) كبرء مرضٍ أو جُرحٍ تيمَّمَ له؛ لأنَّه طهارةُ ضرورةٍ، فزالَ بزوالِها.
(و) الخامسُ من مبطلاتِ التيمُّمِ: (خَلعُ ما مسحَ عليه) كخفٍّ، وعمامةٍ، وجبيرةٍ لبست على طهارة ماءٍ، إنْ تيمَّمَ بعدَ حدثِهِ وهو عليه، سواءٌ مسحَه قبلَ ذلك، أو لا؛ لقيامِ تيمُّمِهِ مقامَ وضوئِهِ، وهو يبطُلُ بخلعِ ذلك، فكذا ما قامَ مقامَهُ. والتيمُّمُ وإنِ اختصَّ بعضوين صورةً، فهو متعلِّقٌ بالأربعةِ حكمًا. وكذا لو انقضَتْ مدةُ مسحٍ. وهو من المفرداتِ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لو تيممَ قبلَ اللبسِ، ثُمَّ لبسَه ومسحَ عليه، ثُمَّ خلعَه، لَمْ يبطُلْ تيمُّمُه.
(وإن وجدَ الماءَ) مَنْ تيمَّمَ لعدمِهِ (وهو في الصَّلاةِ، بطلتْ) لبطلانِ طهارتِهِ، فيتوضَّأُ، أو يغتسلُ، ويبتدئُ الصَّلاةَ. وقال في "الرعاية": قلتُ: الأولى قلبُها نفلًا.
(وإن انقضتْ) أي: الصَّلاةُ، (لَمْ تجبِ الإعادةُ) لأنَّه أدَّى فرضَه، كما أمرَ، فلم
(1)
"الإنصاف"(2/ 242).
وإن انقَضَت، لم تَجِبِ الإعادةُ.
وصِفَتُه: أن ينويَ، ثمَّ يُسمِّيَ، ويَضربَ التُّرابَ بيديه مُفرَّجَتَىِ الأصابعِ، ضَربةً واحِدةً -والأحوطُ ثِنتَان-
تلزمْه إعادةٌ، كما لو وجدَه بعدَ الوقتِ.
(وصفتُه) أي: التيممِ: (أن ينويَ) استباحةَ فرضِ الصَّلاةِ، أو نحوِه، من حدثٍ أصغرَ أو نحوِه. (ثُمَّ يُسمِّيَ) وجوبًا. فيجبُ تقديمُ النيةِ على التسميةِ، وإلَّا لم يصحَّ تيمُّمُه. (ويضربُ الترابَ بيديه، مُفرَّجَتَي الأصابعِ) ليصلَ الترابُ إلى ما بينَهما. وينزعَ نحوَ خاتمٍ، ولو كان الضربُ على لِيْدٍ، أو ثوبٍ، أو بساطٍ، أو حصيرٍ، أو حائطٍ، أو صخرةٍ، أو حيوانٍ، أو بَرذَعةِ حمارٍ، أو شجرٍ، أو خشبٍ، أو عِدْلِ شعيرٍ، أو نحوِه ممَّا عليه ترابٌ طهورٌ له غبارٌ.
ولو كان الترابُ ناعمًا، فوضعَ يدَه عليه من غيرِ ضربٍ، فعلِقَ بيدِه، أجزأهُ (ضربةً واحدةً) كونه بضربةٍ مسنونٌ، فلو كان بضربتين؛ واحدةٌ للوجهِ، والأخرى لليدين، جازَ. لكن يُكره بأكثرَ منهما، مع الاكتفاءِ بهما، بل يجبُ إن لم يحصلِ الاستكفاءُ بهما.
ويُكره نفخُ الترابِ إنْ كان قليلًا، فإنْ ذهبَ به، أعادَ الضربَ.
(والأحوطُ: ثنتان) يمسحُ بأحدِهما وجهَهُ، ويمسخ بالأخرى يديه؛ لأنَّ الغرضَ إيصالُ الترابِ إلى محلِّ الفرضِ.
وقال القاضي والشيرازيُّ وابنُ الزَّاغوني: المسنونُ ضربتان، يمسحُ بأحدِهما وجهَهُ، وبالأخرى يديه إلى المرفقين
(بعدَ نزعِ خاتمٍ ونحوِه) ليصلَ الترابُ إلى ما تحتَهُ.
بعد نَزعِ خاتَمٍ ونحوِه، فيمسحُ وجهَهُ بباطِنِ أصابِعِه، وكَفَّيهِ براحَتَيهِ.
(فيمسحُ وجهَهُ) جميعَهُ، فإنْ بقيَ منه شيءٌ لم يصلْ إليه الترابُ، أمرَّ يدَه عليه، إنْ لَمْ يفصلْ راحتَهُ. وإنْ فصلَها فإنْ بقيَ عليها غبارٌ، جازَ أيضًا المسحُ بها، وإلا ضربَ ضربةً أخرى (بباطنِ أصابعِه، وكفَّيه براحَتَيه) في الإصبعِ عشرُ لغاتٍ: تثليثُ الهمزةِ مع تثليثِ الباءِ في كلٍّ. والعاشرةُ: أُصْبُوعُ. كعصفورٍ.
قال في "الإنصاف"
(1)
: الصحيحُ من المذهبِ: أنَّ المسنونَ والواجبَ ضربةٌ واحدةٌ، نصَّ عليه، وعليه جمهورُ الأصحابِ. انتهى.
قال في "الشرح"
(2)
: قال الأثرمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: التيمُّمُ ضربةٌ واحدةٌ؟ فقال: نعم، للوجهِ والكفين، ومَنْ قال: ضربتين. فإنَّما هو شيءٌ زادَه. انتهى.
والأصلُ في ذلك: ما روَى عمارٌ قال: بعثَني النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فأجنبتُ، فلم أجدِ الماءَ، فتمرَّغتُ في الصَّعيدِ، كما تمرَّغُ الدابةُ، ثمَّ أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرْتُ ذلك له، فقال:"إنَّما كان يكفيك أن تقولَ بيدِيك هكذا". ثُمَّ ضربَ بيدِيه الأرضَ ضربةً واحدةً، ثمَّ مسحَ الشِّمالَ على اليمينِ، وظاهرَ كفيه وجهَه. متفقٌ عليه
(3)
.
ولأنَّه حكمٌ عُلِّقَ بمطلقِ اليدين، فلم يدخلْ فيه الذراعُ، كقَطعِ السارقِ، ومسِّ الفرجِ. وقد احتجَّ ابنُ عباسٍ بهذا.
فإن قيل: فقدْ رُوِيَ في حديثِ عمارٍ: "إلى المرفقين". قُلْنا: حديثُ: "إلى
(1)
"الإنصاف"(2/ 254).
(2)
"الشرح الكبير"(2/ 254).
(3)
أخرجه البخاري (347)، ومسلم (368).
وسُنَّ لمن يَرجُو وجودَ الماءِ تأخِير التيمُّمِ إلى آخِرِ الوقتِ المُختَارِ.
وله أن يصلِّيَ بتيمُّمٍ واحدٍ ما شاءَ من الفَرضِ والنَّفْلِ، لكن لو تيمَّمَ للنَّفلِ، لم يستَبِحِ الفَرضَ.
المرفقينِ" لا يعوَّلُ عليه، إنَّما رواه سلمةُ، وشكَّ فيه. ذكرَ ذلك النسائيُّ
(1)
، فلا يثبتُ مع الشكِّ، مع أنَّه قد أُنكرَ عليه، وخالفَ به سائرَ الرواةِ الثقاتِ.
واستحبَّ القاضي وغيرُه: ضربتين؛ ضربةً للوجهِ، وأخرى لليدين إلى المرفقين. وقد تقدَّمَ الإشارةُ إلى ذلك.
(وسُنَّ لمَنْ يرجو) أو يعلمُ (وجودَ الماءِ) أو مستوٍ عندَه الأمران، وهما الوجودُ والعدمُ، (تأخيرُ التيمُّمِ إلى آخرِ الوقتِ المختارِ) أي: سُنَّ تأخيرُه إلى آخرِ الوقتِ المختارِ؛ بحيثُ يبقَى منه قدرُ التيمُّمِ والصَّلاةِ؛ لأنَّ الطهارةَ بالماءِ شرطٌ، والصَّلاةُ في أولِ الوقتِ فضيلةٌ، ولا شكَّ أن تركَ الفضيلةِ وانتظارَ الشرطِ أَوْلى من عكسِ ذلك. وإنَّما لَمْ يجبِ التأخيرُ له؛ لأنَّه فاقدٌ للماءِ، فجازَ له التيمُّمُ في أولِ الوقتِ.
أمَّا إنْ أيس من وجودِه، فالمسنونُ التقديمُ؛ لأنَّ أولَ الوقتِ فضيلةٌ متيقنةٌ، فلا يتركُه لأمرٍ مظنونٍ.
وفي "المبدع"
(2)
: وظاهرُه: إذا لم يرْجه، بل ظنَّ -أو علمَ- عدمَه، فالتقديمُ أولى، لئلا يتركَ الفضيلةَ المتيقنةَ لأمرٍ غيرِ مرجو
(3)
. وقدَّمَه في "الرعاية". وإن تردَّدَ، فوجهان.
(وله أن يصلِّي بتيمُّم واحدٍ ما شاءَ من الفرضِ والنفلِ، لكن لو تيمَّمَ للنفلِ، لم يستبحِ الفرضَ)، أي: لكونِه أعلى. وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه.
(1)
في "سننه"(1/ 165).
(2)
"المبدع"(1/ 228).
(3)
في الأصل: "موجودٍ".
بابُ إزالةِ النَّجاسةِ
يُشتَرطُ لكلِّ متنجِّسٍ سَبعُ غَسَلاتٍ، وأن يكُونَ إحداها بتُرابٍ طَاهِرٍ،
(بابُ إزالةِ النجاسةِ)
وما يُعفى عنه منها، وما يتعلَّقُ بذلك
وهي لغةً: الشيءُ المستقذرُ. ويحرُمُ التضمخُ بها بلا عذرٍ. والمرادُ بالنجاسةِ: الطارئةُ على محلِّ طاهرٍ، لا العينيةِ، فلا تطهرُ بحالٍ
(يُشترطُ لـ) تطهيرِ (كلِّ متنجسٍ) أي: إلَّا الأرضَ والصخرَ ونحوَها، وبولَ الغلامِ الذي لم يأكلِ الطعامَ لشهوةٍ (سبعُ غسَلاتٍ) لعمومِ حديثِ ابنِ عمرَ: أُمرْنا بغسلِ الأنجاسِ سبعًا
(1)
. فينصرفُ إلى أمرِه عليه السلام. وقياسًا على نجاسةِ الكلبِ. وقيسَ أسفلُ الخفِّ والحذاءِ على الرِّجلِ، وذيلُ المرأةِ على بقيَّةِ ثوبِها.
ويعتبرُ في كلِّ غسلةٍ أن يستوعبَ المحلَّ، ويُحسبُ العددُ من أوَّلِ غسلةٍ.
(وأن يكونَ إحداها) أي: السبعِ غسَلاتٍ (بترابٍ طاهرٍ) لحديثِ مسلمٍ
(2)
عن أبي هريرةَ مرفوعًا: "إذا ولغَ الكلبُ في إناءِ أحدَكم، فليغسلْه سبعًا؛ أُولاهُنَّ بالترابِ" ولا يكفي ترابٌ نجسٌ.
يقالُ: ولَغَ يلَغُ -بفتح اللام فيهما- ولوغًا، بضمِّ الواو: إذا شربَ. قال ابنُ العربيِّ: ويستعملُ الولوغُ في الكلابِ والسباعِ، ولا يستعملُ في الآدميِّ. انتهى.
(1)
لم أجده بهذا اللفظ، وانظر "إرواء الغليل"(163).
(2)
أخرجه مسلم (279).
أو صَابونٍ ونحوِه، في متنجِّسٍ بكلبٍ أو خنزيرٍ.
ويَضرُّ بقاءُ طَعمِ النجاسَةِ لا لونِها، أو ريحِها، أو هُمَا عَجْزًا.
ويُجزئ في بولِ غُلامٍ لم يأكلْ طَعامًا لشَهوةٍ،
وقولُه: "طاهرٌ": خالفَ فيه صاحبُ "المنتهى"، وهو ظاهرُ ما في "التلخيص"، وتبعَه العلَّامةُ الشيخُ مرعي هنا، وفي "غاية المنتهى"، وهو الصَّوابُ.
يستوعبُ المحلَّ إلَّا فيما يضرّ، يعني: إلا إذا كان المحلُّ المتنجسُ يضرُّه الترابُ، فيكفي مسمَّاه. أي: مسمَّى الترابِ.
والغسلةِ الأولى أَوْلى ممَّا بعدَها؛ لموافقةِ لفظِ الخبرِ. ويقومُ أُشنانٌ ونُخالةٌ ودقاقٌ، (أو صابونٌ ونحوه) مما تقدَّمَ مقاَمه. (في متنجس بِكلبِ أو خنزيرٍ) أو متولدٍ من أحدِهما.
(ويضرُّ بقاءُ طعمِ النجاسةِ) لدلالتِه على بقاءِ العينِ، و (لا) يضرُّ بقاءُ (لونِها، أو) بقاءُ (ريحِها، أو هما
(1)
؛ عجزًا) عن إزالتِهما، دفعًا للحرجِ.
(ويجزئُ في بولِ غلامٍ) أي: لا في بولِ أُنثى وخنثى. وكذا في قَيئهِ؛ لأنَّه أخفُّ من بولِه. وبولُه نجسٌ، علَى الصحيحِ من المذهبِ. وخرجَ ببولِ الغلامِ: عذرتُه. (لم يأكلْ طعامًا لشهوةٍ) أي: بأنْ لا يأكلَ أصلًا، أو يأكلَه لا لشهوةٍ؛ لأنَّه قد يلْعقُ العسلَ، وهو صغيرٌ لا يَشتَهي الأكلَ.
قال في "الشرح الكبير"
(2)
: فعلى هذا: ما يُسقاهُ الصبيُّ أو يلعقُهُ للتداوي، لا يُعدُّ طعامًا يوجبُ الغَسلَ، وما يَطعمُهُ لغذائِه ونفسُه تشتهيه، يوجبُ الغَسلَ.
(1)
في الأصل: "أو بقاؤهما".
(2)
"الشرح الكبير"(2/ 312).
نَضْحُهُ، وهو غَمرُهُ بالمَاءِ.
ويُجزئُ في تَطهيرِ صَخْرٍ، وأحواضٍ، وأرضٍ تنجَّسَت بمائِعٍ، ولو من كَلبٍ أو خِنزيرٍ، مُكاثرتُها بالماء، بحيثُ يذهَبُ لونُ النجاسَةِ، وريحُها.
ولقولِه عليه السلام: "إنَّما يُغسلُ من بولِ الأنثى، وينضحُ من بولِ الذكرِ". رواه أبو داودَ
(1)
عن لُبابةَ بنتِ الحارثِ.
وعُلِمَ منه: أنَّه يُغسلُ من الغائطِ مُطلقًا، وبولِ صبيٍّ أكلَ الطعام لشهوةٍ.
والحكمةُ فيه: أنَّ بولَ الغلامِ يخرجُ بقوةٍ فينتشرُ. أو أنَّه يكثرُ حملُه على الأيدي، فتعظمُ المشقَّةُ بغسلِه. أو أن مزاجَه حارٌّ، فبولُه رقيقٌ، بخلافِ الجاريةِ.
وقال الشافعيُّ: لَمْ يتبينْ ليَ الفرقُ من السنَّةِ بينَهما. وذكرَ بعضُهم أنَّ الغلامَ أصلُه من الماءِ والترابِ، والجاريةَ من الدَّمِ واللَّحمِ. وقد أفادَه ابنُ ماجه في "سننِه"، وهو غريبٌ.
(نضحُه، وهو: غمرُه بالماءِ) وإنْ لَمْ ينفصلِ الماءُ عن المحلِّ. ولا يحتاجُ إلى مرسٍ وعصرٍ؛ لحديثِ أمِّ قيسٍ بنتِ محصنٍ أنَّها أتت بابنٍ لها صغيرٍ، لم يأكلِ الطعامَ، إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأجلسَه في حِجرِه، فبالَ على ثوبه، فدعا بماءٍ فنضحَه، ولَمْ يغسلْه. متفقٌ عليه
(2)
.
(ويُجزئُ في تطهيرِ صَخرٍ، وأحو اضٍ، وأرضٍ تنجَّسَت بمائعٍ، ولو من كلبٍ أو خنزيرٍ، مكاثرتُها بالماءِ، بحيثُ يذهبُ لونُ النجاسةِ وريحُها) مع الطعمِ أيضًا؛ لحديثِ أنسِ قال: جاءَ أعرابيٌّ فبالَ في طائفةِ المسجدِ، فزجرَه الناسُ، فنهاهم
(1)
أخرجه أبو داود (375)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2383).
(2)
أخرجه البخاري (223)، ومسلم (287).
ولا تطهُر الأرضُ بالشمسِ والرِّيحِ والجَفَافِ، ولا النجاسةُ بالنَّارِ.
وتطهُرُ الخمرَةُ بإنائِها إنْ انقَلَبت خَلًّا بنَفسِها.
النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا قضَى بولَه، أمرَ بذَنوبٍ فأُهريقَ عليه. متفقٌ عليه
(1)
. فإن بقيا
(2)
أو أحدُهما، لم تطهُرْ؛ لأنَّه دليلُ بقائِها.
والمرادُ بالمكاثرةِ: صبُّ الماءِ على النجاسةِ، ولو كانتْ المكاثرةُ من مطرٍ. قال في "الكافي"
(3)
: لو كانتْ أرضُ البئرِ نجسةً، فنبعَ الماءُ عليها طَهَّرَها.
(ولا تطهرُ الأرضُ بالشمسِ والريحِ والجفافِ، ولا النجاسةُ، بالنارِ) فرمادُها، ودخانُها، وبخارُها، وغبارُها، نجسٌ؛ لأنَّه إنَّما تغيرتْ هيئةُ جسمِها، كالميتةِ النجسةِ تصيرُ بتطاولِ الزمانِ ترابًا. وكذا صابونٌ عُمِلَ من زيتٍ نجسٍ.
ولا تطهرُ النجاسةُ باستحالةٍ، فالمتولِّدُ منها، كدودِ جُرحٍ، وصراصيرِ كُنُفٍ، وكالكلابِ تُلقَى في ملَّاحةٍ، فتصيرُ مِلْحًا، نجسةٌ، كالدَّمِ يتسحيلُ قيحًا.
(وتطهرُ الخمرةُ بإنائِها إن انقلبَتْ خلًّا بنفسِها). أي: من غيرِ نقلٍ، ولا وضعِ شيءٍ فيها، فإنَّها تطهرُ؛ لأنَّ نجاستَها لشدَّتِها المسكرةِ الحادثةِ لها، وقد زالَ ذلك، فوجبَ أنْ تطهرَ، كالماءِ الذي تنجَّس بالتغيرِ إذا زالَ تغيرُّه بنفسِه. ولا يلزمُ عليه سائرُ النجاساتِ، لكونِها لا تطهرُ بالاستحالةِ؛ لأنَّ نجاستَها لعينِها، والخمرةُ نجاستُها لأمرٍ زالَ بالانقلاب.
ودَنُّها مثلها، فيطهرُ بطهارتِها؛ تبعًا لها، ولو ممَّا لم يلاقِ الخلُّ مما فوقَه، مما أصابَه الخمرُ في غليانِه، فيطهرُ كالذي لاقاهُ الخلُّ.
(1)
أخرجه البخاري (221)، ومسلم (284).
(2)
أي: لون النجاسة وريحها.
(3)
"الكافي"(1/ 191).
وإذا خَفيَ موضعُ النجاسِة، غَسَلَ حتَّى يَتيقَّنَ غسلَها.
ويحرُمُ تخليلُها. والنبيذُ كالخمرِ فيما تقدَّمَ. وعنه: يجوزُ.
"فائدةٌ": الخلّ المباحُ أن يصبَّ على العنبِ أو العصيرِ خلٌّ قبلَ غليانِه، حتى لا يغليَ. نصَّ عليه.
(وإذا خفِىَ موضعُ النجاسةِ) سواءٌ كانت في بدنٍ، أو ثوبٍ، أو مصلَّى صغيرٍ، كبيتٍ صغيرٍ (غسلَ حتى يتيقنَ غسلَها) ليخرجَ من العُهدةِ بيقينٍ. فإنْ جَهِلَ جهتَها من بدنٍ أو ثوبٍ، غسلَه كلَّه، وإن علِمَها في إحدى يديه، أو أحد كُمَّيه ونسيه، غسلَهما. وإن علِمَها فيما يدركُه بصرُه من بدنِهِ، أو ثوبه، غسلَ ما يدركُه منهما. فإنْ صلَّى قبلَ ذلك، لم تصحَّ؛ لأنَّه تيقَّنَ المانعَ، فهو كمَن تيقنَ الحدثَ وشكَّ في الطهارةِ.
فَصْلٌ
المسكِرُ المائِعُ
، وكذا الحَشيشَةُ، وما لا يؤكلُ من الطَّيرِ والبهائم، مما فَوقَ الهِرِّ خِلْقَةً، نَجِسٌ.
(فصلٌ)
(المسكرُ المائعُ) نجسٌ، خمرًا كان أو نبيذًا، لقولِه تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المَائدة: 90] إلى قولِه: {رِجْسٌ} [المَائدة: 90]. ولأنه يحرُمُ تناولُها من غيرِ ضررٍ، أشبَهَ الدَّمَ، ولقولِه عليه السلام:"كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ". رواه مسلمٌ
(1)
. ولأنَّ النبيذَ شرابٌ فيه شدةٌ مطربةٌ، أشبَهَ الخمرةَ.
(وكذا الحشيشةُ) اختارَه الشيخُ تقيُّ الدين. والمرادُ: بعد علاجِها، كما يدلُّ عليه كلامُ الغزيِّ في "شرحه" على منظومته.
وقيل: طاهرُة. قدَّمه في "الرعاية الكبرى"، وحواشي صاحبِ "الفروع" على "المقنع"، وهو ظاهرُ كلامِ كثيرٍ من الأصحابِ، وهو الصَّوابُ. قاله في "تصحيح الفروع"
(2)
.
(وما لا يؤكلُ من الطيرِ والبهائمِ مما فوقَ الهرِّ خِلْقَةً) كالعُقابِ، والصقرِ، والحِدَأةِ، والبُومةِ، والنَّشرِ، والرَّخَمِ، وغُرابِ البينِ، والأَبْقعِ، والفيلِ، والبَغْلِ والحمارِ، والأسد، والنَّمِرِ، والذِّئْبِ، والفَهْدِ، والكلبِ، والخنزيرِ، وابنِ آوى، والدُّبِّ، والقردِ، والسِّفعِ -ولد الضبعِ- والعِسبارِ- ولد ذيبةٍ من الضبعِ- (نجسٌ)
(1)
أخرجه مسلم (2003) من حديث ابن عمر.
(2)
"تصحيح الفروع"(1/ 329).
وما دُونَها في الخِلقَة كالحيَّة، والفأر، والمُسكِرُ غيرُ المائعِ، فَطاهِرٌ.
وكلُّ ميتةٍ نجِسَةٌ، غيرَ ميتةِ الآدميِّ، والسَّمكِ، والجَرادِ، وما لا نفس له سائلةٌ، كالعقرَب، والخُنفُساءِ، والبقِّ، والقَملِ، والبراغِيث.
وما دونَ ذلك في الخلقةِ، فهو طاهر
(1)
، كالنِّمْسِ، والنَّسْناسِ، وابنِ عُرْسٍ، والقُنْفُذِ، والفأرِ. وقدْ أشارَ إليه بقولِه (وما دونَها في الخلقةِ، كالحيةِ، والفأرِ) طاهرٌ (والمسكرُ غيرُ المائعِ. فطاهرٌ) كالبنجِ ونحوِه مما يسكرُ.
فإن قلتَ: الحشيشةُ من المسكرِ الجامدِ، فهل يُحكَمُ بطهارتِها أم لا؟
قلتُ: مفهومٌ ما ذُكِرَ: الحكمُ بطهارتِها، ما دامتْ جامدةً، فإن أُميعتْ فهي نجسةٌ. أطلقهنَّ في "الفروع"، و"الفائق". وقد تقدَّمَ الحكمُ بطهارتِها في "الرعاية" و"حواشي المقنع".
(وكلُّ ميتةٍ نجسةٌ، غيرَ ميتةِ الآدميِّ) فهي طاهرةٌ؛ لقولِه تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسرَاء: 70] ولحديثِ: "إنَّ المؤمنَ لا ينجسُ"
(2)
. ولأنَّه لو نَجُسَ لم يطهرْ بالغَسلِ. وأجزاؤُه وأبعاضُه كجملتِه.
(و) غيرَ ميتةِ (السمكِ) وسائرِ ما لا يعيشُ إلا في الماءِ. بخلافِ ما يعيشُ في البرِّ والبحرِ، فميتته نجسةٌ، كالضِّفدعِ
(3)
.
(و) غيرَ ميتةِ (الجرادِ) وهي طاهرةٌ؛ لأنها لو كانت نجسةً، لم يحلَّ أكلُها. (و) غيرَ ميتةِ (ما لا نفسَ له سائلة) أي: ما ليس له دمٌ يسيلُ (كالعقربِ، والخُنفُساءِ، والبقِّ، والقملِ، والبراغيثِ) والعنكبوتِ، والذُّبابِ، والزُّنبورِ،
(1)
سقطت: "فهو طاهر" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (285)، ومسلم (371) من حديث أبي هريرة.
(3)
في الأصل: "فالضفدع".
وما أُكِلَ لحمُه، ولم يكنْ أكثرُ علَفِه النجاسةَ، فبولُه، وروثُه، وقيئُه، ومذيُه، ووديُه، ومنيُّه، ولبنُه، طاهرٌ.
وما لا يؤكلُ، فنجِسٌ، إلا مَنيَّ الآدميِّ، ولبنَه، فطاهرٌ.
والنَّملِ، والدُّودِ، والنَّحلِ، والصراصيرِ التي لم تتولَّدْ من نجاسةٍ.
لا الوزغُ والحيةُ، فميتتُهما نجسةٌ؛ لأنَّ لهما نفسًا سائلةً. والعلقَةُ يخلقُ منها حيوانٌ، ولو آدميًّا، أو طاهرًا، نجسةٌ؛ لأنَّها دمٌ خارجٌ من الفرجِ.
والبيضةُ تصيرُ دمًا، نجسةٌ، وكذا بيضٌ مَذِرٌ. ذكرَه أبو المعالي. ونقلَ في "الإنصاف"
(1)
عن ابنِ تميمٍ: أنَّ الصحيحَ طهارتُها.
ولبنُ غيرِ آدميٍّ ومأكولٍ كلبنِ هرٍّ، نجسٌ. ومنيُّ غيرِ آدميٍّ ومأكولٍ، نجسٌ.
وأما منيُّ المأكولِ، فطاهرٌ. وكذا منيُّ الآدميِّ، ذكرًا أو أنثى، عن احتلامٍ أو جماعٍ أو غيرِهما، فلا يجبُ فرْكٌ، ولا غسلٌ. وظاهرُه: ولو عن استجمارٍ. وصرَّحَ به في "الإقناع"
(2)
. وإن كان على المخرجِ نجاسةٌ، فالمنيُّ نجسٌ لا يُعفى عن شيءٍ منه. ذكَرَهُ في "المبدع".
(وما أُكِلَ لحمُه، ولم يكنْ أكثرُ علفِه النجاسةَ، فبولُه، وروثُه، وقيئُه، ومذيُه، ووديُه، ومنيُّه، ولبنُه، طاهرٌ) وكذا دمعُه؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أمرَ العُرَنيين أن يلحقوا بإبلِ الصدقةِ، فيشربوا من أبوالِها وألبانِها
(3)
. والنجسُ لا يُباحُ شربُه.
(وما لا يؤكلُ) لحمُه، فقسْ عليه ما تقدَّمَ (فنجسٌ، إلَّا منيَّ الآدميِّ، ولبنَه، فطاهرٌ) ذكرًا كان أو أنثى. وقد مرَّ التفصيلُ في ذلك.
(1)
"الإنصاف"(2/ 325).
(2)
"الإقناع"(1/ 96).
(3)
أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671) من حديث أنس.
والقيحُ، والدَّمُ، والصَّديدُ، نجسٌ، لكن يُعفى في الصلاةِ عن يَسيرٍ منه لم ينقُض، إذا كان من حيوانٍ طاهرٍ في الحياةِ، ولو مِن دم حائضٍ.
(والقيحُ، والدَّمُ، والصديدُ، نجسٌ، لكنْ يُعفى في الصَّلاةِ عن يسيرٍ منه) واحترزَ بالدَّمِ ونحوِه عن البولِ والغائطِ ونحوِهما، فإنَّه لا يُعفى عن يسيرِ شيءٍ من ذلك، لقولِه تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدَّثِّر: 4] وقولِه عليه السلام: "تنزهوا من البولِ، فإنَّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه"
(1)
. ولأنَّها نجاسةٌ لا يَشقّ إزالتُها، فوجبَت كالكثيرِ. وكذا ماءُ القروحِ، لكن يُعفى عنها عن أكثرَ مما يُعفى عن مثلِه من الدَّمِ، للاختلافِ فيها. ولهذا قال الإمامُ أحمدُ: هو أسهلُ من الدمِ.
ويُعفى عن يسيرٍ من ذلك، ولو من غيرِ مصلٍّ. أي: بأن كان دمَ آدميٍّ غيرِه، أو دمَ حيوانٍ طاهرٍ مأكولٍ أو لا، كالهرِّ. وقيل: يختصُّ العفوُ بدمِ بدنِ نفسِ المصلِّي وقيحِه وصديدِه. وليس المرادُ: المصلِّي المتلبسَ بالصَّلاةِ. (لم ينقضْ) وهو الذي لم يفحشْ في نفسِ كلِّ أحدٍ بحسبِه.
(إذا كان من حيوانٍ طاهرٍ في الحياةِ) وهو ما دونَ الهرِّ خلقةً، أوآدميٍّ. (ولو من دمِ حائضٍ) ونفاسٍ، وهو الصحيحُ من المذهبِ. جزمَ به في "المغني" و" الشرح " وابنُ رزين " والمنور"، وهو ظاهرُ " الوجيز ".
ولا يُعفى عن شيءٍ من دمٍ وقيحٍ وصديدٍ من حيوانٍ نجسٍ، ككلبٍ وحمارٍ؛ لأنَّه لا يُعفى عن يسيرِ فضلاتِه، كعرقِه وريقِه، فدمُه أَوْلى. ما لم يكنْ القيحُ والصَّديدُ من سبيلٍ، قبُلٍ أو دُبُرٍ، فلا يُعفى عن شيءٍ منه؛ لأنَّ حكمَه حكمُ البولِ والغائطِ.
(1)
أخرجه الدارقطني 1/ 127 من حديث أنس. وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(159). وانظر "الإرواء"(280).
ويُضَمُّ يَسيرٌ متفرِّق بثَوبٍ، لا أكثرَ.
وطينُ شارع ظُنَّتْ نجاستُه،
ويُعفى عن أثرِ استجمارٍ بمحلِّه، وعن يسيرِ سلسِ البولِ. ويُعفى عن دخانِ النجاسةِ وغبارِها وبخارِها، ما لم تظهرْ له صفةٌ. ويُعفى عن يسيرِ ماءٍ نَجُسَ بما
(1)
عُفيَ عن يسيرِه، كدمٍ وقيح وصديدٍ. قالَه ابنُ حمدان في "رعايته"
(2)
.
"فائدةٌ": المسكُ وفأرتُه طاهرةٌ، على الصحيحِ. قال الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(3)
: وكذا زَبَّادٌ، خلافًا لصاحبِ "الإقناع ".
(ويُضَمُّ يسيرٌ) نجسٌ عُفيَ عنه (متفرِّقٌ بثوبٍ) واحدٍ (لا أكثرَ) من ثوبين، فإنَّه لا يضمُّ، ويكونُ لكلِّ ثوبٍ حكمُ نفسِه.
(و) يُعفَى عن يسيرِ (طينِ شارعٍ) تحقَّقَتْ نجاستُه. وهو طاهرٌ إن (ظُنَّتْ نجاستُه) قال في "الرعاية": وطينُ الشارعِ طاهرٌ إن جهِلَ حالُهُ. أومأَ إليه أحمدُ.
وعنه: أنَّه نجسٌ. وقيل: مع ظنِّ نجاسةٍ غالبًا. ويُعفَى إذنْ عن يسيرِه في الأصحِّ. وترابُها طاهرٌ.
وقال الشيخُ تقي الدين: لو تحقَّقَتْ نجاسةُ طينِ الشوارعِ، عُفي عن يسيرِه؛ لمشقَّةِ التحرُّزِ منه. واختارَ الشيخُ تقي الدين: ترابُها كذلك، وقال: هو أصحُّ القولين. ذكرَهُ في " الإنصاف "
(4)
.
(1)
سقطت: "بما" من الأصل.
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(215/ 1).
(3)
"غاية المنتهى"(1/ 114).
(4)
" الإنصاف "(2/ 335).
وعَرَقٌ ورِيقٌ من طاهِرٍ، طاهرٌ.
ولو أكل هِرُّ ونحوُه، أو طفلٌ نجاسةً، ثمَّ شَرِبَ من مائعٍ، لم يضُرَّ.
ولا يُكره سُؤرُ حيوانٍ طاهرٍ،
"تنبيهٌ": قال في "الإنصاف"
(1)
: حيثُ قلْنا بالعفوِ فيما تقدَّمَ، فمحلُّه في الجامداتِ دون المائعاتِ، إلا عندَ الشيخِ تقيِّ الدين، فإنَّ عندَه يُعفَى عن يسيرِ النجاساتِ في الأطعمةِ أيضًا، حتى بعرِ الفأرِ. قال في "الفروع ": ومعناه اختيارُ صاحبِ "النظم". قلتُ: قال في "مجمع البحرين ": قلتُ: الأَوْلى العفوُ عنه في الثيابِ والأطعمةِ؛ لعظمِ المشقَّةِ. ولا يرتابُ ذو عقلٍ في عمومِ البلوَى به، لاسيما في الطواحينِ، ومعاصرِ السكَّرِ والزيتِ، وهو أشقُّ صيانةً من سؤرِ الفأرِ، ومن دمِ الذُّبابِ ونحوِه، ورجيعِه. وقد اختارَ طهارتَه كثيرٌ من الأصحابِ. قال الشيخُ تقيُّ الدين: إذا قلْنا: يُعفي عن يسيرِ النبيذِ المختلفِ فيه، لأجلِ الخلافِ فيه، فالخلافُ في الكلبِ، أظهرُ وأقوَى. انتهى. قاله في " الإنصاف "
(2)
(وعَرَقٌ وريقٌ من طاهرٍ، طاهر) أي: من حيوانٍ طاهرٍ؛ مأكولٍ أو غيرِ مأكولٍ. وكذا الدمعُ، والمخاطُ، والبَلْغمُ -ولو أزرَقَّ- وسائلٌ من فمٍ وقتَ نومٍ.
(ولو أكلَ هرٌّ ونحوُه) كنِمْسٍ، وفأرٍ، وقُنْفُذٍ، ودجاجةٍ، وبهيمةٍ، نجاسةً، (أو) أكلَ (طفلٌ نجاسةً، ثُمَّ شرِبَ) الهرُّ ونحوُه، أو الطفلُ، (من مائعٍ، لم يضرَّ) أي: لم يؤثر، لمشقَّةِ التحرّزِ منه.
(ولا يُكره سؤرُ حيوانٍ طاهرٍ) ولو غيرَ مأكولٍ كالهرِّ، لما رُوي عن عائشةَ أنَّ
(1)
"الإنصاف"(2/ 336).
(2)
" الإنصاف "(2/ 334).
وهو: فضلَةُ طعامِه وشرابِه.
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يُصغِى إلى الهرةِ الإناءَ، حتى يشربَ، ثم يتوضَّأَ بفضلِها. رواه الدارقطنيُّ
(1)
. ولأنَّه حيوانٌ طاهرٌ، فلم يكره سؤرُه.
وأما سؤرُ الحيوانِ النجسِ، كسباعِ البهائمِ، وجوارحِ الطيرِ، والبغلِ، والحمارِ، فنجسٌ.
(وهو) أي: السؤرُ. قال في "المطلع"
(2)
: بضمِّ السين مهموز: بقيةُ طعامِ الحيوانِ وشرابِه. عن صاحبِ "المحكم" من اللُّغويين، وصاحبِ "المستوعب" من الفقهاءِ. وسورُ المدينةِ غيرُ مهموزٍ. والسورةُ من القرآنِ، تهمزُ لشبهِها بالبقيةِ، ولا تهمزُ لشبهِها بسورِ المدينةِ. انتهى:(فضلةُ طعامِه وشرابِه) قال في "الإنصاف"
(3)
: يُكره سؤرُ الفأرِ" لأنَّه يُنسي. قال في "الرعاية": على الأشهرِ.
ويُكره سؤرُ الدَّجاجةِ إذا لم تكن مضبوطةً، نصَّ عليه. قاله ابنُ تميمٍ وغيره. وقد يُكره سؤرُ الكافرِ
(4)
.
"فائدةٌ": وإن ماتَ حيوانٌ ينجسُ بالموتِ، أو وقعَ ميتًّا رطبًا في دقيقٍ ونحوِه، أُلقي وما حولَه، واستُعمل الباقي. وإن اختلطَ ولم ينضبطْ، حرُمَ الكلِّ. نقلَه صالحٌ وغيره.
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 66، 70)، وصححه الألباني في " صحيح الجامع "(4958).
(2)
"المطلع "ص (24).
(3)
" الإنصاف"(2/ 359).
(4)
انظر "الإنصاف"(2/ 362).
بابُ الحَيْضِ
لا حَيضَ قبلَ تَمامِ تِسعِ سِنينَ،
(بابٌ)
يُذكرُ فيه حكمُ الحيض، والاستحاضةِ، والنفاسِ، وما يتعلَّقُ بذلك.
الحيضُ لغةً: السَّيلانُ. مصدرُ حاضَ، مأخوذٌ من حاضَ الوادي، إذا سالَ. وحاضتِ الشجرةُ، إذا سالَ منها شبهُ الدَّمِ، وهو الصمغُ الأحمرُ. وتحيَّضتْ: قعدتْ أيامَ حيضِها عن نحوِ صلاةٍ. ومن أسمائِه: الطَّمثُ، والعَراكُ، والضَّحكُ، والإعصارُ، والإكبارُ، والنفاسُ، والفراكُ، والدراسُ.
واستحيضتْ المرأةُ: استمرَّ بها الدمُ بعدَ أيامِها.
وشرعًا: دمُ طبيعةٍ وجِبِلَّةٍ، بضمِّ الجيمِ وكسرِها. أي: سجيَّةٍ وخلقةٍ، جبلَ اللهُ بناتِ آدمَ عليه، تُرخيهِ الرِّحِمُ، بفتح الراء وكسرها، مع كسر الحاء وسكونها فيهما: بيتُ منبتِ الولدِ ووعاؤُه، ومخرجُه من قعرِه، يَعتادُ أنثى إذا بلغتْ، في أوقاتٍ معلومةٍ في الغالبِ.
"فائدةٌ": يحيضُ من الحيوانِ أربعٌ: المرأةُ، والضبعُ، والخفاشُ، والأرنبُ. قاله الجاحظُ. وزادَ غيرُه: الحَجْرَة
(1)
، والناقةُ، والوزغةُ، والكلبةُ.
(لا حيضَ) للمرأةِ (قبلَ تمامِ تسعِ سنينَ) تحديدًا. رُوي عن عائشةَ: إذا بلغَتِ
(1)
في الأصل: "والحجر" والحجرة: أنثى الخيل.
ولا بعدَ خَمسِينَ سنةً، ولا معَ حَملٍ.
وأقلّ الحيضِ: يومٌ وليلةٌ
الجاريةُ تسعَ سنين، فهي امرأةٌ
(1)
. ورُوي مرفوعًا عن ابنِ عمرَ. والمرادُ: حكمُها حكمُ المرأةِ، فمتى رأتْ دمًا يصلحُ أن يكونَ حيضًا، حُكِمَ بكونِه حيضًا، وببلوغِها. وإن رأته قبلَ هذا السنِّ، لم يكنْ حيضًا.
(ولا) حيضَ (بعدَ خمسين سنةً) لقولِ عائشةَ: إذا بلغتِ المرأةُ خمسين سنةً، خرجتْ من حدِّ الحيضِ
(2)
. وعنها أيضًا: لن ترَى المرأةُ في بطنِها ولدًا بعدَ الخمسين.
(ولا) حيضَ (مع حملٍ) نصًّا، وفاقًا لأبي حنيفةَ. فإذا رأتْ دمًا، فهو دمُ فسادٍ، فلا تتركِ الصَّلاةَ، ولا يُمنعُ زوجُها من وطئِها. ويُستحبّ أن تغتسلَ بعدَ انقطاعِه، نصًا.
(وأقلُّ) مدةِ (الحيضِ) أي: زمنًا يصلُحُ أن يكونَ دمُه حيضًا: (يومٌ وليلةٌ) هذا المذهبُ، وعليه أكثرُ الأصحابِ. وعنه: يومٌ. اختارَه أبو بكرٍ. قاله في "مجمع البحرين" وغيرِه. قال في " الفصول ": وقد قال جماعة من أصحابِنا: إن إطلاقَ اليومِ يكونُ مع ليلتِه، فلا يختلفُ المذهبُ على هذا القولِ في أنَّه يوم وليلة. انتهى. قلتُ: منهم القاضي في كتاب "الروايتين ".
واختارَ الشيخُ تقيُّ الدين: أنه لا يُقدَّرُ أقلّ الحيضِ ولا أكثرُه، بل كلُّ ما استقرَّ
(1)
أخرجه الترمذي عقب (1109)، والبيهقي 1/ 319 تعليقًا بدون إسناد، وانظر الإرواء (185، 1829).
(2)
ذكره ابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف"(1/ 267). وانظر "الإرواء"(186).
وأكثرُه: خمسَةَ عشَرَ يومًا. وغالِبهُ: لسِتٌّ أو سَبعٌ.
وأقلُّ الطُهرِ بين الحيضَتين: ثلاثةَ عشَرَ يومًا
عادةً للمرأةِ، فهو حيضٌ، وإن نقصَ عن يومٍ، أو زادَ على الخمسةَ عشرَ، أو السبعةَ عشرَ، ما لم تصرْ مستحاضةً. ذكرَهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(وأكثرُه) أي: الحيضِ: (خمسةَ عشرَ يومًا) بليالِيها؛ لقولِ عليٍّ: ما زادَ على خمسةَ عشرَ، استحاضةٌ
(2)
. (وغالبُه) أي: الحيضِ. (ست أو سبعٌ) لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم رضي اللَّه تعالى عنها: "تحيَّضِي في علمِ اللهِ، ستةَ أيامٍ، أو سبعةً، ثُمَّ اغتسلي، وصلِّي أربعةً وعشرين يومًا، أو ثلاثةً وعشرين يومًا، كما تحيضُ النساءُ، وكما يطهرْنَ لميقاتٍ"
(3)
.
(وأقلُّ الطُّهرِ بين الحيضتين: ثلاثةَ عشرَ يومًا) لما روى أحمدُ، واحتجَّ به، عن علي، أنَّ امرأةً جاءَته، وقد طلَّقَها زوجُها، فزعمَت أنَّها حاضتْ في شهرٍ ثلاثَ حيضٍ، فقال لشريحٍ: قلْ فيها. فقال شريحٌ: إن جاءَت ببينةٍ من بطانةِ أهلِها ممن يُرضى دينُه وأمانتُه، فشهدتْ بذلك، وإلا فهي كاذبةٌ. فقال عليُ: قالون. أي: جيِّدٌ، بالرُّوميِّةِ
(4)
. وهذا لا يقولُه إلا توقيفًا، وانتشرَ، ولم يُعلَمْ خلافُه. ووجودُ ثلاثِ حيضٍ في شهرٍ دليل على أنَّ الثلاثةَ عشرَ طهرٌ يقينًا. قال أحمدُ: لا يُختلفُ أنَّ العدَّةَ يصحُّ أن تنقضي في شهرٍ إذا قامَت به البينةُ.
(1)
" الإنصاف "(2/ 394).
(2)
قال ابن حجر: هذا اللَّفظُ لم أجدْهُ عن عليٍّ. ورُوي مثلُهُ عن عطاءٍ هو عند الدارقطني صحيحٌ، وعلَّقه البخاريُّ أيضًا. "التلخيص الحبير"(1/ 442).
(3)
أخرجه أحمد (45/ 467)(27474)، وأبو داود (287)، وحسنه الألباني.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 671)، والدارمي (855). وانظر "تغليق التعليق (2/ 179).
وغالِبُهُ: بقيَّةُ الشَّهرِ. ولا حَدَّ لأكثَرِه.
ويحرم بالحيضِ أشياءُ، منها:
الوطءُ في الفَرجِ، والطلاقُ،
(وغالبه) أي: الطُّهرِ. (بقيةُ الشهرِ) بعدَ ما حاضتْهُ منه؛ إذ الغالبُ أنَّ المرأةَ تحيضُ في كلِّ شهرِ حيضةً، فمَنْ تحيضُ ستةَ أيامٍ، أو سبعةً من الشهرِ، فغالبُ طهرِها أربعةٌ وعشرون، أو ثلاثةٌ وعشرون يومًا
(ولا حدَّ لأكثرِه) أي: الطّهرِ؛ لأنَّه لم يردْ تحديدُه شرعًا. ومن النساءِ من تحيضُ
(1)
الشهرَ. والثلاثَةَ، والستةَ فأكثرَ. ومنهن من لا تحيضُ أصلًا.
(ويحرُمُ بالحيضِ أشياءُ) وهي اثنى عشرَ، عدَّها صاحبُ " المنتهى "، وزادَ في " الإقناع " ثلاثةً (منها) أي:
أحدُها: (الوطءُ في الفرجِ)؛ لقولِه عليه السلام: "اصنعوا كلَّ شيءٍ إلا النكاحَ ". رواه مسلمٌ
(2)
. إلا لمَنْ به شبقٌ بشرطِه، وهو أنْ لا تندفعَ شهوتُه بدونِ الوطءِ في الفرجِ، ويخافُ تشقُّقَ أُنثييهِ إنْ لَمْ يطأْ، ولا يجدُ غيرَ الحائضِ؛ بأن لا يقدرَ على مهرِ حرَّةٍ، ولا ثمنِ أمةٍ.
(و) الثاني: (الطلاقُ) لما رُوي عن ابنِ عمرَ: أنَّه طلَّقَ امرأتَه وهي حائضٌ، فذكَرَ عمرُ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. فقال:"مره فليراجعْها، ثُمَّ ليطلقْها طاهرًا أو حاملًا". متفقٌ عليه
(3)
. ولم يقلِ البخاريُّ: "أو حاملًا". ولأنه إذا طلَّقَها فيه كان محرَّمًا،
(1)
كذا في الأصل، وفي "دقائق أولي النهى" (1/ 228):"من لا تحيض ".
(2)
أخرجه مسلم (302) من حديث أنس.
(3)
أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
والصلاةُ، والصومُ، والطواف،
وهو طلاقُ بدعةٍ؛ لما فيه من تطويلِ العدَّةِ، مَا لَمْ تسألْه طلاقًا بعوضٍ، أو خلعًا؛ لأنها أدخلَت الضَّررَ على نفسِها، وإنْ سألَته طلاقًا بغيرِ عوضٍ، لَمْ يصحَّ.
قال الشيخُ منصورٌ في شرحِه على "الإقناع"
(1)
: قلتُ: ولعلَّ اعتبارَ العوضِ؛ لأنها قد تُظهرُ خلافَ ما تُبطنُ. فبذلُ العوضِ يدلُّ على إرادتِها الحقيقيةِ.
(و) الثالثُ: (الصَّلاةُ) ويمنعُ وجوبَ صلاةٍ في زمنه. قال في "الفروع"
(2)
: إجماعًا. فلا تقضيها إجماعًا. قيل لأحمدَ في روايةِ الأثرمِ: فإن أحبَّتْ أنْ تقضيَها؟ قال: لا، هذا خلافٌ. أي: بدعةٌ.
وتفعلُ ركعتي طوافٍ؛ لأنَّها نسكٌ، ولا آخرَ لوقتِه. ذكرَه في " الفروع " بمعناه، فيعابا بها. انتهى
(3)
.
يعني: إذا طافَت، ثمَّ حاضَت قبلَ أن تصلِّي ركعتي الطواف، فإنها تصلِّيها إذا طَهُرَت؛ لأنَّه لا آخرَ لوقتِها، فتسميتُها قضاءً تجوُّزًا.
(و) الرابعُ: (الصومُ) أي: فعلُ الصومِ؛ لقولِه عليه السلام في حديثِ أبي سعيدٍ: "أليسَ إحداكُنَّ إذا حاضَت، لم تصمْ، ولم تصلِّ؟ " قلن: بلى. قال: "ذلك من نقصانِ دينِها". رواه البخاريُّ
(4)
. ولا يمنعُ الحيضُ وجوبَه، فتقضيه إجماعًا.
(و) الخامسُ: (الطوافُ) أي: فعلُ الطوافِ؛ لقولِه عليه السلام لعائشةَ: "إذا
(1)
"كشاف القناع"(1/ 469).
(2)
"الفروع"(1/ 352).
(3)
"دقائق أولي النهى"(1/ 220).
(4)
أخرجه البخاري (304).
وقراءةُ القرآنِ، ومسّ المصُحَفِ، واللُّبثُ في المسجِدِ، وكذا المرورُ فيهِ إن خافَتْ تلويثَه.
حضْتِ فافعلي ما يفعلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تطوفي بالبيتِ حتى تطهُري". متفقٌ عليه
(1)
. ولأنَّه صلاةٌ، ووجوبُه باقٍ، فتفعلُه إذا طهُرَتْ أداءً
(2)
؛ لأنَّه لا آخرَ لوقتِه. ويسقُطُ عنها وجوبُ طوافِ الوداعِ، كما يأتي.
(و) السادسُ: (قراءةُ القرآنِ) مطلقًا، لقولِه عليه السلام:" لا تقرأُ الحائضُ ولا الجنبِ شيئًا من القرآنِ". رواه أبو داودَ والترمذيُّ
(3)
.
(و) السابعُ: (مسُّ المصحفِ) لقولِه تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقِعَة: 79].
(و) الثامنُ: (اللبثُ في المسجدِ) لقولِه عليه السلام: "لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ، ولا لجنب ". رواه أبو داودَ
(4)
.
(وكذا) التاسعُ: (المرورُ فيه
(5)
إن خافَت تلويثَه) لأنَّ تلويثَه بالنجاسةِ محرَّمٌ، والوسائلُ لها حكمُ المقاصدِ.
هذا ما ذكرَ المصنِّفُ، واقتصرَ عليه. والباقي يأتي في أبوابِه مفصَّلًا، فلا حاجةَ إلى إعادتِه.
(1)
أخرجه البخاري (294)، ومسلم (1211).
(2)
في الأصل: "إذاً".
(3)
أخرجه الترمذيُّ (131) من حديث ابن عمر. ولم أجده عند أبي داود. وانظر "تحفة الأشراف"(8474). وضعفه الألباني في " الإرواء "(192).
(4)
أخرجه أبو داود (232) من حديث عائشة. وضعفه الألبانى.
(5)
سقطت: "فيه" من الأصل.
ويُوجِبُ: الغُسلَ، والبلوغَ، والكفَّارةَ بالوَطءِ فيهِ ولو مُكرَهًا، أو ناسيًا أو جاهِلَ الحيضِ والتحريمِ،
(ويوجبُ) الحيضُ ثلاثةَ أشياءَ:
أحدُها: (الغُسل) لقولِه عليه السلام: "دعي الصَّلاةَ قدرَ الأيامِ التي كنتِ تحيضين فيها، ثمَّ اغتسلِي وصلِّي ". متفقٌ عليه
(1)
.
والثاني: (البلوغُ) لقولِه عليه السلام: " لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائضٍ إلا بخمارٍ". رواه أحمدُ وغيرُه
(2)
. فأوجبَ عليها أن تستترَ لأجلِ الحيضِ، فدلَّ على أنَّ التكليفَ حصلَ به.
والثالثُ: (الكفارةُ بالوطءِ فيه) لحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا، في الذي يأتي امرأتَهُ وهي حائضٌ: قال: يتصدَّقُ بدينارٍ، أو نصفِ دينارٍ". رواه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ
(3)
. وتخييرُه بين الشيءِ ونصفِه، كتخييرِ المسافرِ بين القصرِ والإتمامِ. والدينارُ هنا: المثقالُ من الذهبِ مضروبًا، أو لا. وتجزئُ قيمتُه من الفِضَّةِ فقط. وسواء وطئ أوَّلَ الحيضِ وآخرَهُ، أسودَ كان الدَّمُ أو أحمرَ. وكذا لو جامعَها وهي طاهرةٌ، فحاضتْ، فنزعَ في الحالِ؛ لأنَّ النزعَ جماعٌ. (ولو) كانَ الواطيُّ
(4)
(مُكرَهًا، أو ناسيًا، أو جاهلًا، الحيضَ والتحريمَ) لعمومِ الخبرِ،
(1)
أخرجه البخاري (325)، ومسلم (334) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه أحمد (43/ 87)(25167)، وأبو داود (641) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه أحمد 3/ 473 (2032)، وأبو داود (264)، والترمذي (136)، والنسائي (1/ 153) من حديث ابن عباس وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: " الوطئ ".
وهي دينارٌ أو نصفُهُ، على التخيير، وكذا هِيَ إنْ طاوعَتْ.
ولا يُباحُ بعدَ انقطاعِه وقَبلَ غُسلِها أو تَيمُّمِها، غيرُ الصومِ،
وكالوطءِ في الإحرامِ.
(وهي) أي: الكفارةُ: (دينارٌ أو نصفُه على التخيير) وتقدَّمَ الكلامُ عليه.
قال في "الإنصاف"(1): ظاهرُ قولِه: فعليه نصفُ دينارٍ كفارةً. أنَّ المُخرَجَ كفارةٌ، فتُصرَفُ مَصرِفَ سائرِ الكفَّاراتِ، وهو صحيحٌ. قال في " الفروع ": وهو كفارةٌ. قال أكثر الأصحابِ: يجوزُ دفعُها إلى مسكينٍ واحدٍ كنذرٍ مطلَقٍ. وذكرَ الشيخُ تقيُّ الدين وجهًا: أنَّه يجوزُ صرفُه أيضًا إلى مَنْ له أخذُ الزكاةِ للحاجةِ. قال في "شرح العمدة": وكذا الصدقةُ المطلقةُ.
وقال أيضًا في "المنهج ": ونصفُه على التخييرِ نصًّا، كفارة. وتجزئُ إلى مسكينٍ واحدٍ، كنذرٍ مطلقٍ. وتسقطُ بعجزٍ. قال في " الإنصاف "
(2)
: وهو ظاهرُ ما قدَّمَه في "الفروع".
(وكذا هي) أي: المرأةُ كالرجلِ في الكفَّارةِ، قياسًا عليه (إنْ طاوعتْ) على الوطءِ، فإنْ أكرَهَها، فلا كفارةَ عليها. وقياسُه: لو كانتْ ناسيةً أو جاهلةً. وهي من المفرداتِ. وعنه: لا كفارةَ عليها.
(ولا يُباحُ بعد انقطاعِه) أي: انقطاعِ الحيضِ (وقبل غُسلِها، أو تيمُّمِها) معَ عدمِ الماءِ (غيرُ الصومِ) لأنَّ وجوبَ الغسلِ لا يمنعُ فعلَه، كالجنابةِ. فلا يباحُ الصَّلاةُ، والطوافُ، والقراءةُ، واللُّبثُ في المسجدِ، ومسُّ المصحَفِ، والوطءُ في
(1)
" الإنصاف "(2/ 382).
(2)
في الأصل: " المنتهى " وانظر " الإنصاف "(2/ 382).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفرجِ بمجرَّدِ انقطاعِه قبلَ الغُسلِ، لقولِهِ تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البَقَرَة: 222] إذ المرادُ بقولِهِ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البَقَرَة: 222] انقطاعُ الدمِ، وأما قولُه تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البَقَرَة: 222] يعني: اغتسلنَ بالماءِ. قالَهُ ابنُ عباسٍ. ولأنَّ التطهرَ تفعُّلٌ، وهو يقتضي إيجادَ فِعلٍ، كما في قولِهِ تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المَائدة: 6] ولأنَّ في حملِ قولِهِ تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البَقَرَة: 222] على الغسلِ، وحملِ قولِهِ تعالى:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البَقَرَة: 222] على انقطاعِ الدَّمِ؛ حملًا لكلِّ لفظٍ على فائدةٍ. ومعنى ذلك أَوْلى من جعلِهما بمعنًى واحدٍ.
إذا تقررَ هذا: فلابدَّ من حِلِّ الوطءِ وجودُ انقطاعِ الدمِ مع الغُسلِ. وقيسَ على الوطءِ غيرُه. ولأنَّ حدثَ الحيضِ عودٌ قبلَ الاغتسالِ، فوجبَ أن يمنعَ من ذلك.
قال في "الشرح الكبير"(1): وانقطاعُ الدَّمِ الذي تتعلَّقُ به هذه الأحكامُ: الانقطاعُ الكثيرُ الذي يوجبُ عليها الغُسلَ، فأما الانقطاعُ اليسيرُ في أثناءِ الحيضةِ، فلا حكمَ لَهُ. انتهى.
"فائدةٌ": ووطءُ الحائضِ كبيرةٌ، خلافًا لصاحبِ "الإقناع " هنا. ولا كفارةَ بوطءٍ بعد انقطاعٍ، وقبلَ غُسلٍ، ولا بوطءٍ في دُبُرٍ.
" فرعٌ ": لو أرادَ وطأَها، فادَّعَتْ حيضًا، وأمكنَ، قُبِلَ، نَصًّا؛ لأنَّها مؤتمنةٌ. وقال ابنُ حزمٍ: اتفقوا على قبولِ قولِ المرأةِ، تَزُفُّ العروسَ إلى زوجها، فتقولُ: هذه زوجتُك. وفي قولِها: أنا حائضٌ. أو: قدْ طَهُرْتُ.
(1)
"الشرح الكبير"(2/ 373).
والطلاقِ، واللُّبثِ بوضوءٍ في المسجِدِ.
وانقطاعُ الدم؛ بأن لا تتغيَّرَ قُطنةٌ اِحتَشَتْ بها في زمنِ الحيض، طُهرٌ.
وتقضي الحائِضُ والنُّفساءُ الصَّومَ، لا الصلاةَ.
وغيرُ (الطلاق) لأنَّ تحريمَه لتطويلِ العِدَّةِ، وقد زالَ ذلك.
ويُباحُ أيضًا بعدَ انقطاعِهِ لبثٌ بمسجدٍ بوضوءٍ، وتقدَّمَ، وإليه أشارَ بقولِهِ:(واللُّبثِ بوضوءٍ في المسجدِ) لأنَّها أَمِنتْ تلويثَه.
وانقطاعُ الدَّمِ؛ بأن لا تتغيرَ قطنةُ احتشتْ بها في زمنِ الحيضِ) أي: بأنْ لا تتغيرَ قطنةٌ احتشتْ بها: أي: بأنْ لا يخرجَ عليها شيءٌ، أو يخرجُ عليها شيءٌ أبيضُ يُسمَّى: التَّنزيهُ. بخلافِ ما إذا خرجَ عليها شيءٌ كَدِرٌ، أو أحمرُ، أو أصفرُ. (طُهر) فلا يُكره وطؤها إذا انقطعَ دمُها في أثناءِ عادتِها، واغتسلتْ؛ لأنَّه تعالى وصفَ الحيضَ بكونِه: أذىً. فإذا انقطَع واغتسلتْ، فقدْ زالَ الأذى
(وتَقضي الحائضُ والنفساءُ الصومَ) المفروضَ كرمضانَ (لا الصَّلاةَ) لكثرةِ المشقَّةِ بإعادتِها.
فَصْلُ
ومَنْ جاوَزَ دمُها خمسَةَ عَشَرَ يومًا، فهي مُستحاضَةٌ، تجلسُ من كلِّ شهرٍ ستًّا أو سبعًا، حيثُ لا تمييزَ، ثم تغتِسلُ، وتصومُ، وتصلي
(فصلٌ)
(ومَنْ جاوزَ دمُها خمسةَ عشرَ يومًا) أي: أكثرَ الحيضِ (فهي مستحاضةٌ) لأنَّه لا يَصلُحُ أنْ يكونَ حيضًا.
والاستحاضةُ: سيلانُ الدَّمِ في غيرِ زمنِ الحيضِ من عِرقٍ يُقال له: العاذلُ -بالذال المعجمة. وقيل: المهملة. حكاهما ابنُ سِيده. والعاذرُ لغةٌ فيه- من أدنى الرحمِ، دونَ قعرِه، إذِ المرأةُ لها فرجانِ: داخلٌ بمنزلةِ الدبرِ، منه الحيضُ. وخارجٌ بمنزلةِ الأليتَين، منه الاستحاضةُ. والمستحاضةُ: مَنْ جاوزَ دمُها أكثرَ الحيضِ. والدَّمُ الفاسدُ أعمُّ من ذلك. قالَهُ في "الإنصاف"
(1)
يعني: مِن المستحاضةِ
(تجلسُ مِن كلِّ شهرٍ) هلاليٍّ (ستًا أو سبعًا) من الأيامِ بلياليها (حيثُ لا تمييزَ، ثمَّ تغتسلُ) لذلك (وتصومُ وتصلي) لحديثِ حمنةَ بنتِ جحشٍ قالتْ: يا رسولَ اللهِ، إني أُستحاضُ حيضةً شديدةً كبيرةً، قدْ منعتْني الصَّومَ والصَّلاةَ؟! فقال:" تَحيَّضي في علمِ اللهِ، ستًّا أو سبعًا، ثمَّ اغتسلي". رواه أحمدُ وغيرُه
(2)
. وعملًا
(1)
" الإنصاف "(2/ 403).
(2)
أخرجه أحمد (45/ 121)(27144)، وأبو داود (287)، والترمذي (128)، وحسنه الألباني.
بعد غَسْلِ المحَلِّ وتَعصِيبه.
وتتوضأُ في وقتِ كُلِّ صلاةٍ،
بالغالبِ (بعد غَسلِ المحلِّ) الملوَّثِ بالحدثِ، لإزالته عنه (وتعصيبه) أي: فعلِ ما يَمنعُ الخارجَ حسبَ الإمكانِ من حشوٍ بقطنٍ وشدِّهِ بخِرْقةٍ طاهرةٍ. فإنْ خرجَ بعد ذلك شيءٌ، لم تبطلْ طهارتُه.
(وتتوضَّأُ) أي: المستحاضةُ (في وقتِ كلِّ صلاةٍ) إنْ خرجَ شيءٌ؛ لقولِهِ عليه السلام: "وتتوضَّأُ عند كلِّ صلاةٍ". رواه أبو داودَ والترمذيُّ
(1)
. ولقولِهِ أيضًا لفاطمةَ بنتِ أبي حبيشٍ: "وتوضَّئي لكلِّ صلاةٍ حتى يجيءَ ذلك الوقتُ". رواه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ
(2)
. ولأنَّها طهارةُ عذرٍ، فتقيَّدَتْ بالوقتِ، كالتيمُّمِ، فإنْ لم يخرج شيء
(3)
، لم يبطلْ. وظاهرُه أيضًا: لا يبطلُ بطلوعِ الشمسِ، لو كانتْ توضَّأتْ قبلَهُ. قال المجدُ وغيرُه: وهو أَوْلى، وجزمَ به في نظم "المفردات "، فقال:
وبدخولِ الوقتِ طهرٌ يَبطلُ
…
لمَنْ بها استحاضةٌ قدْ نقلوا
لا بالخروجِ منه لو تطهرتْ
…
بالفجرِ لم يبطلْ بشمسٍ ظهرتْ
وقال أبو يعلى: تبطلُ بخروجِ الوقتِ ودخولِهِ. ثمَّ قال: والأَوْلى تبطلُ بدخولِ الوقتِ.
وسوَّى بينهما في "الإقناع"، تبعًا لأبي يعلى، وإليه ميلُه في "الإنصاف".
(1)
أخرجه أبو داود (297)، والترمذي (126) من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (24145)، أبو داود (298)، والترمذي (125) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
(3)
سقطت: "شيء" من الأصل.
وتنوي بوُضُوئِها الاستباحَةَ.
وكذا يفعلُ كُلُّ مَنْ حَدثُهُ دائِمٌ.
ويحرمُ وطءُ المستحاضَةِ، ولا كفَّارةَ.
ويصلِّي دائمُ الحدثِ عقبَ طهرِه ندْبًا.
وعُلِمَ من هذا: أنَّه لا يصحُّ وضوؤُها لفرضٍ قبلَ وقتِهِ.
(وتنوي بوضوئِها الاستباحةَ. وكذا يفعلُ كلُّ مَنْ حدثُه دائمٌ) وهو مَنْ به سلَسُ بولٍ، أو مذيٍ، أو ريحٍ، أو رُعافٌ دائمٌ. يعني: أنَّ حكمَ هؤلاءِ، حكمُ المستحاضةِ فيما تقدَّمَ، لتساويهم معنًى، وهو عدمُ التحرزِ من ذلك، فوجبَ المساواةُ حكمًا. قال إسحاقُ بنُ راهويه: كان يزيدُ بنُ ثابتٍ عنده سلسُ البولِ، وكان يداويه ما استطاعَ، فإذا غلبه، صلَّى ولا يبالي ما أصابَ ثوبَه. لكن عليه أنْ يحتشيَ، كما تقدَّمَ في المستحاضةِ.
وإنْ كان محلُّ الحدثِ مما لا يمكنُ عصبُه كالجرحِ الذي لا يرقأْ دمُه، ولا يمكنُ شدُّه، أو مَنْ به باسورٌ أو ناصورٌ، ولا يمكنُ عصبُه، صلَّى على حسبِ حالِهِ؛ لفعلِ عمرَ، حيثُ صلَّى وجرحُه يثعب
(1)
دمًا. رواه أحمدُ.
(ويحرمُ وطءُ المستحاضةِ، ولا كفَّارَةَ) من غيرِ خوفِ عنتٍ منه، أو منها؛ لقولِ عائشةَ: المستحاضةُ لا يغشاها زوجُها
(2)
. فإنْ خافَه، أو خافتْه، أُبيحَ وطؤها، ولو لواجدِ الطَّولِ، خلافًا لابن عقيلٍ. وكذا إنْ كان به شبَقٌ شديدٌ؛ لأنَّه أخفُّ من الحيضِ، ومدَّتُه تطولُ، بخلافِ الحيضِ، ولأنَّ وطءَ الحائضِ قدْ يتعدَّى إلى الولدِ،
(1)
في الأصل: "يتصبَّبُ".
(2)
أخرجه الدارمي (830)، والبيهقي (1/ 329).
والنِّفاسُ لا حدَّ لأقلِّه. وأكثرُه: أربعُونَ يومًا.
ويثبتُ حُكمُهُ بوضعِ ما تَبيَّنَ فيه خَلقُ إنسانٍ.
فيكونُ مجذومًا. وحيثُ حَرُمَ لا كفارةَ فيه.
(والنِّفاسُ): دمٌ ترخيه الرحمُ مع ولادةٍ، وقبلَها بيومين أو ثلاثةٍ، بأمارةٍ. أي: علامةٍ على الولادةِ، كالتألمِ وإلَّا فلا تجلُسُه؛ عملًا بالأصلِ. وإنْ تبيَّنَ عدمُه، أعادتْ ما تَركتْه.
(لا حدَّ لأقلِّه) لأنَّه لم يردْ تحديدُه، فرُجعَ فيه إلى الوجودِ، وقدْ وُجِدَ قليلًا وكثيرًا. ورُويَ أنَّ امرأةً ولدتْ على عهدِه عليه السلام. فلم ترَ دمًا، فسُمِّيتْ: ذاتَ الجفوفِ
(1)
. ولأنَّ اليسيرَ دمٌ وُجدَ عقبَ سَبَبِهِ، فكان نفاسًا كالكثيرِ. فإنْ رأتْ قطرةً، ورأتِ الطهرَ بعدَها، فهي طاهرٌ.
(وأكثرُه: أربعون يومًا) قال الترمذيُّ
(2)
: أجمعَ أهلُ العلمِ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَنْ بعدَهُم، على أنَّ النفساءُ تدَعُ الصَّلاةَ أربعينِ يومًا، إلا أنْ ترى الطهرَ قبلَ ذلك، فتغتسلُ وتصلِّي.
وذلك من ابتداءِ خروجِ بعضِ الولدِ. يعني: أنَّ الأربعين التي مع الولادةِ، أوَّلُها من ابتداءِ خروجِ بعضِ الولدِ. فحينئذٍ: إنَّ اليومَين أو الثلاثةَ قبلَ الولادةِ، ليستْ من الأربعين، لكنَّها دمَ نِفاسٍ، فتكونُ المدةُ اثنين وأربعين، وثلاثةً وأربعين.
(ويثبتُ حكمُه بوضعِ ما تبينَ
(3)
فيه خلقُ إنسانٍ) ولو خفيًّا؛ لأنَّه ولادةٌ، لا
(1)
في الأصل: " الجفون ". والمثبت من "دقائق أولي النهى" 1/ 242.
(2)
"سنن الترمذي" تحت الحديث (139).
(3)
في الأصل: "ما يتبين ".
فإن تخلَّل الأربَعين نقاءٌ، فهو طهرٌ، لكِن يُكرهُ وَطؤُها فيه.
ومن وضَعَت ولدَين فأكثرَ، فأوَّلُ مُدَّةِ النِّفاسِ من الأوَّل، فلو كانَ بينَهما أربعونَ يومًا، فلا نِفَاسَ للثَّاني.
وفي وَطءِ النُّفسَاءِ ما في وَطِء الحائِضِ.
ويجوزُ للرَّجُل شُربُ دواءٍ مُباحٍ يمنعُ الجِماعَ،
علقةٌ أو مضغةٌ لا تخطيطَ فيها. وأقلّ ما يتبينُ فيه خلقُه: أحدٌ وثمانون يومًا. وغالبُه، كما قال المجدُ وابنُ تميمٍ وابنُ حمدان وغيرُهم: ثلاثةُ أشهرٍ.
(فإنْ تخلَّلَ الأربعين نقاءٌ، فهو طهرٌ) كالحيضِ. فتغتسلُ، وتفعلُ ما تفعلُ الطَّاهراتُ. (لكنْ يُكره وطؤُها فيه) أي: النَّقَاءِ زَمَنَه بعد الغُسل. قال أحمدُ: ما يعجبني أنْ يأتيهَا زوجُها، على حديثِ عثمانَ بنِ أبي العاصِ: أنَّها أتتْه قبلَ الأربعين، فقال: لا تَقرَبيني. ولأنَّه لا يأمنُ العودَ زمنَ الوطءِ.
(ومَنْ وضعتْ ولدَيْن فأكثرَ، فأوَّلُ مدَّةِ النِّفاسِ من) ابتداءِ خروجِ (الأوَّلِ) كما لو انفردَ الحملُ، (فلو كان بينَهما أربعون يومًا) فأكثر (فلا نِفاسَ للثاني) بل هو في دمُ فسادٍ؛ لأنَّه تبعٌ للأوَّلِ، فلم يعتبز في آخرِ النِّفاسِ، كما لا يعتبرُ في أوَّلِهِ.
(وفي وطءِ النفساءِ ما في وَطءِ الحائضِ) من الكفارةِ، نصًّا، قياسًا عليه.
(ويجوزُ للرجلِ شربُ دواءٍ مباحٍ يمنعُ الجماعَ) ككافورٍ؛ لأنَّه حقٌّ له.
قال في "الإقناع "
(1)
: ولا يجوزُ ما يقطعُ الحملَ.
وفيه نظرٌ؛ إذْ يلزمُ من قَطعِ الجماعِ قَطعُ الحَملِ.
(1)
" الإقناع "(1/ 110).
وللأُنثى شُربُه؛ لحصولِ الحيضِ، ولقَطعِه.
(وللأنثى شُرْبُه) أي: المباحِ الحصولِ الحيضِ، ولقَطعِهِ) لا قُربَ رمضانَ؛ لتُفطِرَه. قال في "الإقناع"
(1)
: مع أمن الضررِ.
(1)
"الإقناع"(1/ 110).
بابُ الأذانِ والإقامَةِ
(بابُ الأذانِ والإقامةِ)
الأذانُ لغةً: الإعلامُ. قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الجَجّ: 27] أي: أعلمْهُم به. يقالُ: أذَّنَ بالشيءِ يؤَذِّنُ أذانًا، وتأذينًا، كعليم. إذا أعلمَ
(1)
به. فهو اسمٌ وُضِعَ موضعَ المصدرِ، وأصلُه من الأُذُنِ، وهو الاستماعُ، كأنَّه يُلقي في آذانِ الناسِ ما يُعلمهم به.
وشرعًا: إعلامٌ بدخولِ وقتِ الصَّلاةِ، أو إعلاثم بقربهِ لفجرٍ.
والإقامةُ: مصدرُ أقامَ. وحقيقتُه: إقامةُ القاعدِ، فكأنَّ المؤذِّنَ إذا أتى بألفاظِ الإقامةِ، أقام
(2)
القاعِدين، وأزالَهم عن قعودِهم.
وشرعًا: إعلامٌ بالقيامِ إليها، بذكرٍ مخصوصٍ فيهما
(3)
. ويُطلقانِ على نفسِ الذكرِ المخصوصِ.
وهو، أي: الأذانُ. أفضلُ منها، أي: الإقامةِ.
والأذانُ أفضلُ من الإمامةِ، لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا:"الإمامُ ضامنٌ، والمؤذِّنُ مؤتمنٌ، اللهمَّ أرْشدِ الأئمةَ، واغفرْ للمؤذِّنين ". رواه أحمدُ، وأبو داودُ، والترمذيُّ
(4)
. والأمانةُ أعلى من الضَّمانِ، والمغفرةُ أعلى من الرشدِ. ويشهدُ لفضلِ
(1)
في الأصل: "علم ".
(2)
في الأصل: "إقامةَ ".
(3)
أي: الأذان والإقامة.
(4)
أخرجه أحمدُ (12/ 89)(7169)، وأبو داودُ (517)، والترمذيُّ (207)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأذانِ قولُه عليه السلام: "المؤذِّنونَ أطولُ الناسِ أعناقا يومَ القيامةِ". رواه مسلمٌ
(1)
.
وقولُه: "من أذَّنَ سبعَ سنين محتسبًا، كتبتْ له براءةٌ من النَّارِ". رواه ابنُ ماجه
(2)
.
وهما مشروعانِ بالكتابِ والسنةِ، أما الكتابُ فقولُه تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا} [المَائدة: 58]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجُمُعَة: 9]. وأما السنةُ فهي شهيرةُ بذلك، ومنها: حديثُ عبدِ اللهِ ابنِ زيدِ بنِ عبدِ ربِّه، قالَ: لما أمرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالنَّاقوسِ يُحملُ ليضربَ به للناسِ لجمعِ الصَّلاةِ، طافَ بي وأنا نائمٌ رجلٌ يحملُ ناقوسًا في يدِه، فقلتُ: يا عبدَ اللهِ، تبيعُ الناقوسَ؟ فقال: وما تصْنعُ به؟ قلتُ: أدعو به إلى الصَّلاةِ. قال: أفلا أدُلُّكَ على ما هو خيرٌ من ذلك؟ فقلتُ: بلى. قال: تقولُ: اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. اللَّه أكبر، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. حيَّ على الصَّلاةِ. حيَّ على الصَّلاةِ. حيَّ على الفلاحِ. حيَّ على الفلاحِ. اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. لا إلهَ إلا اللهُ. ثمَّ استأخرَ عني غيرَ بعيدٍ، ثمَّ قالَ: تقولُ إذا قمتَ إلى الصَّلاةِ: اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. حيَّ على الصَّلاةِ. حيَّ على الفلاحِ. قدْ قامتِ الصَّلاةُ. قدْ قامتِ الصَّلاةُ. اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. لا إلهَ إلا اللهُ. فلمَّا أصبحتُ أتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه بما رأيتُ. فقال: "إنَّها لرؤيا حقٌ إنْ شاءَ اللهُ، فقمْ مع بلالِ فألْقِه عليه، فليؤذِّنْ، فإنَّه أندى صوتًا منْكَ. فقمتُ مع بلالٍ، فجعلتُ أُلقيه عليه ويؤذِّنُ
(1)
أخرجه مسلم (387) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(2)
أخرجه ابن ماجه (727) من حديث ابن عباس. وضعفه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
به. قال: فسمعَ ذلك
(1)
عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللَّه تعالى عنه، وهو في بيتِه، فخرجَ يجرُّ رداءَهُ يقولُ: والذي بعثَكَ بالحقِّ يا رسولَ اللهِ، لقدْ رأيتُ مثلَ الذي رأى. فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فللَّه الحمدُ". رواه أحمدُ وأبو داود، واللفظُ له، وابنُ ماجه
(2)
.
وأخرجَ الترمذيُّ بعضَه، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي "الصحيحين"
(3)
عن أنسٍ قال: لما كثرَ الناسُ، ذكروا أنْ يُعلِموا وقت الصَّلاةِ بشيءٍ يعرفونَهُ، فذكروا أنْ يوقِدوا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأُمِرَ بلالٌ أنْ يشفعَ الأذانَ، ويوترَ الإقامةَ.
"فائدةٌ": يُسنُّ أذانٌ في يمنى أذني مولودٍ، ذكرٍ أو أنثى، حينَ يولَدُ، وإقامةٌ في أذنِهِ اليسرى، لخبرِ ابنِ السُّنِّي
(4)
مرفوعًا: " مَنْ وُلِدَ له مولودٌ، فأذَّنَ في أذنِه اليمنى، وأقامَ في أذنِه اليسرى، لم تضرَّه أم الصبيانِ ". أي: التابعةُ من الجنِّ. وروى الترمذيُّ
(5)
: أنَّه صلى الله عليه وسلم أذَّنَ في أُذنِ الحسنِ حينَ ولدتْه فاطمةُ. وقال: حسنٌ صحيحٌ. وليكون إعلامُه بالتوحيدِ أوَّلَ ما يقرعُ سمَعه عند قدومِه إلى الدنيا، كما يلقَّنُ عند خروجِه منها، ولأنَّه يطردُ الشيطانَ عنه؛ لأنَّه يُدْبِرُ عند سماعِ الأذانِ. وفي "مسند"
(1)
سقطت: " ذلك " من الأصل.
(2)
أخرجه أحمدُ (26/ 402)(16478)، وأبو داود (499)، وابنُ ماجه (706)، والترمذي (189)، وحسنه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (606)، ومسلم (378).
(4)
أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(623)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8619) من حديث عليٍّ. قال الألباني في "الإرواء" (1174): موضوع.
(5)
أخرجه الترمذي (1514) من حديث أبي رافع. وحسنه الألباني.
وهما فرضُ كفايةٍ
ابنِ رزين: أنَّه عليه السلام قرأَ في أذنِ مولودٍ سورةَ الإخلاصِ. قال في "شرح المنتهى" للمصنِّفِ
(1)
: والمرادُ: أُذُنُه اليُمنى.
"فرعٌ": قال في "الإنصاف"
(2)
: يكفي مؤذِّنٌ واحدٌ في المصرِ، نصَّ عليه.
وقال جماعةٌ من الأصحابِ: يكفي مؤذِّنٌ واحدٌ، بحيثُ يُسمِعُهم. قال المجدُ وابنُ تميمٍ وغيرُهما: بحيث يحصلُ لأهلِه العلمُ.
وقال في "المستوعب ": متى أذَّنَ واحدٌ، سقطَ عمَّن صلَّى معَه، لا عمَّنْ لم يُصَلِّ معه، وإنْ سمِعَه. سواءٌ كان واحدًا أو جماعةً، في المسجدِ الذي صُلِّي فيه بأذانٍ أو غيرِه. وقيلَ: يستحبُّ أنْ يؤذِّنَ اثنان. وجزمَ به في "الحاويين ". قال في "الفروع": ويتوجَّه في الفجرِ فقطْ، كبلالٍ وابنِ أمِّ مكتومٍ، ولا تستحبُّ الزيادةُ عليهما على الصحيحِ. جزمَ به في "المغني" والشارح وغيرهما، وقدَّمَه في "الفروع" وابنُ تميمٍ.
وقال القاضي: لا تُستحبُّ الزيادةُ على أربعةٍ، لفعلِ عثمانَ إلا من حاجةٍ. وتابعَهُ في " المستوعب " و" الرعايتين ".
والأَوْلى أنْ يؤذِّنَ واحدٌ بعد واحدٍ، ويقيمَ مَنْ أذَّنَ أوَّلًا. وإنْ لمْ يحصلْ الإعلامُ بواحدٍ، يزيدُ بقدرِ الحاجةِ، كلّ واحدٍ من جانبٍ، أو دفعةً واحدةً بمكانٍ واحدٍ، ويقيمُ أحدُهم.
ولا يجوزُ أخذُ الأجرةِ عليهما. وقيلَ: يجوزُ إن كان فقيرًا، وكذا كلّ قُربةٍ.
(1)
"معونة أولي النهى"(1/ 462).
(2)
" الإنصاف "(3/ 54).
في الحَضَر على الرِّجال الأحرارِ، وئسنَّان للمُنفَرِدِ، وفي السَّفَرِ
(وهما) أي: الأذانُ والإقامةُ (فرضُ كفايةٍ) لحديثِ: "إذا حضرتِ الصَّلاةُ، فليؤذنْ لكمْ أحدُكم، وليؤمَّكمْ أكبُرُكم ". متفقٌ عليه
(1)
. والأمرُ يقتضي الوجوبَ. ولأنَّهما من شعائرِ الإسلامِ الظاهرةِ، كالجهادِ. ولا يُشرعانِ لكلِّ مَنْ في المسجدِ، بلْ يكفيهم المتابعةُ، وتحصلُ لهم الفضيلةُ، كقراءةِ الإمامِ قراءةٌ للمأمومِ. وهو من مفرداتِ المذهبِ.
(في الحضرِ) أي: في القرى والأمصارِ (على الرِّجالِ) اثنين فأكثرَ، لا الواحد، ولا النساء والخنَاثَى (الأحرارِ) لا الأرقَّاء والمبعَّضِين، إذ فرضُ الكفاية
(2)
لا يلزمُ رقيقًا في الجملةِ، وإلَّا فالظاهرُ: وجوبُ نحوِ ردِّ سلامٍ، وتغسيلِ ميتٍ، وصلاةٍ عليه، على رقيقٍ لم يوجدْ غيرُه. وقدْ صرَّحوا بتعيينِ أخذِ اللقيطِ عليه، إذا لمْ يوجدْ غيرُه.
(ويُسنَّانِ للمنفردِ) أي: الأذانُ والإقامةُ، لحديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ مرفوعًا:"يعجبُ ربّكَ من راعي غنمٍ في رأسِ الشظيِّةِ للجبلِ، يُؤذِّنُ بالصَّلاةِ، ويصلِّي، فيقولُ اللهُ عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذنُ ويقيمُ الصَّلاةَ، يخافُ منِّي، قدْ غفرتُ لعبدي، وأدخلتُه الجنةَ". رواه النسائيُّ
(3)
.
(و) يُسنَّانِ أيضًا (في السفرِ) لقولِهِ عليه السلام لمالكِ بنِ الحويرثِ، ولابنِ عمٍّ له:"إذا سافرتُما، فأذِّنا وأقيما، وليؤمَّكما أكبرُكما ". متفقٌ عليه
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (628)، ومسلم (674) من حديث مالك بن الحويرث.
(2)
في الأصل: "الكفاء".
(3)
أخرجه النَّسَائِيّ (666)، وصححه الألباني.
(4)
تقدم تخريجه.
ويُكرَهانِ للنِّساءِ، ولو بلا رفعِ صَوتٍ.
ولا يَصِحَّانِ إلا مُرتَّبينِ، متواليَينِ عُرفا، وأن يكونَا من واحدٍ
قال في "الإقناع"
(1)
: فإنْ اقتصرَ المسافرُ أو المنفردُ على الإقامةِ، أو صلَّى بدونِها في مسجدٍ صُلِّي فيه، لم يُكرَه. وقال أيضًا: وتصحّ الصَّلاةُ بدونِهما مع الكراهةِ. وذكرَ جماعةٌ: إلا بمسجدٍ
(2)
قدْ صُلِّيَ فيه.
(ويُكرهانِ للنساءِ) أي: يُكرَهُ الأذانُ والإقامةُ للنساءِ والخناثَى. ولا يصحَّانِ منهما، كما سيأتي من اشتراطِ الذُّكوريةِ. (ولو بلا رفعِ صوتٍ) لأنهما وظيفةُ الرِّجالِ، ففيه نوعُ تشبُّهٍ بهم.
(ولا يصحَّانِ) أي: الأذانُ والإقامةُ. (إلا مرتَّبين) لأنَّه ذكرٌ معتدٌّ به، فلا يجوزُ الإخلالُ به، كأركانِ الصَّلاةِ (متواليَيْن عُرْفًا) لأنَّه لا
(3)
يحصلُ المقصودُ منه، وهو الإعلامُ بدخولِ الوقتِ، بغيرِ موالاةٍ، وشُرعَ في الأصلِ كذلك؛ بدليلِ أنَّه عليه السلام علَّمَ أبا محذورةَ الأذانَ مرتَّبًا متواليًا
(4)
.
(وأن يكونا) أي: الأذانُ والإقامةُ (من) رجلٍ (واحدٍ) أي: يُسنّ أن يتولَّى الإقامةَ مَنْ يتولَّى الأذانَ، لما في حديثِ ابنِ الحارثِ الصُدائيِّ حين أذَّنَ قال: فأرادَ بلالٌ أنْ يقيمَ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يقيمُ أخو الصُّداءِ، فإنَّه مَنْ أذَّنَ فإنَّه يقيمُ". رواه أحمدُ، وأبو داودَ
(5)
(1)
"الإقناع "(1/ 117).
(2)
في الأصل "لمسجد".
(3)
سقطت: "لا" من الأصل.
(4)
انظر "صحيح مسلم"(379).
(5)
أخرجه أحمدُ (29/ 80)(17538)، وأبو داودَ (514)، وضعفه الألباني.
بنيةٍ منه.
وشُرِطَ: كونُه مُسلِمًا، ذَكَرًا، عاقِلًا، مُميِّزًا، ناطِقًا، عَدْلًا، ولو ظاهرًا.
ولا يصِحَّانِ قبلَ الوقتِ، إلَّا أذانَ الفجرِ، فيصِحُّ بعدَ نِصفِ اللِّيلِ.
ورَفعُ الصَّوتِ رُكنٌ، ما لم يؤذِّن لحاضرٍ.
(بنيةٍ منه) لحديثِ: "إنَّما الأعمالُ بالنياتِ"
(1)
.
(وشُرِطُ: كونُه مسلمًا) فلا يُعتدُّ بأذانِ كافرٍ، لعدمِ النيةِ منه.
(ذكرًا) فلا يعتدُّ بأذانِ امرأةٍ وخنثى. قال جماعةٌ: ولا يصحُّ؛ لأنَّه منهيٌّ عنه.
(عاقلًا) فلا يصحُّ من مجنونٍ، كسائرِ العباداتِ
(مميِّزًا) فلا يصحّ أذانُ مَنْ دون ذلك.
(ناطقًا.) فلا يصحُّ من أخرس
(عدلًا) ولو مستورًا، فلا يُعتدُّ بأذانِ ظاهرِ الفسقِ؛ لأنَّه عليه السلام وصفَ المؤذِّنين بالأمانةِ. والفاسقُ غيرُ أمينٍ. (ولو ظاهرًا) أي: مستورَ الحالِ.
(ولا يصحَّان) أي: الأذانُ والإقامةُ (قبلَ الوقتِ إلا أذانَ الفجرِ، فيصحُّ بعدَ نصفِ الليلِ) لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بلالًا يؤذِّنُ بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أمِ مكتومٍ ". متفقٌ عليه
(2)
. ولأنَّ وقتَ الفجرِ يدخلُ على الناسِ وفيهم الجنبُ والنائمُ، فاستحبَّ تقديمُ أذانِه حتى يتهيئوا لها، فيدركوا فضيلةَ أوَّلِ الوقتِ.
(ورفعُ الصوتِ) بأذانٍ (ركنٌ) ليحصلَ السماعُ المقصودُ للإعلامِ. (ما لمْ يؤذِّنْ لحاضرٍ)، فبقدرِ ما يسمِعُه، وإنْ شاءَ رفعَ صوتَهُ، وهو أفضلُ، وإنْ خافَتَ بالبعضِ،
(1)
أخرجه البخاري (1، 54)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب.
(2)
أخرجه البخاري (617، 620، 622، 623)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر.
وسُنَّ: كَونُه صيِّتًا، أَمينًا، عالمًا بالوَقتِ، متطهِّرًا، قائمًا فيهِمَا.
لكن لا يُكرهُ أذانُ المُحدِثِ بَلْ إقامتُهُ.
جازَ. ويُستحبُّ رفعُ صوتِهِ قدرَ طاقتِهِ، ما لمْ يؤذِّنْ لنفسِهِ. وتُكره الزيادةُ فوقَ طاقتِهِ.
(وسُنَّ كونُه) أي: المؤذِّنِ (صيِّتًا) أي: رفيعَ الصوتِ. ويُسنُّ كونُه حسنَ الصوتِ، بالغًا
(أمينًا) لحديثِ: "أمناءُ الناسِ على صلاتِهم وسحورِهم: المؤذِّنون ". رواه البيهقيُّ
(1)
. ظاهرُه: صحة أذانِ غير الأمينِ. وتقدَّمَ اشتراطُ العدالةِ، وأنَّه لا يصحُّ أذانُ الفاسقِ؛ إذ هو غيرُ مؤْتمَنٍ شرعًا، فتأملْ.
(عالمًا بالوقتِ) ليؤمنَ خطؤه
(2)
. ويصحُّ أذانُ الجاهلِ به إذا قلَّدَ عالمًا
(متطهرًا) من الحديثين الأصغرِ والأكبرِ، لقولِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يؤذِّنُ إلا متوضئٌ". رواه الترمذيُّ والبيهقيُّ
(3)
مرفوعًا من حديثِ أبي هريرةَ، وموقوفًا عليه
(4)
. وفي "الرعاية": ويُسنَّ أنْ يؤذِّنَ متطهرًا من نجاسةِ بدنِه وثوبه
(قائمًا فيهما) أي: الأذانِ والإقامةِ، لقولِهِ عليه السلام لبلالٍ:"قمْ فأذِّنْ "
(5)
. وكان مؤذِّنوا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يؤذِّنون قيامًا. والإقامةُ أحدُ الأذانينِ.
(لكنْ لا يُكره أذانُ المُحْدِث، بل إقامتُه) للفصلِ بين الإقامةِ والصَّلاةِ بالوضوءِ. ويُكره أذانُ الجنبِ.
(1)
أخرجه البيهقي (1/ 426) من حديث أبي محذورة. وحسنه الألباني في "الإرواء"(221).
(2)
في الأصل: "خطؤهم".
(3)
أخرجه الترمذيُّ (200)، والبيهقىُّ (1/ 397). وضعفه الألباني.
(4)
أخرجه الترمذيُّ (201).
(5)
أخرجه البخاري (595) من حديث أبي قتادة.
ويُسنُّ: الأذانُ أوَّلَ الوقتِ، والتَّرَسُّلُ فيه، وأن يكونَ على عُلُو، رافعًا وجهَهَ، جاعلًا سبابتيه في أذُنيه، مُستَقْبِلَ القِبلةِ، يلتفتُ يمينًا لي: حَيَّ على الصلاةِ، وشمالًا ل: حَيَّ على الفلاح، ولا يُزيلُ قدمَيه
(ويُسنُّ الأذانُ أوَّلَ الوقتِ) ليصلِّيَ المتعجِّلُ. وظاهرُه: أنَّه يجوزُ مطلقًا، ما دامَ الوقتُ. ويتوجَّهُ: سقوطُ مشروعيتِهِ بفعلِ الصَّلاةِ. ذكَرَهُ في "المبدع"
(1)
.
(والترسُّلُ فيه) أي: تمهلٌ في الأذانِ، وتأنٍّ فيه. من قولِهم: جاءَ على رِسْلِه.
(وأن يكونَ على عُلوٍ) أي: موضعٍ عالٍ، كمنارةٍ؛ لأنَّه أبلغُ في الإعلامِ
(رافعًا وجهَهُ) إلى السماءِ في أذانِه كلِّه.
وسُنَّ أيضًا كونُه (جاعلًا سبَّابتيه في أذنيه) لقولِ أبي جحيفةَ: إنَّ بلالًا وضعَ أصبعيْهِ في أذنيهِ. رواه أحمدُ والترمذيُّ
(2)
، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
(مستقبلَ القبلةِ) لفعلِ مؤذِّني رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن أخلَّ به، كُرِه.
(يلتفتُ يمينًا ل: حيِّ على الصَّلاةِ) أي: يلتفت برأسِه وعنقِه وصدرِه. قالَهُ في "المبدع". وفي " التلخيص": ولا يحوِّلُ صدرَهُ عن القبلةِ. وكذا في "المحرر". ولا يلتفتُ في غيرِهما. ومعنى "حيَّ على الصَّلاةِ ": أقبلوا إليها. وقيلَ: أسرعوا. (وشمالًا لـ: حيَّ على الفلاحِ) والفلاحُ: الفوزُ والبقاءُ؛ لأنَّ المصلِّي يدخلُ الجنةَ إنْ شاءَ اللهُ تعالى، ويخلدُ فيها. ومعناه: هلمُّوا إلى سببِ ذلك، وذلك في الأذانِ وفي الإقامةِ
(ولا يُزيلُ قدميه) عند قولِهِ: حيَّ على الصَّلاةِ. حيَّ على الفلاحِ. في الأذانِ، بلْ يكونُ أذانه بمحلٍّ واحدٍ، يلتفتُ يمينا وشمالًا؛ لحديثِ أبي جحيفة قال: أتيتُ
(1)
"المبدع"(1/ 325).
(2)
أخرجه أحمدُ (31/ 52)(18759)، والترمذيُّ (197)، وصححه الألباني.
ما لمْ يكنْ بمَنَارَةٍ، وأن يقولَ بعدَ حَيعَلَة أذانِ الفجرِ: الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ، مرَّتين، ويُسمَّى: التَّثويبَ.
النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو في قُبةٍ حمراءَ من أدمٍ، فخرج وتوضَّأ، وأذَّنَ بلالٌ، فجعلتُ أتتبعُ فاه هاهنا وهاهنا. يقولُ يمينًا وشمالًا: حيَّ على الصَّلاةِ. حيَّ على الفلاحِ. متفقٌ عليه
(1)
. ورواه أبو داودَ
(2)
، وفيه: فلمَّا بلغَ: حيَّ على الصَّلاةِ. حيَّ على الفلاحِ. لوى عنقَهُ يمينًا وشمالًا، ولمْ يستدرْ.
وقال القاضي والمجدُ وجمعٌ: إلا في منارةٍ ونحوِها. قال في "الإنصاف": وهو الصوابُ؛ لأنَّه أبلغُ في الإعلامِ، وهو المعمولُ به. وإليه أشارَ بقولِهِ:(ما لمْ يكنْ بمنارةٍ) ونحوِها.
(وأنْ يقولَ بعد حيعلة أذانِ الفجرِ: الصَّلاةُ خيرٌ من النَّومِ مرتين) وظاهرُهُ: ولو قبلَ طلوعِه، لقولِه عليه السلام لأبي محذورةَ: فإذا كان أذانُ الفجرِ، فقلْ: الصَّلاةُ خيرٌ من النَّومِ. مرتين. رواه أحمدُ وأبو داودَ
(3)
. والحيعلةُ: قولُهُ
(4)
: حيَّ على الفلاحِ. سواءٌ كان مُغلِسًا، أو مُسفِرًا
(ويسمى: التثويبَ) من ثابَ، إذا رجعَ؛ لأنَّ المؤذِّنَ دعا إلى الصَّلاةِ بالحيعلتين. ثمَّ دعا
(5)
إليها بالتثويب
(6)
، واخْتُصَّ الفجرُ بذلك؛ لأنَّه وقتٌ ينامُ
(1)
أخرجه البخاري (634)، ومسلم (503).
(2)
أخرجه أبو داود (520)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه أحمدُ (24/ 95)(15379)، وأبو داودَ (500) من حديث أبي محذورة. وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: "قوله صلى الله عليه وسلم". وانظر "مطالب أولى النهى"(1/ 299).
(5)
في الأصل: "عاد ".
(6)
سقطت: " بالتثويب " من الأصل.
ويُسنُّ أنْ يتولَّى الأذانَ والإقامةَ واحدٌ، ما لم يَشُقَّ.
الناسُ فيه غالبًا. ويُكره التثويبُ في غيرِها، وبين الأذانِ والإقامةِ.
(ويُسنُّ أنْ يتولَّى الأذانَ والإقامةَ واحدٌ) أي: أنْ يتولَّى الإقامةَ مَنْ يتولَّى الأذانَ، وفاقًا للشافعيِّ، لما في حديثِ ابنِ الحارثِ الصُدائيِّ حينَ أذَّنَ قال: فأرادَ بلالٌ أنْ يُقيمَ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يقيمُ أخو صُداء، فإنَّ مَنْ أذَّنَ فهو يقيمُ ". رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ
(1)
. ولأنَّهما ذكران يتقدَّمان الصَّلاةَ. فسُنَّ أنْ يتولاهما واحدٌ كالخطبتين.
وسُنَّ أيضًا كونُ الأذانِ والإقامةِ، بمحلِّ واحدٍ، بأنْ يقيمَ الصَّلاةَ بالموضعِ الذي يؤذِّنُ فيه. ومحلُّ هذا (ما لم يَشقَّ) ذلك على المؤذِّنِ، كمَنْ أذَّنَ في منارةٍ، أو مكانٍ بعيدٍ عن المسجدِ، فيقيمُ فيه، لئلا تفوتَه الصَّلاةُ، إنْ أقامَ عند إرادةِ الدخولِ فيها. ويجوزُ الكلامُ بعد الإقامةِ قبلَ الدخولِ فيها.
"فائدةٌ": وقتُ الأذانِ إلى المؤذِّنِ، ووقتُ الإقامةِ إلى الإمامِ، فلا يقيمُ إلا بإذْنِه، ولا يؤذِّنُ غيز الراتبِ قبله، ما لمْ يخَفْ فوتَ وقتِهِ. فإنْ أذَّنَ وحضَرَ، أعادَ. نصَّ عليه. قال في " الإنصاف ": استحبابًا.
ويحرُمُ أنْ يؤذِّنَ غيرُ المؤذِّنِ الراتبِ إلا بإذنِهِ، إلا أنْ يخافَ فوتَ وقتِ التأذين، ومتى جاءَ الراتبُ، وقدْ أذَّنَ غيرُه قبلَه، أعادَ الراتبُ الأذانَ، نصَّ عليه. قال في "الإنصاف": استحبابًا.
"فروعٌ": فإنْ نكَّسَ الأذانَ، أو فرَّقَ بينه بسكوتٍ طويلٍ، أو كلامٍ كثيرٍ، أو مُحرَّمٍ، لمْ يُعتدَّ به. أو ارتدَّ في أثنائِهِ، لمْ يُعتدَّ به، لخروجِه عن أهليةِ الأذانِ.
ويُكره في الأذانِ سكوتٌ يسيرٌ بلا حاجةٍ. وكُرِه كلامٌ مباحٌ يسيرٌ فيه بلا
(1)
تقدم قريباً.
ومَن جَمَعَ، أو قَضَى فوائتَ، أذَّنَ لِلأولَى، وأقامَ للكُلِّ.
حاجةٍ، كإقامتِه، فيُكره فيها سكوتٌ يسيرٌ، وكلامٌ، ولو لحاجةٍ. قال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: الرجلُ يتكلَّمُ في أذانِه؟ قال: نعئم. قلتُ: يتكلَّمُ في الإقامةِ؟ قال: لا. ولأنَّه يُستحبُّ حَدْرُها.
وله ردُّ سلامٍ فيهما. أي: في الأذانِ والإقامةِ، ولا يجبُ الردُّ؛ لأنَّ ابتداءَ السَّلامِ إذن غيرُ مسنونٍ.
(ومَنْ جمعَ) بين صلاتين، أذنَ للأولى، وأقامَ لكلِّ منهما، سواءٌ كان الجمعُ تقديمًا أو تأخيرًا، لحديثِ جابرٍ مرفوعًا: جمعَ بين الظهرِ والعصرِ بعرفةَ، وبين المغربِ والعشاءِ بمزدلفةَ، بأذانٍ وإقامتين. رواه مسلمٌ
(1)
.
(أو قضى فوائتَ، أذَّنَ للأُولى) من المجموعتين، أو الفوائتَ. (وأقامَ للكلِّ) أي: لكلِّ صلاةٍ بعد الأُولى. ولا فرْقَ في ذلك بين كونِ الجمعِ في وقتِ الأُولى، أو في وقتِ الثانيةِ، وذلك ممَّا روى جابرٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جمعَ بين الظهرِ والعصرِ بعرفةَ، وبين المغربِ والعشاءِ بمزدلفةَ، بأذانٍ وإقامتين. رواه مسلمٌ. ولما روى أبو عبيدةَ، عن أبيه عبدِ الله
(2)
بنِ مسعودٍ: أنَّ المشركين يومَ الخندقِ شَغَلوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أربعِ صلواتٍ، حتى ذهبَ من الليلِ ما شاءَ اللهُ، فأمرَ بلالًا، فأذَّنَ، ثمَّ أقامَ فصلَّى الظهرَ، ثمَّ أقامَ فصلَّى العصرَ، ثمَّ أقامَ فصلَّى المغربَ، ثمَّ أقامَ فصلَّى العشاءَ. رواه النسائيُّ والترمذيُّ
(3)
. ولفظُهُ لُهُ. وقال: ليس بإسنادِه بأسٌ، إلا أنَّ أبا عبيدةَ لمْ
(1)
تقدمت: "وإقامتين. رواه مسلمٌ" على الحديث. والحديث أخرجه مسلم (1218).
(2)
في الأصل: "عن عبد اللَّه ".
(3)
أخرجه النسائيُّ (662)، والترمذيُّ (179)، وضعفه الألباني في " الإرواء "(239).
وسُنَّ لِمن سَمِعَ المؤذِّنَ، أو المقيمَ أن يقولَ مثلَه، إلَّا في الحَيعَلَةِ فيقولُ:
يسمعْ من أبيه. ولأنَّ ما بعدَ الأُولى من المجموعتين أو الفوائتِ صلاةٌ أُذِّنَ لما تليها، فلمْ يُشرعْ لها أذانٌ، كما لو صلَّى فائتةً عقِبَ مؤدَّاةٍ. وعنه: يقيمُ لكلِّ صلاةٍ من غيرِ أذانٍ. وعنه: يكفي إقامةٌ واحدةٌ للكلِّ.
(وسُنَّ لمَنْ سمِعَ المؤذِّنَ أو المقيمَ أن يقولَ مثلَهُ) أي: متابعةَ قولِهِ سرًّا، لحديثِ عمرَ مرفوعًا:"إذا قالَ المؤذِّنُ: اللهُ أكبرُ. فقالَ أحدُكم: اللهُ أكبرُ. ثمَّ قالَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. ثمَّ قالَ: أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. فقال: أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. ثمَّ قالَ: حيَّ على الصَّلاةِ. فقال: لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ. ثمَّ قال: حيَّ على الفلاحِ. فقال: لا حول ولا قوةَ إلا باللَّهِ (1). ثمَّ قالَ: اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. فقال: اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ. ثمَّ قال: لا إلهَ إلا اللَّه. قال: لا إله إلا اللهُ. مخلصًا من قلبِه، دخلَ الجنَّةَ". رواه مسلمٌ.
وسُنَّ أيضًا لمؤذنٍ متابعةُ قولِهِ سرًّا بمثلِه للجمعِ بين أجرِ الأذانِ والمتابعةِ. وسُنَّ أيضًا لمقيمٍ متابعةُ قولِهِ سرًّا، ليجمعَ بين أجرهما. وسُنَّ أيضًا لسامِعِه. أي: المقيمِ
ولا تُسنَّ الإجابةُ لمصلِّ، لاشتغالِه بها، فإنْ أجابَ بطلتْ بلفظِ الحيعلةِ، وصدقتَ وبرِزتَ في التثويب؛ لأنَّه خطابُ أدميِّ. ولا لمتخلِّ؛ لاشتغالِه بقضاءِ حاجتِهِ. ويقضيان، أي: المصلِّي والمتخلِّي ما فاتَهما إذا فرغا، وخرجَ المتخلِّي من الخلاءِ، لزوالِ المانعِ.
ويقولُ في الأذانِ مثلَه (إلَّا في الحيعلةِ، فيقولُ) أي: السامعُ:
(1)
سقطت: "ثمَّ قال: حيَّ على الفلاحِ. فقال: لا حول ولا قوةَ إلا باللَّهِ" من الأصل. والحديث عند مسلم (385).
لا حولَ ولا قَّوةَ إلا باللَّه. وفي التَّثوِيبِ: صدقتَ وبررتَ. وفي لفظ الإقامةِ: أقامَها اللَّهُ وأدامها. ثمَّ يصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرَغَ، ويقولُ:
(لا حولَ ولا قوة إلا باللهِ). فيها خمسةُ أوجهٍ:
أحدُها: لا حولَ ولا قوةَ. بفتحهما بلا تنوينٍ.
الثاني: رفعُهما منوَّنَين.
الثالثةُ: فتحُ الأوَّل، ونصبُ الثاني منوَّنًا.
الرابعُ: فتحُ الأوَّلِ، ورفعُ الثاني منوَّنًا.
الخامسُ: عكسُه.
ووجهُ المناسبةِ لقولِ ذلك هنا: أنَّ قولَهُ: حيَّ على الصَّلاةِ، وحيَّ على الفلاحِ. طلبُ الطاعةِ، والبعدُ عن المعصيةِ، فإذا قالَ ذلك، فقد أظهرَ العجزَ عن الإتيانِ بالطاعةِ والبعدِ عن المعصيةِ، إلا بحولِ اللهِ وقوتِهِ.
(وفي التثويبِ) وهو قولُ: الصَّلاةُ خيرٌ من النَّومِ. في أذانِ الفجرِ، فيقولُ:(صدقتَ وبُرِرت) بضم الباء، وكسر الراء الأولى. ويجوزُ فتحُها، حكَاهُ ابنُ سيدَه في "المحكم".
(وفي لفظِ الإقامةِ) وهو قولُ المقيمِ: قد قامت الصَّلاةُ. فيقولُ هو وسامعُه: (أقامَها اللهُ وأدامها) لما روى أبو داودَ
(1)
عن بعضِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ بلالًا، أخذَ في الإقامةِ، فلمَّا أنْ قالَ: قدْ قامت الصَّلاةُ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أقامها اللَّه وأدامَها".
(ثمَّ يصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغَ) من الأذانِ وإجابتِه (ويقولُ) كلٌّ مِن المؤذِّنِ
(1)
أخرجه أبو داود (528)، وضعفه الألباني.
اللَّهم رَبَّ هذِهِ الدَّعوةِ التامَّةِ، والصَّلاةِ القائمَةِ، آتِ محمَّدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثهُ مقامًا محمودًا
والسامعِ: (اللهمَّ) أصلُّه يا اللهُ، والميمُ بدلٌ من "يا". قالَهُ الخليلُ وسيبويه. وقال الفرَّاء: أصلُه: يا اللهُ، آمِنَّا بخير، فحذِفَ حرفُ النداءِ. ولا يجوزُ الجمعُ بينهما إلا في الضرورةِ.
(ربَّ هذه الدَّعوةِ) بفتح الدَّال. أي: دعوةِ الأذانِ (التامَّةِ) لكمالِها، وعِظَمِ موقعِها وسلامتِها من نقصٍ يتطرَّقُ إليها؛ ولأنَّها ذكْرُ اللهِ يُدْعى بها إلى طاعتِهِ.
(والصَّلاةِ القائمةِ) أي: التي ستقومُ وتُفعلُ (آتِ محمَّدًا الوسيلةَ) منزلةٌ عند الملكِ، وهي منزلةٌ في الجنَّةِ (والفضيلةَ، وابعثْه مقامًا محمودًا) هو الشفاعةُ العظمى في موقفِ القيامةِ؛ لأنَّه
(1)
يحمدُه فيه الأوَّلونَ والآخرونَ. والحكمةُ في سؤالِ ذلك، مع كونِه واجبَ الوقوعِ بوعدِ اللهِ تعالى: إظهارُ كرامتِهِ، وعِظَمِ منزلتِه صلى الله عليه وسلم.
قال ابنُ القيمِ
(2)
: الذي وقعَ في "صحيح البخاري" وأكثرِ الكتبِ بالتنكيرِ، وهو الصحيحُ؛ لأمورٍ:
أحدُها: اتفاقُ الرواةِ عليه.
الثاني: موافقةُ القرآنِ.
الثالثُ: أنَّ لفظَ التنكيرِ قدْ يقصدُ بالتعظيمِ.
الرابعُ: أنَّ وجودَ اللَّامِ تُعيِّنُه وتخصُّه بمقامٍ معيَّنٍ، وحذفُها يقتضي إطلاقًا
(1)
سقطت: " لأنَّه " من الأصل.
(2)
" بدائع الفوائد "(5/ 105).
الذي وعدتهَ. ثمَّ يدعو هُنا، وعندَ الإقامَةِ.
وتعدادًا، ومقاماتُه المحمودةُ في الموقفِ متعدِّدةٌ، فكانَ في التنكيرِ ما ليسَ في التعريفِ.
الخامسُ: أنَّه عليه السلام كان يحافظُ على ألفاظِ القرآنِ تعريفًا وتنكيرًا، وتقديمًا وتأخيرًا، كما يحافظُ على معانيه.
وقولُه: (الذي وعدته) هو عطفُ بيانٍ على "مقامًا" ويجوزُ كونُه بدلًا، أو منصوبًا بفعلٍ محذوفٍ، تقديرُه: هو الذي وعدته. والأصلُ في ذلك حديثُ ابنِ عمروٍ مرفوعًا: "إذا سمعتُمْ المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقولُ المؤذِّنُ، ثمَّ صلُّوا عليَّ، فإنَّه مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشرًا، ثمَّ سلُوا اللهَ ليَ الوسيلةَ، فإنَّها منزلةٌ في الجنَّةِ، لا ينبغي أنْ تكونَ إلا لعبدٍ من عبادِ اللهِ، وأرجو أنْ أكونَ أنا هو، فمَنْ سألَ اللهَ ليَ الوسيلةَ، حلَّتْ عليه الشفاعة". رواه مسلمٌ
(1)
. ولحديثِ البخاريِّ
(2)
وغيرِه عن جابرٍ مرفوعًا: "مَنْ قال حين يسمعُ النداءَ: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوةِ التامَّةِ، والصَّلاةِ القائمةِ، آتِ محمَّدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته. حلَّتْ له شفاعتي يومَ القيامةِ".
(ثمَّ يدعو هنا) أي: بعدَ الأذانِ، لحديثِ أنسٍ مرفوعًا:"الدعاءُ لا يردُّ بين الأذانِ والإقامةِ ". رواه أحمدُ وغيرُه
(3)
، وحسَّنَه الترمذيُّ. (وعندَ الإقامةِ) فعلَهُ أحمدُ، ورفعَ يديه. ويقولُ عندَ أذانِ المغربِ: اللهمَّ هذا إقبالُ ليلِكَ، وإدبارُ نهارِك، وأصواتُ دعاتك، فاغفرْ لي.
(1)
أخرجه مسلم (875).
(2)
أخرجه البخاري (614).
(3)
أخرجه أحمد (19/ 234)(12200)، والترمذي (212).
ويحرُمُ بعدَ الأذان الخُروجُ من المسجِدِ بلا عُذرٍ، أو نيَّةِ رُجُوعٍ.
(ويحرُمُ بعدَ الأذانِ الخروجُ من المسجدِ) أي: يحرُمُ خروجُ مَنْ وجبتْ عليه صلاةٌ أُذِّنَ لها، مع صحتِها منه إذا، لقولِه عليه السلام:"مَنْ أدركَ الأذانَ في المسجدِ، ثمَّ خرجَ، لم يخرج لحاجةٍ، وهو لا يريدُ الرجعة، فهو منافقٌ ". رواه أبو داودَ
(1)
.
ولكنَّ التحريمَ إنما هو إذا كان الأذانُ في الوقتِ. أما لو أُذِّنَ للفجرِ قبلَ وقتِه، فإنَّه يجوزُ.
"فائدةٌ": يُستحبُّ أنْ لا يقومَ إذا أخذَ المؤذِّنُ في الأذانِ، بلْ يصبرُ قليلًا؛ لأنَّ في التحرّكِ عند سماعِ النداءِ تشبهًا بالشيطانِ.
(بلا عذرٍ، أو نيةِ رجوعٍ) إلى المسجدِ؛ للخبرِ. فإنْ كان لفجرٍ قبلَ وقتِه، أو لعذرٍ، أو نيةِ رجوعٍ قبلَ فوتِ الجماعةِ، لمْ يحُرُمْ.
قال العلَّامةُ الشيخُ مرعي في "الغاية": ويتجه: لو خرجَ بعدَه، لكي يصلِّي جماعةً بمسجدٍ آخرَ، لا سيما مع أفضلَ إمامةً.
ولا بأسَ بأذانٍ على سطحِ بيتٍ قريبٍ. فإنْ بعُدَ، كُرِهَ؛ لأنَّه يُقصدُ، فيغترُ به مَنْ لا يعرفُ المسجدَ، فيضيعُ.
"فرعٌ ": ما يفعلُه المؤذِّنون قبلَ فجرٍ من تسبيحٍ، وتهليلٍ، ونشيدٍ، ورفعِ صوتٍ بدعاءٍ وقراءةٍ، فمن البدعِ المكروهةِ، ولم يقلْ به أحدٌ من العلماءِ، فلا يُعلَّقُ استحقاقُ رزقٍ به، ولا يُفعلُ، ولو بشرطِ واقفٍ. بلْ قال ابنُ الجوزيِّ: كلُّ ذلك من المنكراتِ؛ يمنعُ الناسَ نومَهم، ويخلطُ على المتهجدين قراءتَهم.
(1)
لم أجده عند أبي داود. وهو عند ابن ماجه (734) من حديث عثمان بن عفان. وصححه الألباني.
بابُ شُروطِ الصَّلاةِ
وهِيَ تِسعَةٌ:
الإسلامُ، والعَقلُ، والتميِيِزُ، وكذا الطهارةُ معَ القدرَة.
(بابُ شروطِ الصَّلاةِ)
الشروطُ: جمعُ شرطٍ، كفُلُوسٍ وفَلسٍ. والشَّرائطُ: جمعُ شريطةٍ، كفرائضَ وفريضةٍ. والأشراطُ: جمعُ شَرَطٍ، كأقمارٍ وقمرٍ. ومعناه
(1)
لغةً: العلامةُ.
والضرطُ في الاصطلاحِ: ما لا يوجدُ المشروطُ عند عدمِه، ولا يلزمُ أنْ يوجدَ عند وجودِه.
وهو عقليٌّ: كالحياةِ للعلمِ. ولغويٌّ: إنْ قمتَ فلك درهمٌ. وشرعيٌّ: كالطَّهارةِ للصَّلاةِ
(وهي تسعة):
أحدُها: (الإسلامُ).
(و) الثاني: (العقلُ).
(و) الثالثُ: (التمييزُ).
(و) الرابعُ: (كذا الطَّهارةُ مع القدرةِ) لحديث: "لا يقبلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طُهورٍ". رواه مسلمٌ
(2)
.
(1)
في الأصل: "وهذا معناه ".
(2)
أخرجه مسلم (224) من حديث عبد اللَّه بن عمر.
الخامسُ: دخُول الوقتِ.
فوقتُ الظُّهرِ:
(الخامسُ: دخولُ الوقتِ) لصلاةٍ مؤقتةٍ. وهذا المقصودُ هنا. وعبَّرَ عنه بعضُهم بالمواقيتِ. قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسرَاء:78].
قال ابنُ عباسٍ: دلُوكُها: إذا فاءَ الفيءُ
(1)
.
وقال عمرُ: الصَّلاةُ لها وقتٌ، شرطَهُ اللهُ تعالى لها، لا تصحُّ إلَّا به
(2)
. وهو حديثُ جبريلَ حين أمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالصلواتِ الخمسِ، ثمَّ قال:"يا محمدُ، هذا وقتُ الأنبياءِ من قبلِكَ"
(3)
.
والوقتُ أيضًا سببُ وجوبِ الصَّلاةِ؛ لأنَّها تضافُ إليه. يعني: إلى الوقتِ فيقالُ: صلاةُ الظهرِ، صلاةُ العصرِ، صلاةُ المغربِ، صلاةُ العشاءِ، صلاةُ الفجرِ. وهي -يعني: الإضافةَ- تدلُّ على السببيةِ، وتتكررُ بتكرُّرِه، وشرطٌ للوجوبِ كالأداءِ، بخلافِ غيرِه من الشروطِ، شرطٌ للأداءِ فقط.
(فوقتُ الظهرِ) وهي الأولى؛ لبُداءةِ جبريلَ بها لما صلَّى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ هذا الدِّينَ ظهرَ أمرُه، وسطعَ نورُه. وختمَ بالفجرِ؛ لأنَّه وقتُ ظهورٍ فيه ضعفٌ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 44).
(2)
أخرجه ابن حزم في "المحلى"(2/ 239) من طريق الضحاك بن عثمان، أن عمر بن الخطاب قال في خطته بالجابية .. فذكره.
(3)
أخرجه أحمد (5/ 20)(3081)، وأبو داود (393)، والترمذي (149) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(417).
مِنَ الزَّوالِ
وهو لغةً: الوقتُ بعد الزوالِ. وشرعًا: صلاةُ هذا الوقتِ. مشتقٌّ من الظهورِ؛ لأنَّ فعلَها يكونُ ظاهرًا وسطَ النهارِ. وتُسمَّى أيضًا: الهجيرَ؛ لفعلِها وقتَ الهاجرةِ.
وهو: (من الزوالِ) وهو ميلُها عن وسطِ السماءِ. أجمعَ العلماءُ على أنَّ أوَّلَ وقتِ الظهرِ، إذا زالتِ الشمسُ. وهو ابتداءُ طولِ الظلِّ، بعدَ تناهي قصرِه؛ لأنَّ الظلَّ يكونُ طويلًا عند ابتداءِ طلوعِ الشمسِ، وكلَّما ارتفعتْ قصُرَ إلى أنْ تنتهي، فإذا أخذتْ في النزولِ مُغرِبةً، طالَ؛ لمحاذاةِ المنتصبِ قرصَها. فهذا أوَّلُ وقتِ الظهرِ. ويَقْصرُ الظلُّ في الصيفِ؛ لارتفاعها إلى الجوِّ، ويطولُ في الشتاءِ.
والظلُّ أصلُه: السترُ، ومنه: أنا في ظلِّ فلانٍ. ومنه: ظلُّ الجنَّةِ، وظلُّ شجرِها. وظلُّ الليلِ: سوادُه. وظلُّ الشمسِ: ما سترَ الشخوصَ من سقطِها. ذكرَهُ ابنُ قتيبةَ. قال: والظلُّ يكونُ غدوةً وعشيةً، من أوَّلِ النهارِ وآخرِه. والفيءُ لا يكونُ إلا بعدَ الزوالِ؛ لأنَّه فاءَ. أي: رجعَ من جانبٍ إلى جانبٍ
(1)
.
"فائدةٌ": قال ابنُ رجبٍ في "شرح البخاري"
(2)
: اختُلفَ في المعنى الذي لأجلِه أُمِرَ بالإبرادِ:
فمنهم مَنْ قالَ: هو حصولُ الخشوعِ فيها، فلا فرقَ بين مَنْ يصلِّي وحدَهُ أو في جماعةٍ.
ومنهم مَنْ قال: هو خشيةُ المشقَّةِ على مَنْ
(3)
بعُدُ من المسجدِ بمشيِه في
(1)
انظر " كشاف القناع "(2/ 86).
(2)
" فتح الباري " لابن رجب (3/ 67).
(3)
سقطت: " مَنْ " مِن الأصل، والمثبت من "فتح الباري".
إلى أن يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيءٍ مِثلَه، سِوَى ظِلِّ الزِّوال.
ثم يليه الوقتُ المختارُ للعصرِ
الحرِّ، فيختصُ بالصَّلاةِ في مساجدِ الجماعةِ التي تُقصدُ من الأمكنةِ المتباعدةِ
ومنهم مَنْ قال: هو وقتُ تنفُّسِ جهنَّمَ، فلا فرقَ بين مَنْ يصلِّي وحدَهُ، أو في جماعةٍ. انتهى.
(إلى أنْ يصيرَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه) أي: يمتدُّ وقتُ الظهرِ إلى أنْ يصير ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه (سوى ظلِّ الزوالِ) أي: بعدَ الظلِّ الذي زالتْ عليه الشمسُ، إنْ كان ثمَّ ظلٌّ زالتْ عليه. فتضبطُ ما زالتْ عليه الشمسُ من الظلِّ، ثمَّ تنظر الزيادةَ عليه، فإذا بلغتْ قدرَ الشخصِ، فقد انتهى وقتُ الظهرِ.
(ثمَّ يليه) أي: وقتَ الظهرِ (الوقتُ المختارُ للعصرِ) وهي الصَّلاةُ الوسْطى. قال في " الإنصاف "
(1)
: نصَّ عليه الإمامُ أحمدُ، وقطعَ به الأصحابُ، ولا أعلمُ عنه ولا عنهم خلافًا.
وفي "الصحيحين"
(2)
: "شغلونا عن الصَّلاةِ الوسطى، حتى غابتِ الشمسُ ".
ولمسلمٍ: "شغلونا عن الصَّلاةِ الوسطى؛ صلاةِ العصرِ".
وعن ابنِ مسعودٍ وسمرةَ قالا: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلاةُ الوسطى: صلاةُ العصرِ"
(3)
. قالَ الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
(4)
.
(1)
" الإنصاف "(3/ 141).
(2)
أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627) من حديث عليٍّ.
(3)
أخرجه الترمذي (181، 182)، وصححه الألبانى.
(4)
وضع هذا الحديث في الأصل بعد الحديث الآتي: "وقتُ العصرِ ما لم تصفرَّ الشمسُ" بعد أسطر! وموضعه المناسب هنا، كما في "كشاف القناع"(2/ 90).
حتى يَصيِرَ ظِلُّ كلِّ شيءٍ مثليه، سِوَى ظِلِّ الزَّوالِ،
وذكرَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري"
(1)
فيها عشرين قولًا، وهي: صلاةُ العصرِ، صلاةُ المغربِ، صلاةُ العشاءِ، صلاةُ الفجرِ، صلاةُ الظهرِ، جميعها، واحدةٌ غيرُ معيَّنةٍ، التوقُّفُ، الجمعةُ، الظهرُ في الأيامِ والجمعةُ في يومِها، الصبحُ أو العشاءُ أو العصرُ
(2)
، الصبحُ أو العصرُ على التردُّدِ
(3)
، وهو غيرُ الذي قبلَهُ، صلاة الجماعة
(4)
، صلاةُ الخوفِ، صلاةُ عيدِ النَّحرِ، صلاةُ عيدِ الفطرِ، الوترُ، صلاةُ الضحى، صلاةُ الليلِ.
ويمتدُّ الوقتُ المختارُ للعصرِ (حتى يصير ظلُّ كلِّ شيءٍ مِثْلَيه، سوى ظلِّ الزوالِ) أي: ظلِّ الشاخصِ الذي زالتِ الشمسُ عليه، إنْ كان؛ لأنَّ جبريلَ صلَّاها بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليومِ الثاني حين صارَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مِثْليه
(5)
، سوى ظلِّ الزوالِ.
وبعدَ ذلك وقتُ ضرورةٍ إلى غروبِها، فتقعُ الصَّلاةُ فيه أداءً، ويأثمُ فاعلُها بالتأخير إليه بغير عذرٍ.
وتعجيلُها أفضلُ بكلِّ حالِّ، في الحرِّ والغيمِ وغيرِهما.
وعنه: إلى اصفرارِ الشمسِ
(6)
. اختارَهُ الموفقُ، والمجدُ، وجمعٌ. قال في "الفروع ": وهي أظهرُ. وصحَّحها في "الشرح "، وابن تميم، وجزمَ بها في
(1)
انظر "فتح الباري"(8/ 44)، " الإنصاف "(3/ 141).
(2)
في الأصل: "الصبح أو العصر".
(3)
في الأصل: " الترديد ".
(4)
سقطت: "صلاة الجماعة" من الأصل.
(5)
تقدم تخريجه قريباً.
(6)
أي: آخر وقتها المختار إلى اصفرار الشمس.
ثمَّ هو وقتُ ضَرورةٍ إلى الغُروبِ.
ثم يليه وقتُ المَغرِبِ،
"الوجيز"، لما روى ابنُ عمروٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"وقتُ العصرِ ما لم تصفرَّ الشمسُ ". رواه مسلمٌ
(1)
.
قال ابنُ عبدِ البرِّ: أجمعَ العلماءُ على
(2)
أنَّ مَنْ صلَّى والشمسُ بيضاءُ نقيةٌ، فقدْ صلَّاها في وقتِها. وفي هذا دليلٌ على أنَّ مراعاةَ المثلين عندَهم استحبابٌ، ولعلَّهما متقاربانِ
(3)
.
(ثمَّ هو) أي: الوقتُ بعدَ أنْ يصيرَ ظلُّ كلَّ شيء مثلَيه، سوى ظلِّ الزَّوالِ (وقتُ ضرورةٍ إلى الغروبِ) مصدر غربتِ الشمسُ، بفتحِ الرَّاءِ وضمِّها، فتكونُ الصَّلاةُ فيه أداءً؛ لحديثٍ:"مَنْ أدركَ من العصرِ ركعةً قبلَ أنْ تغرُبَ الشمسُ، فقدْ أدرَكَها ". متفقٌ عليه
(4)
. ولا فرقَ بين المعذورِ وغيرِه، إلا في الإثمِ وعدمِه، فيحرُمُ التأخيرُ إليه بلا عذرٍ.
وحقيقةُ الغروبِ: هو سقوطُ قُرْصِ الشمسِ. قالَ في "المبدع"
(5)
: ويُعرفُ الغروبُ في العمرانِ بزوالِ الشعاعِ من رؤوسِ الجبالِ، وإقبالِ الظلامِ من المشرقِ.
(ثمَّ يليه) أي: وقتَ الضرورةِ للعصرِ: (وقتُ
(6)
المغربِ) لما في الحديث:
(1)
أخرجه مسلم (612).
(2)
سقطت: "على" من الأصل.
(3)
الشرح الكبير" (3/ 148).
(4)
أخرجه البخاري (579)، ومسلم (608) من حديث أبي هريرة.
(5)
"المبدع"(1/ 343).
(6)
في الأصل: "الوقت وقت ".
حتَّى يغيبَ الشَّفَقُ الأحمَرُ.
"ثمَّ أتاني جبريلُ حينَ سقطَ القرصُ" فقالَ: قثم فصلِّه. رواه الدارقطنيُّ
(1)
.
وهي لغةً: تطلقُ على وقتِ الغروبِ، وعلى مكانِه، فسُمِّيتْ صلاةُ المغربِ بذلك، لفعلِها في هذا الوقتِ. وهي وترُ النَّهارِ، لاتصالِها به، فكأنَّها فُعِلتْ فيه. وليس المرادُ الوترَ المشهورَ، بلْ إنَّها ثلاثُ ركعاتٍ.
ولا يُكره تسميتُها بالعشاءِ. قال في "الإنصاف": على الصحيحِ من المذهبِ. وتسميتُها بالمغربِ أَوْلى.
ولها وقتانِ. قال في "الإنصاف": على الصحيحِ من المذهبِ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ. وقتُ اختيارٍ، وهو إلى ظهورِ النجومِ. قال في " النصيحة " للآجري: من أخَّرَ حتى يبدوَ النجمُ، أخطأ. وما بعدَه، أي: بعد ظهورِ النجمِ وقتُ كراهةٍ.
وتعجيلُها أفضلُ، قال في " المبدع ": إجماعًا
(2)
.
ويمتدُّ وقتُها (حتى يغيبَ الشفقُ الأحمرُ) أي: في الحضرِ والسفرِ. وخرجَ بالأحمرِ؛ الأصفرُ والأبيضُ، إذ الشمسُ أوَّلُ ما تغربُ يعقبُها شعاعٌ، فإذا بعُدَتْ عن الأفقِ قليلًا، زالَ الشعاعُ وبقيتْ حمرةٌ. ثمَّ ترقُّ الحمرةُ وتنقلبُ صفرةً، ثمَّ بياضًا على حسبِ البعدِ، لحديثِ ابنِ عمرو
(3)
مرفوعًا: "وقتُ المغربِ ما لمْ يغبِ الشفقُ ". رواه مسلمٌ.
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 259) من حديث ابن عمر.
(2)
انظر "كشاف القناع"(2/ 93،92).
(3)
في الأصل: "عمر" والمثبت من "صحيح مسلم"(612).
ثمَّ يليه الوقتُ المختارُ للعشاءِ إلى ثُلُثِ اللِّيل،
(ثمَّ يليه) أي: وقتَ المغربِ: (الوقتُ المختارُ للعشاءِ) وهو أوَّلُ الظلامِ. وعرفًا: صلاةُ هذا الوقتِ. ويقالُ لها: عشاءُ الآخرةِ. ويمتدُّ وقتُها المختارُ (إلى ثلثِ الليلِ) لأنَّ جبريلَ صلَّاها بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليومِ الأوَّلِ حين غاب الشفقُ، وفي اليومِ الثاني حينَ كانَ ثلثُ الليلِ الأوَّلُ، ثمَّ قالَ:"الوقتُ فيما بينَ هذينِ ". رواه مسلمٌ
(1)
. وعن عائشةَ قالتْ: كانوا يصلُّونَ العتمةَ فيما بينَ أنْ يغيبَ الشفقُ إلى ثلثِ الليلِ. رواه البخاريُّ
(2)
.
وصلاتُها آخرَ الثلثِ الأوَّلِ من الليلِ أفضلُ؛ لقولِه عليه السلام: "لولا أنْ أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم أنْ يؤخِروا العشاءَ إلى ثلثِ الليلِ، أو نصفِه" رواه الترمذيُّ
(3)
وصحَّحَهُ.
ويُكره النَّومُ قبلَ صلاةِ العشاءِ، ولو كان له مَنْ يُوقِظُه، ويُكره الحديثُ بعدَها إلا يسيرًا مع أهلٍ أو ضيفٍ، فلا يُكره.
ولا يُكره
(4)
تسميتُها بالعتمةِ، لقولِ عائشةَ: كانوا يصلُّون العتمةَ فيما بين أنْ يغيبَ الشفقُ إلى ثلثِ الليلِ. رواه البخاريُّ
(5)
. والعتمةُ: شدَّةُ الظلمةِ، في اللغةِ. والأفضلُ أنْ تُسمَّى العشاءَ. قالَهُ في "المبدع ".
(1)
أخرجه مسلم (614) من حديث أبي موسى.
(2)
أخرجه البخاري (864).
(3)
أخرجه الترمذي (167) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: " ويكره ".
(5)
تقدم قريباً.
ثم هو وقت ضرُورةٍ إلى طلوع الفَجر.
ثمَّ يليه وقتُ الفَجرِ إلى شرُوقِ الشَّمس.
(ثمَّ هو) أي: الوقتُ بعدَ ثلثِ الليلِ (وقتُ ضرورةٍ إلى طلوعِ الفجرِ) الثاني؛ لحديثِ: "ليس في النَّومِ تفريطٌ، إنَّما التفريطُ في اليقظةِ، أنْ يؤخَّرَ الصَّلاةُ إلى أنْ يدخلَ وقتُ صلاةٍ أخرى". رواه مسلمٌ
(1)
.
والفجرُ: البياضُ المعترضُ بالمشرقِ، ولا ظلمةَ بعدَهُ. ويقالُ له: الفجرُ الصادقُ. والفجرُ الأوَّلُ يقالُ له: الفجرُ الكاذبُ، وهو مستطيل بلا اعتراضٍ، أزرقُ له شعاعٌ، ثمَّ يظلمُ. ولدقَّتِه يُسمَّى: ذنبَ السِّرْحانِ، وهو الذئبُ.
(ثمَّ يليه) أي: وقتَ الضرورةِ للعشاءِ: (وقتُ الفجرِ) إجماعًا. ويمتدُّ (إلى شروقِ الشمسِ) لحديثِ ابنِ عمروِ مرفوعًا: "وقتُ الفجرِ ما لمْ تطلعِ الشمسُ". رواه مسلمٌ
(2)
.
وتعجيلُها أفضلُ مطلقًا، أي: صيفًا وشتاءً. وأما حديثُ: "أسْفِرُوا بالفجرِ، فإنَّه أعظمُ للأجرِ". رواه أحمدُ وغيرُه
(3)
. وحَكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ أنَّ معنى الإسفارِ: أنْ يُضيءَ الفجرُ، فلا يُشكُّ فيه.
وسُنَّ جلوسُه بمصلَّاه بعد عصرٍ إلى الغروبِ، وبعدَ فجرٍ إلى الشروقِ، بخلافِ بقيَّةِ الصَّلواتِ.
(1)
أخرجه مسلم (681) من حديث أبي قتادة.
(2)
أخرجه مسلم (612).
(3)
أخرجه أحمد (518/ 28)(17286)، والترمذي (154) من حديث رافع بن خديج.
وصححه الألباني.
ويُدرَكُ الوقتُ بتكبيرةِ الإحرامِ.
ويُكره الحديثُ بعدَ صلاةِ الفجرِ في أمرِ الدنيا، حتى تطلعَ الشمسُ. ذكرهُ في "الإقناع"
(1)
.
ويُكره تأخيرها بعد الإسفارِ بلا عذرٍ. قالَهُ في "الرعاية"، وتبِعَهُ في "الإقناع ". ومقتضى كلامِ الأكثرِ: لا كراهَة
(2)
.
"فائدةٌ": وقتُ العشاءِ
(3)
في الطولِ والقصرِ، يتبعُ النَّهارَ، فيكونُ في الصيفِ أطولَ، ووقتُ الفجرِ يتبعُ الليلَ؛ فيكونُ في الشتاءِ أطولَ؛ لأنَّ النورين تابعانِ للشمس، هذا يتقدَّمُها، وهذا يتأخرُ عنها. فإذا كان في الشتاءِ، طالَ زمنُ مغيبِها، فيطولُ زمنُ الضوءِ التابعُ لها، وإذا كان في الصيفِ، طالَ زمنُ ظهورِها، فيطولُ زمنُ النُّورِ التابعُ لها.
(ويُدرَكُ) بالياء للمفعول. أي: يدرِكُ المصلِّي (الوقت) أي: وقت تلك المكتوبةِ، سواءٌ أخَّرَها
(4)
لعذرٍ، كحائضٍ تطهرُ، أو مجنونٍ يَفيقُ (بتكبيرةِ الإحرامِ) يأتي بها في تلك الصَّلاةِ؛ لحديثِ عائشةَ مرفوعًا:"مَنْ أدركَ سجدةً من العصرِ قبلَ أنْ تغرُبَ الشمسُ، أو من الصبحِ قبلَ أنْ تطلُعَ الشمسُ، فقدْ أدرَكَها"
(5)
رواه مسلمٌ
(6)
. وللبخاريِّ: "فليتمَّ صلاتَه"
(7)
. وكإدراكِ المسافرِ صلاةَ المقيمِ،
(1)
" الإقناع "(1/ 128).
(2)
انظر " كشاف القناع "(2/ 102).
(3)
كذا في الأصل. ولعل الصواب: " المغرب " وانظر: " كشاف القناع "(2/ 102).
(4)
في الأصل: "أخر".
(5)
كتب على هامش الأصل: "أي: أدركها أداء".
(6)
أخرجه مسلم (609).
(7)
أخرجه البخاري (556) من حديث أبي هريرة.
ويحرمُ تأخيرُ الصلاةِ عن وقتِ الجوازِ.
ويجوزُ تأخيرُ فِعْلِها في الوقتِ مع العَزمِ عليه. والصلاةُ أوَّلَ الوقتِ أفضلُ،
وكإدراكِ الجماعةَ.
ولو كانتِ المكتوبةُ جمعةً، وأدركَ منها تكبيرةَ الإحرامِ وفي وقتها، فقد أدركَها أداءً، كباقي
(1)
المكتوباتِ.
(ويحرُمُ تأخيرُ الصَّلاةِ عن وقتِ الجوازِ) أي: ولا يجوزُ تأخيرُ الصَّلاةِ التي لها وقتُ اختيارٍ ووقتُ ضرورةٍ، أو تأخيرُ بعضِها، إلى وقتِ الضرورةِ، ما لمْ يكنْ عذرٌ. قال في "المبدع ": ذكرَهُ الأكثر
(2)
. ومحلُّه: إنْ كان ذاكرًا لها، قادرًا على فعلِها.
(ويجوزُ تأخيرُ فعلِها) لمَنْ وجبتْ عليه (في الوقتِ) أي: وقتِ وجوبِها (مع العزمِ عليه) أي: على فعلِ الصَّلاةِ في الوقتِ المختارِ، كقضاءِ رمضانَ ونحوِه مما وقتُه موسَّعٌ، ما لمْ يظنَّ مانعًا من فعلِ الصَّلاةِ، كموتٍ، وقتلٍ، وحيضٍ، فيجبُ عليه أنْ يبادرَ بالصَّلاةِ قبل ذلك.
(والصَّلاةُ أوَّلَ الوقتِ، أفضلُ) لقولِهِ تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البَقَرَة: 148] وقولِ عائشةَ رضي اللَّه تعالى عنها: ما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةً لوقتِها الآخرِ مرتين. رواه
(3)
أحمدُ والدارقطنيُّ
(4)
. ولأنَّ المبادرةَ لامتثالِ الأوامرِ أَوْلى عند العقلاءِ، وأحوطُ في تحصيلِ المأمورِ به، لكثرةِ آفاتِ التأخيرِ.
(1)
في الأصل: "كما في".
(2)
انظر "كشاف القناع"(2/ 98).
(3)
تكررت: " رواه " في الأصل.
(4)
أخرجه أحمدُ (41/ 161)(24614)، والدارقطنيُّ (1/ 249). وصححه الألباني في " المشكاة "(608).
وتحصُل الفضيلة بالتأهُّبِ أوَّلَ الوَقتِ.
ويجبُ قضاءُ الصلاةِ الفائتةِ مرتَّبةً فَورًا،
قال الشيخُ تقيُّ الدين
(1)
: الصَّلاةُ في أوَّلِ الوقتِ، أفضلُ، إلا إذا كانَ في التأخيرِ مصلحةٌ راجحةٌ، كما في هذا البابِ مفَصَّلًا، وكما ذكَرَهُ في بابِ التيممِ: أنَّه يؤخِّرُ إذا رجى وجودَ الماءِ في آخرِ الوقتِ.
(وتحصلُ الفضيلةُ بالتأهبِ) للصَّلاةِ (أوَّلَ الوقتِ) بأنْ يشتغَلَ بالطَّهارةِ ونحوِها عندَ دخولِهِ
(ويجبُ) على مكلَّفٍ بلا مانغٍ به (قضاءُ الصَّلاةِ الفائتةِ) من الخمسِ (مرتَّبةً فورًا) لحديثِ أحمدَ
(2)
: أنَّه عليه السلام عامَ الأحزابِ صلَّى المغربَ، فلمَّا فرغَ، قالَ:"هلْ عَلِمَ أحدٌ منكم أنِّي صليتُ العصرَ؟ " قالوا: يا رسول اللهِ، ما صلَّيتَها. فأمرَ المؤذِّنَ، فأقامَ الصَّلاةَ، فصلَّى العصرَ، ثمَّ أعادَ المغربَ. وقدْ قالَ:"صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"
(3)
. وكالمجموعتين. ولو كثرتِ الفوائتُ، كما لو قلَّتَ.
فإنْ تركَ ترتيبَها بلا عذرٍ، لم تصحَّ؛ لأنَّه شرطٌ، كترتيبِ الركوعِ والسجودِ. إلا إذا خَشِيَ إنْ رتَّبَ فواتَ صلاةٍ حاضرةٍ، بخروجِ وقتِها، فيقدِّمُها؛ لأنَّها آكَدُ، وتركُه أيسرُ من تركِ الصَّلاةِ، في الوقتِ. أو خشِيَ خروجَ وقتِ اختيارٍ لصلاةٍ ذاتِ وقتينِ، فيصلِّي الحاضرةَ في وقتِها المختارِ؛ لأنَّه كالوقتِ الواحدِ، في أنَّه يجوزُ التأخيرُ إليه
(1)
انظر "الفتاوى الكبرى"(5/ 319).
(2)
أخرجه أحمد (28/ 180)(16975) من حديث حَبِيبِ بن سِبَاعٍ. وضعفه الألباني في " الإرواء "(261).
(3)
أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث.
ولا يَصِحُّ النَّفل المُطلقُ إذَنْ.
بلا عذرٍ. فإنْ صلَّى الفائتةَ مع خشيةِ فوت
(1)
الوقتِ، صحَّتْ نصًّا.
قال في "الإقناع"
(2)
: ولا يسقطُ بخشيةِ فوتِ الجماعةِ. وعنه: يسقطُ، اختارَهُ جماعةٌ.
(ولا يصحُّ النفلُ المطلقُ إذن) أي: عند ضيقِ الوقتِ، أو وقتِ الاختيارِ؛ لتحريمِه، كأوقاتِ النهي. أي: ابتداءُ نفلٍ. فلا مناقضةَ لقولِه
(3)
: وإلا أتمَّها نفلًا.
واحترزَ بالمطلقِ: عمَّا لَهُ سببٌ، كالرواتبِ، والتراويحِ، والوترِ، والكسوفِ، والاستسقاءِ. قال الشيخُ مرعي
(4)
: ويتجه احتمالٌ: ونحوِ ضُحىً، وتحيةِ مسجدٍ.
"فائدةٌ": ولا تسقطُ الفائتةُ بحجِّ، ولا تضعيفِ صلاةٍ في المساجدِ الثلاثِ، ولا غير ذلك. واختارَ الشيخ تقيُّ الدينِ: أنَّ تاركَ الصَّلاةِ عمدًا إذا تابَ، لا يُشرعُ له قضاؤُها، ولا تصحُّ منه، بلْ يُكثرُ من التطوعِ، وكذا الصومُ
(5)
.
قال ابنُ رجبٍ في "شرح البخاري"
(6)
: ووقعَ في كلامِ طائفةٍ من أصحابِنا المتقدمين أنَّه لا يجزئُ فعلُها إذا تركَها عمدًا، منهم الجوْزَجانيُّ، وأبو محمدٍ البربهاريُّ، وابنُ بطةَ.
وقولُه: "فورًا" مقيدٌ بما إذا لمْ يتضرَّرْ في بدنِه، أو في معيشةٍ يحتاجُها. فإنْ
(1)
سقطت: " فوت " من الأصل.
(2)
" الإقناع "(1/ 131).
(3)
في الأصل: " قوله ".
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 137).
(5)
انظر " الإنصاف "(3/ 182).
(6)
" فتح الباري "(3/ 355)، وانظر " الإنصاف "(3/ 182).
ويسقُطُ الترتيبُ بالنسيانِ، وبضيِقِ الوَقتِ، ولو للاختيَارِ.
تضررَ بسببِ ذلك، سقطتِ الفوريةُ، نصَّ عليه. قالَهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(ويسقطُ الترتيبُ بالنسيانِ) لأنَّه لا أمارةَ على المنسيَّةِ تُعلمُ بها، فجازَ أنْ يؤثِّرَ فيها النسيانُ، كالصيامِ، بخلافِ المجموعتين، فإنَّه لابدَّ من نيةِ الجمعِ، وذلك متعذرٌ مع النسيانِ.
وكذا لو نسيَ الترتيبَ بين حاضرةٍ وفائتةٍ حتى فرغَ من الحاضرةِ، فلا يلزمُه إعادتُها، نصًّا. وأما حديثُ صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الأحزابِ السابقِ، فيحتملُ أنَّه ذكرَها في الصَّلاةِ.
ولا يسقطُ الترتيبُ إنْ جهِلَ وجوبَهُ
(و) يسقطُ الترتيبُ (بضيقِ الوقتِ) يعني: يسقطُ الترتيبُ إنْ ضاقَ وقتُ الحاضرةِ، كما لو ذكرَ فائتةً إمامٌ أحرمَ بمكتوبةٍ حاضرةٍ، لم يضقْ وقتُها. أي: الحاضرةِ عنها وعن الفائتةِ، بأنْ اتَّسعَ لهما الوقتُ، قَطَعَ الإمامُ الحاضرةَ التي أحرمَ بها وجوبًا؛ لأنَّه لو لمْ يقطعْها كانت نفلًا، والمأمومونَ مفْترِضون خلْفَهُ، ثمُّ يستأنِفُها المأمومون. فإنْ ضاقَ وقتُ الحاضرةِ، أتمَّها الإمامُ وغيرُه، لسقوطِ الترتيبِ إذًا.
(ولو للاختيارِ) أي: خروجُ وقتِ الاختيارِ لصلاةٍ ذاتِ وقتين، فيصلِّي الحاضرةَ في وقتِها المختارِ؛ لأنَّه كالوقتِ الواحدِ في أنَّه لا يجوزُ التأخيرُ إليه بلا عذرٍ، فإنْ صلَّى الفائتةَ مع خشيةِ فوت
(2)
الوقتِ، صحَّتْ.
(1)
"الإنصاف"(3/ 182).
(2)
سقطت: "فوت" من الأصل.
السادس: سترُ العَورةِ -مع القدرةِ-
(السادسُ) من شروطِ الصَّلاةِ: (سترُ العورةِ) السَّتْرُ بفتح السين، مصدر ستَرَ، وبكسرِها: ما يُسترُ به.
والعورةُ لغةً: النقصانُ، والشيءُ المستقبحُ، ومنه: كلمةٌ عوراء
(1)
. أي: قبيحةٌ.
وشرعًا: سوأةُ الإنسانِ، أي: قُبُلُهُ ودُبُرُه. وسُمِّيَا سوأةً؛ لأنَّ كشْفَهما يسوءُ صاحبَهما.
"تنبيهٌ ": قدْ تُطلقُ العورةُ على ما يجبُ سترُه في الصَّلاةِ، وعلى ما يحرُمُ النظرُ إليه في الجملةِ. وهو: كلُّ ما يُستحيى منه إذا نُظِرَ إليه.
(مع القدرةِ) فلا تصحُّ صلاةٌ من مكشوفِها مع القدرةِ على الاستتارِ، لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائضٍ إلا بخمارٍ"
(2)
. وعن سلمةَ بنِ الأكوعِ قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أكونُ في الصَّيد
(3)
، فأصلِّي في القميصِ الواحدِ؟ قال:"نعمْ، وازرُرْه ولو بشوكةٍ"
(4)
رواهما ابنُ ماجه والترمذيُّ. وقالَ فيهما: حسنٌ صحيحٌ.
وقال ابنُ عبدِ البر
(5)
: أجمعوا على فسادِ صلاةِ مَنْ تركَ ثوبَهُ، وهو قادرٌ على الاستتارِ به، وصلَّى عُريانًا.
ويتفرعُ على اشتراطِ سترها عن نفسِه في الصَّلاةِ: لو صلَّى في قميصٍ واسعِ
(1)
في الأصل: "عورة".
(2)
أخرجه ابن ماجه (655)، والترمذي (377) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "الصلاة".
(4)
لم أجده عند ابن ماجه والترمذي. وقد أخرجه أبو داود (632). وحسنه الألباني.
(5)
"التمهيد"(6/ 379).
بشيءٍ لا يَصِفُ البَشرَةَ.
فعَورةُ الذَّكَرِ البالِغِ عشرًا، والحرَّةِ المميِّزةِ، والأمَةِ ولو مبعَّضةً: ما بينَ السُّرَّةِ والرُّكبَةِ.
الجيبِ، ولم يزررْه، ولم يشدَّ وسطَهُ، وكان بحيثُ يَرَى عورتَه في قيامِه، أو ركوعِه، أو سجودِه، لم تصحَّ صلاتُه، كما لو رآها غيرُه.
ويشترطُ في السَّترِ الواجبِ: (بشيءٍ لا يصفُ البشرةَ) أي: لونَها، من بياضِ أو حمرةٍ أو سوادَ؛ لأنَّ السترَ إنما يحصلُ بذلك. لا أن لا يصفَ حجمَ العضوِ؛ لأنَّه لا يمكنُ التحرزُ منه، ولو كان الساترُ ضعيفًا.
(فعورةُ الذَّكَرِ) والخُنثى؛ حرَّين كانَا، أو رقيقين، أو مبعَّضَّين (البالغِ عشرًا) من السنين (والحرَّةِ المميِّزةِ) أي: تمَّ لها سبعُ سنين (والأمةِ ولو مبعَّضةً) وأمِّ الولدِ، والمدبَّرةِ والمكاتبةِ، ومَنْ بعضُها حرُّ وبعضُها رقيقٌ:(ما بين السُرَّةِ والرُّكْبةِ) لمفهومِ حديثِ: "لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائضٍ إلا بخمارٍ"
(1)
.
وعُلِمَ منه: أنَّ السُرَّةَ والرُّكبةَ ليسا من العورةِ. وهذا كلُّه في الصَّلاةِ.
والمرادُ بالحائضِ: البالغُ. فتعلُّق صحَّةِ صلاتِها على سترِها بالخمارِ، دليلٌ على وجوبِ سترِ باقيها فيها.
ولأنَّه عليه السلام نهى عن الطوافِ بالبيتِ عُريانًا. فالصَّلاةُ أَوْلى بذلك؛ لأنَّها آكدُ منه.
قال في "المبدع"
(2)
: والأحسنُ في الاستدلالِ: أنَّه انعقدَ الإجماعُ على الأمرِ
(1)
تقدم قريبًا.
(2)
"المبدع"(1/ 359).
وعورَةُ ابنِ سَبعٍ إلى عَشرٍ: الفرجان.
والحرَّةُ البالغةُ كلُّهَا عورةٌ في الصَّلاةِ إلَّا وجهَهَا.
به في الصَّلاةِ، والأمرُ بالشيءِ نهيٌ عن ضدِّه، فيكونُ منهيًا عن الصَّلاةِ مع كشفِ العورةِ، والنهيُ يدلّ على الفسادِ.
والحكمةُ
(1)
في وجوبِ السترِ فيها: ما جرتْ عادةُ مَنْ يريدُ التمثيلَ بين يدي كبيرٍ، التجمُّلِ بالسَّتْرِ، والمصلِّي يريدُ التمثيلَ بين يدي ملكِ الملوكِ، فالتجمُّلُ له بذلك أَوْلى.
(وعورةُ) ذكرٍ وخنثى (ابنِ سبعِ) سنينَ (إلى عشرِ) سنينِ: (الفرجانِ) لقصورهِ عن ابنِ عشرٍ؛ لأنَّه لا
(2)
يمكنُ بلوغُه. وعُلِمَ منه: أنَّ مَنْ دونَ سبعٍ لا حكمَ لعورتِهِ، لأنَّ حكمَ الطفوليَّةِ منجرٌّ عليه إلى التمييزِ. وظاهرُه: أنَّ هذه عورتُه في الصَّلاةِ وخارجِها.
(والحرَّةُ البالغةُ كلُّها عورة في الصَّلاةِ) حتى ظُفرُها وشعرُها، نصًّا (إلا وجهَهَا) قال جمعٌ: وكفيها. [لحديث: "المرأةُ عورةٌ ". رواه الترمذيُّ]
(3)
، وقال: حسنٌ صحيحٌ. وهو عامٌّ في جميعِها، تُرِكَ في الوجهِ للإجماعِ، فيبقى العمومُ فيما عداهُ.
وقولُ ابنِ عباسٍ، وعائشةَ في قولِهِ تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ
(1)
في الأصل: "والحمكة".
(2)
سقطت: "لا" من الأصل.
(3)
ساقط ما بين المعكوفين من الأصل. والمثبت من " دقائق أولي النهى "(1/ 300)، والحديث أخرجه الترمذي (1173) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني.
وشُرِطَ في فرضِ الرَّجُلِ البالِغ سَترُ أحَدِ عاتقَيه بشَيءٍ مِنَ اللِّباسِ.
ومن صلَّى في مغصُوبٍ،
مِنْهَا} [النُّور: 31]: قالا: الوجهُ والكفين
(1)
. خالفَهُما ابنُ مسعودٍ فقال: الثيابُ
(2)
. ولأنَّ الحاجةَ لا تدعو إلى كشفِ الكفينِ، كما تدعو إلى كشفِ الوجهِ، وقياسًا لهما على القدمين.
وأما عورتُها خارجَ الصَّلاةِ، فكلُّها عورةٌ، حتى وجهَها بالنسبةِ إلى الرجلِ والخنثى، وبالنسبةِ إلى مثلِها عورتُها: ما بين السُرَّةِ والرُّكبةِ.
(وشُرِطَ في فرضِ) ظاهرُه: ولو فرضَ كفايةٍ، مع سترِ عورةٍ (الرَّجُلِ المالغِ: سترُ أحدِ عاتقيه) أي: الرُّجلِ، ومثلُه الخنثى (بشيءِ من اللِّباس)، لحديث أبي هريرة مرفوعًا:"لا يصلِّي الرَّجلُ في الثوبِ الواحدِ، ليس على عاتِقِه منه شيءٌ". رواه الشيخان
(3)
. والعاتقُ: موضعُ الرداءِ من المنكب
(4)
. ولا فرقَ في اللباسِ بين أنْ يكونَ مما سترَ به عورتَه، أو غيرَه. ولو وصفَ البشرةَ، لعمومِ قولِه عليه السلام:"ليس على عاتِقِه من شيءٌ" فإنَّه يعمُّ ما يسترُ البشرةَ، وما لا يسترُ.
(ومَنْ صلَّى في مغصوبٍ) عينًا أو منفعةً. ومثلُه مسروقٌ، وما ثمنُه حرامٌ. ولو كان الثوبُ المغصوبُ لا يليَ عورتَه، كما لو كان فوقَ ثويه غيرُ مغصوبٍ. ثوبًا كان المغصوبُ، كلُّه أو بعضُه، أو بقعةً، لم تصحَّ.
(1)
أخرجه البيهقي عنهما في "الكبرى"(2/ 225، 226).
(2)
أخرجه الطبراني (9/ 228).
(3)
أخرجه البخاري (359)، ومسلم (516).
(4)
في الأصل: "المتكئِ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويلحقُ به لو صلَّى في ساباطٍ لا يحلُّ إخراجُه. أو غصبَ راحلةً وصلَّى عليها، أو لوحًا فجعلَه سفينةً. أو حجَّ بمالٍ مغصوبٍ، أو على حيوانٍ مغصوبٍ، عالمًا بأنَّ ما صلَّى فيه أو حجَّ به مُحرَّمٌ، ذاكرًا له وقتَ العبادةِ، لم يصحَّ ما فعله؛ لحديثِ عائشةَ مرفوعًا:"مَن عملَ عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ" أخرجوه
(1)
. ولأحمدَ
(2)
: "من صنعَ أمرًا على غيرِ أمرِنا، فهو مردودٌ ". ولأنَّ الصَّلاةَ والحجَّ قربةٌ وطاعةٌ، وقيامُه وقعودُه ومسيرُه بمحرَّمٍ، منهي عنه، فلا يكونُ متقربًا بما هو عاصٍ به، ولا مأمورًا بما هو منهيٌّ عنه.
فإنْ كانَ جاهلًا، أو ناسيًا للغصبِ ونحوِه، صحَّ. ذكرَهُ المجدُ إجماعًا.
"فائدةٌ": يصحُّ الوضوءُ، والأذانُ، وإخراجُ الزكاةِ، والصومُ، والعقدُ، في مكانٍ غصبٍ، على الصحيحِ.
وكذا عبادةُ مَنْ تقوَّى عليها بمحرَّمٍ. وقال أحمدُ في بئرٍ حفرتْ بمالٍ غصبٍ: لا يتوضَّأُ منها. وعنه: إنْ لمْ يجدْ غيرَها: لا أدري.
وكذا: صلاةُ من طُولِبَ بردِّ
(3)
وديعةٍ، أو غصبٍ، قبلَ دفعِه إلى ربِّه، على الصحيحِ. قالَهُ في "الإنصاف"
(4)
.
وفيه أيضًا
(5)
: لا بأسَ بالصَّلاةِ في أرضِ غيرِه أو مصلَّاه بلا غصبٍ، بغيرِ إذنِه، على الصحيحِ من المذهبِ.
(1)
أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(2)
أخرجه أحمد (40/ 507)(24450) من حديث عائشة.
(3)
سقطت: (برد) من الأصل.
(4)
"الإنصاف"(227/ 3).
(5)
"الإنصاف"(3/ 304).
أو حريرٍ -عالمًا ذاكرًا- لم تصِحَّ.
ويُصلِّى عُريانًا مع غَصْبٍ، وفي حرَيرٍ، لعدَمٍ، ولا يُعيدُ، وفي نَجِسٍ، لعدَمٍ، ويُعيدُ.
ويحرُمُ على الذُّكُورِ -لا الإناثِ- لُبسُ منسوجٍ ومموَّهٍ بذَهَبٍ
وإنْ غيرَ هيئةَ مسجدٍ غصبَهُ، فكغصبٍ
(أو حريرٍ) كلِّه. أو فيما غالبُه حريرٌ، حيث حرُمَ، لم تصحَّ، ولم يكنْ الحريرُ لحاجةٍ. أو صلَّى في منسوجٍ بذهبٍ أو فضةٍ (عالمًا) بأنَّ ما صلَّى فيه محرَّمٌ (ذاكرًا) له وقتَ العبادةِ (لم تصحَّ) تلك العبادةُ.
(ويصلِّي عُريانًا مع) ثوبٍ (غصبِ) لأنَّه يحرمُ استعمالُه بكلِّ حالٍ، ولأنَّ تحريمَه لحقِّ آدميٍّ، أشبَه مَنْ لم يجدْ إلا ماءً مغصوبًا (وفي) ثوبٍ (حريرٍ؛ لعدمِ) غيرِه، ولو مُعارًا؛ لأنَّه مأذونٌ في لبسِه في بعضِ الأحوالِ، كالحكةِ، وضرورةِ البردِ، وعدمِ سُترةِ غيرِه. فقدْ زالتْ علةُ تحريمِ الصَّلاةِ فيه (ولا يعيدُ) مَنْ صلَّى عُريانًا مع غصبٍ، أو في حريرٍ لعدمٍ؛ لما تقدَّمَ
(وفي نجسٍ؛ لعدمِ) غيرِه، مع عجزٍ عن تطهيرِه في الوقتِ؛ لأنَّ السترَ آكدُ من إزالةِ النجاسةِ؛ لوجوبِه في الصَّلاةِ وخارجِها، ويتعلّقِ حقُّ الآدميِّ به. (ويعيدُ) مَنْ صلَّى في ثوبٍ نجسٍ لعدمٍ؛ لأنَّه قادرٌ على اجتنابِه في الجملةِ، وإنما قُدِّمَ الآكدُ عند التزاحمِ، فإذا زالَ المزاحِمُ بوجودِ ثوبٍ طاهرٍ، وجشا الإعادةُ؛ لاستدراكِ ما حصلَ من الخللِ، بخلافِ المحبوسِ بمكانٍ نجسٍ، فإنَّه عاجزٌ عن الانتقالِ عنه بكلِّ حالٍ. ومَنْ عندَهُ ثوبانِ نجسانِ، صلَّى في أقلِّهما.
(ويحرُمُ على الذُّكُور، لا الإناثِ، لُبْسُ منسوجٍ) بذهبٍ أو فضةٍ (ومموَّهٍ بذهبٍ
أو فِضَّةٍ، ولُبْسُ ما كلُّه أو غالِبُهُ حَريرٌ.
أو فضَّةٍ، ولُبْسُ ما كلُّه) حريرٌ، (أو) ما (غالبُه) ظهورًا، كما في "التنقيح ". وظاهرُه: ولو قلَّ وزنًا. وقيل: الاعتبارُ بالغالبِ في الوزنِ. قدَّمَه في "الرعاية"، وأطلَقَه في "الفروع" و"الآداب" و"الفائق" وابنُ تميمٍ في "الحواشي". (حريرٌ) ولو كان بطانةً؛ لحديثِ عمرَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تلْبَسوا الحريرَ، فإنَّ مَنْ لبسَه في الدنيا، لم يلبسْه في الآخرةِ". متفقٌ عليه
(1)
.
قال في " الفروع "
(2)
: حتى تِكَّةٌ
(3)
وشَرَّابةٌ
(4)
، نصَّ عليه. والمرادُ: شرَّابةٌ مفردةٌ، كشرَّابةِ البريدِ، لا تبَعًا. انتهى.
وحرُمَ افتراشُه، واستنادٌ إليه، وتعليقُه. ويدخلُ فيه بَشَخانةٌ، وخيمةٌ، ونحوهُما. وحرَّم الأكثرُ استعمالَه مطلقًا، فدخلَ فيه: تِكَّةٌ، وشَرَّابةٌ مفردةٌ، وخيطُ مَسْبَحةٍ.
وحرمَ كتابةُ مهرٍ فيه. وحرُمَ سترُ جُدُرٍ به، غيرِ الكعبةِ المشرَّفةِ، زادَها اللهُ تعظيمًا وتشريفًا، فيجوزُ سترُها بالحريرِ. وكلامُ أبي المعالي يدُلُّ على أنَّه محلّ وفاقٍ.
ومحلُّ تحريمِ استعمالِ الحريرِ: إذا كان بلا ضرورةٍ، كبردٍ، وقملٍ. أو لم يجدْ غيرَه
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (5834)، ومسلم (2069).
(2)
" الفروع "(2/ 66).
(3)
التِّكَّةُ بالكسرِ: رِباطُ السَّراويلِ. " القاموس المحيط "(تكك).
(4)
الشَّرَّابَةُ: ضمة من خيوط توضع على طرف الحزام، أو الثوب، أو على الطربوش؛ للزركشة. "معجم الألفاظ العامية"(شرب).
(5)
في الأصل: "أو لم يجدْ غيرَه، وقملٍ ".
ويُباحُ ما سُدِّيَ بالحريرِ وأُلحِمَ بغيرِه، أو كانَ الحريرُ وغيرُهُ في الظُّهُورِ سِيَّان.
قولُه: "أو غالبُه حريرٌ" هذا إذا سُدِّي بالحريرِ وغيرِه، وأُلحمَ بهما، أو بالحريرِ وحدَه، أو سُدِّي بالحريرِ وحدَه، وأُلحمَ بهما، كما سيأتي من جوازِ الخزِّ.
(ويُباحُ ما سُدِّي بالحريرِ، وأُلحم بغيرِه) من نحوِ صوفٍ، أو قطنٍ، أو كتانٍ. قال في "الإنصاف"
(1)
: والصحيحُ من المذهبِ إباحةُ الخزِّ، نصَّ عليه. وفرَّقَ الإمامُ أحمدُ بأنَّه لبسُ الصَّحابةِ، وبأنَّه لا سرَفَ فيه ولا خيلاءَ. وجزمَ به في "الكافي" و "المغني" و"الشرح".
قال المجدُ في "شرحه" وغيره: الخزُّ: ما سُدِّي بالإبْرِيْسَم، وأُلحمَ بوبرٍ، أو صوفٍ ونحوِه؛ لغلبةِ اللُّحمةِ على الحريرِ.
(أو كان الحريرُ وغيرُه في الظُّهورِ سِيَّان) أي: ساوى الحريرُ غيرَه في الظُّهورِ؛ لما روى ابنُ عباسٍ أنَّه قال: إنمَّا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوبِ المُصمتِ من الحريرِ، وأمَّا العلَمُ وسَدَى الثوبِ، فليسَ به بأسٌ. رواه أبو داودَ
(2)
، والأثرمُ.
ولأنَّ الحريرَ إذا ساوى غيرَه في الظهورِ، لم يكنْ أغلبَ، وإذا نُفي دليلُ الحرمةِ، بقي أصلُ الإباحةِ، ولو زادَ الحريرُ وزنًا، فلا يحرُمُ.
"فروعٌ": يُكره لبسُ ما فيه شهرةٌ، وخلافُ زيِّ بلدهِ من اللِّباسِ، على الصحيحِ من المذهبِ.
ولا يجوزُ لبسُ ما فيه صورةُ حيوانٍ، في أحدِ الوجهين، وهو المذهبُ. صحَّحه
(1)
"الإنصاف"(3/ 261).
(2)
أخرجه أبو داود (4057)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في "التصحيح" و"النظم". وجزمَ به في "الهداية" و"المذهب" و"مسبوك الذهب ".
ولو أُزيلَ من الصورةِ ما لا تبقى معه الحياةُ، زالتِ الكراهةُ، على الصحيحِ من المذهبِ، نصَّ عليه. وقيلَ: الكراهةُ باقيةٌ. ومثلُ ذلك صورُ الشجرِ ونحوه، وتمثالٌ.
"فائدةٌ": يحرُمُ تصويرُ ما فيه روحٌ، ولا يحرُمُ تصويرُ الشجرِ ونحوِه، والتمثالِ مما لا يشابِهُ ما فيه روحٌ، على الصحيحِ من المذهبِ. وأطلقَ بعضُهم تحريمَ التصويرِ، وهو من المفرداتِ. وقال في "الوجيز": ويحرُمُ التصويرُ، واستعمالُه. وكَرِه الآجريُّ وغيرُه الصَّلاةَ على ما فيه صورةٌ.
ويحرمُ تعليقُ ما فيه صورةُ حيوانٍ. وسترُ الجُدُرِ به.
ويُكره الصليبُ في الثوبِ ونحوِه، على الصحيحِ من المذهبِ، وعليه الأصحابُ، ويحتملُ تحريمُه. وهو ظاهرُ نقلِ صالحٍ. وقالَ في "الإنصاف": وهو الصوابُ
(1)
.
ويباحُ العلَمُ الحريرُ في الثوبِ، إذا كان أربعَ أصابعَ، فما دون. يعني: مضمومةً. وهذا المذهبُ، نصَّ عليه. وقدَّمه في "الفروع"، وجزمَ به في "المغني" و"الشرح"
وقال ابنُ أبي موسى: لا بأسَ بالعلَمِ الدقيقِ
(2)
دون العريضِ. وقال أبو بكر: يباحُ، وإن كان مُذَهَّبًا. وهو روايةٌ عن أحمدَ، اختارَها المجدُ، والشيخُ
(1)
انظر "الإنصاف"(3/ 257).
(2)
في الأصل: "الرقيقِ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقي الدين
(1)
.
ويُكره للرجلِ المُزعفرُ والمعصفرُ. هذا المذهبُ، وعليه جمهورُ الأصحابِ. وجزمَ به في "المغني".
وذكَرَ الآجريّ والقاضي وغيرُهما تحريمَ المُزعفرِ. وفي المزعفرِ وجهٌ: يُكره في الصَّلاةِ فقطْ. وهو ظاهرُ ما في "التلخيص". قالَهُ في "الآداب".
فعلى القولِ بالتحريمِ: لا يُعيدُ مَنْ صلَّى في ذلك، على الصحيحِ من المذهبِ.
وكذا لو كان لابسًا ثيابًا مُشبلَةً، أو خُيلاءَ ونحوَه. وعليه الجمهورُ. وقيل: يعيدُ. واختارَهُ أبو بكرٍ.
ويُكره للرجلِ لبسُ الأحمرِ المُصْمَتِ، ولو بطانةً، على الصحيحِ من المذهبِ، نصَّ عليه، وعليه الجمهورُ، وهو من المفرداتِ.
ويُسنُّ لبسُ الثيابِ البيضِ، والنظافةُ في ثوبه وبدنِه. ويباحُ لبسُ السوادِ مطلقًا، على الصحيحِ من المذهبِ
(2)
.
"فائدةٌ": ما حرُمَ استعمالُه، حرُمَ بيعَه وخياطتُه وأجرتُها، نصَّ عليه.
"فائدةٌ": لا بأسَ بالتطيبِ في بدنِه وثوبه. والذؤابةِ وإرسالِها خلفَهُ. قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: وإطالتُها كثيرًا من الإسبالِ
(3)
.
وسُنَّ لمَنْ لبسَ ثوبًا جديدًا قولُ: الحمدُ للهِ الذي كساني هذا، ورزَقَنيهِ من غيرِ
(1)
انظر "الإنصاف"(3/ 270).
(2)
انظر " الإنصاف"(3/ 271) فما بعدها.
(3)
في الأصل: "الإرسالِ".
السَّابعُ: اجتنابُ النَّجاسةِ
حولٍ منِّي ولا قوةٍ. وأنْ يتصدَّقَ بالخَلَقِ العتيقِ النَّافعِ.
ولا بأسَ بلبسِ الفِراء، بكسر الفاء، إذا كانتْ من جلدِ مأكولٍ مباحٍ مذكَّى. وتصحُّ الصَّلاةُ فيها، كسائرِ الطَّاهراتِ.
ولا تصحُّ الصَّلاةُ في غيرِ ذلك، أي: غيرِ جلدِ مأكولٍ مذكَّى، كجلدِ ثعلبٍ، وسَمُّورٍ
(1)
، وفَنَكٍ، وقاقمٍ، ومِشَّورٍ، وسِنْجابٍ، ونحوِه، كذئبٍ ونمرٍ، ولو ذُكِّيَ، أو دُبغَ؛ لأنَّه لا يطْهُرُ بذلك، كلحمِه.
ويُكره في الثيابِ ما تظنُّ نجاستُه لتربيةٍ -كثيابِ المرأةِ المربيةِ للأطفالِ- ورضاعٍ، وحيضٍ، وكثرةِ مُلابستِها للنجاسةِ ومباشرتِها، وقلَّةِ التحرُّزِ منها في صنعةٍ وغيرِها
(2)
.
ولا بأسَ بلبسِ الأصوافِ، والأوبارِ، والأشعارِ، من حيوانٍ طاهرٍ؛ حيًّا كان أو ميتًا، لقولِه تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النّحل: 80].
"تتمةٌ": قال عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الأنصاريُّ: ينبغي للفقيهِ أنْ تكونَ له ثلاثةُ أشياءَ جديدةٍ: سراويلُه، ومَداسُه، وخرقةٌ يصلِّي عليها
(3)
.
ولا بأسَ بالصَّلاةِ على ما عُمِلَ من القطنِ، والكتانِ، والصوفِ، والشعرِ، والحُصرِ.
(السابعُ) من شروطِ الصَّلاةِ: (اجتنابُ النجاسةِ) وهي لغةً: ضدُّ الطَّهارةِ.
(1)
سمور: كتَنُّورٍ: دابَّةٌ يُتَّخَذُ من جِلْدِها فِراءٌ مُثْمِنَةٌ. "القاموس المحيط" ص (525).
(2)
انظر " كشاف القناع "(2/ 183).
(3)
انظر "كشاف القناع"(2/ 187).
لِبَدَنِهِ، وَثَوبِه،
وشرعًا: عينٌ أو صفةٌ منعَ الشرعُ منها بلا ضرورةٍ، لا لأذىً فيها طبعًا، ولا لحقِّ اللهِ تعالى، أو غيرِه شرعًا.
فقوله: " عينٌ " وهي النجاسةُ العينيةُ، كالروثِ.
وقولُه: "أو صفةٌ" كأثرِ بولٍ بمحل طاهرٍ، وهي الحكميةُ الطارئةُ على محلٍّ طاهرٍ. و"أو" هنا للتقسيمِ والتنويعِ، لا للترديدِ. يعني: أنَّ النجاسةَ قسمانِ: عينيةٌ: وهي كلُّ عينٍ منعَ الشرعُ منها .. إلى آخرِ الحدِّ. وحكميةٌ: وهي صفة تطرأ على عين طاهرة فيمنع الشرع منها .. إلى آخر الحد.
وقوله: "منعُ الشرعُ منها، بلا ضرورةٍ" يعني: إنما منعَ الشرعُ من تناولِها عند عدمِ الاضطرارِ إليها، ولهذا جازَ تناولُها عند الضرورةِ، كالماءِ النجسِ، فإنَّه يُباحُ شربُه عند عدمِ غيرِه، وكالميتةِ النجسة عند الاضطرارِ.
وقولُه: "لا لأذى فيها طبعًا" ليخرجَ السمومَ وغيرَها بما يضرُّ في عقلٍ، أو بدنٍ، فإنَّ الشرعَ منعَ من تناولِ ذلك لأذاه، بخلافِ النجاسةِ.
قولُه: "ولا لحقِّ اللهِ تعالى" بخلافِ النجاسةِ.
وقولُه: "أو غيرِه شرعًا" احترزَ عن مالِ الغيرِ بغيرِ إذنِه، فيحزمُ تناولُه؛ لمنعِ الشرعِ منه لحقِّ مالِكِه.
زادَ بعضُهم: "ولا لحرمتِها" احترازٌ عن ميتةِ الآدمي. "ولا لاستقذارِها" احترازٌ عن نحوِ منيٍّ ومخاطٍ ونحوِهما.
(لبدنِه، وثوبِه) أي: بدنِ مصلِّ وثوبِه، من نجاسةٍ غيرِ معفوٍ عنها. شرطٌ لصحةِ الصَّلاةِ؛ لقولِهِ تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . وقولِه عليه السلام:
وبقعتِه، مَعَ القُدرَةِ.
فإن حُبِسَ ببقُعَةٍ نجِسَةٍ وصلَّى، صحَّتْ، لكنْ يُومِئُ بالنَّجاسةِ الرَّطْبَةِ غايةَ ما يُمكِنُهُ، ويجلِسُ على قدمَيه.
وإنْ مسَّ ثوبُه ثوبًا نجِسًا، أو حائطًا لم يستَنِدْ إليه، أو صلَّى على طاهِرٍ
"تنزَّهوا من البولِ، فإنَّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه"
(1)
. وقولِه، وقدْ سُئِلَ عن دمِ الحيضِ يكونُ في الثوبِ:"اقْرصيه، وصلِّي فيه" رواه أبو داود
(2)
من حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ. وأمرِه عليه السلام بصبِّ ذَنوبٍ من ماءٍ على بولِ الأعرابيِّ، إذ بالَ في طائفةِ المسجدِ
(3)
. ولا يجبُ ذلك في غيرِ الصَّلاةِ، فتعيَّنَ أن يكونَ شرطًا فيها، إذ الأمرُ بالشيءِ نهيٌّ عن ضدِّه. والنهيُّ في العباداتِ يقتضي الفسادَ.
(وبقعتِه) أي: موضعِ صلاتِهِ. وهو محلُّ بدنِه وثويه، وهو الموضعُ الذي يقعُ عليه أعضاؤُه وثيابُه. (مع القُدرةِ) على إزالتِها
(فإنْ حُبِسَ ببقعةٍ نجسةٍ وصلَّى، صحَّتْ) صلاتُه الكنْ يُومِئُ بالنَّجاسةِ الرَّطْبةِ، غايةَ ما يمكنُه، ويجلسُ على قدميه) ولا إعادةَ عليه.
(وإنْ مسَّ ثوبُهُ ثوبًا نجسًا، أو حائطًا) نجسًا (لمْ يستندْ إليه) في حالِ قيامِه، أو قعودِه، أو ركوعِه وسجودِه، صحَّتْ صلاتُه؛ لأنَّه يصيرُ كالبقعةِ له.
(أو صلَّى على طاهرٍ) من حصرٍ، أو بساطٍ
(1)
أخرجه الدارقطني 1/ 127 من حديث أنس. وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(159). وانظر "الإرواء"(280).
(2)
أخرجه أبو داود (360)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (221)، ومسلم (284) من حديث أنس.
طَرَفُهُ متَنجِّسٌ، أو سقطَت عليه النَّجاسةُ فزالَت، أو أزالَها سريعًا، صحَّتْ.
(طَرَفُه متنجسٌ) فتصحُّ، ولو تحرَّكَ المتنجسُ بحركتِه، من غيرِ متعلِّقٍ ينجَزُ به.
وكذا لو كان تحتَ قدمِه حبلٌ طاهرٌ مشدودٌ في نجاسةٍ؛ لأنَّه ليسَ بحاملٍ للنجاسةِ، ولا مصلٍّ عليها، أشبَهَ ما لو صلَّى على أرضٍ طاهرةٍ متصلةٍ بأرضٍ نجسةٍ.
فإنْ كان النجسُ متعلِّقًا بالمصلِّي، بحيثُ ينجرُّ معه إذا مشيَ، كما لو كان بيدِه أو وسطِه حبلٌ مشدودٌ في نجاسةٍ، أو حيوانٍ نجسٍ، أو سفينةٍ صغيرةٍ فيها نجاسةٌ، بحيثُ تنجرُّ معه إذا مشى، لم تصحَّ صلاتُه؛ لأنَّه مستتبعٌ للنجاسةِ، أشبَه ما لو كان حامِلَها.
فإن كانتْ السفينةُ كبيرةً، أو الحيوانُ كبيرًا لا يقدرُ على جرِّه إذا استعصَى عليه، صحَّتْ صلاتُه؛ لأنَّه ليس بمستتبعِ لها.
قال في "الفروع": وظاهرُ كلامِهم: أَنَّ ما لا ينجرُّ تصحُّ لو انجر. ولعلَّ المرادَ خلافُه، وهو أَوْلى. ولو كان بيدِه حبلٌ، طرفُه على نجاسةٍ يابسةٍ، فمقتضى كلامِ الموفقِ: الصحَّةُ. وفي "الإقناع": لا تصحُّ.
(أو سقطتْ عليه النَّجاسةُ، فزالتْ، أو أزالَها سريعًا، صحَّتْ) صلاتُه. ومحلُّه: إذا كانتْ يابسةً؛ لحديثِ أبي سعيدٍ: بينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلِّي بأصحابِه؛ إذ خلعَ نعليه، فوضعَهما عن يسارِه، فخلعَ الناسُ نعالَهم. فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاتَه، قال:"ما حملَكُمْ على إلقائِكم نعالَكم؟ " قالوا: رأينَاكَ ألقيت نعليك
(1)
، فألقينا نعالَنا. قال:"إنَّ جبريلَ أتاني، فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا ". رواه أبو داودَ
(2)
. ولأنَّ من النجاسةِ ما يُعفى عن يسيرِها، فعفي عن يسيرِ زمنِها، ككشفِ العورةِ.
(1)
سقطت: "ألقيت نعليك" من الأصل.
(2)
أخرجه أبو داود (650)، وصححه الألباني.
وتَبطُلُ إنْ عَجَزَ عن إزالتِها في الحالِ، أو نَسيَهَا، ثمَّ عَلِمَ.
ولا تصحُّ الصلاة في الأرضِ المغصُوبَةِ، وكذا
(وتبطلُ إن
(1)
عَجَزَ عن إزالتِها في الحالِ) أي: عجزَ عن إزالتِها سريعًا. فإنْ صلَّاها، لا تصحُّ؛ لإفضاءِ ذلك إلى أحدِ أمرينِ؛ إمَّا استصحابُ النجاسةِ في الصَّلاةِ زمنًا طويلًا. وإمَّا أنْ يعملَ فيها عملًا كثيرًا يبطلُ للصَّلاةِ.
(أو نسيَها ثمَّ علِمَ) بعد فراغِ الصَّلاةِ، أي: فلا تصحُّ.
أو جهِلَ
(2)
عينَها. أي: هلْ هي نجاسةً، أو لا، كما لو كانتْ روثًا، وجهِلَ: هلْ هو روثٌ طاهرٌ أو نجسٌ؟ ثمَّ بعدَ الفراغِ علِمَ أنَّه روثُ حمارٍ.
أو جهِلَ حكْمَها. أي: بأنْ علِمَ أنَّها نجاسةٌ، لكنْ كان عاميًّا يجهلُ عدمَ صحةِ الصَّلاةِ معها، ثمَّ أُخبرَ بذلك بعد فراغِها.
أو كان يظنُّ أنَّها نجاسةٌ معفوٌ عنها، ثمَّ أُخبرَ بعدمِ العفوِ بعد فراغِها.
أو جهلَ أنَّها كانتْ في الصَّلاةِ، ثمَّ علِمَ أنَّها كانتْ في الصَّلاةِ بعدَ
(3)
أنْ صلَّى جاهلًا وجودَها في الصَّلاةِ.
فإنَّ صلاتَه
(4)
لا تصحُّ في هذه الصورِ كلِّها؛ لأنَّ اجتنابَ النجاسةِ في الصلاةِ شرطٌ لصحتِها، فلمْ يسقطْ بالنسيانِ، ولا بالجهلِ، كطهارةِ الحدثِ. وفي ذلك روايةٌ بالصِّحةِ.
ثمَّ ذكر المصنِّفُ الأماكنَ التي لا تصحُّ الصَّلاة فيها، فقال:
(ولا تصحُّ الصَّلاةُ) فرضٌ ولا نفلٌ، تعبَّدًا (في الأرضِ المغصوبةِ، وكذا
(1)
في الأصل: "عن".
(2)
في الأصل: "وجهل".
(3)
في الأصل: "ثم بعد".
(4)
في الأصل: "فإنْ صلَّاها، فإنَّ صلاتَه".
المقبَرةُ، والمجزَرةُ، والمزبلَةُ، والحُشُّ، وأعطانُ الإبِلِ،
المقبَرةُ) أي: فلا تصحُّ في المقبرةِ -بتثليث الباء- بُني لفظُها من لفظِ القبرِ؛ لأنَّ الشيء إذا كثرَ بمكانٍ، جازَ أنْ يُبنى له اسمٌ من اسمِه، كقولِهم: مَسبَعةٌ: لمكانٍ كثيرِ السباعِ. ومَضبَعةٌ
(1)
: لمكانٍ كثرَ فيه الضباعُ
(2)
.
والدليلُ على منعِ صحةِ الصَّلاةِ في المقبرةِ: ما روى سمرةُ بنُ جندبٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإنِّي أنهاكم عن ذلك ". رواه مسلمٌ
(3)
.
ولا يضرُّ قبرانِ، ولا ما دفنَ بدارِه، ولا ما أُعدَّ لذلكِ ولمْ يدفنْ فيه. وظاهرهُ: لم تصحَّ بمحلٍّ فيه ثلاثة قبورٍ.
(و) لا تصحُّ تعبَّدًا في (المجزرةِ) وهي المكانُ المعدُّ للذبحِ. قال بعضُهم: ولا فرقَ بين الموضعِ الطاهرِ منها والنجسِ.
(و) لا تصحُّ تعبَّدًا في (المزبلةِ) وهي موضعُ مرمى الزبالةِ، بفتح الباء وضمها.
(و) لا تصحُّ تعبَّدًا في (الحُشِّ) بفتح الحاء وضمها. ولو
(4)
مع طهارتِه من النجاسةِ. وهو لغةً: البستانُ، ثمَّ أُطلِقَ على محلِّ قضاءِ الحاجةِ؛ لأنَّ العربَ كانوا يقضون حوائِجَهم في البساتين، وهي الحشوشُ، فسُمِّيتِ الأخليةُ في الحضرِ حُشوشًا لذلك.
(و) لا تصحُّ تعبَّدًا في (أعطانِ الإبلِ): واحدُها: عطَنٌ -بفتح الطاء- وهي المعاطنُ. وهي: ما تقيمُ فيها الإبلُ، وتأوي إليها. قاله الإمامُ أحمدُ رضي اللَّه تعالى
(1)
في الأصل: "ومَصبَعةٌ ".
(2)
في الأصل: "الصباغ" وانظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 332).
(3)
أخرجه مسلم (532).
(4)
سقطت "ولو" من الأصل.
وقارِعة الطريقِ، والحمَّامُ،
عنه. وقيل: مكانُ اجتماعِها إذا صدرتْ عن المنهلِ.
أما منعُ الصَّلاةِ في الحش: فإنَّه لما منعَ الشرعُ من ذكرِ اللهِ تعالى، والكلامِ فيه، كان منعُ الصَّلاةِ فيه من بابِ أَوْلى.
وأما منعُها في أعطانِ الإبلِ: فلِما روى البراءُ بنُ عازبٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صلُّوا في مرابضِ الغنمِ، ولا تصلُّوا في مباركِ الإبلِ ". رواه أحمدُ وأبو داودَ
(1)
. ولا فرقَ في المعاطنِ بين أنْ يكونَ فيها إبلٌ عند الصَّلاةِ أو لا، ولا كونِ المعاطنِ طاهرةً أو نجسةً. فأمَّا المواضعُ التي تبيتُ فيها الإبلُ في مسيرِها، أو تُناخُ فيها لعلفِها، أو ورودِها الماءَ، فلا يُمنعُ من الصَّلاةِ فيها.
(و) لا تصحُّ تعبُّدًا في (قارعةِ الطريقِ) أي: المكانِ التي تقرعُها الأقدامُ من الطريقِ، لما روى ابنُ عمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"سبعُ مواطنَ لا تجوزُ فيها الصَّلاةُ: ظهرُ بيتِ اللهِ، والمقبرةُ، والمزبلةُ، والمجزرةُ، والحمامُ، وعطنُ الإبلِ، ومحجَّةُ الطريقِ ". رواه ابنُ ماجه والترمذيّ
(2)
، وقال: ليس إسنادُه بالقويِّ. وقدْ رواه الليثُ بنُ سعدٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ العُمريِّ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ مرفوعًا
(و) لا تصحُّ تعبُّدًا في (الحمَّام) وما يتبعُه في بيعٍ، لتناولِ الاسمِ له.
ولا فرقَ بين مكانِ الغسلِ، والمَسلَخ
(3)
، والأَتُّونِ
(4)
، وكلِّ ما يُغلقُ عليه بابُ
(1)
أخرجه أحمدُ (30/ 631)(18703)، وأبو داودَ (184)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه ابنُ ماجه (746)، والترمذيُّ (346)، وضعفه الألباني.
(3)
المسلخ: الذي تنزعُ فيه الثياب. "المطلع" ص (42).
(4)
الأتون: المَوقَدُ الكبيرُ، كموقَد الحمَّام، والجصَّاص، وتشدد التاء. "المعجم الوسيط":(أتن).
وأسطحةُ هذهِ مثلُها.
ولا يصحُّ الفرضُ في الكعبةِ
الحمامِ. والدليلُ على عدمِ صحةِ الصَّلاةَ في المقبرةَ والحمامِ، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"الأرضُ كلُّها مسجدٌ، إلا الحمامَ والمقبرةَ". رواه أبو داودَ
(1)
.
(وأسطحةُ هذه مثلُها) أي: أسطحةُ المواضعِ التي قلنا بعدمِ الصِّحةِ فيها، فإنَّ أسطحةَ مواضعِ النهي، كهي عندَ أحمدَ، وأكثرِ الأصحابِ؛ لأنَّ الهواءَ تابعٌ للقرارِ؛ بدليلِ أنَّ الجنبَ يُمنعُ من اللبثِ على سطحِ المسجدِ، ويحنثُ بدخولِ سطحِ الدارِ الذي حلف لا يدخلُها
(2)
.
وما في المتنِ هو المذهبُ، واختارَه أكثرُ الأصحابُ. وعنه: تصح على أسطحتِها، وإنْ لمْ نصحِّحها في داخلِها.
(ولا يصحُّ الفرضُ في الكعبةِ) وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: يصحُّ؛ لأنَّه مسجدٌ، ومحلٌّ لصَّلاةِ النفلِ، فكانَ محلًّا للفرضِ، كخارجِها. وهو أيضًا روايةٌ عن أحمدَ.
ولنا على المذهبِ: قولُه سبحانه وتعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البَقَرَة: 144] والشطرُ: الجهةُ. والمصلِّي فيها، أو على سطحِها، غيرُ مستقبلٍ لجهتِها. ولأنَّه يكونُ مستدبرًا من الكعبةِ ما لو استقبلَهُ منها وهو خارجُها صحَّتْ صلاتُه. ولأنَّ النهيَ عن الصَّلاةِ على ظهرِها قدْ وردَ صريحًا في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، فيما سبقَ
(3)
، وفيه تنبيهٌ على النهي عن الصَّلاةِ فيهما؛ لأنَّهما سواءٌ في المعنى.
(1)
أخرجه أبو داودَ (492) من حديث أبي سعيدٍ. وصححه الألباني.
(2)
انظر "المبدع"(1/ 396).
(3)
يشير إلى حديث ابن عمر المتقدم: "سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها .. إلخ ".
-والحِجْرُ مِنها- ولا على ظَهرِهَا، إلَّا إذا لم يَبْقَ وراءَة شيءٌ.
والجدارُ لا أثرَ له؛ إذ المقصودُ: البقعةُ، بدليلِ أنَّه يصلِّي إلى البقعةِ حيث لا جدارَ.
(والحِجرُ منها) أي: من الكعبةِ. نصَّ على ذلك الإمامُ أحمدُ رضيَ اللهُ تعالى عنه. وقدرُه: ستةُ أذرعٍ وشيءٌ.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ
(1)
: والحِجرُ جميعُه ليسَ من البيتِ، وإنَّما الداخلُ في حدِّ البيتِ، ستَّةُ أذرعٍ وشيءٌ. فمنِ استقبلَ ما زادَ على ذلك، لم تصحَّ صلاتُه إليه.
قال ابنُ قندس: وما ذكروه في الطوافِ من أنَّه إذا طافَ على جدارِ الحِجرِ، أنَّه لا يصحُّ؛ لأنَّه لم يكنْ طافَ بجميعِ البيتِ. ويجيءُ على قولِ ابنِ العباسِ، أنَّه لو تركَ من الحِجرِ القدرَ الزائدَ على الستةِ أذرعٍ وشيءٍ في الطوافِ، أنَّه يصحُّ. وهذا قدرُ الحِجرِ من جهةِ البيتِ إلى مقابلِهِ، أما من الجهتين الأخيرتين، فهو على مسامتةِ البيتِ.
ويصحّ التوجُّهُ إليه مطلقًا. أي: سواءٌ كان المتوجِّهُ مكِّيًا أو غيرَه، وسواءٌ كانتْ نفلًا الصَّلاةُ، أو فرضًا. وقيلَ: لا يصحُّ التوجُّه إليه مطلقًا. وجزمَ به أبو المعالي في المكيِّ.
والفرضُ في الحِجر كداخلِها. قال أحمدُ رضي اللَّه تعالى عنه: الحِجرُ من البيتِ
(ولا) تصحُّ الصَّلاةُ (على ظهرِها) لأنَّه لم يصلِّ إليها. (إلا إذا لم يبقَ وراءَه شيءٌ) أي: المصلِّي على ظهرِها. أو وقفَ خارجَها، وسجدَ فيها، فإنَّ صلاةَ
(1)
"الاختيارات الفقهية" ص (49).
ويصحّ النَّذرُ فيها، وعليها، وكذا النفلُ، بل يُسنُّ فيها.
الفرضِ صحيحةٌ على الصحيحِ من المذهبِ.
(ويصحُّ النذرُ فيها، و) يصحُّ (عليها) ولو لم يكنْ بين يديه شاخصٌ متصلٌ بها. قال بعضُهم: وظاهرُه: لا يصحُّ فيها النذرُ المطلقُ.
(وكذا) يصحُّ (النفلُ، بل يُسنُّ فيها) أي: في الكعبةِ. ووجهُ الصحةِ: ما روى ابنُ عمرَ رضي اللَّه تعالى عنهما قال: دخلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم البيتَ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وبلالٌ، وعثمانُ بنُ طلحةَ، فأغلقوا عليهم، فلمَّا فتحوا، كنتُ أوَّلَ مَنْ ولَجَ، فلقيتُ بلالًا، فسألتُه: هلْ صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الكعبةِ؟ قال: ركعتينِ بين الساريتينِ، عن يسارِكَ إذا دخلتَ، ثمَّ خرجَ فصلَّى في وجهِ الكعبةِ ركعتين. رواه الشيخان
(1)
، واللفظُ للبخاريِّ.
فإن قيل: روى الشيخان
(2)
عن أسامةَ، والبخاريُّ
(3)
عن ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبةِ.
فالجوابُ: أنَّ الدخولَ كان مرتين، فلثم يصل في الأولى، وصلَّى في الثانيةِ. كذا رواه الإمامُ أحمدُ في "مسنده". وذكرَه
(4)
ابنُ حبانَ في "صحيحه".
وعلى القولِ بصحةِ صلاةِ النافلةِ فيها وعليها، محلُّه: ما لمْ يسجدْ على منتهاها، فلا تصحُّ صلاتُه مطلقًا؛ لأنَّه لم يصل إلى شيءٍ من الكعبةِ.
لكنْ إنْ كان النفلُ بما يشرعُ له الجماعةُ، وكانتْ تفوت بفعلِ ذلك فيها، فإن
(1)
أخرجه البخاري (397)، ومسلم (1329).
(2)
أخرجه مسلم (1330) من حديث أسامة. ولم أجده عند البخاري.
(3)
أخرجه البخاري (398).
(4)
في الأصل: "وذكر".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فعلها خارجها أفضل، وإلا كان الأفضل فعله فيها.
وظاهرُه: لا فرقَ بين النذرِ المطلقِ والمقيدِ. وفي "الاختيارات": النذرُ المطلقُ يُحذَى به حَذْوَ الفرائضِ.
"فائدةٌ": تُكره الصَّلاةُ بأرضِ الخسفِ. وكذا كلّ بقعةٍ نزلَ بها عذابٌ، وأرضُ بابلَ، ومسجدُ الضِّرارِ.
وتُكره الصَّلاةُ أيضًا في مقصورةٍ تُحمى، نصّ على ذلك. قال ابنُ عقيلٍ: إنما كَرِه المقصورةَ؛ لأنَّها كانت تختصُّ بالظلمةِ وأبناءِ الدنيا، فكُرِه الاجتماعُ بهم. قال: وقيل: كرِهَها، لقصورِها على أتباعِ السلطانِ، ومنعِ غيرِهم، فتصيرُ كالموضعِ الغصبِ.
وتصحّ بأرضِ السِّباخِ، على الصحيحِ من المذهبِ، نصَّ على ذلك. قال في "الرعاية": مع الكراهةِ. وعنه: لا تصحّ. قال في "الرعاية": إنْ كانتْ رطبةً.
"فائدةٌ ثانيةٌ": وتصحّ الصَّلاةُ في البِيعَةِ والكنيسةِ، بلا كراهةٍ. قال في "الإنصاف"
(1)
: وله دخولُ بِيعَةٍ وكنيسةٍ، والصَّلاةُ فيهما، من غيرِ كراهةٍ، على الصحيح من المذهبِ. وعنه: يُكره؛ لعمومِ قولِه عليه الصلاة والسلام: "جعلتْ ليَ الأرضُ مسجدًا"
(2)
. ولما روى حربٌ، عن عمر بنِ الخطابِ رضي اللهُ تعالى عنه، أنَّه صلَّى في كنيسةٍ بالشامِ. ودعوى أنَّ في ذلك تعظيمًا لهما، لا تصحّ، بلْ لصلاتِنا فيها إلى قبلتِنا بصفةِ شرعنا تركٌ لتعظيمِهما.
"فائدةٌ ثالثةٌ": لو أسلمَ أهلُ بلدِ كفرٍ، جازَ أنْ يتخذوا متعبداتِهم مساجدَ. انتهى.
(1)
"الإنصاف"(31313).
(2)
أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521) من حديث جابر.
الثامن: استقبالُ القِبلَةِ
(الثامنُ) من شروطِ الصَّلاةِ: (استقبالُ القبلةِ) لقولِه تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البَقَرَة: 144] قال عليٌّ: شطرُه قِبَلُه. ولقولِهِ عليه السلام: "إذا قمتَ إلى الصَّلاةِ، فأسبغِ الوضوءَ، ثمَّ استقبلِ القبلةَ"
(1)
. ولحديثِ ابنِ عمرَ في أهلِ قُباءَ، لمَّا حُوِّلتِ القبلةُ. متفقٌ عليه
(2)
: قال ابنُ عمرَ: بينما الناسُ بقُباءَ في صلاةِ الصبحِ، إذ جاءَهم آتٍ، فقالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ أُنزل عليه قرآنٌ، وقدْ أُمِرَ أنْ يستقبلَ القبلةَ، فاستقبلُوها. وكانت وجوههُم إلى الشامِ، فاستداروا إلى الكعبةِ.
قال الواحديُّ: القِبلةُ: الوجهةُ، وهي الفعلةُ من المقابلةِ، والعربُ تقولُ: ما له قِبلةٌ ولا دِبْرَةٌ. إذا لم يهتد لجهةِ أمرِه.
وأصلُ القبلةِ في اللغةِ: الحالةُ التي يقابلُ الشيءُ غيرَه عليها، كالجلسةِ، للحالة التي يجلسُ عليها، إلا أنَّها صارتْ كالعَلَمِ للجهةِ التي يستقبلُها المصلِّي.
وسُمِّيتْ قِبلَةً، لإقبالِ النَّاسِ عليها. أو لأنَّ
(3)
المصلِّيَ يقابلُها، وهي تقابلُه.
"فائدةٌ": صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ المقدسِ، عشرَ سنين بمكةَ. جزمَ به القاضي في "شرح الخرقي الصغير" والسامريّ في " المستوعب ". وهي المدَّةُ التي أقامَها بمكَّةَ بعدَ البعثةِ، بناءً على حديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: بعثَهُ اللهُ على رأسِ أربعين سنةً، فأقامَ بمكَّةَ عشرَ سنين، وبالمدينةِ عشر سنين
(4)
.. الحديث
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (6251)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526).
(3)
في الأصل: "ولأن".
(4)
في الأصل: "عشرين".
(5)
أخرجه البخاري (3547)، ومسلم (2347).
مَعَ القُدرةِ.
وما ذكروه من أنَّه كان يصلِّي بمكَّةَ قبل الهجرةِ إلى بيتِ المقدسِ، هو أحدُ أقوالٍ ثلاثةٍ.
قال الفخر الرازي في تفسيرِه
(1)
، اختلفوا في صلاتِه إلى بيتِ المقدسِ:
فقال قومٌ: كان بمكَّةَ يصلِّي إلى الكعبةِ، فلمَّا صار إلى المدينةِ، أُمرَ بالتوجهِ إلى بيتِ المقدسِ سبعةَ عشرَ شهرًا.
وقال قومٌ: بل كان بمكةَ يصلِّي إلى بيتِ المقدسِ، إلا أنَّه يجعلُ الكعبة
(2)
بينه وبينها
وقال قومٌ: بلْ كان يصلِّي إلى بيتِ المقدسِ فقط بمكَّةَ، وبالمدينةِ أولًا سبعةَ عشرَ شهرًا، ثمَّ أمرَه اللهُ تعالى بالتوجهِ إلى الكعبةِ؛ لما فيه من الصَّلاحِ.
واختُلِفَ: هل كان شروعُ التوجهِ إلى بيتِ المقدسِ بالمدينةِ بالسُّنَّةِ، أو القرآنِ؟ على قولين، ذكرَهما القاضي. وذكرَ ابنُ الجوزيِّ، عن الحسنِ وأبي العاليةِ والربيعِ وعكرمةَ: أنَّه كان برأيه
(3)
واجتهادِه.
ومحلُّ كونِ استقبالِ القبلةِ شرطٌ للصلاةِ (مع القدرةِ) عليه، فإنْ عجزَ عنه، كالمربوطِ
(4)
، والمصلوبِ إلى غيرِ القبلةِ. والعاجزِ عن الالتفاتِ إلى القبلةِ لمرضٍ، أو منعِ مشركٍ ونحوِه عند التحامِ الحربِ، أو هروبٍ من عدوٍّ، أو سيلٍ، أو سبع، ونحوه، سقطَ الاستقبالُ، وصلَّى على حالِهِ، لحديثِ: "إذا أمرتُكم بأمرٍ، فأتوا منه
(1)
في الأصل: "تفسير". وانظر "تفسير الرازي"(9314).
(2)
في الأصل: "القبلة".
(3)
في الأصل: "يريد".
(4)
في الأصل: "بالمربوط".
فإن لم يجدْ مَنْ يُخبِرُه عنها بيقينٍ،
ما استطعْتُم"
(1)
.
ويُستثنى من حالةِ القدرةِ: ما أشارَ إليها صاحبُ الأصلِ بقولِهِ: "إلَّا في نفلِ مسافرٍ، ولو ماشيًا، سفرًا مباحًا، ولو قصيرًا". لكنْ إنْ كان ماشيًا، فعليه الاستقبالُ عند الإحرامِ فقط، إنْ أمكنَ بلا مشقَّةٍ.
قال في "الشرح الكبير"
(2)
: ولا فرقَ بين النوافلِ المطلقةِ، والسنن الرواتبِ، وسجودِ التلاوةِ، وغيرِها؛ لأنَّه عليه السلام كان يوترُ على بعيرِه. متفقٌ عليه
(3)
.
وعُلِمَ بهذا: أنَّ استقبالَ
(4)
القبلةِ يُشترطُ للفرضِ مطلقًا، وللنافلةِ في الحضرِ، لأنَّه لم يُنقلْ عنه عليه الصلاة والسلام الفرضُ في السفرِ وغيرِه، إلا إلى القبلةِ، إلا في صلاةِ الخوفِ، ولا صلاةُ النافلةِ
(5)
في الحضرِ إلى غيرِها.
(فإنْ لم يجدْ مَنْ يُخبرُه عنها) أي: عن القبلةِ. بإخبارِ مسلمٍ مكلَّفٍ عدلٍ ظاهرًا وباطنًا، حرًّا كان أو عبدًا، رجلًا أو امرأةً (بيقينٍ) مثلَ أن يقولَ: إنَّ الضمسَ تطلُعُ، أو تغربُ من جهةٍ عَيَّنَها، فيعلمُ أنَّ الجهةَ بينها وبين مقابلتِها، مثلًا. أو يخبرَه أنَّ النجمَ الذي تجاهَهُ الجديُ، فيعلمُ محلَّ القبلةِ منه ونحوِه، لزِمَه العملُ به، ولا يجتهدُ، كالحاكمِ يقبلُ النَّصَ من الثقةِ، ولا يجتهدُ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يُقبل خبرُ كافرٍ، ولا غيرِ مكلَّفٍ، ولا فاسقٍ، لكن يصحُّ التوجُّهُ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
"الشرح الكبير"(32413).
(3)
أخرجه البخاري (999)، ومسلم (700) من حديث ابن عمر.
(4)
في الأصل: "الاستقبال".
(5)
في الأصل: "للنافلة".
صلَّى بالاجتهاد، فإن أخطأَ فلا إعادةَ.
إلى قبلتِهِ في بيتِهِ. ذكرَهُ في "الإشارات"، وجزمَ به في "المبدع". قال في "الرعاية الكبرى": قلتُ: وإن كانَ هو عملها، فهو كإخبارِه. انتهى
(1)
.
(صلَّى بالاجتهادِ) إنْ كانَ عارفًا بالأدلَّةِ، وإلا قلَّدَ.
ويُستحبُّ تعلمُ أدلَّةِ القبلةِ والوقتِ. وقال أبو المعالي: ويتوجَّه: وجوبُه. وقدَّمه في "المبدع"
(2)
، فقال: ويجبُ على مَنْ يريدُ السفرَ تعلُّمُ ذلك.
وكلُّ مَنْ صلَّى قبلَ فعلِ ما يجبُ من استخبارٍ، أو اجتهادٍ، أو تقليدٍ، أو تحرٍ، فعليه الإعادةُ، وإنْ أصابَ القبلةَ؛ لتفريطِه بتركِ ما وجبَ عليه
(فإنْ أخطأ فلا إعادةَ عليه) لأنَّه أتى بالواجبِ عليه على وجهِه، مع عدمِ تفريطِه، فسقطَ عنه. ولأنَّ خفاءَ القبلةِ في الأسفارِ يقعُ كثيرًا؛ لوجودِ الغيومِ وغيرِها من الموانعِ، فإيجابُ الإعادةِ مع ذلك فيه حرجٌ، وهو منتفٍ شرعًا.
والفرضُ في القبلةِ: إصابةُ الجهةِ بالاجتهادِ، ويُعفى عن الانحرافِ قليلًا يمنةً أو يسرةً، لمَنْ بَعُدَ عنها. أي: عن الكعبةِ. وهو مَنْ لمْ يقدرْ على المعاينةِ للكعبةِ، ولا على من يخبرُه عن علمٍ؛ لما روى أبو هريرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما بينَ المشرقِ والمغربِ قبلةٌ". رواه ابنُ ماجه والترمذيُّ
(3)
وصحَّحه. ولأنَّ الإجماعَ انعقدَ على صحةِ صلاةِ الاثنين المتباعدين
(4)
يستقبلانِ قبلةً واحدةً. وعلى صحةِ
(1)
انظر "كشاف القناع"(2/ 227).
(2)
"المبدع"(1/ 406).
(3)
أخرجه ابنُ ماجه (1011)، والترمذيُّ (342)، وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: "المتقاعدين".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صلاةِ الصفِّ الطويلِ على خطِّ مستوٍ، لا يقالُ: مع البعدِ يتسعُ المحاذي؛ لأنَّه إنما يتسعُ مع التقوسِ، لا مع عدمِه.
سوى المشاهِدِ لمسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والقريبِ منه، ففرضُه: إصابةُ العينِ؛ لأنَّ قبلتَه متيقَّنةُ الصَّحةِ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لا يُقَرُّ على الخطأ. وقد روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قِبلَ القبلةِ، وقال:"هذه القبلةُ"
(1)
.
لكنْ قال في "الشرح"
(2)
: في قولِ الأصحابِ نظرٌ؛ لأنَّ صلاةَ الصفِّ المستطيلِ في
(3)
مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم صحيحةٌ مع خروجِ بعضِهم عن استقبالِ عين الكعبةِ، لكونِ الصفِّ أطولَ منها. وقولُهم: إنَّه عليه السلام لا يُقَرُّ على الخطأ. صحيحٌ، لكنْ إنَّما الواجبُ عليه استقبالُ الجهةِ، وقدْ فعلَهُ. وهذا الجوابُ عن الحديثِ المذكورِ. انتهى.
وأجابَ ابنُ قندس
(4)
: بأنَّ استقبالَ الجهةِ إنَّما يجبُ عند تعذرِ إصابةِ العينِ، وهو عليه السلام متمكِّنٌ من ذلك بالوحي. بلْ ذكرَ القاضي عياضٌ في البابِ الثاني من "الشفاء": أنَّهُ رفعتْ له الكعبةُ، حين بنى مسجدَه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
لكنْ هذا الجوابُ لا يزيلُ النظرَ المذكورَ، اللهمَّ إلا أنْ يقالَ: مرادُ الأصحابِ بإلحاقِهم المذكورِ: أنَّ مَن بمسجدِه صلى الله عليه وسلم كمَنْ بمكَّةَ، في أنَّه يضرُّ انحرافُه يمنةً
(1)
أخرجه مسلم (1330). وأخرجه البخاري (398) عن ابن عباس.
(2)
"الشرح الكبير "3/ 330).
(3)
في الأصل: "من".
(4)
انظر "حاشية الفروع"(2/ 122).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويسرةً عن محرابِه صلى الله عليه وسلم، بخلافِ غيرِه ممَّن بَعُدَ، فلا يضرُّ انحرافُه. ذكرَهُ الشيخُ منصورٌ في "شرحِه" على "الإقناع"
(1)
.
وأصحُّ الأدلةِ في القبلةِ والوقتِ: النجومُ. والاستدلالُ على النجومِ بالآلاتِ الفلكيةِ، مثلُ ربعِ الدائرةِ المقنطراتِ والمجيبِ، ونصفِ دائرةِ المعدلِ، وبيتِ الإبرةِ، وغيرِ ذلك مما هو مشهورٌ عندَ علماءِ الوقتِ والهندسةِ، ومسطورٌ في كتبِهم.
قال في متنِ "المنتهى" و"الإقناع "
(2)
: وأثبتُها: القطبُ الشمالي؛ لأنَّه لا يزولُ عن مكانِه، ويمكنُ كلَّ أحدٍ معرفتُه. ثمَّ الجديُ: نجمٌ نيِّرٌ. بينهما سبعُ درجٍ، حولَهُ أنجمٌ دائرةٌ، كفراشةِ الرَّحى، في أحدِ طرفيها الفرقدان، وفي الطرقِ الأخرى الجديُ. وهو من الثوابتِ يُستدلُ بها على أوقاتِ الليلِ
(3)
وساعاتِه. وقدْ عملتُ رسالةً في معرفةِ أوقاتِ الليلِ بالكواكبِ الثابتةِ وحركتِها إلى وقتِنا هذا، من " أصول زيج الغابيك"
(4)
رحمه الله. وعملتُ رسالةً أيضًا في وضعِ الأرباعِ، وهو ربعُ المقنطراتِ والمجيبِ، ورسالةً في معرفةِ العملِ بهم، وذكرتُ فيها فوائدَ جمَّةً، وقدْ حصلَ الانتفاعُ بهم، وللهِ الحمدُ. ولولا خوفُ الإطالةِ، لذكرتُ فوائدَ في معرفةِ الوقتِ والقبلةِ بالأمورِ الحسابيةِ، والأشكالِ الهندسيةِ، التي هي أصحُّ شيءٍ في ذلك، ويُعتمدُ عليها.
(1)
"كشاف القناع"(2/ 227).
(2)
"منتهى الإرادات"(191)، "الإقناع"(1/ 156)، وانظر "كشاف القناع"(2/ 230).
(3)
في الأصل: "الليل والنهار".
(4)
أظنه يريد: أصول زيج الغا بيلث السمرقندي العجمي.
التاسعُ: النيَّةُ،
"فائدةٌ": لو صلَّى مَنْ فرضُه الاجتهادُ بغيرِ اجتهادٍ، ثمَّ بانَ مصيبًا، لزِمَه الإعادةُ، على الصحيحِ من المذهبِ. وقيل: لا يلزمُه. ذكرَهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(التاسعُ) من شروطِ الصَّلاةِ: (النيةُ) النيةُ بالتشديد، وحُكِيَ فيها التخفيفُ.
وهي في اللغةِ: القصدُ. وهو عزمُ القلبِ على الشيءِ. يقالُ: نواكَ اللهُ بخيرٍ، أي: قصدَك به.
ومحلُّها: القلبُ، والتلفظُ بها ليس بشرطٍ، إذ
(2)
الغرضُ جعلُ العبادةِ للهِ تعالى.
وتقدَّمَ في الوضوءِ بعضُ ما يتعلَّقُ بها، وحكمُ التلفظِ بها. ولا يضم سبقُ لسانِه بغيرِ قصدِه. وتلفُّظُه بما نواه تأكيدٌ.
وشرعًا: العزمُ على فعلِ الشيءِ، من عبادةٍ وغيرِها. ويزادُ: في عبادةٍ، تقربًا إلى اللهِ تعالى، بأنْ يقصدَ بعملِه اللهَ تعالى، دونَ شيءٍ آخرَ من تصنعٍ لمخلوقٍ، أو اكتسابِ محمدةٍ عند النَّاس، أو محبةِ مدحٍ منهم، أو نحوِه. وهذا هو الإخلاصُ.
وقال بعضُهم: هو تصفيةُ الفعل عن ملاحظةِ المخلوقين.
وقال آخر: هو التوقِّي عن ملاحظةِ الأشخاصِ. وهو قريبٌ من الذي قبلَه.
وقال آخر: هو أنْ يأتيَ بالفعلِ، لداعيةٍ واحدةٍ، ولا يكونُ لغيرِها من الدَّواعي تأثيز في الدُّعاءِ إلى ذلك الفعلِ. وفي الخبرِ:"الإخلاصُ سرٌّ من سرِّي، استودعتُه قلبَ من أحببتُه من عبادي"
(3)
.
ودرجاتُ الإخلاصِ ثلاثةٌ:
(1)
"الإنصاف"(3/ 358).
(2)
في الأصل: "إذا".
(3)
ذكره الغزالي في "الإحياء"(4/ 376) عن الحسن مرسلًا. قال الحافظ العراقي في تخريجه:=
ولا تسقُطُ بحالٍ.
عليا: وهي: أن يعملَ العبدُ للهِ وحدَهُ، امتثالًا لأمرِه، وقيامًا بحقِّ عبوديتِه.
ووسطى: وهي
(1)
أنْ يعملَ لثوابِ الآخرةِ.
ودنيا: وهي: أنْ يعملَ للإكرامِ في الدنيا، والسَّلامةِ من آفاتِها.
وما عدا الثلاثِ من الرياءِ، وإن تفاوتتْ أفرادُه. ولهذا قالَ أهلُ السنَّةِ
(2)
: العبادةُ ما وجبتْ لكونِها مفضيةً إلى ثوابِ الجنَّةِ، أو إلى البعدِ من عقابِ النَّارِ، بلْ لأجلِ أنَّك عبدٌ، وهو ربٌّ. هذا ملخصُ كلامِ الشمسِ العلقميِّ في "حاشية الجامع الصغير".
(و) هي شرطٌ (لا تسقُطُ بحالٍ) لقولِه سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البَيّنَة: 5] ولقولِ النبيِّ عليه السلام: "إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى" متفقٌ عليه
(3)
. ولأنَّها قربةٌ محضةٌ، فاشترطَ لها النية، كالصومِ. وعنه: أنَّها فرضٌ. وقيلَ: هي ركنٌ.
= رويناه في جزء من "مسلسلات القزويني" مسلسلًا، يقول كل واحد من رواته: سألتُ فلانًا عن الإخلاص؟. فقال: وهو من رواية أحمد بن عطاء الهجيمي، عن عبد الواحد بن زيد عن الحسن عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن اللَّه تعالى. وأحمد بن عطاء وعبد الواحد كلاهما متروك. وهما من الزهاد. ورواه أبو القاسم القشيري في "الرسالة" من حديث علي بن ألي طالب بسند ضعيف. انتهى. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(630).
(1)
سقطت: "وهي" من الأصل.
(2)
في نسبة هذا القول لأهل السنة نظر! وقد قال اللَّه تعالى عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].
وانظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 699)، و"مدارج السالكين"(2/ 77).
(3)
تقدم تخريجه.
ومحلُّها القلبُ. وحقيقتُها: العزئم على فِعلِ الشيء.
(ومحلُّها القلبُ) وجوبًا، واللِّسانُ استجابًا
(1)
، على ما تقدَّمَ.
وزمنُها: مع أوَّلِ واجبِ، أو قبلَه بيسيرٍ.
وكيفيتُها: الاعتقادُ في القلبِ. قالَ في "الاختياراتِ"
(2)
: النيةُ تتبعُ العلمِ، فمَنْ علِمَ ما يريدُ فعلَه، قصدَه ضرورةً. ويحرُمُ خروجُه؛ لشكِّه في النيةِ، لعلمِه أنَّه ما دخلَ إلا بالنيةِ.
(وحقيقتُها: العزمُ على فعلِ الشيءِ) ويجبُ استصحابُ حكمِها إلى آخرِ الصَّلاةِ، دونَ ذكرِها. فلو ذهلَ عنها، أو عزَبَتْ عنه في أثناءِ الصَّلاةِ، لم تبطُلْ؛ لأنَّ التحرُّزَ من هذا غيرُ ممكنٌ، وقياسًا على الصومِ وغيرِه.
وقدْ روى مالكٌ في "الموطأ"
(3)
: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ، أدبرَ الشيطانُ وله حُصاصٌ
(4)
، فإذا قُضي التثويبُ، أقبلَ حتى يخطرَ بين المرءِ ونفسِه، يقول: اذكرْ كذا، اذكرْ كذا
(5)
، حتى يظلَّ أحدُكم إنْ يدري كمْ صلَّى". وإنْ أمكنَهُ استصحابُ ذكرِها، فهي أفضلُ.
وتبطُلُ النيةُ بفسخٍ في أثناءِ الصَّلاةِ. وتبطل النية أيضًا بتردد فيه، أي: في الفسخ في أثناء الصلاة؛ لأنَّ استدامةَ النيةِ شرطٌ لصحتِها، ومع التردُّدِ تبطُلُ الاستدامةُ.
(1)
تكررت: "ومحلُّها القلبُ وجوبًا، واللسانُ استحبابًا" في الأصل بعد أربعة أسطر.
(2)
"الاختياراتِ" ص (49).
(3)
أخرجه مالك (1/ 69)، وأخرجه البخاري (608)، ومسلم (389) من حديث أبي هريرة.
(4)
الحُصاص: شدة العَدْوِ وحِدَّتُه. وقيل: هو أن يَمْصَع بذَنَبه ويَصُرَّ بأُذُنَيْه ويَعْدُو. وقيل هو الضُّراط. "النهاية"(39611).
(5)
سقطت: "اذكرْ كذا" من الأصل.
وشرطُها: الإسلامُ، والعقلُ، والتَّمييزُ.
وزمنُها: أوَّلُ العبادةِ، أو قُبيلَهَا بيَسيرٍ،
وتبطُلُ أيضًا بعزمٍ على فسخِها؛ لأنَّ النيةَ عزمٌ جازمٌ، ومع العزمِ على فسخِها لا جزمَ، فلانيةَ.
ولا تبطُلُ النيةُ بالعزمِ على فعلِ محظورٍ في الصَّلاةِ، كما لو عزمَ على أنْ يتكلَّمَ في الصَّلاةِ، ولم يتكلمْ، أو فِعْلِ مبطلٍ لها من حدثٍ وغيرِه، ولم يفعلْ، لعدمِ منافاةِ الجزمِ المتقدِّمِ؛ لأنَّه قد يفعلُ المحظورَ الذي نواه، وقدْ لا يفعلُه، ولا مناقضَ في الحالِ للنيةِ المتقدِّمةِ، فتستمرُ إلى أنْ يوجدَ مناقضٌ.
وتبطلُ نيةُ الصَّلاةِ بشكِّه: هلْ نوى الصَّلاةَ أو لا؟ أو هلْ عيَّن ظهرًا أو عصرًا؟ أو هلْ عيَّن مغربًا أو عشاءً؟ فعمِلَ معه -أي: معَ الشكِّ- عملًا من أعمالِ الصَّلاةِ، كركوعٍ أو سجودٍ، أو رفعٍ منهما، ثمَّ ذكرَ أنَّه فعلَ ما شكَّ في وجودِه. ووجهُ بطلانِ نيتِه، لخلوِّ ما عملَه عن نيةٍ جازمةٍ. وهذا قولُ القاضي، وجزمَ به في "الكافي"، وهو ظاهرُ ما قدَّمَه في "شرح المقنع الكبير".
(وشرطُها) أي: النيةُ: (الإسلامُ) فلا تصحُّ من كافرٍ. (والعقلُ) فلا تصحُّ من مجنونٍ. (والتمييزُ) فلا تصح ممَّن دونَ التمييزِ.
(وزمنُها) أي: محلُّها: (أوَّلُ العبادةِ) التي يريدُ فعلَها (أو قبيلَها
(1)
بـ) زمنٍ (يسيرٍ) أمَّا كونُ النيةِ تصحُّ مع تقدُّمِها بالزمنِ اليسيرِ، فلأنَّ تقدُّمَ نيةِ الفعلِ عليه، لا يخرجُه عن كونِه منويًا، ولا يخرجُ الفاعلَ عن كونِه ناويًا مخلصًا، كالصومِ. ولأنَّ النيةَ من شروطِ الصَّلاةِ، فجازَ تقدُّمُها، كبقيةِ الشروطِ. ولأنَّ في اعتبارِ المقارنةِ مشقَّةً وحرجًا، فوجبَ
(1)
في الأصل: "قبلها".
والأفضلُ قرنُهَا بالتكبير.
سقوطُ ذلك؛ لقولِه سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78].
"تنبيهٌ ": اشترطَ الخرقيٌّ -وتبِعَه في "المنتهى" و"الإقناع"- في
(1)
التقديم: أنْ يكونَ بعد دخولِ الوقتِ في أداءٍ وراتبةٍ، ولم يفسخْها، مع بقاءِ إسلامِه؛ بأنْ لم يرتدَّ، صحَّتْ صلاته. وعليه شرَحَ ابنُ الزاغونيٌّ وغيرُه. وقالَهُ القاضي أبو يعلى، وولدُه أبو الحسينِ، وصاحبُ "المذهب" و"المستوعب" و"الرعايتين" و"الحاويين" وغيرهم. وجزمَ به في "الوجيز" وغيرِه.
وأكثرُ الأصحابِ لا يشترطون ذلك، وهو ظاهرُ كلامِ المصِّنف -أي: صاحبِ "المقنع"- هنا وغيرِه. قال الزركشيُّ: إمَّا لإمهالِهم له، أو اعتمادًا على الغالبِ. وظاهرُ ما قدَّمه في "الفروع ": لا يُشترطُ ذلك. قاله في "الفائق" بعدَ حكايةِ الخلافِ. قال القاضي: وقبلَ الوقتِ، لا يجوزُ. انتهى.
قلتُ: المسألةُ تحتملُ وجهين، اختارَ القاضي وغيرُه: عدمَ الجوازِ. وظاهرُ كلامِ غيرِهم: الجوازُ. لكنْ لمْ أرَ بالجوازِ تصريحًا. قالَهُ في "الإنصاف"
(2)
.
(والأفضلُ قرنُها بالتكبيرِ) أي: تكبيرةِ الإحرامِ؛ لتكونَ النيةُ مقارنةً للعبادةِ، ولأنَّ في ذلك خروجًا من الخلافِ. وليستِ المقارنةُ بشرطٍ، على المذهبِ.
"تتمةٌ": لا يشترطُ في النيةِ إضافةُ الفعلِ إلى اللهِ تعالى؛ بأنْ يقولَ: للهِ. أو فريضةً للَّه، ونحوه؛ لأنَّ العباداتِ لا تكونُ إلا للهِ تعالى.
ولا عددُ الركعاتِ؛ بأنْ يقولَ: أصلِّي الفجرَ ركعتين، أو الظهرَ أربعًا. لكنْ لو
(1)
سقطت: (في) من الأصل.
(2)
"الإنصاف"(3/ 365، 366).
وشُرِطَ -مع نيَّةِ الصلاة- تعيينُ ما يُصلِّيهِ من ظُهرٍ، أو عَصرٍ، أو وترٍ، أو راتبةٍ، وإلَّا أجزأته نيَّةُ الصَّلاةِ.
ولا يُشتَرطُ تَعيينُ كَونِ الصَّلاةِ حاضِرَةً، أو قَضاءً، أو فرضًا.
نوى الظهرَ مثلًا ثلاثًا، أو خمسًا، لم تصحَّ؛ لأنَّه متلاعبٌ.
ولا أنْ يضيفَ إلى نيةِ الصَّلاةِ، نيةَ الاستقبالِ؛ بأنْ يقولَ: أصلِّي كذا مستقبلًا.
(وشُرِطَ -مع نيةِ الصَّلاةِ- تعيينُ ما يصلِّيه من ظهرٍ، أو عصرٍ، أو وترٍ، أو راتبةٍ) وتراويحَ، وضحى، واستخارةٍ، وتحيةِ مسجدٍ، فلابدَّ من التعيينِ في هذا كلِّه، لتتميَّزَ تلك الصَّلاةُ عن غيرِها، ولأنَّه لو كانتْ عليه صلواتٌ، فصلَّى أربعًا ينويها ممَّا عليه، فإنَّه لا يجزئُه إجماعًا. فلولا اشتراطُ التعيين لأجزأهُ
(وإلا) أي: وإنْ لم تكنْ الصَّلاةُ معينةً، كالنفلِ المطلقِ (أجزأتْه نيةُ الصَّلاةِ) لعدمِ التعيينِ فيها.
(ولا يشترطُ تعيينُ كونِ الصَّلاةِ حاضرةً، أو قضاءً، أو فرضًا) لأنَّه لا يختلف المذهبُ أنَّه لو صلَّاها ينويها أداءً، فبانَ وقتُها قدْ خرجَ، أنَّ صلاتَه صحيحةٌ، وتقعُ قضاءً. وكذلك لو نواها قضاءً، فبانَ فعلُها في وقتِها، وقعتْ أداءً. قالَهُ في "الشرح"
(1)
.
ولا يُشترطُ نيةُ قضاءٍ في صلاةٍ فائتةٍ. فلو قال مَنْ عليه الظهرُ قضاءً: أصلِّي الظهرَ فقط. كفَاهُ ذلك؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُستعملُ بمعنى الآخرِ. يقالُ: قضيتُ الدَّينَ وأدَّيتُه. وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البَقَرَة: 200] أي: أدَّيتمُوها. ولأنَّ أصلَ
(2)
إيجابِ ذلك يرجعُ إلى تعيين الوقتِ، وهو غيرُ معتبرٍ، بدليلِ أنَّه لا يلزمُ
(1)
"الشرح"(3/ 362)، وانظر "كشاف القناع"(2/ 244).
(2)
في الأصل: "الأصل".
وتُشترط نيةُ الإمامَةِ للإمامِ، والائتمامِ للمأمُومِ.
وتصِحُّ نيَّةُ المُفارَقةِ لكلٍّ مِنهُما لعُذرٍ يبيحُ تركَ
مَنْ عليه فائتةٌ تعيينُ يومِها، بلْ يكفيه: السابقةُ، والحاضرةُ.
ولا يُشترطُ نيةُ فرضيةٍ في فرضٍ، فلا يُعتبرُ أنْ يقولَ: أصلِّي الظهرَ فرضًا. ولا معاداةٍ فيما إذا كانتْ معادةً.
ويصحُّ قضاءٌ بنيةِ أداءٍ إذا بان
(1)
خلافُ ظنِّه. ويصحُّ عكسُه
(2)
إذا بانَ خلافُ ظنِّه. ولا يصحُّ ذلك مع العلمِ، لتلاعبِه.
(وتُشترطُ نيةُ الإمامةِ للإمامِ) فرضًا كانتْ أو نفلًا. وإنَّما يتميزُ الإمامُ عن المأمومِ بالنيةِ، فكانتْ شرطًا لانعقادِ الجماعةِ.
(و) يُشترطُ نيةُ (الائتمامِ للمأموم) فرضًا كانتْ أو نفلًا. فينوي المأمومُ الائتمامَ، لقولِهِ عليه السلام:"وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى"
(3)
. لأنَّ الجماعةَ تتعلَّقُ بها أحكامُ وجوبِ الاتباعِ، وسقوطِ السهوِ عن المأمومِ، وفسادِ صلاتِه بفساد صلاةِ إمامِه.
" تنبيهٌ ": فإن اعتقدَ كلٌّ من مصلِّيَيْنِ أنَّه إمامُ الآخرِ، أو اعتقدَ كلُّ منهما أنَّه مأمومُه، لم تصحَّ لهما. نصًّا؛ لأنَّه أمَّ مَنْ لمْ يأتمَّ به في الأولى، وائتمَّ بمنْ ليس بإمامٍ في الثانيةِ. وكذا إنْ عيَّن إمامًا أو مأمومًا، فأخطأ، لا إنْ ظنَّ.
(وتصحُّ نيةُ المُفارقةِ لكلٍّ منهما) أي: الإمامِ والمأمومِ (لعذرٍ يبيحُ تركَ
(1)
في الأصل: "كان ".
(2)
أي: الأداء بنية القضاء.
(3)
تقدم تخريجه.
الجَماعَةِ، ويقرأ مأمومٌ فارقَ في قيامٍ، أو يُكمِلُ، وبعدَ الفاتحةِ له الركوعُ في الحالِ.
ومن أحرَم بفرضٍ تمَّ قلَبه نفلًا، صحَّ
الجماعةِ) كتطويلِ إمامٍ، ومرضٍ، وغلبةِ نعاسٍ، وغلبةِ شيءٍ يفسدُ صلاتَهُ، كمدافعةِ أحدِ الأخبثينِ، أو خوفٍ على أهلٍ أو مالٍ، أو فوتِ رُفقةٍ، أو خرجَ من الصفِّ مغلوبًا لشدَّةِ زحامٍ، ولم يجدْ مَنْ يقفُ معه، ونحوه، صحَّ انفرادُه، فيتمُّ صلاتَه منفردًا؛ لحديث جابرٍ قالَ: صلَّى معاذٌ بقومِه، فقرأ سورةَ البقرةِ، فتأخرَ رجلٌ، فصلَّى وحدَهُ، فقيلَ له: نافقتَ. قال: ما نافقتُ، ولكنْ لآتينَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبرُه. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرَ له ذلك، فقال:"أفتانٌ أنتَ يا معاذُ". مرتين. متفقٌ عليه
(1)
. وكذا لو نوى الإمامُ الانفرادَ لعذرٍ.
فإنْ زالَ عذرُ مأمومٍ فارقَ إمامَه، فلَهُ الدخولُ معه. وفي "الفصول": يلزمُه، لزوالِ الرخصةِ.
(ويقرأُ مأمومٌ فارقَ) إمامَه (في قيامٍ) قبل أنْ يقرأَ، ليأتي بالقراءةِ المطلوبةِ (أو يُكمِلُ) على قراءةِ إمامِه، إنْ كان قرأَ البعضَ
(وبعدَ الفاتحةِ له) أي: المأمومِ المفارقِ (الركوعُ في الحالِ) لأنَّ قراءةَ إمامِه قراءة له.
(ومَنْ أحرمَ بفرضٍ) كظهرٍ أو عصرٍ (ثمَّ قلَبَه نفلًا) بأنْ فسخَ نيةَ الفرضيةِ، دونَ نيةِ الصَّلاةِ (صحَّ) مطلقًا. أي: سواءٌ كان صلَّى الأكثرَ منها، أو الأقلَّ، وسواءٌ كان لغرضٍ صحيحٍ، أو لا؛ لأنَّ النفلَ يدخلُ في نيةِ الفرضِ، أشبَهَ ما لو أحرمَ بفرضٍ،
(1)
أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465).
إن اتَّسعَ الوقتُ، وإلَّا لم يَصِحَّ، وبطَلَ فرضُه.
فبانَ قبلَ وقتِه. وكما لو قلَبَهُ لغرضٍ صحيحٍ. وإنْ ضاقَ الوقتُ، لزِمَه استئنافُ فرضِه.
وكُرِه قلبُه نفلًا لغيرِ غرضٍ صحيحٍ. قال العلامةُ الشيخُ مرعي
(1)
: ويتجهُ: ولو بوقتِ نهيٍّ.
وعن أحمدَ فيمَنْ صلَّى ركعةً من فرضٍ منفردًا، ثمَّ أُقيمتِ الصَّلاةُ جماعةً: أعجبُ إليَّ أن
(2)
يقطعَه ويدخلَ معهم. وعلى هذا: فقطعُ النفلِ أَوْلى.
ومحلُّ ذلك: (إن اتسعَ الوقتُ) للصَّلاةِ التي يقلبُها، ولصلاةِ الفرضِ.
وظاهرُهُ: أنَّه لو لم يتسعِ الوقتُ لذلك، أنَّه لا يصحُّ قلبُه نفلًا، فإنْ فعلَ بطلتْ صلاتُه. وإليه أشارَ بقولِه:(وإلا) بأنْ لم يتسعِ الوقتُ (لم يصحَّ) قلبُه نفلًا (وبطلَ فرضُه) الذي انتقلَ إليه. فإنْ قيلَ: ما المرادُ بالوقتِ المتسعِ: الوقتُ المختارُ، أو الوقتُ الذي يدركُها فيه كلَّها أداءً؟ فتأمَّلْ.
* * *
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 160).
(2)
سقطت: "أن" من الأصل.
كتابُ الصَّلاة
(كتابُ الصَّلاةِ)
لغةً: الدعاءُ. قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التّوبَة: 103] أي: ادعُ لهم. وعُدِّيَ بـ "على"؛ لتضمُّنِه معنى الإنزال. أي: أنزلْ رحمتَك عليهم. وقال عليه السلام: "إذا دُعي أحدُكم إلى طعامٍ، فليُجبْ، فإن كان مفطرًا فليَطعَمْ، وإن كان صائمًا فليصَلِّ"
(1)
.
وتطلقُ أيضًا على الرحمةِ، وعلى اللزومِ، وعلى التعبيدِ، وعلى الإقبالِ على الشيءِ؛ تقربًا. وقدْ قيلَ: إنَّ الصَّلاةَ مأخوذةٌ من ذلك، كما حكَاهُ القاضي عياضٌ.
وهي مصدرُ: صلَّى يصلِّي، والتاءُ منقلبةٌ عن واوٍ، بدليلِ جمعِها على صلواتٍ، تحرَّكتِ الواوُ، وانفتحَ ما قبلَها، فقلبتِ ألِفًا، وإنَّما كتبتْ في المصحفِ بالواوِ؛ تفخيمًا.
وهي في الشرعِ: عبارةٌ عن الأفعالِ المعلومةِ، من القيامِ والقعودِ، والركوعِ والسجودِ، وما يتعلَّقُ به من القراءةِ والذكرِ؛ مفتتحةً بالتكبير، مختتمةً بالتسليمِ. قالَ الزركشيُّ: هي عبارةٌ عن هيئةٍ مخصوصةٍ مشتملةٍ على ركوعٍ وسجودٍ وذكرٍ. انتهى.
وسُمِّيتْ صلاةً؛ لاشتمالِها على الدُّعاءِ، وهذا هو الصحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ من الفقهاءِ وأهلِ العربيةِ وغيرِهم.
(1)
أخرجه مسلم (1431) من حديث أبي هريرة.
تجِب على كلِّ مسلِمٍ
وقال بعضُ العلماءِ: إنَّما سُمِّيتْ صلاةً؛ لأنها ثانيةٌ لشهادةِ التوحيدِ، كالمصلِّي من السابقِ من الخيلِ.
وقيل: سُمِّيتْ صلاةً، لما يعودُ على صاحبِها من البركةِ. وتُسمى البركةُ صلاةً في اللغةِ.
وقيلَ: سُمِّيتْ صلاةً؛ لأنَّها تُفضي إلى المغفرةِ التي هي مقصودةٌ بالصَّلاةِ.
وقيل: سُمِّيتْ صلاةً، لما يتضمنُها من الخشوعِ والخشيةِ للهِ؛ مأخوذةٌ من: صَلَيْتُ العودَ، إذا ليَّنْتَه. والمصلِّي يَلين ويخشعُ.
وقيلَ: سُمِّيتْ صلاةً؛ لأنَّ المصلِّي يتبعُ من تقدَّمَه، فجبريلُ أوَّلُ مَنْ تقدَّمَ بفعلِها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم تابعًا له ومصليًا، ثمَّ المصلُّون بعدَه.
وقيلَ: سُمِّيتْ صلاةً؛ لأنَّ رأسَ المأمومِ عندَ صَلَوَي إمامِه. والصَّلوانُ عَظمانِ عن يمينِ الذنَبِ ويسارِه، في موضعِ الرِّدفِ. ذكَرَ ذلك في "النهاية". إلا القولُ الثاني، فإنَّه ذكَرَه في "الفروع"
(1)
.
وفرضُها بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ، وكان ليلةَ الإسراءِ بعدَ مبعثِه عليه السلام بنحوِ خمسِ سنين.
(تجبُ) الصَّلواتُ الخمسُ في اليومِ والليلةِ (على كلِّ مسلمِ) ذكرًا، أو أنثى، أو خنتى، حرًّا، أو عبدًا، أو مبعَّضًا. فلا تجبُ على الكافرِ الأصَلي
(2)
، بمعنى أنَّا لا نأمرُه بها في كفرِه، ولا بقضائِها إذا أسلمَ، ترغيبًا له في الإسلامِ. ولا تصحُّ منه،
(1)
"الفروع"(1/ 401).
(2)
في الأصل: "أصلي".
مكلَّفٍ، غيرِ الحائضِ والنّفسَاءِ.
وتصِحُّ من المُميِّزِ، وهو من بَلَغَ سبعًا،
وتجبُ عليه وجوبَ عقابٍ؛ لأنَّهم مخاطبون بفروعِ الإسلامِ. وكذا حكمُ المرتدِ، وإذا أسلمَ قضى ما فاتَه قبلَ ردَّتِه، لا زمنَها.
(مكلَّفٍ) أي: بالغٍ عاقلٍ. فلا تجبُ على مجنونٍ لا يُفيقُ، فلا يقضيها بعدُ. ولا على صغيرٍ؛ لقولِهِ عليه السلام:"رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ، عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى يَعْقِلَ ". رواه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وأبو داودَ
(1)
. وفي "المستوعب"، وكذا في "المبدع"
(2)
: لا تجبُ على الأبله الذي لا يَعْقِلُ.
(غيرِ الحائضِ والنُّفساءِ) فلا تجبُ عليهما. قال في "الإنصاف"
(3)
: وهو الصحيحُ من المذهبِ مطلقًا. ولنا وجهٌ: أنَّ النفساءَ إنْ طرَّحتْ نفسَها، لا تسقطُ الصَّلاةُ عنها.
(وتصحُّ) الصَّلاةُ (من المميِّزِ، وهو مَنْ بلغَ سبعًا) من السنين. وفي "المطلع"
(4)
: مَنْ يفهمُ الخطابَ، ويردُّ الجوابَ، ولا ينضبطُ بسنٍّ، بلْ يختلفُ باختلافِ الأفهامِ. وصوَّبه في "الإنصاف"
(5)
، وقال: إنَّ الاشتقاقَ يدلُّ عليه.
(1)
أخرجه أحمدُ (2/ 266)(956)، والترمذيُّ (1423)، وأبو داودَ (4405) من حديث علي. وصححه الألباني.
(2)
"المبدع"(1/ 301).
(3)
"الإنصاف"(3/ 8).
(4)
"المطلع" ص (47).
(5)
"الإنصاف"(3/ 19).
والثوابُ له. ويلزَمُ وليَّه أمرُهُ بهَا لسَبعٍ، وضرُبه على تركِها لعَشْرٍ.
ومن تَركَها جحودًا فقَد ارتدَّ،
ولا خلافَ في صحتِها من المميزِ. ويشترطُ لصلاتِه ما يُشترطُ لصلاةِ الكبيرِ، إلا في السترةِ، على ما تقدَّمَ.
(والثوابُ له) أي: ثوابُ عملِ المميزِ" لقولِهِ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فُصّلَت: 46] فهو يُكتبُ له، ولا يُكتبُ عليه. وكذا سائرُ أعمالِ البرِّ.
(ويلزمُ وليَّه) أي: الأبَ، أو وصيَّه (أمرُه) أي: المميِّزِ (بها) أي: الصَّلاةِ (لسبعٍ) أي: لتمامِ سبعِ سنينَ (وضربُه) أي: ويلزمُ وليَّه ضربُه (على تركها لعَشرِ) سنينَ. وكذا للأب ضربُه على الأدبِ، لحديثِ عمروِ بنِ شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مُروا أبناءَكم بالصَّلاةِ، وهم أبناءُ سبعِ سنين، واضربوهم عليها لعشير، وفرِّقوا بينهم في المضاجعِ ". رواه أحمدُ، وأبو داودَ
(1)
. والأمرُ والتأديبُ لتمرينِه عليها، حتى يألفَها ويعتادَها، فلا يتركُها.
وأما وجوبُ تعليمِه إياها والطهارةَ، فلتوقُّفِ فعلِها عليه. فإن احتاجَ إلى أجرةٍ، فمن مالِ الصغيرِ، فإنْ لم يكنْ، فعلى مَنْ تلزمُه نفقتُه.
(ومن تركها) أي: الصَّلاةَ (جحودًا) يعني: من جحدَ وجوبَ الصَّلاةِ، تركَها أو فعَلَها. ولو كان جحدُه لوجوبِها جهلًا به، وعُرِّفَ الوجوبَ، وأصرَّ على جحودِه. (فقد ارتدَّ) أي: صارَ كافرًا؛ لأنَّه مكذِّب للهِ ورسولِهِ وإجماعِ الأمَّةِ.
وكذا لو تركَها تهاونًا، أو كسلًا، إذا دعاه إمامٌ أو نائبة لفعلِها، وأبى فعلَها حتى تضايقَ وقتُ التي بعدَها؛ بأن يُدعَى للظهرِ -مثلًا- فيأبى حتى يتضايقَ وقتُ العصرِ
(1)
أخرجه أحمدُ (11/ 284)(6689)، وأبو داودَ (495). قال الألباني: حسن صحيح.
وجَرَتْ عليه أحكَامُ المرتدِّين.
عنها. فيُقتلُ كفرًا، لقولِهِ عليه السلام:"بين العبدِ وبين الكفرِ تركُ الصَّلاةِ" رواه مسلمٌ
(1)
. ولقولِهِ: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصَّلاةُ، فمَنْ تركَها فقدْ كفرَ" رواه أحمدُ والنسائيُّ والترمذيُّ
(2)
وقال: حسنٌ صحيحٌ. ولقولِهِ: "أوَّلُ ما تفقدونَ من دينِكم الأمانةُ، وآخرُ ما تفقدون الصَّلاةُ"
(3)
. قال أحمدُ: كلُّ شيءٍ ذهبَ آخرُه، لمْ يبقَ منه شيءٌ. وقال عمرُ: لا حَظَّ في الإسلامِ لمَنْ تركَ الصَّلاةَ
(4)
. وقال عليٌّ: مَنْ لمْ يصلِّ، فهو كافرٌ
(5)
. وقال عبدُ اللهِ بنُ شقيقٍ: لمْ يكنْ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَروْنَ شيئًا من الأعمالِ تركُه كفرٌ غيرَ الصَّلاةِ
(6)
.
ولا قتلَ ولا تكفيرَ قبلَ الدِّعايةِ. ولا
(7)
يُقتلْ بتركِ الأُولى؛ لأنَّه لا يُعلمُ أنَّه عزَمَ على تركِها إلا بخروجِ وقتِها، فإذا خرجَ، عُلِمَ تركُه لها، لكنَّها فائتةٌ، لا يُقتلُ بها. فإذا ضاقَ وقتُ الثانيةِ، وجبَ قتلُه.
(وجرتْ عليه أحكامُ المرتدين) ولا قتلَ
(8)
حتى يُستتابانِ
(9)
ثلاثةَ أيامٍ بلياليها،
(1)
أخرجه مسلم (82) من حديث جابر.
(2)
أخرجه أحمدُ (38/ 20)(22937)، والنسائيُّ (463)، والترمذيُّ (2621) من حديث بريدة. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(1/ 338)(173) من حديث أنس. وصححه الألباني في "الصحيحة"(1739).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 439)، والدارقطني (2/ 52).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 171).
(6)
أخرجه الترمذي (2622).
(7)
في الأصل: "ولم".
(8)
في الأصل: "ولا يقتل".
(9)
في الأصل: "يُستتبانِ" ومراده: الجاحد لوجوبها، والتارك لها تهاونًا أو كسلًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنْ تابا، أي: الجاحدُ والتاركُ لها تهاونًا أو كسلًا، وإلا بأنْ لمْ يتوبا بذلك، ضُربتْ عنقُهُما بالسيف.
وكذا من تركَ ركنًا أو شرطًا مجمعًا عليه، أو يعتقدُ التاركُ وجوبَه. ذكرَهُ ابنُ عقيلٍ، ومشى عليه في "المنتهى". وقالَ الموفقُ: لا يكفرُ بمختَلَفٍ فيه.
ولا يكفرُ بتركِ فائتةٍ ونذرٍ، ولا صومٍ، ولا حجِّ، ولا زكاةٍ، إلا بجحدِ وجوبِها
(1)
.
قال في "الإنصاف"
(2)
: ويُقتلُ كفرًا. فعلى المذهبِ: حكمُه حكمُ الكفارِ، فلا يُغسَّلُ، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفنُ في مقابرِ المسلمين، ولا يرثُ مسلمًا، ولا يرثُه مسلمٌ، فهو كالمرتدِّ.
"فائدةٌ": اختلف العلماءُ: بمَ كفَرَ إبليسُ؟ فذكرَ أبو إسحاقَ ابنُ شاقلا: أنه كفرَ بتركِ السجودِ، لا بجحودِه. وقيل: كفرَ لمخالفةِ الأمرِ الشَّفَاهِيِّ من اللهِ تعالى، فإنَّه سبحانه وتعالى خاطبَه بذلك.
قالَ الشيخُ برهانِ -ولدُ صاحبِ "الفروع"- في "الاستعاذة" له: وقال جمهورُ العلماءِ: إنَّما كفرَ؛ لأنَّه أبى واستكبرَ، وعاندَ، وطغى
(3)
، وأصرَّ، واعتقدَ أنَّه محقٌّ في تمرُّدِه، واستدلَ بـ:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعرَاف: 12]. فكانَ تركُه للسجودِ تسفيهًا لأمرِ اللَّه، وحكمتِه. قال الإمامُ أحمدُ: إنَّما أمر
(4)
بالسجودِ، فاستكبرَ، وكان من الكافرين. والاستكبارُ كفرٌ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 255).
(2)
انظر "الإنصاف"(3/ 40).
(3)
في الأصل: "وطعنَ".
(4)
سقطت: "أمر" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقالتِ الخوارجُ: كفرَ بمعصيةِ اللهِ، وكلُّ معصيةٍ كفرٌ. وهذا خلافُ الإجماعِ
(1)
.
"فرعٌ ": قال الأصحابُ: لا تبطلُ عبادةٌ فعلَها في إسلامِه السابقِ إذا عادَ إلى الإسلامِ، ولو بحجِّ، على الأظهرِ. وجزمَ به صاحبُ "المقنع" في بابِ حكمِ المرتدِّ.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: اختارَ الأكثرُ أنَّ الردةَ لا تحبطُ العملَ، إلا بالموتِ عليها. قال جماعةٌ: الإحباطُ إنَّما ينصرفُ إلى الثوابِ، دونَ حقيقةِ العملِ؛ لبقاءِ صحَّةِ صلاةِ مَنْ صلَّى خلفَه، وحلَّ ما كان ذبَحَهُ، وعدمِ نقضِ تصرُّفِه
(2)
.
"تنبيهٌ ": وإذا صلَّى الكافرُ، حُكِمَ بإسلامِه. هذا المذهبُ مطلقًا، نصَّ عليه، وعليه الأصحابُ، وجزمَ به كثيرٌ منهم. وهو من المفرداتِ.
وقال في "الفائق": وهلْ الحكمُ للصَّلاةِ، أو لتضمُّنِها الشهادةَ؟ فيه وجهانِ. ذكرَهما ابنُ الزاغونيِّ.
أو أذَّنَ -ولو في غيرِ وقتِه- كافرٌ يصحُّ إسلامُه، أي: بأنْ كانَ مميزًا يعقلُه، حُكِمَ به. ولا تصحّ صلاتُه ظاهرًا، فيومرُ بإعادتِها؛ لفقدِ شرطِها، وهو الإسلامُ، حالَ نيَّتِها. ولا يعتدُّ بأذانِه.
ولا يُحكمُ بإسلامِه بغيرِ الصَّلاةِ من العباداتِ، كالصومِ قاصدًا أداءَ رمضانَ، وزكاةِ مالِه، وحجِّه. وهو ظاهرُ كلامِ أكثرِ الأصحابِ، وجزمَ به في "المغني". وقيل: يُحكمُ بإسلامِه بفعلِ ذلك. اختارَهُ أبو الخطابِ. وأطلقَهما في "الفروع" و"الرعاية"، وابنُ تميم. واختارَ القاضي: يُحكمُ بإسلامِه بالحجِّ فقط، والتزمَه
(1)
انظر "الإنصاف"(3/ 33).
(2)
انظر "الإنصاف"(3/ 15).
وأركانُ الصلاةِ أربَعَةَ عشَرَ، لا تسقُط عَمدًا، ولا سَهوًا، ولا جَهلًا:
أحدُها: القيامُ في الفرضِ
المجدُ وابنُ عبيدان. وقيلَ: يُحكمُ بإسلامِه ببقيةِ الشرائعِ والأقوالِ المختصَّةِ بنا، كجنازةٍ، وسجدةِ تلاوةٍ. قال في "الفروع": ويدخلُ فيه كلُّ ما يكفُرُ المسلمُ بإنكارِه إذا أقرَّ به الكافرُ. قال: وهذا متجهٌ
(1)
.
(وأركانُ): جمعُ ركنٍ، وهو جانبُ الشيءِ الأقوى. وسمَّاها بعضُهم: فروضًا، والخلافُ لفظتيٌ (الصَّلاةِ، أربعةَ عشرَ) ركنًا (لا تسقطُ) على القادرِ (عمدًا، ولا سهوًا، ولا جهلًا) على الصحيحِ من المذهبِ:
(أحدُها: القيامُ) لقادرٍ (في الفرضِ) والأصلُ في فرضيةِ القيامِ: قولُه سبحانه
وتعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البَقَرَة: 238] وكونُ القيامِ لا يجبُ إلَّا في الفرضِ، فلِمَا روتْ عائشةُ: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي ليلًا طويلًا قاعدًا. وكان إذا قرأ، وهو قائمٌ، ركعَ وسجدَ وهو قائمٌ، وإذا قرأَ وهو قاعدٌ، ركعَ وسجدَ وهو قاعدٌ. رواه مسلمٌ
(2)
.
وأجمعَ العلماءُ على وجوبِ القيامِ في الفرضِ، ما لم يكنْ عذرٌ. وللعذرِ صورٌ، أشارَ إليها صاحبُ "المنتهى":
الأولى: خائفٌ بالقيامِ لها عدوًّا، فإنَّه يسقطُ عنه فرضُ القيامِ، ويجوزُ له أنْ يصلِّي جالسًا.
الثانيةُ: عُريانٌ لا يجدُ ما يسترُ به عورتَه، فإنَّه يُسنّ له أنْ يصلِّيَ جالسًا، ولا
(1)
انظر "الإنصاف"(3/ 18).
(2)
أخرجه مسلم (730).
-على القادِرِ- مُنتَصِبًا،
يتربعُ، بل ينضمُّ؛ لأنَّ ذلك أسترُ له.
والثالثةُ: مريضٌ يمكنُه قيامٌ، لكن لا تمكنُ مداواتُه قائمًا، فيسقطُ عنه القيامِ؛ لمداواةٍ، ويصلِّي جالسًا، للحرجِ.
والرابعةُ: يصلِّي جالسًا لأجلِ قِصرِ السقفِ لعاجزٍ عن خروجٍ؛ لحبسٍ ونحوِه بمكانٍ قصيرِ السقفِ.
والخامسةُ: يصلِّي قادرٌ على قيامٍ قاعدًا خلفَ الإمامِ الراتبِ، بشرطِ أدنْ يُرجى زوالُ علَّتِه. ويأتي تفصيلُه في صلاةِ الجماعةِ
(1)
.
وقولُه: (في الفرضِ على القادرِ) شملَ الفرضُ: المكتوبةَ، وفرضَ الكفايةِ، والنذرَ. واحترزَ به عن النَّفلِ، فيصحُّ قاعدًا.
"فائدةٌ": ما قامَ مقامَ القيامِ، وهو القعودُ للعاجزِ والمتنفلِ، فهو ركنٌ في حقِّه.
قالَ ابنُ نصرِ اللهِ في "شرحه": في عدِّ القيامِ من الأركانِ نظرٌ؛ لأنَّه يشترطُ تقدّمه على التكبيرِ، فهو أَوْلى من النيةِ بكونِه شرطًا.
وقال في "الإنصاف"
(2)
" والذي يظهرُ قولُ الأصحابِ؛ لأنَّ الشروطَ هي التي يُؤتى بها قبلَ الدخولِ في الصَّلاةِ، وتُستَصحَبُ إلى آخرِها. والأركانُ تَفرُعُ، ويُنتَقلُ إلى غيرِها، والقيامُ كذلك.
حالةَ كونِه (منتصبًا) قال في "الإقناع"
(3)
: والركنُ منه الانتصابُ بقدرِ تكبيرةِ
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 442).
(2)
"الإنصاف"(3/ 664).
(3)
"الإقناع"(1/ 203).
فإن وقَفَ منحَنيًا أو مائِلًا بحيثُ لا يُسمَّى قائِمًا لغَيرِ عُذرٍ، لم تصِحَّ، ولا يضرُّ خَفضُ رأسِه.
وكُرِهَ قيامُهُ على رِجل واحِدَةٍ لغَيرِ عُذرٍ.
الإحرامِ، وقراءةِ الفاتحةِ في الركعةِ الأولى، وفيما بعدَها بقدرِ قراءةِ الفاتحةِ فقط.
وقال أبو المعالي وغيرُه، واعتمدَهُ صاحبُ "المنتهى": حدّ القيامِ: ما لم يَصرْ راكعًا، ولا يضرُّ ميلُ رأسِه.
والذي ذكرَهُ المصنِّفُ، قاله القاضي في "الخلاف"، وأبو الخطاب في "الانتصار". وفي "الخلاف" و"الانتصار": بقدرِ التحريمةِ، بدليلِ إدراكِ المسبوقِ فرضَ القيامِ بذلك. وردَّه في "شرح الفروع"، بأنَّ ذلك رخصةٌ في حقِّ المسبوقِ، لإدراكِ فضيلةِ الجماعةِ
(1)
.
(فإنْ
(2)
وقفَ منحنيًا أو مائلًا، بحيثُ لا يُسمَّى قائمًا، لغيرِ عذرِ) يبيحُ ذلك (لم تصحَّ) أي: الصَّلاةُ (ولا يضرُّ خفضُ رأسه) على هيئةِ الإطراقِ، لأَنَّه لا يخرجُه عن كونِه يُسمَّى قائمًا
(وكرِه قيامُه على رِجْلٍ واحدةٍ لغيرِ عذرٍ) وأجزأه في ظاهرِ كلامِ الأكثرِ. وقال ابنُ الجوزيِّ: لا يجزئُه. قال ابنُ نصرِ اللهِ: دليلُ قولِ ابنِ الجوزيِّ: أنَّه خلافُ فعلِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، بلْ هو خلافُ فعلِ السلفِ المتوارى
(3)
بينهم، وقدْ قالَ عليه السلام:"مَنْ عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"
(4)
.
(1)
انظر "الإنصاف"(3/ 665)، "كشاف القناع"(2/ 446).
(2)
في الأصل: "وإن".
(3)
كذا بالأصل. ولعلها: "المتواتر".
(4)
أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة.
الثاني: تكبيرةُ الإحرَامِ، وهي: اللَّه أكبرُ. لا يُجزئُه غيرُها، يقولُها قائمًا،
(الثاني) من الأركانِ: (تكبيرةُ الإحرامِ) أي: التكبيرةُ التي يدخلُ بها في الصَّلاةِ. سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ الإحرامَ الدخولُ في حُرمةٍ لا تُنتَهكُ، وبهذه التكبيرةِ يدخلُ في عبادةٍ يحرُمُ فيها أمورٌ كانتْ مباحةً قبلُ.
(وهي) أي: تكبيرةُ الإحرامِ: (اللهُ أكبرُ. لا يجزئُه غيرُها) لحديثِ أبي سعيدِ مرفوعًا: "إذا قمتمْ إلى الصَّلاةِ، فاعدلوا صفوفَكم وسدُّوا الفُرَجَ، وإذا قال إمامُكم: اللهُ أكبرُ. فقولوا: اللهُ أكبرُ" رواه أحمدُ
(1)
. ولم يُنقلْ أنَّه عليه السلام افتتحَ الصَّلاةَ بغيرِها. وقال: "صلّوا كما رأيتموني أصلِّي"
(2)
. ولحديثِ أبي حميدٍ الساعديِّ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استفتحَ الصلاةَ استقبلَ القبلةَ، ورفعَ يديه، وقال:"اللهُ أكبرُ". رواه ابنُ ماجه، وصحَّحه ابنُ حبانَ
(3)
.
قال في "شرحه"
(4)
: من غيرِ دعاءٍ قبلَ ذلك. قيلَ لأحمدَ: قبلَ التكبيرِ نقولُ شيئًا؟ قال: لا. يعني: ليسَ قبلَه دعاءٌ مسنون، إذ لمْ يُنقلْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه. انتهى.
(يقولُها قائمًا) مصلّ، إمامًا كان وغيرَه، مع قدرةٍ على القيامِ.
ويكونُ التكبيرُ مرتبًا متواليًا، فلا يجزئُ: أكبرُ اللهُ، ولا أنْ يسكتَ بينهما ما يمكنُه فيه كلامٌ؛ لأنَّه لم يُنقلْ.
(1)
أخرجه أحمد (17/ 21)(10994).
(2)
أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث.
(3)
أخرجه ابن ماجه (803)، وابن حبان (1865). وصححه الألباني.
(4)
"معونة أولي النهى"(2/ 97).
فإن ابتدأها أو أتمَّها غيرَ قائمِ، صحَّت نفلًا.
وتنعقدُ إنْ مدَّ اللَّام، لا إنْ مَدَّ همزَةَ "اللَّه" أو همزَةَ "أكبر"، أو قال: أكبار، أو: الأكبر.
وحكمةُ افتتاحِ الصَّلاةِ بهذا اللفظِ: استحضارُ المصلِّي عظمةَ مَنْ تهيَّأَ لخدمتِه، والوقوفِ بين يديه، ليمتلئَ هيبةً، فيُحضرُ قلبَه، ويخشعُ، ولا يغيبُ.
(فإن ابتدأها) أي: تكبيرةَ الإحرامِ (أو أتمَّها غيرَ قائمِ) بأنِ ابتدأهَا وأتمَّها قاعدًا، أو ابتدأها قاعدًا وأتمَّها قائمًا، أو ابتدأها قائمًا، وأتمَّها رَاكعًا، وذلك في المسبوقِ بقولِ: اللهُ. وهو قائم. ثمَّ يقولُ: أكبرُ. وهو راكعٌ (صحَّتْ) صلاتُه (نفلًا) في الصورِ الثلاثِ. فإنَّ تركَ القيامِ يُفسدُ الفرضَ فقطْ دونَ النفلِ، فتنقلبُ صلاتُه نفلًا، إن اتسعَ الوقتُ؛ لإتمامِ النفلِ والفرضِ كلَّه
(1)
قبلَ خروجِه، وإلَّا استأنفَ الفرضَ قائمًا. فلو لم يستأنفْ، بطلتْ صلاتُه.
ويُكره إن زادَ على التكبيرِ، بأن قال: اللهُ أكبرُ كبيرًا. أو: اللهُ أكبرُ وأعظمُ. أو: اللهُ أكبرُ وأجلَّ، ونحوه.
(وتنعقدُ) صلاتُه (إنْ مدَّ اللَّامَ) أي: لامَ الجلالةِ؛ لأنَّها ممدودةٌ، فغايتُه زيادتُها من غيرِ إتيانٍ بحرفٍ زائدٍ.
و (لا) تنعقدُ صلاتُه (إنْ مدَّ همزةَ: اللَّه، أو مدَّ همزةَ: أكبر) لأنَّه يصيرُ استفهامًا، فيختلُّ المعنى (أو قال: أكبار) لأنَّه جمعُ كَبرٍ، بفتح الكاف. وهو الطبلُ. (أو) قال: اللهُ (الأكبرُ) لحديثِ أبي حميدٍ وغيرِه.
وكذا لو قال: اللهُ الكبيرُ، أو: الجليلُ. ونحوُه. أو قال: أقبرُ. أو: اللهُ، فقط. أو:
(1)
في الأصل: "كما لو".
وجهرُه بها، وبكلِّ رُكنٍ وواجب بقَدرِ ما يُسمِعُ نفسَه، فَرضٌ.
أكبرُ، فقطْ. وفي: اللهُ الأكبرُ. وجهٌ: تنعقدُ؛ لأنَّه لا يغيرُ المعنى.
ويلزمُ جاهلًا تعلُّمُها، أي: التكبيرةِ، إنْ قدرَ عليها في مكانِه، وما قربَ منه. وفي "التلخيص": إنْ كان بالباديةِ، لزمَه قصدُ البلدِ، لتعلُّمِها. ولا تصحُّ إن كبَّر بلغتِه مع قدرتِه على تعلُّمٍ؛ لأنَّه ذكرٌ واجبٌ، لا تصحُّ إلا به، فلزمِه تعلُّمُه، كالفاتحةِ. فإنْ عجزَ أو ضاقَ
(1)
الوقتُ، كبَّر بلغتِه.
وإنْ عرفَ لغاتٍ، فيها، كبَّر بالأفضلِ
(2)
منها. وفي "المنوِّر على المحرَّر": يقدِّمُ السِّريانيَّ، ثمَّ الفارسيَّ، ثمَّ التركيَّ.
وكذا كلُّ ذكرٍ واجبٍ، كتسميعٍ، وتحميدٍ، وتسبيحٍ، وتشهدٍ، وسلامٍ، فيلزمُه تعلُّمُه إنْ قدرَ، وإلا أتى به بلغتِه. وإنْ عرفَ لغاتٍ، فكما تقدَّم.
(و) سُنَّ (جهرُه) أي: إمامٍ ومأمومٍ ومنفردٍ (بها) أي: بتكبيرةِ الإحرامِ، وغيرِه.
(و) سُنَّ جهرُ إمامٍ ومأمومٍ ومنفردٍ (بكلِّ ركنٍ) كتكبيرةِ الإحرامِ، وتشهدٍ أخيرٍ، وسلامٍ. (و) سُنَّ جهرُ إمامٍ ومأمومٍ ومنفردٍ في (واجبِ) كتسميعٍ، وتحميدٍ، وباقي تكبيرٍ، وتشهدٍ أوَّل (بقدرِ ما يُسمِعُ نفسَه) حيث لا مَانعَ. قال في "الإنصاف"
(3)
: كطرشٍ، أو أصواتٍ يسمعُها تمنعُه من سماعِ نفسِه، فإنْ كان ثمَّ مانعٌ، أتى به، بحيثُ يحصلُ السماعُ مع عدمِ العارضِ.
(فرضٌ) خبرُ "جهرُه"؛ لأنَّه لا يُعدُّ آتيًا بذلك بدون صوتٍ، والصوتُ يُسمعُ، وأقربُ السامعين إليه نفسُه.
(1)
في الأصل: "وضاق".
(2)
في الأصل: "بالفضل".
(3)
"الإنصاف"(3/ 415).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال في "الإنصاف"
(1)
: واختارَ الشيخُ تقيُّ الدين: الاكتفاءَ بالإتيانِ بالحروفِ، وإن لمْ يسمعْها. وذكرَهُ وجهًا في المذهبِ. قلتُ: والنَّفسُ تميلُ إليه.
واعتبرَ بعضُ الأصحابِ سماعَ مَنْ بقُربِه.
قال في "الفروع": ويتوجهُ مثلُه في كلِّ ما يتعلَّقُ بالنطقِ، كطلاقٍ وغيرِه. قلتُ: وهو الصَّوابُ.
"فائدةٌ": يُسنُّ جهرُ المأمومِ، ولو بلا إذنِ الإمامِ، بالتكبيرِ والتحميدِ والسَّلامِ عند الحاجةِ؛ بأنْ كان الإمامُ لا يُسمعُ جميعَهم، فيجهرُ من سمِعَه، ليسمعَ البقيةَ، إلا المرأةَ إذا كانتْ مع الرِّجالِ.
قال في "الفروع"
(2)
: ويتوجَّهُ في ذلك: الروايةُ في خطابِ آدميٍّ به. أي: بالتكبيرِ. فإنَّه لو قصدَ خطابَ آدميٍّ به، لتغيَّرَ ما ذكرَ، ففيه روايةٌ بفسادِ صلاتِه، فيتوجَّهُ فيه هنا مثلُها، للمعنى المذكورِ، فإنَّ أحمدَ علَّلَ الفسادَ به.
ويُفرَّقُ بينهما: بأنَّ ذلك ليس لمصلحةِ الصَّلاةِ، وهذا لمصلحتِها. قاله ابنُ نصرِ اللهِ في "شرحه ". فعلمتَ أنَّ الصَّلاةَ لا تبطلُ ولو قصدَ التبليغَ، خلافًا للشافعيةِ. انتهى.
قال العلَّامةُ الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(3)
: ويتجهُ: لا يضرُّ قصدُ جهرٍ بواجبٍ لتبليغٍ، إذِ الجهرُ ليس بواجبٍ، وأنَّه يضرُّ إنْ قصدَ بالواجبِ التبليغَ، أو هو والتبليغَ. انتهى.
(1)
"الإنصاف"(3/ 414).
(2)
"الفروع"(2/ 165).
(3)
"غاية المنتهى"(1/ 165).
الثالث: قراءة الفاتِحَةِ مرتَّبةً،
(الثالثُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (قراءةُ الفاتحةِ) تامَّةً بتشديداتها (مرتَّبةً) مرتَّلةً متواليةً، يقفُ على كلِّ آيةٍ، كقراءتِه عليه السلام. وهي أفضل سورةٍ. قالهُ الشيخُ تقي
(1)
الدين. وذكرَ معناه ابنُ شهابٍ وغيرُه. قال عليه السلام فيها: "أعظمُ سورةٍ في القرآن، وهي السبعُ المثاني، والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه". رواه البخاريُّ
(2)
من حديث أبي سعيدِ بنِ المعلَّى.
ولها أسماءُ، منها: سورةُ الحمدِ، والواقيةُ، وأمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والصَّلاةُ، والكافيةُ، والشفاءُ، وفاتحةُ الكتابِ؛ لأنَّه يفتتحُ بقراءتِها في الصَّلاةِ، والأساسُ.
والفاتحةُ ركنٌ في كلِّ ركعةٍ؛ لحديثِ أبي قتادةَ مرفوعًا: كان يقرأُ في الظهرِ في الركعتين الأُوليين بأمِّ الكتابِ، وسورتين، ويُطوِّلُ الأولى، ويقصرُ الثانيةَ، ويُسمعُ الآيةَ أحيانًا، وفي الركعتين الأخيرتين بأمِّ الكتابِ
(3)
. وقال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"
(4)
. متفقٌ عليه. ولحديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: "لا صلاةَ لمن لمْ يقرأ في كلِّ ركعةٍ بفاتحةِ الكتابِ"
(5)
. وعنه، وعن عبادةَ قالا: أمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحةِ الكتابِ في كلِّ ركعةٍ
(6)
. رواهما إسماعيلُ بنُ سعيدٍ الشالنجيُّ
(1)
سقطت: "تقي" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (4474).
(3)
أخرجه البخاري (759)، ومسلم (451).
(4)
أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث.
(5)
أخرجه ابن ماجه (839). ضعفه الألباني. وأخرجه البخاري (756)، ومسلم (394) من حديث عبادة بن الصامت، بدون لفظ:"في كل ركعة".
(6)
ذكره ابن الجوزي في "التحقيق" ص "372"، (492)، قال: وقد روى أصحابنا
…
فذكره. وانظر "التلخيص الحبير"(1/ 566).
وفيها إحدَى عشرَةَ تشديدَةً، فإن تركَ واحدةً
(وفيها) أي: الفاتحةِ (إحدى عشرةَ تشديدةً) وذلك في: للَّه، وربِّ، والرحمن، والرحيم، والدين، وإياك، وإياك، والصراط، والذين، وفي الضالين ثنتان. وأمَّا البسملةُ ففيها ثلاثُ تشديداتٍ
(فإنْ تركَ) غيرُ مأمومٍ (واحدةً) من تشديداتِها، لزِمَه استئنافُ الفاتحةِ، لتركِه حرفًا منها؛ لأنَّ الحرفَ المشدَّدَ
(1)
أقيمَ مقامَ حرفين. هذا إذا فاتَ محلُّها
(2)
وبعُدَ عنه، بحيثُ يخلّ بالموالاةِ. أمَّا لو كان قريبًا منه، فأعادَ الكلمةَ، أجزأهُ ذلك، كمَنْ نطقَ بالكلمةِ على غيرِ الصَّوابِ، ثمَّ أتى بها على وجهِهِ. وإن ليَّنَها ولم يحقِّقْها على الكمالِ، فلا إعادةَ.
وإنَّ البسملةَ ليستَ آيةً منها. هذا ما اختارَهُ الإمامُ أحمدُ.
ويُكره الإفراطُ في التشديدِ والمدِّ.
و "مالكِ" أحبُّ إلى الإمامِ أحمدَ من "ملك"؛ لزيادةِ الحرفِ.
قولُه فيما تقدَّمَ: "لزِمَه استئنافُ الفاتحةِ .. إلى آخرِه". هذا يقتضي عدمَ بطلانِ صلاتِه. ومقتضى ذلك: أنْ يكونَ تركُ التشديدِ سهوًا أو خطأً. أمَّا لو تركَها عمدًا، فقاعدةُ المذهبِ تقتضي بطلانَ صلاتِه - إن انتقلَ عن محلِّها - كغيرِها من الأركانِ، فأمَّا ما دامَ في محلِّها، وهو حرفُها، لم تبطلْ.
وإن انتقلَ عن حرفِها إلى حرفٍ آخرَ، بطلتْ صلاتُه؛ لأنَّه بعضُ ركنٍ، وبعضُ
(1)
في الأصل: "المشد".
(2)
في "كشاف القناع"(2/ 306): "قال في شرح الفروع: وهذا إذا فات محلها" ومراده بشارح الفروع: ابن نصر اللَّه.
أو حرفًا، ولم يأتِ بما تَركَ، لم تصحَّ، فإن لم يعرف إلا آيةً، كرَّرها بقَدرِها.
الركنِ ركنٌ، وتاركُ الركنِ عمدًا تبطلُ صلاتُه إذا انتقلَ إلى غيرِه؛ لأنَّه لم يتحقق تركُه إلا بذلك. ولمْ يذكروا ذلك، لكنْ ظاهرُ كلامِهم: البطلانُ مطلقًا.
قال الشيخُ منصورٌ
(1)
: وفي كلامِ ابنِ نصرِ اللهِ، نظرٌ؛ فإنَّ الفاتحةَ ركنٌ واحدٌ محلُّه القيامُ، لا أنَّ كلَّ حرفٍ ركنٌ. انتهى.
وقال القاضي في "الجامع الكبير": إنْ تركَ التشديدَ لم تبطلْ صلاتُه. وقال ابنُ تميمٍ وغيرُه: لا خلافَ في صحتِها مع تليينِه، أو إظهارِ المُدغَمِ. قالَ في "الكافي": وإنْ خفَّفَ الشدَّةَ، صحَّ؛ لأنَّه كالنطقِ مع العَجَلةِ. وهو قولٌ في "الفروع" غيرُ قولِ تركِ التشديدِ. انتهى من "الإنصاف"
(2)
.
(أو) ترَكَ (حرفًا) من الفاتحةِ، لم يعتدَّ بها؛ لأنَّه لم يقرأْها، وإنَّما قرأَ بعضَها. (ولم يأتِ بما ترَكَ، لم تصحَّ) صلاتُه.
(فإنْ لمْ يعرفْ إلا آيةً) من الفاتحةِ، أو غيرِها (كرَّرَها) أي: الآيةَ (بقَدْرِها) أي: الفاتحةِ؛ لأنَّها بدلٌ
(3)
عن الفاتحةِ، فتعتبرُ المماثلةُ حسَبَ الإمكانِ.
وإنْ أحسنَ آيةً فأكثرَ من الفاتحةِ، وآيةً فأكثرَ من غيرِها، كرَّرَ الذي من الفاتحةِ بقدرِها، لا يجزئُه غيرُها
(4)
. ذكرَهُ القاضي؛ لأنَّه أقربُ إليها من غيرِها.
وإنْ لمْ يعرفْ إلا بعضَ آيةٍ، لم يكرِّرْه
(5)
، وعدلَ إلى الذكرِ، وهو أنْ يقولَ:
(1)
"كشاف القناع"(2/ 306).
(2)
"الإنصاف"(3/ 445).
(3)
في الأصل: "بدله".
(4)
في الأصل: "غيره".
(5)
في الأصل: "يكرر".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
وكذا قال في "الكافي "، و "الهادي". ومشى عليه في "المقنع". وزادَ في "المستوعب" و"البلغة": العليِّ العظيمِ.
والذي قدَّمه في "الفروع" أنَّه لا يقولُ: ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ. وقدَّمه في "تجريد العناية"، وجزمَ به في "المحرر" و"الفائق" و "المنور". قال في "الإنصاف"
(1)
: وهذا المذهبُ.
وعنه: يكرِّرُ هذا بقدرِ الفاتحةِ، أو يزيدُ على ذلك شيئًا من الثناءِ والذكرِ بقدرِ الفاتحةِ. وذكرَهُ في "الحاوي الكبير" عن بعضِ الأصحابِ. وقطعَ به الصرصريُّ في "زوائد
(2)
الكافي"، قال في "المذهب": لزِمَه أن يقولَ: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، ويكرِّرُها، أو يضيفُ إليه ذِكْرًا آخرَ، حتى يصيرَ بقدرِ الفاتحةِ. قال في "مسبوك الذهب": ويكرِّرُه بقدرِ الفاتحةِ. وما قالَهُ في "المذهب"، هو قولُ ابنِ عقيلٍ. وقال القاضي: يأتي بالذكرِ المذكورِ، ويزيدُ كلمتين من أيِّ ذكرٍ شاءَ ليكونَ سبعًا. وقال الحَلوانيُّ: يحمدُ ويكبِّرُ. وقال ابنُه في "تبصرته": يسبِّحُ. ونقلَه صالحٌ وغيرُه. ونقلَ ابنُ منصورٍ: يسبِّحُ ويكبِّرُ. ونقلَ الميموني: يسبِّحُ ويكبِّرُ ويُهلِّلُ. ونقلَ عبدُ اللهِ: يحمدُ ويكبرُ ويهلِّلُ.
فإنْ لم يعرفْ هذا الذكرَ كلَّه، بل عرفَ بعضَه: كرَّرَه. أي: ذلك البعضَ بقدرِه، كمَنْ عرفَ آيةً فأكثرَ من الفاتحةِ، وإلا، أي: وإنْ لمْ يعرفْ شيئًا من الذكرِ، وقفَ بقدرِ القراءةِ. أي: قراءةِ الفاتحةِ؛ لأنَّ القيامَ مقصودٌ بنفسِه.
(1)
"الإنصاف"(3/ 455).
(2)
في الأصل: "رواية".
ومن امتنعت قِراءئهُ قائِمًا، صلَّى قاعِدًا وقَرأَ.
الرابعُ: الركوعُ.
وأقلُّه: أن ينحَنيَ بحيث يُمكِنهُ مَسُّ رُكبَتيهِ بكَفَّيه.
وأكملُه: أن يَمُدَّ ظهرَهُ مُستويًا، ويجعلَ رأسَه حَيالَه.
(ومَنْ امتنعتْ قراءتُه قائمًا، صلَّى قاعدًا وقرأَ) لقولِه عليه السلام: "إذا أمرتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعْتُمْ"
(1)
.
(الرابعُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الركوعُ) لغةً: الانحناءُ
(وأقلُّه) أي: والمجزئُ: (أن ينحنيَ، بحيثُ يمكنُه) أي: المصلِّي، إذا كانَ وسطا في الخلقةِ (مسُّ ركبتَيْهِ بكفَّيْهِ) وذلك لأنَّه لا يُسمَّى راكعًا بدونِ ذلك. وإنَّما يُعتبرُ ذلك بالمتوسطين من النَّاسِ، إذ فيهم من يمسُّ ركبتيهِ بيديهِ لطولِهما وإنْ لمْ ينحنِ انحناءً يُسمَّى به راكعًا، ومنهم من لا يمكنُه ذلك لقصرِ يديهِ حتى يأتي بأكملِ ركوعٍ وأتمِّه.
"فائدةٌ": لو انحنى لتناولِ شيءٍ، ولم يخطر ببالِه الركوعُ، لم يجزِئْه.
(وأكملُه: أنْ يمدَّ ظهرَهُ مستويًا، ويجعلَ رأسَه حَيالَه) بفتح الحاء، يعني: مقابلةَ ظهرِه؛ لأنَّه لا يخرجُ عن حدِّ القيامِ إلا بذلك، فلا يرفعُ رأسَه عن ظهرِه، ولا يخفِضُه. رافعًا يديه إلى حَذْوِ منكبيه، مع ابتدائِه. قال ابنُ نصرِ اللهِ: والأظهرُ: أن يكون رفعُ يديه مع ابتداءِ الركوعِ وابتداءِ التكبيرِ، وينتهي رفعُهما في انتهاءِ التكبيرِ، ويمدُّ التكبيرَ إلى انتهاءِ انحنائِه للركوعِ. ولو قيلَ: يرفعُ، ثمَّ يقصِدُ بالتكبيرِ، كان
(2)
موافقًا لظاهرِ "الهداية".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في الأصل: "وكان".
الخامسُ: الرفعُ منه، ولا يقصِدُ غيرَه، فلو رفع فزَعًا من شيءٍ، لم يكْفِ.
السادسُ: الاعتدالُ قائمًا، ولا تبطلُ إنْ طالَ.
السابعُ: السجودُ.
وأكملُه: تَمكينُ جبهَتِه وأنفِه وكفَّيِه
(الخامسُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الرفعُ منه) أي: من الركوعِ (ولا يقصِدُ غيرَه، فلو رفعَ فزَعًا من شيءٍ، لم يكفِ) ذلك الرفغُ.
(السادسُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الاعتدالُ) من الركوعِ (قائمًا. ولا تبطلُ) الصَّلاةُ (إنْ طالَ) القيامُ.
(السابعُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (السجودُ) وهو أنْ يضعَ ركبتيه، ثمَّ يديه؛ لما رَوى وائلُ بنُ حُجْرٍ قال: رأيتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجدَ وضعَ ركبتيه قبلَ يديه، وإذا نهضَ رفعَ يديه قبلَ ركبتيه. رواه النسائيّ وابنُ ماجه والترمذيُّ
(1)
، وقال: حسنٌ غريبٌ.
(وأكملُه: تمكينُ جبهتِه) من الأرضِ؛ لقول أبي حميدٍ الساعديِّ: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا سجدَ أمكنَ جبهتَه وأنفَه من الأرضِ. رواه الترمذيُّ
(2)
وصحَّحه. (وأنفِه) من الأرضِ؛ لما روى الدارقطنيُّ
(3)
عن ابنِ عباسٍ: لا صلاةَ لمَنْ لمْ يضعْ أنفَه على الأرضِ. والسجودُ على الأنفِ من المفرداتِ. (وكفَّيْه) أي: راحتَئه من الأرضِ
(1)
أخرجه النسائيُّ (1089)، وابنُ ماجه (882)، والترمذيُّ (268)، وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه الترمذي (270)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه الدارقطني (1/ 348) عن ابن عباس مرفوعًا.
وركبتيهِ وأطرافِ أصابعِ قدميه من مَحَلِّ سُجودِه.
وأقلُّه: وضعُ جُزءٍ من كلِّ عُضوٍ.
ويُعتبرُ المَقَرُّ لأعضَاءِ السجود، فلو وضَعَ جبهتَه على نَحوِ قُطنٍ منفُوشٍ،
(وركبتَيْه، وأطرافِ أصابعِ قدمَيْه) لحديثِ: "أُمرتُ أنْ أسجدَ على سبعةِ أعظمٍ"
(1)
. ورُوي أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سجدَ غيرَ مفترشٍ، ولا قابِضِهما
(2)
(من محلِّ سجودِه) أي: بالمصلَّى، بفتحِ اللَّامِ، من أرضٍ، أو حصيرٍ، ونحوِهما.
(وأقلُّه) أي: السجودِ: (وضعُ جزءٍ من كلِّ عضوٍ) في السجودِ عليه؛ لأنَّه لم يقيدْ في الحديثِ. وإنْ سجدَ على ظهرِ كفِّه، أو أطرافِ أصابعِ يديه، فظاهرُ الخبرِ: يجزئُه؛ لأنَّه قدْ سجدَ على يديه. وكذا لو سجدَ على ظهورِ قدميه.
قال في "الإنصاف"
(3)
: وقيل: ولو كان بعضُها فوقَ بعضٍ، كأنْ يضعَ يديه على فخذيه حالةَ السجودِ.
ونقلَ الشالنجيُّ: إذا وضعَ مِنْ يديه بقدرِ الجبهةِ، أجزأهُ. قال ابنُ تميمٍ: ويجوزُ السجودُ ببعضِ الكفِّ، ولو على ظهرِه أو أطرافِ أصا بعِه، وكذا على بعضِ أطرافِ أصابعِ قدميه، وبعضِ الجبهةِ. وذكرَ في "التلخيص": أنَّه يجبُ على باطنِ الكفِّ. وقال ابن حامدٍ: لا يجزئُه أنْ يسجدَ على أطرافِ أصابعِ يديه. ويجزئُ السجودُ على ظهرِ القدمِ.
والسجودُ لغةً: التطامنُ والميلُ. وقيلَ: التذلُّلُ والخضوعُ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لو تركَ السجودَ على عضوٍ من هذه، مع القدرةِ، لم تصحَّ صلاتُه.
(ويعتبرُ المَقرُّ لأعضاءِ السجودِ، فلو وضعَ جبهتَه على نحوِ قطنٍ منفوشٍ،
(1)
أخرجه البخاري (812)، ومسلم (490) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه البخاري (828) من حديث أبي حميد الساعدي.
(3)
"الإنصاف"(3/ 506).
ولم ينكَبِسْ، لم تصحَّ.
ويصحُّ سُجودُه على كمِّه وذيلِه، ويُكره بلا عُذرٍ.
ولم ينكبس
(1)
، لم تصحَّ) صلاتُه. قال الأصحابُ: لو سجدَ على حشيشٍ، أو قُطنٍ، أو ثلجٍ، أو برَدٍ ونحوِه. ولم يجدْ حجمَه، لم تصحَّ؛ لعدمِ المكانِ المستقرِّ
(2)
.
(ويصحُّ سجودُه على كمِّه وذيلِه
(3)
، ويُكره بلا عذرٍ) وكذا على كَورِ عِمامتِه ونحوِه، صحَّتْ صلاتُه، ولم يُكره لعذرٍ، كحرِّ أو بردٍ ونحوِه.
"فروعٌ ": الأولُ: تُكره الصَّلاةُ بمكانٍ شديدِ الحرِّ والبردِ، مع إمكانِ غيرِه؛ لأنَّه يذهبُ بالخشوعِ، ويمنعُ كمالَ
(4)
الصَّلاةِ.
الثاني: لا يجبُ على المصلِّي مباشرةُ المصلَّى بشيءٍ منها، أي: من الأعضاءِ المذكورةِ، حتى الجبهةِ، كما تقدَّمَ.
أمَّا سقوطُ المباشرةِ بالقدمين والركبتين، فإجماعٌ؛ لصلاتِه صلى الله عليه وسلم في النعلَيْنِ والخفَّيْنِ. رواه ابنُ ماجه
(5)
من حديثِ ابن مسعودٍ.
وأما سقوطُ المباشرةِ باليدَيْنِ، فقولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لما روى ابنُ عباسٍ قال: رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في يوم مطيرٍ، وهو يتقي الطينَ بكساءٍ عليه، يجعلُه دون يديه إلى الأرضِ إذا سجدَ. وفي روايةٍ: أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في ثوبٍ واحدٍ متوشِّحًا به، يتَّقى
(1)
سقطت: "ولم ينكبس" من الأصل.
(2)
انظر "الإنصاف"(3/ 515).
(3)
في الأصل: "وذياله".
(4)
في الأصل: "إكمال".
(5)
أخرجه ابن ماجه (1039)، وصححه الألباني.
ومنْ عَجَزَ بالجبهَةِ، لم يلزمهُ بغَيرِها،
بفضولِه حرَّ الأرضِ وبردَها. رواهما أحمدُ
(1)
.
وأما سقوطُ المباشرةِ بالجبهةِ، فلحديثِ أنسِ قال: كنَّا نصلِّي مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شدَّةِ الحرِّ، فإذا لمْ يستطعْ أحدُنا أنْ يمكِّنَ جبهتَه من الأرضِ، بسطَ ثوبَه، فسجدَ عليه. رواه الجماعةُ
(2)
. وروى ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِه، عن ابنِ عمرَ: أنَّه كان يسجدُ على كَورِ عمامتِه
(3)
. وفي "صحيحِ البخاريِّ" عن الحسنِ قالَ: كان القومُ يسجدونُ على العمامةِ والقَلَنْسوةِ
(4)
.
فرعٌ ثالثٌ: إذا أرادَ السجودَ، فسقطَ على وجهِه، فماسَّتْ جبهتُه الأرضَ، أجزأَه ذلك، إلا أنْ يقطع نيةَ السجودِ. وإن سقطَ على جنبِه، ثم انقلَبَ، فماسَّت جبهتُه الأرضَ، لم يجزئه ذلك، إلَّا أن ينويَ السجودَ.
والفرقُ بين المسألتين: أنَّه هُنا خرجَ عن سَنَنِ الصَّلاةِ وهيئتِها، ثمَّ كان بانقلابِه الثاني عائدًا إلى الصَّلاة، فافتقرَ إلى تجديدِ النيةِ. وفي التي قبلَها، هو على هيئةِ الصَّلاة وسَنَنِها، فاكتُفِي باستدامةِ النيةِ. قالَهُ في "الشرح"
(5)
.
(ومَنْ عَجَزَ بالجبهةِ، لم يلزمْه بغيرِها) من أعضاءِ السجودِ؛ لأنها الأصل فيه، وغيرها تبع لها. أي: فيسقط السجودُ بباقي الأعضاءِ، تبعًا لها، بخلافِ العكسِ.
(1)
الأوّل: أخرجه أحمد (4/ 214)(2385). والثاني أخرجه أحمد (4/ 164)(2320).
(2)
أخرجه البخاري (1208)، ومسلم (620)، وأبو داود (660)، والترمذي (584)، والنسائي (1116)، وابن ماجه (1033).
(3)
أخرجه تمام في "فوائده"(29312 "1782) عن ابن عمر مرفوعًا.
(4)
ذكره البخاري معلقًا قبل حديث (385).
(5)
"الشرح"(3/ 514).
ويُومئُ ما يُمكِنُه.
فإنْ عَجَزَ عنه ببقيةِ الأعضاءِ غيرِ الجبهةِ، لم يسقطْ السجودُ بالباقي؛ لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا:"إنَّ اليدينِ تسجُدانِ، كما يسجدُ الوجهُ، فإذا وضعَ أحدُكما وجهَه، فليضعْ يديه، وإذا رفعَه، فليرفعْهما". رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ
(1)
.
وليس المرادُ وضعَهما بعد الوجهِ، كما
(2)
تقدَّمَ، بلْ إنَّهما تابعانِ له في السجودِ، وغيرُهما أَوْلى، أو مثلُهما في ذلك، لعدمِ الفارقِ.
(ويومئُ) عاجزٌ بسجودِه على جبهتِه غايةَ (ما يمكنُه) وجوبًا، لحديثِ:"إذا أمرتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتُمْ"
(3)
. ولا يجزئُ وضعُ بعضِ أعضاءِ السجودِ فوقَ بعضٍ، كوضعِ ركبتَيْه أو جبهتِه على يديه. وقيلَ: يصحُّ. قالَهُ في "الإنصاف".
"فائدةٌ": قال في "الإنصاف"
(4)
: لو سجدَ على مكانٍ أعلى من موضعِ
(5)
قدميه، جازَ، وإنْ لمْ يكنْ حاجةً. قدَّمه ابنُ تميمٍ، وقال: قالَهُ بعضُ أصحابِنا. قال ابنُ عقيلٍ: يُكره أنْ يكونَ موضعُ سجودِه أعلى من موضعِ قدمَيْه. وقيلَ: تبطلُ الصَّلاةُ بذلك. وقال في "التلخيص": استعلاءُ الأسفلِ
(6)
واجبٌ.
قال في "المبدع"
(7)
وإنْ علا موضعُ رأسِه على موضعِ قدميه، ولم تَستَعْلِ
(1)
أخرجه أحمدُ (8/ 92)(4501)، وأبو داودَ (892)، والنسائيُّ (1092)، وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "لما".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
"الإنصاف"(3/ 513).
(5)
في الأصل: "أو على موضع".
(6)
في الأصل: "الأسافل".
(7)
"المبدع"(1/ 456).
الثامنُ: الرفعُ من السُّجُود.
التاسعُ: الجُلوسُ بينَ السَّجدتين، وكيفَ جلسَ كَفَى.
والسنةُ أن يجلِسَ مفتَرِشًا على رِجلِه اليُسرى، وينصِبَ اليُمنى، ويُوجِّههَا إلى القِبلةِ.
العاشرُ: الطُمأنينةُ، وهي السُّكونُ
الأسافلُ بلا حاجةٍ، جازَ.
وقال أبو الخطاب وغيرُه: إنْ خرجَ عن صفةِ السجودِ، لم يجزئْه. وقال ابنُ تميمٍ: الصحيحُ أنَّ اليسيرَ من ذلك لا بأسَ به، دونَ الكثيرِ، وقدَّمَه في "الرعايتين". قال في "الحاويين": لم يُكره في أحدِ الوجهين. وأطلقهنَّ في "الفروع"
(1)
.
(الثامنُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الرفعُ من السجودِ) أي: في السجودِ الأوَّلِ والثاني.
(التاسعُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الجلوسُ بين السَّجدتين، وكيفَ جلسَ كَفَى. والسُّنةُ أن يجلسَ مفترِشًا) وصفتُه: أنْ يجلسَ (على رِجلِه اليسرى، وينصبَ اليمنى) ويخرجُها من تحتِه، ويجعلُ بطونَ أصابِعِها على الأرضِ مفرقةً، معتمدًا عليها (ويوجِّهُها إلى القبلةِ) هذا المذهبُ في صفةِ الافتراشِ، لا غير، وعليه الجمهورُ، لحديثِ عائشةَ: وكان يفرشُ رجلَه اليسرى، وينصبُ اليمنى. متفقٌ عليه
(2)
.
(العاشرُ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الطُمأنينةُ) وعرفَها بقولِه: (وهي: السُّكونُ،
(1)
انظر "الفروع"(2/ 204)، "الإنصاف"(3/ 514).
(2)
أخرجه مسلم (498)، ولم أجده عند البخاري.
-وإن قَلَّ- في كلِّ ركنٍ فعليٍّ.
الحادي عَشَرَ: التشهُّدُ الأخيرُ، وهو: اللهم صلِّ على محمَّدٍ،
وإنْ قلَّ، في كلِّ ركنٍ فعليٍّ) وهو الركوعُ، والرفعُ منه، والسجودُ، والرفعُ منه، والجلوسُ بين السجدتين.
قال الجوهريُّ: اطمأنَّ الرَّجلُ اطمئنانًا وطُمأنينةً، أي: سكنَ.
وقيل: إنَّ الركنَ من الطُّمأنينةِ بقدرِ الذِّكرِ الواجبِ؛ لأنَّ الذِّكرَ الواجبَ قد يزيدُ على أدنى السكونِ، فوجبَ أن يكونَ الركنُ بقدرِه، ليتمكَّنَ من الإتيانِ بالواجبِ.
(الحادي عشرَ) من أركانِ الصَّلاةِ: (التشهدُ الأخيرُ) لحديثِ ابنِ مسعودٍ: كنا نقولُ قبلَ أن يُفرضَ علينا التشهدُ: السَّلامُ على اللهِ، السَّلامُ على فلانٍ. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"قولوا: التحياتُ للهِ" إلى آخرِه. رواه الدارقطنيُّ والبيهقيُّ
(1)
وصحَّحاه. وفيه دلالةٌ على فرضيته من وجهين:
أحدُهما: قولُه: "قبلَ أنْ يفرضَ علينا التشهدُ".
والثاني: قولُه عليه السلام: "قولوا". والأمرُ للوجوبِ، وقد ثبتَ الأمرُ به في "الصحيحين"
(2)
أيضًا
(وهو: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ) لظاهرِ الآيةِ. وعدَّ المصنِّفُ الصَّلاةَ عليه صلى الله عليه وسلم ركنًا مستقلًا، تبعَ فيه صاحبَ "الإقناع"، وصاحبُ "الإقناع "تبعَ فيه صاحبَ "الفروع". وأمَّا صاحبُ "المنتهى"، وكثيرٌ من الأصحابِ، فقدْ جعلوها من جملةِ
(1)
أخرجه الدارقطنيّ (1/ 350)، والبيهقيُّ (2/ 138)، وصححه الألباني في "الإرواء"(319).
(2)
أخرجه البخاري (3370)، ومسلم (406) من حديث كعب بن عجرة.
بعد الإتيان بما يُجزىُ من التشهُّد الأوَّل،
التشهدِ الأخيرِ.
(بعدَ الاتيانِ بما يجزئُ من التشهدِ الأوَّلِ) يعني: تشهدَ ابنِ مسعودٍ، وهو أفضلُ التشهداتِ الواردةِ عن
(1)
الإمامِ أحمدَ والأصحابِ.
قال في "شرح الهداية": وإنَّما فضَّلنا تشهدَ ابنِ مسعودٍ على غيرِه، لسبعةِ أوجه:
أحدُها: أنَّه أصحّ التشهداتِ سندًا. ولذلك لمْ يتفقْ مسلمٌ والبخاريُّ على إخراجِ غيرِه، قالَ الترمذيُّ: أصحّ حديثٍ في التشهدِ حديثُ ابنِ مسعودٍ. قال الخطابئ: أصحّها إسنادًا، وأشهرُها حالًا: حديثُ ابنِ مسعودٍ.
الثاني: أنَّ أكثرَ العلماءِ عليه. قال الترمذيُّ: العملُ عليه
(2)
عند أكثرِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ
(3)
بعدَهُم من التابعين.
الثالثُ: أنَّ رواتِه اتفقتْ على ألفاظِه، ولم يختلفوا في حرفٍ منه، بلْ نقلُوه مرفوعًا وموقوفًا على صفةٍ واحدةٍ. أمَّا تشهدُ ابنِ عباسٍ؛ فزوي فيه السَّلامُ معرَّفًا ومنكَّرًا، ورُوي فيه من طريقٍ:"عبده ورسوله". ومن طريقٍ آخرَ: "رسول اللَّه" وكذلك بقيةُ التشهداتِ مختلفةٌ. وهذا يدلُّ على أنَّ ابنَ مسعودٍ، ومَنْ روى عنه أيقنُ لما نقلوه.
الرابعُ: أنَّ أحمدَ روى في "مسنده"
(4)
أنَّ ابنَ مسعودٍ، علَّمه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
في الأصل: "عند".
(2)
سقطت: "عليه" من الأصل.
(3)
في الأصل: "من".
(4)
أخرجه أحمد (6/ 28)(3562).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التشهدَ، وأمرَهُ أنْ يعلِّمه الناسَ، والأمرُ بتعليمِه دليل على فضيلتِه، ولئم يُنقلْ في غيرِه مثلُ ذلك.
الخامسُ: أنَّ الواوَ في تشهدِ ابنِ مسعودٍ، يقتضي أنَّ كلَّ صفةٍ ثناءٌ على اللهِ تعالى، وإسقاطُها يوجبُ كونَها صفاتٍ للتحياتِ، وما تضمَّن زيادةَ الثناءِ، كان أَوْلى.
السادسُ: أنَّ تشهدَ ابنِ مسعودٍ نُقلَ فيه الأمرُ به صريحًا، وتشهدُ ابنِ عباسٍ لمْ يُنقلْ فيه ذلك، إنما هو حكايةُ فعلٍ، والأمرُ أبلغُ في الدلالةِ على الفضيلةِ، والتأكيدُ من الفعلِ.
وهذا الوجهُ إنَّما ينتظمُ في ترجيحه
(1)
على تشهدِ ابنِ عباسٍ، وأما غيرُه ممَّا نُقل فيه أمرٌ، كتشهدِ أبي موسى، فلا.
السابعُ: يختصُّ ترجيحُه على تشهدِ عمر أنَّه صحَّ عن
(2)
النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، وتشهدُ عمرَ إنما صحَّ موقوفًا عليه، والمرفوعُ أَوْلى. انتهى.
قال ابنُ نصرِ اللهِ: ويُزادُ عليه وجهٌ:
ثامنٌ: أنَّ في بعضِ طرقِ ابنِ مسعودٍ، أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم علَّمَه التشهدَ، وكفُّه بين كفِّه. والأخذُ باليدِ في التعليم، يوجبُ تأكيدًا.
وتاسعٌ: وهو أنَّه رُوي: أنَّ أبا بكرٍ علَّمَه الناسَ على المنبرِ.
وعاشرٌ: وهو زيادةُ الألف واللَّامِ في السَّلامِ، فإنَّه أبلغُ؛ لأنَّه مستغرقٌ الجنسَ، بخلافِ: سلامٌ عليكَ.
(1)
في الأصل: "مرجيحته".
(2)
في الأصل: "على".
والمُجزئ منه: التَّحياتُ للَّه،
وحادي عشرَ: وهو تقديمُ اسمِ اللهِ تعالى، فإنَّه إذا قُدِّمَ، عُلِمَ الممدوحُ في ابتداءِ الكلامِ، ومتى أُخِّرَ كان محتَملًا، وإزالةُ الاحتمالِ في أوَّلِ الكلامِ أولى.
وثاني عشرَ: أنَّ "التحياتِ" عامٌّ، يتناولُ كلَّ قربةٍ من الصَّلاةِ وغيرِها، فإذا قال:"الصلواتُ"، بغيرِ واوٍ، صارَ تخصيصًا وبيانًا أنَّه أرادَ به الصَّلواتِ، لا غيرَ، ومع الواوِ يبقى على عمومِه، فيكونُ أبلغَ في الثناءِ.
وثالثَ عشرَ: وهو أنَّه ذِكْرٌ مشروعٌ في إحدى طرفي الصَّلاةِ، فكانَ الواو من مَشِه، كالاستفتاحِ؛ اعتبارًا لأحدِ الذكرين بالآخرِ.
(والمجزئُ منه) يعني: الذي لا يُكتفى بأقلَّ منه في التشهدِ الأوَّلِ. فيقولُ: (التحياتُ للَّه
(1)
) جمعُ تحيةٍ، أي: العظمةُ. روي عن ابنِ عباسٍ. أو: الملكُ والبقاءُ. وعن ابنِ الأنباريِّ: السَّلامُ. وجُمعَ؛ لأنَّ ملوكَ الأرضِ يحيَّونَ بتحياتٍ مختلفةٍ، فيقالُ لبعضِهم: أبيتَ اللَّعنَ. ولبعضِهم: أنعمْ صباحًا. ولبعضِهم: تسلم كثيرًا. ولبعضِهم: عشْ ألفَ سنةٍ. فقيل للمسلمين: قولوا
(2)
: التحياتُ للهِ. أي: الألفاظُ التي تدلّ على السَّلامِ، والملكِ، والبقاءِ، والعظمةِ، هي للهِ
(3)
. إضافةُ تخصيصٍ. قالتِ الحنفيةُ: وليستْ إضافةَ تحيةٍ وسلامٍ؛ لورودِ النهيِّ عن ذلك في قولِهِ عليه السلام: "لا تقولوا: السَّلامُ على اللهِ".
"والصَّلواتُ" قيل: الخمسُ. وقيلُ: المعلومةُ في الشرعِ. وقيل: الرحمةُ. وقال
(1)
سقطت: "للَّه" من الأصل.
(2)
سقطت: "قولوا" من الأصل.
(3)
انظر "المطلع" ص (53).
سلامٌ عليكَ أُيّها النَّبيُّ ورحمةُ اللَّه،
الأزهريُّ: العباداتُ كلّها. وقيلَ: الأدعيةُ. أي: هو المعبودُ بها.
"والطيباتُ" أي: الأعمالُ الصالحةُ. روي
(1)
عن ابنِ عباسٍ. وقال ابنُ الأنباريِّ: الطَّيباتُ من الكلامِ
(سلامٌ
(2)
عليك أيها النَّبِيُّ) بالهمزِ، من النبأ، وهو الخبرُ؛ لأنَّه يُنْبِئُ الناسَ، أو يُنَبَّأُ هو بالوحيِّ. وبتركِ الهمزِ؛ تسهيلًا. أو من النبوةِ، وهي الرفعةُ؛ لرفعةِ منزلتِه على الخلقِ. وقيل: هو مأخوذٌ من النبي، وهو الطريقُ؛ لأنَّ الأنبياءَ هم الطريقُ إلى اللهِ.
والنَّبيُّ: من ظهرتْ المعجزةُ على يديه. والرسولُ: هو النَّبِيّ المُرْسَلُ إلى الناسِ، سواءٌ أُنزِلَ عليه كتابٌ، أو أُمِرَ باتِّباعِ كتابِ غيرِه من الرُّسُلِ.
فإن قيل: لِمَ خصَّ
(3)
السَّلامُ باسمِ النبيِّ، وخُصَّتِ الشهادةُ باسمِ الرسولِ؟
فالجوابُ: أنَّ الرسولَ، إنَّما سُمِّيَ رسولًا، بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى، كما أشارَ إليه البيضاوي
(4)
، [فناسب أن يخصَّ بالشهادة المضافة إلى اللَّه تعالى في قولك:"أشهد أن لا إله إلا اللَّه ". والنبي إنما سمي نبيًا بالإضافة إلى الخلق؛ لأنَّه نبيهم]
(5)
. فنالسبَ أن يخصَّ باسمِ السَّلامِ منهم.
(ورحمةُ اللهِ) وبركاتُه: جمعُ بركةٍ، وهي النَّماءُ والزيادةُ.
(1)
سقطت: "روي" من الأصل.
(2)
في الأصل: "السلام".
(3)
في الأصل: "حي".
(4)
في الأصل: "فراوي".
(5)
سقط ما بين المعكوفين من الأصل. والمثبت من "معونة أولي النهى"(2/ 156).
سلامٌ علينا، وعلى عبادِ اللَّه الصالحين، أشهدُ أنْ لا إله إلا اللَّه وأنَّ محمدًا رسولُ اللَّه
(سَلامٌ
(1)
علينا) أي: الحاضرين من إمامٍ، ومأمومٍ، وملائكةٍ (وعلى عبادِ اللهِ الصالحين) الصَّلاحُ: القيامُ بحقوقِ اللهِ تعالى، وحقوقِ عبادِهِ، أو الإكثارُ من العملِ الصالحِ، بحيثُ لا يُعرفُ غيرُه. ويدخلُ فيه النساءُ، ومن
(2)
لمْ يشاركْهُ في صلاتِه؛ لقولِهِ عليه السلام: "فإنَّكم إذا قلتموها، أصابتْ كلَّ عبدٍ صالحٍ للهِ تعالى في السماءِ والأرضِ"
(3)
. قال أبو عليٍّ الدَّقاقُ: ليس شيءٌ أشرفَ، ولا اسمٌ أتمَّ للمؤمنِ، من الوصفِ بالعبوديةِ.
(أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ) أي: أُخبرُ بأنِّي قاطعٌ بالوحدانيةِ. ومن خواصِّ الهيللةِ: أنَّ حروفها كلَّها جوفيةٌ، ليصر فيها حرفٌ شفويٌّ؛ لأنَّ المرادَ بها الإخلاصُ، فيأتي بها من خالصِ جوفِه، وهو القلبُ، لا من الشفتينِ. وكلُّ حروفِها مهملةٌ، دالةٌ على التجودِ من كلِّ معبودٍ سوى اللهِ تعالى.
(و) أشهدُ (أنَّ محمَّدًا رسول الله
(4)
) لحديثِ ابنِ مسعودٍ قال: كنَّا إذا جلسنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاةِ، قلنا: السَّلامُ على اللهِ من عبادِه، السَّلامُ على جبريلَ، السَّلامُ على فلانٍ. فسمعنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال:"إنَّ اللهَ هو السَّلامُ، فإذا جلسَ أحدُكم فليقلْ: التحياتُ للهِ .. إلى آخرِه". قال: "ثمَّ ليتخيَّرْ من الدُّعاءِ أعجبَه إليه،
(1)
في الأصل: "السلام".
(2)
سقطت: "من" من الأصل.
(3)
أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود.
(4)
في الأصل: "عبدُه ورسولُه".
والكاملُ مشهورٌ.
فيدعو به"
(1)
. وفي لفظٍ: علَّمَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التشهدَ، كفِّي بين كفَّيْه، كما يعلِّمُني السورةَ من القرآنِ
(2)
. قال الترمذيُّ: هو أصح حديثٍ في التشهدِ، والعملُ عليه عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ من الصَّحابةِ والتابعينَ، وليس في المتفقِ عليه حديثٌ غيره. ورواه أيضًا ابنُ عمرَ، وجابرٌ، وأبو هريرةَ، وعائشةُ. ويترجَّحُ بأنَّه اختصَّ بأنَّه عليه السلام أمرَه بأن يعلِّمَه الناسَ. رواه أحمدُ
(3)
.
(والكاملُ مشهورٌ) وهو أنْ يقولَ بعد ذلك: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وباركْ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ. قال في "المنتهى"
(4)
: وهذه الصفةُ أَوْلى، لكونِ حديثِها متفقًا عليه.
ثمَّ يقولُ ندْبًا: أعوذُ باللهِ من عذابِ جهنَّمَ، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيحِ الدَّجالِ.
وإنْ دعَا بما وردَ في الكتابِ نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] فلا بأسَ.
أو دعا بما وردَ في السّنَّةِ نحو: "اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً من عندِكَ، وارحمْني، إنَّك أنتَ الغفورُ الرحيمُ"
(1)
أخرجه البخاري (835).
(2)
أخرجه البخاري (6265)، ومسلم (402).
(3)
أخرجه أحمد (6/ 28)(3562).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 409).
الثاني عشر: الجلوس له وللتَّسليمَتينِ، فلو تشهَّد غيرَ جالسٍ، أو سلَّم الأُولى جالسًا، والثانيةَ غيرَ جالسٍ، لم تصح.
متفق عليه
(1)
.
أو دعا بما وردَ عن الصَّحابةِ، كحديثِ ابنِ مسعودٍ موقوفًا
(2)
. وذهبَ إليه أحمدُ. قال ابنُه عبدُ اللهِ: سمعتُ أبي يقولُ في سجودِه: اللهمَّ كما صُنْتَ وجهي عن السجودِ لغيرِك، فصنْ وجهي عن المسألةِ لغيرِك. فلا بأسَ.
أو دعا بما وردَ عن السلف الصالحِ، فلا بأسَ.
أو دعا بأمرِ الآخرةِ، كـ: اللهمَّ أحسنْ خاتمتي. ولو لم يشبه ما وردَ، فلا بأسَ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا:"ثمَّ يدعو لنفسه بما بدا له"
(3)
.
أو دعا لشخصٍ معينٍ بغيرِ كافِ الخطابِ - وتبطلُ الصَّلاةُ به - فلا بأس
(4)
والواجبُ من ذلك: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ.
(الثاني عشرَ) من أركانِ الصَّلاةِ: (الجلوسُ له) أي: التشهدِ الأخيرِ. (و) الجلوسُ (للتَّسليمَتَيْنِ) لأنَّه ثبتَ عنه أنَّه عليه السلام، واظبَ على الجلوسِ لذلك. وقال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي".
(فلو تشهدَ غيرَ جالسٍ، أو سلَّم الأولى) أي: التسليمةَ الأولى (جالسًا) حال (والثانيةَ: غيرَ جالسٍ، لم تصحَّ) صلاتُه.
(1)
أخرجه البخاري (834)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر.
(2)
أخرجه الطبراني (10/ 55).
(3)
أخرجه النَّسَائِيّ (1310)، وصححه الألباني.
(4)
سقطت: "فلا بأس" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(1/ 411).
الثالثَ عَشَرَ: التسليمتان، وهو أن يقولَ مرَّتينِ: السلامُ عليكم ورحمةُ اللَّه.
والأَولى أن لا يزيد: وبركاتُهُ.
(الثالثَ عشرَ) من أركانِ الصَّلاةِ: (التسليمتان) فلا يخرجُ من فرضٍ - قال الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(1)
: ويتَّجهُ: ولو نذرًا- إلا بهما، سِوى جنازةٍ. ويخرجُ من نفلٍ بواحدةٍ، والثانيةُ سنة.
وهو أن يقولَ عن يمينِه استحبابًا، ثمَّ عن يسارِه كذلك. وإليه أشارَ بقولِه:(وهو أنْ يقولَ مرَّتين) مرتَّبًا معرَّفًا بأل، وجوبًا:(السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ) فلا يجزئُ: سلامٌ عليكمْ. ولا: سلامي عليكم. ولا: سلامُ اللهِ عليكمْ. لأنَّ الأحاديثَ قدْ صحَّت بأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "السَّلامُ عليكمْ"
(2)
. ولم يُنقل عنه خلافه. وقال: "صلّوا كما رأيتموني أصلِّي".
(والأوْلى: أنْ لا يزيدَ: وبركاتُه) قال في "الإنصاف": قالَهُ الأصحابُ
(3)
. لعدمِ ورودِه في أكثرِ الأخبارِ. لكنَّه لا يضرّ، لفعلِه عليه السلام. رواه أبو داودَ
(4)
من حديثِ وائلٍ. وقال في "المغني" و"الشرح" وابنُ تميمٍ وغيرُهم: وإنْ زادَ: وبركاتُه. فحسنٌ
(5)
.
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 182).
(2)
أخرجه أحمد (6/ 229)(3699)، وأبو داود (998)، والترمذي (295)، وصححه الألباني.
(3)
"الإنصاف"(3/ 570).
(4)
أخرجه أبو داود (999)، وصححه الألباني.
(5)
"الإنصاف"(3/ 570).
ويَكفِي في النَّفلِ تَسليمةٌ واحِدةٌ، وكذا في الجَنازَةِ.
الرابعَ عشَرَ: ترتيبُ الأركانِ، كما ذكَرنَا،
ويُسنُّ نيةُ الخروجِ من الصَّلاةِ. فلو نوى بسلامِه الخروجَ من الصَّلاةِ، وعلى الحفظةِ والإمامِ والمأمومِ، جازَ، ولم يُستحبَّ، على الصحيحِ من المذهبِ. نصَّ عليه، واختارَهُ الآمديُّ. وقدَّمَه في "الفروع". وقال في "التلخيص": ولمْ تبطلْ على الأظهرِ.
ولو نوى بسلامِه على الحفظةِ والإمامِ والمأمومِ، ولم ينوِ الخروجَ، فالصحيحُ من المذهبِ: الجوازُ. نصَّ عليه. قالَ في "الفروع": والأشهرُ: الجوازُ. وقدَّمه
(1)
في "المحرر".
قال ابنُ تميمٍ: لو نوى بسلامِه الحاضرين، ولم ينوِ الخروجَ، فقالَ ابنُ حامدٍ: تبطلُ صلاتُه، وجهًا واحدًا
(2)
.
(ويكفي في النفلِ تسليمةٌ واحدةٌ، وكذا في الجنازةِ) وسجودِ تلاوةٍ وشكرٍ. اختارَهُ جمع؛ منهم المجدُ. قال في "المغني" و"الشرح": لا خلافَ أنَّه يخرجُ من النفلِ بتسليمةٍ واحدةٍ. قال القاضي: الثانيةُ سنةٌ في الجنازةِ والنافلةِ، روايةً واحدةً.
وظاهرُ ما قدَّمه في "المبدع" وغيرِه: أنَّ النفلَ كالفرضِ، وهو ظاهرُ ما قطعَ به في "المنتهى"
(3)
.
والتسليمتانِ من الصَّلاةِ، كسائرِ الأركانِ. فلا يقومُ المسبوقُ قبلَهما.
(الرابعَ عشرَ) من أركانِ الصَّلاةِ (ترتيبُ الأركانِ، كما ذكرنا) هنا؛ لأنَّه
(1)
في الأصل: "وقدومه".
(2)
انظر "الإنصاف"(3/ 572).
(3)
انظر "كشاف القناع"(2/ 453).
فلو سَجَدَ -مثلًا- قبلَ رُكوعِه عمدًا، بطلت، وسهوًا، لزمَه الرجوعُ، ليركعَ ثمَّ يسجُدَ.
عليه السلام كان يصلِّيها مرتَّبةً في صلاتِه، وقدْ قالَ:"صلّوا كما رأيتموني أصلِّي". وهو: أنْ يأتي أولًا بتكبيرةِ الإحرامِ قائمًا، ثمَّ بالقراءةِ، ثمَّ بالرُّكوعِ، ثمَّ بالرَّفعِ منه، ثمَّ بالاعتدالِ، ثمَّ بالسَّجدةِ، ثمَّ بالرَّفعِ منه، ثمَّ بالجلوسِ بين السَّجدتين، ثمَّ بالسَّجدةِ الثانيةِ، ثمَّ بالقيامِ، ثمَّ بالرَّكعةِ الثانيةِ، ثمَّ بالتشهدِ الأوَّلِ، ثمَّ بالتشهدِ الآخرِ، ثمَّ يسلِّمُ. فلو نكسَ شيئًا من ذلك لم تصحَّ صلاتُه.
"فرعٌ": لو اعتقدَ مصلٍّ هذه الأركانَ سنةً، أو اعتقدَ السنةَ فرضًا، أو لمْ يعتقدْ شيئًا، وأدَّاها عالمًا أنَّ ذلك كلَّه من الصَّلاةِ، أو لمْ يعرفِ الشرطَ من الركنِ، فصلاتُه صحيحةٌ. قال العلامةُ الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(1)
: ويتَّجه: وعلى قياسِه، نحو وضوءٍ.
ثمَّ ذكرَ المصنِّفُ مثالًا في كيفيةِ الترتيبِ. فقالَ: (فلو سجدَ -مثلًا- قبل ركوعِه عمدًا، بطلتْ، وسهوًا: لزِمَه الرجوعُ ليركعَ، ثمَّ يسجدَ) وصلاتُه صحيحةٌ.
* * *
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 182).
فَصْلٌ
وواجباتُها ثمانيةٌ، تبطلُ الصلاةُ بتركِهَا عمدًا، وتسقُطُ سهوًا وجهلًا:
التكبيرُ لغيرِ الإحرامِ، لكنْ تكبيرةُ المسبُوقِ التي بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ سُنَّة.
وقولُ: سَمِعَ اللَّهُ لمن حمدَه، للإمامِ والمنفرد، لا للمأموم.
(فصلٌ)
(وواجباتُها ثمانيةٌ) على الصحيحِ. وعدَّها صاحبُ "المقنع" تسعةً (تبطلُ الصَّلاةُ بتركِها عمدًا) خرجَ السننُ (وتسقطُ) الواجباتُ (سهوًا وجهلًا) ويسجدُ للسهو إنْ تركَهُ سهوًا:
الأوَّلُ منها: (التكبيرُ لغيرِ الإحرامِ) لما تقدَّمَ: من أنَّ تكبيرةَ الإحرامِ من الأركانِ. والدليلُ على وجوبِ التكبيرِ لغيرِ إحرامٍ: ما رواه أحمدُ وغيرُه
(1)
من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا كبَّرَ الإمامُ وركعَ، فكبِّروا واركعوا، وإذا كبَّرَ وسجدَ، فكبِّروا واسجدُوا". وهذا الأمرُ يقتضي الوجوبَ.
(لكنْ تكبيرةُ المسبوقِ) الذي أدركَ إمامَه راكعًا، إذا كبَّرَ تكبيرتين، و (التي بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ سنةٌ) للاجتزاءِ عنها بتكبيرةِ الإحرامِ. فإنْ نوى بتكبيرهِ الإحرامَ والركوعَ، لم تنعقدْ صلاتُه.
(و) الثاني من الواجباتِ: (قولُ: سمِعَ اللهُ لمَنْ حمِدَه، للإمامِ والمنفردِ، لا للمأمومِ) هذا المذهبُ، وهو المختارُ للجمهورِ. وعنه: أنَّه ركنٌ. وعنه: سنةٌ.
(1)
أخرجه أحمد (32)(19665)، ومسلم (404).
وقولُ: ربَّنا ولك الحمد، للكُلِّ.
وقولُ: سُبحانَ ربِّيَ العظيمِ، مرةً في الرّكوعِ.
و: سُبحانَ ربِّى الأعلَى، مرةً في السجُودِ.
و: ربِّ اغفر لي، بينَ السَّجدَتين.
والتشهّدُ الأوَّل على غَيرِ مَنْ قامَ إمامُه سَهوًا.
والجلوسُ له.
(و) الثالثُ من الواجباتِ: (قولُ: ربَّنا ولك الحمدُ، للكلِّ) أي: لإمامٍ ومأمومٍ ومنفردٍ؛ لقولِهِ عليه السلام: "إذا قال الإمامُ: سمِعَ اللهُ لمَنْ حمِدَه، فقولوا: ربَّنا ولك الحمدُ"
(1)
. مع ما تقدَّمَ.
(و) الرابعُ من الواجباتِ: (قولُ: سبحانَ ربِّي العظيم. مرةً في الركوعِ) فلا يُكره الزيادةُ على ذلك، على الصحيحِ من المذهبِ. وقيل: يُكره.
(و) الخامسُ: من الواجباتِ: (سبحانَ ربِّيَ الأعلى مرةً في السجودِ) ولا يُكره الزيادةُ على ذلك.
(و) السادسُ من الواجباتِ: (ربِّ اغفرْ لي) إذا جلسَ (بين السَّجدَتين) صرةً، على كل من الإمامِ والمأمومِ والمنفردِ.
(و) السابعُ من الواجباتِ: (التشهدُ الأوَّلُ) لأنَّه عليه السلام فعلَه، وداومَ عليه، وأمرَ به، وسجدَ للسهوِ حين نسيَه. وإنَّما يجبُ التشهدُ الأوَّلُ (على غيرِ مَنْ قامَ إمامُه) إلى ثالثةٍ (سهوًا) عن التشهدِ؛ لوجوبِ متابعتِه.
(و) الثامنُ من الواجباتِ: (الجلوسُ له) أي: للتشهدِ الأوَّلِ.
(1)
أخرجه البخاري (3228)، ومسلم (409) من حديث أبي هريرة.
وسُننُها: أقوالٌ وأفعالٌ، ولا تبطلُ بتَركِ شيءٍ مِنها ولو عَمدًا، ويُباحُ السُّجودُ لِسَهوهِ.
"تنبيهٌ": ومحلّ ما تقدَّمَ من تكبيرِ الانتقالِ، والتسميعِ، وكذا التحميدِ لمأمومٍ: بين ابتداءِ انتقالٍ وانتهائِه. فلو شرعَ فيه، أي: في ذلك المحلِّ، قبلَ أنْ ينتقلَ إليه، كما لو كبَّرَ لسجودٍ قبلَ هويِّه إليه، أو كمَّله بعدُ؟ بأنْ كمَّلَ التكبيرَ وهو ساجدٌ؛ بأنِ انتهى هويُّه، لم يجزئْه ذلك التكبيرُ، كتكميلِه واجبَ قراءةٍ، كتكميلِ الإمامِ والمنفردِ الفاتحةَ راكعًا، أو شروعِ المصلِّي في تشهدٍ قبلَ قعودٍ للتشهدِ.
قال المجدُ في "شرح الهداية": وينبغي أنْ يكونَ تكبيرُ الخفضِ والرفعِ والنهوضِ، ابتداؤُه مع ابتداءِ الانتقالِ، وانتهاؤُه مع انتهائِه، فإنْ كمَّلَه في جزءٍ مِنه، أجزأه؛ لأنَّه لم يخرجْ به عن محلِّه. وإنْ شرعَ فيه قبلَه، أو كمَّلَهِ بعدَه، فوقع بعضه خارجًا عنه، فهو كتركه؛ لأنَّه لم يكمله
(1)
في محلِّه، فأشبَه مَنْ تمَّمَ قراءتَه راكعًا، أو أخذَ في التشهدِ قبل قعودِه. هذا قياسُ المذهبِ. ويحتملُ أنْ يُعفَى عن ذلك؛ لأنَّ التحرزَ منه يعسرُ، والسهوَ به كثيرٌ، ففي الإبطالِ به، أو السجودِ له مشقَّةٌ. انتهى.
(و) من أقوالِ الصَّلاةِ وأفعالِها: (سننُها) وهي: (أقوالٌ وأفعالٌ. ولا تبطلُ) الصَّلاةُ (بتركِ شيءٍ منها) أي: تركِ المصلِّي له (ولو عمدًا) بخلافِ الأركانِ والواجباتِ (ويباحُ السجودُ لسهوِه) أي: تركِهِ سهوًا. فلا يجبُ، ولا يستحبُّ.
(1)
سقطت: "فوقع بعضه خارجًا عنه، فهو كتركه؛ لأنَّه لم يكمله" من الأصل، والمثبت من "الإنصاف"(3/ 473).
فسُنن الأقوالِ أحدَ عشرَ:
قولُه -بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ-: سُبحانَكَ اللَّهم وبحمدِك، وتباركَ اسمُك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرُك. والتعوُّذُ. والبسملةُ. وقولُ: آمين. وقراءةُ السورةِ بعدَ الفاتحةِ. والجهرُ بالقِراءةِ للإمامِ، ويُكرَه للمأمُومِ، ويخيَّرُ المنفرِدُ. وقولُ غيرِ المأمومِ - بعدَ التحميدِ -: ملءَ السماءِ وملءَ الأرضِ وملءَ ما شِئتَ من شيءٍ بعدُ
(فسننُ الأقوالِ أحدَ عشرَ):
الأوَّلُ: (قولُه بعد تكبيرةِ الإحرامِ: سبحانكَ اللهمَّ وبحمدك، وتباركَ اسمُك، وتعالى جدُّك، ولا إلهَ غيرُك).
(و) الثاني من سننِ الأقوالِ: (التعوذُ) من الشيطانِ الرجيمِ.
(و) الثالثُ من سننِ الأقوالِ: (البسملةُ) وهو قولُ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ.
(و) الرابعُ من سننِ الأقوالِ: (قولُ: آمين).
(و) الخامسُ من سننِ الأقوالِ: (قراءةُ السورةِ
(1)
بعدَ الفاتحةِ) في فجرٍ، وجمعةٍ، وعيدٍ، وتطوعٍ، وأولَتَي مغربٍ ورباعيةٍ.
(و) السادسُ من سننِ الأقوالِ: (الجهرُ بالقراءةِ) في جهريةٍ (للإمامِ، ويُكره للمأمومِ، ويُخيَّرُ المنفردُ) في الجهر.
(و) السابعُ من سننِ الأقوالِ: (قولُ غيرِ المأمومِ بعدَ التحميدِ: ملءَ السماءِ، وملءَ الأرضِ، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ) شُرِعَ ذلك لإمامٍ ومنفردٍ، دون
(1)
في الأصل: "سورة".
وما زاد على المرَّةِ في تَسبيحِ الركُوعِ والسُّجُودِ، و: ربِّ اغفِرْ لِيْ. والصلاةُ - في التشهُّد الأخيرِ - على آلِه عليه السلام. والبركَةُ عليهِ وعليهِم. والدُّعاءُ بعدَه.
المأمومِ، وأشارَ إليه في المتن.
(و) الثامنُ من الأقوالِ: (ما زادَ على المرَّةِ) الأولى (في تسبيحِ الركوعِ والسُّجودِ، و: ربِّ اغفرْ لي) أي: سؤالُ المغفرةِ بين السَّجدتين.
(و) التاسعُ من سننِ الأقوالِ: (الصَّلاةُ -في التشهدِ الأخيرِ- على آلِه عليه السلام.
(و) العاشرُ من سننِ الأقوالِ: (البركةُ عليه وعليهم).
(و) الحادي عشر: (الدُّعاءُ بعدَه) أي: أخرَ التشهدِ الأخيرِ، لقولِه عليه السلام في حديثِ ابنِ مسعودٍ:"ثمَّ ليتخير من الدُّعاءِ أحسنَه إليه فيدعو"
(1)
.
قال الشيخُ تقيُّ الدين
(2)
: وأنواعُ الأدعيةِ التي كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو بها في آخرِ صلاتِه؛ آخرَ التشهدِ، الثابتُ عنه، كلُّها سائغَةٌ
(3)
، إلا أنَّ ما أمرَ به أفضلُ ممَّا نُقِلَ عنه ولم يأمرْ به. وقدْ ثبتَ عنه أنَّه قال:"إذا قعدَ أحدُكم في التشهدِ، فليستعذْ من أربعٍ، يقولُ: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من عذابِ القبرِ"
(4)
. الحديث. فالدُّعاءُ بهذا أفضلُ من الدُّعاءِ بقولِه: "اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلنتُ، وما
(1)
أخرجه البخاري (835).
(2)
انظر "مجموع الفتاوى"(22/ 266).
(3)
سقطت: "سائغة" من الأصل.
(4)
أخرجه مسلم (588) من حديث أبي هريرة.
وسُننُ الأفعالِ -وتُسمَّى الهيئات-:
أنتَ أعلمُ به منِّي
(1)
، أنتَ المقدِّمُ وأنتَ المؤخِّرُ، لا إلهَ إلا أنتَ"
(2)
. وقد صحَّ أنَّه كان يقولُ ذلك، لكنْ الأوَّلُ أمَرَ به.
وإنْ دعا في تشهدِه بما وردَ في الكتابِ أو السنةِ، أو عن الصَّحابةِ، أو السلفِ، أو بأمرِ الآخرةِ ولو لم يشبه ما وردَ، أو لشخصٍ معينٍ بغيرِ كافِ الخطابِ. وتبطلُ به، فلا بأسَ.
قال في "المبدع"
(3)
: وشرطُه: الإخلاصُ. قال الآجريُّ
(4)
: واجتنابُ الحرامِ. وظاهرُ كلامِ ابنِ الجوزيِّ وغيرِه: أنَّه من الآدابِ. وقال الشيخُ تقيُّ الدين: تبعدُ إجابتُه إلا مضطرًّا أو مظلومًا. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهدَ في الدُّعاءِ قال: "يا حيُّ يا قيومُ". رواه الترمذيُّ
(5)
من روايةِ إبراهيمَ بنِ الفضلِ، وهو ضعيفٌ.
(وسننُ الأفعالِ) المرادُ بالأفعالِ: ما يشملُ فعلَ اللِّسانِ. (وتُسمَّى الهيئاتِ) أي: سمَّاها صاحبُ "المستوعب" وغيرُه: هيئةً، بفتح الهاء وكسرها؛ لأنَّها صفةٌ في غيرِها. فدخلَ في سننِ الهيئاتِ: جهرُ إمامٍ بتكبيرٍ، وتسميعٍ، وتسليمةٍ أولى، وقراءةٍ في جهريةٍ.
ودخلَ: إخفاتٌ، أي: وهو الإسرارُ بالقراءةِ لغيرِ إمامٍ، إلَّا المأمومَ لحاجةٍ
(6)
.
(1)
سقطت: "مني" من الأصل.
(2)
أخرجه مسلم (771) من حديث عليٍّ.
(3)
"المبدع"(1/ 406).
(4)
في الأصل: "الأخزي". والمثبت من "المبدع" 1/ 424.
(5)
أخرجه الترمذي (3436) من حديث أبي هريرة. قال الألباني: ضعيف جدًا.
(6)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 451).
رفعُ اليدينِ مَعَ تكبيرَةِ الإحرام، وعِندَ الركُوعِ، وعندَ الرَّفعِ منه. وحَطُّهُما عَقِبَ ذلك. ووضعُ اليُمنى على الشِّمالِ، وجعلُهما تحتَ سُرَّتهِ. ونظرُه إلى مَوضِعِ سجُودِه. وتفرِقتُه بينَ قدَميهِ قائمًا. وقَبضُ زكبتِيه بيَديهِ مفرَّجتَي الأصابعِ في ركوعِه. ومدُّ ظَهرِه فيه، وجعلُ رأسِه حِيالَه. والبَداءَةُ في سُجُودِه بوَضعِ رُكبتَيه، ثمَّ يدَيهِ، ثمَّ جَبهتِه وأنفِه. وتمكينُ أعضَاءِ السُّجودِ من الأرض. ومباشرتها لمحَلِّ السجُودِ،
ودخلَ: ترتيلُ قراءةٍ، وتخفيفُ صلاةٍ لإمامٍ، وإطالةُ الركعةِ الأولى، وتقصيرُ الركعةِ الثانيةِ؛ لأنَّ هذه صفاتٌ في غيرِها، فهي من الهيئاتِ.
ومن ذلك: (رفعُ اليدين) مبسوطتين مَمْدُودَتَيِّ الأصابعِ، مستقبلًا ببطونِها القبلةَ إلى
(1)
حَذْوِ منكِبَيْه (مع تكبيرةِ الإحرامِ، و) رفعِ اليدين (عند الرُّكوعِ، و) رفعِ اليدين (عند الرَّفعِ منه) أي: من الرُّكوعِ (وحطُّهما) أي: اليدين (عقبَ ذلك) أي: عقبَ الفراغِ من الإحرامِ، أو الركوعِ، أو الرَّفعِ منه (ووضعُ اليُمنى على الشِّمالِ) عقبَ الإحرامِ (وجعلُهما) أي: اليمينِ والشِّمالِ (تحتَ سُرَّتِه. ونظرُه إلى موضعِ سجودِه) في غيرِ صلاةِ خوفٍ ونحوِه (وتفرقتُه بين قدمَيْه) يسيرًا (قائمًا) أي: في حالِ قيامِه (وقبضُ ركبتيه بيديه) حالَ كونِ يديه (مُفرَّجتيِّ الأصابعِ في ركوعِه. ومدُّ ظهرِه فيه) أي: في ركوعِه مستويًا (وجعلُ رأسِه حِيالَه) فلا يخفضُه ولا يرفعُه (والبداءةُ في سجودِه بوضعِ ركبتيه، ثمَّ يديه، ثمَّ جبهتِه وأنفِه) أي: كلُّ ذلك (وتمكينُ أعضاءِ السُّجودِ من الأرضِ) في سجودِه (ومباشرتُها لمحلِّ السُّجودِ،
(1)
في الأصل: "في".
سِوى الرُّكبتين، فيُكره. ومُجافاةُ عضُدَيه عن جَنبيهِ، وبَطنِه عن فخِذَيه، وفخِذَيه عن ساقَيه. وتفريقُه بينَ رُكبتَيه. وإقامَةُ قَدمَيه، وجَعلُ بُطونِ أصابعِهما على الأرضِ مُفرَّقةً. ووضعُ يَديه حَذْوَ مَنِكبيهِ مبسوطَةً مضمومَةَ الأصابع. ورفعُ يَديه أوَّلا في قِيامِه إلى الرَّكعَةِ. وقياف على صُدُورِ قدمَيه. واعتمادُه على رُكبتيه بيدَيه. والافتراشُ في الجلوس بين السَّجدَتَين وفي التشهُّدِ الأوَّل. والتورّكُ في الثاني. ووضعُ اليدين على الفَخِذَينِ مبسُوطتَين مضمُومتَيِ الأصابعِ بينَ السجدتَين، وكذا في التشهُّد، إلَّا أنَّه يقبِضُ مِنَ اليُمنى الخُنصَرَ والبُنصَرَ، ويُحلِّقُ إبهامَها مع الوسطَى، ويُشيرُ بسبابتِها عندَ
سِوى الرُّكبتينِ، فيُكرَه. ومجافاةُ عضُدَيه عن جنبيه
(1)
، و) مجافاةُ (بطنِه عن فخِذَيه، و) مجافاةُ (فخذيه عن ساقيه) في سجودِه (وتفريقُه بين رُكبتَيه) في سجودِه (وإقامةُ قدمَيه، وجعلُ بطونِ أصابعِهما على الأرضِ مفرَّقةً) في حالِ سجودِه (ووضعُ يديه حَذْوَ مَنْكِبيه مبسوطةَ) الأكفِّ (مضمومةَ الأصابعِ) إذا سجدَ (ورفعُ يديه أوَّلًا في حالِ قيامِه إلى الرَّكعةِ، وقيامُه على صُدُورِ قدمَيْه، واعتمادُه على رُكبتَيه بيدَيه، والافتراشُ في الجلوسِ بين السجدتين، و) الافتراشُ (في التشهدِ الأوَّلِ، والتورُّكُ في) التشهدِ (الثاني. ووضعُ اليدين على الفخِذَين مبسُوطتي) الأكفِّ (مضمومتي الأصابعِ) مستقبلًا بها القبلة (بين السجدتين، وكذا في التشهدِ) الأوَّلِ والثاني، (إلا أنَّه يقبضُ من) اليدِ (اليمنى الخنصرَ والبنصرَ، ويُحلِّقُ إبهامَها مع الوسطى، ويُشيرُ بسبابتِها) وتُسمَّى: السبَّاحةَ (عند
(1)
في الأصل: "جسدِه".
ذكرِ اللَّه. والتفاتُه يَمينًا وشِمالًا في تَسليمِه. ونيَّتُهُ به الخروج من الصلاةِ. وتفضيلُ الشِّمال على اليمينِ في الالتِفاتِ.
ذكرِ اللهِ) تعالى (والتفاتُه يمينًا وشمالًا في تسليمِه. ونيتُه به الخروجَ من الصَّلاةِ) بالسَّلامِ. وتقدَّمَ الكلامُ على ذلك. (وتفضيلُ الشِّمالِ على اليمينِ في الالتفاتِ).
"فائدةٌ": يُسنُّ الخشوعُ في الصَّلاةِ، وقدْ عرَّفَه صاحبُ "الإقناع"
(1)
بقوله: وهو معنًى يقومُ بالنفسِ، يظهرُ منه سكونُ الأطرافِ.
وقال بعضُهم: وهو سكونُ القلبِ على المقصودِ من غيرِ التفاتٍ إلى غيرِه، وسكونُ الجوارحِ عن التقلُّب في غيرِ المفعولِ على قصدِ القُربةِ. لقولِه عليه السلام في العابثِ بلحيتِه:"لو خشَعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحُه"
(2)
. قالَ الجوهريُّ: الخشوغ: الخضوعُ. والإخباتُ: الخشوعُ. وقال البيضاويُّ
(3)
في قولِه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} أي: خائفونَ من اللهِ، متذَلِّلون له، مُلزِمونَ أبصارَهم مساجدَهم. والخضوعُ: اللِّينُ والانقيادُ. ولذلك يقال: الخشوعُ بالجوارحِ، والخضوعُ بالقلبِ.
وقال الشيخُ العلامةُ تقيُّ الدين
(4)
ابن تيمية: إذا غلبَ الوسواسُ على أكثرِ
(1)
"الإقناع"(1/ 207).
(2)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1188)، وعبد الرزاق (3308، 3309) من حديث ابن المسيب موقوفًا. وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول 3/ 210 من حديث أبي هريرة مرفوعًا. وقال الألباني في الضعيفة (110)، والإرواء (373): موضوع. ثم قال: فهو لا يصح مرفوعًا ولا موقوفًا، لكنه قال في الضعيفة: ثم وجدت للموقوف طريقًا آخر
…
وهذا إسناد جيد يشهد لما تقدم عن العراقي أن الحديث معروف عن ابن المسيب.
(3)
"تفسير البيضاوي"(14614).
(4)
سقطت: "الدين" من الأصل.
فَصْلٌ فِيمَا يُكرَهُ في الصَّلاةِ
الصَّلاةِ لا يبطلُها. لأنَّ الخشوعَ سنةٌ، والصَّلاةُ لا تبطلُ بتركِ سنةٍ.
وذكر الشيخُ وجيهُ الدينِ: أنَّ الخشوعَ واجبٌ، وعليه: فتبطلُ صلاة
(1)
مَن غلبَ الوسواسُ على أكثرِ صلاتِه. لكنْ قال في "الفروع": مرادُه -واللهُ أعلمُ- في بعضِها. وإن أرادَ في كلِّها، فإنْ لمْ تبطلْ بتركِه، فخلافُ قاعدةِ تركِ الواجبِ، وإنْ أبطلَ به، فخلافُ الإجماعِ، وكلاهما خلافُ الأخبارِ. انتهى
(2)
.
ولم يأمرِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم العابثَ بلحيتِه بإعادةِ الصَّلاةِ، مع قولِه:"لو خشعَ قلبُ هذا، لخشعتْ جوارحُه". قال في "شرح المنتهى": وهذا منه يدلُّ على انتفاءِ خشوعِه في صلاتِه كلِّها. قال في "المنتهى": ولا تبطُلُ بعملِ القلبِ، ولو طالَ، وهو يدلُّ على أنَّها لا تبطلُ بتركِ الخشوعِ.
(فصلٌ، فيما يُكره في الصَّلاةِ)
المكروه: ضدُّ المندوبِ، وهو لغةً: ضدُّ المحبوبِ، أخذًا من الكراهةِ. وقيل: من الكريهةِ. وهي الشدَّةُ في الحربِ.
وفي اصطلاحِ أهلِ الشرعِ: ما مُدِحَ تاركُه، ولم يُذمَّ فاعلُه. فخرجَ بـ "ما مُدِحَ": المباحُ، فإنَّه لا مدحَ فيه ولا ذمَّ. وخرجَ بقولِه:"تاركُه": الواجبُ والمندوبُ، فإنَّ فاعلَهما يمدحُ، لا تاركُهما. وخرج بقوله:"ولمْ يُذمَّ فاعلُه": الحرامُ، فإنه يُذمُّ فاعلُه؛ لأنَّه وإن شاركَ المكروهَ في المدحِ بالتركِ، فإنه يفارقُه في ذمِّ فاعلِه.
(1)
سقطت: "صلاة" من الأصل.
(2)
انظر "كشاف القناع"(2/ 459).
يكرهُ للمصلِّي: اقتصارُه على الفاتِحةِ، وتَكرارُهَا، والتِفاتُه بلا حاجةٍ،
ولا ثوابَ في فعلِه. قال ابنُ مفلحٍ في " فروعه ": قالوا في الأصولِ: المكروهُ: لا ثوابَ في فعلِه. قال: وقدْ يكونُ المرادُ منهم: ما كُرِه بالذَّاتِ، لا بالعَرَضِ. قال: وقدْ يُحملُ قولُهم على ظاهرِه. ولهذا لما احتجَّ مَنْ كَرِه صلاةَ الجنازةِ في المسجدِ بالخبرِ الضعيفِ الذي رواه أحمدُ وغيرُه
(1)
: "مَنْ صلَّى على جنازةٍ في المسجدِ، فليس له من الأجرِ شيءٌ". لمْ يقلْ أحدٌ بالأجرِ مع الكراهةِ، لا اعتقادًا ولا بحثًا.
وهو في عُرفِ المتأخرين للتنزيه، يعني: أنَّ المتأخرين اصطلَحوا على أنَّهم إذا أطلقوا الكراهةَ، فمرادُهم التنزيهُ، لا التحريمُ. وإنْ كان عندَهُم لا يمتنعُ أنْ يُطلقَ على الحرامِ، لكن قدْ جرتْ عادتُهم وعرفُهم: أنَّهم إذا أطلقوه أرادوا التنزيهَ. وهذا مصطلحٌ لا مشاحَّةَ فيه
(2)
.
و (يُكره للمصلِّي) فرضًا: (اقتصارُه على الفاتحةِ) فإنَّه خلافُ المأمورِ به.
(و) يُكره (تكرارُها) أي: الفاتحةِ في ركعةٍ؛ لأنَّها ركنٌ، وفي إبطالِ الصَّلاةِ بتكرارِها خلافٌ، وقد ذكرَ في "الفائق" وغيره، أنَّها روايةٌ.
(و) يُكره (التفاتٌ) قال في "الإقناع"
(3)
: يسيرٌ، لحديثِ عائشةَ قالتْ: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الالتفاتِ في الصَّلاةِ؟. فقال: "هو اختلاسٌ يختلسُه الشيطانُ من صلاةِ العبدِ". رواه البخاريُّ
(4)
. (بلا حاجةٍ) كخوفٍ على نفسِه أو مالِه، ونحوِه
(1)
أخرجه أحمد (15/ 454)(9730)، وابن ماجه (1517) من حديث أبي هريرة. وحسنه الألباني.
(2)
انظر "شرح الكوكب المنير"(1/ 413، 418).
(3)
انظر "كشاف القناع"(2/ 403).
(4)
أخرجه البخاري (751).
وتَغميضُ عينَيه، وحَملُ مُشغِلٍ لهُ، وافتراشُ ذِرَاعيهِ ساجدًا، والعَبثُ،
كمرضٍ، لم يُكره؛ لحديثِ سهلِ بنِ الحنظليةِ قال: ثُوِّبَ بالصَّلاةِ، فجعلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلِّي، وهو يلتفتُ إلى الشِّعبِ. رواه أبو داودَ
(1)
. قال: وكان أرسلَ فارسًا إلى الشعبِ يحرسُ. وكذا قال ابنُ عباسٍ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يلتفتُ يمينًا وشمالًا، ولا يلوي عنقه. رواه النسائيُّ
(2)
.
(و) يُكره (تغميضُ عينيه) بلا حاجةٍ. قالَ في "الإقناع"
(3)
: كخوفِه
(4)
محذورًا، مثلَ: أنْ رأى زوجتَه أو أَمتَه عُريانةً. أي: ويخشى أنْ يحصلَ عندَهُ شهوةٌ، فيهذي، ونحو ذلك. وقال الشارحُ: بأنَّه فعلُ اليهودِ، ومظنةُ النَّومِ.
(و) يُكره (حملُ مُشغِلٍ له) لأنَّه يَذهبُ بالخشوعِ.
(و) يُكره (افتراشُ ذراعيه ساجدًا) لحديثِ جابرٍ مرفوعًا: "إذا سجدَ أحدُكم، فليعتدلْ، ولا يفترشْ ذراعيه افتراشَ الكلبِ". رواه الترمذيُّ
(5)
، وقال: حسنٌ صحيحٌ. بلِ السنَّةُ أنْ يرفعَهما عن الأرضِ، ويعتمدَ على راحتَيْه. كما في خبرِ مسلمٍ.
(و) يُكره (العبثُ) لقولِه عليه السلام: "إنَّ اللهَ يكرَه لكمْ ستًّا" وذكر منها: العبثَ في الصَّلاةِ
(6)
. ولأنَّه يشغلُ عن الصَّلاةِ ويُذهبُ الخشوعَ؛ لأنَّه عليه السلام
(1)
أخرجه أبو داود (917)، وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (1201)، وصححه الألباني.
(3)
"الإقناع"(1/ 194).
(4)
في الأصل: "كخوف". والمثبت من "الإقناع" 1/ 127.
(5)
أخرجه الترمذي (275)، وصححه الألباني.
(6)
أخرجه ابن مبارك في "الزهد"(1557) عن يحيى بن أبي كثير مرسلا. وضعفه الألباني =
والتخصُّر، والتِّمطِّي، وفتحُ فمِه، ووضعُه فيه شيئًا، واستقبالُ صورةٍ،
رأى رجلًا يعبثُ في الصَّلاةِ. فقال: "لو خضعَ قلبُه؛ لخشعتْ جوارحُه"
(1)
.
(و) يُكره (التخصُّرُ) وهو: وضعُ يدِه على خاصرتِه؛ لأنَّه من أفعالِ المتكَبِّرين، ولحديثِ أبي هريرةَ يرفعُه:"نهى أنْ يصلِّيَ الرجلُ متخصِّرًا". متفق عليه
(2)
.
(و) يُكره (التمطِّي) لأنَّه يشعرُ بالتغافلِ والتكاسُلِ عن الصَّلاةِ، ويُذهبُ خشوعَها.
(و) يُكره (فتحُ فمِه) لما فيه من بشاعةِ المنظرِ، واشتغالِه عن أذكارِ الصلاةِ. وكذا يُكره إخراجُ لسانِه، ورمزُه بعينِه، وإشارتُه بهَا لغيرِ حاجةٍ.
(و) يُكره (وضعُه فيه شيئًا) أي: كدراهمَ. وظاهرُه: سواءٌ وضعَه في الصَّلاةِ أو قبلها واستدام ذلك فيها، فإن ذلك يخرجه عن هيئة الصلاة، ويمنعُ كمالَ الحروفِ.
(و) يُكره (استقبالُ صورةٍ) منصوبةٍ. نصَّ عليه. لما فيه من التشبه
(3)
بعبادةِ الأوثانِ والأصنامِ. وظاهرُه: ولو صغيرةً لا تبدو لناظرٍ إليها، وأنَّه لا يُكره إلى غيرِ منصوبةٍ، ولا سجودُه على صورةٍ، ولا صورةٌ خلفَهُ في البيتِ، ولا فوقَ رأسِه في سقفٍ، أو عن أحدِ جانبيه. ذكرَهُ في "الفروع"
(4)
.
قال ابنُ نصرِ اللهِ: وكذا لو كانتْ جالسةً قُدَّامه. والمرادُ: صورةُ الحيوانِ
= في "الضعيفة"(3079)، و"ضعيف الجامع"(1631).
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
أخرجه البخاري (1220)، ومسلم (545).
(3)
في الأصل: "التشبيه".
(4)
"الفروع"(2/ 277).
ووجهِ آدميٍّ، ومُتَحدِّثٍ، ونائمٍ، ونارٍ، وما يُلهِيه، ومسُّ الحصى، وتسويةُ التُّرابِ بلا عُذرٍ،
المحرَّمةِ. أمَّا لو كان قُدَّامه صورةُ شجرٍ أو خيالٍ ونحوِهما، لم يُكره الصَّلاةُ إليها.
(و) يُكره استقبالُ (وجهِ آدميٍّ) نصًّا. وإلى امرأةٍ تصلِّي بين يديه، لا حيوانٍ غيرِ آدمي؛ لأنَّه عليه السلام كان يعرِّضُ راحلتَه، ويصلِّي إليها
(1)
. وفي "الرعاية": يُكره استقبالُ حيوانٍ غيرِه. قالَهُ في "الإقناع"
(2)
.
(و) يُكره استقبالُ (متحدِّثٍ) فإنَّ ذلك يُشغلُه عن حضورِ قلبِه في الصَّلاةِ.
(و) يُكره استقبالُ (نائمٍ) لنهيه عليه السلام عن الصَّلاةِ إلى النائمِ والمتحدِّثِ. رواه أبو داودَ
(3)
.
(و) يُكره استقبالُ (نارٍ) مطلقًا. أي: سواءٌ كانتْ نارَ حطبٍ، أو سراج، أو قنديل، أو شمعةٍ. نصَّ عليه؛ لأنَّه تشبُّهٌ بالمجوسِ.
(و) يُكره استقبالُ (ما يُلهيه) لحديثِ عائشةَ أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في خميصةٍ لها أعلامٌ، فنظرَ إلى أعلامِها نظرةً، فلمَّا انصرفَ قال:"اذهبوا بخميصَتي هذه إلى أبي جهمٍ، وائتُوني بأَنْبِجانيَّةِ أبي جهمِ، فإنَّها ألْهَتْني آنفًا عن صلاتي". متفقٌ عليه
(4)
. والخميصةُ: كساءٌ مربَّعٌ. والأَنبجانيةُ: كساءٌ غليظٌ.
(و) يكْرهُ (مسُّ الحصا، وتسويةُ الترابِ بلا عذرٍ) لحديثِ أبي ذرٍ مرفوعًا: "إذا
(1)
أخرجه البخاري (507)، ومسلم (502) من حديث ابن عمر.
(2)
"الإقناع"(1/ 195).
(3)
أخرجه أبو داود (694) من حديث ابن عباس. وحسنه الألباني.
(4)
أخرجه البخاري (373)، ومسلم (556).
وتروُّحٌ بمِروَحةٍ، وفرقَعَةُ أصابِعه وتشبِيكُها، ومسُّ لِحيتِهِ، وكفُّ ثوبِه
قامَ أحدُكم إلى الصَّلاةِ، فلا يمسحِ الحصا؛ فإنَّ الرَّحمةَ تواجهُهُ". رواه أبو داودَ
(1)
.
وتسويةُ الترابِ بلا عذرٍ، فإنَّه من العبثِ. فإنْ كان لحاجةٍ؛ لم يُكره. وذكرَ بعضُهم أنَّ الإمامَ مالكًا لم يكرهْهُ.
(و) يُكره (تروُّحٌ بمروحةٍ) ونحوِها بلا حاجةٍ؛ لأنَّه من العبثِ. فإن كان ثمَّ حاجةٌ، كحرٍّ شديدٍ، أو غمِّ وحزنٍ، فلا يكره
(2)
.
وأما مراوحتُه بين رجلَيْه، فمستحبَّةٌ. زاد بعضُهم: إذا طالَ قيامُه، فلا يُكره، ما لم يكثرْ فتحرُمُ؛ لأنَّه من فعلِ اليهودِ.
(و) يُكره (فرقعةُ أصابِعه وتشبيكُها) لقولِ عليٍّ مرفوعًا: "لا تُقَعقِعْ أصابعَك
وأنتَ في الصَّلاةِ". رواه ابنُ ماجه
(3)
. وعن كعبِ بنِ عُجْرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قدْ شبَّك أصابعَه في الصَّلاةِ، ففرَّجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بين أصابِعه. رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه
(4)
. وقال ابنُ عمرَ في الذي يصلِّي وهو مشبِّكٌ: تلك صلاةُ المغضوبِ عليهم. رواه ابنُ ماجه
(5)
.
(و) يكره (مسُّ لحيتِه): لأنَّه من العبثِ.
(و) يُكره (كفُّ ثوبِه) وتشميرُ كُمِّه، وعقصُ شعرِه. أصلُ العَقصِ: الليُّ،
(1)
أخرجه أبو داود (946)، وضعفه الألباني.
(2)
سقطت: "فلا يكره" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(2/ 411).
(3)
ابن ماجه (965)، وضعفه الألباني.
(4)
أخرجه ابنُ ماجه (967) بهذا اللفظ. وأخرجه الترمذي (386) بلفظ آخر. وضعفه الألباني في "الإرواء"(379).
(5)
أخرجه أبو داود (995)، ولم أجده عند ابن ماجه.
ومتَى كثُر ذلك عُرفًا، بطلَت - وأن يخُصَّ جبهَتَه بما يسجُدُ عليه، وأن يمسَحَ فِيها أثرَ سُجُودِه، وأن يَستَنِدَ بلا حَاجةٍ،
وإدخالُ أطرافِ الشعرِ في أصولِه. ولو لعملٍ قبل الصَّلاةِ؛ لحديثِ: "ولا أكفُّ ثوبًا، ولا شعرًا"
(1)
. ورأى ابنُ عباسٍ عبدَ اللهِ بنَ الحارثِ يصلِّي، ورأسُه معقوصٌ من ورائِه، فقامَ فجعلَ يحلُّهُ، فلمَّا انصرفَ أقبلَ إلى ابنِ عباسٍ فقال: مالَكَ ولرأسي؟ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّما مثلُ هذا، مثَلُ الذي يصلِّي وهو مكتوفٌ"
(2)
. ونهى أحمدُ رجلًا كان إذا سجدَ، جمعَ ثوبَه بيدِه اليسرى. ونقلَ ابنُ القاسمِ: يُكره له أنْ يشمِّرَ ثيابَه. وذكرَ بعضُ العلماءِ حكمةَ النهيِّ: أنَّ الشعرَ ونحوَه يسجدُ معه. ويُكره جمعُ ثوبِه بيدِه إذا سجدَ. (ومتى كثُرَ ذلك عُرْفًا، بطلتْ) صلاتُه.
(و) يُكره (أنْ يخصَّ جبهتَه بما يسجدُ عليه) لأنَّه من شعارِ الرَّافضةِ. فعلى هذا: لو شركَ فيها أنفَهُ، أو يديه، لمْ يُكره.
(و) يُكره (أنْ يمسحَ فيها) أي: في الصَّلاةِ (أثرَ سجودِه) لأنَّه أثرُ عبادةٍ، فكُرِهتْ إزالتُه وهو فيها، لحديثِ أبي هريرةَ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَال:"إنَّ من الجفاءِ: أن يُكثرَ الرَّجلُ مسحَ جبهتِه قبلَ الفراغِ من صلاتِه". رواه ابنُ ماجه
(3)
.
ولذلك ذكرَ في "المغني": يُكره إكثارُه منه، ولو بعدَ التشهدِ.
(و) يُكره (أنْ يستندَ بلا حاجةٍ) إلى نحوِ جدارٍ ونحوِه؛ لأنَّه يزيلُ مشقَّةَ القيامِ.
(1)
أخرجه مسلم (490) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه مسلم (492) من حديث ابن عباس.
(3)
أخرجه ابن ماجه (964).
فإن استَنَد بحيثُ يقعُ لو أُزيلَ ما استَنَدَ إليه، بطلَت. وحمدُه إذا عَطَسَ، أو وجَدَ ما يسزُه، واسترجَاعُه إذا وجَدَ ما يغُمُّه.
فلا يُكره مع الحاجةِ؛ لأنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما أسَنَّ، وأخذَه اللَّحمُ، اتخذَ عمودًا في مصلَّاه يعتمدُ عليه. رواه أبو داود
(1)
.
(فإن استندَ بحيثُ يقعُ لو أُزيلَ ما استنَدَ إليه، بطلتْ) صلاتُه لأنَّه كغيرِ قائمٍ. هذا مع عدمِ الحاجةِ، أمَّا معها فلا يضرُّ الاستنادُ مطلقًا. والحاجةُ كضعفٍ وكبرٍ ومشقَّةٍ.
وكذا يُكره اعتمادُه على يدِه أو يديه في جلوسِه من غيرِ حاجةٍ.
(و) يُكره (حمدُه) أي: المصلِّي (إذ ا عطسَ، أو) إذا (وجدَ ما يسرُّه) وكذا يُكره إذا لسعَ، فقالَ: بسمِ اللهِ. أو رأى ما يعجبُه، فقال: سبحانَ اللهِ. أو احترقَ متاعُه، فقال: لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ. أو خاطبَ بشيءٍ من القرآنِ، كأن يُستأذنَ عليه، فيقولُ:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [الحجر: 46]. أو لمَنْ اسمُه {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. وظاهرُه: لا تبطلُ الصَّلاةُ بهذه المخاطبةِ. وهو ظاهرٌ إذا لم يقصدْ بها الكلامَ.
ومن أتى بصلاةٍ على وجهٍ مكروهٍ، استحبَّ له إعادتُها في الوقتِ على وجهٍ غيرِ مكروه.
(و) يُكره (استرجاعُه إذا وجدَ ما يغمُّه) أي: قولُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون. "فائدةٌ)): ومَنْ دعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجبتْ إجابتُه في الفرضِ والنفلِ. وتبطلُ الصَّلاةُ به؛ لأنَّه خطابُ آدميٍّ.
(1)
أخرجه أبو داود (949) من حديث وابصة. وصححه الألباني.
فَصُلٌّ فيما يُبطِلُ الصَّلاةَ
يبطِلُها: ما أبطلَ الطهارة. وكَشْفث العَورةِ عَمْدًا، لا إنْ كشفَها نَحوُ ريحٍ، فسَتَرَها في الحال، أوْ لا، وكان المكشوفُ لا يفحُشُ في
وإنْ قرأ آيةً فيها ذِكْرُه رضي الله عنه نحو: {مُّحَمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ} [الفَتْح: 29]، صلى عليه
(1)
صلى الله عليه وسلم. استحبابًا، لتأكدِ الصَّلاةِ عليه كلَّما ذُكِرَ اسمُه. في نفلٍ فقط. ولا يبطلُ الفرضُ به؛ لأنَّه قولٌ مشروعٌ في الصَّلاةِ
(2)
.
"فرعٌ": يُباحُ التنبيهُ بقراءةٍ، وتكبيرٍ، وتهليلٍ، وتحميدٍ، واستغفارٍ؛ لأنَّه من جنسِ الصَّلاةِ. ويُكره التنبيهُ بذلك للمرأةِ. وتصفِّقُ المرأةُ ببطنِ كفِّها على ظهرِ الأخرى، وإنْ كثُرَ أبطلَها.
(فصلٌ فيما يبطلُ الصَّلاةَ)
فرضًا كانت أو نفلًا
(يبطِلُها: ما أبطلَ الطهارةَ) وقدْ تقدَّمَ في بابِ نواقضِ الوضوءِ
(وكشفُ العورةِ عمدًا) يبطلُها. و (لا) يبطِلُها (إنْ كشفَها نحوُ ريحٍ، فسترَها في الحالِ) يعني: فأعادَها سريعًا بلا عملٍ كثيرٍ، لم تبطلْ صلاتُه، لقصَرِ مدَّتِه. فإن احتاجَ في أخذِ سترتِه لعملٍ كثيرٍ، بطلتْ صلاتُه (أوْ لا) أي: بأنْ كانَ المكشوفُ يسيرًا فلا تبطلُ الصَّلاةُ. (و) اليسيرُ عُرْفًا: هو ما (كانَ المكشوفُ لا يفحشُ في
(1)
سقطت: "صلى عليه" من الأصل.
(2)
انظر: "كشاف القناع"(2/ 432).
النَّظر. واستدبارُ القبلةِ حيثُ شُرِطَ استِقبالُها. واتصِّالُ النجاسَة به، إن لم يُزِلْها في الحال
النظرِ) عُرْفًا بلا قصدٍ، ولأنَّ ثيابَ الأغنياءِ لا تخلو من فتقٍ، وثيابَ الفقراءِ لا تخلو من حرقِ نارٍ غالبًا. والاحترازُ من ذلك يشقُّ، فعفي عنه.
(واستدبارُ القبلةِ حيثُ شُرِطَ استقبالُها) وهو الشرطُ الثامنُ من شروطِ الصَّلاةِ، فلا تصحُّ الصَّلاةُ بدونِه، لقولِهِ تعالى:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، قال: عليٌّ: شطرُه: قِبَلُه
(1)
. إلا لمعذورٍ عاجزٍ عن استقبالِها، كالتحامِ حربٍ حالَ الطعنِ، والكرِّ والفرِّ، وهربٍ من سيلٍ، أو من نارٍ، أو من سبعٍ ونحوِه، ولو كان العذرُ نادرًا، كمريضٍ عجزَ عنه، وعجزَ عن المسيرِ إليها، وكمربوطٍ ومصلوبٍ إلى غيرِ القبلةِ، فتصحُّ الصَّلاةُ منهم إلى غيرِ القبلةِ بلا إعادةٍ؛ لأنَّه شرطٌ عُجزَ عنه، فسقطَ كسَترِ العورةِ.
(و) يبطلُها (اتصالُ النجاسةِ به) أي: بالمصلِّي (إنْ لمْ يُزلْها في الحالِ) سريعًا؛ بحيثُ لمْ يطلِ الزمنُ؛ لما روى أبو سعيدٍ قال: بينا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي بأصحابِه، إذ خلعَ نعليه، فوضعَهما عن يسارِه، فخلعَ الناسُ نعالَهم. فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاتَه، قال:"ما حملَكم على إلقائِكم نعالَكُم؟ " قالوا: رأيناكَ ألقيتَ نعلَكَ، فألقينا نعالنَا. قال:"إنَّ جبريلَ أتاني، فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا". رواه أبو داودَ
(2)
. ولأنَّ من النجاسةِ ما يُعفى عن يسيرِها، فعفي عن يسيرِ زمنِها، ككشفِ العورةِ.
(1)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(2250).
(2)
أخرجه أبو داود (650)، وصححه الألباني.
والعمل الكثيرُ عادةً من غَيرِ جِنسِهَا لغيرِ ضَرورَةٍ. والاستِنادُ قويًّا لغيرِ عُذرٍ. ورجوعُه -عالمًا ذاكرًا- للتشهُّدِ بعد الشُّرُوعِ في القراءةِ
(و) يبطِلُها (العملُ الكثيرُ عادةً) أي: ما يعدُّ أنَّه كثيرٌ عادةً، فلا يتقيدُ بثلاثٍ، ولا غيرِها من العددِ، بل ما عُدَّ في العادةِ كثيرًا، بخلافِ ما يشبِهُ فعلَه صلى الله عليه وسلم في فتحِه البابَ لعائشةَ
(1)
. وتأخُّرهِ في صلاةِ الكسوفِ
(2)
. وفعلِ أبي برزةَ لمَّا نازعتْه دابَّتُه
(3)
. فهذا لا يبطِلُها.
(من غيرِ جنسِها) أي: الصَّلاةِ؛ كلفِّ عمامةٍ، ولبسٍ، ومشيٍ. يبطِلُها (لغيرِ ضرورةٍ) كخوفٍ، وهربٍ من عدو، ونحوِه كسيلٍ وحريقٍ وسبعٍ. فإنْ كانتْ ضرورةً، لم تبطلْ. وعدَّ ابنُ الجوزيِّ من الضرورةِ مَن به حكٌّ لا يصبرُ عنه. وكذا إنْ كان يسيرًا، أو لمْ يتوالَ، ولو كثُرَ
(4)
.
(و) يبطلُها (الاستنادُ قويًا لغيرِ عذرٍ) من نحوِ مرضٍ وكِبَرٍ.
(و) يبطلُها (رجوعُه، عالمًا، ذاكرًا) فلا تبطلُ برجوعِه إذنْ إنْ نسيَ، أو جهِلَ؛ لحديثِ:"عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيانِ"
(5)
. (للتشهدِ بعد الشروعِ في القراءةِ) لأنَّه شرعَ في ركنٍ مقصودٍ، وهو القراءةُ، فلمْ يجزْ له الرجوعُ، كما لو شرعَ في
(1)
أخرجه الترمذي (601) من حديث عائشة. وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه مسلم (904) من حديث جابر.
(3)
أخرجه البخاري (1211).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 457).
(5)
أخرجه ابن حبان (7219)، والطبراني (11274)، والبيهقي 7/ 356 من حديث ابن عباس بلفظ:"إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرجه ابن ماجه (2045) بلفظ: "إن اللَّه وضع
…
". وصححه الألباني في "الإرواء" (82).
وتعمُّدُ زيادةِ رُكنٍ فِعليٍّ. وتعمُّدُ تقديمِ بعضِ الأركانِ علَى بعضٍ. وتعمُّدُ السَّلامِ قبلَ إتمامِها. وتعمُّدُ إحالةِ المعنَى في القِراءة
الركوعِ. وتبطلُ برجوعُه إذنْ، عالمًا عمدًا، لزيادتِه فعلًا من جنسِها عمدًا، أشبَهَ ما لو زادَ ركوعًا.
(و) تبطلُ بـ (تعمُّدِ زيادةِ ركنٍ فعليٍّ) نحوَ ركوعٍ وسجودٍ وقيامٍ.
(و) يبطلُها (تعمُّدُ تقديمِ بعضِ الأركانِ على بعضٍ) لأنَّه يخرجُ الصَّلاةَ عن هيئتِها.
(و) يبطلُها (تعمُّدُ السَّلام قبلَ إتمامِها) أي: الصَّلاةِ. والباقي منها، إما ركن أو واجب، وكلاهما يبطلُها تركه عمدًا.
(و) يبطلُها (تعمُّدُ إحالةِ المعنى في القراءةِ) نحوَ: الذين هن في صلاتهن ساهون. بخلافِ غير المحيلِ، نحو: ذلك الكتابَ، بالنصب أو الجر؛ لأنَّه لا يخرجُ به عن كونِه قرآنًا، ولأنَّه أتى بأصلِ الحروفِ على
(1)
وجهٍ يؤدِّي معنى الكلمةِ والإعراب، فلم يجبْ سجودٌ. وهلْ تجوزُ القراءةُ بالذي لم يُحِلْ معنًى؟ يحتمل وجهينِ. قاله ابن نصر اللَّه. وقال ابنُ قندسٍ في بابِ صفةِ الصَّلاةِ في "حواشي المحرر": يكفرُ إنِ اعتقدَ إباحتَهُ. انتهى.
أمَّا اللَّحْنُ في الفاتحةِ، أو في فرضِ القراءةِ، إذا كان مُحيلًا للمعنى سهوًا، أو جهلًا، فإنْ عادَ وأتى به على وجهٍ مجزئٍ، صحَّتْ صلاتُه، وإلا بطلتْ. وفي معناه: سبقُ لسانِه بتغييرِ نظمِ القرآنِ بما هو منه، على وجهٍ يُحيلُ المعنى، نحو:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]. ثم: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39].
(1)
في الأصل: "عن".
وبوجودِ سُترةٍ بعيدةٍ وهو عُريانٌ. وبفَسخِ النيَّةِ. وبالتَّردُّد في الفسخ. وبالعزمِ عليه. وبشَكِّهِ هل نَوى فعَمِلَ مع الشَكِّ عمَلًا؟. وبالدُّعاء بملاذِّ الدُّنيا. وبالإتيانِ بكافِ الخِطَابِ لغَيرِ اللَّهِ ورسولِه أحمدَ
(و) تبطلُ الصَّلاةُ (بوجودِ سترةٍ بعيدةٍ، وهو عُريانٌ) لأنَّه لا يمكنُ فعلُها بدونِ شرطِها.
(و) تبطلُ (بفسخِ النِّيةِ) في الصَّلاةِ؛ لأنَّ النيةَ شرطٌ في جميعِها، وقدْ قطعَها. والفرقُ بينها وبين الحجِّ: أنَّه لا يَخرُجُ منه بمحظوراتِه، بخلافِ الصَّلاةِ.
(و) تبطلُ (بالعزمِ عليه) أي: على الفسخِ؛ لأنَّ النيةَ عزمٌ جازمٌ. ومع العزمِ على فسخِها لا جزمَ، فلا نيةَ. ولا تبطلُ أيضًا على العزمِ بفعلِ محظورٍ؛ بأنْ عزمَ على كلامٍ ولمْ يتكلمْ، أو فعلِ حَدَثٍ ونحوِه، ولمْ يفعلْه؛ لعدمِ منافاتِه الجزمَ المتقدِّمَ، لأنَّه قدْ يفعلُ المحظورَ وقدْ لا يفعلُه، ولا مناقِضَ في الحالِ للنيةِ المتقدِّمةِ، فتستمرُّ إلى أنْ يوجدَ مناقضٌ.
(و) تبطلُ (بشكِّه: هلْ نوى) الصَّلاةَ (فعمِلَ مع الشكِّ عملًا) فعليًّا، كركوعٍ، أو سجودٍ، أو رفعٍ. أو قوليًّا، كقراءةٍ، وتسبيحٍ.
(و) تبطلُ (بالدُّعاءِ بملاذِّ الدُّنيا) وشهواتِها، كـ: اللهمَّ ارزقني جاريةً حسناءَ، أو: طعامًا طيبًا، أو: بستانًا أنيقًا. فتبطلُ به، لحديثِ:"إنَّ صلاتَنا هذه، لا يصلحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ؛ إنَّما هي التسبيحُ، والتكبيرُ، وقراءةُ القرآنِ" رواه مسلمٌ
(1)
.
(و) تبطلُ (بالإتيانِ بكافِ الخطابِ لغيرِ اللهِ ورسولِه أحمدَ) فلا تبطلُ به. فيكونُ من خصائصِه عليه السلام.
(1)
أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم.
وبالقَهقَهةِ. وبالكَلامِ ولو سَهوًا. وبتقديمِ المأمومِ على إمامِه. وببُطلانِ صلاةِ إمامِه
(و) تبطلُ (بالقهقهةِ) كالكلامِ وأَوْلى. حكَاهُ ابنُ المنذرِ إجماعًا؛ لما روى جابرٌ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "القهقهةُ تنقضُ الصَّلاةَ، ولا تنقضُ الوضوءَ". رواه الدارقطنيُّ
(1)
بإسنادٍ فيه ضعفٌ. ولأنَّه تعمَّدَ فيها ما ينافيها، أشبَهَ خطابَ الآدميِّ.
ولا تبطلُ إنْ تبسَّمَ فيها، وهو قولُ الأكثرِ، حكاه ابنُ المنذرِ.
(و) تبطلُ (بالكلامِ) مطلقًا. إمامًا كان أو غيرَه (ولو سهوًا) أو جهلًا، طائعًا أو مكرهًا، فرضًا أو نفلًا، لمصلحتِها أو لا، في صلبِها أو بعدَ سلامِه سهوًا، لتحذيرِ نحوِ ضريرٍ أو لا، بطلتْ؛ لحديثِ:"إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنما هي التسبيحُ، والتكبيرُ، وقراءةُ القرآنِ" رواه مسلمٌ
(2)
.
وعنه: لا تبطلُ بيسيرٍ؛ لمصلحتِها. ومشى عليه في "الإقناع"
(3)
.
(و) تبطلُ (بتقدُّمِ المأمومِ على إمامِه) لأنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قامَ إلى الصَّلاةِ، قامَ أصحابُه خلفَه. ويُستثنى من ذلك صورتان: العُراةُ فإنَّه يقفُ بينهم وسْطًا. والمرأةُ إذا أمَّتْ نساءً، فإنَّها تقفُ وسطًا، ندْبًا.
وإنْ تقدَّمَه مأمومٌ، ولو بإحرامٍ، لم تصحَّ الصَّلاةُ، على الصحيحِ من المذهبِ. نصَّ عليه.
(و) تبطلُ الصَّلاةُ (ببطلانِ صلاةِ إمامِه) نصًّا، على الصحيح من المذهب.
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 167) من حديث جابر. وانظر "الإرواء"(392).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 462).
وبسلامِه عَمدًا قَبلَ إمامِه. أو سَهوًا ولم يُعِدهُ بعدَه. وبالأكلِ. والشرب، سِوى اليسير عُرفًا لناسٍ وجاهلٍ
(و) تبطلُ (بسلامِه عمدًا قبل إمامِه) وإن سَّم سهوًا، لم تبطلْ به. (أو) كان سلَّم (سهوًا، ولمْ يُعِده) أي: السَّلامَ (بعدَه) أي: بعدَ السَّهوِ، فإنَّها تبطلُ؛ لوجوبِ المتابعةِ
(و) تبطلُ الصَّلاةُ (بالأكلِ) عمدًا. (و) تبطلُ بـ (الشربِ) عمدًا، في فرضٍ، قلَّ الأكلُ أو الشربُ، أو كثُرَ؛ لأنَّه ينافي الصَّلاةَ. قال في "المبدع": وهو إجماعُ مَنْ نحفظُ عنه في الفرضِ، إلا ما حكاه في "الرعاية" قولًا: أنَّها لا تبطلُ بيسيرِ شربٍ، لكنَّه غيرُ معروفٍ
(1)
(سوى اليسيرِ عُرْفًا) أي: ما يُعدُّ في العُرْفِ أنَّه يسيرٌ (لناسٍ وجاهلٍ) لعمومِ: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيانِ". فإنْ كثُرَ أحدُهما، بطلتْ؛ لأنَّه عمل مستكثرٌ من غيرِ جنسِها، فرضًا كان أو نفلًا. وهو المذهبُ، وعليه أكثرُ الأصحابِ. وقطعَ به كثيرٌ منهم.
وعنه: لا تبطلُ. وهو ظاهرُ "المستوعب" و"التلخيص".
قال في "الإقناع": ومَنْ أكلَ أو شرِبَ. وسوَّى في "الإقناع" بين الأكلِ والشربِ، كما تقدَّمَ في صلاةِ نفلٍ كثيرٌ عُزفًا، بطلتْ، لقطعِ الموالاةِ بين الأركانِ، دودنَ اليسيرِ، فلا يبطلُ النفلُ.
وعنه: النفلُ كالفرضِ. قدَّمه جماعة، وصحَّحَه في "الشرح". قال في "المبدع": وبه قالَ أكثَرُهم؛ لأن ما أبطل الفرض أبطل النفل، كسائر المبطلات.
(1)
انظر "كشاف القناع"(2/ 473).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعنه: لا
(1)
يبطلُ بيسيرِ الشربِ فقطْ. وهي مفهومُ ما قطعَ به في "المنتهى" وصاحبُ "المقنع"، فإنَّه قال: ولا نفلٌ بيسيرِ شربٍ عمدًا. مفهومُه: أنَّه يبطلُ بيسيرِ الأكلِ عمدًا، وهو الأشهرُ من الرواياتِ، وقدَّمَه في "الفروع" و"مجمع البحرين" ونصرَهُ.
والمعتمدُ ما قطعَ به صاحبُ "المنتهى". وقال ابنُ هبيرةَ: إنَّه المشهورُ عنه. قال في "الفروع": والأشهرُ عنه بالأكلِ. انتهى. أي: يبطلُ النفلُ بيسيرِ الأكلِ عمدًا. فعُلِمَ منه: أنه
(2)
لا يبطلُ النفلُ بيسيرِ الشربِ، لما روي أنَّ
(3)
ابنَ الزبيرِ، وسعيدَ بنَ جبير شَرِبا في التطوعِ. لأنَّ مدَّ النفلِ وإطالتَه مستحبَّةٌ مطلوبةٌ، فيحتاجُ معه كثيرًا إلى جَرْعةِ ماءٍ، لدفعِ العطشِ. كما سُومِحَ به جالسًا، وعلى الرَّاحلةِ
(4)
.
قال في "المبدع"
(5)
. والمذهب: أنَّها لا تبطلُ بيسيرِ شربٍ عُرْفًا في نفلٍ، ولو عمدًا.
"تتمةٌ": لا تبطلُ الصَّلاةُ بتركِ لقمةٍ في فمِه لمْ يمضغْها ولمْ يبتلعْها حتى فرغَ من الصَّلاةِ، ويُكره ذلك، فإنْ لاكَهَا، أي: ولمْ يبتلعْها، فهو كالعملِ؛ إنْ كثُرَ أبطلَ، وإلا فلا. ذكرَة في "الكافي"
(6)
و"الرعاية".
(1)
سقط: "أبطل الفرض أبطل النفل، كسائر المبطلات.
وعنه: "لا" من الأصل. والمثبت من "كشاف القناع"(2/ 473).
(2)
سقطت: "أنه" من الأصل.
(3)
سقطت: "أن" من الأصل.
(4)
انظر "كشاف القناع"(2/ 473)، "دقائق أولي النهى"(1/ 459).
(5)
"المبدع"(1/ 508).
(6)
انظر "الكافي"(1/ 376).
ولا تبطلُ إن بلَعَ ما بيَن أسنانِه بلا مَضغٍ.
وكالكلامِ: إن تنحنَحَ بلا حاجةٍ، أَو انتحبَ لا خشيةً، أو نفخَ فبانَ حرفانِ،
(ولا تبطلُ إنْ بلعَ ما بين أسنانِه بلا مضغٍ) لأنَّه ليس بأكلٍ، ويسيرٌ. ولو لمْ يجرِ به ريق، ولو كان له جِرمٌ، نصًّا. قالهُ في "التنقيح"، وتبِعَه العسكري
(1)
في قطعتِه، والشويكيُّ في "التوضيح"، وتبِعَهم صاحبُ "المنتهى". وخالَفَهم في ذلك صاحبُ "الإقناع". ولا يخفى أنَّ الذي بين أسنانِه أنَّه ولو كان جِرمٌ، هو دون اللُّقمةِ، فإنَّ اللُّقمةَ إذا لاكَهَا، فهو كالعملِ، إن كثُرَ أبطلَ، وإلا فلا، وإنْ تَركَها في فمِه بلا مضغٍ، ولا بلعٍ، كُرِهَ، وصحَّتْ صلاتُه.
"تتمةٌ": وإنْ بلعَ ذوبَ سُكَّرٍ ونحوِه -كحَلوى، وتَرَنْجَبيل
(2)
- كأكلٍ، فتبطلُ به الصَّلاةُ مطلقًا مع العمد، وإلا فإن كثُرَ بطلتْ، وإلا فلا.
فإنْ فتحَ فاه، فحصلَ فيه ماءٌ من مطرٍ وغيرِه، فابتلعَه، فكشربٍ.
(وكالكلامِ) في الحكمِ (إنْ تنحنحَ بلا حاجةٍ)، فبانَ حرفانِ، (أو انتحبَ) فبانَ حرفانِ، و (لا) تبطلُ إنْ انتحبَ (خشيةً) من اللهِ تعالى. (أو نفخَ، فبانَ حرفانِ) فتبطلُ به صلاتُه، لقولِ ابنِ عباسٍ: مَنْ نفخَ في صلاتِه، فقدْ تكلَّمَ
(3)
. رواه سعيدٌ. وعن أبي هريرةَ نحوه.
فإنْ كانتِ النحنحةُ لحاجةٍ، لمْ تبطلْ صلاتُه، ولو بانَ حرفانِ. قال المرُّوذيُّ:
(1)
في الأصل: "العسكر". والمثبت من "دقائق أولي النهي" 1/ 459.
(2)
الترنجبيل: هو المَنَّ: شيء كان يسقط على الشجر حُلْوٌ يُشرب. انظر "لسان العرب"(منن).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (3017).
لا إنْ نامَ فتكلَّم، أو سَبَقَ على لسانِه حالَ قراءتِه، أو غَلَبه سُعالٌ، أو عُطاسٌ، أو تثاؤبٌ، أو بُكاءٌ.
كنتُ آتي أبا عبدِ اللهِ، فيتنحنحَ في صلاتِه؛ لأعلمَ أنَّه يصلِّى.
و (لا) تبطلُ (إنْ نامَ) يسيرًا قائمًا، أو جالسًا (فتكلَّمَ، أو سبَقَ) الكلامُ (على لسانه حمالَ قراءته)، أشبَهَ ما لو غلِطَ في القرآنِ، فأتى بكلمةٍ من غيرِه. ولأنَّ النائمَ مرفوعٌ عنه القلمُ (أو غلبَهُ سُعالٌ، أو عُطاسٌ، أو تثاؤبٌ، أو بكاءٌ) ولو بانَ منه حرفانِ. نصَّ عليه فيمن غلَبَهُ البكاءُ. وقال مهنا: صليتُ إلى جنب أبي عبدِ اللهِ، فتثاءبَ خمسَ مراتٍ، وسمعتُ لتثاؤبِه: هاه هاه. وذلك لأنَّه لا ينسبُ إليه، ولا لما يتعلُّقُ به حكمٌ من أحكامِ الكلامِ. تقولُ: تثاءبتُ على وزن تفاعلتُ: ولا تقلْ: تثاوبتُ. قالَهُ في "الصحاح".
ويُكره استدعاءُ بكاءٍ، كضحكٍ. ويجيبُ والديه في نفلٍ، وتبطلُ به. ويجوزُ إخراجُ زوجةٍ من نفلٍ؛ لحقِّ زوجِها.
* * *
بابُ سُجودِ السَّهوِ
يُسنُّ: إذا أتى بقولٍ مشروعٍ في غير مَحَلِّه سهوًا.
(بابُ سجودِ السهوِ)
قال في "النهاية"
(1)
: السَّهوُ في الشيءِ: تركُه من غيرِ علمٍ. وعن الشيءِ: تركُه مع العلمِ؛ عمدًا.
وهذا فرقٌ دقيقٌ بين السَّهوِ في الصَّلاةِ الصادرِ منه صلى الله عليه وسلم، والسَّهوِ عنها المذمومِ فاعلُه.
وقال في "حاشية التنقيح": سها عن الشيءِ سهوًا: ذهلَ وغفلَ قلبُه عنه، حتى زالَ عنه، فلم يتذكَّره. وفرَّقوا بين السَّاهي والنَّاسي: أنَّ النَّاسي إذا ذكَّرَتَه تذكَّرَ، بخلافِ السَّاهي
(2)
.
وقال صاحبُ "المشارق": السَّهوُ في الصَّلاةِ: النسيانُ فيها. وقيلَ: هو الغفلةُ. وقيل: النسيانُ: عدمُ ذكرِ ما كان مذكورًا. والسَّهوُ: ذهولٌ وغفلةٌ عمَّا كان مذكورًا، أو عمَّا لم يكنْ، فعلى هذا هو أعمُّ من النسيانِ. انتهى.
(يُسنُّ: إذا أتى بقولٍ مشروعٍ) أي: من جنس الصَّلاةِ (في غيرِ محلِّه) أي: في يخرِ موضعِه؛ حالَ كونِ ذلك (سهوًا) كقراءتِهِ سورةً في الرَّكعتين الأخيرتينِ من رُباعيَّةٍ، أو في ثالثةِ مغربٍ، وقراءتِه قاعدًا أو ساجدًا، أو كتشهُّدِهِ قائمًا؛ لعمومِ
(1)
"النهاية في غريب الحديث"(2/ 430).
(2)
انظر "كشاف القناع"(2/ 463).
ويُباحُ: إذا تركَ مسنونًا.
ويجبُ: إذا زاد رُكوعًا، أو سُجودًا، أو قِيامًا أو قُعودًا، ولو قَدرَ جَلسةِ الاستراحةِ، أو سلَّمَ قَبلَ إتمامِها،
قولِهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا نسيَ أحدُكم، فليسجدْ سجدتينِ وهو جالسٌ". رواه مسلمٌ
(1)
. ولأنَّه ذِكْرٌ مشروعٌ أتى به في غيرِ محلِّه سهوًا فيسجدُ له، كالسَّلامِ من نقصانٍ. فإنْ لم يكنْ مشروعًا، كآمين، ربّ العالمين، واللهُ أكبرُ كبيرًا. لم يُشرعْ له سجودٌ؛ لأنَّه عليه السلام لم يأمرْ به مَنْ سمِعَه يقولُ في صلاتِه:"الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربّنا ويرضى"
(2)
.
(ويُباحُ) أي: سجودُ السَّهوِ (إذا تركَ مسنونًا) قوليًّا أو فعليًّا، فلا يجبُ ولا يُستحبُّ السّجودُ له
(ويجبُ) سجودُ السَّهوِ (إذا زادَ ركوعًا، أو سجودًا) سهوًا (أو قيامًا، أو قعودًا، ولو) كان القعودُ عقبَ ركعةٍ، وكان (قدرَ جَلسةِ الاستراحةِ) أي: ولو كان الجلوسُ الذي زادَهُ يسيرًا قدرَ جلسةِ الاستراحةِ. أما إنْ جلسَ للاستراحةِ قصدًا، فإنَّه لا يسجدُ لها؛ لأنَّه لا سجودَ للعمدِ. ولا تبطلُ الصَّلاةُ بها، كما في "المغني".
(أو سلَّمَ) مصلٍّ (قبلَ إتمامِها) أي: الصَّلاةِ سهوًا، لم تبطلْ، وجازَ له إتمامُها؛ لأنَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ فعلوه، وبنوا على صلاتِهم؛ لأنَّ جنسَه مشروعٌ فيها، أشبَهَ الزيادةَ فيها من جنسِها. لكن تارةً يذكرُ ما بقيَ من صلاتِه قريبًا، وتارة لا يذكره إلا وقد طال الفصل. فإن ذكر ذلك قريبًا، ولو خرجَ من المسجدِ، نصَّ عليه في روايةِ
(1)
أخرجه مسلم (572) من حديث ابن مسعود.
(2)
أخرجه مسلم (600) من حديث أنس.
أو لَحَن لحنًا يُحيلُ المعنَى، أو تَرَكَ واجبًا، أو شكَّ في زيادةٍ وقتَ فعلِها.
وتبطلُ الصلاةُ بتعمُّدِ تركِ سُجُودِ السهوِ الواجِب، إلَّا إنْ تركَ ما
ابنِ منصورٍ، أو شرعَ في صلاةٍ أخرى -وتُقطَعُ التي شرعَ فيها مع قُرْبِ الفصلِ، وعادَ إلى الأولى- أتمَّها، وسجدَ؛ لما روى عمرانُ بنُ حصينٍ قال: سلَّم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ثلاثِ ركعاتٍ من العصرِ، ثمَّ قامَ فدخلَ الحُجرةَ، فقامَ رجلٌ بسيطُ اليدين، فقال: أَقَصُرتِ الصَّلاةُ يا رسولَ اللهِ؟ فخرجَ، فصلَّى الرَّكعةَ التي كان تركَ، ثمَّ سلَّمَ، ثمَّ سجدَ سجدتي السهوِ، ثمَّ سلَّمَ. رواه مسلمٌ
(1)
.
(أو لحنَ لحنًا يُحيلُ المعنى) أي: في السورةِ. أمَّا إنْ لحنَ لحنًا في القراءةِ، يُحيلُ المعنى، سهوًا أو جهلًا، فإنْ عادَ وأتى به على وجهٍ مجزئٍ، صحَّتْ صلاتُه، وإلَّا بطلتْ، كما صرَّحَ به ابنُ قُندسٍ. وإذا صحَّتْ، سجدَ للسهوِ وجوبًا.
(أو ترَكَ واجبًا) أي: تركَه ناسيًا، ثمَّ ذكرَ. والمرادُ بالواجب: ما قابلَ الركنَ (أو شكَّ في زيادةٍ وقتَ فعلِها) بأنْ شكَّ في سجدةٍ وهو فيها، هلْ هي زائدةٌ، أو لا؟ أو في الرَّكعةِ الأخيرةِ كذلك، فيسجدُ؛ لأنَّه أدَّى جزءًا من صلاتِه متردِّدًا في كونِه منها، أو زائدًا عليها، فضعُفَتِ النيةُ، واحتاجَتْ للجبرِ بالسُّجودِ. ومَنْ شكَّ في عددِ الركعاتِ أو غيرِه، فبنى على يقينِه، ثمَّ زالَ شكُّه، وعلمَ أنَّه مصيبٌ فيما فعلَه، لمْ يسجدْ مطلقًا. على ما صحَّحه في "الإنصاف"، وتبِعَه في "الإقناع". وخالفَ العلامةُ الشيخُ تقيُّ الدينِ الفتوحيُّ في "شرحه".
(وتبطلُ الصَّلاةُ بتعمُّدِ تركِ سجود السَّهوِ الواجبِ) للسهوِ (إلا إنْ تركَ ما
(1)
أخرجه مسلم (574).
وجبَ بسلامِه قبلَ إتمامِها.
وإنْ شاءَ سجدَ سجدتَي السَّهوِ قَبلَ السلامِ، أو بعدَهُ، لكِنْ إنْ سجدَهُما بعدَه، تَشهَّدَ وجوبًا وسَلَّم.
وجبَ) من سجودِ السَّهوِ (بسلامِه قبلَ إتمامِها) أي: الصَّلاةِ
(وإنْ شاءَ سجدَ سجدتي السَّهوِ قبلَ السَّلامِ، أو بعدَهُ) ندْبًا؛ لأنَّ الأحاديثَ وردتْ بكلٍّ من الأمرين، فلو سجَدَ للكلِّ قبلَ السَّلامِ أو بعدَهُ، جازَ. لكنْ قال في روايةِ الأثرمِ: أنا أقولُ: كلّ سهوٍ جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يسجُدُ فيه بعد السَّلام، فإنَّه يسجُدُ فيه بعدَ السَّلامِ، وسائرُ السهوِ يسجدُ فيه قبلَ السَّلامِ. ووجهُهُ: أنَّه من شأنِ الصُّلاةِ، فيقضيه قبلَ السَّلامِ، كسجودِ صلبِها، إلا ما خصَّهُ الدليلُ
(لكنْ إنْ سجدَهما بعدَهُ) أي: بعد السَّلامِ (تشهدَ وجوبًا) التشهدَ الأخيرَ (وسلَّم) سواءٌ كان محلُّ
(1)
السّجودِ قبلَ السَّلامِ، أو بعدَه، لحديثِ عمرانَ بنِ حصينٍ: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم، فسها، فسجدَ سجدتين، ثمَّ تشهدَ، ثمَّ سلَّمَ. رواه أبو داودَ والترمذيّ
(2)
وحسنَه. ولأنَّ السجودَ بعد السَّلامِ في حكمِ المستقلِّ بنفسِه من وجهٍ، فاحتاجَ إلى التشهدِ، كما احتاجَ إلى السَّلامِ، إلحاقًا له بما قبلَهُ، بخلافِ سجودِ تلاوةٍ وشكرٍ، فليس قبلَهما ما يلحقانِ به، وبخلافِ ما قبلَ السَّلامِ، فهو جزءٌ من الصَّلاةِ بكلِّ وجهٍ، وتابعٌ، فلم يُفردْ له تشهدٌ، كما لا يفردُ بسلامِ.
ولا يتوركُ إذا جلسَ للتشهدِ بعدَ السجودِ في صلاةٍ ثُنائيَّةٍ
(3)
، بلْ يجلسُ مفترِشًا
(1)
في الأصل: "في محل".
(2)
أخرجه أبو داودَ (1039)، والترمذيُّ (395) قال الألباني: شاذٌّ بذكر التشهد.
(3)
في الأصل: "ثانيةٍ".
وإن نَسِيَ السُّجودَ حتَّى طالَ الفصلُ غرفًا، أو أحدَثَ، أو خرَجَ من المَسجدِ، سَقَطَ.
ولا سُجودَ على مأمومٍ دخلَ أوَّل الصلاةِ إذا سَهَا في صلاتِه. وإن سَها إمامُه، لزِمَه متابعتُه في سُجُودِ السَّهوِ،
كتشهدِ نفسِ الصَّلاةِ، فإنْ كانتْ ثلاثيةً أو رُباعيةً، تورَّكَ لما ذكرَ.
وسجودُ السَّهوِ قبلَ السَّلامِ وبعدَه، وما يقالُ فيه من تكبيبر وتسبيحٍ، وما يقالُ بعدَ رفعٍ منه -كـ: ربِّ اغفرْ لي. بين السَّجدتين- كسجودِ صُلْبٍ. وقيلَ: إنْ سجدَ بعد السَّلامِ، كبَّرَ مرةً واحدةً، وسجدَ سجدتين
(وإن نسيَ السَّجودَ حتى طالَ الفصلُ عُرْفًا، أو أحدثَ، أو خرجَ من المسجدِ، سقطَ) أي: لم يقضِه؛ لفواتِ محلِّه، وصحَّت صلاتُه، كسائرِ الواجباتِ إذا تركَها سهوًا. وإنْ لم يوجدْ شيءٌ من هذه، وقضاه، لم يصرْ عائدًا للصَّلاةِ؛ لأنَّ التحلُّلَ منها حصلَ بالسَّلامِ؛ لأنَّه لا يجبُ عليه نيةُ العودِ للصَّلاةِ، فلا تبطلُ بمفسدٍ من نحوِ حدثٍ أو غيرِه، ولا يجبُ الإتمامُ على من يجوزُ له القصرُ، إذا نواه فيه. ولا يصحّ دخولُ مسبوقٍ معه فيه
(ولا سجودَ على مأمومٍ) سها دون إمامِه (دخلَ أوَّلَ
(1)
الصَّلاةِ إذا سها في صلاِته) لكونِه مأمومًا (وإنْ سها إمامُه، لزِمَه متابعتُه في سجودِ السَّهوِ) فيسجدُ معه، ولو لم يسْهُ أو يسجدْ بعدَ سلامِه، لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: "ليسَ على
(2)
مَنْ
(1)
في الأصل: "من أول".
(2)
سقطت: "على" من الأصل.
فإنْ لم يَسجُد إمامُهُ، وجبَ عليهِ هوَ.
ومن قامَ لركعةٍ زائدةٍ، جلَسَ متى ذكَرَ.
خلفَ الإمامِ سهوٌ، فإنْ سها إمامُه، فعليه وعلى مَنْ خلفَه". رواه الدارقطنيُّ
(1)
. وقدْ صحَّ عنه عليه السلام أنَّه لما سجدَ لتركِ التشهدِ الأوَّلِ، والسَّلامِ من نقصان، سجدَ النَّاسُ معه، ولعمومِ:"وإذا سجدَ، فاسجدوا"
(2)
. فيسجدُ
(3)
مأمومٌ؛ متابعةً لإمامِه.
(فإنْ لمْ يسجدْ إمامُه) وقدْ سُهي عليه سهوًا يجبُ السجودُ له (وجبَ) سجودُ السَّهوِ (عليه) أي: على المأمومِ (هو) وعُلِمَ منه: أنَّه لا يسقطُ السجودُ عن المأمومِ بتركِ إمامِه له؛ لأنَّ صلاتَه نقصتْ بنقصانِ صلاةٍ إمامِه، فلزِمَه جبْرُها. هذا إنْ كانَ الإمامُ لا يرى وجوبَه، أو تركَهُ سهوًا، أو كان محلُّه بعدَ السَّلامِ، وإلا فتبطلُ صلاتُه، وتقدَّمَ: تبطلُ صلاةُ مأمومٍ ببطلانِ صلاةٍ إمامِه
(ومَنْ قامَ لركعةٍ زائدةٍ) سهوًا، كثالثةٍ في فجرٍ، ورابعةٍ في مغربٍ، وخامسةٍ في رباعيةٍ (جلسَ) بلا تكبيرٍ (متى ذكرَ) أنَّها زائدةٌ وجوبًا؛ لئلا يعيِّرَ هيئةَ الصَّلاةِ. ولا يتشهدُ إنْ كانَ قدْ تشهدَ قبل قيامِه؛ لوقوعِه موقعَه.
وإنْ كان تشهَّدَ، ولم يُصلِّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، صلَّى عليه، وسجدَ للسهوِ، وسلَّمَ. وإنْ لمْ يكنْ تشهدَ قبلَ قيامِه، تشهدَ وسجدَ وسلَّمَ.
فإنْ لمْ يذكر حتى فرغَ منها، سجدَ لها؛ لحديثِ ابنِ مسعودٍ قال: صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خمسًا، فلمَّا انفتلَ توشوشَ القومُ بينهم، فقالَ:"ما شأنُكم؟ "
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 377)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(454).
(2)
أخرجه البخاري (378)، ومسلم (411) من حديث أنس.
(3)
في الأصل: "فليسجد".
وإنْ نهَضَ عن تَركِ التشهُّدِ الأوَّلِ ناسيًا، لزِمَه الرجوعُ ليتشهَّدَ، وكُرِهَ إنْ استتمَّ قائمًا، وتلزمُ المأمومَ متابعتُه،
فقالوا: يا رسولَ اللهِ، هل زِيدَ في الصَّلاةِ؟ فقال:"لا". قالوا: فإنَّكَ صلَّيتَ خمسًا. فانفتلَ، ثمَّ سجدَ سجدتين، ثمَّ سلَّمَ. ثم
(1)
قال: "إنَّما أنا بشرٌ مثلُكم، أنسٌ كما تَنْسَوْن، فإذا نسِيَ أحدُكم، فليسجدْ سجدتين". وفي روايةٍ: "إنَّما أنا بشرٌ مثلُكم، أذكرُ كما تذكرون، وأنسى كما تَنْسَوْن". ثمَّ سجَدَ سجدتين للسهوِ. وفي روايةٍ قال: "وإذا زادَ الرجلُ أو نقصَ، فليسجدْ سجدتين". رواه بطرقِه مسلمٌ
(2)
.
(وإن نهضَ) إلى الركعةِ الثالثةِ (عن تركِ التشهدِ الأوَّلِ) مع تركِ الجلوسِ، أو تركِ التشهدِ دونَ الجلوسِ؛ بأنْ جلسَ ونهضَ، ولم يتشهدْ (ناسيًا) لما تركَهُ الزِمَه الرجوعُ ليتشهَّدْ) إنْ ذكَرَ قبلَ أنْ يستَتِمَّ قائمًا، ليتداركَ الواجبَ. ويتابعُه مأمومٌ، ولو اعتدلَ
(وكُرِه) رجوعُه (إن استَتَمَّ قائمًا) لحديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ مرفوعًا: "إذا قامَ أحدُكم من الرَّكعتين فلم يستَتِمَّ قائمًا، فليجلس، فإن استَتَمَّ قائمًا، فلا يجلسْ، ويسجدْ سجدتين". رواه أبو داودَ وابنُ ماجه
(3)
. وأقلُّ أحوالِ النهي الكراهةُ. ولمْ يمتنعْ عليه الرجوعُ؛ لأنَّ القيامَ غيرُ مقصودٍ في نفسِه؛ لتركِه عندَ العجزِ لا إلى بدلٍ، بخلافِ غيرِه.
(وتلزمُ المأمومَ متابعتُه) أي: متابعةُ الإمامِ في قيامِه ناسيًا؛ لحديثِ: "إنَّما جُعِلَ
(1)
سقطت: "ثم" من الإصل.
(2)
أخرجه مسلم (572).
(3)
أخرجه أبو داودَ (1036)، وابنُ ماجه (1208). وصححه الألباني.
ولا يَرجِعُ إن شَرَعَ في القِراءةِ.
ومَنْ شَكَّ في رُكنٍ، أو عَددِ ركَعَاتٍ، وهوُ في الصلاةِ، بَنَى على اليَقينِ، وهو الأقلُّ،
الإمامُ ليؤتمَّ به"
(1)
. ولما قامَ عليه السلام عن التشهدِ، قامَ النَّاسُ معه. وفعلَه جماعةٌ من أصحابِه.
ولا يلزمُه الرجوعُ إنْ سبَّحوا به بعدَ قيامِه. وإنْ سبَّحوا به قبلَ قيامِه، ولم يرجعْ، تشهَّدوا لأنفسِهم ولم يتابِعوه؛ لأنَّه تركَ واجبًا، فلم يكنْ لهم متابعتُه. وإذا رجعَ قبلَ شروعِه في القراءةِ، لزِمَهم متابعتُه، ولو شرَعوا فيها، لا إنْ رجعَ بعدَها لخطائِه
(2)
، وينوون مفارقتَه.
(ولا يرجعُ إنْ شرعَ في القراءةِ) بلْ يحرمُ رجوعُه؛ لأنَّه شرعَ في ركنٍ مقصودٍ، وهو القراءةُ، فلمْ يجُزْ له الرجوعُ، كما لو شرعَ في الركوعِ. وبطلتْ صلاتُه إنْ رجعَ إذنْ، عالمًا عمدًا، لزيادتِه فعلًا من جنسِها عمدًا، أشبَه ما لو زادَ ركوعًا.
ولا تبطلُ إنْ رجعَ إذنْ، ناسيًا أو جاهلًا تحريمَ رجوعِه. ومتى علم تحريم ذلك
(3)
وهو في التشهدِ، نهضَ ولمْ يتمَّه، وسجدَ للسهوِ
(ومَنْ شكَّ في) تركِ (ركنٍ) بأنْ تردَّدَ في فعلِه، فيُجعلُ كمَنْ تيقنَ تركَه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُه، وكما لو شكَّ في أصلِ الصَّلاةِ
(أو) شكَّ في (عددِ ركعَاتٍ، وهو في الصَّلاةِ، بنى على اليقينِ، وهو الأقلُّ)
(1)
أخرجه البخاري (378)، ومسلم (411) من حديث أنس.
(2)
الخطاء -بالمد- كالخطأ: ضد الصواب. "القاموس المحيط": (خطأ).
(3)
سقطت: "ومتى علم تحريم ذلك" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو كانَ الشاكُّ إمامًا.
وعنه: يَبني الإمامُ على غالبِ ظنِّه. حكَاهُ في "الإقناع"
(1)
. والمنفردُ: على اليَقينِ. ذكَرَ في "المقنع" أنَّ هذا ظاهرُ المذهبِ. وجزمَ به في "الكافي" و "الوجيز". وذكَرَ في "الشرح" أنَّه المشهورُ عن أحمدَ، وأنَّه اختيارُ الخِرَقيِّ. ولأنَّ للإمامِ مَنْ ينبِّهُه ويذكِّرُه إذا أخطأ الصَّوابَ، بخلافِ المنفردِ. إنْ كان المأمومُ أكثرَ من واحدٍ، وإلا، أي: وإنْ لم يكنْ المأمومُ أكثرَ من واحدٍ، بنى الإمامُ على اليقينِ، كالمنفردِ.
فإذا شكَّ: أصلَّى ركعةً أو ركعتين؟ بنى على ركعةٍ. وثنتين أو ثلاثًا؟ بنى على ثنتين. وهكذا. إمامًا كان أو منفردًا؛ لحديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ مرفوعًا: "إذا شكَّ أحدُكم في صلاتِه، فلم يدرِ: صلَّى ثلاثًا، أو أربعًا؟ فليطْرَحِ الشكَّ، وليبْنِ على ما استيقنَ، ثمَّ يسجدْ سجدتين قبلَ أنْ يسلِّمَ، فإنْ كانَ صلَّى خمسًا، شفعْنَ له صلاتَه، وإنْ كان صلَّى أربعًا، كانتا ترغيمًا للشيطانِ". رواه أحمدُ ومسلمٌ
(2)
. وحديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "إذا شكَّ أحدُكم في صلاتِه، فليتحرَّ الصَّوابَ، وليتمَّ عليه، ثمَّ يسلِّم، ثم ليسجدْ سجدتين". رواه الجماعةُ
(3)
إلا الترمذيَّ.
فتحرِّي الصَّوابِ فيه: هو استعمالُ اليقينِ؛ لأنَّه أحوطُ، وجمعًا بين الأخبارِ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(2/ 489).
(2)
أخرجه أحمدُ (18/ 305)(11782)، ومسلمٌ (571).
(3)
أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572)، وأبو داود (1020)، والنسائي (1245)، وابن ماجه (1212).
وسجدَ للسَّهو، وبعدَ فراغِها لا أثرَ للشكِّ.
(وسجدَ للسَّهوِ) وسلَّم، فإنْ كان مع إمامِه غيرُه، وشكَّ، رجعَ إلى فعلِ إمامِه ومَنْ معه من المأمومين، كمَنْ نبَّهَهُ اثنانِ فأكثرُ.
(وبعدَ فراغِها) أي: الصَّلاةِ -وكذا سائرُ العباداتِ- (لا أثرَ للشكِّ) بعدَ سلامِه، سواءٌ كان إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا. وكذا بعدَ فراغِ كلِّ عبادةٍ.
"فائدةٌ": ولا سجودَ إذا شكَّ: هلْ سها، أو لا؟ ولا إذا علِمَ سهوًا ولمْ يعلم: هلْ هو ممَّا يسجدُ له، أولا؟
"تتمةٌ": سجودُ السَّهوِ، وما يقولُه فيه وبعدَ الرَّفعِ منه، كسجودِ الصَّلاةِ. فلو خالفَ، أعادَه بنيةٍ. جزمَ به في " الفروع"، وقدَّمَه في "الرعاية" وقال: وقيل: إنْ سجدَ بعد السَّلامِ، كبَّرَ مرةً واحدةً، وسجدَ سجدتينِ، ثمَّ رفعَ
(1)
.
* * *
(1)
"الإنصاف"(4/ 95).
بابُ صلاةٍ التَّطوُّع
وهي أفضل تطوُّعِ البدَنِ بعدَ الجِهادِ والعِلمِ.
(بابُ صلاةٍ التطوعِ)
وما يتعلَّقُ بها
التطوُّعُ في الأصلِ: فعلُ الطَّاعةِ.
وشرعًا: طاعةٌ غيرُ واجبةٍ. والنفلُ، والنافلةُ: الزيادةُ. والتنفُّلُ: التطوعُ.
قال في "الاختيارات"
(1)
: التطُّوعُ تكملُ به صلاةُ الفرضِ يومَ القيامةِ، إنْ لمْ يكنْ المصلِّي أتمَّها، وفيه حديثٌ مرفوعٌ، رواه أحمدُ في "المسند". وكذلك الزكاةُ وبقيةُ الأعمالِ. انتهى.
(و) صلاةُ التطوعِ (هي أفضلُ تطوعِ البدنِ بعدَ الجهادِ) وهو قتالُ الكفارِ (والعلمِ) فأفضلُ تطوعاتِ البدنِ: الجهادُ؛ لقولِه تعالى: {اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] والنفقةُ فيه أفضلُ. ونقلَ جماعةٌ: الصدقةُ على قريبِه المحتاجِ أفضلُ مع عدمِ حاجةٍ إليه. ذكَرَهُ الخلَّالُ وغيرُه. وعن خُرَيمِ
(2)
بن فاتلب مرفوعًا: "من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ، كتبتْ بسبعمائةِ ضعفٍ". رواه أحمدُ والنسائيُّ، والترمذي وحسنَه، وابنُ حبانَ في "صحيحه"
(3)
، وترجمَ
(1)
"الاختيارات" ص (62).
(2)
في الأصل: "خزيم".
(3)
أخرجه أحمدُ (31/ 384)(19036)، والنسائى (3186)، والترمذيُّ (1625)، وابن حبانَ (4647)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عليه: ذكرُ تضعيفِ النفقةِ في سبيلِ اللهِ على غيرِه من الطاعاتِ.
ولأحمدَ وغيرِه
(1)
: "مَنْ عمِلَ حسنةً كانتْ بعشرِ أمثالِها، ومَنْ أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ، كانتْ له بسبعمائةِ ضعفٍ". انتهى
(2)
.
وقيل: رباطٌ أفضلُ من جهادٍ.
ثمَّ يلي التطوعَ بالجهادِ: تعلُّم العلمِ وتعليمُه. نقل مهنا: طلبُ العلمِ أفضلُ الأعمالِ لمَنْ صحَّتْ نيتُه. قيلَ له: فأيُّ شيءٍ تصحيحُ النيةِ؟ قال: ينوي يتواضعُ فيه، وينفي عنه الجهلَ. والأشهرُ عنه: الاعتناءُ بالحديثِ والفقهِ، والتحريضُ على ذلك. وقال: ليسَ قومٌ خيرًا من أهلِ الحديثِ. وعابَ على محدِّثٍ لا يتفقَّه. وفي "آداب عيون المسائل": العلمُ أفضلُ الأعمالِ، وأقربُ العلماءِ إلى اللهِ، وأوْلاهم به: أكثرُهم له
(3)
خشيةً.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: قال أحمدُ: معرفةُ الحديثِ والفقهِ فيه أعجبُ إليَّ من حفظِه.
وقال ابنُ الجوزيُّ في خطبةِ "المذهبِ": بضاعةُ الفقهِ أربحُ البضائعِ، والفقهاءُ يفهمون مرادَ الشارعِ، ويفهمون الحكمةَ في كلِّ واقعٍ، وفتاويهم تميِّزُ العاصيَ من الطائعِ. وقال في كتابِ "العلم" له: الفقهُ عمدةُ العلومِ. وقال في "صيد الخاطرِ" الفقهُ عليه مدارُ العلومِ، فإن اتسعَ الزمانُ للتزيدِ من العلمِ، فليكنْ في التفقُّهِ
(4)
، فإنَّه
(1)
أخرجه أحمد (31/ 383)(19035)، والطبراني (4153) من حديث خريم بن فاتك.
(2)
انظر "الفروع"(2/ 337).
(3)
سقطت: "له" من الأصل.
(4)
في الأصل: "الفقه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأنفعُ. وفيه المهمُّ من كلِّ علمٍ هو المهمُّ
(1)
.
قال أبو الدرداءِ: العالمُ والمتعلِّمُ في الأجرِ سواءٌ، وسائرُ الناسِ همجٌ لا خيرَ فيهم
(2)
. ونقلَ ابنُ منصورٍ: إنَّ تذاكرَ بعضِ ليلةٍ أحبُّ إلى أحمدَ من إحيائِها. وأنَّه العلمُ الذي ينتفعُ به النَّاسُ في أمرِ دينهم. قلتُ: الصَّلاةُ، والصومُ، والحجُّ، والطلاقُ، ونحوُ هذا؟ قال: نعم.
وليحذرِ العالمُ ويجتهدْ، فإنَّ ذنبَه أشدُّ. نقلَ المرُّوذيُّ: العالمُ يقتدي به، ليس العالمُ مثلَ الجاهلِ. وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ: يُغفرُ لسبعين جاهلًا قبل أنْ يُغفرَ لعالمٍ واحدٍ. وقال الشيخُ تقيُّ الدينِ: أشدُّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ: عالمٌ لم ينفعْه اللهُ بعلمِه. فذنبُه من جنسِ ذنبِ اليهودِ. واللهُ أعلمُ
(3)
.
واعلم أنَّ الصَّلاةَ -بعدَ الجهادِ والعلمِ- أفضلُ التطوعاتِ، على الصحيحِ من المذهبِ، وعليه الجمهورُ.
وقيل: الصَّومُ أفضلُ من الصَّلاةِ. قال الإمامُ أحمدُ: لا يدخلُه رياءٌ. قال بعضُهم: وهذا يدلُّ على فضيلته
(4)
على غيرِه. قال ابنُ شهابٍ: أفضلُ ما تعبَّدَ به المتعبِّدُ: الصَّومُ.
وقيلَ: ما تعدَّى نفعُه أفضلُ. اختارَه المجدُ، وصاحبُ "الحاوي الكبير" و"مجمع البحرين".
(1)
انظر "الإنصاف"(4/ 104).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 284).
(3)
انظر "كشاف القناع"(3/ 8).
(4)
في الأصل: "أن أفضليته".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونقلَ مهنا: الفكرُ أفضلُ من الصَّلاةِ والصَّومِ. قال في "الفروع": فقدْ يتوجَّه أنَّ عملَ القلبِ أفضلُ من عملِ الجوارحِ. ويكونُ مرادُ الأصحابِ عملَ الجوارحِ. ولهذا ذكرَ في "الفنون" روايةَ مهنَّا
(1)
، فقال: يعني: الفكرةَ في آلائهِ، ودلائلِ صنعِه، والوعدِ والوعيدِ؛ لأنَّه الأصلُ الذي ينتج
(2)
أفعالَ الخيرِ، وما أثمرَ الشيءَ فهو خيرٌ من ثمرتِه.
وهذا ظاهرُ "المنهاج" لابنِ الجوزيِّ، فإنَّه قال. فيه: مَنْ انفتحَ له طريقُ عملٍ بقلبِه بدوامِ ذكرٍ أو فكرٍ، فذلك الذي لا يُعدَلُ به البتَّةَ.
قال في "الفروع": وظاهرُه: أنَّ العالمَ باللهِ وبصفاتِه أفضلُ من العالمِ بالأحكامِ الشرعيةِ؛ لأنَّ العلمَ يشرُفُ بشرفِ معلومِه وبثمراتِه. وقال ابنُ عقيلٍ في خُطبةِ "كفايته": إنما تشرفُ العلومُ بحسبِ مؤدياتِها، ولا أعظمَ من الباري، فيكونُ العلمُ المؤدِّي إلى معرفتِه، ومَا يجبُ له، وما يجوزُ، أجلَّ العلومِ. واختارَ الشيخُ تقيِّ الدينِ: أنَّ كلَّ أحدٍ بحسبِه، وأنَّ الذكرَ بالقلبِ أفضلُ من القراءةِ بلا قلبٍ. وهو معنى كلامِ ابنِ الجوزيِّ، فإنه قال: أصوبُ الأمورِ أنْ ينظرَ إلى ما يطهِّرُ القلبَ ويصفِّيه للذكرِ والأنسِ، فيلازمُه. وقال الشيخُ تقيُّ الدينِ في الردِّ على الرافضيِّ، بعدَ أنْ ذكرَ تفضيلَ أحمدَ للجهادِ، والشافعيِّ للصَّلاةِ، وأبي حنيفةَ ومالكٍ للذِّكْرِ: والتحقيقُ: لا بدَّ لكلِّ من الْآخرين، وقد يكونُ كلُّ واحدٍ أفضلَ في حالٍ. انتهى
(3)
.
فالصَّلاةُ بعد الجهادِ والعلمِ أفضلُ؛ لقولِهِ عليه السلام: "واعلموا أنَّ خيرَ
(1)
سقطت: "مهنا" من الأصل.
(2)
في الأصل: "يفتح".
(3)
انظر "الإنصاف"(4/ 103).
وأفضَلها: ما سُنَّ جَماعةً. وآكدها: الكسوفُ، فالاستِسقاءُ، فالتراويحُ، فالوِتُر، وأقلُّه: ركعةٌ،
أعمالِكم الصَّلاةُ ". رواه ابنُ ماجه، وابنُ حبانَ في "صحيحه"
(1)
. ولأنَّ فرضَها آكدُ الفروضِ، فتطوُّعُها آكدُ التطوعاتِ، ولأنَّها تجمعُ أنواعًا من العبادةِ: الإخلاصِ، والذِّكرِ، والركوعِ، والسجودِ، ومناجاةِ الربِّ، والتوجُّه إلى القبلةِ، والتسبيحِ، والتكبيرِ، والصَّلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(وأفضلُها) أي: صلاةٍ التطوعِ: (ما سُنَّ) أنْ يصلَّى (جماعةً) لأنَّه أشبَهُ بالفرائضِ. ثمَّ الرواتِبُ.
(وآكدُها) أي: آكدُ ما سُنَّ جماعةً: (الكسوفُ) لأنَّه عليه السلام فعلَها وأمرَ بها في حديثِ أبي
(2)
مسعودٍ المتفقِ عليه
(3)
.
(فالاستسقاءُ) لأنَّه عليه السلام كان يستسقي تارةً، ويترُكُ أخرى، بخلافِ الكسوفِ، فلمْ يتركْ صلاتَه عندَه، فيما نُقِلَ عنه.
(فالتراويحُ) لأنَّها تُسنُّ لها الجماعةُ.
(فالوترُ) لأنَّه تشرعُ له الجماعةُ بعد التراويحِ، وهو سنَّة مؤكَّدةٌ. رُوي عن أحمدَ: مَنْ تركَ الوترَ عمدًا، فهو رجلُ سوءٍ، لا ينبغي أنْ تُقبلَ له شهادةٌ.
(وأقلُّه) أي: الوترِ (ركعةٌ) لحديثِ ابنِ عمرَ وابنِ عباسٍ مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ
(1)
أخرجه ابن ماجه (277)، وابن حبان (1037) من حديث ثوبان. وصححه الألباني.
(2)
في الأصل "ابن" والمثبت من مصدر التخريج.
(3)
أخرجه البخاري (1057)، ومسلم (911) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وأكثرُه: إحدَى عشرَةَ، وأدنَى الكمالِ: ثلاثٌ بسلامَينِ، ويجوزُ بواحدٍ سَردًا.
ووقتُه: ما بينَ صلاةٍ العِشاءِ وطلُوع الفَجر.
من آخِرِ الليلِ". رواه مسلمٌ
(1)
.
(وأكثرُه) أي: الوترِ: (إحدى عشرةَ) ركعةً. (وأدنى الكمالِ) في الوترِ: (ثلاثُ) ركعاتٍ (بسلامين) بأنْ يصلِّي ثنتين ويسلِّمُ، ثمَّ ركعةً ويسلِّم؛ لأنَّه أكثرُ عملًا. وكان ابنُ عمرَ يسلِّمُ من ركعتين، حتى يأمرَ ببعض حاجتِه
(2)
. (ويجوزُ) أنْ يصلِّيَ الثلاثَ (بـ) سلامٍ (واحدٍ) قال أحمدُ: إنْ أوترَ بثلاثٍ لم يسلِّم فيهنَّ، لم يُضيَّق عليه عندي. (سردًا) من غير جلوسٍ عقبَ الثانيةِ، لتخالف المغربَ. واختارَ في "المستوعب": أنْ يصلِّيَها كالمغربِ. وعلى الأوَّلِ: لو صلَّاها بتشهدين، ففي بطلانِ وترِه وجهانِ، صحَّحَ القاضي في "شرحه الصغير": البطلانَ، وقطعَ في "الإقناع" بالصِّحةِ
(3)
.
(ووقتُه) أي: الوترِ: (ما بين صلاةٍ العشاءِ) ولو مع كونِ العشاء جُمِعتْ مع مغربٍ، جمعَ تقديمٍ في وقتِ المغربِ، (وطلوعِ الفجرِ) لحديثِ معاذٍ: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "زادني ربِّي صلاةً؛ وهي الوترُ، وقتُها: ما بين العشاءِ إلى طلوعِ الفجرِ". رواه أحمدُ
(4)
. وحديثِ: "إنَّ اللهَ قدْ أمدَّكم بصلاةٍ، وهي خيرٌ لكم من حمرِ النَّعمِ؛ وهي الوترُ، فصلُّوها فيما بين العشاءِ إلى طلوعِ الفجرِ". رواه
(1)
أخرجه مسلم (753).
(2)
أخرجه البخاري (991) معلقًا.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(489، 490).
(4)
أخرجه أحمد (36/ 414)(22095)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3566).
ويقنُتُ فيه بعدَ الرُّكُوعِ ندبًا، فلو كبَّر ورفَع يديه، ثمَّ قنتَ قبلَ الركوعِ، جاز.
أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجه، والحاكمُ
(1)
وصحَّحه.
(ويقْنُتُ فيه) أي: في الركعةِ الأخيرةِ من وترِه (بعدَ الركوعِ، ندْبًا) لأنَّه صحَّ عنه عليه السلام من روايةِ أبي هريرةَ
(2)
، وأنصرٍ
(3)
، وابنِ عباسٍ
(4)
. وعن عمرَ وعليٍّ: أنَّهما كانا يقنُتانِ بعدَ الركوعِ. رواه أحمدُ
(5)
، والأثرمُ. قال أبو بكرٍ الخطيبُ: الأحاديث التي جاءَ فيها القنوتُ قبلَ الركوعِ، كلُّها معلولةٌ
(6)
. ثمَّ إنَّ أكثرَ الصَّحابةِ عمِلوا بما قلناه. وحيثُ تقرَّرَ أنَّه بعدَ الركوعِ، نُدِبَ
(7)
(فلو كبَّرَ ورفعَ يديه) بعد القراءةِ (ثمَّ قنتَ قبلَ الركوعِ، جازَ) لحديث أبيِّ بنِ كعبٍ مرفوعًا: "كان يقنتُ في الوترِ قبلَ الركوعِ". رواه أبو داودَ
(8)
.
وروى الأثرمُ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كان يقنتُ في الوترِ، وكان إذا فرغَ من القراءةِ، كبَّرَ، ورفعَ يديه، ثمَّ قنتَ
(9)
.
(1)
أخرجه أبو داودَ (1420)، والترمذيُّ (452)، وابنُ ماجه (1168)، والحاكمُ في "المستدرك" (1/ 448) من حديث خارجة بن حذافة العدوي. قال الألباني: صحيح، دون قوله:"هي خير لكم من حمر النعم".
(2)
أخرجه البخاري (4560)، ومسلم (675).
(3)
أخرجه البخاري (1001)، ومسلم (677).
(4)
أخرجه أبو داود (1443)، وحسنه الألباني.
(5)
أخرجه أحمد (20/ 126)(12698) عن عمر. والبيهقي (2/ 208) عن علي.
(6)
في الأصل: "معلومة".
(7)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 492).
(8)
أخرجه أبو داود عقب (1427). وصححه الألباني في "الإرواء"(426).
(9)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 100).
ولا بأسَ أن يدعُو في قنوتِه بما شاء، وممَّا وردَ: اللهم اهدِنا فيمَن هَديتَ، وعافِنا فيِمن عافَيتَ، وتولَّنا فيمَن تولَّيت،
(ولا بأسَ أنْ يدعوَ في قنوتِهِ بما شاءَ) من الأدعيةِ المأثورةِ. (و) الأفضلُ (ممَّا وردَ) وكيفيةُ ذلك: هو أنْ يرفعَ يديه إلى صدرِه حالَ قنوتِه، يبسطُهما، وبطونُهما نحوَ السماءِ، ولا ينظر إليهما، ولو كان مأمومًا؛ لحديثِ سلمانَ مرفوعًا:"إنَّ اللَّه يستحي أنْ يبسُطَ العبدُ يدَيه، يسألُه فيهما خيرًا، فيردَّهما خائبتين". رواه الخمسةُ
(1)
إلا النسائيَّ. وعن مالكِ بنِ يسارٍ مرفوعًا: "إذا سألْتُم اللهَ فاسألوه ببطونِ أكفِّكم، ولا تسألوه بظهورِها". رواه أبو داودَ
(2)
. وقالَ أحمدُ: كان ابنُ مسعودٍ يرفعُ يديه في القنوتِ إلى صدرِه، بطونُهما ممَّا يلي السماءَ.
وهو: أنْ يقولَ جهرًا: (اللهمَّ اهْدِنا فيمَنْ هديتَ) أي: ثبِّتنا على الهدايةِ، أو زدْنا منها، وهي: الدلالةُ والبيانُ. قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشّورى: 52]. وأما قولُه تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] فهي من اللهِ: التوفيقُ والإرشادُ.
(وعافنا فيمن عافَيتَ) من الأسقامِ والبلايا. والمعافاةُ: أنْ يعافيك اللهُ من النَّاسِ، ويعافيهم منكَ.
(وتولَّنا فيمَنْ تولَّيتَ) الوليُّ: ضدُّ العدوِ. مِن تولَّيتُ الشيءَ: إذا اعتنيتَ به، كما ينظُرُ الوليُّ في مالِ
(3)
اليتيمِ؛ لأنَّ اللهَ ينظرُ في أمرِ وليِّهِ بالعنايةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ
(1)
أخرجه أحمد (39/ 119)(23714)، وأبو داود (1490)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، وصححه الألباني.
(2)
أخرج أبو داود (1488)، وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "حال".
وباركْ لَنا فيِمَا أعطَيتَ، وقِنا شرَّ ما قضيتَ، إنَّك تقضِى ولا يُقضَى عليك، إنَّه لا يَذِلُّ مَنْ واليتَ، ولا يَعِزُّ من عادَيتَ، تباركتَ ربَّنا وتعالَيت، اللَّهمَّ إنَّا نعوذُ بِرضَاكَ مِنْ سَخَطِك، ويعفوِك مِنْ عُقُوبتِكَ، وبكَ منكَ،
من: وليتُ الشيءَ، إذا لم يكنْ بينك وبينه واسطةٌ، بمعنى: أنَّ الوفيَ يقطعُ الوسائطَ بينه وبين اللهِ، حتى يصيرَ في مقامِ المراقبةِ والمشاهدةِ، وهو مقامُ الإحسانِ.
(وباركْ لنا فيما أعطيتَ) البركةُ: الزيادةُ، أو حلولُ الخيرِ الإلهيِّ في الشيءِ. وقولُه "فيما أعطيتَ" أي: أنعمتَ به. والعطيةُ: الهبةُ.
(وقنا شرَّ ما قضيتَ، إنَّك تقضي ولا يُقضى عليكَ) لا رادَّ لأمرِه، ولا معقِّبَ لحكمِه (إنَّه لا يذلُّ مَنْ واليتَ، ولا يَعِزُّ مَنْ عاديتَ، تباركتَ ربَّنا وتعاليتَ) رواه أحمدُ، ولفظُه له، وتكلَّمَ فيه أبو داودَ، ورواه الترمذيُّ
(1)
وحسَّنَه من حديثِ الحسنِ بنِ عليٍّ قال: علَّمني النبىُّ صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولُهنَّ في قنوتِ الوترِ: "اللهمَّ اهْدِني". إلى: "تعالَيْتَ". وليس فيه: "ولا يعز مَنْ عادَيْتَ". ورواه البيهقيُّ
(2)
وأثبتَها فيه، وجَمَعَ، والروايةُ بالإفرادِ؛ ليشاركَ الإمامُ والمأمومُ في الدُّعاءِ
(اللهمَّ إنا نعوذُ برضاك من سخطِكَ، وبعفوِك من عقوبتِك، وبكَ منكَ) قالَ الخطابي: في هذا معنًى لطيفٌ؛ وذلك أنَّه سألَ اللهَ سبحانه وتعالى أنْ يجيرَه برضاه من سخطِه، وهما ضدَّانِ ومتقابلانِ، وكذلك المعافاةُ والمؤاخذةُ بالعقوبةِ، لجأَ إلى ما لا ضدَّ له، وهو اللهُ سبحانه وتعالى، أظهرَ العجزَ والانقطاعَ، وفزعَ منه إليه،
(1)
أخرجه أحمد (3/ 245)(1718)، وأبو داود (1427)، والترمذي (464). وصححه الألباني في "الإرواء"(426).
(2)
أخرجه البيهقي (2/ 209).
لا نُحصِي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسِكَ.
ثمَّ يُصلِّي على النَّبي صلى الله عليه وسلم،
فاستعاذَ به منه
(1)
.
(لا نحصي ثناءً عليك) أي: لا نطيقُه (أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ) اعترافٌ
(2)
بالعجزِ عن الثناءِ، وردٌّ إلى المحيطِ علمُه بكلِّ شيءٍ؛ جملة وتفصيلًا. فكما أنَّه تعالى لا نهايةَ لسلطانِه وعظمتِه، لا نهايةَ للثناءِ عليه؛ لأنَّ الثناءَ تابعٌ للمُثنى عليه. رُوي عن عليٍّ أنَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ في آخرِ وترِه:"اللهمَّ إنِّي أعوذُ برضاكَ من سخطِكَ، وبمعافاتِكَ من عقوبتِكَ، وأعوذُ بكَ منْكَ، لا أُحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ". رواه الخمسةُ
(3)
، ورواتُه ثقاتٌ. وقال الترمذيُّ: لا نعرفُ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم في القنوتِ شيئًا أحسنَ من هذا. وله أنْ يزيدَ على هذا الدُّعاءِ ما شاءَ مما يجوزُ الدُّعاءُ به في الصَّلاةِ. قال المجدُ: صحَّ عن عمرَ أنَّه كان يقنُتُ بقدرِ مائةِ آيةٍ
(4)
.
(ثمَّ يصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم لحديثِ الحسنِ بنِ عليٍّ السابقِ، وفي آخرِه: وصلَّى اللهُ على محمدٍ. رواه النسائيُّ
(5)
. وعن عمرَ: الدُّعاءُ موقوفٌ بين السماءِ والأرضِ،
(1)
انظر "كشاف القناع"(3/ 36).
(2)
في الأصل: "اعترف".
(3)
أخرجه أحمد (2/ 147)(751)، وأبو داود (1427)، والترمذي (3566)، وابن ماجه (1179)، والنسائي (1747). وصححه الألباني في "الإرواء"(430)، وفي "صحيح أبي داود"(1282).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 101).
(5)
أخرجه النَّسَائِيّ (1746)، وضعفه الألباني.
ويؤمِّنُ المأمُومُ، ثم يمسحُ وجهَهُ بيديه هنا، وخارجَ الصلاةِ.
وكرِهَ القُنوت في غيرِ الوِترِ.
لا يصعدُ منه شيءٌ، حتى تصلِّيَ على نبيِّكَ. رواه الترمذيُّ
(1)
.
(ويؤمِّنُ المأمومُ) على قنوتِ إمامِه إنْ سمِعَه؛ بأنْ يقولَ: آمين. وعنه: يقنتُ معه. ويجهز به. والظاهر: أنَّ المرادَ: يؤمِّنُ عندَ الدّعاءِ، ويسكتُ عند الثناءِ؛ لأنَّ التأمينَ على غيرِ الدعاءِ لا ثمرةَ له.
قال في "النكت"
(2)
: وظاهرُ كلامِ صاحبِ "المحرر": أنَّ الخلافَ سواءٌ جهرَ الإمامُ، أم لا. وكذا ظاهرُ كلامِ غيرِه. وقطعَ بعضُ الأصحابِ أنَّ الخلافَ: إنْ كانَ يسمعُ دعاءَ الإمامِ، وإنْ لم يسمعْ دعا. نصَّ عليه الإمامُ.
(ثمَّ يمسحُ وجهَه بيديه) استحبابًا (هنا) أي: عقبَ القنوتِ (وخارجَ الصَّلاةِ) إذا دعا؛ لعمومِ حديث عمرَ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا رفعَ يديه في الدُّعاءِ، لم يحطَّهما حتى يمسحَ بهما وجهَه. رواه الترمذي
(3)
. ولقولِه عليه السلام في حديثِ ابنِ عباسٍ: "فإذا فرغتَ، فامسحْ بهما وجهَكَ". رواه أبو داودَ، وابنُ ماجه
(4)
.
(وكُرِه القنوتُ في غيرِ الوتر
(5)
) أي: كالفجرِ، وسائرِ المكتوباتِ، والنوافلِ، والجنازةِ، والعيدين، إلا أنْ تنزلَ بالمسلمين نازلةٌ. وهلْ يقنُتُ بالدُّعاءِ المعروفِ في
(1)
أخرجه الترمذي (486). وضعفه الألباني في "الإرواء"(432).
(2)
"النكت والفوائد السنية"(1/ 159).
(3)
أخرجه الترمذي (3386). وضعفه الألباني.
(4)
أخرجه أبو داودَ (1485)، وابنُ ماجه (1181)، وضعفه الألباني.
(5)
في الأصل: "وتر".
وأفضَلُ الرَّواتبِ: سُنَّةُ الفَجرِ، ثمَّ المغرِبِ، ثمَّ سواءٌ.
تلك النازلةِ؟ قال ابنُ قندس
(1)
: وظاهرُ كلامِ جماعةٍ: أنَّه يقنُتُ بالدُّعاءِ المعروفِ. وفي "الاختيارات"
(2)
: أنَّه يقنُتُ بما يناسبُ تلك النازلةَ. انتهى. فيسنُّ.
(وأفضلُ الرواتبِ: سنةُ الفجرِ) لقولِ عائشةَ: لم يكنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على شيءٍ من النوافلِ، أشدَّ تعاهدًا منه على ركعتي الفجرِ. متفقٌ عليه
(3)
. وقال عليه السلام: "صلُّوا ركعتي الفجرِ، ولو طردتْكُمُ الخيلُ". رواه أحمدُ وأبو داودَ
(4)
.
وسُنَّ تخفيفُها، وأنْ يقرأَ فيها بعدَ الفاتحةِ:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وفي الأولى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية. وفي الثانيةِ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية.
وسُنَّ اضطجاعٌ بعدَها على الجنْبِ الأيمن، قبلَ صلاةٍ الفرضِ، نصًّا.
(ثمَّ) يلي الفجرَ في الفضيلةِ: (المغربُ) لحديثِ عبيدٍ مولى النبيِّ صلى الله عليه وسلم نصًّا: أكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمرُ بصلاةٍ بعد المكتوبةِ سوى المكتوبة؟ فقال: نعم، بين المغربِ والعشاءِ. ويقرأُ فيهما بعدَ الفاتحةِ:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(5)
.
(ثمَّ) باقي الرواتب (سواءٌ) في الفضيلةِ
(1)
"حاشية الفروع"(2/ 336).
(2)
"الاختيارات" ص (64).
(3)
أخرجه البخاري (1169)، ومسلم (724).
(4)
أخرجه أحمدُ (15/ 143)(9253)، وأبو داودَ (1260) من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني.
(5)
أخرجه أحمد (39/ 59)(23652).
والرواتبُ المؤَكَّدةُ عشرٌ:
ركعتانِ قبلَ الظهرِ، وركعتانِ بعدَهَا، وركعتانِ بعدَ المغرِبِ، وركعتانِ بعدَ العِشاءِ، وركعتانِ قبلَ الفَجرِ.
ويُسنُّ قضاءُ الرواتِبِ والوترِ،
(والرواتبُ المؤكَّدةُ)، يُكره تركُها، وتسقطُ عدالةُ مداومِه:(عشرُ) ركعاتٍ. قال بعضُهم: والحكمةُ فيها: أنَّها تُكمِلُ ما نقصَ من الفرائضِ نقصًا غيرَ مبطلٍ، كتركِ الخشوعِ، وتدبُّرِ القراءةِ، ونحوِ ذلك.
وهي: (ركعتانِ قبلَ الظهرِ، وركعتانِ بعدَها، وركعتانِ بعدَ المغربِ، وركعتانِ بعدَ العشاءِ، وركعتانِ قبلَ الفجرِ) لحديثِ ابنِ عمرَ: حفظتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعاتٍ: ركعتينِ قبلَ الظهرِ، وركعتينِ بعدَها، وركعتينِ بعدَ المغربِ في بيتِه، وركعتينِ بعدَ العشاءِ في بيتِه، وركعتينِ قبلَ الصبحِ، وكانتْ ساعةً لا يدخلُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها أحدٌ. حدَّثَتني حفصةُ: أنَّه إذا أذَّنَ المؤذِّنُ، وطلَعَ الفجرُ، صلَّى ركعتين. متفقٌ عليه
(1)
. وللترمذيِّ
(2)
مثلُه عن عائشةَ مرفوعًا، وقال: صحيحٌ. وتقدَّمَ أنَّ ركعتي الفجرِ آكدُ الرواتبِ.
(ويسَنُّ قضاءُ الرواتبِ) لأنَّه عليه السلام قضى ركعتي الفجرِ مع الفجرِ، حين نامَ عنهما. وقضى الركعتين بعدَ الظهرِ، بعد العصرِ. وقسِ
(3)
الباقي.
(و) سُنَّ أيضًا قضاءُ (الوترِ) لحديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ مرفوعًا: "مَنْ نامَ عن
(1)
أخرجه البخاري (1180)، ومسلم (729).
(2)
أخرجه الترمذي (436).
(3)
في الأصل: "فيسن".
إلا ما فاتَ مع فرضِه وكثُرَ، فالأَولَى تركُه.
وفعِلُ الكُلِّ ببيتٍ أفضلُ.
ويُسنُّ الفصلُ بين الفرضِ وسُنَّتِهِ بقيامٍ أو كلامٍ.
والتراويحُ
الوترِ، أو نسِيَه، فليصلِّه إذا أصبحَ، أو ذكَرَ". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
.
(إلا ما فاتَ) من الرَّواتبِ (مع فرضِه، وكثُرَ، فالأَوْلَى تركُه) أي: تركَ قضائِها؛ لحصولِ المشقةِ به
(وفِعلُ) السننِ (الكلِّ) أي: السننِ كلِّها (ببيتٍ أفضلُ) من فعلِها بالمسجدِ؛ لحديثِ: "عليكم بالصَّلاةِ في بيوتِكم، فإنَّ خيرَ صلاةٍ المرءِ في بيتِه، إلا المكتوبةَ". رواه مسلمٌ
(2)
. لكن ما تُشرعُ له الجماعةُ مستثنًى أيضًا. ولأنَّ الصَّلاةَ في البيتِ أقربُ إلى الإخلاصِ، وأبعدُ من الرياءِ. ولأنَّ ذلك من عملِ السرِّ، وهو أفضلُ من العلانيةِ.
(ويُسنُّ الفصلُ) أي: أنْ يفصلَ (بين الفرضِ وسنَّتِه) قبليةً كانتْ، أو بعديةً (بقيامِ، أو كلامٍ) لقولِ معاويةَ: إنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمرَنا بذلك: أنْ لا توصَلَ صلاةٌ بصلاةٍ
(3)
حتى نتكلَّمَ، أو نخرُج. رواه مسلمٌ
(4)
.
(والتراويحُ) سنَّةٌ مؤكدةٌ. سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّهم كانوا يصلُّون تسليمَتين،
(1)
أخرجه أبو داودَ (1433)، والترمذيُّ (465)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه مسلم (781) من حديث زيد بن ثابت.
(3)
سقطت: "بصلاة" من الأصل.
(4)
أخرجه مسلم (883).
عِشرونَ ركعةً برمضَانَ، ووقتُها ما بينَ العِشاءِ والوِترِ.
ويتروَّحون ساعةً، أي: يستريحون.
وهي (عشرونَ ركعةً) لحديثِ ابنِ عباير أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي في شهرِ رمضانَ عشرين ركعةً
(1)
. رواه أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ في "الشافي" بإسنادِه. (برمضانَ) جماعةً. نصًّا
(ووقتُها) أي: التراويحُ: (ما بين العشاءِ والوترِ) لأنَّ سنَّةَ العشاءِ يُكره تأخيرُها عن وقتِ العشاءِ المختارِ، فإتباعُها بها
(2)
أَوْلى وأشبَهُ. والتراويحُ لا يُكره مدُّها وتأخيرُها بعدَ نصفِ الليلِ، فهي بالوترِ أشبَهُ. فلا تصحُّ قبلَ العشاءِ. فلو صلَّى العشاءَ والتراويحَ، ثمَّ ذكَرَ أنَّه تركَ من العشاءِ ما يُبطلُها، أعادَ التراويحَ. وله فعلُها بعدَ العشاءِ قبل سنَّتِها، لكنَّ الأفضلَ بعدَها أيضًا.
* * *
(1)
أخرجه عبد بن حميد (653)، والطبراني (12102)، والبيهقي (2/ 496). قال الألباني في "الإرواء" (445): موضوع.
(2)
سقطت: "بها" من الأصل.
فَصْلٌ
وصلاةُ اللَّيلِ أفضلُ من صَلاةِ النَّهار، والنِّصفُ الأخيرُ أفضلُ مِنَ الأوُّلِ، والتهجُّدُ ما كان بعدَ النومِ.
ويُسنُّ قيامُ اللَّيلِ
(فصلٌ)
(وصلاةُ الليلِ) أي: النفلِ المطلقِ فيه (أفضلُ) من النفلِ المطلقِ بالنهارِ؛ لحديثِ مسلمٍ
(1)
عن أبي هريرة مرفوعًا: "أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ، صلاةُ الليلِ". ولأنَّه محلُّ الغفلةِ. وعملُ السرِ أفضلُ من عملِ العلانيةِ. "وفيه ساعةٌ لا يوافِقُها رجلٌ مسلمٌ يسألُ اللهَ خيرًا من أمرِ الدنيا والآخرةِ، إلا أعطاه إياه"
(2)
- (من صلاةٍ النَّهارِ، والنصفُ
(3)
الأخيرُ أفضلُ من) النصفِ (الأوَّلِ) لحديث مسلمٍ
(4)
: "ينزلُ ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، إذا مضى شطْرُ الليلِ، أو ثُلُثاه
…
إلخ". قال ابنُ حبانَ في "صحيحه": يحتملُ أن يكونَ النزولُ في بعضِ الليالي هكذا، وفي بعضها هكذا.
(والتهجدُ ما كان بعد النومِ) ليلًا.
(ويُسنُّ قيامُ الليلِ) لحديثِ: "عليكم بقيامِ الليلِ، فإنَّه دأْبُ الصَّالحين قبلَكُم،
(1)
أخرجه مسلم (1163).
(2)
أخرجه مسلم (757) من حديث جابر.
(3)
في الأصل "ونصفه".
(4)
أخرجه مسلم (758) من حديث أبي هريرة.
وافتتاحُه بركعتين خَفيفَتينِ، ونيَّتُه عندَ النَّومِ.
وهو قربةٌ لكم إلى ربِّكم، ومَكفَرَةٌ للسيئاتِ، ومنهاةٌ عن الإثمِ". رواه الحاكمُ
(1)
وصحَّحه، وقال: على شرطِ البخاريِّ.
"تنبيهٌ": قال في "الإقناع"
(2)
: وتُكره مداومتُه. ظاهرُه: مداومةُ بعضِه. قال الحجاوي في "حاشيةِ التنقيح"
(3)
: وقدْ فهِمَ بعضُ المصنِّفين في زمنِنا من كلامِ المنقِّحِ أنَّه يقومُ غبًّا. وعبارةُ "الفروع" تُوهِمُ ذلك! وليس بواردٍ عن أحدٍ. انتهى.
يعني: المكروهُ مداومةُ قيامِ الليلِ، لا مداومةُ قيامِ بعضِه، كما فهِمَ صاحبُ "المنتهى"؛ لأنَّه لمْ يقلْ به أحدٌ. انتهى.
(و) يُسنُّ (افتتاحُه) أي: قيامِ الليلِ (بركعتين خفيفَتَين) لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إذا قامَ أحدُكم من الليلِ، فليفتتحْ صلاتَه بركعتين خفيفتين" رواه أحمدُ، ومسلمٌ، وأبو داودَ
(4)
.
(و) تُسنُّ (نيتُه عند النَّومِ) أي: إرادةِ النومِ، لحديثِ أبي الدرداءِ مرفوعًا:"مَنْ نامَ ونيتُه أنْ يقومَ، كُتِبَ له ما نوى، وكان نومُه صدقةً عليه". حديثٌ حسنٌ، رواه أبو داودَ والنسائيُّ
(5)
.
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 451) من حديث أبي أمامة الباهلي. وحسنه الألباني في "الإرواء"(452).
(2)
"الإقناع"(1/ 233).
(3)
"حاشية التنقيح"(1/ 103).
(4)
أخرجه أحمدُ (13/ 172)(7748)، ومسلمٌ (768)، وأبو داودَ (508).
(5)
أخرجه أبو داودَ (1316) من حديث عائشة. وأخرجه النسائيُّ (1787) من حديث أبي الدرداء. وصححه الألباني.
ويصِحُّ التطوُّعُ بركْعةٍ.
وأجرُ القاعدِ -غيرِ المعذُورِ- نصفُ أجرِ القائمِ. وكثرةُ الرُّكوعِ والسُّجودِ أفضلُ من طُولِ القِيَامِ.
(ويصحُّ التطوعُ بركعةٍ) ونحوِها، كثلاثٍ وخمسٍ؛ قياسًا على الوترِ. وفي "الإقناع": مع الكراهةِ.
(وأجرُ القاعدِ، غيرِ المعذورِ) فأجرُه قاعدًا كأجرِه قائمًا؛ للعذرِ. وأما غيرُ المعذورِ، فعلى (نصفِ أجرِ) صلاةٍ (القائمِ) لحديثِ: "مَنْ صلَّى قائمًا، فهو أفضلُ، ومَنْ صلَّى قاعدًا، فله نصفُ أجرِ
(1)
القائمِ". متفقٌ عليه
(2)
.
(وكثرةُ الركوعِ والسُّجودِ، أفضلُ من طولِ القيامِ) في غيرِ ما وردَ عنه عليه السلام تطويلُه، كصلاةِ كسوفٍ؛ لحديثِ:"أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه، وهو ساجدٌ"
(3)
.
وأمرَ عليه السلام بالاستكثارِ من السُّجودِ في حديثِ ثوبانَ، قال: سمعتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "عليك
(4)
بكثرةِ السُّجودِ، فإنَّك لا
(5)
تسجدُ للهِ سجدةً، إلا رفعَكَ اللهُ بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً". وعن ربيعةَ بنِ كعبٍ السلميِّ أنَّه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أسألُكَ مرافقتَكَ في الجنَّةِ. قال: "أعنِّي على نفسِكَ بكثرةِ السجودِ". رواهما
(1)
في الأصل: "أجر نصف".
(2)
أخرجه البخاري (1115) من حديث عمران بن حصين. ولم أجده في مسلم.
(3)
أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة.
(4)
في الأصل "عليكم".
(5)
في الأصل: "إن".
وتُسَنُّ صلاةُ الضُّحَى غِبًّا، وأقلُّهَا ركعَتَان. وأكثرُها ثَمَانٍ
أحمدُ ومسلمٌ وأبو داودَ
(1)
. وعن عبادةَ بنِ الصامت أنَّه سمِعَ النبىَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما من عبدٍ يسجدُ للهِ سجدةً، إلا كتبَ اللهُ له بها حسنةً، ورفعَ له بها درجةً، فاستكْثِروا من السجودِ". رواه ابنُ ماجه
(2)
.
ولأنَّ السُّجودَ في نفسِه أفضلُ وآكدُ، بدليلِ أنَّه يجبُ في الفرضِ والنفلِ، ولا يُباحُ بحالٍ إلَّا للهِ تعالى. والقيامُ يسقطُ في النفلِ، ويُباحُ في غيرِ الصَّلاةِ للوالدين، والعالمِ، وسيِّدِ القومِ. والاستكثارُ ممَّا هو آكدُ وأفضلُ، أَوْلى
(وتُسنُّ صلاةُ الضُّحَى) لما روى أبو هريرةَ قال: أوصاني خليلي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، وركعتي الضحى، وأنْ أوترَ قبلَ أنْ أنامَ. رواه أحمدُ ومسلمٌ
(3)
. (غِبًّا) بأنْ يصلِّيَها في بعضِ الأيامِ دونَ بعضٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكنْ يداومُ عليها. ولما روى أبو سعيدٍ الخدريُّ: كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي الضُّحى حتى نقولَ: لا يدَعُها، ويدَعُها حتى نقولَ: لا يُصلِّيها. رواه أحمدُ والترمذيُّ
(4)
. وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. ولأنَّ في المداومةِ عليها تشبيهًا بالفرائضِ، والسنَّةِ المؤكَّدةِ، وهي دونهما.
(وأقلُّها ركعتانِ) لأنَّه لم يُنقلْ أنَّه عليه السلام صلَّاها دونَهما. (وأكثرُها ثمانٍ) لحديث أمِّ هانئٍ: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم عامَ الفتحِ صلَّى ثمانِ ركعاتٍ سُبْحةَ الضحى.
(1)
الأول: أخرجه أحمدُ (37/ 59)(22377)، ومسلمٌ (488)، ولم أجده عند أبي داودَ. والثاني: أخرجه أحمدُ (27/ 118)(16579)، ومسلمٌ (489)، وأبو داودَ (1322).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1424)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه أحمدُ (12/ 41)(7138)، ومسلمٌ (721).
(4)
أخرجه أحمد (17/ 246)(11155)، والترمذيُّ (477)، وضعفه الألباني.
ووقتُها: مِن خروجِ وَقَتِ النهىِ إلى قُبَيل الزوالِ، وأفضلُة إذا اشتَدَّ الحرُّ.
وتُسَنُّ تحيَّة المَسجِدِ، وسُنَّة الوضوءِ،
رواه الجماعةُ
(1)
.
(ووقتُها) أي: صلاةِ الضحى: (مِن خُروجِ وقتِ النهي) أي: ارتفاعِ الشمس قِيدَ رمحٍ، لحديثِ: "قال اللهُ: ابنَ آدمَ، اركعْ أربعَ ركعاتٍ من أوَّل النَّهارِ، أكفِكَ آخرَهُ. رواه الخمسةُ
(2)
، إلا ابنَ ماجه. ويَستمرُ (إلى قُبيلِ الزوالِ) أي: إلى دخولِ وقتِ النهي بقيامِ الشمسِ. (وأفضلُه) أي: وقتِ صلاةٍ الضحى (إذا اشتدَّ الحرُّ) لحديثِ: "صلاةُ الأوابين حين ترمَضُ الفِصال" رواه مسلم
(3)
. الفصالُ: أي: فصالُ الإبلِ: حين يحمى عليها الحرُّ، فتبركُ في الرملِ.
(وتُسن تحيةُ المسجدِ) لمَنْ دخلَه بشرطِه، وهو: أنْ يكونَ في غيرِ وقتِ نهيٍّ. (و) تُسنُّ (سنةُ الوضوءِ) لحديثِ أبي هريرةَ: أنَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لبلالٍ عند صلاةٍ الفجرِ: "حدِّثْني بأرجَى عملٍ عَمِلْتَه في الإسلامِ، فإنِّي سمعتُ دَفَّ
(4)
نعليكَ بين يديَّ في الجنَّةِ. فقال: ما عمِلْتُ عملًا أرْجى عندي: أنِّي لم أتطهَّرْ طُهُورًا في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، إلَّا صليتُ بذلك الطُّهورِ ما كتبَ اللهُ ليَ أنْ أصلِّيَ. متفقٌ
(1)
أخرجه البخاري (1176)، ومسلم (336)، وأبو داود (1292)، والترمذي (474)، والنسائي (225)، وابن ماجه (1323).
(2)
أخرجه أحمد (37/ 137)(22469)، وأبو داود (1291)، والنسائي في "الكبرى"(468) من حديث نُعَيم بن هَمَّارٍ. وأخرجه الترمذي (475) من حديث أبي الدرداء وأبي ذر. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه مسلم (748) من حديث زيد بن أرقم.
(4)
في الأصل: "رق".
وإحياءُ ما بينَ العِشاءينِ، وهو مِن قيامِ اللَّيل.
عليه
(1)
، ولفظُه للبخاريِّ.
(وإحياءُ ما بينَ العشاءين، وهو من قيامِ الليلِ)
وتُسنُّ أيضًا: صلاةُ الاستخارةِ، ولو في خيرٍ، كحجٍّ، وجهادٍ. ويبادرُ به بعدَها. وهي ركعتانِ، يقولُ بعدَهما: اللهمَّ إنِّي أستخيرُكَ بعلمِكَ، وأستقدرُكَ بقدرتِك، وأسألُك من فضلِك العظيمِ، فإنَّكَ تقدرُ ولا أقدرُ، وتعلمُ ولا أعلمُ، وأنتَ علّاَمُ الغيوبِ، اللهمَّ إنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ -ويسمِّيه بعينِه- خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري، أو في عاجلِ أمري وآجلِه، فاقدُرْه لي، ويسِّرْه لي، ثمَّ باركْ لي فيه. وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري، أو في عاجلِ أمري وآجلِه، فاصرِفْه عني واصرْفني عنه، واقدرْ ليَ الخيرَ حيثُ كانَ، ثمَّ رضِّني به. ويقولُ فيه: مع العافيةِ. ولا يكونُ وقتَ الاستخارةِ عازمًا على الأمرِ، أو عدمِه، فإنَّه خيانةٌ في التوكُّلِ. ثمَّ يستشيرُ. فإذا ظهرتْ المصلحةُ في شيءٍ، فعلَهُ.
وتُسنُّ صلاةُ الحاجةِ إلى اللهِ تعالى، أو إلى آدمي. وهما ركعتان يُثْني على اللهِ بعدَهما، ويصلِّي على النبيِّ
(2)
صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ الحليمُ الكريمُ، لا إلهَ إلا اللهُ العلي العظيمُ، سبحانَ اللهِ ربِّ العرشِ العظيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أسألُكَ موجباتِ رحمتِكَ، وعزائمَ مغفرتِكَ، والغنيمةَ من كلِّ برٍّ، والسَّلامةَ من كلِّ إثمٍ، لا تدَعْ لي ذنبًا إلا غفرتَه، ولا همًّا إلا فرَّجْتَه، ولا حاجةً هي لكَ رضًا إلا قضيتَها، يا أرحمَ الراحمين.
وتُسنُّ صلاةُ التوبةِ، ركعتين، ثمَّ يستغفرُ اللهَ تعالى.
(1)
أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (2458).
(2)
في الأصل: "اللَّه".
فَصْلٌ
ويُسنُّ سجود التِّلاوةِ
(فصلٌ)
(ويُسنُّ سجودُ التلاوةِ) وسجودُ شكرٍ، كنافلةِ الصَّلاةِ ذاتِ الرّكوعِ والسُّجودِ، فيما يُعتبرُ لها من شروطِ الصَّلاةِ" من سترِ العورةِ، واستقبالِ القبلةِ، والنيةِ، والطهارةِ من الحدثِ والنجسِ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ.
وأمَّا كونُ سجودِ التلاوةِ سنةٌ،؛ لقولِهِ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]، وحديثِ ابنِ عمرَ: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورةَ فيها السَّجدةُ، فيسجدُ، ونسجد معه، حتى ما يجدُ أحدُنا موضعًا لجبهتِه
(1)
.
وليس بواجبٍ؛ لحديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ: قرأتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} [النّجم: 1] فلم يسجدْ فيها. رواه الجماعةُ
(2)
. وفي لفط للدارقطنيِّ
(3)
: فلم يسجدْ منَّا أحدٌ. وروى البخاريُّ
(4)
: قرأ عمرُ يومَ الجمعةِ على المنبرِ سورةَ النَّحلِ، حتى إذا جاءَ في السَّجدةِ، نزلَ فسجد، فسجدَ النَّاسُ، حتى إذا كانت الجمعةُ
(5)
القابلةُ، قرأَ
(1)
أخرجه البخاري (1075)، ومسلم (575).
(2)
أخرجه البخاري (1073)، ومسلم (577)، وأبو داود (1406)، والترمذي (576)، والنسائي (960)، ولم أجده عند ابن ماجه.
(3)
أخرجه الدارقطني (1/ 409).
(4)
أخرجه البخاري (1077) عن ربيعة بن عبد اللَّه بن الهُدَيْرِ.
(5)
في الأصل: "يوم الجمعة".
مَعَ قِصَرِ الفَصلِ، للقارئ والمستَمِعِ. وهو كالنَّافِلَة فيِمَا يُعتَبَرُ لَهَا.
يُكبِّر إذا سَجَدَ بلا تكبيرةِ إحرامٍ،
بها، حتى إذا جاءَ السَّجدةَ، قال: يا أيُّها النَّاسُ، إنما نمرُّ بالسجودِ، فمَنْ سجدَ فقدْ أصابَ، ومَنْ لم يسجدْ فلا إثمَ عليه. ولمْ يسجدْ عمرُ. ورواه مالكٌ في "الموطأ"
(1)
، وقال فيه: إنَّ اللهَ لم يفرضْ علينا السُّجودَ، إلا أن نشاءَ. ولمْ يسجدْ، ومنَعَهم أن يسجُدُوا. وكان بمحضرٍ من الصَّحابةِ ولمْ يُنكرْ، فكان إجماعًا. والأوامرُ به محمولةٌ على الندْبِ. وقوله تعالى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] المرادُ به: التزامُ السُّجودِ واعتقادُه، فإنَّ فعلَه ليس شرطًا في الإيمانِ إجماعًا. ولهذا قرنَه بالتسبيحِ.
ويكرِّرُ السّجودَ بتكرارِ التلاوةِ، حتى في طوافٍ؛ كالصَّلاةِ.
(مع قِصَرِ الفصلِ) هو شرطٌ في مطلقِ سجودِ التلاوةِ، فلا يسجدُ إنْ طالَ الفصلُ بين التلاوةِ أو الاستماعِ، والسجودِ؛ لأنَّه سنَّةٌ فاتَ محلُّها، فلم يؤتَ بها بعد فواتِه. ولأنَّه لم يردْ نقلٌ بقضائِها، فلم تقضَ. ويسجدُ مع قصرِ الفصلِ
(للقارئ والمستمعِ) متعلقٌ بقولِه: "يسنُّ". أي: قاصدِ السَّماعِ. فلا يُسنُّ السُّجودُ بغيرِ قصدِ السَّماعِ.
(وهو كالنافلةِ فيما يُعتبرُ لها) أي: للنافلهِ. وتقدَّمَ الكلامُ عليه.
وهو أنْ (يكبِّرَ إذا سجدَ) لتلاوةٍ (بلا تكبيرةِ إحرامِ) وقال أبو الخطاب في "الهداية": إنْ سجدَ خارجَ الصَّلاةِ، فإنَّه يكبر
(2)
قبل تكبيرةِ السجودِ تكبيرةً
(1)
أخرجه في "الموطأ"(1/ 206).
(2)
سقطت: "يكبر" من الأصل.
وإذا رَفَعَ، ويَجلِسُ ويُسلِّمُ بلا تَشهُّد.
وإن سَجَد المأمومُ لقِراءةِ نفسِه، أو لقِرَاءةِ غيرِ إمامِه عَمدًا، بطلَت صلاتُه.
ويَلزمُ المأمومَ متابعةُ إمامِه في صلاة الجَهرِ،
للإحرامِ
(1)
؛ قياسًا. فعلى هذا: يلزمُه ثلاثُ تكبيراتٍ
(2)
.
(و) يكبِّرُ (إذا رفعَ) كسجودِ صلبِ الصَّلاةِ والسهوِ (ويجلسُ) خارجَ الصَّلاة بعد رفعِه؛ ليُسلِّمَ جالسًا (ويسلِّمُ) وجوبًا، تسليمةً واحدةً. فيبطلُ بتركِه عمدًا وسهوًا؛ لعمومِ حديث:"تحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليمُ"
(3)
. (بلا تشهدٍ) لأنَّه لم يُنقلْ فيه
(وإنْ سجدَ المأمومُ لقراءةِ نفسِه) أو سجدَ (لقراءةِ غيرِ إمامِه) لأنَّه يلزمُه متابعةُ إمامِه، فإنْ فعلَ ذلك (عمدًا، بطلتْ صلاُته) ولا الإمامُ لقراءةِ غيرِه.
(ويلزمُ المامومَ متابعةُ إمامِه في صلاةٍ الجهرِ) لحديثِ: "إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به"
(4)
وأما صلاةُ السرِّ، فإنَّ المأمومَ فيها ليس بتالٍ ولا مستمعٍ، بخلافِ الجهريةِ. وإنْ كان ثَمَّ مانعٌ، كبُعْدٍ وطرَشٍ؛ لأنَّه محلُّ الإنصاتِ في الجملةِ.
"تنبيهٌ": صرَّحَ الشافعيةُ بأنَّه لا يسجدُ لتلاوةِ السكرانِ، والنائمِ، وما عُلِّمَ من الطيورِ، ومن يَقرأ بغيرِ العربيةِ. قال بعضُهم: ولمْ أرَهُ صريحًا في كلامِ أصحابِنا،
(1)
في الأصل: "وتكبيرة الإحرام".
(2)
انظر "معونة أولي النهى"(2/ 297).
(3)
أخرجه أحمد (2/ 292، 322)(1006، 1072)، وأبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي. وصححه الألباني في "الإرواء"(301).
(4)
أخرجه البخاري (378)، ومسلم (411) من حديث أنس.
فلو ترك متابعتَه عمدًا، بطلَت.
ويعتبرُ كون القارئِ يصلُحُ إمامًا للمستَمِع، فلا يسجُدُ إنْ لم يسجُد،
لكنه داخلٌ في مفهومِ اعتبارِ صلاحيةِ إمامِه التالي بالمستمعِ
(فلو تركَ) المأمومُ (متابعتَه) أي: متابعةَ الإمامِ (عمدًا، بطلتْ) صلاتُه.
(ويعتبرُ كونُ القارئِ يصلحُ إمامًا للمستمعِ) فلا يسجدُ رجلٌ مستمعٌ وامرأةٌ وخنثى لتلاوةِ امرأةٍ، أو تلاوةِ خنثى؛ لعدمِ صحةِ ائتمامِه بهما. ويسجدُ مستمعٌ من رجلٍ وامرأةٍ وخنثى، لتلاوةِ رجلٍ أميٍّ، ولتلاوةِ زَمِنٍ؛ لأنَّ قراءةَ الفاتحةِ والقيامَ، ليسا ركنًا في السجودِ. ويسجدُ لتلاوةِ صبيِّ؛ لصحةِ إمامتِه في النَّفلِ.
"تنبيهٌ": قال في "الإنصاف"
(1)
: قال في "مجمع البحرين": لمْ أرَ مَنْ تعرضَ لرفعِه قبلَ القارئِ، فيحتملُ المنع" كالصَّلاةِ، ويحتملُ الجواز؛ لأنَّه سجدةٌ واحدةٌ، فلا يُفْضي إلى كبيرِ مخالفةٍ. وقالوا: لا يسجدُ قبلَه، لعمومِ الأدلةِ، ولأنَّه لا يدري: هلْ يسجدُ أمَ لا؟ بخلافِ رفعِه قبله
(2)
. قلتُ: الثاني هو الصَّوابُ.
"فائدةٌ": الرَّاكبُ يومئُ بالسجودِ، قولًا واحدًا. وأمَّا الماشي، فالصحيحُ من المذهبِ أنَّه يسجدُ بالأرضِ. وقيل: يومئُ أيضًا. وأطلقَهما في "الحاوي"
(3)
.
(فلا يسجدُ) مستمعٌ (إنْ لم يسجدْ) تالٍ؛ لحديثِ عطاءٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أتى إلى نفرٍ من أصحابِه، فقرأ رجلٌ منهم سجدةً، ثمَّ نظرَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّك كنتَ إمامَنا، ولو سجدَّتَ لسجدنا". رواه الشافعيُّ في
(1)
"الإنصاف"(4/ 214).
(2)
سقطت: "قبله" من الأصل.
(3)
انظر "الإنصاف"(4/ 234).
ولا قُدَّامَه، ولا عن يسارِه مع خُلُوِّ يمينه، ولا يسجُدُ رجُلٌ لتلاوةِ امرأةٍ وخنثى، ويسجُدُ لتلاوةِ أمِّيِّ، وزَمِنٍ، ومُمَيِّزٍ.
ويُسنُّ سجودُ الشّكرِ عندَ تجدُّدِ النِّعمِ، واندِفَاعِ النِّقَم.
"مسنده" وغيرُه
(1)
.
وهو من المفرداتِ. قال في "نظم المفردات":
مستمعٌ سجودُه لا يشرعُ
…
إنْ يكنِ التالي به يمتنعُ
(ولا) يسجدُ مستمعٌ (قدَّامَه) أي: التالي. (ولا) يسجدُ مستمعٌ (عن يسارِه) أي التالي
(2)
(مع خلوِّ يمينِه) أي: التالي عن ساجدٍ معه، لعدمِ صحَّةِ الائتمامِ به إذنْ. فإنْ سجدَ عن يمينِه معه، جازَ. وكذا عن يسارِه مع مَنْ عن يمينِه.
(ولا يسجدُ) رجل مستمعٌ (لتلاوةِ امرأةٍ، و) تلاوةِ (خنثى) لعدمِ صحةِ ائتمامِه بهما.
(ويسجد) مستمعٌ من رجلٍ وامرأةٍ وخنثى (لتلاوةِ) رجلٍ (أُميٍّ) ولتلاوة (زَمِنٍ) لأنَّ قراءةَ الفاتحةِ والقيامَ، ليسا ركنًا في السجودِ (و) تلاوةِ (مميِّزٍ) لصحةِ إمامتِه في النفلِ
(ويُسنُّ سجودُ الشكرِ عند تجددِ النِّعمِ) مطلقًا. احترزَ بالتجدُّدِ: عن الاستمرارِ، كاستمرارِ العافيةِ والإسلامِ، فلا يُسنُّ السُّجودُ لذلك
(و) عندَ (اندفاعِ النِّقمِ) مطلقًا، أي: عامَّةً أو خاصةً به، كتجدُّدِ ولدٍ، ونُصرةٍ
(1)
أخرجه الشافعي في "مسنده" ص (156)، وابن أبي شيبة (1/ 379). وضعفه الألباني في "الإرواء"(473).
(2)
في الأصل: "الثاني".
وإن سَجَدَ له -عالمًا ذاكرًا- في صلاةٍ، بطلت.
وصفتُه وأحكامُه كسجودِ التِّلاوة.
على عدوٍّ؛ لحديثِ أبي بكرةَ: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمرٌ يُسَرُّ به، خرَّ ساجدًا. رواه أبو داودَ، وابنُ ماجه، والترمذيُّ، والحاكمُ
(1)
وصحَّحه.
فإنْ قيل: هل يُشترطُ قصرُ الفصلِ بين تجددِ النعمِ واندفاعِ النقمِ؟ قلتُ: ظاهرُ كلامِ المتنِ: يُشترطُ قصرُ الفصلِ
ولا يسجدُ له في الصَّلاةِ. قال في "الإنصاف"
(2)
: هذا المذهبُ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وقطعَ به كثيرٌ منهم. واستحبَّه ابنُ الزاغونيِّ فيها، واختارَهُ بعضُ الأصحابِ، وهو احتمالٌ في "انتصار أبي الخطاب"، كسجودِ التلاوةِ. وفرَّقَ القاضي وغيرُه بينهما بأنَّ سببَ سجودِ التلاوةِ عارضٌ من أفعالِ الصَّلاةِ.
فعلى المذهبِ: لو سجدَ جاهلًا، أو ناسيًا، لم تبطلِ الصَّلاةُ، وإنْ كانَ عامدًا، بطلتْ على الصحيحِ من المذهبِ، ولهذا قال المصنِّفُ:(وإنْ سجدَ له) أي: الشكرِ. (عالمًا) عامدًا (ذاكرًا
(3)
، بطلتْ) صلاتُه؛ لأنَّ سببَه لا يتعلَّقُ بالصَّلاةِ، بخلافِ سجودِ التلاوةِ
(وصفتُه) أي: سجودِ الشكرِ (وأحكامُه، كسجودِ التلاوةِ) فيكبرُ إذا سجدَ، وإذا رفعَ، ويقولُ فيه: سبحانَ ربِّي الأعلى. ويجلسُ إذا رفعَ، ويسلِّمُ.
(1)
أخرجه أبو داودَ (2776)، وابن ماجه (1394)، والترمذيُّ (1578)، والحاكمُ في "المستدرك"(1/ 411)، وصححه الألباني.
(2)
"الإنصاف"(4/ 235).
(3)
سقطت: "ذاكرا" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُستحبُّ سجودُ الشكرِ أيضًا عند رؤيةِ مبتلًى في بدنِه، أو دينه.
تنبيهٌ: السَّجداتُ أربعَ عشْرة سجدةً: في آخِرِ الأعرافِ. وفي الرعدِ عند: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعرَاف: 205]. وفي النحلِ عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النّحل:50] ". وفي الإسراءِ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسرَاء: 109]، وفي مريم:{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريَم: 58]. وفي الحجِّ ثنتانِ؛ الأولى عند: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحَجّ: 18]، والثانية:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعرَاف: 69]. وفي الفرقانِ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]. وفي النمل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التّوبَة: 129]. وفي الم السَّجدة: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأعرَاف: 206]، وفي فصلت:{وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فُصّلَت: 38] وفي آخرِ النجمِ. وفي الانشقاقِ: {لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]. وآخرِ {اقْرَأْ} [الإسرَاء: 14]. انتهى.
* * *
فَصْلٌ في أوقاتِ النَّهي
وهيَ: من طُلُوعِ الفَجرِ إلى ارتفاعِ الشَّمس قِيدَ رُمحٍ، ومِنْ صلاةٍ العَصرِ إلى غُروب الشَّمس، وعندَ قيامِهَا حتَّى تزولَ.
(فصلٌ في أوقاتِ النهي) عن الصَّلاةِ
(وهي) خمسةٌ:
أحدُها: (من طلوعِ الفجرِ)، إلى طلوعِ الشمسِ.
والثاني: من طلوعِ الشمسِ (إلى ارتفاعِ الشمسِ قِيدَ) أي: قدرَ (رمحٍ) في رأي العينِ.
(و) الثالثُ من أوقاتِ النهي: (من صلاةٍ العصرِ) تامَّةً (إلى) الأخذِ في (غروبِ الشمسِ) فمَنْ لم يُصلِّ العصرَ، أُبيحَ له التنفُّلُ، وإنْ صلَّى غيرُه. وكذا لو أحرمَ بها، ثمَّ قطعَها، أو قلبَها نفْلًا. ومَنْ صلَّاها فليسَ له التنفُّلُ، وإنْ صلَّى وحدَه؛ لحديثِ أبي سعيدٍ وغيرِه:"لا صلاةَ بعد صلاةٍ العصرِ، حتى تغرُبَ الشمسُ"
(1)
.
والرابعُ من أوقاتِ النهي: عند غروبها حتى يتمَّ الغروبُ.
(و) الخامسُ من أوقاتِ النهي: (عندَ قيامِها) أي: الشمسِ (حتى تزولَ) الشمس عن خطِّ الاستواءِ؛ لحديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ: "ثلاثُ ساعاتٍ كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم ينهانا أنْ نصلِّيَ فيهنَّ، أو أنْ نقبرَ فيهنَّ موتانا: حينَ تطلُعُ الشمسُ بازغةً، حتى ترتفعَ، وحينَ يقومُ قائمُ الظهيرةِ، حتى تميلَ الشمسُ، وحين تَضيَّفُ للغروبِ حتى
(1)
أخرجه البخاري (1864)، ومسلم (827)، واللفظ له.
فتحرم صلاة التطوُّع في هذِه الأوقاتِ، ولا تنعقدُ، ولو جَاهِلًا للوقتِ والتَّحريم، سِوَى سُنَّةِ الفَجرِ قبلَهَا، وركعتي الطَّواف، وسُنَّةِ الظُّهرِ إذا جَمَعَ،
تغربَ". رواه مسلمٌ
(1)
.
(فتحرمُ صلاةُ التطوعِ في هذه الأوقاتِ) الخمسةِ (ولا تنعقدُ) صلاةُ التطوعِ (ولو) كانَ المصلِّي (جاهلًا للوقتِ والتحريمِ) لأنَّ النهيَ في العباداتِ يقتضي الفسادَ. وظاهرُه: أنَّه لا يبطلُ تطوعٌ ابتدأه قبلَه بدخولِه، لكنْ يأثَمُ بإتمامِه
(سوى سُنَّةِ الفجرِ قبلَها) أي: صلاةٍ الفجرِ، فلا يجوزُ بعدَها حتى ترتفعَ الضمسُ قيْدَ رُمحٍ. واختارَ صاحبُ "المغني" والشارح: جوازَ قضاءِ سنةِ الفجرِ بعدَ صلاةٍ الفجرِ.
(و) سوى (ركعتي الطوافِ) في الأوقاتِ الخمسةِ؛ لحديثِ جُبير بنِ مطعمِ مرفوعًا: "يا بني عبدِ منافٍ، لا تمنعوا أحدًا طافَ بهذا البيتِ، وصلَّى فيه، في أيّ ساعةٍ شاءَ من ليل، أو نهارٍ". رواه الأثرمُ، والترمذيُّ
(2)
وصحَّحه. ولأنَّهما تبعٌ له، وهو جائزٌ كلَّ وقتٍ
(و) سِوى (سُنةِ الظهرِ إذا جمَعَ) جمعَ تأخيرٍ؛ لحديثِ أمِّ سلمةً قالتْ: دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ بعدَ العصرِ، فصلَّى ركعتين، فقلتُ: يا رسولَ اللَّه، صليتَ صلاةً لم أكُن أراكَ تصلِّيها؟ فقال:"إنِّي كنتُ أصلِّي ركعتين بعدَ الظهرِ، وإنَّه قدِمَ وفدُ بني تميمٍ، فشغلوني عنهما، فهما هاتانِ الركعتانِ". متفقٌ عليه
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (831).
(2)
أخرجه الترمذي (868)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834).
وإعادةِ جَمَاعةٍ أُقيمت وهو بالمسجد.
ويجوزُ فيها قضاءُ الفرائِض، وفِعلُ المنذورَةِ، ولو نذَرَها فيهَا.
قال شارح "المقنع"
(1)
: والصحيحُ أنَّ السننَ الراتبةَ تُقضى بعد العصرِ
(و) سِوى (إعادةِ جماعةٍ أُقيمتْ وهو بالمسجدِ) لحديثِ أبي ذرٍ مرفوعًا: "صلِّ الصَّلاةَ لوقتِها، فإنْ أُقيمتْ وأنتَ في المسجدِ فصلِّ، ولا تقلْ: إنِّي صليتُ، فلا أصلِّي" رواه أحمدُ ومسلمٌ
(2)
. والمرادُ بإعادتِها: أنْ يعيدَ الصَّلاةَ مع الجماعةِ، سواءٌ كان صلَّاها وحدَه، أو في جماعةٍ. واحترزَ بقولِهِ:"أقيمتْ وهو بالمسجدِ" عمَّا إذا دخلَ وهمْ يصلُّون، فإنَّها لا تجوزُ في وقتِ النهي؛ لأنَّا إنَّما جوَّزْناها لمَنْ في المسجدِ؛ لخوفِ التُّهمةِ في حقِّه وحقِّ الإمامِ، وذلك مفقودٌ فيمَنْ كان خارجَه. انتهى.
(ويجوزُ فيها) أي: في أوقاتِ النهي (قضاءُ الفرائضِ) الفائتةِ، وفاقًا لمالكٍ والشافعيِّ؛ لعمومِ حديثِ:"مَنْ نامَ عن صلاةٍ، أو نسيَها، فلْيصلِّها إذا ذكَرَها". متفقٌ عليه
(3)
.
(و) يجوزُ (فعلُ المنذورَةِ) بأن نذَرَ أن يصلِّي، وأطلق (ولو) كان (نذرَها) أي: الصَّلاةَ (فيها) مقيِّدًا بوقتٍ من أوقات النهي، بأنْ يقولَ: للَّه عليَّ أنْ أصلِّيَ ركعتين عند طلوعِ الشمسِ، أو عندَ قيامِها، أو عندَ غروبها، ونحوِ ذلك؛ لأنَّها صلاةٌ واجبةٌ، فأشبهتِ الفرائضَ
(1)
"الشرح الكبير"(4/ 261).
(2)
أخرجه أحمدُ (35/ 379)(21478)، ومسلمٌ (648).
(3)
أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس.
والاعتبار في التَّحريمِ بعدَ العصرِ بفرَاغ صلاةٍ نفسِهِ، لا بشروعِه فيها، فلو أحرَم بها ثمَّ قلبَها نفلًا، لم يُمنَع من التطوُّع.
وتُباحُ قراءةُ القرآن في الطَّريق، ومَعَ حَدَثٍ أصغَرَ، ونجاسَةِ ثوبٍ، وبَدَنٍ، وفَمٍ.
(والاعتبارُ في التحريمِ بعد العصرِ بفراغِ صلاةٍ نفسِه) فمَنْ لم يصلِّ العصر، أُبيحَ له التنفُّلُ، وإنْ صلَّى غيرُه، ومَنْ صلَّاها فليس له التنفُّلُ، وإنْ صلَّى وحدَه؛ لحديث أبي سعيدٍ وغيرِه:"لا صلاةَ بعد صلاةٍ العصرِ حتى تغربَ الشمسُ". فالاعتبارُ بفراغِها (لا بشروعِه فيها) أي: في صلاةٍ العصرِ (فلو أحرمَ بها، ثمَّ قلبَها نفلًا، لم يُمنعْ من التطوُّعِ) لكونِه لَمْ يصلِّ العصرَ، فلا يدخلُ وقتُ النهي حتى يصلِّيَها، فمَنْ لَم يصلِّ العصرَ حتى اصفرَّتِ الشمس، فاصفرارُها هو أوَّلُ وقتِ النهي في حقِّه
(وتُباحُ قراءةُ القرآنِ في الطريقِ) لما رُوي عن إبراهيمَ التيميِّ قال: كنتُ أقرأُ على أبي موسى، وهو يمشي في الطريقِ. وتُباحَ أيضًا قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، وراكبًا، وماشيًا. وهلْ تباحُ قراءتُه في الطريقِ سرًّا أو جهرًا؟ ظاهرُه: ولو جهرًا.
وكرِهَها ابنُ عقيلٍ بأسواقٍ يُنادى فيها ببيعٍ. وحرُمَ رفعُ صوتٍ بها معَ اشتغالِهم بتجارةِ وعدمِ استماعِهم له، لما فيه من الامتهانِ. وكُرِه رفعُ صوتٍ بقراءةٍ تغلِّطُ
(1)
المصلِّينَ. قال المصنِّفُ في "الغاية"
(2)
: ويتجه: التحريمُ للإيذاءِ.
(و) تباحُ (مع حدثٍ أصغرَ، و) معَ (نجاسةِ ثوبٍ، و) نجاسةِ (بدَنٍ، و) نجاسةِ (فمٍ) لأنَّه لا دليلَ على المنعِ
(1)
في الأصل: "تلفظ".
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 207).
وحفظُ القرآنِ فرضُ كفايةٍ. ويتعيَّنُ حِفظُ ما يجِبُ في الصَّلاة.
(وحفظُ القرآنِ فرضُ كفايةٍ) إجماعًا (ويتعيَّنُ حفظُ ما يجبُ في الصَّلاة) وهو الفاتحةُ فقط، على المذهبِ، ثمَّ يتعلمُ من العلمِ ما يحتاجُ إليه في أمورِ دينه، وجوبًا.
قال في "الفروع"
(1)
: يتوجَّه: أنْ يقدِّمَ بعد القراءةِ الواجبةِ العلمَ. كما يقدِّمُ الكبيرُ نفلَ العلمِ على نفلِ القراءةِ.
* * *
(1)
"الفروع"(2/ 380).
بابُ صلاةِ الجماعَةِ
تجمبُ على الرِّجَالِ الأحرارِ القادِرين، حضرًا وسفرًا.
وأقلُّها: إمامٌ ومأمومٌ ولو أنثى. ولا تنعقِدُ بالمميِّز في الفرضِ.
وتُسنُّ الجماعةُ بالمَسجِدِ،
(بابُ صلاةٍ الجماعةِ)
وأحكامها وما يبيحُ تركَها، وما يتعلَّقُ بذلك
(تجبُ) الصَّلاةُ
(1)
وجوبَ عينٍ (على الرِّجالِ) لا النِّساءِ والخَنَاثى (الأحرارِ) دون العبيدِ والمُبَعَّضين (القادرينَ) عليها، دون ذوي الأعذارِ (حضرًا وسفرًا) متعلِّقٌ بـ:"تجب".
(وأقلُّها) أي: الجماعةِ (إمام ومأموم) أي: اثنان. فتنعقدُ الجماعةُ بهما؛ لحديثِ أبي موسى مرفوعًا: "الاثنانِ فما فوقَهما جماعةٌ". رواه ابنُ ماجه
(2)
(ولو أُنثى) والإمامُ رجلٌ، أو أُنثى
(ولا تنعقِدُ) الجماعةُ (بالمميِّزِ في الفرضِ) وعُلِمَ منه: أنَّه يصحُّ أنْ يؤمَّ صغيرًا في نفلٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّ ابنَ عباسٍ، وهو صبيٌّ، في التهجُّدِ
(3)
. وعنه: يصحُّ أيضًا في الفرضِ، كما لو أمَّ رجلًا متنفِّلًا. قالَهُ في "الكافي"
(4)
.
(وتُسنُّ الجماعةُ بالمسجدِ) للأخبارِ، ولإظهارِ الشِّعارِ، وكثرةِ الجماعةِ. وله
(1)
أي: صلاة الجماعة.
(2)
أخرجه ابن ماجه (972)، وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763) من حديث ابن عباس.
(4)
"الكافي"(1/ 396).
وللنساءِ منفرِدَاتٍ عن الرِّجال.
فعلُها في بيتِه، وفي صحراءَ، لقولِه عليه السلام:"جعلتْ ليَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجلٍ أدركتْهُ الصَّلاةُ، فليصلِّ حيثُ أدركتْه". متفقٌ عليه
(1)
. وفعلُها في المسجدِ أفضلُ؛ لأنَّه السنَّةُ. وحديثُ: "لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلَّا في المسجدِ"
(2)
. يحتملُ: لا صلاةَ كاملةً؛ جمعًا بين الأخبارِ.
قال بعضُهم: وإقامتُها في الرُّبطِ، والمدارسِ، ونحوِها، قريبٌ من إقامتِها في المساجدِ. نعم إنْ كان ذهابُه إلى المسجدِ يؤدِّي إلى انفرادِ أهلِه، فالمتَّجهُ: إقامتُها في بيتِه؛ تحصيلًا للواجبِ.
ولو دارَ الأمرُ بين فعلِها في المسجدِ فذًّا، وبين فعلِها في بيتِه جماعةً، تعيَّنَ فعلُها في بيتِه؛ تحصيلًا للواجب.
ولو دارَ الأمرُ بين فعلِها في المسجدِ في جماعةٍ يسيرةٍ، وفعلِها في بيتِه في جماعهٍ كثيرةٍ، كان فعلُها في المسجدِ أوْلى
(3)
(و) تُسنُّ الجماعةُ (للنِّساءِ منفرداتٍ عن الرِّجالِ) سواءٌ أمَّهنَّ رجلٌ أم امرأةٌ؛ لفعلِ عائشةَ
(4)
، وأمِّ سلمةَ
(5)
. ذكرَهُ الدارقطنيُّ. وأمرُه عليه السلام
(6)
أمَّ ورقةَ، بأنْ تجعلَ لها مؤذِّنًا يُؤذِّنُ لها، وأمرَها أنْ تؤمَّ أهلَ دارِها. رواه أبو داودَ، والدارقطنيُّ
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر.
(2)
أخرجه الدارقطني (1/ 420) من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني في "الإرواء"(491).
(3)
انظر "كشاف القناع"(3/ 146).
(4)
أخرجه الدارقطني (1/ 404).
(5)
أخرجه الدارقطني (40511).
(6)
سقطت: "السلام" من الأصل.
(7)
أخرجه أبو داودَ (592)، والدارقطنى (1/ 403)، وحسنه الألباني.
وحرُمَ أن يُؤمَّ بمسجِدٍ له إمامٌ راتبٌ، فلا تصِحُّ إلا مع إذنِه إن كَرِهَ ذلِك، ما لم يضِقِ الوقتُ.
ولأنَّهنَّ من أهلِ الفرضِ، أشبهنَ الرِّجالَ.
(وحرُمَ أنْ يُؤمَّ بمسجدٍ له إمامٌ راتب) بغيرِ إذنِه، قبلَه؛ لأنَّه بمنزلةِ صاحبِ البيتِ، وهو أحقُّ بالإمامةِ ممَّنْ سواهُ؛ لحديثِ:"لا يُؤَمَّنَ الرَّجلُ في بيتِه إلَّا بإذنِه"
(1)
.
قال المصنِّفُ في "الغاية"
(2)
: ويتَّجه: وصاحبُ بيتٍ أهلٌ
(3)
لها، كراتِبٍ.
ولا يحرُمُ أنْ يؤمَّ بعد الراتبِ. قال في "الإقناع"
(4)
: ويتوجَّه: إلَّا لمَنْ يُعادي الإمامَ. لقصدِه الإيذاءَ إذنْ، فيُشبِهُ ما لو تقدَّمَه.
(فلا تصحُّ) إمامةُ غيرِ الراتبِ قبلَه في ظاهرِ كلامِهم، للنَّهي، وقدَّمَ في "الرعاية": تصحُّ مع الكراهةِ. ومقتضى كلامِ ابنِ عبدِ القويِّ: الصَّحةُ.
(إلا معَ إذنِه) أي: الرِّاتبِ. فيباحُ للمأذونِ أنْ يؤمَّ. وتصحُّ إمامتُه (إنْ كَرِه ذلك) أي: كَرِه صلاةَ غيرِه (ما لمْ يَضقِ
(5)
الوقتُ) لأنَّ أبا بكرٍ رضي اللَّه تعالى عنه، صلَّى حين
(6)
غابَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم.
(7)
. وفعلَه عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
(1)
أخرجه مسلم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(2)
غاية المنتهى" (1/ 212).
(3)
في الأصل: "البيت أهلًا".
(4)
"الإقناع"(1/ 246)، وانظر "كشاف القناع"(3/ 152).
(5)
في الأصل: "يضيق".
(6)
سقطت: "حين" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهى"(1/ 538).
(7)
أخرجه البخاري (684)، ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد.
ومن كبَّر قبل تسليمةِ الإمامِ الأُولى أدركَ الجماعَة. ومن أدرك الركوعَ - غيرَ شاكٍّ- أدركَ الركعةَ، واطمأنَّ، ثم تابَع.
"أحسنْتُم". رواه مسلمٌ
(1)
. ولتَعَيُّنِ تحصيلِ الصَّلاةِ إذنْ. وسواءٌ علِمَ عذرَه أو لا
(ومَنْ كبَّرَ قبل تسليمةِ الإمامِ الأولى، أدركَ الجماعةَ) فيبني، ولا يُجدِّدُ إحرامًا؛ لأنَّه أدركَ جزءًا من الصَّلاةِ مع الإمامِ، فأشبَه ما لو أدركَ ركعةً، فيحصلُ له فضلُ الجماعةِ. وإنْ كبَّرَ بين التسليمتين، لم تنعقد
(2)
.
(ومَنْ أدركَ الركوعَ) مع الإمامِ؛ بأنِ اجتمعَ معه فيه، بحيثُ ينتهي إلى قدرِ الإجزاءِ من الركوعِ قبلَ أنْ يزولَ إمامُه عن قدرِ الإجزاءِ منه (غيرَ شَاكٍّ) في إدراكِ الإمامِ راكعًا قبلَ رفعِ رأسِه من الركوعِ، فقدْ (أدركَ الركعةَ) لحديث:"مَنْ أدركَ الركوعَ، فقدْ أدركَ الركعةَ". رواه أبو داود
(3)
. ولأنه لم يفُتْه من الأركانِ غيرُ القيامِ، وهو يأتي به مع التكبير، ثمَّ يدركُ مع الإمامِ بقيةَ الركعةِ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لو شكَّ: هلْ أدرَكَه راكعًا، أو لا. لم يعتدَّ بها، ويسجدُ للسهوِ.
وإنْ كبَّرَ والإمام في الركوعِ، ثمَّ لمْ يركعْ حتى رفعَ إمامُه، لم يدركْه، ولو أدركَ ركوعَ المأمومين. وإنْ أتمَّ التكبيرةَ في انحنائِه، انقلبتْ نفْلًا.
(واطمأنَّ، ثمَّ تابعَ) إمامَه، وأجزأتْه تكبيرةُ الإحرامِ عن تكبيرةِ الركوعِ، نصًّا. وإنْ نوى بتكبيرتِه الانتقالَ مع الإحرامِ، أو وحدَه، لم تنعقدْ. والأفضل أنْ يأتيَ بتكبيرتين.
(1)
أخرجه مسلم (274) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2)
في الأصل: "تنفعْه".
(3)
أخرجه أبو داود (893) من حديث أبي هريرة. وحسنه الألباني.
وسُنَّ دخولُ المأمومِ مع إمامِه كيفَ أدركَه.
وإن قامَ المسبوقُ قبلَ تسليمَةِ إمامِه الثانيةِ، ولم يرجع، انقلَبت نفلًا.
وإذا أُقيمَتِ الصلاةُ التي يريدُ أن يُصُلِّىَ معَ إمامِهَا، لم تنعقدِ نافلته،
(وسُنَّ دخولُ المأمومِ مع إمامِه كيفَ أدرَكه) وإنْ لم يعتدَّ له بما أدركَه فيه؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إذا جئْتُم إلى الصَّلاةِ ونحن سجودٌ، فاسجدوا، ولا تعدُّوها شيئًا"
(1)
.
(وإنْ قامَ المسبوقُ قبلَ تسليمةِ إمامِه الثانيةِ، ولمْ يرجعْ) ليقومَ بعد سلامِها (انقلبتْ) صلاتُه (نفْلًا) لتركِه العودَ الواجبَ لمتابعةِ إمامِه بلا عذرٍ، فيخرجُ من الائتمامِ، ويبطلُ فرضُه.
(وإذا أقيمتْ) أي: شرعَ المؤذِّنُ في إقامةِ (الصَّلاةِ التي يريدُ أنْ يصلِّيَ مع إمامِها) وإلا لم يمتنْع عليه، كما لو أقيمتْ بمسجدٍ لا يريدُ الصَّلاةَ فيه. قاله في "الفروع" توجيهًا.
قال في "الإقناع"
(2)
: في المسجدِ وغيرِه، ولو ببيتِه.
(لمْ تنعقدْ ناقلتُه) راتبةً، وغيرَها ممَّنْ لم يصلِّ تلك الصَّلاةَ، لحديثِ:"إذا أقيمتِ الصَّلاةُ، فلا صلاةَ إلا المكتوبةَ". متفقٌ عليه
(3)
. وكان عمرُ يضربُ على صلاةٍ بعدَ الإقامةِ
(4)
. وإنْ جهِلَ الإقامةَ، فكجهلِ وقتِ نهيٍّ.
وأباحَ قومٌ ركعتي الفجر والإمامُ يصلِّي، منهم ابنُ مسعودٍ.
(1)
أخرجه أبو داود (893) من حديث أبي هريرة. وحسنه الألباني.
(2)
"الإقناع"(1/ 248).
(3)
أخرجه مسلم (710) من حديث أبي هريرة. ولم أجده عند البخاري.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (2/ 436).
وإن أُقيمَت وهو فيها أتمَّها خفيفَةً.
ومن صلَّى ثم أقيمَتِ الجَمَاعَةُ، سُنَّ أن يعيدَ، والأُولَى فرضُهُ.
ويتحمَّلُ الامامُ عنِ المأمومِ: القراءةَ،
(وإنْ أقيمتِ) الصَّلاةُ (وهو فيها) أي: النافلةِ (أتمَّها) أي: النافلةَ (خفيفةً) ولو كان خارجَ المسجدِ -ولا يزيدُ على ركعتين- إنْ أمِنَ فواتَ الجماعةِ، ولو فاتَتْه ركعةٌ. ذكَرَهُ في "الفروع"
(1)
وغيرِه، وإلا قطعَها؛ لأنَّ الفرضَ أهمُّ. وفي "الإقناع"
(2)
: إلا أنْ يخشى فواتَ ما يُدرِكُ به الجماعةَ. يعني: تكبيرةَ الإحرامِ
(ومَنْ صلَّى) الفرضَ منفردًا، أو في جماعةٍ (ثمَّ أقيمتِ الجماعةُ، سُنَّ) له (أنْ يُعيدَ) مع الجماعةِ ثانيًا، مع إمامِ الحيِّ أو غيرِه، لحديثِ أبي ذرٍ مرفوعًا:"صلِّ الصَّلاةَ لوقتِها، فإنْ أقيمتْ وأنتَ في المسجدِ، فصلِّ، ولا تقلْ: إنِّي صلَّيْتُ فلا أُصلِّي" رواه أحمدُ ومسلمٌ
(3)
. (والأُولى) من الصَّلاتين (فَرضُه) دون المعادةِ، فهي نفْلٌ، فينويها معادةً، أو نفْلًا. وإذا أدركَ من رُباعيةٍ معادةٍ ركعتين، لم يُسلِّم، بلْ يقضي نصًّا. وقال الآمديُّ: يُسلِّمُ معه.
(ويتحمَّلُ الإمامُ عن المأمومِ: القراءةَ) أي: قراءةَ الفاتحةِ، فتصحُّ صلاةُ مأمومٍ بدون قراءةٍ؛ لحديثِ:"مَنْ كان له إمامٌ، فقراءةُ الإمامِ له قراءةٌ". رواه سعيدٌ، وأحمدُ في "مسائل" ابنِه عبدِ اللهِ، والدارقطنيِّ
(4)
.
(1)
انظر "الفروع"(2/ 23).
(2)
"الإقناع"(1/ 248).
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
(4)
لم أجده في المطبوع من سنن سعيد بن منصور، ولا في مسائل عبد اللَّه، وأخرجه الدارقطنى (1/ 323) من حديث جابر. وحسنه الألباني في "الإرواء"(500).
وسُجُودَ السَّهوِ، وسجودَ التِّلاوة، والسترَةَ، ودعاءَ القُنوتِ، والتشهُّدَ الأوَّلَ، إذا سُبِقَ بركعَةٍ في رُباعيَّةٍ.
وسُنَّ للمأموم: أن يستفتحَ، ويتعوَّذَ في الجهريَّةِ، ويقرأَ الفاتِحةَ، وسورةً حيثُ شُرِعَت فيَ سكتاتِ إمامِه، وهي: قبلَ الفاتحَةِ، وبعدَهَا،
(و) يتحمَّلُ (سجودَ السَّهوِ، و) يتحمَّلُ (سجودَ التِّلاوةِ) إذا قرأَ في صلاته آيةَ سجدةٍ ولم يسجدْ إمامُه.
(و) يتحمَّلُ عنه أيضًا (السُّترةَ) قُدَّامَه؛ لما تقدَّمَ: سترةُ الإمامِ، سترةٌ لمَنْ خلْفَه.
(و) يتحمَّلُ عنه أيضًا (دُعاءَ القُنوتِ) حيث سمِعَه، فيؤمِّنُ فقط.
(و) يتحمَّلُ عنه أيضًا (التشهُّدَ الأوَّلَ، إذا سُبقَ بركعةٍ في رُباعيةٍ) لوجوبِ المتابعةِ.
فهذه ستةٌ. وزادَ في "الإقناع"
(1)
اثنَين، وهو: قولُه: "سمِعَ اللَّه لمن حمده". والثاني: "ملءَ السموات .. " إلى آخره. فهذه ثمانية يتحمَّلُها الإمامُ عن المأموم.
(وسُنَّ للمأمومِ أنْ يستفتح، و) أنْ (يتعوَّذَ في) صلاتِه (الجهريةِ) كالصبحِ؛ لأنَّ مقصودَ الاستفتاحِ والتعوُّذِ لا يحصلُ باستماعِ قراءةِ الإمامِ؛ لعدمِ جهرِه بهما، بخلافِ القراءةِ (ويقرأَ الفاتحةَ) أي: وسُنَّ له أنْ يقرأ الفاتحةَ (وسورةً حيثُ شُرعتِ) السُّورةُ (في سَكتاتِ إمامِه) في الصَّلاةِ الجهريةِ. (وهي) أي: سكتاتُ الإمامِ ثلاثٌ:
(قبلَ الفاتحةِ) في الركعةِ الأُولى فقط.
(و) الثانيةُ (بعدَهما) أي: بعدَ الفاتحةِ، وتُسنَّ أنْ تكونَ سكتةً هنا بقدرِ الفاتحةِ؛
(1)
"الإقناع"(1/ 250).
وبعدَ فراغِ القراءةِ.
ويَقرأ فيمَا لا يُجهرُ فيهِ متَى شاءَ.
ليقرأها المأمومُ فيها.
(و) الثالثةُ: (بعد فراغِ القراءةِ) ليتمكَّنَ المأمومُ من قراءةِ سورةٍ فيها.
(و) يُسنّ أنْ (يقرأَ) المأمومُ أيضًا الفاتحةَ وسورةً حيث شُرعتْ، وأنْ يستفتحَ، وأنْ يتعوَّذَ (فيما لا يجهرُ فيه) إمامُه، كالظهرِ. وكذا يقرأُ الفاتحةَ في الأخيرةِ من مغربٍ، وفي الأخيرتَين من العشاءِ، لحديثِ جابرٍ: كنَّا نقرأ في الظهرِ والعصرِ خلفَ الإمامِ في الركعتين الأُولَيَينِ بفاتحةِ الكتابِ وسورةٍ، وفي الأخرَيَين بفاتحةِ الكتابِ. رواه ابنُ ماجه
(1)
. قال الترمذيُّ: أكثرُ أهلِ العلمِ يرَوْنَ القراءةَ خلفَ الإمامِ
(متى شاءَ): قال في "شرح الهداية": وعلى كلِّ حالٍ، فمتى سكتَ الإمامُ السكوتَ المذكورَ أو غيرَه لغفلةٍ، أو نومٍ، أو تعبٍ، أو اشتغال
(2)
، أو غيرِه، فاغتنامُ القراءةِ للمأمومِ مستحبٌّ. انتهى
(3)
.
أما حال استماعِ القراءةِ، فيُكْره للمأمومِ الإتيانُ بالاستفتاحِ والتعوُّذِ والقراءةِ؛ لقولِهِ تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعرَاف: 204] قال الإمامُ أحمدُ: أجمعَ الناسُ على أن هذه الآيةَ في الصَّلاةِ. قال ابنُ مسعودٍ: لا أعلمُ في السنةِ القراءةَ خلفَ الإمامِ. وقال عليَّ: ليس على الفطرةِ مَنْ قرأَ خلفَ الإمامِ
(4)
. وقال ابنُ مسعودٍ: وددتُ مَنْ قرأَ خلفَ الإمامِ أنْ أملأَ فاهُ ترابًا.
(1)
أخرجه ابن ماجه (843)، وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "سُعالٍ".
(3)
انظر: "النكت والفوائد السنية"(1/ 120).
(4)
أخرجه الدارقطني (1/ 331).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"فائدتان": الأُولى: لا يضرُّ تفريقُ القراءةِ في السَّكتاتِ.
الثانية: لو ركعَ الإمامُ وبقي على المأمومِ شيءٌ من الفاتحةِ، فإنَّه يقطعُ القراءةَ، ويتبعُ الإمامَ.
ويُسنُّ لمأمومٍ أنْ يأتيَ بما تقدَّمَ حيث كان لا يسمعُه، لبعدٍ عنه، أو لطرشٍ، إن لم يشغلْ مأمومٌ بقراءتِه مَنْ بجنبهِ.
قال المصنِّفُ في "غاية المنتهى": ويتجه: التحريئم. فإنْ لمْ يكن للإمامِ سَكَتاتٌ كُره أنْ يَقرأَ، نصًّا. فلو سمِعَ همهَمتَه، ولمْ يَفهمْ قولَه، لم يَقرأْ
(1)
. قال في "الإنصاف"
(2)
: على الصحيحِ من المذهبِ. وقدَّمه في "الفروع" و"الرعاية". وعنه: يقرأُ. نقلَها عبدُ اللهِ، واختارَها الشيخُ تقيُّ الدينِ. قال في "الفروع": وهي أظهرُ. قال في "الإنصاف": قلتُ: وهي الصَّوابُ.
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 215).
(2)
"الإنصاف"(4/ 311).
فَصْلٌ
ومَنْ أحرَمَ معَ إمامِه، أو قَبلَ إتمامِه لتكبيرةِ الإحرامِ، لم تنعقِدْ صلاتُه.
والأَولَى للمأمُومِ أن يشرَعَ في أفعالِ الصلاةِ بعدَ إمامِه، فإن وافقَه فيها، أو في السلامِ، كُرِه، وإن سبَقه، حَرُمَ.
فَمَنْ ركعَ، أو سجَدَ، أو رَفَعَ قبلَ إمامِه عمدًا، لزمَه أن يرجِعَ ليأتِي به مع
(فصلٌ)
(ومَنْ أحرمَ) أي: كبَّرَ (معَ إمامِه) لم تنعقدْ صلاتُه (أو) كبَّرَ لإحرامٍ (قبلَ إتمامِه) أي: الإمامِ التكبيرةِ الإحرامِ، لم تنعقدْ صلاتُه) أي: المأمومِ، ولو ساهيًا، لأنَّ شرطَه أنْ يأتيَ بها بعد إمامِه، وقدْ فاتَه.
(والأَوْلى للمأمومِ أنْ يشرعَ في أفعالِ الصَّلاةِ بعد إمامِه) لحديثِ: "إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به، فإذا ركعَ فاركعوا .. " إلى آخرِه.
وفي "المغني" و"الشرح" وغيرِهما: يستحبُّ أنْ يشرعَ المأمومُ في أفعالِ الصَّلاةِ بعد فراغِ الإمامِ ممَّا كان فيه.
(فإنْ وافقَه فيها) أي: في أفعالِها، كُرِه (أو) وافقَه (في السَّلامِ، كُره) له. وإنْ سلَّم الأُولى عقبَ فراغِه منها، والثانيةَ كذلك، جازَ. والأَوْلى أنْ يسلِّم عقبَ فراغِه من التسليمتين.
(وإنْ سبَقَه، حرُمَ. فمَنْ ركعَ أو سجدَ أو رفعَ، قبل إمامِه عمدًا، لزِمه أنْ يرجعَ ليأتيَ به) أي: بما سَبقَ به إمامَه من ركوعٍ أو سجودٍ أو رفعٍ ونحوِه، معَه، أي: (مع
إمامِهِ، فإنْ أبَى عالمًا عمدًا، بطلت صلاتُه، لا صلاةُ ناسٍ وجاهِلٍ.
ويُسنُّ للإمامِ التخفيفُ مع الإتمام، ما لم يُؤثِرِ المأمومُ التطويلَ،
إمامِه) أي: عَقِبَه، ليكونَ مؤتمًا بإمامِه (فإنْ أبى) أي: امتنعَ من الرجوع (عالمًا) تحريمَ ذلك (عمدًا) غيرَ ساه (بطلتْ صلاتُه) قال في "الإقناع" نصًّا
(1)
. لأنَّه سبقَه بركنٍ كامل، هو معظمُ الركعةِ. و (لا) تبطلُ (صلاةُ ناسٍ وجاهلٍ) لحديثِ:"عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيانِ "
(2)
.
(ويُسنُّ للإمام التخفيفُ) للصَّلاةِ (مع الإتمامِ) للصَّلاةِ، لحديثِ أبي هريرة مرفوعًا:"إذا صلَّىَ أحدُكم للناسِ فليخفِّفْ، فإنَّ فيهم السقيمَ والضعيفَ وذا الحاجةِ. وإذا صلَّى لنفسِه فليطوِّلْ ما شاءَ". رواه الجماعةُ
(3)
. قال في "المبدع"
(4)
: ومعناه: أن يقتصرَ على أدنى الكمالِ من التسبيحِ، وسائرِ أجزاءِ الصَّلاةِ (مما لمْ يُؤْثِرْ المأمومُ التطويلَ) فإنْ اختارُوه كلُّهم، لم يُكرَه، لزوالِ علَّةِ الكراهةِ، وهي التنفيرُ. قال الحجاويُّ في "الحاشية"
(5)
: وهو مشروطٌ بما إذا كان الجمعُ قليلًا، فإنْ كان كتيرًا، لم يخلُ ممَّنْ له عذرٌ. هذا معنى كلامِ "الرعاية". قال
(1)
"الإقناع"(1/ 252).
(2)
أخرجه ابن حبان (7219)، والطبراني (11274)، والبيهقي 7/ 356 من حديث ابن عباس بلفظ:"إن اللّه تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرجه ابن ماجه (2045) بلفظ: "إن الله وضع
…
". وصححه الألباني في "الإرواء" (82).
(3)
أخرجه البخاري (703)، ومسلم (467)، وأبو داود (794)، والترمذي (236)، والنسائي (823) من حديث أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (984) من حديث أبي مسعود.
(4)
"المبدع"(2/ 56).
(5)
"حاشية التنقيح"(1/ 107).
وانتظارُ داخلٍ إنْ لم يَشقَّ على المأمُومِ.
في "الرعاية": إلا أن يُؤْثِرَ المأمومُ وعددُهم محصورٌ.
وتُكره سرعةُ إمامٍ تمنعُ مأمومًا فعلَ ما يُسنُّ له فعلُه، كقراءةِ السورةِ، وما زادَ على مرَّةٍ في تسبيحِ ركوعٍ وسجودٍ ونحوِه. وسُنَّ أنْ يرتِّلَ القراءةَ والتسبيحَ، والتشهُّدَ بقدرِ ما يَرَى أنَّ مَن يثقلُ عليه ممَّنْ خلَفه، قدْ أتى عليه، وأنْ يتمكَّنَ في ركوعِه وسجودِه قدرَ ما يرى أنَّ الكبيرَ، والثقيلَ، وغيرَهما، قدْ أتى عليه.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: يلزمُه مراعاةُ المأمومِ إن تضرَّرَ بالصَّلاةِ أوَّلَ الوقتِ أو آخرَه، ونحوَه. وقال: ليس له أنْ يزيدَ على القدرِ المشروع
(1)
، وإنَّه ينبغي أنْ يفعلَ غالبًا ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعلُه غالبًا، ويزيد وينقص للمصلحة، كما كان صلى الله عليه وسلم يزيدُ وينقصُ أحيانًا
(2)
(و) يُسنُّ لإمامٍ أيضًا (انتظارُ داخلٍ) معه، إذا أحسَّ به في قيامِه، أو ركوعِه، أو غيرِه، من داخلٍ مُطلقًا، بنيَّةِ تَقرُّبٍ لا تَودُّدٍ
(3)
(إنْ لمْ يشقَّ على المأمومِ) فيُكره. وكذا لو كثُرتْ جماعةٌ؛ لأنَّه يبعدُ أنْ لا يكونَ فيهم مَنْ يشقُّ عليه.
قولُه: "وانتظارُ داخلٍ" نكرَةٌ في سياقِ النفي؛ فتعمُّ أيَّ داخلٍ كان. وهو المذهبُ.
وقيل: يُشترطُ أنْ يكونَ ذا حُرمةٍ. قال الموفَّق والشارح: إنما يُنتظرُ مَنْ كان من أهلِ العلمِ والفضلِ ونحوِه. قال في "الإنصاف"
(4)
: قلتُ: وهذا القولُ ضعيفٌ على
(1)
في الأصل: "الواجبِ".
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 550).
(3)
انظر "غاية المنتهى"(1/ 216)، "مطالب أولي النهى"(1/ 640).،
(4)
"الإنصاف"(4/ 332).
ومن استأذنتهُ امرأتُهُ أو أمئهُ إلى المسجِد، كُرِه منعُها، وبيتُها خيرٌ لها.
إطلاقِه. وقال ابنُ عقيلٍ: لا بأسَ بانتظارِ مَنْ كان من أهلِ الدِّياناتِ والهيئاتِ في غيرِ مساجدِ الأسواقِ. وقيل: يُنتَظز مَنْ عادتُه يصلِّي جماعةً. قال في "الإنصاف": قلتُ: وهو قويٌّ.
ومحلُّ ذلك: إنْ لمْ يشقَّ انتظارُ الإمامِ على المأمومِ؛ لأنَّ حرمهً المأمومِ الذي معه في الصَّلاةِ أعظمُ حرمةً من المأمومِ الذي لمْ يدخلْ معه في الصَّلاةِ، فلا يشقُّ على مَنْ معه لنفعِ الداخلِ معه.
(ومَنْ استأذنَتْه امرأتُه) إلى المضيِّ إلى المسجدِ، (أو) استأذنَتْه (أمتُه) إلى المضيِّ (إلى المسجدِ) ليلًا أو نهارًا (كُرِه) له (منعُها) لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ"
(1)
، (وبيتُها خيرٌ لها) لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:"وبيوتُهنَّ خيرٌ لهنَّ، وليخرجْنَ تفلاتٍ" أي: غيرُ مزينةٍ ولا مطيبةٍ. رواه أحمدُ وأبو داودَ
(2)
. فتخرُجُ غيرَ مطيَّبةٍ، لهذا الخبرِ. وظاهرُه: حتى مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر.
(2)
أخرجه أحمد (9/ 337)، (15/ 405)(5468، 9645)، وأبو داود (565، 567) من حديث أبي هريرة، وابن عمر. وصححهما الألباني في "الإرواء"(515).
فَصْلٌ في الإمامة
الأَولى بها: الأجودُ قراءةً، الأفَقهُ -ويقدَّمُ قارئٌ لا يعلمُ فِقهَ صلاتِه على فقيهٍ أميٍّ- ثمَّ الأسنُّ، ثمَّ الأشرفُ،
(فصلٌ في الإمامةِ)
(الأَوْلى بها) أي: بالإمامةِ: (الأجودُ قراءةً، الأفقهُ) لجمعِه بين المزيَّتَين في القراءةِ والفقهِ.
(ويُقدَّمُ قارئٌ لا يعلمُ فقهَ صلاِته على فقيهٍ أميٍّ) لا يحسنُ الفاتحةَ؛ لأنَّها ركنٌ في الصَّلاةِ، بخلافِ معرفةِ أحكامِها
(ثمَّ) إن استويا في القراءةِ والفقهِ يُقدَّمُ (الأسنُّ) لقولِه عليه السلام لمالكِ بنِ الحويرثِ: "إذا حضرتِ الصَّلاةُ، فليؤذِّنْ لكئم أحدُكم، وليؤمَّكم أكبرُكم
(1)
". متفقٌ عليه
(2)
. ولأنَّه أقربُ إلى الخشوعِ وإجابةِ الدعاءِ.
(ثمَّ) إنِ استووْا فيما تقدَّمَ، فيقدَّمُ (الأشرفُ) وهو مَنْ كان قرشيًا؛ إلحاقًا للإمامةِ الصغرى بالكبرى؛ لقولِه عليه السلام:"الأئمةُ من قريشٍ"
(3)
. وقولِهِ: "قدِّموا قريشًا، ولا تَقَدَّمُوها"
(4)
. والشرفُ يكونُ بعلوِّ النسبِ
(1)
سقطت: "أكبرُكم" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (628)، ومسلم (674) من حديث مالك بن الحويرث.
(3)
أخرجه أحمد (19/ 318)(12307)، والنسائي في "الكبرى"(5942) من حديث أنس. وصححه الألباني في "الإرواء"(520).
(4)
أخرجه البزار (465) من حديث علي، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(9/ 64) من حديث أنس، وأخرجه الشافعي في "مسنده"(691) عن ابن شهاب مرسلًا. وصححه الألباني =
ثمَّ الأتقَى والأورعُ، ثم يُقرَعُ.
وصاحبُ البيتِ، وإمامُ المسجدِ، ولو عبدًا، أحقُّ
(ثم) مع الاستواء فيما تقدَّمَ، الأَوْلى بالإمامةِ:(الأتقى والأورعُ) لقولِهِ سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجرَات: 13] ولأنَّ مقصودَ الصَّلاةِ: الخضوعُ، ورجاءُ إجابةِ الدعاءِ. والأتقى والأورَعُ أقربُ إلى ذلك، لا سيَّمَا والدُّعاءُ للمأمومينَ من بابِ الشفاعةِ المستدعيَةِ كرامةَ الشافعِ عند المشفوعِ عنده. قال القشيريُّ في "رسالته": الورعُ: اجتنابُ الشبهاتِ. زادَ القاضي عياضٌ في "المشارق": خوفًا من اللهِ تعالى.
(ثمَّ) إن استووْا في كلِّ ما تقدَّمَ وتشاحُّوا (يُقرعُ) فمَنْ خرجتْ له القُرْعةُ كان هو أحقَّ بالإمامةِ؛ لأنَّ سعدًا أقرعَ بين النَّاسِ في الأذانِ يومَ القادسيةِ
(1)
. فالإمامةُ أَوْلى، ولأنَّهم تساووا في الاستحقاقِ وتعذَّرَ الجمعُ، فأُقرِعَ بينهم، كسائرِ الحقوقِ
(وصاحبُ البيتِ) الصَّالحُ للإمامةِ، ولو عبدًا، أحقُّ بالإمامةِ ممَّنْ حضرَه في بيتِه؛ لقولِه عليه السلام:"لا يُؤَمَّنَّ الرجلُ في بيته"
(2)
. ولأبي داودَ
(3)
عن مالكِ بنِ الحُويرثِ مرفوعًا: "مَنْ زارَ قومًا فلا يؤمَّهمْ وليؤمَّهمْ رجلٌ منهم".
(وإمامُ المسجدِ) الراتبُ، الصالحُ للإمامةِ (ولو) كان (عبدًا، أحقُّ) بالإمامةِ فيه، ولو حضرَ أفقَهُ، أو أقرأُ، كصاحِبِ البيتِ. ولأنَّ ابنَ عمرَ أتى أرضًا له، وعندَها
= في "الإرواء"(519).
(1)
ذكره البخاري تعليقًا قبل (615).
(2)
أخرجه مسلم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(3)
أخرجه أبو داود (596)، وصححه الألباني.
والحرُّ أولى مِن العبدِ.
والحاضرُ، والبصيِرُ، والمتوضِّئُ، أَولى من ضِدِّهِم.
وتكرهُ إمامةُ غيرِ الأَولى بلا إذنِه.
مسجدٌ يصلِّي فيه مولًى له، فصلَّى ابنُ عمرَ معهم، فسألُوه أنْ يؤمَّهم، فأبى، وقال: صاحبُ المسجدِ أحقُّ. رواه البيهقيُّ
(1)
بسندٍ جيدٍ. ولأنَّ التقدُّمَ عليه يُسيءُ الظنَّ به، ويُنفِّرُ عنه. قال في "الفروع": ويتجه: يُستحبُّ تقديمُهما لأفضلَ منهما
(2)
(والحرُّ أَوْلى) بالإمامةِ (من العبدِ) ومن المبعَّض؛ لأنَّه أكملُ في أحكامِه وأشرفُ، ويصلُح إمامًا في الجمعةِ والعيدِ.
(والحاضرُ) أي: مقيمٌ، أَوْلى من مسافرٍ سفرَ قصرٍ؛ لأنَّه ربما قصرَ، ففاتَ المأمومين بعضُ الصَّلاةِ جماعةً. ولا تُكرهُ إمامةُ مسافرٍ بمقيمين إنْ قَصَرَ، فإنْ أتمَّ، كُرِهتْ.
(والبصيرُ) أَوْلى من أعمى؛ لأنَّه أقدرُ على توقِّي النجاسةِ، واستقبالِ القبلةِ (والمتوضِّيُ، أولى من ضدِّهم) المتقدِّمِ بيانُه. يعني: المتوضِّئُ أَوْلى من متيمِّمٍ؛ لأنَّ الوضوءَ يرفعُ الحدثَ، بخلافِ التيممِ، فإنَّه مبيحٌ، لا رافعٌ.
ومُعيرٌ أَوْلى من مُستعيرٍ. ومُستأجرٌ أَوْلى من مُؤجِّرٍ؛ لأنَّه المالكُ للمنفعةِ.
(وتُكره إمامةُ غيرِ الأَوْلى بلا إذنِه) أي: إذنِ الأَوْلى. وإمامةُ المفضولِ بدون إذنِ الفاضلِ مكروهةٌ، على الصحيحِ من المذهبِ. نصَّ عليه.
(1)
أخرجه البيهقي (3/ 126).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 558).
ولا تصِحُّ إمامةُ الفاسِقِ،
(ولا تصحُّ إمامةُ الفاسقِ) مطلقًا. أي: في الفرضِ وفي النفلِ. وسواءٌ كان فسقُه بالاعتقادِ، أو الأفعالِ المُحرَّمةِ، لقولِه تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السَّجدَة: 18]. وحديثِ ابنِ ماجه
(1)
عن جابرٍ مرفوعًا: "لا تؤمَّنَّ امرأةٌ رجلًا، ولا أعرابيُّ مهاجرًا، ولا فاجرٌ مؤمنًا، إلا أنْ يقهرَه بسلطانٍ يخافُ سوطَه وسيفَه". وسواءٌ أعلنَ فسقَه، أو أخفاه. وتصحُّ خلف نائِبه العدلِ. ولا يؤمُّ فاسقٌ فاسقًا؛ لأنَّه يمكنه رفعُ ما عليه من النقصِ. ويعيدُ مَنْ صلَّى خلفَ فاسقٍ مطلقًا. ومَنْ صلَّى بأجرةٍ، لم يُصلَّ خلفَه. قالَه ابنُ تميمٍ. وإنْ أُعطيَ بلا شرط، فلا بأسَ، نصًّا
(2)
.
عَلِمَ فِسقَه ابتداءً، أو لا. فيعيدُ المأمومُ إذا علِمَ فسقَ إمامِه. واختارَ الشيخان: أنَّ البطلانَ مختصٌّ بظاهرِ الفسقِ، دون خَفِّيه. قال في "الوجيز": لا تصحُّ خلفَ الفاسقِ المشهورِ فسقُه، لكنْ ظاهرُ كلامِه، وهو المذهبُ: مُطلقًا. قالَهُ في "المبدع"
(3)
.
لكنْ تصحُّ الصَّلاةُ لخفَ مَنْ لا يعرفُه. ويُستحبُّ خلفَ مَنْ يعرفُه. لكنْ يعيدُ إذا صلَّى خلفَ مَنْ لا يعرفُه، ثمَّ علِمَ فسقَه.
فائدةٌ: إذا أقيمتِ الصَّلاةُ وهو في المسجدِ، والإمامُ ممَّنْ لا يصلُحُ، فإنْ شاءَ صلَّى خلفَه وأعادَ، وإنْ شاءَ صلَّى وحدَه في جماعةٍ، أو منفردًا، موافِقًا له في
(1)
أخرجه ابن ماجه (1081)، وضعفه الألباني.
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 560).
(3)
"المبدع"(2/ 65).
إلَّا في جُمُعةٍ وعيدٍ تعذَّرا خلفَ غيرِه.
وتَصِحُّ إمامةُ الأعمى الأصَمِّ، والأقلَفِ، وكثيرِ لَحنٍ لم يُحِلِ المَعنى،
الأفعالِ، ولا إعادةَ. قالَهُ في "الإقناع"
(1)
(إلا في جمعةٍ، وعيدٍ تعذَّرا
(2)
خلفَ غيرِه) أي: الفاسِقِ؛ لأنَّهما يختَصَّانِ بإمامٍ واحدٍ، فالمنعُ منهما خلفَه يؤدِّي إلى تفويتِهما دون سائرِ الصَّلواتِ. نعمْ؛ لو أُقيمتا في موضعين في أحدِهما عدلٌ، فعَلَهُما وراءَه. ونقلَ ابنُ الحكمِ: أنَّه كان يصلِّي الجمعةَ، ثمَّ يصلِّي الظهرَ أربعًا. وكذا إنْ خافَ أذىً بتركِ الصَّلاةِ خلفَ الفاسقِ، صلَّى خلفَه، وأعادَ، نصًّا. قالَهُ في "الإقناع"
(3)
.
(وتصحُّ إمامةُ الأعمى الأصمِّ) لأنَّ فَقدَه تلك الحاسَّتَين لا يُخِلُّ بشيءٍ من أركانِ الصَّلاةِ، ولا شروطِها. فصحَّتْ مع ذلك الإمامةُ، كما لو كان أعمى فاقدَ الشمِّ.
(و) تصحُّ خلفَ (الأقلفِ) لأنَّه ذكرٌ مسلمٌ، عدلٌ قارئٌ، فصحَّتْ إمامتُه كالمختونِ. ثمَّ إنْ كان مفتوقًا، فلا بدَّ من غَسلِ النجاسةِ التي تحتَ القُلفةِ، وإلَّا فهي معفوٌّ عنها لا تؤثرُ في بطلانِ الصَّلاةِ.
وتصحُّ الصَّلاةُ خلفَ أقطعِ اليدَين، أو أقطعِ الرجين، أو إحداهما، أو الأنفِ، مع الكراهةِ في الجميعِ، كما سيأتي.
(و) تصحُّ الصَّلاةُ خلفَ (كثيرِ لحنٍ لمْ يُحِلِ المعنى) كجرِّ دالٍ "الحمدُ"
(1)
"الإقناع"(1/ 260).
(2)
في الأصل: "تعذر".
(3)
انظر "كشاف القناع"(3/ 196).
والتَّمتامِ الذي يكرِّرُ التَّاءَ، مع الكَراهَةِ.
ولا تصِحُّ إمامةُ العاجزِ عن شَرطٍ، أو رُكنٍ إلَّا بمِثلِه، إلا الإمامَ الراتبَ بمسجدٍ المرجوَّ زوالُ عِلَّتهِ، فيصلِّى جالسًا،
وضمِّ ها "للهِ" ونحوِه. سواءٌ كان المؤتَمُّ مثلَه، أو لا؛ لأنَّ مدلولَ اللفظِ باقٍ، لكنْ مع الكراهةِ. فإنْ لمْ يكنْ كثيرَ اللَّحنِ، لم يُكره، كمَنْ سُبقَ لسانُه بيسيرٍ؛ إذْ قلَّ مَنْ يخلو من ذلك. ويحرمُ تعمُّدُه.
قال ابنُ مُنجَّا في "شرحه": فإنْ تعمَّدَ ذلك، لم تصحَّ صلاتُه؛ لأنَّه مُستَهزئٌ ومتعمِّدٌ
(1)
.
(و) تصحُّ خلف (التَّمتامِ الذي يكرِّر التاءَ) والفأفاء، بالمدِّ: الذي يكرِّرُ الفاء. وخلف مَنْ لا يفصحُ ببعضِ الحروفِ، كالقافِ والضادِ، (مع الكراهةِ) في الكلِّ؛ للاختلافِ في صحَّةِ إمامتِهم. قال جماعةٌ: ومن تُضْحِكُ صورتُه أو رؤيتُه.
(ولا تصحُّ إمامةُ العاجزِ عن شرطٍ) كاستقبالٍ، واجتنابِ نجاسةٍ، وعادمِ الطَّهورين (أو رُكنٍ) كالركوعِ، والسجودِ، أو الرفعِ منه، وكذا القيامُ. لا تصحُّ إمامتُه في الفرضِ (إلا بمثلِه) لأنَّه عاجزٌ عن ركنِ الصَّلاةِ، فلمْ يصحَّ اقتداءُ القادرِ عليه به، كالعاجزِ عن القراءةِ، إلَّا بمثلِه في العجزِ عن ذلك الركنِ، أو الشرطِ (إلا الإمامَ الراتبَ بمسجدٍ) إذا عجَزَ عن القيامِ لعلَّةٍ (المرجوَّ زوالُ علَّتِه) وعُلِمَ منه: أنَّه إنْ لَمْ يُرجَ زوالُ علتِه، لمْ تصحَّ خلفَه. وأَلْحقَ في "الرعاية": الإمامَ الأعظمَ بالإمامِ الراتبِ. والأصلُ فيه: فعلُه عليه السلام. وكان يُرجى زوالُ علَّتِه
(فيصلِّي جالسًا) أي: الإمامُ الذي يُرجَى زوالُ علَّتِه التي منعتْه القيامَ
(1)
انظر "الإنصاف"(4/ 401).
ويجلِسونَ خلفَه، وتصِحُّ قيامًا.
(ويجلسون) أي: المأمومون، ولو مع قدرتِهم على القيامِ (خلفَه) لحديثِ عائشةَ: صلَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في بيتِه وهو شاكٍ، فصلَّى جالسًا، وصلَّى وراءَه قومٌ قيامًا، فأشارَ إليهم: أن اجلسوا. فلما انصرفَ قال: "إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به" إلى أن قال: "وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا أجمعون". متفقٌ عليه
(1)
. (وتصحُّ قيامًا) لأنَّ القيامَ هو الأصلُ، ولم يأمرْ عليه السلام مَنْ صلَّى خلفَه قائمًا بالإعادةِ
(2)
.
وقال القاضي عياض: صحةُ صلاتهمِ خلفَه جُلوسًا، استحسانٌ. والقياسُ: لا تَصحُّ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى في مرضِ موتِه قاعدًا، وصلَّى أبو بكرٍ والنَّاسُ خلفَه قيامًا. متفقٌ عليه
(3)
من حديثِ عائشةَ. وأجابَ أحمدُ عنه: بأنَّه لا حجَّةَ فيه؛ لأنَّ أبا بكرٍ ابتدأَ بهم الصَّلاةَ قائمًا، فوجبَ أنْ يُتمُّوها كذلك. والجمعُ أَوْلى من النسخِ. ثمَّ يحتملُ أنَّ أبا بكرٍ كان هو الإمامُ. قال ابنُ المنذرِ: وقدْ رُويَ عن عائشةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في مرضِه خلفَ أي بكرٍ في ثوبٍ متوشِّحًا به
(4)
. ورواه أنسٌ أيضًا
(5)
، وصحَّحه الترمذيُّ، قال: ولا يُعرفُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى خلفَ أبي بكرٍ إلَّا في هذا الحديثِ. قال مالكٌ: العملُ عليه عندَنا.
وإنْ ابتدأَ بهم الصَّلاةَ قائمًا، ثمَّ اعتلَّ في أثنائِها فجلسَ، أتمُّوا خلفَه قيامًا؛ لقصةِ أبي بكرٍ؛ ولأنَّ القيامَ هو الأصلُ. قال في "الإقناع": ولم يجزِ الجلوسُ،
(1)
أخرجه البخاري (688)، ومسلم (412).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 564).
(3)
أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418).
(4)
أخرجه الترمذي (362)، وصححه الألباني.
(5)
أخرجه الترمذي (363)، وصححه الألباني.
وإن تركَ الإمامُ ركنًا، أو شرطًا مختلَفًا فيه مقلِّدًا، صحَّتْ، ومن صلَّى خلفَه معتقِدًا بطلانَ صلاتِه، أعادَ. ولا إنكارَ في مسائِل الاجتهادِ.
نصَّ عليه
(1)
.
(وإنْ تركَ الامامُ ركنًا أو شرطًا مختلفًا فيه مقلِّدًا) الإمامَ (صحَّتْ) صلاتُه، كالحنبليِّ إذا لم يقرأ الفاتحةَ في صلاتِه، ويقرأ غيرَها، مقلدًا لأبي حنيفةَ في عدمِ ركنيتها
(2)
، فإنَّه لا إعادةَ عليه، ولا على المأمومِ. وعُلِمَ منه: وجوبُ الإعادةِ عليهما بتركِ الركنِ أو الشرطِ المُجمَعِ عليه، من بابِ أَوْلى.
(ومَنْ صلَّى خلفَه معتقدًا بطلانَ صلاِته، أعادَ) صلافَ، (ولا إنكارَ في مسائلِ الاجتهادِ) أي: ليس لأحدٍ أن ينكرَ على مجتهدٍ أو مقلِّدِه، فيما يسوغُ فيه الاجتهادُ، ولو قلنا: المصيبُ واحدٌ؛ لعدمِ القطعِ بعينِه.
قال ابنُ عقيلٍ: رأيتُ النَّاسَ لا يعصمُهم من الظلمِ إلَّا العجزُ. ولا أقولُ: العوامُّ، بل العلماءُ؛ كانتْ أيدي الحنابلةِ مبسوطةً في أيَّامِ ابنِ يوسفَ، فكانوا يستطيلون بالبغيِّ على أصحابِ الشافعيِّ في الفروع، حتى ما يُمَكِّنُوهُم من الجهرِ بالبسملةِ والقنوتِ، وهي مسألةٌ اجتهاديةٌ، فلما جاءَتْ أيامُ النَّظَّامِ، ومات
(3)
ابنُ يوسفَ، وزالتْ شوكةُ الحنابلةِ، استطالَ عليهم أصحابُ الشافعيِّ استطالةَ السلاطين الظلمةِ، فاستعدَوْا بالسجنِ، وآذوا العوامَّ بالسِّعاياتِ، والفقهاءَ بالنَّبز
(4)
بالتجسيمِ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(3/ 202).
(2)
في الأصل: "كيفيَّتِها".
(3)
في الأصل: "ووفاةُ".
(4)
سقطت: "بالنَّبز" من الأصل.
ولا تصِحُّ إمامةُ المرأةِ بالرِّجالِ، ولا إمامة المميِّزِ بالبالغِ في الفرضِ، وتصِحُّ إمامته في النَّفلِ،
قال: فتدبَّرتُ أمرَ الفريقين، فإذا بهم لمْ تعمَلْ فيهم آدابُ العلمِ. وهلْ هذه إلَّا أفعالُ الأجنادِ؛ يصولون في دولتِهم، ويلزمون المساجدَ في بَطالتِهم. انتهى
(1)
.
(ولا تصحُّ إمامةُ المرأةِ بالرِّجالِ) لما روى ابنُ ماجه
(2)
، عن جابرٍ مرفوعًا:"لا تؤمنَّ المرأةُ رجلًا". ولأنَّها لا تؤذِّنُ للرِّجالِ، فلم يجزْ أنْ تؤمَّهم، كالمجنونِ. ولا إمامتُها أيضًا لخُنثى فأكثرَ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ ذكرًا.
ولا تصحُّ إمامةُ الخنثى بالرجالِ، لاحتمالِ أن يكونَ امرأةً. ولا خنثى لخَناثَى؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ الإمامُ امرأةً، والمأمومون ذكورًا. ولا فرقَ بين الفرضِ والنَّفلِ. ولو صلَّى رجل خلفَهما، ولمْ يعلمْ، ثمَّ علمَ، لزمتْه الإعادةُ.
وعُلِمَ منه: صحةُ إمامةِ رجلٍ لرجلٍ، وخنثى، وامرأةٍ. وإمامةِ خنثى وامرأةٍ لامرأةٍ.
(ولا) تصحُّ (إمامةُ المميِّزِ بالبالغِ في الفرضِ) لقولِ ابنِ مسعودٍ: لا يؤمُّ الغلامُ حتى تجبَ عليه الحدودُ. وقولِ ابنِ عباسٍ: لا يؤمُّ الغلامُ حتى يحتلمَ
(3)
. رواهما الأثرمُ. ولمْ يُنقلْ عن غيرِهما من الصَّحابةِ ما يخالفُه. ولأنَّ الإمامةَ حالُ كمالٍ، والصبيُّ ليس من أهلِها. والإمامُ ضامنٌ، والصبيُّ ليس من أهلِ الضمانِ.
(وتصحُّ إمامتُه) أي: الصبيِّ (في النفلِ) كتراويحَ، ووترٍ، وصلاةِ كسوفٍ
(1)
انظر "الفروع"(3/ 23).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
أخرجه البيهقي (2/ 225).
وفي الفرضِ بمثِله.
ولا تصِحُّ إمامةُ مُحدِثٍ، ولا نجِعرٍ يعلمُ ذلِكَ، فإن جَهِلَ هو والمأمومُ حتَّى انقضَت، صحَّت صلاةُ المأمُومِ وحدَه.
واستسقاءٍ؛ لأنَّه متنفل يؤمُّ متنفلًا.
(و) تصحُّ إمامةُ المميِّزِ (في الفرضِ) كظهرٍ وعصرٍ (بمثلِه) أي: المميِّزِ؛ لأنَّها نفلٌ في حقِّ كلٍّ منهما.
(ولا تصحُّ إمامةُ محدثٍ) أكبرَ أو أصغرَ (ولا) إمامةُ (نجِسِ) أي: مَنْ ببدنِه أو ثوبِه أو بقعتِه، نجاسةٌ غيرُ معفوٍّ عنها (يعلمُ ذلك) أي: حدثَه، أَو نجَسَه؛ لأنَّه أخلَّ بشرطِ الصَّلاةِ مع القدرةِ، أشبَهَ المتلاعبَ.
(فإنْ جِهَلَ هو) أي: الإمامُ حدثَه ونجَسَه، (و) جهلَ (المأمومُ) بذلك (حتى انقضتِ الصَّلاةُ، صحَّتْ صلاةُ المأمومِ وحدَه) أي: دونَ إمامِه؛ لحديثِ البراءِ بنِ عازبٍ: "إذا صلَّى الجنبُ بالقومِ، أعادَ صلاتَه، وتمَّتْ للقومِ صلاتُهم"
(1)
. رواه محمدُ بنُ الحسينِ الحرَّانيُّ. ورُوي عن عمرَ أنَّه صلَّى بالنَّاسِ الصبحَ، ثمَّ خرجَ إلى الجُرفِ، فاهراقَ الماءَ، فوجدَ في ثوبه احتلامًا، فأعادَ الصَّلاةَ، ولمْ يُعِدِ النَّاسُ
(2)
. ورُوي مثلُه عن عثمانَ
(3)
، وابنِ عمرَ
(4)
. وعن علي أيضًا
(5)
. ولأنَّه ممَّا يخفى، ولا سبيل إلى معرفتِه، فكان عذرًا في الاقتداءِ به.
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 364) بنحوه. قال الألباني: ضعيف جدًا. "ضعيف الجامع".
(2)
أخرجه مالك (1/ 49).
(3)
أخرجه الدارقطني (1/ 364).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 348).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 350).
ولا تَصِحُّ إمامةُ الأميِّ -وهو من لا يُحسِن الفاتحةَ- إلَّا بمثلِه.
ويصِحُّ النفلُ خلَف الفرضِ، ولا عَكسَ.
وعُلِمَ منه: أنَّه إنْ عَلِمَ الإمامُ، أو بعضُ المأمومين قبلَ الصَّلاةِ، أو فيها، أعادَ الكلُّ. قال الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على الأصلِ
(1)
: وظاهرُه: ولو نسيَ بعدَ علمِه به.
(ولا تصحُّ إمامه الأميِّ) نسبةً إلى الأمِّ، كأنَّه على الحالةِ التي ولدتْه أمُّه عليها. وقيل: إلى أمَّةِ العربِ. وأصلُه لغةً: مَنْ لا يَكتبُ (وهو) عرفًا: (مَنْ لا يُحسِنُ) أي: يحفظُ (الفاتحةَ) فلا تصحُّ (إلا بمثلِه) فلا يصحُّ اقتداءُ عاجزٍ عن نصفِ الفاتحَةِ الأوَّلِ بعاجِزٍ عن نصفِها الأخيرِ، ولا عكسُه، فإنْ لمْ يحسنْها، لكنْ أحسنَ بقدرِها من القرآنِ، لم يجزْ أنْ يأتمَّ بمَنْ لا يحسنُ شيئًا منه. ولا اقتداءُ قادرٍ على الأقوالِ الواجبةِ بعاجزٍ عنها، فتصحُّ بمثلِه.
(ويصحُّ النفلُ خلفَ الفرضِ) لأنَّ في نيَّةِ الإمامِ ما في نيَّةِ المأمومِ، وهي نيَّةُ التقرُّبِ، وزيادةٌ وهي نية الوجوبِ، فلا وجهَ للمنعِ (ولا عكسَ) فلا يصحُّ ائتمامُ مفترضٍ بمتنفلٍ؛ لقولِه عليه السلام:"فلا تختلفوا عليه". متفقٌ عليه
(2)
. وكونُ صلاةِ المأمومِ غيرَ صلاةِ الإمامِ، اختلافٌ عليه؛ لأنَّ صلاةَ المأمومِ لا تتأدَّى بنيَّةِ صلاةِ الإمامِ. لكنْ تصحُّ العيدُ خلفَ مَنْ يقول: إنَّها سنةٌ. وإنْ اعتقدَ المأمومُ أنَّها فرضُ كفايةٍ، لعدمِ الاختلافِ عليه، فيما يظهرُ
(1)
"دقائق أولي النهى"(1/ 568).
(2)
أخرجه البخاري (722)، ومسلم (414) من حديث أبي هريرة.
وتصِحُّ المقضِّيةُ خَلْفَ الحاضِرةِ، وعكسُه حيثُ تساوتا في الاِسمِ.
(وتصحُّ المقضيِّةُ خلفَ الحاضرةِ) لأنَّ الصَّلاةَ واحدةٌ، وإنَّما اختلفَ الوقتُ (وعكسُه) أي: فتصحُّ الحاضرةُ خلفَ المقضيِّةِ، (حيث تساوَتَا في الاسمِ) كظهرٍ خلفَ ظهرٍ، وعصرٍ خلفَ عصيرٍ، حيث تساوتا في الاسمِ، فتصحُّ. فلا يصحُّ صلاةُ ظهرٍ خلفَ صلاةِ عصرٍ.
فائدةٌ غريبةٌ: قال أبو البقاءِ: تصحُّ الصَّلاةُ خلفَ الجنيِّ. واقتصرَ عليه في "الفائق". وقال في "النوادر": تنعقدُ الجماعةُ والجمعةُ بالملائكةِ وبمسلمي الجنِّ. وهو موجودٌ زمنَ النبوةِ. قال في "الفروعِ": كذا قالا. والمرادُ: في الجمعةِ: من لزمتْهُ؛ لأنَّ المذهبَ: لا تنعقدُ الجمعةُ بآدمي لا تلزمُه، كمسافرٍ وصبيٍّ، فهنا أَوْلى. انتهى.
وقال ابنُ حامدٍ: الجنُّ كالإنسِ في العباداتِ والتكليفِ. قال: ومذهبُ العلماءِ: إخراجُ الملائكةِ عن التكليفِ، والوعدِ والوعيدِ.
قال في "الفروع": وقدْ عُرِفَ مما سبقَ من كلامِ ابنِ حامدٍ وأبي البقاءِ، أنَّه يعتبرُ لصحةِ صلاتِه ما يعتبرُ لصحَّةِ صلاةِ الآدميِّ
(1)
.
ويدخلُ كافرُهم النَّارَ إجماعًا، ومؤمنُهم الجنَّة، ولا يصيرُ ترابًا، خلافًا لأبي حنيفةَ واللَّيثِ. وهثم كغيرِهم على قدرِ ثوابِهم، لا أنَّهم حولَها، خلافًا لعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. ويأكلون ويشربون، خلافًا لمجاهدٍ. قال المصنِّفُ في "غاية المنتهى": ويتجه: ويَرْون اللهَ تعالى هم والملائكةُ. قيل لابنِ عباسٍ: كلُّ مَنْ دخلَ الجنَّة يرى اللهَ؟ قال: نعمْ.
(1)
انظر "الإنصاف"(4/ 408).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ تيميةَ: ونراهم فيها، ولا يرونَنا. ولمْ يُبعثْ لهم نبيٌّ قبلَ نبينا. قالَهُ في "المبدع". وليس منهم رسولٌ. قال المصنِّفُ: ويتجه: ولا نبيٌّ. ويقبلُ قولُهم: أنَّ ما بيدِهم مِلكُهم مع إسلامِهم، وكافرُهم كحربيٍّ. وظاهرُه: يجري التوارثُ بينهم. ويحرُمُ عليهم ظلمُ آدميٍّ، وظلمُ بعضِهم بعضًا. وتحلُّ ذبيحتُهم، وبولُهم وقيئُهم طاهران. قال المصنِّفُ في "غاية المنتهى": ويتجه: لا روثُهُم. وتجوزُ مناكحتُهم. وفي الجنَّةِ يتزوَّجون بحورٍ من جنسِهم
(1)
.
تنبيهٌ: شروطُ الإمامةِ ثمانيةٌ: إسلامٌ، وعقلٌ، وعدالةٌ، ونطقٌ، وتمييزٌ، وكذا بلوغٌ إنْ أمَّ بالغًا في فرضٍ، وذكوريَّةٌ إنْ أمَّ ذَكَرًا، وقدرة على شرط وركنٍ وواجبٍ، إنْ أمَّ بقادرٍ. وقدْ مرَّتْ مفصَّلةً.
(1)
انظر "غاية المنتهى"(1/ 217).
فَصْلٌ
يصِحُّ وقوفُ الإمامِ وَسَطَ المأمُومينَ، والسَّنةُ وقوفُه متقدِّمًا عليهم.
ويقفُ الرَّجلُ [الواحدُ عن يمينهِ
(فصلٌ)
في موقفِ الإمامِ والمأمومِ
(يصحُّ) بلا بأسٍ (وقوفُ الإمامِ وسَطَ المأمومين) لحديثِ أبي هريرة قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وسِّطُوا الإمامَ، وسدُّوا الخللَ". رواه أبو داودَ
(1)
(والسنَّةُ: وقوفُه) أي: الإمامِ (متقدِّمًا عليهم) لأنَّه عليه السلام كان إذا قامَ إلى الصَّلاةِ تقدَّمَ، وأقامَ أصحابَه خلفَه. ولمسلمِ وأبي داودَ
(2)
: أنَّ جابرًا وجبَّارًا، وقفَ أحدُهما عن يمينِه، والآخرُ عن يسارِه، فأَخذَ بأيديهما، حتى أقامَهما خلفَه.
والاعتبارُ في التقدُّمِ بمؤخَّرِ القَدَمِ، وهو العَقِبُ، ولا يضرُّ تقدُّمُ أصابعِ المأمومِ لطولِ قَدَمِه، ولا تقدُّمُ رأسِه في السُّجودِ لطولِه.
فإنْ صلَّى قاعدًا، فالاعتبارُ بالأليَةِ؛ لأنَّها محلُّ القعودِ، حتى لو مدَّ رِجليه، وقدَّمهما على إمامِه، لمْ يضرَّ، كما لو قدَّمَ القائمُ رجلَه مرفوعةً عن الأرضِ؛ لعدمِ اعتمادِه عليها.
(ويقفُ الرَّجلُ) أو الخنثى (الو احدُ عن يمينِه) أي: الإمامِ، لإدارتِه عليه السلام
(1)
أخرجه أبو داود (681)، وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه مسلم (3010)، وأبو داود (634) من حديث جابر بن عبد الله.
فحاذيًا له. ولا تَصِحُّ خلفَه، ولا عن يَسارِه معَ خلُوِّ يمينِه.
ابنَ عباسٍ، وجابرًا
(1)
إلى يمينِه، لمَّا وقَفا عن يسارِه. رواه مسلمٌ
(2)
. قال في "المبدع"
(3)
: ويندبُ تخلّفُه قليلًا؛ خوفًا من التقدُّمِ، ومراعاةً للمرتبةِ.
(محاذيًا له) أي: يقفُ مصافًّا له. قال في "الإنصاف"
(4)
: لو بانَ عدمُ مصافتِه له، لم تصحَّ.
فعُلِمَ منه: أنَّه لا تضم المساواةُ، بخلافِ التقدُّمِ عليه، ففيه التفصيلُ.
وسُنَّ للإمامِ أنْ يقفَ حذاءَ وسطِ الصفِّ.
(ولا تصحُّ) أنْ يقفَ مأمومٌ (خلفَهُ) أي: أنْ يقفَ خلفَهُ الواحدُ؛ لأنَّه يكونُ فذًّا. فلو كبَّرَ خلفَهُ، ثمَّ تقدَّمَ عن يمينِه، صحَّتْ صلاتُه. وكذا لو كانا اثنين، فكبَّرَ أحدُهما وتَوَسوسَ الآخرُ، ثمَّ كبَّرَ قبلَ رفعِ الإمامِ رأسَه من ركوعٍ، صحَّتْ صلاتُه
(5)
.
(ولا) تصحُّ أنْ يقفَ مأمومٌ فأكثرُ (عن يسارِه، مع خُلوِّ يمينِه) أي: الإمامِ؛ لأنَّه خالفَ موقفَهُ؛ لإدارتِه عليه السلام ابنَ عباسٍ وجابرًا لمَّا وقَفَا عن يسارِه.
قال في "الفروع"
(6)
: ومَنْ صلَّى عن يسارِه ركعة فأكثرَ، مع خلوِّ يمينِه، لمْ يصحَّ. نصَّ عليه. وعنه: بلى، اختارَهُ أبو محمدٍ التميميُّ، والشيخُ، وغيرُهما. وهي
(1)
في الأصل: "وجبَّارًا".
(2)
أخرجه مسلم (763) من حديث ابن عباس. وأخرجه (766) من حديث جابر.
(3)
"المبدع"(1/ 83).
(4)
"الإنصاف"(4/ 420).
(5)
انظر "كشاف القناع"(3/ 221).
(6)
"الفروع"(3/ 40).
وتقفُ المرأةُ خلفَه.
وإن صلَّى الرَّجُلُ ركعةً خلفَ الصفِّ منفرِدًا، فصلاته باطلةٌ.
أظهرُ، وفاقًا. انتهى.
(وتقفُ المرأةُ خلفَه) لحديثِ أنسٍ أنَّ جدَّتَهُ مُليكةَ دعَتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنَعَتْه، فأكلَ، ثمَّ قالَ:"قوموا لأصلِّيَ لكمْ". فقمتْ إلى حصيرٍ قدْ أسودَّ من طولِ ما لُبِسَ
(1)
، فنضحتُه بماءٍ، فقامَ عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقمتُ أنا واليتيمُ وراءَهُ، وقامتِ العجوزُ من ورائِنا، فصلَّى لنا ركعتين، ثمَّ انصرفَ. رواه الجماعةُ
(2)
إلا ابنَ ماجه.
وإنْ وقَفَتْ بجانبِه، فكرَجُلٍ، يعني: أنَّ المرأةَ إذا ائتمَّتْ برجلٍ، ووقفتْ على يمينِه، فإنَّ صلاتَها تصحُّ، كما تصحُّ صلاةُ الرجلِ عن يمينِ إمامِه.
(وإنْ صلَّى الرَّجلُ ركعةً خلفَ الصفِّ منفردًا، فصلاتُه باطلةٌ) عالمًا أو جاهلًا، ناسيًا أو عامدًا؛ لحديثِ وابصةَ بنِ معبدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي خلفَ الصفِّ، فأمرَه أنْ يعيدَ الصَّلاةَ. رواه أحمدُ، والترمذيُّ وحسنه، وابنُ ماجه
(3)
، ورجالُه ثقاتٌ. قال ابنُ المنذرِ: ثبَّت
(4)
أحمدُ وإسحاقُ هذا الحديثَ. وعن عليِّ ابنِ شيبانَ، مرفوعًا:"لا صلاةَ لفردٍ خلفَ الصفِّ". رواه أحمدُ، وابنُ ماجه
(5)
.
(1)
في الأصل: "لبِثَ".
(2)
أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658)، وأبو داود (612)، والترمذي (234)، والنسائي (801).
(3)
أخرجه أحمدُ (29/ 529)(18002)، والترمذيُّ (231)، وابنُ ماجه (1004)، وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: "تثبت".
(5)
أخرجه أحمدُ (26/ 224)(16297)، وابنُ ماجه (1003)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولأنَّه خالف موقفَه. وظاهرُه: ولو زُحِمَ في ثانيةِ الجمعةِ، فخرجَ من الصفِّ، وبقيَ منفردًا، فينوي المفارقةَ، ويتمُّ لنفسِه، وإلَّا بطلتْ. وصحَّحه في "تصحيح الفروع"
(1)
.
قال في "الإقناع": ولو كان خلفَه صفٌّ
(2)
.
وهو من المفرداتِ. قال في "نظم المفردات"
(3)
.
والفذُّ مَنْ صلَّى خليفَ الصفِّ
…
باطلةٌ صلاتُه لا تكفي
وعنه: يصحُّ مطلقًا. وذكَرَ في "النوادر": أنَّه يصحُّ لخوفِه تضييقًا
(4)
. قال في "الفروع": وذكَرَه
(5)
بعضُهم قولًا. وهو معنى قولِ بعضِهم: لعُذرٍ. قلتُ
(6)
: قال في "الرعاية": وقيل: يقفُ فذًّا مع ضيقِ الموضعِ، أو ارتِصاصِ الصفِّ، وكراهَةِ أهلِه دخولَه.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: وتصحُّ صلاةُ الفذِّ لعذرٍ.
وإنْ ركعَ فذًّا لعذرٍ، كخوفِ فوتِ الركعةِ، ثمَّ دخلَ الصفَّ، أو وقفَ معه آخرُ قبل سجودِ الإمامِ، صحَّتْ صلاتُه، لما روي عن أي بكرة -واسمُه نفيعُ بنُ الحارثِ- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاةَ الصبحِ، فسمِعَ نفَسًا شديدًا، أو بَهْرًا
(7)
من
(1)
"تصحيح الفروع"(3/ 194).
(2)
"الإقناع"(1/ 265).
(3)
انظر "منح الشفا"(1/ 147).
(4)
في الأصل: "تضيقًا".
(5)
في الأصل: "وذكر".
(6)
القائل: صاحب "الإنصاف"(4/ 438).
(7)
البُهر، بالضمِّ: تتابعُ النفَس. وبالفتح: المصدر. "الصحاح"(بهر).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفِه، فلمَّا قضى الصَّلاةَ قال لأبي بكرةَ:"أنت صاحب النفس"؟ قال: نعمْ، خشيتُ أنْ تفوتني ركعةٌ معك، فأسرعتُ المشيء فقال له:"زادكَ اللهُ حرصًا، ولا تعُدْ، صلِّ ما أدركتَ، واقضِ ما سُبقتَ"
(1)
.
قال الزركشيُّ
(2)
: وعلى هذا: فالروايةُ: "ولا تَعْدُ". بسكون العين، وضم الدال، من العَدْو -وقال القاضي البيضاويُّ في قولِه تعالى:{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]. أي: من العَدْوِ، وهو: التنائي، أي: لا تَنأى عنهم
(3)
والثاني: "ولا تعُدْ" بضم العين، وسكونِ الدال، من العَود -وقدْ أجزأتْه صلاتُه، فإنْ عادَ بعد النهي لم تجزْئه صلاتُه-
ورأيتُ في بعضِ كتبِ الحنفيَّةِ -أظنُّه النَّسفيَّ- أنَّ فيه روايةً ثالثةً: "لا تُعِد" بضم التاء وكسر العين، وسكون الدال، من الإعادةِ، أي: لا تعدِ الصَّلاةَ. انتهى من "شرح الزركشي" على الخِرقيِّ.
قال في "المنتهى"
(4)
: ومَنْ حضرَ ليصلِّيَ، وقدْ أقيمتِ الصفوفُ، فإنْ وجدَ فُرْجةً، بضمِ الفاء، وهي: الخللُ في الصفِّ، ولو بعيدةً. أو وجدَ الصفَّ غير
(5)
مرصوصٍ، وقفَ فيه؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ وملائكتَه يصلُّون على الذين يَصِلُون
(1)
أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام" ص (45)، وأصله في "الصحيح" (783) دون الجملة الأخيرة:"صلِّ ما أدركتَ، واقضِ ما سُبقتَ".
(2)
"شرح الزركشي"(2/ 121).
(3)
قول البيضاوي ليس في "شرح الزركشي" ولم أجده في "تفسيره".
(4)
انظر: "دقائق أولي النهى"(1/ 578).
(5)
سقطت: "غير" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصفوف"
(1)
. وإلا، أي: وإنْ لمْ يجدْ فرجةً، أو وجدَ الصفَّ مرصوصًا، فإنَّه يقفُ عن يمينِ الإمامِ، إنْ أمكنَه؛ لأنَّه موقفُ الواحدِ. فإنْ لمْ يمكنْه أنْ يقفَ عن يمينِ الإمامِ، فله أن ينبِّه بنحنحةٍ، أو كلامٍ، كأن يقولُ: ليتأخَّرْ واحدٌ منكم لأكونَ أنا وإياه صفًّا، أو نحو ذلك. أو ينبِّه بإشارةٍ مَنْ يقومُ معه صفًّا؛ ليتمكَّنَ من الاقتداءِ. ويَتبعُه، أي: يلزمُ المنبَّه أنْ يتأخَّرَ؛ ليقفَ معه؛ لأنَّ الواجِب لا يتمُّ إلا به. وكُره تنبيهُه بجذبِه، نصًّا؛ لأنَّه تصرُّفٌ بغيرِ إذنِه. وعبدُه وابنُه كأجنبيٍّ، ولمْ يحرُمْ. بلْ صحَّح في "المغني" جوازَه؛ لدعاءِ الحاجةِ إليه، كسجودٍ على ظهرِ إنسانٍ، أو قدَمِه؛ لزحامٍ.
قال ابنُ عقيلٍ: جوَّز أصحابُنا جذْبَ رجلٍ بقومُ معه.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: لو حضرَ اثنان، وفي صفٍّ فرجةٌ فأيُّما أَفضَلُ؛ وقوفُهُما جميعًا، أو يسدُّ أحدُهما الفرجةَ، وينفردُ الآخرُ؟ رجَّحَ أبو العباس: الاصطفافَ مع بقاءِ الفُرْجةِ؛ لأنَّ سدَّ الفرجةِ مستحبٌّ، والاصطفافُ واجبٌ. انتهى من "الإنصاف"
(2)
.
فائدةٌ: لو زُحِمَ في الركعةِ الثانيةِ من الجمعةِ، فأُخرجَ من الصفِّ، وبقيَ فذًّا، فإنَّه ينوي المفارقةَ، للعذرِ، ويتمّها جمعةً؛ لإدراكِه منها ركعةً مع الإمامِ، كالمسبوقِ. وإنْ أقامَ على متابعةِ إمامِه، وأتمَّها معه فذًّا، صحَّتْ جمعتُه. قدَّمه في "الرعاية". قاله في "الإنصاف"
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (995) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
(2)
"الإنصاف"(4/ 437).
(3)
"الإنصاف"(4/ 445).
وإن أمكنَ المأمومَ الاقتداءُ بإمامِه، ولو كانَ بينهُما فوقَ ثلاثِمِائةِ ذِراعٍ، صحَّ، إن رأى الإمامَ، أو رأى مَنْ وراءَه. وإن كان الإمامُ والمأمومُ في المسجدِ، لم تُشتَرطِ الرؤيُةُ، وكفَى سماعُ التكبيرِ.
وإن كان بينهما نهرٌ تَجري فيه السُّفنُ، أو طريقٌ، لم تَصِحَّ.
(وإنْ أمكنَ المأمومَ الاقتداءُ بإمامِه، ولو كان بينهُما فوقَ ثلاثمائةِ ذراعٍ، صحَّ) خلافًا للشافعيِّ. (إنْ
(1)
رأى) المقتَدِي (الإِمامَ، أو رأى مَنْ وراءَه) أي: الإمامِ (وإنْ كان الإمامُ والمأمومُ في المسجدِ، لمْ تُشترط الرؤيةُ، و) إنْ كان بينهما حائلٌ (كفَى سماعُ التكبيرِ)؛ لأنَّه يتمكَّنُ من متابعتِه، والمسجدُ مُعدٌّ للاجتماعِ، ومظنَّةُ القربِ، فيصحُّ بدونِ مشاهدةٍ، بخلافِ مَنْ كان خارجَه. وعُلِمَ منه: أنَّه إذا لمْ يرَهُ، ولا مَنْ وراءَه، ولا سمِعَ التكبيرَ؛ لصَمَمٍ أو طَرَشٍ أو بُعْدٍ، أنَّه لا يصحُّ اقتداؤُه. وهو كذلك قولًا واحدًا. لا إنْ كان المأمومُ وحدَه خارجَه، وسمعَ التكبيرَ، ولم يرَهُ، ولا مَنْ وراءَه. وكذا إنْ كان الإمامُ والمأمومُ خارجَ المسجدِ من بابِ أَوْلَى.
(وإنْ كان بينهما) أي: الإمامِ والمأمومِ (نهرٌ تجري فيه السُّفنُ) لم تصحَّ، فإنْ لمْ تجرِ فيه، صحَّتْ؛ ليحترزَ به عن الصغيرِ، فإنَّه لا يمنعُ الاقتداءَ
(أو) كان بينهما (طريقٌ، لم تصحَّ) صلاتُه؛ لما روي عن عمرَ أنَّه قال: مَنْ صلَّى وبينه وبين الإمامِ نهرٌ، أو جدارٌ، أو طريقٌ، فلم يصلِّ مع الإمامِ
(2)
.
وإنْ كانتْ صلاةَ جمعةٍ أو عيدٍ أو جنازةٍ، لمْ يؤثِّرْ ذلك فيها، للضرورةِ، حيثُ اتصلتْ الصفوفُ صحَّتْ. أو كان المأمومُ بسفينةٍ وإمامُه في أخرى غيرِ مقرونةٍ بها،
(1)
في الأصل: "وإن".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 35).
وكُرِهَ عُلوُّ الإمامِ عن المأمُومِ، لا عكسُه.
وكُرِهَ لمن أكلَ بصلًا أو فُجلًا ونحوَه، حضُورُ المسجِدِ.
لم يصحَّ الاقتداءُ؛ لأنَّ الماءَ طريقٌ، وليستِ الصفوفُ متصلةً. فإن كان في شدَّةِ خوفٍ، وأمكنَ الاقتداءُ، صحَّ؛ للعذرِ.
فعُلِمَ منه: أنَّ السَّفينةَ إذا كانتْ مقرونةً، صحَّ الاقتداءُ
(وكُرِه عُلوُ الإمامِ عن المأمومِ) لحديث أبي داودَ
(1)
عن حذيفةَ مرفوعًا: "إذا أمَّ الرجلُ القومَ، فلا يقومنَّ في مكانٍ أرفعَ من مكانِهم". وروى الدارقطنيُّ
(2)
معناه بإسنادٍ حسنٍ. ما لمْ يكنْ العلوُّ يسيرًا كدرجة المنبرِ، فلا يُكرَهُ.
وتصحُّ الصَّلاةُ، ولو كان العلوُ كثيرًا، وهو -أي: الكثيرُ- ذراعٌ فأكثرَ من ذراعٍ. وقال أبو المعالي في "شرح الهداية": مقدارُه: قدر قامةِ المأمومِ
(لا عكسُه) أي: لا يُكره علوُّ المأمومِ على الإمامِ، ولو كان كثيرًا، كما لو صلَّى خلفَ الإمامِ على سطحِ المسجدِ؛ لما روى الشافعيُّ
(3)
، عن أبي هريرةَ أنَّه صلَّى على ظهرِ المسجدِ بصلاةِ الإمامِ. ورواه سعيدٌ عن أنسٍ
(4)
(وكُرِه لمَنْ أكلَ بصلًا أو فُجْلًا ونحوَه) كثُومٍ، وكُرَّاثٍ (حضورُ المسجدِ) وحضورُ جماعةٍ. قال في "الإقناع": والمرادُ: حضورُ الجماعةِ، ولو في غيرِ
(1)
أخرجه أبو داود (598). وقال الألباني في "الإرواء"(544): ضعيف بهذا السياق .. لكن للحديث أصل بنحوه، .. أن حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على وإن؛ فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه
…
" وانظر "صحيح أبي داود" (611).
(2)
أخرجه الدارقطني (2/ 88) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(3)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(318).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 83).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مسجدٍ، أو غيرِ صلاةٍ، حتى يذهبَ ريحُه
(1)
؛ للخبرِ، ولإيذائِه. وظاهرُه: ولو لمْ يكنْ بالمسجدِ أحدٌ؛ لتأذِّي الملائكةِ. ويُستحبُّ إخراجُه. وفي معناه: مَنْ به نحوُ صُنانٍ، أو جُذامٍ.
ومن الآدابِ: وضعُ إمامٍ نعلَه عن يسارِه، ومأمومٍ بين يديه، لئلا يؤذي.
فائدةٌ: يقطعُ الرَّائحةَ الكريهةَ مضغُ السَّذَابِ
(2)
، أو السُّعْدِ
(3)
. قالَهُ بعضُ الأطباءِ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(3/ 247).
(2)
السَّذابُ: الفَيْجَنُ، وهو بَقْلٌ معروف. "القاموس المحيط"(1/ 123).
(3)
السُّعد: نبت له أَصل تحت الأَرض أَسود طيب الريح. "لسان العرب"(سعد).
فَصْلٌ
يُعذَرُ بتركِ الجمُعةِ والجماعَةِ: المريضُ، والخائفُ حدوثَ المرَضِ،
والمُدافِعُ أحدَ الأخبثينِ، ومَنْ له ضائِعٌ يرجُوْهُ،
(فصلٌ)
في ذكرِ الأعذارِ المبيحةِ لتركِ الجمعةِ والجماعةِ
وممَّا (يُعذرُ بتركِ الجمعةِ والجماعةِ: المريضُ) لأنَّه عليه السلام لما مرِضَ تخلَّفَ عن المسجدِ، وقال:"مُرُوا أبا بكرٍ فليصلِّ بالنَّاسِ". متفقٌ عليه
(1)
.
(و) كذا (الخائفُ حدوثَ المرضِ) لأنَّه في معنى المريضِ.
ومحلُّ ذلك: إذا كان المريضُ والخائفُ حدوثَ المرضِ ليسا بالمسجدِ، فإنْ كانا بالمسجدِ، لزِمَتْهُما الجمعةُ والجماعةُ، لعدمِ المشقَّةِ في ذلك.
(و) يُعذرُ بتركِ الجمعةِ والجماعةِ: (المدافعُ أحدَ الأخبثينِ) وهما: البولُ والغائطُ، بحيثُ لو قضى حاجتَه وتوضَّأ، فاتتْه الجمعةُ والجماعةُ؛ لقولِه عليه السلام:"لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا هو يُدافعُه الأخبثانِ"
(2)
(ومَنْ له ضائعٌ يرجوه) كأنْ دُلَّ عليه بمكانٍ، وخافَ إنْ لم يمضِ إليه سريعًا، انتقلَ إلى غيرِه، أو قدومِ بضائعَ له من سفرٍ، وخافَ إنْ لمْ يتلقَّهُ أخفاه. قال المجدُ: والأفضلُ تركُ ما يرجو وجودَه، ويصلِّي الجمعةَ والجماعةَ
(3)
(1)
أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه مسلم (560) من حديث عائشة.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 587).
أو يخافُ ضَياعَ مالِه، أو فواتَه، أو ضررًا فيه، أو يخافُ على مالٍ استؤجِرَ لحِفظِهِ، كنِطَارَةِ بُستَانٍ، أو أذىً بمطَرٍ، ووحَلٍ، وثلجٍ، وجليدٍ، وريحٍ بارِدةٍ بليلةٍ مُظلِمَةٍ،
(أو يخافُ ضياعَ مالِه) أي: يخافُ ضياعَ مالِه الذي عنده؛ بأنْ يخافَ عليه من لصِّ، أو سبُعٍ، أو سلطانٍ، لمولِه عليه السلام:"مَنْ سمِعَ النداءَ، فلم يأتِه إلا من عذرٍ، لم يمبلْ منه الصَّلاهُ". دالوا: وما العذرُ؟ قال: "خوفٌ أو مرضٌ"
(1)
. وهذا يشملُ الخوفَ على المالِ وغيرِه.
(أو) يخافُ (فواتَه)، كشرودِ دابَّتِه، أو إباقِ عبدِه، وسفرِ نحوِ غريمٍ له.
(أو) يخافُ (ضررًا فيه) أي: مالِه، كاحتراقِ خُبزٍ أو طبيخٍ
(2)
، أو إطلاقِ ماءٍ نحوَ زَزعِه بغيبتِه
(أو يخافُ على مالٍ استؤجِرَ لحفظِه) ولو كان ما استؤجرَ لحفظِه (كنِطارةٍ
(3)
) بكسر النون، أي: حِفظِ (بُستانٍ) ونحوِه. قال في "القاموس": النَّاطِرُ، والنَّاطورُ: حافظُ الكَرمِ والنخلِ، أعجميٌّ. الجمعُ: نُطَّارٌ، ونُطَراء، ونواطِيرُ، ونطرةٌ. والفعلُ: النطرُ والنِّطارةُ، بالكسر
(أو) يخافُ (أذىً بمطرٍ، ووَحَلٍ) بفتح الحاء (وثلجٍ، وجليدٍ، وريحٍ بادرةٍ بليلةٍ مظلمةٍ) لحديثِ ابنِ عمرَ: كان النبيَّ صلى الله عليه وسلم ينادي مُنادِيه في الليلةِ الباردةِ، أو المطيرةِ:"صلُّوا في رِحالِكم". رواه ابنُ ماجه
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (551) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "طبخ".
(3)
في الأصل: "كنطار".
(4)
أخرجه ابن ماجه (937)، وصححه الألباني.
أو تَطويلِ إمَامٍ.
(أو) يخافُ أذىً بـ (تطويلِ إمامٍ) لما تقدَّمَ: أنَّ رجلًا صلَّى مع معاذٍ، ثمَّ انصرفَ فصلَّى وحدَهُ عندَ تطويلِ معاذ. فلمْ ينكرْ عليه صلى الله عليه وسلم حينَ أخبرَه
(1)
.
أو غلبة نعاسٍ يخافُ به فوتَ الصَّلاةِ في الوقتِ إنِ انتظرَ الجماعةَ، أو يخاف به فوتها مع إمامٍ
(2)
. فيعذرُ فيهما. وقطعَ في "المذهب" و"الوجيز": أنَّه يُعذرُ فيهما بخوفِه بطلانَ وضوئِه بانتظارِهما.
قال المجدُ، وصاحبُ "مجمع البحرين" وغيرُهما: الصبرُ والتجلدُ على
(3)
دفعِ النُّعاسِ، ويصلِّي معهم أفضل
(4)
.
قال ابنُ عقيلٍ في "المفردات": تسقطُ الجمعةُ بأيسرِ عذرٍ، كمَنْ له عروسٌ تجلَّى عليه.
قال أبو المعالي: الزلزلةُ عذرٌ؛ لأنَّها نوعُ خوفٍ
(5)
.
فائدةٌ: ذكرَ بعضُ الأصحابِ أنَّ فعلَ جميعِ الرُّخصِ أفضلُ من تركِها، غيرَ الجمعِ.
تتمةٌ: إنْ طرأ بعضُ الأعذارِ في الصَّلاةِ، أتمَّها خفيفةً إنْ أمكنَ، وإلا خرجَ منها. والمأمومُ يفارقُ إمامَه ويتمُّها أو يخرجُ منها. قال أبو الدرداءِ: من فقهِ الرَّجلِ إقبالُه
(1)
أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465) من حديث جابر.
(2)
سقطت: "أو يخاف به فوتها مع إمامٍ" من الأصل.
(3)
في الأصل: "عن".
(4)
سقطت: "أفضل" من الأصل.
(5)
انظر "الإنصاف"(4/ 469، 471).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على حاجته، حتى يقبلَ
(1)
على صلاتِه وقلبُه فارغٌ. رواه البخاريُّ
(2)
. قالَهُ في "المبدع"
(3)
.
(1)
سقطت: "على حاجته حتى يقبل على" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري معلقًا قبل (671).
(3)
"المبدع"(1/ 479).
بابُ صلاةِ أهلِ الأعذارِ
يلزمُ المريضَ أن يصلِّيَ المكتوبةَ قائمًا ولو مُستنِدًا، فإن لم يستطعْ فقاعدًا، فإن لم يستطِعْ فعلى جنبِه، والأيمنُ أفضلُ، ويُومِئُ بالرُّكوع وبالسجود ويجعلُهُ أخفَضَ،
(بابُ صلاةِ أهلِ الأعذارِ)
جمعُ عُذرٍ. وهم: المريضُ، والمسافرُ، والخائفُ، ونحوُهم.
(يلزمُ المريضَ أنْ يصلِّيَ المكتوبةَ قائمًا) إنْ قدِرَ عليه (ولو) كان (مُستَندًا) إلى شيءٍ
(فإنْ لمْ يستطعْ) المريضُ القيامَ (فقاعدًا) مُتربِّعًا، وفاقًا لمالكٍ، نَدْبًا. وقيل: وجوبًا.
(فإنْ لمْ يستطعْ) القعودَ
(1)
، أو شقَّ عليه القعودُ (فعَلَى جنبِه) أي: بحيثُ يكونُ وجهُه وبطنُه إلى القِبلةِ (و) الجنبُ (الأيمنُ أفضلُ) لحديث عليٍّ
(2)
(ويُومِئُ بالركوعِ وبالسجودِ
(3)
) عاجزٌ عنهما ما أمكنَه، نصًّا؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتُمْ"
(4)
. (ويجعلُه أخفضَ) من ركوعِه؛ ليحصلَ الفرقُ بين الإيمائين.
(1)
في الأصل: "عن القعود".
(2)
يشير إلى حديث عليَّ مرفوعًا: ".
(3)
في الأصل: "والسجود".
(4)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة.
فإن عَجَزَ أومأَ بطرفِه واستحضَر الفِعلَ بقلبه، وكذا القولَ إن عَجَزَ عنه بلسانِه.
ولا تسقُط ما دامَ عقلُه ثابِتًا.
(فإنْ عجَزَ أومأَ بطَرفِه) أي: بعينِه (واستحضرَ الفعلَ) عند إيمائِه له، وهو الركوعُ والسجودُ (بقلبِه) متعلِّقٌ بـ"مستحضر" أي: يستحضرُ الفعلَ عند إيمائِه (وكذا) يستحضرُ (القولَ إنْ عجزَ عنه بلسانِه) لقولِه تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78].
(ولا تسقطُ) الصَّلاةُ (ما دامَ عقلُه ثابتًا) حينئذٍ عن
(1)
المكلَّفِ، بالمرضِ، ما دامَ عقلُه حاضرًا.
فعلى هذا: لو عجزَ عن الإيماءِ بطرفِه، وأمكنَه أنْ ينويَ، ويستحضِرَ أفعالَ الصَّلاةِ وأقوالَها بقلبِه، لزِمَه ذلك، كما في "شرح الهداية"، وأشارَ إليه في "النكت"
(2)
.
أمَّا إن غابَ عقلُه، فإنَّها تسقطُ. أي: إنْ ماتَ. ولهذا قال في "شرح الهداية": فإنْ غلَبه المرضُ حتى غابَ عقلُه، فإنَّ الصَّلاةَ تبقَى في ذمَّتِه إلى أن يفيقَ، فيقضيها؛ لأنَّ الإغماءَ لا يُسقطُ فرضَ الصَّلاةِ، وهو ظاهرُ.
ولا ينقصُ أجرَ المريضِ عجز عن قيامٍ أو قعودٍ، إذا صلَّى على ما يُطيقُه؛ لخبر أي موسى مرفوعًا:"إذا مرضَ العبدُ، أو سافرَ، كُتبَ له ما كان يعملُ مقيمًا صحيحًا"
(3)
.
(1)
في الأصل: "من".
(2)
"النكت على مشكل المحرر"(1/ 207).
(3)
أخرجه البخاري (2996).
ومَنْ قَدَرَ على القيَامِ أو القُعودِ في أتنائِها، انتقلَ إليه. ومن قَدَرَ أن يقومَ منفرِدًا أو يجلِسَ في الجماعِة، خُيِّر.
وتَصِحُّ على الراحِلَةِ لمَنْ يتأذَّى بنحو مطرٍ، ووحَلٍ، أو يَخَافُ على نفسِه من نُزولِه، وعليه الاستقبالُ، وما يَقِدرُ عليه.
(ومَنْ قدرَ على القيامِ، أو) قدرَ مُصلٍّ على (القعودِ، في أثنائِها) أي: الصَّلاةِ (انتقلَ إليه) أي: إلى ما قَدِرَ عليه بعدَ أنْ كان عاجزًا عنه. وأتمَّها به
(ومَنْ قدرَ أنْ يقومَ) في الصَّلاةِ (منفردًا، أو) قدرَ أنْ (يجلسَ في الجماعةِ خُيِّرَ) بين الصَّلاةِ قائمًا منفردًا، وبين الصَّلاةِ جالسًا في جماعةٍ. قال في "الشرح": لأنَّه يفعلُ في كلٍّ منهما واجبًا، ويتركُ واجبًا. وقيل: يلزمُه أنْ يصلِّيَ قائمًا منفردًا؛ لأنَّ القيامَ ركنٌ؛ بخلافِ الجماعةٍ. وصوَّبه في "الإنصاف"
(1)
(وتصحُّ) الصَّلاةُ (على الرَّاحلةِ) واقفةً أو سائرةً (لمَنْ يتأذَّى بنحوِ مطرٍ ووحَلٍ) ونحوِه، كثلج أو برَدٍ (أو يخافُ على نفسِه من نزوله) من عدؤ ونحوه، كسيل وسبُعٍ. وكذا عجزُه إنْ نزلَ عن ركوبٍ. فإنْ قدِرَ ولو بأُجرةٍ يَقدِرُ عليها، نزَلَ. والمرأةُ إن خافت تبرزًا وهي خَفِرَةٌ
(2)
، صلَّت على الراحلة
(3)
. وكذا مَنْ خافَ حصولَ ضررٍ بالمشيء ذكرَهما في "الاختيارات".
(وعليه) أي: المصلِّي على الراحلةِ المكتوبةَ لعذرٍ (الاستقبالُ، وما يقدرُ عليه) من ركوعٍ وسجودٍ، أو إيماءٍ وطمأنينةٍ
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 595).
(2)
خفرة: بفتح الخاء المعجمة، وكسر الفاء: الشديدةُ الحياءِ. "المطلع" ص (347).
(3)
سقطت: "والمرأةُ إن خافت تبرزًا وهي خَفِرَةٌ، صلَّت على الراحلة" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(1/ 597)، "الاختيارات" ص (74).
ويومِئُ مَنْ بالمَاءِ والطِّينِ.
(ويُومِئُ مَنْ بالماءِ والطينِ) بركوعٍ وسجودٍ، كمصلوبٍ ومربوطٍ. ويسجدُ الغريقُ على متنِ الماءِ، أي: ظهرِه.
تنبيهٌ: يُعتبرُ المَقَرّ لأعضاءِ السجودِ؛ لحديثِ: "أُمرتُ أنْ أسجدَ على سبعةِ أعظمٍ"
(1)
. فلو وضَعَ جبهتَهُ على قُطنٍ مَنفوشٍ ونحوِه، ممَّا لا تَستقرُّ عليه الأعضاءُ، لمْ يصحَّ. أو صلَّى معلَّقًا، أو في أُرجُوحةٍ، ولا ضرورةَ تمنعُه أنْ يصلِّيَ بالأرضِ، لمْ تصحَّ صلاتُه؛ لعدمِ تمكّنِه عُرفًا، وعدمِ ما يَستقرُّ عليه. وتصحُّ الصَّلاةُ أيضًا على حائلِ صوفٍ ونحوِه، كشعرٍ ووَبَرٍ من حيوانٍ طاهرٍ، ولا كراهةَ؛ لحديثِ: أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى على فَروةٍ مدبوغةٍ
(2)
. وتصحُّ أيضًا على ما منعَ صلابةَ الأرضِ، كفِراشٍ محشوٍّ بنحوِ قُطنٍ. وتصحُّ على ما تُنبتُه الأرضُ؛ لاستقرارِ أعضاءِ السجودِ عليه
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (812)، ومسلم (490) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه أحمد (30/ 165)(18227)، وأبو داود (659)، وضعفه الألباني.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(1/ 598).
فَصْلٌ في صلاةِ المُسَافِرِ
قصرُ الصَّلاة الرُّباعيَّةِ
(فصلٌ في صلاةِ المسافرِ)
وهو (قصرُ الصَّلاةِ الرُّباعيةِ) أي: فعلُها في السفرِ ركعتين في الجملةِ، أمرٌ مجمعٌ عليه، لا نزاعَ فيه، حتى أنْ من العلماءِ مَنْ يوجبُه، وسندُ الإجماعِ: قولُ اللهِ تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّساء: 101] الآية. وما تواترَ من الأخبارِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقصرُ حاجًّا، ومعتمرًا، وغازيًا. وكذلك أصحابُه من بعدِه.
وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، فكان لا يزيدُ في السفرِ على ركعتين، وأبو بكرٍ، وعمرٌ، وعثمانُ رضي الله عنهم كذلك. متفقٌ عليه
(2)
.
فإنْ قيلَ: فظاهرُ الآيةِ الكريمةِ: التقييدُ بالخوفِ من الكفارِ.
قيل: قدْ قال أبو العباسِ رحمه الله: إنَّ القصرَ قصرانِ؛ قصرٌ مطلقٌ، وقصرٌ مقيدٌ. فالمطلقُ: ما اجتمعَ فيه قصرُ الأفعالِ وقصرُ العدد، كصلاةِ الخوفِ حيث كان مسافرًا، فإنه يجتمعُ فيه القصران؛ قصرُ العددِ، وقَصرُ العملِ، فإنَّه يرتكبُ فيها أمورٌ لا تجوزُ في صلاةِ الأمنِ، والَايةُ وردتْ على هذا، وما عدا هذا فهو قصرٌ مقيَّدٌ،
(1)
سقط: "وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم " من الأصل. وانظر "شرح الزركشي"(2/ 135).
(2)
أخرجه البخاري (1102)، ومسلم (689).
أفضلُ لِمَنْ نَوَى سفَرًا مباحًا
كالمسافرِ فقط يقصرُ العددَ، والخائفِ فقط يقصرُ العملَ.
وهذا توجيهٌ حسَنٌ في الآيةِ الكريمةِ. لكنْ يردُ عليه ما روي عن يعلى بنِ أميةَ قال: قلتُ لعمرَ بن الخطابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّساء: 101] فقدْ أمِنَ الناسُ؟ فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكمْ، فاقبلُوا صدقتَهُ". رواه الجماعةُ
(1)
إلا البخاريَّ. فظاهرُ ما فهمِهُ عمرُ ويعلى: تقيدُ قصرِ العددِ بالخوفِ. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أقرَّهُما على ذلك، وبيَّن لهما أنَّ جوازَ القصرِ من غيرِ شرطِ الخوفِ صدقةٌ من اللهِ عليهم
(2)
(أفضلُ) من الإتمامِ، نصًّا؛ لأنَّه عليه السلام وخلفاءَه داوموا عليه. وروى أحمدُ
(3)
عن عمرَ: "إنَّ اللهَ يحبُّ أنْ تُؤتى رخصُه، كما يكرَه أنْ تُؤتي معصيتُه". (لمَنْ نَوى سفرًا مباحًا) أي: ليس حرامًا ولا مكروهًا. واجبًا كان، كحجٍّ وجهادٍ متعيِّنَين، أو مسنونًا، كزيارةِ رحمٍ، أو مُستَوي الطَّرفين، كتجارةٍ.
والمعتبرُ: نيَّةُ السفرِ المذكورِ، لا حقيقتُه. فلو نواه، ثمَّ رجعَ قبلَ استكمالِ المدَّةِ، وكان قدْ قصرَ، فلا إعادةَ، ولو لم ينو لم يقصرُ، ولو جاوزَ المسافةَ، كمَنْ خرجَ في طلبِ ضالةٍ، أو آبقٍ، وجاوزَ ستَّةَ عشرَ فرسخًا، لم يجزْ له القصرُ حتى
(1)
أخرجه مسلم (686)، وأبو داود (1201)، والترمذي (3034)، والنسائي (1433)، وابن ماجه (1065).
(2)
انظر "شرح الزركشي"(2/ 135، 136).
(3)
أخرجه أحمد (10/ 107)(5866) من حديث ابن عمر. وصححه الألباني في "الإرواء"(564).
لمحلٍّ معيَّن يبلغُ ستَّةَ عشَرَ فرسَخًا، وهي يَومانِ قاصدَانِ في زمنٍ معتدِلٍ بسيرِ الأثقَالِ، ودَبيبِ الأقدَامِ،
يجدِّدَ نيةَ سفرٍ، مسافةً تبلغُ ستَّةَ عشرَ فرسخًا
(لمحلٍّ معينٍ): خرجَ به: الهائمُ، والسائحُ، والتائِهُ؛ لأنَّ غايةَ سفرِهم غيرُ معلومةٍ. ولأنَّه يُعتبرُ في السفرِ المبيحِ: كونُه منقطعًا، والهائمُ والسائحُ مسافران دائمًا. والتائِهُ: لا يدري ما بينه وبين محلِّه؛ ولأنَّه يُشترطُ لصحةِ القصرِ جهةٌ معيَّنةٌ، وليس ذلك بموجودٍ في الهائمِ، ولا السائحِ، ولا التائِهِ.
(يبلغُ) ذلك المحلُّ (ستَّةَ عشرَ فرسخًا) تقريبًا لا تحديدًا، برًّا أو بحرًا. (وهي) أي: الستَّةَ عشرَ فرسخًا: (يومان قاصِدان) أي: مسيرةُ يومين مُعتدلَين بسيرِ الأثقالِ، ودبيبِ الأقدامِ (في زمنٍ معتدلٍ) أي: معتدلٍ طولًا وقِصَرًا، وليس المرادُ به الحرَّ والبردَ؛ لهذا فسَّره بقولِه:(بسيرِ الأثقالِ، ودبيبِ الأقدامِ) وذلك أربعةُ بُرُدٍ، والبريدُ: أربعةُ فراسخَ. والفرسخُ: ثلاثةُ أميالٍ هاشميَّةٍ، وبأميالِ بني أُميَّةَ: ميلانِ ونصفٌ. والميلُ الهاشميُّ: اثنا عشرَ ألفَ قدمٍ، وهي ستَّةُ آلافِ ذراعٍ، بذراعِ اليدِ. والذراعُ: أربعٌ وعشرون إصْبَعًا معترضةً معتدلةً، كلّ إصبعٍ منها عرضُها ستُّ حبَّاتٍ شعيرٍ، بطونُ بعضِها إلى بُطونِ بعضٍ، عَرضُ كلِّ شَعيرَةٍ لسِتُّ
(1)
شَعَرَاتِ بِرْذَوْنٍ.
قال ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري"
(2)
: الذراعُ الذي ذُكرَ، قد حُرِّرَ بذراعِ الحديدِ المستعملِ الآن في مصرَ والحجازِ، في هذه الأعصارِ
(3)
، ينقصُ عن ذراعِ
(1)
سقطت: "شعيرٍ، بطون بعضها إلى بطون بعض، عرض كل شعيرة ستُّ" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(1/ 601)، "الإنصاف"(5/ 39).
(2)
"فتح الباري"(2/ 661)، وانظر "الإنصاف"(5/ 40).
(3)
في الأصل: "وفي جميعِ الأمصارِ".
إذا فارقَ بُيوتَ قَريته العامِرَةَ.
ولا يُعيدُ مَن قَصَرَ، ثمَّ رجَعَ قبلَ استِكمالِ المسافةِ.
ويلزمُهُ إتمامُ الصلاةِ: إن دخَلَ وقتُها وهو في الحَضَر، أو صلَّى خَلفَ مَنْ يُتِمُّ،
الحديدِ بقدرِ الثُّمُنِ. فعلى هذا: فالميلُ بذراعِ الحديدِ على القولِ المشهورِ: خمسةُ آلافِ ذراع، ومائتانِ وخمسونَ ذراعًا. قال: وهذه فائدةٌ نفيسةٌ، قلَّ مَنْ نبِّه عليها.
واختار الشيخُ تقيُّ الدينِ جوازَ القصرِ في مسافةِ فرسخٍ.
(إذا فارقَ بيوتَ قريتِه العامرةَ) مسافرًا، داخلَ السورِ أو خارجَه، ولِيَها بيوتٌ خاربةٌ أو البريَّةُ. فإنْ ولِيَها بيوتٌ خاربةٌ، ثمَّ بيوتٌ عامرةٌ، فلا بدَّ من مفارقةِ العامرة التي تلي الخاربة، وإن لم يل الخرابَ بيوتٌ عامرةٌ، لكن جُعِلَ الخرابُ مزارِعَ
(1)
وبساتينَ يسكنُهُ أهلُه في فصل من الفصولِ للنزهةِ. فقال أبو المعالي: لا يقْصرُ حتى يفارقَها
(ولا يعيدُ مَنْ قصرَ) بضرطِه، (ثمَّ رجعَ قبلَ استكمالِ المسافةِ) لما تقدَّمَ: أنَّ المعتبرَ نيَّةُ المسافةِ لا حقيقتُها
(ويلزمُه إتمامُ الصَّلاةِ: إنْ دخلَ وقنُها وهو في الحضَرِ) لوجوبِها عليه تامَّةً بدخولِ وقتِها
(أو صلَّى خلفَ مَنْ يُتمُّ) لزِمَه أنْ يتمَّ، نصًّا؛ لما روي عن ابن عباس: تلك السُّنَّةُ
(2)
. وسواءٌ ائتَمُّ به في كلِّ الصَّلاةِ أو بعضِها، علِمَه مقيمًا أو لا. ويشملُ
(1)
في الأصل: "مزراع".
(2)
أخرجه أحمد (3/ 357)(1862).
أو لم ينوِ القصرَ عندَ الإحرَامِ، أو نوى إقامةً مطلَقةً، أو أكثرَ من أربعةِ أيَّامٍ، أو أقامَ لحاجةٍ وظَنَّ أن لا تنقَضِيَ إلا بعدَ الأربعةِ، أو أخَّر الصَّلاةَ] بلا عُذرٍ حتَّى ضاقَ وقتُها عَنهَا.
كلامُه: لو اقتدى بمسافرٍ، فاستخلفَ لعذرٍ مُقيمًا، لزِمَ المأمومَ الإتمامُ دونَ الإمامِ
(1)
(أو لمْ ينوِ القصرَ عندَ الإحرامِ) لزِمَه أنْ يُتمَّ؛ لأنَّه الأصلُ، فإطلاقُ النيَّةِ ينصرفُ إليه.
(أو نوى إقامةً مطلقةً) أي: غيرَ مقيَّدةٍ بزمنٍ، ولو في نحوِ مَفازةٍ، لزِمَه أنْ يتمَّ؛ لانقطاعِ السفرِ المبيحِ للقصرِ
(أو) نوى إقامةً ببلدٍ أو مفازة (أكثرَ من أربعةِ أيامِ) لزِمَه أنْ يتمَّ، وإلَّا فله القصرُ؛ لأنَّ الذي تحقَّقَ أنه عليه السلام، أقامَ بمكةَ أربعةَ أيامَ؛ لأنَّه كان حاجًّا، ودخلَ مكةَ صبيحةَ رابعةِ ذي الحجَّةِ. والحاجُّ لا يخرجُ قبلَ يومِ الترويةِ. قال الأثرمُ: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ يذكرُ حديثَ أنسٍ. أي: قولَه: أقمنا بمكَّةَ عشرًا نقصرُ الصَّلاةَ. متفقٌ عليه
(2)
. ويقولُ -أي أحمدُ-: هو كلامٌ ليس يفقهُهُ كلُّ أحدٍ. أي: لأنَّه حَسَبَ مُقامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكَّةَ ومنًى. ويُحسبُ يومُ الدخولِ ويومُ الخروجِ من المدَّةِ
(أو أقامَ لحاجةٍ، وظنَّ أنْ لا تنقَضي) الحاجةُ (إلَّا بعد الأربعةِ) أيامٍ، لزِمَه أنْ يتمَّ؛ لأنَّه في معنى نيةِ إقامتِها. وإنْ ظنَّ انقضاءَها في الأربعةِ أيامٍ، قصرَ
(أو أخَّرَ الصَّلاةَ بلا عُذرٍ) من نحوِ نومٍ (حتى ضاقَ وقتُها عنها) أي: عن فعلِها كلِّها فيه مقصورةً، لزِمَه أنْ يتمَّ؛ لأنَّه صارَ عاصيًا بتأخيرِها متعمِّدِا بلا عذرٍ
(1)
في الأصل: "الأم". وأنظر "دقائق أولي النهى"(1/ 606).
(2)
أخرجه البخاري (4297)، ومسلم (693).
ويقصُرُ إن أقامَ لحَاجة بلا نِيَّةِ الإقامةِ فوقَ أربعةٍ، ولا يَدرِي متَى تنقَضِي، أو حُبِسَ ظُلمًا أو بمَطَرٍ، ولو أقامَ سِنينَ.
(ويقصرُ إنْ أقامَ لحاجةٍ بلا نيَّةِ الإقامةِ فوقَ أربعةِ) أيامٍ (ولا يَدري متى تنقَضي) فله القصرُ، غلبَ على ظنِّه كثرتُه أو قِلَّتُه. قال ابنُ المنذرِ: أجمعوا على أنَّ المسافرَ يقصرُ ما لمْ يُجمِعْ إقامةً. انتهى. ولأنه عليه السلام أقامَ
(1)
بتبوكَ عشرين يومًا يقصُرُ الصَّلاةَ. رواه أحمدُ
(2)
. ولما فتحَ عليه السلام مكَّةَ، أقامَ بها تسعةَ عشرَ يومًا، يصلِّي ركعتين. رواه البخاريُّ
(3)
.
(أو حُبِسَ ظُلمًا، أو) حُبِسَ (بمطرِ) ونحوِه، كثلجٍ وبَرَدٍ، فله القصرُ (ولو أقامَ سنين) قال ابنُ المنذرِ: أجمعوا على أنَّ المسافرَ يقصرُ ما لمْ يُجمِعْ إقامةً، ولو أتى عليه سنون. وروى الأثرمُ عن ابنِ عمرَ: أنَّه أقامَ بأذربيجانَ ستَّةَ أشهرٍ، يقصرُ الصَّلاةَ. وقدْ حالَ الثلجُ بينَهُ وبينَ الدخولِ
(4)
-فإنْ حُبِسَ بحقٍّ لمْ يقصرُ- وعن عليٍّ قال: يقصرُ الذي يقولُ: أَخرُجُ اليومَ، أخرجُ غدًا، شهرًا
(5)
. وعن سعدٍ، أنَّه أقام في بعضِ قرى الشامِ أربعين يومًا يقصرُ الصَّلاةَ
(6)
. رواه سعيدٌ.
فوائدٌ:
الأولى: عُلِمَ ممَّا تقدمَ أنَّ شروطَ القصرِ اثنا عشرَ: أحدُها: نيةُ السفرِ، وكونُه
(1)
سقطت: "أقام" من الأصل.
(2)
أخرجه أحمد (22/ 44)(14139) من حديث جابر.
(3)
أخرجه البخاري (4298) من حديث ابن عباس.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (2/ 532).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (2/ 532) بنحوه.
(6)
أخرجه عبد الرزاق (2/ 535) بنحوه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مباحًا، أو كونُ المباحِ أكثرَ قصدِه، وبلوُغه ستَّةَ عشرَ فرسخًا تقريبًا، وأنْ يفارقَ بيوتَ قريته العامرةَ، أو يفارقَ ما هو نحوها، وكونُه منقطعًا، ونيةُ المسافرِ، ونيةُ القصرِ عندَ افتتاحِ الصَّلاةِ، وقصدُ جهةٍ معينةٍ، وأنْ لا ينويَ العودَ قبلَ بلوغِ المسافةِ، وأنْ يدخلَ وقتُ الصَّلاةِ على سفرٍ، أو أنْ يصلِّيَهَا كلَّها فيه، وأنْ لا ينويَ إقامةً مطلقةً، ولا أكثرَ من عشرينَ صلاةً.
الثانيةُ: لو قصرَ الصَّلاتين في السفرِ في وقتِ أُولاهُما
(1)
، ثمَّ قدمَ قبل دخولِ وقتِ الثانيةِ، أجزأَه.
الثالثةُ: لا ينتهي حكمُ السفرِ ببلوغِ البلدِ الذي يقصِدُه، إذا لمْ ينوِ الإقامةَ.
الرابعةُ: كلُّ مَنْ جازَ له القصرُ، جازَ له الفطرُ، ولا عكسَ، كالمريضِ ونحوِه. الخامسةُ: لو بانَ الإمامُ محدثًا قبلَ سلامِه، فهلْ يقصرُ المأمومُ، أو يتمُّ؟ فيه وجهانِ. وفي "الرعاية": فله القصرُ، في الأصحِّ. وقال ابنُ نصرِ اللهِ: ينبغي أنْ لا يجوزَ القصرُ، إلا إذا لمْ يكنْ قدْ نوى الإتمامَ، بأنْ نوى الائتمامَ به خاصةً دونَ الإتمامِ. فإنْ نوى الإتمامَ معه، لزِمَه الإتمامُ. وهذا متعينٌ، وهو مرادُهُم. ولو أحدثَ إمامُه قبلَ علمِه أنَّه مقيمٌ، فلَهُ القصرُ. وإنْ علِمَ أنَّه مقيمٌ ثمَّ أحدَثَ، أتمَّ. ولو بانَ محدِثًا مقيمًا معًا، قصرَ.
السادسةُ: لو نوى إقامةً بشرطٍ، مثلَ أنْ يقولَ: إنْ لقيتُ فلانًا في هذا البلدِ، أقمتُ فيه، وإلَّا فلا. لمْ يَصرْ
(2)
مقيمًا بذلك. ثمَّ إنْ لم يلْقَه فلا كلامَ، وإنْ لقيَه صارَ
(1)
في الأصل: "أولهما".
(2)
في الأصل: "يقصر".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقيمًا إذا لمْ يفسخْ نيتَه الأُولى، فإنْ فسخها
(1)
قبل لقائِه، أو حالَ لقائِه، قصرَ، وإنْ فسخَها بعد لقائِه، فكمَنْ نوى الإقامةَ المانعةَ من القصرِ ثمَّ نوى السفرَ قبلَ تمامِ الإقامةِ، فلا يجوزُ له القصرُ حتى يشرعَ في السفرِ، ويكون كالمُبتدِئ له، كما لو تصَّسا مدَّةُ
(2)
الإقامةُ.
السابعةُ: إذا انتقلَ مسافرٌ من نيةِ القصرِ إلى نيةِ الإتمامِ في أثناءِ صلاتِه، جازَ.
الثامنةُ: الرُّخصُ التي تختصُّ بالسفرِ الطويلِ أربعةٌ: القصرُ، والفطرُ، والمسحُ ثلاثًا، والجمعُ.
التاسعةُ: أهلُ مكَّةَ ومَنْ حولَهم إذا ذهبوا إلى منًى وعرفةَ ومزدلفةَ، فلا يجوزُ لهم القصرُ، أمَّا مَنْ خرجَ إلى الحجِّ، ويريدُ أنْ يحجَّ ولا يرجعَ إلى مكَّةَ يقيمَ بها، فهذا يجوزُ له القصرُ، فيما ذُكرَ.
(1)
في الأصل: "فسخا".
(2)
في الأصل: "هذه".
فَصْلٌ في الجمع
يُباحُ بسفرِ القَصرِ الجَمعُ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ، والعِشاءَينِ، بوَقتِ إحدَاهُما.
ويُباحُ: لمُقيمٍ مَريضٍ يلحَقُهُ بتركِهِ مشقَّةٌ،
(فصلٌ: في الجمعِ)
بين الصَّلاتين
(يُباحُ) فلا يُكره، ولا يستحبُّ (بسفرِ القصرِ) نصًّا؛ لحديثِ معاذٍ مرفوعًا: كان في غزوةِ تبوكَ إذا ارتحلَ قبلَ زيغِ الشمسِ، أخَّرَ الظهرَ، حتى يجمعَها إلى العصرِ يصليهما جميعًا. وإذا ارتحلَ بعد زيغِ الشمسِ، صلَّى الظهرَ والعصرَ جميعًا، ثمَّ سارَ
(1)
. وكان يفعلُ مثلَ ذلك في المغربِ والعشاءِ. رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(2)
، وقال: حسنٌ غريبٌ. وعن أنسٍ معناه، متفقٌ عليه
(3)
. وسواءٌ كان نازلًا أو سائرًا في الجَمعَين.
(الجمعُ بين الظهرِ والعصرِ، والعشاءين) أي: المغربِ والعشاءِ (بوقتِ إحداهما) أي: إحدَى الصَّلاتين.
(ويُباحُ لمقيمٍ مريضٍ يلحَقُه بتركِه مشقَّةٌ) لحديث ابنِ عباسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جمعَ من غيرِ خوفٍ، ولا مطرٍ. وفي روايةٍ: من غيرِ خوفٍ ولا سفرٍ. رواهما
(1)
في الأصل: "سافر".
(2)
أخرجه أبو داودَ (1222)، والترمذيُّ (553)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (1111)، ومسلم (704).
ولمُرضِعٍ لمشَقَّةِ كَثرةِ النَّجاسةِ، ولعاجزٍ عن الطَّهارةِ لكُلِّ صلاةٍ، ولعُذرٍ أو شغْلٍ يُبيحُ تركَ الجُمعَةِ والجَماعَةِ.
مسلمٌ
(1)
. ولا عذرَ بعدَ ذلك إلَّا المرضُ
(ولمرضعٍ لمشقَّةِ كثرةِ النجاسةِ) نصًّا، كمريضٍ
(2)
.
(ولعاجزٍ عن الطَّهارةِ) بماءٍ أو تيمَّمٍ (لكلِّ صلاةٍ) لأنَّه في معنى المريضِ والمسافرِ.
(و) يُباحُ (لعذرٍ) يبيحُ تركَ جمعةٍ وجماعةٍ، كخوفٍ على نفسِه، أو مالِه، أو حرمتِه.
الثامنةُ من الأعذارِ المبيحةِ للجمعِ: (أو شُغلٍ يبيحُ تركَ الجمعةِ والجماعةِ) كمَنْ يخافُ بتركِه ضررًا في معيشةٍ يحتاجُها، فيباحُ الجمعُ -لما تقدَّمَ- بين الظهرِ والعصرِ، وبين المغربِ والعشاءِ.
قال في "الإنصاف"
(3)
: صرَّحَ في "الوجيز" بجوازِ الجمعِ لمَنْ له شغلٌ أو عذرٌ يُبيحُ تركَ الجمعةِ والجماعةِ، عدا
(4)
النعاسَ ونحوَه. وجزمَ في "التسهيل" بالجواز
(5)
في كلِّ ما يبيحُ تركَ الجمعةِ. واختارَ الشيخُ تقيُّ الدينِ جوازَ الجمعِ للطبَّاخِ والخبَّازِ ونحوِهما ممَّنْ يخشى فسادَ مالِه ومالِ غيرِه بتركِ الجمعِ
(6)
(1)
أخرجه مسلم (705).
(2)
في الأصل: "بماءٍ أو تيمُّمٍ" وقد كشط عليها.
(3)
"الإنصاف"(5/ 91).
(4)
سقطت: "عدا" من الأصل.
(5)
سقطت: "بالجواز" من الأصل.
(6)
انظر: "الإنصاف"(5/ 91).
ويُختَصُّ بجَوازِ جَمعِ العِشاءَينِ -ولو صلَّى ببيتِه- ثَلجٌ، وجَليدٌ، ووَحَلٌ، ورِيحٌ شَديدَةٌ بارِدةٌ، ومَطَرٌ يَبُلُّ الثيابَ، وتوجَدُ معه مشقَّةٌ.
(ويختصُّ بجوازِ جَمعِ العِشَاءَينِ، ولو صلَّى ببيتِه) خلافًا لمالكٍ، أو بمسجدٍ طريقُه تحتَ ساباطٍ، ونحوِه، كمُجاورٍ بالمسجدِ. فالمعتبرُ: وجودُ المشقَّةِ في الجملةِ، لا لكلِّ فردٍ من المصلِّين؛ لأنَّ الرُّخصةَ العامَّةَ يستوي فيها حالُ وجودِ المشقَّةِ وعدمِها، كالسفرِ:
(ثلجٌ، وجليدٌ) وهو ما سقط على الأرض من النَّدا، فيجمُدُ
(ووحَلٌ، وريحٌ شديدةٌ باردةٌ) ظاهرُه: وإنْ لمْ تكنِ الليلةُ مُظلمةً. ويُعلمُ ممَّا تقدمَ، كذلك لو كانتْ شديدةً بليلةٍ مظلمةٍ، وإنْ لمْ تكنْ باردةً
(ومطرٌ يَبُلُّ الثيابَ، وتُوجدُ معه مشقَّةٌ) لأنَّ السنَّةَ لم تردْ بالجمعِ لذلك إلَّا في المغربِ والعشاءِ. رواه الأثرمُ. وروى النجَّادُ
(1)
بإسنادِه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جمعَ بين المغربِ والعشاءِ في ليلةٍ مطيرةٍ
(2)
. وفعلَها أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ. وأمرَ ابنُ عمرَ مناديَه في ليلةٍ باردةٍ، فنادَى: الصَّلاةُ في الرِّحالِ
(3)
. والوَحَلُ أعظمُ مشقَّةً من البَرْدِ، فيكونُ أوْلى. ويدلُّ عليه حديثُ ابنِ عباسٍ: جمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ من غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ
(4)
. ولا وجهَ يُحملُ عليه، مع عدمِ المرضِ إلَّا الوَحَلُ.
والمرادُ: وجودُ المشقَّةِ في الجملةِ، لا لكلِّ فردٍ من المصلِّين.
(1)
في الأصل: "البخاري". وهو خطأ، والمثبت من "دقائق أولي النهى" 1/ 613.
(2)
قال الألباني في "الإرواء"(581): ضعيف جدًا. وقد وقفتُ على إسناده، رواه الضياء المقدسي في "المنتقى من مسموعاته بمرو"(ق 37/ 2).
(3)
أخرجه مسلم (697).
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
والأفضلُ فِعلُ الأرفَقِ من تَقديِم الجَمعِ، أو تأخِيرِه.
فإن جَمَعَ تقديمًا اشتُرِطَ لصحِة الجمع: نيتُهُ عندَ إحرامِ الأُولى،
ومفهومُ كلامِه: أنَّه إنْ لمْ يَبُلَّ الثيابَ، لا يجوزُ الجَمعُ. وهو صحيحٌ، وهو المذهبُ، وعليه جمهورُ الأصحابِ. وقيل: يجوزُ الجَمعُ للطَّلِّ. قال في "الإنصاف": قلتُ: وهو بعيدٌ. وأطلقَهما ابنُ تميمٍ
(1)
.
فعلى هذا: لا يجوزُ الجَمعُ لعذرٍ من الأعذارِ سوى ما تقدَّمَ، على الصحيحِ من المذهبِ، وعليه الأصحابُ. واختارَ الشيخُ تقيُّ الدين جوازَ الجمعِ، لتحصيلِ الجماعةِ، وللصَّلاةِ
(2)
في الحمَّامِ مع جوازِها فيه؛ خوفَ فوتِ الوقتِ، ولخوفٍ يخرجُ في تركِه أيُّ مشقَّةٍ
(3)
.
(والأفضلُ) لمَنْ يجَمعُ (فعلُ الأرفقِ به من تقديمِ الجَمعِ) أي: تقديمِ العصرِ إلى وقتِ الظهرِ، أو العشاءِ وقتَ المغربِ (أو تأخيرِه) أي: تأخيرِ الظهرِ إلى وقتِ العصرِ، أو المغربِ إلى العشاءِ، سوى جَمعِ عرفةَ، فالتقديمُ أفضلُ مطلقًا، وبمزدلفةَ التأخيرُ أفضلُ مطلقًا؛ لفعلِه عليه السلام.
فإن استويا -التقديمُ والتأخيرُ- في الأرفقيةِ، فتأخيرٌ أفضلُ؛ لأنَّه أحوطُ، وخروجًا من الخلافِ
(فإنْ جمعَ تقديمًا اشتُرطَ لصحَّةِ الجمع
(4)
) أربعةُ شروطٍ:
أحدُها: (نيَّتُه) أي: الجَمعِ (عند إحرامِ الأولى) ظهرًا كانتْ أو مغربًا عند
(1)
"الإنصاف"(5/ 92).
(2)
في الأصل: "والصلاة".
(3)
انظر "الإنصاف"(5/ 98).
(4)
في الأصل: "اشترط لصحته".
وأن لا يفرِّقَ بينهُمَا بنحوِ نافلةٍ، بل بقَدرِ إقامةٍ، ووُضُوءٍ خَفيفٍ، وأن يُوجَدَ العُذرُ عندَ افتتاحِهِمَا، وأن يستَمِرَّ إلى فراغِ الثانِيَةِ.
وإن جَمَعَ تأخيرًا اشتُرِطَ: نيةُ الجَمعِ بوقتِ الأُولى، قبلَ أنْ يضِيقَ وقتها عنها،
إحرامِها؛ لأنَّه عملٌ، فيدخلُ في عمومِ قولِه عليه السلام:"إنَّما الأعمالُ بالنياتِ". وكلُّ عبادةٍ اشتُرطتْ فيها النيةُ، اعتُبرتْ في أوَّلِها، كنيةِ الصَّلاةِ. ولا تُشترطُ نيةُ الجَمعِ عند إحرامِ الثانيةِ.
(و) الثاني: (أنْ لا يفرِّقَ بينهما) أي: المجموعتَين (بنحوِ نافلةٍ) فيبطلُ الجَمعُ بصلاةِ نافلةٍ بينهما. ولا يضرُّ تفريقٌ يسيرٌ، وقدْ أشارَ إليه بقولِه:(بلْ بقدرِ إقامةٍ، ووضوءٍ خفيفٍ) لأنَّ معنى الجَمعِ: المقارنةُ والمتابعةُ. ولا يحصلُ مع تفريقٍ بأكثرَ من ذلك، ولا يضرُّ كلامٌ يسيرٌ لا يزيدُ على ذلك من تكبيرِ عيدٍ أو غيرِه. ومفهومُه: لو أطالَ الوضوءَ، بطلَ الجمعُ.
(و) الثالثُ: (أنْ يوجدَ العذرُ عند افتتاحِهِما) أي: المجموعَتَين، وعندَ سلامِ الأُولى منهما؛ لأنَّ افتتاحَ الأُولى موضعُ النيَّةِ، وسلامَها وافتتاحَ الثانيةِ موضعُ الجَمعِ.
(و) الرابعُ: (أن يستمرَّ) العذرُ (إلى فراغِ الثانيةِ) من المجموعتين
(وإنْ جمعَ) بوقتِ ثانيةٍ (تأخيرًا) أي: جمعَ تأخيرٍ (اشتُرِطَ) له شرطان:
أحدُهما: (نيَّةُ الجمعِ بوقتِ الأولى) للمجموعتين
(1)
، مع وجودِ مُبيحِه (قبلَ أنْ يضيقَ وقتُها) أي: وقتُ الأولى (عنها) أي: عن فعلِها كلِّها، فإنْ أخَّرَها عن وقتِها بلا نيَّةٍ، صارتْ قضاءً لا جمعًا. ويأثمُ. قال المصِّنفُ في "غاية المنتهى"
(2)
:
(1)
في الأصل: "المجموعتين".
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 235).
وبقاءُ العُذرِ إلى دُخولِ وقتِ الثانِيَةِ لا غيرُ.
ولا يُشتَرطُ للصِّحَّةِ اتِّحادُ الإمامِ والمأمُومِ، فلو صلَّاهُمَا خَلفَ إمامَينِ، أو بمأمُومٍ الأُولَى، وبآخَرَ الثانيةَ، أو خَلْفَ من لم يَجمَع، أو إحداهُما مُنفَرِدًا والأخَرى جماعةً، أو صَلَّى بمَن لَمْ يَجمَع، صَحَّ.
ويتجه: احتمالٌ غيرَ نحوِ نائمٍ.
(و) الشرطُ الثاني: (بقاءُ العذرِ) أي: اشرارُه (إلى دخولِ وقتِ الثانيةِ) لأنَّ المبيحَ للجمعِ العذرُ، فإذا لمْ يستمرَّ إلى وقتِ الثانيةِ، زالَ المقتَضي للجمعِ، فامتنعَ، كمريضٍ برئَ، ومسافرٍ قَدِمَ.
و (لا) يشترطُ (غيرُ) ما مرَّ من الشروطِ. فلا يشترطُ نيَّةٌ عند الإحرامِ، ولا الموالاةُ بينهما، فلا بأسَ بالتطوعِ بينهما، ولا استمرارُه في وقتِ ثانيةٍ؛ لأنَّهما صارتا واجبتَين في ذمَّتِه، فلا بدَّ من فعلِهما، ولا اتِّحادُ إمامٍ أو مأمومٍ. وإليه أشارَ بقولِه:
(ولا يشترطُ للصحةِ) أي: صحةِ الجمع (اتحادُ الإمامِ والمأمومِ، فلو صلَّاهما) أي: المجموعتين (خلفَ إمامين) كلَّ واحدةٍ خلفَ إمامٍ، صحَّ.
(أو) صلَّى إمامًا (بمأمومٍ الأُولى، و) صلَّى (بـ) مأمومٍ (آخَرَ الثانيةَ) صحَّ.
(أو) صلَّاهما (خلْفَ مَنْ لمْ يجمعْ) صحَّ
(أو) صلَّى (إحداهما منفردًا، و) صلَّى (الأخرى جماعةً) صحَّ
(أو صلى
(1)
) إمامًا (بمَنْ لمْ يجمعْ، صحَّ) لعدمِ المانعِ.
ومتى ذكرَ أنَّه نسِيَ من الأُولى ركنًا، أو من أحدِهما ونسِيَها، أعادَهما في الوقتِ، أو قضاهما بعدَه مرتِّبًا، وإنْ بانَ أنَّه من الثانيةِ، أعادَها قريبًا، بحيثُ لا تفوتُ الموالاةُ.
(1)
في الأصل: "صلاهما".
فَصْلٌ في صَلاةِ الخوفِ
تَصِحُّ صلاةُ الخوفِ - إذا كانَ القتالُ مباحًا - حَضَرًا، وسَفَرًا.
ولا تأثيرَ للخوفِ في تغيِيِر عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلاةِ، بل
(فصلٌ في) صفةِ (صلاةِ الخوفِ) وأحكامِها
ومشروعيتُها بالكتابِ والسنةِ، وتخصيصُه عليه السلام بالخطابِ، لا يقتضي اختصاصَه بالحكمِ؛ لقولِه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وأجمعَ الصَّحابةُ على فعلِها. وصلّاَها عليٌّ، وأبو موسى الأشعريُّ، وحذيفةُ
(1)
.
وأمَّا تركُه لها عليه السلام يومَ الخندقِ، فإمَّا أنَّه
(2)
كان قبلَ نزولِ الآيةِ، أو نسيانًا، أو لأنَّه لمْ يكنْ يومئذٍ قتالٌ يمنعُه من صلاةٍ الأمنِ.
إذا تقررَ هذا: فإنَّما (تصحُّ صلاةُ الخوفِ، إذا كان القتالُ مباحًا) أي: جائزًا، كقتالِ كفارٍ وأهلِ بغيٍّ ومحارِبين، لا يحرُمُ، كقتالِ أهلِ بغيِّ لأهلِ عدلٍ. لأنَّ الصَّلاةَ على غيرِ الهيئةِ المعروفةِ رخصةٌ، فلا تُستباحُ بالمحرَّمِ.
ولا يُشترطُ كونُ ذلك في السفرِ (حضرًا وسفرًا) لأنَّ المبيحَ وجودُ الخوفِ (ولا تأثيرَ للخوفِ في تغييرِ عددِ ركَعَاتِ الصَّلاةِ، بل) يؤثرُ الخوفُ
(1)
أثر عليٍّ: ذكره البيهقي (3/ 252) بصيغة التمريض. وأثر أبي موسى: أخرجه الطبراني (1570)، والبيهقي (3/ 252). وأثر حذيفة: أخرجه أبو داود (1248).
(2)
سقطت: "أنه" من الأصل.
في صِفَتِهَا وبعضِ شُروطِها.
وإذا اشتدَّ الخوفُ، صَلَّوا رِجَالًا ورُكْبانًا، للقِبلَةِ وغَيرِهَا، ولا يَلزمُ افتتاحُهَا إليهَا،
(في صفتِها) وتغييرِ هيئاتِ
(1)
الصَّلاةِ (وبعضِ شروطِها) أي: شروطِ الصَّلاةِ (وإذا اشتدَّ الخوفُ) بأنْ تواصلَ الضربُ والطعنُ، والكرُّ والفرُّ، ولمْ يمكنْ تفريقُ القومِ، ولا صلاتُهم على ما يأتي، وحضرَ وقت الصَّلاةِ، لمْ تُؤَخَّرْ و (صلَّوا) وجوبًا جماعةً (رِجالًا ورُكْبانًا) متوجِّهين (للقبلةِ) إنْ أمكنَ (وغيرِها) أي: غيرِ القبلةِ؛ لقولِه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال ابنُ عمرَ: فإنْ كان خوفٌ أشدَّ من ذلك، صلَّوا رجالًا قيامًا على أقدامِهم، ورُكبانًا، مُستقبلي القبلةِ وغيرِ مستقبليها. متفقٌ عليه
(2)
. زاد البخاريُّ. قال نافعٌ: ما أرى ابنَ عمرَ قال ذلك إلا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ورواه ابنُ ماجه
(3)
مرفوعًا.
ولأنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصحابِه في غيرِ شدَّةِ الخوفِ، وأمرَهُم بالمشي إلى وِجاهِ العدوِّ، وهم في الصَّلاةِ، ثمَّ يعودون لقضاءِ ما بقيَ من صلاتِهم، وهو مشيٌ كثيرٌ، وعملٌ طويلٌ، واستدبارُ القبلةِ، فمعَ شدَّةِ الخوفِ أَوْلى. وهذا هو الصحيحُ من المذهبِ
(4)
(ولا يلزمُ) المصلِّي في هذه الحالةِ (افتتاحُها) أي: الصَّلاةِ (إليها) أي: إلى
(1)
في الأصل: "هيهات".
(2)
أخرجه البخاري (4535)، ومسلم (839).
(3)
أخرجه ابن ماجه (1258)، وصححه الألباني.
(4)
انظر "كشاف القناع"(3/ 314).
ولو أمكَنَ، يُومِئُونَ طَاقَتَهُم.
وكذا في حالةِ الهَرَبِ مِنْ عدُوِّ، أو سَيلٍ أو سَبُعٍ، أو نَارٍ، أو غَرِيمٍ ظالِمٍ، أو خَوفِ فَوتِ وَقتِ الوقُوفِ بعَرفَةَ،
القبلةِ (ولو أمكنَ) المصلِّي ذلك. (يُومِئُونَ) بالركوعِ والسجودِ حسَبَ (طاقتِهم) أي: بقدرِ ما يُطيقون. ويكونُ سجودُهم أخفضَ من ركوعِهم.
(وكذا) أي: وكحالةِ شدَّةِ الخوفِ السابقةِ في فعلِ الصَّلاةِ وحُكمِها: (في حالةِ الهَربِ) المباحِ؛ احترازًا عن الهربِ المحرَّم
(1)
كالعاصي به، فهربُه كمَنْ يهربُ من حقٍّ عليه قادرٌ على وفائِه، وكذا قاطعُ الطريقِ، والسارقُ، فليس لهم أنْ يصلّوها كذلك؛ لأنَّها رخصةٌ
(من عدوٍّ) يَطلبُه، فإنَّ له ذلك. أي: بأنْ يكونَ الكفارُ أكثرَ من مثلي
(2)
المسلمين، وإلا فليس له أنْ يصلِّيَها كذلك
(أو سيلٍ) هربَ منه، (أو) هربَ من (سَبُعِ) بضمِّ الباءِ وسكونِها: حيوانٌ معروفٌ، وقدْ يُطلقُ على كلِّ حيوانٍ مفترسٍ. ولعَلَّه المرادُ هنا.
(أو) هرَبَ من (نارٍ، أو) هربَ من (غريمِ ظالمِ) أي: ربِّ دينٍ يريدُ أنْ يحبسَه وهو معسرٌ. فلو كان بحقِّ وهو قادرٌ على وفَائِه، لَمْ يجزْ
(أو خوف
(3)
فوتِ وقتِ الوقوفِ بعرفةَ) يعني: أنَّه إذا قصدَ المُحْرِمُ عرفاتٍ ليلًا، وبقيَ من وقتِ الوقوفِ مقدارٌ. أمَّا إنْ صلَّاها فيه على الأرضِ، فاتَه الوقوفُ،
(1)
في الأصل: "المحرب".
(2)
سقطت: "مثلي" من الأصل.
(3)
في الأصل: "خاف".
أو خافَ على نفسِهِ، أو أهلِه، أو مالِه، أو ذَبٍّ عن ذلِكَ، وعن نَفسِ غَيرِهِ.
وإنْ خافَ عدوًا إنْ تخلَّفَ عن رُفقَتِه، فصلَّى صلاةَ خائفٍ، ثمَّ بان أمنُ الطريقِ، لم يُعِدْ.
فإنَّه يصلِّيها صلاةَ خائفٍ، وهو ماشٍ؛ حرصًا على إدراكِ الحجِّ في حقِّ المُحْرِمِ؛ لأنَّ
الحج في حقِّ المحرِم
(1)
كالشيءِ الحاصلِ، والفواتَ طارئٌ عليه، ولأنَّ الضررَ الذي يلحقه بفواتِ الحجِّ لا ينقصُ عن الضررِ الحاصلِ من الغريمِ الظالمِ في حقِّ المدِينِ المعسرِ؛ بخوفِه من حبسِه إيَّاه أيَّامًا (أو خافَ على نفسِه، أو) خافَ على (أهلِه) يعني: أنَّ مَنْ خافَ على نفسِه، أو أهلِه (أو مالِه) إنْ تركَ الصَّلاةَ على هيئتِها في شدَّةِ الخوفِ، فإنَّ له أن يصلِّيَ صلاةَ شدَّةِ الخوفِ من أجلِ ذلك؛ لدخولِ ذلك كلِّه في عمومِ قولِه تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 3]، أو خافَ على مالِه كذلك
(أو ذبٍّ عن ذلك) أي: عن نفسِه، أو أهلِه، أو مالِه (وعن نفسِ غيرِه) يعني: أنَّ له أنْ يصلِّيَ صلاةَ شدَّةِ الخوفِ؛ من أجلِ منعِه الصائلَ عن نفسِه، أو أهلِه، أو مالِه، أو نفسِ غيرِه؛ لقتالِ الصائلِ على شيءٍ من ذلك؛ لأنَّ قتالَ الصائلِ على ذلك إمَّا واصما، أو مباحٌ، وكلاهما مبيحٌ للصَّلاةِ على هذه الهيئةِ. فإنْ كانتِ الصَّلاة التي صلَّاها الخائفُ في شدَّةِ الخوفِ لسوادٍ ظنَّه عدوًّا، كأثلٍ وشجرٍ، أو دونَه مانعٌ يمنعُه من مجيئِه إليه، كالبحرِ والنَّارِ والحصنِ، أعادَ الصَّلاةَ التي صلَّاها صلاةَ خائفٍ.
(وإنْ خافَ عدوًا إنْ تخلَّفَ عن رُفقتِه، فصلَّى صلاةَ خائفٍ، ثمَّ بانَ) له (أمنُ الطريقِ) فإنَّه لا إعادةَ عليه، وإليه أشارَ بقولِه:(لمْ يُعِدِ) الصَّلاةَ
(1)
سقطت: "لأنَّ الحج في حقِّ المحرِم" من الأصل. وانظر (كشاف القناع)(3/ 316).
ومن خافَ أو أمِنَ في صلاتِه، انتقلَ وبَنَى.
ولمُصَلٍّ كرٌّ وَفرٌّ لمصلَحَةٍ. ولا تبطُلُ بُطولِه.
وجاز لحاجةٍ حملُ نَجَسٍ، ولا يُعيد.
(ومَنْ خافَ، أو أمِنَ في صلاته، انتقلَ وبَنى) يعني: أنَّ مَنْ دخلَ في صلاةٍ وهو آمِنٌ، ثمَّ طرأ له في أثنائِها خوفٌ، أكملَها على هيئةِ صلاةِ الخوفِ، وبنى على ما مضى منها على هيئةِ صلاةِ الأمنِ، وإنْ دخلَ فيها وهو خائفٌ، ثمَّ أمِنَ فيها، أكملَها على هيئةِ صلاةِ الأمنِ، وبَنى على ما مضَى منها على هيئةِ صلاةِ الخائفِ؛ لأنَّ بناءَه في الصُّورتينِ على صلاةٍ صحيحةٍ، كما لو ابتدأَها صحيحًا فمرِضَ في أثنائِها، أو ابتدأها مريضًا فعُوفي في أثنائِها.
(ولمصلٍّ كرٌّ وفرٌّ لمصلحةٍ) وعندَ الحاجةِ. وكذا التقدُّمُ والتأخرُ، والطعنُ والضربُ (ولا تبطلُ) الصَّلاةُ (بطولِى) بخلافِ فعل لا يتعلَّقُ بالقتالِ، فإنَّ حكمَه فيه حكمُ الأمنِ. وكذا في الكلامِ، فمتى صاحَ فبانَ حرفان، بطلتْ؛ لأنَّه لا حاجةَ إلى الكلامِ في الحربِ، بلْ سكوتُ المقاتلِ أهيبُ في نفوسِ الأقرانِ
(وجازَ لحاجةٍ حملُ نجَسٍ) ولو غيرَ معفوٍّ عنه في غيرِها، من عظمٍ، أو جلدٍ، أو عصبٍ، أو ريشٍ، أو شعرٍ، ونحوِه، كسلاحٍ عليه الدمُ، ولو كان كثيرًا، (ولا يعيدُ) أي: ولا يلزمُه إعادةُ الصَّلاةُ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فصلٌ في صفةِ صلاةِ الخوفِ
قال أحمدُ رضي اللَّه تعالى عنه: صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاةُ الخوفِ من خمسةِ أوجهٍ، أو ستَّةٍ. وقال في روايةٍ أخرى: من ستَّةِ أوجهٍ أو سبعةٍ. قال الأثرمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: تقولُ بالأحاديثِ كلِّها، أمْ تختارُ واحدًا منها؟ قال: أنا أقولُ: مَنْ ذهبَ إليها كلِّها فحسن، وأمَّا حديثُ سهلٍ، فأنا أختارُه. وسيأتي التنبيهُ على علةِ اختيارِه له.
الوجهُ الأوَّلُ: إذا كان العدوُّ جهةَ القبلةِ يراه المسلمون، ولمْ يُخَفْ - بالبناء للمفعول - كمينٌ يأتي من خلفِ المسلمين، صَفَّهم الإمامُ صفَّين فأكثرَ، وأحرَمَ بالجميعِ، فإذا سجدَ الإمامُ، سجدَ معه الصفُّ المقدَّمُ، وحرسَ الصفُّ الآخرُ، حتى يقومَ الإمامُ إلى الركعةِ الثانيةِ، فيسجدُ الصفُّ الذي حرسَ، ويلحقُ الإمامَ.
ثمَّ الأَوْلى في هذا الوجهِ: تأخيرُ الصفِّ المقدَّمِ الذي سجدَ مع الإمامِ، وتقدُّمُ الصفِّ المؤَخَّرِ الذي سجدَ بعد الإمامِ، ولحِقَه.
ثمَّ في الركعةِ الثانيةِ يسجدُ معه الذي حرسَ في الركعةِ الأُولى، ويحرسُ السَّاجدُ معه أولًا، أي: في الركعةِ الأُولى، ثمَّ يلحقُ الإمامَ في التشهدِ، فيسلِّمُ الإمامُ بجميعِهم، أي: جميعِ الصفوفِ. وهذا الوجهُ رواه جابرٌ
(1)
.
الوجهُ الثاني: إذا كان العدوُّ بغيرِ جهةِ القبلةِ، أو بجهةِ القبلةِ ولمْ يرَهُ المسلمون، قسَمَ الإمامُ الجيعقَ طائفتَين، تكفي كلُّ طائفةٍ من الطائفتين العدوَّ.
(1)
أخرجه البخاري (4130)، ومسلم (840).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تكونُ منهما طائفة بحذاءِ العدوِّ؛ تحرسُ المسلمين، وهي - بحذاءِ العدوِّ تحرسُ - مُؤتمَّةٌ، أي: في حكم المؤتمَّةِ به، أي: بالإمام، في كل صلاة الإمام، من أوَّلها إلى آخرِها. فمتى سها الإمامُ في الركعةِ الأُولى، أو فيما بعدَها، فإنَّها تسجدُ معه لسهوِه في ذلك، لا لسهوِهم إنْ سهَوْا معه في شيءٍ من صلاتِهم.
والطائفةُ الأخرى يصلِّي بها ركعةً، وهي - التي يصلِّي بها الركعةَ الأُولى - مؤتمةٌ به فيها، أي: في الركعةِ الأُولى [فقط، فمتى سها فيها فإنها تسجد لسهوه أي: سهو الإمام فيها أي: الركعة الأولى]
(1)
، إذا فرغَتْ ممَّا أتمَّته
(2)
من صلاتِها بعدَ أنْ تُفارقَ الإمامَ.
إذا تقرَّرَ هذا: فإذا صلَّى بإحدَى الطائفتين ركعة ثم استتم قائمًا إلى الركعة الثانية، نوت
(3)
الطائفةُ التي صلَّى بها الركعةَ الأُولى المفارقةَ للإمامِ، وأتمَّتِ الصَّلاةَ منفردةً لنفسِها، وسلَّمتْ، ومضتْ تحرسُ مكانَ الطائفةِ التي كانت تحرسُ أولًا.
ويُبطِلُ صلاةَ الطائفةِ التي صلَّتْ معه الركعةَ الأُولى: مفارقَتُها للإمامِ قبل قيامِه إلى الركعةِ الثانيةِ بلا عذرٍ لها في مفارقتِه.
وحيثُ فارقتْه على أيِّ وجهٍ كان، فإنَّه يطيلُ قراءتَه في الركعةِ الثانيةِ حتى تحضُرَ الطائفةُ الأخرى التي كانتْ تحرسُ، فتصلِّي معه الركعةَ الثانيةَ. وإذا فرغَ من الركعةِ الثانيةِ وجلسَ للتشهدِ انتظرَها، يكورُ التشهُّدَ حتى تأتيَ بركعةٍ، وحتى تتشهدَ،
(1)
سقط ما بين المعكوفين من الأصل. والمثبت من "معونة أولي النهى"(2/ 447).
(2)
في الأصل: "أتمه".
(3)
سقطت: "الطائفتين ركعة ثم استتم قائماً إلى الركعة الثانية، نوت" من الأصل والمثبت من "معونة أولي النهى"(2/ 447).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فيسلِّمُ بها، ولا يسلِّمُ قبلَهم.
وإنْ أحبَّ الإمامُ أنْ يصلِّيَ على هذه الصفةِ مع رؤيةِ العدوِّ من جهةِ القبلةِ، جازَ له ذلك.
وإن انتظرَ الإمامُ الطائفةَ الثانيةَ جالسًا، بلا عذرٍ له في الجلوسِ، وائتمَّتْ به، مع العلمِ ببطلانِ صلاتِه؛ لإتيانِه بجلوسٍ في غيرِ محلِّه من غيرِ عذرٍ، بطلتْ صلاتُهم.
ويجوزُ أنْ تتركَ الطائفةُ الحارسةُ الحراسةَ بلا إذنِ الإمامِ، وتأتي تصلِّي مع الإمامِ لمددٍ تحقَّقتْ غِناءَه عنها، وتصحُّ صلاتُها.
ولو خاطرَ أقلُّ ممَنْ شَرطنا في الطائفةِ التي تحرسُ، وتعمَّدوا الصَّلاةَ على هذه الصفةِ، صحَّتْ.
ويصلِّي الإمامُ المغربَ بطائفةٍ ركعتين، وبالثانيةِ ركعةً، ولا تتشهدُ الطائفةُ الثانيةُ، إذا صلَّى بها الركعةَ الثالثةَ
(1)
معه عقبَها. ويصحُّ عكسُها، يعني: أنْ يصلِّيَ بالطائفةِ الأُولى ركعةً، وبالثانيةِ ركعتين
ويصلِّي الإمامُ الرُّباعيةَ التامَّةَ بكلِّ طائفةٍ ركعتين. ويصح أيضًا أنْ يصلِّيَ بطائفةٍ، أي: الطائفةِ الأُولى، ركعةً واحدةً، وبأخرى ثلاثًا. وتفارقُه الأُولى في المغربِ والرُّباعيةِ، إذا صلَّى بها ركعتين، عندَ فراغِ التشهدِ الأوَّلِ، وينتظرُ الطائفةَ الثانيةَ جالسًا، يكرِّرُ التشهدَ الأوَّلَ إلى أنْ تحضرَ. فإذا أتتْ قامَ؛ لتُدرِكَ معه جميعَ الركعةَ الثالثةَ.
وتتمُّ الطائفةُ الأُولى، التي صلَّتْ معه الركعتين، بالفاتحةِ فقط؛ لأنَّه لا تُستحبُّ
(1)
في الأصل: "الثانية".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قراءةُ السورةِ في ثالثةِ المغربِ. وتتمُّ الطائفةُ الأخرى صلاتَها بسورةٍ معها، أي: معَ الفاتحةِ.
وإنْ فرَّقَهم أربعًا، أي: أربعَ طوائفَ، وصلَّى بهم الرُّباعيةَ تامَّةً، بكلِّ طائفةٍ ركعةً، أو فرَّقَهم ثلاثًا، أي: ثلاثَ فرقٍ، فصلَّى بالأُولى ركعتين، وبالباقيتين ركعةً ركعةً، أو صلَّى بهم المغربَ بكلِّ فرقةٍ ركعةً، صحَّتْ صلاةُ الفِزقتين الأُوليين فقط؛ لأنَّهما ائتمَّا به قبل بطلانِ صلاتِه؛ لمفارقتِهما قبلَ الانتظارِ الثالثِ، وهو المبطلُ؛ لأنَّه لم يرد. لا صلاةُ الإمامِ، فإنَّها لا تصحُّ؛ لأنَّه زادَ انتظارًا ثالثًا لمْ يَرِدْ الشرعُ به، فوجبَ بطلانُها. ولا صلاة الفرقتين الأخريين؛ لأنَّهما ائتمَّا بمَنْ صلاتُه باطلةٌ، إلا إنْ جهِلُوا البطلانَ.
الوجهُ الثالثُ: أنْ يصلِّي الإمامُ بطائفةٍ من الطائفتين ركعةً، والأخرى تحرسُ، ثمَّ تمضي فتحرسُ مكانَ تلك، ثمَّ تأتي التي كانتْ تحرسُ، فيصلِّي بالأخرى ركعةً، ثمَّ تمضي فتحرسُ، ويسلِّمُ الإمامُ وحدَهُ.
ثمَّ تأتي الأُولى، أي: التي صلَّى بها الإمامُ الركعةَ الأُولى، فتتمُّ صلاتَها بقراءةِ سورةٍ بعدَ الفاتحةِ، وتسلِّمُ وتمضي لتحرسَ. ثمَّ تأتي الأخرى، فتفعلُ كذلك، كما فعلتِ الأُولى.
وإنْ أتمَّتْ الصَّلاةَ الطائفةُ الثانيةُ عقبَ مفارقتِها للإمامِ إذا سلَّمَ، ومضتْ، ثمَّ أتتْ الأُولى فأتمَّتْ صلاتَها، كان ذلك
(1)
أَوْلى.
الوجهُ الرابعُ: أنْ يصلِّيَ الإمامُ بكلِّ طائفةٍ من الطائفتين صلاةً كاملةً، ويسلِّمُ
(1)
في الأصل: "كذلك".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بها، أي: بكلِّ طائفةٍ.
الوجهُ الخامسُ: أنْ يصلِّيَ الإمامُ الرّباعيةَ، الجائزُ قصرُها فيه تامَّةً، بكلِّ طائفةٍ ركعتين، بلا قضاءٍ على المأمومين من الطائفتين، فتكونُ له تامَّةً، ولهم مقصورةً.
الوجهُ السادسُ: ومنعَه الأكثرُ من الأصحابِ، وصفتُه: أنْ يصلِّيَ الإمامُ بكلِّ طائفةٍ ركعةً، بلا قضاءٍ على الطائفتين.
والوجهُ السابعُ: صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأصحابِه عامَ نجدٍ؛ على ما خرَّجَه أحمدُ
(1)
من حديثِ أبي هريرةَ؛ وهو: أنْ تقومَ معه طائفةٌ، وطائفةٌ أخرى تجاهَ العدوِّ، وظهرُها إلى القبلةِ، ثمَّ يُحرِمُ، وتُحرِمُ معه الطائفتان، ثمَّ يصلِّي ركعةً هو والذين معه، ثمَّ يقومُ إلى الثانيةِ، ويذهبُ الذين معه إلى وجهِ العدوِّ، وتأتي الأخرى فتركعُ وتسجدُ، ثمَّ يصلِّي بالثانيةِ، ويجلسُ، وتأتي التي تجاهَ العدوِّ، فتركعُ وتسجدُ، ويسلِّمُ بالجميعِ.
وتصحّ الجمعةُ في حالةِ الخوفِ حضرًا، بشرطِ كونِ كلِّ طائفةٍ أربعين رجلًا فأكثرَ، لاشتراطِ الاستيطانِ والعددِ. ويُشترطُ أيضًا: أنْ يُحْرِمَ بمَنْ حضرتْ الخطبةَ، فإنْ أحْرَمَ بالتي لمْ تحضرِ الخطبةَ، لمْ تصحَّ.
ويُسِرَّانِ، أي
(2)
: الطائفتانِ، القراءةَ في القضاءِ؛ لأنَّ كلَّ طائفةٍ تقضي ركعةً، كالمسبوقِ الذي فاتَه من الجمعةِ ركعةٌ. واللَّه أعلم
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (12/ 14)(8260).
(2)
سقطت: "أي" من الأصل.
(3)
انظر "معونة أولي النهى"(2/ 444 - 455).
بابُ صَلاةِ الجُمُعةِ
(بابُ صَلاةِ الجُمُعةِ)
بضمِّ الميمِ، وإسكانِها، وفتحِها. ذكرَهُ الكرمانيُّ. سُمِّيتْ بذلك لجمعِها الجماعاتِ، أو لجمعِ طينِ آدمَ فيها. وقيل: لأنَّ آدمَ جُمِعَ فيها خلقُه. رواه أحمدُ
(1)
من حديثِ أبي هريرةَ. وقيل: لأنَّه جُمِعَ مع حواءَ في الأرضِ فيها. وقيل: لما جُمِعَ فيها من الخيرِ.
قيل: أوَّلُ مَنْ سمَّاه يومَ الجمعةِ: كعبُ بنُ لؤيِّ. واسمُه القديمُ: يومُ العروبةِ.
قيل: سُمِّي بذلك؛ لأنَّ العربَ كانتْ تُعظِّمُه.
والأصلُ في مشروعيتِها: قولُه تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، الآية. وعن أبي جعدٍ الضمريِّ - وكانتْ له صحبةٌ - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. قال:"مَنْ تركَ ثلاثَ جُمَعٍ تهاونًا، طبعَ اللهُ على قلبِه". رواه الخمسةُ
(2)
. وفي "الموطأ"
(3)
عن ابنِ مسعودٍ - قال مالكٌ: لا أدري أعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا- نحوُه. وعن الحكمِ بنِ مينا أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ وأبا هريرةَ حدَّثاه: أنَّهما سمِعا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ على منبرِه: "لينتهينَّ أقوامٌ عن ودَعِهِمُ الجُمَعاتِ، أو
(1)
أخرجه أحمد (13/ 466)(8102)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(430).
(2)
أخرجه أحمد (24/ 255)(15498)، وأبو داود (1054)، والترمذي (500)، والنسائي (1369)، وابن ماجه (1125) قال الألباني: حسن صحيح.
(3)
أخرجه مالك (1/ 111) عن صفوان بن سليم، ليس عن ابن مسعود.
تجِبُ على كلِّ ذكرٍ مُسلِمٍ مُكلَّفٍ حُرِّ، لا عُذرَ لهُ.
وكذا على مُسافرٍ لا يُباحُ له القَصرُ
ليختمنَّ اللَّهُ على قلوبهم، ثمَّ ليكوننَّ من الغافلين". وعن صفوانَ بنِ سُليمٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لقومٍ يتخلَّفون عن الجمعةِ:"لقدْ هممتُ أنْ آمُرَ رجلًا يصلِّي بالنَّاسِ، ثمَّ أحرِّقَ على رجالٍ يتخلَّفون عن الجُمعةِ بيوتَهم". رواهما مسلمٌ
(1)
.
وفُرِضتْ بمكَّةَ، ولم يتمكن المسلمون من فعلها، وهو أفضلُ أيامِ الأسبوعِ. قالَهُ في "المبدع"
(2)
.
(تجبُ) الجُمعةُ وجوبَ عينٍ (على كلِّ ذكرٍ) حكَاهُ ابنُ المنذرِ إجماعًا. (مسلمِ مكلَّفٍ) لأنَّ الإسلامَ والعقلَ شرطانِ للتكليفِ وصحةِ العبادةِ، فلا تجبُ علىَ مجنونٍ إجماعًا، ولا على صبيٍّ، في الصحيح من المذهبِ، لما روى طارقُ بنُ شهابٍ مرفوعًا:"الجُمعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ في جماعةٍ، إلا أربعةً: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبيٌّ، أو مريضٌ". رواه أبو داود
(3)
، وقال: طارقٌ قدْ رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولمْ يسمعْ منه شيئًا، وإسنادُه ثقاتٌ. قالَهُ في "المبدع"
(4)
. (حرٍّ) لأنَّ العبدَ مملوكُ المنفعةِ، محبوسٌ على سيدِه، أشبَهَ المحبوسَ بالدَّينِ (لا عذرَ له) من نحوِ مرضٍ وغيرِه.
(وكذا) تجبُ (على مسافرٍ) دونَ فرسخٍ (لا يُباحُ له القصرُ) فيه، كالسفرِ
(1)
الأول أخرجه مسلم (865)، والثاني أخرجه مسلم (652) من حديث ابن مسعود، لا صفوان بن سليم.
(2)
"المبدع"(2/ 140).
(3)
أخرجه أبو داود (1069)، وصححه الألباني.
(4)
"المبدع"(2/ 141).
وعلى مُقيمٍ خارجَ البلَدِ، إذا كانَ بينهُما وبينَ الجُمُعةِ - وقتَ فِعلِهَا - فرسَخٌ فأَقلُ.
ولا تجِبُ على من يُباحُ له القصرُ، ولا عَلى عبدٍ، ومُبعَّضٍ، وامرأةٍ.
ومن حضَرَهَا منهم أجزأتهُ، ولم يُحسَب هُوَ ولا مَنْ ليسَ مِنْ أهلِ البلَدِ من الأربَعِينَ. ولا تصِحُّ إمامتُهُم فيهَا.
القريبِ، وكالعاصي بسفرِه.
(و) تجبُ (على مقيمٍ خارجَ البلدِ إذا كان بينهما) أي: المسافرِ والمقيمِ (وبين الجُمعةِ وقتَ فعلِها، فرسخٌ فأقلُّ) فتجبُ عليهما
(ولا تجبُ) الجُمعةُ (على مَنْ يُباحُ له القصرُ) أي: فوقَ فرسخٍ، وليس بعاصٍ، (ولا) تجبُ (على عبدٍ، ومبعَّضٍ، وامرأةٍ. ومَنْ حضرَها) أي: حضرَ الجمعةَ (منهم) أي: من المسافرِ، والعبدِ، والمبعَّضِ، والمرأةِ، والخنثى (أجزأتْه) عن
(1)
صلاةِ الظهرِ (ولمْ يحسبْ هو ولا مَنْ ليس من أهلِ البلدِ من الأربعين) لأنَّهم ليسوا من أهلِ الوجوبِ، وإنما تصحُّ منهم الجمعةُ تبعًا لمَنْ انعقدتْ به (ولا تصحُّ إمامتُهم فيها) أي: في الجمعةِ؛ لئلا يصيرَ التابعُ متبوعًا.
فائدةٌ: ومَنْ سقطتْ عنه الجمعةُ لعذرٍ، كمرضٍ، وخوفٍ، ومطرٍ. وكذا خوفٌ على نفسِه أو مالِه، إذا حضرَها، وجبتْ عليه، وانعقدتْ به، وأمَّ فيها، فلو حضرَها ولمْ يصلِّها، كان عاصيًا؛ لتركِه ما وجبَ عليه
(2)
.
(1)
في الأصل: "على".
(2)
انظر "كشاف القناع"(3/ 327).
وشُرِطَ لصحَّةِ الجُمُعةِ أربعةُ شُروطٍ:
أحدُهما: الوَقْتُ، وهو: مِنْ أوَّلِ وقتِ العيدِ إلى آخِرِ وقتِ الظُّهرِ.
(وشُرِطَ لصحةِ الجمعةِ: أربعةُ شروطٍ):
(أحدُها): أي: شروطِ الجمعةِ: (الوقتُ) لأنَّها مفروضةٌ، فاعتُبِرَ لها الوقتُ، كبقيةِ المفروضاتِ
(1)
(وهو) أي: وقتُ الجمعةِ: (من أوَّلِ وقتِ العيدِ) نصَّ عليه؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ سيدان السلميِّ، قال: شهدتُ الجمعةَ مع أبي بكرٍ، فكانتْ خطبتُه وصلاتُه قبلَ نصفِ النهارِ، ثمَّ شهدتُها مع عمرَ، فكانتْ خطبتُه وصلاتُه إلى أنْ أقولَ: قدْ انتصفَ النهارُ. ثمَّ شهدتُها مع عثمانَ، فكانتْ صلاتُه وخطبتُه إلى أنْ أقولَ: زالَ النهارُ. فما رأيتُ أحدًا عابَ ذلك ولا أنكرَهُ. رواه الدارقطنيُّ، وأحمدُ
(2)
واحتجَّ به. قال: وكذلك رُوي عن ابنِ مسعودٍ، وجابرٍ، وسعيدٍ، ومعاويةَ
(3)
، أنَّهم صلَّوْا قبلَ الزوالِ، ولمْ يُنكرْ، فكان إجماعًا. (إلى آخرِ وقت الظهر
(4)
) إلحاقًا لها بها، لوقوعِها موضعها.
(1)
في الأصل: "المفرضات".
(2)
أخرجه الدارقطنيُّ (2/ 17)، ولم أقف عليه في مسند أحمد. وضعفه الألباني في "الإرواء"(595).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 444، 445) عن ابن مسعود، ومعاوية. وأخرجه مسلم (858) عن جابر يرفعه:"كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنريح نواضحنا. قال حسن: فقلت لجعفر: في أيِّ ساعة تلك؟ قال زوال الشمس".
وأما عن سعيد فلم أقف عليه.
(4)
سقطت: "الظهر" من الأصل.
وتجِبُ بالزَّوالِ، وبعدَهُ أفضَلُ.
(وتجبُ) الجمعةُ (بالزوالِ)؛ لأنَّ ما قبلَه وقتُ جوازٍ (وبعدَهُ) أي: وفعلُها بعدَهُ (أفضلُ) خروجًا من الخلافِ، ولأنَّه الوقتُ الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلِّيها فيه في أكثرِ أوقاتِه
(1)
. والأَوْلى فعلُها عقبَ الزوالِ، صيفًا وشتاءً.
وذكرَ ابنُ عقيل في "عُمَد الأدلة"، و"مفرداته" عن قومٍ من أصحابِنا: يجوزُ بعدَ طلوعِ الفجرِ قبلَ طلوعِ الشمسِ
(2)
.
وآخره: آخرُ وقتِ الظهرِ، لا الغروبُ. قالَهُ في "الفروع"
(3)
.
فإنْ خرجَ وقتُها قبلَ الشروعِ في فعلِها، امتنعتْ الجمعةُ وصلَّوْا ظهرًا. وإنْ خرجَ وقتُ الجمعةِ وقدْ صلَّوْا ركعةً، أتمُّوا جمعةً. وإنْ خرجَ قبلَ أنْ يصلُّوا ركعةً بعدَ التحريمةِ، استأنَفوا ظهرًا. والمذهبُ: يتمُّونُها جُمعةً. ذكرَهُ في "الرعاية" نصًّا.
فلو بقيَ من الوقتِ قدرُ الخطبتينِ والتحريمةِ، لزِمَهم فعلها؛ لأنَّها فرضُ الوقتِ، وقدْ تمكَّنوا منها. أو شكُّوا في خروجِ الوقتِ، لزِمَهم فعلُها؛ لأنَّ الأصلَ بقاؤهُ
(4)
.
ولا يُكره لمَنْ فاتتْه الجمعةُ، أو لمن
(5)
لمْ يكنْ من أهلِ وجوبِها، صلاةُ الظهرِ جماعةً. قال ابنُ تميمٍ وابنُ حمدان في "الرعاية الكبرى": بأذانٍ وإقامةٍ. وهل يُكره
(1)
أخرج البخاري (4168)، ومسلم (860) من حديث سلمة بن الأكوع، قال:"كنا نصلِّي الجمعةَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا زالَت الشمس".
(2)
"الإنصاف"(5/ 188).
(3)
"الفروع"(3/ 147).
(4)
انظر "كشاف القناع"(3/ 334).
(5)
سقطت: "لمن" من الأصل.
الثَّاني: أن تكونَ بقريةٍ، ولو من قَصَبٍ، يستوطِنُهَا أربعونَ، استيطانَ إقامةٍ، لا يَظعنُونَ صَيفًا ولا شِتَاءً. وتصِحُّ فيما قاربَ البُنيانَ من الصَّحراء.
الثالثُ: حضورُ أربعينَ، فإن نقَصُوا قَبلَ إتمامِهَا، استأنَفُوا ظُهرًا.
في موضعٍ صُلِّيتْ فيه الجمعةُ؟ فيه وجهانِ. قال في "تصحيح الفروع"
(1)
: أحدُهما: يُكره، وهو الصحيحُ. قال: والوجهُ الثاني: لا يُكره، وهو ظاهرُ كلامِه في "الرعاية الصغرى" و"الحاوي" وجماعةٍ، وجزمَ به في "مجمع البحرين".
الشرطُ (الثاني) من شروط صحة الجُمعةِ: (أنْ تكونَ بقريةٍ) مبنيةٍ بما جرتْ العادةُ به من حَجَرٍ، أوآجُرٍّ، أو لَبِنٍ، أو خشبٍ، أو غيرِها. مقيمين بها صيفًا وشتاء.
وعُلِمَ منه: أنَّه ليس من شروطِها المِصرُ. وأنَّها لا تصحُّ بغيرِ بناء، كبيوتِ الشعرِ والخيامِ. زاد في "المستوعب" وغيرِه: ولو اتخذَها أوطانًا؛ لأنَّ استيطانَهم في غيرِ بنيانٍ
(2)
.
(ولو من قصبٍ) أو شجرٍ (يستوطنُها أربعون) رجلًا، ولو بالإمامِ، من أهلِ وجوبها (استيطانَ إقامةٍ، لا يظعنون) أي: يرحلون (صيفًا ولا شتاءً. وتصحُّ) الجمعةُ (فيما قاربَ البنيانِ من الصحراءِ) فلا يشترطُ لها البنيانُ.
الشرطُ (الثالثُ) من شروطِ صحةِ الجمعةِ: (حضورُ أربعين) رجلًا، من أهلِ وجوبها (فإنْ نقصوا قبل إتمامِها) أي: الجمعةِ (استأنَفوا ظهرًا) نصًّا؛ لأنَّ العددَ شرطٌ، فاعتبرَ في جميعِها، كالطَّهارةِ. والمسبوقُ إنَّما صحَّتْ منه تبعًا لصحتِها ممَّنْ لمْ يحضر الخطبة تبعًا لمن حضرها.
(1)
"تصحيح الفروع"(3/ 143، 144).
(2)
انظر "كشاف القناع"(3/ 336).
الرابعُ: تَقدَّم خُطبتَين.
مِن شَرطِ صِحَّتِهمَا خمسةُ أشياء:
الوقتُ، والنَّيةُ، ووقوعُهُما حَضَرًا، وحضورُ الأربعين، وأن يكونا ممَّن تصحُّ إمامتُهُ فيهَا.
وأركانُهُما سِتَّةٌ:
الشرط (الرابعُ) من شروطِ صحةِ الجمعةِ: (تقدُّمُ خُطبتين) أي: خطبتانِ متقدِّمتانِ
(من شرطِ
(1)
صحتِهما) أي: الخطبتين: (خمسةُ أشياءَ: الوقتُ) أي: وقتُ الجمعةِ؛ لأنَّهما بدلٌ من ركعتين، والصَّلاةُ لا تصحُّ قبلَ دخولِ وقتِها.
(و) الثاني: (النيةُ) لقولِه عليه الصلاة والسلام: "إنَّما الأعمالُ بالنياتِ".
(و) الشرطُ الثالثُ: (وقوعُهما حضرًا) لا سفرًا.
(و) الرابعُ: (حضورُ الأربعين) فلو نقصَ العددُ، لم تصحَّ.
(و) الشرطُ الخامسُ: (أنْ يكونَا ممَّنْ تصحُّ إمامتُه فيها) أي: في الجمعةِ. فلا تصحُّ خطبةُ مَنْ لا تجبُ عليه بنفسِه، كعبدٍ ومسافرٍ، ولو أقامَ لعِلمٍ أو شغل بلا استيطانٍ؛ لما تقدَّم.
(وأركانُهما) أي: الخطبتين (ستةٌ):
أحدُها: (حمدُ اللهِ) تعالى. أي: قولُ: الحمدُ للهِ. لحديثِ ابنِ مسعودٍ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا تشهدَ قال: "الحمدُ للهِ". رواه أبو داودَ
(2)
. وله
(3)
أيضًا:
(1)
في الأصل: "شروط".
(2)
أخرجه أبو داود (1099)، وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه أبو داود (4842) من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني.
حمدُ الله، والصلاةُ على رسولِ الله، وقراءةُ آيةٍ مِنْ كتابِ اللَّهِ، والوصيَّةُ بتقوى اللَّه،
"كلُّ
(1)
كلامُ لا يُبدأُ فيه بالحمد للهِ، فهو أجذمُ".
(و) الركنُ الثاني: (الصَّلاةُ على رسولِ اللهِ) عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ كلَّ عبادةٍ افتقرتْ إلى ذكرِ اللهِ، افتقرتْ
(2)
إلى ذكرِ نبيهِ عليه السلام، كالأذانِ. ويتعيَّنُ لفظُ الصَّلاةِ لا السَّلامِ.
(و) الركنُ الثالثُ: (قراءةُ آيةٍ من كتابِ اللهِ) كاملةٍ؛ لحديثِ جابرِ بنِ سمرةَ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ الآياتِ، ويُذكِّرُ الناسَ. رواه مسلمٌ
(3)
. ولأنَّ الخطبتين أقيمتا مقامَ ركعتين، فوجبتْ فيهما القراءةُ، كالصَّلاةِ. ولا تُجزِئُ آيةٌ لا تستقلُّ بمعنًى أو حكمٍ، نحو:{ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]، أو:{مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64]. ذكرَهُ أبو المعالي وغيرُه.
ولا تجزئُ القراءةُ بغيرِ العربيةِ. وهلْ يحتاجُ إلى إبدالِها عند العجزِ عنها بذكرٍ؟ فيه وجهان. قالَهُ ابنُ نصرِ اللهِ. قال في "تصحيح الفروع"
(4)
: وهل يحتاجُ إلى إبدالِها عند العجزِ عنها؟ فيه وجهانِ. وأطلقَهُما في "الرعاية الكبرى"، وهما احتمالانِ مطلقانِ في "شرح الزركشي": أحدُهما: يجبُ. قلتُ: وهو الصَّوابُ، كالقراءةِ في الصَّلاةِ، فإنَّها أيضًا مشتملةٌ على ذكرٍ. والوجهُ الثاني: لا تجبُ.
(1)
سقطت: "كل" من الأصل.
(2)
تكررت: "افتقرتْ" في الأصل.
(3)
أخرجه مسلم (862).
(4)
"تصحيح الفروع"(3/ 170).
وموالاتُهُما مع الصَّلاةِ، والجهرُ بحيثُ يُسمِعُ العدَدَ المعتبَر، حيثُ لا مانعَ.
وسُنَنُهُما:
الطهارةُ،
والوجهُ الأولُ اعتمَدَهُ أيضًا في "الإقناع"، ومشى عليه.
ولا يصحُّ إبدالُها بغيرِ العربيةِ مع القدرةِ على العربيةِ. وتصحُّ مع العجزِ عن القراءةِ، فيجبُ مع العجزِ الذكرُ بدلها. انتهى.
(و) الركنُ الرابعُ: (الوصيةُ بتقوى اللهِ) تعالى؛ لأنَّها المقصودةُ من الخطبةِ. فلو قرأَ من القرآنِ ما يتضمنُ الحمدَ والموعظةَ، وصلَّى عليه، عليه السلام، في كلِّ خطبةٍ، كفى. قال في "التلخيص": لا يتعينُ لفظُها. أي: الوصيةِ، وأقلُّها: اتقوا اللَّه. أطيعوا اللَّه. ونحوُه.
(و) الركنُ الخامسُ: (موالاتُهما) أي: الخُطبتين (مع الصَّلاةِ) فتُشترطُ الموالاةُ بين أجزاءِ الخطبتين، وبينهما وبين الصَّلاةِ؛ لأنَّه لمْ يُنقلْ عنه عليه السلام خلافُه، وقال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي".
(و) الركنُ السادسُ: (الجهرُ بحيثُ يُسْمِعُ العددَ المعتبرَ) للجمعةِ (حيثُ لا مانِعَ) لهم من سماعِه، كنومٍ، أو غفلةٍ، أو صَمَمِ بعضِهم. فإنْ لمْ يسمعوا لخفضِ صوتِه، أو بُعْدِهم عنه، ونحوِه، لمْ تصحَّ؛ لعدمِ حصولِ المقصودِ
(وسُننُهما) أي: الخطبتين:
(الطَّهارةُ) أي: من الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ، فتجزئُ خطبةُ محدثٍ وجنبٍ
(1)
، كأذانِه. وتحريمُ لبثِه بالمسجدِ لا تَعلُّقَ له بواجبِ العبادةِ، كصلاةِ مَنْ
(1)
في الأصل: "وجبت".
وسترُ العورةِ، وإزالةُ النَّجاسةِ، والدعاءُ للمسلمين، وأن يتولَّاهُما مع الصَّلاةِ واحدٌ، ورفعُ الصَّوتِ بهمَا حسَبَ الطَّاقةِ، وأن يخطُبَ [قائمًا على مُرتَفَعٍ،
معه درهمٌ غَصْبٌ
(وسترُ العورةِ، وإزالةُ النجاسةِ، والدُّعاءُ للمسلمين، وأنْ يتولَّاهما
(1)
واحدٌ) أي: الصَّلاةَ والخطبةَ (ورفعُ الصوتِ بهما
(2)
حسَبَ الطَّاقةِ) لأنَّه أبلغُ في الإعلامِ.
(و) يُسنُّ (أنْ يخطبَ قائمًا) نصًّا؛ لما سبقَ. ولمْ يجِبْ، كالأذانِ، والاستقبالِ (على مُرْتَفَعِ) أي: موضعٍ عالٍ، إنْ لمْ يكن منبرٌ؛ لأنَّه في معناه؛ لاشتراكِهما في الإعلامِ. ويَكونُ الموضعُ المرتفعُ، أو المنبرُ، عن يمينِ مستقبلِ القبلةِ بالمحرابِ؛ لأنَّ منبَره صلى الله عليه وسلم كذا كان. وكان يقفُ على الدرجةِ الثالثةِ التي تلي مكانَ الاستراحةِ، ثمَّ وقفَ أبو بكرٍ على الثانيةِ، ثمَّ عمرُ على الأُولى؛ تأدُّبًا، ثمَّ وقفَ عثمانُ مكانَ أبي بكرٍ ثمَّ على موقفِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ زمن معاويةَ قلَعَه
(3)
مروانُ.، وزادَ فيه ستَّ درجٍ، فكان الخلفاءُ يرتقون ستًّا؛ يقفون مكانَ عمرَ، أي: على السابعةِ، ولا يتجاوزون
(4)
ذلك؛ تأدبًا.
وكان اتخاذُه في سنةِ سبعٍ من الهجرةِ. وقيل: سنةَ ثمانٍ. وسُمِّيَ منبرًا؛ لارتفاعِه من النَّبرِ- وهو الارتفاعُ - واتخاذُه مجمعٌ عليه
(5)
. قالَهُ في "شرح مسلم".
(1)
في الأصل: "يتولهما".
(2)
سقطت: "بهما" من الأصل.
(3)
في الأصل: "فعله".
(4)
في الأصل: "عليها".
(5)
في الأصل: "قوسًا".
معتمدًا على سيفِ أو عصًا، وأن يجلِسَ بينهُما قليلًا. فإن أبَى، أو خَطَبَ] جالسًا فصَلَ بينهُمَا بسكتَةٍ.
(معتمدًا على سيفٍ أو عصا) أو قوسٍ. قالَ
(1)
في "الإقناع": بإحدى يديه.
قال في "الفروع": ويتوجهُ باليسرى. ويعتمدُ بالأخرى على حرفِ المنبرِ، أو يرسِلُها؛ لما روى الحكمُ بنُ حزنٍ قال: وفدتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فشهدْنا معه الجمعةَ، فقامَ متوكئًا على سيفٍ أو قوسٍ أو عصا. رواه أبو داودَ
(2)
. ولأنَّه أمكن له، وإشارةً إلى أنَّ هذا الدِّينَ فُتِحَ به
(3)
.
(وأنْ يجلسَ بينهما قليلًا) أي: جِلسةً خفيفةً جدًّا؛ لما روى ابنُ عمرَ قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ خطبتين وهو قائمٌ، يفصلُ بينهما بجلوسٍ. متفقٌ عليه
(4)
. قال في "التلخيص": بقدرِ سورةِ الإخلاصِ
(5)
(فإنْ أبى) أن يجلسَ بينهما، فصلَ بسكتةٍ (أو خطبَ جالسًا) لعذرٍ وغيرِه (فصلَ بينهما) أي: بين الخطبتين (بسكتةٍ)؛ ليحصلَ التمييزُ.
وعُلِمَ منه: أنَّ الجلوسَ بينهما غيرُ واجبٍ؛ لأنَّ جماعةً من الصَّحابةِ، منهم سيدُنا عليٌّ، سَرَدَ الخطبتين من غيرِ جلوسٍ
(6)
(1)
في الأصل: "قاله".
(2)
أخرجه أبو داودَ (1098)، وحسنه الألباني.
(3)
انظر "كشاف القناع"(3/ 354).
(4)
أخرجه البخاري (928)، ومسلم (861).
(5)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 21).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 189، 190).
وسُنَّ قصرُهُما، والثانيةُ أقصَرُ.
ولا بأسَ أن يخطُبَ من صَحيفةٍ.
(وسُنَّ قصرُهما) أي: الخطبتين. (والثانيةُ أقصرُ) أي: سُنَّ كونُ الثانيةِ أقصرُ من الأُولى؛ لحديثِ: "إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خطبتِه من فقهِهِ، فأطيلوا الصَّلاةَ، واقْصُرُوا الخطبةَ"
(1)
.
(ولا بأسَ أنْ يخطبَ من صحيفةٍ) كقراءةٍ في الصَّلاةِ من مصحفٍ.
(1)
أخرجه مسلم (869).
فَصْلٌ
يحرمُ الكلامُ والإمامُ يخطُبُ
، وهُو مِنهُ بحيثُ يسمَعُهُ،
(فصلٌ)
(يحرمُ الكلامُ) ولو لتسكيتِ غيرِه (والإمامُ يخطبُ) ولو كان الإمامُ غيرَ عدلٍ؛ لقولِهِ تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، قال أكثرُ المفسرين: إنَّها نزلتْ في الخطبةِ، وسُمِّيتْ قرآنًا؛ لاشتمالِها عليه. ولخبرِ "الصحيحين"
(1)
عن أدي هريرةَ مرفوعًا: "إذا قلتَ لصاحبِك يومَ الجمعةِ: أنصتْ، والإمامُ يخطبُ، فقدْ لغوتَ". واللغوُ: الإثمُ. ولقولِه عليه السلام: "مَنْ قالَ: صَه. فقدْ لغا، ومَنْ لغا فلا جمعةَ له". رواه أحمدُ وأبو داودَ
(2)
. ولقولِه عليه السلام في خبرِ ابنِ عباسٍ: "والذي يقولُ: أنصتْ، ليسَ له جمعةٌ". رواه أحمدُ
(3)
. ولقولِه عليه السلام لأبي الدرداءِ: إذا سمعت إمامَكَ يتكلَّمُ، فأنصتْ حتى يفرغَ". رواه أحمدُ
(4)
. (وهو) المتكلِّمُ (منه) أي: الإمامِ. (بحيثُ يسمعُه) بخلافِ البعيدِ الذي لا يسمعُه؛ لأنَّ وجوبَ الإنصاتِ للاستماعِ، وهذا ليس بمستمعٍ
(1)
أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 124)(719)، وأبو داود (1053) من حديث عليَّ. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه أحمد (3/ 475)(2033)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(440).
(4)
أخرجه أحمد (36/ 59)(21730)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(442).
ويُباحُ إذا سكَتَ بينَهُمَا، أو شَرَع في دُعاءٍ.
وتحُرمُ إقامةُ الجُمُعةِ - وإقامةُ العيدِ - في أكثرَ من موضِعٍ منَ البَلَدِ، إلَّا لِحَاجَةٍ، كضِيقٍ، وبُعدٍ، وخَوفِ فِتنَةٍ، فإن تعدَّدت لغيرِ ذلِكَ، فالسابِقَةُ بالإحرامِ
(ويُباحُ) الكلامُ (إذا سكتَ) الخطيبُ (بينهما) أي: الخطبتين (أو شرعَ في دعاءٍ) لأنَّه غيرُ واجبٍ، فلا يجبُ الإنصاتُ له.
قال المصنِّفُ رحمه الله في "غاية المنتهى"
(1)
: ويتجه: أنَّ التحريمَ محلُّه أركانُ الخطبة.
قال في "الإقناع": قال الشيخُ: رفعُ الصَّوتِ قُدَّامَ بعضِ الخطباءِ مكروهٌ، أو محرَّمٌ اتفاقًا، فلا يرفعُ المؤذِّنُ، ولا يخرُه، صوتَه بصلاةٍ ولا غيرِها. وفي "التنقيح" و"المنتهى": وله الصَّلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا سمِعَها. ويُسنُّ سرًّا
(2)
(وتحرمُ إقامةُ الجمعةِ - وإقامةُ العيدِ - في أكثرَ من موضعٍ) واحدٍ (من البلدِ) لأنَّهما لمْ يكونا يُفعلان في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعهدِ خلفائِه إلا كذلك. وقال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". ولأنَّ الاقتصارَ على واحدةٍ أوفى للمقصودِ من إظهارِ شعارِ الاجتماعِ واتفاقِ الكلمةِ (إلا لحاجةٍ، كضيقِ) مسجدِ البلدِ عن أهلِه (و) كـ (بُعْدٍ) بأنْ يبهونَ البلدُ واسعًا وتتباعد أقطارُه، فيشقُّ على مَنْ منزلُهم بعيدٌ عن محلِّ الجمعةِ مجيئُها (و) كـ (خوفِ فتنةِ) لعداوةٍ بين أهلِ البلدِ يُخشى باجتماعِهم في محلٍّ إثارتُها
(فإنْ تعدَّدتْ) صلاةُ الجمعةِ (لغيرِ ذلك) أي: لغيرِ الحاجةِ (فالسابقةُ بالاحرامِ)
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 247).
(2)
انظر "كشاف القناع"(3/ 387).
هي الصحيحةُ.
ومَنْ أحرَمَ بالجُمُعةِ في وقتِهَا، وأدرَكَ مع الإمَامِ رَكعةً، أتمَّ جُمُعَةً،
لأنَّ الاستغناءَ حصلَ بها، فأُنيطَ الحكمُ بها. ولا فرقَ بين التي في المسجدِ الأعظمِ، أو مكانٍ يختصُّ جندُ السلطانِ به، أو كانتْ أحدُهما في قَصَبَةِ البلدِ، والأخرى في أقصاها؛ لأنَّ الاستغناءَ حصلَ بالأُولى، فأُنيطَ الحكمُ بها؛ لكونِها سابقةً بالإحرامِ، و (هي الصحيحةُ)
وإنْ وقعتا معًا؛ بأنْ وقعَ الإحرامُ من الإمامين في آنٍ واحدٍ، بطَلَتا؛ لأنَّه لا يمكنُ تصحيحُهما، ولا تصحيحُ أحدِهما؛ لأنَّه لا مزيةَ لواحدةٍ منهما على الأخرى. وحيثُ بطلتا؛ فإنْ أمكنَ أنْ يصلُّوا جمعةً مع توفرِ شروطِها، صلَّوا جمعةً؛ لأنَّها فرضُ الوقتِ، ولمْ تقمْ صحيحةً، فوجما تدارُكُها، وإلا؛ بأن فُقِدَ شيءٌ من شروطِها، فإنهم يصلون ظهرًا؛ لأنَّها بدلٌ عن الجمعة إذا فاتتَ.
وإن جُهِلَ كيف وقعتا، صلَّوا ظهرًا. واختارَ جمعٌ: الصَّحةَ. وكذا لو وقعتْ جُمَعٌ في بلدٍ، وجُهِلَ الحالُ، أو السابقةُ، صلَّوا ظهرًا.
(ومَنْ أحرَمَ بالجمعةِ في وقتِها) احترزَ به: عمَّا لو خرجَ الوقتُ والإمامُ فيها فأحرمَ بها المأمومُ بعدَ خروجِه، فإنَّها لا تنعقدُ جمعةً ولا ظهرًا (وأدركَ مع الامامِ ركعةً) بسجدتيها (أتمَّ جمعةً) رواه البيهقيَّ عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ
(1)
. وعن أبي هريرةَ مرفوعًا: "مَنْ أدركَ ركعةً من الجمعةِ، فقدْ أدركَ الصَّلاة"
(2)
.
(1)
أخرجه البيهقي عنهما (3/ 103، 204).
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (1425) قال الألباني: شاذ بذكر "الجمعة" والمحفوظ: "الصلاة".
وإن أدرَكَ أقلَّ، نوى ظُهرًا.
وأقلُّ السُّنةِ بعدَها: ركعتَانِ، وأكثرُها: سِتَّةٌ.
وسُنَّ قراءةُ سُورَةِ الكَهفِ في يَومِهَا،
رواه الأثرمُ. (وإنْ أدركَ أقلَّ) من ركعةٍ (نوى ظهرًا) لمفهومِ الخبرِ السابقِ، بخلافِ إدراكِ المسافرِ صلاةَ المقيمِ؛ لأنَّه إدراكُ إلزامٍ، وهذا إدراكُ إسقاطٍ للعددِ، وبخلافِ جماعةِ باقي الصَّلواتِ؛ لأنَّه ليس من شرطِها الجماعةُ، بخلافِ مسألتِنا.
ويصحُّ دخولُه مع الإمامِ بشرطِ أنْ ينويَ ظهرًا بإحرامِه؛ ولهذا قال في "الإقناع": إذا كان قدْ نوى الظهرَ، ودخلَ وقتُها؛ لأنَّ الظهرَ لا تتأدَّى بنيةِ الجُمعةِ ابتداءً، فكذا استدامةٌ، كالظهرِ مع العصرِ. وإلا؛ بأنْ لمْ يكنْ نواها ظهرًا، أو لمْ يكنْ دخلَ وقتُها انعقدتْ نفلًا، ولا يصحُّ إتمامُها جمعةً؛ لعدمِ إدراكِه لها بدونِ ركعةٍ؛ لما تقدم
(1)
.
(وأقلُّ السنةِ بعدَها) أي: الجُمعةِ: (ركعتانِ) لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: كان يصلِّي بعدَ الجمعةِ ركعتينِ. متفقٌ عليه
(2)
. (وأكثرُها) أي: السنةِ بعدَ الجمعةِ: (ستَّةٌ) نصًّا؛ لقولِ ابنِ عمرَ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعلُه. رواه أبو داودَ
(3)
. ولا راتبةَ لها قبلَها، نصًّا. وتُسنُّ أربعٌ.
(وسنَّ قراءةُ سورةِ الكهفِ في يومِها) أي: الجمعةِ؛ لحديثِ أبي سعيدٍ،
(1)
انظر "كشاف القناع"(3/ 341).
(2)
أخرجه البخاري (937)، ومسلم (882).
(3)
أخرجه أبو داود (1132)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مرفوعًا: "مَنْ قرأ سورةَ الكهفِ في يومِ الجمعةِ، أضاءَ له من النورِ ما بين الجمعتين". رواه البيهقيُّ
(1)
بإسنادٍ حسنٍ. وفي خبرٍ آخرَ: "مَنْ قرأ سورةَ الكهفِ في يومِ الجمعةِ، أو ليلتِه، وُقِيَ فتنةَ الدَّجالِ"
(2)
. والحكمةُ في ذلك: أنَّ اللهَ تعالى ذكرَ فيها أهوالَ يومِ القيامةِ، والجُمعةُ تُشْبِهُهَا؛ لما فيها من اجتماعِ الخلْقِ، ولأنَّ القيامةَ تقومُ يومَ الجُمعةِ. والكهفُ هو الغارُ في الجبلِ.
وسُنَّ كثرةُ الدُّعاءِ في يومِ الجمعةِ، وأفضلُ الدُّعاءِ بعدَ العصرِ؛ لحديثِ:"إنَّ في الجمعةِ ساعةً لا يوافقُها عبدٌ مسلمٌ يسألُ اللَّه شيئًا، إلا أعطاه إياه". وأشارَ بيدِه يقلِّلُها. متفقٌ عليه
(3)
من حديثِ أبي هريرةَ. واختُلِفَ فيها، فقال أحمدُ: أكثرُ الأحاديثِ
(4)
في الساعةِ التي يُرجى فيها الإجابةُ: أنَّها بعدَ صلاةِ العصرِ، وترجى
(5)
بعد زوالِ الشمسِ.
وقد ذكرَ الحافظُ شهابُ الدينِ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري"
(6)
فيها ثلاثةً وأربعين قولًا. ذكرَ القائلَ بكلِّ قولٍ ودليلَه. فليُرَاجَعْ.
(1)
أخرجه البيهقي (3/ 249)، وصححه الألباني في "الإرواء"(626).
(2)
لم أقف عليه بهذا السياق. وأخرج الضياء في "المختارة"(429) من حديث عليٍّ مرفوعاً: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال، عصم منه" قال الألباني في "الضعيفة"(2013): ضعيف جداً.
(3)
أخرجه البخاري (935)، ومسلم (852).
(4)
في الأصل: "الحديث".
(5)
سقطت: "وترجى" من الأصل.
(6)
"فتح الباري"(2/ 484).
وأن يقرأَ في فجرِهَا: {الم} السجدَة، وفي الثانية {هَلْ أَتَى} وتُكرَهُ مداومَتُهُ عليهِمَا.
(وأنْ يقرأَ في فجرِها) أي: الجمعةِ، في الركعةِ الأُولى:({الم} السجدة. وفي) الركعةِ (الثانية: {هَلْ أَتَى}
(1)
) نصًّا؛ لأنَّه عليه السلام كان يفعلُه. متفقٌ عليه
(2)
من حديثِ أبي هريرةَ. قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: لتضمُّنِها ابتداءَ خلقِ السمواتِ والأرضِ، وخلقِ الإنسانِ، إلى أنْ يدخلَ الجنةَ أو النَّارَ.
(وتُكرَهُ مداومتُه عليهما) أي: على {الم} السجدة، و {هَلْ أَتَى} في فجرِها. قال أحمدُ: لئلا يُظنَّ أنها مفضلةٌ بسجدةٍ. وقال جماعةٌ: لئلا يُظنَّ الوجوبُ. وتُكرَهُ القراءةُ بسورةِ الجمعةِ في عشاءِ ليلةِ الجمعةِ. زادَ في "الرعاية": والمنافقين.
خاتمةٌ: روى ابنُ السنيِّ من حديثِ أنسٍ مرفوعًا: "مَنْ قرأَ إذا سلَّمَ الإمامُ يومَ الجمعةِ، قبل أنْ يَثنيَ رِجليه، فاتحةَ الكتابِ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوِّذتين، سبعًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تأخَّرَ، وأعطِيَ من الأجرِ بعددِ مَنْ آمنَ باللهِ ورسوله"
(3)
. ومن روايةِ ابنِ السنيِّ
(4)
عن عائشةَ: "مَنْ قرأَ بعد صلاةِ الجمعةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} سبعَ مراتٍ، أعاذَهُ اللهُ بها من السوءَ إلى الجمعةِ الأخرى".
(1)
في الأصل: "هل أتى على الإنسان".
(2)
أخرجه البخاري (891)، ومسلم (880).
(3)
ذكره ابن حجر في "معرفة الخصال المكفرة" ص (36)، ونسبه لأبي الأسعد القشيري في "الأربعين". وذكره السيوطي في "الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير" (12166) قال الألباني في "ضعيف الجامع" (5758): موضوع.
(4)
أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص (332). وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5764).
بابُ صلاةِ العِيدَين
وهيَ فرضُ كِفايَةٍ. وشُروطُها كالجُمُعَةِ، ما عدَا الخُطبتَينِ.
(بابُ صلاةِ العيدَين)
أي: صفتُها، وأحكامُها، وما يتعلَّقُ بها.
سُمِّيَ اليومُ المعروفُ عيدًا؛ لأنَّه يعودُ ويتكرَّرُ لأوقاتِه. وقيلَ: لأنَّه يعودُ بالفرحِ والسرورِ. وقيل: تفاؤلًا بعودِه، كما سُمِّيتِ القافلةُ قافلةً في ابتداءِ خروجِها؛ تفاؤلًا بقفولِها سالمةً، أي: رجوعِها.
والأصلُ في مشروعيتِها: الإجماعُ، وما تواترَ مَنْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ صلَّوها. وقدْ قيلَ في قولِ اللهِ تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2]: أنَّ المرادَ: صلاةُ العيدِ. واختُلِفَ عن أحمدَ في حكمِها، فعنه: أنَّها فرضُ عينٍ. وعنه: سنةٌ. (و) الصحيحُ: (هي) أي: صلاةُ العيدين (فرضُ كفايةٍ) لأنَّه عليه السلام واظبَ عليها حتى ماتَ. ورُوِيَ أنَّ أوَّلَ صلاةِ عيدٍ صلَّاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. عيدُ الفطرِ، في السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ.
(وشروطُها) أي: صلاةِ العيدين (كالجمعةِ) لأنَّها صلاةٌ لها خطبةٌ راتبةٌ، أشبهتْ الجمعةَ. فيُشْترطُ: الوقتُ، والاستيطانُ، وعددُ الجمعةِ، لا إذنُ إمامٍ (ما عَدا الخُطبتين).
يَبدأُ بالصَّلاةِ قبلَ الخطبةِ. قال ابنُ عمرَ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعثمانُ، يصلُّون العيدين قبلَ الخطبةِ. متفقٌ عليه
(1)
. فلو خطبَ قبلَ الصَّلاةِ، لمْ يُعتدَّ بها،
(1)
أخرجه البخاري (963)، ومسلم (888).
وتُسنُّ بالصحراء. ويُكرَهُ النفلُ قبلَها، وبعدَها قبلَ مفارقَةِ المُصلَّى.
ووقتُها: كصلاةِ الضُّحَى
كما لو خطبَ في الجمعةِ بعدَها. وقدْ رُوي عن بني أميةَ تقديمُ الخطبةِ. قال الموفَّقُ: ولم يصحَّ عن عُثمانَ
(1)
.
(وتُسنُّ) صلاةُ العيدين (بالصحراءِ) لحديثِ أبي سعيدٍ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخرجُ في الفطرِ والأضحى إلى المصلَّى. متفق عليه
(2)
. وكذا الخلفاءُ بعدَه. ولأنَّه أوقعُ هيبةً، وأظهرُ شعارًا، ولا يَشقُّ لعدمِ تكرُّره، بخلافِ الجُمعةِ. إلا بمكةَ المشرَّفةِ، فتصلَّى بالمسجدِ الحرامِ؛ لفضيلةِ البُقعةِ، ومشاهدةِ الكعبةِ، ولمْ يزلِ الأئمةُ يُصلّونها به.
وظاهر كلامِ "المنتهى"، و"الإقناع"، و"غاية المنتهى": أنَّ مسجدَ المدينةِ، والأقصى، كغيرِهما، فلا يُسنُّ فيهما، بل في الصحراءِ.
قال في "المنتهى"
(3)
: وأنْ تكونَ الصحراءُ قريبةً عُرْفًا، فلا تصحُّ ببعيدةٍ.
(ويُكره النفلُ قبلَها، وبعدَها قبلَ مفارقةِ المصلَّي) أي: قبلَ صلاةِ عيدٍ، وبعدَها بموضعِها قبلَ مفارقتِه، نصًّا؛ لخبرِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
يومَ الفطرِ، فصلَّى ركعتين، لم يصلِّ قبلَهما ولا بعدَهما. متفقٌ عليه
(5)
.
(ووقتُهاكـ) وقتِ (صلاةِ الضُّحَى) من ارتفاعِ الشمسِ قِيْدَ رُمحٍ إلى قُبيلِ الزوالِ.
(1)
انظر "المغني"(3/ 276)، "كشاف القناع"(3/ 404).
(2)
أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889).
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 37).
(4)
سقطت: "النبي صلى الله عليه وسلم " من الأصل.
(5)
أخرجه البخاري (989)، ومسلم (884).
فإن لم يُعلَم بالعيدِ إلا بعدَ الزَّوالِ، صَلَّوا من الغدِ قَضَاءً.
وسُنَّ: تبكيرُ المأمومِ، وتأخُّرُ الإمَامِ إلى وقتِ الصَّلاةِ. وإذا مَضَى في طَريقٍ رجَعَ في أُخرَى،
(فإنْ لمْ يُعلمْ بالعيدِ إلا بعدَ الزوالِ، صلَّوا من الغدِ قضاءً) أي: سواءٌ كان التأخيرُ لعذرٍ أو لغيرِ عذرٍ، لما روى أبو عميرِ بنِ أنسٍ، قال: حدثني عمومةٌ لي من الأنصارِ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا: غُمَّ علينا هلالُ شوَّالٍ، فأصبحنا صيامًا، فجاء ركبٌ من آخرِ النهارِ، فشهدوا عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهم رأوْا الهلالَ بالأمسِ، فأمَرَ الناسَ أنْ يُفطروا من يومِهم، وأنْ يخرجوا لعيدِهم من الغدِ. رواه الخمسةُ
(1)
، إلَّا الترمذيَّ. وصحَّحَه إسحاقُ بنُ راهويه، والخطابيُّ. ولأنَّ العيدَ يُشرعُ له الاجتماعُ العامُّ. وله وظائفُ دينيةٌ ودنيويةٌ، وآخرُ النهارِ مَظِنَّةُ الضيقِ عن ذلك غالبًا. وأما من فاتَتْه مع الإمامِ، فيصلِّيها متى شاءَ؛ لأنَّها نافلةٌ لا اجتماعَ فيها.
(وسُنَّ تبكيرُ
(2)
المأمومِ) ليدْنوَ من الإمامِ، وينتظرَ الصَّلاةَ، فيكثُرَ أجرُه (وتأخُّر الامامِ إلى) دخولِ (وقتِ الصَّلاةِ) لحديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: كان يخرجُ يومَ الفطرِ والأضحى إلى المصلَّى، فأوَّلُ شيءٍ يبدأُ به الصَّلاةَ. رواه مسلمٌ
(3)
. ولأنَّ الإمامَ يُنتظَرُ ولا يَنتَظِرُ.
ويُسنُّ التوسعةُ على الأهلِ؛ لأنَّه يومُ سرورٍ. وتُسنُّ الصدقةُ في يومي العيدين.
(و) يُسنّ (إذا مضى في طريقٍ رجعَ في) طريق (أخرى) لحديثِ جابرٍ:
(1)
أخرجه أحمد (34/ 191)(20584)، وأبو داود (1159)، والنسائي (1557)، وابن ماجه (1653)، وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "تكبير".
(3)
أخرجه مسلم (889).
وكذا الجُمُعَةُ.
وصلاةُ العيدِ ركعتانِ، يكبِّرُ في الأُولَى - بعدَ تكبيَرةِ الإحرَامِ وقَبلَ التعوُّذِ - سِتًا، وفي الثانيةِ - قَبلَ القراءَةِ - خَمْسًا،
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ إلى العيدِ خالفَ
(1)
الطريقَ. رواه البخاريُّ
(2)
، ورواه مسلمٌ
(3)
عن أبي هريرةَ.
وعلَّتُه: شهادةُ الطريقَيْن، أو تسويتُه بينهما في التبرُّكِ بمرورِه، أو سرورُهما بمرورِه، أو الصدقةُ على فقرائِهما، ونحوُه. فلذا قال:(وكذا الجمعةُ) ولا يمتنعُ في غيرِها.
(وصلاةُ العيدِ ركعتان) لقولِ عمرَ: صلاةُ الفطرِ والأضحى ركعتان ركعتان، تمامٌ غيرُ قصرٍ، على لسانِ نبيِّكم؛ وقدْ خابَ مَنْ افترى. رواه أحمدُ
(4)
.
(يُكبِّرُ في) الركعةِ (الأُولى بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ) والاستفتاحِ (وقبلَ التعوذِ، ستًّا) زوائدَ. (و) يُكبِّرُ (في) الركعةِ (الثانيةِ قبلَ القراءةِ، خمسًا) زوائدَ، نصًّا، لحديثِ عمروِ بنِ شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كبَّرَ في عيدٍ ثنتي عشرةَ تكبيرةً، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الأخيرةِ. إسنادُه حسنٌ. رواه أحمدُ، وابنُ ماجه
(5)
. وصحَّحه ابنُ المدينيِّ. قال عبدُ اللهِ: قال أبي: أنا أذهبُ إلى هذا.
(1)
بعدها في الأصل: "إلى".
(2)
أخرجه البخاري (986).
(3)
لم أجده عند مسلم.
(4)
أخرجه أحمد (1/ 367)(257).
(5)
أخرجه أحمدُ (11/ 283)(6688)، وابنُ ماجه (1278) قال الألباني: حسن صحيح.
يرفعُ يديهِ معَ كلِّ تكبيرَةٍ، ويقولُ بينَهُمَا: اللَّه أكبرُ كبيرًا، والحمدُ للَّهِ كثيرًا، وسُبحانَ اللَّهِ بُكرةً وأصيلًا، وصلَّى اللَّهُ على محمَّدٍ النبيِّ وآلهِ وسلَّمَ تسليمًا. ثمَّ يستَعيذُ، ثمَّ يقرأُ جهرًا الفاتحةَ، ثم بسَبِّح في الأُولَى، والغاشيةِ في الثَّانية.
فإذا سلَّم خطَبَ خُطبتَينِ، وأحكَامُهُمَا كخُطْبَتَي الجُمُعَةِ، لكنْ يُسنُّ أن
(يرفعْ) مصلَّ (يديه مع كلِّ تكبيرةٍ) نصًّا؛ لحديثِ وائلِ بنِ حجرٍ، أنَّه عليه السلام كان يرفعُ يدَيْه مع التكبيرةِ
(1)
. قال أحمدُ: فأرى أن يدخلَ فيه هذا كلُّه
(ويقولُ بينهما) أي: بين التكبيرِ: (اللهُ أكبرُ كبيرًا، والحمدُ للهِ كثيرًا، وسبحانَ اللهِ بكرةً وأصيلًا، وصلَّى اللهُ على محمدٍ النبيِّ وآلِه، وسلَّم تسليمًا) لقولِ عقبةَ بنِ عامرٍ: سألتُ ابنَ مسعودٍ عمَّا يقولُه بعدَ تكبيراتِ العيدِ؟ قال: نحمدُ اللهَ، ونثني عليه، ونصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم. رواه أحمدُ
(2)
، وحربٌ، واحتجَّ به أحمدُ.
(ثمَّ يستعيذُ، ثمَّ يقرأُجهرًا) لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: كان يجهرُ بالقراءةِ في العيدين والاستسقاءِ. رواه الدارقطنيُّ
(3)
. (الفاتحةَ، ثمَّ بسبِّح في) الركعةِ (الأُولى، و) يقرأُ (الغاشيةَ) بعدَ الفاتحةِ (في) الركعةِ (الثانيةِ) لحديثِ سَمُرَة، مرفوعًا: كان يقرأُ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . رواه أحمدُ
(4)
، (فإذا سلَّمَ) الإمامُ في الصَّلاةِ (خطبَ خطبتين، وأحكامُها) أي: الخطبتين (كخطبتَيْ الجمعةِ) فيما تقدَّمَ مفصَّلًا (لكنْ يُسنُّ أنْ
(1)
أخرجه أحمد (31/ 141)(18848)، وأبو داود (725)، وصححه الألباني.
(2)
لم أجده عند أحمد. وأخرجه الطبراني (9515)، وصححه الألباني في "الإرواء"(642).
(3)
أخرجه الدارقطني (2/ 67)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(643).
(4)
أخرجه أحمد (33/ 331)(20161)، وصححه الألباني في "الإرواء"(644).
يستفتحَ الأُولَى بتسعِ تكبيرَاتٍ، والثانيةَ بسبعٍ.
وإن صلَّى العيدَ كالنافِلَةِ، صحَّ؛ لأنَّ التكبيرَاتِ الزوائِدَ، والذِّكرَ بينَهُما، والخُطبتَينِ، سُنَّةٌ.
وسُنُّ لمن فاتته قضاؤها، ولو بعدَ الزَّوالِ.
يستفتحَ) الخطبةَ (الأُولى بتسعِ تكبيراتٍ) نسقًا، (و) يستفتحُ (الثانيةَ بسبعِ) تكبيراتٍ، نسقًا؛ لما روى سعيدٌ، عن عبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عتبةَ قال: يكبِّرُ الإمامُ يومَ العيدِ قبلَ أنْ يخطبَ تصعَ تكبيراتٍ، وفي الثانيةِ سبعَ تكبيراتٍ
(1)
.
(وإنْ صلَّى العيدَ كالنافلةِ، صحَّ؛ لأنَّ التكبيراتِ الزوائدَ، والذكرَ بينهما، والخُطبتين، سنَّةٌ. وسُنَّ لمَنْ فاتَتْه قضاؤُها) في يومِها (ولو بعدَ الزوالِ) على صفتِها؛ لفعلِ أنسٍ
(2)
. ولأنَّه قضاءُ صلاةٍ، فكان على صفتِها كسائرِ الصلواتِ.
* * *
(1)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 290).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 4).
فَصْلٌ
يُسنُّ التكبيرُ المُطلَقُ
، والجَهرُ به في ليلَتَي العِيدَين إلى فَراغِ الخُطبَةِ، وفي كُلِّ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ. والتكبيرُ المقيَّد فِي الأضْحَى عَقِبَ كلِّ فَريضَةٍ صلَّاها في جَمَاعةٍ، مِنْ صلاةِ فَجرِ يَومِ عَرفَةَ إلى عَصرِ آخِرِ أيَّامِ التَّشريقِ،
(فصلٌ)
(يُسنُّ التكبيرُ المطلقُ) أي: الذي لمْ يُقيَّدْ بكونِه أدبارَ المكتوباتِ (و) يُسنُّ (الجهرُ به في ليلتي العيدين) في مساجدَ، وبيوتٍ، وأسواقٍ، وغيرِها (إلى فراغِ الخُطبةِ) لما رُويَ عن ابنِ عمرَ: أنَّه كان إذا غدَا يومَ الفطرِ ويومِ الأضحى، يجهرُ بالتكبيرِ حتى يأتيَ المصلَّى، ثمَّ يكبِّرُ حتى يأتيَ الإمامُ. رواه الدارقطنيُّ
(1)
.
(و) يُسنُّ التكبيرُ المطلقُ (في كلِّ عشرِ ذي الحجةِ) ولو لمْ يَرَ بهيمةَ الأنعامِ.
(و) سُنّ (التكبيرُ المقيَّدُ في) عيدِ (الأضحى) خاصَّةً (عَقِبَ كلِّ) صلاةِ (فريضةٍ) فلا يُسنُّ عَقِبَ صلاةِ النفلِ (صلَّاها في جماعةٍ، من صلاةِ فجرِ يومِ عرفةَ إلى عصرِ آخرِ أيامِ التشريقِ) لحديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكبِّرُ في صلاةِ الفجرِ يومَ عرفةَ إلى صلاةِ العصرِ من آخرِ أيامِ التشريقِ، حين يسلِّمُ من المكتوباتِ. رواه الدارقطنيُّ
(2)
.
فرعٌ: يُسنُّ التكبيرُ عقبَ الفائتةِ في عامِهِ، قبلَ دخولِ العيدِ، إذا صلَّاها جماعةً.
فائدةٌ: قال الشيخُ وجيهُ الدينِ بنُ المنجَّا: إنَّ الإمامَ إذا كان لا يَرى التكبيرَ في
(1)
أخرجه الدارقطنيُّ (2/ 44).
(2)
أخرجه الدارقطنيُّ (2/ 49) قال الألباني في "الإرواء"(653): ضعيف جداً.
إلَّا المُحرِمَ فيُكبِّرُ من صلاةِ ظُهرِ يومِ النَّحرِ.
تلك الصلاة
(1)
، والمأمومَ يراه، أو بالعكسِ، فوجهان:
أحدُهما: أنَّ المأمومَ يتبعُ إمامَه فعلًا وتركًا؛ لأنَّ التكبيرَ من توابعِ الصَّلاةِ، فأشبَهَ ما هو في نفسِ الصَّلاةِ، إلا أنْ يتيقنَ خطأَ الإمامِ، فإنَّه لا يتابعُه، كما قلنا فيما إذا زادَ على سبعِ تكبيراتٍ في صلاةِ الجنازةِ والعيدِ.
والثاني: يجري
(2)
على موصا اعتقادِه؛ لأنَّ الاقتداءَ لا أثرَ له في هذا، فإنَّ الإمامَ إذا تحلَّلَ من صلاتِه، فقد انقطعَ أثرُ القدوةِ. انتهى من "حاشية" الشيخِ يوسف
(3)
.
وعُلِمَ من قولِه: "في الأضحى" أنَّه لا يكبِّرُ في أدبارِ الصَّلواتِ في عيدِ الفطرِ. وهو كذلك، كما في "الإقناع" وغيرِه.
وعُلِمَ من قولِه: "في جماعةٍ". أي: فلا يُسنُّ التكبيرُ المقيدُ في أدبارِ الصَّلواتِ في الأضحى إذا صلَّى منفردًا؛ لقولِ ابنِ مسعودٍ: إنَّما التكبيرُ على مَنْ صلَّى جماعةً
(4)
.
(إلا المُحْرِمَ) لأنَّه مشغولٌ بالمناسكِ قبلَ ذلك (فيكبِّرُ) أدبارَ المكتوباتِ جماعةً (من صلاةِ ظهرِ يومِ النحرِ) إلى عصرِ آخرِ أيامِ التشريقِ، نصًّا؛ لأنَّ التلبيةَ تنقطعُ برمي
(5)
جمرةِ العقبةِ. ووقتُه المسنونُ: ضحى يومِ العيدِ، فكان المُحْرِمُ فيه
(1)
سقطت: "في تلك الصلاة" من الأصل.
(2)
في الأصل: "يجزئُ".
(3)
انظر "النكت على المحرر"(1/ 264).
(4)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(4/ 305) معلقًا. وأخرجه (2213) مسندًا عن ابن عباس موقوفاً.
(5)
في الأصل: "به من".
ويُكبَّرُ الإمامُ مُستَقبلَ النَّاسِ.
كالمحلَّ، فلو رمى جمرةَ العقبةِ قبلَ الفجرِ، فكذلك؛ حملًا على الغالبِ. يُؤيدُه: أنَّه لو أخَّرَ الرميَ حتى صلَّى الظهرَ، اجتمعَ في حقِّهِ التكبيرُ والتلبية، فيبدأُ بالتكبيرِ؛ لأنَّ مثلَه مشروعٌ في الصَّلاةِ، فهو بها أشبَهُ.
وأيامُ التشريقِ، هي: حادي عشرَ ذي الحجةِ، وثاني عشرهِ، وثالثَ عشرِهِ؛ سُمِّيتْ بذلك: من تشريقِ اللِّحمِ. أي: تقديدِه. أو من قولِهم: أشْرقْ ثَبِير. وقيل: لأنَّ الهديَ لا يُنحرُ حتى تُشرِقَ الشمسُ. وقيل: هو التكبيرُ عقبَ الصَّلواتِ. وأنكرَهُ أبو عبيدةَ
(1)
.
(ويُكبِّرُ الإمامُ مستقبلَ الناسِ) يعني: أنَّ الإمامَ إذا سلَّمَ من المكتوبةِ، التفتَ إلى المأمومين، ثمَّ كبَّرَ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقبلُ بوجهِهِ على أصحابِه، ويقولُ:"على مكانِكم". ثمَّ يكبِّرُ
(2)
.
ويكبِّرُ إذا نسِيَ الإمامُ التكبيرَ. ويكبِّرُ مسبوقٌ إذا قضى ما فاتَه مع الإمام. ولا يسنُّ التكبيرَ عقبَ صلاةِ العيدِ.
تتمةٌ: يُسنُّ للمرأةِ التكبيرُ إذا صلَّتْ جماعةً مع الرجالِ، أو لا، وتخفضُ صوتَها به.
فائدةٌ: قال في "الاختيارات"
(3)
: عيدُ النحرِ أفضلُ من عيدِ الفطرِ وسائرِ الأيامِ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(3/ 418).
(2)
أخرجه الدارقطني (2/ 50) قال الألباني في "الإرواء"(653): ضعيف جداً.
(3)
"الاختيارات" ص (82).
وصفتُه شَفْعًا: اللَّه أكبرُ اللَّه أكبر، لا إلهَ إلا اللَّه واللَّه أكبر، اللَّه أكبرُ وللَّه الحَمْدُ.
ولا بأسَ بقولِه لغيرِه: تقبَّل اللَّهُ مِنَّا ومِنكَ.
(وصفتُه) أي: التكبيرِ (شفْعًا: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ واللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ) وفاقًا لأبي حنيفةَ. واستحبَّ ابنُ هبيرةَ تثليثَ التكبيرِ أوَّلًا، وفاقًا لمالكٍ
(1)
. ووجهُ الأوَّلِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يكبِّرُ كذلك. رواه الدارقطنيُّ
(2)
. وحكاه ابنُ المنذرِ عن عمرَ
(3)
.
(ولا بأسَ بقولِهِ) أي: المصلِّي: (لغيرِه) من المصلِّين: (تقبَّلَ اللهُ منَّا ومنكَ) نصًا. قال: لا بأسَ به.
ولا بأسَ بالتعريفِ عشيةَ عرفةَ بالأمصارِ، نصًّا. وأوَّلُ مَنْ فعلَهُ ابنُ عباسٍ
(4)
. وعنه: مستحبٌّ. ذكرَهُ الشيخُ تقي الدينِ
(5)
ابنُ تيميةَ
(6)
.
* * *
(1)
انظر "الفروع"(3/ 215).
(2)
تقدم تخريجه قريباً.
(3)
أخرجه ابن المنذر (2207).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 376).
(5)
سقطت: "الدين" من الأصل.
(6)
انظر "الإنصاف"(5/ 382).
بابُ صلاةِ الكُسُوفِ
وهيَ سُنَهٌ
(بابُ صلاةِ الكسوفِ)
وهو: ذهابُ ضوءِ أحدِ النَّيِّرَيْن، أي: الشَّمسِ والقمرِ.
والكسوفُ والخسوفُ بمعنًى واحدٍ. وقيل: الكسوفُ للشمسِ، والخسوفُ للقمرِ. وهو المعتبرُ.
والحكمةُ في كسوفِ الشمسِ والقمرِ: التبكيتُ والتقريعُ لمَنْ يعبدُهما؛ لأنَّهما لو كانا إلهين لدَفَعا عن أنفسِهما هذا النقصَ.
وإنما سنَّتِ الصَّلاةُ له؛ لأنَّ السَّاعةَ تقومُ والشمسُ والقمرُ كاسفان، فأُمر بالصَّلاةِ؛ خوفًا من أنْ يكونَ الكسوفُ لذلك.
وقال علماءُ الهيئةِ: كسوفُ الشمسِ لا حقيقةَ له، فإنِّها لا تتغيرُ في نفسِها، وإنَّما القمرُ يحولُ بيننا وبينها، ونورُها باقٍ. وأمَّا القمرُ فإنَّ ضوءَهُ من ضوءِ الشمسِ، وخسوفُه بحيلولةِ ظلِّ الأرضِ بين الشمسِ وبينه. انتهى.
(وهي) صلاةُ الكسوفِ والخسوفِ (سنة) مؤكَّدَة، لحديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ: انكسفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ ماتَ إبراهيمُ. فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم
(1)
. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، لا ينكسفانِ لموتِ أحدٍ، ولا لحياتِه، فإذا رأيتموهما، فادْعُوا اللهَ، وصلُّوا حتى
(1)
سقطت: "فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم" من الأصل.
مِنْ غَيرِ خُطبَةٍ.
ووقتُها: من ابتداءِ الكُسُوفِ إلى ذَهَابِه، ولا تُقضَى إن فاتَت.
وهي ركعتَانِ، يَقرأ في الأولى جهرًا الفاتحةَ، وسورةً طويلةً، ثمَّ يركعُ طَويلًا، ثمَّ يرفعُ فيُسَمِّعُ ويُحَمِّدُ، ولا يسجدُ، بل يقرأَ الفاتحةَ،
ينجليَ". متفقٌ عليه
(1)
.
(ووقتُها) أي: وقتُ صلاةِ الكسوفِ (من ابتداءِ الكسوفِ) أو الخسوفِ (إلى ذهابِه) أي: إلى التجلِّي، وهو تمامُ ضوءِ النَّيِّرَيْن؛ لقولِه عليه السلام:"فإذا رأيتُمْ شيئًا من ذلك، فصلُّوا حتى ينجليَ ما بكمْ". رواه مسلمٌ
(2)
.
(ولا تُقضى) صلاةُ الكسوفِ والخسوفِ (إذا فاتتْ) بالتَّجلِّي؛ لما تقدَّمَ. ولمْ يُنقلْ الأمرُ بها بعدَ التَّجلِّي، ولا قضاؤُها؛ ولأنَّها غيرُ راتبةٍ، ولا تابعةٍ لفرضٍ، فلمْ تُقض.
(وهي) صلاةُ الكسوفِ والخسوفِ (ركعتانِ، يَقرأُ في) الركعةِ (الأُولى جهرًا: الفاتحةَ، وسورةً طويلةً) من غيرِ تعيينٍ. وفي "الإقناع": البقرةَ، أو قدرَها (ثمَّ يركعُ طويلًا) أي: ويسبِّحُ فيه. قال الشارحُ
(3)
قال جماعةٌ: نحو مائةِ آيةٍ، (ثمَّ يرفعُ) رأسَهُ (فيُسمِّعُ) أي: قائلًا: سَمِعَ اللهُ لمَنْ حمِدَه، إنْ كان إمامًا أو منفردًا، ويأتي به في رفعِه (ويُحمِّدُ) أي: يقولُ إذا اعتدلَ: ربَّنا ولك الحمدُ، مِلءَ السماءِ
…
إلخ. سواءٌ كان إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا، لكنَّ الإمامَ والمنفردَ يأتي به بعدَ قيامِه، والمأمومَ في رفعِه (ولا يسجدُ، بلْ يقرأُ الفاتحةَ) أيضًا
…
(1)
أخرجه البخاري (1043)، ومسلم (915).
(2)
أخرجه مسلم (904) من حديث جابر.
(3)
انظر "الشرح الكبير"(5/ 390).
وسورةً طويلةً، ثم يركَعُ، ثم يَرفَعُ، ثمَّ يسجُدُ سجدَتَين طَويلَتَين، ثمَّ يصلِّي الثانيةَ كالأُولى، ثمَّ يتشهَّدُ ويُسلِّمُ.
وإنْ أتَى في كلِّ ركعَةٍ بثلاثِ ركُوعاتٍ، أو أربعٍ، أو خَمسٍ، فلا بأسَ.
(وسورةً طويلةً) وهو دون الطولِ الأوَّلِ في القيامِ والقراءةِ (ثمَّ يركعُ) أيضًا، فيطيلُ ركوعَه دون الركوعِ الأوَّلِ (ثمَّ يرفعُ) ويُسمِّعُ ويُحمِّدُ ولا يُطيلُه (ثمَّ يسجدُ سجدَتَين طويلَتَين) ولا يُطوِّلُ الجلوسَ بينهما (ثمَّ يصلِّي) الركعةَ (الثانيةَكـ) الركعةِ (الأُولى) بركوعين طويلَيْن، وسجدَتَين طويلتين، لكنْ تكونُ دون الركعةِ الأُولى في كلِّ ما يفعلُ (ثمَّ يتشَّهدُ ويسلِّمُ) لحديثِ جابرٍ: كسفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في يومٍ شديدِ الحرِّ، فصلَّى بأصحابِه، فأطالَ القيامَ حتى جعلوا يَخِرُّون، ثمَّ ركعَ فأطالَ، ثمَّ رفعَ فأطال، ثمَّ ركعَ فأطالَ، ثمَّ رفعَ فأطال
(1)
، ثمَّ سجدَ سجدَتَين، ثمَّ قامَ فصنعَ نحوَ ذلك. فكانتْ أربعَ ركعاتٍ، وأربعَ سجداتٍ. رواه أحمدُ، ومسلمٌ، وأبو داودَ
(2)
.
(وإنْ أتى في كلِّ ركعةٍ بثلاثِ ركوعاتٍ، أو أربع) ركوعاتٍ (أو خمسِ) ركوعات (فلا بأسَ) لحديثِ مسلمٍ
(3)
عن جابرٍ مرفوعًا: صلَّى ستَّ ركعاتٍ بأربعِ سجداتٍ. وعن ابنِ عباسٍ مرفوعًا: صلَّى في كسوفٍ، قرأَ ثمَّ ركعَ، ثمَّ قرأَ ثمَّ ركعَ، ثمَّ قرأَ ثمَّ ركعَ، قرأَ ثمَّ ركعَ
(4)
، والأخرى مثلُها. رواه مسلمٌ، وغيرُه
(5)
. وروى
(1)
سقطت: "ثمَّ ركعَ فأطالَ، ثمَّ رفعَ فأطال" من الأصل.
(2)
أخرجه أحمدُ (23/ 319)(15098)، ومسلمٌ (904)، وأبو داودَ (1181).
(3)
أخرجه مسلم (904).
(4)
سقطت: "قرأَ ثمَّ ركعَ" من الأصل.
(5)
أخرجه مسلم (909)، وأحمد (5/ 290)(3236).
وما بعدَ الأوَّل سُنَّةٌ لا تُدركُ به الرَّكعَةُ.
أبو داودَ وغيرُه
(1)
عن أبي العاليةِ، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ: انكسفتِ الشمسُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإنَّه صلَّى بهم، فقرأَ سورةً من الطوالِ، ثمَّ ركعَ خمسَ ركعاتٍ، وسجدَ سجدَتَين، ثمَّ قامَ إلى الثانيةِ فقرأَ سورةً من الطوالِ، وركعَ خمسَ ركعاتٍ، وسجدَ سجدَتَين، ثمَّ جلسَ كما هو، مستقبلَ القبلةِ، يدعو حتى انجلى كسوفُها.
ولا يزيدُ على خمسِ ركوعاتٍ في كلِّ ركعةٍ، ولا على سجدَتَين فيها؛ لأنَّه لمْ يردْ به نصٌّ، والقياسُ لا يقتضيه.
قال في "الفروع"
(2)
: والركوعُ متَّحدٌ. قال ابنُ قندسْ
(3)
: معنى اتحادِ الركوعِ: أنَّ ركعةَ الصَّلاةِ، ليس فيها إلا ركوعٌ، فشُرِعتِ الزيادةُ فيه، بخلافِ السُّجودِ؛ فإنَّه غيرُ متَّحدٍ، بلْ متعددٌ؛ لأنَّ في كلِّ ركعةٍ سجدَتَين، فلمْ تُشْرَعِ الزيادةُ فيه.
ولا يصلَّى لآيةٍ غيرِ الكسوفِ والخسوفِ، كظلمةٍ نهارًا، وضياءٍ ليلًا، وريحٍ شديدةٍ، وصواعقَ؛ لعدمِ نقلِ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، إلا لزلزلةٍ دائمةٍ، نصَّ عليه.
وقال ابنُ أبي موسى: يصلَّى لجميعِ الآياتِ. وهو ظاهرُ كلامِ أحمدَ. نقلَهُ الزركشيُّ
(4)
؛ لفعلِ ابنِ عباسٍ
(5)
.
(وما بعدَ) الركوعِ (الأوَّلِ) في كلِّ ركعةٍ (سنَّةٌ) كتكبيراتِ العيدِ (لا تدركُ به الركلعةُ) للمسبوقِ. ولا تبطلُ الصَّلاةُ بتركِه؛ لأنَّه رُوِيَ من غيرِ وجهٍ عنه، عليه
(1)
أخرجه أبو داود (1184)، وأحمد (35/ 148)(21225)، وضعفه الألباني.
(2)
"الفروع"(3/ 221).
(3)
"حاشية الفروع"(3/ 221).
(4)
"شرح الزركشي"(2/ 261).
(5)
حيث صلى للزلزلة. أخرجه البيهقي (3/ 343).
ويَصحُّ أن يُصلِّيها كالنَّافلَةِ.
السَّلامُ: أنَّه صلَّى صلاةَ الكسوفِ بركوعٍ واحدٍ
(1)
(و) لهذا (يصحُّ) فعلُها (كالنافلةِ) أي: بركوعٍ واحدٍ لكلِّ ركعةٍ.
* * *
(1)
أخرجه أحمد (33/ 346)(20178)، وأبو داود (1186)، والنسائي (1484) من حديث سمرة بن جندب. وضعفه الألباني.
بابُ صلاةِ الاسْتِسْقاءِ
وهي سُنَّةٌ. ووقتُها، وصِفتُها، وأحكَامُها، كصلاةِ العيدِ.
وإذا أرادَ الإمامُ الخُروجَ لَها وعَظَ الناس،
(بابُ صلاةِ الاستسقاءِ)
من إضافةِ المسببِ إلى سببِه. (وهي) صلاةُ الاستسقاءِ (سنةٌ) لفعلِه عليه السلام (ووقتُها) أي: صلاةِ الاستسقاءِ، كعيدٍ، فتُسنُّ أوَّلَ النهارِ. وتجوزُ كلَّ وقتٍ، غيرَ وقتِ نهيٍّ.
(وصفتُها، وأحكامُها، كصلاةِ العيدِ) قال ابنُ عباسٍ: سنَّةُ الاستسقاءُ سنَّةُ العيدين
(1)
. فتُسنُّ قبلَ الخطبةِ بصحراءَ قريبةٍ عُرْفًا، بلا أذانٍ ولا إقامةٍ. ويقرأُ جهرًا في الأُولى بسبِّح، وفي الثانيةِ بالغاشية. ويُكبِّرُ في الأُولى ستًّا، زوائدَ، وفي الثانيةِ خمسًا قبلَ القراءةِ. قال ابن عباسٍ: صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ركعتين، كما يصلِّي في العيدين
(2)
. قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. وروى الشافعيُّ
(3)
مُرسلًا: أنَّه، وأبا بكرٍ، وعمرَ، كانوا يصلُّون صلاةَ الاستسقاءِ، يكبِّرون فيها سبعًا وخمسًا. وعن ابنِ عباسٍ نحوه. وزادَ فيه: وقرأَ في الأُولى بسبِّح، وفي الثانيةِ بالغاشية
(4)
.
(وإذا أرادَ الإمامُ الخروجَ لها
(5)
، وعظَ الناسرَ)، أي: ذكَّرَهم ما تلينُ به
(1)
أخرجه الدارقطني (2/ 66).
(2)
أخرجه أبو داود (1167)، والترمذي (558)، وحسنه الألباني.
(3)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 76) عن جعفر بن محمد.
(4)
أخرجه الدارقطني (2/ 66).
(5)
في الأصل: "إليها".
وأمرَهم بالتَّوبةِ، والخُروجِ من المظالِمِ، ويتنظَّفُ لها، ولا يتَطيَّبُ.
ويخرُجُ متواضِعًا، مُتخشِّعًا، مُتذلِّلًا، مُتضرِّعًا، ومعَه أهلُ الدِّينِ والصلاحِ، والشُّيوخُ.
ويُباحُ خروجُ الأطفالِ، والعجائِزِ والبهائِمِ، والتوسُّلُ بالصَّالحِينَ.
قلوبُهم، وخوَّفَهُم العواقبَ (وأمرهَم بالتوبةِ) أي: الرجوعِ عن المعاصي (والخروجِ من المظالمِ) بأنْ يردَّ مَنْ عنده مظلمةٌ إلى مستحقِّها، وذلك واجبٌ في كلِّ وقتٍ، ولأنَّ المعاصي سببُ القحطِ، والتقوى سببُ البركاتِ؛ يدلُّ لذلك قولُه سبحانه وتعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] الآية.
(ويتنظَّفُ لها) أي: لصلاةِ الاستسقاءِ بالغُسلِ، وتقليمِ الأظفارِ، وإزالةِ رائحةٍ كريهةٍ؛ لئلا يؤذيَ الناسَ (ولا يتطَّيبُ) لأنَّه يومُ استكانةٍ وخضوع
(ويخرجُ متواضعًا، متخشِّعًا) خاضعًا (متذلِّلًا) من الذُّلِّ، أي: الهوانِ (متضرِّعًا) مستكينًا؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ: خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم للاستسقاءِ متذلِّلًا، متواضعًا، متخشِّعًا، متضرَّعًا، حتى أتى المصلَّى
(1)
. قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. (ومعه أهلُ الدِّينِ والصَّلاحِ، والشُّيوخُ) لسرعةِ إجابةِ في عوتِهم.
(ويُباحُ خروجُ الأطفالِ، والعجائزِ، والبهائمِ) لأنَّهم خلقُ اللهِ وعيالُه
(و) أُبيحَ (التوسُّلُ بالصَّالحين
(2)
) رجاءَ الإجابةِ، واستسقى عمرُ بالعباسِ
(3)
،
(1)
أخرجه أبو داود (1167)، والترمذي (558)، وحسنه الألباني.
(2)
المراد بالتوسل بالصالحين: التوسل بدعاء الحي القادر الصالح، وهو أن يدعو اللَّه تعالى لهم، كما فعل عمر رضي الله عنه مع العباس.
(3)
أخرجه البخاري (1010).
فَيصُلِّي، ثمَّ يخطُبُ خُطبةً واحدةً، يفتتِحُهَا بالتَّكبيرِ كخُطبَةِ العِيدِ، ويكثرُ فيها الاستغفارَ، وقراءةَ آياتٍ فيها الأمرُ بهِ، ويَرفَعُ يديه وظُهورُهُما نحوَ السماءِ، فيدعو بدُعَاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم،
ومعاويةُ بيزيدَ بنِ الأسودِ
(1)
، واستسقى به الضَّحاكُ بنُ قيسٍ مرةً أخرى. ذكرَه الموفقُ.
(فيصلي
(2)
ثمَّ يخطبُ خطبةً واحدةً) على المنبرِ، والناسُ جلوسٌ عندهُ؛ لأنَّه لمْ يُنقلْ غيرُه عنه عليه السلام (يفتتحُها) أي: الخطبةَ (بالتكبير) تسعًا نَسَقًا (كخطبةِ العيدِ) لقولِ ابنِ عباسٍ: صنعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاءِ، كما صنعَ في العيدِ
(3)
.
(ويكثرُ فيها الاستغفارَ) لقولِه تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (وقراءةَ آياتٍ، فيها الأمرُ به) أي: الاستغفارِ، كقولِه تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3].
(ويرفعُ يديه) في دعائِه؛ لقولِ أنسٍ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يرفعُ يديه في شيءٍ من دعائِه، إلا في الاستسقاءِ، فكان يرفعُ يديه حتى يُرى بياضُ إبطيه. متفقٌ عليه
(4)
. (وظهورُهما نحوَ السماءِ) لحديثٍ رواه مسلمٌ
(5)
. (فيدعو بدعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم) لقولِه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. فيقولُ: "اللهمَّ
(1)
أخرجه أبو زرعة في "تاريخه"(1/ 602).
(2)
سقطت: "فيصلي" من الأصل.
(3)
تقدم تخريجه قريباً.
(4)
أخرجه البخاري (1031)، ومسلم (895).
(5)
أخرجه مسلم (896) من حديث أنس بن مالك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اسقنا غيثًا مُغيثًا، هنيئًا مَريئًا، غدقًا مُجَلِّلًا، سَحًّا عامًّا
(1)
، طَبَقًا دائمًا، اللهمَّ اسقنا الغيثَ ولا تجعلْنا من القانطين، اللهمَّ سُقْيا رحمةٍ لا سُقيا عذابٍ، ولا بلاءٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، اللهمَّ إنَّ بالعبادِ والبلادِ من اللأواءِ، والجَهدِ والضَّنْكِ ما لا نشكوه إلا إليك، اللهمَّ أنْبتْ لنا الزرعَ، وأدِرَّ لنا الضرعَ، واسقنا من بركاتِ السماءِ، وأنزلْ علينا من بركاتِك، اللهمَّ ارفعْ عنَّا الجَهدَ، والجوعَ، والعُزيَ، واكشف عنَّا من البلاءِ ما لا يكشفُه غيرُك. اللهمَّ إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسلِ السماءَ علينا مِدْرارًا"
(2)
. ويكثرُ من الدُّعاءِ، ومن الصَّلاةَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قولُه: "اللهمَّ" أي: يا اللَّه. قوله: "اسقنا" بوصلِ الهمزةِ وقطعِها. قولُه: "غيثًا" هو مصدرٌ. والمرادُ به: المطرُ. ويُسمَّى الكلأُ: غيثًا. قولُه: "مُغِيثًا" هو المُنقذُ من الشِّدةِ، يقالُ: غَاثَه وأغَاثه، وغيثت الأرضُ، فهي مغيثةٌ ومغيوثةٌ. قولُه:"هنيئًا" بالمدِّ والهمزةِ، أي: حاصلًا بلا مشقَّةٍ. قولُه: "مريئًا" السهلُ النافعُ، المحمودُ العاقبةِ، وهو ممدودٌ مهموزٌ. قولُه:"غَدَقًا" بفتحِ الدَّالِ وكسرِها، والمغدق: الكثيرُ الماءِ والخيرِ. قولُه: "مُجَلِّلًا": السَّحابُ الذي يعمُّ العبادَ والبلادَ نفعُه. قولُه: "سَحًّا": الصبُّ، يقالُ: سحَّ الماءُ يَسُحُّ: إذا سالَ من فوقٍ إلى أسفلَ. وساحَ يسيحُ: إذا جرى على وجهِ الأرضِ. قولُه: "طَبَقًا" بفتحِ الطاءِ والباءِ الذي طبقَ البلادَ مطرُه. قولُه: "دائمًا" أي: متَّصلًا إلى أن يحصلَ الخِصْبُ. قولُه: "من القانطين" أي: الآيسينَ من الرَّحمةِ. قولُه: "من اللأواءِ" أي: الشِّدَّة. قولُه: "والجهدُ" بفتحِ الجيمِ،
(1)
سقطت: "عامًّا" من الأصل.
(2)
أخرجه بنحوه أبو داود (1171) من حديث جابر.
ويؤمِّنُ المأمومُ.
ثمَّ يستَقِبلُ القبلَةَ في أثناءِ الخطبَةِ، فيقولُ سرًّا: اللَّهم إنَّكَ أمرتنا بدعائِكَ، ووعدَّتنا إجابتَك، وقد دعونَاك كَمَا أمرتنا، فاستجِبْ لنا كَمَا وعدَّتنا.
ثمَّ يحوِّل رداءَه فيجعَلُ الأيمنَ على الأيسَرِ، والأيسرَ على الأيمَنِ، وكذا النَّاسُ، ويترُكونَه حتَّى ينزِعُوهُ معَ ثيابِهم.
وضمِّها: الطَّاقةُ. قالَه الجوهريُّ. وقال ابنُ منجا: هما المشقَّةُ. قولُه: "الضَّنْكُ" أي: الضِّيقُ.
(ويؤمِّنُ المأمومُ) على دعاءِ إمامِه، كالقنوتِ.
(ثمَّ يستقبلُ) إمامٌ (القبلةَ) ندْبًا (في أثناءِ الخطبةِ) لأنَّه عليه السلام حوَّلَ إلى الناسِ ظهرَه، واستقبلَ القبلةَ يدعو، ثمَّ حوَّلَ رداءَهُ. متفقٌ عليه
(1)
. (فيقولُ سرًّا: اللهمَّ إنَّكَ أمرْتَنا بدعائِك، ووعدَّتَنا إجا بتَك، وقدْ دعو ناك كما أمرْتَنا، فاستجبْ لنا كما وعدَّتَنا)، قال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وإنْ دعا بغيرِه، فلا بأسَ.
(ثمَّ يحوِّلُ رداءَه، فيجعلُ الأيمنَ على الأيسرِ، والأيسرَ على الأيمنِ) نصًّا، لفعلِه عليه السلام. رواه أحمدُ وغيرُه
(2)
من حديثَ أبي هريرةَ. (ويتركونهُ) أي: الرداءَ محوَّلًا (حتى ينزِعُوه مع ثيابِهم) لأنَّه لثم يُنقلْ عنه عليه السلام، ولا عن أحدٍ
(1)
أخرجه البخاري (1025)، ومسلم (894) من حديث عبد اللَّه بن زيد.
(2)
أخرجه أحمد (14/ 73)(8327)، وابن ماجه (1268)، وضعفه الألباني.
فإنْ سُقُوا، وإلَّا عادُوا ثانيًا، وثالثًا.
ويُسَنُّ: الوقوفُ في أوَّلِ المَطَرِ، والوضوءُ والاغتسالُ مِنه، وإخراجُ رحلِهِ وثيابِه ليُصيبَها.
وإن كثُرَ المطرُ حتَّى خِيفَ منُه، سُنَّ قولُ: اللَّهم حَوَالَينا ولا علَينا، اللَّهم
من الصَّحابةِ، أنَّهم غيَّروا الأرْدَيةَ حتى عادوا
(فإنْ سُقُوا) في أوَّلِ مرةٍ، ففضلٌ من اللهِ ونعمةٌ (وإلا) بأن لم
(1)
يُسقوا أوَّلَ مرةٍ (عادوا ثانيًا، وثالثًا) صفتانِ لمحذوفٍ، أي: عودًا ثانيًا، وعودًا ثالثًا؛ لأنَّه أبلغ في التضرُّعِ، ولحديثِ:"إنَّ اللهَ يحبُّ المُلحِّين في الدُّعاءِ". وظاهرُه: أنَّه لا يُسنُّ إعادتُه أكثرَ من ذلك.
ونقلَ الشيخُ منصورٌ في "شرحه"
(2)
: قال أَصْبَغُ: استُسقي للنِّيلِ بمصرَ خمسةً وعشرين مرَّةً متواليةً، وحضرَه ابنُ وهبٍ، وابنُ القاسمِ، وجمعٌ
(ويُسنُّ: الوقوفُ في أوَّلِ المطرِ، والوضوءُ والاغتسالُ منه، وإخراجُ رَحْلِه) وما يستصحبُ من أثاثٍ (و) إخراجُ (ثيابه؛ لصيبَها) المطرُ؛ لحديثِ أنسٍ: أصابنا ونحن مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مطرٌ، فحسرَ ثوبَه، حتى أصابَه من المطرِ، فقلنا: لمَ صنعتَ هذا؟ قال: "لأنَّه حديث عهدٍ بربِّه". رواه مسلمٌ
(3)
.
(وإنْ كثُرَ المطرُ حتى خِيفَ منه، سُنَّ قولُه: اللهمَّ حَوَالَيْنا ولا علينا، اللهمَّ
(1)
سقطت: "بأن لم" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(2/ 63).
(3)
أخرجه مسلم (898).
على الآَكامِ والظِّرابِ، وبُطُونِ الأوديةِ، ومَنابِتِ الشَّجر، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] الآية.
على الآكامِ والظِّرابِ، وبطونِ الأوديةِ، ومنابتِ الشجرِ) لما في الصحيحِ
(1)
أنَّه عليه السلام كان يقولُه. ولا يُصلَّى له.
"والآكامُ": كآصالٍ، جمعُ: أُكُمِ، ككُتُبٍ. وكجبالٍ جمعُ: أكَم، كجبلٍ. واحدُها: أكَمَةٌ، وهي: ما علا من الأَرضِ، ولمْ يبلغْ أنْ يكونَ جبلًا، وكان أكثرَ ارتفاعًا مما حولَه. وقال مالكٌ: الجبالُ الصِّغارُ. "والظِّرابُ": جمعُ ظَرِب، بكسرِ الرَّاءِ، أي: الرابيةُ الصغيرةُ. وهو الشيءُ المرتفعُ من الأرضِ دونَ الأكمِ. "وبطونُ الأوديةِ": الأماكنُ المنخفضةُ. "ومنابتُ الشجرِ": أصولُها؛ لأنَّه أنفعُ لها.
({رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}) إلى آخر (الآيةَ). وهو منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ. أي: اقرأ الآيةَ؛ لأنَّها تناسبُ الحالَ. فاستُحبَّ قولُها كسائرِ الأقوالِ اللائقةِ بالحالِ.
قولُه تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: لا تكلِّفنا من الأعمالِ ما لا نطيقُ. وقيل: هو حديثُ النفسِ والوسوسةُ. وعن إبراهيمَ: هو الحبُّ. وعن محمد بنِ عبدِ الوهابِ: هو العشقُ. وقيل: هو شماتةُ الأعداءِ. وقيل: هو الفُرْقةُ والقطيعةُ. نعوذُ باللهِ منها. {وَاعْفُ عَنَّا} أي: تجاوزْ عنا ذنوبَنا {وَاغْفِرْ لَنَا} أي: استُرْ علينا ذنوبَنا، ولا تفضحْنا، {وَارْحَمْنَا} فإننا لا ننالُ العملَ بطاعتِكَ ولا تركِ معاصيكَ إلا برحمتِكَ {نْتَ مَوْلَانَا} ناصرُنا وحافظُنا.
(1)
أخرجه البخاري (1013)، ومسلم (897) من حديث أنس.
وسُنَّ قولُ: مُطِرنَا بفَضْلِ اللَّه ورحمتِه. ويحرُمُ: مُطِرنَا بنَوءِ كَذا. ويباح: في نَوءِ كَذا.
(وسُنَّ قولُ: مُطرْنا بفضلِ اللهِ ورحمتِه) لأنَّه اعترافٌ بنعمةِ اللهِ. (ويحرُمُ) قولُ: (مُطرْنا بنوءِ) أي: كوكبِ (كذا) لأنَّه كفرٌ لنعمةِ اللهِ.
قولُه: "ويحرُمُ بنوءِ كذا" قال القاضي: هل إذا استُعْمِلَتِ "الباء" بمعنى "في" مضى ذلك، أو لا؟ الظاهرُ: المنعُ؛ حسمًا للمادةِ.
والنوءُ: النجمُ مال للغروبِ. جمعُ: أنواء. إذا سقطَ النجمُ في المغربِ وطلوعُ الفجرِ مقابله. ويقالُ له: الطالعُ بالفجرِ. وله ثمانيةٌ وعشرون منزلةً. الطالعةُ بالفجرِ، ويقابلُه النوءُ. وعَدُّ ذلك: نوء المقدَّم، نوءُ الصرفةِ. نوء الموخَّر، نوءُ العواء، نوء الرشاء، نوءُ السماكِ، نوءُ الشرطين، نوءُ الغفر، بطين، نوءُ الزبانا
(1)
، نوءُ الثرياء، نوء الإكليلِ، نوءُ الدبران، نوءُ القلبِ، نوءُ الهقعةِ، نوءُ الشولةِ
(2)
، هنعةٌ، نوءُ النعائمِ، ذراعٌ، نوء البلدةِ، نثرة، نوءُ الذابحِ، الطرف، نوءُ بلعٍ، نوءُ الجبهةِ، نوءُ السعودِ، خرثانُ، نوءُ الأخبيةِ
(3)
. فهذه ثمانية وعشرون منزلةً للقمرِ، ومقابلُها النوءُ للغروبِ.
قال في "الإقناع": ولا يُكره قولُ: مُطرْنا في نوءِ كذا. ولو لمْ يقلْ: برحمةِ اللهِ
(4)
. خلافًا للآمديِّ. وظاهرُ كلامِ صاحبِ "المنتهى": عدمُ الكراهةِ، فإنَّه قال: ويُباحُ في نوءِ كذا
(5)
.
(1)
في الأصل: "الرنانا".
(2)
في الأصل: "الشوكة".
(3)
تكررت أسماء المنازل في الأصل.
(4)
"الإقناع"(1/ 323).
(5)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 65).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأمَّا إضافةُ المطرِ إلى النوءِ دون اللهِ اعتقادًا، فكفرٌ، إجماعًا. قالَهُ في "الإقناع" و"الفروع" وغيرِهما؛ لاعتقادِه خالقًا غيرَ اللهِ
(1)
.
قلتُ: العلَّةُ تقتضي الوقايةَ من غيرِ اعتقادِ ذلك لا يكفر
(2)
؛ لأنَّه لا يقتضي الإضافةَ للنوءِ.
ومَنْ رأى سحابًا، أوهبَّتْ ريحٌ، سألَ اللهَ خيرَه، وتعوَّذَ من شرِّه. ولا سألَ سائلٌ، ولا تعوَّذَ متعوِّذٌ بمثلِ المعوذتين. ولا يسبُّ الريحَ العاصفةَ.
وإذا سمِعَ الرعدَ، تركَ الحديثَ، وقال: سبحانَ مَنْ يسبِّحُ الرعدُ بحمدِه، والملائكةُ من خيفتِه. ولا يُتبعُ بصرَهُ البرقَ؛ للنهيِّ عنه.
ويقولُ إذا انقضَّ كوكبٌ: ما شاءَ اللهُ، لا قوةَ إلا باللهِ.
وإذا سمِعَ نهيقَ حمارٍ أو نُباحَ كلبٍ: استعاذَ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ. وإذا سمِعَ صياحَ الديكةِ، سألَ اللهَ من فضلِه.
وقوسُ قُزح أمانٌ لأهلِ الأرضِ من الغَرقِ، كما في الأثرِ
(3)
، وهو من آياتِ اللهِ
(4)
.
* * *
(1)
انظر "كشاف القناع"(3/ 460)، "معونة أولي النهى"(2/ 544).
(2)
كذا في الأصل.
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 309) عن ابن عباس مرفوعاً: "لا تقولوا قوس قزح، فإن قزح شيطان، ولكن قولوا: قوس اللَّه عز وجل، فهو أمان لأهل الأرض من الغرق ". قال الألباني في "الضعيفة"(872): موضوع.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 65).
كتابُ الجَنَائزِ
يُسنُّ الاستعدادُ للموتِ، والإكثارُ مِن ذكرِه.
ويُكْرَهُ الأنينُ، وتَمنِّي الموتَ، إلَّا لِخَوفِ فِتنَةٍ.
وتُسنُّ: عيادةُ المريضِ المسلِمِ،
(كتابُ الجنائزِ)
بفتحِ الجيمِ، جمعُ جِنازَةٍ، بكسرِها، والفتحُ لُغَةٌ: اسمٌ للميتِ، أو للسَّريرِ عليه ميتٌ. فإنْ لمْ يكنْ عليه ميتٌ، فلا يقالُ: نَعْشٌ، ولا جِنازةٌ، بل سريرٌ. مضتقَّةٌ من جَنَزَ، من
بابِ
ضربَ: إذا سَتَرَ.
(يُسنُّ الاستعدادُ للموتِ) بالتوبةِ من المعاصي، والخروجِ من المظالمِ (و) يُسنُّ (الإكثارُ من ذِكرِه) أي: الموتِ؛ لحديثِ: "أكثروا من ذكرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ". أي: الموتِ، بالذَّالِ المعجمةِ.
(ويُكره الأنينُ) لأنَّه يترجمُ عن الشَّكوى، ما لمْ يغلبْه.
(و) يُكره (تمنِّي الموتِ) نزلَ به ضرٌّ، أم لا. وحديثٌ:"لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ من ضرٍّ أصابَه، فإن كان لابدَّ فاعلًا، فليقلْ: اللهمَّ أحيني ما كانتِ الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خيرًا لي". متفقٌ عليه
(1)
. جَزيٌ على الغالبِ. ولا يُكره: إذا أردتَ بعبادِك فتنةً، فاقبضني إليك غيرَ مفتونٍ". ولا تمني الشَّهادةِ (إلا لخوفِ فتنةٍ) فلا يُكره.
(وتُسنُّ عيادةُ المريضِ المسلمِ) لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "خمسٌ تجبُ
(1)
أخرجه البخاري (5671)، ومسلم (2680) من حديث أنس.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
للمسلمِ على أخيه: ردُّ السَّلامِ، وتشميتُ العاطسِ، وإجابة الدعوةِ، وعيادة المريضِ، واتِّباعُ الجنازةِ". متفقٌ عليه
(1)
. وتحرُمُ عيادة ذميِّ.
و"المسلمِ": غيرُ مبتدعٍ
(2)
يجب هجزه كرافضيٍّ - قال في "النوادر": وتحرُمُ عيادته - أو يُسنُّ هجرُه، كمتجاهرٍ بمعصيةٍ، فلا تُسنّ عيادتُه إذا مرِضَ؛ ليرتدعَ ويتوبَ. وعُلِمَ منه: أنَّ غيرَ المتجاهرِ بمعصيةٍ يعادُ. والمرأة كرجلٍ مع أمنِ الفتنةِ. وتشرعُ العيادة في كلِّ مرضٍ حتى الرَّمد، ووجعِ الضرسِ، والدّمَّلِ. خلافًا لأبي المعالي. وحديث:"ثلاثةٌ لا يُعادُون .. "
(3)
. غيرُ ثابتٍ. وفي "نوادر ابنِ الصيرافيِّ": نقلَ عن إمامِنا رحمه الله، ورضي اللَّه عنه، أنَّه قال له ولدُه: يا أبتِ، إنَّ جارَنا فلانًا مريضٌ، فما نعودُه؟. قال: يا بني ما عادَنا فنعودُه
(4)
.
ويكون غبًّا، وتكونُ العيادةُ من أوَّلِ المرضِ، وتكونُ بكرةً وعشيًا. قال أحمدُ عن قربِ وسطِ النهارِ: ليس هذا وقتَ عيادةٍ. وتكونُ في رمضانَ ليلًا؛ لأنَّه أرفقُ بالعائدِ.
ويُسنّ لعائدٍ تذكيرُه التوبةَ، وهي واجبةٌ على كلِّ أحدٍ من كلِّ ذنبٍ، وفي كلِّ وقت.
(1)
أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162).
(2)
في الأصل: "المبتدع".
(3)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(152) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "ثلاث لا يعاد صاحبهن: الرمد، وصاحب الضرس، وصاحب الدمل" قال الألباني في "ضعيف الجامع": (2566): موضوع.
(4)
انظر "الفروع"(3/ 252).
وتَلِقينُه عندَ موتِه: لا إله إلا اللَّه مرَّةً، ولم يَزِدْ إلَّا أن يتكلَّم،
ولا يجبُ التداوي من مرضٍ، ولو ظنَّ نفعَه؛ إذ النافعُ في الحقيقةِ والضارُّ هو اللهُ تعالى. والدَّواءُ لا ينجحُ بذاتِه. وتركُه أفضلُ. ويحرُمُ الدواءُ بمحرَّمٍ من مأكولٍ وغيرِه.
ويُباحُ كَتْبُ قرآنٍ بإناءٍ، وكَتْبُ ذكرٍ بإناءٍ، لحاملٍ، لعسرِ الولادةِ. ولمريضٍ، ويُسقَيانِه للحاملِ والمريضِ.
وتحرُمُ التَّميمةُ، وهي خَرَزةٌ تُعلَّقُ.
(و) سُنَّ (تلقينُه عند موته) أي: وقتَ موتِه. وأُطلِقَ على المحتَضَرِ ميتٌ؛ لأنَّه واقعٌ به لا محالةَ (لا إله إلا اللَّه) لحديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: "لقِّنوا موتَاكم: لا إله إلا اللهُ"
(1)
. وعن معاذٍ مرفوعًا: "مَنْ كان آخرُ كلامِه: لا إله إلا اللَّه، دخلَ الجنةَ". رواه أحمدُ، وصحَّحه الحاكمُ
(2)
. واقتصرَ عليها؛ لأنَّ إقرارَه بها إقرارٌ بالأخرى. قال في "الفروع": ويتوجَّهُ احتمالٌ بأنْ يلقِّنَهُ الشهادتين. كما ذكرَهُ جماعةٌ من الحنفيةِ والشافعيةِ؛ لأنَّ الثانيةَ تبعٌ، فلهذا اقتصرَ في الخبرِ على الأُولى
(3)
.
فائدةٌ: قال أبو المعالي: يُكره تلقينُ الورثةِ للمحتَضَرِ بلا عُذرٍ
(مرةً) نصًّا. واختارَ الأكثرُ ثلاثًا. (ولمْ يزدْ) على ثلاثٍ (إلا أنْ يتكلَّمَ) بعدَ الثَّلاثِ، فيعيدُ التلقينَ؛ ليكونَ آخرُ كلامِه: لا إله إلا اللهُ. ويكونُ برفقٍ؛ لأنَّه مطلوبٌ في كلِّ شيءٍ، وهذا أَوْلى به.
(1)
أخرجه مسلم (916).
(2)
أخرجه أحمد (36/ 363)(22034)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 501).
(3)
انظر "الأنصاف"(6/ 14).
وقراءة "الفاتحة" و"يس"، وتَوجيهُهُ إلى القِبلَة على جنبِه الأَيمنِ مع سَعَةِ المكان، وإلَّا فعَلَى ظَهرِه.
فإذا ماتَ، سُنَّ تغميضُ عينَيْهِ،
(و) سُنَّ (قراءةُ الفاتحةِ، و) تُسنُّ (يس. و) سُنَّ (توجيهُه إلى القبلةِ على جنبِه الأيمنِ) لحديثِ أبي قتادةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدِمَ المدينةَ، فسألَ عن البراءِ بنِ معرورٍ، فقالوا: تُوفي وأوصى بثلثِه لكَ، وأنْ يوجَّهَ إلى القبلةِ لما احتُضِرَ. فقال صلى الله عليه وسلم:"أصابَ الفطرةَ، وقد رددتُ ثلثَه على ولدِه". ثمَّ ذهبَ وصلَّى عليه. أخرجه الحاكمُ
(1)
وصحَّحه. وقال: لا أعلمُ في توجيهِ المحتَضَرِ إلى القبلةِ غيرَهُ. ورُويَ أنَّ حذيفةَ أمرَ أصحابَهُ عندَ موتِه أنْ يوجِّهوهُ إلى القبلةِ
(2)
. ورُويَ عن فاطمةَ كذلك
(3)
. هذا (مع سَعةِ المكانِ) لتوجيهه على جنبِه (وإلا) يتسع المكانُ لذلك، بل ضاقَ عنه (فـ) يُلْقى (على ظهرِه) وأخمصاه إلى القبلةِ، كوضعِه على المُغْتسلِ. زادَ جماعةٌ: ويرفعُ رأسُه قليلًا؛ ليصيرَ وجهُه إلى القبلةِ، دونَ السماءِ.
(فإذا ماتَ سُنَّ تغميضُ عينيه) لأنَّه عليه السلام أغمضَ أبا سلمةَ، وقال:"إنَّ الملائكةَ يؤمِّنونَ على ما تقولون". رواه مسلمٌ
(4)
. ولئلا يَقبُحَ منظرُه، ويُساءَ به الظنُّ.
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 505)، وضعفه الألباني في "الإرواء" تحت الحديث (689).
(2)
سقطت: "إلى القبلةِ" من الأصل. والأثر أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(12/ 296).
(3)
أخرجه أحمد (45/ 587)(27615).
(4)
أخرجه مسلم (920) من حديث أم سلمة.
وقولُ: بسم اللَّه، وعلى وفَاةِ رسولِ اللَّه.
ولا بأسَ بتقبيلِه، والنظرِ إليه، ولو بعد تكفِينِه.
(وقولُ: بسمِ اللهِ، وعلى وفاةِ رسولِ اللهِ) نصًّا؛ لما رواه البيهقيُّ
(1)
عن بكرِ بنِ عبدِ اللهِ المزنيِّ، ولفظُه: على ملةِ رسولِ اللهِ.
(ولا بأسَ بتقبيلِه) أي: الميتِ (والنظرِ إليه) ممَّنْ يُباحُ له ذلك في الحياةِ (ولو بعدَ تكفينِه) نصًّا؛ لحديثِ عائشةَ: رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبِّلُ عثمانَ بنَ مظعونٍ، وهو ميتٌ، حتى رأيتُ الدُّموعَ تسيلُ
(2)
. صحَّحه في "الشرح".
(1)
أخرجه البيهقي (3/ 385).
(2)
أخرجه أبو داود (3165)، وصححه الألباني.
فَصْلٌ
وغَسْلُ المَيِّتِ فَرضُ كِفَايَةٍ.
وشُرِطَ في المَاءِ: الطَّهُوريَّةُ والإباحَةُ.
وفي الغاسِلِ: الإسلامُ، والعَقلُ والتَّميِيزُ.
(فصلٌ)
(وغَسْلُ الميتِ) مرَّةً واحدةً، أو يُيَمَّمُ لعذرٍ (فرضُ كفايةٍ) إجماعًا. على كلِّ مَنْ عرفَ به وأمكنَهُ؛ لقولِه عليه السلام في الذي وَقَصَتْهُ راحِلَتُه:"اغسلُوه بماءٍ وسِدْرٍ، وكفِّنوه في ثوبيه". متفقٌ عليه
(1)
من حديثِ ابنِ عباسٍ. وهو حقٌّ للهِ، فلو أوصى بإسقاطِه، لمْ يسقطْ، وإن لمْ يعلمْ به إلا واحدٌ، تعيَّن عليه.
(وشُرِطَ في الماءِ) لصحةِ غسلِه: (الطهوريَّةُ والإباحةُ) كباقي الأغسالِ
(و) شُرِطَ (في الغاسلِ) ثلاثةُ شروطٍ:
(الاسلامُ) لاعتبارِ نيَّتِه. ولا تصحُّ من كافرٍ.
(و) الثاني: (العقلُ) لأنَّ غيرَ العاقلِ ليس أهلًا للنيةِ.
(و) الثالثُ: (التمييزُ) فلا يصحُّ ممَّنْ دون التمييزِ، ولا يُشترطُ بلوغُه؛ لصحةِ غُسلِه لنفسِه.
قال في "الفروع"
(2)
: فدلَّ أنَّه لا يكفي من الملائكةِ، وهو ظاهرُ كلامِ الأكثرِ.
(1)
أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (1206).
(2)
"الفروع"(3/ 276).
والأفضلُ: ثِقةٌ عَارفٌ بأحكَامِ الغَسْلِ. والأَولى به وصيُّهُ العَدلُ.
وإذا شَرَعَ في غَسلِهِ، سَتَر عورَتَه وُجُوبًا،
وفي "الانتصار": يكفي إنْ عَلِمَ. وكذا في "تعليق" القاضي، واحتجَّ بغَسْلِهم لحنظلَةَ
(1)
، وبغَسْلِهم لآدمَ عليه السلام
(2)
، وبأنَّ سعدًا لما ماتَ، أسرعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المشي إليه، فقيلَ له؟ فقال:"خشيتُ أن تسبِقَنا الملائكةُ إلى غَسلِه، كما سبقتْنا إلى حنظلةَ"
(3)
. قال في "الفروع": ويتوجه في مسلمي الجنِّ كذلك وأَوْلى؛ لتكليفِهم.
(والأفضلُ) أنْ يُختارَ لغَسلِه (ثقةٌ عارفٌ بأحكامِ الغَسْلِ) احتياطًا له. (والأَوْلى به) أي: بغَسْل الميتِ (وصيُّه العدلُ) لأنَّ أبا بكرٍ أوْصى أن تغسلَهُ امرأتُه أسماءُ
(4)
. وأنسٌ أوصى أنْ يغسلَه محمدُ بنُ سيرينَ
(5)
. ولأنَّه حقٌّ للميتِ، فقُدِّمَ فيه وصيُّه على غيرِه.
(وإذا شرَعَ في غَسْلِه سترَ عورتَه) أي: الميتِ (وجوبًا) لحديثِ عليٍّ: "لا تُبْرِزْ فخِذَكَ، ولا تنظرْ إلى فخذِ حيٍّ ولا ميِّتٍ". رواه أبو داودَ
(6)
. وهذا فيمَنْ له سبعُ
(1)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(15/ 495) من حديث ابن الزبير. وصححه الألباني في "الإرواء"(713).
(2)
أخرجه الطالسي (551) من حديث أبي بن كعب مرفوعاً. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2872).
(3)
أخرجه ابن سعد (3/ 428) من حديث محمود بن لبيد. وصححه الألباني في "الصحيحة"(1158).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 408)، وابن أبي شيبة (2/ 455).
(5)
أخرجه ابن سعد (7/ 19).
(6)
أخرجه أبو داودَ (3142) قال الألباني: ضعيف جداً.
ثُمَّ يَلُفُّ علَى يدِهِ خِرقَةً فينُجِّيْهِ بِها. ويَجِبُ غَسلُ ما بِه منْ نَجَاسَةٍ. ويحرُمُ مسُّ عورةِ مَن بَلَغَ سبعَ سِنين. وسُنَّ أن لا يمسَّ سائرَ بدَنِه إلا بِخِرْقَةٍ.
وللرَّجُل أن يُغسِّلَ زوجَتَه، وأمتَه، وبنتَ دُونِ سَبْعٍ. وللمرأةِ غَسْلُ
سنين فأكثرَ، كما تقدَّمَ توضيحُه. وعورةُ ابنِ سبعٍ إلى عشرٍ، الفرجانِ. ومَنْ فوقَه وبنتُ سبعٍ فأكثرَ، ما بين سرةٍ وركبةٍ، كما تقدَّمَ.
(ثمَّ يَلُفُّ) الغاسلُ (على يدِهِ خرقةً فيُنَجِّيه) أي: الميتَ (بها) أي: الخِرقةِ، كما يُسنُّ بُداءةُ حيِّ بالحجرِ ونحوِه، قبلَ الاستنجاءِ بالماءِ (ويجبُ غَسْلُ ما به من نجاسةٍ) أي: الميتِ؛ لأنَّ المقصودَ بغسلِه تطهيرُه حسبَ الإمكانِ. وظاهرُه: ولو بالمخرجِ، فلا يجزئُ فيها الاستجمارُ. وفي "مجمع البحرين": إنْ لمْ يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ، فقياسُ المذهبِ: يجزئُ فيه الاستجمارُ
(ويحرُمُ) على الغاسلِ (مسُّ عورةِ مَنْ بلغَ سبعَ سِنين) لأنَّ اللَّمسَ أعظمُ من النظرِ. قال في "الإقناع": ولا النظرُ إليها
(1)
. والمرادُ: ما بين سرَّتِه وركبتِه
(وسُنَّ أن لا يمسَّ) الغاسلُ (سائرَ بدنِه) أي: جميعَ بدنِه، أو باقي بدنِه؛ على الخلافِ الذي فيها.
فحينئذٍ يعدُّ الغاسلُ ثلاثَ خِرَقٍ؛ خِرْقتين للسَّبيلين، والثالثةَ لبقيةِ بدنِه. أو خِرْقتين؛ إحداهما للسَّبيلين، والأخرى لبقيةِ بدنِه. ولهذا قالَ:(إلا بخِرْقة) قال في "شرحه"
(2)
التقي الفتوحي: لفعلِ عليٍّ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(وللرَّجلِ أنْ يُغسِّلَ زوجتَه، وأمتَه، وبنتَ دونِ سبعِ) سنينَ (وللمرأةِ غَسْلُ
(1)
"الإقناع"(336).
(2)
"معونة أولي النهى"(3/ 32).
زوجِها، وسيِّدِهَا، وابنِ دُونِ سَبعٍ.
وحُكمُ غَسْلِ الميِّت فيما يَجبُ ويُسنّ، كغُسلِ الجنابَةِ، لكنْ لا يُدخِلُ الماءَ في فَمِهِ وأنفِه، بل يأخذُ خِرقةً مبلُولةً فيمسحُ بها أسنَانَه ومَنْخِرَيهِ.
ويُكره الاقتصارُ في غَسلِه على مرَّةٍ إن لم يَخرُجْ منه شيءٌ، فإن خرجَ وجَبَ إعادةُ الغَسلِ إلى سَبعٍ، فإن خَرَجَ بعدَها حُشِيَ بقُطْنٍ،
زوجِها، وسيِّدِها، وابنِ دونِ سبعِ) سنين؛ لأنَّه لا حكمَ لعورتِه. قال ابنُ المنذرِ: أجمعَ كلُّ مَنْ يُحفظُ عنه، أنَّ المرأةَ تُغسِّلُ الصبيَّ الصغيرَ من غيرِ سترةٍ، وتمسُّ عورتَه، وتنظرُ إليها. فإنَّ ابنَه عليه السلام، غسَّلَه النساءُ.
(وحكمُ غَسْلِ الميتِ فيما يجبُ ويُسنَّ، كغُسْلِ الجنابةِ) وهو أنْ ينويَ الغاسلُ غَسْلَه؛ لأنَّه طهارةٌ تعبُّديةٌ، أشبَه غُسلَ الجنابةِ. ويسمِّي وجوبًا، وتسقطُ سهوًا، كغُسلِ الحيِّ (لكنْ لا يُدخِلُ الماءَ) الغاسلُ (في فمِه، و) لا في (أنفِه) أي: الميتِ؛ خشيةَ تحريكِ النجاسةِ بدخولِ الماءِ في جوفِه (بل) يُسنُّ أنْ يأخذَ بعد غسلِ كفيِّ الميتِ ثلاثًا (يأخذُ خِرْقةً مبلُولةً) بماءٍ بين شَفَتَيه، (فيمسحُ بها أسنانَه، و) يُدخلُهما (مَنْخِريهِ) فينظِّفُهما، فيقومُ مقامَ المضمضةِ والاستنشاقِ؛ لحديثِ:"إذا أمرتُكم بأمير فأتوا منه ما استطعتُمْ".
(ويُكره الاقتصارُ في غَسْلِه على مرَّةٍ) واحدةٍ؛ لأنَّه لا يحصلُ بها كمالُ النظافةِ، بخلافِ الحيِّ (إنْ لمْ يخرجْ منه شيءٌ) أي: من الميتِ بعد المرَّةِ، فإنْ خرجَ، حرُمَ الاقتصارُ عليها، بل ما دام يخرجُ إلى السبعِ. ولهذا قال:(فإنْ خرجَ، وجبَ إعادةُ الغَسْلِ إلى سبعِ) مراتٍ (فإن خرجَ بعدَها) أي: بعد السبعِ (حُشِيَ) مخرجُه (بقطنٍ) يمنعُ الخارجَ. وقال جمعٌ: يُلجمُ المحلُّ بقُطنٍ، فإنْ لمْ يمتنعْ
فإن لم يَستَمسِك فبِطِينٍ حُرٍّ، ثم يَغسِلُ المَحَل، ويُوضَّأُ وجوبًا، ولا غَسْلَ.
وإن خرَجَ بعدَ تكفينِه، لم يُعَدِ الوُضوءُ ولا الغَسْلُ.
وشهيدُ المعرَكةِ،
حشاه، (فإنْ لمْ يَستَمسِكْ) خارجٌ مع حشوٍ بقُطنٍ (فـ) ــإنَّه يُحشى (بطينٍ حُرٍّ) أي: خالصٍ؛ لأنَّ فيه قوةً تمنعُ الخارجَ (ثمَّ يَغسلُ المَحَلَّ) المتنجسَ بالخارجِ وجوبًا. (ويُوضَّأ) ميتٌ (وجوبًا) كجنبٍ أحدثَ بعد غُسلِه؛ لتكونَ طهارةً كاملةً (ولا غَسْلَ) ثانيًا.
(وإنْ خرجَ) منه شيءٌ قليلٌ أو كثيرٌ (بعدَ تكفينِه، لم يُعَدِ الوضوءُ ولا الغَسْلُ) لما في ذلك من المشقَّةِ بالاحتياجِ إلى إخراجِه من الكفنِ، وإعادةِ غَسلِه، وتطهيرِ أكفانِه، وتجفيفِها، أو إبدالِها، ثمَّ لا يُؤمَنُ أن يخرجَ شيءٌ بعد ذلك.
(وشهيدُ المعركةِ) وهو مَنْ ماتَ بسببِ قتالِ الكفارِ وقتَ قيامِ القتالِ، فلا يُغسَّلُ، لقولِه تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. والحيُّ لا يُغسَّلُ. وقال عليه السلام في قتلى أحدٍ: "لا تُغسِّلوهم، فإنَّ كلَّ جرحٍ، أو كلَّ دمٍ، يفوحُ مسكًا يومَ القيامةِ" ولمْ يصلِّ عليهم. رواه أحمدُ
(1)
. وهذه العلَّةُ توجدُ في غيرِهم، فلا يقالُ: إنَّه خاصٌّ بهم.
وسُمِّيَ شهيدًا؛ لأنَّه حيٌّ، أو لأنَّ اللهَ وملائكتَه يشهدون له بالجنةِ، أو لقيامِه بشهادةِ الحقِّ حتى قُتِلَ، ونحوُه مما قيلَ فيه.
والشهيدُ على ثلاثةِ أقسامٍ: شهيدٌ في الدنيا، وهو المقتولُ في المعركةِ مُرَائيًا
(1)
أخرجه أحمد (22/ 97)(14189) من حديث جابر. قال الألباني بعد سياق سند أحمد: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. "الإرواء" تحت الحديث (707).
والمقتولُ ظلمًا،
ونحوه. وشهيدٌ في الآخرةِ فقط، وهو من أثبتَ له الشارعُ الشهادةَ، ولمْ تجر عليه أحكامُها في الدنيا، كالغريقِ ونحوِه - واحترزَ بشهيدِ المعركةِ
(1)
عن غيرِه، فإنَّه يُغسَّلُ - كالمطعونِ، والمبطونِ، والغريقِ، والحريقِ، وصاحبِ الهدمِ، وذاتِ الجنبِ والسلِّ، وصاحبِ اللَّقوةِ
(2)
، والصابرِ في الطَّاعونِ، والمتردِّي من رؤوسِ الجبالِ، ومَنْ ماتَ في سبيلِ اللهِ، ومَنْ طلبَ الشهادةَ بنيةٍ صادقةٍ، وموتِ المرابطِ، وأُمناءِ اللهِ في الأرضِ، والنفساءِ، واللَّديغِ، ومَنْ قُتِلَ دون مالِه أو أهلِه أو دينِه، والعاشقِ إذا عفَّ وكتمَ، وموتِ الغريبِ
(3)
.
ولابنِ ماجه
(4)
من روايةِ إبراهيمَ بنِ أبي يحيى، وهو ضعيفٌ، عن موسى بنِ أبي وردانَ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا:"مَنْ ماتَ مريضًا، ماتَ شهيدًا". ذكَرَه في "الفروع"
(5)
.
(والمقتولُ ظلمًا) كمَنْ قتلَه نحوُ لصٍّ، أو أُريدَ منه الكفرُ، فقتلَ دونه، أو أُريدَ على نفسِه أو مالِه أو حرمتِه، فقاتلَ دون ذلك فقتِلَ؛ لحديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ مرفوعًا:"مَنْ قُتِلَ دون دشِه فهو شهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دون دمِه فهو شهيدٌ، ومَنْ قتِلَ دون مالِه فهو شهيدٌ، ومَنْ قتِلَ دون أهلِه فهو شهيدٌ". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(6)
وصحَّحه.
(1)
وهو الثالث من الأقسام.
(2)
اللَّقوة: مرض يَعْرِض للوَجْه فيُمِيلُه إلى أحد جانِبَيْه. "النهاية"(4/ 268).
(3)
انظر "كشاف القناع"(4/ 90).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1615) قال الألباني: ضعيف جداً.
(5)
"الفروع"(3/ 303).
(6)
أخرجه أبو داود (4774)، والترمذي (1421)، وصححه الألباني.
لا يُغسَّلُ، ولا يُكفَّنُ، ولا يُصلَّى عليه. ويجبُ بقاءُ دمِهِ عليِه، ودفنه في ثيابِه.
وإن حُمِلَ فأكلَ، أو شَرِبَ، أو نامَ، أو تكلَّم، أو عَطَسَ، أو طالَ بقاؤُه عُرفًا، أو قُتِلَ وعليه ما يُوجِبُ الغُسلَ من نَحوِ جنابَةٍ،
ولأنَّهم مقتولون بغيرِ حقٍّ، أشبهوا قتلى الكفارِ، فلا يُغسَّلون، بخلافِ نحوِ المطعونِ، والمبطونِ، والغريقِ، ونحوِهم.
(لا يُغسَّلُ، ولا يكفَّنُ، ولا يُصلَّى عليه) ولو كانا أنثيَيْنِ، أو غيرَ مكلَّفَينِ. فيُكرَهُ تغسيلُ شهيدِ معركةٍ، ومقتولٍ ظلمًا. وقيل: يحرمُ. وجزمَ به في "الإقناع". ولا يُوضَّئانِ حيثُ
(1)
لا يُغسَّلانِ، ولو وجبَ عليهما الوضوءُ قبلُ.
(ويجبُ بقاءُ دمِه) أي: الشهيدِ (عليه، ودفنُه في ثيابِه) لأمرِه عليه السلام بدفنِ شهداءِ أحدٍ بدمائِهم
(2)
.
ولا يُزادُ ولا يُنقَصُ في ثيابِه، قال في "الإقناع": ظاهرُه: ولو كانت حريرًا. قال في "المبدع": ولعلَّه غيرُ مراد
(3)
.
وإذا كان عليه نجاسةٌ، فإنَّها تُغْسلُ، فإنْ لمْ تَزُلِ النجاسةُ إلا بالدَّمِ، غُسِلَ الدمُ والنجاسةُ؛ لأنَّ دفعَ المفسدةِ، وهو غَسْلُ النجاسةِ، أَوْلى من جلبِ المصلحةِ، وهو إبقاءُ أثرِ العبادةِ.
(وإنْ حُمِلَ) مَنْ جَرَجَه العدوُّ ونحوُه (فأكَلَ، أو شرِبَ، أو نامَ، أو تكلَّم، أو عطَسَ، أو طالَ بقاؤُه عُرْفًا) غُسِّلَ، وصُلِّي عليه وجوبًا (أو قُتِلَ وعليه ما يوجبُ الغُسلَ من نحوِ جنابةٍ) وحيضٍ ونفاسٍ، أو إسلام؛ لأنَّ الغُسْلَ وجبَ لغيرِ الموتِ،
(1)
في الأصل: "حينئذٍ".
(2)
تقدم قريباً من حديث جابر.
(3)
انظر "كشاف القناع"(4/ 87).
فهو كَغَيرِه.
وسِقْطٌ لأربعةِ أشهُرٍ، كالمولُودِ حيًّا.
ولا يُغسِّل مُسلمٌ كافرًا، ولو ذِميًّا، ولا يُكفنه، ولا يصلِّي عليه، ولا يتَّبعُ جَنَازتَه، بل يُوارَى لعدَمِ من يواريه.
فلمْ يسقطْ به، كغَسْلِ النجاسةِ (فهو كغيرِه) يُغسَّلُ، ويُصلَّى عليه (وسِقْطُ لأربعةِ أشهرٍ) فأكثرَ (كالمولودِ حيًّا) يُغسَّلُ ويُصلَّى عليه. نصًّا؛ لحديثِ المغيرةِ مرفوعًا:"والسِّقْطُ يصلَّى عليه" رواه أبو داودَ والترمذيُّ
(1)
. وفي رواية الترمذيِّ: "والطِّفلُ يُصلَّى عليه". وقال: حسنٌ صحيحٌ. وذكرَهُ أحمدُ
(2)
، واحتجَّ به. وتُستحبُّ تسميتُه، فإنْ جُهِلَ أذكرٌ أم أُنثى، سُمِّيَ بصالحٍ لهما، كهبةِ اللهِ، وطلحةَ. قالَهُ في "الإقناع"
(3)
.
(ولا يُغسِّلُ مسلم كافرًا) للنهي عن موالاةِ الكافرِ، ولأنَّ فيه تعظيمًا وتطهيرًا له، فلم يجزْ، كالصَّلاةِ عليه (ولو ذميًّا) أي: ولو كان ذميًّا. (ولا يُكفِّنُه، ولا يُصلِّي عليه، ولا يتبعُ جنازتَه) لقولِه تعالى: {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13]. (بل يُوارَى لعدمِ مَنْ يواريه) من الكفارِ، كما فُعِلَ بكفارِ بدرٍ؛ وارَوهم
(4)
بالقليب. ولا فرقَ بين الحربيِّ والذميِّ والمستأمنِ والمرتدِّ في ذلك؛ لأنَّ تركَها مثلةٌ به، وقدْ نُهيَ عنها. وكذا كلُّ صاحبِ بدعةٍ مكفِّرةٍ، فإنَّه يُوارى ولا يُغسَّلُ، ولا يكفَّنُ، ولا يصلَّى عليه، ولا تُتَّبعُ جنازتُه.
(1)
أخرجه أبو داودَ (3182)، والترمذيُّ (1031)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (30/ 110)(18174).
(3)
"الإقناع"(1/ 343).
(4)
في الأصل: "واراوهم". والمثبت من "دقائق أولي النهى" 2/ 85.
فَصْلٌ
وتكفينُهُ فرضُ كِفاية. والواجبُ سترُ جميعِه - سِوَى رأسِ المُحرِمِ، ووجهِ المُحرِمَةِ - بثَوبٍ لا يصفُ البَشَرةَ، ويجِبُ أن يكونَ مِنْ مَلبوسِ مِثلِهِ، ما لم يُوصِ بدُونهِ.
والسُّنَّةُ تكفينُ الرَّجلِ في ثلاثِ لَفائِفَ بيضٍ، مِنْ قُطْنٍ،
(فصلٌ)
(وتكفينُه فرضُ كفايةٍ) على مَنْ علِمَ به؛ لقولِه عليه السلام في خبرِ ابنِ عباسٍ: "وكفِّنُوه في ثوبيه"
(1)
(والواجبُ سترُ جميعِه) أي: جميعِ بدنِ الميتِ.
تنبيهٌ: لو وصَّى أنْ لا يُكفَّنَ، لمْ يُعملْ بوصيتِه. وكذا لووصَّى بما لا يسترُ جميعَه (سوى رأسِ المُحرِمِ، ووجه المُحرِمةِ، بثوبٍ) واحدٍ (لا يصفُ البشرة) لأنَّ ما يصفُها غير ساترٍ؛ فوجودُه كعدمِه
(ويجبُ أنْ يكونَ من ملبوسِ مثلِه) أي: الميتِ في الجُمَعِ والأعيادِ؛ لأنَّه لا إجحافَ فيه على الميتِ، ولا على ورثتِه. ومحلُّه: ما لمْ يكنْ ملبوسُ مثلِه مما يحرمُ التكفينُ فيه، كالمذهَّبِ والحريرِ، أو يُكره كالصوفِ، فإنَّه لا يتعينُ. ويكفنُ في غيرِه مما يقاربُه قيمةً (ما لم يوصِ) ميتٌ (بدونِه) أي: ملبوسِ مثلِه؛ لأنَّ الحقَّ له، وقدْ تركَه.
(والسُّنَّةُ: تكفينُ الرَّجلِ في ثلاثِ لفائفَ بيضٍ، من قُطنٍ) لحديثِ عائشةَ،
(1)
أخرجه البخاري (1851)، ومسلم (1206).
تُبسَطُ على بعضِهَا، ويُوضَعُ عليهَا مُستَلقِيًا، ثمَّ يَردُّ طَرَفَ العُليَا مِنَ الجانِبِ الأيسَرِ على شِقِّه الأيمَن، ثمَّ طرَفَها الأيمنَ على الأيسَرِ، ثم الثانيةَ، ثم الثالِثةَ كذلِكَ.
والأُنثى في خَمسَةِ أثوابٍ بيضٍ من قُطْنٍ: إزارٍ، وخِمَارٍ، وقَميصٍ، ولِفافَتين.
والصبيُّ في ثَوبٍ، ويُباحُ
قالت: كُفِّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثةِ أثوابٍ بيض سَحُوليَّةٍ، جُددٍ يمانيةٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، أُدرِجَ فيها إدراجًا. متفقٌ عليه
(1)
. زادَ مسلمٌ في روايةٍ: وأما الحُلَّةُ، فاشتَبَه على الناسِ فيها أنَّها اشترِيتْ ليكفَّنَ فيها، فتُرِكتِ الحُلَّةُ، وكفِّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ بيضٍ سَحُوليَّةٍ (تُبسطُ على بعضِها) واحدةً فوقَ أخرى (ويُوضعُ) الميتُ (عليها) أي: اللفائفِ مبسوطةً (مُسْتلقيًا) لأنَّه أمكنُ لإدراجِه فيها. ويجبُ سترُه حالَ حملِه بثوبٍ. ويُوضعُ متوجِّهًا ندْبًا. (ثمَّ يردُّ طرَفَ) اللَّفافةِ (العليا من الجانبِ الأيسرِ) للميِّتِ (على شِقِّهِ الأيمن، ثمَّ) يردُّ (طرَفَها) أي: اللَّفافةِ العليا (الأيمنَ على) شقِّ الميِّتِ (الأيسرِ) كعادةِ الحيِّ (ثمَّ) يردُّ اللَّفافةَ (الثانيةَ) كذلك (ثمَّ) يردُّ (الثالثة كذلك) فيدرجُه فيها إدراجًا.
(و) سُنَّ تكفينُ (الأنثى) والخنثى (في خمسةِ أثوابِ بيضٍ من قُطنٍ) تكفَّن فيها، وهو (إزار، وخِمار، وقميص، ولفافتين). قال ابنُ المنذرِ: أكثرُ مَنْ يُحفظُ عنه من أهلِ العلمِ، يرى
(2)
أنْ تُكفَّنَ المرأةُ في خمسةِ أثوابٍ.
(و) سُنَّ تكفينُ (الصبيِّ في ثوبٍ) واحدٍ؛ لأنَّه دون الرَّجلِ. (ويُباحُ) أنْ يُكفَّنَ
(1)
أخرجه البخاري (1264)، ومسلم (941).
(2)
في الأصل: "يروي".
في ثلاثَةٍ. والصغيرةُ في قَميصٍ ولِفافَتين.
ويُكرَهُ التكفينُ بشَعْرٍ، وصُوفٍ، ومُزَعفَرٍ، ومُعَصفَرٍ، ومنقُوشٍ.
ويحرُمُ بجلدٍ، وحَريرٍ، ومُذَهَّبٍ.
صبيٌّ (في ثلاثةِ) أثوابٍ ما لمْ يرثه غيرُ مكلَّفٍ
(و) سُنَّ تكفينُ (الصغيرةِ في قميصٍ ولفافتين) بلا خمارٍ.
ولا بأسَ باستعدادِ الكفنِ لحِلِّ، أو عبادةٍ فيه. قيلَ لأحمدَ: يصلِّي أو يحرمُ فيه، ثمَّ يغسلُه ويضعُه لكفنِه؟ فرآه حسنًا.
ويحرُمُ دفنُ حليٍّ وثيابٍ مع ميتٍ غيرِ كفنِه، وتكسيرُ أوانٍ ونحوِه؛ لأنَّه إضاعةُ مالٍ. ويُجمعُ في ثوبٍ واحدٍ لم يوجد غيرُه ما أمكنَ من موتى؛ لخبرِ أنسٍ في قتلى أحدٍ
(1)
.
(ويُكرَهُ التكفينُ بشعرٍ، وصوفٍ، و) يُكرَهُ بـ (مزعفرٍ، ومعصفرٍ، ومنقوشٍ) ولو لامرأةٍ؛ لأنَّه لا يليقُ بالحالِ
(ويحرمُ) التكفينُ (بجلدِ) لأمرِه صلى الله عليه وسلم ينزعِ الجلودِ عن الشهداءِ
(2)
. (و) يحرُمُ التكفينُ في (حريرٍ ومُذَهَّبٍ) ومفضَّضٍ إلَّا لضرورة؛ بأن عُدِمَ ثوبٌ يسترُ جميعَه غيرُه، فيتعيَّن؛ لأنَّ الضرورةَ تندفعُ به، ويحرُمُ عند عدمِ الضرورةِ في شيءٍ من ذلك، ذكرًا كان الميت أو أنثى؛ لأنَّه إنَّما أُبيحُ لها حالَ الحياةِ؛ لأنَّها محلُّ زينةٍ وشهوةٍ، وقد زالَ ذلك بموتِها.
ومتى لمْ يوجدْ ما يستُرُ الميِّتَ جميعَه، سُتِرَ عورتُه، كالحيِّ. ثمَّ إنْ فضلَ شيءٌ
(1)
أخرجه أبو داود (3138)، وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه أبو داود (3136) من حديث ابن عباس. وضعفه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من عورتِه، سُتِرَ به رأسُه، لشرفِهِ، وجُعِلَ على باقيه حشيشٌ، أو ورقٌ، لحديثِ البخاريِّ
(1)
: أنَّ مصعبًا قُتِلَ يومَ أحدٍ، فلمْ يُوجدْ له شيءٌ يُكفَّنُ فيه إلا نمِرَةً، فكانت إذا وُضِعَتْ على رأسِه، بدتْ رجلاه، وإذا وُضِعَتْ على
(2)
رجلَيْه، خرجَ رأسُه، فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُغطَّى رأسُه، ويُجعَلَ على رجلَيْه الإذخِرُ.
وسُنَّ تغطيةُ نعشٍ، وكُرِه أنْ يُغطَّى بغيرِ أبيضَ، كأحمرَ وأسودَ. ويحرُمُ بمُذَهَّبٍ ومفضَّضٍ وحريرٍ.
وكُرِهَ تخريقُ الكفنِ؛ لأنَّه إفسادٌ وتقبيحٌ للكفنِ، مع الأمرِ بتحسينِه. قال أبو الوفاءِ: ولو خِيفَ نبشُه. وجوَّزه أبو المعالي مع خوفِ نبشِه.
فائدةٌ: الحنوطُ والطيبُ مستحبٌّ، ولا بأس بالمسكِ فيه، نصَّ عليه. وقيل: يجبُ الحنوطُ والطيبُ. ويُكرَهُ الورسُ والزعفرانُ في الحنوط
(3)
. قالَهُ في "الإنصاف"
(4)
.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (3913) من حديث خباب.
(2)
سقطت: "رأسِه، بدتْ رجلاه، وإذا وُضِعَتْ على" من الأصل.
(3)
في الأصل: "والحنوط".
(4)
"الإنصاف"(6/ 124).
فَصْلٌ
والصَّلاة عليهِ فرضُ كِفاية. وتسقُطُ بمكلَّفٍ، ولو أُنثى.
(فصلٌ)
في صفةِ الصَّلاةِ عليه
(والصَّلاةُ عليه) أي: على من يُغسَّلُ (فرضُ كفايةٍ) لأمرِه عليه السلام بها في غيرِ حديثٍ، كقولِه:"صلُّوا على أطفالِكم؛ فإنَّهم أفراطُكم"
(1)
، وقولِه في الغالِّ:"صلُّوا على صاحِبِكم"
(2)
، وقولِه:"إنَّ صاحبكم النجاشيَّ قد ماتَ، فقومُوا فصلُّوا عليه"
(3)
، وقولِه:"صلُّوا على مَنْ قال: لا إله إلا اللهُ"
(4)
. والأمرُ للوجوبِ. فإنْ لمْ يعلم به إلا واحدٌ، تعيَّنتْ عليه. ومَنْ لمْ يعلمْ، معذورٌ.
(وتسقطُ) الصَّلاةُ على الميتِ، أي: وجوبُها (بـ) ـصلاةِ (مكلَّفٍ) ذكرٍ (ولو أنثى) حرٍّ أو عبد أو مبعَّضٍ، كغَسلِه، وتكفينِه، ودفنِه. وظاهرُه: لا تسقطُ بمميِّزٍ؛ لأنَّه ليس من أهلِ الوجوبِ. ونقلَ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" عن صاحبِ "المحرر": أنَّها تسقطُ كما لو غَسَّلَه
(5)
. ثمَّ قال: قلتُ: يفرَّقُ بأنَّ المميِّزَ فيه أهليةُ
(1)
أخرجه ابن ماجه (1509) من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه أبو داود (2710) من حديث زيد بن خالد الجهني. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (1320)، ومسلم (952) من حديث جابر بن عبد اللَّه.
(4)
أخرجه الطبراني (12/ 447)، والدارقطني (2/ 56) من حديث ابن عمر. وضعفه الألباني في "الإرواء"(728).
(5)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 106).
وشُروطُها ثمانيةٌ:
النيَّةُ، والتَّكلِيفُ، واستقبالُ القِبلَة، وسترُ العَورةِ، واجتنابُ النَّجاسةِ، وحضورُ الميِّتِ إن كانَ بالبلدِ، وإسلامُ المصلِّي والمصلَّى عليه، وطهارتُهُما، ولو بتُرابٍ لعُذرٍ.
وأركانُها سبَعةٌ:
القيامُ في فرضِها،
الغَسلِ الواجبِ فيه عن الميتِ، وليس أهلًا لفرضِ الصَّلاةِ. انتهى.
(وشروطُها) أي: الصَّلاة (ثمانيةٌ):
أحدُها: (النيةُ، و) الثاني: (التكليفُ، و) الثَّالثُ: (استقبالُ القبلةِ، و) الرَّابعُ: (سترُ العورَةِ، و) الخامسُ: (اجتنابُ النجاسةِ، و) السَّادسُ: (حضورُ الميِّتِ إن كان) الميِّتُ (بالبلَدِ، و) السَّابعُ: (إسلامُ المُصلِّي) مِن إمامٍ ومأمومٍ (و) إسلامُ (المُصلَّى عليه) لأنَّ الصَّلاةَ شفاعةٌ ودعاءٌ له، والكافرُ ليس أهلًا لذلك (و) الثامنُ:(طهارتُهما) أي: المُصلِّى والمُصلَّى عليه (ولو بترابٍ لعذرٍ) كفقدِ الماءِ، أو تفرُّقِ أجزائِه بصبِّ الماءِ عليه، فيُيمَّم.
(وأركانُها سبعةٌ):
أحدُها: (القيامُ في فرضِها) فلا تصحُّ مِن قاعدٍ، ولا راكبِ راحلةٍ بلا عُذرٍ، كمكتوبةٍ؛ لعمومِ:"صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا"
(1)
فإن تكرَّرَت، صحَّت مِنْ قاعدٍ، بعدَ من سقَطَ به فرضُها، كبقيَّةِ النوافلِ.
(1)
أخرجه البخاري (1117) من حديث عمران بن حصين.
والتكبيراتُ الأربعُ، وقراءةُ الفاتحةِ، والصَّلاةُ على محمَّدٍ،
(و) الثاني: (التكبيراتُ الأربعُ) لِما في الصَّحيحِ عن أنسٍ وغيرِه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كبَّرَ على الجنازةِ أربعًا
(1)
. وفي "صحيحِ مسلم"
(2)
أنَّه عليه السلام نعَى النجاشيَّ في اليومِ الذي ماتَ فيه، فخرَجَ إلى المُصلَّى، وكبَّرَ أربعَ تكبيراتٍ. وفيه
(3)
عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا: صلَّى على قبرٍ بعدَ ما دُفِنَ، وكبَّرَ أربعًا. وقد قال:"صلُّوا كما رأيتمُوني أُصلِّي".
(و) الثالثُ: (قراءةُ الفاتحةِ) لعمومِ حديثِ: "لا صلاةَ إلَّا بفاتحةِ الكتابِ"
(4)
. وعن أمِّ شَريكٍ قالَت: أمرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نقرَأَ على الجنازةِ بفاتحةِ الكتابِ. رواهُ ابنُ ماجه
(5)
. وسُنَّ إسرارُها، ولو صلَّى ليلًا.
(و) الرابعُ: (الصَّلاةُ على محمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم؛ لِما روَى الشَّافعيُّ
(6)
والأثرمُ بإسنادِهما، عن أبي أُمامةَ بنِ سهلٍ، أنَّه أخبَرَه رجلٌ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ السُّنَّةَ في الصَّلاةِ على الجنازةِ: يُكبِّرُ الإمامُ، ثمَّ يقرأ بفاتحةِ الكتابِ بعدَ التكبيرةِ الأولى سرًّا في نفسِه، ثمَّ يُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويُخلِصُ الدُّعاءَ للجنازةِ في التكبيراتِ، لا يقرأُ في شيءٍ منها، ثمَّ يُسلِّمُ سرًّا في نفسِه. زادَ الأثرمُ: والسنَّةُ أن يفعَلَ مَنْ وراءَ
(1)
ذكره البخاري قبل حديث (1333) معلقاً موقوفاً. وأخرجه مسنداً (1334)، ومسلم (952) من حديث جابر.
(2)
أخرجه مسلم (951) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه مسلم (954).
(4)
وأخرجه البخاري (756)، ومسلم (394) من حديث عبادة بن الصامت.
(5)
أخرجه ابن ماجه (1496)، وضعفه الألباني.
(6)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 359)، وصححه الألباني في "الإرواء"(734).
والدعاءُ للميِّت، والسَّلامُ، والترتيبُ.
لكنْ لا يَتعيَّنُ كونُ الدعاءِ في الثالِثةِ، بل يجوزُ بعدَ الرابِعةِ.
وصفتُها:
الإمامِ مثلَ ما يفعلُ إمامُهم.
(و) الخامسُ: (الدُّعاءُ للميِّتِ) لأنَّه المقصودُ من الصَّلاةِ عليه. وأقلُّه: اللهمَّ اغفرْ له وارحمه
(1)
.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يكفي: اللهمَّ اغفرْ لحيِّنا وميِّتِنا. ويُؤخَذُ مِن "المستوعبِ"، و"التلخيصِ"، و"البُلغةِ"، و"الكافي": اعتبارُ كونِ القراءةِ بعدَ الأولى، والصَّلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الثانيةِ، والدُّعاءِ في الثالثةِ. وفي "الإقناعِ": أو الرابعةُ.
(و) السادسُ: (السَّلامُ) لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُسلِّمُ على الجنازةِ
(2)
، ولعمومِ حديثِ:"وتحليلُها التسليمُ"
(3)
.
(و) السابعُ: (الترتيبُ) بينَ الأركانِ.
(لكن لا يتعيَّنُ كونُ الدُّعاءِ في الثالثةِ، بل يجوزُ بعدَ الرابعةِ) أي: بعدَ التكبيرةِ الرابعةِ إن زادَ إمامٌ على رابعةٍ إلى سبعٍ فقط - والأَوْلَى أن لا يزيدَ على أربعٍ - فإن زادَ على سبعٍ عمدًا أو سهوًا، لم تبطُلْ.
(وصِفتُها) أي: كيفيَّتُها، وهو:
(1)
في الأصل: "ونحوه".
(2)
أخرخ الدارقطني (2/ 72) من حديث أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى على جنازةٍ، فكبَّر عليها أربعاً، وسلَّم تسليمةً واحدة.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 292، 322)(1006، 1072)، وأبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي. وصححه الألباني في "الإرواء"(301).
أن ينويَ، تمَّ يُكبِّرَ ويقرأَ الفاتحةَ، تم يكبِّرَ ويصلِّيَ على محمَّدٍ - كَفِي التَشهّدِ - ثم يُكبِّرَ ويدعُوَ للميِّتِ بنَحوِ: اللَّهم ارحمهُ.
(أن ينويَ، ثمَّ يُكبِّرَ، ويقرأَ الفاتحةَ، ثمَّ يكبِّرَ، ويُصلِّيَ على محمدٍ) صلى الله عليه وسلم في الثانيةِ. ولا يزيدُ عليه
(1)
. وهذا المذهبُ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وقطَعَ به أكثرُهم. واستحَبَّ القاضي أن يقولَ بعدَ الصَّلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ صلِّ على ملائكتِك المُقرَّبين، وأنبيائِك المُرسَلين
(2)
، وأهلِ طاعتِك أجمعينَ - (كـ) ما (في التشهدِ) لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سألوه: كيف نصلِّي عليك؟. علَّمَهم ذلك
(3)
. وقال في "الكافي"
(4)
: لا تتعينُ صلاةٌ؛ لأنَّ القصدَ مطلَقُ الصَّلاةِ.
(ثمَّ يكبِّرَ، ويدعوَ للميِّتِ) في الثالثةِ (بنحوِ: اللهمَّ ارحَمْه) سرًّا. أو بأحسَنَ ما يحضُرُه. ويُسنُّ الدُّعاءُ بالمأثور فِيقول: "اللهمَّ اغفرْ لحيِّنا وميِّتِنا، وشاهدِنا وغائبِنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذكَرِنا وأنثانا، إنَّك تعلَمُ مُتقلَّبَنا ومَثوانا، وأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، اللهمَّ مَن أحيَيْتَه منَّا فأحيِهِ على الإسلامِ، ومَن توفَّيتَه منَّا فتوفَّه على الإيمانِ". هكذا في "الفروعِ". وهو لفظُ حديثِ أبي هريرةَ. وقال في "المقنعِ" وتبِعَه في "المُنتهى" وغيرِه: "فأحيِهِ على الإسلامِ والسنَّةِ، ومَن توفَّيتَه منَّا فتوفَّه عليهما". رواهُ أحمدُ، والترمذيُّ، وابنُ ماجَه
(5)
، مِن حديثِ أبي هريرةَ. زادَ ابنُ ماجَه: "اللهمَّ لا
(1)
أي: على ما في التشهد كما سيأتي.
(2)
في الأصل: "والمرسلين".
(3)
أخرجه البخاري (3370)، ومسلم (406) من حديث كعب بن عجرة.
(4)
انظر "الكافي"(2/ 44)، "كشاف القناع"(4/ 130).
(5)
أخرجه أحمدُ (14/ 406)(8809)، والترمذيّ عقب (1024)، وابنُ ماجَه (1498)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تحرمْنا أجرَه، ولا تفتنَّا بعدَه". قال الحاكمُ: حديثُ أبي هريرةَ صحيحٌ على شرطِ الشيخين. لكن زادَ فيه الموفَّقُ: "وأنت على كل شيء قدير" ولفظةَ: "السنة"
(1)
.
"اللهم
(2)
اغفرْ له وارحَمْه، وعافِه واعفُ عنه، وأكرِمْ نُزلَه، بضمِّ الزايِ. وأوسِعْ مَدخلَه، بفتحِ الميمِ. واغسلْه بالماءِ والثلجِ والبَرَدِ، بالتحريكِ. ونقِّه مِنَ الذنوبِ والخطايا، كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِنَ الدَّنسِ، وأبدلْه دارًا خيرًا مِن دارِه، وزَوجًا خيرًا مِن زوجِه، وأدخِلْه الجنةَ، وأعذْه مِن عذابِ القبرِ، وعذابِ النَّارِ". رواهُ مسلمٌ
(3)
مِن حديثِ عوفِ بنِ مالكٍ، أنَّه سمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ ذلك على جنازةٍ، حتى تمنَّى أن يكونَ ذلك الميِّتَ. وفيه:"وأبدلْه أهلًا خيرًا مِن أهلِه، وأدخَلْه الجنةَ".
"وافسَحْ له في قبرِه، ونوِّرَ له فيه" لأنَّه لائقٌ بالحالِ. زادَ الخِرَقيُّ، وابنُ عقيلٍ، والمجدُ، وغيرُهم:"اللهمَّ إنَّه عبدُك، وابنُ أمتِك، نزَلَ بك وأنت خيرُ منزولٍ به" إن كان الميتُ رجلًا، فإن كان امرأةً، قال:"اللهمَّ إنَّها أمتُك، نزَلَتْ بك وأنتَ خيرُ منزولٍ به" زادَ بعضُهم: "ولا نعلَمُ إلَّا خيرًا". قالَ ابنُ عقيلٍ وغيرُه: ولا يقولُه إلَّا إن علِمَ خيرًا، وإلَّا أمسَكَ عنه؛ حذرًا مِن الكذبِ. وزادَ في "الإقناعِ":"اللهمَّ إن كان مُحسِنًا، فجازِه بإحسانِه".
وإن كانَ الميِّتُ صغيرًا، أو بلَغَ مجنونًا، واستمرَّ على جنونِه حتَّى ماتَ، قال
(1)
سقطت: "الموفَّقُ: وأنت على كل شيء قدير. ولفظةَ: السنة" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(4/ 133).
(2)
سقطت: "اللهم" من الأصل.
(3)
أخرجه مسلم (963).
ثم يكبِّرَ ويقِفَ قليلًا،
بعدَ: "ومَن توفَّيتَه منَّا فتوفَّه عليهما": "اللهمَّ اجعَلْه ذُخرًا لوالدَيه، وفرَطًا، وأجرًا، وشفيعًا مُجابًا، اللهمَّ ثقِّلْ به موازِينَهما، وأعظِمْ به أجورَهما، وألحِقْه بصالحِ سلَفِ المؤمنين، واجعلْه في كفالةِ إبراهيمَ، وقِهِ برحمتِك عذابَ الجحيمِ". لحديثِ المُغيرَةِ بنِ شُعبةَ مرفوعًا: "السِّقطُ يصلَّي عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرةِ والرحمةِ". وفي لفظٍ: "بالعافيةِ والرحمةِ" رواهُما أحمدُ
(1)
.
وإنَّما عَدَلَ عنِ الدُّعاءِ بالمغفرةِ إلى الدُّعاءِ لوالدَيه بذلك؛ لأنَّه شافعٌ غيرُ مشفوعٍ فيه، ولم يجرِ عليه قلَمٌ.
وإن لم يَعلَمْ مصلٍّ إسلامَ والدَيه، أي: الصغيرِ والمجنونِ، دعا لمواليه
(2)
لقيامِهم مقامَهما في المصابِ.
ولا بأسَ بإشارةٍ بنحوِ إصبعٍ لميتٍ حالَ دعاءٍ له. نصًّا. ويُؤنِّثُ الضميرَ في صلاةٍ على أُنثَى. ويشيرُ مُصلٍّ بما يَصلُحُ لهما على خُنثَى، فيقول:"اللهمَّ اغفرْ لهذا الميتِ". ونحوِه.
(ثمَّ يكبر
(3)
ويقِفُ) بعدَ التكبيرةِ الرابعةِ (قليلًا) ولا يدْعُو. وعنه: يقِفُ ويدعُو. اختارَه أبو بكرٍ، والآجُرِّيُّ، وأبو الخطَّابِ، والمجدُ في "شرحِه"، وابنُ عبدوسَ في "تذكرتِه"، وغيرُهم. فعلَى هذه الروايةِ: يُستحبُّ أن يقولَ: "اللهمَّ ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقنا عذابَ النارِ". على الصحيحِ، اختارَه ابنُ أبي
(1)
أخرجهما أحمد (30/ 110، 118)(18174، 18181)، وصحح الأول منهما الألباني في "صحيح أبي داود"(3182).
(2)
في الأصل: "لوالديه".
(3)
سقطت: "ثم يكبر" من الأصل.
ويسلِّمَ. وتُجزئُ واحدةٌ، ولو لم يقل: ورحمةُ اللَّه.
ويجوزُ أن يُصلَّىَ على الميِّتِ مِنْ دَفنهِ إلى شَهرٍ وشَيءٍ
موسَى. وجزَمَ به فىِ "الهداية"، و"المذهب"، و"مسبوك الذهب"، و"المستوعب". واختارَه المجدُ. وهو ظاهرُ نصِّ الإمامِ أحمدَ. وقدَّمَه في "الفروعِ". وقيلَ: المستحبُّ أن يقولَ: "اللهمَّ لا تحرمْنا أجرَه، ولا تفتنَّا بعدَه، واغفرْ لنا وله". اختارَه أبو بكرٍ. قالَه ابنُ الزَّاغونيِّ، ولأنَّه لائقٌ بالمحلِّ. ذكرَه في "الإنصافِ"
(1)
(ويُسلِّمُ، وتُجزئُ) تسليمةٌ (واحدةٌ) عن يمينِه، نصَّ عليه، يجهَرُ بها الإمامُ. ويجوزُ أن يُسلِّمَ تلقاءَ وجهِه مِن غيرِ التفاتٍ، (ولو لم يقُلْ: ورحمةُ اللهِ) لما روَى الخلَّالُ وحربٌ عن عليٍّ، أنَّه صلَّى على يزيدَ بنِ المُكفَّفِ
(2)
، فسلَّمَ واحدةً عن يمينِه: السَّلامُ عليكم
(3)
. لكن ذِكرُ الرحمةِ أليقُ بالحالِ، فكان أَوْلَى.
(ويجوزُ أن يصلَّى على الميتِ من دفنِه) أي: الميتِ (إلى شهرٍ) لما روَى الترمذيُّ
(4)
عن سعيدِ بنِ المُسيَّبِ، أنَّ أمَّ سعدٍ ماتَت، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم غائبٌ، فلمَّا قدِمَ صلَّى عليها، وقد مضَى لذلك شهرٌ. وإسنادُه ثقاتٌ.
قال أحمدُ: أكثرُ ما سمِعْتُ هذا. ولأنَّه لا يُعلَمُ بقاؤُه أكثرَ منه، فتقيَّد به. (وشَيءٍ) أي: زِيادةٍ يسيرةٍ على الشَّهرِ. قال القاضي: كاليَومَين.
(1)
"الإنصافِ"(6/ 156).
(2)
في الأصل: "الملقف".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 499).
(4)
أخرجه الترمذي (1038)، وضعفه الألباني.
ويحرمُ بعدَ ذلِكَ.
فإن قيلَ: هل المرادُ بالمدَّةِ: من حينِ موتِه، أو مِن حينِ دفنِه؟ روايتان، أطلَقَهما ابنُ تميمٍ:
أحدُهما: أوَّلُ المُدَّةِ من حينِ دفنِه، وهو الصحيحُ. جزَمَ به في "التلخيصِ"، و"البُلغةِ"، و"الوجيزِ"، وغيرِهم. وصحَّحَه النَّاظمُ وغيرُه. وقدَّمَه في "المستوعبِ"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، و"مجمعِ البحرين"، و"الفائقِ"، والزركشي، وقالَ: هذا المشمهورُ. واختارَه ابنُ أبي موسى وغيرُه. فعلى هذا: لو لم يُدفَنْ مدَّةً تزيدُ على شهرٍ، جازَ أن يُصلَّى عليه لشَّهرٍ منذُ دُفنِ.
والوجهُ الثَّاني: أوَّلُ المدَّةِ مِن حينِ الموتِ. اختارَه ابنُ عقيل
(1)
.
(ويحرُمُ) الصَّلاةُ (بعدَ ذلك) أي: بعدَ الشَّهرِ، حيثُ قُلْنا بالتوقيتِ، نصَّ عليه. وقيلَ: يجوزُ ما لم يَبْلَ، فإن شكَّ في بقائِه. فوجهان:
أحدُهما: الجوازُ. قال في "التصحيحِ": قلْت: وهو الصَّوابُ؛ لأنَّه الأصلُ، ما لم يغلِبْ على ظنِّه أنَّه بَلِي، ولم أرَ هذه المسألةَ في غيرِ هذا المكانِ.
والوجهُ الثاني: عدمُ الجوازِ
(2)
.
فإن شكَّ في بقاءِ المدَّةِ، صلَّى حتى يعلَمَ فراغَها.
* * *
(1)
انظر "تصحيح الفروع"(3/ 351)، "الإنصاف"(6/ 180).
(2)
"تصحيح الفروع"(3/ 352).
فَصْلٌ
وحملُه ودفنُه فرضُ كِفايةٍ، لكنْ يسقُطُ الحملُ، والدَّفنُ، والتكفينُ، بالكَافِرِ.
ويُكره أخذُ الأُجرةِ على ذلِكَ، وعلى الغَسْلِ.
(فصلٌ) في حملِ الجنازةِ
(وحملُه
(1)
) إلى محلِّ دفنِها (ودفنُه، فرضُ كفايةٍ) إجماعًا. وفروضُ الكفاياتِ: إذا قامَ بها رجلٌ سقَطَ عن الباقين
(2)
، ثمَّ إذا فعَلَ الكلُّ ذلك، كان كلُّه فَرضًا. ذكرَه ابنُ عقيلٍ محلَّ وِفاقٍ. لقولِه تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} [عبس: 21]، قالَ ابنُ عباسٍ: أكرَمَه بدفنِه. وقالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} . أي: جامعةً للأحياءِ في ظهرِها بالمساكن، وللأمواتِ في بطنها بالقبورِ. والكفتُ: الجمعُ، وهو إكرامٌ للميِّتِ؛ لأنَّه لو تُرِكَ لأنتَنَ، وتأذَّى الناسُ بريحِه. وقد أرشَدَ اللهُ تعالى قابيلَ إلى دفنِ أخيه هابيلَ {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].
(لكن يسقُطُ الحملُ، والدَّفنُ، والتكفينُ بـ) فعلِ (الكافرِ)؛ لأنَّ فاعلَها لا يختصُّ بكونِه مِن أهلِ القربةِ.
(ويُكرَه أخذُ الأجرةِ على ذلك) لأنَّه يذهَبُ بالأجرِ (و) كذا يُكرَه أخذُ الأجرةِ (على الغَسلِ) والتكفينِ.
(1)
في الأصل: "وحملها".
(2)
سقَطَت: "عن الباقين" من الأصل.
وسنَّ كونُ الماشِي أمامَ الجَنَازةِ، والراكِبِ خلفَها. والقربُ منها أفضلُ.
ويكره القيامُ لها،
(وسُنَّ كونُ الماشي أمامَ الجنازةِ) لحديثِ ابنِ عمرَ: رأيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ، وعمرَ، يمشون أمامَ الجنازةِ. رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
. وعن أنسٍ نحوَه. رواهُ ابنُ ماجَه
(2)
. ولأنَّهم شفعاؤُه.
(و) سُنَّ كونُ (الرَّاكبِ خلفَها) ولو راكبٍ سفينةً؛ لحديثِ المُغيرةِ بنِ شعبةَ مرفوعًا: "الرَّاكبُ خلفَ الجنازةِ". رواهُ الترمذيُّ
(3)
، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
(والقُرْبُ منها أفضلُ) لأنَّها كالإمامِ.
وكُرِهَ لمتَّبعِ الجنازةِ ركوب لغيرِ حاجةٍ، كمرَضٍ، ومشقَّةِ طريقٍ، ولغيرِ عَوْدٍ؛ لحديثِ ثوبانَ قالَ: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ، فرأى ناسًا رُكبانًا، فقالَ:"ألا تستحيون؟ إنَّ ملائكةَ اللهِ على أقدامِهم، وأنتم على ظهورِ الدَّوابِّ". رواه الترمذيُّ
(4)
. وأمَّا العَوْدُ راكبًا لم يُكرَهْ، لحديثِ جابرِ بنِ سمُرَةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تبعَ جنازةَ ابنِ الدَّحداحِ ماشيًا، ورجَعَ على فرسٍ
(5)
. قالَ الترمذيُّ: صحيحٌ.
(ويُكرَهُ القيامُ لها) أي: الجنازةِ، إن جاءَت وهو جالسٌ، أو مرَّت به وهو جالسٌ؛ لحديثِ علي قال: رأينا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قامَ فقُمْنا تبعًا له، وقعَدَ فقعَدْنا تبعًا
(1)
أخرجه أحمدُ (10/ 229)(6042)، وأبو داودَ (3181)، والترمذيُّ (1007)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1483).
(3)
أخرجه الترمذي (1031)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه الترمذي (1012)، وضعفه الألباني.
(5)
أخرجه مسلم (965)، والترمذي (1014).
ورفعُ الصَّوتِ معَها، ولو بالذِّكرِ، والقرآنِ.
له، يعني: في الجنازةِ. رواهُ مسلمٌ، وغيرُه
(1)
. وعن ابنِ سيرينَ قال: مُرَّ بجنازةٍ علَى الحسنِ بنِ عليٍّ وابنِ عباسٍ، فقامَ الحسنُ، ولم يقُمِ ابنُ عباسٍ، فقال الحسنُ لابنِ عباسٍ: أمَا قامَ لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قال ابنُ عباسٍ: قامَ ثمَّ قعَدَ. رواهُ النسائيُّ
(2)
.
وعنه: يُستحبُّ القيامُ لها، ولو كانت كافرةً. نصرَه ابن أبي موسَى، واختارَه القاضي، وابنُ عقيلٍ، والشيخُ تقيُّ الدِّينِ، وصاحبُ "الفائقِ"
(3)
(و) يُكرَهُ (رفعُ الصَّوتِ معَها) أي: الجنازةِ (ولو بالذِّكرِ والقرآنِ) لأنَّه بدعةٌ. ويُسنُّ القراءةُ والذِّكرُ سرًّا، وإلَّا الصَّمتُ.
ويُسنُّ لمتَّبعِ الجنازةِ أن يكونَ متخشِّعًا، متفكِّرًا في مآلِه، متعظًا بالموتِ، وبما يصيرُ إليه الميِّتُ.
ويُكرَهُ مسحُه بيدَيه أو بشيءٍ عليها تبرُّكًا. قال أبو المعالي: هو بدعةٌ يُخافُ منه على الميِّتِ. قال: وهو قبيحٌ في الحياةِ، فكذا بعدَ الموتِ. وفي "الفصولِ": يُكرَهُ. قال: ولهذا منَعَ أكثرُ العلماءِ مِن مسِّ القبرِ، فكيف بالجسَدِ؟!. ولأنَّه بعدَ الموتِ كالحياةِ، ثمَّ حالَ الحياةِ، يُكرَهُ أن يُصَرَّ بدنُ الإنسانِ؛ للاحترامِ وغيرِه، سوَى المصافحةِ. وروَى الخلَّالُ في "أخلاقِ أحمدَ": أنَّ عليَّ بنَ عبدِ الصَّمدِ الطيالسيَّ مسَحَ يدَه على أحمدَ
(4)
ثمَّ مسَحَها على يديهِ، وهو ينظُرُ! فغضِبَ شديدًا، وجعَلَ
(1)
أخرجه مسلم (962)، وأحمد (2/ 365)(1167).
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (1925)، وصحح الألباني إسناده.
(3)
"للإنصاف"(6/ 213).
(4)
سقطت من الأصل، والمثبت من "الفروع" 3/ 270.
وسُنَّ أن يعمَّقَ القَبرُ، ويوسَّعَ بلا حَدٍّ، ويكفِي ما يمنعُ السِّباعَ والرائحَةَ.
وكُرِهَ: إدخالُ القبرِ خَشَبًا، وما مسَّتهُ نارٌ، ووَضعُ فِراشٍ تحتَه،
ينفُضُ يدَه، ويقولُ: عمَّن أخذْتُم هذا؟! أو أنكَرَه شديدًا
(1)
.
(وسُنَّ أن يعمَّقَ القبرُ، وُيوسَّعَ) القبرُ (بلا حدًّ)، على الصحيحِ؛ لقولِه عليه السلام في قتلَى أُحُدٍ:"احفِروا، وأوسِعُوا، وأعمِقُوا"
(2)
. قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّ التعميقَ أبعدُ لظهورِ الرائحةِ، وأمنعُ للوحشِ. والتوسيعُ: الزيادةُ في الطُّولِ والعرضِ. والتعميقُ، بالعينِ المُهملَةِ: الزيادةُ في النزولِ.
وعنه: يُسنُّ إلى الصَّدرِ. وقال أكثرُ الأصحابِ: قامةً وبسطةً. قالَه في "الفروعِ". والبسطَةُ: الباعُ
(3)
. وقال في "الإقناعِ"
(4)
: وهي بَسْطُ يدِ قائمةً.
(ويكفي ما يمنَعُ السِّباعَ والرائحةَ) لأنَّه يحصُلُ به المقصودُ، ولأنَّه
(5)
لم يرِدْ فيه تقديرٌ.
(وكُرِهَ إدخالُ القبرِ خشبًا) إلَّا لضرورةٍ. (و) كُرِهَ إدخالُ (ما مسَّتْه نارٌ) كآجُرِّ. وكُرِهَ دفنٌ في تابوتٍ، ولو امرأةً
(و) كُرِهَ (وضعُ فراشٍ تحتَه) أي: الميِّتِ. روي عن
(6)
ابنِ عباسٍ: أنَّه كَرِهَ أن يُلقَى تحتَ الميِّتِ في القبرِ شيءٌ. ذكَرَه الترمذيُّ
(7)
. وعن أبي موسَى: لا تجعلُوا
(1)
انظر "كشاف القناع"(4/ 182).
(2)
أخرجه الترمذي (1713) من حديث هشام بن عامر. وصححه الألباني.
(3)
انظر "الإنصاف"(6/ 218).
(4)
"الإقناعِ"(1/ 364).
(5)
في الأصل: "لأنَّه".
(6)
سقطت: "عن" من الأصل.
(7)
أخرجه الترمذي عقب حديث (1048).
وجعلُ مِخدَّةٍ تحتَ رأسِهِ.
وسُنَّ قولُ مُدخلِهِ القبرَ: بسم اللَّه، وعلى مِلَّة رسولِ اللَّه.
بيني وبينَ الأرضِ شيئًا
(1)
.
والقطيفةُ التي وُضِعَت تحتَه عليه السلام، إنما وضعَها شُقْرانُ
(2)
، ولم يكُنْ عنِ اتفاقٍ مِنَ الصَّحابةِ.
(و) كُرِهَ (جعلُ مِخَدَّةٍ تحتَ رأسِه) نصًّا؛ لأنَّه غيرُ لائقٍ بالحالِ، ولم يُنقَلْ عنِ السَّلَفِ.
وسُنَّ أن يُجعَلَ تحتَ رأسِه لبِنَةٌ، فإن لم يُوجَدْ فحجَرٌ، فإن لم يُوجَدْ فقليلٌ من تُرابٍ؛ لأنَّه أشبَهُ بالمِخَدَّةِ للنائمِ، ولئلَّا يميلَ رأسُه. ولا يُجعَلُ آجرَّةٌ؛ لأنَّه ممَّا مسَّتْه النارُ. ويُزالُ الكفَنُ عن خدِّه
(3)
ويُلصَقُ بالأرضِ؛ لأنَّه أبلَغُ في الاستكانةِ. قال عمَرُ: إذا أنا مِتُّ، فأفضُوا بخدِّي إلى الأرضِ
(4)
.
(وسُنَّ قولُ مُدخِله) أي: الميِّتِ (القبرَ: بسمِ اللهِ، وعلى مِلَّةِ رسولِ اللهِ) لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: "إذا وضعْتُم موتاكم في القبرِ، فقولوا: بسمِ اللهِ، وعلى مِلَّةِ رسولِ اللهِ". رواهُ أحمدُ
(5)
. وإنْ قرأَ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55]، أو أتَى بذكرٍ أو دُعاءٍ لائقٍ عندَ وضعِهِ وإلحادِهِ، فلا بأسَ.
(1)
أخرجه أحمد (32/ 317)(19547).
(2)
أخرجه الترمذي (1047) من حديث جعفر بن محمد عن أبيه. وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "جسده".
(4)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(3122).
(5)
أخرجه أحمد (8/ 429)(4812)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(832).
ويجبُ أن يَستَقبِلَ به القبلَةَ، ويُسنُّ عَلَى جَنبِه الأيمَنِ.
ويحرُم دفنُ غيرِه عليه، أو معَه، إلَّا لضَرورَةٍ.
وسُنَّ حثوُ الترابِ عليه ثلاثًا، ثمَّ يُهالُ.
واستحَبَّ الأكثرُ تلقينَهُ بعدَ الدَّفْنِ.
(ويجبُ أن يَستقبلَ به) أي: الميتِ (القبلةَ) لقولِه عليه السلام في الكعبةِ: "قِبلتَكم أَحياءً وأمواتًا"
(1)
. ولأنَّه طريقةُ المسلمين بنقلِ الخلَف عنِ السَّلَفِ.
وينبغي أن يُدنَى منَ الحائطِ، لئلَّا ينكبَّ على وجهِهِ، وأن يُسنَدَ مِن ورائِه بتُرابٍ، لئلَّا ينقلِبَ. ويُتعاهَدُ خِلالُ اللَّبِنِ بسدِّه بالمدَرِ ونحوِه، ثمَّ يُطيَّنُ فوقَه.
(ويُسنَّ على جنبِه الأيمنِ) لأنَّه يُشبِهُ النَّائمَ.
(ويحرُمُ دفنُ غيرِه عليه) أي: ميتٍ آخرَ (أو معَهُ) أي: يحرُمُ الدَّفنُ معه في لحدٍ واحدٍ؛ لأنَّه عليه السلام كان يدفِنُ كلَّ ميتٍ بقبرٍ. ولا فرقَ بينَ المحارمِ وغيرِهم (إلَّا لضرورةٍ) أو حاجةٍ، ككثرةِ الموتَى بقتلٍ، أو غيرِه، فيجوزُ دفنُ اثنين فأكثرَ، في قبرٍ واحدٍ؛ للعُذرِ. وسُنَّ حجزٌ بينَهما بترابٍ يفصلُ بينَهما، ولا يكفي الكفنُ.
(وسُنَّ حثوُ الترابِ عليه) أي: الميتِ (ثلاثًا) باليدِ (ثمَّ يُهالُ) عليه الترابُ
(2)
؛ لحديثِ أبي هريرةَ قال فيه: فحثَى عليه مِن قِبَلِ رأسِه ثلاثًا. رواهُ ابنُ ماجَه
(3)
.
(واستحبَّ الأكثرُ تلقينَه بعدَ الدَّفْنِ) أي: الميتِ؛ لحديثِ أبي أمامةَ الباهليِّ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتَ أحدُكم، فسوَّيتُم عليه التُّرابَ، فليقُمْ
(1)
أخرجه أبو داود (2877) من حديث عبيد بن عمير عن أبيه. وحسنه الألباني.
(2)
في الأصل: "السلام". والمثبت من "دقائق أولى النهى" 2/ 139.
(3)
أخرجه ابن ماجه (1565)، وصححه الألباني.
وسُنَّ رشُّ القبرِ بالماءِ، ورفعُهُ قدرَ شِبرٍ.
أحدكم
(1)
على رأسِ قبرِه، تمَّ ليقُلْ: يا فلانَ بنَ فلانةَ، فإنه يسمعُ ولا يجيبُ. تمَّ ليقُلْ: يا فلانَ بنَ فلانةَ
(2)
، فإنَّه يستوي قاعدًا، ثم ليقُلْ: يا فلانَ بنَ فلانةَ، فإنَّه يقولُ: أرشِدْنا يرحمْكَ اللهُ. ولكن لا تَسمعُون. فيقولُ: اذكُز ما خرجْتَ عليه منَ الدنيا، شهادةَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّكَ رضيتَ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، وبالقرآنِ إمامًا. فإنَّ مُنكرًا ونكيرًا يقولان: ما يُقعدنا عندَه وقد لُقِّنَ حُجَّتَه؟ ". قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، فإن لم يعرفِ اسمَ أُمِّه؟ قال: "فلينسِبَه إلى حوَّاءَ"
(3)
. رواهُ أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ في "الشَّافي". ويُؤيِّدُه حديثُ: "لقِّنوا موتاكم لا إلهَ إلَّا اللهُ"
(4)
.
وظاهرُه: لا فرقَ بينَ الصغيرِ وغيرِه، بناءً على نزولِ المَلَكَيْنِ إليه. ورجَّحَه في "الإقناعِ"، وصحَّحَه الشيخُ تقيُّ الدِّينِ. وخصَّه بعضُهم بالمُكلَّفِ.
(وسُنَّ رشُّ القبرِ بالماءِ) بعدَ وضعِ الحصباء
(5)
عليه؛ لما روَى جعفرُ بنُ محمدٍ، عن أبيهِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رشَّ على قبرِ ابنِه إبراهيمَ ماءً، ووضَعَ عليه الحصْباءَ. رواهُ الشافعيُّ
(6)
. ولئلَّا يذهبَ تُرابُه. والحصْباءُ: صغارُ الحصَى.
(و) سُنَّ (رفعُه قَدْرَ شبرٍ) ليُعرَفَ أنَّه قبرٌ، فيُتوَقَّى، ويُترَّحمُ على صاحبِه. وروَى
(1)
سقطت: "أحدكم" من الأصل.
(2)
سقطت: "فإنه يسمع ولا يجيب ثمَّ ليقلْ: يا فلانَ بنَ فلانةَ" من الأصل.
(3)
أخرجه الطبراني (7979)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(753).
(4)
أخرجه مسلم (916) من حديثِ أبي سعيدٍ الخدري.
(5)
في الأصل: "الحصا".
(6)
أخرجه الشافعي في "مسنده" ص (360)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(755).
ويُكره: تَزويقُه، وتَجصِيصُه، وتبخِيُره، وتقبيلُه، والطوافُ به، والاتكاءُ إليه، والمَبيتُ والضَّحِكُ عِندَهُ،
الشافعيُّ عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رُفِعَ قبرُه عنِ الأرض قَدْرَ شبر
(1)
. ويُكرَهُ رفعُه فوقَ شبرٍ؛ لقولِه عليه السلام لعلي: "لا تدَعْ تمثالًا إلَّا طمسْتَه، ولا قبرًا مُشرِفًا إلَّا ساويتَه" رواهُ مسلمٌ وغيرُه
(2)
. والمُشرِفُ: ما رُفِعَ كثيرًا، لقولِ القاسمِ بنِ محمدٍ في صفةِ قبورِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَيهِ: لا مُشرِفَةٍ، ولا لاطِئَةٍ
(ويُكرَهُ تَزويقُه) أي: القبرِ (و) يُكرَهُ (تجصيصُه، و) يُكرَهُ (تبخيرُه، و) يُكرَهُ (تقبيلُه، و) يُكرَهُ (الطَّوافُ به
(3)
، و) يُكرَهُ (الاتَّكاءُ إليه
(4)
) لما رُوِيَ أنَّه عليه السلام: رأى رجلًا قد اتَّكأَ على قبرٍ، فقال:"لا تُؤذِ صاحبَ القبرِ"
(5)
.
(و) يُكرَهُ (المبيتُ) عندَه (و) يُكرَهُ (الضَّحكُ عندَه) والتبسُّمُ. (و) يُكرَهُ
(1)
أخرجه البيهقي (3/ 410) قال الألباني في "أحكام الجنائز" ص (153): وإسناده حسن.
(2)
أخرجه مسلم (969)، وأحمد (2/ 141)(741).
(3)
ينبغي حمل الكراهة هنا على التحريم؛ لورود النهي الصريح عن مثل ذلك كما في حديث جابر عند مسلم (970) من النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه. ونحوه من النصوص الدالة على النهى عن الغلو في القبور واتخاذها أعياداً.
قال الشيخ تقي الدين: فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين. "مجموع الفتاوى"(27/ 10).
وقال ابن "القيم: فمن مفاسد اتخاذها أعياداً: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها. "إغاثة اللهفان" (1/ 195).
(4)
في الأصل: "عليه".
(5)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 515) من حديث عمرو بن حزم. وضعفه الألباني في "الإرواء"(758).
والحديثُ في أمرِ الدُّنيا، والكتابةُ عليه، والجلوسُ، والبِنَاءُ، والمشيُ بالنَّعْلِ، إلا لخَوفِ شَوكٍ ونحوِه.
ويحرُمُ إسراجُ المقابِرِ،
(الحديثُ) عندَه (في أمرِ الدنيا، و) يُكرَهُ (الكتابةُ عليه) أي: القبرِ (و) يُكرَهُ (الجلوسُ) عليه (و) يُكرَهُ (البناءُ) عليه مِن قُبَّةٍ وغيرِها؛ لحديثِ جابرٍ قال: نهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يُجصَّصَ القبرُ، وأن يُبنَى عليه، وأن يُقعَدَ عليه. رواهُ مسلمٌ، والترمذيُّ
(1)
. وزادَ: وأن يُكتبَ عليه. وقال: حسنٌ صحيحٌ.
(و) يُكرَهُ (المشيُ بالنَّعلِ) وسُنَّ خلعُه إذا في خَلَ المقبرَةَ؛ لحديثِ بشيرِ بنِ الخَصَاصيَّةِ، قال: بينَا أنا أُماشي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا رجُلٌ يمشي في القبورِ، عليه نعلانِ فقالَ له:"يا صاحبَ السِّبتيَّتيْنِ، ألقِ سبْتيَّتيْك". فنظَرَ الرجلُ، فلمَّا عرَفَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، خلَعَهما، فرمَى بهما. رواهُ أبو داودَ
(2)
. وقال أحمدُ: إسنادُه جيدٌ. واحترامًا لأمواتِ المسلمين (إلَّا لخوفِ شوْكٍ) أو نجاسةٍ، أو حرارةِ أرضٍ، أو بردِها، فلا يُكرَهُ، للعُذرِ. ولا يُسنُّ خلعُ خُفِّه؛ لأنَّه يشُقُّ. وعن أحمدَ: أنَّه كان إذا أرادَ أن يخرُجَ إلى الجنازةِ لبَسَ خفَّيهِ. فلا يُكرَهُ المشيُ بينَ القبورِ بخُفٍّ؛ لأنَّه ليس بنعلٍ ولا في معناه. وأمَّا وطءُ القبرِ فمكروهٌ مُطلقًا.
(ويحرُمُ إسراجُ المقابرِ) لحديثِ: "لعَنَ اللهُ زوَّراتِ القبورِ، والمتَّخِذينَ عليها المساجدَ، والسُّرُجَ" رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ
(3)
بمعناه
(4)
. ولأنَّه إضاعةُ مالٍ. بلا
(1)
أخرجه مسلمٌ (970)، والترمذيُّ (1052).
(2)
أخرجه أبو داود (3232)، وصححه الألبانى.
(3)
أخرجه أبو داودَ (3238)، والنسائيُّ (2043)، وضعفه الألباني.
(4)
في الأصل: "لمعناه".
والدَّفنُ بالمسَاجِدِ، وفِي مِلكِ الغَيرِ، ويُنبَشُ.
والدَّفنُ بالصَّحراءِ أفضلُ.
وإن ماتتِ الحَاملُ، حَرُمَ شَقُّ بطنِها، وأخرجَ النِّساءُ من تُرجَى حياتُه، فإن تعذَّرَ، لم تُدفَن حتَّى يمُوتَ، وإن خَرَجَ بعضُه حيًّا، شُقَّ للبَاقِي.
فائدةٍ، ومغالاةٌ في تعظيمِ الأمواتِ، يُشبِهُ تعظيمَ الأصنامِ.
(و) يحرُمُ (الدَّفنُ بالمساجدِ) والمدارسِ. (و) جرُمُ الدَّفنُ (في مِلكِ الغَيرِ) ما لم يأذَنْ مالِكُه فيه فيُباحُ. (ويُنبَشُ) مَن دُفِنَ به، ويخرجُ. نصًّا
(والدَّفنُ بالصَّحراءِ
(1)
أفضلُ) مِن دفنٍ بعُمرانَ؛ لأنَّه عليه السلام كان يدفِنُ أصحابَه بالبقيعِ. ولم تزَلِ الصَّحابةُ والتابعون ومَنْ بعدَهم يُقبَرُون في الصَّحاري؛ ولأنَّه أشبَهُ بمساكنِ الآخرةِ.
(وإن ماتَتِ الحاملُ) بمَن تُرجَى حياتُه (حرُمَ شقُّ بطنِها) للحملِ، مسلمةً كانَت أو ذميَّةً؛ لأنَّه هتْكُ حرمةٍ مُتيقَّنةٍ، لإبقاءَ حياةٍ مُتوهَّمةٍ؛ إذِ الغالبُ أنَّ الولدَ لا يعيشُ. واحتجَّ أحمدُ بحديث عائشةَ مرفوعًا:"كسرُ عظمِ الميِّتِ، ككسرِ عظمِ الحيِّ". رواهُ أبو داودَ
(2)
. (وأخرَجَ النساءُ مَن تُرجَى حياتُه) بأن كان يتحرَّكُ حركةً قويَّةً، وانفتحَتِ المخارجُ، وله ستَّةُ أشهرٍ فأكثرَ. (فإن تعذَّرَ) عليهنَّ إخراجُه (لم تُدفَنْ حتَّى يموتَ) الحملُ، لحرمتِه. ولا يُشقُّ بطنُها، ولا يُوضَعُ عليه ما يموِّتُه ولا يُخرجُه الرِّجالُ؛ لما فيه مِن هتكِ حُرْمتِها. (وإن خرَجَ بعضُه) أي: الميتِ (حيًّا، شُقَّ) بطنُها، لخروجِ (الباقي) لتيقُّنِ حياتِه بعدَ أن كانَت موهومةً.
(1)
في الأصل: "في الصحراء".
(2)
أخرجه أبو داود (3207)، وصححه الألباني.
فَصْلٌ
تُسَنُّ تعزيةُ المُسلِمِ إلى ثلاثَةِ أيَّامٍ.
فيقالُ له: أعظمَ اللَّهُ أجرَكَ، وأحسَنَ عزاءَكَ، وغفَرَ لميِّتِكَ.
(فصلٌ) في أحكامِ المُصابِ
(تُسنُّ تعزيةُ المُسلمِ) المُصابِ. أمَّا الكافرُ فتحرُمُ تعزيتُه، كما صرَّحَ به في "الإقناعِ"
(1)
. وظاهرُ إطلاقِه: ولو كان الميِّتُ مسلمًا. لحديثِ: "ما مِن مُؤمنٍ يُعزِّي أخاهُ بمصيبةٍ إلا كساهُ اللهُ عز وجل مِن حُلَلِ الجنَّةِ". رواهُ ابنُ ماجَه
(2)
. وعن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "مَن عزَّى مُصابًا فله كمثلِ أجرِه". رواهُ ابنُ ماجَه والترمذيُّ
(3)
، وقالَ: غريبٌ.
وهي: التسليةُ، والحثُّ على الصبرِ، والدُّعاءُ للميِّتِ والمُصابِ، ولو كان صغيرًا.
(إلى ثلاثةِ أيَّامِ) فلا يُعزَّى بعدَها؛ لأنَّها مدَّةُ الإحدادِ المطلق. قال المجدُ: إلَّا إذا كان غائبًا، فلَا بأسَ بتعزيته إذا حضَرَ. قال النَّاظمُ: ما لم تُنْسَ المصيبةُ
(فيقالُ له
(4)
) في تعزيةِ المسلمِ المُصابِ بمسلمٍ: (أعظَمَ اللهُ أجرَكَ، وأحسَنَ عزاءَكَ، وعْفَرَ لميِّتِكَ) ويقالُ غيرُ ذلك ممَّا يؤدِّىِّ معناه. وروَى حربٌ عن زُرارةَ بنِ
(1)
"الإقناعِ"(1/ 383).
(2)
أخرجه ابنُ ماجَه (1601) من حديث عمرو بن حزم. وحسنه الألباني.
(3)
أخرجه ابنُ ماجَه (1602)، والترمذيُّ (1073)، وضعفه الألبانى.
(4)
سقطت: "له" من الأصل.
ويقول هو: استجابَ اللَّهُ دعاءَك، ورحِمَنا وإياكَ.
ولا بأسَ بالبكاءِ على الميِّتِ.
أبي أوفَى قال: عزَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا على ولدِه فقال: "آجرَكَ اللهُ، وأعظَمَ لك الأجرَ"
(1)
. وكُرِهَ تكرارُها، فلا يُعزِّي عندَ القبرِ مَن عزَّى قبلُ. وله الأخذُ بيدِ مَن يُعزِّيه.
(ويقولُ هو) المعزَّى، بفتحِ الزَّايِ مُشدَّدةً:(استجابَ اللهُ دُعاءَكَ، ورحِمَنا وإيَّاكَ) ردَّ به الإمامُ أحمدُ، وكفَى به قُدوةً.
ويُسنُّ للمُصابِ أن يَسترجِعَ، فيقولَ: إنَّا للهِ - أي: نحن عبيدُه يفعلُ بنا ما يشاء - وإنَّا إليه راجعونَ - أي: نحنُ مُقرُّونَ بالبعثِ والجزاءِ على أعمالِنا - اللهمَّ أْجُزني في مُصيبَتي، واخلُفْ لي خيرًا منها. قال الآجُرِّيُّ، وجماعةٌ: ويُصلِّي ركعتينِ. قال في "الفروعِ": وهو مُتَّجهٌ، فعَلَه ابنُ عباسٍ
(2)
، وقرأَ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
(ولا بأسَ بالبكاءِ) قال الجوهريُّ: البكاءُ يُمدُّ ويُقصَرُ. فإذا مددتَ، أردَّتَ الصَّوتَ الذي يكونُ مع البكاءِ، وإذا قصرتَ أردَّتَ الدُّموعَ، وخروجَها. (على للميِّتِ) قبلَ الموتِ وبعدَه. قال الشَّارحُ: وأخبارُ النَّهي محمولةٌ على بُكاءٍ معه ندبٌ أو نياحةٌ. قال صاحبُ "المحررِ": أو أنَّه كُرِهَ كثرةُ البُكاءِ، والدَّوامُ عليه
(1)
قال الألباني في "الإرواء": ضعيف؛ لأن زرارة بن أبي أوفى تابعي فالحديث مرسل، ولا أدري إذا كان السند إليه صحيحا فإني لم أقف عليه. انتهى. وأخرج البيهقي (4/ 60) من حديث أبي خالد الوالبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزَّى رجلاً فقال: "يرحمك اللَّه ويأجرك" قال البيهقي: وهذا مُرسل.
(2)
أخرجه الطبري في "التفسير"(1/ 260).
ويحرُم: النَّدبُ، وهو: البُكَاءُ مَعَ تعدَادِ محاسِنِ المَيِّتِ، والنِّياحَةُ، وهيَ: رَفعُ الصَّوتِ بذلك برنَّةٍ.
ويحرُمُ: شَقّ الثَّوبِ، ولَطمُ الخَدِّ، والصُّراخُ، ونتفُ الشَّعرِ، ونَشرُهُ، وحَلقُهُ.
أيَّامًا كثيرةً
(1)
.
(ويحرُمُ النَّدبُ، وهو: البكاءُ، مع تعدَادِ محاسنِ المِّيتِ) بلفظِ النِّداءِ بواوٍ مع زيادةِ الألفِ والهاءِ في آخرِهِ، كقولِه: واسيِّداهُ، واجبَلَاة، وانقطاعَ ظهْراهُ.
(و) تحرُمُ (النياحةُ، وهي: رفعُ الصَّوتِ بذلك) أي: بالنَّدبِ، وتعدَادِ محاسِنِ الميِّتِ (برنَّةٍ) لما في الصحيحين
(2)
، عن أمِّ عطةَ قالَتْ: أخَذَ علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في البيعةِ أن لا ننوحَ. وفي "صحيحِ مسلمٍ"
(3)
أنَّه صلى الله عليه وسلم لعَنَ النائحةَ والمستمعَةَ.
(ويحرُمُ شقُّ الثوبِ، ولطمُ الخَدِّ، والصُّراخُ، ونتفُ الشَّعَرِ، ونشرُهُ، وحلقُهٌ) ونحوُ ذلك، كتسويدِ وجهٍ، وخمشِه؛ للأخبارِ، منها: حديثُ "الصحيحين"
(4)
مرفوعًا: "ليس منَّا مَنْ لطَمَ الخُدودَ، وشَقَّ الجيوبَ، ودَعا بدعوَى الجاهليةِ". ولما فيه من عدَمِ الرِّضا بالقضاءِ، والسُّخْطِ من فعلِه تعالى. وصحَّت الأخبارُ بتعذيبِ الميِّتِ بالنياحةِ والبُكاءِ عليه. وحمِلَ على مَنْ أوصَى به، أو لم يُوصِ بتركِه إذا كان
(1)
انظر "دقائق أولى النهى"(2/ 156).
(2)
أخرجه البخاري (1306)، ومسلم (936).
(3)
لم أجده عند مسلم. وأخرجه أبو داود (3128) من حديث ألي سعيد. وضعف إسناده الألباني.
(4)
أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103) من حديث ابن مسعود.
وتُسَنُّ زيارةُ القبورِ للرجالِ، وتُكرهُ للنِّساء، وإنِ اجتازَت المرأةُ بقَبرٍ في طريقِهَا، فسلَّمَت عليِه، ودَعَت له، فحَسَنٌ.
وسُنَّ لمَنْ زارَ القُبُورَ، أو مرَّ بها، أن يقولَ: السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنينَ، وإنَّا إن شاءَ اللَّه بِكُم للاحِقُونَ، ويرحَمُ اللَّهُ المستَقدِمِينَ مِنكم
عادةَ أهلِه، أو على مَن كَذَّبَ به حينَ يموتُ. أو على تأذيِّه به. قال في "الشرح"
(1)
:
ولا بُدَّ مِن حملِ الحديثِ على البُكاءِ الذي معه ندبٌ ونياحةٌ، ونحوُ هذا.
وما هيَّجَ المُصيبةَ مِن وعظٍ وإنشادِ شعرٍ، فمِنَ النياحةِ. قاله الشيخُ تقيُّ الدِّينِ
(2)
.
(وتُسنُّ زيارةُ القبورِ للرجالِ) نصَّ عليه، وحكاهُ النوويُّ إجماعًا؛ لقولِه عليه السلام:"كنْتُ نهيتُكم عن زيارةِ القبورِ، فزُورُوها، فإنَّها تُذكِّرُ الموتَ". رواهُ مسلمٌ
(3)
، وللترمذيِّ:"فإنَّها تُذكِّرُ الآخرةَ".
(وتُكرَهُ) زيارةُ القبورِ اللنساءِ) لحديثِ أمِّ عطيةَ: نُهينا عن زيارةِ القبورِ، ولم يُعْزَمْ علينا. متَّفَقٌ عليه
(4)
. (وإنِ اجتازَتِ المرأةُ بقبرٍ في طريقِها) ولم تكُنْ خرَجَت له (فسلَّمَت عليه، ودَعَت له، فحسَنٌ)
(وسُنَّ لمَن زارَ القبورَ، أو مرَّ بها، أن يقولَ) مُعَرِّفًا: (السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاءَ اللهُ بكم للاحقونَ، ويرحَمُ اللهُ المستقدمينَ مِنكم
(1)
"الشرح الكبير"(6/ 287).
(2)
انظر "قائق أولي النهى"(2/ 157).
(3)
أخرجه مسلم (1977)، والترمذي (1054) من حديث بريدة.
(4)
أخرجه البخاري (1278)، ومسلم (938).
والمستأخِرِين، نسألُ اللَّهَ لنا ولكُم العافِيةَ. اللَّهم لا تحرِمنَا أجرَهُم، ولا تَفتِنَّا بعدَهُم، واغفِر لنا ولَهُم.
وابتداءُ السَّلامِ على الحيِّ سُنَّةٌ،
والمُستأخرين، نسألُ اللهَ لنا ولكم العافية. اللهمَّ لا تحرمْنا أجرَهم، ولا تفتنَّا بعدَهم، واغفرْ لنا ولهم) للأخبارِ. وقولُه:"إن شاءَ اللهُ" للتبرُّكِ، أو في الموتِ على الإسلامِ، أو في الدَّفنِ عندَهم، ونحوِه ممَّا أُجيبَ به
(1)
؛ إذ الموتُ مُحقَّقٌ، فلا يُعلَّقُ بـ "إنْ".
(وابتداءُ السَّلام على الحيِّ سُنَّةُ) عَينٍ مِن مُنفرِدٍ. ومِن جمعٍ اثنينِ فأكثرَ، سنَّةُ كفايةٍ؛ لحديثِ:"أفْشوا السَّلامَ"
(2)
. وما بمعناهُ. والأفضلُ أن يسلِّموا كلُّهم، ولا يجبُ، إجماعًا. قالَه في "الشرحِ"
(3)
.
ويُكرَهُ في الحمَّامِ، وعلى مَنْ يأكلُ، أو يقاتلُ، أو يبولُ، أو يتغوَّطُ، أو يخطُبُ، أو يتلُو، أو يذكُز، أو يلبِّي، أو يعِظُ، أو يستمِعُ لهم، ومَن يُكرِّرُ فقهًا، أو يدرِّسُ، أو يبحَثُ في العلمِ، أو يؤذِّنُ، أو يُقيمُ، أو يتمتَّعُ بأهلِهِ، أو يشتغِلُ بالقضاءِ، ونحوِهم
(4)
. أو على أجنبيَّةٍ غيرِ عجوزٍ.
قال الشيخُ عبدُ القادرِ: ولا يُسلِّمُ على المُتلَبِّسِ بالمعاصي، كمَنِ اجتازَ على قومٍ يلعبون بالشِّطْرَنجِ، أو النَّردِ، أو يشربونَ الخمرَ، أو يلعبونَ بالجوزِ والقِمارِ. وإن
(1)
في الأصل: "يجيب به".
(2)
أخرجه مسلم (54) من حديث أبي هريرة.
(3)
"معونة أولي النهى"(3/ 134).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 162).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سلَّموا هم، رُدَّ عليهم. وقال أبو داودَ: قلْتُ لأحمدَ: جماعةٌ يتقاذفونَ، أسلِّمُ عليهم؟ قال: هؤلاء قومٌ سفهاءُ.
والسلامُ اسمٌ من أسماءِ اللهِ. ورفعُ الصَّوتِ بالسَّلامِ سُنَّةٌ؛ بحيثُ يسمعُه المسلَّمُ عليهم سماعًا مُحقَّقًا. ولو سلَّمَ على إنسانٍ، ثمَّ لقِيَه على قُربٍ، سلَّمَ ثانيًا وثالثًا وأكثرَ. ويُسنُّ أن يبدأَ بالسَّلامِ قبلَ الكلامِ. ولا يتركُ السَّلامَ إذا غلَبَ على ظنِّه أنَّ المسلَّمَ عليه لا يرُدُّ. وإن دخَلَ على جماعةٍ فيهم علماءَ، سلَّمَ على الكُلِّ، ثمَّ على العلماءِ سلامًا ثانيًا.
ويُكرَهُ أن يخُصَّ بعضَ طائفةٍ لقِيَهم بالسَّلامِ. وأن يقولَ: سلامُ اللهِ عليكم.
ويُسنّ السَّلامُ أيضًا عندَ الانصرافِ. ويُسنّ أن يُسلِّمَ الصغيرُ والقليلُ والماشي والراكبُ على ضدِّهم، فإن عكسَ، حصَلَت السنَّةُ. هذا إذا تلاقَوا في طريقٍ، أمَّا إذا وردُوا على قاعدٍ، فالواردُ يبدأُ مُطلقًا.
ويُستحبُّ لكلٍّ مِنَ المتلاقِيَيْنَ أن يحرصَ على الابتداءِ بالسَّلامِ. فإن بدأَ كلٌّ منهما به معًا، وجَبَ على كلٍّ الإجابةُ.
وإرسالُ السَّلامِ إلى الأجنبيةِ، وإرسالُها إليه، لا بأسَ به
(1)
؛ للمصلحةِ وعدمِ المحذورِ. ومَن بُعِثَ معه سلامٌ، وجَبَ تبليغُه.
ولو سلَّمَ على أصمَّ، جمَعَ بينَ اللَّفظِ والإشارةِ. وسلامُ الأخرسِ وجوابه
(2)
بالإشارةِ.
(1)
سقطت: "به" من الأصل.
(2)
في الأصل: "وجواب".
وردُّه فَرضُ كِفَايَةٍ.
(وردُّه) أي: السَّلامِ، إن لم يكُنْ ابتداؤُه مكروهًا (فرضُ كفايةٍ) فإن كان المسلَّمُ عليه واحدًا، تعيَّنَ عليه. ورَدّ السلامِ سلامٌ
(1)
حقيقةً؛ لأنَّه يجوزُ بلفظِ: سلامٌ عليكم.
ولا يسقطُ بردِّ غيرِ المُسلَّمِ عليه؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ الفرضِ. ولا تجِبُ زيادةُ الواوِ؛ بأن يقولَ الرَّادُّ: وعليك السَّلامُ.
ولا تُسنُّ الزيادةُ في الابتداءِ، ولا في الزَدِّ على قولِه: ورحمةُ اللهِ وبركاتِه. ويُجزئُ إن زادَ الابتداءَ على لفظِ الرَّدِّ وعكسِه.
ويُسنُّ أن يأتيَ المُبتدئُ بلفظِ الجمعِ، فيقول: السلامُ عليكم. وإن كان المُسلَّمُ عليه واحدًا
(2)
.
وإن سلَّمَ على مَن وراءَ جدارٍ، أو على غائبٍ عنِ البلدِ برسالةٍ، أو كتابةٍ، وجَبَت الإجابةُ عندَ البلاغِ. ويُستحبّ أن يرُدَّ على الرسولِ، فيقول: وعليك وعليه السلامُ
(3)
.
ولا يُقالُ في الرد: السلامُ عليكم. ولا: سلامٌ عليكم. قال ابنُ
(4)
القيِّمِ رحمه الله
(5)
: لأنَّه إذا قال ذلك، لم يَعرِفْ أهذا ردٌّ لسلامِه عليه
(6)
أم ابتداءُ تحيَّةٍ؟!.
(1)
سقطت: "سلام" من الأصل.
(2)
انظر "معونة أولي النهى"(3/ 134).
(3)
انظر "كشاف القناع"(4/ 261).
(4)
سقطت: "ابن" من الأصل.
(5)
"بدائع الفوائد"(2/ 381).
(6)
سقطت: "عليه" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومطلوبُ المسلِّم
(1)
مِن المسلَّم عليه
(2)
أن يَرُدَّ عليه سلامَه، وليس مقصودُه أن يبدأَه بالسلامِ، كما بدأَه به. ولأَنَّ المسلِّمَ لمَّا تضمَّنَ سلامُه الدُّعاءَ للمُسلَّمِ عليه، بوقوعِ السلامة
(3)
وحلولِها عليه، وكان الرَّدُّ مُتضمِّنًا الطَّلبَ أن يحلَّ عليه ما دُعِيَ به له، وذلك لا يحصُلُ إلَّا بصفةِ الرَّدِّ؛ لأنَّ معناها: وعليكَ مِن ذلك ما طلَبْتَ لي، كان الرَّدُّ بالتعريفِ عبثًا، بخلافِ ابتداءِ السلامِ، فإنَّه يكونُ مُنكَّرًا أو مُعرَّفًا؛ لأنَّ معنى: سلامٌ عليكَ. جارٍ مجرَى: سلَّمَكَ اللهُ. والفعلُ نكرةٌ فأحبّوا أن يجعلُوا اللَّفظَ الجاري مجراهُ نكرةً مثلَه. وأمَّا الرَّدُّ فمعناه: السلامُ الذي طلَبْتَه لي مردودٌ عليك، فلو أتَى به مُنكَّرًا، لم يكُنْ فيه إشعارٌ بذلك. انتهى ما قالَه ابنُ القيِّمِ رحمه الله.
وسلامُ النساءِ على النساءِ، كسلامِ الرِّجالِ على الرِّجالِ.
قال في "الإقناعِ": ولا بأسَ بالمُعانقَةِ. وقال أبو المَعالي في "شرحِ الهدايةِ": تُستحبُّ زيارةُ القادمِ، ومُعانقتُه والسلامُ عليه.
قال: وإكرامُ العلماءِ وأشرافِ القومِ بالقيامِ سنَّةٌ مُستحبَّةٌ. قال: ويُكرَهُ أن يطمَعَ في قيامِ الناسِ له.
وقال ابنُ تميمٍ رحمه الله: لا يُستحبّ القيامُ إلَّا للإمامِ العادلِ، والوالدين، وأهلِ العلمِ والدِّينِ والوَرَعِ، والكرَمِ والنَّسبِ. وهو معنَى كلامِه في "المجرَّد" و"الفصولِ". وكذا ذكَرَ الشيخُ عبدُ القادرِ. قال: ويُكرَهُ لأهلِ المعاصي والفجورِ.
(1)
في الأصل: "السلامِ".
(2)
سقطت: "عليه" من الأصل.
(3)
في الأصل: "السلام".
وتَشمِيت العاطِسِ- إذا حَمِدَ - فرضُ كِفَايَةٍ، وردُّه فرضُ عَينٍ.
والذي يُقامُ إليه ينبغي أن لا تستكبِرَ نفسُه إليه، ولا تطلبُه. والنهيُ قد وقَعَ على السُّرورِ بذلك، فقد قال عليه السلام
(1)
: "مَن سرَّهُ أن يتمثَّلَ الناسُ له قيامًا، فليتبوَّأ مقعدَه مِنَ النارِ"
(2)
. فإذا لم يُسرَّ بالقيامِ إليه، وقاموا إليه، فغيرُ ممنوعٍ منه. ذكَرَه في "الآدابِ".
ولا بأسَ بتقبيلِ الرَّأسِ واليدِ لأهلِ العلمِ والدِّينِ ونحوِهم؛ لحديثِ عائشةَ، قالَت: قَدِمَ زيدُ بنُ حارثةَ المدينةَ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه، فقرع الباب، فقام إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاعتنقَه وقبَّلَه
(3)
. حسَّنَه الترمذيّ
(4)
.
وكُرِهَ تقبيلُ فمِ غيرِ زوجةٍ وسُرِّيَّةٍ. قالَ عمُّ والدي العلَّامةُ الشيخُ مرعي في كتابِه "غايةِ المُنتهَى"
(5)
: ويتَّجِهُ هذا في محارمِه، وإلَّا فالأجنبيَّةُ حرامٌ.
(وتشمِيتُ العاطسِ إذا حَمِدَ) اللهَ تعالى (فرضُ كفايةٍ، ورَدُّه فرضُ عينٍ) لأنَّ التَّشميتَ تحية، فحُكمُه كالسلامِ. ولهذا لا يُشمَّتُ الكافرُ، كما لا يُبدأُ بالسَّلامِ.
فيقالُ لعاطسٍ حَمِدَ اللهَ: يرحمُكَ اللهُ. أو: يرحمُكُم اللهُ. ويُجيبُ بقولِه: يهديكُم اللهُ، ويُصلِحُ بالكُم. أو يغفِرُ اللهُ لنا ولكُم.
فإن لم يحمَدْ، لم يُشمَّتْ؛ لحديثِ أبي هريرةَ: "فإذا عَطس أحدُكم،
(1)
سقطت من الأصل.
(2)
أخرجه أبو داود (5229) من حديث معاوية. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه الترمذي (2732)، وضعفه الألباني.
(4)
انظر "كشاف القناع"(264، 266).
(5)
"غايةِ المُنتهَى"(1/ 289).
ويعرِفُ الميِّتُ زائرَة يومَ الجُمُعَةِ قَبلَ طلوعِ الشَّمسِ.
فحمِدَ اللهَ، فحقٌّ على كلِّ مسلمٍ سمِعَه أن يقولَ له: يرحمُك اللهُ"
(1)
.
ولا يُشمَّتُ أكثرَ مِن ثلاثٍ في مجلسٍ واحدٍ. والاعتبارُ بفعلِ التَّشميتِ، لا بعدَدِ العَطَساتِ. ويُعلَّمُ صغيرٌ الحمدَ إذا عطَسَ، ثمَّ يُقالُ له: يرحمُكَ اللهُ، أو بُورِكَ فيكَ. ومَن عطسَ فلم يحمَدْ، فلا بأسَ بتذكيرِه
(2)
.
تتمَّةٌ: إذا عَطسَ، خمَّرَ
(3)
وجهَه، وغَضَّ صوتَه، وجهَرَ بالحمدِ، ولا يُستحبُّ تحميدُ الذِّمِّيِّ، وإن قيلَ: يهديكُمُ اللهُ. جازَ. ولا يُشمَّتُ.
ولا يجيبُ المتجشئَ
(4)
بشيءٍ، فإن حَمِدَ، يقالُ له: هنيئًا مريئًا. أو هنَّاكَ اللهُ وأمرأكَ.
ويجِبُ الاستئذانُ على مَن أرادَ الدُّخولَ عليه، قريبًا كان أو غيرَه. فإن أذِنَ وإلَّا رجَعَ. ولا يزيدُ على ثلاثٍ، إلَّا أن يظُنَّ عدمَ سماعِهم
(ويعرِفُ الميَّتُ زائِرَه يومَ الجُمُعَةِ قبلَ طلوعِ الشَّمسِ) قالَه أحمدُ. وفي "الغُنيةِ": يعرِفُه كُلَّ وقتٍ، وهذا الوقتُ آكدُ.
وقال ابنُ القيِّمِ: الأحاديثُ والآثارُ تدلُّ على أنَّ الزَّائرَ متى جاءَ، علِمَ به المَزورُ، وسمِعَ سلامَه، وأنِسَ به، ورَدَّ عليه، وهذا عامٌّ في حقِّ الشُّهداءِ ويخرِهم، وأنَّه لا توقيتَ في ذلك، وهو أصحُّ مِن أثرِ الضَّحاكِ الدالِّ على التوقيت. انتهى
يشير إلى ما روي عن الضحاك، قال: مَن زارَ قبرًا يومَ السَّبتِ قبلَ طُلوعِ
(1)
أخرجه البخاري (6226).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 162).
(3)
سقطت من الأصل، والمثبت من "الإقناع" 1/ 240.
(4)
كتب على هامش الأصل: "أي: المتكري، حمد للَّه".
ويتأذَّى بالمُنكَرِ عِندَهُ، وينتفِعُ بالخَيرِ.
الشَّمسِ، علِمَ الميِّتُ بزيارتِه. قيلَ له: وكيفَ ذلك؟ قال: لمكانِ يومِ الجمعةِ. ونحوُه ما روَى ابنُ أبي الدُّنيا عن محمدِ بنِ واسعٍ، قال: بلغَني أنَّ الموتَى يعلمون مَن زارَهم يومَ الجمعةِ، ويومًا قبلَه، ويومًا بعدَه
(1)
.
(ويتأذَّى بالمُنكَرِ عندَه، وينتفِعُ بالخيرِ) ويجِبُ الإيمانُ بعذابِ القبرِ.
وسُنَّ لزائرِ الميِّتِ فعلُ ما يُخفِّفُ عنه، ولو بجعلِ جريدةٍ رطبَةٍ في القبرِ؛ للخبر
(2)
. وأوصَى به بُريدَةُ. ذكَرَه البخاريُّ
(3)
. ولو بذكرٍ وقراءةٍ عندَه؛ لخبرِ الجريدَةِ؛ لأنَّه إذا رُجَي التخفيف بتَسبيحِها، فالقراءةُ أَوْلَى. وعن ابنِ عمرَ، أنَّه كان يَستحبُّ إذا دُفِنَ أن يُقرأَ عندَ رأسِه بفاتحةِ
(4)
سورةِ البقرةِ، وخاتمتِها. رواهُ اللالكائيُّ
(5)
. ويؤيدُه عمومُ: "اقرؤُوا يس على موتاكُم"
(6)
. وعن عائشةَ، عن أبي
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 164).
(2)
يشير لما أخرجه البخاري (216)، ومسلم (292) من حديث ابن عباس. قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بحائطٍ مِن حيطان المدينة أو مكَّةَ، فسمع صوتَ إنسانَين يعذَّبانِ في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يُعذَّبانِ وما يعذَّبانِ في كبيرٍ". ثم قال: "بلى؛ كانَ أحدُهُما لا يستَترُ من بولِه، وكان الآخرُ يمشي بالنَّميمةِ". ثم دعَا بجريدَةٍ فكسَرَها كِسرَتَين، فوضَعَ على كلِّ قَبرٍ منهُمَا كِسرَةً، فقيلَ له: يا رسولَ اللَّه لم فَعلتَ هذا؟ قال: "لعلَّه أن يخفَّفَ عنهُما ما لم تَيبَسَا" أو "إلى أن يَيبَسَا".
(3)
ذكره البخاري معلقاً، قبل حديث (1361).
(4)
كتب بعدها في الأصل: "الكتاب و". ثم شطبت.
(5)
أخرجه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(2174).
(6)
أخرجه أبو داود (3121)، وابن ماجه (1448) من حديث معقل بن يسار. وضعفه الألباني في "الإرواء"(688).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بكرٍ مرفوعًا: "مَن زارَ قبرَ والديه في كلِّ جمعةٍ، أو أحدِهما، فقرأَ عندَه يس، غفَرَ اللهُ له بعدَدِ كلِّ آيةٍ، أو حرفٍ"
(1)
رواهُ أبو الشيخِ في "فضائلِ القرآنِ".
وكُلُّ قُربةٍ فعَلَها مسلمٌ، وجعَلَ ثوابَها لمسلمٍ حيٍّ أو ميِّتٍ، حصَلَ ثوابُها له، ولو جهِلَ الثوابَ الجاعلُ؛ لأنَّ اللهَ يَعلَمُه، كالدُّعاءِ
(2)
، والاستغفارِ، وواجبٍ تدخلُه النيابةُ، وصدقةِ التَّطوُّعِ، إجماعًا.
وكذا العِتقُ، وحجُّ التطوُّعِ، والقراءةُ، والصَّلاةُ، والصيامُ. قال أحمدُ: الميتُ يصِلُ إليه كلُّ شيءٍ مِنَ الخيرِ، مِن صدقةٍ، أو صلاةٍ أو غيرِه؛ للأخبارِ. ومنها ما روَى أحمدُ
(3)
أنَّ عُمرَ سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "أمَّا أبوكَ فلو أقرَّ بالتوحيدِ، فصُمْتَ أو تصدَّقْتَ عنه، نفعَه ذلك". وروَى أبو حفصٍ، عنِ الحسنِ
(4)
والحُسينِ، أنَّهما كانا يُعتقانِ عن عليٍّ بعدَ موتِه
(5)
. وأعتَقَت عائشةُ عن أخيها عبدِ الرحمنِ بعدَ موتِه
(6)
. ذكَرَه ابنُ المُنذرِ.
(1)
أخرجه ابن عدي (5/ 151). وقال الألباني في "ضعيف الجامع"(5617): موضوع. وقال في "أحكام الجنائز" ص (191): وأما قراءة القرآن عند زيارتها فمما لا أصل له في السنة.
(2)
في الأصل: "كالدوا". والمثبت من "دقائق أولي النهي" 2/ 165.
(3)
أخرجه أحمد (11/ 307)(6704) من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده. قال الألباني بعد أن ساق إسناده: وهذا إسنادٌ صحيح رجاله كلهم ثقات، على الخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. "الصحيحة"(484).
(4)
سقطت: "الحسن" من الأصل.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 59).
(6)
لم أجده بلفظ العتق. وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(424) بلفظ "اعتكفت عن أخيها .. إلخ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يُشترَطُ في الإهداءِ، ونقلِ الثَّوابِ، نئتُه به، ابتداءً. بل يتَّجهُ حصولُ الثَّوابِ له ابتداءً بالنيَّةِ له قبلَ الفعلِ، أهداهُ أو لا. وظاهرُه: لا يُشترَطُ أن يقول: إن كنْتَ أثثتَني على هذا، فاجعَلْ ثوابَه لفلانٍ.
ولا يضُرُّ كونُه أهدَى ما يتحقَّقُ حصولُه؛ لأنَّه يظُنّه، ثقةً بوعدِ اللَّه، وحُسنًا للظنِّ به. ولو صلى فرضًا، وأهدى ثوابَه
(1)
لميِّتٍ، لم يصِحَّ في الأشهرِ. وقالَ القاضي: يصِحُّ.
وإهداءُ القُرَبِ مُستحبٌّ. قال في "الفنونِ ": ويُسستحبُّ إهداؤُها حتى للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وكذا قال صاحبُ "المحرَّرِ".
وقالَ الشيخُ تقيُّ الدِّينِ: لم يكُنْ مِن عادةِ السَّلَفِ إهداءُ ذلك إلى موتَى المسلمين، بل كانوا يدعُون لهم، فلا ينبغي الخروجُ عنهم. وذكرَ عنهم: أنَّ أقدَمَ، مَن بلَغَه أنَّه أهدىَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: عليُّ بن المُوفَّقِ، أحدُ الشيوخِ المشهورينَ مِن طبقةِ أحمدَ، وشيخ الجُنيدِ
(2)
.
ويدلُّ لما في المتنِ مِن كونِ الحيِّ في ذلك كالميِّتِ: ما رواهُ أحمدُ
(3)
مِن حديثِ أبي رافعٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشينِ أملَحَينِ أقرنَينِ، فلمَّا ذبَحَ أحدَهما قال:"اللهمَّ إنَّ هذا عن أمَّتي جميعًا، مَن شهِدَ لك بالتوحيدِ، وشهِدَ لي بالبلاغِ".
(1)
سقطت: "ثقةً بوعد اللَّه، وحسناً للظنِّ به. ولو صلى فرضاً، وأهدى ثوابه" والمثبت من "دقائق أولي النهى"(2/ 166).
(2)
انظر "الفروع"(3/ 428، 429).
(3)
أخرجه أحمد (45/ 168)(27190). قال الألباني: منكر. "الضعيفة"(6461).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا يدلُّ على أنَّ أُمَّتَه أحياءَهم وأمواتَهم، قد نالَهم الأجرُ والنَّفعُ بتضحيَتِه، وإلَّا كان ذلك عبَثًا. وظاهرُ هذا: جوازُ الصَّدقةِ، وإهداءِ الثوابِ على الأمة
(1)
إلى يومِ القيامةِ
(2)
.
وما تقدَّمَ كلُّه فيمَن يأتي بالقُرَبِ احتسابًا. فأمَّا اكتراءُ مَن يقرأُ ويُهدِي ثوابَ قراءتِه، فقد قال الشيخُ تقيُّ الدِّينِ: ما علِمْت أحدًا ذكَرَه، ولا ثوابَ له، فلا شيءَ للميِّتِ. قالَه العلماءُ. انتهَى
(3)
.
وقال بعضُهم: إذا قُرِئَ القرآنُ عندَ الميِّتِ، وأُهدِيَ إليه ثوابُه، كان الثَّوابُ لقارئِه، ويكونُ الميِّتُ كأنَّه حاضِرُها، فتُرجَى له الرحمةُ.
وأُجيبَ بما تقدَّمَ مِنَ الأدلَّةِ، وبأنَّ الإجماعَ قائمٌ على إهداءِ ثوابِ القراءةِ، فإنَّه في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، يجتمعون ويقرأون القرآنَ، ويهدونَ ثوابَه إلى موتاهم مِن غيرِ نكيرٍ، ولأنَّه قد صحَّ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الميِّتَ يُعذَّبُ ببكاءِ أهلِه"
(4)
. والله أكرَمُ مِن أن يوصِلَ عقوبةَ المعصية
(5)
إليه، ويحجُبَ ثوابَ القُربةِ عنه.
وأمَّا الآيةُ
(6)
فمخصوصةٌ بما سلَّمَه الخصمُ، مِن حصولِ ثوابِ الواجباتِ، والصدقَةِ، والدُّعاءِ، والاستغفارِ، فيُقاسُ عليه ما وقَعَ الاختلافُ فيه، لكونِه في معناهُ.
(1)
في الأصل: "عنهم ولهم".
(2)
انظر "الفروع"(3/ 430).
(3)
انظر "الفروع"(3/ 431).
(4)
أخرجه البخاري (1286)، ومسلم (928) من حديث ابن عمر.
(5)
في الأصل: "العذاب".
(6)
مراده: قول اللَّه تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا حُجَّةَ للمُخالِفِ في حديثِ: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطَعَ عمَلُه .. "
(1)
لأنَّه إنما دلَّ على انقطاع عملِه
(2)
، وليس هذا مِن عمَلِه. فلا دَلالَةَ عليه فيه، ولو دلَّ عليه كان ذلك مخصوصًا بما سلَّمَه، فتعدَّى إلى ما منَعَه. وما ذُكِرَ مِنَ النَّفعِ لا يتعدَّى فاعِلَه، ولا يتعدَّاه ثوابُه. غيرُ صحيحٍ، فإنَّ تعدِّي الثَّوابِ ليصر بفرعٍ
(3)
لتعدِّي النفعِ. ثمَّ هو باطلٌ بالصَّومِ والدّعاءِ والحجِّ، وليس له أصلٌ يُعتبَز به. واللهُ أعلمُ
(4)
.
* * *
(1)
أخرجه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة.
(2)
سقطت: "لأنَّه إنما دل على انقطاع عمله" من الأصل.
(3)
في الأصل: "لفرع".
(4)
انظر "الشرح الكبير"(6/ 261، 262).