الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتابُ الزَّكاةِ
شَرطُ وجُوبِها خمسَةُ أشياءَ:
(كتابُ الزكاةِ)
أحدُ أركانِ الإسلامِ ومَبانِيه المُشارِ إليها بقولِه عليه السلام: "بُنيَ الإسلامُ على خمسٍ".
مِن: زَكَا يزكُو، إذا نمَا وتطهَّر؛ لأنها تُطهِّر
(1)
مُؤدِّيها مِنَ الإثمِ، أي: تُنزِّهُه عنه، وتُنمِّي أجرَه، أو تنمِّي المالَ أو الفقراءَ.
وأجمعُوا على فرضيَّتِها، واختلفُوا هل فُرِضَت بمكَّةَ أو بالمدينةِ؟ وذكَرَ صاحبُ "المُغني" و"المُحرَّرِ" والشيخُ تقيُّ الدِّينِ: أنَّها مدنيَّةٌ. قال في "الفروعِ": المُرادُ طلبُها وتجما السُّعاةِ لقبضِها، فهذا بالمدينةِ.
وقال الحافظُ شرَفُ الدِّينِ الدِّمياطيُّ: فُرِضَت في السنة الثانية من الهجرة بعد زكاة الفطر. وفي "تاريخ ابن جرير الطبري": أنها فُرضت
(2)
في السَّنةِ الرَّابعةِ مِنَ الهجرةِ
(3)
.
وهي في الشَّرعِ: حقٌّ واجبٌ في مالٍ خاصٍّ، لطائفةٍ مخصوصةٍ، بوقتٍ مخصوصٍ.
و (شُرِطَ) لـ (وجوبِها)
(4)
أي
(5)
: الزكاةِ (خمسةُ أشياءَ) وليس منها بلوغٌ، ولا
(1)
سقطت: "لأنها تُطهِّرُ" من الأصل.
(2)
سقطت: "في السنة الثانية من الهجرة بعد زكاة الفطر. وفي تاريخ ابن جرير الطبري: أنها فرضت" من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهي"(2/ 168).
(3)
انظر "دقائق أولي النهي"(2/ 168).
(4)
في الأصل: "لوجوب".
(5)
سقطت: "أي" من الأصل.
أحدُهما: الإسلامُ، فلا تجِبُ على الكافرِ، ولو مُرتَدًّا.
الثاني: الحُريَّةُ، فلا تجِبُ على الرَّقيقِ، ولو مكاتَبًا، لكن تجِبُ على المُبعَّضِ بقدرِ مِلكِهِ.
عقلٌ. فتجِبُ في مالِ الصغيرِ والمجنونِ:
(أحدُها: الإسلامُ، فلا تجِبُ) زكاةٌ (على الكافرٍ)
(1)
لحديثِ مُعاذٍ حينَ بعثَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمنِ: "إنَّك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فادعُهم إلى أن يشهدُوا أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، فإن هم أطاعُوكَ
(2)
لذلك، فأعلِمْهم أنَّ اللهَ قد افترَضَ عليهم صدقَةً، تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم، فتُرَدُّ على فقرائِهم. متَّفَق عليه
(3)
. ولأنَّها أحدُ أركانِ الإسلامِ، فلم تجِبْ على كافرٍ، كالصيامِ (ولو) كان الكافرُ (مرتدًّا) لأنَّه كافرٌ، فأشبَهَ الأصليَّ. فإذا أسلَمَ، لم تُؤخَذْ منه لزمنِ رِدَّتِه؛ لعُمومِ قولِه تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفَال: 38]. وقولِه عليه السلام: "الإسلامُ يجُبُّ ما قبلَه"
(4)
.
(الثاني: الحُريَّةُ) ولا يُشترَطُ كمالُها (فلا تجِبُ على الرَّقيقِ) أي: كاملِ الرِّقِّ، ولو قيلَ: يملِكُ بالتَّمليكِ (ولو) كان (مُكاتبًا) لحديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ مرفوعًا: " ليسَ في مالِ المُكاتَبِ زكاةٌ حتى يَعتِقَ ". رواهُ الدَّارقُطنيُّ
(5)
. ولأنَّ مِلكَه ضعيفٌ لا يحتمِلُ المُواساةَ. ومَتى عتَقَ، استأنَفَ الحولَ بما بقِيَ له إن بلَغَ نصابًا
(1)
في الأصل: " كافر".
(2)
في الأصل: "أاطاعوا لك ".
(3)
أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19) من حديث ابن عباس.
(4)
أخرجه أحمد (29/ 349)(17813) من حديث عمرو بن العاص. وصححه الألباني في "الإرواء"(1280).
(5)
أخرجه الدارقطني (2/ 108)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(783).
الثالِثُ: مِلكُ النِّصابِ، تقريبًا في الأثمانِ، وتَحديدًا في غَيرِها.
الرابعُ: المِلكُ التَّامُّ، فلا زكاةَ على السيِّد في دَيْنِ الكِتَابَةِ، ولا في حِصَّةِ المُضَارِبِ، قبلَ القِسمَةِ.
(لكن تجِبُ على المُبعَّضِ بقدرِ مِلكِه) مِنَ المالِ بجُزئِهُ الحُرِّ.
(الثالثُ: مِلكُ النِّصابِ) وهو سببُ وجودِ الزكاةِ، فلا زكاةَ في مالٍ حتى يبلُغَ نصابًا، لما يأتي في أبوابِه.
ويكونُ النِّصابُ (تقريبًا في الأثمانِ) والعروض
(1)
، فتجِبُ مع نقصٍ يَسيرٍ كحبةٍ وحثتينِ؛ لأنَّه لا ينضبِطُ غالبًا، أشبَهَ نقصَ الحولِ ساعةً أو ساعتينِ (وتحديدًا في غيرِها) أي: غيرِ الأثمانِ والعُروضِ، مِنَ الحبوبِ والثِّمارِ والمواشي. فإن نقَصَ نصابُها، ولو بجزءٍ يسيرٍ، لم تجِبْ، لكن لا اعتبارَ بنقصٍ يدخُلُ في الكيلِ.
(الرابعُ: المِلكُ التَّامُّ) لأنَّ الزكاةَ في مُقابلَةِ تمَام
(2)
النعمةِ، والمِلكُ النَّاقصُ ليس بنعمةٍ تامَّةٍ.
(فلا زكاةَ على السيِّدِ في دَيْنِ
(3)
الكِتابةِ) لنقصِ مِلكِه فيه، لعدَمِ
(4)
استقرارِه بحالٍ، وعدمِ صحَّةِ الحوالَةِ عليه وضمانِه. وما قبَضَه منه سيدُه يستقبل به الحولَ إن بلَغَ نصابًا.
(ولا) زكاةَ (في حصَّةِ المُضارِبِ قبلَ القِسمةِ) ولو ملِكَت حصَّتهُ له بالظّهورِ لعدَمِ استقرارِه؛ لأنَّه وقايةٌ لرأسِ المالِ، فمِلكُه ناقصٌ.
(1)
سقطت: "والعروض" من الأصل.
(2)
سقطت: "تمام" من الأصل.
(3)
في الأصل: "في تمام دين".
(4)
في الأصل: "بعدم".
الخامسُ: تمامُ الحَوْلِ، ولا يضُرُّ لو نقصَ نِصفَ يومٍ.
وتجِبُ في مالِ الصَّغيرِ والمجنُونِ.
(الخامسُ: تمامُ الحولِ) أي: مُضيُّ الحولِ على نصابٍ تامٍّ، لحديث:"لا زكاة في مالٍ، حتى يحولَ عليه الحَوْلُ"
(1)
رفقًا بالمالكِ، وليتكامَلَ النَّماءُ فيُواسَى منه، ولأنَّ الزكاةَ تتكرَّرُ في هذه الأموالِ، فلا بُدَّ لها من ضابطٍ، لئلَّا يفضِيَ إلى تعاقُبِ الوجوبِ في الزَّمنِ المُتقارِبِ، فيفْنَى المالُ. أمَّا الزَّرعُ والثَّمَرُ، والمَعدِنُ، ونحوُه، فهي نماءٌ في نفسِها، تُؤخَذُ الزكاةُ منها عندَ وجودِها، تمَّ لا تجِبُ فيها زكاةٌ ثانيةٌ، لعدَمِ إرصادِها للنَّماءِ، إلَّا أن يكونَ المَعدِنُ أثمانًا. وقولُه تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعَام: 141] ينفِي اعتبارَ الحوْلِ في الحُبوبِ ونحوِها.
(ولا يضرُّ لو نقَصَ نصفَ يومٍ) أي: فلا يبطلُ الحولُ لو تلِفَ النِّصابُ بعدَ مُضيِّ الحوْلِ إلَّا نصفَ يوم. وظاهرُ عبارةُ المُصنِّفُ: يضرُّ مُعظمُ اليومِ، كما صرَّحَ به في "مُنتهَى الغايةِ".
(وتجِبُ) الزكاةُ (في مالِ الصغيرِ والمجنونِ) لعُمومِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ: "أعلِمْهم أنَّ عليهم صدقَةً، تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم، فتُرَدُّ على فقرائِهم ". رواهُ الجماعةُ
(2)
. ولفظةُ: "الأغنياء". تشملُ الصغيرَ والمجنونَ، كما شملتْها لفظةُ " الفقراء".
(1)
أخرجه ابن ماجه (1792) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه البخاري (1395، 1496)، ومسلم (19)، وأحمد (3/ 498)(2071)، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2435)، وابن ماجه (1783) من حديث ابن عباس.
وهي في خمسةِ أشياء:
في سائمةِ بَهيمةِ الأَنعَامِ، وفي الخَارِجِ من الأرضِ، وفى العَسَلِ، وفي الأثمانِ، وفي عُرُوضِ التِّجارةِ.
ويَمنَعُ وجُوبَها دَينٌ يُنقِصُ النِّصابَ.
ولا تجبُ الزكاةُ في المالِ المنسوبِ إلى الجنينِ، أي: الذي وُقِفَ له في إرثٍ أو وصيَّةٍ؛ لأنَّه لا مالَ له ما دامَ حملًا. واختارَ ابنُ حمدانَ: يجِبُ لحُكمِنا له بالمِلكِ ظاهرًا حتى منعنا باقي الورثَةِ
(1)
.
(وهي) الزكاةُ (في خمسةِ أشياءَ):
أحدُها: (في سائمةِ بهيمةِ الأنعامِ).
(و) الثاني: (في) الخارج مِنَ الأرضِ.
(و) الثالثُ: (في العَسَلِ).
(و) الرابعُ: (في الأثمانِ).
(و) الخامسُ: (في عُروضِ التجارةِ)
(ويمنَعُ وجوبَها) أي: الزكاةِ (دَين، ينقُصُ النِّصابَ) باطنًا كانَ المالُ، كأثمانٍ وعُروضِ تجارةٍ، أو ظاهرًا، كماشيةٍ وحبوبٍ وثمارٍ؛ لما روَى أبو عبيدٍ في "الأموالِ"
(2)
عنِ السَّائبِ بنِ يزيدَ، قال: سمِعْتُ عثمانَ بنَ عفَّانَ رضيَ اللهُ تعالى عنه يقولُ: هذا شهرُ زكاتِكم، فمَن كانَ عليه دَيْق فليؤدِّه، حتى تخرجوا زكاةَ أموالِكم. وفي لفظٍ: مَن كان عليه دَيْنٌ فليقضِ دَينَه، وليُزَكِّ بقيَّةَ مالِه. وقد قالَه
(1)
انظر "شرح المنتهى"(4/ 309، 311).
(2)
"الأموال"(1247). وأخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 253).
ومن ماتَ وعليهِ زكاةٌ، أخِذَت من تَرِكَتهِ.
بمَحضَرٍ مِنَ الصَّحابةِ، فدلَّ على اتفاقِهم عليه؛ حيثُ لم يُنكرُوه. ولأنَّ الزكاةَ وجَبَت مواساةً للفقراءِ، وشُكرًا لنعمةِ الغِنَى. وحاجةُ المَدينِ لوفاءِ دَينِه كحاجةِ الفقيرِ أو أشدَّ. وليس مِنَ الحِكمةِ تعطيلُ حاجةِ المالكِ؛ لدفعِ حاجةِ غيرِه.
(ومَن ماتَ وعليه زكاةٌ، أُخِذَت مِن تركَتِه) نصًّا، ولو لم يُوصِ به، كالعُشرِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"فدَين اللهِ أحقُّ بالقضاءِ"
(1)
. وفاقًا للأئمَّةِ الثلاثةِ، ولأنَّ الزكاةَ حقٌّ واجبٌ تصحُّ الوصيَّةُ به، فلم يسقُطْ بالموتِ، كدَينِ الآدميِّ.
* * *
(1)
أخرجه مسلم (1148) من حديث ابن عباس.
بابُ زكاةِ السَّائِمَةِ
تجِبُ فيها بثلاثةِ شُرُوطٍ:
أحدُهما: أن تُتَّخذَ لِلدَّرِ والنَّسلِ والتَّسمِينِ؛
(بابُ زكاةِ السَّائمةِ)
مِن بهيمةِ الأنعامِ. سُمِّيَت بهيمةً؛ لأنَّها لا تتكلَّمُ. وبدأَ بها اقتداءً بالصدِّيقِ في كتابِه لأنسٍ رضي الله عنهما. أخرجَه البخاريُّ
(1)
بطولِه. ويأتي بعضُه مُفرَّقًا.
وخرَجَ بالسائمةِ: المعلوفةُ، فلا زكاةَ فيها؛ لمفهومِ حديثِ بهزِ بنِ حكيمٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مرفوعًا:"في كلِّ إبلٍ سائمةٍ في كلِّ أربعينَ، ابنةُ لبونٍ" رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ
(2)
. وحديثِ الصِّدِّيقِ مرفوعًا: "وفي الغنَمِ في سائمتِها إذا كانَت أربعينَ، ففيها شاةٌ .. ". الحديث. وفي آخرِه أيضًا: "إذا كانت سائمةُ الرَّجلِ ناقصةً عن أربعينَ شاةً، شاةٌ واحدةٌ، فليسَ فيها شيءٌ إلَّا أن يشاءَ ربُّها"
(3)
. فقيَّدَ بالسَّومِ، وأبدَلَ البعضَ، مِنَ الكُلِّ، وأعادَ المُقيِّدَ مرَّةً أُخرَى، وذلك دليلُ اشتراطِه، خصوصًا مع اشتمالِه على مناسبةٍ.
وحيثٌ تقرَّرَ هذا (تجبُ بثلاثةِ
(4)
شروطٍ):
(أحدُها: أن تُتَّخذَ للدَّرِّ والنَّسلِ) قال في "الفروعِ ": زادَ بعضُهم: (والتسمين)
(1)
أخرجه البخاري (1454) من حديث أنس.
(2)
أخرجه أحمدُ (33/ 220)(20016)، وأبو داودَ (1575)، والنسائيُّ (2444). وحسنه الألباني.
(3)
تقدم آنفًا.
(4)
في الأصل: "تجب بثلاث".
لا للعَمَلِ.
الثاني: أن تَسُومَ -أي: تَرعَى المُباحَ- أكثرَ الحَولِ.
الثالِث: أنْ تبلُغَ نِصَابًا.
فأقلُّ نِصابِ الإبِلِ خَمسٌ،
فلا تجبُ في سائمةٍ، للانتفاعِ بظهرِها كالإبلِ التي تُكرَى وتُؤجَّرُ، وبقَرِ حرثٍ، ونحوِه، أكثرَ الحولِ، كما في "الإقناعِ" وغيرِه. ولو سامَت اكترَه. ولهذا قال المصنف:(لا للعملِ) ولو نوَى بالسائمةِ العملَ، لم تُؤثِّرْ نيَّتُه، ما لم يُوجَدِ الشَّرطُ
(الثاني) في وجوبِ الزكاةِ: (أن تسومَ -أي: ترعَى المباحَ- أكثرَ الحوْلِ) نصَّ عليه في روايةِ صالحٍ. وقيلَ: كلَّ الحوْلِ. ووجهُ المذهبِ: أنَّ علَفَ السَّوائمِ يقَعُ في العادةِ في السنةِ كثيرًا، ووقوعُه في جميعِ فصولِها مِن غيرِ عارضٍ يقطعُه أحيانًا، كمطرٍ أو ثلجٍ أو برد أو خوفٍ أو غيرِ ذلك، نادرٌ، فاعتبارُ السَّومِ في كلِّ العامِ إجحافٌ بالفقراءِ، والاكتفاءُ به في البعض إجحافٌ بالملَّاكِ، وفي اعتبارِ الأكثرِ تعديلٌ بينَهما، ودفعٌ لأعلَى الضَّررينِ بأدناهُما. وقد أُلحِقَ الأكثرُ بالكلِّ في أحكامٍ كثيرةٍ
(1)
.
الشرطُ (الثالثُ) في وجوبِ الزكاةِ: (أن تبلُغَ نصابًا) تجِبُ فيه الزكاةُ (فأقلُّ نصابِ الابلِ) حتى تبلُغَ: (خَمْسٌ) لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ليسَ فيما
(2)
دُونَ خمسِ ذَودٍ صدقةٌ"
(3)
. وبدأَ
(4)
بالإبلِ تأسِّيًا بكتابِ الشَّارعِ حينَ فرَضَ زكاةَ
(1)
انظر "كشاف القناع"(4/ 345).
(2)
سقطت: "فيما" من الأصل.
(3)
أخرجه البخاري (1405)، ومسلم (2310) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4)
سقطت: "بدأ" من الأصل.
وفيها: شاةٌ.
ثمَّ في كلِّ خَمسٍ شاة، إلى خَمسةٍ وعشرين، فتَجِبُ: بنتُ مَخَاضٍ، وهيَ ماتمَّ لها سَنَةٌ.
الأنعامِ؛ لأنَّها أعظُم النَّعمِ قيمةً وأجسامًا، وأكثرُ أموالِ العربِ. وإذا بلَغَت خمسًا فـ (فيها
(1)
شاةٌ) إجماعًا، لحديثِ:"إذا بلَغَت خمسًا، ففيها شاةٌ". رواه البخاريُّ
(2)
.
(ثمَّ في كلِّ خمسٍ شاةٌ) فلا يجزئُ عن خمسٍ مِنَ الإبلِ بعير
(3)
، نصًّا. ذَكَرٌ أو أُنثَى. ولا بقرةٌ، ولو أكثرَ قيمةً مِنَ الشاةِ؛ لأنَّها غيرُ المنصوصِ عليه من غيرِ جنسِه، أشبَهَ ما لو أخرَجَ بعيرًا أو بقرةً عن أربعينَ شاةً
(إلى خمسةٍ
(4)
وعشرين، فتجِبُ) في عشرٍ: شاتان، وفي خمسَ عشرةَ: ثلاث شياهٍ، وفي عشرين: أربعُ شياهٍ. فإذا بلغَت خمسًا وعشرينَ، ففيها (بنتُ مخاضٍ) إجماعًا؛ لحديثِ البخاريِّ
(5)
: "فإذا بلَغَت خمسًا وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين، ففيها بنت مخاضٍ". (وهي): أي: بنتُ المخاضِ: (ما تمَّ لها سنةٌ) سمِّيت بذلك، لأن أمَّها قد حمَلَت. والماخِض: الحامِلُ. وهو تعريفٌ لها بغالبِ أحوالِها، لا أنَّها شرطٌ
(1)
كذا بالأصل. والصواب: "وفيها".
(2)
أخرجه البخاري (1454) من حديث أنس.
(3)
في الأصل: "بغيره".
(4)
في الأصل: "خمس".
(5)
أخرجه البخاري (1454) من حديث أنس. وتقدم قرييًا.
وفي سِتٍّ وثلاثينَ: بِنتُ لَبُونٍ، لها سنتَان.
وفي سِتٍّ وأربعين: حِقَّة، لها ثلاثُ سنين.
وفي إِحْدَى وستِّينَ: جَذَعَةٌ، لها أربعُ سنين.
وفي سِتٍّ وسبعينَ: ابنتا لبوُنٍ.
وفي إحدَى وتسعينَ: حِقَّتان. وفي مائةٍ وإحدَى وعشرين ثلاثُ بناتِ لَبُونٍ، إلى مائةٍ وثلاثينَ، فيستَقِرّ في كُلِّ أربعينَ: بنتُ لَبُونٍ، وفي كلِّ خمسيِنَ: حِقَّة.
(وفي ستٍّ وثلاثين: بنتُ لَبُونٍ) سُمِّيَت بنتَ لَبُونٍ. لأنَّ أمَّها وضَعَتْ، فهي
(1)
ذاتُ لبنٍ. وهي ما تمَّ (لها سنتانِ)
(وفي ستٍّ وأربعين: حِقَّةٌ) وسُمِّيَت حِقَّةً؛ لأنَّها استحقَّت أن تُركَبَ ويُحمَلَ عليها ويَطرُقَها الفحلُ، وهي ما تمَّ (لها ثلاثُ سنينَ)
(وفي إحدَى وستِّينَ: جَذَعَةٌ) سُمِّيَتْ جَذَعَةً؛ لأنَّها ئجذَعُ إذا سقَطَت سنُّها.
وهي ما تمَّ (لها أربعُ سنين).
(وفي ستٍّ وسبعين: ابنتا لَبُونٍ).
(وفي إحدَى وتسعين: حِقَّتانِ) إجماعًا
(وفي مائةٍ وإحدَى وعشرين: ثلاثُ بناتِ لَبُونٍ) لحديثِ البخاريِّ
(2)
عن أنسٍ فيما كتَبَ له الصدِّيقُ، لمَّا وجَّهَه إلى اليمنِ (إلى مائةٍ وثلاثين، فيستقرُّ) الفرضُ (في كلِّ أربعين: بنتُ لَبُونٍ، وفي كلِّ خمسين حِقَّةٌ) للأخبارِ. ففي مائةٍ وثلاثين:
(1)
في الأصل: "وهي".
(2)
تقدم آنفًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حِقَّةٌ وبنتا لَبُونٍ. وفي مائةٍ وأربعين: حِقَّتانِ وبنتُ لبونٍ. وفي مائةٍ وخمسين: ثلاثُ حِقاقٍ. وفي مائةٍ وستين: أربعُ بناتِ لَبُونٍ. وفي مائةٍ وسبعين: حِقَّةٌ وثلاثُ بناتِ لبونٍ. وفي مائةٍ وثمانين: حِقَّتانِ وبنتا لَبُونٍ. وفي مائةٍ وتسعين: ثلاثُ حِقاقٍ وبنتُ لبونٍ.
* * *
فَصْلٌ
وأقلُّ نِصابِ البقَرِ -أهليَّةً كانت أو وحشيَّةً- ثلاثونَ، وفيهَا: تَبيعٌ، وهو ما لَهُ سنةٌ.
(فصلٌ) في زكاةِ البقرِ
وهو اسمُ جنسٍ. والبقرةُ تقَعُ على الأُنثَى والذَّكَرِ، ودخَلَتْها الهاءُ على أنَّها واحدة مِن جنسٍ. والبقرات: الجمعُ.
والأباقرُ
(1)
: جماعة البقرِ مع رُعاتِها. وهي مُشتقَّةٌ من: بقَرتُ الشَّيءَ، إذا شقَقْتَه؛ لأنَّها تبقُرُ الأرضَ بالحرثِ.
والزكاةُ في الأهليَّةِ واجبةٌ، إجماعًا. وسندُه ما روَى أبو ذرٍّ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: "ما مِن صاحبِ إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنيم، لا يؤدِّي زكاتَها، إلَّا جاءَت يومَ القيامةِ أعظمَ ما كانتْ وأسمَنَهُ تنطَحُه بقرونِها وتطؤُه بأخفافِها، كلَّما نفَدَتْ
(2)
أُخرَاها عادَت عليه أُولَاها، حتى يُقضَى بينَ النَّاسِ ". مُتَّفَقٌ عليه
(3)
.
(وأقلُّ نصابِ البقرِ -أهليَّةً كانت أو وحشيَّة- ثلاثونَ) لحديثِ معاذٍ: أمرَني رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ بعثَني إلى اليمنِ أن لا أخُذَ مِنَ البقرِ شيئًا حتى تبلُغَ ثلاثين
(4)
.
(وفيها: تبيعٌ) أو تبيعةٌ (وهو ما له سنةٌ) سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يتبَعُ أمَّه، وهو جذَعُ البقرِ الذي استوَى قَرْناه، وحاذَى قرنُه أُذُنَه غالبًا.
(1)
في الأصل: "والباقر".
(2)
في الأصل: "قعدت".
(3)
أخرجه البخاري (1460)، ومسلم (990).
(4)
أخرجه النَّسَائِيّ (2453) قال الألباني: حسن صحيح.
وفي أربعينَ: مُسِنَّةٌ، لها سَنَتَانِ.
وفي سِتِّينَ: تبيعَان.
ثمَّ في كلِّ ثلاثينَ: تبيعٌ، وفي كلِّ أربعينَ مُسِنَّة
(و) يجِبُ (في أربعين) مِن بقرٍ (مُسنَّةٌ) لحديثِ معاذِ بنِ جبلٍ، وفيه: وأمرَني أن أخُذَ مِن كلِّ ثلاثينَ مِنَ البقرِ تبيعًا، أو تبيعةً، ومِن كلِّ أربعين، مُسنَّةً. رواهُ الخمسةُ
(1)
، وحسَّنَه الترمذيُّ. وقال ابنُ عبدِ البرِّ: هو حديثٌ ثابتٌ مُتَّصلٌ. وهي ما تمَّ (لها سنتانِ) سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها ألقَت سنًّا غالبًا، وهي الثنيَّةُ. ولا فرضَ في البقرِ غيرَ هذَينِ السِّنيَّن
(وفي سِتِّينَ) من بقرٍ: (تبيعَانِ. ثمَّ) إنْ زادَتْ فـ (في كلِّ ثلاثين: تبيعٌ، وفي كلِّ أربعينَ: مُسنَّةً) وإذا بلَغَتْ، أي: عددًا يتفقُ فيه الفرضان، كمائةٍ وعشرين، فكإبلٍ. فإن شاءَ أخرَجَ أربعةَ أتبعةٍ، أو ثلاثَ مُسنَّاتٍ؛ لحديثِ يحيى بنِ الحكَمِ، عن معاذٍ، وفيه: فأمرَني أن آخُذَ مِن كلِّ ثلاثين تبيعًا، ومِن كلِّ أربعينَ مُسِنَّةً، ومِن السِّتيِّن تبعينِ، ومِنَ السَّبعينَ مُسِنَّةً وتبيعًا، ومِن الثمانينَ مُسِنَّتينِ، ومِن التسعينَ ثلاثةَ أتباعٍ، ومِن المائةِ مسنَّةً وتبعينِ، ومِن العشرةِ ومائةٍ مُسِنَّتين وتبيعًا، ومِن العشرين ومائةٍ ثلاثَ مسنَّاتٍ أو أربعةَ أتباعٍ. قال: وأمرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن لا آخُذَ فيما بينَ ذلك شيئًا، إلَّا أن يبلُغَ مُسِنَّةً أو جَذَعًا. وزعَمَ أن الأوقاصَ لا فريضةَ فيها. رواهُ أحمدُ
(2)
.
ولا يُجزئُ ذَكَرٌ في زكاةٍ إلَّا هُنا، وهو التبيعُ. والمُسِنُّ عن التبيعِ؛ لأنَّه خيرٌ منه.
(1)
أخرجه أحمد (36/ 402)(22084)، وأبو داود (1576)، والترمذي (623)، والنسائي (2450)، وابن ماجه (1803)، وصححه الألبانى.
(2)
أخرجه أحمد (36/ 402)(22084)، وصححه الألباني في "الإرواء"(795).
وأقلُّ نصابِ الغَنَمِ -أهليَّةً كانت أو وحشيَّةً- أربعون، وفيها: شاةٌ، لها سَنةٌ، أو جَذَعَةُ ضأنٍ؛ لها سِتَّةُ أشهُرٍ.
وفي مائةٍ وإحدَى وعِشرينَ: شاتان.
وفي مائتين وواحدةٍ: ثلاثُ شِيَاه.
وفي أربعمائة: أربعُ شِياه.
فصلٌ في زكاةِ الغنمِ
وهو اسمُ جنسٍ مُؤنَّثٍ، يقَعُ على الذَّكرِ والأُنثَى مِن ضأنٍ ومعزٍ
(وأقلُّ نصابِ الغَنَمِ -أهليَّةً كانت أو وحشيَّةً- أربعون) إجماعًا في الأهليَّةِ. فلا شيءَ فيما دونَها. (و) يجِبُ (فيها: شاةٌ) إجماعًا في الأهليةِ. وهي: ما تمَّ (لها سنةٌ، أو جذعةُ ضأنٍ) وهي ما تمَّ (لها ستَّةُ أشهرٍ) لحديثِ سُوَيدِ بنِ غَفَلَةَ قال: أتانا مُصدِّقُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: أمرَنا أن نأخُذَ الجذعَةَ مِنَ الضَّأنِ، والثنيةَ مِن المعزِ. ولأنَّهما يُجزيان في الأضحيةِ، فكذا هنا. ولا يُعتبرُ كونهما
(1)
مِن جنسِ غنمِه، ولا مِن جنسِ غنمِ البلدِ. فإن وُجِدَ الفرضُ في المالِ، أخَذَه السَّاعي، وإن كان أعلَى، خُيِّرَ مالكٌ بينَ دفعِه وتحصيلِ واجبٍ، فيُخرجُه.
(وفي مائةٍ وإحدَى وعشرين: شاتان) إجماعًا.
(وفي مائتين وواحدةٍ: ثلاثُ شياهٍ)
(وفي أربعِ مائةٍ: أربع شياه)
(2)
.
(1)
في الأصل: "كونها".
(2)
سقطت: "شياه" من الأصل.
ثم في كلِّ مائةٍ: شاةٌ.
(ثمَّ) تستقِرُّ الفريضةُ (في كلِّ مائةٍ: شاة) لحديثِ ابنِ عمرَ في كتابِه عليه السلام في الصدقاتِ الذي عملَ به أبو بكرٍ بعدَه حتى تُوفِّيَ، وعمرُ حتى تُوفِّيَ:"وفي الغنمِ مِن أربعينَ شاةً شاةٌ، إلى عشرين ومائةٍ، فإذا زادَتْ شاهٌ، ففيها شاتانِ إلى مائتينِ، فإذا زادَتْ واحدةٌ، ففيها ثلاثُ شياهٍ إلى ثلاثمائةٍ، فإذا زادَتْ، فليس فيها شيءٌ بعدُ حتى تبلُغَ أربعمائةٍ، فإذا كثُرَتِ الغنمُ، ففي كلِّ مائةٍ شاةٌ". رواهُ الخمسةُ إلَّا النسائيُّ
(1)
. ففي خمسمائةٍ: خمسُ شياهٍ، وفي ستمائةٍ: ستّ شياهٍ، وهكذا.
* * *
(1)
أخرجه أحمد (8/ 256)(4634)، وأبو داود (1568)، والترمذي (621)، وابن ماجه (1807)، وصححه الألباني.
فَصْلُ
وإذا اختلَطَ اثنانِ فأَكثرُ مِنْ أهلِ الزَّكاةِ في نِصابِ ماشيةٍ لَهم جميعَ الحَولِ، واشتَرَكا في المَبيتِ، والمَشرَحِ، والمَحْلَبِ، والفَحْلِ، والمرعَى، زَكّيا كالواحِدِ.
(فصلٌ) في الخُلطةِ
(وإذا اختلَطَ اثنانِ فأكثرُ مِن أهلِ الزكاةِ) فلا تأثيرَ لخُلطةِ كافرٍ، ولو مرتدًّا، ومكاتَبٍ، ومَن عليه دَينٌ مُستغرِقٌ
(في نصاب) فلا أثرَ لخُلطةٍ في نحوِ تسعةٍ وثلاثين شاةً (ماشيةٍ) فلا أثرَ لخُلطةٍ في غيرِها؛ لما يأتي (لهم) فلا أثرَ لخلطةِ مغصوبٍ (جميعَ الحوْلِ) فلا أثرَ لخلطةٍ في بعضِه ولو أكثرَه.
(واشتَركا في المبيتِ) وهو المُرَاحُ بضمِّ الميمِ. والمأوَى للماشيةِ
(و) في (المَسْرَحِ) وهو ما تجتمِعُ فيه السائمةُ لتذهَبَ إلى المرعَى
(و) في (المحلَبِ) بأن تُحلَبَ كلُّها في موضعٍ واحدٍ.
(و) في (الفحلِ) بأن لا يختصَّ بطرْقِ أحذِ المالينِ المخلوطين، إن اتَّحدَ النَّوعُ، فلا يُعتبرُ أن يكونَ مملوكًا لهما
(و) في (المرعَى) وهو موضعُ الرَّعيِ ووقتُه
(زَكَّيا) أي: الخليطَينِ (كالواحدِ): جوابُ "إذا" في الزكاةِ إيجابًا وإسقاطًا؛ لحديثِ الترمذيِّ
(1)
: "لا يُجمعُ بينَ متفرِّقٍ، ولا يُفرَّقُ بينَ مجتمعٍ، خشيةَ
(1)
أخرجه الترمذي (621) من حديث ابن عمر.
ولا تُشترط نِيَّةُ الخُلطَةِ، ولا اتِّحادُ المشرَبِ والرَّاعِي، ولا ائحادُ الفَحلِ، إن اختلَفَ النَّوعُ، كالبقر والجاموس، أو الضَّأنِ والمَعْزِ.
وقد تُفيذ الخُلطَة تغلِيظًا، كاثَنين اختلَطَا بأربعينَ شاة، لكلِّ واحدٍ عِشرونَ، فيلزمُهُما شاةٌ، وتخفِيفًا، كثلاثَةٍ اختلطُوا بمائةٍ وعشرينَ شاةً، لكلِّ
الصدقةِ، وما كان مِن خليطَيْنِ، فإنَّهما يتراجعانِ بينَهما بالسَّويَّةِ". ورواهُ البخاريُّ
(1)
مِن حديثِ أنسٍ. ولا يجيءُ التَّراجعُ إلَّا على هذا القولِ في خلطةِ الأوصافِ.
وقولُه: "لا يُجمَعُ بينَ مُتفرِّقٍ، ولا يُفرَّقُ بينَ مجتمِعٍ خشيةَ الصدقةِ". إنِّما يكونُ إذا كان المالُ لجماعةٍ؛ فإنَّ الواحدَ يَضمُّ بعضَ مالِه إلى بعضٍ، وإن كان في أماكنَ، ولأنَّ للخلطةِ تأثيرًا في تخفيفِ المؤْنةِ، فجازَ أن تُؤثِّرَ في الزكاةِ، كالسَّومِ.
(ولا تُشترَطُ نيَّةُ الخُلطةِ) بنوعَيها، كنيَّةِ السَّومِ والسَّقيِ بكُلفَةٍ، فتؤثِّر خلطةٌ وقعَتْ اتفاقًا، أو بفعلِ راعٍ.
(ولا) يُشترَطُ (اتخاذُ المشرَبِ)، بفتحِ الميمِ والرَّاءِ، أي: مكانِ الشُّربِ.
(ولا) لا يُشترَطُ اتحادُ (الرَّ اعي) واعتبرَه فيهما في "الإقناعِ"
(ولا) يُشترَطُ (اتحادُ الفحلِ، إن
(2)
اختلَفَ النوعُ، كالبقَرِ والجاموسِ، أو الضَّانِ والمعزِ)
(وقد تُفيدُ الخُلطةُ تغليظًا، كاثنينِ اختلَطَا بأربعين شاةً، لكلِّ واحدٍ عشرونَ، فيلزَمُهما شاةٌ. و) قد تُفيدُ (تخفيفًا، كثلاثةٍ اختلطُوا بمائةٍ وعشرين شاةً، لكلِّ
(1)
أخرجه البخاري (1451).
(2)
في الأصل: "إذا".
واحدٍ أربعُونَ فيلزمُهُم شاةٌ.
ولا أَثَرَ لتفرِقَةِ المالِ، ما لم يكُن سائِمَةً. فإن كانت سائمةً بمحلَّينِ بينَهما مسافةُ قصرٍ، فلكُلِّ حُكمٌ بنفسِه، فإذا كانَ له شياهٌ بمحَالَّ متباعِدَةٍ، في كلِّ محَلِّ أربعونَ، فعلَيه شياهٌ بعدَدِ المحَالِّ
واحدٍ أربعون، فيلزمُهم شاةٌ).
(ولا أثرَ لتفرقةِ المالِ) الزَّكوِيمِّما لمالكٍ واحدٍ، (ما لم يكُنْ سائمةً) بمحلَّينِ بينَهما مسافةُ قصرٍ، نصًّا. فجعَلَ التفرقةَ في البلدينِ، كالتفرقَةِ في المِلْكينِ؛ لأنَّه لمَّا أثَّرَ اجتماعُ مالِ الجماعةِ حالَ الخُلطةِ في مَرافقِ المِلكِ ومقاصدِه على أتمِّ الوجوهِ المُعتادَةِ وصيَّرَه كمالٍ واحدٍ، وجَبَ تأثيرُ الافتراقِ الفاحشِ في مالِ الواحدِ، حتى يجعلَه كمالينِ. واحتجَّ أحمدُ بقولِه صلى الله عليه وسلم:"لا يُجمَعُ بينَ مُفترقٍ، ولا يُفرَّقُ بينَ مجتمعٍ خشيةَ الصدقَةِ"
(1)
.
ولأنَّ كلَّ مالٍ تُخرَجُ زكاتُه ببلَدِه، فتعلَّقَ الوجوبُ بذلك البلدِ، فإن جُمِعَ أو فُرِّقَ خشيةَ الصدقةِ، لم يُؤثِّرْ، للخبرِ. فإن كان بينَهما دونَ المسافةِ، أو كانت التفرقةُ في غيرِ السائمةِ، لم تُؤثِّرْ إجماعًا.
(فإن كانت سائمةً بمحلَّينِ بينَهما مسافةُ قصرٍ
(2)
، فلكلٍّ حكمٌ بنفسِه، فإذا كان له شياهٌ بمحالَّ متباعدةٍ، في كلِّ محَلٍّ) مِنَ المحالَ المُتباعدَةِ (أربعون) شاةً (فعليه شِياو بعددِ المحالِّ) أي: بعددِ كلِّ محّلِّ له به أربعونَ شاةً، بينَه وبينَ الآخرِ مسافةُ قصرٍ
(1)
تقدم قريبًا.
(2)
سقطت: "فإن كانت سائمةً بمحلَّينِ بينَهما مسافةُ قصرٍ" من الأصل.
ولا شيءَ عليه إن لم يجتَمِع له في كُلِّ محَل أربعونَ، ما لم يكُن خُلطةً.
(ولا شيءَ عليه إن لم يجتمِعْ له) نصابٌ (في كلِّ محَلٍّ) وهو (أربعون) شاةً (ما لم يكُنْ خُلطةً) فلكُل حكمٌ بنفسِه.
* * *
بابُ زكاةِ الخارِج مِن الأرضِ
تجِبُ في كلِّ مَكِيلٍ مُدَّخرٍ من الحَبِّ: كالقَمحِ، والشَّعيرِ، والذُّرةِ، والأُرْزِ، والحِمِّص، والعَدَسِ، والباقِلَاءِ، والكِرْسَنَّةِ، والسِّمْسِمِ، والدُّخْنِ، والكَراوِيا، والكُزبَرةِ، وبزْرِ القُطْنِ والكَتَّان، والبِطِّيخِ ونحوِه.
ومِنَ الثَّمَرِ: كالتَّمر، والزبيبِ، واللَّوزِ، والفُستُقِ، والبُندُقِ، والسّمَّاقِ.
(بابُ زكاةِ الخارجِ مِنَ الأرضِ)
مِن زرعٍ، وثمَرٍ، ومعدِنٍ، ورِكازٍ
(تجِبُ) الزكاةُ (في كُلِّ مكيلٍ مُدَّخَرٍ) نصًّا. ويدلّ لاعتبارِ الكيلِ حديثُ: " ليسَ فيما دونَ خمسةِ أوسقٍ صدقةٌ". مُتَّفقٌ عليه
(1)
. لأنَّه لو لم يدُل على اعتبارِ الكيلِ، لكان ذِكرُ الأوسُقِ لغوًا. ويدُلّ لاعتبارِ الادِّخارِ: أنَّ غيرَ المُدَّخَرِ لا تكمُلُ فيه النعمةُ؛ لعدمِ النَّفعِ فيه مالًا.
(مِن الحَبِّ: كالقمحِ، والشعيرِ، والذُّرَةِ، والأُرزِ، والحِمِّصِ، والعَدسِ، والباقلَّاءِ، والكرسَنَّةِ، والسِّمسمِ، والدُّخنِ، والكَراويا، والكُزْبَرةِ، وبِزْرِ القُطنِ، والكتَّانِ، والبِطِّيخِ) بأنواعِه (ونحوِه) كبرزِ القِثِّاءِ والخيارِ والهِندَبَا والباذنجانِ والدُّبَّاءِ والخَسِّ والجزَرِ واللِّفتِ
(ومِنَ الثَّمرِ: كالتَّمرِ، والزَّبيبِ، واللَّوزِ، والفُستُقِ، والبُنْدُقِ، والسَّمَّاقِ)
(1)
أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979) من حديث أبي سعيد الخدري.
ولا زكاةَ في عنَّابٍ، وزيتُونٍ، وجَوزٍ، وتينٍ، ومِشمِشٍ، وتُوتٍ، ونَبْقٍ، وزعرُورٍ، ورُمَان.
وإنما تجبُ فيما تجِبُ بشرطَين:
الأوَّلُ: أَن يبلُغَ نِصَابًا.
وقدرُه - بعدِ
لأنَّه
(1)
مكيلٌ مُدَّخَرٌ.
(ولا) تجِبُ (زكاة في عُنَّابٍ، و) لا تجِبُ في (زيتونٍ، و) لا تجبُ في (جَوْزٍ، و) لا تجبُ في (تينٍ، و) لا تجبُ في (مِشمشٍ، و) لا تجبُ في (توتٍ، و) لا تجِبُ في (نبقٍ، و) لا تجِبُ في (زُعرورٍ، ورُمَّانٍ) ولا في بقيَّةِ الفواكهِ، كتفَّاحٍ، وإجَّاصٍ، وكُمَّثرَى، وسَفَرْجَلٍ، وموزٍ، وخونج، وأترجِّ، ونحوِها؛ لما روَى الدَّارقُطنيّ
(2)
عن علي مرفوعًا: "ليس في الخَضراواتِ صدقةٌ". وله عن عائشةَ معناه
(3)
. وللأثرمِ بإسنادِه عن سفيانَ بنِ عبدِ اللهِ الثَّقفيِّ: أنَّه كتَبَ إلى عمرَ -وكان عاملًا له على الطَّائفِ- أنَّ قِبَلَه حيطانًا فيها مِنَ الفِرْسِكِ -وهو الخوخُ- والرُّمَّانُ ما هو أكثرُ غلَّةً مِنَ الكُرومِ أضعافًا. فكتَبَ يستأمِرُه في العُشرِ. فكتبَ إليه عمرُ: أن ليسَ عليها عُشرٌ
(4)
. قال في "القاموسِ": المرادُ به الثَّمَرُ
(وإنَّما تجِبُ) الزكاةُ (فيما تجِبُ بشرطينِ) مُتعلِّقٌ بـ "تجِبُ":
(الأوَّلُ: أن يبلُغَ) المكيلُ المُدَّخَرُ (نصابًا) للخبرِ. (وقدرُه) أي: النِّصابِ (بعدَ
(1)
في الأصل: "أنه ".
(2)
أخرجه الدارقطني (2/ 94).
(3)
أخرجه الدارقطني (2/ 95).
(4)
أخرجه البيهقي (4/ 125).
تصفيةِ الحبِّ، وجَفافِ الثَّمر-: خمسةُ أوسُقٍ، وهي: ثلاثمائة صاعٍ، وبالأرَادِبِ: سِتَّةٌ ورُبعٌ، وبالرَّطلِ العراقيِّ: ألفٌ وستمائة، وبالقُدسيِّ: مائتان وسبعةٌ وخمسون وسُبُعُ رَطلٍ.
تصفيةِ الحبِّ) مِن قشرِه وتِبنِه، (و) بعد (جفافِ الثَّمرِ) والورَقِ، وهو:(خمسةُ أوسُقٍ) لحديثِ أبى سعيدٍ الخدريِّ مرفوعًا: "ليس فيما دونَ خمسةِ أوسُقٍ صدقةٌ". رواهُ الجماعةُ
(1)
. وهو خاصٌّ يقضي على كلِّ عام. ومُطلَقٍ، ولأنَّها زكاةُ مالٍ، فاعتُبِرَ لها النصابُ، كسائرِ الزَّكواتِ.
(وهي) أي: الخمسةُ أوسقٍ (ثلاثمائة صاعٍ) لأنَّ الوسقَ ستّونَ صاعًا، إجماعًا؛ لنصِّ الخبرِ. (وبالأرادِبِ)
(2)
المصريِّ: (ستُّةُ) أرادِبَ (وربعُ) إردَبِّ
…
(3)
ونصفٌ
(و) هي (بالرَّطلِ العِراقيِّ: ألف وستُّمائةِ) رطلٍ؛ لأنَّ الصَّاعَ خمسةُ أرطالٍ وثُلُثٌ بالعِراقيِّ. وبالرَّطلِ المصريِّ: ألفُ رطلٍ وأربعمائةٍ وثمانيةٌ وعشرونَ رطلًا وأربعةُ أسباعِ رطلٍ مصريٍّ. وبالرَّطلِ الدِّمشقي: ثلاثمائةِ رطلٍ واثنانِ وأربعونَ رطلًا وستَّةُ أسباعِ رطلٍ دِمشقيِّ. وبالرَّطلِ الحلَبيِّ: مائتان وخمسةٌ وثمانون رطلًا وخمسةُ أسباعِ رطلٍ حلبيٍّ.
(وبالقُدسيِّ: مائتان وسبعةٌ وخمسون وسُبُعُ رطلٍ) قدسيٍّ.
(1)
أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979)، وأحمد (17/ 356)(11253)، وأبو داود (1558)، والترمذي (626)، والنسائي (2445)، وابن ماجه (1793).
(2)
في الأصل: "وبالأردبِّ".
(3)
كلمة غير واضحة بالأصل.
الثاني: أن يكونَ مالِكا للنِّصاب وقتَ وجوبِها.
فوقث الوُجُوب في الحبِّ: إذا اشتدَّ. وفي الثَّمرَةِ: إذا بدَا صلاحُها.
والوَسْقُ، بكسرِ الواوِ وفتحِها، والصَّاعُ، والمُدُّ: مكاييلُ نُقِلَت إلى الوزنِ، أي: قُدِّرَت به؛ لتُحفَظَ مِنَ الزيادةِ والنَّقصِ.
وتُضمُّ أنواعُ الجنسِ بعضُها إلى بعضٍ في تكميلِ النِّصابِ، مِن زرعِ العامِ الواحدِ، ولو تعدَّدَ البلدُ، كعَلَسٍ إلى حِنطةٍ؛ لأنَّه نوعٌ منها، وسُلْتٍ إلى شعيرٍ؛ لأنَّه أشبَهُ الحبوبِ به في صورتِه، فهو نوعٌ منه.
ولا يُضَمُّ جنسٌ من زرعٍ أو ثمرٍ إلى جنسٍ آخرَ في تكميلِ النِّصابِ، فلا تُضمُّ حِنطةٌ إلى شعيرٍ، ولا القِطنيَّاتُ بعضُها إلى بعضٍ، ولا تمرٌ إلى زبيبٍ ونحوِه؛ لأنَّها أجناسٌ يجوزُ التفاضُلُ فيها، بخلافِ الأنواعِ، فانقطَعَ القياسُ، فلم يجُزْ إيجابُ زكاةٍ بالتحكّمِ.
وكذا لا يُضمُّ زرعُ عامٍ لعامٍ آخرَ، ولا ثمرةُ عامٍ لآخرَ. ولو اتَّحدَ الجنسُ؛ لانفصالِ الثَّاني عن الأوَّلِ.
الشَّرطُ (الثَّاني: أن يكونَ مالكًا للنِّصابِ وقتَ وجوبِها) أي: الزكاةِ
(فوقتُ الوجوبِ) أي: وجوبِ الزكاةِ (في الحَبِّ: إذا اشتَدَّ) لأنَّ اشتدادَه حالُ صلاحِه للأخذِ والادِّخارِ
(و) وقتُ وجوبها (في الثَّمرةِ: إذا بدا صلاحُها) أي: طِيبُ أكلِها، وظهورُ نضجِها؛ لأنَّه وقتُ الخرصِ المأمورِ به لحفظِ الزَّكاةِ ومعرفةِ قَدرِها، فدلَّ على تعلُّقِ وجويها به، ولأنَّ الحبَّ والثَّمرَ في الحالين يُقصدانِ للأكلِ والاقتياتِ.
وفي نحوِ صَعتير وورقِ سدرٍ: استحقاقُه أن يُؤخَذَ عادةً.
فَصْلٌ
ويجبُ فيما يُسقَى بلا كُلفَةٍ: العُشرُ، وفيما يُسقَى بكُلفَةٍ: نِصفُ العُشْرِ.
(فصل)
(ويجِبُ فيما يُسقَى بلا كلفَةٍ) ممَّا تقدَّمَ أنَّ الزَّكاةَ تجِبُ فيه: (العُشرُ) فاعلُ "يجِبُ" قال في "الفروعِ"
(1)
: وإن اشترَى ماءَ بركةٍ أو حُفيرةٍ، وسقَى سَيْحًا، فالعُشرُ في ظاهرِ كلامِ أصحابِنا. قالَه صاحبُ "المحرَّرِ"؛ لنُدرَةِ هذه المؤنةِ، وهي في مِلكِ الماءِ، لا في السَّقيِ به.
ولا تُؤتِّرُ مُؤنةُ حَفرٍ نهرٍ
(2)
وقناةٍ؛ لقلَّةِ المُؤنةِ؛ لأنَّ ذلك مِن جملةِ إحياءِ الأرضِ، ولا يتكرَّرُ كلَّ عامٍ.
ولا تؤثر
(3)
مُؤنةُ تحويلِ ماءٍ في السَّواقي، وإصلاحِ طُرقِ الماءِ؛ لأنَّ ذلك لابُدَّ منه حتى في السقيِ بالكُلَفِ، ولأنَّه كحرثِ الأرضِ.
(و) يجِبُ (فيما يُسقَى) مِنَ الحُبوبِ والثِّمارِ (بكلفَةٍ) كدَوَالي
(4)
، جمعُ داليةٍ، وهي: الدّولابُ تُديرُه البقرُ. ونَواضحَ، جمعُ ناضحٍ. وهو: البعيرُ الذي يُسقَى عليه. وكالنَّاعورةِ، وهي: الدُّولابُ الذي تُديرُه الماءُ. وكترقيةٍ للماءِ بغَرفٍ: (نصفُ العُشرِ) لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: "فيما سقَتِ السَّماءُ العُشرَ، وفيما سُقِيَ بالنَّضحِ
(1)
"الفروعِ"(4/ 88).
(2)
في الأصل: "حفرتِهم".
(3)
سقطت: "تؤثر" من الأصل.
(4)
في الأصل: "كدلوالي ". وهو خطأ، والمثبت من "دقائق أولي النهي" 2/ 234.
ويجِبَ إخراجُ زكاةِ الحَبِّ مُصفَّى، والثَّمرِ يابِسًا، فلو خالَفَ وأخرَجَ رَطْبًا، لم يُجزئْه، ووقَعَ نفلًا.
نصفُ العُشرِ". رواهُ أحمدُ والبخاريُّ، والترمذيُّ
(1)
، وصحَّحَه. وللنسائيِّ
(2)
، وأبي داودَ، وابنِ ماجَه
(3)
: "فيما سقَتِ السَّماءُ والأنهارُ والعيونُ، أو كان بعْلًا العُشرُ، وفيما سُقَي بالسَّواني والنَّضحِ نصفُ العُشرِ". والسَّواني والنَّواضحُ: الإبلُ يُستقَى عليها، لسقيِ الأرضِ، ولأنَّ المالَ يحتمِلُ مِنَ المواساةِ عندَ خِفَّةِ المؤنةِ ما لا يحتمِلُ عندَ كثرتِها.
(ويجِبُ إخراجُ زكاةِ الحَبِّ مصفًّى) مِن تِبنِه وقِشرِه (و) إخراجُ (الثَّمرِ يابسًا) لحديثِ الدَّارَقُطني
(4)
عن عتَّابِ بنِ
(5)
أسيدٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم "أمرَه أن يَخرِصَ
(6)
العِنبَ زبيبًا، كما يُخرصُ التمرُ" ولا يُسمَّى زَبيبًا وتمرًا حقيقةً إلَّا اليابسُ، وقيسَ الباقي عليهما. ولأنَّ حالَ تصفيةِ الحَبِّ وجفافِ الثَّمَرِ حالُ كمالٍ ونهايةِ صفاتِ ادِّ خارِه، ووقتِ لزومِ الإخراجِ منه.
(فلو خالَفَ وأخرَجَ رَطْبًا، لم يُجزئْه، ووقَعَ نفلًا) كإخراجِ صغيرةٍ مِن ماشيةٍ
(1)
أخرجه البخاري (1483)، والترمذي (640). وأخرجه أحمد (31/ 23)(14666) من حديث جابر.
(2)
في الأصل: "وصححه النَّسَائِيّ" والمثبت من "دقائق أولي النهي" 2/ 234.
(3)
أخرجه النَّسَائِيّ (2488)، وأبو داودَ (1596)، وابن ماجَه (1817) من حديث ابن عمر.
(4)
أخرجه الدارقطني (13412) من حديث عتاب بن أسيد. وضعفه الألباني في "الإرواء"(807).
(5)
في الأصل "عتاب وابن" وهو خطأ
(6)
في الأصل: "يُخرِج".
وسُنَّ للإمامِ بعثُ خارِصٍ لثمَرةِ النَّخلِ والكَرْمِ، إذا بدَا صلاحُها، ويكفِي واحِدٌ. وشُرِطَ كونُه مسلِمًا، أمينًا، خبيرًا. وأُجرَتُه على ربِّ الثَّمرَة.
عن كبارٍ، وإن أخذَها منه ساعٍ كذلك، فقد أساءَ، ويردّه إن بقِيَ بحالِه، وإن تلِفَ، رَدَّ مثلَه، وإن جفَّفَه وصفَّاه وكان قدرَ الواجبِ، فقد استوفَاه، وإن كانَ دونَه أخَذَ الباقي، وإن زادَ رَدَّ الفضلَ.
(وسُنٍّ للإمامِ بعثُ خارصٍ) أي: حازرٍ يطوفُ بالنخلِ والكَرْمِ، ثمَّ يحزُرُ قدرَ ما عليها جافًّا الثمرةِ النخلِ والكَرْمِ، إذا بدا صلاحُها) أي: الثمرةِ؛ لحديثِ عائشةَ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبعَثُ عبدَ اللهِ بنَ رواحةَ إلى يهودَ؛ ليخرِصَ عليهم النخلَ قبلَ أن يُؤكَلَ. متفَقٌ عليه
(1)
. وفي روايةٍ لأحمدَ وأبي داودَ
(2)
: لكي يُحصِي الزَّكاةَ قبلَ أن تُؤكَلَ الثِّمارُ وتُفرَّقَ. وخرَصَ عليه السلام على امرأةٍ بوادي القُرَى حديقةً لها. رواهُ أحمدُ
(3)
. وهو اجتهادٌ في معرفةِ الحَقِّ بغالبِ الظَّنِّ، فجازَ، كتقويمِ المُتلفَاتِ. وممَّن كان يرَى استحبابَه: أبو بكرٍ وعمرُ رضيَ اللهُ تعالى عنهما.
(ويكفِي) خارصٌ (واحدٌ) لأنَّه يُنفِّذُ ما اجتهَدَ فيه، كحاكمٍ، وقائفٍ (وشُرِطَ كونُه) أي: الخارصِ (مسلمًا، أمينًا، خبيرًا) زادَ في الأصلِ: "لا يُتَّهَمُ"؛ لكونِه مِن عمودَي نسبِ مخروصٍ عليه؛ دفعًا للرِّيبَةِ.
(وأجرتُه) أي: الخارصِ (على ربِّ الثَّمَرةِ) أي: ربِّ المالِ؛ لعمَلِه في مالِه.
(1)
لم أجده في الصحيحين، وأخرجه أبو داود (1606). وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (42/ 184)(25305)، وأبو داود (3413)، وضعف الألباني إسناده.
(3)
أخرجه أحمد (16/ 39)(23604)، وأبو داود (3079) من حديث أبي حميد الساعدي. وصححه الألباني.
ويجِبُ عليه بعثُ السُّعاةِ قُربَ الوُجُوبِ؛ لقبضِ زكاةِ المالِ الظَّاهِرِ.
ويجتمِعُ العُشْرُ والخراجُ في الأرضِ الخَراجيَّة، وهي ما فُتِحَتْ عَنْوَةً ولم تُقسَم بينَ الغانِمِين، كَمِصْرَ، والشَّامِ، والعِرَاق.
(ويجِبُ عليه) أي: على الإمامِ أو نائبِه (بعثُ السُّعاةِ قُربَ الوجوبِ؛ لقبضِ زكاةِ المالِ الظَّاهر).
(ويجتمِعُ العُشرُ والخراجُ في الأرضِ الخراجيَّةِ) لعُمومِ: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البَقَرَة: 267] وحديثِ: "فيما سَقَتِ السَّماءُ العُشرُ". وغيرِه. فالخراجُ في رقبَتِها، والعُشرُ في غلَّتِها، ولأنَّ سببَ الخراجِ التَّمكُّنُ مِنَ الانتفاعِ، وسببَ العُشرِ وجودُ المالِ، فجازَ اجتماعُهما، كأجرةِ حانوتِ المتجَرِ وزكاتِه
(وهي) أي: الأرضُ الخراجيَّةُ ثلاثةُ أَضرُبٍ:
(ما فُتِحَت
(1)
عَنوَةً) أي: قهرًا وغلبةً بالسيفِ (ولم تُقسَمْ بينَ الغانِمِين) غيرَ مكَّةَ (كمِصرَ، والشَّامِ، والعِراقِ)
والثانيةُ: ما جَلَا عنها أهلُها، خوفًا منَّا.
والثالثةُ: ما صُولحوا، أي
(2)
: أهلُها على أنَّها لنا، ونُقِرُّها معَهم بالخراجِ.
والأرضُ العُشريَّهُ خمسةُ أضرُبٍ:
ما أسلَمَ أهلُها عليها، كالمدينةِ، ونحوِها، كجُوَاثَى، مِن قُرَى البحرينِ.
والثانيةُ: ما اختطَّهُ المسلمون، كالبصرةِ ونحوِها، كمدينةِ واسطٍ.
(1)
في الأصل: "فتجب"، والمثبت من دليل الطالب ص 101.
(2)
سقطت: "أي" من الأصل.
وتَضمِينُ أموالِ العُشْر، والأرضِ الخراجيَّة، باطلٌ.
وفي العَسَلِ: العُشْرُ، ونصاُبه: مائةٌ وستُّون رَطلًا عِراقيَّةً.
وفي الرِّكَازِ، وهو الكنزُ
والثالثةُ: ما صُولِحَ أهلُها على أنَّ الأرضَ لهم بخراح يُضرَبُ عليهم، كاليمَنِ.
والرابعةُ: ما فُتِحَ عَنْوةً وقشمَ بينَ غانمِيهِ
(1)
، كنصفِ خيبرَ.
والخامسةُ: ما أقطَعَه الخُلفاءُ الراشدونَ مِنَ السَّوادِ، كأرضِ العراقِ، وحَدُّها: مِن تخُومِ
(2)
الموصلِ إلى عبَادَانَ طُولًا، وعَرْضًا: مِن عَذِيبِ القادسيَّةِ إلى حُلُوانَ.
(وتضمينُ أموالِ العُشرِ والأرضِ الخراجيَّةِ
(3)
، باطلٌ) نصًّا؛ لأنَّه يقتضِي الاقتصارَ عليه في تملُّكِ ما زادَ، وغرمِ ما نقَصَ. وهذا منافٍ لموضوعِ العمالةِ وحُكمِ الأمانةِ.
(و) يجِبُ (في العسَلِ) مِنَ النَّحلِ (العُشرُ) نصًّا
(ونِصابُه) أي: العَسلِ: (مائة وستُّون رَطلًا عِراقيَّةً) وذلك عشَرَة أفراقٍ، نصًّا.
جمعُ فَرَقٍ بفتحِ الرَّاءِ: مكيالٌ معروفٌ بالمدينةِ. ذكَرَه الجوهريُّ وغيرُه. زِنتُه بالرَّطلِ العِراقيِّ: ستَّةَ عشرَ رَطلًا.
(وفي الرِّكازِ، وهو: الكنزُ) مِن دِفْنِ الجاهليَّةِ، أو دِفْنِ مَن تقدَّمَ مِن كفَّارٍ. سُمِّىَ به مِنَ الرُّكُوزِ، أي: التغييبِ، ومنه: ركزْتُ الرُّمحَ. إذا غيَّبْتَ أسفَلَه في
(1)
في الأصل: "غانمين ".
(2)
التخم: منتهى كل قرية أو أرض. والجمع تخوم، مثل فلس وفلوس. وقال الفراء: تخومها: حدودها. "الصحاح": (تخم).
(3)
في الأصل: "الخارجية".
ولو قليلًا: الخُمُسُ، ولا يَمنَعُ مِنْ وجُوبهِ الدَّينُ.
الأرض. ومنه: الرِّكْزُ: الصَّوتُ الخفيُّ.
ويُلحَقُ بالدِّفنِ: ما وُجِدَ على وجهِ الأرضِ
(ولو) كانَ (قليلًا: الخُمُسُ) على واجدِه، مِن مسلمٍ وذمِّيٍّ، وكبيرٍ وصغيرٍ، وحزَ ومُكاتَبٍ، وعاقلٍ ومجنونٍ؛ لعُمومِ حديثِ أبي هريرة مَرفوعًا:"وفي الرِّكازِ الخُصُرُ" مُتَّفَقٌ عليه
(1)
. ويجوزُ إخراجُه منه، ومِن غيرِه (ولا يمنَعُ مِن وُجوبِه) أي: الخُمسِ (الدَّينُ) لأنَّه ليس بزكاةٍ حقيقةً. ولا يُشترَطُ له نِصابٌ.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (2355)، ومسلم (1710).
بابُ زَكاةِ الأَثمَانِ
وهي: الذَّهبُ والفِضَّةُ. وفيها: رُبُعُ العُشُرِ إذا بلغَت نصابًا.
فنِصابُ الذَّهبِ بالمثاقِيل: عِشرونَ مثقالًا. وبالدنانير: خَمسةٌ وعشرونَ، وسُبُعا دِينَارٍ، وتُسُعُ دِينارٍ.
ونِصاب الفضَّةِ: مائتا دِرهَمٍ،
(بابُ زكاةِ الأثمانِ)
جمعُ ثمَنٍ، وهو مبتدأٌ. (وهي: الذَّهبُ والفضَّةُ) جملةٌ اعتراضيَّةٌ. وطُمَ منه: أنَّ الفُلوسَ، ولو رائجَةً، لا تُسمَّى أثمانًا، بل هي مِن عُروضِ التِّجارةِ. قال المجدُ: إن لم تكُنْ مُعدَّةً للنفقَةِ، (وفيها: رُبعُ العُشرِ) خبرٌ.
ووجوبُ الزَّكاةِ فيهما بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، بشرطِ بلوغِهما نصابًا (إذا بلَغَت نصابًا. فنصابُ الذَّهبِ بالمثاقيلِ: عشرون مِثقالًا) لحديثِ عمرِو بنِ شمعيبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّه مرفوعًا:"ليس في أقلَّ مِن عشرين مِثقالًا مِنَ الذَّهبِ، ولا في أقلَّ مِن مائتي دِرهمٍ صدقةٌ" رواهُ أبو عبيدٍ
(1)
. وهي ثمانيةٌ وعشرونَ دِرهمًا وأربعةُ أسباعِ دِرهمٍ.
(وبالدنانيرِ) التي زِنتُها دِرهَمٌ وثمنُ دِرهمٍ: (خمسةٌ وعشرون وسُبُعَا دينارٍ وتسعُ دينارٍ) أي: بالدِّينارِ الذي زِنتُه درهثم، وثمنٌ على التَّحديدِ
(ونصابُ الفضَّةِ: مائتا دِرهمٍ) إسلاميٍّ، إجماعًا، لحديثِ: "ليس فيما دونَ
(1)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(1113)، وانظر "الإرواء"(813).
والدِّرهَمُ: اثنتا عشرَةَ حبَّةَ خَرُّوبٍ، والمثقالُ: دِرهَمٌ، وثلاثةُ أسبَاعِ دِرهَمٍ.
ويُضمُّ الذَّهبُ إلى الفضَّةِ في تَكميلِ النِّصابِ، ويُخرِجُ مِنْ أيِّهما شاءَ.
خمسةِ أواقٍ صدقةٌ" مُتَّفَقٌ عليه
(1)
. والأُوقيَّةُ: أربعونَ درهمًا (والدِّرهمُ: اثنتا عشَرَة حَبَّةَ خَرُّوبِ
(2)
. والمِثقالُ: دِرهمٌ وثلاثةُ أسباعِ درهمٍ) والدِّرهمُ: ستَّةُ دوانِقَ، والدَّوانِقُ: حَبَّتا خرنوبٍ وثُلُثا حبَّةِ خرنوبٍ؛ لأنَّ الدِّرهمً الإسلاميَّ ستَّةَ عشرَ حبَّةَ خرنوبٍ. قالَه الحَجَّاويّ في "الحاشيةِ"
(3)
.
(ويُضَمُّ الذَّهبُ إلى الفِضَّةِ في تكميلِ النِّصابِ) لأنَّ زكاتَهما ومقاصِدَهما مُتَّفِقَةٌ، ولأنَّ أحدَهما يُضمّ إلى ما يُضمُّ إليه الآخرُ.
مثالُه: فمَن ملَكَ عشرَةَ مثاقيلَ ذهبًا، ومائةَ درهمٍ فضةً، زكَّاهما. ولو ملَكَ مائةَ درهمٍ وتسعةَ مثاقيلَ تُساوي مائةَ درهمٍ، لم تجِبْ؛ لأنَّ ما لا يُقوَّمُ لو انفرَدَ، لا يُقوَّمُ مع غيرِه، كالحبوبِ والثِّمارِ؛ لأنَّ القيمَ لا تُقوَّمُ. وتكميل
(4)
النِّصابِ
(ويخرِجُ من أيِّهما شاءَ) أي: فيُخرِجُ ذهبًا عن فضَّةٍ، وعكسَه، بالقيمةِ؛ لاشتراكِهما في المقصودِ من الثمنيَّةِ، والتَّوسُّلِ إلى المقاصدِ، فهو كإخراجِ مكسَّرةٍ عن صحاحٍ. بخلافِ سائرِ الأجناسِ؛ لاختلافِ مقاصدِها، ولأنَّه أرفَقُ بالمُعطِي والآخذِ، ولئلَّا يحتاجَ إلى التَّشقيص، والمُشاركَةِ، أو بيعِ أحدِهما نصيبَهُ مِنَ الآخرِ في زكاةِ ما دُونَ أربعينَ دينارًا.
(1)
تقدم قريبًا.
(2)
في الأصل: "خرنوب".
(3)
"حاشيةِ التنقيح"(1/ 149).
(4)
كذا بالأصل ولعلها "في تكميل".
ولا زَكاةَ في حُليٍّ مُباحٍ مُعدٍّ لاستعمالٍ، أو إعارَةٍ.
وتجبُ في الحُليِّ المُحرَّمِ، وكَذَا في المُبَاحِ المُعَدِّ للكِراءِ، أو النَّفقَةِ، إذا بلَغَ نصابًا وزنًا، ويُخْرِجُ عن قِيمتِه إن زادَت.
وإن اختارَ مالكٌ الدَّفعَ مِنَ الجنسِ، وأباهُ فقيرٌ؛ لضرَرٍ يلحقُه في أخذِه، لم يلزَمْ مالكًا إجابتُه؛ لأنَّه
(1)
أدَّى فرضَه، فلم يُكلَّفْ سِواهُ.
(ولا زكاةَ في حُليٍّ مُباحٍ، مُعَدٍّ لاستعمالٍ، أو إعارةٍ) وإن لم يستعمِلْه أو يُعرْهُ؛ لحديتِ جابرٍ مرفوعًا: "ليسَ في الحُليِّ زكاةٌ" رواهُ الطبراني
(2)
.
(وتجِبُ) الزَّكاهُ (في الحُليِّ المُحرَّمِ) وآنيهِ ذهبٍ أو فضَّةٍ؛ لأنَّ الصِّناعةَ المُحرَّمةِ كالعدَمِ.
(و) تجِبُ (كذا في المُباحِ) مِنَ الحُليِّ (المُعدِّ للكِراءِ، أو النفقةِ) ونحوِها (إذا بلَغَ نصابًا وزنًا) لأنَّ سقوط الزكاةِ فيما أعِدَّ لاستعمالٍ أو إعارةٍ؛ لصرفِه عن جهةِ النَّماءِ، فيبقَى ما عداهُ على الأصلِ.
(ويُخرِجُ عن قيمتِه إن زادَتْ) فيُعتبرُ في نصابٍ بوزنِه، وفي إخراجٍ بقيمتِه، اعتبارًا للصنعَةِ.
* * *
(1)
في الأصل: "وأنَّه".
(2)
في الأصل: "الطبري"، والمثبت من "دقائق أولي النهى"(2/ 263). ولم أجده عند الطبراني، ولم يذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"، وقد أخرجه الدارقطني (2/ 107). وقال الألباني في "الإرواء" (817): باطل.
فَصْلُ
وتحرمُ تَحليةُ المَسجِدِ بذَهَبٍ، أو فِضَّةٍ.
وئباحُ للذَّكَر من الفضَّةِ: الخاتَمُ،
(فصلٌ)
(وتحرُمُ تحليةُ المسجدِ بذهَب، أو فِضَّةِ) أو أن يُمَوَّهَ سقفٌ أو حائطٌ مِن مسجدٍ أو دارٍ، أو غيرِهما، بذهبٍ أو فضَّةٍ. وكذا سَزجٌ، ولِجامٌ، ودواةٌ، ومِقلَمَةٌ، ونحوُها؛ لأنَّه سرَفٌ، ويُفضِي إلى الخُيلاءِ، وكسرِ قلوبِ الفُقراءِ، فهو كالآنيةِ. وقد نهَى صلى الله عليه وسلم عن التختُّمِ بخاتمِ الذَّهبِ للرَّجلِ
(1)
. فتمويهُ نحوِ السَّقفِ أَوْلَى.
ولا يصحُّ وقفُ قِنديلٍ من نقدٍ على مسجدٍ ونحوِه. وقالَ الموفَّقُ: هو بمنزلةِ الصدقَةِ عليه، يُكسَرُ ويُصرَفُ في مصلحتِه وعمارتِه.
وتجِبُ إزالتُه كسائرِ المُنكراتِ. وتجِبُ زكاتُه إن بلَغَ نصابًا بنفسِه، أو ضمَّه إلى غيرِه، إلَّا إذا استُهلِكَ فيما حُلِّيَ به أو مُوِّهَ به، فلم يجتمِعْ منه شيءٌ فيهما
(2)
، أي: في وجوبِ الإزالةِ، ووجوبِ الزكاةِ. فإذا لم يجتمعْ منه شيءٌ، لم تجِبْ إزالتُه، لأنَّه لا فائدةَ فيها، ولا زكاتُه؛ لأنَّ ماليَّتَه ذهَبَتْ. ولمَّا وليَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الخلافةَ أرادَ جمعَ ما في مسجدِ دِمشقَ، ممَّا مُوِّهَ به مِنَ الذَّهبِ، فقيلَ له: إنَّه لا يجتمِعُ منه شيءٌ، فترَكَه.
(ويُباحُ للذَّكَرِ مِنَ الفضَّةِ: الخاتمُ) لأنَّه عليه السلام اتَّخذَ خاتمًا مِن وَرِقٍ.
(1)
أخرجه مسلم (2078) من حديث علي.
(2)
سقطت: "فيهما" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(2/ 265).
ولو زادَ على مِثقالٍ، وجَعلُهُ بِخِنصَرِ يَسارٍ أفضلُ. وتُباحُ قَبيعَةُ السَّيفِ فَقَط -ولو مِنْ ذَهَبٍ- وحِليَةُ المِنطَقَةِ،
مُتَّفَقٌ عليه
(1)
. (ولو زادَ على مِثقالٍ) ما لم يخرُجْ عنِ العادةِ. قال في "الرعايةِ": ويُسَنُّ دونَ مثقالٍ. قال في "الفروعِ": وظاهرُ كلامِ أحمدَ والأصحابِ: لا بأسَ بأكثرِ مِن ذلك. والمرادُ: ما لم يخرُجْ عنِ العادةِ، وإلَّا حَرُمَ؛ لأنَّ الأصلَ التحريمُ
(2)
.
ويُكرَهُ أن يُكتَبَ على الخاتمِ ذِكرُ اللهِ؛ قرآنٌ أو غيرُه. نصًّا. ولُبسُ خاتَمَيْن فأكثرَ جميعًا، الأظهرُ: الجوازُ، وعدمُ وجوبِ الزكاةِ. قالَه في "الإنصافِ"
(3)
(وجعلُه بخنصَرِ يسارٍ أفضلُ) مِن لُبسِه بخنصَرِ يُمنَى، نصًّا.
(وتُباحُ) لذَكَرٍ مِن فضَّةٍ (قبيعةُ سيفٍ) لقولِ أنسٍ: كانَت قَبيعةُ سيفِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فضَّةً
(4)
. رواهُ الأثرَمُ. والقَبيعَةُ: ما يُجعَلُ على طرَفِ القبضَةِ. ولأنَّها مُعتادَةٌ له، أتجهَتِ الخاتمَ. (فقط، ولو مِن ذهَبٍ)
(5)
على الأصحِّ. قالَ في "الإنصافِ"
(6)
: هذا المذهبُ.
(و) يُباحُ للذَّكرِ (حِليةُ المِنْطقَةِ) أي: ما يُشدّ به الوَسَطُ. وتُسمِّيها العامَّةُ: حياصةً. لأنَّ الصحابةَ اتَّخذُوا المناطِقَ مُحلَّاةً بالفضَّةِ، ولأنَّها كالخاتمِ.
(1)
أخرجه البخاري (5865، 5873)، ومسلم (2091) من حديث ابن عمر.
(2)
انظر "الفروع"(4/ 153).
(3)
"الإنصاف"(7/ 39).
(4)
أخرجه أبو داود (2583)، والترمذي (1691)، وصححه الألباني في "الإرواء"(822).
(5)
في الأصل: "فِضَّةٍ".
(6)
"الإنصافِ"(7/ 43).
والجَوشَنِ والخُوذَةِ، لا الرِّكَابِ، واللِّجَامِ، والدَّواةِ.
ويباحُ للنِّساءِ ما جَرتْ عادتُهنَّ بلُبسِهِ، ولو زادَ على ألفِ مِثقَالٍ.
وللرَّجلِ والمرأةِ التحلِّي بالجَوهَرِ، والياقُوتِ، والزَّبَرْجَدِ.
وكُرِه تختُّمُهُما بالحَديدِ، والنُّحاسِ، والرَّصاص. ويُستَحبُّ بالعَقيقِ.
(و) على قياسِه
(1)
: (الجوشَن) وهو: الدِّرعُ (والخُوذَة) وهي: البيضَةُ
(2)
.
و (لا) تُباحُ حِليةُ (الرِّكابِ، واللِّجامِ، والدَّواةِ) ونحوِ ذلك، كمرآةٍ وسَرْجٍ، ومِكحَلَةٍ، ومِجمرةٍ، فتحرُمُ كالآنيةِ.
(ويُباحُ للنساءِ ما جَرَتْ عادَتُهنَّ بلُبسِه، ولو زادَ على ألفِ مِثقالٍ) كسِارٍ، ودُمْلج
(3)
، وطَوْقٍ، وخَلْخالٍ، وخاتَمٍ، وقُرْطٍ، ومقالدَ مِن حرائزَ وتعاويذَ
(4)
.
(و) يُباحُ (للرَّجُلِ والمرأةِ) والخُنثَى (التحلِّي بالجوهَرِ، والياقوتِ، والزَّبرجَدِ) وبَنَفْشٍ
(5)
، وفيرُوزَجَ.
(وكُرِهَ تختُّمُهما) أي: الرجلِ والمرأةِ (بالحديدِ، والنُّحاسِ، والرَّصاصِ. ويُستحَبُّ) التَّختُّمُ (بالعقيقِ) قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تختَّمُوا بالعقيقِ، فإنَّه مُبارَكٌ"
(6)
.
* * *
(1)
في الأصل: "قياس".
(2)
كتب على هامش الأصل "أي: الطاسة".
(3)
والدُّملُجُ: بضم فسكون. واللامُ تُفتحُ وتُضمُّ: المِعْضَدُ من الحُليِّ. "لسان العرب""دملج ".
(4)
الذي عليه المحققون من أهل العلم أن تعليق التمائم ونحوها لا يجوز، حتى ولو كانت من القرآن والذِّكر. انظر "تيسير العزيز الحميد"(1/ 215).
(5)
في الأصل "بلخس"، والمثبت من "دقائق أولي النهي"(2/ 249).
(6)
أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 448)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 201)، من=
بابُ زكاةِ العُرُوضِ
وهي: ما يُعدُّ للبيعِ والشِّراءِ؛ لأجلِ الرِّبحِ.
فتُقوَّمُ إذا حَالَ الحَولُ -وأوَّلُهُ: مِن حينِ بُلُوغِ القِيمَةِ نِصَابًا- بالأحَظِّ للمسَاكِين من ذَهبٍ أو فِضَّةٍ.
(بابُ زكاةِ العُروضِ)
أي: عُروضِ التِّجارةِ. واحدُها: عَرْضٌ، بسكونِ الرَّاءِ (وهي) العُروضُ:(مما يُعدُّ للبيعِ والشِّراءِ؛ لأجلِ الرِّبحِ) وسُمِّيَ عَرْضًا؛ لأنَّه يُعرَضُ ليُباعَ ويُشترَى، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ، كتسميةِ المعلومِ علمًا. أو لأنَّه يعرضُ تمَّ يزولُ ويفنَى.
ووجوبُ الزكاةِ في عروضِ التجارةِ قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. رُوِيَ عن عمرَ، وابنِه، وابنِ عباسٍ
(1)
. ودليلُه: قولُه تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [لمعَارج: 24]، وقولُه:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التّوبَة: 103]. ومالُ التجارةِ أعمُّ الأموالِ، فكانَ أَوْلَى بالدُّخولِ.
(فتقوَّمُ إذا حالَ الحولُ، وأوَّلُه: مِن حينِ بلوغِ القيمَةِ نِصابًا) مِن أحدِ النَّقدينِ، لا في نفسِ العَرْضِ؛ لأنَّ النِّصابَ مُعتبَرٌ بالقيمةِ، فهي محلُّ الوجوبِ. والقيمةُ إن لم تُوجَدْ عينًا، فهي مُقدَّرةٌ شرعًا (بالأحظِّ للمَساكينِ) يعني: أهلَ الزكاةِ (مِن ذهبٍ أو فضَّةِ) كأنْ تبلُغَ قيمتُها نصابًا بأحدِهما دونَ الآخرِ، فتقوَّمُ به
= حديث عائشة. قال العقيلي بعده: ولا يثبت في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. وقال الألباني في "الإرواء"(826): موضوع.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 405، 406) عن عمر، وابنه.
فإن بلَغَت القيمةُ نِصابًا، وَجَبَ رُبُعُ العُشُرِ، وإلَّا فَلا، وكذا أموالُ الصَّيارِفِ.
ولا عبرةَ بقيمةِ آنيةِ الذَّهب والفضَّةِ، بل بوزنِها، ولا بما فيه صِناعةٌ مُحزَمة، فيُقوَّمُ عاريًا عنها.
ومَنْ عِندَه عَرْضٌ للتِّجارةِ، أو وَرِثَهُ، فنواه للقِنيَةِ، ثمَّ نواهُ للتِّجارَةِ، لم يصِرْ عَرْضًا بمُجرَّدِ النِّيةِ، غَيرَ حُلِيِّ اللُّبس.
(فإن بلَغَتِ القيمةُ نصابًا) مِن ذهبٍ أو فضَّةٍ (وجَبَ ربعُ العُشرِ، وإلَّا فلا) يعني: وإن لم تبلُغْ نصابًا، فلا تجِبُ.
(وكذا) تجِبُ الزكاةُ في (أموالِ الصَّيارفِ) ولهذا تجِبُ الزكاةُ في عينِها، لا في قيمَتِها
(ولا
(1)
عبرَةَ بقيمةِ آنيةِ الذَّهبِ والفضَّةِ، بل بوزنِها) لتحريمِها. فيُعتبَرُ نصابُها وزنًا (ولا بما فيه صناعة محرَّمة) كالمُغنِّيةِ والضَّاربةِ بآلةِ اللَّهوِ، وغيرِ ذلك (فيقوَّمُ عاريًا) أي: خاليًا (عنها) أي: عن تلكَ الصناعةِ
(ومَن عندَه عَرْضٌ
(2)
للتِّجارةِ، أو ورِثَه، فنَواهُ للقُنيةِ، ثم نواهُ للتِّجارةِ، لم يصِرْ عَرْضًا بمُجرَّدِ النيَّةِ) لأنَّ القُنيةَ الأصلُ، فلا تنتقِلُ عنه بمُجرَّدِ النيَّةِ، لضعفِها. وفارَقَ السائمةَ إذا نوَى علفَها؛ لأنَّ الإسامةَ شرطٌ دونَ نيَّتِها، فلا ينتفِي
(3)
الوجوبُ إلَّا بانتفاءِ السَّومِ.
(غيرَ حُليِّ اللُّبسِ) لأنَّ الأصلَ وجوبُ زكاتِه، فإذا نواهُ للتِّجارةِ، فقد ردَّه إلىَ
(1)
سقطت: "ولا" من الأصل.
(2)
في الأصل: "عروض".
(3)
في الأصل: "يكتفي".
وما استُخِرجَ من المعَادِنِ، ففيهِ بمُجرَّدِ إحرازِه: رُبُعُ العُشُرِ،
الأصلِ، فيكفِي فيه مجرَّدُ
(1)
النِّيَّةِ.
(وما استُخرِجَ مِنَ المعادنِ) المَعدِنُ، بكسرِ الدَّالِ، وهو: المكانُ الذي عُدِنَ به الجوهرُ ونحوُه. سُمِّيَ به لعُدونِ ما أنبتَهُ اللهُ فيه، أي: إقامتِه به. ثمَّ سُمِّيَ به الجوهرُ.
وهو: كلّ مُتولِّدٍ في الأرضِ، لا مِن جنسِ الأرضِ، ولا نباتٍ، كذهَبٍ، وفضَّةٍ، وجو هرٍ، وبلَّورٍ، وعقيقٍ، و نُحاسٍ، ورَصاصٍ، وحديدٍ، وكُحْلٍ، وزِرْنيخٍ، وكِبريتٍ، وزِفتٍ، وملحٍ، وزِئبقٍ، وقارٍ، ونِفْطٍ، وياقوتٍ، وزَبَرْجَدٍ، ومُومِيَا، ويَشَمٍ
(2)
.
قالَ أحمدُ: كلُّ ما وقَعَ عليه اسمُ المَعدِنِ، ففيه الزَّكاةُ، حيثُ كان، في مِلكِه أو في البراري.
إذا استُخرِجَ (ففيه الزكاةُ بمجرَّدِ إحرازِه) أي: فيستقِرُّ الوجوبُ في زكافِ بإحرازِه، فلا تسقُطُ بتلَفِه بَعدُ مُطلقًا. وقبلَه بلا فعلِه ولا تفريطِه تسقطُ
(ربعُ العُشرِ) لعُمومِ قولِه تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البَقَرَة: 267]. ولأنَّه مالٌ لو غنِمَه، أخرَجَ خُمُسَه، فإذا أخرَجَه مِن معدِنٍ، وجَبَت زكاتُه، كالذَّهبِ والفضَّةِ، من عينِ نقدٍ، أي: ذهبٍ وفضَّةٍ، ومِن قيمةِ غيرِه، أي: النقدِ. يُصرَفُ لأهلِ الزكاةِ؛ لحديثِ مالكٍ في "الموطأ" وأبي داودَ
(3)
: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقطَعَ بلالَ
(1)
في الأصل: "بمجرد".
(2)
في الأصل: "يشيم"، وانظر "دقائق أولي النهى" (24912). واليَشَمُ: ويقالُ أيضًا: اليَشَبُ، وهُوَ حَجَرٌ مَعْدِنِيٌّ، أَجْوَدُهُ: الزَّيْتِيُّ، فَالأَبْيضُ، فَالأصْفَرُ، ولَهُ خَوَاصُّ. "تاج العروس"(يشم).
(3)
أخرجه مالك (1/ 248)، وأبو داود (3061) من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن مرسلًا. وضعفه الألباني.
إن بلغَت القِيمَةُ نصابًا بعدَ السَّبكِ والتَّصفيَةِ.
بنَ الحارثِ المُزَنيَّ المعادِنَ القَبَليَّةَ. وهي من ناحيةِ الفُرْعِ، فتلك المعادنُ لا يُؤخَذُ منها إلَّا الزكاةُ إلى اليومِ. قالَ أبو عُبيدةَ
(1)
: القبليَّةُ، بلادٌ معروفةٌ بالحِجازِ.
بشرطِ: (إن بلَغَتِ القيمةُ نصابًا بعدَ السَّبكِ والتَّصفيَةِ) كحبٍّ وثمرٍ. فلو أخرج ربع عُشرٍ بترابه قبلَ تَصفيتِه، رُدَّ إن كان باقيًا، وإلَّا فقيمتُه. ويُقبَلُ قولُ آخذٍ في قدرِه؛ لأنَّه غارِمٌ. فإنْ صفَّاه، فكان قدرَ الواجبِ، أجزأَ، وإن زادَ رَدَّ الزيادةَ، إلَّا أن يسمَحَ له بها المُخرِجُ. وإن نقَصَ، فعلَى المُخرِجِ.
"فرعٌ": لا زكاةَ في مِسكٍ وزَبَادٍ
(2)
، ولا في مُخرَجٍ مِن بحرٍ، كسمَكٍ، ولؤلؤٍ، ومَرْجانٍ، ولا في عَنْبرٍ.
"تنبيهٌ": ظاهرُ كلامِ كثيرٍ مِنَ الأصحابِ، وتبِعَهم المُصنِّفُ في "غايةِ المُنتهَى": جوازُ تحليةِ المرأةِ بدراهمَ ودنانيرَ معرَّاةٍ، فلا زكاةَ فيها
(3)
.
* * *
(1)
كذا في الأصل، وفي "دقائق أولي النهي" 2/ 250:"أبو عبيد".
(2)
زَبَادٌ، كسَحاب: طِيبٌ يَتوَلَّد من السِّنَّورِ. "تاج العروس"(زبد).
(3)
انظر "الإنصاف"(7/ 48)، "غاية المنتهى"(1/ 318).
بابُ زكاةِ الفِطْرِ
تَجِبُ بأوَّلِ ليلةِ العيدِ، فَمَنْ ماتَ أو أَعسَرَ قبلَ الغُرُوبِ، فلا زكاةَ عليهِ،
(بابُ زكاةِ الفطرِ)
هو اسمُ مصدرٍ مِن: أفطَرَ الصَّائمُ إفطارًا، وإضافتُها إلى الفِطرِ مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى سببِه؛ لأنَّها تجِبُ به.
والفِطرةُ: الخلقةُ. وبضمِّ الفاءِ: كلمةٌ مُولَّدَةٌ.
وقد
(1)
زعَمَ بعضُهم أنَّها مِن لحنِ العامَّةِ. قال في "المبدعِ"
(2)
: وليسَت كذلك؛ لاستعمالِ الفُقهاءِ لها. قالَ: والظَّاهرُ أنَّ فرضَها مع رمضانَ في السنةِ الثَّانيةِ مِنَ الهجرةِ.
(تجِبُ بأوَّلَ ليلةِ العيدِ) طُهرَةً لصائمٍ مِنَ الرَّفَثِ واللَّغوِ، وطُعمةً للمساكينِ. قال سعيدُ بنُ المسيَّبِ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في قولِه تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]: هو زكاةُ الفِطرِ. قالَ ابنُ قتُيبةَ: وقيلَ لها: فِطرةٌ؛ لأنَّ الفِطرةَ: الخلقَةُ، قالَ تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الرُّوم:30]. وهذه يُرادُ بها الصدَقةُ عنِ البدَنِ والنَّفسِ
(فمَن ماتَ أو أعسَرَ قبلَ الغُروبِ، فلا زكاةَ عليه) نصًّا؛ لعدَمِ وجودِ سببِ الوجوبِ. وكذا طلاقٌ، وعِتقٌ، أو انتقالُ مِلكٍ، فلا زكاةَ؛ لزوالِ السببِ قبلَ زمَنِ
(1)
سقطت: "وقد" من الأصل.
(2)
"المبدعِ"(2/ 385).
وبعدَهُ تَستَقِرُّ في ذِمَّته.
وهي واجِبةٌ على كُلِّ مُسلِمٍ، يجِدُ ما يفضُلُ عن قُوتِه وقُوتِ عِيالِه يومَ العيدِ وليلَتهُ، بعدَ ما يحتاجُهُ من مَسكنٍ، وخَادِمٍ، ودابَّةٍ، وثيِابِ بِذْلَةٍ، وكُتُبِ عِلمٍ.
وتلزمُه عن نفسِه، وعمَّن يَمونُه مِنَ المُسلمين
الوجوبِ (وبعدَه) أي: بعدَ الغُروبِ (تستقِرُّ في ذِمَّتِه) فيجِبُ عليه إخراجُها.
(وهي): زكاةُ الفِطرِ (واجبةٌ على كُل مُسلِمٍ) لحديثِ ابنِ عمرَ: فرَضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطرِ مِن رمضانَ، صاعًا مِن تمَرٍ، أو صاعًا مِن شعيرٍ، على العبدِ والحُرِّ، والذَّكرِ والأنثَى، والصَّغيرِ والكبيرِ مِنَ المسلمين. رواهُ الجماعةُ
(1)
. وفي حديثِ ابنِ عباسٍ: "طُهرَةً للصَّائمِ مِنَ الزَفَتِ واللَّغوِ، وطُعمَةً للمساكينِ"
(2)
. فلا تجِبُ على كافرٍ، ولو مُرتدًّا
(يجِدُ ما يفضُلُ عن قوتِه وقُوتِ عيالِه يومَ العيدِ وليلَتَه، بعدَ ما يحتاجُه) أي: المُخرِجُ ومَن تلزمُه مؤنتُه (مِن مسكنٍ، وخادمِ، ودابَّةٍ، وثيابِ بَذلَةٍ) بالفتحِ، والكسرُ لُغةٌ، أي: مِهنةٍ في الخدمَةِ. ونحوُ ذلكَ، كفرشٍ وغطاءٍ ووِطاءٍ وماعونٍ. قالَ الموفَّقُ:(وكتُبِ علمٍ) يحتاجُها لنظَرٍ وحِفظٍ.
(وتلزمُه عن نفسِه، وعمَّن يمُونُه مِنَ المسلمينَ) كزوجةٍ، وعبدٍ ولو لتجارةٍ، وولدٍ
(1)
أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984)، وأحمد (8/ 66)(4486)، وأبو داود (1611)، والترمذي (675)، والنسائي (2500)، وابن ماجه (1826).
(2)
أخرجه أبو داود (1609)، وحسنه الألباني.
فإن لم يجِد لجِميعِهم، بدَأ بنفسِهِ، فزوجَتهِ، فرقِيقِه، فأمِّهِ، فأبيه، فولَدِه،
(فإن لم يجِدْ لجميعِهم، بدأَ بنفسِه) لحديثِ: "ابدأْ بنفسِكَ، ثمَّ بمَن تعولُ"
(1)
. ولأنَّ الفِطرةَ تنبني على النَّفقةِ، فكما أنَّه يبدأُ بنفسِه في النفقةِ، فكذلك في الفِطرةِ (فزوجَتِه) يعني: أنَّه متى فضلَ عندَه صاعٌ عن فطرةِ نفسِه أخرَجَه عن زوجتِه؛ لأنَّ نفقتَها مُقدَّمةٌ على سائرِ النفقاتِ
(فرقيقِه) يعني أنَّه متَى فضَلَ عندَه شيءٌ عن فِطرتِه وفطرَةِ زوجتِه، أخرَجَه عن رقيقِه، لوجوبِ نفقَتِه مع الإعسارِ، بخلافِ نفقةِ الأقاربِ، فإنَّها صلةٌ لا تجِبُ إلَّا مع اليسارِ.
(فأمِّه) يعني: أنَّه متَى فضَلَ عندَه شيءٌ بعدَ مَنْ تقدَّمَ، أخرَجَه عن أُمِّهِ؛ لأنَّ الأمَّ مُقدَّمَةٌ في البِرِّ، بدليلِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ حينَ قالَ: مَن أبرُّ؟ قال: "أُمَّك ". قال: ثمَّ مَن؟ قال: "أمَّك". قال: ثمَّ مَن؟ قالَ: "أباكَ"
(2)
. ولضعفِها عنِ الكسبِ.
(فأبيهِ) لحديثِ: "أنتَ ومالُك لأبِيكَ"
(3)
.
(فولدِه) يعني: أنَّه متَى فضَلَ عندَه شيءٌ بعدَ مَن تقدَّمَ، أخرجَه عن ولدِه. فإن كان له أولادٌ ولم يكفِ لجميعِهم، أَقرَعَ. وقيلَ: يُقدِّمُ الصغيرُ
(1)
هو مركب من حديثين، الأول: أخرجه مسلم (997) من حديث جابر، بلفظ:"ابدأ بنفسك". والثاني: أخرجه البخاري (1426، 5355)، ومسلم (1042/ 106) من حديث أبي هريرة، بلفظ:"وابدأ بمن تعول". وانظر الإرواء (833، 834، 836).
(2)
أخرجه ابن ماجه (3658) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه أحمد (11/ 503)(6902) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وصححه الألباني في "الإرواء"(838).
فأقرَبَ في المِيرَاثِ.
وتجبُ على من تبرَّعَ بمؤُنَةِ شَخْصٍ شَهرَ رمضانَ، لا على مَنِ استأجَرَ أجِيرًا بطَعامِه.
وتُسنُّ عن الجَنين.
(فأقرَبَ في الِميراثِ) يعني: أنَّه متَى فضَلَ عندَه شيءٌ بعدَ مَن تقدَّمَ، وله أقاربُ، قدَّمَ الأقربَ فالأقربَ في المِيراثِ؛ لأنَّ الأقربَ أَوْلَى مِنَ الأبعدِ، فقُدِّمَ كالميراثِ.
(وتجِبُ على مَن تبرَّعَ بمؤنةِ شخصٍ شهرَ رمضانَ) نصًّا؛ لعُمومِ حديثِ: "أدُّوا صدقَةَ الفِطرِ عمَّن تمُونونَ"
(1)
. وروَى أبو بكرٍ، عن عليٍّ: زكاةُ الفطرِ على مَن جرَت عليه نفقَتُك
(2)
. وقالَ أبو الخطَّابِ: لا تلزمُه فطرتُه. وصحَّحُه في "المُغني" و"الشَّرحِ"، وحملَ كلامَ أحمدَ على الاستحبابِ
(3)
.
وإن تبرَّعَ بمؤنتِه بعضَ الشَّهرِ، أو جماعةٌ، فلا.
و (لا) تجِبُ (على مَن استأجَرَ أجيرًا بطعامِه) لأنَّ الواجبَ هنا الأبرةُ، فلا يُزادُ عليها.
(وتُسنُّ) الفِطرةُ (عنِ الجنينِ) لمَا رُوِيَ أنَّ عثمانَ كانَ يُخرجُها عنِ الجنينِ
(4)
. وعن أبي قِلابةَ قالَ: كان يُعجِبُهم أن يُعطُوا زكاةَ الفِطرَةِ عنِ الصَّغيرِ والكبيرِ، حتى عنِ الحملِ في بطنِ أُمِّهِ. رواهُ أبو بكرٍ في "الشَّافي". ولا تجِبُ عنه. حكاهُ ابنُ المُنذرِ إجماعَ مَن يحفَظُ عنه.
(1)
أخرجه الدارقطني (2/ 141) من حديث ابن عمر. وحسنه الألباني في "الإرواء"(835، 839).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 398).
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 282).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 432).
فَصْلٌ
والأفضلُ إخراجُها يومَ العيدِ قَبلَ الصَّلاةِ، وتُكَرهُ بعدَها. ويَحرُمُ تأخيرُها عن يومِ العِيدِ مع القُدرَةِ، ويَقضِيهَا
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
. .
(فصلٌ)
(والأفضَلُ إخراجُها) أي: الفِطرةِ (يومَ العيدِ قبلَ الصَّلاةِ) لأنَّه عليه السلام أمَرَ بها أن تُؤدَّى قبلَ خروجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ، في حديثِ ابنِ عُمرَ
(1)
. وقالَ في حديثِ ابنِ عباسٍ: "مَن أدَّاها قبلَ الصَّلاةِ، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَن أدَّاها بعدَ الصَّلاةِ، فهي صدقَةٌ مِنَ الصَّدقاتِ"
(2)
. (وتُكرَهُ بعدَها) أي: بعدَ صلاةِ العيدِ.
(ويحرُمُ تأخيرُها عن يومِ العيدِ، مع القُدرَةِ) لجوازِها فيه كلِّه؛ لحديثِ: "أغنوهُم في هذا اليومِ"
(3)
. وهو عامٌّ في جميعِه. ولذلك كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقسِمُها
(4)
بينَ مُستحقِّيها بعدَ الصَّلاةِ
(5)
. فعُلِمَ أنَّ أمرَهُ بتقديمِها
(6)
على الصَّلاةِ للاستحبابِ، وأنَّه لا يأثَمُ إلَّا إذا أخَّرَها عن يومِ العيدِ. (ويقضِيها) مِن أخَّرَها عن يومِ العيدِ، فتكونُ قضاءً.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
أخرجه أبو داود (1609)، وحسنه الألباني.
(3)
أخرجه الدارقطني (2/ 152) من حديث ابن عمر. وضعفه الألباني في "الإرواء"(844).
(4)
في الأصل: "لا يقسمها".
(5)
أخرجه ابن زنجويه في "الأموال"(2397) من حديث ابن عمر. وضعفه الألباني في "الإرواء"(845).
(6)
في الأصل: "بتقدُّمِها".
وتُجِزئُ قبلَ العيدِ بيومَينِ.
والواجِبُ عن كُلِّ شَخصٍ: صَاعُ تَمرٍ، أو زَبيبٍ، أو بُرٍّ، أو شَعيرٍ، أو أَقِطٍ. ويُجزِئُ دقيقُ البُرِّ والشَّعيرِ، إذا كان وَزنَ الحَبِّ.
(وتُجزِئُ قبلَ العيدِ بيومينِ) لقولِ ابنِ عمَرَ: كانوا يعطُونَ قبلَ الفِطرِ بيومٍ أو يومينِ. رواهُ البُخاريُّ
(1)
. وهذا إشارةٌ إلى جميعِهم، فيكونُ إجماعًا.
(والواجِبُ عن كلِّ شخصٍ: صاعُ تمرٍ، أو زبيبٍ، أو بُرٍّ، أو شعيرٍ، أو أقِطٍ): شيءٌ يُعمَلُ مِن لبنٍ مخيضٍ، أو مِن لبنِ إبلٍ فقط؛ لحديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ: كنَّا نُخرِجُ زكاةَ الفِطرِ إذ كانَ فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صاعًا مِن طعامٍ، أو صاعًا مِن شعيرٍ، أو صاعًا مِن تمرٍ، أو صاعًا مِن زبيبٍ، أو صاعًا مِن أقِطٍ. مُتَّفَقٌ عليه
(2)
. والصَّاعُ: أربعةُ أمدادٍ بصاعِه عليه السلام، وهو أربعُ حَفَناتٍ بكَفَّي رجلٍ مُعتدِلِ الخِلقَةِ. وحكمَتُه: كفايةُ فقيرٍ أيامَ عيدٍ.
(ويُجزئُ دقيقُ البُرِّ، و) دقيقُ (الشَّعيرِ، إذا كانَ وزنَ الحَبِّ) نصًّا، لتفرُّقِ الأجزاءِ بالطَّحنِ. واحتَجَّ أحمدُ على إجزاءِ الدَّقيقِ بزيادةٍ تفرَّدَ بها ابنُ عُيينةَ، مِن حديثِ أبي سعيدٍ:"أو صاعًا مِن دقيقٍ". قيلَ لابنِ عُيينَةَ: إنَّ أحدًا لا يذكرُه فيه. قالَ: بل هو فيه. رواهُ الدَّارقُطنيُّ
(3)
. قالَ المجدُ: بل هو أَوْلَى بالإجزاءِ؛ لأنَّه كفَى مُؤنتَه، كتمرٍ منزوعٍ نواهُ. ولو كانَ الدقيقُ بلا نخلٍ. كما يجزئُ حَبٌّ بلا تنقيةٍ.
(1)
أخرجه البخاري (1511).
(2)
أخرجه البخاري (1506)، ومسلم (985).
(3)
أخرجه الدارقطني (2/ 146)، وضعف الألباني هذه الزيادة. "ضعيف أبي داود"(286).
ويُخرِجُ مَعَ عدَمِ ذلِك ما يقُومُ مقامَهُ مِنْ حَبٍّ يُقتَاتُ، كَذُرَةٍ، ودُخْنٍ، وبَاقِلَاءٍ.
ويجوزُ أن تُعِطيَ الجماعةُ فِطرَتَهم لواحِدِ، وأنْ يُعطِيَ الواحِدُ فِطرَتَه لجماعَةٍ.
ولا يُجزئُ إخراجُ القيمةِ في الزَّكاةِ مُطلقًا.
ويحرُمُ على الشَّخصِ شِراءُ زَكاتِه وصَدَقَتِه، ولو اشتَراهَا مِنْ غَيرِ مَنْ أخذَهَا مِنُه.
(ويُخرِجُ مع عدَمِ ذلك ما يقُومُ مَقامَه) أي: مَقامِ أحدِهما (مِن حبٍّ يُقتاتُ، كذُرَةٍ، ودُخْنٍ، وباقلَّاءَ) وعدَسٍ، وأرزٍ، وتينٍ يابسٍ، وأشباهِه؛ لأنَّ ذلك أشبَهُ بالمنصوصِ عليه، فكانَ
(1)
أَوْلَى مِن غيرِه.
وقالَ ابنُ حامدٍ
(2)
: يجزئُه إخراجُ كلِّ ما يُقتاتُ مِن لبنٍ، ولحمٍ، وغيرِهما
(3)
.
(ويجوزُ أن تُعطِيَ الجماعةُ فطرتَهم لواحدٍ) نصَّ على ذلك. (وأن يُعطِيَ الواحدُ فِطرتَه لجماعةٍ. ولا يُجزئُ إخراجُ القيمةِ في الزكاةِ مُطلَقًا) ولو لحاجةٍ ومصلحةٍ. قالَه في "غايةِ المُنتهَى"
(4)
.
(ويحرُمُ على الشَّخصِ شراءُ زكاتِه وصدقَتِه) ولا يصِحُّ (ولو اشتراها مِن غيرِ مَن أخَذَها منه) لعودِها إليه. فإن رجَعَت إليه بإرثٍ أو وصيَّةٍ أو هبةٍ، أو أخَذَها مِن دَيْنِه، جازَ بلا كراهةٍ
(5)
.
(1)
في الأصل: "وكان".
(2)
في الأصل: "ماجه".
(3)
"معونة أولي النهى"(3/ 286).
(4)
"غايةِ المُنتهَى"(1/ 325).
(5)
انظر "غايةِ المُنتهَى"(1/ 325).
بابُ إخراجِ الزَّكاةِ
يجبُ إخراجُها فورًا، كالنَّذرِ والكفَّارةِ.
وله تأخيرُها لِزمَنِ الحَاجَةِ، ولقَريبٍ وجَارٍ، ولتَعذُّرِ إخراجِها مِنْ النِّصاب،
(بابٌ) فيما يتعلَّقُ بإخراجِ الزكاةِ
(إخراجُ الزكاةِ) أي: زكاةِ المالِ بعدَ أن تستقرَّ
(يجِبُ إخراجُها فورًا، كالنَّذرِ والكفَّارةِ) لأنَّ الأمرَ المُطلَقَ للفورِ، ومنه:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البَقَرَة: 43] يقتضِي الفوريَّةَ، بدليلِ:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعرَاف: 12] فوبَّخَه إذ
(1)
لم يسجُدْ حينَ أُمِرَ. وعن أبي سعيدِ بنِ المُعلَّى قال: كنْتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلم أُجبْه، ثمَّ أتيتُه فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنْتُ أُصلِّي. فقال: "ألم يقُلِ اللهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفَال: 24]. رواهُ أحمدُ والبخاريُّ
(2)
.
ولأنَّ السَّيدَ إذا أمَرَ عبدَه بشيءٍ فأهمَلَه، حسُنَ لومُه وتوبيخُه عُرفًا، ولم يكُنِ انتفاءُ قرينةِ الفورِ عُذرًا
(وله تأخيرُها) أي: الزكاةِ (لزَمَنِ الحاجةِ) كقَحطٍ ونحوِه، جزَمَ به الأصحابُ. وقيَّدَه جماعةٌ: بزمَنٍ يسيرٍ،
(و) له تأخيرُها؛ ليدفعَها (لقريبٍ، وجارٍ) لأنَّها على القريبِ صدقةٌ وصِلَةٌ. والجارُ في معناهُ. (ولتعذُّرِ إخراجِها) أي: الزكاةِ (مِن النِّصابِ) لغيبةِ المالِ، أو
(1)
في الأصل "إذا".
(2)
أخرجه أحمد (24/ 506)(15730)، والبخاري (4474).
ولو قَدِرَ أن يُخرِجَهَا من غيرِه.
ومَنْ جَحَدَ وجوبَها عالِمًا، كَفَرَ، ولو أخرَجَهَا. ومن منَعَها بُخلًا أو تَهاونًا، أُخِذَت مِنه، وعُزِّرَ.
ومَنْ ادَّعىَ إخراجَها، أو بَقَاءَ الحَولِ، أو نَقْصَ النِّصابِ، أو زوالَ المِلكِ، صُدِّقَ بلا يَمينٍ.
ويلزمُ أن يُخرِجَ عن الصَّغيرِ والمجنونِ وليُّهُما.
غَصبِه، وسرقَتِه، وكونِه دَينًا (ولو قَدِرَ أن يُخرِجَها مِن غيرِه) لم يلزَمْه؛ لأنَّ الإخراجَ مِن عينِ المُخرَجِ عنه هو الأصلُ، والإخراجُ مِن غيرِه رخصةٌ، ولا تنقلِبُ الرُّخصةُ تضييقًا.
(ومَن جحَدَ وجوبَها) أي: الزكاةِ (عالمًا) بوجوبِها (كفَرَ) لتكذيبِه للهِ ورسولِه، وإجماعِ الأُمَّةِ. فيُستتابُ ثلاثًا، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ كُفرًا (ولو أخرَجَها) جاحدًا؛ لظُهورِ أدلَّةِ الوجوبِ، فلا عُذرَ له
(ومَن منَعَها) أي: الزكاةَ (بُخلًا) بها (أو تهاونًا) بلا جَحدٍ (أُخِذَت مِنه) قهرًا، كدَينِ آدَميٍّ وخَراجٍ. (وعُزِّرَ) مَن علمَ تحريمَ المنعِ بخلًا أو تهاونًا.
(ومَن ادَّعَى إخراجَها) أي: الزكاةِ (أو) ادَّعَى (بقاءَ الحولِ، أو) ادَّعَى (نقصَ النِّصابِ، أو) ادَّعَى (زوالَ المِلكِ) عنِ النِّصابِ (صُدِّقَ بلا يمينٍ) لأنَّها عبادةٌ مُؤتَمنٌ عليها، فلا يُستحلَفُ عليها، كالصَّلاةِ والكفَّارةِ، بخلافِ وصيَّةٍ لفُقراءَ
(1)
بمالٍ
(ويلزَمُ أن يُخرِجَ عن) مالِ (الصَّغيرِ والمجنونِ وليُّهما) في مالِهما. نصَّ عليه.
(1)
في الأصل: "الفقراء".
ويُسنُّ: إظهارُها، وأن يفرِّقَها ربُّها بنَفسِهِ، ويقولَ عندَ دفعِهَا: اللَّهمَّ اجعلهَا مغنَمًا، ولا تجعَلْهَا مغرَمًا. ويقولُ الآخِذُ: آجركَ اللهُ فيما أعطيتَ، وبارَكَ لكَ فيما أبقيتَ، وجعلَه لكَ طَهُورًا.
كما يجِبُ عليه صرفُ النَّفقَةِ الواجبةِ؛ لأنَّ ذلك حقٌّ تدخُلُه النيابةُ، فقامَ الوليُّ فيه مقامَ المُولَّى عليه، كالنَّفقاتِ والغَراماتِ. ومحلُّ ذلك: إذا كان كلٌّ مِنَ الصَّغيرِ والمجنونِ حُرًّا مُسلمًا، تامَّ الِملكِ. وذلك لأنَّ نيَّةَ الصَّغيرِ ضعيفةٌ، والمجنونُ لا تتحقَّقُ منه نيَّةُ الزكاةِ، مع وجوبِ الزكاةِ في مالِهما؛ لمَا تقدَّمَ: أنَّه لس مِن شُروطِ وجوبِ الزكاةِ بلوغٌ ولا عقلٌ
(1)
.
(ويُسنُّ: إظهارُها) لتَنتَفِيَ التُّهمَةُ عنه، ويُقتدَى به.
(وأن يُفرِّقَها ربُّها) أي: الزكاةِ (بنفسِه) ليتيقَّنَ وصولَها إلى مُستحقِّها، وكالدَّينِ. وسواءٌ المالُ الظَّاهرُ والباطنُ.
(و) يُسنُّ أن (يقُولَ عندَ دفعِها) أي: الزكاةِ: (اللهمَّ اجعَلْها مَغنمًا) أي: مُثمرَةً (ولا تجعلها مَغرمًا) أي: منقصَةً؛ لأنَّ التثميرَ كالغنيمةِ، والتنقيصَ كالغرامَةِ؛ لخبَرِ أبي هُريرةَ مرفوعًا:"إذا أعطيْتُم الزكاةَ فلا تنسَوْا ثوابَها: أن تقولُوا: اللهُمَّ اجعَلْها مَغنمًا، ولا تجعَلْها مَغرمًا". رواهُ ابنُ ماجَه
(2)
. قال بعضُهم: ويحمَدُ اللهَ على توفيقِه لأدائِها.
(ويقولُ الآخِذُ) للزكاةِ: (آجرَكَ اللهُ فيما أعطيْتَ، وبارَكَ لكَ فيما أبقيْتَ، وجعَلَه لك طَهُورًا) لقولِه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
(1)
"معونة أولي النهى"(3/ 294).
(2)
أخرجه ابن ماجَه (1797) قال الألباني: موضوع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَلَيْهِمْ} [التّوبَة: 103] أي: ادعُ لهم. قال عبدُ اللهِ بنُ أبي أوفَى: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاهُ قومٌ بصدقَتِهم قال: "اللهمَّ صلِّ على آلِ فلانٍ". فأتاهُ أبي بصدقَتِه فقال: "اللهمَّ صلِّ على آلِ
(1)
أبي أوفَى". مُتفَقٌ عليه
(2)
. وهو محمولٌ على النَّدبِ؛ لأنَّه عليه السلام لم يأمُرْ به سُعاتَه.
* * *
(1)
سقطت: "آل" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (1497)، ومسلم (1078).
فَصْلٌ
ويُشترطُ لإخراجِها: نيَّةٌ مِن مُكلَّفٍ، وله تقديمُها بيَسيرٍ، والأفضلُ قرنُها بالدَّفع.
فينوي الزَّكاةَ أو الصَّدقةَ الواجِبَةَ، ولا يُجزِئُ أنْ ينوي صدقةً مُطلقةً ولو تصدَّق بجميعِ مالِه.
(فصلٌ)
(ويُشترَطُ لإخراجِها) أي: الزكاةِ (نيَّةٌ) لحديثِ: "إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ"
(1)
. ولأنَّها عبادةٌ يتكرَّرُ وجوبُها، فافتقَرَت إلى تعيينِ النيَّةِ، كالصلاةِ. ولأنَّ صرفَ المالِ إلى الفقيرِ به جهاتٌ مِن زكاةٍ، وكفَّارَةٍ، ونذرٍ، وصدقَةِ تطوُّعٍ، فاعتُبِرَت نيَّةُ التَّمييزِ.
ويُشترَطُ أن يكونَ إخراجُها (مِن مُكلَّفٍ) لأنَّه تصرُّفٌ ماليٌّ أشبَهَ سائرَ التَّصرُّفاتِ الماليَّةِ
(وله تقديمُها) أي: النيَّةِ على الإخراجِ (بـ) زمنٍ (يسيرٍ) كصلاةٍ. ولو عزَلَ الزكاةَ، لم تكفِ النيَّةُ. (والأفضَلُ قرنُها) أي: النيَّةِ (بالدَّفعِ) كصلاةٍ
(فينوِي) المُخرِجُ (الزَّكاةَ أو الصدقَةَ الواجبَةَ) أو صدقةَ المالِ، أو صدقَةَ الفِطرِ (ولا يُجزِئُ أن ينويَ
(2)
صدقَةً مُطلقَةً، ولو تصدَّقَ بجميعِ مالِه) كنيَّةِ صلاةٍ مُطلقَةٍ، فإنَّها لا تُجزئُ عنِ الفرضِ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في الأصل: "إن نوى".
ولا تَجِبُ نيَّةُ الفرضِيَّةِ، ولا تَعييِنُ المالِ المُزكَّى عنهُ.
وإن وكَّلَ في إخراجِها مُسلِمًا، أَجزَأَت نيَّةُ الموَكِّلِ معَ قُربِ الإخراجِ، وإلَّا نَوَى الوَكيلُ أيضًا.
(ولا تجِبُ نيَّةُ الفرضيَّةِ) اكتفاءً بنيَّةِ الزكاةِ؛ لأنَّها لا تكونُ إلَّا فرضًا.
(ولا) يجِبُ (تعيينُ المالِ
(1)
المُزكَّى عنه) ولو اختلَفَ المالُ، كشاةٍ عن خمسٍ مِن إبلٍ، وأُخرَى عن أربعينَ مِن غنمٍ، ودينارٍ عن أربعينَ تالفَةً، وآخرَ عن أربعينَ قائمةً. وصاعٍ عن فِطرَةٍ، وآخرَ عن زرعٍ أو ثمرٍ.
(وإن وكَّلَ) ربُّ المالِ (في إخراجِها) أي: الزكاةِ (مُسلِمًا) ثِقةً مُكلَّفًا، ذَ كَرًا أو أُنثَى. قالَه في "شرحِه"
(2)
(أجزأَت نيَّةُ المُوكِّلِ) فقَط، عن نيَّةِ الوكيلِ (مع قُربِ) زمَنِ (الإِخراجِ) مِن زمنِ توكيلٍ؛ لأنَّ الفرضَ مُتعلِّقٌ بالمُوكِّلِ. وتأخُّرُ الأداءِ عنِ النيَّةِ بزمَنٍ يسيرٍ جائزٌ. (وإلَّا) يقرب زمنُ إخراجٍ مِن زمنِ توكيلٍ (نوَى الوكيلُ أيضًّا) كما ينوي المُوكِّلُ؛ لئلَّا يخلُوَ الدَّفعُ إلى
(3)
المُستحِقِّ عن نيَّةٍ مقارنةٍ أو مقارِبةٍ. فينوي مُوكِّلٌ عندَ التوكيلِ، ووكيلٌ عندَ الدَّفعِ لنحوِ الفُقراءِ، أو قريبًا منه. ولو نوَى وكيلٌ فقط، لم يُجزئْ؛ لتعلُّقِ الفرضِ بالمُوكِّلِ ووقوعِ الإجزاءِ عنه.
وفي توكيلِ مُميِّزٍ في إخراجِها خلافٌ، ذكَرَه العلَّامةُ الشيخُ منصورُ في "حاشيتِه"، وجزَمَ في "الإقناعِ" بالصِّحةِ
(4)
. وخالَفَه العلَّامةُ عمُّ والدي الشيخُ
(1)
في الأصل: "مال".
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 299).
(3)
سقطت: "إلى" من الأصل.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 299).
والأفضَلُ جَعْلُ زكاةِ كُلِّ مالٍ في فُقراءِ بلَدِه، ويحرُمُ نقلُها إلى مسافَةِ قَصرٍ، وتُجزِئُ.
مرعي في "غايةِ المُنتهى"
(1)
، وعلَّلَ ذلك بأنه ليسَ أهلًا لأداءِ العبادةِ الواجبةِ، ولأنَّه لا يُخرِجُ زكاةَ نفسِه، فغيرُه أَوْلَى. انتهى.
(والأفضَلُ جعلُ زكاةِ كلِّ مالٍ في فقراءِ بلَدِه) ويجوزُ نقلُها إلى دونَ مسافةِ قصرٍ مِن بلدِ المالِ، نصَّ عليه؛ لأنَّه في حكمِ بلدٍ واحدٍ؛ بدليلِ الأحكامِ، ورُخَصِ السَّفرِ
(2)
.
(ويحرُمُ نقلُها إلى مسافةِ قصرٍ) أي: إلى بلدٍ تقصُرُ الصَّلاةُ فيه، مع وجودِ مُستحقٍّ؛ لحديثِ مُعاذٍ:"أعلِمْهم أنَّ اللهَ قد افتَرَضَ عليهم صدقةً تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم، فتُرَدُّ على فقرائِهم"
(3)
. فظاهرُه: عودُ الضميرِ إلى أهلِ اليمنِ. ولإنكارِ عُمَرَ على معاذٍ لمَّا بعَثَ إليه بثلُثِ الصدقَةِ، ثمَّ بشطرِها، ثم بها. وأجابَه معاذٌ بأنَّه لم يبعَثْ إليه شيئًا وهو يجدُ أحدًا يأخذُهُ منه. رواهُ أبو عُبيدٍ
(4)
. ومحلُّه: إن لم يُفضِ إلى تشقيصٍ، كما ذكَرَه في "شرحِهِ"
(5)
.
(وتُجزئُ) زكاةُ نقَلَها فوقَ المسافةِ، وأخرجَها في غيرِ بلَدِ المالِ، مع حُرمَةِ النقلِ؛ لأنَّه دفَعَ الحقَّ إلى مُستحقِّهِ، فبرئَ، كالدَّينِ.
(1)
"غايةِ المُنتهى"(1/ 329).
(2)
انظر "الروض المربع مع الحاشية"(3/ 300).
(3)
أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19) من حديث ابن عباس.
(4)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(1913).
(5)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 300).
ويَصِحُّ تَعجِيلُ الزَّكاةِ لِحَولَين فَقَط، إذا كَمُلَ النِّصابُ، لا مِنهُ للحولَينِ، فإن تلِفَ النِّصابُ أو نَقَصَ، وقعَ نفلًا.
(ويصحُّ تعجيلُ الزكاةِ لحولَيْنِ) لحديثِ أبي
(1)
عُبيدٍ في "الأموالِ"
(2)
عن عليٍّ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تعجَّلَ مِنَ العباسِ صدقةَ سَنتينِ (فقط) أي: لا أكثرَ مِن حولينِ؛ اقتصارًا على ما ورَدَ، مع مخالفَتِه القياسَ.
(إذا كمُلَ النِّصابُ) لأنَّه سببُها، فلا يجوزُ تقديمُها عليه، كالكفَّارةِ على الحلفِ. قال في "المغني": بغيرِ خلافٍ نعلَمُه (لا منه للحولَيْنِ) أي: فلا يصحُّ أن يُعجِّلَ مِنَ النِّصابِ للحولينِ؛ لنقصِ النِّصابِ، (فإنْ تلِفَ النِّصابُ) أي: المُعجَّلُ
(3)
، (أو نقَصَ، وقَعَ نفلًا) نصًّا.
وقيلَ: يملِكُ الرجوعَ فيما أخرَجَه. قال القاضي في "الخلافِ": وأومأَ إليه في روايةِ مهنَّا
(4)
.
* * *
(1)
في الأصل: "ابن"
(2)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(1886)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(857).
(3)
في الأصل: "المعجل فإنه".
(4)
انظر "الإنصاف"(7/ 197).
بابُ أهلِ الزَّكاةِ
وهم ثمانيةٌ:
الأوَّلُ: الفقيرُ، وهو مَنْ لَم يجِدْ نِصفَ كِفَايَتهِ.
(بابُ) مَن يُجزِئُ دفعُ الزكاةِ إليه ومَن لا يُجزئُ، وحُكمِ السُّؤالِ، وصدقةِ التَّطوعِ
(أهل) أخذِ (الزكاةِ)
(وهم ثمانيةُ) أصنافٍ. فلا يجوزُ صرفُها لغيرِهم، كبناءِ مساجدَ، وقناطِرَ، وتكفينِ موتَى، ووقفِ مصاحِفَ وغيرِها؛ لقولِه تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التّوبَة: 60]. وكلمةُ: "إنِّما" تفيدُ الحصرَ، فتُثبِتُ المذكورين، وتنفِي مَن عدَاهُم. وكذا تعريفُ "الصدقاتِ" بـ"أل"، فإنَّه يَستغرِقُها. فلو جازَ صرفُ شيءٍ منها إلى غيرِ الثَّمانيةِ، لكانَ لهم بعضُها، لا كلُّها. ولحديثِ:"إنَّ اللهَ لم يرضَ بحُكمِ نبيٍّ ولا غيرِه في الصدقاتِ حتى حكَمَ فيها هو، فجزَّأَها ثمانيةَ أجزاءٍ، فإن كنْتَ مِن تلك الأجزاءِ أعطيتُكَ". رواهُ أبو داودَ
(1)
.
(الأوَّلُ: الفقيرُ، وهو مَن لم يجِدْ نصفَ كفايتِه) وهو أشدُّ حاجةً مِنَ المِسكينِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى بدأَ به، وإنَّما يُبدأُ بالأهمِّ فالأهمِّ. وقال سبحانه وتعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فأخبرَ أنَّ المساكينَ لهم سفينةٌ يعملون فيها. ولأنَّ الفقيرَ مُشتقٌّ مِن فِقَرِ الظَّهرِ، فعيلٌ بمعنَى
(1)
أخرجه أبو داود (1630) من حديث زياد بن الحارث الصدائي. وضعفه الألباني.
الثاني: المسكينُ، وهو مَنْ يجِدُ نِصفَها، أو أَكثَرهَا.
الثالثُ: العاملُ علَيها، كجَابٍ، وحَافِظٍ، وكَاتِبٍ، وقَاسِمٍ.
مفعولٍ، أي: مفقورٍ، وهو الذي نُزِعَت فِقرَةُ ظهرِه، فانقطَعَ صُلبُه
(1)
.
والصِّنفُ (الثاني: المسكينُ، وهو مَن يجِدُ نصفَها) أي: نصفَ كفايتِه، (أو أكثرَها) وهو تفعيلٌ مِنَ السُّكونِ، وهو الذي أسكَنتْهُ الحاجةُ. فعُلِمَ: أنَّ مَن كُسِرَ صُلبُه أشدُّ حالًا مِنَ السَّاكنِ.
إذا تقدَّرَ هذا: فالفقراءُ همُ الذين لا يجدونَ ما يقَعُ موقِعًا مِن كفايتِهم، كالزَّمنَى والعُميانِ، وأنَّ هؤلاءَ في الغالبِ لا يقدرونَ على اكتسابِ ما يقَعُ موقعًا مِن كفايتِهم، وربَّما لا يقدِرونَ على شيءٍ أصلًا. قالَ اللهُ سبحانه وتعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البَقَرَة: 273].
الصِّنفُ (الثَّالثُ: العامِلُ عليها، كجابٍ) يبعثُه إمامٌ لأخذِ زكاةٍ مِن أربابِها (وحافِظٍ، وكاتبٍ، وقاسِمٍ) ومَن يُحتاجُ إليه فيها؛ لدخولِهم في قولِه تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التّوبَة: 60] وكانَ عليه السلام يبعَثُ على الصدقَةِ سُعاةً، ويُعطِيهم عِمالَتَهم
(2)
.
وشُرِطَ: كونُه "مُكلَّفًا"؛ لأنَّ الصَّغيرَ والمجنونَ، لا قبضَ لهما. "مُسلمًا"؛ فإنَّ ذلك ولايةٌ على المسلمينَ، فاشتُرِطَ له الإسلامُ. "أمينًا"؛ لأنَّ غيرَ الأمينِ يذهَبُ
(1)
انظر "الشرح الكبير"(7/ 208).
(2)
فبعث عمر وأبا موسى وابن اللتيبة وغيرهم. قاله في "الشرح الكبير"(7/ 222).
الرابعُ: المؤلَّفُ، وهو السِّيدُ المُطَاعُ في عَشِيرَتِه؛ ممَّن يُرجَى إسلامُه، أو يُخشَى شَرُّه، أو يُرجَى بعطيَّتِه قوَّةُ إيمانِه،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
بمالِ الزكاةِ ويُضيِّعُه. "كافيًا" في ذلك. "مِن غيرِ ذوي القُربَى"، وهم: بنو هاشمٍ.
ولو كانَ قِنًّا، أو كانَ العاملُ غنيًّا، ويُعطَى قدرَ أُجرتِه منها. قال في "الإقناعِ"
(1)
: واشتراطُ ذُكوريَّتِه أَوْلَى.
الصِّنفُ (الرابعُ: المُؤلَّفُ) لقولِه سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التّوبَة: 60]. (و) المُؤلَّفُ (هو: السَّيِّدُ المُطاعُ في عشيرتِه، ممَّن يُرجَى إسلامُه، أو يُخشَى شرُّه) لحديثِ أبي سعيدٍ قالَ: بعَثَ عليٌّ وهو باليمنِ بذُهيبةٍ
(2)
، فقسَمَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ أربعةِ نفَرٍ: الأقرعِ بنِ حابسٍ الحنظليِّ، وعُيينةَ بنِ بدرٍ الفَزاريِّ، وعلقَمةَ بنِ عُلاثَةَ العامريِّ، ثمَّ أحدِ بني كِلابٍ
(3)
، وزيدِ الخيرِ الطائيِّ، ثمَّ أحدِ بني نبهانَ، فغضِبَتْ قريشٌ، وقالوا: تُعطِي صناديدَ نجدٍ وتدَعُنا؟! فقال: "إنِّي إنِّما فعَلْتُ ذلك؛ لأتألَّفَهم" مُتَّفَقٌ عليه
(4)
. قال أبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ: وإنِّما الذي يُؤخَذُ مِن أموالِ أهلِ اليمَنِ الصدَقَةُ.
(أو يُرجَى بعطيَّتِه قوَّة إيمانِه) لقولِ ابنِ عباسٍ في المُؤلَّفَةِ قُلوبُهم: هم قومٌ كانوا يأتون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يرضَخُ لهم مِنَ الصَّدقاتِ، فإذا أعطَاهُم مِنَ الصدقَةِ، قالوا: هذا دِينٌ صالحٌ. وإن كانَ غيرَ ذلك، عابُوه
(5)
. رواهُ
(1)
"الإقناعِ"(1/ 469).
(2)
في الأصل: "بذَهبيَّةٍ".
(3)
في الأصل: "كلام".
(4)
أخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064).
(5)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(14/ 313).
أو جِبايتُها ممَّن لا يُعطيِها.
الخامِسُ: المُكاتَبُ.
السادِسُ: الغارمُ، وهوَ من تَديَّنَ للإِصلاحِ بينَ النَّاس، أو تَديَّن لنفسِهِ وأَعسَرَ.
أبو بكرٍ في "التفسيرِ".
(أو) لأجلِ (جبايتِها) أي: الزكاةِ (ممَّن لا يُعطِيها) إلَّا بالتخويفِ
الصِّنفُ (الخامسُ: المُكاتَبُ) قدِرَ على تكسُّبٍ، أو لا؛ لقولِه تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} [البَقَرَة: 177].
الصِّنفُ (السادِسُ: الغارِمُ، وهو) ضربانِ:
الأوَّلُ: (مَن تَديَّنَ للإصلاحِ بينَ النَّاسِ) أي: وصْلٍ، كقبلتَينِ، أو أهلِ قريتيْنِ، ولو ذِمِّيِّين تشاجرُوا في دماءٍ أو أموالٍ، وخيفَ منه، فتوسَّطَ بينَهم رجُلٌ، وأصلَحَ بينَهم، والتزَمَ في ذِمَّتِه مالًا، عِوضًا عمَّا بينَهم؛ لتسكينِ الفتنةِ، فقد أتَى معروفًا عظيمًا، فكانَ مِنَ المعروفِ حملُه عنه مِنَ الصدقَةِ؛ لئلَّا يُجحِفَ بسادةِ القومِ المُصلِحينَ. وكانت العرَبُ تفعَلُ ذلك، فيتحمَّلُ الرَّجلُ الحَمالَةَ -بفتحِ الحاءِ- ثمَّ يخرُجُ في القبائلِ، يسألُ حتَّى يُؤدِّيَها، فأقرَّت الشريعةُ ذلك، وأباحَتِ المسألةَ فيه، وجعَلَ لهم نصيبًا مِنَ الصدقَةِ.
الثَّاني: مِن ضَربَي
(1)
الغارِمِ، ما أشارَ إليه بقولِه:(أو تَديَّنَ لنفسِه) في شيءٍ مُباحٍ. أو تَديَّنَ لنفسِه في شيءٍ مُحرَّمٍ وتابَ منه (وأَعسَرَ) بالدَّينِ؛ لقولِه تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التّوبَة: 60].
(1)
في الأصل: "ضرب".
السابعُ: الغازِي في سَبيلِ الله.
الثامِنُ: ابنُ السَّبيلِ، وهو الغَريبُ المُنقَطِعُ بغَيرِ بلَدِه.
فيُعطى غارمٌ وفاءَ دَينِه. ودَيْنُ اللهِ عز وجل كدَيْنِ الآدميِّ. لعُمومِ قولِه سبحانه وتعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التّوبَة: 60] ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطَى سلَمَةَ
(1)
بنَ صخرٍ صدقَةَ بني زُرَيقٍ؛ ليُكفِّرَ منها كفَّارةَ الظِّهارِ
(2)
.
وإن دَفَعَ إلى غارمٍ ما يَقضِي به دينَه، لم يجز له صرفُه في غَيرِه، ولو كان فقيرًا. وإن دفَعَ إلى الغارِمٍ لفَقرِه
(3)
، جازَ أن يَقضِيَ به دينَهُ.
الصِّنفُ (السَّابعُ: الغَازي في سبيلِ اللهِ) لقولِه تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التّوبَة: 60] فيُعطَى، ولو غنيًّا، ما يحتاجُ إليه لغزوهِ ذهابًا وإيابًا، وثمنَ سلاحٍ ودِرعٍ وفرَسٍ إن كان فارِسًا.
وإن لم يغْزُ مَن أخَذَ فرسًا أو غيرَها مِنَ الزكاةِ، ردَّها على إمامٍ؛ لأنَّه أُعطِيَ على عملٍ ولم يعمَلْه.
الصِّنفُ (الثَّامنُ: ابنُ السَّبيلِ، وهو الغريبُ المُنقطِعُ بغيرِ بلدِه) لقولِهِ تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ} [البَقَرَة: 177] وهو المسافرُ المُنقطِعُ بغيرِ بلَدِه بسفَرٍ مُباحٍ، أو مُحرَّمٍ وتابَ مِنه؛ لأنَّ التَّوبةَ تجُبُّ ما قبلَها.
ولا يُعطَى ابنُ السَّبيلِ في سفَرٍ مكروهٍ، ولا في سفَرِ نُزهَةٍ
(1)
في الأصل: مسلمة، وهو سلمة بن صخر بن سلمان بن الصمة الخزرجي. ينظر "الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 419.
(2)
أخرجه الترمذي (3299) من حديث سلمة بن صخر. وصححه الألباني.
(3)
سقطت: "به دينه، لم يجز له صرفه في غيره ولو كان فقيرًا، وإن دفع إلى الغارم لفقره" من الأصل. وانظر "معونة أولي النهى"(3/ 324).
فيعُطِي للجَميعِ مِنَ الزَّكاةِ بقدِرِ الحاجَةِ، إلَّا العامِلَ فيعُطَى بقدرِ أُجرَتِه، ولو غَنِيًّا، أو قِنًّا.
ويُجزِئُ دفعُها إلى الخَوَارِج والبُغاةِ، وكذلِكَ مَنْ
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
(فيُعطِي للجميعِ) أي: مِنَ الأصنافِ الثَّمانيةِ (مِنَ الزكاةِ بقدرِ الحاجةِ) التي أُخِذَ بسببِها، فيزيدُ ذا الحاجةِ بقدرِ حاجتِه (إلَّا العاملَ فيُعطَى بقدرِ أُجرَتِه) منها، سواءٌ جاوزَت ثمَنَ ما جبَاه، أو لا. نصًّا. فإن تلِفَتِ الزكاةُ بلا تفريطٍ، أُعطِيَ مِن بيتِ المالِ.
ويُقدَّمُ العاملُ بأُجرتِه على غيرِه مِن أهلِ الزكاةِ. قاله في "الإنصافِ"
(1)
.
"تنبيهٌ": بنَى بعضُ الأصحابِ الخلافَ هنا على ما يأخذُهُ العامِلُ: إن قُلْنا: ما يأخُذُه أُجرَةٌ. لم يُشترَطْ إسلامُه. وإن قُلْنا: هو زكاةٌ. اشتُرِطَ إسلامُه. والصَّحيحُ مِنَ المذهبِ المنصوصِ عنِ الإمامِ: أنَّ ما يأخُذُه أجرَةٌ. قالَه في "الإنصافِ"
(2)
.
(ولو) كان العاملُ (غنيًّا) لخبرِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: "لا تحِلُّ الصدقَةُ لغنيٍّ إلَّا لخمسَةٍ: لعاملٍ، أو رَجُلٍ اشتراها بمالِه، أو غَارمٍ، أو غازٍ في سبيلِ اللهِ، أو مِسكينٍ تُصدِّقَ عليه منها، فأهدَى منها لغنيٍّ". رواهُ أبو داودَ، وابنُ ماجَه
(3)
. (أو) كان العاملُ (قِنًّا) فلا تُشترَطُ حرِّيتُه؛ لحديثِ: "اسمَعُوا وأطيعُوا، وإن استُعمِلَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأنَّ رأسَه زبيبةٌ". رواهُ أحمدُ، والبُخاريُّ
(4)
.
(ويُجزئُ دفعُها) أي: الزكاةِ (إلى الخَوارجِ والبُغاةِ) نصًّا. (وكذلك مَن
(1)
"الإنصافِ"(7/ 257).
(2)
"الإنصافِ"(7/ 226).
(3)
أخرجه أبو داودَ (1636)، وابنُ ماجَه (1841)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه أحمدُ (19/ 178)(12126)، والبُخاريُّ (7142) من حديث أنس.
أخذَهَا مِنَ السَّلاطِينِ، قَهرًا أو اختَيارًا، عدَلَ فيها أو جَارَ.
أخذَها) أي: الزكاةِ (مِنَ السَّلاطينِ؛ قهرًا أو اختيارًا، عدَلَ فيها أو جارَ). قال في "الشرحِ": لا يختلِفُ المذهَبُ أنَّ دفعَها للإمامِ جائزٌ، سواءٌ كانَ عدْلًا أو غيرَ عدْلٍ، وسواءٌ كانت مِنَ الأموالِ الظَّاهرةِ أو الباطنةِ. ويبرأُ بدفعِها، سواء تلفتْ في يد الإمامِ أو لا، أو صَرَفَها في مَصرِفِها، أو لم يصرفْها. انتهَى.
وقيلَ لابنِ عمَرَ: إنَّهم يُقلِّدونَ بها الكلابَ، ويشربون بها الخُمورَ. فقالَ: ادفعْها إليهم
(1)
. حكاهُ عنه أحمدُ. وفي "الأحكامِ السُّلطانيَّةِ" و"الإقناعِ": يحرُمُ دفعُها إليه إن وضعَها في غيرِ مواضعِها. ويجِبُ كتمُها عنه إذَنْ. انتهَى
(2)
.
* * *
(1)
أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة (2/ 384).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 296).
فَصْلٌ
ولا يُجزِئُ دفعُ الزَّكاةِ للِكافِر، ولا للِرَّقِيقِ، ولا للِغَنيِّ بمَالٍ أو كَسْبٍ، ولا لِمَنْ تلزَمُهُ نفقَتُهُ، ولا للِزَّوجِ، ولا لِبني هَاشمٍ.
فإن دفَعَها لغيرِ مُستَحِقِّهَا وهو يَجهَلُ، ثُمَّ عَلِمَ، لم يُجزِئْه ويَستَرِدُّها مِنهُ بنَمائِها.
وإن دَفَعَها لمن يَظنُّه فقيرًا، فبانَ غَنيًا، أجزأَ.
(فصلٌ)
(ولا يُجزئُ دفعُ الزكاةِ للكافرِ) غيرِ مُؤلَّفٍ. حكاهُ ابنُ المُنذرِ إجماعًا.
(ولا) يُجزئُ دفعُ الزكاةِ (للرقيقِ) أي: كاملِ الرِّقِّ، مِن قِنٍّ ومُدبَّرٍ ومُعلَّقٍ عتقُه بصفَةٍ، ولو كانَ سيِّدُه فقيرًا ونحوه، لاستغنائِه بنفقَةِ سيِّدِه.
(ولا) يُجزئُ دفعُها (للغنيِّ بمالٍ أو كسبٍ، ولا) يُجزئُ دفعُها (لمَن تلزمُه نفقَتُه) أي: سائرِ مَن تلزمُه نفقتُه، ممَّن يَرِثُه بفرضٍ أو تعصيبٍ.
(ولا) يُجزئُ دفعُها (للزَّوجِ) لأنَّها تعودُ إليه بإنفاقِه عليها.
(ولا) يُجزِئُ دفعُها (لبني هاشمٍ) ذكورًا كانوا أو إناثًا
(فإن دفعَها) أي: الزكاةَ (لغيرِ مُستحقِّها، وهو يجهَلُ) حالَه؛ بأن دفعَها لعبدِ، أو كافرٍ، أو هاشميٍّ، وهو لا يعلَمُ، (ثمَّ عَلِمَ) حالَه (لم يُجزئْهُ) لأنَّه لا يخفَى حالُه غالبًا (ويَستَرِدُّها منه بنمائِها). فإن تلِفَت، ضمِنَها قابضٌ. وإن كانَ الدَّافعُ الإمامَ أو نائبَه، فعليه الضَّمانُ.
(وإن دفعَها) أي: الزكاةَ (لمَن يظنُّه فقيرًا، فبانَ غنيًّا، أجزأَ) لأنَّ الغِنى ممَّا يخفَى.
وسُنَّ أن يفرِّقَ الزَّكاةَ على أقارِبِه الذين لا تلزمُه نفقتُهم، على قدرِ حاجتِهم، وعلى ذَوِي أرحامِه كعمَّتِه، وبنتِ أخيهِ.
وتُجزِئُ إن دَفَعها لِمن تبرَّع بنفقتِه بضَمِّه إلى عِيَالِه.
(وسُنَّ أن يُفرِّقَ الزكاةَ على أقاربِه الذين لا تلزمُهم نفقَتُهم) كخالِه وخالتِه (على قَدرِ حاجَتِهم) فيزيدُ ذا الحاجةِ بقدرِ حاجَتِه؛ لحديثِ: "صدقَتُك على ذي القرابةِ صدقةٌ وصِلَةٌ" رواهُ الترمذيُّ، والنسائيُّ
(1)
. ويبدأُ بأقربَ فأقرَبَ (وعلى ذوي أرحامِهِ، كعمَّتِه وبنتِ أخيهِ) والعمِّ لأمِّ، والعمَّاتِ، وأبي الأمِّ.
(وتُجزئُ)
(2)
أي: الزكاةُ (إنْ دفعَها لمَن تبرَّعَ بنفقَتِه بضمِّه إلى عيالِه) كيتيمٍ غيرِ وارثٍ؛ لدخُولِه في العُموماتِ، ولا نصَّ، ولا إجماعَ يُخرجُه، بل روَى البخاريُّ
(3)
: أنَّ امرأةَ عبدِ اللهِ سألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن بني أخٍ لها أيتامٍ في حجرِها، أفتُعطِيهم
(4)
زكاتَها؟ قال "نعَم".
* * *
(1)
أخرجه الترمذيُّ (658)، والنسائيُّ (2582) من حديث سلمان بن عامر. وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "وتُجزئُه".
(3)
أخرجه البخاري (1466).
(4)
في الأصل: "فتعطيهم".
فَصْلٌ
وتُسَنُّ صدَقةُ التَّطوُّع
في كُلِّ وقتٍ، لا سِيَّمَا سِرًّا، وفي الزَّمَانِ أو المكانِ الفاضِلِ، وعلى جارِه وذَويِ رَحِمِه فهِيَ صَدَقةٌ وصِلَةٌ.
ومن تصدَّقَ بما يُنقِصُ مؤُنةً تلزَمُه،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(فصلٌ)
(وتُسنُّ صدقةُ التَّطوعِ) بفاضِلٍ عن كفايةٍ دائمةٍ بمتجرٍ، أو غلَّةٍ، أو صنعَةٍ، عنه وعمَّن يمونُه (في كلِّ وقتٍ) لإطلاقِ الحثِّ عليها في الكتابِ والسُّنَّةِ (لا سيَّما سرًّا) بطيبِ نفسٍ في صحَّةٍ أفضلُ؛ لقولِه سبحانه وتعالى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البَقَرَة: 271]. وروَى أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "سبعةٌ يُظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه" ذكَرَ مِنهم: "رجلًا تصدَّقَ بصدقَةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه" مُتَّفَقٌ عليه
(1)
.
(وفي الزَّمانِ أو المكانِ الفاضلِ) كالعَشرِ الأُوَلِ مِن ذي الحِجَّةِ، وكالحرمينِ، وفي رمضانَ، ويومِ الجُمُعَةِ، أفضلُ
(و) كونُها (على جارِه) أفضلُ، (و) كونُها على (ذَوي رَحِمِه) أفضلُ (فهي صدقَةٌ وصِلَةٌ) لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"الصَّدقَةُ على المِسكينِ صدقَةٌ، وعلى ذي الرَّحمِ اثنانِ؛ صدَقةٌ وصِلَةٌ"
(2)
. وهو حديثٌ حسنٌ.
(ومَن تصدَّقَ بما ينقُصُ مُؤنَةً تلزمُه) كمؤنَةِ زوجةٍ أو قريبٍ، أَثِمَ؛ لحديثِ:
(1)
أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
(2)
تقدم قريبًا.
أو أضرَّ بنفسِهِ أو غَرِيمِه، أَثِمَ بذلك.
وكُرِه لِمَنْ لا صَبرَ له، أو لا عادةَ له على الضِّيقِ، أن يُنقِصَ نفسَه عن الكفاية التَّامَّةِ. والمَنُّ بالصَّدقَةِ كبيرةٌ، ويبطلُ به الثَّوابُ.
"كفَى بالمرءِ إثمًا أن يُضيِّعَ مِن يقوت"
(1)
. إلَّا أن يُوافقَه عيالُه على الإيثارِ، فهو أفضلُ؛ لقولِه تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحَشر: 9]. وقولِه عليه السلام: "أفضلُ الصَّدقةِ جَهدٌ مِن مُقلِّ إلى فقيرٍ في السِّرِّ"
(2)
(أو أضرَّ بنفسِه، أو غريمِه، أَثِمَ بذلك) أي: بسببِ صدقتِه؛ لحديثِ: "لا ضرَرَ ولا ضِرارَ"
(3)
.
(وكُرِهَ لمَن لا صبرَ له) على الضِّيقِ (أو لا عادةَ له على الضِّيقِ، أن ينقُصَ نفسَه عنِ الكفايةِ التَّامَّةِ) نصًّا؛ لأنَّه نوعُ إضرارٍ به. وعُلِمَ منه: أنَّ الفقيرَ لا يقترِضُ ليتصدَّقَ.
(والمَنُّ بالصدقَةِ كبيرةٌ) قال في "الفروعِ": ويحرُمُ المَنُّ بالصدقةِ وغيرِها، وهو كبيرةٌ على نصِّ أحمدَ. الكبيرةُ: ما فيه حدٌّ في الدُّنيا، أو وعيدٌ في الآخرةِ.
(ويبطُلُ به) أي: بالمَنِّ (الثَّوابُ) لقولِه تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البَقَرَة: 264]. قال في "الفروعِ": وتجوزُ صدقةُ التَّطوعِ على كافرٍ وغنيٍّ وغيرِهما. نصَّ عليه، ولهم أخذُها.
(1)
أخرجه أبو داود (1692) من حديث عبد الله بن عمرو. وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (35/ 437)(21552) من حديث أبي ذر. وانظر "الإرواء"(897).
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (37/ 436)(22778)، وابن ماجه (2340) من حديث عبادة. وورد عن جماعة من الصحابة مرفوعًا. وصححه الألباني في "الإرواء"(896، 1250).
كِتابُ الصِّيامِ
يَجِبُ صومُ رمضَانَ: برؤيةِ هلالِه على جميع النَّاسِ.
وعلَى مَنْ حَالَ دونَهُم ودُونَ مطلَعِهِ
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(كتابُ الصيامِ)
لغةً: الإمساكُ. يُقالُ: صامَ النَّهارُ، إذا وقَفَ سيرُ الشَّمسِ. وللسَّاكتِ: صائمٌ؛ لإمساكِه عنِ الكلامِ، ومِنه:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريَم: 26]. وصامَ الفرَسُ: أمسَكَ عنِ العَلْفِ وهو قائمٌ، أو عنِ الصَّهيلِ في موضعِه.
وشرعًا: إمساكٌ بنيَّهٍ عن أشياءَ مخصوصَةٍ، في زمنٍ مُعيَّنٍ، مِن شخصٍ مخصوصٍ.
(يجِبُ صومُ رمضانَ برؤيةِ هلالِه على جميعِ النَّاسِ) لحديثِ: "صومُوا لرؤُيتِه، وأفطِرُوا لرؤيتِه"
(1)
.
ويُستحَبُّ ترائي الهلالِ، وقولُ ما ورَدَ، ومنه حديثُ طلحةَ بنِ عبيدِ اللهِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلالَ قالَ: "اللهمَّ أهلَّه علينا باليُمنِ والإيمانِ، والسَّلامةِ والإسلامِ، والتوفيقِ لما تُحِبُّ وترضَى. ربِّي وربُّك اللهُ"
(2)
.
ويجِبُ (على مَن حالَ دونَهم ودونَ مطلعِه) أي: الهلالِ ليلةَ الثلاثينَ مِن شَعبانَ
(1)
أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه الدارمي (1687)، والطبراني (12/ 356) من حديث ابن عمر. وصححه الألباني دون زيادة:"والتوفيقِ لما تُحِبُّ وترضَى" انظر "الصحيحة"(1816)، "ضعيف الجامع"(4404).
غيمٌ، أو قَتَرٌ، ليلةَ الثلاثينَ من شعبانَ؛ احتياطًا بنيَّةِ رمضَان،
(غَيْمٌ) أي: سِحابٌ (أو قَتَرٌ) بالتَّحريكِ: الغَبَرةُ، أو غيرُهما كالدُّخَانِ (ليلةَ الثلاثين مِن شعبانَ) وجَبَ صومُه (احتياطًا) للخروجِ مِن عُهدةِ الوجوبِ (بنيَّةِ) أنَّه مِن (رمضانَ) في قولِ عُمرَ، وابنِه، وعمرِو بنِ العاصِ، وأبي هريرةَ، وأنسٍ، ومعاويةَ، وعائشةَ وأسماءَ ابنتَي أبي بكرٍ رضي الله عنهم؛ لحديثِ نافعٍ، عنِ ابنِ عُمرَ مرفوعًا:"إنَّما الشَّهرُ تسعٌ وعشرونَ، فلا تصومُوا حتَّى تَرَوا الهلالَ، ولا تفطرُوا حتَّى تَرَوه، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له". قال نافعٌ: كانَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ إذا مضَى مِنَ الشَّهرِ تسعةٌ وعشرون يومًا، يبعَثُ مَن ينظُرُ له الهلالَ، فإن رُئِيَ فذاك. وإنْ لم يُرَ ولم يحُلْ دونَ منظرِه سحابٌ ولا قترٌ، أصبَحَ مُفطِرًا، وإن حالَ دونَ منظَرِه سحابٌ أو قترٌ، أصبَحَ صائمًا
(1)
.
ومعنَى "اقدرُوا له": ضيِّقُوا. كقولِه تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطّلَاق: 7]، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] والتضييقُ: جعلُ شعبانَ تسعةً وعشرينَ يومًا. وقد فسَّرَه ابنُ عُمرَ بفعلِه، وهو راويهِ وأعلَمُ بمعناهُ، فوجَبَ الرجوعُ إليه، كتفسيرِ التفرُّقِ في خيارِ المُتبابعَيْن.
وقد صنَّفَ الأصحابُ في المسألةِ التصانيفَ، ونصرُوا المذهبَ، وردُّوا حُجَجَ المُخالِفِ بما يطولُ ذِكرُه.
وإن اشتغلُوا عنِ التَّرائي لعدوٍّ أو حريقٍ ونحوِه، فذلك نادرٌ
(2)
، فينسحِبُ عليه
(1)
أخرجه أحمد 8/ 71 (4488)، والبخاري (1906)، ومسلم (1080)، واللفظ بتمامه لأحمد.
(2)
في الأصل: "نادر فيه".
ويُجزئُ إن ظَهَر منه، وتصلَّى التَّراويحُ، ولا تثبُت بقيَّةُ الأحكَامِ، كوقوعِ الطَّلاقِ، والعِتقِ، وحُلولِ الأجَلِ.
وتثبُتُ رؤيةُ هِلالِه بخبَرِ مُسلِمٍ مكلَّفٍ عَدلٍ، ولو عَبدًا أو أنثى.
ذيلُ الغالبِ، وفارقَ الغَيْمَ والقَتَرَ، فإنَّ وقوعَهما غالبٌ، وقد استوَى معهما الاحتمالانِ، فعمِلْنا بأحوطِهما. قالَه الشيخُ تقيُّ الدِّينِ
(ويُجزِئُ إن ظهَرَ منه) أي: مِن رمضانَ؛ بأن ثبَتتَ رُؤيتُه بموضعٍ آخرَ؛ لأنَّ صومَه واقعٌ بنيَّةِ رمضانَ لمُستنَدٍ شرعيِّ، أشبَهَ الصَّومَ للرُّؤيَةِ.
(وتُصلَّى التَّراويحُ) احتياطًا؛ لأنَّه عليه السلام، وعَدَ مَن صامَه وقامَه بالغُفرانِ، ولا يتحقَّقُ قيامُه كلُّه إلَّا بذلك.
(ولا تثبُتُ بقيَّةُ الأحكامِ) الشهريَّةِ بالغَيْمِ (كوقوعِ الطلاقِ، والعِتقِ، وحُلولِ الأجَلِ) ولا تنقضِي عدَّةٌ، ولا مُدَّةُ إيلائِه؛ عملًا بالأصلِ
(وتثبُتُ رُؤيةُ هلالِه بخبرِ مُسلِمٍ) فلا يُقبَلُ خبرُ الكافرِ (مُكلَّفٍ) لا مُميِّزٍ (عدلٍ) نصًّا. لا مستورٍ؛ لحديثٍ ابنِ عباسٍ: جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: رأيْتُ الهلالَ. قال: "أتشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه؟ " قال: نعم. قالَ: "يا بلالُ، أذِّنْ في النَّاسِ، فليصومُوا غدًا". رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ، والنسائيُّ
(1)
. وعنِ ابنِ عُمرَ قال: تراءَى النَّاسُ الهلالَ، فأخبرْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنِّي رأيتُه، فصامَ وأمَرَ النَّاسَ بصيامِهِ. رواهُ أبو داودَ
(2)
. ولأنَّه خبرٌ دينيٌّ لا تُهمَةَ فيه، بخلافِ آخرِ الشَّهرِ (ولو) كان المُخبِرُ به (عبدًا أو أُنثَى) كالرِّوايةِ
(1)
أخرجه أبو داودَ (2340)، والترمذيُّ (691)، والنسائيُّ (2113)، وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه أبو داود (2342)، وصححه الألباني.
وتثبُتُ بقيَّةُ الأحكامِ تَبَعًا.
ولا يُقبلُ في بقيَّةِ الشُّهُورِ إلا رجُلانِ عدلان.
(وتثبُتُ) بخبرِ الواحدِ (بقيَّةُ الأحكامِ) مِن حُلولِ ديونٍ ونحوِه تبعًا. وأمَّا بقيَّةُ الشَّهورِ، فلا يُقبلُ فيها إلَّا رجلانِ عدلانِ بلفظِ الشَّهادةِ، كالنِّكاحِ وغيرِه. والفَرقُ: الاحتياطُ للعبادةِ. وقد نصَّ عليه بقولِه: (ولا يقبلُ في بقيَّةِ الشهورِ إلَّا رجلانِ عدْلانِ) قال في "الإنصافِ"
(1)
: وهو المذهبُ، وعليه الأصحابُ، وقطَعَ به أ كثرُهم.
* * *
(1)
"الإنصافِ"(7/ 343).
فَصْلٌ
وشروطُ وجوبِ الصَّومِ أربعةُ أشياء:
الإسلامُ، والبُلُوغُ، والعَقلُ، والقدرةُ عليه.
فمَن عَجَزَ عنهُ لِكِبَرٍ،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(فصلٌ)
(وشروطُ
(1)
وجوبِ الصومِ أربعةُ أشياءَ):
أحدُها: (الإسلامُ) لقولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البَقَرَة: 183] فلا يجِبُ على كافرٍ. ولو أسلَمَ في أثنائِه، لم يلزَمْه مَا مضَى مِنَ الأيامِ؛ لحديثِ ابنِ ماجَه
(2)
في وفدِ ثقيفٍ: قدِمُوا عليه في رمضانَ، وضرَبَ عليهم قُبَّةً في المسجدِ، فلمَّا أسلمُوا، صامُوا ما بقِيَ مِنَ الشَّهرِ. ولأنَّ كلَّ يومٍ عبادةٌ مُفردَةٌ
(و) الثاني: (البلوغُ) فلا يجِبُ على صغيرٍ.
(و) الثالثُ: (العقلُ) فلا يِجبُ على مجنونٍ؛ لحديثِ: "رُفِعَ القلَمُ عن ثلاثٍ"
(3)
.
(و) الرابعُ: (القُدرَةُ عليه) فلا يجِبُ على عاجزٍ عنه لنحوِ مرَضٍ؛ للآيةِ.
(فمَن عجَزَ عنه) أي: الصَّومِ (لكبَرٍ) كشيخٍ هَرِمٍ وعجوزٍ يجهدُهما الصَّومُ،
(1)
في الأصل: "وشرط".
(2)
أخرجه ابن ماجه (1760) من حديث سفيان بن عبد الله بن ربيعة. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه أحمدُ (2/ 266)(956)، والترمذيُّ (1423)، وأبو داودَ (4405) من حديث علي. وصححه الألباني
أو مَرَضٍ لا يرُجى زوالُه، أَفطَرَ، وأطعَمَ عن كلِّ يومٍ مسكينًا مُدَّ بُرٍّ، أو نِصْفَ صاعٍ من غيرِهِ.
وشرطُ صِحَّته سِتةٌ:
الإسلامُ، وانقطاعُ دمِ الحَيضِ والنِّفاسِ.
ويشُقُّ عليهما مشقَّةً شديدةً (أو) عجَزَ عنه لـ (مرَضٍ لا يُرجَى زوالُه، أفطَرَ، وأطعَمَ عن كلِّ يومٍ مسكينًا مُدَّ بُرٍّ، أو نصفَ صاعٍ مِن غيرِه) لقولِ ابنِ عباسٍ في قولِه تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البَقَرَة: 184]: ليسَت بمنسوخَةٍ، هي للكبيرِ الذي لا يستطيعُ الصَّومَ. رواهُ البُخاريُّ
(1)
. ومعناهُ عنِ ابنِ أبي ليلَى، عن معاذٍ، ولم يُدركْهُ. رواهُ أحمدُ
(2)
. ولأبي داودَ
(3)
-بإسنادٍ جيِّدٍ- عن ابنِ أبي ليلَى: حدَّثَنا أصحابُنا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ .. فذكَرَه. وأُلحِقَ به مَن لا يُرجَى برءُ مرَضِه. فإن كان العاجزُ عنه لكبَرٍ أو مرَضٍ لا يُرجَى برؤُه مُسافرًا، فلا فِديةَ؛ لفطرِه بعُذرٍ مُعتادٍ، ولا قضاءَ لعجزِه عنه. فيعايا بها.
(وشُرِطَ) لـ (صحَتِه) أي: الصَّومِ (ستَّةٌ):
أحدُها: (الإسلامُ)
(و) الثاني: (انقطاعُ دمِ الحيضِ)
(و) الثالثُ: (النِّفاسُ).
(1)
أخرجه البخاري (4505).
(2)
أخرجه أحمد (36/ 436)(22124).
(3)
أخرجه أبو داود (506)، وصححه الألباني.
الرابع: التمييزُ، فيجِبُ على وليِّ المميِّز المُطيقِ للصَّومِ أمرُهُ بِه، وضربُه عليه ليعتَادَهُ.
الخامِسُ: العقلُ، لكن لو نَوى ليلًا ثمَّ جُنَّ، أُو أغمِيَ علَيه جَميعَ النَّهارِ، وأفاقَ منه قليلًا، صَحَّ.
(الرَّابعُ: التمييزُ) وهو مَن بلَغَ سبعَ سنين (فيجِبُ على وليِّ المُميِّزِ) ذكرًا كان أو أُنثَى (المُطيقِ) قالَ في "الإنصافِ"
(1)
: أكثرُ الأصحابِ أطلَقَ الإطاقةَ. وهو ظاهرُ ما قدَّمه في "الفروع"، وقدَّمه في "الرعاية"، وحدَّ ابنُ أبي موسَى إطاقتَه بصومِ ثلاثةِ أيامٍ مُتواليَةٍ، ولا يضرُّه (للصَّومِ أمْرُه به، وضَرْبُه عليه) أي: الصومِ؛ (ليعتادَه) إذا بلَغَ. وقال المجدُ: لا يُؤاخَذُ به. ولا يُضرَبُ
(2)
عليه، فيما دُونَ العشرِ، كالصَّلاةِ.
(الخامسُ: العقلُ) فلا يجِبُ على المجنونِ (لكن لو نوَى ليلًا، ثمَّ جُنَّ، أو أُغمِىَ عليه جميعَ النَّهارِ)
(3)
لأنَّ الصومَ: الإمساكُ مع النيَّةِ؛ لحديثِ: "يقولُ اللهُ تعالى: كلُّ عمَلِ ابنِ آدَمَ له إلَّا الصَّومَ، فإنَّه لي وأنا أجزِي به، يدَعُ طعامَه وشرابَه مِن أجلِي"
(4)
. فأضافَ التَّركَ إليه، وهو لا يُضافُ إلى المجنونِ والمُغمَى عليه، فلم يجُزْ، والنيَّةُ وحدُها لا تُجزئُ.
(و) مَن (أفاقَ) مِن جنونٍ أو إغماءٍ (منه) أي: النَّهارِ (قليلًا، صحَّ) صومُه. أو نامَ جميعَه، أي: النَّهارِ. فيصحُّ صومُه؛ لأنَّ النَّومَ عادةٌ، ولا يزولُ به الإحساسُ بالكليَّةِ؛
(1)
"الإنصافِ"(7/ 357).
(2)
في الأصل: "ويضرب".
(3)
الجواب: لم يصح. وانظر "دقائق أولي النهى"(2/ 356).
(4)
أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة.
السادِسُ: النيَّةُ من اللَّيلِ لكلِّ يومٍ واجبٍ. فمن خَطَر بقلبِه ليلًا أنه صائِمٌ، فقد نَوى، وكذا الأكلُ والشُّربُ بنيَّةِ الصَّوم.
لأنَّه متَى نُبِّهَ انتبَهَ.
ويقضِي مُغمًى عليه زمَنَ إغمائِه؛ لأنَّه مُكلَّفٌ، دونَ المجنونِ؛ لأنَّه غيرُ مُكلَّفٍ، ومُدَّةُ الإغماءِ لا تطولُ غالبًا. ولا تثبُتُ الولايةُ على المُغمَى عليه.
(السَّادسُ) مِن شُروطِ صحتِه: (النيَّةُ مِنَ اللَّيلِ) لحديثِ: "مَن لم يُبَيِّتِ الصيامَ مِنَ اللَّيلِ، فلا صيامَ له". رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ، والنسائيُّ
(1)
. وللدَّارقُطنيِّ
(2)
عن عَمرَةَ، عن عائشةَ مرفوعًا:"مَن لم يُبَيِّتِ الصيامَ قبلَ طلوعِ الفجرِ، فلا صيامَ له". وقالَ: إسنادُه كلُّهم ثِقاتٌ.
وأوَّلُ اللَّيلِ، ووسَطُه، وآخرُه محلُّ النيَّةِ، فأيَّ جُزءٍ نوَى فيه، أجزأَهُ.
قولُه: "مِنَ اللَّيلِ" قال ابنُ نصرِ اللهِ: فُهِمَ مِن اشتراطِ كونِ النيَّةِ مِنَ اللَّيلِ، أنَّه لو نوَى مع طلوعِ الفجرِ، لم يُجزئْه. انتهَى.
(لكلِّ يومٍ واجبٍ) بأن يعتقِدَ أنَّه يصومُ مِن رمضانَ، أو قضائِه، أو نذرٍ، أو كفَّارةٍ؛ لأنَّ كلَّ يومٍ عبادةٌ مُفردَةٌ؛ لأنَّه لا يفسُدُ يومٌ بفسادِ يومٍ آخرَ.
وعنِ الإمامِ: يُجزئُ في أوَّلِ رمضانَ نيَّةٌ واحدةٌ لكُلِّه. نصَرَها أبو يعلَى الصَّغيرُ (فمَن خطَرَ بقلبِه ليلًا أنَّه صائمٌ، فقد نوَى. وكذا الأكلُ والشُّربُ بنيَّةِ الصَّومِ) لأنَّ محلَّ النيَّةِ القلبُ. قال الشيخُ تقيُّ الدِّينِ
(3)
: هو حينَ يتعشَّى، يتعشَّى عشاءَ مَن
(1)
أخرجه أبو داودَ (2454)، والترمذيُّ (730)، والنسائيُّ (2334) من حديث حفصة. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه الدارقطني (2/ 171).
(3)
"الاختيارات" ص (107).
ولا يضُرُّ إن أتَى بعدَ النيَّةِ بمُنَافٍ للصَّوم، أو قالَ: إن شاء الله -غيرَ متردِّدٍ- وكذَا لو قال ليلةَ الثلاثينَ من رَمضان: إنْ كانَ غَدًا من رمضَانَ ففرضِي، وإلَّا فمُفطِرٌ، ويَضُرُّ إن قالَه في أوَّلِه.
يُريدُ الصَّومَ، ولهذا يُفرِّقُ بينَ عشاءِ ليلَةِ العيدِ، وعشاءِ ليالي رمضانَ.
(ولا يضُرُّ إن أتَى بعدَ النيَّةِ بمنافٍ للصومِ) لا للنيَّةِ، كأكلٍ وشُربٍ وجِماعٍ؛ لظاهرِ الخبرِ، ولأنَّ اللهَ أباحَ الأكلَ إلى آخرِ اللَّيلِ، فلو بطَلَتْ به، فاتَ محلُّها.
وإن نوَتْ حائضٌ صومَ الغَدِ الواجِبِ، وقد عرَفَتْ أنَّها تطهُرُ ليلًا، صحَّ؛ لمشقَّةِ المُقارنَةِ.
(أو قال: إن شاءَ اللهُ، غيرَ مُتردِّدٍ) في العزمِ، فلا تفسُدُ نيَّتُه؛ لأنَّه قصدَ أن فعله للصوم
(1)
بمشيئةِ اللهِ وتوفيقِه وتيسيرِه، كما لا يفسُدُ الإيمانُ بقولِه: أنا مؤمنٌ، إن شاءَ الله، غيرَ مُتردِّدٍ في الحالِ.
قال القاضي: وكذا نقولُ في سائر العِباداتِ: لا تفسدُ بذكرِ المشيئةِ في نيَّتِها. أي: إذا لم يقصِد الشكَّ والتردُّد
(وكذا لو قالَ ليلةَ الثلاثين مِن رمضانَ: إن كانَ غدًا مِن رمضانَ، ففرضِي، وإلَّا فمُفطِرٌ) فيُجزئِه إن بانَ مِن رمضانَ؛ لأنَّه بنىَ على أصلٍ لم يثبُتْ زوالُه، ولا يقدحُ تردُّدُه؛ لأنَّه حكْمُ صومِه مع الجزمِ.
(ويضرُّ إن قالَه في أوَّلِه) يعني: لو قالَ ليلةَ الثلاثين مِن شعبانَ: إن كان غدًا مِن رمضانَ ففرضي، وإلَّا فنفلٌ. لم يُجزئْه.
(1)
سقطت: "أن فعله للصوم" من الأصل.
وفرضُهُ: الإمساكُ عنِ المُفطِّراتِ مِنْ طُلوعِ الفجرِ الثَّاني إلى غُروبِ الشمس.
وسننُه سِتَّةٌ:
تَعجيلُ الفطرِ، وتأخيرُ السُّحُور،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(وفرضُه: الإمساكُ عن) جميعِ (المُفطراتِ) مِن أكلٍ وشُربٍ وجماعٍ (مِن طُلوعِ الفجرِ الثاني إلى غُروبِ الشَّمسِ) عنِ الأفقِ.
(وسننُه) أي: الصومِ (ستَّةٌ):
أحدُها: (تعجيلُ الفِطرَ) إذا تحقَّقَ غروبَ الشَّمسِ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "يقولُ اللهُ: إنَّ أحبَّ عبادِي إليَّ أعجَلُهم فِطرًا". رواهُ أحمدُ، والترمذيُّ
(1)
وقال: حسنٌ غريبٌ. (و) الثاني: (تأخيرُ السُّحورِ) إن لم يخشَ طلوعَ الفجرِ؛ لحديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ قال: تسحَّرْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثم قُمْنا إلى الصَّلاةِ. قلْتُ: كم كان قدرُ ذلك؟ قال: قدرُ خمسين آيةً. متَّفَقٌ عليه
(2)
. ولأن قصدَ السُّحورِ: التقوِّي على الصَّومِ. وما كانَ أقربَ إلى الفجرِ، كانَ أعونَ عليه.
وتحصُلُ فضيلةُ السُّحورِ بشربٍ؛ لحديثِ: "ولو أن يجْرعَ
(3)
أحدُكم جُرعَةً مِن ماءٍ"
(4)
. ويحصلُ كمالُها أي: فضيلة السحور
(5)
بأكلٍ؛ للخَبرِ. وأن يكونَ مِن
(1)
أخرجه أحمدُ (12/ 182)(7241)، والترمذيُّ (700)، وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه البخاري (1921)، ومسلم (1097).
(3)
سقطت: "يجرع" من الأصل.
(4)
أخرجه أحمد (17/ 150)(11086) من حديث أبي سعيد الخدري. وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(3683).
(5)
سقطت: "السحور" من الأصل.
والزِّيادة في أعمَالِ الخيرِ، وقولُهُ جهرًا إذا شُتِمَ: إني صائم، وقولُه عندَ فِطرِه: اللَّهمَّ لك صُمتُ، وعلى رِزقِكَ أفطرتُ، سبحانَكَ وبحمدِكَ، اللَّهمَّ تقبَّل منِّي إنَّك أنت السميعُ العليمُ
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
تمرٍ؛ لحديثِ "نِعمَ سَحورُ المُؤمنِ التمرُ". رواه أبو داودَ
(1)
.
(و) الثالثُ: (الزيادةُ في أعمالِ الخيرِ) أي: يكثرُ مِن قراءةِ القرآنِ، والذِّكرِ، والصدقَةِ.
(و) الرابعُ: (قولُه) أي: الصائمِ (جهرًا إذا شُتِمَ) أي: إن شتَمَه أحدٌ قال: (إنِّي صائمٌ) لخبرِ "الصحيحين"
(2)
عن أبي هريرةَ مرفوعًا: "إذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم، فلا يرفُثْ يومئذٍ، ولا يصخَبْ، فإن شاتمَهُ أحدٌ، أو قاتلَه، فليقُلْ: إنِّي صائمٌ". قال في "القاموسِ": الصَّخَبُ، مُحرَّكًا: شدِّةُ الصَّوتِ، يُقالُ: صخِبَ كفَرِحَ، فهو صخَّابٌ، وصخِبٌ وصَخُوبٌ وصَخبانُ، وجمعُ الأخيرِ: صُخْبَانُ
(3)
.
(و) الخامسُ: (قولُه عندَ فِطرِه: اللهمَّ لكَ صُمْتُ، وعلى رِزقِك أفطرْتُ، سبحانَك وبحمدِك، اللهمَّ تقبَّلْ منِّي إنَّك أنتَ السَّميعُ العليمُ) لحديثِ الدَّارقُطنيِّ
(4)
عن أنسٍ وابنِ عباسٍ: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أفطَرَ قال: "اللهمَّ لكَ صُمْنا، وعلى رزقِكَ أفطرْنا، فتقبَّلْ منَّا، إنَّك أنتَ السَّميعُ العليمُ". وعن ابنِ عمَرَ مرفوعًا: كانَ إذا أفطَرَ قالَ: "ذهَبَ الظَّمأُ، وابتلَّتِ العُروقُ، ووصا الأجرُ إن شاءَ اللهُ
(1)
أخرجه أبو داود (2345) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
(3)
"القاموس المحيط" ص (134).
(4)
أخرجه الدارقطني (2/ 185)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(919).
وفِطرُهُ على رُطَبٍ، فإن عُدِمَ فتمرٌ، فإن عُدِمَ فماءٌ.
تعالى". رواهُ الدَّارقُطنيُّ
(1)
. وفي الخبرِ: "للصائمِ عندَ فطرِه دعوةٌ لا تُرَدُّ"
(2)
. ويُستحَبُّ تفطيرُ صائمٍ، وله مثلُ أجرِهِ؛ للخبرِ
(3)
.
(و) السَّادسُ: (فِطرُهُ على رُطَبٍ، فإن عُدِمَ فتمرٌ، فإن عُدِمَ فماءٌ)؛ لحديثِ أنسٍ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يفطِرُ علَى رُطَبَاتٍ قبلَ أن يُصلِّي، فإن لم يكُنْ، فعلَى تمراتٍ، فإن لم تكُنْ تمراتٌ، حسَا حَسَواتٍ مِن ماءٍ. رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ
(4)
، وقال: حسنٌ غريبٌ. وفي معنَى الرُّطَبِ والتَّمرِ: كلُّ حُلُوٍ لم تمسَّه النارُ.
* * *
(1)
أخرجه الدارقطني (2/ 185)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(920).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1753) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه الترمذي (807) من حديث زيد بن خالد الجهني. وصححه الألباني.
(4)
أخرجه أبو داودَ (2356)، والترمذيُّ (696)، وصححه الألباني.
فَصْلٌ
يحُرم على مَنْ لا عُذرَ لهُ
الفِطرُ برمضانَ.
ويجِبُ الفِطرُ على الحائِضِ والنُّفسَاءِ، وعلَى من يحتَاجُهُ لإنقَاذِ معصُومٍ من مَهلكَةٍ.
ويُسنُّ لمسافِرٍ يباحُ له القصرُ،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(فصلٌ)
و (يحرُمُ على مَن لا عُذرَ له) مِن نحوِ مرَضٍ وغيِره (الفطرُ برمضانَ)
(ويجِبُ الفطرُ على الحائضِ والنُّفساءِ. و) يجِبُ الفِطرُ (على مَن يحتاجُه لإنقاذِ معصومٍ مِن مهلَكَةٍ) كغريقٍ ونحوِه؛ لأنَّه يُمكنُه تدارُكُ الصومِ بالقضاءِ، بخلافِ الغريقِ ونحوِه.
ومَن خافَ تلَفًا بصومِه، أجزأَه، وكُرِهَ. صححَّه في "الإنصافِ". وقال جماعةٌ: يحزمُ صومُه. قال العلَّامةُ الشيخُ مرعي عمُّ والدِي في "غايةِ المُنتهَى"
(1)
: ويتجه: وهو الأصح.
ونقل الشيخ منصور في "شرحه على المنتهى"
(2)
: ومَن صنعَتُه شاقَّةٌ، وتضرَّرَ بتركِها، وخافَ تلفًا، أفطَرَ وقضَى. ذكَرَه الآجرِّيُّ.
(ويُسنُّ) الفطرُ (لمسافرٍ يباحُ له القصرُ) ولو بلا مشقَّةٍ؛ لحديثِ: "ليسَ مِنَ البرِّ
(1)
"غايةِ المُنتهَى"(1/ 350).
(2)
"دقائق أولي النهى"(2/ 353).
ولمريضٍ يَخَافُ الضَّررَ.
ويُباحُ لحاضِرٍ سافَرَ في أثناءِ النَّهارِ، ولحامِلٍ وَمُرضعٍ خافتَا على أنفُسِهِمَا، أو علَى الوَلَدِ، لكنْ لو أفطَرتَا للخَوفِ على الولَدِ فقط، لَزِمَ وليَّه إطعامُ مِسكِينٍ لِكلِّ يومٍ.
الصَّيامُ
(1)
في السَّفرِ". متفقٌ عليه
(2)
. ورواهُ النسائيُّ
(3)
وزادَ: "عليكُم برخصَةِ اللهِ التي رخَّصَ لكم، فاقبلُوها". وإن صامَ، أجزأَه نصًّا؛ لحديثِ:"هي رخصةٌ مِنَ اللهِ، فمَن أخَذَ بها فهو حسَنٌ، ومَن أحَبَّ أن يصومَ فلا جُناحَ عليه". رواهُ مسلمٌ، والنسائيُّ
(4)
.
وكُرِهَ الصَّومُ بسفرِ قَصرٍ، ولو بلا مشقَّةٍ. فلو سافَرَ ليُفطِرْ، حرُمَ سفرٌ وفِطرٌ.
وسُنَّ فطرٌ، (و) كُرِهَ صومٌ (لمريضٍ يخافُ الضَّررَ) لقولِه تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185]
(ويُباحُ) الفطرُ (لحاضرٍ) صامَ، ثمَّ (سافرَ في أثناءِ النَّهارِ)، فلَه الفِطرُ، على الأصحِّ؛ لظاهرِ الآيةِ والأخبارُ الصحيحةُ. وكالمرَضِ الطَّارئ، ولو بفعلِه.
وسُنَّ فِطرٌ، (و) كُرِهَ صومٌ (لحاملٍ ومُرضِعٍ خافتَا على أنفسِهما، أو) خافَتا (على الولَدِ) كالمريضِ وأَوْلَى (لكن لو أفطَرَتا للخوفِ على الولَدِ فقط) مِن الصَّومِ (لزِمَ وليَّه) أي: مِن أبيهِ، ووصيِّه، والحاكمِ، وكُلِّ مَن يلزَمُه نفقَتُه لإعسارِه. ولا يلزمُها هي ذلك إن خافَت عليه:(إطعامُ مسكينٍ لكلِّ يومٍ) أفطرَتْه حاملٌ أو مُرضِعٌ
(1)
في الأصل: "الصَّومُ".
(2)
أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115) من حديث جابر.
(3)
أخرجه النَّسَائِيّ (2258)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه مسلمٌ (1121)، والنسائيُّ (2303) من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي.
وإن أسلَم الكافِرُ، وطَهُرَتِ الحَائضٌ، أو برئَ المريضُ، وقَدِمَ المُسافِر، وبلغَ الصَّغيرُ، وعَقَلَ المجنُونُ، في أثناءِ النَّهار، وهم مُفطِرونَ، لزِمَهُم الإمساكُ، والقَضاءُ.
وليسَ لِمَن جازَ لهُ الفِطرُ برمضانَ أنْ يصومَ غيرَهُ فِيهِ.
خوفًا على الوَلَدِ، ما يُجزئُ في كفَّارةٍ؛ لقولِه تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البَقَرَة: 184] قال ابن عباس
(1)
: كانَت رُخصةً للشيخِ الكبيرِ والمرأةِ الكبيرةِ، وهما يطيقان الصيامَ، أن يُفطِرا ويُطعِما مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا، والحُبْلَى والمُرضِعُ إذا خافَتا على أولادِهما، أفطَرَتا وأطعَمَتا. رواهُ أبو داودَ
(2)
. ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ
(3)
. ولأنَّه فِطرٌ، بسببِ نفسٍ عاجزةٍ مِن طريقِ الخِلقَةِ، فوجَبَت به الكفَّارةُ، كالشَّيخِ الهَرِمِ
(4)
.
ويُجزئُ دفعُها إلى مِسكينٍ واحدٍ؛ جملةً واحدةً. قال في "الفروعِ": على الفورِ؛ لوجوبِه.
(وإن أسلَمَ الكافرُ، وطهُرَتِ الحائضُ، أو برِئ المريضُ، وقدِمَ المُسافرُ، وبلَغَ الصغيرُ، وعقَلَ المجنونُ، في أثناءِ النَّهارِ، وهم مُفطرونَ، لزِمَهم الإمساكُ، والقضاءُ).
(وليسَ لمَن جازَ له الفطرُ برمضانَ) كمسافرٍ (أن يصومَ غيرَه) أي: رمضانَ
(1)
سقطت: "قال ابن عباس" من الأصل.
(2)
أخرجه أبو داود (2318).
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 308).
(4)
انظر "كشاف القناع"(5/ 232).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(فيه) أي: في رمضانَ؛ لأنَّه لا يسَعُ غيرَ ما فُرِضَ فيه. ويلغُو صومُه، وكذا لو قلَبَه نفلًا.
"فرعٌ": لمَن أُبيحَ له فطرٌ برمضانَ، وصامَ: أن يفطُرَ بما شاءَ مِن جماعٍ وغيرِه، ولا كفَّارةَ.
"تتمَّةٌ": يُنكَرُ على مَن أكَلَ في رمضانَ ظاهرًا، وإن كانَ هناكَ عُذرٌ. قالَه القاضي. وقال ابنُ عقيلٍ: إن كانَت أعذارٌ خفيَّةً، مُنِعَ مع إظهارِه.
* * *
فَصْلٌ في المُفطِّرَاتِ
وهيَ اثنَا عَشَرَ:
خُروجُ دمِ الحيضِ والنِّفاسِ، والموتُ، والردَّةُ، والعزمُ على الفِطْرِ، والتردُّدُ فيه، والقيءُ عَمدًا، والاحتِقَانُ من الدُّبُرِ،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
(فصلٌ في المُفطِّراتِ)
(وهي اثنا عشَرَ):
أحدُها: (خُروجُ دمِ الحيضِ والنِّفاسِ)
(و) الثاني: (الموتُ) يعني: يفسُدُ الصَّومُ بالموتِ. وحيثُ قلْنا ببطلانِ الصَّومِ بالموتِ، فإنَّه يُطعَمُ مِن تركَتِه -إن ماتَ صائمًا- في نذرٍ وكفَّارةٍ مِسكينٌ؛ لفسادِ صومِ ذلك اليومِ الذي ماتَ فيه؛ لتعذُّرِ قضائِه.
(و) الثالثُ: (الرِّدَّةُ) ولا يختصُّ ذلك بالصَّومِ، بل تُفسِدُ الرِّدَّةُ كلَّ عبادَةٍ حصَلَت في أثنائِها. قال اللهُ سبحانه وتعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65].
(و) الرابعُ: (العزمُ على الفِطرِ)
(و) الخامسُ: (التَّردُّدُ فيه) أي: في الصَّومِ.
(و) السَّادسُ: (القَيءُ عمدًا)
(و) السَّابعُ: (الاحتقانُ مِنَ الدُّبُرِ) انظُرْ إلى هذا القيدِ الذي ذكَرَهُ المُصنِّفُ رحمه الله! فإنِّي لم أرَهُ لغيرِه. فعلىَ هذا: فلو احتقَنَ في قُبُلِه، لم يفطرْ. ومفهومُ هذا القيدِ ذكَرَهُ صاحبُ "الإقناعِ" بقولِه: أو قطَرَ في إحليلِه، ولو وصَلَ مثانَتَه. وهو
وبَلعُ النُّخَامَةِ إذا وصلَت إلى الفَم.
التاسِعُ: الحِجامةُ خاصَّةً، حاجِمًا كانَ أو محجُومًا.
العُضوُ الذي يجتمِعُ فيه
(1)
البولُ داخلَ الجوفِ، لم يفطرْ. فتأمَّلْ، وانظُرْ.
(و) الثَّامنُ: (بلعُ النُّخامَةِ إذا وصَلَت إلى الفَم) أي: سواءٌ كانَت مِن دماغِه، أو حلْقِه، أو صدرِه، فابتلَعَها، فسَدَ صومُه؛ لعدَمِ مشقُّةِ التحرُّزِ منها، بخلافِ البُصاقِ.
و (التاسِعُ: الحِجامَةُ خاصَّةً) وظهر دمٌ
(2)
، نصًّا. لا إن جَرَحَ نفسَه لغيرِ التَّداوي بدَلَ الحجامَةِ، ولا بفَصدٍ وشَرْطٍ، ولا بإخراجِ دَمِه برُعافٍ (حاجمًا كانَ أو محجومًا) أي: فسَدَ صومُ كلٍّ مِن حاجِمٍ ومُحتجِمٍ، ولزمَهما قضاءُ صومٍ واجبٍ. نصًّا. وبه قالَ عليٌّ، وابنُ عبَّاسٍ، وأبو هريرةَ، وعائشةُ؛ لحديثِ:"أفطَرَ الحاجِمُ والمحجومُ"
(3)
. رواهُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحدَ عَشَرَ نفسًا. قال أحمدُ: حديثُ شدَّادِ بنِ أوسٍ مِن أصحِ حديثٍ يُروَى في هذا البابِ. وإسنادُ حديثِ رافعٍ -يعني: ابنَ خديجٍ- إسنادٌ جيِّدٌ. وقالَ: حديثُ ثوبانَ وشدَّادٍ صحيحانِ. وقالَ عليُّ بنُ الَمدِينيِّ: أصحُّ شيءٍ في هذا البابِ، حديثُ شدَّادٍ وثوبانَ.
وحديثُ ابنِ عباسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتَجَمَ، وهو صائمٌ. رواهُ البُخاريُّ
(4)
.
منسوخٌ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ راويه كانَ يُعِدُّ الحجَّامِ والمحاجِمِ، قبلَ مغيبِ الشَّمسِ، فإذا غابَتِ الشَّمسُ، احتجَمَ كذلك. رواهُ الجَوزَجانيُّ.
(1)
سقطت: "فيه" من الأصل.
(2)
في الأصل: "دمًا".
(3)
أخرجه أحمد (25/ 148)(15828)، والترمذي (774) من حديث رافع بن خديج. وصححه الألباني.
(4)
أخرجه البخاري (1939).
العاشِرُ: إنزالُ المَنيِّ بِتَكرَارِ النَّظرِ، لا بِنَظرَةٍ، ولا بالتَّفكُّرِ والاحتِلامِ، ولا بالمَذْيِ.
الحاديَ عَشَرَ: خروجُ المَنيِّ، أو المَذْيِ بتقبيلٍ، أو لَمْسٍ، أو استِمنَاءٍ، أو مُباشَرَةٍ دونَ الفَرجِ.
الثانيَ عَشَرَ: كُلُّ ما وَصَلَ إلى الجَوفِ،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
فإن لم يَظهرْ دمٌ، لم يفطِرْ؛ لأنَّها لا تُسمَّى إذَنْ حِجامَةٌ.
(العاشِرُ) مِن المفطِّراتِ: (إنزالُ المنيِ بتكرارِ النَّظَرِ) لأنِّه إنزالٌ بفعلٍ يتلذَّذُ به، يمكِنُ التَّحرُّزُ منه، أشبَهَ الإنزالَ باللَّمسِ
(لا بنظرَةٍ) واحدةٍ، أي: فلا يُفطرُ لو أمنَى بنظرةٍ، (ولا) يفطرُ (بالتفكُّرِ، و) لا يفطرُ بـ (الاحتلَامِ
(1)
، ولا) يفطُرُ (بالمذيِ) أي: مِن غيرِ لمسٍ ولا مُباشَرَةٍ.
(الحادي عشرَ) مِنَ المُفطِّراتِ: (خروجُ المنيِّ، أو المَذْيِ بتقبيلٍ، أو لمسٍ، أو استمنَاءٍ) بيدِه أو غيرِها، فأمنَى أو أمذَى
(2)
، فسَدَ صومُهُ (أو مباشرةٍ دونَ الفرجِ) فأمنَى أو أمذى، فسَدَ صومُه.
أمَّا الإمناءُ: فلمُشابهَته الإمناءَ بجماعٍ؛ لأنَّه إنزالٌ بمُباشرَةٍ. وأمَّا الإمذاء: فلتخلُّلِ الشَّهوةِ له وخروجِه بالمُباشرَةِ، فيُشبِهُ المنيَّ. وبهذا فارَقَ البولَ.
(الثاني عشرَ) مِنَ المُفطِّراتِ: (كلُّ ما وصَلَ إلى الجوفِ) شيئًا مُطلقًا مِن كلِّ محلٍّ ينفُذُ إلى مِعدَتِه، سواءٌ كانَ ينماعُ
(3)
ويُغذِّي، أو لا، كحصاةٍ، وقطعةِ حديدٍ
(1)
في الأصل: "باحتلام".
(2)
في الأصل: "مذى".
(3)
في الأصل: "يماع".
أو الحَلقِ، أو الدِّماغِ، من مائعٍ وغَيرِه.
فيُفطِرُ إن قَطَرَ في أُذُنِه ما وصَلَ إلى دِماغِه، أو دَاوَى الجائفَةَ، فوصَلَ إلى جَوفِه، أو اكتَحَلَ بما عَلِمَ وصُولَه إلى حَلقِه،
…
…
…
…
…
…
…
…
…
ورصاصٍ، ونحوِهما، ولو طرَفَ سكِّينٍ، مِن فعلِه أو فعلِ غيرِه بإذنِه، فسَدَ صومُه (أو) وصَلَ (الحَلْقَ) فسَدَ صومُه، (أو) وصَلَ (الدِّماغَ مِن مائعٍ وغيرِه)
(فيفطرُ) إن وصَلَ إلى دماغِه؛ بأن عَلِمَ بوصولِه، على الصَّحيحِ مِنَ المذهَبِ (إن قطَرَ في أُذُنِه ما) أي: شيئًا (وصلَ إلى دماغِه) فسَدَ صومُه؛ لأنَّه واصلٌ إلى جوفِه باختيارِه، أشبَه الأكلَ
(أو داوَى الجائفةَ) وهي: الجرحُ في الجوفِ (فوصلَ) الدواءُ (إلى جوفِه) فسدَ صومُه (أو اكتحلَ بما) أي: شيءٍ (عَلِمَ وصولَه إلى حلقِه) لرطوبتِه أو حِدَّتِه، من كُحلٍ، أو صَبِرٍ، أو قُطورٍ، كالأشيافِ
(1)
، أو ذَرورٍ، أو إثمدٍ كثيرٍ أو يسيرٍ مُطَيَّبٍ. قولُه:"بما علِمَ وصولَه إلى حلقِه" أي: بأنْ وجدَ طعمَه به، أو خرجَ في نُخامَتِه ونحوِه. وظاهرُ تقيدِه بالعلمِ: أنَّه لا يُفطرُ بغلَبةِ الظنِّ. وهو صريحُ "الإنصاف"، حيثُ قيَّدَ بالتحقيقِ، ونقلَ عن المجدِ أنَّه يفطرُ بغلبةِ الظنِّ، لكنْ مقتضى التقييدِ بالكثيرِ، وبالمطيَّبِ في اليسيرِ: أنَّه يكتفي فيهما بغلبةِ الظنِّ؛ لقوةِ السرايةِ في الكثيرِ والمطيَّبِ، بخلافِ اليسيرِ غيرِ المطيَّبِ؛ إذ تحقُّقِ الوصولِ في ذلك مُفطِّرَةٌ، سواءٌ كان كثيرًا أو يَسيرًا، مُطيَّبًا أو غيرَ مطيَّبٍ، فيكون التقيدُ بالكثيرِ والمطيَّبِ لا فائدةَ به إلا على الاكتفاءِ بغَلبةِ الظنِّ. انتهى من حاشيةِ العلَّامةِ الشيخِ يوسفَ الفتوحيِّ على "المنتهى".
(1)
كذا بالأصل.
أو مَضَغَ عِلكًا أو ذاقَ طعامًا ووجدَ الطَّعمَ بحلقِه، أو بلَعَ ريقَه بعدَ أن وصَلَ إلى بينَ شَفتَيهِ. ولا يُفطِرُ إن فعلَ شيئًا من جَميع المُفَطِّراتٍ ناسيًا، أو مُكرهًا، ولا إنْ دَخَلَ الغُبَارُ حَلقَهُ، أو الذُّبَابُ بغيرِ قصدِهِ، ولا إن جَمَعَ ريقَه فابتلَعَهُ.
(أو مضَغَ عِلْكًا) ووجدَ طعمَ ذلك بحلقِه، فسدَ صومُه؛ لأنَّه دليلُ وصولِ أجزائِه إليه (أو ذاقَ طعامًا، ووجدَ الطَّعمَ بحلقِه) فسدَ صومُه (أو بلعَ ريقَه بعدَ أنْ وصلَ إلى بينَ شَفتَيْهِ) فسدَ صومُه
(ولا يُفطرُ إنْ فعلَ شيئًا) يُفسدُ صومَه (من جميعِ المفطِّراتِ ناسيًا، أو) أي: ولا إنْ فعلَه (مُكرَهًا) سواءٌ أُكْرِه على الفعلِ حتى فعلَه، أو فُعِلَ به؛ كمَنْ صُبَّ في حلقِه الماءُ مُكرَهًا، أو وهو نائمٌ ونحوُه، نصًّا؛ لأنَّه عليه السلام علَّلَ في الناسي بقولِه:"فإنَّما أطعمَه اللهُ وسقاه"
(1)
. وفي لفظٍ: "فإنَّما هو رزقٌ ساقَه اللهُ إليه"
(2)
.
وهذا موجودٌ في حقِّ مَنْ دخلَ الماءُ في جوفِه وهو نائمٌ ونحوه.
"فائدةٌ": قال في "الإنصاف"
(3)
: الصحيحُ من المذهبِ: أنَّ الجاهلَ بالتحريمِ، يفطرُ بفعل المفطِّراتِ. وتبعَه في "الإقناع" و"المنتهى"
(4)
.
(ولا) يفطرُ (إنْ دخلَ الغبارُ حلقَهُ) في طريقٍ، أو نخلٍ، نحوَ دقيقٍ أو دُخَانٍ بلا قَصدٍ؛ لعدمِ إمكانِ التحرُّزِ منه (أو) دخلَ إلى حلقِه (الذُّبابُ بغيرِ قصدِه) في جميعِ ما تقدَّم.
(ولا) يفطرُ (إنْ جمعَ ريقَه فابتلَعَهُ) بل يُكرَه. أما ابتلاعُ ريقِه على جاري عادتِه، فلا بأسَ به.
(1)
أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه الترمذي (721) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.
(3)
"الإنصاف"(7/ 425).
(4)
"الإقناع"(1/ 498)، "المنتهى"(2/ 23).
فَصْلٌ
ومَنْ جامَعَ نهارَ رمضَانَ في قُبلٍ أو دُبُرٍ، ولو لميِّتٍ أو بهيمةٍ، في حالةٍ يلزمُهُ فيها الإمسَاكُ، مُكرَهًا كان أو ناسيًا، لزِمَهُ القَضَاءُ والكفَّارَةُ.
(فصلٌ)
(ومَنْ جامعَ نهارَ رمضانَ في قُبُلٍ أو دُبُرٍ، ولو لميِّتٍ أو بهيمةٍ) لأنَّه يُوجبُ الغسلَ (في حالةٍ يلزمَه فيها الإمساكُ) أي: لا مسافرًا ولا مريضًا. فمَنْ جاءَ في حالةٍ يلزمُه فيها الإمساكُ، فعليه الكفارةُ (مُكرَهًا كانَ أو ناسيًا) أو مُخطِئًا؛ كأنِ اعتقَدَه ليلًا فبانَ نهارًا. وكذا لو جامعَ مَنْ أصبحَ مفطرًا؛ لاعتقادِه أنَّه من شعبانَ، ثمَّ قامتِ البينةُ أنَّه من رمضانَ. صرَّحَ به في "المغني"؛ ولأنَّه عليه السلام لم يَستَفصِلِ المُواقِعَ عن حالِه، ولأنَّ الوطءَ يُفسدُ الصومَ، فأفسدَه على كلِّ حالٍ، كالصَّلاةِ والحجِّ
(لزِمَه القضاءُ والكفارةُ): لفَسادِ صومِه؛ لحديثِ أبي هريرةَ: بَيْنا نحنُ جلوسٌ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ جاءَهُ رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ! قال: "مالَكَ؟ " قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائمٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجِدُ رقبةً تعتِقُها؟ " قال: لا. قال: "فهل تستطيعُ أنْ تصوم شَهريْنِ متتابعيْنِ؟ " قال: لا. قال: "فهل تجدُ إطعامَ ستِّينَ مسكينًا؟ " قال: لا. فمكثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فبينا نحنُ على ذلك، أُتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعَرْقٍ فيه تمرٌ -والعَرْقُ: المِكتلُ- فقال: "أينَ السائلُ؟ " فقال: أنا. قال: "خذْ هذا، فتصدَّقْ به". فقال: على أفقرَ منِّي يا رسول الله! فوالله ما بينَ لابتَيْها أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهلِ بيتي. فضحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قال:"أطعِمْهُ أهلَ بيتِكَ".
وكَذَا من جُومِعَ إنْ طاوَعَ، غيرَ جاهِلٍ وناسٍ.
والكفارةُ: عِتقُ رَقبةٍ مؤمِنَةٍ، فإن لم يَجِد فصيامُ شهرَينِ متتابِعَين، فإن لم يستَطِع فإطعامُ ستِّينَ مِسكِينًا، فإن لم يجد سقطت،
متفقٌ عليه
(1)
. وفي روايةِ ابنِ ماجه
(2)
: "وتصومُ يومًا مكانه".
وأُلحِقَ به المجبوبُ ومساحَقَةُ النساءِ مع الإنزالِ؛ لوجوبِ الغسلِ. وقال الأكثرُ: ليس فيه غيرُ القضاءِ. وجزمَ به في "الإقناع" تبعًا لصاحبِ "الإنصاف"
(3)
فإنَّه قال: وأصحُّ الوجهين: لا كفَّارةَ عليهما؛ لأنَّه ليس بمنصوصٍ عليه، ولا في معنى المنصوصِ عليه، فيبقى على الأصلِ.
(وكذا) يلزمُ القضاءُ والكفارةُ (مَنْ جُومِعَ إنْ طاوَعَ، غيرَ جاهلٍ وناسٍ) فإنْ كانتْ ناسيةً أو جاهلةً أو مكرهةً، فلا كفَّارةَ عليها. وتَدفعُهُ إذا أكرَهَهَا بالأسهلِ فالأسهلِ، وإنْ أدَّىَ إلى قَتلِه.
(والكفَّارةُ: عِتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ) سليمةٍ، على ما يأتي في الظِّهارِ، (فإنْ لمْ يجدْ) رقبةً، أو وجدَها تُباعُ دونَ ثمنِها (فصيامُ شهرينِ متتابعينِ) للخبرِ (فإنْ لمْ يستطعْ) الصومَ، (فإطعامُ ستِّينَ مسكينًا) للخبرِ. لكلِّ مسكينٍ مدٌّ من بُرٍّ، أو نصفُ صاعٍ من غيرِه، مما يُجزئُ في فِطرَةٍ
(فإنْ لمْ يجدْ، سقطتْ) لظاهرِ الخبرِ؛ لأنَّه عليه السلام أمرَهُ أنْ يُطعِمَه أهلَه، ولم يأمرْه بكفَّارةٍ أخرى، ولا بيَّنَ له بقاءَها في ذِمَّتِه، وكصدقةِ الفطرِ، وكفَّارةِ الوطءِ في
(1)
أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1671).
(3)
"الإنصاف"(7/ 456).
بخلافِ غيرِها من الكفَّاراتِ.
ولا كفَّارةَ في رَمضَانَ بغيرِ الجِمَاعِ، والإِنزالِ بالمُسَاحَقَةِ.
الحيضِ (بخلافِ غيرِها من الكفَّاراتِ) ككفَّارةِ الحجِّ بأنواعِها، والظهارِ، واليمينِ باللهِ، والقتلِ.
وتسقطُ بتكفيرِ غيرِه عنه، أي: جميعُ الكفاراتِ. وله إنْ مُلِّكَها، إخراجُها عن نفسِه، وأكلُها إنْ كانَ أهلًا لأكلِها.
"فرعٌ": لا يحرُمُ وطءٌ قبلَ كفَّارةِ رمضانَ، ولا في ليالي صيامِها، عكسُ كفَّارةِ ظهارٍ
(1)
.
(ولا كفَّارةَ في رمضانَ بغيرِ الجماعِ، والإنزالِ بالمُساحقةِ) من مجبوبٍ أو امرأةٍ في نهارِ رمضانَ، فلا كفَّارةَ بمباشرةٍ أو قُبلةٍ، ولو مع إنزالٍ. ولا بالجماعِ ليلًا، أو في قضاءٍ، أو نذرٍ، أو كفارةٍ؛ لأنَّ النصَّ إنَّما وردَ بالجماعِ في رمضانَ، وليس غيرُه في معناه؛ لاحترامِه وتعيُّنِه لهذه العبادةِ، فلا يقاسُ غيرُه عليه.
* * *
(1)
انظر "غاية المنتهى"(1/ 355).
فَصْلٌ
ومن فَاتَه رمَضَانُ، قَضَى عدَدَ أيَّامِه.
ويُسنُّ القضاءُ على الفَورِ، إلَّا إذا بقيَ مِن شعبَانَ بقَدرِ ما علَيهِ، فيجِبُ.
ولا يَصِحُّ ابتداءُ تطوُّعِ مَنْ عليه قَضاءُ رمضانَ،
(فصلٌ)
(ومَنْ فاتَه رمضانُ، قضى عددَ أيَّامِه) تامًّا كان أو ناقصًا، كأعدادِ الصَّلواتِ الفائتةِ. فمَنْ فاتَه رمضانُ، فصامَ من أوَّلِ شهرٍ أو أثنائِه تسعةً وعشرين يومًا، وكان الفائتُ ناقصًا، أجزأهُ عنه؛ اعتبارًا بعددِ الأيَّامِ؛ للآيةِ.
(ويُسنَّ القضاءُ على الفورِ) أي: قضاءُ شهرٍ رمضانَ فورًا. نصًّا، وفاقًا؛ مسارعةً لبراءةِ ذِمَّتِه. ولا بأسَ أنْ يُفرَّقَ. قالَهُ البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ؛ لقولِه تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البَقَرَة: 184]. وعن ابنِ عمرَ مرفوعًا: "قضاءُ رمضانَ، إنْ شاءَ فرَّقَ، وإنْ شاءَ تابعَ". رواه الدارقطنيُّ
(1)
. ولأنَّ وقتَه موسَّعٌ. وإنَّما لزِمَ التتابعُ في الصومِ أداءً لمقيمٍ لا عذرَ له؛ للفورِ وتعيُّنِ الوقتِ، لا لوجوبِ التتابعِ في نفسِه.
وقيل: يجبُ. والمذهبُ: لا يجبُ التتابعُ (إلا إذا بقي من شعبانَ بقدرِ ما عليه) من الأيَّامِ التي فاتتْهُ من رمضانَ (فيجبُ) التتابعُ لضيقِ الوقتِ، كأداءِ رمضانَ في حقِّ مَنْ لا عذرَ له.
(ولا يصحُّ ابتداءُ) أي: قبلَ رمضانَ (تَطوُّعِ مَنْ عليه قضاءُ رمضانَ) نصًّا. نقل حنبلٌ: أنَّه لا يجوزُ، بل يَبدأُ بالفرضِ حتى يقضيَهُ. وإنْ كانَ عليه نذرٌ صامَهُ، يعني:
(1)
أخرجه الدارقطني (2/ 193). وضعفه الألباني في "الإرواء"(943).
فإن نَوَى صَومًا واجِبًا، أو قَضَاءً، ثمَّ قلَبَه نفلًا، صَحَّ.
ويُسَنُّ صومُ التَطوُّع، وأفضلُهُ يومٌ ويومٌ.
وسُنَّ: صومُ أيَّامِ البِيضِ -وهي: ثلاثَ عشرَةَ، وأربعَ عشرَةَ، وخَمسَ
بعد الفرض. قاله في "شرح المقنع الكبير"
(1)
(فإنْ نوىَ صومًا واجبًا، أو قضاءً، ثمَّ قلَبَهُ نفْلًا، صحَّ) كقلبِ فرضِ الصَّلاةِ نفْلًا. وخالفَ في "الإقناع" في قلبِ القضاءِ نفْلًا؛ مستدلًا بعدمِ صحةِ نفلِ مَنْ عليه قضاءُ رمضانَ. وكُرِه قلبُه نفلًا لغيرِ غرضِ صحيحٍ.
(ويُسنُّ صومُ التطوُّعِ، وأفضلُه) أي: صومِ التطوُّعِ: صومُ (يومٍ، و) فطرُ (يومٍ) نصًّا؛ لقولِه عليه السلام لابنِ عمرٍو: "صمْ يومًا وأفطرْ يومًا، فذلك صَيامُ داودَ، وهو أفضلُ الصيامِ": قلتُ: فإنِّي أُطيقُ أفضلَ من ذلك. فقال: "لا أفضلَ من ذلك" متفقٌ عليه
(2)
.
"وسُنَّ: صومُ أيَّامِ" الليالي (البيضِ) نصَّ عليه. وسُمِّيتْ بيضًا، لبياضِ ليلِها بالقمرِ، ونهارِها بالشمسِ. وهذا الصحيحُ. وذكَرَ أبو الحسن التميميُّ في كتابِه "اللطيف": إنَّما سُمِّيتْ بيضًا؛ لأنَّ الله تعالى تابَ فيها على آدمَ، وبيَّضَ صحيفتَهُ
(وهي: ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ) لحديثِ أبي ذرٍ: "يا أبا ذرٍّ، إذا صُمْتَ من الشهرِ ثلاثةً، فصمْ ثلاثَ عشْرةَ، وأربعَ عشْرةَ، وخمسَ عشْرةَ". رواه أحمدُ، والنسائيُّ، والترمذيُّ
(3)
.
(1)
"الشرح الكبير"(7/ 504).
(2)
أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159).
(3)
أخرجه أحمدُ (35/ 345)(21437)، والنسائي (2424)، والترمذيُّ (761) قال الألباني: حسن صحيح.
عشرَةَ- وصومُ الخميسِ والاثنَينِ، وسِتَّةٍ من شوَّال.
وسُنَّ: صومُ المحرَّمِ، وآكدُهُ عاشُوراءُ، وهو كفَّارةُ سَنَةٍ،. . . . . . . . . . . . .
(و) سُنَّ (صومُ) يومِ (الخميسِ، و) سُنَّ صومُ يومِ (الاثنينِ)؛ لأنَّه عليه السلام كان يصومُهما، فسُئِلَ عن ذلك؟. فقال:"إنَّ أعمالَ الناسِ تُعرضُ يومَ الاثنينِ والخميسِ". رواه أبو داودَ
(1)
عن أسامةَ بنِ زيدٍ. وفي لفظٍ: "وأُحبُّ أنْ يُعرضَ عملي وأنا صائمٌ"
(2)
.
(و) سُنَّ صومُ (ستَّةٍ من شوَّالٍ) والأوْلى تتابُعُها، وكونُها عَقِبَ العيدِ. وصائِمُها مع رمضانَ كأنَّما صامَ الدهرَ؛ لحديثِ أبي أيوب مرفوعًا:"مَنْ صامَ رمضانَ، وأتبعَهُ ستًّا من شوَّالٍ، فكأنَّما صامَ الدهرَ". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(3)
وحسَّنَهُ. قال أحمدُ: هو من ثلاثةِ أوجهٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(وسُنَّ: صومُ) شهرِ اللهِ (المُحرَّمِ) لحديثِ: "أفضلُ الصَّلاةِ بعد المكتوبةِ جوفُ الليلِ، وأفضلُ الصيامِ بعد رمضانَ شهرُ اللهِ المُحَرَّمِ". رواه مسلمٌ
(4)
. (وآكدُهُ) وعبارةُ بعضِهم: أفضلُه (عاشوراءُ) أي: العاشرُ
(5)
. وينبغي التوسعةُ فيه على العيالِ. قالَهُ في "المبدع"
(6)
(وهو) أي: صيامُ عاشوراءَ (كفَّارةُ سنةٍ) لحديثِ: "إنِّي لأحتسبُ على اللهِ أن يكفِّرَ السنةَ التي قبلَهُ"
(7)
(1)
أخرجه أبو داود (2436)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (2358) قال الألباني: حسن صحيح.
(3)
أخرجه أبو داودَ (2433)، والترمذيُّ (759)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه مسلم (1163) من حديث أبي هريرة.
(5)
تكررت: "العاشر" في الأصل.
(6)
"المبدع"(3/ 52).
(7)
أخرجه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة.
وصومُ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ، وَآكدُه يومُ عرفَةَ، وهو كفَّارةُ سنَتَين.
وكُرِهَ إفرادُ رجَبٍ، والجُمُعَةِ،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(و) سُنَّ (صومُ عشرِ ذي الحجَّةِ) أي: التسعةِ الأُوَلِ منه؛ لحديثِ: "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ"
(1)
. (وآكدُه يومُ عرفةَ، وهو) أي: صومُه (كفَّارةُ سنتينِ)، لحديثِ مسلمٍ
(2)
عن أبي قتادةَ مرفوعًا في صومِه: "إنِّي لأحتسبُ على اللهِ أن يكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه". قال في "الفروع": والمرادُ: الصغائرُ. حكَاهُ في "شرح مسلم" عن العلماءِ، فإنْ لمْ يكنْ صغائرُ، رُجِيَ التخفيفُ من الكبائرِ، فإنْ لمْ تكنْ، رُفعتْ درجاتٌ.
(وكُرِهَ إفرادُ رجبِ) بصومٍ. قال أحمدُ: مَنْ كان يصومُ السنةَ صامَه، وإلا فلا يصمْه متواليًا، بل يفطرُ فيه، ولا يُشبِّهُهُ برمضانَ. انتهى. لما روى أحمدُ عن خرشةَ بنِ الحرِّ قال: رأيتُ عمرَ يضربُ أكفَّ المترجبين، حتى يَضعوها في الطعامِ، ويقول: كلُوا، فإنَّما هو شهرٌ كانتْ تعظِّمُه الجاهليةُ
(3)
. وبإسنادِه عن ابنِ عمرَ: أنَّه كانَ إذا رأى الناسَ وما يعدُّونه لرجبٍ، كرهَهُ، وقال: صومُوا فيه وأفطِرُوا
(4)
. ولا يُكرَهُ إفرادُ شهرٍ غيرِه به.
(و) كُرِهَ إفرادُ يومِ (الجمعةِ) بصومٍ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "لا يصومَنَّ أحدُكم يومَ الجمعةِ، إلا أنْ يصومَ يومًا قبلَهُ أو يومًا بعدَهُ". متفقٌ عليه
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي (757) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه مسلم (1162).
(3)
لم أجده في المسند. وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(7636).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 345).
(5)
أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144).
والسَّبتِ بالصَّوم.
وكُرِهَ صَومُ يومِ الشَّكِّ، وهو الثلاثُون من شَعبَان إذا لم يكُن غَيمٌ، أو قَتَرٌ.
ويحرمُ صومُ العِيدَين، وأيَّامِ التَّشريقِ.
(و) كُرِهَ إفرادُ يومِ (السبتِ بالصومِ) لحديثِ: "لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افتُرِضَ عليكم". حسَّنَهُ الترمذيُّ
(1)
. فإنْ صامَ معه غيرَه، لم يُكرَهْ؛ لحديثِ أبي هريرةَ. قال في "الكافي"
(2)
: فإنْ صامَهما- أي: الجمعةَ والسبتَ- معًا، لم يُكرَه؛ لحديثِ أبي هريرةَ
(وكُرِهَ صومُ يومِ الشكِّ) ولو تطوّعًا (وهو الثلاثونَ من شعبانَ، إذا لمْ يكنْ) حينَ الترائي عِلَّةٌ من نحوِ (غَيْمِ، أو قَتَرٍ) فإنْ كانتْ، وجبَ صومُه بنيَّةِ رمضانَ.
(ويحرُمُ صومُ العيدين) لحَديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: نهى عن صومِ يومين؛ يومِ فطرٍ، ويومِ أضحى. متفقٌ عليه
(3)
.
ولا يُكرَهُ صومُ الدهرِ، إنْ لمْ يَتركْ به حقًّا، ولا خافَ منه ضررًا، ولا صامَ أيامَ النهيِّ.
(و) يحرُمُ صومُ (أيامِ التشريقِ) لحديثِ: "وأيام منىً أيام
(4)
أكل وشربٍ ". رواه مسلمٌ
(5)
مختصرًا. وهي ثلاثةُ أيامٍ عقبَ عيدِ النحرِ.
(1)
أخرجه الترمذي (744) من حديث عبد الله بن بسر عن أخته. وصححه الألباني.
(2)
"الكافى"(2/ 265).
(3)
أخرجه البخاري (1993)، ومسلم (1138).
(4)
سقطت: "أيام" من الأصل.
(5)
أخرجه مسلم (1142) من حديث كعب بن مالك.
ومن دخَلَ في تطوُّعٍ، لم يَجِبْ إتمامُه، وفي فرضٍ، يَجِب ما لم يقِلبْهُ نفلًا.
(ومَنْ دخلَ في تطوُّعِ) صومٍ أو غيرِه (لمْ يجبْ) عليه (إتمامُه)، لحديثِ عائشةَ، وفيه:"إنَّما مثلُ صومِ التطوُّعِ، مَثَلُ الرجلِ يُخرِجُ من مالِه الصدقةَ، فإنْ شاءَ أمضاها، وإنْ شاءَ حبسَها". رواه النسائيُّ
(1)
. (وفي فرضٍ) من صومٍ وغيرِه (يجبُ) إتمامُه (ما لمْ يقلبْه نفْلًا) فلا يجب إتمامُه. وتقدَّمَ الكلامُ عليه.
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ (2322)، وحسنه الألباني.
كِتابُ الاعتكافِ
وهو سُنَّةٌ، ويجِبُ بالنَّذرِ.
وشرطُ صِحَّتِه سِتَّةُ أشياء:
النيَّةُ، والإسلامُ، والعقلُ، والتمييزُ، وعدمُ ما يوجِبُ الغُسلَ،
(كِتابُ الاعتكافِ)
لغةً: لزومُ الشيءِ، ومنه:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] بفتحِ الكافِ في الماضي، وضمِّها وكسرِها في المضارع.
وشرعًا: لزومُ مسلمٍ لا غُسلَ عليه، عاقلٌ ولو كانَ مميِّزًا، مسجدًا، ولو ساعةً، لطاعةٍ على صفةٍ مخصوصةٍ.
(وهو سنةٌ) في كلِّ وقتٍ. (ويجبُ بالنذرِ)، لحديثِ:"مَنْ نذرَ أنْ يطيعَ اللهَ، فليطعْهُ". رواه البخاريُّ
(1)
.
(وشرطُ صِحَّتِه ستَّةُ أشياءَ):
الأوَّلُ: (النيَّةُ) لأنَّه عبادةٌ محضةٌ، ولحديثِ:"إنَّما الأعمالُ بالنياتِ"
(2)
.
(و) الثاني: (الإسلامُ) فلا يصحّ اعتكافُ الكافرِ؛ لأنَّه ليصرَ من أهلِ النيَّةِ.
(و) الثالثُ: (العقلُ) فلا يصحُّ من مجنونٍ.
(و) الرابعُ: (التمييزُ) فلا يصحُّ من الصغيرِ.
(و) الخامسُ: (عدمُ ما يوجبُ الغُسلَ) من نحوِ نكاحٍ.
(1)
أخرجه البخاري (6696) من حديث عائشة.
(2)
تقدم تخريجه.
وكونُه بمسجِدٍ.
ويُزادُ في حقِّ مَنْ تلزمُه الجمَاعةُ: أن يكونَ المسجِدُ ممَّا تُقامُ فيهِ.
ومن المسجِدِ: ما زِيدَ فيه، ومِنه: سطحُه، ورحَبتُهُ المحوطَة، ومَنارتُه التي هي أو بابُها فيه.
ومن عيَّن الاعتِكافَ بمسجدٍ غيرِ الثَّلاثةِ، لم يتعيَّن.
(و) السادسُ: (كونُه بمسجدٍ)
(ويُزادُ في حقِّ مَنْ تلزمُه الجماعةُ: أن يكونَ المسجدُ ممَّا تُقامُ فيه). أي: الجماعةُ (ومن المسجدِ: ما زيدَ فيه) أي: المسجدِ (ومنه: سطحُه، ورحَبتُهُ المحوطَةُ) قال القاضي: إنْ كانَ عليها حائطٌ وبابٌ، كرحبةِ جامعِ المهديِّ بالرُّصافةِ، فهي كالمسجدِ؛ لأنَّها معه وتابعةٌ له، وإنْ لمْ تكنْ محوطةً، كرحبةِ جامعِ المنصورِ، لم يثبت لها حكمُ المسجدِ (ومنارتُه التي هي أو بابُها فيه) أي: المسجدِ؛ لمنعِ الجنبِ منها. فإنْ كانتْ هي أو بابُها خارجه، ولو قريبةً، وخرجَ المعتكفُ إليها للأذانِ، بطلَ اعتكافُهُ؛ لأنَّه مشَى حيثُ يمشي جنبٌ لأمرٍ له منه بدٌّ، كخروجِه إليها لغيرِه.
(ومَنْ عيَّنَ) أي: بنذرِه، أي: لاعتكافِه أو صلاتِه (الاعتكافَ بمسجدٍ غيرِ الثلاثةِ) أي: المسجدِ الحرامِ، ومسجدِ المدينةِ، والأقصى (لم يتعيَّنْ)؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا:"لا تُشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ، المسجدِ الحرامِ، ومسجدي هذا، والمسجدِ الأقصى" متفقٌ عليه
(1)
. ولو تعيَّنَ غيرُها بالتعيينِ، لزمَ
(1)
أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
ويبطُلُ الاعتكافُ: بالخُروجِ من المسجِدِ لغيرِ عُذرٍ، وبنيَّة الخُروجِ ولو لم يخرج، وبالوَطءِ في الفَرجِ،
المُضِيُّ إليه. واحتاجَ إلى شدِّ الرَّحْلِ لقضاءِ نذرِه، ولأنَّ اللهَ لمْ يُعيِّنْ لعبادتِه مكانًا في غيرِ الحجِّ.
ثمَّ إنْ أرادَ الناذرُ الاعتكافَ فيما عيَّنَه غيرَها، فإنْ كان قريبًا، فهو أفضلُ، وإلا بأنِ احتاجَ لشدِّ رحلٍ، خُيِّرَ عندَ القاضي وغيرِه. وجزمَ بعضُهم بإباحتِه. واختارَهُ الموفَّقُ في السفرِ
(1)
القصيرِ، واحتجَّ بخبرِ قُباء
(2)
، وحملَ النهيَ على أنَّه لا فضيلةَ فيه. وحكاهُ في "شرح مسلم" عن جمهورِ العلماءِ، ولمْ يجوِّزْه ابنُ عقيلٍ والشيخُ تقيُّ الدين
(3)
.
(ويبطلُ الاعتكافُ: بالخروجِ من المسجدِ لغيرِ عذرٍ). وأمَّا إذا كان لعذرٍ لما لا بدَّ منه لحاجةِ الإنسانِ؛ وهي البول، والغائطُ، والطهارةُ، والقيءُ، وغَسلُ متنجِّسٍ. وكذلك الأكلُ والشربُ، لعدمِ مَنْ يأتيه به.
(و) يبطلُ (بنيَّةِ الخروجِ ولو لمْ يخرجْ) من محلِّ اعتكافِه.
(و) يبطلُ الاعتكافُ (بالوطءِ في الفرجِ) أو دونَه، ولو ناسيًا أو مُكرهًا. قالَهُ العلَّامةُ الشيخُ مرعي. نصًّا؛ لما روى حربٌ عن ابنِ عباسٍ: إذا جامعَ المعتكفُ، بطلَ اعتكافُه، واستأنفَ الاعتكافَ
(4)
.
(1)
سقطت: "السفر" من الأصل.
(2)
يشير إلى حديث ابن عمر قال: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا. أخرجه البخاري (1193)، ومسلم (1399).
(3)
انظر: "دقائق أولي النهى"(39912).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (33812).
وبالإنزالِ بالمُباشرَةِ دونَ الفرجِ، وبالردَّةِ، وبالسُّكرِ.
وحيثُ بطَلَ الاعتكافُ، وجبَ استئَنافُ النَّذرِ المتتَابعِ، غيرِ المُقيَّدِ بزمَنٍ، ولا كفارة. وإن كان مُقيَّدًا بزمَنٍ معيَّنٍ، استأنفَهُ، وعليه كفَّارةُ يمينٍ؛
ولأنَّ الاعتكافَ عبادة تفسدُ بالوطءِ عمدًا، فكذلك سهوًا، كالحجِّ.
(و) يبطلُ الاعتكافُ (بالانزالِ بالمباشرةِ دونَ الفرجِ)، لقولِه تعالى:{وَلَا {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. فإنْ لمْ يُنزلْ، لم يفسدْ، كاللَّمسِ لشهوةٍ.
(و) يبطلُ (بالرِدَّةِ) لعمومِ قولِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولخروجِه عن أهليَّةِ العبادةِ.
(و) يبطلُ (بالسُّكرِ) ولو ليلًا، لخروجِه عن كونِه من أهلِ المسجدِ. فإنْ شرِبَ خمرًا ولم يَسْكر، أو أتى كبيرةً، فقال المجدُ: ظاهرُ كلامِ القاضي: لا يفسُدُ؛ لأنَّه من أهلِ العبادةِ
(وحيثُ بطلَ الاعتكافُ، وجبَ استئنافُ النذرِ المتتَاجِ، غيرِ المقيَّدِ بزمنٍ) كـ: لله عليّ أنْ اعتكفَ عشرةَ أيامٍ متتابعةً، أو: شهرًا.
(ولا كفَّارةَ) عليه إنْ كانَ فِعلُه ما تَقدَّمَ من المبطلاتِ حالَ كونِه عامدًا مختارًا، أو مُكرَهًا بحقٍّ.
(وإنْ كانَ) النذرُ (مقيَّدًا بزمنٍ معيَّنٍ) كـ: لله عليَّ أنْ اعتكفَ شهرَ محرمٍ. (استأنَفَهُ) ويكونُ الاستئنافُ على صفةِ أدائِه فيما يمكنُ. فإنْ شرطَ صومًا، أو عيَّنَه في أحدِ المساجدِ الثلاثةِ ونحوِه، كان استئنافُهُ كذلك، (وعليه كفَّارةُ يمينٍ؛
لفواتِ المَحَلِّ.
ولا يبطُلُ الاعتكافُ إن خَرجَ من المسجِدِ لبولٍ، أو غائطٍ، أو طهارةٍ واجبةٍ، أو لإزالةِ نجاسَةٍ، أو لجُمُعَةٍ تلزمُه، ولا إن خرجَ للإتيانِ بمأكَلٍ ومَشرَبٍ؛ لعَدَمِ خادِمٍ، وله المشيُ على عادَتِه.
وينبغي لِمن قَصَدَ المسجِدَ أن ينوِيَ الاعتكافَ مُدَّةَ لُبثِه فيه، لا سِيَّمَا إن كان صائِمًا.
لفواتِ المَحَلَّ) أي: الزَّمنِ المنذورِ فيه.
(ولا يبطلُ الاعتكافُ إنْ خرجَ من المسجدِ لبولٍ، أو غائطٍ، أو طهارةٍ واجبةٍ، أو لازالةِ نجاسةٍ، أو لجمعةٍ تلزمُه، ولا إنْ خرجَ للإتيانِ بمأكلٍ ومشربٍ؛ لعدمِ خادمٍ) يأتيه به (وله المشيُ على عادتِه) فلا يلزمُه مخالفتُها في سرعةٍ.
(وينبغي لمَنْ قصدَ المسجدَ أنْ ينويَ الاعتكافَ مدَّةَ لُبْثِه، لا سِيَّمَا إنْ كَان صائمًا)
ولا بأسَ أنْ يتنظَّفَ المعتكِفُ، ويُكرَهُ له التطيُّبُ، ويستحبُّ له ترك رفيعِ الثيابِ، والتلذُّذِ بما يُباحُ له قبلَ الاعتكافِ، وأنْ لا ينامَ إلا عن غلبةٍ، ولو مع قربِ ماءٍ، وأنْ لا ينامَ مضطجعًا، بل متربِّعًا مستنِدًا. ولا يُكرَهُ شيءٌ من ذلك، ولا أخذُه شعرَه وأظفارَه.
ولا يجوزُ البيغ والشراءُ للمعتكِفِ وغيرِه في المسجدِ، نصًّا. قال ابنُ هبيرة: منعَ صحَّتَه وجوازَهُ أحمدُ. قال في "الفروع": والإجارة كالبيعِ والشراءِ
(1)
.
(1)
انظر: "دقائق أولي النهى"(2/ 410).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"فائدةٌ": لا يبطلُ الاعتكافُ بالبيعِ وعَمَلِ الصنعةِ للتكَسُّبِ، على الصحيحِ من المذهبِ. قالَهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(1)
"الإنصاف"(7/ 639).
كِتابُ الحَجِّ
(كتابُ الحجِّ)
بفتحِ الحاءِ، لا كسرِها، في الأشهرِ. وعكسُه: شهرُ الحِجَّةِ.
وهو لغةً: القصدُ إلى مَنْ يعظِّمُه. وقيل: كثرةُ القصدِ إليه. وهو أحدُ مباني الإسلامِ وأركانِه. فُرِضَ سنةَ تسعٍ عندَ الأكثرِ. والعمرةُ لغةً: الزيارةُ. وقيل: القصدُ. وشرعًا: قصدُ مكةَ لعمل مخصوصٍ في زمنٍ مخصُوصٍ. والعُمرَةُ: زِيارَةُ البيتِ على وجهٍ مخصُوصٍ. وقال السعديُّ في "مناسكه": الحجُّ: هو قصدُ البيتِ الشريفِ بإحرامٍ مخصوصٍ مع أفعالٍ مخصوصةٍ، من وقوفٍ وطوافٍ وغيرِهما، في وقتٍ معيَّنٍ، على وجهٍ مخصوصٍ.
تتمةٌ: ينبغي لمَنْ قصدَ الحجَّ أنْ يبادرَ به، ويجتهدَ في الخروجِ من المظالمِ، ورفيقٍ حَسَنٍ. قال أحمدُ: كلّ شيءٍ من الخيرِ يبادِرُ به.
قال أبو بكير الآجريُّ وغيرُه: يصلِّي ركعتين، ثمَّ يستخيرُ في خروجِه، ويبكِّرُ، ويكونُ يومَ خميسٍ، ويصلِّي في منزلِه ركعتين، ويقول إذا نزلَ منزلًا، أو دخلَ بلدًا ما وردَ.
قالَ ابنُ الزاغونيِّ وغيرُه: يُصلِّي ركعتينِ ويدعو بعدَهما بدعاءِ الاستخارةِ، ويصلِّي في منزلِهِ ركعتينِ، ثمَّ يقولُ: اللهمَّ هذا ديني وأهلي ومالي، وديعةً عندَكَ، اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفرِ، والخليفةُ في الأهلِ والمالِ والولدِ. وأنْ يخرجَ يومَ خميسٍ أو اثنينِ. ويستخيرُ: هلْ يحجُّ العامَ أو غيرَه
(1)
(1)
انظر "الفروع"(5/ 298).
وهو واجِبٌ مع العُمرَةِ في العُمُرِ مَرَّةً.
وشَرطُ الوجُوبِ خَمسَةُ أشياءَ:
الإسلامُ، والعقلُ، والبلوغُ، وكمالُ الحُريَّةِ.
لكن يصِحَّانِ من الصَّغير والرَّقيقِ، ولا ئجزِئَانِ عن حَجَّةِ الإسلامِ وعُمرَتِه. فإن بلَغَ الصَّغيرُ أو عَتَقَ الرَّقيق قبلَ الوقوفِ، أو بعدَه إن عادَ فوقَفَ في وقتِه، أجزأة عن حجَّةِ الإسلام، ما لَمْ يكُن أحرمَ مُفرِدًا أو قارِنًا وسعَى بعدَ طوافِ القدومِ.
وكذلِكَ تُجزِئُ العُمرَةُ إن بلَغَ أو عَتَقَ قبلَ طوافِها.
(وهو) أي: الحجُّ (واجبٌ مع العمرةِ في العُمُر
(1)
مرَّةً) واحدةً، إجماعًا.
(وشَرْطُ الوجوبِ خمسةُ أشياءَ):
الأوَّلُ: (الإسلامُ): أي: فلا يجبُ على كافرٍ.
(و) الثاني: (العقلُ) فلا يصحُّ من مجنونٍ.
(و) الثالثُ: (البلوغُ) فلا تجبُ على الصغيرِ.
(و) الرابعُ: (كمالُ الحريةِ) فلا يجبُ على الرقيقِ
(لكنْ يصِحَّانِ) أي: الحجُّ والعمرةُ (من الصغيرِ والرقيقِ، ولا يُجزئانِ عن حجَّةِ الإسلامِ وعمرتِه. فإنْ بلغَ الصغيرُ، أو عتَقَ الرقيقَ قبلَ الوقوفِ) بعرفةَ (أو بعدَه) أي: بعدَ الوقوفِ (إنْ عادَ) إلى عرفةَ، (فوقفَ) بها (في وقتِه) أي: الوقوفِ، (أجزأهُ) ذلك (عن حجَّةِ الإسلامِ، ما لمْ يكنْ أحرمَ مُفرِدًا أو قارنًا، وسعى بعدَ طوافِ القدومِ. وكذلك تُجزئُ العمرةُ إنْ بلغَ أو عتقَ قبلَ طوافِها) ثمَّ طافَ وسعى
(1)
في الأصل: "العمرة".
الخامِسُ: الاستِطاعَةُ، وهي مِلكُ زادٍ، وراحِلَةٍ تصلُحُ لمثلِه، أو مِلكُ ما يَقِدرُ به على تَحصِيلِ ذلِك، بشرطِ كونِه فاضِلًا عمَّا يحتاجُهُ من كُتُبٍ، ومَسكَنٍ، وخادِمٍ، وأن يكونَ فاضِلًا عن مؤُنتِه ومؤُنةِ عيالِه
لها، فتجزئهِ عن عمرةِ الإسلامِ. ويكونُ صغيرٌ بلغَ محرِمًا، وقنٌّ عتقَ محرِمًا
(1)
.
(الخامسُ) من شروطِ وجوبِ الحجِّ: (الاستطاعةُ) للآيةِ والأخبارِ (وهي) أي: الاستطاعةُ (مِلكُ زادٍ) يحتاجُه في سفرِه ذهابًا وإيابًا، من مأكولٍ ومضروبٍ وكسوةٍ (و) مِلكُ (راحلةٍ) لركويه باَقِها، بشراءٍ أو كِراءٍ (تَصلُحُ) أي: الرَّاحلةُ (لمثلِه) لحديثِ أحمدَ عن الحسنِ: لمَّا نزلتْ هذه الآيةُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قال رجلٌ: يا رسول الله، ما السَّبيلُ؟ قال:"الزادِ والرَّاحلةِ"
(2)
(أو مِلكُ ما يقدرُ به) من نقدٍ أو عرْضٍ (على تحصيلِ ذلك) أي: الزادِ والرَّاحلةِ وآلتِهما. فإنْ لمْ يملكْ ذلك، لمْ يلزمْه الحجُّ، لكنْ يُستحبّ لمَنْ أمكنَهُ المشيُ والكسْبُ بالصنعةِ، ويُكرَهُ لمَنْ حِرْفتُه المسألةُ.
وذلك (بشرطِ كونِه) أي: الزادِ والراحلةِ (فاضلًا عمَّا يحتاجُه من كتبِ) علمٍ. فإنِ استغنَى بأحدِ نسختَيْن من كتابٍ، باعَ الأخرى. (و) من (مسكنٍ) يصلُحُ لمثلِه (وخادمٍ) أي: خادمٍ يحتاجُه. وما لا بدَّ منه، أي: من لباسٍ وغطاءٍ يصلُحُ لمثلِه، (وأنْ يكونَ فاضلًا عن مؤُنتِه ومؤُنةِ عيالِه)؛ لحديثِ: "كفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يضيَّعَ
(1)
كذا في الأصل. وتتمته في "دقائق أولي النهى"(2/ 414): "كمن أحرم إذن، أي بعد بلوغه وعتقه".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 433). وأخرجه الدارقطني (2/ 218) من حديث أنس. وضعفه الألباني في "الإرواء"(988).
على الدَّوام.
فَمَن كَمُلَت له هذه الشُّروطُ، لزِمَهُ السَّعيُ فَورًا، إن كانَ في الطَّريقِ أَمنٌ.
فإن عَجَزَ عن السَّعي لعُذرٍ، ككِبَرٍ، أو مرضٍ لا يُرجَى برؤُهُ، لزِمَه أن يقيمَ نائبًا حُرًّا، ولو امرأةً،
مَنْ يقوت"
(1)
. (على الدَّوامِ) أي: بأنْ يكونَ له إذا رجعَ ما يقومُ بكفايته وكفايةِ عيالِه على الدوامِ.
(فمَنْ كمُلَتْ له هذه الشروطُ) المتقدِّمُ ذِكْرُها (لزِمَه السَّعيُ) أي: وجبَ عليه السعيُ للحجِّ والعمرةِ (فورًا) نصًّا، فيأثمُ إنْ أخَّرَهُ بلا عذرٍ، بناءً على أنَّ الأمرَ للفورِ؛ ولحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا:"تعجَّلُوا إلى الحجِّ -يعني: الفريضةَ- فإنَّ أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له". رواه أحمدُ
(2)
. ولأنَّ الحجَّ والعمرةَ فرضُ العُمُرِ، فأشبَها الإيمانَ. وأما تأخيرُه عليه السلام وأصحابُه، فيحتملُ أنَّه لعذرٍ، كخوفِه على المدينةِ من المنافقين واليهودِ وغيرِهم، أو نحوِه.
(إنْ كانَ في الطريقِ أمنٌ) لأنَّ إيجابَ الحجِّ مع عدمِ ذلك ضررٌ، وهو منفي شرعًا.
(فإنْ عجَزَ عن السَّعي لعذرٍ، ككِبرٍ، أو مرضٍ لا يُرجَى بُرْؤه) نحو زَمانةٍ (لزِمَه أنْ يقيمَ نَائبًا) يحجُّ ويعتمرُ عنه. ويكونُ النائب (حُرًّا) لا رقيقًا، (ولو) كان (امرأةً) فيصحُ أنْ ينوبَ عن الرجلِ المرأةُ، وعن المرأةِ الرجلُ، ويكفي النائب أنْ ينويَ عن
(1)
أخرجه أبو داود (1692) من حديث عبد الله بن عمرو. وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 58)(2867)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(990).
يَحُجُّ ويعتَمِرُ عنهُ مِن بلَدِه. ويُجزِئُه ذلِكَ ما لَم يَزُل العُذرُ قبلَ إحرامِ نائِبِه.
فلو ماتَ قبلَ أن يستَنيبَ، وجَبَ أن يُدفَعَ من تَرِكَتِه لمن يَحُجُّ ويَعتَمِرُ عنه.
المستنيبِ، ولا يُعتبرُ تسميتُه لفظًا، نصًّا. وإنْ جهلَ اسمَه
(1)
أو نسبَه، لبَّى عمَّنْ سلَّم إليه المالَ ليحجَّ به عنه
(يحجُّ ويعتمرُ عنه) لحديث ابنِ عباسٍ: أنَّ امرأةً من خثعمَ
(2)
قالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي أدركتْه فريضةُ اللهِ في الحجِّ شيخًا كبيرًا، لا يستطيعُ أنْ يستويَ على الرَّاحلةِ، أفأحجُّ عنه؟ قال:"حُجِّي عنه". متفقٌ عليه
(3)
. وعُلِمَ من الخبرِ: جوازُ نيابةِ المرأةِ عن الرجلِ، فعكسُهُ أوْلى.
فورًا (من بلدِه) أي: العَاجزِ؛ لأنَّه وجبَ عليه كذلك. ويكفى أنْ ينويَ النائبُ عن المستنيبِ، وإنْ لَمْ يُسمِّهِ لفظًا.
(ويُجزِئُه ذلك) أي: فعلُ النائب (ما لمْ يزُلْ العذرُ) من نحوِ مرضٍ أُبيحَ لأجلِه الاستنابةُ؛ لأنَّه أتى بما أُمِرَ به، فخرجَ عن عهدتِه، كما لو لمْ يبرأْ. والمعتبرُ لجوازِ الاستنابةِ: اليأسُ ظاهرًا، وسواءٌ عُوفيَ قبلَ فراغِ نائبِه من النُّسُكِ، أو بعدَه. (قبلَ إحرامِ نائبِه) لقدرتِه على المبدَلِ قبلَ الشروعِ في البدلِ. ومَنْ يُرجَى برؤْه لا يستنيبُ، فإنْ فعلَ، لمْ يُجزئْه
(فلو ماتَ قبلَ أنْ يستنيبَ، وجبَ أنْ يُدفعَ من تَركتِه لمَنْ يحجُّ ويعتمرُ عنه) من
(1)
في الأصل: "اسم".
(2)
في الأصل: "خشم".
(3)
أخرجه البخاري (1854)، ومسلم (1335).
ولا يصِحّ ممَّن لم يحُجَّ عن نفسِه حَجٌّ عن غيرِهِ.
وتزيدُ الأنثى شَرطًا سادسًا وهو: أن تَجِدَ لها زَوجًا، أو محرَمًا
بلدِ الميتِ؛ لأنَّ القضاءَ يكونُ بصفةِ الأداءِ. ولو لمْ يوصِ بذلك، لحديثِ ابنِ عباسٍ: أنَّ امرأةً قالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمِّي نذرتْ أنْ تحجَّ، فلمْ تحجَّ حتى ماتتْ، أفأحجّ عنها؟ قال:"نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كانَ على أُمُّكِ دَيْنٌ، أكنتِ قاضيَته؟ اقضُوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالوفاءِ". رواه البخاريُّ
(1)
.
(ولا يصحُّ ممَّنْ لمْ يحجَّ عن نفسِه) وكذا مَنْ عليه حجُّ قضاءٍ، أو نذرٍ (حَجٌّ عن) فرضِ (غيرِه) ولا عن نذرِه، ولا عن نافلتِه. حيًّا كان المحجوجُ عنه، أو ميِّتًا. فإنْ حجَّ عن غيرِه قبلَ نفسِه، انصرفَ إلى حجِّةِ
(2)
الإسلامِ؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ: أنَّ النَّبِيَّ سمِعَ رجلًا يقولُ: لبيكَ عن شُبرُمةَ. قال: "حججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حجَّ عن نَفسِكَ ثمَّ حُجَّ عَن شُبرُمَةَ" رواه أحمدُ، واحتجَّ به، وأبو داود
(3)
وابنُ حبانَ والطبرانيُّ
(4)
. قال البيهقيُّ: إسنادُه صحيحٌ. وقولُه: "حُجَّ عن نفسِك". أي: استدِمْه عن نفسِك، كقولِكَ للمؤمنِ: آمِنْ. أي: دُمْ على إيمانِكَ.
(وتزيدُ الأنثى) أي: مع ما تقدَّمَ (شرطًا سادسًا) لوجوبِ الحجِّ والعمرةِ (وهو: أنْ تجدَ لها زوجًا، أو مَحْرَمًا) نصًّا. قال أحمد
(5)
: المَحرَمُ من السبيلِ، فمَنْ
(1)
أخرجه البخاري (1852).
(2)
في الأصل: "حج".
(3)
في الأصل: "واحتج به أبو داود".
(4)
لم أقف عليه عند أحمد. وأخرجه أبو داود (1811)، وابن حبانَ (3988)، والطبرانيُّ (12419)، وصححه الألباني في "الإرواء"(994).
(5)
سقطت: "أحمد" من الأصل.
مكلَّفًا، وتقدِرُ على أُجرَتِه،
لمْ يكنْ لها مَحرَمٌ، لم يلزمْها الحجُّ بنفسِها ولا بنائبِها.
ولا فرقَ بين الشابَّةِ والعجوزِ، نصًّا. ولا بين طويلِ السفرِ وقصيرِه؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ:"لا تسافرِ امرأةٌ إلا مع مَحرَمٍ، ولا يدخلْ عليها رجلٌ إلا ومعها مَحرَمٌ". فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أريدُ أنْ أخرجَ في جيشِ كذا وكذا، وامرأتي تريدُ الحجَّ؟ فقال:"اخرجْ معها". رواه أحمدُ
(1)
بإسنادٍ صحيحٍ. وفي "الصحيحين"
(2)
: أنَّ امرأتي خرجتْ حاجَّةً، وإني اكتُتِبتُ في غزوةِ كذا. قال:"فانطلقْ فحجَّ معها"
ولا فرقَ بين حجِّ الفرضِ والتطوُّع في ذلك؛ لأنَّه عليه السلام لم يستفصِلْه عن حبها، ولو اختلفَ، لمْ يجزْ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ.
والمَحرَمُ: مَنْ تحرمُ عليه على التأبيدِ بنَسَبٍ: وهو أبو المرأةِ، وإنْ علا، وابنُها، وإنْ سَفَلَ، وأخوهَا من كلِّ جهةٍ، وعمُّها من كلِّ جهةٍ، وكذا عمُّ أبيها، وعمُّ جدِّها، وإنْ علا، وأبو أمِّها، وبنو بناتِها، وإنْ سَفَلْنَ، وبنو إخوتِها وأخواتِها، وبنو أبنائِهم، وإنْ سَفَلوا. أو بسببٍ مباحٍ: من رَضاعٍ، أو مصاهرةٍ. بخلافِ وطءِ شُبهَةٍ وزنًا؛ لأنَّ المَحرميةَ نعمةٌ، فاعتُبرَ إباحةُ سببِها، كسائرِ الرخصِ. وطئًا مباحًا من غيرِ نكاحٍ، كالوطءِ بملكِ اليَمينِ، فإنَّ سيِّدَ الأمةِ التي وطِئَها يكونُ مَحرَمًا لأمِّ سُرِّيتِه وبنتِها من غيرِه. والملاعِنُ ليسَ مَحرَمًا للملاعنةِ؛ لأنَّ تحريمَها عليه أبدًا عقوبةٌ وتَغليظٌ عليه، لا لحرمَتِها.
ونفقةُ المَحرَمِ عليها.
وأنْ يكونَ المَحرَمُ (مكلَّفًا) فلا مَحرميَّةَ لصغيرٍ ومجنونٍ (وتقدرُ على أُجرتهِ)
(1)
أخرجه أحمد (3/ 408)(1934)، والبخاري (1862).
(2)
أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341).
وعلى الزَّادِ والراحِلَةِ لهَا ولَة. فإن حجَّت بلا مَحَرمٍ حَرُمَ، وأجزأَ.
ذهابًا وإيابًا (و) تقدرُ (على الزادِ والراحلةِ لها وله) أي: للمرأةِ ومَحرَمِها. وأنْ تكونَ الراحلة وآلتها صالحين لهما، على ما تقدَّمَ. فإنْ لمْ تملِك ذلك لهما، لم يلزمْها
(فإنْ حجَّتْ) أي: المرأةُ (بلا مَحرَمٍ، حرُمَ) سفرُها بدونِه (وأجزأ) ها حجُّها، كمَنْ حجَّ وتركَ حقًّا يلزمُه، من نحوِ دَيْنٍ. قال الفهَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على الأصلِ: قلتُ: فلا تترخَّصُ
(1)
.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 434).
بابُ الإحرَامِ
وهو واجبٌ من الميقاتِ. ومَنْ منزِلُه دونَ المِيقَاتِ، فميقاتُه منزِلُه.
(بابُ الإحرامِ)
لغةً: نيَّةُ الدخولِ في التحريمِ؛ لأنَّه يحرِّمُ على نفسِه بنيَّتِه ما كان مباحًا له قبلَ الإحرامِ من النكاحِ والطيبِ ونحوِهما.
وشرعًا: نيَّةُ النُّسُكِ.
(وهو) أي: الإحرامُ (واجبٌ من الميقاتِ) لأنَّه عليه السلام وقَّتَ المواقيتَ، ولم يُنقلْ عنه، ولا عن أحدٍ من الصحابةِ، أنَّه تجاوزَ ميقاتًا بلا إحرامٍ.
وعُلِمَ منه: أنَّه يجوزُ الإحرامُ من أوَّلِ الميقاتِ وآخرِه، لكنَّ أوَّلَه أوْلَى.
(ومَنْ منزِلُه دونَ الميقاتِ، فميقاتُه مَنزلُه) أي: من منزلِه لحجٍّ وعمرةٍ؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ: وقَّتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأهلِ المدينةِ ذا الحُليفَةِ، ولأهلِ الشَّامِ الجُحفة
(1)
، ولأهلِ نجدٍ قرنًا، ولأهلِ اليمنِ يلَمْلَمَ، هنَّ لهنَّ، ولمَنْ أتى عليهنَّ من غيرِ أهلهنَّ، ممَّنْ يريدُ الحجَّ والعمرةَ. ومَنْ كانَ دونَ ذلك فمهِلُّهُ من أهلِه، وكذلك أهلُ مكَّةَ يُهلُّون منها". متفقٌ عليه
(2)
. وعن عائشةَ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وقَّتَ لأهلِ العراقِ ذاتَ عِرْقٍ. رواه أبو داودَ، والنسائيُّ
(3)
. وعن جابرٍ نحوُه مرفوعًا، رواه مسلمٌ
(4)
.
(1)
سقطت: "ولأهل الشام الجحفة" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (1181).
(3)
أخرجه أبو داودَ (1739)، والنسائيُّ (2656)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه مسلم (1183).
ولا ينعقِدُ الإحرامُ معَ وجودِ الجُنونِ، أو الإغماءِ، أو السُّكر.
وإذا انعقَدَ لم يبطُل إلَّا بالردَّة، لكن يفسُدُ بالوطءِ في الفَرجِ قبلَ التحلُّلِ الأوَّل، ولا يبطُل، بل يلزمُه إتمامُه، والقَضاءُ.
ويُخيَّر من يريدُ الإحرامَ بين
(ولا ينعقدُ الإحرامُ مع وجودِ الجنونِ، أو الإغماءِ، أو السُّكْرِ)
(1)
لعدمِ صحةِ القصدِ إذنْ.
(وإذا انعقدَ) الإحرامُ (لم
(2)
يبطلُ) بذلك (إلا بالردَّةِ) لعمومِ قولِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65](لكنْ يفسدُ بالوطءِ في الفرجِ قبلَ التحلُّلِ الأوَّلِ) حكاه ابنُ المنذرِ إجماعًا. (ولا يبطلُ) الإحرامُ بالوطءِ (بل يلزمُ) المحرمَ (إتمامُه) أي: الحجِّ. ولا يخرجُ منه بالوطءِ، رُويَ عن عمرَ، وعليٍّ، وأبي هريرةَ، وابنِ عباسٍ. وحكمُه كالإحرامِ الصحيحِ، لقولِه تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البَقَرَة: 196] وروي مرفوعًا أمر المجامعِ بذلك، (و) لأنَّه معنًى يجب به
(3)
(القضاءُ) فلم يخرجْ به منه، كالفواتِ، فيفعلُ بعدَ الإفسادِ، كما كانَ يفعلُه قبلَه، من وقوفٍ وغيرِه. ويجتنبُ ما يجتنبُه قبلَه، من وطءٍ وغيرِه، ويَفدي لمحظورٍ فعلَه
(4)
بعدَه.
ويقضي مَنْ أفسدَ نُسُكَه بالوطءِ، كبيرًا كان أو صغيرًا، واطئًا أو موطوءًا، فرضًا كان الذي أفسَدَه أو نفْلًا، فورًا.
(ويُخيَّرُ مَنْ يريدُ الإحرامَ بين) ثلاثةِ أشياءَ:
(1)
في الأصل: "والإغماءِ، والسُّكْرِ".
(2)
في الأصل: "لا".
(3)
سقطت: "به" من الأصل.
(4)
في الأصل: "المحظور قبله".
أن ينويَ التَّمتُّعَ - وهو أفضَلُ - أو ينويَ الإفرادَ، أو القِرانَ.
فالتَّمتُّعُ: هو أن يُحرِمَ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ، ثم بعدَ فراغِه منهَا يُحرِمُ بالحجِّ.
أحدُها: وهو (أنْ ينويَ التمتُّعَ - وهو أفضلُ) نصًّا. قال: لأنَّه آخِرُ ما أمرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ففي "الصحيحين"
(1)
أنَّه عليه السلام: أمرَ أصحابَه لما طافوا وسعَوْا، أنْ يجعلوها عمرةً إلا مَنْ ساقَ هديًا، وثبتَ على إحرامِه؛ لسوقِه الهديَ، وتأسَّفَ بقولِه:"لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سُقْتُ الهديَ، ولأحلَلْتُ معكم"
(2)
. ولا ينقلُ
(3)
أصحابَه إلَّا إلى الأفضَلِ، ولا يتأسَّفُ إلَّا عليه.
وما أُجيبَ به عنه، من أنَّه لاعتقادِهم عدمَ جوازِ العمرةِ في أشهرِ الحجِّ! مردودٌ بأنَّهم لم يعتقدوه. ثمَّ لو كان كذلك، لم يخصَّ به مَنْ لمْ يَسُقِ الهديَ؛ لأنَّهم سواءٌ في الاعتقادِ. ثمَّ لو كان كذلكِ، لمْ يتأسَّفْ هو؛ لأنَّه يعتاقدُ جوازَ العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، وجعلَ العلَّةَ فيه سوقَ الهدي. ولما في التمتُّعِ من اليسرِ والسهولةِ، مع كمالِ أفعالِ النُّسكَيْنِ. (أو ينويَ الإفرادَ، أو) ينويَ (القِرانَ)
(فـ) صفةُ (التمتُّعِ: هو أنْ يُحرمُ بالعمرةِ في أشهرِ الحجِّ) نصًّا.
قال الأصحابُ: ويفرَغُ منها. وفي "المستوعب": ويتحلَّلُ (ثمَّ بعدَ فراغِه منها) أي: العمرةِ (يُحرِمُ بالحجِّ) في عامِه مطلقًا، أي: من مكةَ أو قُربِها، أو بعيدٍ منها.
(1)
أخرجه البخاري (1085)، ومسلم (1240) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه البخاري (1651)، ومسلم (1216) من حديث جابر.
(3)
في الأصل: "ينتقلُ".
والإفردُ: هو أن يُحرِمَ بالحجِّ، ثمَّ بعدَ فراغِه منهُ يُحرِمُ بالعُمَرةِ.
والقِرانُ: هو أن يُحرِمَ بالحَجِّ والعُمرةِ معا، أو يُحرِمَ بالعُمرَةِ، ثمَّ يُدخِلَ الحجَّ عليهَا قَبلَ الشُّروعِ في طَوافِهَا. فإن أحرمَ به ثمَّ بِهَا، لم تصِحَّ.
ومن أحرَمَ وأطلَق، صحَّ، وصرفَه لِمَا شاءَ، وما عَمِلَ قبلُ، فَلغوٌ.
(و) الثاني: (الإفرادُ): و (هو أنْ يُحرِمَ بالحجِّ، ثمَّ بعدَ فراغِه منه) أي: من الحجِّ (يُحرِمُ بالعمرةِ) مطلقًا.
(و) الثالثُ: (القِرانُ): و (هو أنْ يُحرِمَ بالحجِّ والعمرةِ معًا، أو يُحرِمَ بالعمرةِ، ثمَّ يُدخِلَ الحجَّ عليها) أي: العمرةِ. ويصحُّ؛ لما في "الصحيحين"
(1)
: أنَّ ابنَ عمرَ فعلَهُ" وقال: هكذا صنعَ رسولُ صلى الله عليه وسلم.
ويكونُ إدخالُ الحجِّ عليها، كما أشارَ إليه بقولِه: ثمَّ يُدخِلَ الحجَّ عليها (قبلَ الشروعِ في طوافِها) أي: العمرةِ، فلا يصحُّ بعدَ الشروعِ فيه لمَنْ لا هديَ معه، كما لو أدخلَهُ عليها بعدَ سعيِها، وسواءٌ كان في أشهرِ الحجِّ، أو لا
(فإنْ أحرمَ به) أي: الحجِّ، (ثمَّ) أحرمَ (بها) أي: العمرةِ (لم تصحَّ) أي: العمرةُ؛ لأنَّه لم يَردْ به أثرٌ، ولم يستفدْ به فائدةً، بخلافِ ما سبقَ.
(ومَنْ أحرمَ وأطلقَ، صحَّ) إحرامُه؛ لتأكُّدِه، وكونِه لا يخرجُ منه بمحظوراتِه (وصرَفَه) أي: الإحرامَ (لما شاءَ) من الأنساكِ، كما في الابتداءِ بالنيَّةِ دونَ اللفظِ (وما عَمِلَ) من إحرامٍ مطلقٍ (قبلَ) صرفِه لأحدِهما (فـ) ــهو (لغوٌ) لا يُعتدُّ به؛ لعدمِ التعيينِ
(1)
أخرجه البخاري (1640)، ومسلم (1230).
لكنَّ السُّنةَ لمن أرادَ نُسُكًا: أن يُعيِّنهُ، وأن يشتَرِطَ، فيقولَ: اللَّهم إنِّي أريدُ النُّسُكَ الفُلانيَّ، فيسِّرهُ لي، وتقبَّلْهُ منِّي، وإن حَبسَني حابسٌ، فَمَحِلِّي حيثُ حبستَني.
(لكنَّ السُّنةَ لمَنْ أرادَ نُسُكًا: أنْ يُعيِّنَه) في ابتداءِ إحرامِه، من عمرةٍ، أو حجٍّ، أو قِرانٍ، ويَلفِظَ به (وأنْ يَشتَرِطَ)؛ لحديثِ ضباعةَ بنتِ الزبيرِ حين قالتْ: إنِّي أريدُ الحجَّ، وأجدُني وَجِعَةً، فقال:"حُجَّي، واشترِطي، وقولي: اللهمَّ محلِّي حيثُ حبستَني". متفقٌ عليه
(1)
.
(فيقولُ: اللهمَّ إنِّي أريدُ النُّسُكَ الفُلانيَّ، فيسِّرْهُ لي
(2)
وتقبَّلْه منِّي، وإنْ حبسني حابسٌ، فمَحِلِّي حيثُ حبستَني) فيستفيدُ: أنَّه متى حُبِسَ بمرضٍ أو عدوٍّ ونحوِه، حلَّ ولا شيءَ عليه. نصًّا. قال في "المستوعب" وغيرِه: إلا أنْ يكونَ معه هديٌ، فيلزمُه نحرُه. ولو قال: فلي أنْ أحلَّ، خُيِّرَ.
ولو شرطَ أنْ يحلَّ متى شاءَ، أو إنْ أفسدَه لم يقضِه، لمْ يصحَّ الشرطُ؛ لأنَّه لا عذرَ له فيه.
وعُلِمَ ممَّا سبقَ: أنَّه لا يكفيهِ اشتراطُه بقلبِه.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207) من حديث عائشة.
(2)
سقطت: "لي" من الأصل.
بابُ محظُورَاتِ الإِحرَامِ
وهي سَبعةُ أشيَاءَ:
أحدُها: تَعمُّدُ لُبْسِ المَخيطِ على الرَّجُلِ، حتَّى الخُفَّينِ.
(بابُ محظُورَاتِ الإِحرَامِ)
أي: الممنوعاتِ بسببِه (وهي سبعةُ أشياءَ):
(أحدُها) أي: المحظوراتِ: (تعمُّدُ لُبْسِ المخيطِ) في بدنِه أو بعضِه، وهو ما عُمِلَ على قدرِ ملبوسٍ عليه، ولو دِرْعًا منسوجًا، أو لِبدًا مَعقودًا، ونحوه (على الرَّجُلِ، حتى الخُفَّين) لأنَّهما منه. إلا أنْ لا يجدَ المُحرِمُ إزارًا، فليلبسْ سراويلَ، أو لا يجدَ نعليْنِ، فليلبسْ خُفَّينِ أو نحوَهما، كرانٍ، وسرموزةٍ. ويحرُمُ قطعُهما، أي: الخُفَّينِ؛ لحديثِ ابنِ عباسِ: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ بعرفاتٍ، يقولُ:"مَنْ لمْ يجدْ نعلينِ، فليلبسْ الخُفَّينِ، ومَنْ لمْ يجدْ إزارًا فليلبسْ السراويلَ، للمُحرِمِ" متفقٌ عليه
(1)
.
ولا يعقدُ عليه رداءً ولا غيرَه، ولا يَخُلُّه بنحوِ شوكةٍ، ولا يزرُّه في عروتِه، ولا يغرزُه في إزاره. فإنْ فعلَ، أَثِمَ وفدَى؛ لأنَّه كمخيطٍ؛ ولقولِ ابنِ عمرَ لمُحرِمٍ: لا تعقدْ عليكَ شيئًا
(2)
. قال أحمدُ في محرمٍ حزمَ عمامتَهُ على وسطِه: لا يعقدُها، ويُدخِلُ بعضَها في بعضٍ.
(1)
أخرجه البخاري (1841)، ومسلم (1178).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 409).
الثَّانِي: تعمُّدُ تغطِيةِ الرأس مِنْ الرَّجُلِ -ولو بِطينٍ، أو استظلالٍ بمَحْمَلٍ- وتَغطِيةِ الوجهِ منَ الأُنثى، لكِنْ تسدُلُ على وجهِها للحاجَة.
ومِنْطَقَتُه وهِمْيانُه فيهما نفقةٌ
(1)
تُعقدُ مع حاجةٍ لعقدٍ. فإنْ ثبت
(2)
بغيرِ عقدٍ، لم يعقدْه؛ لعدمِ الحاجةِ. وإنْ لم يكن في مِنطقتِه أو هِميانِه نفقةٌ، لمْ يعقدْهُما، فإنْ فعلَ ولو لبسَهما لحاجةٍ، أو وجَعٍ، فدَى.
(الثاني) من المحظوراتِ: (تعمُّدُ تغطيةِ الرأسِ من الرَّجُل) إجماعًا؛ لنهيهِ عليه السلام عن لبسِ العمائمِ والبَرانِسِ (ولو بِطينٍ) أو نُورَةٍ، أو حنَّاء، أو عصبَه ولو بصيرٍ، حرُمَ بلا عذرٍ، وفدَى؛ لقولِه عليه السلام:"إحرامُ الرَّجُلِ في رأسِه، وإحرامُ المرأةِ في وجهِها"
(3)
. ونهى أنْ يشدَّ الرَّجلُ رأسَه بالسَّيرِ (أو استظلالٍ بمَحْمِلٍ) ونحوِه كمِحَفَّةٍ، أو ريشٍ يَعلو الرأسَ، حرُمَ بلا عذرٍ، وفدَى.
وإن استظلَّ بخيمةٍ أو شجرةٍ، ولو بطرحِ شيءٍ عليها يَستظلُّ به تحتَها، أو غطَّى وجهَه، فلا إثمَ، ولا فديةَ
(وتغطيةِ الوجهِ من الأنثى) لقولِه عليه السلام: "إحرامُ الرَّجُلِ في رأسِه، وإحرامُ المحرأةِ في وجهِها"
(4)
. (لكنْ تسدلُ على وجهِها للحاجةِ) أي: تضعُ الثوبَ فوقَ رأسِها وتُرْخيهِ على وجهِها لمرورِ أجانبَ قريبًا منها؛ لحديثِ عائشةَ: كان الرُّكبانُ يمرّونَ بنا ونحنُ محرِماتٍ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذَوْنا، سدَلَتْ إحدانا جِلبابَها
(1)
سقطت: "نفقة" من الأصل.
(2)
في الأصل: "ثلت".
(3)
أخرجه الدارقطني (2/ 294) من حديث ابن عمر.
(4)
تقدم آنفًا.
الثالث: قَصْدُ شَمِّ الطِّيبِ، ومَسِّ ما يَعلِقُ،
على وجهِها، فإذا جاوَزونا
(1)
كشفناه. رواه أبو داودَ
(2)
، والأثرمُ. قال أحمدُ: إنَّما لها أنْ تَشدلَ على وجهِها من فوق، وليس لها أنْ ترفعَ الثوبَ من أسفلَ. قال الموفَّقُ: كأنَّ الإمامَ يقصدُ أنَّ النقابَ من أسفلِ وجهِها، ولا يضرُّ مسُّ المسدولِ بشرةَ وجهِها، خلافًا للقاضي، وإنَّما مُنِعتْ من البُرْقُعِ والنقابِ؛ لأنَّه مُعَدٌّ لسترِ الوجهِ. ومتى غطَّتْه لغيرِ حاجةٍ، فدتْ، وحَرُمَ.
(الثالثُ) من المحظوراتِ: (قصدُ شمِّ الطيبِ) مسًّا، وشمًّا، واستعمالًا. فمتى طيَّبَ مُحرِمٌ ثوبَه أو بدنَه، أو استعملَ في أكلِ أو شربٍ، أو ادِّهانٍ، أو اكتحالٍ، أو استعاطٍ، أو احتقانٍ، طيبًا يَظهرُ طعمُهُ أو ريحُهُ، أو قَصدَ شمَّ دُهنٍ مُطيَّبٍ، أو مسكٍ، أو كافورٍ، أو عنبرٍ، أو زعفرانٍ، أو وَرْسٍ -وهو نباتٌ أصفرُ، كالسِّمِسمِ، باليمنِ، تُتخذُ منه الحمرةُ للوجهِ- أو بخورِ عودٍ، ونحوِه. أو ما يُنبتُه آدميٌّ لطيبٍ، ويُتخذُ منه، كوردٍ، وبَنَفسَجٍ، ومنثورٍ، ولينوْفَر، ويا سمينَ، وبانٍ، وزنبقٍ، وشمَّهُ، (ومسّ ما يَعلِقُ) به، كماءِ وردٍ، وسحيقٍ نحو مسكٍ، حرُمَ، وفدَى.
لا إنْ شمَّ بلا قصدٍ، أو مصرَّ ما لا يعلقُ، كقطعِ نحوِ مسكٍ. أو شمَّ، ولو قصدًا، فواكِهَ أو عُودًا، أو نباتَ صحراءَ، كخُزامى وشِيحٍ ونَرْجسٍ وإذْخِر. أو ما يُنبتُه آدميٌّ، لا بقصدِ طيبٍ، كحِناءٍ، وعُصْفُرٍ، وقَرَنْفُل، ودارِ صينيٍّ ونحوِها. أو لقصدِه ولا يُتخذُ منه، كريحانٍ فارسيٍّ، وهو الحَبَقُ، ونمَّام، وبَرَمٍ، وهو ثمرُ العِضاه، كأمِّ غَيلانَ، ومَردَقوشٍ. أو ادَّهنَ بغيرِ مطيَّبٍ كزيتٍ، وشيْرَج، ولو في رأسِه وبدنِه. أو
(1)
في الأصل: "جاذونا".
(2)
أخرجه أبو داود (1833)، وضعفه الألباني.
واستعِمالُه في أكلٍ أو شُربٍ؛ بحيثُ يظهرُ طعمُهُ، أو ريحُه.
فمن لَبِسَ، أو تطيَّبَ، أو غَطَّى رأسَه، ناسيًا، أو جَاهِلًا، أو مُكَرهًا، فلا شَيءَ عليه. ومتَى زالَ عُذْرُه، أزالَه في الحَالِ، وإلَّا فَدَى.
الرابِعُ: إزالةُ الشَّعْرِ منَ البدَنِ -ولو من الأَنفِ-
شمَّ بلا قصدٍ، كجالسٍ عندَ عطارٍ لحاجةٍ، وحاملِهِ ومقلِّبِهِ بلا
(1)
مسٍّ، وداخلِ سوقٍ وكعبةٍ
(2)
.
(و) أمَّا (استعمالُه في) نحوِ (أكلٍ أو شربِ، بحيثُ يظهرُ طعمُهُ أو ريحُهُ) ولو كان مطبوخًا، أو مسَّتْهُ النَّارُ، وإنْ كانتْ رائحتُهُ ذهبتْ وبقيَ طعمُه، حَرُمَ، وفدَى.
(فمَنْ لبِسَ) مخيطًا، إن كان ذكرًا، فدَى (أو تطيَّبَ) في ثوبه، أو بدنِه، فدَى (أو غطَّى رأسه) فدى، أو غطَّت وجهَهَا.
وإنْ غطَّى خنثى مشكلٌ وجهَه ورأسَه، فدَى. وإنْ غطَّى وجهَهُ ولبِسَ مخيطًا، فدَى. ولا يَفدي إنْ لبِسَه فقط، أو غطَّى وجهَهُ فقط.
فإنْ استعملَه في نحوِ أكلِ وشربٍ، أو لبِسَ مخيطًا، أو غطَّى رأسَه، أو غطَّتْ وجهَها (ناسيًا، أو جاهلًا) بالحكمِ، (أو مُكْرَهًا، فلا شيء عليه)؛ للحديثِ.
(ومتى زالَ عذرُه، أزالَه في الحالِ، وإلَّا فدَى) ويقدِّمُ غَسلَ طيبٍ على نجاسةٍ يُتيمَّمُ لها. قالَهُ في "الفروع".
(الرابعُ) من المحظوراتِ: (إزالةُ الشَّعَرِ من البدنِ) أي: من بدنِه كلِّه (ولو من الأنفِ) بلا عذرٍ؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:
(1)
في الأصل: "فلا".
(2)
انظر "غاية المنتهي"(1/ 395).
وتقليمُ الأظفَارِ.
الخامِسُ: قتلُ صيدِ البرِّ الوحشيِّ المأكُولِ، والدِّلالةُ عليهِ، والإعانَةُ على قتلِه، وإفسَادُ بيضِهِ، وقَتلُ الجَرَادِ، والقَمْل،
196]. وأُلْحِقَ بالحَلْقِ: القلعُ والنتفُ ونحوُه. (وتقليمُ الأظفارِ) بلا عذرٍ؛ لأنَّه إزالةُ جزءٍ من بدنِه يترفَّه به، فأشبَه الشَّعرَ.
(الخامسُ) من المحظوراتِ: (قتلُ صيدِ البرِّ) إجماعًا؛ لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95](الوحشيِّ المأكولِ) والمتولِّدِ منه ومِن غيرِه، كمتولِّدٍ بين وحشيٍّ وأهليِّ، أو مأكولٍ وحشيِّ وغيرِه، كسِمْعٍ - ولدُ الضبعِ من الذئب- وكالمتولِّدِ بين بقرِ الوحشي وأهليِّه؛ تغليبًا للحَظرِ.
(والدِّلالةُ عليهِ) أي: تحرُمُ الدِّلالةُ عليه، والإشارةُ (والإعانةُ على قتلِه) لأنَّه معونةٌ على محرَّمٍ، أشبَه الإعانةَ على قتلِ آدمِيٍّ معصومٍ.
ولا تحرُمُ الدِّلالةُ على طيبٍ ولباسٍ؛ لأنَّه لا ضمانَ فيهما بالسببِ، ولا يتعلَّقُ بهما حكمٌ يختصُّ بالدالِّ عليهما، بخلافِ الصيدِ، فإنَّه يحرُمُ على الدالِّ أكلُه منه، ويجبُ عليه جزاؤُه
(وإفسادُ بيضِه) بنقلٍ وغيرِه، يضمنُه بقيمتِه مكانَه؛ لأنَّ فسادَه كتلفِه، أشبَه المباشرَ لنقلِه
(وقتلُ الجرادِ) أي: ويضمنُ مُحرِمٌ بقتلٍ أو مباشرةٍ أو سبببٍ؛ لأنَّه بريٌّ يُشاهدُ طيرانُه في البرِّ، ويهلكُه الماءُ إذا وقعَ فيه، كالعصافيرِ، بقيمتِه.
(والقَمْلِ): ويحرُمُ بإحرامٍ قتلُ قملٍ وصِئبانِه من رأسهِ، أو بدنِه، أو ثوبِه، ولو برميهِ، لما فيه من الترفُّهِ بإزالتِه، أشبَه قطعَ الشَّعَرِ. ولا جزاءَ فيه؛ لأنَّه لا قيمةَ له، أشبَه
لا البَرَاغِيثِ، بل يُسنُّ قَتلُ كلِّ مُؤذٍ مُطلَقًا.
السَّادِسُ: عقدُ النِّكاحِ، ولا يصحُّ.
البراغيثَ، ولأنَّه ليس بصيدٍ
(لا البراغيثِ) وقُرادٍ، ونحوِهما، كدَلَمٍ، وبَقٍّ، وبعوضٍ
(بل يُسنُّ) أيمما: مع وجودِ أذىً، أو بدونِه (قتلُ كلِّ مؤذٍ) أي: من حيوانٍ وطيرٍ (مطلقًا) أي: في الحِلِّ والحرَمِ، غيرَ آدميٍّ؛ لحديثِ عائشةَ: أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتلِ خصرِ فواسقَ في الحرمِ: الحِدَأةُ، والغُرابُ، والفأرةُ، والعقربُ، والكلبُ العقورُ. متفقٌ عليه
(1)
. وفي معناها: كلّ مؤذٍ. وأما الآدميُّ غيرُ الحربيِّ، فلا يحِلُّ قتلُه إلا بإحدى الثلاثِ؛ للخبرِ
(2)
، وهي: الزنى، والردَّةُ، والقِصاصُ.
(السادسُ) من المحظوراتِ: (عقدُ النكاحِ) فيحرُمُ (ولا يَصحُّ) من مُحرِمٍ. فلو تزوَّجَ حُرِمٌ أو زوَّج، أو كان وليًّا، أو وكيلًا فيه، لم
(3)
يصحُّ، نصًّا. تعمَّدَهُ أو لا، لحديثِ مسلمٍ
(4)
عن عثمانَ مرفوعًا: "لا ينكِحُ المُحرِمُ، ولا يُنكِحُ".
وتُكرَه خِطبةُ مُحرِمٍ -بكسر الخاء- أي: أن يخطبَ امرأةً، أو يخطبَ حلالٌ فحرِمةً، لحديثِ عثمانَ مرفوعًا:"لا يَنكِحُ المحرِمُ، ولا يُنكِحُ، ولا يَخطبُ"
(5)
.
وكذا شهادتُه فيه. قال عمُّ والدي العلامةُ الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(6)
:
(1)
أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198).
(2)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود.
(3)
في الأصل. "فلا".
(4)
أخرجه مسلم (1409).
(5)
تقدم آنفا.
(6)
"غاية المنتهى"(1/ 400).
السابعَ: الوطءُ في الفَرجِ ودواعِيْهِ، والمُبَاشَرَةُ دونَ الفَرجِ، والاستِمنَاءُ.
وفي جميعِ المَحظُوراتِ: الفِديُة، إلَّا قتلَ القَمْلِ، وعقدَ النِّكاحِ.
ويتَّجه: لحلالٍ، وإلا فالشهادةُ في عقدٍ فاسدٍ حَرامٌ.
(السابعُ) من المحظوراتِ: (الوطءُ في الفرجِ) وهو: تغييبُ
(1)
حشَفةٍ أصليَّةٍ في فرجٍ أصليٍّ، قُبُلًا كان أو دُبُرًا، من آدميٍّ أو غيرِه؛ لقولِه تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] قال ابنُ عباسٍ: هو الجماعُ
(2)
.
فمتى فعلَ ذلك قبلَ التحلُّلِ الأوَّلِ، فسدَ نُسُكُه. هذا المذهبُ قولًا واحدًا، وعليه أكثرُ الأصحابِ
(3)
. عامدًا كان أو ساهيًا، وكذا الجاهلُ والمُكْرَه، وكذا النائمةُ. قال عم والدي الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(4)
: ويتَّجه: أو مجنونَة.
وعليهما المُضِيُّ في فاسدِه. ويقضي مَنْ أفسدَ نُسُكَه بذلك فورًا
(ودواعِيْهِ) أي: يحرُمُ دواعي الوطءِ، من تقبيلٍ ولمسٍ (والمباشرةُ دونَ الفرجِ) للذَّةٍ، واستدعاءِ الشهوةِ المنافي للإحرامِ. ولا تُفسدُ المباشرةُ النُّسُكَ، ولو أنزلَ؛ لأنَّ ذلك استمتاعٌ لا يجبُ بنوعِه الحدُّ، فلمْ يَفسدْ به الحجُّ.
(والاستمناءُ) كذلك محرَّمٌ، ولا يَفسُدُ به النُّسُكُ
(وفي جميعِ المحظوراتِ: الفديةُ، إلَّا قتلَ القمْلِ) فإنَّه لا قيمةَ له. (وعقدَ النكاحِ) فلا فديةَ فيه؛ لأنَّه عقدٌ فاسدٌ للإحرامِ، كشراءِ العبيدِ. وسواءٌ كان الإحرامُ صحيحًا أو فاسدًا.
(1)
في الأصل: "تغيب".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 179).
(3)
انظر "الإنصاف"(8/ 332).
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 400).
وفي البَيضِ والجرَادِ: قيمتُه مكَانَه.
وفي الشَّعْرَةِ أو الظُّفرِ: إطعامُ مِسكينٍ، وفي الاثنَين: إطعامُ اثنينِ، وفيما زادَ: فِديةٌ.
والضروراتُ تبيحُ للمُحرِمِ المحظُوراتِ، ويَفدِي.
(وفي البيضِ والجرادِ: قيمتُهُ مكانَه) أمَّا البيضُ؛ فلقولِ ابنِ عباسٍ: في بيضِ النعامِ قيمتُه
(1)
. ولأنَّه لا مِثلَ له، فوجَبتْ فيه القيمةُ. وكذا الجرادُ بقيمتِه؛ لأنَّه غيرُ مِثليِّ
(وفي الشَّعَرةِ أو الظُّفرِ: إطعامُ مسكينٍ. وفي الاثنينِ: إطعامُ اثنينِ. وفيما زادَ: فدية) لقولِه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وقولِه عليه السلام لكعبِ بنِ عُجْرَةَ: "لعلَّكَ آذاكَ هَوَامُّ رأسِكَ؟ " قال: نعمْ يا رسولَ اللهِ. فقال: "احلِقْ رأسَكَ، وصُمْ ثلاثةَ أيامٍ، أو أطعمْ ستَّةَ مساكينَ، أو انْسُكْ شاةً". متفقٌ عليه
(2)
. ولفظةٌ "أو" للتخييرِ. وخُصَّتْ الفديةُ
(3)
بالثلاثِ؛ لأنَّها جمعٌ. واعتبرتْ في مواضعَ، بخلافِ ربعِ الرأسِ
لكل مسكين مدُّ برٍّ
(4)
، أو نصفُ صاعِ تمرٍ، أو نصفُ صاعِ شعيرٍ، أو زبيبٍ، أو أقِطٍ
(والضروراتُ تبيحُ للمحرم
(5)
المحظوراتِ) المتقدِّمِ ذكرُها (ويَفدِي) إنْ فعلَ شيئًا منها.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 421).
(2)
أخرجه البخاري (1814)، ومسلم (1201).
(3)
سقطت: "الفدية" من الأصل.
(4)
سقطت: "لكل مسكين مدُّ برٍّ" من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهى"(2/ 495).
(5)
سقطت: "للمحرم" من الأصل.
بابُ الفِديَةِ
وهي: ما يجبُ بسببِ الإحرَامِ، أو الحَرَمِ.
وهي قِسمَان:
قِسمٌ على التَّخيير، وقِسمٌ على التَّرتيبِ.
فقِسمُ التَّخيير: كفِديةِ اللُّبْسِ، والطِّيبِ، وتَغطيَةِ، الرَّأسِ، وإزالةِ أكثرَ من شَعرتَين أو ظُفرَين، والإمناءِ بنَظرَةٍ، والمُباشَرَةِ بغيرِ إنزالِ منيٍّ.
(بابُ الفِديةِ)
وبيانُ أقسامِها وأحكامِها
وهي مصدرٌ: فدَى يَفْدي فِدَاءً. وشرعًا: (وهي ما يجبُ بسببِ الإحرامِ، أو الحرَمِ) وهو بفعلِ محظورٍ في إحرامٍ، أو تركِ واجِبٍ. أو بسببِ الحَرمِ، كصيدِ الحرمِ المكيِّ، ونباتِه.
(وهي) أي: الفِدية (قِسمانِ: قسئم على التخييرِ، وقسمٌ على الترتيبِ):
(فقسمُ التخييرِ: كفديةِ اللُّبسِ) أي: لبسِ المخيطِ (والطِّيبِ، وتغطيةِ الرأسِ) للذَّكَرِ، والوجهِ للأنثى، (وإزالةِ أكثرَ من شعرتَيْنِ، أو) أكثرَ من (ظُفِريْنِ) ففيه فديةٌ (والإمناءِ بنظرةٍ، والمباشرةِ بغيرِ إنزالِ منيٍّ) ففيه فديةٌ؛ لما في ذلك من الترفُّهِ. وقد قالَ ابنُ عباسٍ فيمَنْ وقعَ على امرأتِه في العمرةِ قبلَ التقصيرِ: عليه فديةٌ من صيامٍ، أو صدقةٌ، أو نسكٌ
(1)
. رواه الأثرمُ.
(1)
أخرجه البيهقي (5/ 172).
يخيَّرُ بين ذَبحِ شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعَامِ سَتَّةِ مساكينَ، لكلِّ مِسكينٍ مُدّ بُرٍّ، أو نِصفُ صاعٍ مِنْ غَيرِه.
ومِنَ التَّخييرِ: جَزاءُ الصَّيدِ، يُخيَّرُ فيه بينَ المِثْلِ مِنْ النَّعَم، أو تَقويمِ المِثلِ بمحَلِّ التَّلفِ، ويشتَري بقيمتِه طعامًا يُجزئُ في الفِطرةِ، فيُطعِمُ كلَّ مِسكينٍ مُدَّ بُرٍّ، أو نصفَ صَاعٍ من غَيرِه، أو يصومُ عن طَعَامِ كلِّ مِسكينٍ يومًا.
فإذا فعلَ ذلك (يُخيَّرُ) المُخرِجُ (بين ذبحِ شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ، أو إطعامِ ستَّةِ مساكين، لكلِّ مسكينِ) منهم (مُدُّ برٍّ، أو نصفُ صاعِ من غيرِه) أي: من نحوِ شعيرٍ، وزبيبٍ، وتمرٍ، أو أَقِطٍ
(ومن التخييرِ: جزاءُ الصَّيدِ، يُخيَّرُ فيه) مَنْ وجبَ عليه (بين) ذبحِ (المِثْلِ) أي: مثلِ الصيدِ (من النَّعَمِ) وإعطائِه لفقراءِ الحَرمِ، أيَّ وقتٍ شاءَ، فلا يختصُّ بأيامِ النحرِ. ولا يُجزِئُهُ أنْ يتصدَّقَ به حيًّا من النَّعَمِ (أو تقويمِ المثلِ بمحَلِّ التَّلفِ) أي: تلفِ الصَّيدِ، أو بقُربِ محلِّ التلف (ويشتري بقيمتِه طعامًا) نصًّا؛ لأنَّ كلَّ مِثليٍّ قُوِّمَ إنَّما يقوَّمُ مِثلُه. ولا يجوزُ أنْ يتصدَّقَ بالدراهمِ (يُجزئُ في الفطرةِ) وهو البُرُّ، والشَّعيرُ، والتمرُ، والزبيبُ، والأقِطُ. وله أنْ يُخرجَ من طعامٍ عنده بعدلِ ذلك (فيُطعِمُ كلَّ مسكينٍ مُدَّ بُرٍّ، أو نصفَ صاعِ من غيرِه، أو يصومُ عن
(1)
طعامِ كلِّ مسكينٍ يومًا) لقولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]
(1)
في الأصل: "عن كل".
وقسِمُ التَّرتيبِ:
كدَمِ المُتعَةِ والقِرانِ، وتركِ الواجبِ، والإحصَارِ، والوَطءِ، ونحوه.
فيجبُ على مُتمتِّعٍ، وقارِنٍ، وتاركِ واجبٍ، دمٌ، فإنْ عدِمَه أو ثَمنَه، صامَ ثلاثةَ أيامٍ في الحجِّ -والأفضَلُ كونُ آخِرِها يومَ عرفَةَ، وتصِحُّ أيَّامَ التَّشرِيقِ- وسبعةً إذا رجَعَ إلى أهلِهِ.
ويَجِبُ على مُحصَرٍ دمٌ، فإن لم يجِدْه صامَ عشَرَةَ أيَّامٍ، ثم حَلَّ.
(وقسمُ التَّرتيبِ) أي: ما يجبُ مرتَّبًا: (كدمِ المتعةِ، والقِرانِ، وتركِ الواجبِ) من واجباتِ الحجِّ أو العمرةِ (والإحصارِ) أي: إذا لمْ يشترطْ (والوطءِ، ونحوِه) كمباشرةٍ، واستمناءٍ، أو تقبيلٍ، ولمسٍ لشهوةٍ.
(فيجبُ على متمتعٍ، وقارنٍ، وتاركِ و اجبٍ، دم) أي: هديٌّ، وهو شاةٌ، أو سُبعُ بدنةٍ، أو سُبعُ بقرةٍ (فإنْ عَدِمَه) أي: عَدِمَ ذلكَ في موضعِه، وهو الحَرمُ، (أو ثمنَه) أي: وجدَه يُباعُ ولا ثمنَ معه (صامَ ثلاثةَ أيامٍ في الحجِّ) أي: وقتَهُ؛ لأنَّ الحجَّ أفعالٌ لا يُصامُ فيها، كقولِه تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، أي: فيها (والأفضلُ كونُ آخِرِها) أي: الثلاثةِ (يومَ عرفةَ) نصًّا، فيقدِّمُ الإحرامَ؛ ليصومَها في إحرامِ الحجِّ، واستُحِبُّ له هنا صومُ يومِ عرفةَ، لموضعِ الحاجةِ (وتصحُّ أيَّامَ التشريقِ) وهي أيامُ منًى. (وسبعةً) أيَّامٍ (إذا رجعَ إلى أهلِهِ) لقولِه تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البَقَرَة: 196] أي: هديًا {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البَقَرَة: 196].
(ويجبُ على مُحصَرٍ دمٌ) أي: هديٌّ، لقولِه تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. (فإنْ لمْ يجدْ) هديًا، (صامَ عشْرةَ أيَّامٍ) بنيةِ التحلّلِ (ثمَّ حلَّ)
ويجِبُ على من وَطِئَ في الحجِّ قبلَ التحلُّلِ الأوَّل، أو أنزلَ منيًّا بمباشرةٍ، أو استمناءٍ، أو تقبيلٍ، أو لَمْسٍ لشهوة، أو تَكرارِ نَظرٍ، بدنَةٌ، فإن لم يجِدهَا صامَ عشَرةَ أيَّامٍ، ثلاثةً في الحَجِّ، وسبعةً إذا رجَعَ.
وفي العُمرةِ إذا أفسدَها قبلَ تمامِ السَّعي، شاةٌ.
والتَّحلُّل الأوَّلُ يحصُلُ باثنينِ مِنْ رميٍ، وحَلقٍ، وطَوافٍ،
قياسًا على دمِ تمتُّعٍ. وليس له التحلُّلُ قبلَ الذبحِ أو الصومِ
(ويجبُ على مَنْ وطِئَ في الحجِّ قبلَ التحلُّل الأوَّلِ، أو أنزلَ منيًّا بمباشرةٍ، أو استمناءٍ، أو تقبيلٍ، أو لمسٍ لشهوةٍ، أو تَكرارِ نظرٍ) فأنزلَ في الجميعِ، وجبَ (بدنةٌ، فإنْ لمْ يجدْها
(1)
صامَ عشْرةَ أيامِ؛ ثلاثةً في الحجِّ، وسبعةً إذا رجعَ) إلى أهلِه.
(وفي العمرةِ إذا أفسدَها قبلَ تمامِ السعي) لا بعدَ السعي، قبلَ حَلْقٍ؛ لأنَّه بعدَ تحلُّل أوَّلٍ. وعليه لوطئِه في عمرتِه (شاةٌ) لنقصِ حُرمةِ إحرامِها عن الحجِّ، لنقصِ أركانِها، ودخولِها فيه إذا جامعتْهُ، سواءٌ وطِئَ قبلَ تمامِ السعي، أو بعدَه قبلَ الحلقِ.
ولا فديةَ على مُكرَهَةٍ في وطءٍ في حجٍّ أو عمرةٍ، لحديثِ:"وعمَّا استُكرهوا عليه"
(2)
. ومثلُها النائمةُ. ولا يلزمُ الواطئَ أنْ يَفدِيَ عنها
(والتحلُّلُ الأوَّلُ يحصلُ باثنينِ) من ثلاثٍ: (من رميٍّ، وحَلْقٍ، وطوافِ) إفاضةٍ. فلو حلَقَ وطافَ، نمَّ وطِئَ ولم يزمِ
(3)
، فعليه دمٌ لوطئِه، ودمٌ لتركِه الرميَ،
(1)
في الأصل: "يجد".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2045) بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" من حديث ابن عباس. وصححه الألباني في "الإرواء"(82).
(3)
في الأصل: "يلزم".
ويَحِلُّ له كلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء.
والثَّاني يحصُلُ بما بقيَ، معَ السعي، إن لم يكْن سعَى قَبْلُ.
وحجُّهُ صحيحٌ (ويحلُّ له كلُّ شيءٍ) حرُمَ بالإحرامِ (إلا النساءَ) نصًّا. وطئًا، ومباشرةً، وقُبْلةً، ولمسًا لشهوةٍ، وعقدَ نكاحٍ، لحديثِ عائشةَ مرفوعًا:"إذا رميتُمْ وحلقتُكمْ، فقدْ حلَّ لكم الطِّيبُ، والثيابُ، وكلُّ شيءٍ، إلا النساءَ"
(1)
. رواه سعيدٌ. وقالتْ عائشةُ: طيَّبْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإحرامِه حينَ أحرمَ، ولحلِّه قبلَ أنْ يطوفَ بالبيتِ. متفقٌ عليه
(2)
.
(و) التحلُّلُ (الثاني يحصلُ بما بقيَ) من الثلاثِ (مع السعي) من متمتِّعٍ مطلقًا، ومفردٍ وقارنٍ لم يسعيا مع طوافِ قدومٍ؛ لأنَّه ركنٌ. وإليه أشارَ بقولِه:(إنْ لمْ يكن سعى قبلُ) وإنْ لمْ يُعِدْ إذنْ. وهذا التحلُّلُ هو الذي يحلُّ به النساءُ أيضًا.
* * *
(1)
أخرجه أحمد (42/ 40)(25103) قال الألباني: ضعيف بزيادة "وحلقتم". "الإرواء"(1046).
(2)
أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189).
فَصْلٌ
والصَّيدُ الذي له مِثْلٌ مِن النَّعَم، كالنَّعامَةِ وفيها: بدنةٌ، وفي حِمَارِ الوَحشِ وبقَرِهِ: بقَرَةٌ، وفي الضَّبُعِ كَبشٌ،
(فصلٌ)
في جزاءِ الصيدِ
أي: مثلُه في الجملةِ إنْ كان، وإلَّا فقيمتُه.
(والصيدُ الذي له مِثلٌ) أي: شبيهٌ (من النَّعَمِ) أي: في الخِلقةِ: (كالنَّعامةِ، وفيها: بدنةٌ) فيجبُ فيه ذلك المِثلُ، نصًّا؛ لقولِه تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وجعلَ عليه السلام في الضَّبعِ: كبشًا
(1)
.
روي عن عمرَ، وعثمانَ، وعلىِّ، وزيدٍ، وابنِ عباسٍ، ومعاويةَ
(2)
؛ لأنَّها تُشبِهُهَا
(3)
.
(وفي حمارِ الوحش): بقرةٌ. روي عن عمرَ (و) في (بَقَرِه) أي: الوحشِ: (بقرَةٌ) روي عن ابنِ مسعودٍ
(4)
(وفي الضَّبُعِ: كبشٌ) قال الإمامُ: حَكَمَ فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بكبشِ
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3801) من حديث جابر. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه عنهم عبد الرزاق (4/ 398)، وابن أبي شيبة (3/ 302).
(3)
أي: البدنةُ تشبه النعامة.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 400).
(5)
أخرجه أبو داود (3801) من حديث جابر. وصححه الألباني.
وفي الغَزالِ: شاةٌ، وفي الوَبْرِ والضَّبِ: جدْيٌ، له نِصفُ سَنةٍ، وفي اليربُوعِ: جَفَرةٌ، لها أربعةُ أشهُرٍ، وفي الأرنَب عَنَاقٌ، دونَ الجَفرَةِ،
وقضى به عمرُ، وابنُ عباسٍ
(1)
.
(وفي الغزالِ
(2)
: شاةٌ) روي عن عليٍّ
(3)
، وابنِ عمرَ. وروى جابرٌ مرفوعًا: "في الظبي
(4)
: شاةٌ". قالَهُ في "شرحه"
(5)
.
(وفي الوَبْرِ) بسكون الباءِ: جدْيٌ، وهو دُوَيْبَّةٌ كحلاءُ، دونَ السِّنَّوْرِ، لا ذنَبَ لها.
(و) في (الضبِّ: جدْيٌ) قضَى به عمرُ
(6)
. والجدْيُ: الذكرُ من أولادِ المعزِ، ما (له نصفُ سنةٍ) أي: ستَّةُ أشهرٍ.
(وفي اليربُوعِ: جَفْرةٌ، لها أربعةُ أشهرٍ) رُويَ عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وجابرٍ
(7)
.
(وفي الأرنبِ: عَناقٌ، دونَ الجَفْرةِ) أي: أنثى من أولادِ المعزِ، أصغرُ من الجَفْرةِ. يُروى عن عمرَ قضَى بذلك
(8)
.
(1)
أخرجه عنهما عبد الرزاق (4/ 403).
(2)
في الأصل: "الغزالةِ".
(3)
أخرجه الشافعي في "الأم"(2/ 193).
(4)
في الأصل: "والظبي"، والحديث أخرجه الدارقطني (2/ 246)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1052).
(5)
انظر "معونة أولي النهى"(2/ 512).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 402)، وابن أبي شيبة (3/ 424).
(7)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 401).
(8)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1/ 179).
وفي الحَمَامِ -وهُو كُلّ ما عَبَّ الماءَ كالقَطَا، والوَرَشِ، والفواخِتِ- شاةٌ، وما لا مِثلَ لهُ كالإوَزِّ، والحُبَارَى، والحَجَلِ، والكُركِيِّ، ففيهِ: قِيمتُه مكانَه.
(وفي الحَمَامِ) أي: كلِّ واحدةٍ منه (وهو) أي: الحَمَامُ: (كلُّ ما عَبَّ الماءَ) أي: وضعَ منقارَه فيه، وكرَعَ كما تَكْرَعُ الشاةُ، ولا يأخذُ قطرةً قطرةً، كالدَّجاجِ، والعصافيرِ، زاد في "المنتهى": وهَدَر، أي: صوَّتَ. فيدخلُ فيه ما أشارَ إليه بقولِه: (كالقَطَا، والوَرَشِ) ولدُ القمارى (والفواخِتُ) والقمريّ والدُّبْسِيُّ
(1)
. ففي ذلك: (شاةٌ) نصًّا. قضى به عمرُ، وعثمانُ، وابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ
(2)
، ونافعُ بنُ عبدِ الحارثِ، في حَمَامِ الحرمِ. وقِيسَ عليه: حَمَامُ الإحرامِ. ورُويَ عن ابنِ عباسٍ أنَّه قضى به في حَمَامِ الإحرامِ
(3)
.
(و) النوعُ الثاني: مِن (ما لا مِثلَ له) من النَّعَمِ، وهو باقي الطيرِ، فيجبُ فيه، ولو أكبرَ من الحَمَامِ (كالإوَزِّ، والحُبَارَى، والحَجَل، والكُّركِيِّ، ففيه: قيمتُه مكانَه) أي: محلِّ الإتلافِ، كإتلافِ مالِ آدميٍّ. فيشتري به طعامًا يُجزئُ في فِطرَةٍ، ويفعلُ به كما تقدَّم في الفديةِ.
* * *
(1)
"الفواخِت" جمعُ فاختَةٍ: طائرٌ معروفٌ. قاله في "القاموس". وأما "الوراشين": فجمعُ وَرَشَان، بالتحريك: طائر لحمُه أخفّ من الحمام. كنيته: أبو الأخضَر. وأما "القطا" فمعروفٌ. وكذا "القُمْريُّ" بضم القاف. وأما "الدُّبسيُّ" بالضم: فهو طائرٌ لونُه بينَ السواد والحُمرة، يُقزقِر. والأنثى: دُبسيَّة. قاله الفتوحي. "معونة أولي النهى"(4/ 148).
(2)
أخرجه عنهم عبد الرزاق (4/ 414، 415)، وابن أبي شيبة (3/ 177، 178).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 415).
فَصْلٌ
ويحُرمُ صَيدُ حَرَمِ مكَّةَ، وحُكمُه حُكمُ صَيدِ الإحرَامِ.
ويحرُمُ قَطعُ شَجرِهِ وحَشيشِهِ،
(فصلٌ)
في حكمِ صيدِ حرمِ مكةَ
(ويحرُمُ صيدُ حرمِ مكَّةَ، وحكمُه حكمُ صيدِ الإحرامِ) فيحرُمُ حتى على مُحِلٍّ، إجماعًا؛ لخبرِ ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ فتحِ مكةَ؛ "إنَّ هذا البلدَ حرَّمَه اللهُ يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، فهو حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ
…
" الحديث. وفيه: "ولا يُنفَّرُ صيدُها". متفقٌ عليه
(1)
.
ويُضمنُ برِّيُّهُ بالجزاءِ، نصًّا؛ لما سبقَ عن الصَّحابةِ. ويدخلُهُ الصومُ، كصيدِ الإحرامِ. وصغيرٌ وكافرٌ كغيرِهما
(ويحرُمُ قطعُ شجرِه) أي: حَرَمِ مكَّةَ الذي لم يزرعْه آدمِيٌّ، إجماعًا؛ لقوله عليه السلام:"ولا يُعضدُ شجرُها"
(2)
(و) يحرُمُ قطعُ (حشيشِه) أي: الحَرَمِ؛ لقولِه عليه السلام: "ولا يُحَشُّ حشيشُمها"
(3)
. حتى الشَّوكِ ولو ضرَّ؛ لعمومِ: "ولا يُختَلَى شوكُها". والمرادُ به:
(1)
أخرجه البخاري (1349)، ومسلم (1353).
(2)
أخرجه البخاري (112)، ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة.
(3)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما الثابت في حديث ابن عباس السابق بلفظ:"ولا يُختَلَى خَلاهَا"، وفي حديث أبي هريرة:"لا يختلى شوكها".
والمُحِلّ والمُحرِمُ في ذلكَ سَواءٌ.
فتُضمَنُ الشَّجَرةُ الصَّغيرَةُ عُرفًا بشاةٍ، وما فَوقَها ببقَرَةٍ، ويُضمَنُ الحشِيشُ والورَقُ بقيمَتِه.
الأخضر. ويجوزُ قطعُ اليابسِ، والثمرةِ، وما زرعَه الآدميُّ. والكَمْأةُ والفَقْعُ. وكذا الإذخرُ، حتى ما زرعَه آدميٌّ من شجرٍ وبقلٍ. والمرادُ: ما لا يملكُهُ أحدٌ؛ لأنَّ هذا يُضافُ إلى مالكِه.
ويُباحُ رفي حشيشِه. ويُباحُ انتفاعٌ بما زالَ من شجرِ الحَرَمِ، أو انكسرَ منه بغيرِ فعلِ آدميِّ، ولو لمْ ينفصِلْ. فإنْ قطعَهُ آدميٌّ، لم ينتفِعْ به هو ولا غيرُه، كصيدٍ ذبحَه حُرِمٌ (والمُحِلُّ والمُحرِمُ في ذلك سواءٌ).
(فتُضمنُ الشَّجرةُ الصغيرةُ) قُلِعَتْ أو كُسِرَتْ (عُرْفًا بشاةٍ. و) يُضمَنُ (ما فوقَها) أي: الصغيرةِ من الشجرِ، وهي المتوسِّطةُ والكبيرةُ (ببقرةٍ) لقولِ ابنِ عباسٍ: في الدَّوحةِ: بقرةٌ، وفي الجزلةِ: شاةٌ. قال: والدَّوحةُ: الشجرةُ العظيمةُ، والجزلةُ: الصغيرةُ
(1)
.
(ويُضمَنُ الحشيشُ والورَقُ بقيمتِه) نصًّا؛ لأنَّه متقوَّمٌ
(2)
ويُفعلُ بقيمتِه كما
(3)
سبق؛ بأنْ يشتريَ بها
(4)
طعامًا، يُجزئُ في فطرَةٍ، فيُطعمُه كلَّ مسكينٍ مُدَّ بُرِّ، أو نصفَ صاعٍ من غيرِه، أو يصومَ عن طعامِ كلِّ مسكينٍ يومًا.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
في الأصل: "متقوا".
(3)
في الأصل: "ما"
(4)
في الأصل: "به".
ويُجزِئُ عن البدَنَةِ: بقَرةٌ، كَعَكسِهِ. ويُجزِئُ عن سَبعِ شِياهٍ: بدَنةٌ أو بقرَةٌ.
والمرادُ بالدَّم الواجِبِ: ما يُجزِئُ في الأضحِية؛ جذعُ ضَأنٍ، أو ثَنِيٌّ مَعْزٍ، أو سُبُعُ بَدَنَةٍ أو بَقرَةٍ،
(ويُجزئُ عن البدَنةِ: بقرةٌ) لحديثِ أبي الزبير
(1)
، عن جابرٍ: كنَّا ننحَرُ البدنةَ عن سبعةٍ. فقيلَ له: والبقرةُ؟ فقال: وهل هي إلا من البُدْنِ؟!. رواه مسلمٌ. (كعكسِه) يعني: عن البقرةِ بدنةٌ.
(ويُجزِئُ عن سبعِ شِياهٍ: بدَنة أو بقرةٌ) مطلقًا. أي: وجدَ الشياهَ أو عَدِمَها، في جزاءِ الصيدِ أو غيرِه؛ لحديثِ جابرٍ: أمرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ نشتركَ في الإبلِ والبقرِ، كلُّ سبعةٍ منَّا في بدنةٍ. رواه مسلمٌ
(2)
.
(والمرادُ بالدمِ) المطلقِ (الواجبِ: ما يُجزِئُ في الأضحيةِ) أي: يُجزِئُ فيه
(3)
ما يُجزِئُ فيها، فإنْ قُيِّدَ بنحوِ بدنةٍ، تقيَّدَ. وهو (جذعُ ضأنٍ) وهو ما له ستَّةُ أشهرٍ (أو ثَنِيُّ معزٍ) وهو ما له سنةٌ (أو سُبُعُ بدَنةٍ، أو بقرةٍ)؛ لقولِه تعالى في التمتعِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] قال ابنُ عباسٍ: شاةٌ، أو شِرْكٌ في دمٍ
(4)
.
وقولُه: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فسَّره عليه السلام في حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ بذبحِ شاةٍ
(5)
. وقِيسَ
(6)
عليهما الباقي.
(1)
في الأصل: "ابن". وهو خطأ. والحديث عند مسلم (1318/ 353) من طريق أبي الزبير به.
(2)
أخرجه مسلم (1213).
(3)
سقطت: "فيه" من الأصل.
(4)
أخرجه البخاري (1688).
(5)
تقدم تخريجه قريبًا.
(6)
في الأصل: "وقس".
فإن ذَبَحَ إحدَاهُما، فأفضَلُ، وتَجِبُ كلُّها.
(فإنْ ذبحَ) مَن وجبَ عليه دمٌ مطلقٌ (إحدَاهما) أي: بدنةً أو بقرةً (فأفضلُ) أي: فذلك أفضلُ من جذعِ الضأنِ، أو ثَنيِّ المعزِ؛ لأنَّهما أوفرُ لحمًا، وأنفعُ للفقراءِ. (وتجبُ كلُّها) لأنَّه اختارَ الأعلى لأداءِ فرضِه، فكان كلُّه واجبًا، كما لو اختارَ الأعلى
(1)
من خصالِ الكفَّارةِ. وقيل: يكونُ سبعُها واجبًا
(2)
، وباقيها تطوُّعًا، فيكونُ له الشرفُ فيه بالأكلِ والهديةِ وغيرِهما. فيُثابُ عليها كلِّها ثوابَ الواجبِ، فلا يجوزُ أنْ يُخرِجَ سبعَها ويتصرَّفَ في الباقي.
"فرعٌ": كُرِهَ إخراجُ ترابِ الحَرَمِ وحجارتِه إلى الحِلِّ، لا ماءِ زمزمَ. ويحرُمُ إخراجُ ترابِ المساجدِ وطيبِها للتبرُّكِ
(3)
وغيرِه
(4)
. ولهذا قال أحمدُ: فإنْ أرادَ أنْ يستشفِي بطيبِ الكعبةِ، لمْ يأخذْ منه شيئًا، ويُلزِقُ عيها طيبًا من عندِه، ثم يأخذُه.
حَدُّ الحرمِ من طريقِ المدينةِ: ثلاثةُ أميالٍ عند بيوتِ السُّقيا.
ومن اليَمَنِ: سبعةُ أميالٍ عندَ أضاةِ لِبنٍ.
ومن العراقِ: سبعةُ أميالٍ على ثنِيَّةِ رِجْل، وهو جبل بالمُنْقَطَعِ.
ومن الجِعْرَانةِ: تسعةُ أميالٍ في شِعْبٍ يُنسبُ إلى عبدِ اللهِ بنِ خالدِ بنِ أسيدٍ.
ومن جُدَّةَ: عشرةُ أميالٍ عندَ مُنقطعِ الأعشاشِ.
ومن الطائفِ: سبعةُ أميالٍ عندَ طرفِ عرفةَ.
(1)
في الأصل: "الأحلا".
(2)
في الأصل: "وقيل: يكونُ وقيل سبعُها"، وانظر "الكافي"(48212).
(3)
في الأصل: "للتبرع".
(4)
انظر "حاشية الروض المربع"(4/ 81).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن بطنِ عُرَنةَ: أحدَ عشرَ مِيلًا.
تتمةٌ: يحرُمُ صيدُ حرمِ المدينةِ، ولا جزاءَ فيه. وكذا حشيشُها وشجرُها، إلا ما تدعو الحاجةُ إليه من شجرِها للرَّحلِ، والعارضةِ، والقائمةِ ونحوِها، كالوسادةِ، والمِسنَدِ. ومن حشيشِها للعلفِ. والمسندُ: عودُ البَكرَةِ.
ومَنْ أدخلَها صيدًا، فله إمساكُهُ وذبحُهُ.
وحدُّ حرَمِها: بَريدٌ في بريدٍ، وهو ما بين عَيْرٍ؛ جبلٌ مشهورٌ بها، إلى ثورٍ؛ جبلٍ صغيرٍ، لونُه إلى الحُمْرةِ، فيه تدويرٌ ليسَ بالمستطيلِ، خلفَ أُحدٍ من جهةِ الشمالِ. وما بين عيْرٍ إلى ثورٍ هو ما بين لابَتَيْها. واللَّابةُ: الحرَّةُ. وهي: أرضٌ تركبُها حجارةٌ سودٌ.
وتُستحبّ المجاورةُ بمكَّةَ، وهي أفضلُ من المدينةِ. قال في "الفنون": الكعبةُ أفضلُ من مجرَّدِ الحجرةِ، فأمَّا والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها، فلا واللهِ، ولا العرشُ، وحملتُه، والجنةُ؛ لأنَّ بالحجرةِ جسدًا لو وُزِنَ به لرجحَ. انتهى
(1)
.
(1)
ذكره ابن القيم في "بدائع الفوائد"(3/ 655) عن ابن عقيل صاحب "الفنون"، ولم يتعقبه بشيء. وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(27/ 38) لما سُئل عن تربة محمد صلى الله عليه وسلم والكعبة، أيهما أفضل: أمَّا نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقًا أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرفُ أحدٌ من العلماء فضَّلَ ترابَ القبرِ على الكعبة، إلَّا القاضي عياض، ولم يَسبِقه أحد إليه، ولا وافَقه أحدٌ عليه. انتهى.
وقال العلامة ابن عثيمين في "القول المفيد على كتاب التوحيد"(1/ 372): ويقول بعض المغالين
…
ثم ذكر قول ابن عقيل هذا، ولم ينسبه إليه، ثم قال: فهو يريدُ أن يفضِّلَ=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتُضاعفُ الحسنةُ والسيئةُ
(1)
بمكانٍ وزمانٍ فاضلٍ.
= الحجرةَ على الكعبةِ وعلى العرشِ وحملتِه وعلى الجنةِ! وهذه مبالغة لا يرضاها النبي صلى الله عليه وسلم لنا ولا لنفسه. وصحيحٌ أنَّ جسَدَه صلى الله عليه وسلم أفضلُ، ولكن كونه يقول: إن الحجرةَ أفضلُ من الكعبة والعرش والجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، هذا خطأٌ عظيمٌ، نسأل الله السلامةَ من ذلك. انتهى.
(1)
في الأصل: "السنة".
بابُ أركانِ الحجِّ وواجبَاتِه
أركانُ الحجِّ أربعةٌ:
الأوَّل: الإحرامُ، وهو مجرَّدُ النيَّةِ، فمن تَرَكَه، لم ينعقِد حجُّه.
الثاني: الوقوفُ بعَرفَة.
(بابُ أركانِ الحجِّ وواجباتِه)
فأمَّا (أركانُ الحجِّ أربعةٌ):
(الأوَّلُ: الإحرامُ، وهو مجرَّدُ النيَّةِ): الدخولُ فيه، فلا يصحُّ بدونِه؛ لحديثِ:"إنَّما الأعمالُ بالنياتِ"
(1)
. وكبقيَّةِ العباداتِ، لكن قياسُها أنَّه شرطٌ (فمَنْ تركَهُ) أي: الإحرامَ، (لم ينعقدْ حجُّه)
وكُرِه إحرامٌ بحجِّ قبلَ أشهرِه، وهي -أشهرُ الحجِّ-: شوَّالٌ، وذو القَعْدةِ، وعشرٌ من ذي الحِجَّةِ. وينعقدُ في غيرِ أشهرِ الحجِّ.
وكُرِهَ إحرامٌ بحج أو عمرةٍ قبلَ ميقاتٍ، وينعقدُ.
(الثاني) من أركَانِ الحجِّ: (الوقوفُ بعرفةَ) وكلُّها موقفٌ؛ لقولِه عليه السلام: "قدْ وقفتُ هاهنا، وعرفةُ كلُّها موقفٌ" رواه أبو داود، وابن ماجه
(2)
. إلَّا بَطنَ عُرَنَةَ؛ لحديثِ: "كُلُّ عرفَةَ مَوقِفٌ
(3)
وارفَعُوا عن بَطنِ عُرَنةَ". رواه ابنُ ماجه
(4)
. فلا
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (1907)، وابن ماجه (3010) من حديث جابر. وصححه الألباني.
(3)
سقطت: "رواه أبو داود وابن ماجه. إلا بطن عرنة؛ لحديث: كل عرفة موقف" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهى"(2/ 551).
(4)
أخرجه ابن ماجه (3012) من حديث جابر. وصححه الألباني.
ووقته: مِنْ طُلُوعِ فجرِ يوم عَرفةَ إلى طُلُوعِ فَجرِ يومِ النَّحر.
يُجزئُ وقوفُه فيه؛ لأنَّه ليسَ من عرفةَ.
وهي
(1)
: من الجبلِ المشرفِ على عرفةَ، إلى الجبالِ المقابلةِ له
(2)
، إلى ما يلي حوائطَ بني عامرٍ (ووقتُه) أي: الوقوفِ بعرفةَ: (من طلوعِ فجرِ يومِ عرفةَ، إلى طلوعِ فجرِ يومِ النحرِ) لقولِ جابرٍ: لا يفوتُ الحجُّ حتى يطلُعَ الفجرُ من ليلةِ جمعٍ. قال أبو الزُّبيرِ: فقلتُ له: أقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعمْ
(3)
. وعن عُروةَ بنِ مُضرِّسٍ الطائيِّ، قال: أتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بالمزدلفةِ حين خرجَ إلى الصَّلاةِ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي جئتُ من جبلَي طيئ، أكلَلْتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي، واللهِ ما تركتُ من جبلٍ إلا وقفتُ عليه، فهل لي من حجٍّ؟ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شَهِدَ صلاتَنا هذه، ووقفَ معنا حتى ندفعَ، وقدْ وقفَ قبلَ ذلك بعرفةَ ليلًا أو نهارًا، فقدْ تمَّ حجُّهُ، وقضى تفثَهُ". رواه الخمسةُ
(4)
، وصحَّحه الترمذيُّ، ولفظُه له. ورواه الحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرطِ كافَّةِ أئمةِ الحديثِ. ولأنَّ ما قبلَ الزوالِ من يومِ عرفةَ، فكانَ وقتًا للوقوفِ، كما بعدَ الزوالِ. وتركُه عليه السلام الوقوفَ فيه لا يمنعُ كونَة وقتًا له، كما بعدَ العشاءِ، وإنَّما وقفَ وقتَ الفضيلةِ
(1)
أي: عرفة.
(2)
سقطت: "له" من الأصل.
(3)
أخرجه البيهقي (5/ 174).
(4)
أخرجه أحمد (30/ 233)(1830)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3041)، وابن ماجه (3016)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 635). وصححه الألباني.
فمَنْ حصَلَ في هذَا الوَقتِ بعرفةَ لحظةً واحِدةً وهو أهلٌ، ولو مارًّا، أو نائِمًا، أو حائِضًا، أو جاهِلًا أنَّها عَرفةُ، صحَّ حجُّه، لا إنْ كانَ سَكرَانًا، أو مجنونًا، أو مغمًى عليه.
ولو وقَفَ النَّاسُ كلُّهم، أو كُلُّهم إلَّا قليلًا، في اليومِ الثَّامن أو العاشرِ خطَأً، أجزأهُم.
(فمَنْ حصَلَ في هذا الوقتِ) أي: وقتِ الوقوفِ (بعرفةَ) ولو (لحظةً واحدةً
(1)
، وهو) أي: الحاصِلُ بعرفةَ لحظةً (أهلٌ) للحجِّ؛ بأنْ كان مسلمًا محرِمًا به، عاقلًا، (ولو مارًّا) بعرفةَ، راجلًا أو راكبًا، (أو) مرَّ بها (نائمًا، أو حائضًا، أو جاهلًا أنَّها عرفةُ، صحَّ حجُّه) للخبرِ. وكما لو عَلِمَ بها (لا إنْ كانَ سكرانًا، أو مجنونًا، أو مغمًى عليه) ما لمْ يُفقْ بها
(ولو وقفَ الناسُ كلُّهم) أي: كلّ الحجيجِ الثامنَ أو العاشرَ (أو كلُّهم إلا قليلًا، في اليومِ الثامنِ أو العاشرِ) من ذي الحجة (خطأً، أجزأَهم) نصًّا فيهما؛ لحديثِ الدارقطنيِّ
(2)
: عن عبدِ العزيزِ بن جابرِ بنِ أُسيدٍ مرفوعًا: "يومُ عرفةَ الذي يعرِّفُ الناس فيه". وله ولغيرِه، عن أبي هريرة مرفوعًا:"فِطرُكم يومَ تُفطِرونَ، وأضحاكم يومَ تُضَحُّونَ"
(3)
. ولأنَّه لا يُؤْمَنُ مثلُ ذلك فيما إذا قيلَ بالقضاءِ.
وظاهرُه: سواءٌ أخطؤوا لغلطٍ في العددِ، أو الرؤيةِ، أو الاجتهادِ في الغَيْمِ. قال في "الفروع"
(4)
: وهو ظاهرُ كلامِ الإمامِ وغيرِه.
(1)
في الأصل: (واحر).
(2)
أخرجه الدارقطني (2/ 223).
(3)
أخرجه الدارقطني (2/ 223)، وأبو داود (2324)، وصححه الألباني.
(4)
"الفروع"(6/ 80).
الثالِثُ: طوافُ الإفاضَةِ، وأوَّلُ وقتهِ: مِنْ نِصفِ ليلَةِ النَّحرِ لمَن وقفَ، وإلَّا فبعدَ الوُقُوفِ، ولا حدَّ لآخِرِه.
وإنْ أخطأَ دونَ الأكثرِ، فاتَهم الحجُّ؛ لأنَّهم لمْ يقفوا في وقتِه، وأمَّا الأكثرُ، فقدْ أُلحِقَ بالكلِّ في مواضعَ، فكذا هنا على ظاهرِ "الانتصار" وغيرِه.
وفي "المقنع": وإنْ أخطأ بعضُهم، فقدْ فاتَه الحجُّ. قال في "الإنصاف": هذا المذهبُ، وعليه الجمهورُ، ولمْ يخالفْه في "التنقيح"، وجزمَ به في "الإقناع".
والوقوفُ مرَّتينِ، قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: بدعةٌ، لمْ يفعلْه السلفُ. وفي "الفروع": يتوجَّه: وقوف مزَتينِ إنْ وقفَ بعضُهم لا سيَّما مَنْ رآه
(1)
.
(الثالث) من أركانِ الحجِّ: (طوافُ الإفاضةِ)
(2)
لكلِّ من متمتِّعٍ، أو مفردٍ، أو قارنٍ (وأوَّلُ وقتِه) أي: طوافِ الإفاضةِ
(3)
: (من نصفِ ليلةِ النحرِ لمَنْ وقفَ) بعرفةَ قبلُ (وإلا) يكنْ وقفَ (فـ) وقتُه (بعدَ الوقوفِ) بعرفةَ، فلا يُعتدُّ به قبلَهُ (ولا حدَّ لآخِرِه) أي: طوافِ الإفاضةِ؛ لأنَّه لا آخِرَ لوقتِه. ولا شيءَ في تأخيرِه.
وفعلُه يومَ النَّحرِ أفضلُ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ: أفاضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحرِ. متفقٌ عليه
(4)
.
وسُمِّيَ طوافَ الإفاضةِ؛ لأنَّه يأتي به عندَ إفاضتِه من منًى إلى مكَّةَ المشرفةِ.
قولُه: وفعلُه يومَ النَّحرِ أفضلُ. ظاهرُه: أنَّه أفضلُ حتى من الطوافِ بعد نصفِ ليلةِ النحرِ في الليلِ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 591).
(2)
في الأصل: "الإضافة".
(3)
في الأصل: "الإضافة"
(4)
أخرجه مسلم (1308)، وأخرجه البخاري (1732) بنحوه موقوفًا.
الرابِعُ: السَّعيُ بينَ الصَّفا والمَروَةِ.
وواجِباتُهُ سَبْعة:
الإحرامُ من المِيقاتِ، والوقوفُ إلى الغروبِ لِمَنْ وقَفَ نهارًا،
وإنْ أخَّرَهُ عن أيامِ منًى، جازَ؛ لأنَّه لا آخِرَ لوقتِه، ولا شيءَ فيه إنْ أخَّرَهُ.
(الرابعُ) من أركانِ الحجِّ: (السَّعي بينَ الصفا والمرْوةِ) لحديث عائشةَ قالتْ: طافَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وطافَ المسلمون -يعني: بين الصفا والمرْوةِ- فكانتْ سُنَّةً، فلعمري! ما أتمَّ اللهُ حجَّ مَنْ لمْ يطُفْ بينَ الصف والمرْوةَ. رواه مسلمٌ
(1)
. ولحديث: "اسعَوْا فإنَّ اللهَ كتبَ عليكم السَّعْيَ". رواه ابنُ ماجه
(2)
.
(وواجباتُه) أي: الحجِّ (سبعةٌ):
الأوَّلُ: (الإحرامُ من الميقاتِ) لما تقدَّمَ.
(و) الثاني من الواجبات: (الوقوفُ إلى الغروبِ) أي: غروبِ الشمسِ من يومِ عرفةَ، ولو غلبَهُ نومٌ بعرفةَ (لمَنْ وقفَ) بعرفةَ (نهارًا) فمَنْ وقفَ بعرفةَ نهارًا، ودفعَ منها قبلَ الغروبِ ولمْ يعدْ إليها قبلَهُ، ويستمرُ بها إليه، فعليه دمٌ؛ لأنَّه تركَ واجبًا، فإنْ عادَ إليها واستمرَّ للغروبِ، أو عادَ بعدَه قبلَ الفجرِ، فلا دمَ؛ لأنَّه أتى بالواجبِ، وهو الوقوفُ بالليلِ والنهارِ. ومَنْ وقفَ ليلًا فقط، فلا دمَ عليه. قال في "شرح المقنع": لا نعلمُ فيه خلافًا
(3)
، لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أدركَ عرفاتٍ بليلٍ، فقدْ أدركَ الحجَّ"
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1277).
(2)
لم أجده عند ابن ماجه. وأخرجه أحمد (45/ 367)(27368) من حديث حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبي تَجْرَاةَ. وصححه الألباني في "الإرواء"(1072).
(3)
انظر "الروض المربع مع الحاشية"(4/ 138).
(4)
أخرجه الدارقطني (2/ 241) من حديث ابن عباس. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1134).
والمبيتُ ليلةَ النَّحرِ بمُزدَلِفَةَ إلى بعدَ نِصفِ اللَّيل، والمبيتُ بمِنًى فِي ليالي التَّشرِيقِ، ورَميُ الجِمَارِ مُرتبًا، والحَلقُ أو التَّقصيرُ، وطوافُ الودَاعِ.
وأركانُ العُمرَةِ ثلاثة:
الإحرامُ، والطَّوافُ، والسَّعيُ.
(و) الثالثُ من واجباتِ الحجِّ: (المبيتُ ليلةَ النحرِ بمزدلِفةَ، إلى بعدَ نصفِ اللَّيلِ) إن وافاها قبلَه، فإنْ دفعَ قبلَ نصفِ الليلِ، ففيه دمٌ.
(و) الرابعُ من واجباتِ الحجِّ: (المبيتُ بمنًى في ليالي التشريقِ) لفعلِه عليه السلام، وأمرِه به.
(و) الخامسُ من واجباتِ الحجِّ: (رمي الجمارِ مرتَّبًا) واحدةً بعدَ واحدةٍ، فلو رمَى دفعةً واحدةً، فواحدةٌ.
ولا يُجزئُ الوضعُ. يرفعُ يدَه اليمنى حالَ الرمي حتى يُرى بياضُ إبطِه.
ولا يُجزئُ الرميُ بغيرِها، كجوهرٍ، وذهبٍ، ومعادنَ. ولا يُجزئُ الرميُ بها ثانيًا؛ لأنَّها استُعملتْ في عبادةٍ، فلا تستعملُ ثانيًا، كماءِ الوضوءِ.
ولا يقفُ عندَ جمرةِ العقبةِ بعدَ رميها؛ لضيقِ المكانِ. ونُدِبَ أنْ يستبطنَ الواديَ، وأنْ يستقبلَ القبلةَ، وأنْ يرميَ على جانبِه الأيمنِ.
وإنْ وقعتْ الحصاةُ خارجَ المرمى، ثمَّ تدحرجتْ فيه، أجزأتْ.
ويرمي بعد طلوعِ الشمسِ ندْبًا. ويُجزئُ رميُها بعدَ نصفِ الليلِ من ليلةِ النحرِ
(1)
.
(1)
انظر "الروض المربع مع الحاشية"(4/ 153).
وواجبها شَيئَان:
الإحرامُ بها مِنَ الحِلِّ، والحَلقُ
(و) السادسُ من واجباتِ الحجِّ: (الحلقُ والتقصيرُ)
(و) السابعُ من واجباتِ الحجِّ: (طوافُ الوداعِ) وهو الصَّدَرُ بفتحِ الدَّالِ المهملةِ. وقدَّمَ الزركشيُّ، وتبِعَهُ في "الإقناع": أنَّ طوافَ الصَّدَرِ، هو طوافُ الزيارةِ. قال في "الترغيب" و"التلخيص": لا يجبُ على غيرِ الحاجِّ. قال الآجريُّ: ويطوفُهُ مَنْ أرادَ الخروجَ من مكَّةَ أو منًى
(1)
.
قال في "المستوعب": ومتى أرادَ الحاجُّ الخروجَ من مكةَ، لم يخرجْ حتى يودِّعَ. قالَهُ في "الإنصاف"
(2)
.
(وأركانُ العمرةِ ثلاثة):
الأوَّلُ من أركانِ العمرةِ: (الإحرامُ) بها؛ لما تقدَّمَ في الحجِّ.
(و) الثاني: (الطوافُ)
(3)
(و) الثالثُ: (السعيُ)
(4)
كالحجِّ؛ لأنَّ كلًّا منهما نسكٌ في الحجِّ والعمرةِ، فكان ركنًا فيهما.
(وواجبُها) أي: العمرةِ (شيئانِ):
الأوَّلُ: (الإحرامُ بها من الحلِّ) والأفضلُ: من التنعيمِ، فالجِعْرانَةُ تليه، فالحديبيةُ، فما بَعُدَ. وحَرُمَ من الحرَمِ، ويَنعقدُ، وعليه دمٌ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(2/ 586).
(2)
"الإنصاف"(9/ 295).
(3)
في الأصل: "طوافٌ".
(4)
في الأصل: "سعيٌ".
أو التَّقصيرُ.
والمَسنُونُ:
كالمَبيتِ بمنًى ليلةَ عَرفَةَ، وطوافِ القُدُومِ، والرَّمَلِ في الثَّلاثةِ أشواطٍ الأُولِ مِنهُ، والاضطِبَاعِ فيهِ،
(و) الثاني: (الحلقُ أو التقصيرُ)
(1)
كالحجِّ.
(والمسنونُ) من أفعالِ الحجِّ وأقوالِه:
(كالمبيتِ بمنًى ليلةَ عرفةَ، وطوافِ القدومِ، والرَّمَلِ) وصفتُه: وهو أن يسرِعَ المشيَ، ويقاربَ الخُطَى. ويكونُ الرَّمَلُ بمشي ثلاثةِ أشواطٍ، وإليه أشارَ بقولِه:(في الثلاثةِ أشواطٍ) ثمَّ يمشي أربعةَ أشواطٍ من غيرِ رَمَلٍ؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ ثلاثةَ أشواطٍ، ومشى أربعًا. رُوي ذلك عن جابرٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وأحاديثُهم متفقٌ عليها
(2)
.
فإنْ قيلَ: إنَّما رَملَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، لإظهارِ الجَلَدِ للمشركين، ولمْ يبقَ ذلك المعنى؛ إذْ نفى اللهُ سبحانه وتعالى المشركين، فلِمَ قلتمْ: إنَّ الحكمَ يبقَى بعدَ زوالِ علَّتِه؟
قلنا: قدْ رَمَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، واضطبعَ، في حَجَّةِ الوداع بعدَ الفتح، فثبتَ أنَّها سنةٌ ثابتةٌ
(3)
(والاضطِبَاعِ فيه) أي: في كلِّ أسبوعِه. وصفةُ الاضطِباعِ: أنْ يجعلَ وسطَ
(1)
في الأصل: "والتقصير".
(2)
أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر. وأخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري (1604)، ومسلم (1262) من حديث ابن عمر.
(3)
انظر "الشرح الكبير"(9/ 92).
وتجرُّدِ الرَّجُلِ من المَخيطِ عندَ الإحرامِ، ولُبْسِ إزارٍ ورداءٍ أبيضينِ نظيفَينِ،
ردائِه تحتَ عاتقِه الأيمنِ، وطرفيْهِ على عاتقِه الأيسرِ. مأخوذٌ من الضَّبْعِ، وهو عَضُدُ الإنسانِ، افتعالٌ منه، وكان أصلُه: اضتَبَعَ بالتاء، فقلبوا التاءَ طاءً؛ لأنَّ التاءَ متى وقعتْ بعدَ صادٍ أو ضاد
(1)
أو طاءٍ ساكنةٍ، قُلبت طاءً.
والأصلُ في استحبابِ الاضطِبَاعِ في طوافِ العمرةِ للمتمتِّعِ، وفي طوافِ القدومِ للمفردِ والقارنِ: ما روى أبو داودَ، وابنُ ماجه
(2)
، عن يعلى بنِ أميَّةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طافَ مُضْطبِعًا. وروَيا
(3)
عن ابنِ عباسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه اعتمروا من الجِعْرَانةِ، فرمَلوا بالبيتِ، وجعَلوا أرديتَهم تحتَ آباطِهم، ثمَّ قَذَفوها على عواتقِهم اليُسرَى
(4)
. فإذا فرَغَ من الطوافِ أزالَ الاضطِبَاع.
(وتجردِّ الرَّجلِ من المخيطِ عندَ الإحرامِ) وهو كلُّ ما يُخاطُ على قدرِ الملبوسِ، كالقميصِ، والسراويلِ.
(و) سُنَّ (لُبسُ إزارٍ ورداءٍ أبيضيْنِ نظيفيْنِ) جديدَيْن أو خَلِقَيْنِ
(5)
، ونَعْلَيْنِ؛ لقولِه عليه السلام:"وليحرمْ أحدُكم في إزارٍ، ورداءٍ، ونَعْلَيْنِ". رواه أحمدُ
(6)
. والمرادُ بالنعلَيْنِ: التَّاسُومَةُ. ولا يجوزُ له لُبْسُ السرموزةِ
(7)
والجمجمِ
(8)
.
(1)
سقطت: "أو ضاد" من الأصل.
(2)
أخرجه أبو داودَ (1883)، وابنُ ماجه (2954)، وحسنه الألباني.
(3)
أخرجه أبو داودَ (1884)، وابنُ ماجه (1884)، وصححه الألباني.
(4)
انظر "الشرح الكبير"(9/ 80).
(5)
في الأصل: "خليعين".
(6)
أخرجه أحمد (8/ 500)(4899) من حديث ابن عمر. وصححه الألباني في "الإرواء"(1096).
(7)
السرموزة، فارسي، وهو: نوع من الأحذية. "معجم الألفاظ الفارسية" ص (90).
(8)
الجمجم: ضرب من الأحذية يلبسه فقراء بلاد فارس. "معجم الألفاظ الفارسية" ص (44).
والتَّلبيةِ من حِينِ الإحرامِ إلى أوَّلِ الرَّميِ.
قالَهُ في "الفروع"
(1)
.
(و) سُنَّ (التلبيةُ من حينِ الإحرامِ) لقولِ جابرٍ: فأهلَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالتوحيدِ: لبيكَ اللهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ
(2)
لا شريكَ لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والملكَ، لا شريكَ لك. الحديثُ متفقٌ عليه
(3)
. حتى عن أخرسَ ومريضٍ. زادَ بعضُهم: ومجنونٍ ومغمًى عليه. زاد بعضُهم: ونائمٍ.
والتلبية: من ألبَّ بالمكانِ، إذا لزِمَه، كأنَّه قالَ: أنا مقيمٌ على طاعتِكَ وأمرِكَ. وثُنِّيتْ وكُرِّرتْ؛ لإرادةِ إقامةٍ بعدَ إقامةٍ. ولفظُ "لبَّيكَ" مثنى، ولا واحدَ له من لفظِه، ومعناه: التكثيرُ.
ولا تُستحبُّ الزيادةُ عليها. وكان ابنُ عمرَ يزيدُ: لبَّيكَ لبَّيكَ، لبيك وسعديْكَ، والخيرُ بيدَيْكَ، والرغبةُ إليك، والعملُ.
وسُنَّ ذكرُ نُسُكِه في التلبيةِ. وسُنَّ إكثارُ التلبيةِ، والجهرُ بها.
وتُشرعُ التلبيةُ بالعربيةِ لقادرٍ عليها، فإنْ لمْ يقدرْ بالعربيةِ فيلبِّي بلغتِه.
وسُنَّ دعاءٌ بعدَها. وسُنَّ صلاةٌ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَها، ولا يرفعُ بذلك صوتَه.
وكُرِه لأنثى جهرٌ بها بأكثرَ ما تُسمِعُ رفيقَتَها، لكن يعتبرُ أنْ تُسمِعَ نفسَها. ولا يُكرَهُ لحلالٍ تلبيةٌ
(إلى أوَّلِ الرَّمي) أي: وتنقطعُ التلبيةُ بأوَّلِ الرمي؛ لحديثِ الفضلِ بنِ عباسٍ
(1)
انظر "كشاف القناع"(6/ 87).
(2)
سقطت: "لبيك" من الأصل.
(3)
أخرجه مسلم (1218)، وأخرجه البخاري (1549) من حديث ابن عمر.
فمن تَركَ رُكنًا، لم يَتِمَّ حجُّه إلا بِهِ، ومَنْ تَركَ واجِبًا، فعليهِ دَمٌ، وحجُّه صَحيحٌ، ومَنْ تَركَ مسنونًا، فلا شَيءَ عليهِ.
مرفوعًا: لمْ يزلْ يلبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
(1)
. متفقٌ عليه
(2)
. وفي بعضِ ألفاظِه: حتى إذا
(3)
رمى جمرةَ العقبةِ، قطعَ عند أوَّلِ حصاةٍ
(4)
. رواه حنبلٌ في "المناسك".
(فمَنْ تركَ ركنًا) غيرَ الإحرامِ (لمْ يتمَّ حجُّهُ إلَّا به) أي: بالإتيانِ بالرّكنِ بنيَّةٍ.
(ومَنْ تركَ واجبًا) عمدًا، أو سهوًا، أو جهلًا، أو لعذرِ (فعليه دمٌ) بتركِه (وحجُّه صحيحٌ) إنْ لمْ يمكنْه الإتيانُ به. فإنْ تحلَّلَ أو فاتَ محلَّه وإلا لزِمَه الإتيانُ به، ولمْ يلزمْه شيءٌ.
(ومَنْ تركَ مسنونًا، فلا شيء عليه) قال في "الفروع"
(5)
: ومَنْ تركَ سنةً، فهدرٌ. قال في "الفصول" وغيرُه: ولمْ يُشرعِ الدمُ عنها.
فوائدُ: كُرِهَ تسميةُ مَنْ لمْ يحجَّ صَرُورةً؛ لأنَّه اسمٌ جاهليٌ.
قال الأزهريُّ: الصرورةُ: الذي لم يحجَّ؛ سُمِّيَ بذلك لصرِّه على نفقتِه. وفي الحديثِ: "لا صرورةَ في الإسلامِ"
(6)
.
وقولُ: حجَّةُ الوداعِ؛ لأنَّه اسمٌ على أن لا يعودَ.
(1)
سقطت: "حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (1544)، ومسلم (1281).
(3)
سقطت: "إذا" من الأصل.
(4)
أخرج ابن خزيمة (4/ 281) عن ابن مسعود: رمقت صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة.
(5)
"الفروع"(6/ 72).
(6)
أخرجه أبو داود (1729) من حديث ابن عباس. وضعفه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولُ: شَوطٌ. بل طَوفةٌ وطوفَتانِ. والمرَّاتُ: طوفات
(1)
، والمجموعُ: طوافٌ.
وقع خُلْفٌ: هل الأفضلُ الحجُّ راكبًا
(2)
أم ماشيًا؟
قال العلَّامةُ عمُّ والدي، الشيخُ مرعي
(3)
في "غاية المنتهى"
(4)
. ويتجه: الحجُّ
(5)
من مكَّةَ ماشيًا أفضلُ. وللبعيدِ راكبًا؛ لحديثِ: "مَنْ حجَّ من مكَّة ماشيًا حتى يرجعَ إلى مكَّةَ، كتبَ اللهُ له بكلِّ خطوةٍ سبعمائةِ حسنةٍ من حسناتِ الحَرَمِ"
(6)
.
(1)
في الأصل: "طوفتانِ".
(2)
سقطت: "راكبًا" من الأصل.
(3)
سقطت: "مرعي" من الأصل.
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 438).
(5)
سقطت: "الحج" من الأصل.
(6)
أخرجه ابن خزيمة (4/ 244) من حديث ابن عباس. قال الألباني: ضعيف جدًا. "الضعيفة"(495).
فَصْلٌ
وشُروطُ صِحَّةِ الطَّوافِ أحَدَ عَشَرَ:
النيَّةُ، والإسلامُ، والعَقلُ، ودخولُ وقتِه، وسَتُر العَورَةِ، واجتنابُ النَّجاسَةِ، والطَّهارةُ من الحَدَثِ، وتَكمِيلُ السَّبْعِ،
(فصلٌ)
(وشروطُ صحةِ الطوافِ أحدَ عشَرَ):
أحدُها: (النيةُ)
(و) الثاني: (الإسلامُ)
(و) الثالثُ: (العقلُ)
(و) الرابعُ: (دخولُ وقتِه) أي: وقتِ الطوافِ. والمرادُ به: طوافُ الإفاضةِ، وتقدَّمَ وقتُه.
(و) الخامسُ: (سترُ العورةِ) لحديثِ أبي هريرةَ: أنَّ أبا بكرٍ بعثَه -في الحجَّةِ التي أمَّرَ أبا بكرٍ عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ حجَّةِ الوداعِ- يومَ النحرِ يؤذِّنُ: "لا يحجُّ بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانٌ". متفقٌ عليه
(1)
.
(و) السادسُ: (اجتنابُ النجاسةِ).
(و) السابعُ: (الطهارةُ من
(2)
الحدثِ) أكبرَ أو أصغرَ.
(و) الثامنُ: (تكميلُ السَّبْعِ) فلا يصحُّ إنْ نقصَ عن السبعِ ولو يسيرًا، فلا
(1)
أخرجه البخاري (1622)، ومسلم (1347).
(2)
في الأصل: "في".
وجَعلُ البيتِ عن يسارِه، وكَونُه ماشِيًا مع القُدرةِ، والمُوالاة،
يجزئُه. وقدْ طافَ النبي صلى الله عليه وسلم من وراءِ الحِجرِ والشاذَرْوانِ، مِن الحَجرِ الأسودِ إلى الحَجرِ الأسودِ
(1)
(و) التاسعُ: (جعلُ البيتِ عن يسارِه) لأنَّه عليه السلام طافَ كذلك وقال: "خذوا عنِّي مناسِكَكم"
(2)
. وليقَرِّبْ
(3)
جانبَهُ الأيسرَ من البيتِ. فأوَّلُ ركنٍ يمرُّ به يُسمَّى الشاميَّ، وهو جهةُ الشامِ، ثمَّ الغربيَّ، وهو جهةُ المغربِ، ثمَّ اليمانيَّ جهةُ اليمنِ.
(و) العاشرُ: (كونُه ماشيًا مع القدرةِ) أمَّا مع العجزِ فيصحُّ راكبًا أو محمولًا؛ لأنَّ ركوبَه وحملَه لعذرٍ. لحديثِ: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ"
(4)
. ولأنَّه عبادةٌ تتعلَّقُ بالبيتِ، فلم يجزْ فعلُها راكبًا أو محمولًا لغيرِ عذرٍ، كالصَّلاةِ.
وإنَّما طافَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم راكبًا لعذرٍ، فإنَّ ابنَ عباسٍ روى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كثُرَ عليه الناسُ، يقولون: هذا محمدٌ، هذا محمدٌ، حتى خرجَ العواتقُ من البيوتِ، وكان صلى الله عليه وسلم لا تُضربُ الناسُ بين يديه، فلمَّا كَثُروا، ركِبَ. رواه مسلمٌ
(5)
.
(و) الحادي عشرَ: (الموالاةُ) فيه، كالصَّلاةِ؛ ولأنَّه عليه السلام والَى طوافَهُ، وقال:"خذوا عنِّي مناسِكَكم"
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (1262) من حديث ابن عمر بلفظ: "رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا".
(2)
أخرجه مسلم (1297) بلفظ: "لتأخذوا مناسككم" من حديث جابر.
(3)
في الأصل: "وليقر"
(4)
أخرجه الترمذي (960) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني في "الإرواء"(121).
(5)
أخرجه مسلم (1264).
(6)
تقدم قريبًا.
فيستأنِفُه لِحَدَثٍ فيه، وكذَا لقَطعٍ طَويلٍ. وإن كانَ يَسيرًا، أو أُقيمَتِ الصَّلاةُ، أو حَضَرَت جَنازَةٌ، صلَّى، وبَنَى من الحَجَرِ الأسوَدِ.
وسُنَنُه:
استلامُ الرّكنِ اليَمانيِّ بيدِه اليُمنَى، وكذا الحَجَرِ الأسوَدِ، وتَقبيلُهُ،
(فيستأنفُه) أي: يبتدئُ الطوافَ (لحدَثٍ فيه) تعمَّده، أو سَبَقَه، بعدَ أن يتطهَّرَ، كالصَّلاةِ.
(وكذا) يستأنفُه (لقطعٍ طويلٍ) أي: يبتدئُ لقطعٍ طويلٍ عُرْفًا؛ لأنَّ الموالاةَ شرطٌ فيه، كالصَّلاةِ (وإنْ كان يسيرًا، أو أقيمتِ الصَّلاةُ) وهو في الطوافَ، (أو حضرتْ جنازةٌ) وهو فيه، (صلَّى، وبنَى) على ما سبقَ من طوافِه؛ لحديثِ: "إذا أقيمتِ الصَّلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ"
(1)
. ولأنَّ الجنازةَ تفوتُ بالتشاغلِ. ويبتدئُ الشوطَ (من الحَجرِ الأسودِ) فلا يعتدّ ببعضِ شوطٍ قُطِعَ فيه. قالَهُ أحمدُ.
(وسنَنُهُ) أي: الطوافِ:
(استلامُ الرُكنِ اليمانيِّ بيدِه اليمنى، وكذا الحَجَرِ الأسودِ، وتقبيلُه) لحديثِ ابنِ عمرَ: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يدَعُ -أي: لا يتركُ- أن يَستَلِمَ
(2)
الركنَ اليمانيَّ والحجرَ في طوافِه. قال نافعٌ: وكان ابنُ عمرَ يفعلُه. رواه أبو داودَ
(3)
. لكن لا يُقبِّلُ إلَّا الحجرَ الأسودَ.
(1)
أخرجه مسلم (710) من حديث أبي هريرة.
(2)
في الأصل: "يسلم".
(3)
أخرجه أبو داود (1876). وحسنه الألباني في "الإرواء"(110).
والدُّعاءُ، والذِّكْرُ، والدُّنُوُّ مِنْ البَيتِ،
(والدُّعاءُ) بما أحبَّ؛ لحديثِ أحمدَ
(1)
في "المناسك" عن عبدِ اللهِ بنِ السائبِ: أنَّه سمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ ما بين الركنين
(2)
: "ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ". وعن أبي هريرةَ مرفوعًا: "وُكِّلَ به -يعني الركنَ اليمانيَّ- سبعونَ ألفَ ملَكٍ، فمَنْ قال: "اللهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ، قالوا: آمين"
(3)
.
ويقولُ في بقيَّةِ طوافِه: اللهمَّ اجعلْهُ حجًّا مبرورًا، وسعْيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا. ربِّ اغفرْ وارْحمْ، واهدني السَّبيلَ الأقْوَمَ، وتجاوزْ عمَّا تعلمُ، وأنتَ الأعزُّ الأكرمُ. وكان عبدُ الرحمنِ بن عوفٍ يقولُ: ربِّ قِني شُحَّ نفسي
(4)
.
(والذكرُ)
(5)
ويصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويدَعُ الحديثَ، إلا ذِكْرًا أو قراءةً، أو أمرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن منكرٍ، وما لابدَّ منه، لحديثِ:"الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ، فمَنْ تكلَّمَ فلا يتكلَّمُ إلا بخيرٍ"
(6)
. وتُسنُّ القراءةُ فيه، نصًّا؛ لأنَّها أفضلُ الذِّكرِ، لا الجهَرُ بها. قالَه الشيخ تقي الدين. وقال أيضًا: جِنسُ القِراءَةِ أفضَلُ مِن الطَّوافِ
(7)
.
(والدَّنُوُّ) أي: القُربُ (من البيتِ)
(1)
أخرجه أحمد (24/ 118)(15398)، وأبو داود (1892)، وحسنه الألباني.
(2)
سقطت: "يقول ما بين الركنين" من الأصل.
(3)
أخرجه ابن ماجه (2957)، وضعفه الألباني.
(4)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(23/ 286).
(5)
في الأصل: "ويذكر".
(6)
أخرجه الترمذي (960) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني في "الإرواء"(121).
(7)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 537).
والركعتانِ بعدَه.
(والركعتانِ بعدَه) والأفضلُ كونُهما خلفَ المقامِ، أي: مقامِ إبراهيمَ؛ لحديثِ جابرٍ في صفةِ حجِّهِ عليه السلام وفيه: ثمَّ تقدَّمَ إلى مقامِ إبراهيمَ، فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البَقَرَة: 125] فجعلَ المقامَ بينه وبين البيتِ، فصلَّى ركعتينِ .. الحديثُ. رواه مسلمٌ
(1)
. ولا يُشرَعُ تقبيلُه، ولا مسحُه، فسائرُ المقاماتِ أوْلى. وكذا صخرةُ بيتِ المقدسِ. وتُجزِئُ مكتوبةٌ عنهما.
ويُسنُّ عَوْدُه بعد الصَّلاةِ إلى الحَجَرِ الأسودِ، فيستلِمُه نصًّا، لفعلِه عليه السلام. ذكرَهُ جابرٌ في صفةِ حجِّه صلى الله عليه وسلم.
الاستلامُ: افتعالٌ من السَّلامِ، وهي التحيةُ. وقيلَ: من السِّلامِ وهي الحجارةُ، واحدُها: سلِمة، بكسرِ اللَّامِ. وقيلَ: من المسالمةِ، كأنَّه فعلَ ما يفعلُه المسالمُ.
ولهذا يُسمِّي أهلُ اليمنِ الحجرَ الأسودَ: المُحيَّا
(2)
.
ويُستحبُّ استقبالُ الحجرِ بوجهه، على الصحيحِ من المذهبِ. وفي الحديثِ:"نزلَ الحَجَرُ الأسودُ من الجنةِ أشدُ بياضًا من اللبنِ، فسوَّدَتْه خطايا بني آدمَ"
(3)
. صحَّحَه الترمذيُّ.
(1)
أخرجه مسلم (1218).
(2)
انظر: "شرح الزركشي"(3/ 189).
(3)
أخرجه الترمذي (877) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني.
فَصْلٌ
وشُرُوطُ صِحَّةِ السَّعي ثمانيةٌ:
النَّيةُ، والإسلامُ، والعَقَلُ، والمُوالاةُ، والمَشيُ معَ القُدَرةِ، وكونُه بعدَ طوافٍ ولو مَسنُونًا كطوافِ القُدُومِ، وتَكميلُ السَّبْعِ،
(فصلٌ)
(وشروط صحَّةِ السعي ثمانيةُ):
الأوَّلُ: (النيةُ) لحديثِ: "إنَّما الأعمالُ بالنياتِ".
(و) الثاني: (الإسلامُ)
(و) الثالثُ: (العقلُ).
(و) الرابعُ: (الموالاةُ) على الأصحِّ؛ قياسًا على الطوافِ. قالَهُ القاضي.
(و) الخامسُ: (المشيُ مع القدرةِ) أمَّا مع العجزِ، فيصحُّ راكبًا ومحمولًا للطوافِ. ذكرَهُ الخِرقيُّ والقاضي وغيرُهما. وذكرَ الموفَّق إجزاءَ السعيِ راكبًا لغيرِ عذرٍ
(و) السادسُ: (كونُه بعد طوافِ) نسكٍ (ولو مسنونًا، كطوافِ القُدومِ) لأنَّه عليه السلام سعَى بعدَ الطوافِ. وقال: " لِتأخذُوا عنِّي مناسِكَكُمْ"
(1)
. فلو سعَى بعدَ طوافِه، ثمَّ عَلِمَه بلا طهارةٍ، أعادَ السعيَ. ولا يُسنُّ بعدَ كلِّ طوافٍ
(و) السابعُ: (تكميلُ السَّبْعِ) أي: يفعلُه سبْعًا، ذهابُهُ سعْيَةٌ، ورجوعُهُ سعْيَةٌ، يفتتحُ بالصفا، ويختمُ بالمروةِ؛ للخبرِ. فإنْ بدأ بالمروةِ لم يحتسبْ بذلك الشَّوْطِ. ويُكثرُ من الدُّعاءِ والذكرِ فيما بين ذلك. قال أحمدُ: كان ابنُ مسعودٍ إذا سعَى بين
(1)
تقدم تخريجه.
واستيعابُ ما بينَ الصَّفا والمرَوةِ. وإن بَدأَ بالمَروَةِ، لم يَعَتدَّ بذلكَ الشَّوطِ.
وسُنَنُه:
الطَّهارَةُ، وسترُ العَورَةِ، والموالاةُ بينَه وبينَ الطَّوافِ.
الصفا والمروةِ قال: ربِّ اغفرْ وارحمْ، واعفُ عمَّا تعلَّمُ، وأنتَ الأعزُّ الأكرمُ
(1)
. وقال عليه السلام: "إنَّما جُعِلَ رميُ الجمارِ، والسعيُ بين الصفا والمروةِ؛ لإقامةِ ذكرِ اللهِ عز وجل"
(2)
. قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.
(و) الثامنُ: (واستيعابُ ما بين الصفا والمروةِ. وإنْ بدأ بالمروةِ لم يَعتدَّ بذلك
(3)
الشوطِ) فلا يحتسبُه، ويختمُ بالمروةِ. استيعابُ ما بينَهُما في كلِّ مرةٍ، فيُلصقُ عقِبَه بأصلِهما، إنْ لمْ يرقَهما، فإنْ تركَ ممَّا بينهما شيئًا، ولو دونَ ذراعٍ، لم يصحَّ سعْيُه.
(وسنُنُه) أي: السعيِ:
(الطهارةُ) من حدَثٍ وخبثٍ
(وسترُ العورةِ)، فلو سعَى عُريانًا، أو مُحدِثًا، أجزأَه، لكنْ سترُ العورةِ واجبٌ مطلقًا.
(والموالاةُ بينه وبين الطَّوافِ) بأنْ لا يُفرِّقَ بينهما طويلًا. ولا يُسنُّ فيه اضطِبَاعٌ، نصًّا.
والمرأةُ لا تَرْقَى الصفا
(4)
ولا المروةَ، ولا تسعَى سعيًا شديدًا.
(1)
أخرجه البيهقي (5/ 95).
(2)
أخرجه الترمذي (902) من حديث عائشة. وضعفه الألباني.
(3)
في الأصل: "بذكر".
(4)
في الأصل: "في الصفا".
وسُنَّ أن يَشرَبَ من ماءِ زَمزَمَ لِمَا أحبَّ، ويَرُشَّ على بدنهِ وثوبهِ
وتُسنُّ مبادرةُ معتمرٍ بذلك.
ويدعو بما أحبَّ. قال الإمام: يدعو بدعاءِ ابنِ عمرَ
(1)
، وهو: اللهمَّ اعصمْنِي بدينِكَ وطواعِيَتِكَ وطواعيةِ رسولِك، اللهمَّ جنبْني حدودَك، اللهمَّ اجعلْني ممَّنْ يحبُّكَ ويحبُّ ملائكتَكَ وأنبياءَكَ ورُسُلَكَ وعبادَكَ الصالحين، اللهمَّ حبِّبني إليكَ، وإلى مَلائِكَتِك، وإلى رُسُلِكَ، وإلى عِبادِك الصالحين
(2)
، اللهمَّ يسرْ ليَ اليُسرى، وجنبْني العُسرَى، واغفرْ لي في الآخرةِ والأُولى، واجعلْني من أئمةِ المتقين، واجعلْني من ورثةِ جنَّةِ النَّعيمِ، واغفرْ لي خطيئتي يومَ الدينِ، اللهمَّ قلتَ:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافر: 60] وإنَّكَ لا تُخلفُ الميعادَ، اللهمَّ إذْ هديتني للإسلامِ، فلا تنزِعهُ منِّي، ولا تنزعني منه، حتى تتوفَّاني على الإسلام، اللهمَّ لا تقدمني للعذابِ، ولا تؤخرْني لسوءِ الفتنِ.
قال في "الإقناع"
(3)
: ويُكثرُ من الدُّعاءِ والذكرِ، ومنه: ربٍّ اغفرْ وارحمْ، واعفُ عمَّا تعلمُ، وأنتَ الأعزُّ الأكرمُ.
(وسُنَّ أنْ يشربَ من ماءِ زمزمَ لما أحبَّ، ويرشُّ على بدنِه وثوبِه) لحديثِ محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ، قال: كنتُ جالسًا عندَ ابنِ عباسٍ، فجاءَه رجلٌ، فقال: من أين جئْتَ؟ قال: من زمزمَ. قال: فشرِبتَ منها كما ينبغي؟ قال: فكيفَ؟ قال: إذا شرِبتَ منها، فاستقبلِ الكعبةَ، واذكرِ اسمَ اللهِ، وتنفَّسْ ثلاثًا من
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 108).
(2)
سقطت: "اللهمَّ حبِّبني إليكَ وإلى مَلائِكَتِك وإلى رُسُلِكَ وإلى عِبادِك الصالحين" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(6/ 265).
(3)
"الإقناع"(2/ 15).
ويقولَ: بسم الله، اللَّهم اجعَلهُ لنا عِلْمًا نافِعًا، ورِزقًا واسِعًا، وَرِيًّا وشَبَعًا، وشِفاءً من كلِّ داءٍ، واغسِل به قَلِبي، وأملأهُ مِنْ خَشَيتِكَ.
وسُنَّ زيارةُ قَبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبرِ صاحبَيه رضوانُ الله عليهِما.
زمزمَ، وتضلَّعْ منها، فإذا فرغتَ منها، فاحمدِ اللهِ، فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "آيةُ ما بيننا وبين المنافقينَ، أنَّهم لا يتضلَّعون
(1)
من زمزمُ". رواه ابنُ ماجه
(2)
. (ويقولُ: بسمِ اللهِ، اللهمَّ اجعلْه لنا علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وريًّا وشبعًا، وشفاءً من كلِّ داءٍ، واغسِلْ به قلبي، واملأْه من خشيتِكَ) زاد بعضُهم: وحكمتِكَ. لحديثِ جابرٍ: "ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ له". رواه ابنُ ماجه
(3)
. وهذا الدُّعاءُ شاملٌ لخَيْري الدنيا والآخرةِ
(وتُسنُّ زيارةُ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقبْر صاحبَيْه، رضوانُ اللهِ عليهما)
(4)
لحديثِ الدارقطنيِّ
(5)
عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: "مَنْ حجَّ فزارَ قبري بعدَ وفاتي، فكأنَّما زارني حيًّا". وفي روايةٍ: "مَنْ زارَ قبري وجبتْ له شفاعتي"
(6)
. وعن أبي هريرةَ مرفوعًا:
(1)
في الأصل: "يتضلون".
(2)
أخرجه ابن ماجه (3061)، وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه ابن ماجه (3062)، وصححه الألباني.
(4)
على أن لا يكون ذلك بشدِّ الرِّحالِ إليها قاصدًا لها. قال الشيخ تقي الدين: أما إذا كان قصده بالسفر زيارةَ قبرِ النبي دونَ الصلاةِ في مسجدِه، فهذه المسألةُ فيها خلافٌ. فالذي عليه الأئمة وأكثرُ العلماءِ: أنَّ هذا غيرُ مشروع، ولا مأمورٍ به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثَةِ مَساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، ومسجدي هذا، والمسجدِ الأقصى". "مجموع الفتاوى"(27/ 26).
(5)
أخرجه الدارقطني (2/ 278). قال الألباني: موضوع. "ضعيف الجامع"(5563).
(6)
أخرجه الدارقطني (2/ 278). قال الألباني: موضوع. "ضعيف الجامع"(5618).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"ما من أحدٍ يُسلِّمُ عليَّ عندَ قبري إلَّا ردَّ اللهُ عليَّ رُوحي، حتى أرُدَّ عليه السلام"
(1)
.
قال أحمدُ: وإذا حجَّ الذي لم يَحُجَّ قَطُّ، يعني من غيرِ طريقِ الشامِ، لا يأخذُ على طريقِ المدينةِ؛ لأنِّي أخافُ أنْ يَحدُثَ به حَدَثٌ، فينبغي أنْ يقصِدَ مكَّةَ من أقصِرِ الطرقِ، ولا يتشاغلُ بغيرِه. وإن كان
(2)
تطوُّعًا، بدأ بالمدينةِ.
وإذا دخلَ المسجدَ قال ما ورَدَ، وصلَّى تحيَّتَهُ، ثمَّ يستقبلُ وسطَ القبرِ، فيسلِّمُ عليه صلى الله عليه وسلم مُستقبلًا له، مُولِّيًا
(3)
ظهرَه القبلةَ، فيقولُ: السلامُ عليك يا رسولَ اللهِ. كان ابنُ عمرَ لا يزيدُ على ذلك. وإنْ زادَ فحسن. ثمَّ يتقدَّمُ قليلًا فيسلِّمُ على أي بكرٍ، ثمَّ يتقدَّمُ فيسلِّمُ على عمرَ رضي الله عنهما. ثمَّ يستقبلُ القبلةَ، ويجعلُ الحُجرةَ عن يسارِهِ، ويدعو لنفسِه ووالدَيْه وإخوانِه والمسلمين بما أحبَّ
(4)
.
ويحرُمُ الطوافُ بها. ويُكرَهُ التمسُّحُ بالحجرة. قال الشيخ تقي الدين: اتَّفقوا على أنَّه لا يُقبِّلُه ولا يتمسح به؛ فإنَّه من الشركِ. وكذا مسم القبرِ أو حائطِه، ولصقُ صدرِه به، وتقبيلُهُ. ويُكرَهُ رفعُ الصوتِ عندَ الحُجرةِ.
وإذا توجَّه إلى بلدِه، هلَّلَ فقالَ: لا إله إلا الله. ثمَّ قال: آيبونَ -أي: راجعونَ- تائبونَ، عابدونَ، لربِّنا حامدونَ، صدقَ اللهُ وعدَهُ، ونصرَ عبْدَهُ، وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ.
(1)
أخرجه أبو داود (2041) دون قوله: "عند قبري". وحسنه الألباني.
(2)
سقطت: "كان" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهى" 2/ 581.
(3)
في الأصل: "متوكئا". والمثبت من "دقائق أولي النهى" 2/ 581.
(4)
قال الشيخ تقي الدين: لا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه. "مجموع الفتاوى"(26/ 147).
وتُستحبُّ الصلاةُ بمسجِدِه صلى الله عليه وسلم، وهي بألفِ صلاةٍ، وفي المسجِدِ الحرامِ بمائةِ ألفٍ، وفي المَسجِدِ الأقصَى بخمسِمِائَةٍ.
ويُسنُّ أنْ يأتيَ مسجدَ قُباءَ، ويُصلِّي فيه
(1)
.
بل يُسنُّ زيارةُ مشاهدِ المدينةِ، والبقيعِ، ومَنْ عُرِفَ قبرُه بها، كإبراهيمَ ابنِه عليه السلام، وعثمانَ، والعباسِ، والحسنِ، وأزواجِه، وزيارةُ شهداءِ أحدٍ -وبيتِ المقدسِ.
ولا بأسَ أنْ يُقالَ للحاجِّ إذا قدِمَ: تقبَّلَ اللهُ مَنْسَكَكَ، وأعظمَ أجرَكَ، وأخلفَ نفقتَكَ. وقال أحمدُ لرجلٍ: تقبَّلَ اللهُ حجَّكَ، وزكَّى عملَكَ، ورزقنا وإيَّاكَ العَوْدَ إلى بيتِه الحرامِ. وفي "المستوعب": كانوا يغتنمون أدعيةَ الحاجِّ قبلَ أنْ يتلطَّخُوا بالذنوبِ
(2)
.
(وتُستحبُّ الصَّلاةُ بمسجدِه صلى الله عليه وسلم، وهي بألفِ صلاةٍ، وفي المسجدِ الحرامِ بمائةِ ألفِ صلاةٍ، وفي المسجدِ الأقصى بخمسمائةِ) صلاةٍ، وبقيةُ حسناتِ الحَرَمِ كصلاةٍ فيه، وكلُّ عملِ برٍّ فيه بمائةِ ألفٍ. وفي روايةِ أحمدَ وغيرِه:"صلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من الصَّلاةِ بمسجدي هذا بمائةِ ألفِ صلاةٍ"
(3)
.
وفي "الفروع": والأظهرُ: أنَّ مرادَهم غيرُ صلاةِ النساءِ في البيوتِ، وأنَّ النفلَ في البيتِ أفضلُ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 581).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 435).
(3)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 4)(16162) من حديث عبد الله بن الزبير بلفظ: " .. وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا"، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(1172).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وظاهرُ كلامِهم: أنَّ المسجدَ الحرامَ: نفسُ المسجدِ. وقيلَ: الحَرَمُ كلُّه مسجدٌ. ومع هذا، فالحَرَمُ أفضلُ
(1)
من الحِلِّ
(2)
.
(1)
تكررت: "أفضل" في الأصل.
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 413، 414).
بابُ الفَواتِ والإحصَار
مَنْ طلَعَ عليهِ فَجرُ يومِ النَّحرِ، ولمْ يقِفْ بعرفَةَ لِعُذرِ حَصرٍ أو غَيرِه، فاتهُ الحجُّ، وانقلَبَ إحرامُه عُمَرةً - ولا تُجزِئُ عن عُمرَةِ
(بابُ الفواتِ والإحصارِ)
إن ومَا يتعلَّقُ بهما
الفواتُ: مصدرُ فاتَ يفوتُ، كالفَوْتِ، وهو سَبقٌ لا يُدركُ، فهو أخصُّ من السَّبقِ.
والإحصارُ: مصدرُ أحصرَه، إذا حبَسَه، فهو الحبسُ. وأصلُ الحَصْرِ: المنعُ (مَنْ طلَعَ عليه فجرُ يومِ النحرِ، ولم يقفْ بعرفةَ) في وقتِه العذرِ حصرٍ أو غيرِه، فاتَه الحجُّ) ذلك العامَ؛ لقولِ جابرٍ: لا يفوتُ الحجُّ حتى يطلُعَ الفجرُ من ليلةِ جَمْعٍ. قال أبو الزبيرِ: فقلتُ له: أقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم
(1)
. رواه الأثرمُ. ولحديثِ: "الحجُّ عرفةَ، فمَنْ جاءَ قبلَ صلاةِ الفجرِ ليلةَ جَمعٍ، فقدْ تمَّ حجُّه"
(2)
. فمفهومُهُ: فوتُ الحجِّ، بخروجِ ليلةِ جَمْعٍ، وسقطَ عنه توابعُ الوقوفِ، كمبيتٍ بمُزْدَلِفَةَ، ومنًى، ورمي جمارٍ.
(وانقلبَ إحرامُه) بالحجِّ (عمرةً) قارنًا أو غيرَه؛ لأنَّ عمرةَ القارنِ لا يلزمُه أفعالُها، وإنَّما يمنعُ من عمرةٍ على عمرةٍ، إذا لزِمَه المُضِيُّ في كلِّ منهما. (ولا
(1)
أخرجه البيهقي (5/ 174).
(2)
أخرجه أحمد (31/ 64)(18774)، وابن ماجه (3015) من حديث عبد الرحمن بن يَعْمَرَ الدِّيليِّ. وصححه الألباني.
الإسلامِ- فيتحَلَّلُ بها، وعليه دَمٌ، والقضَاءُ في العَامِ القَابِلِ، لكنْ لو ضدَّ عن الوقُوفِ، فتحلَّل قَبلَ فَواتِه، فلا قضَاءَ.
ومَنْ حُصِرَ عن البيتِ، ولو بعدَ الوقُوفِ، ذَبَحَ هديًا بنيَّةِ التَّحلُّل،
تُجَزئُ عن عمرةِ الإسلامِ) نصًّا؛ لحديثِ: "وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى". وهذه لمْ ينوِها. ولوجوبها، كعمرةٍ منذورةٍ.
وعلى مَنْ لمْ يشترطْ أوَّلًا؛ بأنْ لمْ يقلْ في ابتداءِ إحرامِه: وإنْ حبسَني حابسٌ، فمحلِّي حيثُ حبستي. قضاءُ حجٍّ فاتَهُ، حتى النفلِ. وللدارقطنيِّ
(1)
عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا: " مَنْ فاتَهُ عرفاتٌ، فقدْ فاتَهُ الحجُّ، وليتحلَّلْ بعمرةٍ، وعليه الحجُّ من قابلٍ". وعمومُه شاملٌ للفرضِ والنفلِ. والحجّ يلزمُ بالشروعِ فيه، فيصيرُ كالمنذورةِ، بخلافِ سائرِ التطوُّعاتِ
(فيتحلَّلُ بها) أي: بالعمرةِ (وعليه دمٌ، والقضاءُ في العامِ القابلِ، لكنْ لو صُدَّ عن الوقوفِ) أي: عن عرفةَ (فتحلَّلَ قبلَ فواتِه) الوقوفِ (فلا قضاءَ) عليه في ذلك
(ومَنْ حُصِرَ عن البيتِ) أي: مُنِعَ الوصولَ إلى الكعبةِ، بحيثُ لمْ يمكنْه التوصلُ إليها بوجهٍ، ولو بعيدًا، (ولو) كان منعُه (بعدَ الوقوفِ) بعرفةَ، كما قبلَه (ذبحَ هديًا بنيَّةِ التحلُّل) وجوبًا؛ لقولِه تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البَقَرَة: 196] ولأنَّه عليه السلام أمرَ أصحابَه حين حُصِروا في الحديبيةِ أنْ ينحَرُوا ويَحلِقوا ويَحِلُّوا
(2)
. وسواءٌ كان الحصرُ عامًّا للحاجِّ، أو خاصًّا، كمَنْ حُبِسَ بغيرِ حقٍّ، أو أخذَه لصٌّ؛ لعمومِ النصِّ، ووجودِ المعنَى. ومَنْ حُبِسَ بحقٍّ يمكنُه أداؤُه، فليسَ
(1)
أخرجه الدارقطني (2/ 241)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1134).
(2)
أخرجه البخاري (2731، 2732) من حديث المِسوَر بن مخرَمَةَ ومروان بن الحكم.
فإن لم يَجِد، صَامَ عشرَةَ أيامٍ بالنيِّةِ، وقد حَلَّ.
ومَنْ حُصِرَ عن طوافِ الإفاضَةِ فقط، وقد رَمَى وحَلَق، لم يتحلَّل حتَّى يطُوفَ.
بمعذورٍ. ويكونُ ذبحُه في مكانِ إحصارِهِ
(فإنْ لمْ يجدْ) هديًا (صامَ عشرةَ أيَّامٍ بالنيَّةِ) أي: بنيَّةِ التحلُّل، (وقدْ حَلَّ) نصًّا.
وظاهرُه: أنَّ الحَلْقَ أو التقصيرَ غيرُ واجبٍ هنا، وأنَّ التحلُّلَ يحصلُ بدونِهِ، وهو أحدُ القولَيْن. قدَّمَه في "المحرر" وا بنُ رزينِ في "شرحه"، وهو ظاهرُ الخِرقيِّ؛ لأنَّه من توابعِ الوقوفِ، كالرمي. وقدَّمَ الوجوبَ في "الرعاية"، واختارَهُ القاضي في "التعليق"، وغيرِه. وجزمَ به في "الإقناع"
(1)
.
قال العلَّامةُ عمُّ والدي في "غاية المنتهى"
(2)
: ولا مدخلَ لحلقٍ أو تقصيرٍ، خلافًا لصاحبِ "الإقناع".
(ومَنْ حُصِرَ عن طوافِ الإفاضةِ فقط) بأنْ رمىَ وحلَقَ بعدَ وقوفِه، وإليه أشارَ بقولِه:(وقدْ رمىَ وحلَق، لمْ يتحلَّلْ حتى يطوفَ) للإفاضةِ، ويسعَى إنْ لمْ يكنْ سعَى، وكذا لو حُصِرَ عن السعي فقط؛ لأنَّ الشرعَ وردَ بالتحلُّل من إحرامٍ تامِّ يُحرِّمُ جميعَ المحظوراتِ، وهذا يُحرِّمُ النساءَ خاصةً، فلا يلحق
(3)
به.
ومتى زالَ الحصرُ، أتى بالطوافِ والسعي، إنْ لمْ يكنْ سعَى، وتمَّ حجُّه.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(2/ 592).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 440).
(3)
في الأصل: "يحلق".
ومَنْ شَرطَ في ابتداءِ إحرامِه: أنَّ محِلِّي حيث حبستَني، أو قال: إن مرِضتُ، أو عَجَزتُ، أو ذَهَبت نَفَقَتي، فَلِيَ أنْ أحِلَّ، كان له أنْ يتحلَّلَ متَى شاءَ من غيرِ شيءٍ، ولا قضَاءَ عليه.
(ومَنْ شَرَطَ في ابتداءِ إحرامِه: أنَّ محِلِّي حيثُ حبستني، أو قالَ: إنْ مرِضتُ، أو عَجَزْتُ، أو ذهبتْ نفقتي، فليَ أنْ أحلَّ، كان له أنْ يتحلَّلَ متى شاءَ من غيرِ شيءٍ) أي: من غيرِ هدي ولا صومٍ (ولا قضاءَ عليه) لأنَّ شزطَه صحيحٌ، فكانَ على ما شَرَطَ، لكنْ إنْ تحلَّلَ، ولم يكنْ حجَّ حجَّةَ الإسلامِ قبلُ، فوجوبُها باقٍ؛ لعدمِ ما يسقطهُ.
وإنْ أخطأَ الناسُ فوقفوا الثامنَ والعاشرَ، أجزأَهم. وإنْ أخطأَ دونَ الأكثرِ، فاتَهم الحجُّ؛ لأنَّهم لم يقفوا في وقتِه.
وفي "المقنع": إنْ أخطأ بعضُهم، فاتَه الحجُّ. قال في "الإنصاف": هذا المذهبُ، وعليه الجمهورُ، ولمْ يخالفْه في "التنقيح". وجزمَ به في "الإقناع". والوقوفُ مرَّتينِ، قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: بدْعةٌ لمْ يفعلْه السلفُ. وفي "الفروع": يتوجَّهُ: وقوفٌ مرتينِ إنْ وقفَ بعضُهم، لا سيما مَنْ رآه
(1)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(2/ 591).
بابُ الأضْحِيْةِ
وهي سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ
(بابُ الأُضحيةِ)
بضمِّ الهمزةِ وكسرِها، وتخفيفِ الياءِ وتشديدِها: واحدةُ الأَضاحي
(وهي) أي: الأضحيةُ (سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ) - قال في "الرعاية": ويُكرَهُ تركُها مع القدرةِ، نصَّ عليه- بسببِ العيدِ؛ تقرُّبًا إلى اللهِ تعالى.
ويُقالُ في الأُضحيةِ: ضَحيَّةٌ، وجمعُها: ضَحَايا.
وقدْ أجمعَ المسلمونَ على مشروعيتِها. وسندُ الإجماعِ: قولُه سبحانه وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكَوثَر: 2] قال جماعةٌ من المفسرين: المرادُ بذلك التضحيةُ بعدَ صلاةِ العيدِ. وما رويَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرنَيْنِ، ذبحَهُمَا بيدِه، وسَمَّى وكبَّرَ، ووضعَ رجلَه على صفاحِهما
(1)
. متفقٌ عليه.
الأملحُ: الذي فيه بياضٌ وسوادٌ، وبياضُه أكثرُ. قالَه الكسائيُّ. وقال ابنُ الأعرابيِّ: هو النقيُّ البياضِ
(2)
.
وهي مؤكَّدَةٌ عن مسلمٍ تامِّ الملكِ. وعنه: أنَّها واجبةٌ؛ لما روى أبو هريرةَ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كانَ له سعةٌ ولم يضحِ، فلا يقرَبنَّ مُصلَّانا"
(3)
. وعن
(1)
في الأصل: "جناحها". والمثبت من مصدري التخريج، والحديث عند البخاري (5565)،
ومسلم (1966) من حديث أنس.
(2)
"الشرح الكبير"(9/ 331).
(3)
أخرجه ابن ماجه (3123)، وحسنه الألباني.
وتجِبُ بالنَّذرِ،
مِخنَفِ بنِ سُليمٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناسُ، إنَّ على أهلِّ كلِّ بيتٍ في كلِّ عامٍ، أضحاةً وعتيرةً"
(1)
.
والأوَّلُ المذهبُ؛ لما روى الدارقطنيُّ
(2)
بإسنادِه عن ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ كُتبتْ عليَّ، وهنَّ لكمْ تطوُّعٌ". وفي روايةٍ: " الوترُ، والنحرُ، وركعتا الفجرِ". ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أرادَ أنْ يضحيَ، فدخلَ العشرُ، فلا يأخَذْ من شَعَرِه وبشَرَتِه شيئًا". رواه مسلمٌ
(3)
. فعلَّقَه على الإرادةِ، والواجبُ لا يُعلَّقُ على الإرادةِ، ولأنَّ الأضحيةِ ذبيحةٌ لم يجبْ تفريقُ لحمِها، فلمْ تكنْ واجبةً، كالعقيقةِ.
والحديثُ الدالُّ على الوجوبِ قدْ ضعَّفَه أصحابُ الحديثِ. ثمَّ نحملُه على تأكُّدِ الاستحبابُ
(4)
، كما قالَ:"غسلُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ"
(5)
. وحديثِ: "مَنْ أكلَ من هذه الشجرةِ، فلا يقرَبنَّ مُصلَّانا"
(6)
.
(و) الأضحيةُ (تجبُ بالنذرِ) لحديثِ: "مَنْ نذرَ أنْ يطيعَ اللهَ فليطعْهُ"
(7)
. وكالهدي.
(1)
أخرجه أحمد (29/ 419)(17889)، وأبو داود (2788) قال أبو داود: العتيرة منسوخة، هذا خبر منسوخ. انتهى. وحسن الألباني الحديث.
(2)
أخرجه الدارقطني (2/ 21). قال الألباني: موضوع. "ضعيف الجامع"(2561).
(3)
أخرجه مسلم (1977) من حديث أم سلمة.
(4)
انظر "الشرح الكبير"(9/ 420).
(5)
أخرجه البخاري (858)، ومسلم (846) من حديث أبي سعيد.
(6)
أخرجه البخاري (856)، ومسلم (562) من حديث أنس بلفظ:"من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلي معنا".
(7)
أخرجه البخاري (6696) من حديث عائشة.
وبقولِه: هذِهِ أُضحِيةٌ، أو: لله.
والأفضلُ: الإبلُ، فالبقرُ، فالغنَمُ. ولا تُجزِئُ من غَيرِ هذه الثَّلاثة.
وتُجزِئُ الشاةُ عن الواحِد، وعن أهلِ بيتهِ وعيالِه.
(و) تجبُ (بقولِه: هذِه أُضحية، أو: للهِ) لأنَّه لفظٌ يقتضي الإيجابَ، فترتَّبَ عليه مقتضاه. وكذا يتعيَّنُ بإشعارِه، أو تقليدِه بنيَّتِه. وإذا تعيَّنتْ، لمْ يجزْ بيعُها، ولا هبتُها، إلا أنْ يبدلَها
(1)
بخيرٍ منها، فيجوزُ. وكذا لو نَقَلَ الملكَ فيها، وشِراءُ خيرٍ منها، جازَ، نصًا
(2)
. واختارَهُ الأكثرُ؛ لأنَّ المقصودَ نفعُ الفقراءِ، وهو حاصلٌ بالبدلِ
(3)
. ويركبُها لحاجةٍ فقط بلا ضررٍ. ويضمنُ النقصَ بركوبِه
(4)
.
وإنْ ولدتْ معيَّنةٌ، من هدي وأضحيةِ، ذُبحَ ولدُها معها؛ لأنَّه تبعٌ لأمِّه.
ويُباحُ أنْ يَجُزَّ صوفَها ووبرَها
(5)
، ويتصدَّقَ به، وله الانتفاعُ به؛ لجريانِه مجرى جلدِها للانتفاعِ به دوامًا. فإنْ كانَ بقاؤُه أنفعَ لها، لم يجزْ. ولا يشربُ من لبنِها إلا ما فضلَ عن ولدِها
(6)
.
(والأفضلُ) في هَدْي وأضحيةٍ: (الإبلُ، فالبقرُ، فالغنمُ. ولا تُجزئُ) أضحيةٌ (من غيرِ هذه الثلاثةِ) أي: الإبلِ، والبقرِ، والغنمِ، الأهليةِ.
(وتجزئُ الشاةُ عن الواحدِ، وعن أهلِ بيتِه وعيالِه) نصًّا؛ لحديثِ أبي أيوبَ:
(1)
في الأصل: "يبلها".
(2)
في الأصل: "أيضا".
(3)
في الأصل: "بالبذل".
(4)
"الروض المربع"(4/ 232).
(5)
أي: المعينة.
(6)
"الروض المربع"(4/ 235).
وتُجزِئُ البدَنةُ والبقرةُ عن سَبعَةٍ.
وأقلُّ سِنِّ ما يُجزِئُ من الضَّأن: ما له نِصفُ سَنَةٍ. ومنَ المَعْزِ: ما لهُ سَنَةٌ. ومِنَ البَقرِ والجَامُوسِ: ما لهُ سنتَانِ،
كانَ الرَّجلُ في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُضحي بالشاةِ عنه، وعن أهلِ بيتِه، فيأكلونَ ويُطعِمونَ
(1)
. قال في "الشرح": حديثٌ صحيحٌ.
(وتجزئُ البدنةُ والبقرةُ عن سبعةٍ) روي عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وعائشةَ
(2)
؛ لحديث جابرٍ: نحرْنا بالحديبيةِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم البَدَنةَ عن سبعةٍ، والبقرةَ عن سبعةٍ. رواه مسلمٌ
(3)
. وشاةٌ أفضلُ من سُبعِ بدنةٍ أو بقرةٍ
(4)
.
(وأقلُّ سنِّ ما يُجزئُ) في هديٍ واجبٍ وأُضحيةٍ (من الضأنِ): جذعٌ، وهو (ما لَه نصفُ سنةٍ) وهو ستَّةُ أشهرٍ كوامِلَ؛ لحديث:"يُجزئُ الجَذَعُ من الضأنِ أُضحيةً". رواه ابنُ ماجه
(5)
. والهديُ مثلُها. ويُعرفُ بنومِ الصوفِ
(6)
على ظهرِه. قالَهُ الخِرقيُّ عن أبيه، عن أهلِ الباديةِ.
(و) المُجزِيُّ (من المعزِ): ثنيٌّ، وهو (ما له سنةٌ) كاملةٌ؛ لأنَّه قبلَها لا يُلَقِّحُ
(و) المجزِيُّ (من البقرِ والجاموسِ): ثنيٌّ، وهو (ما له سنتانِ) كاملتانِ.
(1)
أخرجه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147). وصححه الألباني في "الإرواء"(1142).
(2)
أخرجه الترمذي (1503) عن علي. وأخرجه الطحاوي (4/ 175) عن علي وابن مسعود.
وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 135) عن ابن عباس. وذكره في المحلى (7/ 152) عن عائشة وعزاه لابن أبي شيبة.
(3)
أخرجه مسلم (1318).
(4)
انظر "الروض المربمع الحاشية"(4/ 221).
(5)
أخرجه ابن ماجه (3139) من حديث أم بلال بنت هلال، عن أبيها. وضعفه الألباني.
(6)
في الأصل: "الصوم".
ومِنَ الإبِل: ما لَهُ خمسُ سِنِينَ.
وتُجزئُ الجمَّاءُ، والبَتراءُ، والخَصِيُّ، والحَامِلُ، وما خُلِقَ بلا أُذُنٍ، أو ذَهَبَ نِصفُ أليَتِهِ، أو أُذُنِه.
(و) المجزِيُّ (من الإبلِ): ثنيٌّ (ما له خمسُ سنينَ) كوامِلَ. سُمِّي بذلك لأنَّه ألقى ثنيَّته.
(وتُجزئُ) في الهدي والأضحيةِ (الجمَّاءُ): التي لمْ يُخلقْ لها قرنٌ (والبَتْرَاءُ): أي: لا ذَنَبَ
(1)
لها خِلقةً، أو مقطوعًا (والخَصِيُّ): وهو ما قُطعتْ خصيتاه أو سُلَّتا، (والحاملُ) في ظاهرِ كلامِ أحمدَ والأصحابِ، (وما خُلِقَ بلا أُذنٍ) أي: ويُجزئُ أيضًا في الهدي والأضحيةِ من الإبلِ والبقرِ والغنمِ: ما خُلِقَ بلا أُذنٍ (أو ذهبَ نصفُ أَليته) فما دونَه. ظاهرُه: أنَّه لا يُجزئُ ما ذهبَ أكثرُ أليتِه، أو كلُّها (أو) ذهبَ نصفُ (أُذنِه) فما دونَ، أو ذهبَ نصفُ القرنِ فما دونَ. وكذا بخَرقٍ أو شقٍّ، ويُكرَهُ، لحديثِ عليٍّ: أمرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ نستشرِفَ العينَ والأُذنَ، وأنْ لا نُضحِّيَ بمُقَابَلَةٍ ولا مُدابَرةٍ، ولا خَرقاءَ، ولا شرْقاءَ. قال زهيرٌ: قلتُ لأبي إسحاقَ: ما المقابَلةُ؟ قال: يقطعُ طرفُ الأذنِ. قلتُ: فما المدابَرَةُ؟ قال: تُقطعُ من مُؤخَّرِ الأذنِ. قلتُ: فما الخرقاءُ؟ قال: تُشَقُّ الأُذنُ. قلتُ: فما الشَّرقاءُ؟ قال: تُشقُّ أذنُها للسِّمةِ. رواه أبو داودَ
(2)
. وهذا نهيُ تنزيهٍ، فيحصلُ الإجزاءُ بها؛ لأنَّ اشتراطَ السلامةِ من ذلك يشُقُّ، ولا يكادُ يوجدُ سالمٌ من هذا كلِّه
(1)
في الأصل: "نب".
(2)
أخرجه أبو داود (2804) قال الألباني: ضعيف إلا جملة الأمر بالاستشراف.
لا بيِّنةُ المرَضِ، ولا بيِّنةُ العَوَرِ، بأنْ انخسَفَت عينُها، ولا قائمَةُ العينَينِ مع ذهابِ إبصارِهِما. ولا عجفاءُ: وهي الهَزيلَةُ التي لا مُخَّ فيها. ولا عَرجَاءُ لا تُطيقُ مَشيًا مع صَحِيحَةٍ.
(لا بيَّنةُ المرضِ) فلا تُجزئُ المريضةُ، سواءٌ كانتْ بجَرَبٍ أو غيرِه. قال في "الإنصاف"
(1)
: على الصحيحِ من المذهبِ. وقال الخِرقيُّ والشيرازيُّ في "الإيضاح": هي التي لا يُرْجَى بُرْؤُها
(ولا) تُجزئ (بيِّنةُ العَوَرِ، بأنِ انخسفتْ عينُها) للخبرِ. فإنْ كانَ بها بياضٌ لا يمنعُ النظرَ، أجزأتْ؛ لأنَّ عوَرَها ليس ببيِّننٍ. وهو ظاهرُ كلامِ كثيرٍ من الأصحابِ.
مفهومُ كلامِ المصنِّفِ من طريقِ أوْلى: أنَّ العمياءَ لا تُجزئُ. قال في "الإنصاف"
(2)
: وهو الصحيحُ، وهو المذهبُ، وعليه الأصحابُ.
(ولا قائمةُ العينينِ مع ذهابِ إبصارِهما) لأنَّ العَمى يمنعُ مشيَها مع رفيقتِها، ويمنعُ مشاركتَها في العلَفِ. وهذا مفهومُ ما تقدَّمَ، فلا يحتاجُ إلى ذكرِه. لكن تبع فيه صاحبَ الأصلِ فيعذرُ.
(ولا) يُجزئ (عَجْفاءُ: وهي الهزيلةُ التي لا مُخَّ فيها. ولا عَرجَاءُ لا تُطيقُ مَشيًا معَ صَحيحَةٍ)
(3)
والأصلُ في ذلك: ما روى البراءُ بنُ عازبٍ قال: قامَ فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "أربعٌ لا تجوزُ في الأضاحي: العوراءُ البيِّنُ عَوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعَزجاءُ البيِّنُ ظَلْعُهَا، والعَجْفاءُ التي لا تُنْقِي". رواه أبو داودَ،
(1)
"الإنصاف"(9/ 348).
(2)
"الإنصاف"(9/ 346).
(3)
سقطت: "ولا عَرجَاءُ لا تُطيق مَشيًا معَ صَحيحَةٍ" من الأصل.
ولا هَتمَاءُ: وهي التي ذَهَبت ثناياهَا مِنْ أصلِها. ولا عَصماءُ: وهي ما انكسر غِلافُ قَرنِها. ولا خَصِيٌّ مجبوبٌ. ولا عَضبَاءُ: وهي ما ذَهَبَ أكثرُ أدنِها أو قَرنِها
والنسائيُّ
(1)
.
(ولا) تجزيُّ (هتماءُ: وهي التي ذهبتْ ثناياها من أصلِها) ذكرَهُ جماعةٌ، وقال في "التلخيص": وهو قياسُ المذهبِ.
(ولا) تُجزيُّ (عصماءُ: وهي ما انكسرَ غِلافُ قرنِها) قالَهُ في "المستوعب" و"التلخيص"
(ولا) يُجزئ (خَصِيٌّ مجبوبٌ) بأنِ انقطعَ خِصيتاه مع ذَكَرِه
(ولا) تجزيُّ (عضباءُ: وهي ما ذهبَ أكثرُ أُذُنِها، أو) أكثرُ (قرنِها)؛ لحديثِ علي قال: نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُضحَّى بأعضبِ الأُذُنِ والقرنِ. قال قتادةُ: فذكرتُ ذلك لسعيدِ بنِ المسيبِ. فقال: العضبُ: النصفُ فأكثرُ. رواه الخمسةُ
(2)
، وصحَّحَه الترمذيُّ. ولأنَّ الأكثرَ كالكلِّ.
(1)
أخرجه أبو داودَ (2802)، والنسائيُّ (4369)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 176)(711)، وأبو داود (2805)، والترمذي (1504)، والنسائي (4377)، وابن ماجه (3145)، وضعفه الألباني.
فَصْلٌ
ويُسنُّ نحرُ الإبلِ قائمةً، وذبحُ البَقرِ والغنَمِ على جَنبِهَا الأيسرِ، مُوجَّهةً إلى القِبلَةِ.
(فصلٌ)
(ويُسنُّ نحرُ الإبلِ قائمةً) معقولةً يدُها اليسرى؛ بأنْ يطعنَها بنحوِ
(1)
حربةٍ في الوَهْدَةِ، وهي بين العُنُقِ والصدرِ؛ لحديثِ زيادِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: رأيتُ ابنَ عمرَ أتى على رجلٍ أناخَ بَدَنةً لينحرَها، فقال: ابعَثْهَا قائمةً مقَيَّدَةً، سُنَّةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. متفقٌ عليه
(2)
. وروىَ أبو داودَ
(3)
عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحرونَ البَدَنةَ مَعْقُولةَ اليُسرى، قائمةً على ما بقيَ من قوائِمِها. ويؤيِّدُه:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحَجّ: 36] لكنْ إنْ خَشِيَ أنْ تنفِرَ، أناخَها.
(و) يُسنُّ (ذبحُ البقرِ والغنمِ علي جَنْبِها الأيسرِ، موجَّهةً إلى القِبلةِ) لقولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البَقَرَة: 67]. ولحديثِ: ضحَّى بكبشَيْنِ أملحَيْنِ أقرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيدِه
(4)
.
ويجوزُ نحرُ ما يُذبَحُ، وذبحُ ما يُنحرُ، ويحلُّ؛ لأنَّه لم يجاوزُ محلَّ الذبحِ.
ولعمومِ حديثِ: "ما أنهرَ الدمَ، وذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه، فكُلْ"
(5)
.
(1)
في الأصل: "بنحر".
(2)
أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320).
(3)
أخرجه أبو داود (1767)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه البخاري (5565)، ومسلم (1966) من حديث أنس.
(5)
أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج.
ويُسمِّي حين يُحرِّكُ يدَهُ بالفِعْلِ، ويُكبِّر، ويقولُ: اللَّهمَّ هذا لكَ ومِنكَ.
وأوَّلُ وقتِ الذَّبحِ: مِنْ بعدِ أسبَقِ صلاةِ العيدِ بالبلَدِ، أو قَدرِهَا لمن لم يُصلِّ، فلا تُجزِئُ قبلَ ذلِكَ.
(ويُسمِّي) وجوبًا (حينَ يُحرِّكُ يدَهُ بالفعلِ) أي: النَّحرِ، أو الذبحِ، وتسقُطُ سهوًا، (ويُكبِّرُ) ندْبًا، (ويقولُ: اللهمَّ هذا لكَ ومنكَ) لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: ذبحَ يومَ العيدِ كبْشَيْن، ثمَّ قالَ حينَ وجَّهَهُما: وجَّهتُ وَجْهِيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومَمَاتي للهِ ربِّ العالمينَ، لا شريكَ له، وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا من
(1)
المسلمين، بسمِ اللهِ واللهُ أكبرُ، اللهمَّ هذا منكَ ولكَ". رواه أبو داودَ
(2)
. ولا بأسَ بقولِه، أي: الذابحِ: اللهمَّ تقبَّلْ من فلانٍ. لحديثِ: "اللهمَّ تقبَّلْ من محمدٍ وآلِ محمدٍ وأُمَّةِ محمدٍ". ثمَّ ضحَّى. رواه مسلمٌ
(3)
. ويذبحُ واجبًا قبلَ نفلٍ. وسُنَّ إسلامُ ذابحٍ، وتولِّيهِ بنفسِه أفضلُ.
(وأوَّلُ وقتِ الذبحِ) لأضحيةٍ، وهدي نذرٍ، أو تطوُّعٍ، أو متعةٍ، أو قِرانٍ:(من بعدِ أسبقِ صلاةِ العيدِ بالبلدِ) الذي تُصلَّي به، ولو قبلَ الخُطبةِ (أو) من بعدِ (قدرِها) أي: الصَّلاةِ (لمَنْ لمْ يصلِّ) يعني: لمَنْ بمحلٍّ لا تُصلَّى فيه، كأهلِ البوادي من أصحابِ الطُّنُبِ والخَرْكاوَاتِ
(4)
ونحوِهم ممَّنْ لا يصلُّون، فدخولُ وقتِ الذبحِ في حقِّهم بمُضِي قدرِ ما تُفعلُ فيه الصَّلاةُ. (فلا تُجزئُ قبلَ ذلك) أي:
(1)
في الأصل: "أولُ".
(2)
أخرجه أبو داود (2795) من حديث جابر. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه مسلم (1967) من حديث عائشة.
(4)
الخركاة: فارسية، تطلق بالعموم على المحل الواسع، وبالأخص على الخيمة الكبيرة. "الألفاظ الفارسية المعربة" ص (53).
ويَستمِرُّ وقت الذَّبح، نهارًا وليلًا، إلى آخِرِ ثاني أيَّام التَّشريقِ.
فإن فاتَ الوقتُ، قضَى الواجِبَ،
قبلَ صلاةِ العيدِ
(ويستمرُّ وقتُ الذبحِ نهارًا وليلًا، إلى آخرِ ثاني أيَّامِ التشريقِ) فتكونُ أيَّامُ النحرِ ثلاثةً، يومٌ العيد
(1)
، ويومانِ بعدَهُ. قال أحمدُ: أيَّامُ النحرِ ثلاثةٌ، عن غيرِ واحدٍ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وفي روايةٍ قال: عن
(2)
خمسةٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم
(3)
نهى عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحي فوقَ ثلاثٍ
(4)
. ويستحيلُ أنْ يُباحَ ذبحُها في وقتٍ يحرُمُ أكلُها فيه، ونسخُ أحدِ الحكمينِ، وهو الادِّخارُ، لا يلزمُ رفعَ الآخرِ؛ وهو إجزاءُ الذبحِ فيما زادَ على الثلاثةِ أيَّامٍ.
وفي "الإيضاح": إلى آخرِ أيَّامِ التشريقِ
(5)
. والأوَّلُ المذهبُ.
قولُه: "ليلًا" أي: يُجزئْ مع الكراهةِ.
والأُضحيةُ في أوَّلِ أيَّامِ الذبحِ أفضلُ، وهو يومُ العيدِ، فما يَليه، أي: يومَ العيدِ، أفضلُ. قال في "الإنصاف"
(6)
: قلتُ: والأفضلُ: اليومُ الأوَّلُ عَقِيبَ الصَّلاةِ والخطبةِ وذبحِ الإمامِ
(فإنْ فاتَ الوقتُ) للذبحِ (قضَى الواجبَ) وفعلَ به كالأداءِ المذبوحِ في وقتِهِ،
(1)
في الأصل: "يوم يوم".
(2)
سقطت: "عن" من الأصل.
(3)
سقطت: "لأنَّه صلى الله عليه وسلم " من الأصل.
(4)
أخرجه البخاري (5574)، ومسلم (1970) عن ابن عمر مرفوعًا، ولفظه عند مسلم:"لا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام".
(5)
"كشاف القناع"(6/ 402).
(6)
"الإنصاف"(9/ 368).
وسَقَطَ التَّطوُّعُ.
وسُنَّ له الأكلُ مِنْ هَديهِ التَّطوُّعِ، ومِنْ أُضحِيَتِه ولو واجِبَةً.
فلا يسقطُ الذبحُ بفواتِ وقْتِهِ، كما لو ذبحَهَا في وقتِها ولمْ يفرِّقُها حتى خرجَ (وسقَطَ التطوُّعُ) بخروجِ وقتِه؛ لأنَّه سُنَّةٌ فاتَ محلُّها، فلو ذبحَهُ وتصدَّقَ به، كان لحمًا تصدَّق به لا أضحيةً.
(وسُنَّ له الأكلُ) والتفرقةُ (من هدْيِهِ التطوُّعِ) لقولِهِ تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البَقَرَة: 58]. وأقلُّ أحوالِ الأمرِ الاستحبابُ. وقال جابرٌ: كنَّا لا نأكُلُ من بُدْنِنَا فوقَ ثلاثٍ، فرخَّصَ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"كلُّوا وتَزَوَّدُوا". فأكلْنَا وتَزَوَّدْنا. رواه البخاريُّ
(1)
.
والمُستحبُّ أكلُ اليسيرِ، لحديث جابرٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ من كلِّ بَدَنةٍ ببِضْعَةٍ، فجُعِلَتْ في قِدْرٍ، فأكلْنَا منها، وحَسَيْنا من مَرَقِها
(2)
. ولأنَّه نُسُكٌ فاستُحِبَّ الأكلُ منه.
(و) سُنَّ له الأكلُ (من أُضحيتِهِ ولو واجبةً) قال في "الإنصاف"
(3)
: ويُستحبُّ أنْ يتصدَّقَ بأفضلِها، ويهديَ الوسَطَ، ويأكلَ الأدْوَنَ. قالَهُ في "المستوعب"، و"التلخيص"، وغيرِهما. وظاهرُ كلامِ أكثرِ الأصحابِ: الإطلاقُ. وكان من شعارِ السلفِ تناولُ لقمةٍ من الأُضحيةِ من كبدِها أو غيرِها، تبرُّكًا. قالَهُ في "التلخيص" وغيرِه.
(1)
أخرجه البخاري (1719).
(2)
أخرجه ابن ماجه (3158)، وصححه الألباني. ومعناه عند مسلم (1218).
(3)
"الإنصاف"(9/ 425).
ويَجُوزُ مِنَ المُتعَةِ والقِرَانِ.
ويَجِبُ أن يتصدَّقَ بأقلِّ ما يَقَعُ عليه اسمُ اللَّحمِ. ويُعتَبرُ تَمليكُ الفَقيرِ، فلا يَكفِي إطعامُهُ.
والسُّنةُ أن يأكلَ من أُضحِيتهِ ثُلُثَها، ويُهدِيَ ثُلُثَها، ويتصدَّقَ بثُلُثِها.
"فائدةٌ": قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: الأُضحيةُ من النفقةِ بالمعروفِ، فتُضحِّي المرأةُ من مالِ زوجِها عن أهلِ البيتِ بلا إذنِهِ، ومدينٌ لمْ يطالبْهُ ربُّ الدينِ
(1)
.
(ويجوزُ) أنْ يأكلَ (من) دمِ (المتعةِ والقِرانِ) نصًّا؛ لأنَّ سبَبَهُما غيرُ محظورٍ، فأشبَها هديَ التطوُّعِ، ولأنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تمتعْنَ معه في حَجَّةِ الوداعِ. وأدخلتْ عائشةُ الحجَّ على العمرةِ، فصارتْ قارِنةً، ثمَّ ذبحَ عنهنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم البقرَ، فأكلْنَ من لحومِها
(2)
. احتجَّ به أحمدُ.
(ويجبُ أنْ يتصدَّقَ بأقلَّ ما يقعُ عليه اسمُ اللَّحم) ولو مقدارَ أُوقيةٍ. (ويُعتبرُ تمليكُ الفقيرِ) لشيءٍ من اللَّحمِ نيئًا
(3)
(فلا يكفي إطعامُهُ) كالواجبِ في الكفَّارةِ
(والسُنَّةُ أنْ يأكلَ من أُضحيتِهِ ثُلُثَها، ويُهديَ ثُلُثَها، ويتصدَّقَ بثُلُثِها) أي: يأكلُ هو وأهلُ بيتِه الثلثَ، ويُهدي الثلثَ، ويتصدَّقُ بالثلثِ. حتى من أضحيةٍ واجبةٍ، وحتى الإهداء لكافرٍ من أضحيةِ تطوُّعٍ. قال أحمدُ: نحنُ نذهبُ إلى حديثِ عبدِ اللهِ: يأكلُ الثلثَ، ويُطعِمُ مَنْ أرادَ الثلثَ، ويتصدَّقُ بالثلثِ على المساكينِ. قال علْقمةُ: بعثَ معي عبدُ اللهِ بهدْيِهِ، فأمرَني أنْ آكلَ ثُلُثًا، وأنْ أرسِلَ إلى أهلِ أخيهِ
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 445)، "إرشاد أولي النهى"(1/ 573).
(2)
أخرجه البخاري (1561، 1709، 5548)، ومسلم (1211) من حديث عائشة.
(3)
في الأصل: "من".
ويحرم بيع شيءٍ مِنها،
بثُلُثٍ، وأنْ أتصدَّقَ بثلثٍ. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ؛ ولقولِه تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحَجّ: 36].
والقانعُ: السَّائلُ، من قَنَعَ يقْنَعُ -بفتحِ النون فيهما- إذا سألَ. وأمَّا قَنِعَ بمعنى رضيَ بالقليلِ، فبكسر
(1)
النونِ في الماضي، وفتحِها في المضارعِ. قال الشاعرُ:
والعَبْدُ حرٌّ إنْ قَنِعْ
…
الحُرُّ عَبْدٌ إنْ طَمِعْ
(2)
فاقْنَعْ ولا تَطْمَع
(3)
فما
…
شيءٌ يَشِينُ سِوَى الطَّمَعْ
والمُعْتَرُّ: الذي يَعتيرك، أي: يتعرَّضُ لكَ لتُطْعِمَهُ، ولا يَسألُ.
فذكرَ ثلاثةً، فينبغي أنْ تُقسَمَ بينهم أثلاثًا، ولا يجبُ الأكلُ منها؛ لأنَّه عليه السلام نحرَ خمسَ بَدَناتٍ، وقال:"مَنْ شاءَ فليقتطِعْ"
(4)
. ولمْ يأكلْ منهنَّ شيئًا.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يجوزُ الهديَّةُ من واجبةٍ لكافرٍ، كزكاةٍ، وكفَّارةٍ، بخلافِ التطوُّعِ؛ لأنَّه صدقةٌ
(ويحرُمُ بيعُ شيءٍ منها) أي: الذبيحةِ، هدْيًا أو أُضحيةً، ولو تطوُّعًا (حتى من شعرِها وجلدِها) ولا فرقَ في ذلك بين كونِ الأُضحيةِ واجبةً أو تطوُّعًا؛ لأنَّها تعينتْ بالذبحِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ قتادةَ بنِ النعمانِ:"ولا تبيعوا لحومَ الأضاحي والهدي، وتصدَّقوا واستمتعوا بجلودِها"
(5)
.
(1)
في الأصل: "فبسكر".
(2)
في الأصل: "إن قنع". وكتب على هامشه: لعله: "إن طمع". وهو الصواب.
(3)
في الأصل: "ولا تقنع". وكتب على هامشه: "ولا تطمع". وهو الصواب.
(4)
أخرجه أبو داود (1765) من حديث عبد الله بن قرط. وصححه الألباني.
(5)
أخرجه أحمد 26/ 147، 148 (1620، 16211) من حديث أبي سعيد الخدري، وقتادة بن النعمان.
حتَّى مِن شَعرِهَا وجِلدِهَا. ولا يُعطِي الجازِرَ بأُجرَتِه منها شيئًا، وله إعطاؤُه صدقَةً وهديَّةً.
وإذا دخلَ العشرُ حرُمَ على مَنْ يُضَحِّي أو يُضحَّى
قال أحمدُ: سبحانَ اللهِ، كيفَ يبيعُها وقدْ جعلَها للهِ تبارك وتعالى أضحيةً.
قال الميمونيُّ: قالوا لأبي عبدِ اللهِ: فجِلْدُ الأُضحيةِ نُعطيهِ السلَّاخَ؟ قال: لا. وحكَى قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا تعطِ في جزارتِها شيئًا منها"
(1)
. قال: إسنادٌ جيدٌ. وهذا المذهبُ. وعنه: يجوزُ بيعُ الجِلْدِ ويتصدَّقُ بثمنِه. وعنه: ويشتري به آلةَ البيتِ، كالغربالِ ونحوِه. لا مأكولًا
(2)
(ولا يُعطي الجزَّارَ بأُجرَتِه منها شيئًا) ولو من تطوُّعٍ؛ لأنَّها تعيَّنتْ بالذبحِ؛ لما رُوِيَ عن عليٍّ قال: أمرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أقومَ على بَدَنهِ، وأنْ أقسِمَ جلودَها وجلالَها، وأنْ لا أُعطيَ الجزَّارَ منها شيئًا، وقال:"نحنُ نُعطيهِ من عندِنا". متفقٌ عليه
(3)
. ولأنَّ ما يدفعُه إلى الجزَّارِ عن أجرَتِه، عوضٌ عن عملِهِ وجزارتِه، ولا تجوزُ المعاوضةُ بشيءٍ منها
(وله) أي: المُضحي والمُهدي (إعطاؤُه) أي: الجازرِ (صدقةً وهديةً) لأنَّه في ذلك كغيرِه؛ بل هو أوْلى؛ لأنَّه باشرَها وتاقتْ إليها نفسُه
(وإذا دخلَ العشْرُ) أي: عشرُ ذي الحجَّةِ (حرُمَ على مَنْ يُضحِّي، أو يُضحَّى
(1)
أخرجه البخاري (1716)، ومسلم (1317) من حديث علي.
(2)
انظر "المبدع"(3/ 289).
(3)
أخرجه البخاري (1716)، ومسلم (1317) من حديث علي.
عنه، أخذ شَيءٍ من شَعرِه، أو ظُفُرِه إلى الذَّبحِ. ويُسَنُّ الحَلقُ بعدَه.
عنه، أخذُ شيءٍ من شَعَرِه، أو ظُفْرِه) أو بشَرَتِه (إلى الذَّبحِ) أي: ذبحِ الأُضحيةِ؛ لحديثِ أمِّ سلمةَ مرفوعًا: "إذا دخلَ العشْرْ وأرادَ أحدُكم أنْ يضحِّيَ، فلا يأخذْ من شَعَرِه ولا من أظْفَارِه شيئًا حتى يُضحِّيَ". رواه مسلمٌ
(1)
. وفي روايةٍ: "ولا من بَشَرِه".
وأمَّا حديثُ عائشةَ: كنتُ أفْتِلُ قلائِدَ هَدْيِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يُقلِّدُها بيدِه، ثمَّ يبعثُ بها، ولا يحرمُ عليه شيءٌ أحلَّه الله له، حتى ينحَرَ الهديَ. متفقٌ عليه
(2)
. فهو في الهدي لا في الأُضحيةِ، على أنَّه عامٌّ، وما قبلَه خاصٌّ. ويمكنُ حملُه على نحوِ اللِّباسِ، والطِّيبِ، والجماعِ، فإنْ فعلَ شيئًا من ذلك، استغفرَ اللهَ منه، ولا فديةَ به، عمدًا، أو سهوًا، أو جهلًا.
قال المنقِّحُ: ولو ضحَّى بواحدةٍ لمَنْ يضحِّى بأكثرَ منها، فيحلُّ له ذلك؛ لعمومِ:"حتى يضحِّي"
(3)
.
وحكمةُ عدمِ الأخذِ من الشَعَرِ والظُفرِ أو البدنِ لمَنْ يُضحِّي، كما قال المناويُّ
(4)
: لتشملَ المغفرةُ والعتقُ من النَّارِ جميعَ أجزائِه؛ فإنَّه يُغفرُ له بأوَّلِ قطرةٍ من دمِها. وتوجيهُهُ بالمحرمينَ فاسدٌ؛ لعدمِ كراهةِ مسِّهِ الطِّيبَ والمخيطَ. انتهى كلامُهُ.
(ويُسنُّ الحَلْقُ بعدَهُ) أي: الذبحِ. قالَهُ أحمدُ على ما فعلَ ابنُ عمرَ؛ تعظيمًا لذلك اليومِ.
(1)
أخرجه مسلم (1977).
(2)
أخرجه البخاري (1700)، ومسلم (1321).
(3)
"دقائق أولي النهى"(2/ 624).
(4)
"فيض القدير"(1/ 339).
فَصْلٌ في العَقِيقَةِ
وهيَ سُنَّةٌ في حَقِّ الأبِ، ولو مُعسِرًا.
(فصلٌ في العقيقةِ)
أي: الذبيحةِ التي
(1)
تُذْبَحُ عن المولودِ. وقيل: هي الطعامُ الذي يُصنعُ ويُدعى إليه من أجلِ المولودِ. قال أبو عبيدٍ: الأصلُ في العقيقةِ: الشعرُ الذي على المولودِ، وجمعُها: عقائقُ، تمَّ إنَّ العربَ سمَّتِ الذبيحةَ عندَ حَلْقِ شعرِ المولودِ: عقيقةً، على عادَتهم في تسميةِ الشيءِ باسمِ سببهِ، أو ما يجاورُه، ثمَّ اشتُهِر ذلك حتى صارَ من الأسماءِ العُرْفيَّةِ، بحيثُ لا يُفهمُ من العقيقةِ عندَ الإطلاقِ إلا الذبيحةُ.
قال ابنُ عبدِ البرِ: أنكرَ أحمدُ هذا التفسيرَ، وقال: إنَّما العقيقةُ: الذَّبحُ نفسُهُ. ووجهُهُ: أنَّ أصلَ العقِّ: القطعُ، ومنه: عَقَّ والدَيه، إذا قَطَعَهما.
والذَّبحُ: قطعُ الحُلْقومِ والمَريءِ والودَجَيْنِ
(2)
.
قال الفهَّامَةُ الشيخُ منصورٌ في "حاشيته"
(3)
: وقيلَ: العقيقةُ: الطعامُ الذي يُصنعُ ويُدعى إليه من أجل المولودِ
(وهي) أي: العقيقةُ (سُنةٌ) مؤكَّدَةٌ في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ (في حقِّ الأبِ، ولو) كان (مُعْسِرًا) ويَقترضُ استحبابًا. وقالَ أصحابُ الرأي: ليستْ سُنَّةً، وهي من أمرِ الجاهليةِ، لما رُويَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن العقيقةِ؟ فقال: "إنَّ اللهَ لا يُحبُّ
(1)
في الأصل: "الذي".
(2)
"الشرح الكبير"(9/ 433).
(3)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 573).
فَعَنِ الغُلامِ: شاتَانِ، وعَنِ الجَاريَةِ: شَاةٌ.
العُقوق"
(1)
. فكأنَّه كَرِهَ الاسمَ. وقال: "مَنْ وُلِدَ له مولودٌ، فأحبَّ أنْ يَنسُكَ عنه، فليفعلْ". رواه مالكٌ في "الموطأ"
(2)
.
وعنه: أنَّها واجبةٌ، اختارَهُ أبو بكرٍ، وأبو إسحاقَ البَرْمَكيُّ، وأبو الوفاءِ
(3)
، والأوَّلُ المذهبُ.
قال أحمدُ: العقيقةُ سُنةٌ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قدْ عقَّ عن الحسنِ والحسينِ
(4)
. وفعلَهُ أصحابُه. وقال النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بعقيقتِهِ"
(5)
. وهو إسنادٌ جيدٌ، يرويهِ أبو هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ومَنْ جعلَها من أمرِ الجاهليةِ، فلأنَّه لمْ يبلُغْه ما وردَ فيها من الأحاديثِ
(6)
.
(فـ) تُسنُّ (عن الغلامِ: شاتانِ) متقارِبتانِ سَنًّا وشبَهًا، فإنْ عَدِمَ فواحدةٌ (وعن الجاريةِ: شاةٌ) لحديثِ أمِّ كُرْزٍ الكعْبيَّةِ، قالتْ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "عن الغلامِ شاتانِ متكافئتانِ، وعن الجاريةِ شاةٌ"
(7)
.
(1)
أخرجه أحمد (6713) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1849).
(2)
أخرجه مالك (2/ 500) من حديث زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه، وأخرجه أبو داود (2842) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7630).
(3)
انظر "الإنصاف"(9/ 434).
(4)
أخرجه النَّسَائِيّ (4213) من حديث بريدة. وصححه الألباني.
(5)
لم أقف عليه عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (33/ 271)(20083)، وأبو داود (2838)، والنسائي (4231) من حديث سمرة. وصححه الألبانى في "الإرواء"(1165).
(6)
انظر "الشرح الكبير"(9/ 435)، "كشاف القناع"(6/ 438).
(7)
أخرجه أبو داود (2834). وصححه الألباني.
ولا تُجزِئُ بَدَنةٌ وبَقرةٌ، إلَّا كامِلَةً.
والسُّنةُ ذبحُها في سَابِعِ يَومِ ولادَتِه، فإنْ فاتَ، ففَي أربعةَ عشَرَ، فإنْ فاتَ، ففي أحدٍ وعِشرينَ، ولا تُعتبَر الأسابيعُ بعدَ ذلِكَ.
وكُرِهَ لطخُه مِن دَمِهَا.
ويُسنُّ الأذانُ في أُذُنِ المولُودِ اليُمنى حينَ يُولَدُ، والإقَامَةُ في اليُسرَى.
(ولا تُجزئُ بَدَنةٌ وبقرةٌ) تُذبَحُ عقيقةً (إلا كاملةً) نصًّا. قال في "النهاية": وأفضلُهُ: شاةٌ
(والسُنَّةُ ذبحُها في سابعِ يومِ ولادتِه) قال في "الإنصاف"
(1)
: ذبْحُها يومَ السابعِ أفضلُ، ويجوزُ ذبحُها قبلَ ذلكَ، ولا يجوزُ قبلَ الولادةِ (فإنْ فاتَ) أي: الذبحُ في السابعِ، (ففي أربعةَ عشَرَ) يُسنُّ، (فإنْ فاتَ) أي: الذبحُ في أربعةَ عشَرَ (ففي أحدٍ وعشرينَ) من ولادتِه يُسنُّ؛ روي عن عائشةَ
(ولا تُعتبرُ الأسابيعُ بعدَ ذلك) فيعقُّ أيَّ يومٍ أرادَ، كقضاءِ أُضحيةٍ وغيرِها.
فإنْ لمْ يعقَّ الأبُ، فبلغَ المولودُ، لمْ يُسنَّ له أنْ يَعقَّ عن نفسِه، نصَّ عليه؛ لأنَّ العقيقةَ مشروعةٌ في حقِّ الوالدِ، فلا يفعلُها غيره، كالأجنبيِّ.
(وكُرِهَ لطخُهُ) أي: المولودِ (من دمِها) أي: العقيقةِ؛ لأنَّه أذًى وتنجيس
(2)
.
(ويُسَنُّ الأَذانُ في أُذُنِ المولودِ اليُمنَى حينَ يُولدُ، والإقامةُ في اليُسرى) فإنَّ فِعلَ ذلك يَمنَعُ أمَّ الصِّبيانِ.
(1)
"الإنصاف"(9/ 437).
(2)
في الأصل: "ويتنجسْ".
ويسنُّ أنْ يُحلَقَ رأسُ الغُلامِ في اليومِ السَّابِعِ، ويُتَصَدَّقَ بوزنِهِ فِضَّةً، ويُسمَّى فيه.
وأَحبُّ الأسماءِ: عبدُ الله، وعبدُ الرحمن.
(ويُسنُّ أنْ يُحْلَقَ رأسُ الغلامِ) أي: المولودِ (في اليومِ السابعِ) من ولادتِهِ (ويُتصدَّقَ بوزنِهِ فِضَّةً) لحديثِ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ مرفوعًا: "كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعقيقتِهِ، تُذبَحُ عنه يومَ سابعِهِ، ويُسمَّى، ويُحلَقُ رأسُه". رواه الأثرمُ وأبو داودَ
(1)
. وعن أبي هريرةَ مثلُه. قال أحمدُ: إسنادٌ جيدٌ. وقال عليه السلام لفاطمةَ لما ولدَتِ الحسنَ: احلِقي رأسَه، وتَصدَّقِي بوزنِ شَعَرِه فِضَّةً على المساكينِ والأوفاضِ
(2)
- يعني: أهلَ الصُّفَّةِ. رواه أحمدُ
(3)
.
(ويُسمَّى فيه) أي: يومَ السابعِ مولودٌ؛ للخبرِ. وفي "الرعاية": يُسمَّى يومَ الولادةِ، ويُحسِنُ اسمَهُ؛ لحديثِ:"إنَّكم تُدْعَوْنَ يومَ القيامةِ بأسمائِكم، وأسماءِ آبائِكم، فأحْسِنُوا أسماءَكم". رواه أبو داودَ
(4)
. والتسميةُ حقُّ للأبِ
(5)
.
(وأحبُّ الأسماءِ: عبدُ اللهِ، وعبدُ الرحمنِ) لخبرٍ رواهُ مسلمٌ
(6)
. ويُسنُّ
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
في الأصل: "الأوقاص". والأوفاض: الفقراء الضعفاء الذين لا دفاع بهم، واحدهم: وافض. والمقصود هنا أهل الصفة كما في الرواية. وانظر "النهاية في غريب الحديث"(5/ 210).
(3)
أخرجه أحمد (45/ 163)(27183) من حديث أبي رافع.
(4)
أخرجه أبو داود (4948) من حديث أي الدرداء. وضعفه الألباني.
(5)
"دقائق أولي النهى"(2/ 626).
(6)
ولفظه: "إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" أخرجه مسلم (2132) من حديث ابن عمر.
وتحرُمُ التَّسمِيةُ بعبدِ غَيرِ الله، كعَبدِ النَّبيِّ، وعَبدِ المَسيحِ. وتُكره بحَربٍ، ويسارٍ، ومُبارَكٍ، ومُفِلحٍ، وخَيْرٍ، وسُرُورٍ. لا بأَسمَاءِ الملائَكةِ والأنبيَاءِ.
وإن اتَّفَقَ وقتُ عَقِيقَةٍ وأُضحِيَةٍ، أجزأَتْ إحداهُما عنِ الأُخرى.
تغييرُ
(1)
اسمٍ قبيحٍ
(وتحرُمُ التَّسميةُ بعبدِ غيرِ اللهِ؛ كعبدِ النبيِّ، وعبدِ المسيحِ) وعبدِ شمسٍ، وعبدِ الكعبةِ
(وتُكَرَهُ) التسميةُ (بحربٍ، ويسارٍ، ومباركٍ، ومُفلحِ، وخيرٍ، وسُرورٍ) ورَباحٍ، ونجيحٍ، ونافعٍ، وأفلحَ، وبركَةَ، ومُقبلٍ، ورافعٍ. قال القاضي: وكلُّ اسمٍ فيه تفخيمٌ أو تعظيمٌ
(2)
. ويُستحبُّ أنْ يُغيَّرَ الاسمُ القبيحِ.
(لا) يُكرَهُ (بأسماءِ الملائكةِ والأنبياءِ) وعن مالكٍ: سمعتُ أهلَ مكَّةَ يقولون: ما من أهلِ بيتٍ فيهم اسمُ محمدٍ إلا رُزِقوا، ورُزِقَ خيرًا
(3)
.
قالَ في "الإقناع"
(4)
: ولا يُكرَهُ التكنِّي بأبي القاسمِ بعدَ موتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(وإنْ اتفقَ وقتُ عقيقةٍ وأُضحيةٍ) بأنْ يكونَ السابعَ، أو نحوَه من أيَّامِ النحرِ، فحقَّ أو ضحَّى (أجزأتْ إحداهُما عن الأُخرى) كما لو اتفقَ يومُ عيدٍ وجمعةٍ فاغتسلَ لأحدِهما. وكذا ذبحُ مُتمتِّعٍ أو قارنٍ شاةً يومَ النحرِ، فتُجزئُ عن الهديِ الواجبِ، وعن الأُضحيةِ.
(1)
في الأصل: "تغير".
(2)
انظر "الفروع"(6/ 105)، "الإقناع"(2/ 55).
(3)
"دقائق أولي النهى"(2/ 627).
(4)
"الإقناع"(2/ 57).
كتابُ الجِهادِ
وهُوَ فرضُ كِفَايَةٍ. ويُسنُّ معَ قِيامِ مَنْ يَكِفي به.
ولا يَجِبُ إلا على ذَكَرٍ،
(كتابُ الجهادِ)
مصدرُ جاهدَ جهادًا، أو مُجاهدةً، من جَهِدَ، أي: بالغَ في قتلِ عدُوِّه.
فهو لغةً: بذلُ الطَّاقةِ والوُسْعِ. وشرْعًا: قتالُ الكفارِ
(وهو فرضُ كفايةٍ) لقولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البَقَرَة: 216]، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 190]. فإذا قامَ به مَنْ يكفي، سقَطَ عن الباقين، وإلا أثِموا كلُّهم.
(ويُسنُّ) الجهادُ (مع قيامِ مَنْ يكفي به) للآياتِ والأخبارِ. ومعنى الكفايةِ هنا: نهوضُ قومٍ يكْفونَ في قتالِهم، جندًا كانوا لهم دواوينَ، أو أَعدُّوا أنفسَهم له تَبَرُّعًا، بحيثُ إذا قصدَهم العدوُّ، حصلتِ المنَعَةُ
(1)
بهم، ويكونُ بالثغورِ مَنْ يدْفعُ العدوَّ عن أهلِها. ويبعثُ الإمامُ في كلِّ
(2)
سنةٍ جيشًا، يُغيرونَ على العدوِّ في بلادِهم.
(ولا يجبُ) جهاد (إلَّا على ذَكرٍ) لحديثِ عائشةَ: هلْ على النِّساءِ جهادٌ؟ فقال: "عليهنَّ جهادٌ لا قتالَ فيه: الحجّ والعُمرةُ"
(3)
. ولضَعفِ المرأةِ وخَوَرِها، فليستْ من أهلِ القتالِ. ولا يجبُ على خُنثى مُشْكِلٍ؛ للشكِّ في شزطِه
(1)
في الأصل: "المنفعة".
(2)
سقطت: "كل" من الأصل.
(3)
أخرجه أحمد (42/ 198)(25322)، وصححه الألباني في "الإرواء"(981).
حُرِّ، مُسلِمٍ، مُكلَّفٍ، صَحِيحٍ، واجدٍ مِنْ المَالِ ما يكفيهِ، ويَكِفي أهلَهُ في غَيبَتِهِ، ويَجِدُ معَ مسافَةِ قَصرٍ ما يحمِلُهُ.
(حُرٍّ) فلا يجبُ على عبدٍ، لما رُويَ أنَّه عليه السلام كان يبايعُ الحرَّ على الإسلامِ والجهادِ، ويبايعُ العبدَ على الإسلامِ دونَ الجهادِ
(1)
.
(مسلمِ) كسائرِ فروعِ الإسلامِ.
(مكلَّفٍ) فلا يجبُ على صغيرٍ ولا مجنونٍ؛ لحديثِ: "رُفِعَ القلمُ عن ثلاثٍ"
(2)
.
(صحيحٍ) أي: سليمٍ من العَمَى والعَرَجِ والمرضِ؛ لقولِه تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النُّور: 61] وكذلك لا يلزمُ أشلَّ، ولا أقطعَ يدٍ أو رِجلٍ، ومَنْ أكثرُ أصابِعه ذاهبةٌ، أو إبهامُهُ، أو ما يذهبُ بذهابِه نفعُ اليدِ أو الرِّجلِ.
(واجدٍ من المالِ ما يكفيه، ويكفي أهلَه في غيبتِهِ)؛ لقولِه تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التّوبَة: 91] الآية.
(و) أن (يجد مع مسافةِ قصرٍ) فأكثرَ من بلدِه (ما يحمِلُهُ) لقولِهِ تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التّوبَة: 92]. الآية. ويعتبر أن يفضلَ ذلك عن قضاءِ دينِه وحوائجِه، كحجٍّ.
(1)
لم أقف عليه بهذا السياق. وأخرج معناه مسلم (1602) من حديث جابر، ولفظه: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد حتى يسأله:"أعبد هو؟ ".
(2)
أخرجه أحمدُ (2/ 266)(956)، والترمذيُّ (1423)، وأبو داودَ (4405) من حديث علي. وصححه الألباني.
ويُسنُّ تَشييعُ الغازِي، لا تَلقِّيهِ.
واَفضلُ مُتطَوَّعٍ بِهِ الجِهادُ
(ويسَنُّ تشييعُ الغازي، لا تَلَقِّيه) نصًّا؛ لأنَّ عليًّا شيَّعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوك، ولم يتلَقَّه
(1)
. ورُويَ عن الصِّديق أنَّه شيَّعَ يزيدَ بنَ أي سفيانَ حينَ بعثَه إلى الشامِ. الخبر، وفيه: إنِّي أحتسبُ خُطايَ هذه في سبيلِ اللهِ
(2)
.
قال في "الفروع": ويتوجَّه مثلُه: حجٌّ. وفي "الفنون": تحسُنُ التهنئةُ بالقدومِ للمسافرِ، كالمَرْضَى
(3)
(وأفضلُ متطوَّعِ به الجهادُ) قال أحمدُ: لا أعلمُ شيئًا من العملِ بعدَ الفرائضِ أفضلُ من الجهادِ. لحديثِ أبي سعيدٍ، قالَ: قيل
(4)
: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال: "مؤمِنٌ
(5)
يجاهدُ في سبيلِ اللهِ بنفسِه ومالِه" متفقٌ عليه
(6)
.
وقيلَ: الصَّلاةُ أفضلُ من الجهادِ. وهو ظاهرُ كلامِ الموفَّقِ في بابِ صلاةِ التطوُّعِ. وقدَّمَه في "الرعاية الكبرى". وقال الشيخُ تقيُّ الدينِ: استيعابُ عشرِ ذي الحجَّةِ بالعبادةِ ليلًا ونهارًا، أفضلُ من الجهادِ الذي لمْ تذهبْ فيه نفسُهُ ومالُهُ. وعنه: العلمُ تعلُّمُه وتعليمُه أفضلُ من الجهادِ وغيرِه
(7)
.
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(5/ 123)، وأحمد (3/ 66)(1463) من حديث عائشة بنت سعد عن أبيها. وصححه الألباني في "الإرواء"(1188).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 447).
(3)
"دقائق أولي النهى"(3/ 7).
(4)
سقطت: "قيل" من الأصل.
(5)
في الأصل: "من".
(6)
أخرجه البخاري (2786)، ومسلم (1888).
(7)
"الإنصاف"(10/ 16).
وغزُو البَحْرِ أَفضلُ - وتُكَفِّرُ الشَّهادةُ جَميعَ الذُّنوبِ سِوَى الدَّين.
(وغزوُ البحرِ أفضلُ) من غزوِ البرِّ؛ لحديثِ ابنِ ماجه
(1)
مرفوعًا: "شهيدُ البحرِ مثلُ شهيدَي
(2)
البرِّ، والمائِدُ
(3)
في البَحرِ كالمتشحِّطِ في دَمِه في البرِّ
(4)
، وما بينَ الموجتَيْنِ كقاطعِ الدنيا في طاعةِ اللهِ. وإنَّ اللهَ قدْ وكَّلَ ملكَ الموتِ بقبض الأرواح إلا شهيدَ البحرِ، فإنَّه يتولَّى قبضَ أرواحِهم، ويَغفرُ لشهيدِ البرِّ الذنوبَ كلَّها إلَّا الدَّينَ، ويَغفرُ لشهيدِ البحرِ الذنوبَ والدَّينَ". ولأنَّ البحرَ أعظمُ خطرًا ومشقَّةً
(وتكفِّرُ الشهادةُ جميعَ الذنوبِ سِوَى الدَّيْنِ) أي: غيرَ الدَّينِ. قال الآجريُّ: هذا فيمَنْ تهاونَ بقضائِه، أمَّا مَنْ استدان دينًا وأنفقَه في غيرِ سرَفٍ ولا تبذيرٍ، ثمَّ لمْ يمكنْهُ قضاؤُه، فإنَّ اللهَ يقضيه عنه، ماتَ أو قُتِلَ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدينِ: وغيرَ مظالمِ العبادِ، كقتلٍ وظلمٍ، وزكاةٍ وحجِّ أخَّرَهُما.
وقال: من اعتقدَ أنَّ الحجَّ يُسقِطُ ما وجبَ عليه من الصَّلاةِ والزكاةِ، فإنَّه يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلا قُتِلَ. ولا يسقُطُ حقُّ الآدميِّ من دمٍ أو مالٍ أو عرضٍ بالحجِّ. إجماعًا
(5)
.
وتكفِّرُ طهارةٌ، وصلاةٌ، ورمضانُ، وعرفةُ، وعاشوراءُ، الصَّغائرَ فقطْ. ونقلَ المرُّوذيُّ: برُّ الوالدينَ كفَّارةٌ للكبائرِ. وفي "الصحيحين"
(6)
أو "الصحيح":
(1)
أخرجه ابن ماجه (2778) من حديث أبي أمامة. قال الألباني: ضعيف جدًا.
(2)
في الأصل: "شهيد".
(3)
المائد: هو الذي يُدَارُ بِرأسِهِ من رِيحِ البَحْرِ واضْطِرَابِ السَّفِينَةِ بالأمْواج. "النهاية" (4/ 828.
(4)
سقطت: "والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر" من الأصل.
(5)
"الفروع"(10/ 233).
(6)
أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة.
ولا يَتطَوَّعُ بهِ مَديِنٌ لا وفاءَ له، إلَّا بإذنِ غَريمِهِ، ولا مَنْ أحدُ أبوَيهِ حُرٌّ مُسلِمٌ إلَّا بإذنِهِ.
"العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارةٌ لما بينهما". قالَ ابنُ هبيرةَ: فيه إشارة إلى أنَّ كبارَ
(1)
الطاعاتِ يُكفِّرُ اللهُ ما بينهما؛ لأنَّه لمْ يقلْ: كفَّارةٌ لصغارِ ذنويه، بلْ إطلاقُه يتناولُ الصَّغائرَ والكبائرَ
(2)
.
وعلى تقديرِ أنَّ ما تقذمَ يُكفِّرُ الذنوبَ الصغائرَ والكبائرَ، فالمرادُ: غيرُ الدَّيْنِ ومظالمَ العبادِ.
(ولا يتطوَّعُ به) أي: بالجهادِ (مَدِينٌ لا وفاءَ له) حالًّا كانَ الدَّيْنُ أو مؤجَّلًا؛ لأنَّ الجهادَ يُقصدُ منه الشهادةُ، فتفوتُ به النفسُ، فيفوتُ الحقُّ. فإنْ كانَ الدَّيْنُ للهِ أو لآدميٍّ، وله وفاءٌ، جازَ له التطوُّعُ به
(إلا بإذنِ غريمِه) أي: ربِّ الدَّيْنِ، فيجوزُ؛ لرضاه. أو معَ رهنٍ يُحرِزُ الدَّيْنَ، يُمكنُ وفاؤُه منه، أو كفيلٍ مَليءٍ بالدَّيْنِ، فيجوزُ إذًا؛ لأنَّه لا ضررَ على ربِّ الدينِ.
فإنْ تعيَّنَ عليه الجهادُ، فلا إذنَ لغريمِه؛ لتعلُّقِ الجهادِ بعينِه، فيقدَّمُ على ما في ذمَّتِهِ، كسائرِ فروضِ الأعمِانِ
(ولا مَنْ أحدُ أبوَيْه حُرٌّ مسلمٌ إلا بإذنِه) لحديثِ ابنِ عمروٍ: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أجاهدُ؟ قال:"لك أبوانِ؟ " قال: نعمْ. قال: "ففيهما فجاهدْ"
(3)
. وعن ابنِ عباسٍ نحوُه
(4)
، قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.
(1)
في الأصل: "كبائر".
(2)
"الفروع"(10/ 233، 234).
(3)
أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549).
(4)
لم أقف عليه عن ابن عباس. وأشار إليه الترمذي بعد الحديث (1671).
ويُسنُّ الرِّباطُ، وهو: لُزومُ الثَّغْرِ للجهادِ، وأقلُّه: ساعةٌ، وتمامُهُ: أربعُونَ يومًا، وهُوَ أفضَلُ مِنَ المُقَامِ بمكَّةَ، وأفضَلُه ما كانَ أشدَّ خَوفًا.
ولا يجوزُ للمُسلمينَ الفِرارُ من مِثلَيهِم، ولو واحِدًا من اثنينِ،
(ويُسنُّ الرِّباطُ) في سبيلِ اللهِ؛ لحديثِ سلمانَ مرفوعًا: "رِباطُ ليلةٍ في سبيلِ اللهِ، خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامِهِ، فإنْ ماتَ، جَرَى عليه عملُه الذي كانَ يعملُ، وأُجرِيَ عليه رزقُه، وأَمِنَ الفُتَّانَ". رواه مسلمٌ
(1)
.
(وهو) لغةً: الحبسُ. وعُرْفًا: (لزومُ الثَّغْرِ للجهادِ) تقويةً لمسلمين (وأقلُّه: ساعةٌ) قال أحمدُ: يومٌ رِباطٌ، وليلةٌ رِباطٌ، وساعةٌ رِباطٌ.
والثَّغْرُ: كلُّ مكانٍ يُخيفُ أهلُه العدوَّ ويُخيفُهم. وسُمِّيَ المُقامُ بالثَّغْرِ: رِباطًا؛ لأنَّ هؤلاءِ يَربطونَ خيولَهم، وهؤلاءِ يربطونَ خيولَهم.
(وتمامُه) أي: الرِّباطِ (أربعونَ يومًا) رواه أبو الشيخِ في كتابِ "الثوابِ" عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "تمامُ الرِّباطِ أربعونَ يومًا"
(2)
.
(وهو) أي: الرِّباطُ (أفضلُ من المُقامِ بمكَّةَ) ذكرَهُ الشيخُ تقيُّ الدينِ إجماعًا. والصَّلاةُ بمكَّةَ أفضلُ من الصَّلاةِ بالثَّغْرِ
(وأفضلُه ما كانَ أشدَّ خَوْفًا) أي: بأشدِّ الثغورِ خَوْفًا؛ لأنَّهم أحوجُ، ومُقامُهُ به أنفعُ. قال أحمدُ: أفضلُ الرِّباطِ أشدُّهم كَلَبًا، بفتحِ اللَّامِ، أي: شَرًّا
(ولا يجوزُ للمسلمين الفرارُ من مِثلَيهم، ولو) كانَ الفارُّ (واحدًا من اثنينِ) كافرينِ. قال ابنُ عباسٍ: مَنْ فرَّ من اثنين، فقدْ فرَّ، ومَنْ فرَّ من ثلاثةٍ، فما فرَّ
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1913).
(2)
أخرجه الطبراني (8/ 133) من حديث أبي أمامة. وضعفه الألبانى في "الإرواء"(1201).
(3)
أخرجه الطبراني (11/ 93).
فإن زادُوا على مِثلَيهِم، جَازَ.
والهِجرَةُ واجبَةٌ على كلِّ مَنْ عَجَزَ عن إظهارِ دينهِ بمَحَلٍّ يغلِبُ فيه حُكمُ الكُفرِ، والبِدَعِ المُضِلَّةِ، فإن قَدَرَ على إظهارِ دينِهِ فمسنُونَةٌ.
(فإنْ زادُوا على مِثلَيهم، جازَ) الفرارُ. والفرارُ مع زيادةِ الكفَّارِ على مِثلَي المسلمين مع ظنِّ تلفٍ أوْلَى من الثباتِ؛ حفظًا للنفوسِ.
(والهجرةُ واجبة) الهجرةُ: الخروجُ من دارِ أهلِ الكفرِ إلى دارِ أهلِ الإسلامِ. ويُقاسُ على ذلك: الخروجُ من دارِ أهلِ البدعِ إلى دارِ أهلِ السنةِ. والأصلُ في ذلك قولُه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النِّساء: 97]. الآيات. وعنه عليه السلام: "أنا بريءٌ من مسلمٍ بين مشركينَ. لا تَراءَى ناراهُما". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
. أي: لا يكونُ بموضعٍ يَرى نارَهم، ويَرَوْن نارَه إذا أُوقِدَتْ
(2)
. ولا تجبُ الهجرةُ من بينِ أهلِ المعاصي.
(على كلِّ مَنْ عَجَزَ عن إظهارِ دينِه بمَحَلٍّ يغلبُ فيه حُكْمُ الكفرِ، و) حُكْمُ (البدعِ المُضِلَّةِ) كاعتزالٍ، وتشيُّعٍ
(فإنْ قَدرَ على إظهارِ دينهِ) بنحوِ دارِ كفرٍ، ليتخلَّصَ من تكثيرِ الكفَّارِ، ويتمكَّنَ من جهادِهم (فمسنونةٌ) أي: الهجرةُ لقادرٍ.
وعُلِمَ ممَّا تقدَّمَ: بقاءُ حُكمِ الهجرةِ؛ لحديثِ: "لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ
(1)
أخرجه أبو داودَ (2645)، والترمذيُّ (1604) من حديث جرير بن عبد الله. وصححه الألباني.
(2)
"الشرح الكبير"(10/ 36).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التوبةَ، ولا تنقطعَ التوبة حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها". رواه أبو داودَ
(1)
. وأمَّا حديث: "لا هجرةَ بعدَ الفتحِ"
(2)
. أي: من مكَّةَ. ومثلُها كلُّ بلدٍ فُتِحَ؛ لأنَّه لمْ يبقَ بلدَ كفرٍ.
(1)
أخرجه أبو داود (2479) من حديث معاوية. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه البخاري (2783)، ومسلم (1353) من حديث ابن عباس.
فَصْلٌ
والأُسَارَى من الكُفَّارِ على قِسمَينِ:
قِسمٌ يكونُ رقيقًا بمُجَرَّدِ السَّبي، وهم النِّساءُ والصِّبيانُ.
وقِسمٌ لا، وهمُ الرِّجالُ البالِغونَ المُقاتِلُون، والإمامُ فيهم مخيَّر بينَ قتلٍ، ورِقِّ، ومَنٍّ، وفِدَاءٍ بمالٍ، أو بأسيرٍ مُسلِمٍ. ويَجِبُ عليه فِعلُ الأصلَحِ.
(فصلٌ)
(والأُسَارَى من الكفَّارِ على قسمينِ):
(قسمٌ يكونُ رقيقًا بمجرَّدِ السَّبيِ، وهم النساءُ والصِّبيانُ).
(وقسمٌ لا) يكون أسيرًا (وهم الرِّجالُ البالغونَ المقاتِلُونَ، والإمامُ فيهم مخيَّرٌ بين قتلٍ) لعمومِ قولِه تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} . وقتَلَ عليه السلام رِجالَ بني قريظةَ
(1)
، وهم بين الستِّمائِةٍ والسبعمائةٍ
(و) بين (رِقٍّ)؛ لأنَّه يجوزُ إقرارُهم على كفرِهم بالجزيةِ، فبالرقِّ أوْلَى؛ لأنَّه أبلغُ في صَغَارِهم
(و) بين (مَنٍّ) عليهم (و) بين (فداءٍ بمالٍ، أو) فداءٍ (بأسيرٍ مسلمٍ).
(ويجبُ عليه) أي: على الإمامِ (فعلُ الأصلحِ) للمسلمينَ من هذه، فهو تخييرُ مصلحةٍ واجتهادٍ، لا شهوةٍ. فلا يجوزُ عدول عمَّا رآه مصلحةً؛ لأنَّه يتصرفُ للمسلمين على سبيلِ النظرِ إليهم والشفقةِ بهم.
(1)
أخرجه البخاري (4122)، ومسلم (1769) من حديث عائشة.
ولا يَصِحُّ بيعُ مُستَرَقِّ منهم لِكَافِر.
ويُحكَمَ بإسلامِ مَنْ لَم يبلُغ من أولادِ الكُفَّار عِندَ وُجُودِ أحَدِ ثَلاثَة أسبَابٍ:
أحَدُها: أن يُسلِمَ أحدُ أبَوَيهِ خاصَّةً.
الثَّانِي: أن يُعدَمَ أحدُهُمَا بدَارِنَا.
الثَّالِثُ: أن يَسبِيَهُ مُسلِمٌ، منفَرِدًا عن أَحدِ أَبَويهِ. فإن سَباة ذِمِّيٌّ، فعَلَى دينِه، أو سُبِيَ معَ أبويهِ، فعلَى دينِهِما.
(ولا يصحُّ بيعُ مُستَرَقٍّ منهم لكافرٍ) أبي: من سَبيِ المسلمين. وقال الشريفُ أبو جعفرٍ: لا يجوزُ أنْ يَشتريَ الكافرُ العبدَ الذي ملكَه المسلمُ
(ويُحكمُ بإسلامِ مَنْ لمْ يبلغْ من أولادِ الكفَّارِ عندَ وجودِ أحدِ ثلاثةِ أسبابِ):
(أحدُها: أنْ يُسلِمَ أحدُ أبويْهِ خاصَّةً) فهو مسلمٌ
(الثاني: أنْ يُعدَمَ أحدُهُما) أبي: أحدُ أبوَي مَنْ لمْ يبلغْ (بدارِنا) أبي: بدارِ الإسلامِ.
قال في "الإقناع": ويرثُ ممَّنْ جعلناه مسلمًا بموتِهِ حتى ولو تُصُوِّرَ موتُهما معًا لورَثتِهما.
(الثالثُ: أنْ يَسبِيَهُ مسلئم منفردًا عن أحدِ أبوَيْهِ) فهو مسلمٌ
(فإنْ سبَاه ذِمِّيٌّ، فعلى دينِه) قال في "الإنصاف": لو سبَى ذميٌّ حربيًّا تبعَ سابِيَه، حيثُ يتبعُ المسلمَ على الصحيحِ من المذهبِ
(أو سُبِيَ مع أبوَيْهِ، فعلى دينِهما)؛ للخبرِ. وملكُ الثاني له لا يمنعُ تبعيتَهُ لأبويهِ في الدينِ، كما لو ولدتْه أمَتُه الكافرةُ في ملكِه من كافرٍ.
فَصْلٌ
ومَنْ قَتلَ قَتيلًا في حالةِ الحَربِ، فلَة سَلَبُه -وهو: ما عَلَيه مِنْ ثيابٍ، وحُلِيٍّ، وسِلاح- وكذا دابّته التي قاتَلَ عليها، وما عَليهَا.
وأمَّا نفقتُه ورحلُه وخيمتُه وجنيبُه، فغنيمةٌ.
(فصل)
(ومَنْ قَتَلَ قتيلًا في حالةِ الحربِ، فلَهُ سَلَبُه) والسَلَبُ (وهو: ما عَليه
(1)
من ثيابِ، وحليٍّ وسلاحِ، وكذا دابَّتُه التي قاتلَ عليها، وما عليها) لأنَّه تابعٌ لهما، ويُسَتعانُ به في الحربَ، فأشبَهَ السلاحَ.
(وأمَّا نفقتُه، ورحْلُه، وخيمتُه، وجَنِيبُه) أبي: الدابَّةُ التي لمْ يكنْ راكبَها حالَ القتالِ (فـ) ــــــهو (غنيمةٌ) لأنَّه ليسَ من سلَبِه. وإنْ كانَ راكبًا على دابتِه، فصرعَهُ عنها، ثمَّ قتلَهُ بالأرضِ، فهي من السلَبِ.
ويجوزُ سلبُ القتلَى، وتركُهم عُراةً، لقولِه عليه السلام في قتيلِ سلمةَ بنِ الأكْوَعِ:"له سلَبُه أجْمَعُ"
(2)
. وقال: "مَنْ قتلَ قتيلًا فلَهُ سلبُهُ"
(3)
. وهذا يتناولُ جميعَهُ. قال في "الإقناع"
(4)
: ويجوزُ سلبُ القتلى، وتركُهم عراةً غيرَ مستورِي العورةِ
(1)
في الأصل: "ما علم".
(2)
أخرجه مسلم (1754).
(3)
أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751) من حديث أبي قتادة.
(4)
"الإقناع"(2/ 90).
وتُقسَمُ الغَنيمةُ بينَ الغانِمِين، فيُعطَى لهم أربعةُ أخماسِهَا، للرَّاجِل سَهْمٌ، وللفارِسِ على فَرسٍ هَجِينٍ سَهمَان، وعلَى فَرسٍ عَربيٍّ ثَلاثةٌ.
ولا يُسهَمُ لغيرِ الخَيلِ.
(وتُقسَمُ الغنيمةُ بين الغانمين، فيُعطَى لهم أربعةُ أخماسِها) أبي: الغنيمةِ (للرَّاجِلِ) ولو كان كافرًا (سهمٌ)
(وللفارسِ على فرسٍ هَجِينٍ) وهو ما أبوه فقط عربيٌّ، أو على فرسٍ مُقرِفٍ -عكسُ الهَجِينِ- وهو ما أمّه فقط عربيةٌ، أو على فرسٍ برْذَوْنٍ، وهو: ما
(1)
أبواهُ نبَطِيَّان (سهمانِ) سهمٌ له، وسهمٌ لفرسِه؛ لحديثِ مكحولٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطىَ الفرسَ العربيَّ
(2)
سهمين، وأعطَى الهَجِينَ سهمًا. رواه سعيدٌ
(3)
.
(و) للفارسِ (على فرسٍ عربيٍّ) ويُسمَّى: العتيقَ (ثلاثةُ) أسهمٍ، سهمٌ له، وسهمانِ لفرسِه
(ولا يُسهَمُ لغيرِ
(4)
الخيلِ) لأنَّه لمْ يُنقلْ عنه عليه السلام أنَّه أسهمَ لغيرِ الخيلِ، ولأنَّه لا يمكنُ عليها كرٌّ ولا فرٌّ.
(1)
سقطت: "أمُّه فقط عربيةٌ، أو على فرسٍ برْذَوْنٍ، وهو: ما" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهى"(3/ 61).
(2)
سقطت: "العربي" من الأصل.
(3)
لم أقف عليه في المطبوع من "سنن سعيد بن منصور"، ولا التفسير. وقال الألباني بعد ذكره في "الإرواء" (1229): ضعيف. ثم ذكر قول الشافعي: ولم يرو ذلك إلا مكحول مرسلا والمرسل لا تقوم بمثله عندنا حجة. انتهى.
وأخرج عبد الرزاق (5/ 185) عن مكحول قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للفرس العربي سهمين.
(4)
سقطت: "لغير" من الأصل.
ولا يُسهَمُ إلَّا لمن فيه أربعةُ شُروطٍ: البلوغُ، والعَقلُ، والحُريَّة، والذُّكُورةُ.
فإن اختلَّ شرطٌ، رُضِخَ له، ولا يُسهَم.
ويُقسَمُ الخُمسُ الباقِي خمسَةَ أسهُمٍ:
سهمٌ للَّه ولرسوله، يُصرفُ مَصرِفَ الفَيءِ
(ولا يُسهَمُ إلا لمَنْ فيه أربعةُ شروطٍ): الأول: (البلوغُ. و) الثاني: (العقلُ. و) الثالثُ: (الحريةُ. و) الرابعُ: (الذكورةُ).
(فإنِ اختلَّ شرطٌ، رُضِخَ له) من الغنيمةِ دون السهمِ (ولا
(1)
يُسهَمُ) له من الغنيمةِ. فيُرضَخُ له على ما يراه الإمامُ، فيُفضِّلُ العبدَ المقاتلَ، وذا البأسِ، على من ليسَ مثلَه. ويُفضِّلُ المرأةَ المقاتلةَ، والتي تَسقي الماءَ وتُداوِي الجرحَى على من ليستْ مثلَها
(2)
.
(ويقسمُ) الإمامُ (الخمسَ الباقي خمسةَ أسهمٍ) منها:
(سهمٌ للهِ) تعالى (ولرسولِه) صلى الله عليه وسلم (يُصرَفُ مَصرِفَ الفَيءِ) في مصالحِ المسلمين، ولا يختصُّ بالمقاتلةِ. ويبدأُ بالأهمِّ فالأهمِّ؛ من سدِّ ثغرٍ، وتعزيلِ نهرٍ
(3)
، وعملِ قنطرةٍ، ورَزقِ نحو قُضاةٍ. ويُقسَمُ فاضلٌ
(4)
بين أحرارِ المسلمين، غنيِّهم وفقيرِهم
(5)
(1)
في الأصل: "ولم".
(2)
انظر "المغني"(13/ 99).
(3)
أبي: تنحية ترابه، وإفرازه عنه إلى جانبيه. "حاشية الروض"(4/ 294).
(4)
في الأصل: "ناقل".
(5)
"الروض المربع"(4/ 294).
وسَهمٌ لذوي القُربى، وهم بنو هاشِم، وبنو المُطَّلب، حيثُ كانوا، للذَّكر مثلُ حَظِّ الأُنثيينِ. وسهمٌ لفقراءِ اليتامَى، وهم من لا أبَ له ولم يبلُغ.
(وسهمٌ لذوي القُرْبى؛ وهم بنو هاشمٍ، وبنو المُطَّلبِ) ابني عبدِ منافٍ، دون غيرِهم من بني عبدِ منافٍ، لحديثِ جبيرِ بنِ مُطعمٍ، قال: لمَّا قسمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من خيبرَ بين بني هاشمٍ وبني المُطَّلبِ، أتيتُه أنا وعثمانُ بنُ عفانٍ رضي الله تعالى عنه، فقلنا: يا رسولَ اللهِ، أمَّا بنو هاشمٍ، فلا ننكرُ فضلَهم، لمكانِكَ الذي وصفَكَ اللهُ به منهم، فما بالُ إخوانِنَا من بني المُطَّلبِ أعطيتَهم وتركتَنَا، وإنَّما نحنُ وهم منك بمنزلةٍ واحدةٍ؟ فقال:"إنَّهم لمْ يفارقوني في جاهليةٍ ولا إسلامٍ، وإنَّما بنو هاشمٍ وبنو المُطَّلبِ شيءٌ واحدٌ، وشبَّكَ بين أصابِعه". رواه أحمدُ، والبخاريُّ
(1)
. ولا يستحقُّ منه مولاهم، ولا مَنْ أمُّه منهم دونَ أبيه (حيثُ كانوا) أبي: بنو هاشمٍ وبنو المُطَّلبِ، يُقسَمُ بينهم
(2)
(للذَّكرِ مثلُ حظِّ الأنثَيَيْنِ) لأنَّهم يستحقُّونَه بالقرابةِ، أشبَهَ الميراثَ والوصيةَ، غنيّهم وفقيرُهم فيه سواءٌ؛ لعمومِ قولِه تعالى:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفَال: 41]. وكان عليه السلام يُعطي أقاربَهُ كلَّهم، وفيهم الغنيُّ
(3)
كالعباسِ.
(وسهمٌ لفقراءِ اليتامى، وهم) أبي: اليتامى: (مَنْ لا أبَ له) أبي: ماتَ أبوه، (ولم يبْلُغْ) لحديثِ:"لا يُتمَ بعدَ احتلامٍ"
(4)
. واعتُبِرَ فقرُهم؛ لأنَّ الصرفَ إليهم
(1)
أخرجه أحمدُ (27/ 304)(16741)، والبخاريّ (3140).
(2)
في الأصل: "عليهم".
(3)
سقطت: "الغني" من الأصل.
(4)
أخرجه أبو داود (2873) من حديث علي بن أبي طالب. وصححه الألباني.
وسَهمٌ للمساكينِ. وسَهمٌ لأبناءِ السَّبيل.
لحاجتِهم، ولأنَّ وجودَ المالِ أنفعُ من وجودِ الأبِ. ويُسوَّى فيه بين ذكورِهم وإناثِهم
(وسهمٌ للمساكينِ) أبي: أهلِ الحاجةِ. فيدخلُ فيهم الفقراءُ
(وسهمٌ لأبناءِ السَّبيلِ) ما يُبلِّغُهم بلَدَهم، أو منتهى قصدِهم.
بشرطِ إسلامِ الكلِّ، فلا حقَّ في الخُمُسِ لكافرٍ. ويعمُّ مَنْ بجميعِ البلادِ حسَبَ الطاقةِ. ومَنْ فيه سببانِ فأكثرُ، كابن سبيلٍ مسكينٍ من ذوي القُرْبَى، أخَذَ بها، أي: بما فيه من الأسبابِ.
فَصْلٌ
والفَئُ هو: ما أُخِذَ من مالِ الكُفَّار بحقٍّ، من غيرِ قِتالٍ، كالجِزيَةِ، والخَراجِ، وعُشْرِ التِّجارَةِ مِنَ الحربيِّ، ونِصْفِ العُشرِ من الذِّميِّ، وما تركوهُ فَزَعًا، أو عَن مَيِّتٍ ولا وارثَ له.
ومصرِفُه في مصالحِ المُسلمين، ويَبدَأُ بالأهمِّ فالأهمِّ مِنْ
(فصلٌ)
(والفَيءُ): الرجوعُ. يقالُ: فاءَ الظِّلُّ: إذا رجعَ نحوَ المشرقِ. وسُمِّيَ المالُ الحاصلُ
(1)
من الكفَّارِ فيئًا؛ لأنَّه رجعَ منهم إلى المسلمين، قال تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحَشر: 7] الآية.
و (هو: ما أُخِذَ من مالِ الكُفَّارِ) غالبًا (بحقٍّ، من غيرِ قتالٍ، كالجزيةِ، والخَراجِ) من مسلمٍ وكافرٍ (وعُشرِ التجارةِ من الحربيِّ، ونصفِ العُشرِ من الذِّمِّيِّ، وما تركوه) من كفَّارٍ لمسلمينَ (فَزَعًا) منهم (أو) تُرِكَ (عن ميِّتٍ) مسلمٍ، أو كافرٍ (ولا وارثَ له) يَستغرقُ.
وخرجَ بقولِه: "بحقٍّ": ما أخِذَ من كافرٍ ظلمًا، كمالِ مُستأمَنٍ. وقولِه:"بلا قتالٍ" الغنيمةُ.
(ومَصرِفُه) أبي: الفيءِ (في مصالحِ المسلمين. ويبدأُ بالأهمِّ فالأهم
(2)
، من
(1)
في "دقائق أولي النهى""المأخوذ".
(2)
سقطت: "فالأهم" من الأصل.
سدِّ ثغرٍ، وكِفَايَةِ أهلِه، وحاجَةِ مَن يَدفَعُ عن المُسلِمِين، وعِمَارَةِ القَناطِر، ورَزْقِ القُضاةِ والفُقهَاءِ، وغيرِ ذلِكَ.
فإن فَضَلَ شيءٌ، قُسِمَ بين أحرارِ المُسلمين غنيِّهِم وفقيرِهِم.
وبيتُ المالِ مِلكٌ للمُسلمينَ، يَضمَنُه مُتلِفُه، ويَحرمُ الأخذُ منه بلا إذنِ الإمام.
سدِّ ثغرٍ، وكفايةِ أهلِهِ) أي: الثِّغرِ، (وحاجةِ مَنْ يدفَعُ عن المسلمين) لأنَّ أهمَّ الأمورِ حفظُ بلادِ المسلمين، وأمنُهم من عدوِّهم، وسدُّ الثغورِ، وعمارتُها، وكفايتُها بالخيلِ والسلاحِ (وعمارةِ القناطرِ، ورَزقِ القُضاةِ والفقهاءِ، وغيرِ ذلك) كإصلاحِ طُرُقٍ، وعمارةِ مساجدَ، وأرزاقِ أئمةٍ ومؤذِّنينَ، وكلِّ ما يعودُ نفعُه على المسلمينَ
(فإنْ فَضَلَ شيءٌ) عمَّا يعمُّ نفعُه (قُسِمَ بين أحرارِ المسلمين غنيِّهم وفقيرِهم) لأنَّهم استحقُّوه بمعنًى مشتركٍ، فاستوَوْا فيه، كالميراثِ
(وبيتُ المالِ مِلكٌ للمسلمينَ، يضمنُهُ مُتلِفُهُ) كغيرِه من المتلَفَاتِ (ويحرُمُ الأخذُ منه
(1)
بلا إذنِ الإمامِ) لأنَّه افتئاتٌ عليه فيما هو مُفوَّضٌ إليه.
(1)
سقطت: "منه" من الأصل.
بابُ عَقدِ الذِّمَّةِ
لا تنعقِدُ إلا لأهلِ الكِتابِ، أو لِمن لهُ شُبهةُ كِتَابٍ، كالمجُوسِ.
(بابُ عقدِ الذِّمَّةِ)
وهي لغةً: العهدُ، والضمانُ، والأمانُ؛ لحديثِ:"يسعى بذمَّتهم أدناهُم"
(1)
. من أذَمَّه يذِمُّه: إذا جعلَ له عهدًا.
ومعنى عقدِ الذِّمَّةِ: إقرارُ بعضِ الكُفَّارِ على كفرِهم، بشرطِ بذلِ الجزيةِ، والتزامِ أحكامِ المِلَّةِ. والأصلُ فيها: قولُه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التّوبَة: 29]. الآية. وحديثُ المغيرةِ بنِ شعبةَ، قالَ لجندِ كِسرَى يومَ نهاوند: أمرَنا نبيُّنَا رسولُ ربِّنا أنَّ نقاتلَكم حتى تعبدُوا اللهَ وحدَهُ، أو تُؤَدُّوا الجزيةَ. رواه البخاريُّ
(2)
.
(لا تنعقدُ إلا لأهلِ الكتابِ) التوراةِ والإنجيلِ، وهم: اليهودُ والنصارى، ومن تدَيَّنَ بالتوراةِ، كالسَّامرةِ، فإنَّهم يَدينونَ بشريعةِ موسى، ويخالفونَ اليهودَ في فروعٍ من دينِهم، أو تدَيَّنَ بالإنجيلِ، كالفِرَنْجِ، والصَّابئينَ، والرومِ، والأرْمَنِ، وكلِّ مَنْ انتسبَ لدينِ عيسى (أو لمن
(3)
له شبهةُ كتابٍ، كالمجوسِ) فإنَّه يُروىَ أنَّه كانَ لهم كتابٌ ورُفِعَ، فذلك شبهة لهم أوجَبتْ حقنَ دمائِهم بأخذِ الجزيةِ منهم.
(1)
أخرجه البخاري (3179)، ومسلم (1370) من حديث علي.
(2)
أخرجه البخاري (3159).
(3)
في الأصل: "من".
ويجِبُ على الإمامِ عَقدُها حَيثُ أَمِنَ مَكرَهُم، والتَزموا لنَا بأربعَةِ أحكامٍ:
أحدُهما: أن يُعطُوا الجِزيَةَ عن يدٍ وهم صاغِرون.
ولحديثِ أخْذِه عليه السلام الجزيةَ من مجوسِ هجرَ. رواه البخاريُّ
(1)
.
(ويجبُ على الإمامِ) أو نائبِه (عقدُها) أبي: عقدُ الذِّمَّةِ. وصفتُه: قولُ الإمامِ أو نائبِه: أقررتُكم بجزيةٍ واستسلامٍ. أبي: انقيادٍ لأحكامِنا. ولا يُعتبرُ تقديرُ الجزيةِ في العقدِ. و (حيثُ أمِنَ مكرَهم) أبي: الإمامُ (والتزموا لنا بأربعةِ أحكامٍ):
(أحدُها: أنْ يُعطوا الجزيةَ): من الجزاءِ، وهي: مالٌ يُؤخذُ منهم على وجه الصَّغارِ كُلَّ عامٍ بدلًا عن قتلِهم، وإقامتِهم بدارِنا. قال في "الأحكام السلطانية"
(2)
: مشتقَّةٌ من الجزاءِ، إمَّا جزاءٌ على كفرِهم؛ لأخذِها منهم صغارًا. أو جزاءٌ على أمانِنا لهم؛ لأخذِها منهم رِفقًا
(عن يدٍ): حالٌ من الضميرِ، أبي: عن يدٍ مؤاتيةٍ، بمعنى منقادينَ. أو عن يدِهم بمعنى مسلِّمِينَ بأيدِيهِم غيرَ باعِثينَ بأيدِى غَيرِهم، ولذلكَ مُنِعَ من التوكيلِ فيه. أو عن غِنىً، ولذلكَ قيلَ: لا تُؤخذُ من الفقراءِ. أو عن يدٍ قاهرةٍ عليهم، بمعنى: عاجزينَ أذلَّاءَ. انتهى
(3)
(وهم صاغِرونَ): أذلاءَ. وعن ابنِ عباسٍ: تُؤخذُ الجزيةُ من الذِّمِّيِّ.
ومفهومُ الآيةِ يقتضي تخصيصَ الجزيةِ بأهلِ الكتابِ. ويُؤيِّدُه: أنَّ عمرَ رضي الله عنه لمْ يكنْ يأخذُ الجزيةَ من المجوسِ حتى شَهِدَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ أنَّه عليه
(1)
أخرجه البخاري (3156، 3157) من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(2)
"الأحكام السلطانية"(181).
(3)
"تفسير البيضاوي"(3/ 140).
الثَّاني: أن لا يَذكُرُوا دينَ الإسلامِ إلَّا بالخَير.
الثالِثُ: أن لا يفعلُوا ما فيهِ ضَررٌ على المُسلمين.
الرابِعُ: أن تَجريَ عليهم أحكامُ الإسلامِ في نَفسٍ، ومالٍ، وعِرضٍ، وإقامةِ حدِّ فيما يُحرِّمونَه كالزِّنَى،
السلام أخذَها من مجوسِ هجرَ
(1)
. وذلك لأنَّ لهم شَبهةَ كتابٍ، فأُلحقوا بالكتابيِّين، وأمَّا سائرُ الكفرةِ، فلا تؤخذ منهم الجزية
(2)
.
ومرجعُ
(3)
الجزيةِ إلى اجتهادِ الإمامِ. وعنه: إلى ما ضربَهُ عمرُ.
فيجبُ أن يقسِمَه الإمامُ عليهم، فيجعل على الموسرِ ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المتوسِّطِ أربعةً وعشرين، وعلى الأدونِ اثني عشرَ
(4)
.
ولا يُقبلُ إرسائها مع غيرِهم، لزوالِ الصَّغارِ.
(الثاني) من الأحكامِ: (أنْ لا يذكروا دينَ الإسلامِ إلا بالخيرِ) فإنْ ذكرَهُ بسوءٍ، قُتِلَ.
(الثالثُ) من الأحكامِ: (أنْ لا يفعلوا ما فيه ضررٌ على المسلمينَ) من قطعِ طريقٍ، وتعليةِ بناءٍ، أو تجسَّسَ، أو آوىَ جَاسُوسًا
(الرابعُ) من الأحكامِ: (أنْ تجريَ عليهم
(5)
أحكامُ الإسلامِ في نفسٍ، ومالٍ، وعِرضٍ، وإقامةِ حدٍّ فيما يُحرِّمونَهُ) أبي: يعتقدونَ تحريمَة (كالزِّنى) وسَرِقَةٍ، أو
(1)
تقدم تخريجه آنفًا.
(2)
"تفسير البيضاوي"(3/ 140).
(3)
في الأصل: "ورجع".
(4)
انظر: "كشاف القناع"(7/ 237).
(5)
في الأصل: "عليها".
لا فِيمَا يُحِلُّونَه كالخَمر.
ولا تؤخذُ الجِزيةُ من امرأةٍ، وخُنثَى، وصَبيٍّ، ومجنونٍ، وقِنٍّ، وزَمِنٍ، وأَعمَى، وشيخٍ فانٍ، وراهبٍ بصَومَعَةٍ.
قَطعٍ. فمَنْ قتلَ
(1)
، أو قطعَ طرَفًا، أو تعدَّى على مالٍ، أو قذفَ، أو سبَّ مسلمًا أو ذمِّيًّا، أُخِذَ بذلك. وكذا لو سَرقَ، أُقيمَ عليه حدُّه بشرطه، لحديثِ أنسٍ: أنَّ يهوديًّا قتلَ جاريةً على أوضاحٍ لها، فقتلَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. متفقٌ عليه
(2)
. وعن ابنِ عمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بيهوديَّيْن قدْ فَجَرا بعد إحصانِهما، فرجَمَهُما
(3)
. ولأنَّهم التزمُوا حكمَ الإسلامِ، وهذه أحكامُه.
و (لا) يُحدُّونَ (فيما يُحلُّونَهُ) أبي: يعتقدونَ حِلَّه (كالخمرِ) وأكلِ لحمِ الخنزيرِ، ونكاحِ ذاتِ مَحرمٍ؛ لأنَّهم يُقَرّونَ على كفرِهم، وهو أعظمُ جُزمًا وإثمًا من ذلك، إلا أنَّهم يُمنعونَ من إظهارِه.
(ولا تُؤخذُ الجزيةُ من امرأةٍ، وخنثى، وصبيٍّ) لأنَّهم لا يُقتلونَ، وهي بدلُ القتلِ
(4)
. ولقولِ عمرَ: ولا تضرِبوها على النساءِ والصبيانِ. رواه سعيدٌ
(5)
.
(و) لا تُؤخذُ من (مجنونٍ، و) لا (قنٍّ، و) لا (زَمِنٍ، و) لا (أعمَى، و) لا (شيخٍ فانٍ، و) لا (راهبٍ بصومعةٍ) لأنَّهم لا يُقتلونَ.
(1)
في الأصل: "قتل قتل طريقًا".
(2)
أخرجه البخاري (5295)، ومسلم (1672).
(3)
أخرجه البخاري (3635، 6841)، ومسلم (1699).
(4)
في الأصل: "القتال".
(5)
أخرجه سعيد بن منصور (2632).
ومن أسلَم منهم بعدَ الحَولِ، سقَطَت عنه الجِزْيَةُ.
(ومَنْ أسلمَ منهم) أبي: ممَّنْ استحقتْ عليه الجزيةُ (بعدَ الحولِ، سقطتْ عنه الجزيةُ) نصًّا. وقال: يدخلُ في قولِه: "مَنْ أسلمَ على شيءٍ فهو له"
(1)
. لأنَّها عقوبةٌ، لا أُجرَةٌ. رُوِيَ أنَّ ذِميًّا أسلمَ فطُولِبَ بالجزيةِ، وقيل: إنَّما أسلمَ تعوُّذًا. قال: إنَّ في الإسلامِ مَعَاذًا. فرُفِعَ إلى عمرَ، فقال: إنَّ في الإسلامِ معاذًا. وكتبَ: أنْ لا تُؤخذَ منه الجزيةُ. رواه أبو عبيدٍ بمعناه
(2)
.
ولا تسقُطُ عنه إنْ ماتَ، أو جُنَّ، أو عَمِيَ، بعدَ الحولِ. فتُؤخذُ الجزيةُ من تركةِ ميِّتٍ، ومالِ حيٍّ جُنَّ بعدَ الحولِ. وإنْ ماتَ أو جُنَّ في أثنائِه، تسقطُ
(3)
الجزيةُ.
وتُؤخذُ عندَ انقضاءِ كلِّ سنةٍ هلاليةٍ، كالزكاةِ.
(1)
أخرجه البيهقي (9/ 113) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6032).
(2)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(122)، وابن أبي شيبة (10/ 336).
(3)
في الأصل: "سقط".
فَصْلٌ
ويَحرُم قتلُ أهلِ الذِّمةِ، وأَخذُ مالِهم. ويجبُ على الإمامِ حِفظهم، ومنعُ من يُؤذيهم.
ويُمنَعونَ مِنْ رُكوبِ الخَيلِ، وحَملِ السِّلاحِ، ومِنْ إحداثِ الكَنائِسِ، ومن بِنَاءِما انهَدَمَ مِنها،
(فصل)
(ويحرُمُ قتلُ أهلِ الذِّمةِ، وأخذُ مالِهم. ويجبُ على الإمامِ حفظُهُم) أبي: أهلِ الذمَّةِ (ومنعُ مَنْ يُؤذيهم) من مسلمٍ، وذمِّيٍّ، وحربيٍّ؛ لأنَّه التزمَ بالعهدِ حِفْظَهم، ولهذا قال عليٌّ: إنما بَذلُوا الجزيةَ؛ لتكونَ دماؤُهم كدمائِنا، وأموالُهم كأموالِنا
(ويُمنعونَ من ركوبِ الخيلِ) ولهم ركوبُ غيرِ الخيلِ، كالحميرِ بغيرِ سرجٍ، فيركبون بإكافٍ، وهو البْرذَعةُ؛ لما روىَ الخلَّالُ: أنَّ عمرَ أمرَ بجزِّ نواصي أهلِ الذِّمَّةِ، وأنْ يَشُدُّوا المناطِقَ، وأنْ يركبوا الأُكُفَ بالعرضِ
(1)
.
(و) يُمنعونَ من (حملِ السِّلاحِ) ولا يتقلَّدون بالسيوفِ.
(و) يمنعون (من إحداثِ الكنائسِ) وييَعٍ، ومُجتمعٍ لصلاةٍ في شيءٍ من أرضِ المسلمين. وما وُجدَ في بلادِ المسلمينِ من كنائسَ وبِيَعٍ حالَ فتحِها، لم يجبْ هدْمُه؛ لأنَّ الصحابةَ فتحوا كثيرًا من البلادِ عَنْوَةً، فلمْ يهدِموا شيئًا من ذلك. (و) يُمنعونَ (من بناءِ مما انهدمَ منها) ولو ظُلمًا من نحوِ كنيسةٍ وبِيَعةٍ.
(1)
أخرجه عبد الرازق: (6/ 85).
ومِنْ إظهَارِ المُنْكَرِ، والعِيدِ، والصَّليبِ، وضَربِ النَّاقوسِ، ومنْ الجَهرِ بكتابِهِم، ومنَ الأكلِ والشُّربِ نهارَ رمضَانَ، ومِنْ شُربِ الخَمرِ، وأَكلِ الخِنزِيرِ.
وئمنَعُونَ من قراءةِ القُرآنِ، وشِراءِ المُصحَفِ، وكتُبِ الفِقِه والحديث، ومن تَعْلِيَةِ البِنَاءِ على المُسلمينَ.
(و) يُمنعونَ (من إظهارِ المنكرِ) كنكاحِ محارمَ (و) إظهارِ (العيدِ، و) إظهارِ (الصَّليبِ، و) يُمنعونَ من (ضربِ النَّاقُوسِ) أبي: من إظهارِه
(و) يمنعون (من الجهرِ بكتابِهم) لأنَّ في شروطِهم لابنِ غُنمٍ: وأنْ لا نضرِبَ ناقُوسًا إلا ضَربًا خفيفًا في جوفِ كنائِسنا، ولا نُظهِرَ عليها، ولا نرفعَ أصواتنا في الصَّلاةِ، ولا القراءةِ في كنائِسنا فيما يحضرُه المسلمون، وأن لا نُخرِجَ صليبًا، ولا كتابًا في سوقِ المسلمينِ، وأنْ لا نُخرِجَ باعوثًا
(1)
، ولا سَعانينَ
(2)
، ولا نرفعَ أصواتَنا مع موتانا، وأنْ لا نُجاوِرَهم بالجنائزِ، ولا نُظهرَ شِزكًا. وقيسْ على ذلكَ:(و) يُمنعونَ (من الأكلِ والشربِ نهارَ رمضانَ) وإظهارُه
(و) يُمنعونَ (من شربِ الخمرِ، وأكلِ الخنزيرِ) لأنَّه يُؤذينا
(ويُمنعونَ من قراءةِ القرآنِ، وشراءِ المصحفِ، وكتبِ الفقهِ والحديثِ)
(و) يُمنعونَ (من تعليةِ البناءِ على المسلمينَ) ولو مُشتَركًا بين مسلمٍ وذميٍّ، ولو رضِيَ جارُهم المسلمُ
(3)
بتعليةِ بنائِهم عليه؛ لأنَّه لحقِّ اللهِ تعالى، ولحقِّ مَنْ
(1)
البَاعوث للنصارى كالاسْتِسقاء للمسلمين، وهو اسم سُرْياني. "النهاية"(بعث).
(2)
في الأصل: "شعانين"، والسعانين: عيدٌ لهم معروفٌ قبل عيدهم الكَبير بأسْبُوع. وهو سرْياَني معرَّب. "النهاية"(سعن).
(3)
في الأصل: "المسلم جارهم".
ويَلزَمُهُم التَّمييزُ عنَّا بلُبْسِهِم
يحدُثُ بعدُ. وذلك لحديثِ: "الإسلامُ يعلُو، ولا يُعلَى عليه"
(1)
.
"تنبيهٌ": لمْ يتعرَّضْ المصنِّفُ لسُكنى الذِّمِّيِّ فوقَ المسلمِ، قال الشيخُ عبدُ الرحمنِ البُهوتيُّ: وقدْ أفتيتُ بأنَّه يُمنعُ من السكنى فوقَ المسلمِ؛ إذْ منعُه من السُّكنى فوقَه أوْلى من منعِ تعليةِ البناءِ
(2)
.
قال في "الشرح"
(3)
: وإنَّما يُمنعُ من تعليةٍ على بناءِ المسلمِ المجاورِ دونَ غيرِه. انتهى.
قال في "الإنصاف"
(4)
: وكذا لو كان البناءُ لمسلمٍ وذميٍّ؛ لأنَّ ما لا يتمُّ اجتنابُ المُحرَّمِ، إلا باجتنابِهِ، مُحرَّمٌ. ولو خالفُوا وفعلُوا، وجبَ هدمُه. انتهى.
ولو وجدْنَا دارَ ذميٍّ عاليةً، ودارَ مسلمٍ أنزلَ منها، وشكَكْنَا في السابقةِ: فقال ابنُ القيمِ في كتاب "أحكام الذمة"
(5)
له: لا تُقرُّ؛ لأنَّ التعليةَ مفسدةٌ، وقدْ شككنا
(6)
في شرطِ الجوازِ.
(ويلزمُهم التمييزُ عنَّا بلُبْسِهم) من الثيابِ وغيرِها. فلُبسُ اليهودِ عَسَليٌّ، ولباسُ النصارى أدكَنُ
(7)
، وهو الفَاخِتيُّ -لونٌ يضربُ إلى السوادِ- ويكونُ ذلك في ثوبٍ
(1)
أخرجه الدارقطني (3/ 252)، والبيهقي (6/ 205) من حديث عائذ بن عمرو. وحسنه الألباني في "الإرواء"(1268).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 36).
(3)
"الشرح"(10/ 457).
(4)
"الإنصاف"(10/ 458).
(5)
"أحكام الذمة"(3/ 1224).
(6)
في الأصل: "علينا".
(7)
في الأصل: "أدهن".
ويُكرَهُ لنَا التشبُّهُ بِهِمْ.
ويَحرُمُ القِيامُ لهم، وتصدِيرُهُم في المجَالِسِ، وبَداءَتُهُم بالسَّلامِ، وبـ: كَيفَ أصبَحتَ، أو: أَمسيَتَ، و: كيفَ أنتَ، أو حالُكَ.
وتَحرُمُ تهنئتُهُم، وتعزِيَتُهم، وعِيادَتُهُم.
واحدٍ لا جميعِ الثيابِ. وشَدُّ خِرَقٍ بقلانِسهم وعمائِمهم، وشدُّ زُنَّارٍ فوقَ ثيابِ نصرانيٍّ، وتحتَ ثيابِ نصرانيَّةٍ. ويغايرُ نساءُ كلٍّ من يهودٍ ونصارى بين لونِ خُفٍّ؛ ليمتازوا عنَّا.
ولا يُمنعونَ فاخرَ الثيابِ ولا العمائمَ والطَّيلسانِ.
ويلزمُهم لدخولِ حَمَّامِنا بجُلجُل
(1)
، أو خاتمِ رصاصٍ، ونحوِه، كحديدٍ، أو طوقٍ من ذلك، لا من ذهبٍ. برقابِهم؛ ليتمَيَّزوا عنَّا في الحمَّامِ. ولا يجوزُ جعلُ صليبٍ مكانَهُ لمنعِهم من إظهارِه.
(ويُكرَهُ التشبُّهُ بهم) في لباسٍ وغيرِه
(ويحرُمُ القيامُ لهم) أبي: لأهلِ الذِّمِّةِ؛ لأنَّه تعظيمٌ لهم، كبداءَتِهم بالسلامِ. (و) يحرُمُ (تصديرُهُم في المجالسِ) لأنَّه نوعٌ تعظيمٍ. (و) جرُمُ (بَداءَتُهُم بالسلامِ، و) بَداءتُهُم (بـ: كيفَ أصبحتَ؟ أو:) كيفَ (أمسيتَ؟ و: كيفَ أنتَ؟ أو:) كيفَ (حالُكَ؟)
(وتحرُمُ تهنئتُهم، و) تحرُمُ (تعزيتُهم، و) تحرمُ (عيادتُهم) وشهادةُ أعيادِهم.
(1)
الجُلبل: هو الجرس الصغير، الذي في أعناق الدواب. والجَلجلَةُ: صوته. "المطلع" ص (224).
ومَنْ سَلَّم على ذِمِّيٍّ، ثمَّ عَلِمَهُ، سُنَّ قولُه: رُدَّ عليَّ سَلامِي. وإن سَلَّم الذِّميُّ، لَزِمَ ردُّهُ، فيقُالُ: وعليكم.
وإنْ شمَّتَ كافِرٌ مُسلِمًا، أجابَه. وتُكرهُ مصافحَتُهُ.
(ومَنْ سلَّمَ على ذميٍّ) لا يعلَمُه ذمِّيًّا (ثمَّ عَلِمَهُ) ذمِّيًّا (سُنَّ قولُه) له: (رُدَّ عليَّ سَلامي) لما رُويَ عن ابنِ عمرَ: أنَّه مرَّ على رجلٍ فسلَّمَ عليه. فقيلَ: إنَّه كافرٌ. فقال: رُدَّ عليَّ ما سلَّمتُ عليكَ، فردَّ عليه، فقال: أكثرَ اللهُ مالَكَ وولدَكَ. ثمَّ التفتَ إلى أصحابِه، فقال: أكثر للجزيةِ
(1)
. فإنْ كانَ مع الذميِّ مسلمٌ، سلَّمَ ناويًا المسلمَ. نصًّا
(وإن سلَّم الذِّميُّ) على مسلمٍ (لزِمَ) المسلمَ (ردُّه. فيقالُ) في ردِّه: (وعليكم) أو: عليكم، بلا واو، وبها أوْلى، لحديثِ أحمدَ عن أنسٍ قال: نُهينا، أو أُمزنا أن
(2)
لا نزيدَ أهلَ الذِّمةِ على: وعليكم.
(وإنْ شمَّتَ كافرٌ مسلمًا، أجابَه) المسلمُ بقولِه: يهديكُمُ اللهُ. وكذا إنْ عطسَ الذميُّ؛ لحديثِ أبي موسى: أنَّ اليهودَ كانوا يتعاطسُونَ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجاءَ أنْ يقولَ لهم: يرحمُكُمُ اللهُ. فكانَ يقولُ: "يهديكُمُ اللهُ، ويصلِحُ بالَكُمْ". رواه أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ
(3)
وصحَّحَه.
(وتُكرَهُ مصافحتُه) نصًّا. وإذا كتبَ كتابًا، كتبَ: سلامٌ على مَن اتَّبعَ الهُدَى.
(1)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" ص (381).
(2)
سقطت: "أن" من الأصل.
(3)
أخرجه أحمدُ (32/ 356)(19586)، وأبو داودَ (5038)، والترمذيُّ (2739)، وصححه الألباني.
فَصْلٌ
ومَن أبَى مِنْ أهلِ الذِّمَّةِ بذْلَ الجِزيَةِ، أو أبى الصَّغَارَ، أو أبَى التِزَامَ حُكمِنَا، أو زَنَى بمُسلِمَةٍ، أو أصابَها بنِكَاحٍ، أو قَطَعَ الطَّريقَ، أو ذَكَرَ اللهَ تعالى، أو رسولَه بِسوءٍ، أو تعدَّى على مُسلِمٍ بِقتْلٍ، أو فِتنَةٍ عن دِينِه، انتقَضَ عَهدُهُ.
(فصلٌ)
(ومَنْ أبَى من أهلِ الذِّمةِ بذلَ الجزيةِ، أو أبَى الصَّغارَ، أو أبَى التزامَ حُكمِنا) سواءٌ شُرطَ عليهم ذلكَ أو لا، ولو لمْ يَحكمْ عليه بها حاكِمُنَا؛ لقولِه تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التّوبَة: 29] قيل: الصَّغارُ: التزامُ أحكامِنا
(أو زنَى بمسلمةٍ، أو أصابَها بنكاحٍ، أو قطَعَ الطريقَ) لعدمِ وفائِه بمقتضى الذِّمةِ من أمنِ جانبِهَ
(أو ذكَرَ اللهَ تعالى، أو) ذكَرَ (رسولَه بسوءٍ) ونحوه، كقولِه لمَنْ سمِعَه يُؤذِّنُ: كذَبَ. فيُقتلُ، نصًّا، لما رُوي أنَّه قيلَ لابنِ عمرَ: إنَّ راهبًا
(1)
يشتُمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لو سمعتُه لقتلتُه، إنَّا لمْ نعطِ الأمانَ على هذا
(2)
.
(أو تعدَّى على مسلمٍ بقتلٍ، أو قتنةٍ عن دينِه) لأنَّه ضررٌ يعمُّ المسلمين، أشبَهَ ما لو قاتلَهم:(انتقضَ عهدُه)
(1)
في الأصل: "رجلًا".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة بنحوه (7/ 301).
ويُخيَّرُ الإمامُ فيهِ كالأسير، ومالُه فَيءٌ، ولا ينَتَقِضُ عَهدُ نسائِه وأولادِهِ.
فإنْ أسلَمَ، حَرُمَ قتلُه، ولو كان يسَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
(ويخيَّرُ الإمامُ فيه) أبي: المنتقِضِ عهدُه (كالأسيرِ) الحربيِّ: بين قتلٍ، ورِقٍّ، ومَنٍّ، وفداءٍ. لأنَّه كافرٌ لا أمانَ له، قَدرنا عليه في دارِنا بغير عقدٍ، ولا شبهةٍ لذلك، أشبَه اللصَّ الحربيَّ
(ومالُه فيءٌ) في الأصحِّ. قالَهُ في "الإنصاف" و"شرح المنتهى" للمصنِّفِ؛ لأنَّ المالَ لا حرمةَ له في نفسِه، بل هو تابعٌ لمالكِه حقيقةً، وقد انتقَضَ عهدُ المالكِ في نفسِه، فكذا في مالِه.
وقال أبو بكرٍ: مالُه لورثتِه. ومشى عليه صاحبُ "المنتهى" في الأمانِ
(1)
(ولا يُنتقضُ عهدُ نسائِه وأولادِه) حيثُ انتُقضَ عهدُه، نصًّا؛ لوجودِ النَّقض منه دونَهم، فاختصَّ حكمُه به.
(فإنْ أسلمَ حرُمَ قتلُه، ولو كان سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم) لعمومِ حديثِ: "الإسلامُ يَجبُّ ما قبلَه"
(2)
. وأمَّا قاذفُه عليه السلام، فيُقتلُ بكلِّ حالٍ. وإليه أشارَ بقولِه:"ولو كانَ سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ".
وكذا يحرُمُ رِقُّ مَنْ أسلمَ؛ لأنَّه عصمَ نفسَه بإسلامِه. لا إنْ رُقَّ قبلَ إسلامِه، فلا يزولُ رِقُّه به، بل يستمرُّ.
"فائدةٌ": مَنْ تولَّى منهم ديوانًا للمسلمين، انتقضَ عهدُه.
(1)
"دقائق أولي النهى"(3/ 118).
(2)
أخرجه أحمد (29/ 349)(17813) من حديث عمرو بن العاص. وصححه الألباني في "الإرواء"(1280).
كِتابُ البيعِ
وينعَقِدُ -لا هَزلًا- بالقَولِ الدَّالِّ علَى البَيعِ والشِّراء،
(كتابُ البيعِ)
مأخوذٌ من الباعِ؛ لمدِّ كُلٍّ مِن المتبايِعَينِ يدَه للآخَرِ، أَخْذًا وإعطاءً. أو: مِن المُبايعةِ. أبي: المصافحةِ، لمصافَحَةِ كُلٍّ منهما الآخرَ عندَه، ولذلك سُمِّيَ صَفْقةً
وهو جائزٌ بالإجماعِ؛ لقولهِ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البَقَرَة: 275]. وحديثِ: "البيِّعانِ بالخِيارِ ما لمْ يَتفرَّقا" متفقٌ عليه
(1)
.
وهو لُغةً: دَفعُ عِوَضٍ، وأَخذُ مُعوَّضٍ عنه.
وشرعًا: مُبادَلَةُ عَينٍ ماليَّةٍ، أو منفعةٍ مُباحَةٍ بمثلِ إحدَاهُما، على التَّأبيدِ، غَيرِ رِبًا وقَرضٍ.
وأركَانُ البيعِ ثلاثةٌ: عَاقِدٌ، ومَعقُودٌ عَليه، ومَعقودٌ به؛ وهو الصِّيغَةُ، ولها صورتانِ:
قَوليَّةٌ، وبَدَأ بها؛ للاتِّفاق عليها في الجملةِ، فقال:(ويَنعَقِدُ) البيعُ إنْ أُريدَ حَقيقَتُهُ
(2)
، بأنْ رَغِبَ كلٌّ منهما فيما بُذِلَ له من العوضِ، (لا) إنْ وقَعَ (هزلًا) بلا قَصدٍ لحقيقَتِهِ (بالقولِ الدَّالِّ على البيعِ والشراءِ) وهي:
الإيجابُ من بائع، فيقولُ: بِعتُكَ، أو: ملَّكتُكَ، أو: ولَّيتُكَه، أبي: بِعتُكَ برأسِ مالِهِ يَعلَمَانِه. أو: وهَبتُكَه بكَذا، ونحوِه، كـ: أعطَيتُكَهُ بكَذا، أو: رَضيتُ به عِوَضًا عن هذا.
(1)
أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532) من حديث حكيم بن حزام.
(2)
في الأصل: "حقيقة".
وبالمُعَاطَاةِ، كـ: أَعطِني بِهذَا خُبزًا، فيعُطِيِهِ ما يُرضِيهِ.
وشُروطُه سبعَة:
أحدُها: الرِّضا، فلا يَصِحُّ بيعُ المُكرَهِ بغيرِ حَقٍّ.
الثَّانِي: الرُّشدُ،
والقبولُ بَعدَه مِن مُشتَرٍ، بلفظٍ دالِّ على الرِّضَا، فيقولُ: ابتَعتُ ذلك، أو: قَبِلتُ، أو: تملَّكْتُه، أو: اشتريتُهُ، أو: أخذتُه.
(و) ينعقدُ أيضًا (بالمُعَاطاةِ) وهيِ الصِّيغةُ الفعليَّةُ. ومثَّلَ لها بقولِه: (كـ: أَعْطِني بهذا) الدِّرهَمِ ونحوِه (خُبزًا، فيُعْطيه مما يُرضيه) مِن الخبزِ، معَ سُكُوتِهِ. أو وَضْعِ ثمنِه عادَةً، وأَخذِه عَقِبَه أي: عَقِبَ وضعِ الثمنِ، من غيرِ لفظٍ لواحدٍ منهما. وظاهِرُه: ولو لمْ يَكنِ المالكُ حاضرًا؛ للعُرْفِ. فإنْ حصلَ تراخي، لم يصحَّ البيعُ.
(وشروطُهُ) أبي: البيعِ (سبعةٌ):
(أحدُهما: الرِّضا) بأنْ يَتبايعا اختيارًا، فلا يصحُّ إنْ أُكرِها، أو أحدُهما؛ لحديثِ:"إنَّما البيعُ عن تراضٍ"
(1)
.
(فلا يصحُّ بيعُ المُكْرَه بغير حقٍّ) كالذي يُكرِهُه الحاكمُ على بيعِ مالِه؛ لوفاءِ دَينِه، فيصحُ؛ لأنَّه قولٌ حُمِلَ عليه بحقٍّ.
وإنْ أُكْرِهَ على وَزنِ مالٍ، فباعَ مِلكَهُ، كُرِه الشراءُ منه، وصحَّ.
الشرطُ (الثاني: الرُّشدُ) يعني: أن يكونَ العاقدُ جائزَ التصرُّفِ، أبي: حُرًّا، مكلَّفًا، رشيدًا. فلا يصحُّ من مجنونٍ مُطلقًا، ولا مِن صغيرٍ وسفيهٍ؛ لأنَّه قولٌ يُعتبرُ له الرِّضا، فاعتُبِرَ فيه الرُّشدُ، كالإقرارِ. إلا في شيءٍ يَسيرٍ، كرغيفٍ، وحُزمةِ بَقْلٍ،
(1)
أخرجه ابن ماجه (2185) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الألباني.
فلا يَصِحُّ بيعُ المُميِّزِ، والسَّفيهِ، ما لم يأذَن وليُّهُمَا.
الثَّالِثُ: كونُ المَبيعِ مالًا، فلا يَصِحُّ بيعُ الخَمْرِ، والكَلبِ،
ونحوِهما، فيصحُّ.
(فلا يصحُّ بيعُ المميِّزِ، والسَّفيهِ، ما لم يأذنْ وليُّهُما) فيصحُّ، ولو في الكَثيرِ.
الشرطُ (الثالثُ: كونُ المبيعِ) أبي: المعقودِ عليه، ثمنًا كان أو مُثمَنًا (مالًا) لأنَّ غيرَه لا يُقابلُ به
(فلا يصحَّ بيعُ الخمرِ) ولو كان المتبايعانِ ذِمِّيينِ؛ لحديثِ جابرٍ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ اللهَ ورسولَهُ حرَّمَ بيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأنصابِ". متفق عليه
(1)
(و) لا يصحَّ بيعُ (الكَلبِ) ولو مُباحَ الاقتِناءِ ككَلبِ صَيدٍ؛ لحديثِ أبي سعيدٍ الأنصاريِّ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمنِ الكلبِ. متفقٌ عليه
(2)
.
ومَنْ قَتلَه وهُو مُعلَّمٌ الصيدَ، والمرادُ: مَن قَتَلَ كَلبًا يُباحُ اقتناؤُه -كما في "الكافي" وغَيرِه -أَسَاءَ؛ لأنَّه فَعَلَ مُحرَّمًا. ولَا غُزمَ عليه؛ لأنَّ الكلبَ لا يُملكُ، ولا قيمةَ له.
ويحرُمُ اقتناؤُهُ، غَيرَ كَلبِ الصَّيدِ والماشيةِ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا:"مَنْ اتخذَ كلبًا إلا كلبَ ماشيةٍ، أو صيدٍ، أو زرعٍ، نَقَصَ مِن أجرِه كلَّ يومٍ قِيراطٌ" متفقٌ عليه
(3)
. وإنَّما يجوزُ اقتناءُ الكلبِ للماشيةِ والصيدِ والحرثٍ: إنْ لمْ يَكن أسودَ
(1)
أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
(2)
أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود الأنصاري
(3)
أخرجه البخاري (3324)، ومسلم (1575).
والمَيتَةِ.
الرَّابِعُ: أن يكونَ المبيعُ مِلكًا للبائِع، أو مأذُونًا له فيهِ وقتَ العَقدِ، فلا يَصِحُّ بَيعُ الفُضُولِيِّ، ولو أُجِيزَ بَعدُ.
بهيمًا، أو عَقورًا. قالَهُ في "الإقناع"
(1)
.
(و) لا يصحُّ بيعُ (الميتةِ) ولا شيءٍ منها، ولو لمضطرٍّ، إلا سَمَكًا وجَرادًا ونحوَهما، كجُندَبٍ
(2)
، لحلِّ أكلِها.
الشرطُ (الرابعُ: أنْ يكونَ المبيعُ مِلكًا للبائعِ) ومِثلُه الثَّمَنُ، مِلْكًا تَامًّا، لقولِه عليه السلام لحكيمِ بنِ حزامٍ:"لا تبعْ ما ليسَ عندكَ". رواه ابنُ ماجه، والترمذيُّ
(3)
وصحَّحه. وخرجَ بقولهِ: "ملكًا تامًا": الموقوفُ على مُعيَّنٍ، والبيعُ زمنَ الخِيارينِ.
(أو مأذونًا له فيه) أبي: البيعِ، مِن مالِكِه، أو مِن الشَّارعِ، كالوَكيلِ، ووليِّ الصغيرِ، وناظرِ وقفٍ (وَقتَ العَقدِ) للبيعِ.
(فَلا يَصحُّ بيعُ الفُضُوليِّ) ولا شِراؤُه (ولو أُجيزَ) تَصرُّفُه (بَعد) وقوعِه، إلَّا إنِ اشترَىَ الفُضوليُّ في ذمَّتِه، ونَوىَ الشراءَ لشخصٍ لم يُسمِّه، فيصحُّ، سواءٌ نقَدَ الثمنَ من مالِ الغيرِ، أم لا؛ لأنَّ ذمَّتَه قابلةٌ للتصرُّفِ. فإنْ سمَّاه، أو اشتَرَى للغيرِ بعينِ مالهِ، لم يصحَّ الشراءُ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(7/ 313).
(2)
جُنْدَب -بِضَمّ الدال وفَتْحِها- هو ضَرْب من الجرَادِ. "النهاية في غريب الحديث"(1/ 823).
(3)
أخرجه ابنُ ماجه (2187)، والترمذيّ (1232). وصححه الألباني.
الخَامِسُ: القُدرةُ على تسلِيمِه، فلا يَصِحُّ بيعُ الآبِقِ، والشَّارِدِ، ولو لقادِرٍ على تَحِصيلِهِمَا.
السَّادِسُ: مَعرِفَةُ الثَّمنِ والمُثمَنِ، إمَّا بالوصْفِ، أو المُشاهَدَةِ
الشرطُ (الخامسُ: القدرةُ على تسليمهِ) أبي: المبيعِ، وكذا الثَّمَنُ المعيَّنُ؛ لأنَّ غيرَ المقدورِ على تسليمِهِ كالمعدُومِ
(فلا يَصحُّ بيعُ الآبقِ) كالقِنِّ (و) لا يَصِحُّ بيعُ (الشَّاردِ) لنَحوِ جَمَلٍ، عُلِمَ مكانُه أوْ لا؛ لحديث مسلمٍ
(1)
عن أبي هريرةَ مرفوعًا: نهى عن بَيعِ الغررِ. وفسَّرَه القاضي وجماعةٌ: بما تردَّدَ بين أمرينِ، ليسَ أحدُهما أظهرَ
(ولو) كانَ بيعُ آبقٍ وشاردٍ (لقادرٍ على تحصيلِهما) لأنَّه مجرَّدُ توهُّمٍ لا يُنافي تحقُّقَ عَدَمِه ولا ظنِّه، بخلافِ ظنِّ القدرةِ على تحصيلِ مغصُوبٍ.
ولا يَصحَّ بيعُ سَمَكٍ بماءٍ؛ لأنَّه غَرَرٌ، إلا سمكًا مَرئيًا لصَفاءِ الماءِ، بماءٍ مَحُوزٍ يَسهُلُ أخذُه منه كحوضٍ، فيصحُّ؛ لأنَّه معلومٌ ممكنٌ تسليمُه، كما لو كانَ بطَسْتٍ. فإنْ لم يَسهُلْ بحيثُ يَعجَزُ عن تَسليمِه، لم يصحَّ بيعُه. وكذا إنْ لمْ يكنْ مرئيًا، أو لمْ يكنْ بمحوزٍ، كمتَّصِلٍ بنَهَرٍ.
الشرط (السادس: معرفةُ الثمنِ) أبي: بأنْ يكونَ معلومًا للمتعاقدَينِ حَالَ العقدِ (والمُثمَنِ) أبي: المجيعِ حالَ العقدِ (إمَّا بالوَصفِ أو المشاهدةِ) حالَ العقدِ. لجميعِه، أو بعضِه الدالَ على بقيتِه، أو بالوصفِ؛ بأنْ يصِفَهُ بصِفَةٍ تَكفِي في السَّلَمِ فيه؛ بأن انضَبَطَتْ صفاتُه؛ بأنْ يقولَ: بعتُك عبدًا تركيًا. ثمَّ يَستَقصِي صِفَاتِ السَّلَمِ
(1)
أخرجه مسلم (1513).
حَالَ العَقدِ، أو قبلَه بيَسير.
السَّابِعُ: أن يكونَ منَجَّزًا، لا معلَّقًا، كـ: بِعتُكَ إذا جاءَ رأسُ الشَّهرِ. أو: إنْ رضِيَ زَيدٌ. ويَصِحُّ: بِعتُ وقَبِلتُ إنْ شاءَ اللهُ.
ومن باعَ مَعلُومًا ومجهُولًا لم يتَعذَّرْ عِلمُه، صَحَّ في المعلُومِ بقِسطِهِ،
فيه، فهذا في مَعنى السَّلَمِ، وليس سلَمًا؛ لحلُولِه.
فهذا يُشترطُ (حالَ العقدِ، أو قبلَه بـ) زمنٍ (يسيرٍ) أبي: بزَمَنٍ لا يتغيَّرُ فيه المبيعُ تَغيّرًا ظاهِرًا؛ لأنَّ شرطَ الصحَّةِ العِلمُ، وقد حَصَلَ بطريقِه، وهيِ الرؤيةُ المتقدِّمةُ. والمبيعُ منه ما يُسرِع فَسَادُه كالفَاكهةِ، وما يَتوسَّطُ كالحيوانِ، وما يتباعَدُ كالعَقَارَاتِ، فيُعتَبرُ كلُّ نَوعٍ بحَسَبِه.
الشرطُ (السابعُ: أن يكونَ مُنَجَّزًا) أبي: لا مُؤقَّتًا، و (لا مُعلَّقًا) بشَهرٍ أو سَنَةٍ (كـ: بِعتُكَ إذا جاءَ رَأسُ الشَّهرِ) أو رَأسُ السَّنَةِ (أو إن رضيَ زيدٌ) بكذا. فلا يصحُّ؛ لعدمِ العلمِ بذلك؛ لأنَّه عقدُ مُعاوَضَةٍ يَقتَضِي نَقلَ المِلكِ حَالَ العَقدِ، والشَّرطُ يَمنَعُه
(ويَصِحُّ: بِعتُ وقَبِلتُ إنْ شاءَ اللهُ) تَبرُّكًا لا مُتَرَدِّدًا.
قال عَمُّ والدي الشيخ مَرعيٌّ في "الغاية"
(1)
: ويَتَّجه: ولو للشَّكِّ.
(ومَنْ باعَ معلومًا ومجهولًا لم يتعذَّر عِلمُه) كهَذَا العَبدِ، وثَوبٍ غيرِ معيَّنٍ، (صحَّ) البيعُ (في المعلُومِ بقِسْطِه) مِن الثَّمَنِ، وبَطَلَ في المجهولِ؛ لأنَّ المعلومَ صدرَ فيه البيعُ من أهلِه بشَرطِه، ومَعرِفَةُ ثمنِه ممكنةٌ بتَقسيطِ الثمنِ على كلٍّ منهما، وهو ممكنٌ.
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 523).
وإن تَعذَّرَ مَعرِفةُ المَجهولِ، ولمْ يُبيَّن ثَمن المعلُومِ، فباطِلٌ.
(وإنْ تعذَّرَ معرفةُ المجهولِ، ولم يُبيَّنْ ثمنُ المعلومِ، فَباطِلٌ) كـ: بِعتُكَ هذِه الفَرَسَ، وحَملَ الأُخرَى بكذا، فلا يَصحُّ؛ لأنَّ المجهولَ لا يصحُّ بيعُه، لجهالتِهِ، والمعلومُ مجهولُ الثمنِ، ولا سبيلَ إلى معرفتِهِ؛ لأنَّها إنَّما تكونُ بتقسيطِ الثمنِ عليهما، والمجهولُ لا يمكنُ تقويمُه. فإنْ بيَّنَ ثمنَ كلٍّ منهما، صحَّ في المعلومِ بثمنِه.
فَصْلٌ
ويحرُمُ -ولا يَصِحُّ- بيعٌ ولا شِراءٌ في المَسجِدِ.
ولا مِمَّن تلزمُه الجُمُعةُ بعدَ ندائِها الذي عندَ المِنبَر، وكذا لو تَضَايَقَ وقتُ المَكتُوبةِ.
(فصلٌ) في مَوانعِ صِحَّةِ البَيعِ
(ويحرُمُ -ولا يَصِحُّ- بَيعٌ) ولو قَلَّ المبيعُ، في المسجدِ. وقال الموفَّقُ وجمعٌ: يَصِحُّ.
(ولا) يَصِحُّ (شراءٌ) ولو قلَّ (في المسجدِ) قال بَعضُهُم: يَنبغي: إلَّا في الشَّيءِ اليَسيرِ، فيَصِحُّ. وإجارَةٌ كبَيعٍ
(ولا) يصحُّ بيعٌ ولا شراءٌ، ولو قلَّ (ممَّنْ تلزمُه الجمعةُ) احترزَ به عن المريضِ، والمسافرِ، والعبدِ، فإنَّه يَصح مِنهُم البَيعُ والشِّرَاءُ (بعدَ ندائِها) أي: أذانِ الجمعةِ، أبي: الشُّرُوعِ فيه (الذي عندَ المِنبرِ) عَقِبَ جُلُوسِ الإمامِ عليه؛ لقولهِ تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجُمُعَة: 9]. والنَّهيُ يَقتَضِي الفسَادَ. وخُصَّ بالنِّدَاءِ الثَّاني؛ لأنَّه المعهودُ في زَمَنِه عليه السلام، فتعلَّقَ الحكمُ به. والشِّراءُ أحدُ شِقيِّ العَقدِ، فكانَ كالشِّقِّ الآخَرِ. ويستمرُّ التَّحريمُ إلى انقِضَاءِ الصَّلاةِ
(وكذا) لا يَصحَّ بيعٌ ولا شِراءٌ مِن مُكلَّفٍ (لو تَضايَقَ وقتُ المكتُوبةِ) ولو جُمُعَةٍ لم يُؤذَّن لها، حتى يُصلِيَها؛ لوجودِ المعنى الذي لأجلِه مُنِعَ من البيعِ والشراءِ بعد نداءِ الجمعةِ.
ولا بيعُ العِنَبِ أو العصيرِ لمُتَّخِذِهِ خَمرًا.
ولا بيعُ البَيضِ والجَوزِ ونحوهِما للقِمَار.
ولا بيعُ السِّلاح في الفِتنَةِ، أو لأَهلِ الحَربِ، أو قُطَّاعِ الطَّريقِ.
ولا بيعٌ قِنٍّ مُسلمٍ لكافِرٍ لا يَعتَقُ عَليه.
وعُلِمَ ممَّا سبقَ: صحةُ العقدِ ممَّنْ لا تلزمُه، كالعبدِ والمرأةِ والمسافرِ، وإباحتُه له، لكنْ إنْ كانَ أحدُهما تَلزمُه، ووُجِدَ منه الإيجابُ أو القَبولُ بعدَ النداءِ، حَرُمَ ولم يَنعقدْ؛ لما تقدَّمَ. قال الموفَّقُ والشارحُ: وكُرِهَ للآخَرِ
(1)
ويَصحُّ إمضاءُ بيع خيارٍ وبَقيَّةِ العقودِ، مِن إجارَةٍ، وصُلحٍ، وقَرضٍ، ورهنٍ، وغَيرِهَا، بعَدَ نِدَاءِ الجُمعةِ؛ لأنَّ النهيَ عن البَيعِ وغَيرِهِ لا يُسَاويه في التشاغُلِ المؤدِّي لفَوَاتِها.
وتحرُمُ مُساوَمَةٌ ومُنَادَاةٌ بعدَ نداءِ جُمُعَةٍ ثانٍ؛ لأنَّهُما وَسيلةٌ للبَيعِ المحرَّمِ إذَنْ.
وتحرُمُ أيضًا الصِّنَاعَاتُ كُلُّها.
(ولا) يَصحُّ (بيعُ العِنَبِ) أو زَبيبٍ ونَحوِه (أو العَصيرِ لمُتَّخذِه خمرًا) ولو ذِمِّيًّا.
(ولا) يَصحُّ (بيعُ البَيْضِ والجَوْزِ ونحوِهما) كبُندُقٍ (للقِمَارِ).
(ولا) يَصحُّ (بَيعُ السِّلاحِ) ونحوِه كتُرْسٍ ودِرْعٍ (في الفِتنَةِ، أو لأهلِ الحربِ، أو قُطَّاعِ الطَّريقِ) ممَّنْ عَلِمَ ذلك ولو بقَرَائِنَ.
(ولا) يَصحُّ (بيعُ قِنٍّ مُسلِمِ لِكافِرٍ) ولو وَكيلًا لمُسلِمٍ (لا يَعتِقُ عَلَيه) أي: عَلى الكافرِ؛ لأنَّه يُمنَعُ مِن استِدَامَةَ مِلكِه عليه، فمُنِعَ من ابتِدَائِه
(2)
، كالنِّكاحِ
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 157).
(2)
في الأصل: "فمنع ابتداؤه"، والمثبت من "كشاف القناع"(7/ 374).
ولا بَيعٌ على بَيعِ المُسلِم، كقولِه لمن اشترَى شيئًا بعشرَة: أعطيكَ مثلَهُ بتسعَةٍ، ولا شِراءٌ عليه، كقولِه لمن باعَ شَيئًا بتسعةٍ: عندي فيه عَشَرَةٌ.
وأمَّا السَّومُ على سَومِ المُسلِمِ مَعَ الرِّضا الصَّريحِ، وبيعُ المُصحَفِ،
فإنْ كانَ يَعتِقُ عليه، كأَبيهِ وابنِهِ وأَخيهِ، صحَّ شراؤُه له؛ لأنَّ مِلكَهُ لا يَستَقِرُّ عليه، بل يَعتِقُ في الحالِ، ويحصُلُ له من نَفعِ الحريَّةِ
(1)
أضعافُ ما حصَلَ مِن إهانةِ الرِّقِّ في لحظَةٍ يَسيرَةٍ.
(ولا) يَصحُّ (بيع على بيعِ المسلمِ) فإنَّه محرَّمٌ، لحديثِ:"لا يَبعْ بعضُكم على بيعِ بعضٍ"
(2)
. (كقولهِ لمن اشترى شيئًا بعشرةٍ: أُعطيك مثلَه بتِسعَةٍ).
(ولا) يصحُّ (شراءٌ عليه) أبي: على شِرَاءِ المسلمِ. محرَّمٌ (كقولِه لمَنْ باعِ شيئًا بتسعةٍ: عندي فيه عشَرَة) زمنَ الخيارينِ -خيارِ المجلسِ، وخيارِ الشرطِ- لأنَّ الشراءَ في معنى البيعِ، بل يُسمَّى بيعًا، ولما فيه من الإضرارِ بالمسلمِ، والإفسادِ عليه.
فإنْ كانَ بعدَ لزومِ البيعِ، لم يحرُمْ؛ لعدمِ التمكُّنِ من الفسخِ إذنْ.
(وأمَّا السَّومُ على سَومِ المسلمِ مع الرِّضا) من بائعٍ (الصَّريحِ): محرَّمٌ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "لا يَسُمِ الرَّجلُ على سَومِ أخيهِ" رواه مسلمٌ
(3)
. فإنْ لمْ يصرِّحْ بالرِّضا، لمْ يحرُمْ؛ لأنَّ المسلمينَ لمْ يزالوا يتبايعُونَ في أسواقِهم بالمزايدةِ.
(و) حَرُمَ (بيعُ المصحفِ) مُطلقًا؛ لما فيه من ابتذالهِ وتركِ تعظيمِه. ويصحُّ بيعُه
(1)
في الأصل: " الجزية"، والمثبت من "دقائق أولى النهى" 3/ 158.
(2)
أخرجه البخاري (2165)، ومسلم (1412) من حديث ابن عمر.
(3)
أخرجه مسلم (1413).
والأَمَةِ التي يَطؤُها قبلَ استبرائِها، فحرامٌ، ويَصِحُّ العَقدُ.
ولا يَصِحُّ التَّصرُّفُ في المقبوُضِ بعقدٍ فَاسِدٍ، ويُضمنُ هُوَ وزِيادتُهُ، كمَغصُوبٍ.
لمسلمٍ، ولا يصحُّ لكافرٍ.
(و) حَرُمَ بيعُ (الأمَةِ التي يطؤُها قبلَ استبرائِها، فحرامٌ) في الجميعِ (ويصحُّ العقدُ)
ويحرُمُ (ولا يصحُّ التصرُّفُ) في بيعٍ وهبةٍ وغيرِ ذلك (في المقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ) لأنَّ وجودَه كعدمِه، فلا يَنتَقلُ المِلكُ به (ويُضمنُ هو) أبي: المبيعُ المقبوضُ بعقدٍ فاسدٍ (و) تُضمنُ (زيادتُه) أي: مِن وَلدٍ، وثمرةٍ، وكسبٍ، وغيرِها (كمغصوبٍ) لحصولِه بيدِه بغيرِ إذنِ الشرعِ، أشبَهَ المغصوبَ، وعليه أجرةُ مثلِه ما كان بيدِه، ويردُّ زوائدَهُ المنفصلةَ، وعليه بدلُ ما تلفَ منه أو من زوائدِه.
بابُ الشُّروطِ في البَيعِ
وهِيَ قِسمَانِ:
صحيحٌ لازِمٌ، وفاسِدٌ مبُطِلٌ للبَيعِ.
فالصُّحيحُ: كَشرطِ تأجِيلِ الثَّمَنِ أو بَعضِهِ، أو رَهنٍ، أو ضَمينٍ مُعيَّنٍ.
(بابُ الشُّرُوطِ في البيع)
(1)
جمعُ شَرطٍ، ومعناه لغةً: العلامةُ.
واصطلاحًا: ما يلزمُ من عدمِه العدمُ، ولا يلزمُ من وجودِه وجودٌ ولا عدمٌ.
والمرادُ هنا "في البيعِ": ما يَشتَرِطُه أحَدُ المتعاقِدَين على الآخَرِ فيه
(وهي) أبي: الشُّروطُ (قِسمانِ):
(صَحيحٌ لازمٌ) ليسَ لمن اشتُرِطَ عَليهِ فَكُّهُ.
(و) القِسمُ الثاني: (فاسِدٌ مُبطلٌ للبيعِ) يحرُمُ اشتراطُهُ
(فالصحيحُ كشرطِ تأجيلِ الثَّمنِ، أو) تأجيلِ (بعضِه) إلى وقتٍ معلومٍ
(أو) اشتراطِ (رهنٍ) معيَّنٍ به (أو) اشتراطِ (ضمينٍ) به (معيَّنٍ) أبي: الرَّهنِ والضَّمينِ. وكذا شَرطُ كَفيلٍ. ويَدخُلُ فيه: لو باعَهُ وشرطَ عليه رَهنَ المبيعِ على ثمنِه، فيصحُّ، نصًّا. فإذا قال: بعتُك هذا العبدَ بكذا على أن ترهنِنيهِ على ثمنِه. فقال: اشتريتُ ورهنتُكَ، صحَّ الشراءُ والرَّهنُ
(1)
"في البيع" ليست في الأصل.
أو شَرطِ صِفَةٍ في المَبيعِ، كا لعَبدِ كَاتِبًا، أو صَانِعًا، أو مُسلِمًا. والأَمةِ بِكرًا، أو تَحيضُ. والدَّابَّةِ هِملاجَةً، أو لَبُونًا، أو حَامِلًا. والفَهْدِ أو البَازِيِّ صَيُودًا.
فإن وُجِدَ المَشرُوطُ، لَزِمَ البَيعُ، وإلَّا فلِلمُشتَري الفَسخُ، أوأَرْشُ فَقدِ الصِّفَةِ.
ويَصِحُّ أن يَشرُطَ البائعُ على المُشتَري منفعةَ ما باعَهُ مُدَّةً معلُومَةً، كَسُكْنَى الدَّار شَهرًا، وحِملانِ الدَّابَّة
(أو شرطِ صفةٍ في المبيعِ، كالعبدِ كاتبًا، أو صانعًا) أبي: خيَّاطًا ونحوَه (أو مُسلِمًا. و) كونِ (الأَمَةِ بِكرًا، أو تحيضُ. و) كونِ (الدَّابة هِمْلاجةً) بكسر الهاءِ؛ أبي: تمشي الهَمْلَجةَ، وهي مِضيةٌ سهلةٌ في سرعةٍ (أو) كونِ الدَّابةِ (لَبُونًا) أبي: ذاتَ لبنٍ (أو) كونِها (حاملًا. و) كونِ (الفهدِ، أو البَازِيِّ صَيُودًا) أبي: معلَّمَ الصيدِ
(فإنْ وجدَ) المشتري (المشروطَ) أبي: بأنْ حصلَ لمَنْ اشترَطَ شرطُهُ (لزِمَ البيعُ، وإلا) بأنْ لمْ يحصُلْ له شَرطُه (فللمُشتَرِي الفَسخُ) لفَواتِ الشرطِ، (أو أرشُ فَقْدِ الصِّفَةِ) يعني: أنَّ مَنْ فاتَ شرطُه يُخيَّرُ بين الفَسخِ وبينَ الإمسَاكِ، مع أرشِ فقدِ الصِّفةِ التي شَرَطَها؛ إلحاقًا له بالعيبِ.
قال الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع"
(1)
: قلتُ: فيُؤخذُ منه: أنَّ الأرشَ قِسطُ ما بين قيمتِه بالصِّفةِ وقيمتِه مع عدمِها من الثمنِ.
(ويصحُّ أنْ يشرُطَ
(2)
البائعُ على المشتري مَنفَعَةَ مَا باعَهُ مُدَّةً معلُومةً، كسُكنى الدَّارِ) المبيعةِ
(3)
(شهرًا) أو أقلَّ منه أو أكثرَ (وحِملانِ الدَّابةِ) المبيعة
(4)
، كبعيرٍ،
(1)
"كشاف القناع"(7/ 391).
(2)
في الأصل: "يشترطَ".
(3)
في الأصل: "المبيتة".
(4)
في الأصل: "الميتةِ".
إلى مَحَلٍّ مُعيَّنٍ.
وأن يشتَرِطَ المُشتَرِي على البَائِعِ حَمْلَ ما بَاعَهُ، أو تَكسِيرَهُ، أو خِيَاطَتَهُ، أو تَفصِيلَهُ.
ونحوِه (إلى محلٍّ معيَّنٍ) وكاشتِراطِه خدمةَ العَبدِ المبيعِ مُدَّةً معلُومَةً، فيصحُّ. نصًّا.
(و) يَصِحُّ (أنْ يشتَرِطَ على البائعِ حملَ ما باعَهُ، أو تكسيرَهُ، أو خياطتَه، أو تفصيلَه) أو حصادَ زَرعٍ، أو جَزَّ رَطْبَةٍ، وضَربَ قِطعَةِ حَديدٍ اشتَرَاها منه سيفًا أو نحوَه.
فَصْلٌ
والفَاسِدُ المُبطِلُ: كشَرطِ بَيعٍ آخَرَ، أو سَلَفٍ، أو قَرْضٍ، أو إجَارَةٍ، أو شَرِكَةٍ، أو صَرفٍ للثَّمَنِ
وهو بيعتَانِ في بَيعَةٍ المَنهِيُّ عنه.
(فصلٌ)
(والفاسدُ المبطلُ) للعقدِ من أصلِه (كشرطِ بيعٍ آخرَ) كـ: بِعْتُك هذه الدارَ، على أن تَبيعَني هذِه الفَرَسَ.
(أو) شَرطَ (سلَفٍ) كـ: بِعتُكَ عَبدي، على أن تُسلِفَنى كذا في كذا.
(أو) شرطِ (قرضٍ) كـ: على أن تُقرِضَني كذا.
(أو) شرطِ (إجارةٍ) كـ: على أن تُؤجِرَني دارَكَ بكذا.
(أو) شرطِ (شركةٍ) كـ: على أن تُشارِكَني في كذا.
(أو) شرطِ (صرفٍ للثَّمَنِ) كـ: بعتُكَ الأمةَ بعشَرَةِ دنانيرَ، على أن تصرِفَها بمائةِ درهمٍ.
أَو شرطِ صرفِ غيرِه، أي: الثمنِ، كـ: بعْتُكَ الثوبَ، على أن تَصرِفَ ليَ هذه الدَّنانيرَ بدَرَاهِمَ
(وهو) أبي: هذا النوعُ: (بيعتانِ في بيعةٍ المنهيُّ عنه) قال أحمدُ: والنهيُ يقتضي الفسادَ. وقال ابنُ مسعودٍ: صفقتانِ في صفقةٍ ربًا
(1)
.
(1)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1053).
وكَذَا كُلُّ ما كَانَ في معنَى ذلِكَ، مِتلَ: أنْ تُزوِّجَني ابنتَكَ، أو: أُزوِّجَكَ ابنَتي، أو: تُنفِقَ على عَبدِي، أو دابتي.
ومن باعَ ما يُذرَعُ على أنَّه عشَرَةٌ، فبانَ أكثَرَ أو أقلَّ، صَحَّ البيعُ، ولِكُلٍّ الفَسخُ.
(وكذا كلُّ ما كان في معنى ذلكَ، مثلَ) أنْ يقولَ: بعتُكَ داري بكذا، على (أن تُزوِّجَني ابنتَكَ، أو) على أنْ (أُزوِّجَكَ ابنتي. أو: تُنفِقَ على عَبدِي، أو: دابتي) لأنَّه شَرطُ عقدٍ في عقدٍ، فلم يصحَّ، كنِكَاحِ الشِّغَارِ.
(ومَنْ باعَ ما) أبي: شيئًا (يُذرَعُ) كأرضٍ وثوبٍ (على أنَّه عشرةُ) أذرعٍ، أو أشبارٍ، أو أجربةٍ ونحوِها (فبانَ) المبيعُ (أكثرَ) ممَّا عيَّنَ (أو أقلَّ) ممَّا عيَّنَ (صحَّ البيعُ) والزائِدُ لبائعٍ؛ لأنَّ ذلك نقصٌ على المشتري، فلم يَمنعْ صحَّةَ البيعِ، كالعيب. وإن بانَ أقلَّ ممَّا ذُكِرَ فكذلك، أبي: فالبيعُ صحيحٌ؛ لأنَّ ذلك نقصٌ حصلَ على البائعِ، فلم يمنعْ صحَّةَ البيعِ، والنقصُ على البائعِ؛ لأنَّه التزمَهُ بالبيعِ
(ولكلٍّ) من بائعٍ ومشترٍ (الفَسخُ) لضَررِ الشركةِ في الزائدِ، إلا أنَّ المشتري إذا أعطىَ الزائدَ مجانًا بلا عوضٍ، فلا فسخَ له؛ لأنَّ البائعَ زادَهُ خيرًا.
ولمشترٍ الفسخُ لنقصِ المبيعِ، وله إمضاءُ البيعِ بقسطِه من الثمنِ برضى البائعِ؛ لأنَّ الثمنَ يقسَّطُ على كلِّ جزءٍ من أجزاءِ المبيعِ، فإذا فاتَ جزءٌ استحقَّ ما قابَلَه من الثمنِ. وإن لم يرضَ البائعُ بأخذِ المشتري له بقِسطِه، فللمُشتَري الفسخُ؛ دفعًا لذلك الضررِ.
بابُ الخِيار
وأَقسامُه سَبعةٌ:
أحدُهما: خِيارُ المَجلِسِ.
ويثبُتُ للمتَعَاقِدَينِ مِنْ حِينِ العَقدِ إلى أن يتفرَّقَا،
(بابٌ) يُذكرُ فيه أقسامُ (الخيارِ)
اسمُ مصدرِ اختارَ يختارُ اختِيارًا، لا مَصدَرُهُ؛ لعَدَمِ جَرَيانِه على الفِعل.
وهو: طَلبُ خيرِ الأمرَيْن: الفَسخُ، والإمضاءُ
(وأقسامُهُ) أبي: الخيارِ (سَبعةٌ) زاد في "المنتهى": ثامِنًا. والمصنِّفُ تبعَ صاحبَ "الإقناعِ":
(أحدُها: خيارُ المجلِسِ) بكَسرِ اللامِ: مَوضِعُ الجلوسِ، والمرادُ هنا: مكانُ التبايعِ
(ويثبتُ) خيارُ المجلسِ (للمتعَاقِدَينِ) من بائعٍ ومُشتَرٍ (مِن حينِ العَقدِ إلى أن يتفرَّقَا) أبي: بما يعدَّه الناسُ تفرُّقًا عُرْفًا؛ لإطلاقِ الشارعِ التفرُّقَ، وعدمِ بيانِه، فدلَّ أنَّه أرادَ ما يعرفُه الناسُ.
فإنْ كانا في مكانٍ واسعٍ، كمجلسٍ كبيرٍ وصحراءَ، فبمشي
(1)
أحدِهما مُستَدبِرًا لصَاحِبِه خُطُواتٍ، ولو لم يَبعُدْ عنه، بحيثُ لا يسمعُ كلامَه في العادةِ، خلافًا "للإقناع".
(1)
في الأصل: "فيمشي".
من غيرِ إكراهٍ، ما لم يَتبايَعا على أنْ لا خِيَار، أو يُسقِطَاه بعدَ العَقدِ، وإن أسقَطَه أحدُهُما بَقِيَ خِيارُ الآخَر.
ويَنقَطِعُ الخِيارُ بمَوتِ أحَدِهما، لا بِجُنُونِه، وهو على خِيارِه إذا أفَاقَ.
وتحرُمُ الفُرقَةُ من المَجلِس خَشيةَ الاستِقَالَة.
وإنْ كانا في دارٍ كبيرةٍ ذاتِ مجالسَ وبُيُوتٍ، فبِمُفارَقَتِه إلى بيتٍ آخرَ، أو مجلسٍ، أو صُفَّةٍ ونحوِها.
وإنْ كانا في دارٍ صغيرةٍ، فبصعودِ أحدِهما السطحَ، أو خروجِه منها.
وإنْ كانا بسفينةٍ كبيرة، فبصعودِ أحدِهما أعلاها إنْ كانا أسفلَ، أو نزولِه أسفلَها إنْ كانا أعلاها. وإنْ كانتْ صغيرةً، فبخروجِ أحدِهما منها
(من غير إكراهٍ) لهما أو لأحَدِهما على التفرُّقِ (ما لمْ يتبايَعَا على أن لا خِيَارَ) بينَهُما، فيلزمُ البيغ بمجرَّدِه (أو يُسقِطَاه) أي: الخيارَ (بعد العقدِ) أي: البيعِ قَبلَ التفرُّقِ؛ لأنَّه حقٌّ ثبَتَ للمُسقِطِ بعقدِ البيعِ، فسقَطَ بإسقَاطِه، كالشُّفعَةِ
(وإنْ أسقطَه) أي: الخيارَ (أحدُهما) أي: المتبايِعَينِ (بقِيَ خيارُ الآخَرِ) أي: خيارُ صاحبِه
(وينقطعُ الخِيارُ بمَوتِ أحَدِهما) أي: المتعاقِدَينِ؛ لأنَّ الموتَ أعظمُ الفُرقَتينِ، و (لا) يَنقَطِعُ الخيارُ (بجنُونِه) في المجلِسِ، لعدَمِ التفرُّقِ، (وهو) أي: المجنونُ (على خيارِه إذا أفاقَ) من جنونِه. ولا يثبتُ الخيارُ لوليِّه؛ لأنَّ الرغبةَ في المبيعِ أو عدمَها لا تُعلَمُ إلا من جهتِه. وإنْ خرِسَ، قامتْ إشارتُه مقامَ نُطقِهِ
(وتحرُمُ الفُرْقةُ من المجلسِ خشيةَ الاستقالَة)
(1)
أي: خشيةَ أنْ يفسخَ صاحبُه
(1)
في الأصل: "الانتقال".
الثَّانِي: خيارُ الشَّرط.
وهو أن يَشْرِطَا -أو أحدُهُما- الخِيارَ إلى مُدَّةٍ معلُومَةٍ، فَيصِحُّ، وإنْ طالَت، لكنْ يَحرُئم تصرُّفُهما في الثَّمَن والمُثمَنِ في مُدَّةِ الخِيار.
البيعَ في المجلسِ، لحديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مرفوعًا:"البائعُ والمبتاعُ بالخِيارِ حتى يتفرَّقا، إلا أنْ يكونَ صَفْقَةَ خيارِ، فلا يحلُّ له أنْ يفارِقَ صاحبَهُ، خشيةَ أنْ يستقيلَهُ". رواه النسائيُّ، والأثرمُ، والترمذيُّ
(1)
وحسنَهُ.
وما رُوِيَ عن ابن عمرَ: أنَّه كان إذا اشترَى شيئًا يعجبُهُ، مشىَ خُطُواتٍ؛ ليلزمَ البيعُ
(2)
. محمولٌ على أنَّه لم يَبلُغْهُ الخبرُ.
(الثاني) من أقسامِ الخيارِ: (خيارُ الشَّرطِ. وهو أن يَشرِطَا) أي: العَاقِدَانِ الخيارَ (أو أحدُهما) في صُلْبِ العقدِ، أو بعدَهُ، زمَنَ الخيارَيْنِ: خِيارِ الشرطِ، وخيارِ المجلسِ؛ لأنَّه بمنزلةِ حالِ العقدِ (الخيارَ إلى مَدَّةٍ معلومةٍ) ولو فوقَ ثلاثةِ أيامٍ (فيصحُّ) الشرطُ، ويثبتُ الخِيارُ فيها (وإنْ طالَتْ) المدَّةُ، لعُمُومِ قولِه عليه السلام:"المسلمونَ على شروطِهم"
(3)
. ولأنَّه حقٌّ مقدورٌ يَعتَمِدُ الشرطَ، فيُرجعُ في تَقديرِه إلى شَرطِه.
(لكن يحرُمُ تصرُّفُهما) أي: المتبايعينِ (في الثمنِ والمُثمَنِ) أمَّا تحريمُ تَصرُّفِ البائِعِ في المبيعِ، فَلِكَونِه لا يَملِكُه. وأمَّا تحريمُ تصرُّفِ المشترِي فيه؛ فلِكَونِ المبيعِ لم تنقَطِعْ عِلَقُ البائعِ منه (في مدَّةِ الخِيارِ) أي: خيارِ الشرطِ والمجلسِ
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ (4483)، والترمذي (1247)، وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه مسلم (1531).
(3)
أخرجه أبو داود (3594) من حديث أبي هريرة. قال الألباني: حسن صحيح.
وينتَقِلُ المِلكُ من حينِ العَقدِ، فَمَا حَصَل في تِلكَ المُدَّة من النَّماءِ المُنفَصل، فلِلمُنتَقِلِ له، ولو أنَّ الشَّرطَ للآخَرِ فَقط.
(وينتقلُ المِلكُ) في مبيعٍ إلى مُشتَرٍ، وفي ثمَنٍ إلى بائعٍ (من حينِ العقدِ)
سواءٌ شرَطا الخيارَ لهما، أو لأحدِهما أيَّا كانَ؛ لظاهرِ حديثِ:"مَنْ باعَ عبدًا، وله مالٌ، فمالُهُ للبائِع، إلا أنْ يَشرِطَه المبتاعُ". رواه مسلمٌ
(1)
. فجعلَ المالَ للمبتاعِ باشتراطِه، وأطلقَ البيعَ، فشملَ بيعَ الخيارِ، ولأنَّ البيعَ تمليكٌ؛ بدليلِ صحتِه بقولِ: ملَّكتُكَ. فيثبتُ به المِلكُ في بيعِ الخيارِ، كسائرِ البيوعِ. يحققُهُ: أنَّ التمليكَ يدلُّ على نقلِ المِلكِ إلى المشتري، ويقتضيه
(2)
لفظُه، وثبوتُ الخيارِ فيه لا يُنافيه.
(فما حصلَ) في البيعِ (في تلك المدَّةِ) أي: مدَّةِ الخيارِ (من النَّماءِ المنفصِلِ) كثمرةٍ، وولدٍ، ولبنٍ -واحترزَ بالمنفصلِ عن المتصلِ، كسِمَنٍ ونحوِه، فإنَّه يتَبعُ العقدَ -وكَشبٍ، أو أُجرةٍ. ولو حَصلَ في يدِ بائعٍ قبلَ قبضٍ.
(فللمُنتَقلِ له) أي: المشتري. جوابُ: "فما حصلَ"، أو خَبَرُهُ، أي: نَمَاءُ المبيعِ زَمَنَ الخيارينِ، وكسبُه، للمُشتَري. قال في "الإقناع"
(3)
: أمضياهُ، أو فسَخَاهُ. قال الشيخُ منصورٌ في "شرحه"
(4)
عليه: لأنَّ الفسخَ رفغ للعقدِ من حينِ الفسخِ، لا من أصلِه (ولو أنَّ الشرطَ للآخرِ فقط) أي: للبائعِ فقَط.
(1)
أخرجه مسلم (1543) من حديث ابن عمر.
(2)
في الأصل: "يقضيه"، والمثبت من "دقائق أولى النهى" 3/ 191.
(3)
"الإقناع"(2/ 205).
(4)
"كشاف القناع"(7/ 427).
ولا يفتَقِرُ فَسخُ مَن يملِكُه إلى حُضورِ صَاحِبهِ، ولا رِضَاهُ، فإن مَضَى زمنُ الخِيَارِ ولم يُفسَخ، صارَ لازِمًا.
ويسقُطُ الخِيارُ بالقَولِ، وبالفِعلِ، كتَصرُّفِ المُشتَري في المَبيع بَوقفٍ، أو هِبَةٍ، أو سَومٍ، أو لَمْسٍ لشَهَوةٍ، ويَنفُذُ تصرُّفُه إن كان الخيارُ له فقط.
(ولا يَفتَقِرُ فسخُ مَنْ يملِكُه) من المتبايِعَينِ (إلى حُضُورِ صاحبِه) العاقِدِ معَهُ (ولا) إلى (رِضَاهُ) لأنَّ الفسخَ حَلٌّ عقدٍ جُعِلَ إليه، فجازَ في غيبةِ صاحبِه، ومع سُخْطِه، كالطلاقِ.
(فإنْ مضىَ زمنُ الخيارِ) أي: خيَارِ الشرطِ (ولم يَفسَخِ) البيعَ مَشرُوطٌ له (صَارَ لازمًا) أي: البيعُ؛ لأنَّه لو لم يَلزمْ لأفضَى إلى بقاءِ الخيارِ أكثرَ من مُدَّتِه المشترطةِ، وهو لا يثبتُ إلا بالشرطِ.
(ويسقُطُ الخِيارُ بالقولٍ، وبالفعلِ، كتصرُّفِ المشتري في المبيعِ بوقفٍ، أو هبة، أو سَوْمٍ، أو لمسٍ لشهوةٍ) ونحوِه كتَقبيلِها (وينفُذُ تصرُّفُه) ويكونُ إمضاءً للبَيعِ، وإسقاطًا لخيارِه؛ لأنَّه دليلُ الرِّضَا بالبيعِ. وكذا يَسقُطُ خيارُه برهنٍ، وإجارةٍ، ومساقاةٍ (إنْ كانَ الخيارُ له) أي: للمُشتَري (فقط) وكذا بتصرُّفِ بائعٍ في الثمنِ، إنْ كان الخيارُ له وحدَهُ.
وإنْ تصرَّفَ البائعُ في المبيعِ، لم ينفُذْ تصرُّفُه، ولو كان عِتْقًا؛ لانتقالِ المِلكِ عنه للمشتري، سواءٌ كان الخيارُ له وحدَهُ، أو لا؛ بأنْ كان للمشتري وحدَهُ أو لهما، إلا إذا تصرَّفَ البائعُ في المبيعِ بإذنِ مُشتَرٍ، فيَصحُّ، ويَكونُ إذنُ المشتَري تَوكيلًا للبَائِعِ في التَّصرُّفِ، ويكونُ تصرُّفِ البائعِ بإذنِ المشتري في المبيعِ مسقطًا لخيارِه.
الثَّالِثُ: خيارُ الغَبْن.
وهو أن يَبيعَ ما يُساوِي عشَرَةً بثمانِيةٍ، أو يَشتَرِيَ ما يُساوي ثمانيَةً بعشَرَةٍ، فيثبُتُ الخِيَارُ، ولا أَرشَ معَ الإمسَاك.
(الثالثُ) من أقسامِ الخيارِ: (خيارُ الغَبْنِ) بسكونِ الباءِ. مصدر
(1)
غبَنَه: مِن بابِ ضَرَبَ، إذا خدَعَهُ
(وهو) أي: خيارُ الغَبْنِ (أنْ يبيعَ ما يُساوي عشَرَةَ) دراهمَ (بثمانيةِ) دراهمَ، (أو يشتريَ ما يساوي ثمانيةَ) دراهمَ (بعشَرَةِ) دراهمَ (فيثبتُ الخيارُ، ولا أرشَ مع الإمساكِ)
ويُقبلُ قولُه مع يمينِه أنَّه جاهلٌ بالقيمةِ؛ لأنَّه الأصلُ، ما لم تكنْ قرينةٌ تكذِّبُهُ في دعوى الجهلِ، فلا تُقبلُ منه.
وقال ابنُ نصر الله: الأظهرُ احتياجُه، يعني: في دعوى الجهل بالقيمةِ، إلى بيِّنةٍ؛ لأنَّه ليس ممَّا تتعذَّرُ البيِّنَةُ به
(2)
.
وكذا إجارةٌ، يَثبُتُ فيها خِيارُ الغَبْنِ، إذا جَهِلَ أُجرَةَ المثلِ، ولم يُحسنِ المماكسةَ فيها.
فإنْ فَسخَ المغبونُ في أثنائِها، أي: أثناءِ مُدَّةِ الإجارةِ، كان الفسخُ رفعًا للعَقدِ من أصلِه، ويَرجِعُ المؤجِّرُ، إنْ كانَ هو الفاسخَ، على المستأجِرِ بالقِسطِ من أُجرَةِ المثلِ، لا بالقِسطِ من المسمَّى في الإجارةِ؛ لأنَّه لو رَجَعَ عليه بذلك لم يَستَدرِكْ ظُلامَةَ الغبنِ
(3)
؛ لأنَّه يلحقُه
(4)
فيما يلزمُه من ذلك لمدَّتِه. ويُفارِقُ ما لو ظَهَرَ
(1)
سقطت: "مصدر" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(7/ 435).
(3)
سقطت: "الغبن" من الأصل.
(4)
في الأصل: "لا يلحقه".
الرَّابِعُ: خيارُ التَّدلِيس.
وهو أن يُدَلِّسَ البائِعُ على المُشتَري ما يزَيدُ به الثَّمنُ، كتَصرِيَةِ اللَّبنِ في الضَّرعِ، وتَحمِيرِ الوَجهِ، وتَسويدِ الشَّعرِ، فيحرُمُ، ويثبتُ للمُشتَرِي الخِيَارُ،
على
(1)
عَيبٍ في الإجارةِ، ففَسَخَ: أنَّه يرجِعُ عليه بقِسطِه مِن المسمَّى؛ لأنَّه يَستَدرِكُ ظُلامَتَه بذَلِكَ؛ لأنَّه يَرجِعُ بقِسطِه منها مَعيبًا، فيرتَفِعُ عنه الضرَّرُ بذلك. قال المجدُ: نقلتُه من خطِ القاضي على ظهرِ الجزءِ الثلاثين من "تعليقه"
(2)
.
والغَبْنُ محرَّمٌ؛ لأنَّه تَغريرٌ
(3)
وغِشٌ. والعقدُ صحيحٌ.
(الرابعُ) من أقسامِ الخيارِ: (خيارُ التدليسِ) مِن الدَّلَسِ، بالتحريكِ، بمعنى: الظُّلمَةِ؛ كأنَّ البائعَ بفعلِه الآتي صيَّرَ المشتَرِيَ في ظُلمَةٍ
(وهو) أي: التدليسُ (أنْ يُدَلِّسَ البائعُ على المشتري ما يزيدُ به الثَّمنُ) وإنْ لمْ يكنْ عيبًا (كتَصْريةِ اللَّبنِ) أي: جمعِه (في الضَّرْع) أي: ضرعِ بهيمةِ الأنعامِ؛ لما روى أبو هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصَرُّوا الإبلَ والغَنمَ، فمَنْ ابتاعَها، فهو بخيرِ النَّظَرَينِ بعدَ أنْ يحلبَها، إنْ شاءَ أمسَكَ، وإنْ شاءَ ردَّها وصاعًا من تَمرٍ" متفقٌ عليه
(4)
.
(و) كـ (تحميرِ الوجهِ، وتسويدِ الشَّعَرِ) من رقيقٍ، وتجعيدِه، والجعدُ: ضدُّ السَّبْطِ
(فيحرُمُ) التدليسُ (ويثبتُ للمشتري) بالتدليسِ (الخِيارُ) أي: خيارُ الرَّدِّ
(1)
سقطت: "على" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(7/ 436).
(3)
في الأصل: "لا لتقريرٍ".
(4)
أخرجه البخاري (2148)، ومسلم (1515).
حتَّى ولَو حَصَل التَّدلِيسُ من البائِع بلا قَصْدٍ.
الخَامِسُ: خِيارُ العَيبِ.
(حتى ولو حصلَ التدليسُ) في مبيعٍ (من البائعِ بلا قصدٍ) كحُمرَةِ وَجهِ جارِيَةٍ؛ لخَجَلٍ أو تَعَبٍ ونحوِه؛ لأنَّه لا أثرَ له في إزالةِ ضررِ المشتري.
فإنْ علمَ مشترٍ بتدليسٍ، فلا خيارَ له؛ لدخولِه على بصيرةٍ. وكذا لو دلَّسَه بما لا يزيدُ به الثمنُ، كتسبيطِ الشَّعَرِ؛ لأنَّه
(1)
لا ضَرَرَ بذلك على مُشترٍ.
وخيارُ التدليسِ على التراخي، إلَّا المُصَرَّاةَ، فيخيَّرُ ثلاثةَ أيَّامٍ مِنهُ مُنذُ عَلِمَ، بين إمساكٍ بلا أَرشٍ، ورَدٍّ مَعَ صاعِ تمرٍ سليمٍ إنْ حلبَها. فإنْ عَدِمَ التَّمرَ، فقيمتُه. ويُقبَلُ رَدُّ اللَّبنِ بحالِه لم يتغيرْ، بدَلَ التَّمرِ، كردِّها به قبلَ الحَلْبِ، إن ثبتتِ التصريةُ.
وله ردُّ مُصرَّاةٍ مِن غَيرِ بهيمةِ الأنعامِ، كأمَةٍ وأتانٍ، مجَّانًا؛ لأنَّه لا يُعتاضُ عنه عادةً. قال في "الفروع": كذا قالوا، وليس بمانعٍ. وقال المنقِّحُ: بل بقيمةِ ما تلِفَ من اللَّبنِ، يعني: إنْ كان له قيمةٌ
(2)
.
(الخامسُ) من أقسامِ الخيارِ: (خِيارُ العَيبِ) وما بمعنَاه. وهو نقصُ مبيعٍ، أو نصٌّ قيمتِه عادةً. فما عدَّه التجارُ منقِصًا، أُنيطَ الحكمُ به؛ لأنَّه لم يردْ في الشرعِ نصٌّ في كلِّ فردٍ منه، فرُجعَ فيه إلى أهل الشأنِ: كمَرَضٍ بحيوانٍ يحوزُ بيعُه، وبَخَرٍ في عبدٍ، أو أمَةٍ، وحَوَلٍ، وخَرَسٍ، وكَلَفٍ، وطَرَشٍ، وقَرَعٍ، وفَتْقٍ، ورَتَقٍ، واستحاضةٍ، وجنونٍ، وسُعالٍ، وبُحَّةٍ، وحملِ أَمَةٍ، لا بهيمةٍ، وزنا مَنْ بلغَ عشرًا من عبدٍ وأمَةٍ. وشُربه مسكرًا، وسرقتِه، وإباقِه، وبولِه في فراشِه، وحُمْقِ بالغٍ، وهو:
(1)
سقطت: "لأنَّه" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 201).
فإذا وَجَدَ المُشتَرِي بمَا اشتراهُ عَيبًا يَجهَلُهُ، خُيِّرَ بينَ ردِّ المَبيعِ بنَمَائِه المُتَّصِل، وعلَيهِ أُجرةُ الرَّد، ويَرجِعُ بالثَّمَنِ كامِلًا، وبينَ إمسَاكِهِ، ويأخذُ الأَرشَ.
ارتكابُهُ الخطأَ على بصيرةٍ. وكونِ الرقيقِ أعسرَ لا يعملُ بيمينِه عملَها المعتادَ، وعدمِ ختانِ ذَكَرٍ، وعثرةِ مركوبٍ، وعَضِّه، ورفسِه، وحَرْنِه، وكونِه شَمُوسًا، أو بعينِهِ ظَفَرةٌ.
وما في معنى العيبِ: كطولِ مدَّةِ نقلِ ما في دارٍ مبيعةٍ عُرْفًا؛ لطول تأخيرِ تسليمِ المبيعِ بلا شرطٍ، كما لو كانت مُؤجَّرةً. فإنْ لم
(1)
تطُلِ المدَّةُ عُرْفًا، فلا خيارَ. وبقٍّ في دارٍ مبيعةٍ، ودَلَمٍ، وكونِ الدارِ ينزلُها الجندُ
(فإذا وجدَ المشتري بما اشتراهُ عيبًا) ممَّا ذُكِرَ، وما في معناه، وكان (يجهلُه) أي: يجهلُ المشتري العيبَ حين العقدِ، ثمَّ بانَ، أي: ظهَرَ له، فإنْ كان عالمًا به، فلا خيارَ له، لدخولِه على بصيرةٍ
(خُيِّرَ بينَ ردِّ المبيع) المعيبِ (بنمائِه المتَّصلِ) فلا يردّ مشتري نماءً منفصلًا، كثمرة، وولدِ بهيمةٍ (وعليه) أي: المشتري (أُجرةُ الرَّدِّ) إلى البائِع؛ لحديثِ: "على اليدِ ما أخذتْ حتى تُؤدِّيَهُ"
(2)
. (ويرجعُ بالثَّمَنِ كاملًا) لأنَّ المشتري بالفسخ استحقَّ استرجاعَ جميع الثمنِ، حتى ولو وهبَهُ البائعُ، أو أبرَأَهُ منه، ثمَّ فسَخَ، رجعَ بكلِّ الثمنِ
(وبينَ إمساكهِ) أي: المبيعِ (ويأخذُ الأرشَ) إنْ شاءَ؛ لأنَّ المتبايعين تراضيَا
(1)
سقطت: "لم" من الأصل.
(2)
أخرجه أبو داود (3561)، والترمذي (1266) من حديث سمرة. وضعفه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على أنَّ العِوضَ في مقابلة المبيعُ، فكلُّ جزءٍ منه يقابلُه جزءٌ من الثمنِ، ومع العيبِ فاتَ، فلهُ الرجوعُ ببدلِه، وهو الأرشُ، وهو: قسطُ ما بين قيمتِه صحيحًا ومعيبًا. فيُقوَّمُ المبيعُ صَحيحًا ثم مَعيبًا
(1)
، ويُؤخذُ قسطُ ما بينهما من الثمنِ. فإنْ قُوِّمَ صحيحًا بعشرةٍ، ومعيبًا بثمانيةِ، رجعَ بخمسِ الثَّمَنِ، قليلًا أو كثيرًا.
ما لم يُفضِ إلى ربًا
(2)
، كشراءِ حليِّ فضةٍ بزنتِه دراهمَ، أو قفيزٍ ممَّا يجري فيه الرِّبا، اشتراه بمثلِه، ثمَّ وجدَهُ معيبًا، فله الردُّ، أو الإمساكُ مجانًا، أي: من
(3)
غير أرشٍ؛ لأنَّ أخذَ الأرشِ يؤدِّي إلى ربا الفضلِ
(4)
، أو إلى مسألةِ "مُدِّ عجوةٍ".
"تنبيهٌ": إذا وجبَ الأرشُ فهل هو من عينِ الثمنِ، أو صما شاءَ البائعُ؟ فيه احتمالان، أطلقَهما في "الفروع"، و"التلخيص"، و"الرعاية"، والزركشي، وغيرهم:
أحدُهما: يأخذُه من عينِ الثمنِ، مع بقائِه؛ لأنَّه فسخٌ أو إسقاطٌ. قالَهُ القاضي في موضع من "خلافه". قال في "تصحيح الفروع": وهو الصَّوابُ.
والوجه الثاني: يأخذُه من حيثُ شاءَ البائعُ. وقاله
(5)
القاضي أيضًا في موضعٍ من "خلافه". قال في "تصحيح الفروع": وهو ظاهر كلام كثيرٍ من الأصحابِ،
(1)
سقطت: "فيُقوَّمُ المبيعُ صَحيحًا ثم مَعيبًا" من الأصل. والمثبت من "الروض المربع"(4/ 446).
(2)
في الأصل: "رضى".
(3)
سقطت: "من" من الأصل.
(4)
في الأصل: "الرِّبا وهو بالفضلِ"، وانظر "كشاف القناع"(7/ 448).
(5)
في الأصل: "وقال".
ويَتعيَّنُ الأَرشُ مع تَلفِ المَبيعِ عِندَ المُشتَري، ما لم يَكُن البائِعُ عَلِمَ، بالعَيبِ وكتَمَهُ؛ تدليسًا على المُشتَري، فيحرُمُ، ويذهَبُ علَى البائِعِ، ويرجِعُ المُشتَرِي بجمِيعِ ما دَفَعَهُ له.
وصحَّحَه ابنُ نصرِ اللهِ في "حواشي الفروع" في باب الإجارةِ. فقال: لا يجبُ كونُه من عينِ الثمنِ في الأصحِّ
(1)
.
(ويتعيَّنُ الأرشُ) للبائعِ (مع تلفِ المبيعِ عندَ المشتري) بأنْ وطئَ المشتري الأمَةَ البكرَ، أو تعيَّبَ غيرُها من المبيعِ، كثَوبٍ قَطَعَه، أو نسيانِ صَنعةٍ، أو كتابةٍ، فللمشتري الأرشُ للعَيبِ الأوَّلِ، أو رَدُّهُ على بائعِه مع أرشٍ نقصَه الحادثِ عندَه؛ لقولِ عثمانَ في رجل اشترى ثوبًا ولَبِسَه، ثمَّ اطَّلعَ على عيبٍ: يَردُّهُ
(2)
وما نقَصَ
(3)
. فأجازَ الرَّدَّ مع النُّقصانِ. رواه الخلالُ. وعليه اعتمدَ الإمامُ.
والأرشُ هنا: ما بين قيمتِه بالعيبِ الأوَّلِ، وقيمتِه بالعيبينِ.
(ما لمْ يكنْ البائعُ عَلِمَ بالعيبِ وكتَمَه) البائعُ (تدليسًا على المشتري، فيحرُمُ) التدليسُ (ويذهبُ) مبيعٌ (على البائعِ) إنْ تَلِفَ المبيعُ بغيرِ فعلِ المشتري، كموتِه، أو إباقِه؛ لأنَّه غرَّه. ويَتبعُ بائعٌ عبدَه حيثُ كانَ.
(ويرجعُ المشتري بجميع ما دفَعَه له) أي: بالثمنِ كلِّه على البائعِ نصًّا.
وسواءٌ تعيَّبَ المبيعُ عند
(4)
المشتري، أو
(5)
تَلِفَ بفعلِ اللهِ تعالى، أو بفعلِ
(1)
انظر "تصحيح الفروع"(6/ 238).
(2)
في الأصل: "فردَّهُ".
(3)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 154)، وابن أبي شيبة (4/ 372) بنحوه دون قوله:"وما نقص".
(4)
سقطت: "عند" من الأصل.
(5)
في الأصل: "إذا".
وخِيارُ العَيبِ على التَّراخِي، لا يسقُطُ إلَّا إنْ وُجِدَ من المُشتَري ما يَدلُّ على رِضاه، كتَصرُّفِه، واستِعمَالِه لِغَير تَجرِبَةٍ.
ولا يَفتِقرُ الفَسخُ إلى حُضورِ البائع، ولا لحُكمِ الحَاكِمِ.
والمبيعُ بعدَ الفَسخِ أمانةٌ بيدِ المُشتَرِي.
وإن اختلَفا عندَ من حَدَثَ العيبُ، مع الاحِتَمال، ولا بيِّنةَ،
المشتري، كوَطءِ البكرِ، ونحوِه، ممَّا هو مأذونٌ فيه شرعًا؛ بخلافِ قطعِ عضوٍ، وقلع سنٍّ، فإنَّه لمْ يأذنْ به الشرعُ.
(وخيارُ العيبِ على التَّراخي) لأنَّه لدفعِ ضررٍ محقَّقٍ. فـ (لا يسقطُ) بالتأخيرِ، كالقصاصِ (إلا إنْ وُجِدَ من المشتري ما يدلُّ على رِضاه) أي: المشتري (كتصرُّفِه) في مبيعٍ، عالمًا بعيبِه، بنحوِ بيعٍ، أو إجارةٍ، أو إعارةٍ، أو هبةٍ (و) كـ (استعمالِهِ) المبيعَ (لغيرِ تجربةٍ) كوطءٍ، وحَمْلٍ على دابَّةٍ
(ولا يفتقرُ الفسخُ) لعيبٍ (إلى حضورِ البائعِ) ولا إلى رضاهُ، (ولا لحكمِ الحاكم)
(1)
كالطلاقِ
(والمبيعُ بعدَ الفسخِ) لعيبٍ
(2)
وغَيرِه (أمانةٌ بيدِ المشتري) لحصولِهِ في يدِه بلا تعدٍّ، لكنْ إنْ قصَّرَ في ردِّه، فتلِفَ، ضمنِه؛ لتفريطِه، كثوبٍ أطارتْهُ الريحُ إلى دارِه، فقصَّرَ في ردِّه حتى تَلِفَ
(وإنِ اختَلَفا) أي: بائغٌ ومُشتَرٍ (عندَ مَنْ حدثَ العيبُ) في المبيعِ (مع الاحتمالِ) لحصولِه عند بائعٍ، وحدوثِه عندَ مشترٍ، كإباقٍ (ولا بينةَ) لأحدِهما،
(1)
في الأصل: "حاكم".
(2)
في الأصل: "بيع لعيبٍ"، وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 213).
فقولُ المشتَري بيمينِه، وإنْ لم يَحتَمِل إلَّا قولَ أَحدِهِما، قُبِلَ بلا يمينٍ
السَّادِسُ: خيارُ الخُلْفِ في الصِّفةِ.
فإذا وَجَدَ المُشتَرِي ما وُصِفَ له، أو تقدَّمَت رؤيتُه العَقدَ بزمنٍ يَسيرٍ مُتَغيِّرًا، فله الفَسْخُ، ويَحلِفُ إن اختلَفَا.
(فقولُ المشتري بيمينِهِ) لأنَّه ينكرُ القبضَ في الجزءِ الفائتِ. والأصلُ عدمُه كقبضِ المبيعِ. وهذه المسألةُ من المفرداتِ
(وإنْ لمْ يَحتَملْ إلا قولَ أحدِهما) كالإصبعِ الزائدةِ، والجرحِ الطريِّ الذي لا يحتملُ أن يكونَ قبلَ العقدِ (قُبِلَ) قولُ المشتري في المثالِ الأوَّلِ، والبائعِ في المثال الثاني (بلا يمينٍ) لعدمِ الحاجةِ إليه.
(السادسُ) من أقسامِ الخيارِ: (خيارُ الخُلْفِ في الصِّفةِ) إذا باعَه بالوصفِ
(فإذا وجدَ المشتري ما وُصِفَ له، أو تقدَّمتْ رؤيتُه) قبلَ (العقدِ بزمنٍ) لا يتغيرُ فيه المبيعُ تغيرًا ظاهرًا، أي:(بزمنٍ يسيرٍ، مُتَغيِّرًا، فله)
(1)
أي: المشتري (الفسخُ) لأنَّ ذلك بمنزلةِ عَيبهِ. وكذا لو وجدَ المبيعَ بالصِّفةِ ناقصًا صفةً (ويحلفُ) مشترٍ (إنِ اختلفا) في نقصِه أو تغيُّرِه عمَّا كان رآه؛ لأنَّ الأصلَ براءتُه من الثمنِ.
وهو على التراخي، فلا يسقطُ خيارُه إلا بما يدلُّ على الرِّضا، من مشترٍ بنقصِ صفتِه أو تغيُّرِه، من سَوْمٍ ونحوِه، كوطءِ أمَةٍ بيعتْ كذلك بعدَ العِلْمِ، كخيارٍ عيبٍ.
ولا يسقطُ خيارُه بركوبِ دابَّةٍ مبيعةٍ بطريقٍ ردَّها؛ لأنَّه لا يدلُّ على الرِّضا بالنقصِ أو التغيُّرِ.
وإنْ أسقطَ مشترٍ حقَّه من الرِّد بنقصِ صفةٍ شُرطتْ، أو تغيُّرٍ بعدَ رؤيةٍ، فلا أرشَ
(1)
في الأصل: "له".
السَّابِعُ: خيارُ الخُلْفِ في قَدرِ الثَّمن.
فإذا اختلفا في قَدرِه، حَلَف البائِعُ: ما بعتُه بكذا، وإنَّما بعتُه بكذا. ثم المُشتَري: ما اشتريتُه بكَذا، وإنَّما اشتريتُه بكَذا.
له؛ لأنَّ الصِّفةَ لا يُعتاضُ عنها، وكالمسلَمِ فيه. قالَهُ في "الفروع". فيخيَّرُ بين الردِّ والإمساكِ مجانًا.
وهذا بخلافِ البيعِ بشرطِ صفةٍ، فإنَّ له أرشَ فقدها، كما تقدَّم
(1)
.
(السابعُ) من أقسامِ الخيارِ: (خيارُ الخُلْفِ) أي: اختلافِ المتبايعَين. وكذا لو اختلفَ المؤجِّرُ والمستأجِرُ في الأُجرَةِ (في قَدرِ الثَّمَنِ) أي: في مقدارِه
(فإذا اختلفا) أي: المتعاقدانِ. أو اختلفَ ورثتُهما، أو أحدُهما وورثةُ الآخرِ (في قدرِه) أي: في قدرِ الثمنِ، بأنْ قالَ بائعٌ، أو وارثُه: الثمنُ ألفٌ. وقال مشترٍ، أو وارثُه: ثمانمائةٍ. ولا بينة لأحدِهما، تحالفا؛ لأنَّ كلًا منهما مدَّعٍ ومنكرٌ صورةً، وكذا حكمًا، لسماعِ بينةِ كلٍّ منهما. أو كان لهما، أي: لكلٍّ منهما
(2)
، بينةٌ بما ادَّعاه، تحالفا؛ لتعارضِ البيِّنتينِ وتساقطا، فيصيرانِ كمَنْ لا بينةَ لهما.
وإذا أرادا التحالفَ (حلفَ البائعُ) أوَّلًا، لقوةِ جَنْبَتِهِ؛ لأنَّ المبيعَ يُرَدُّ إليه:(ما بعتُه بكذا، وإنَّما بعتُه بكذا) فيجمعُ بين النفيِ والإثباتِ، فالنفيُ لما ادُّعِيَ عليه، والإثباتُ لما ادَّعاه، ويُقدَّمُ النفيُ عليه؛ لأنَّه الأصلُ في اليمين
(ثمَّ) حلف (المشتري: ما اشتريتُه بكذا، وإنَّما اشتريتُه بكذا) لما تقدَّمَ.
ويحلفُ وارثٌ على البَتِّ، إن علمَ الثمنَ، وإلا فعلى نفيِ العلمِ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(7/ 338).
(2)
سقطت: "أي: لكلٍّ منهما" من الأصل.
ويتفَاسَخَان.
ثمَّ بعد التحالفِ: إنْ رضيَ أحدُهما، أي: البائعِ أو المشتري، بقولِ الآخرِ، أو لمْ يتحالفا، بل نكلَ أحدُهما عن اليمينِ، وحلفَ الآخرُ، أُقِرَّ العقدُ بما حلفَ عليه الحالفُ منهما؛ لأنَّ النكولَ كإقامةِ البينة على مَنْ نكلَ، وإنْ لمْ يرضَ أحدُهما بقولِ الآخرِ بعدَ التحالفِ (ويتفاسخانِ) أي: البائعُ والمشتري، ولو بلا حاكمٍ؛ لأنَّه لاستدراكِ الظلامةِ، أشبَهَ ردَّ المعيب.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا ينفسخُ بنفسِ التحالفِ؛ لأنَّه عقدٌ صحيحٌ، فلَم ينفسخْ باختلافِهما وتعارضِهما في الحجَّةِ، كما لو أقامَ كلُّ منهما بينةً.
فإنِ امتنعَ البائعُ والمشتري من الحلفِ، صرفَهما الحاكمُ، كما لو امتنعَ مَنْ تُردُّ عليه اليمينُ، على القول بردِّها، وهو ضعيفٌ.
وكذا إجارةٌ، فإذا اختلفَ المؤجرانِ أو ورثتُهما في قدرِ الأجرةِ، فكما تقدَّمَ. فإذا تحالفَا -المؤجرانِ، أو ورثتُهما- وفُسِختِ الإجارةُ بعدَ فراغِ مدَّةِ إجارةٍ، فعلى مستأجرٍ أجرةُ مثلِ العينِ المؤجرةِ مدَّةَ إجارةٍ. وإنْ فُسِخَتْ بعدَ تحالفٍ في أثنائِها، أي: مدَّةِ الإجارةِ، فعلى مستأجرٍ بالقسطِ من أجرةِ مثلٍ؛ لأنَّه بدلُ ما تلفَ من المنفعةِ.
ويحلف بائعٌ فقط، إذا اختلفا في قدرِ الثمنِ، بعدَ قبضِ الثمنِ، وفسخِ العقدِ، بتقايلٍ أو غيرِه؛ لأنَّ البائعَ منكرٌ لما يدَّعيهِ المشتري بعدَ انفساخِ العقدِ، فأشبَهَ ما لو اختلفا
(1)
في القبضِ.
وإنْ تَلِفَ مبيعٌ قبلَ قبضِ ثمنٍ وفسخِ عقدٍ، واختلفَ المتبايعانِ في قدرِ ثمنِهِ قبلَ قبضِه، تحالفَا، كما لو كان المبيعُ باقيًا، وغرِمَ مشترٍ قيمةَ المبيعِ، إن فُسِخَ البيعُ.
(1)
في الأصل: "اختلف".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وظاهرُه: ولو مثليًّا؛ لأنَّ المشتري لم يدخلْ بالعقدِ على ضمانِه بالمثلِ.
ويُقبل قولُ المشتري في قيمةِ المبيعِ التالفِ، نصًّا؛ لأنَّه غارمٌ.
ويُقبلُ قولُ المشتري في قدرِ المبيعِ، وفي صفتِه؛ بأنْ قالَ بائعٌ: كان العبدُ كاتبًا، وأنكرَهُ مشترٍ، فقولُه؛ لأنَّه غارمٌ.
وإنْ تعيَّبَ مبيعٌ عند مشترٍ قبلَ تلفِه، ضُمَّ أرشُه إليه. وكذا كلُّ غارمٍ يُقبلُ قولُه في قيمةِ ما يَغرِمُه، وقدرِه، وصفتِه، كمشترٍ.
فلو وصفَها مشترٍ بعيبٍ، كبَرصٍ، وخرقِ ثوبٍ، وقطعِ إصبعٍ، فقولُ بائعٍ بيمينِه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ العيبِ. وإنْ ثبتَ أنَّه معيبٌ، قُبِلَ قولُ المشتري في تقدُّمِ العيبِ على البيعِ، أو التلفِ؛ لأنَّ الأصلَ براءته ممَّا يُدَّعَى عليه.
فصلٌ
وإنِ اختلفَا -المتعاقدانِ- في صفةِ تمنٍ اتفقا على تسميتِه في العقدِ، أُخِذَ نَقدُ البلدِ، إنْ لمْ يكنْ بها إلا نقدٌ واحدٌ، وادَّعاه أحدُهما، فيُقضَى له به؛ عملًا بالقرينةِ، على ما ذكرَهُ ابنُ نصرِ اللهِ.
ثمَّ إنْ كانَ بالبلدِ نقودٌ، واختلفَت رواجًا، أُخِذَ غالبُه رواجًا؛ لأنَّ الظاهرَ وقوعُ العقدِ به لغلبتِه. فإذا استوتِ النقودُ رواجًا، فالوسطُ؛ تسويةً بين حقَّيهما؛ لأنَّ العدولَ عنه ميلٌ على أحدِهما، وعلى مدِّعي نقدِ البلدِ، أو غالبِه رواجًا، أو الوسطِ اليمينُ.
وإنِ اختلفا في جنسِ الثمنِ، كما لو ادَّعى أحدُهما أنَّه عقدٌ بنقدٍ، والأخرُ بعَرْضٍ، أو أحدُهما أنَّه عقدٌ بذهبٍ، والآخرُ بفضةٍ. فالظاهرُ أنَّهما يتحالفان؛ لأنَّهما اختلفا في قدرِه. وكذا حكمُ الإجارةِ في سائرِ ما تقدَّمَ.
فَصْلٌ
ويملِكُ المُشتَري المَبيعَ مُطلقًا بمجرَّدِ العَقدِ، ويصِحُّ تصرُّفُه فيه قَبلَ قَبضِهِ، وإن تَلِفَ، فمِن ضَمَانِه، إلَّا المبيعَ بكيلٍ، أو وَزنٍ، أو عَدٍّ، أو ذَرعِ، فمِن ضَمانِ بائِعِه حتَّى يقبِضَه فشتَرِيه، ولا يَصِحُّ تصرُّفُه فيه ببيعٍ، أو هِبَةٍ، أَو رَهنٍ، قَبلَ قبضِه.
(فصل)
(ويملكُ المشتري المبيعَ مطلقًا) سواءٌ قبضَه، أو لا (بمجرَّدِ العقدِ) حيثُ لا خيارَ (ويصحُّ تصرُّفُه) أي: المشتري (فيه) ببيعٍ، أو هبةٍ، أو إجارةٍ، أو رهنٍ، أو حوالةٍ (قبل قبضِه) أي: المبيعِ
(وإنْ تَلِفَ) المبيعُ (فمن ضمانِه) أي: ضمانِ المشتري (إلا المبيعَ بكيلٍ) كقفيزٍ من صبرةٍ (أو وزنٍ) كرطلٍ من زبرةِ حديدٍ (أو عَدٍّ) كبيضٍ، على أنَّه مائةٌ (أو ذَرعٍ) كثوبٍ، على أنَّه عشرةُ أذرعٍ (فمن ضمانِ بائعِه حتى يقبضَهُ) أي: المبيعَ (مشترِيهِ) والمبيعُ بصفةٍ أو رؤيةٍ سابقةٍ، من ضمانِ بائعٍ.
ومَنْ تَعيَّنَ مِلكُه في إرثٍ، أو وصيةٍ، أو غنيمةٍ، فله التصرُّفُ فيه قبلَ قبضِه.
(ولا يصحُّ تصرُّفُه فيه) أي: في المبيعِ قبلَ قبضِه (ببيعٍ، أو هبةٍ، أو رهنٍ، قبلَ قبضِه) لحديث: "مَنْ ابتاعَ طعامًا فلا يبعْه حتى يستوفيَه" متفقٌ عليه
(1)
. وهو يشملُ بيعَه من بائعِه وغيره. وقيسَ على البيع ما ذُكِرَ بعدَهُ. ولأنَّه من ضمانِ بائعِه، فلمْ يجزْ فيه شيءٌ من ذلك، كالسَّلَمِ.
(1)
أخرجه البخاري (2126)، ومسلم (1526) من حديث ابن عمر.
وإن تَلِفَ بآفةٍ سماويَّةٍ قبلَ قبضِهِ، انفسَخَ العَقدُ، وبفعلِ بائعٍ أو أجنبيٍّ، خُيِّرَ المُشتَري بين الفَسخِ ويَرجِعُ بالثَّمن، أو الإمضَاءِ ويطالِبُ مَنْ أتلَفَه ببدَلِه.
والثَّمنُ كالمُثمَنِ في جَميعِ ما تقدَّم.
فإنْ بِيعَ مكيِلٌ ونحوُه جِزافًا، كصبرةٍ معينةٍ، وثوبٍ، جازَ تصرُّفٌ فيه قبلَ قبضِه. نصًّا؛ لقولِ ابنِ عمرَ: مضتِ السنةُ أنَّ ما أدركَتْهُ الصَّفقةُ حيًّا مجموعًا، فهو من مالِ المشتري
(1)
. ولأنَّ التعيينَ كالقبضِ
(وإنْ تَلِفَ) المبيعُ (بآفةٍ سماويةٍ) لا صنعَ لأَدميٍّ فيها (قبلَ قبضِه، انفسخَ) أي: بطلَ (العقدُ) أي: البيعُ. إنْ بقيَ البعضُ، خُيَّرَ المشتري في أخذِه بقسطِه من الثمنِ
(و) إنْ تَلِفَ (بفعل بائعٍ، أو) تَلِفَ بفعلِ (أجنبيِّ، خُيِّرَ المشتري بين الفسخِ) أي: فسخِ البيعِ (ويَرجِعُ بالثمنِ) كاملًا؛ لأنَّه مضمونٌ عليه إلى قبضِه (أو الإمضاءِ) في البيعِ (ويطالِبُ مَنْ أتلفَه ببدلِه) أي: بمثلهِ إنْ كانَ مثليًّا، أو قيمتهِ إنْ كانَ متقوَّمًا.
وإنْ تَلِفَ بفعلِ المشتري، فلا خيارَ له؛ لأنَّ إتلَافه كقبضهِ
(والثمنُ) المَعَّينُ، أي: ليس في ذمةٍ (كالمثمَنِ في جميعِ ما تقدَّمَ) أي: ما سبقَ من أحكامِ التلفِ، وجواز القبضِ بغيرِ إذنِ المشتري.
فلو اشترى شاةً بشعيرٍ، فأكلْتهُ قبلَ قبضِه، فإنْ لمْ تكنْ بيدِ أحدٍ، انفسخَ البيعُ، وإنْ كانتْ بيدِ بائعٍ، فكقبضِه، وإنْ كانتْ بيدِ مشتري أو أجنبيٍّ، خُيِّرَ بائعٌ كما مرَّ
وما في الذمةِ من ثمنٍ أو مثمن
(2)
، له أخذُ بدلِه إنْ تَلِفَ قبلَ قبضِه، ويصحُّ بيعُه وهبتهُ لمَنْ هو عليه، غيرُ سلَمٍ، ويأتي. لاستقرارِه في ذمتِه.
(1)
أخرجه البخاري تعليقًا قبل الحديث (2138).
(2)
سقطت: "أو مثمن" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 236).
فَصْلٌ
ويحصُلُ قبضُ المَكيلِ بالكَيلِ، والموزُونِ بالوَزنِ، والمعدُودِ بالعَدِّ، والمذرُوعِ بالذَّرِع". . . .
(فصلٌ)
(ويحصلُ قبضُ المكيلِ بالكيلِ، و) يحصلُ قبضُ (الموزونِ بالوزنِ، و) يحصلُ قبضُ (المعدودِ بالعدِّ، و) يحصلُ قبضُ (المذروعِ بالذَّرعِ) ويحصلُ القبضُ في صُبرةٍ، وما يُنقلُ كثيابٍ وحيوانٍ، بنقلهِ، وقَبضُ ما يُتناولُ، كالجواهرِ والأثمانِ، بتناولِه، إذِ العُرْفُ فيه ذلك.
والعَقَارُ، والثمرةُ على الشَّجرَةِ، قبضُه: بتَخلِيَتِه بلا حائلٍ، بأنْ يفتحَ له بابَ الدارِ، أو يُسلِّمَه مِفتاحَها ونحوَه، وإنْ كان فيها مَتاعٌ للبَائِعِ. قالَهُ الزركشيُّ
(1)
.
ويُعتبرُ لجوازِ قَبضِ مُشَاعٍ يُنقَلُ، كنِصفِ فَرَسٍ أو بعيرٍ، إذنُ شريكِه في قبضِه؛ لأنَّ قبضَه نقلُه، ونقلُه لا يتأتَّى إلا بنقلِ حِصَّةِ شَريكِه. والتصرُّف في مالِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه حرامٌ.
وعُلِمَ منه: أنَّ قبضَ مشاعٍ لا يُنقلُ، كنصفِ عَقَارٍ، لا يُعتبرُ له إذنُ شريكِه؛ لأنَّ قبضَه تخليتُه، وليسَ فيها تصرُّفٌ.
فيُسلِّمُ البائعُ الكلَّ المبيعَ بَعضُه بإذنِ شَريكِه إلى المشتَري، ويكونُ سهمُ الشَّريكِ في يدِ القابضِ أمانةً.
فإنْ أبىَ الشريكُ الإذنَ للبائعِ في تسليمِ الكلِّ للمُشتَري، قِيلَ للمُشتَري: وَكِّل
(1)
انظر "الروض المربع"(4/ 486)، "كشاف القناع"(7/ 504).
بشرطِ خضورِ المُستَحِقِّ، أو نائِبِه.
وأُجرةُ الكيَّالِ والوزَّانِ والعدَّادِ والذرَّاعِ والنقَّاد. . . . .
الشَّريكَ في القَبضِ. فإنْ أبَى أنْ يوكِّلَ، وأبىَ الشريكُ أنْ يَتوكَّل، نصَبَ الحاكمُ مَنْ يقبضُ الكلَّ؛ جمعًا بين الحقَّينِ، فيكونُ في يدِهِ لهما أمانَةً، أو بأجرةٍ، والأَجرَةُ
(1)
عليهما
ولو سَلَّمَه بائعٌ بلا إذنِ شريكِه، فالبائعُ غاصبٌ لحصَّةِ شريكِه؛ لتعدِّيه بتسليمِها بلا إذنهِ.
فإنْ علمَ المشتري ذلك، أي: أنَّ للبائعِ شَريكًا لم يأذنْ في تسليمِ حصَّتهِ، وتلفتِ العينُ بيدهِ، فقرارُ الضَّمانِ عليه، لحصولِ التلفِ بيَدهِ، وإلا؛ بأنْ لمْ يعلمْ أنَّه لمْ يأذنْ، فقرارُ الضَّمانِ على البائعِ؛ لتغريرهِ للمشتري.
وكذلك إن
(2)
جَهِلَ المشتَري الشَّرِكَةَ، أو علِمَها وجَهِلَ وجوبَ الإذنِ، ومِثلُهُ يجهَلهُ، فقَرارُ الضَّمانِ على البائعِ؛ لما تقدَّمَ.
والقبضُ (بشرطِ حضورِ المستَحِقِّ) لمَكيلٍ ونحوِه (أو) حُضُورِ (نائبِه) أي: المستحقِّ؛ لقِيامِه مُقامَه.
(وأُجرَةُ الكيَّالِ) لمكيلٍ (والوزَّانِ) لموزونٍ (والعَدَّادِ) لمعدودٍ (والذرَّاعِ) لمذروعٍ (والنقَّادِ) لمنقودٍ قبلَ قَبضِها.
والمرادُ بالنقَّادِ الذي تجبُ أجرَتُهُ على الباذِلِ: نقَّادُ الثمنِ قبلَ قبضِ البائعِ له؛ لأنَّ على المشتري تسليمَ الثمنِ صحيحًا، وهذِه طَريقُهُ.
(1)
في الأصل: "أو أجره"، وانظر "كشاف القناع"(7/ 505).
(2)
سقطت: "إن" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(7/ 505).
علَى الباذِلِ، وأُجرَةُ النَّقلِ على القَابِضِ.
ولا يَضمَنُ ناقِدٌ حاذِقٌ أمينٌ خَطأً.
وتُسنُّ الإقَالةُ للنَّادِمِ مِنْ بائعٍ ومُشتَرٍ.
أمَّا أجرَةُ النَّقدِ بعدَ قبضهِ، أي: قبضِ البائعِ الثمنَ، فهي على البائعِ؛ لأنَّه ملَكَه بقبضهِ، فعليه أن يبَّينَ أنَّه معيبٌ ليردَّه، ولا غرَضَ للمشتري في ذلك
(على الباذِلِ): بائعٍ أو غيرهِ؛ لأنَّه يتعلَّقُ به حقُّ توفيةٍ.
(وأجرةُ النقلِ) لمبيعٍ يحصل قبضهُ به (على القابضِ) أي: على المشتَري؛ لأنَّ التسليمَ قدْ تمَّ. وكذا غيرُ المبيعِ، أجرةُ نقلهِ على قابضهِ؛ لأنَّه مِلكُه، فمؤنتُه عليه. ولو قال:"أَخْذٍ"، لتناول غيرَ المشتري
(1)
.
(ولا يضمنُ ناقدٌ حاذقٌ أمينٌ خطأً) متَبرِّعًا كانَ أو بأجرةٍ؛ لأنَّه أمينٌ. فإنْ لمْ يكنْ حاذقًا أو أمينًا، ضمِنَ، كما لو تعمَّدَ.
قال العلَّامةُ، عمُّ والدي، الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(2)
: ويتجَّه: وكذا نحوُ كيَّالٍ.
(وتُسنُّ الإقالةُ للنادمِ من بائعِ ومشتري) وهي فسخٌ لا بيعٌ، يُقالُ: أقالَ اللهُ عثرتَكَ. أي: أزالهَا. ولإجماعِهم عَلى جوازِ الإقالةِ في السَّلَمِ قبلَ قبضِ مبيعٍ، حتى فيما بِيعَ بكيلٍ ونحوهِ.
وتصحُّ بعدَ نداءِ جمعةٍ.
(1)
قدمت العبارة: "ولو قال: أَخْذٍ، لتناول غيرَ المشتري" في الأصل بعد قوله: "لأنَّه يتعلَّقُ به حقُّ توفيةٍ"، وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 241).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 555).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتصحُّ الإقالةُ من مضاربٍ، وشريكٍ، ولو بلا إذنِ ربِّ مالٍ، أو شريكٍ، لا وكيلٍ في شراءٍ، وكذا وكيلٌ في بيعٍ.
وتصحُّ من مفلسٍ بعدَ حجرٍ عليه لمصلحةٍ فيهنَّ.
وتصحُّ بلا شروطِ بيعٍ، كما لو تقابلا في آبقٍ أو شاردٍ، كما لو فسخَ فيهما لخيارِ شرطٍ، بخلافِ بيعٍ.
وتصحُّ بلفظِ الإقالةِ، وبلفظِ صلحٍ، ولفظِ بيعٍ، وبما يدلُّ على معاطاةٍ؛ لأنَّ القصدَ المعنى، فيُكتَفىَ بما أدَّاه، كالبيعِ.
ولا خيارَ فيها، ولا شفعةَ. ولا يحنثُ بها
(1)
مَنْ حلفَ لا يبيعُ.
ومؤنةُ ردٍّ على بائعٍ.
والفسخُ بإقالةٍ أو غيرِها، رفعُ عقدٍ من حينِ فسخٍ، لا من أصلهِ. فما حصلَ من كسبٍ ونماءٍ منفصلٍ، فللمشتري.
(1)
سقطت: "بها" من الأصل.
بَابُ الرِّبَا
يَجرِي الرِّبا في كُلِّ مَكيلٍ وموزُونٍ، ولو لَمْ يُؤكَل.
(بابُ الرِّبا) والصرفِ
الرِّبا محرَّمٌ إجماعًا؛ لقولِه تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهو من الكبائرِ. وحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "اجتنبوا السبعَ الموبقاتِ"
(1)
.
وهو لغةً: الزيادةُ.
وشرعًا: تفاضلٌ في أشياءَ، وهي: المكيلاتُ بجنسِها، والموزوناتُ بجنسِها. ونَساءٌ في أشياءَ، هي: المكيلاتُ بالمكيلاتِ، ولو من غير جنسِها، والموزوناتُ بالموزوناتِ كذلك، ما لمْ يكنْ أحدُهما نقدًا.
والصرفُ: بيعُ نقدٍ بنقدٍ قبلَ تفرُّقِهما. سُمِّي به لصريفِهما، وهو تصويتهما في الميزانِ. وقيلَ: لانصرافِهما عن مقتضى البياعاتِ
(2)
، من عدمِ جوازِ التفرُّق
(3)
قبلَ القبضِ.
والرِّبا نوعانِ: ربا الفضلُ، وربا النسيئةِ.
فقال المصنِّفُ: (يجري الرِّبا) أي: ربا الفضلِ (في كلِّ مكيلٍ) مطعومٍ كبُرٍّ وأُرزٍّ، أو لا كأُشنَانٍ، بجنسِه (وموزونٍ) من نقدٍ أو غيرهِ، مطعومٍ كَسُكَّرٍ، أو غيرهِ كقُطنٍ (ولو لم يُؤكلْ) أي: المكيلُ.
(1)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
(2)
في الأصل: "البيعات"، وانظر "الروض المربع"(4/ 491).
(3)
في الأصل: "التصرُّفِ"، وانظر "كشاف القناع"(8/ 40).
فالمَكيلُ: كسَائِر الحُبُوبِ، والأبازِيرِ، والمائِعَاتِ، لكِنْ المَاءُ ليسَ برَبَويٍّ. ومِنَ الثِّمارِ، كالتَّمرِ، والزَّبيبِ، والفُستُق، والبُندُق، واللَّوز". . . .
أي: فلا يُباعُ بعضُ المكيلِ ببعضٍ جِزافًا من جنسِه. فلو باعَه صُبرةً بأخرى، وعلِما كيلَهما، أو تبايعاهما
(1)
مِثلًا بمثل، وكِيلَتَا فكانتا سواءً، صحَّ. وكذا زُبرةُ حديدٍ بأخرى من جنسِها
(فالمكيلُ) الذي يجري فيه الرِّبا:
(كـ) البُرِّ، والأُرزِ، والشعيرِ، والدُّخْنِ، والذُّرَةِ، ونحوِ ذلك من (سائِر) أي: جميعِ (الحبوبِ)
(و) سائرِ (الأبازِيرِ) كبِزْرِ الكَتَّانِ، وبَزرِ الفطنِ، وبَزرِ الفُجْلِ، وبزرِ البَصلِ، ونحوه
(و) كسائرِ (المائعاتِ) كالسَّمنِ، والَّلبَنِ، والزَّيتِ، والشَّيْرَج، ونحوهِ (لكنِ الماءُ ليس بربويٍّ) وإنْ كانَ مكيلًا؛ لاباحتهِ؛ لحديث: كان يتوضأُ بالمُدِّ، ويغتسلُ بالصَّاعِ
(2)
. ويغتسل هو وبعضُ نسائِه من الفَرَقِ
(3)
. وهي مكاييلُ قُدِّرَ بها الماءُ، فكذا سائرُ المائعاتِ. ويؤيِّدُه حديثُ ابنِ ماجه
(4)
مرفوعًا: نهى عن بيعِ ما في ضروعِ الأنعام إلا بكيلٍ.
(ومن) نوعِ (الثمارِ) الذي فيه الرِّبا: (كالتمرِ، والزبيبِ، والفُستُقِ، والبُندُقِ،
(1)
في الأصل: "تبايعهما".
(2)
أخرجه مسلم (325) من حديث أنس.
(3)
أخرجه البخاري (250)، ومسلم (319) من حديث عائشة.
(4)
أخرجه ابن ماجه (2196)، وضعفه الألباني.
والبُطْمِ، والزَّعرُور، والعُنَّاب، والمِشْمِش، والزَّيتُونِ، والمِلْحِ.
والموزُونُ: كالذَّهب، والفِضَّة، والنُّحاسِ، والرَّصاصِ، والحَديد، وغَزلِ الكتَّان، والقُطنِ، والحَرِير، والشَّعرِ، والعنب، والشَّمع، والزَّعفَرَان، والخُبزِ، والجُبْن.
وما عَدَا ذلِك، فمعدُودٌ لا يجري فيه الرِّبا، ولو. . . . .
واللَّوزِ، والبُطْمِ
(1)
، والزَّعرُورِ، والعُنَّاب، والمشمشِ، والزيتونِ، والمِلْحِ) ونحوِ ذلك
(والموزونُ) مِن نقدٍ وغيرِهِ، الذي يجري فيه الرِّبا:
(كالذهبِ، والفضةِ) لقوله عليه السلام: "الذهبُ بالذهبِ وزنًا بوزنٍ، والفضةُ بالفضةِ وزنًا بوزنٍ، والبُرُّ بالبُرِّ كيلًا بكيل، والشعيرُ بالشعيرِ كيلًا بكيل"
(2)
. رواه الأثرمُ من حديثِ عبادةَ. ولمسلمٍ
(3)
عن أبي هريرةَ مرفوعًا: "الذهبُ بالذهبِ وزنًا بوزنٍ، مِثلًا بمثل، فمَنْ زادَ أو استزادَ فهو ربا". ولأَنَّه لا يحصلُ العلمُ بالتساوي مع مخالفةِ المعيارِ الشرعيِّ
(والنُّحاسِ، والرَّصاصِ، والحديدِ، وغزلِ الكتَّان، والقطنِ، والحريرِ، والشَّعرِ، والعنبِ، والشَّمعِ، والزَّعفرانِ، والخُبْزِ، والجُبْنِ) والسكرِ، واللَّحمِ، والشحمِ، والعُصْفُرِ، ونحوِه
(وما عدا ذلك) أي: ما عَدَا ما يُكالُ وما يوزنُ (فمعدود لا يجري فيه الرِّبا، ولو
(1)
في الأصل: "واللبطن".
(2)
أخرجه البيهقي (5/ 291)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1349).
(3)
أخرجه مسلم (1588).
مَطعُومًا، كالبِطِّيخ، والقِثَّاء، والخِيَارِ، والجَوزِ، والبَيضِ، والرُّمَّان.
ولا فيما أخرجَتهُ الصِّناعةُ عن الوزنِ، كالثِّيابِ، والسِّلاح، والفُلُوسِ، والأَوانِي. . . . .
مطعومًا، كالبِطِّيخِ، والقِثَّاءِ، والخِيارِ، والجَوْزِ، والبَيْضِ، والرُّمَّانِ) والتفاحِ، والكُمَّثرى، والخوخِ، والثيابِ، والحيوانِ.
فيجوز بيعُ بيضةٍ وخيارةٍ وبطيخةٍ بمثلِها. نصَّ عليه؛ لأنَّه ليس مكيلًا ولا موزونًا. لكنْ نقلَ مهنا عن الإمام: أنَّه كَرِهَ بيعَ بيضةٍ ببيضتينِ. وقال: لا يصلحُ إلا موزونًا بوزنٍ؛ لأنَّه مطعومٌ.
(ولا) يجري الرِّبا (فيما أخرجتْهُ الصناعةُ عن الوزنِ) لارتفاعِ سعرهِ بها.
إلا بمثلهِ وزنًا
(1)
، سواءٌ ماثلَه في
(2)
الصناعةِ أوْ لا؛ لعمومِ الحديثِ السابقِ.
وجوَّزَ الشيخُ بيعَ مصنوعٍ مباحِ الاستعمالِ، كخاتمٍ ونحوهِ بِيعَ بجنسِه بقيمتهِ حالًّا، جَعْلًا للزَّائدِ عن وزن الخاتمِ في مقابلةِ الصَّنْعةِ، فهو كالأجرةِ
(كالثيابِ) من الحريرِ، والقطنِ، والكَتَّانِ، والصوفِ، والشَّعرِ، والوبر
(3)
(و) كـ (السِّلاحِ) كسكاكينَ ونحوِها، (و) كـ (الفلوسِ) حيثُ كانَ يتعاملُ بها عددًا، ولو كانتْ نافقةً؛ لأنَّ هذه الأشياءَ ليستْ بمكيلٍ ولا موزونٍ، إذ لا معنى لثبوتِ الحكمِ مع انتفاءِ العلَّةِ، وعدمِ النصِّ والإجماعِ فيه.
(و) لا يجري الرِّبا فيما أخرجتْهُ الصِّناعةُ أيضًا، كـ (الأواني) المعمولةِ من
(1)
كذا بالأصل! ولعل به سقطًا هو: "فلا يجوز بيع مصنوع من الموزونات إلا بمثله وزنا"، وانظر "كشاف القناع"(8/ 9).
(2)
سقطت: "في" من الأصل.
(3)
في الأصل: "والربعِ".
غيرَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ.
نُحاسٍ، من طاسةٍ، وخواتمَ، ودُسُوتٍ، وصحونٍ، ونحوِ ذلك من الحديدِ
(غيرَ) ما خرجَ من الصِّناعةِ من (الذهبِ والفضةِ) قال المنقِّحُ في "حواشي التنقيح"
(1)
: الذي يظهرُ أنَّ محلَّ ما لا يوزن لصناعتِه: في غيرِ الذهبِ والفضةِ، فأمَّا الذهبُ والفضةُ، فلا يصحُّ فيهما مطلقًا، ولهذا لم نرهم مثَّلُوا بهما، إنَّما يمثلُونَ بالنُّحَاسِ، والرَّصاصِ، والحديدِ، ونحوِه.
فلا يصحُّ بيعُهما إلا بوزنِهما. فلو باعَ إنسان خَلْخالًا أو طَوْقًا ذهبًا بمائةِ دينارٍ، لم يصحَّ البيعُ بالدنانيرِ، وإنَّما يصحُّ بوزنِهما ذهبًا، سواءٌ كانتْ دنانيرَ أو لا، ولا عبرةَ لصياغتِهم، ولا عبرةَ أيضًا بنقشِ الدينارِ، والصناعةُ غيرُ معتبرةٍ فيهما.
وكذلك لو باع الشخصُ خَلخَالًا فِضَّةً، أو طَوقًا فضَّةً بمائةِ نِصفٍ، فإنَّه لا يصحُّ بيعُهما بالأنصافِ، وإنَّما يوزنُ الخَلخَالُ
(2)
أو الطَّوقُ، ويأخذُ وزنَهما من الفضةِ، سواءٌ كانتْ مضروبةً، أو لا.
وينبغي أنْ يُتنبَّهَ لهذه المسألةِ؛ لأنَّ غالبَ الناسِ واقعٌ في ذلك، لكنْ تقدَّمَ كلامُ الشيخِ تقيِّ الدينِ في جوازِ بيعِ ذلك بجنسِه، بجعلِ الزَّائدِ في الثمنِ عن الوزنِ في مقابلةِ الصنعةِ، فهو كالأُجرةِ.
(1)
"حواشي التنقيح"(1/ 229).
(2)
في الأصل: "الخلال".
فَصْلٌ
فإذا بِيعَ المَكِيلُ بجنسِه
، كتَمْرٍ بتَمْرٍ، أو الموزُون بجنسِه، كذَهَبٍ بذَهَبٍ، صَحَّ بشَرطَين: المُمَاثَلة في القَدْرِ، والقَبْضُ قبلَ التَّفرُّقِ.
وإذا بِيعَ بغيرِ. . . .
(فصلٌ)
(فإذا بِيعَ المكيلُ بجنسِه) من الكيلِ، مَطعُومٍ كالبُرِّ، أو غَيرِ مطعُومٍ كالأُشْنانِ بجنسِه؛ لما روى عبادةُ بنُ الصَّامتِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الذهبُ بالذهبِ، والفضةُ بالفضةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ، مِثلًا بمثلٍ، يدًا بيدٍ". رواه الإمامُ مسلمٌ
(1)
. (كتمرٍ بتمرٍ)
(أو) بِيعَ (الموزونُ بجنسِه) من الموزونِ، أي: أصلهُ الوزنُ (كذَهَبٍ بذَهَبٍ) أو فضَّةٍ بفضةٍ (صحَّ) البيعُ (بشَرطينِ):
الشرطُ الأوَّلِ: (المماثلةُ) أي: التَّساوي (في القَدْرِ) كصاعٍ بصاعٍ في مَكيلٍ، أو كرطلٍ برطلٍ في موزونٍ.
فلو باعَ صاعًا بصَاعينِ، أو رطلًا برطلينِ، فلا يصحُّ، وهو ربا فضلٍ.
(و) الشرطُ الثاني: (القبضُ قبلَ التفرُّقِ) أي: بمجلِسِ العقدِ.
ولم يذكرِ المصنِّفُ الشَّرطَ الثالثَ، وهو: الحلولُ؛ لأنَّ شرطَ القَبضِ متضمِّنٌ الحلولَ، فاقتصرَ عليه؛ لتضمنهِ ذلك.
(وإذا بِيعَ) موزونٌ بموزونٍ، أو بمكيلِ الموزونِ؛ عِوَضًا عن الوزنِ (بغيرِ
(1)
أخرجه مسلم (1587).
جِنسِه، كذَهَبٍ بِفضَّةٍ، وبُرِّ بشَعِيرٍ، صَحَّ بَشْرطِ القَبضِ قَبلَ التَّفرُّقِ، وجَازَ التَّفاضُلُ.
وإنْ بيعَ المَكِيلُ بالموزُونِ، كَبُرِّ بذَهَبٍ مِثْلًا، جازَ التَّفاضُلُ، والتَّفرُّقُ قبلَ القَبْضِ.
ولا يَصِحُّ بيعُ المَكيلِ بجنسِه وَزنًا،. . . . .
جنسِه، كذهبٍ بفضةٍ)، أ (و) بِيعَ مكيلٌ بمكيلٍ، أو موزونِ المكيلِ؛ عِوَضًا عن الكيلِ (كبُرٍّ بشعيرٍ، صحَّ) البيعُ (بشرطِ القبضِ) لذلك (قبلَ التفرُّقِ) من المجلسِ؛ لقولهِ صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فبيعوا كيف شئتم، يدًا بيدٍ"
(1)
، والمرادُ به: القبضُ.
ولم يذكرِ المصنِّفُ أيضًا الحلولَ؛ لتضمنِ القَبضِ
(2)
له، كما مرَّ، وهو من ربا النسيئةِ، من النَّساءِ، بالمدِّ، وهو: التأخيرُ، يقالُ: نسأتُ الشئَ، وأنساتُه: أخَّرتُه
(وجازَ التفاضلُ) في ذلك؛ لبيعِه بغيرِ جنسِه؛ لأنَّ النهيَ ما وردَ إلا في التفاضلِ الحاصلِ بين جنسٍ واحدٍ
(وإنْ بِيعَ المكيلُ بالموزونِ، كبُرٍّ) مكيلٍ بكيلٍ، أو جِزافًا مِثلًا (بذهبِ مِثْلًا) موزونٍ بوزنٍ، أو جِزافًا (جازَ التفاضلُ) في ذلك، (و) جازَ (التفرُّقُ قبلَ القبضِ) من المجلسِ
(ولا يصحُّ بيعُ المَكيلِ) أي: ما أصلُه الكيلُ، كالبُرِّ والشعيرِ والتمرِ (بجنسِه وزنًا) أي: بدلًا عن الكيلِ، كرطلِ بُرٍّ برطلِ بُرٍّ، ونحو ذلك.
(1)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(2)
سقطت: "القبض" من الأصل. وانظر "مسلك الراغب"(2/ 447).
ولا الموزُونِ بجِنسِه كَيلًا.
(ولا) يصحُّ بيعُ (الموزونِ) أي: ما أصلُه الوزنُ، كالذهبِ، والفضةِ، والنُّحاسِ، والحديدِ، والرَّصاصِ، (بجنسِه كيلًا) أي: بدلًا عن الوزنِ، لما روى مسلمٌ
(1)
عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الذهبُ بالذهبِ وزنًا بوزنٍ، مِثلًا بمثلٍ، فمَنْ زادَ أو استزادَ فهو ربا". ولأنَّ التماثُلَ مشترطٌ في المكيلِ بالكيلِ، وفي الموزونِ بالوزنِ، فمتى باعَ رطلًا من المكيلِ برطلٍ منه، حصلَ في الرطلِ من الخفيفِ أكثرُ ممَّا حصلَ من الثقيلِ، فيختلفَانِ في الكيلِ، والتماثلُ فيه مشترطٌ. وكذا إذا باعَ الموزونَ كيلًا
(2)
.
وبكلِّ حالٍ لا يتحقَّقُ التماثلُ في المعيارِ مع المخالفةِ، إلا إذا عُلمَ مساوتُه -أي: المكيلِ المبيعِ بجنسِه وزنًا، والموزونِ المبيع بجنسِه كيلًا- في معيارهِ الشَّرعيِّ، فيصحُّ البيعُ؛ للعلمِ بالتماثلِ.
ويصحُّ البيعُ إذا اختلفَ الجنسُ، كتمرٍ ببرٍّ كيلًا، ولو كان المبيعُ موزونًا. ووزنًا، ولو كان المبيعُ مكيلًا، وجِزافًا؛ لقولهِ صلى الله عليه وسلم:"إذا اختلفتْ هذه الأشياءُ، فبيعوا كيفَ شئتم إذا كان يدًا بيدٍ". رواه مسلمٌ، وأبو داودَ
(3)
. ولأنَّهما جنسانِ يجوزُ التفاضلُ بينهما، فجازَا جِزافًا
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1588).
(2)
انظر "معونة أولي النهى"(5/ 140).
(3)
أخرجه مسلمٌ (1587)، وأبو داودَ (3350) من حديث عبادة بن الصامت.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 248).
ويَصِحُّ بيع اللَّحْمِ بمثلِه إذا نزِعَ عظمُهُ، وبحَيوانٍ مِنْ غَيرِ جِنسِه.
(ويصحُّ بيعُ اللَّحِم بمثلهِ) وزنًا، من جنسِه، كلحمِ بقرٍ بلحم بقرٍ
(1)
-وسيأتي تعريفُ الجنسِ- رطبًا بمثلهِ، ويابسًا تناهَى جَفافُه بمثلهِ (إذا نُزعَ عظمُه) لأنَّه إذا لم يُنْزَعْ أدَّى إلى الجهلِ بالتساوي. فإذا نُزعَ، صحَّ البيعُ، كالذهبِ بالذهبِ مِثلًا بمثلٍ.
(و) يصحُّ بيعُ لحمٍ (بحيوانٍ) إذا كانَ (من غير جنسِه) كبيعِ لحمِ ضأنٍ ببقرةٍ، أو أكثرَ، ونحوِ ذلك.
والشَّحْمُ، والأَلْيَةُ، والرئةُ، والطِّحالُ، والقلبُ، والأكارعُ، والدِّماغُ، والكَرْشُ: أنواعٌ
(2)
؛ لأنَّها مختلفةٌ في الاسمِ والخِلقةِ. فلا يجوزُ بيعُ نوعٍ منها بمثلهِ إلا وزنًا. ويجوزُ التفاضلُ إذا كان بغيرهِ، كرطلِ كبدٍ برطلينِ لحمٍ أو أَليةٍ ونحوِهِ.
"فائدةٌ": والجنسُ: ما شملَ أنواعًا، أي: أشياءَ مختلفةً بالحقيقةِ. والنوعُ: ما شملَ أشياءَ مختلفةً بالشخصِ. وقدْ يكونُ الشيءُ جنسًا باعتبارِ ما تحته، ونوعًا باعتبارِ ما فوقهَ.
فكلُّ شيئينِ فأكثرَ أصلُهما واحدٌ: جنسٌ واحدٌ، ولو اختلفَت مقاصدُهما، كدهنِ وردٍ وبَنَفسَجٍ وياسَمينٍ ونحوِها، إذا كانتْ من دُهنٍ واحدٍ، فهي جِنسٌ واحدٌ
(3)
والمرادُ هنا: الجنسُ الأخصُّ، والنوعُ الأخصُّ. فكلُّ نوعين اجتمعا في اسمٍ
(1)
سقطت: "بلحم بقرٍ" من الأصل. وانظر "معونة أولي النهى"(5/ 141).
(2)
انظر "كشاف القناع"(8/ 14)، "دقائق أولي النهى"(3/ 250)، "الروض المربع" 4/ 507)، وفيها:(أجناس) بدلا عن: "أنواع".
(3)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 680).
ويصِحُّ بيعُ دَقيْقِ رِبَويٍّ بدَقِيقِه، إذَا استويَا نُعومةً أو خُشُونةً، ورَطْبِهِ برَطْبِه، ويابِسِه بيابِسِه، وعَصِيرِه بَعصيِره، ومطبُوخِه بمطبُوخِه،. . . .
خاصٍّ، فهو جنسٌ
كذَهبٍ، وأنواعهُ: المغربيُّ، والبُندُقيُّ، والتُّكْروريُّ.
والفضةُ جنسٌ، وأنواعُها: الرِّيالُ
(1)
، والبنادقةُ.
والبُرُّ جنسٌ، وأنواعُه: البحيريُّ، والصعيديُّ
والتمرُ جنسٌ، وأنواعُه: البَرْنيُّ، والمعقليُّ، والصيحانيُّ.
واللَّحمُ أجناسٌ باختلاف أصولهِ؛ لأنَّها فروعُ أصولٍ هي أجناسٌ. وكذلك اللَّبنُ أجناس باختلافِ أصولهِ
فضأنٌ ومعزٌ نوعَا جنسٍ، لا يباعُ أحدُهما بالآخرِ إلا مِثلًا بمثلٍ، يدًا بيدٍ. وكذا البقرُ، والجواميسُ، والإبلُ
(ويصحُّ بيعُ دقيقٍ ربويٍّ) أي: كدقيق حنطةٍ (بدقيق) حنطةٍ (إذا استويا) أي: الدقيقانِ (نعومةً أو خشونةً) فإنِ اختلفا في النعومةِ أو الخشونةِ، لم يصحَّ البيعُ؛ لعدمِ التساوي، وإنِ اختلفَ جنسُ الدقيقِ، صحَّ كيف تراضيا عليه، يدًا بيدٍ.
(و) يصحُّ بيعُ ربويٍّ (رَطْبِه برَطْبِه) كالعنبِ بالعنبِ، والرُّطَبِ بالرُّطبِ، مِثلًا بمثلٍ
(و) يصحُّ بيعُ ربويٍّ (يابسِه بيابسه) كالزبيبِ بالزبيبِ، والتمرِ بالتمرِ
(و) يصحُّ بيعُ ربويٍّ (عصيرِهِ بعصيرهِ) كعصيرِ عنبٍ بعصيرِ عنبٍ، مِثلًا بمثلٍ
(و) يصحُّ بيعُ (مطبوخِه بمطبوخِه) من جنسِه، كمطبوخِ لحمٍ بمطبوخ
(1)
في الأصل: "والريال".
إذا استويَا نَشَافًا أو رُطوبَةً.
ولا يصِحُّ بيعُ فَرعٍ بأصلِه، كزيتٍ بزيتُونٍ، وشَيْرَج بسِمْسِم، وجُبْنٍ بلَبَنٍ، وخُبزٍ بعَجِينٍ،. . . .
لحم
(1)
، وكرطلِ سمنٍ بقريٍّ برطلٍ منه، مِثلًا بمثل. ويصحُّ بيعُ خبزِه بخبزِه، كخبزِ بُرٍّ، مِثلًا بمثلٍ
(إذا استويا) أي: الرِّبويُّ (نَشَافًا) فيما كانَ ناشفًا (أو) استويا (رُطوبةً) فيما كانَ رَطْبًا، مِثلًا بمثل، لحديثِ سعدِ بن أبي وقاصٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن بيعِ الرُّطبِ بالتمرِ. قال:"أينقصُ الرُّطبُ إذا يبِسَ"؟ قالوا: نعم. فنهىَ عن ذلك. رواه مالكٌ، وأبو داودَ
(2)
.
(ولا يصحُّ بيعُ فرعٍ بأصلِه، كزيتٍ بزيتونٍ، وشَيْرج بسِمسمِ، وجُبنٍ)
(3)
أو أقطٍ، أو زُبدٍ، أو سمنٍ، أو مخيضٍ، أو جامِدٍ (بلَبنٍ) لأنَّ الجميعَ فرعُ اللَّبَن، ولا يصحُّ بيعُ أصلٍ بفرعهِ
(و) لا يصحُّ بيعُ (خبزٍ بعجينٍ) أي: نيئهِ بمطبوخه، وحنطةٍ مقليَّةٍ بنيئَةٍ؛ لأخذِ النارِ من أحدِهما، فتفوتُ المماثلةُ.
ولا يصحُّ بيعُ حنطةٍ بحنطةٍ
(4)
فيها شَعيرٌ بقَصدِ تحصيلهِ، أو فِيهَا زُوانٌ
(5)
، أو
(1)
سقطت: "بمطبوخ لحم" من الأصل. وانظر "مسلك الراغب"(2/ 450).
(2)
أخرجه مالكٌ (2/ 624)، وأبو داودَ (3359)، وصححه الألباني.
(3)
سقطت: "وجبن" من الأصل.
(4)
سقطت: "بحنطة" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(8/ 17).
(5)
الزُّوَانُ والزِّوَانُ: ما يُخرَجُ من الطَّعامِ فيُرمَى به، وهو الرديءُ منه. وفي "الصحاح": هو حبٌّ يخالِطُ البُرَّ. "لسان العرب": (زون).
وزَلابيةٍ بقَمْحٍ.
ولا بيعُ الحَبِّ المُشتَدِّ في سُنبُلِه بجنسِه، ويَصِحُّ بغَيرِ جِنسِه.
ترابٌ يظهَرُ أثرُهُ؛ لانتفاءِ التساوي، إلا اليسيرَ الذي لم يُقصدْ تحصيلُهُ، ولا يظهَرُ أثرُهُ، فلا يمنعُ الصِّحةَ؛ لأنَّه لا يُخِلُّ بالتماثُلِ
(و) لا يصحُّ بيعُ (زَلابِيَةٍ)
(1)
وهَريسَةٍ، وفالوذجٍ
(2)
، ونَشًا، وسَنبوسَكٍ
(3)
(بقمحٍ) لأنَّ فيها ماءً، فلا يتأتَّى العِلمُ بالمماثَلَةِ.
(ولا) يصحُّ بيعُ المحاقَلَةِ، وهي:(بَيعُ الحَبِّ) كالبُرِّ، والشعيرِ (المشتدِّ في سُنبلِهِ بجنسِه) للجَهلِ بالتساوي. وكذا بيعُ القُطنِ في أصُولِهِ بقُطنٍ؛ لحديث أنصٍ مرفوعًا: نهى عن المحاقَلَةِ. رواه البخاريُّ
(4)
.
فإنْ لمْ يشتدَّ الحبُّ، وبيعَ ولو بجنسه لمالكِ الأرضِ، أو بشرطِ القطعِ، صحَّ إنِ انتفعَ به.
(ويصحُّ) بيعُ حبٍّ مشتدٍّ في سنبله
(5)
(بغيرِ جنسِه) من حبٍّ وغيرِهِ، كبيع بُرٍّ مشتدِّ في سُنبلهِ بشَعيرٍ أو فضَّةٍ؛ لعدَمِ اشتِرَاطِ التساوي.
(1)
الزلابِيَة: حلوى تُصنعُ مِن عَجينٍ رَقيقٍ، تُصبُّ في الزيت، وتُقلَى، ثم تعقَدُ بالدِّبسِ. "المعجم الوسيط":(زلب).
(2)
الفالوذج: من الحَلْوَى هو الذي يؤكل، يسوَّى من لُبِّ الحنطة. فارسي معرب. "لسان العرب":(فلذ).
(3)
السنبوسك: فطائر مثلثة، تعمل من رقاق العجين المعجون بالسمن، وتحشى بقطع اللحم والجوز. "الألفاظ الفارسية المعربة" ص (95).
(4)
أخرجه البخاريُّ (2207).
(5)
في الأصل: "جنسِه".
ولا يصِحُّ بيعُ رِبَويٍّ بجِنسِه، ومعَهُما -أو مَعَ أحدِهما- مِنْ غَيرِ جنسِهِما، كَمُدِّ عَجْوَةٍ ودِرهَمٍ بمثلِهما، أو ديَنارٍ ودِرهَمٍ بدينَارٍ.
(ولا يصحُّ بيعُ ربويٍّ بجنسِه، ومعهما) أي: الثمنِ والمثمنِ (أو مع أحدِهما، من غيرِ جنسِهما، كمُدِّ عَجوةٍ ودرهمِ بمثلِهما) أي: بمُدِّ عَجوةٍ ودِرهَمٍ؛ فهذانِ معهما غيرُ جنسِهما.
أو مُدِّ عجوةٍ بمُدِّ عجوةٍ ودرهمٍ، فهذا مع أحدِهما غيرُ جنسِهما.
وكذا لو بِيعَ مُدُّ عجوةٍ ودرهمٌ بمدَّينِ عجوةٍ، أو بدرهمينِ، ونحوِ ذلك.
(أو) بيعُ (دينارٌ ودرهمٌ بدينارٍ) فلا يصحُّ؛ لأنَّه من مسائلِ مُدِّ عجوةٍ ودرهمٌ.
وكبيعِ محلًّى بذهبٍ بذهبٍ
(1)
، أو محلًّى بفضَّةٍ بفضَّةٍ
(2)
. وتُسمَّى مسألةَ: "مُدِّ عجوةٍ ودرهمٍ"؛ لأنَّها مُثِّلَتْ بذلك. ونصَّ الإمامُ على عدمِ جوازِها؛ لحديث فضالةَ بنِ عبيدٍ: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقلادةٍ فيها ذهبٌ وخرزٌ، ابتاعَها رجلٌ بتسعةِ دنانيرَ، أو سبعةِ دنانيرَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا، حتى تُميِّزَ بينَهما" قال: فردَّه حتى ميَّزَ بينهما. رواه أبو داودَ
(3)
. ولمسلمٍ: أنَّه صلى الله عليه وسلم أمرَ بالذهبِ الذي في القلادةِ، فنُزِع وحدَهُ، ثمَّ قال لهم:"الذهبُ بالذهبِ، وزنًا بوزنٍ"
(4)
.
ومأخذُ البطلانِ: سَدُّ ذَريعَةِ الرِّبَا؛ لأنَّه قدْ يُتَّخذُ حِيلةً على الرِّبا الصَّريحِ، كبيعِ مائةٍ في كيسٍ بمائتينِ، جعلًا للمائةٍ الثانيةِ في مقابلةِ الكيسِ، وقد لا يُساوي درهمًا، أو أنَّ الصَّفقةَ إذا اشتملتْ على شيئينِ مختلفي القيمةِ، قُسِّطَ الثمنُ على قيمتِهما،
(1)
سقطت: "بذهب" من الأصل.
(2)
سقطت: "بفضة" من الأصل.
(3)
أخرجه أبو داود (3351)، وانظر "الإرواء"(1356).
(4)
أخرجه مسلم (1591).
ويَصِحُّ: أَعِطِني بنصْفِ هذَا الدِّرهَمِ فِضَّةً، وبالآخَرِ فُلُوسًا.
ويَصِحُّ صَرفُ الذَّهبِ بالذَّهَبِ، والفِضَّةِ بالفِضَّةِ متمَاثِلًا وزنًا، لا عَدًّا، بشَرطِ القَبضِ قبلَ التَّفرُّقِ،. . . .
فهو من بابِ التوزيعِ على الجُمَلِ، وهو يُؤدِّي إمَّا إلى يقينِ التفاضلِ، أو إلى الجهلِ بالتساوىِ، وكلاهما يبطلُ العقدَ في باب الرِّبا.
(ويصحُّ) قوله: (أعطِني بنصفِ هذا الدِّرهمِ فِضَّةً، وبـ) النصفِ (الآخرِ فُلُوسًا) ونحوه، كدفعِ دينارٍ؛ ليأخذَ بنصفِه نصفًا، وبنصفِه
(1)
فُلُوسًا، أو حاجةً؛ لوجودِ التساوي؛ لأنَّ قيمةَ النصفِ في الدِّرهمِ كقيمةِ النصفِ مع الفلوسِ أو الحاجةِ، وقيمةَ الفلوسِ أو الحاجةِ كقيمةِ النصفِ الآخرِ سواءً.
ويصحُّ قولهُ لصائغٍ: صُغْ لي خاتمًا من فِضةٍ وَزْنُه درهمٌ، وأعطيكَ مثلَ زنتِه، وأعطيكَ أجرتَكَ درهمًا. وللصائغِ أخذُ الدرهمينِ: أحدُهما في مقابلةِ فضةِ الخاتمِ. والدرهمُ الثاني أجرةٌ له.
(ويصحُّ صرفُ الذَّهبِ بالذَّهبِ، والفضةِ بالفضةِ متماثلًا وزنًا) أي: مِثلًا بمثلٍ بالوزنِ (لا عَدًّا) لجهالةِ المماثلةِ.
ولا يصحُّ ذلك إلا (بشرطِ القبضِ قبلَ التفرُّقِ) من المجلسِ. فإنْ طالَ المجلسُ قبلَ القبضِ، وتقابضا قبلَ التفرُّقِ، جازَ.
والقبضُ في المجلسِ شرطٌ لصحةِ الصرُّفِ. حكاه ابنُ المنذرِ إجماعَ مَنْ يحفظُ عنه من أهلِ العلمِ. ولقولِه صلى الله عليه وسلم: "وبيعوا الذَّهبَ بالفضةِ كيف شئتمْ، يدًا بيدٍ"
(2)
.
(1)
في الأصل: "أو بنصفه".
(2)
أخرجه البخاري (2175)، ومسلم (1590) من حديث أبي بكرة.
وأن يُعوَّضَ أحدُ النَّقدَينِ عَنْ الآخَر بسعِرِ يَومِه.
(و) بشرطِ (أنْ يُعوَّضَ أحدُ النقدينِ عن الآخَرِ
(1)
بسعرِ يومِه) أي: يومِ الصرفِ؛ لما روى أبو داودَ
(2)
، والأثرمُ في "سننِهما" عن ابنِ عمرَ قال: كنتُ أبيعُ الإبلَ بالبقيع، فأبيعُ بالدَّنانيرِ وآخذُ الدراهمَ، وأبيعُ بالدَّراهمِ وآخذُ الدَّنانيرَ، آخذُ هذه من هذه، وأُعطي هذه من هذه
(3)
. فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصةَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، رويدَك أسألُكَ: إنِّي أبيعُ الإبلَ بالبقيعِ، فأبيعُ بالدَّنانيرِ، وآخذُ الدراهمَ، وأبيعُ بالدَّراهمِ، وآخذُ الدَّنانيرَ، آخذُ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأسَ أنْ تأخذَها بسعرِ يومِها، ما لم تفترِقا وبينكما شيءٌ".
ويجوزُ الصرفُ بنقدٍ مغشوشٍ، والمعاملةُ بمغشوشٍ، ولو كان الغشُّ بغيرِ جنسِه لمَنْ يعرفُه، أي: يعرفُ الغشَّ.
نقلَ صالحٌ عن الإمامِ في دراهمَ يُقالُ لها: "المسيِّبَة" عامَّتُها نُحاسٌ إلا شيئًا فيها فِضَّةٌ؟ فقالَ: إذا كان شيئًا اصْطَلَحوا عليه، مِثلَ الفلوسِ اصْطَلَحوا عليها، فأرجو أنْ لا يكونَ بها بأسٌ.
ولأنَّه ليسَ فيه أكثرُ من اشتمالِه على جنسينِ لا غررَ فيهما، فلا يُمنعُ من بيعِهما، كما لو كانا متميِّزينِ. ولأنَّ هذا مستفيضٌ في الأعصارِ، جارٍ بينهم من غير نكير. وفي تحرِيمه مشقَّةٌ وضررٌ.
ويحرُمُ كسرُ السِّكةِ الجائزةِ بين المسلمين، إلا أنْ يُختلفَ في شيءٍ منها: هل هو رديءٌ أو جيدٌ؟ فيجوز كسرها
(1)
سقطت: "عن الآخر" من الأصل.
(2)
أخرجه أبو داود (3354)، وضعفه الألباني.
(3)
سقطت: "من هذه" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكيمياءُ غشٌ، فتحرم. هذا على القولِ بعدمِ قلبِ الأعيانِ حقيقةً، وإلا فلا، فإنَّ للهِ خواصَّ وأسرارًا في العالمِ، ينقلبُ بها نحوُ النُّحاسِ ذهبًا أو فِضةً خالصًا، لكنَّه عزيزٌ
(1)
.
ويحرُمُ الرِّبا بدارِ حربٍ، ولو بين مسلمٍ وحربيٍّ.
والحِيَلُ غيرُ جائزةٍ في شيءٍ من الدِّينِ.
وكُرِهَ كتبُ قرآنٍ على الدَّراهمِ، ونثرُها على الناسِ. وأوَّلُ ضربِ الدَّراهمِ على عهدِ الحجَّاج.
ولا يجوزُ للسلطانِ تحريمُ النقودِ التي بأيدي الناسِ، ليفسدَ ما عندَهم من الأموالِ.
وكُرِهَ ضربُ نقدٍ مغشوشٍ، واتخاذُهُ، نصًّا. وضربٌ لغيرِ السلطانِ. قال أحمدُ: لا يصلحُ ضربُ الدَّراهمِ إلا في دارِ الضَّربِ بإذن السلطانِ، ويُعطي أجرةَ الصُنَّاعِ من بيتِ المالِ
(2)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 106، 107).
(2)
انظر "غاية المنتهى"(1/ 567).
بابُ بيعِ الأُصُولِ والثِّمَارِ
مَنْ باعَ أو وهَبَ أو رَهَنَ أو وَقَفَ دارًا، أو أقرَّ أو وصَّى بها، تناولَ أرضَهَا، وبناءَهَا، وفِناءَها إن كانَ،. . . .
(بابُ بيعِ الأصولِ والثِّمَار)
الأصول
(1)
: جمعُ أصلٍ، وهو ما يتفرَّعُ عنه غيرُه. والمرادُ هنا: أرضٌ، ودورٌ، وبساتين، ومَعاصرُ، وطواحينُ، وأشجارٌ.
وييعٌ الثمارِ: جمعٌ ثمرٍ، كجبلٍ وجبالٍ. وواحدُ الثمرِ: ثمرةٌ. وجمعُ الثمارِ: ثُمُرٌ، ككِتابٍ وكتبٍ. وجمعُ ثُمُرٍ: أثمارٌ، كعُنُقٍ وأعنَاقٍ. فهو رابعُ جمعٍ، وهي أعمُّ ممَّا يُؤكلُ، فيشمل القَرَظَ
(2)
، ونحوَه
(مَنْ باعَ) دارًا (أو وهَبَ) دارًا (أو رَهَنَ) دارًا (أو وقَفَ دارًا، أو أقرَّ) بدارٍ (أو وصَّى بها) أي: بدارٍ (تناولَ) البيعُ: (أرضَها) إنْ لم تكنْ موقوفةً، كمصرَ، والشامِ، وسوادِ العراقِ. ذكرَة في "المبدع" وغيرِه.
ومقتضى ما سبقَ من صحةِ بيعِ المساكن: خلافُهُ
(3)
وتَناوَلَ ما بها من مَعدِنٍ جامدٍ؛ لأنَّه من أجزاءِ الأرضِ، بخلافِ الجاري.
(و) تناولَ (بناءَها) أي: الدارِ؛ لأنّهما داخلانِ في مسمَّاها.
(و) تناولَ (فِناءَهَما) بكسرِ الفاءِ، أي: ما اتَّسعَ أمامَها (إنْ كانَ) لها فِناءٌ
(1)
"والثمار. الأصول" ليستا في الأصل. اقتضى السياق إضافتهما.
(2)
القَرَظُ: وَرَقُ السَّلَمِ. "الصحاح": (قرظ).
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 278)، "كشاف القناع"(8/ 57).
ومُتَّصِلًا بها لمصلَحَتِها، كالسَّلالِيم، والرُّفُوفِ المسمَّرةِ، والأبوابِ المنصُوبَةِ، والخَوابِي المدفونَةِ، وما فيها مِنْ شَجَرٍ، وعُرُشٍ، لا كَنزٍ وحَجَرٍ مدفُونَين، ولا مُنفَصِلَ كحبلٍ، ودَلوٍ، وبَكرَةٍ، وفُرُشٍ، ومِفتَاحٍ.
وإنْ كان المُباغ ونحوُه أرضًا، دخَلَ ما فيها. . . . .
(و) تناولَ ما كانَ (متَّصِلًا بها) أي: الدارِ (لمصلحتِها، كالسَّلاليم)
(1)
من خشَبٍ مُسمَّرةٍ. جمعُ سُلَّمٍ، بضمِّ السِّينِ، وفتحِ اللَّامِ مشدَّدةً، وهو: المِرْقاةُ والدَّرجةُ. عن ابنِ سِيدَه، قال: وتذكرُ وتؤنثُ (و) كـ (الرُّفوفِ المُسمَّرةِ، والأبوابِ المنصُوبةِ) وحِلَقِها، وكحَجَرِ الرَّحَى التحتانيِّ (و) كـ (الخَوابي المدفونةِ) وأجرنةٍ مبنيةٍ، وأساساتِ حيطانٍ، وما في الأرضِ من الحجارةِ المخلوقةِ
(و) تناولَ (ما فيها) أي: الدارِ (من شجرٍ) مغروسٍ (و) من (عُرُشٍ): جمعُ عريشٍ، وهو: الظُّلَّةُ؛ لاتصالِهما بها
و (لا) يتناولُ البيعَ ما فيها من (كنزٍ وحَجَرٍ مدفُونَينِ) لأنَّهما مُودَعَانِ فيها للنَّقلِ عنها، أشبهَا الفُرُشَ والسُّتُورَ
(ولا) يتناولُ (منفصلَ، كحبل، ودلوٍ، وبَكرَةٍ، وفُرُشٍ، ومِفتاحٍ) وقُفلٍ لنحوِ دارٍ؛ لأنَّ اللفظَ لا يشملُه، ولا هو من مصلحِتها. وكذا حجرُ رحًى فوقانيٌّ؛ لعدمِ اتصالهِ، ولعدمِ تناولِ اللفظِ له، بخلافِ: إذا باعَ الطاحونَ أو المعصرةَ ونحوَها، فإنَّه يشملُ التحتانيَّ والفوقانيَّ؛ لتناولِ اللفظِ له
(وإنْ كانَ المباعُ ونحوُه) من موهوبٍ، أو مرهونٍ، أو موقوفٍ، أو مُوصًى به، أو أقرَّ به، أو جعلَه صدَاقًا، أو عوضَ خُلْعٍ، أو جعالةً، أو أجرةً (أرضًا، دخلَ مما فيها)
(1)
في الأصل: "كسلاليم".
من غِراسٍ، وبناءٍ، لا ما فيها مِن زَرعٍ لا يُحصدُ إلَّا مَرَّةً، كبُرٍّ وشَعيرٍ وبصَلٍ ونحوِه، ويُبقَى للبائِع إلى أوَّلِ وقتِ أخذِه بلا أُجرَةٍ، ما لَمْ يشتَرِطهُ المُشتَري لنَفْسِه.
وإن كانَ يُجزُّ مرةً بعدَ أُخْرَى، كرَطْبةٍ وبُقُولٍ،. . . .
أي: ما في الأرضِ (من غِراسٍ، وبناءٍ) فيها، ولو لم يقلْ: بحقوقِها؛ لاتصالِهما بها وكونِهما من حقوقِها.
و (لا) يدخلُ في نحوِ بيعِ أرضٍ (ما فيها من زرعٍ لا يُحصدُ إلا مرَّةً، كبُرٍّ، وشعيرٍ، وبصلٍ ونحوِه) وأُرزٍ، وقِطْنيَّاتٍ، بكسر القافِ، كعَدَسٍ وحِمِّصٍ والباقلاءِ ونحوِ ذلك. وجزرٍ، وفُجلٍ، وتُومٍ، مما يحصدُ مرَّةً واحدةً، ولِفْتٍ، وقصبِ سكَّرٍ
(ويُبقى) في الأرضِ المبتاعةِ (للبائع) والموهوبِ، ونحوِه (إلى أوَّلِ وقتِ أخذِه) كالثمرةِ (بلا أجرةٍ) على البائعِ؛ لأنَّ المنفعةَ حصلتْ مستثناةً له.
وعُلمَ منه: أنَّه لا يُبقى بعدَ أوَّلِ وقتِ أخذِه، وإنْ كان بقاؤُه أنفعَ له إلَّا برضا مشترٍ
(ما لم يشترطْه) أي: الزرعَ (المشتَري) أو المُتَّهبُ، ونحوُه (لنفسِه) فإنْ شرَطَه، كان له. ولا يضرُّ جهلُه في بيعٍ، ولا عدمُ كمالِه؛ لدخولِه تبعًا.
(وإنْ كان) في الأرضِ زرعُ (يُجَزُّ مرةً بعدَ أخرى، كرَطبةٍ) بفتحِ الراءِ، وهي الفِصَّة
(1)
، فإذا يَبِسَتْ فهي قَتٌّ (و) كـ (بقولٍ) من شَمَرٍ، ونَعْناعٍ، وهِندَبا، ونحوِ ذلك.
(1)
الفِصَّةُ: نباتٌ عِشبيٌّ كَلَئيٌّ مُعمَّر، من الفصيلَةِ القرنية. يسمَّى: البرسيم الحجازي. "المعجم الوسيط": (فصفص).
أو تتكرَّرُ ثمرتُه، كقِثَّاءٍ، وباذِنجَانٍ، فالأُصول للمُشتَري، والجَزَّةُ الظَّاهِرَةُ، واللَّقْطَة الأُولى للبائِعِ، وعليه قطعُهُمَا في الحَال.
(أو) كان في الأرضِ زرعٌ (تتكرَّرُ ثمرتُه، كقِثَّاءٍ، وباذنجانٍ) ودُبَّاءٍ. أو يتكرَّرُ أخذُ زهرِه، كوردٍ، وياسمينِ، ونِسرينٍ
(فالأصولُ) في جميعِ هذه (للمُشتَري) ومُتَّهِبٍ ونحوِه؛ لأنَّه يُرادُ للبقاءِ، أشبَه الشجرَ
(والجزَّةُ الظاهرةُ) وقتَ عقدٍ لبائعٍ ونحوهِ (واللَّقْطةُ الأُولى) وزهْرٌ تفتَّحَ وقتَ بيعٍ (للبائعِ) ونحوِه؛ لأنَّه يُجنَى مع بقاءِ أصلِه، أشبهَ ثمرةَ الشَّجَرِ المؤبَّرَةِ (وعليه) أي: البائعِ ونحوِه (قطعُهما) أي: الجزَّةِ الظاهرةِ، واللَّقْطَةِ الأُولى (في الحالِ) أي: على الفَورِ؛ لأنَّه ليس له حدّ يَنتَهي إليه، وربَّمَا ظهَرَ غيرُ ما كان ظاهرًا، فيعصرُ التمييزُ.
هذا ما لم يشترطْ مشترٍ دخولَ ما لبائعٍ، فإنْ شرَطَه كان له؛ لحديث:"المسلمون عندَ شروطِهم"
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه (2/ 236).
فَصْلٌ
وإذا بيعَ شَجَرُ النَّخْلِ بعدَ تشقّقِ طَلعِه، فالثَّمرُ للبائِعِ مترُوكًا إلى أوَّلِ وقتِ أَخذِه.
(فصل)
(وإذا بيعَ) أو وهِبَ، أو رُهِنَ، ونحَوهِ (شَجرُ النَّخلِ بعدَ تَشقُّقِ طلعِه) بكسرِ الطاء: غلافُ العُنقُودِ. مبتدأ، خبرُهُ: ولو لم يؤبَّرْ. أي: يُلقَّحْ، وهو: وضعُ طَلعِ الفُحَّالِ الذَّكَرِ في طَلعِ الأُنثَى
(1)
. يقالُ: أَبَّرتُ النَّخلةَ. بالتَّخفيفِ، والتشديد
(فالثمرُ للبائعِ) إنْ لمْ يشترِطْه مشترٍ لنفسِه (مَتروكًا) له على شَجَرِهِ (إلى أوَّلِ وقتِ أخذِه) وهو وقتُ الجذاذِ، وذلك حين تتناهى حلاوةُ ثمرِها. ولا يلزمُه قطعُها في الحالِ. وأوانُ الجذاذِ في غيرِ النَّخلِ حينَ يَتنَاهى إدراكُ الثَّمَرِ؛ لحديثِ:"مَنْ ابتاعَ نخلًا بعد أَنْ تُؤبَّرَ، فثمرتُها للذي باعَها، إلا أنْ يشترطَ المُبتاعُ". متفقٌ عليه
(2)
.
ما لم تجرِ عادةٌ بأخذهِ بُسرًا، أو يكنْ بُسرُه خيرًا من رُطَبهِ، فيجذُّهُ بائعٌ إذا استحكَمتْ حلاوةُ بُسرِه؛ لأنَّه عادةُ أخذه
(3)
.
إنْ لمْ يشترطْ مشترٍ قطعَه على بائعٍ، فإنْ شرَطَه عليه، قُطِعَ. وما لم يتضرَّرِ النخلُ
(1)
في الأصل: "وضع الذكر في الأنثى"، وانظر "مسلك الراغب"(2/ 462)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 113).
(2)
أخرجه البخاري (2204)، ومسلم (1543) من حديث ابن عمر.
(3)
سقطت: "أخذه" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 285).
وكذَا إنْ بيعَ شجَرُ ما ظَهَرَ مِنْ عِنَبٍ، وتينٍ، وتُوتٍ، ورمَّانٍ، وجَوزٍ. أو ظَهَرَ مِنْ نَورِهِ، كمِشْمِشٍ، وتفَّاحٍ، وسَفَرْجَلٍ ولَوْزٍ. أو خَرَجَ مِنْ أَكمَامِه، كوردٍ.
وما بيعَ قبلَ ذلِكَ، فللمُشتَري.
ولا تدخُلُ الأرضُ تَبعًا للشَّجَرِ،. . .
ببقائِه، فإنْ تضرَّرَ، قُطِعَ؛ لأنَّ الضرَّرَ لا يُزالُ بالضرَّرِ.
بخلافِ وقفٍ، ووصيةٍ، فإنَّ الثمرةَ تدخلُ فيهما نصًّا، أُبِّرتْ أو لمَ تؤبَّرْ، كفسخِ بيعٍ أو نكاحٍ قبل دخولٍ لعيبٍ، ومُقايَلةٍ في بيعٍ، ورجوعِ أبٍ في هبةٍ وهبَها لولدِه، حيثُ لا مانعَ منه، فتدخلُ الثمرةُ في هذه الصُّورِ كلِّها؛ لأنَّها نماءٌ متصلٌ أشبهتِ السِّمَنَ
(وكذا) أي: كطلعٍ تَشقَّقَ: (إنْ بيعَ شجرُ ما ظهرَ) فيها من ثمرةٍ لا قشرَ عليها، ولا نَوْرَ
(1)
لها (من عنبٍ، وتينٍ، وتُوتٍ) وجُمَّيْزٍ. وكذا ما بدا في قشرِه (و) بقيَ فيه إلى الأكلِ، كـ (رمَّانٍ) ومَوزٍ (و) ما بدا في قِشرينِ، كـ (جوزٍ. أو ظَهَرَ من نَورِه، كمِشْمِشِ، وتُفَّاحٍ، وسَفَرْجَلٍ، ولَوْزٍ) وخوخٍ، وأجاصٍ (أو خرجَ من أكمامِه) جمعُ كِمِّ -بكَسرِ الكافِ- وهو الغِلافُ (كوردٍ) وياسَمِين، وبَنفْسَجٍ، وقطنٍ يحملُ كلَّ عامٍ؛ لأنَّ ذلك كلَّه بمثابةِ تشقُّقِ الطلعِ
(وما بيعَ قبلَ ذلك) أي: قبلَ البدوِّ في نحوِ عنبٍ، والخروجِ من النَّوْرِ في نحوِ مِشْمِشٍ، والظهورِ من الأكمامِ في نحوِ الوردِ (فللمشتري) ومُتَّهبٍ
(ولا تدخلُ الأرضُ تبعًا للشجرِ) وإنْ لمْ يَشتَرِطْ قطعَها، أبقاهَا في أرضِ بائعٍ،
(1)
في الأصل: "نوار"، والنَّوْر: بفتح النون: الزهر على أي لون كان. "المطلع" ص (242).
فإذا بَادَ، لم يَملِك غَسَ مَكانِهِ.
كثمرِ على شجرٍ بلا أجرةٍ
(فإذا بَادَ) أي: ذهبَ وانقطعَ (لم يملِكْ) المشتري (غَرْسَ مكانِه) أي: مكانِ ما بادَ من الشجرِ؛ لعدمِ ملكِه الأرضَ تبعًا للشجرِ.
وللمشتري الدخولُ لمصالِحها، لثُبوتِ حقِّ الاجتيازِ له. ولا يدخُلُ لتفرُّجٍ ونحوِه.
فإنْ انكسرتْ أو احترقتْ ونحوُه، ونبتَ شيءٌ من عروقِها، فإنَّه يكونُ لمالِكها. قالَهُ العلَّامةُ الشيخُ منصور البهوتيُّ رحمه الله تعالى.
فَصْلٌ
ولا يَصِحُّ بَيعُ الثَّمَرَةِ قبِلَ بُدُوِّ صَلاحِها
لغَيرِ مالِكِ الأَصْلِ، ولا بيعُ الزَّرعِ قَبْلَ اشتدَادِ حبِّه لغير مالِكِ الأَرض.
وصَلاحُ بعضِ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ صَلاحٌ لجَميعِ نوعِها الذي بالبُستَانِ.
(فصلٌ)
(ولا يصحُّ بيعُ الثمرةِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِها) لأنَّه عيه السلام نهى عن بيعِ الثمارِ حتى يبدوَ صلاحُها، نهى البائعَ والمُبتاعَ. متفق عليه
(1)
. والنهيُ يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه. (لغيرِ مالكِ الأصلِ)
(ولا) يصحُّ (بيعُ الزرعِ قبلَ اشتدادِ حبِّه) لحديثِ ابنِ عمرَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ النخلِ حتى تزهوَ، وعن بيعِ السنبلِ حتى يبيضَّ ويأمَن العاهةَ، نهى البائعَ والمشتري. رواه مسلمٌ
(2)
. (لغيرِ مالكِ الأرضِ)
فإنْ بيعَ الثمرةُ المذكورةُ لمالكِ أصلِها، أو بيعَ الزرعُ لمالكِ أرضِه، صحَّ البيعُ؛ لأنَّ الثمرةَ مع الشجرِ، والزرعَ مع الأرضِ، دخلا تبعًا في البيعِ؛ لحصولِ التسليمِ لمالكِ الأصلِ، ومالكِ الأرضِ
(3)
(وصلاحُ بعضِ ثمرةِ شجرةٍ صلاحٌ لجميعِ) ثمرةِ أشجارِ (نوعِها الذي بالبُستانِ) لأنَّ اعتبارَ الصلاحِ في الجميعِ يَشقُّ، وكالشجرةِ الواحدةِ؛ ولأنَّه يَتتابَعُ غالبًا.
(1)
أخرجه البخاري (2194)، ومسلم (1534) من حديث ابن عمر.
(2)
أخرجه مسلم (1535) من حديث ابن عمر.
(3)
انظر "مسلك الراغب"(2/ 466).
فصَلاحُ البلَحِ: أن يَحمَرَّ أو يَصفَرَّ. والعِنَبِ: أن يَتَمَوَّه بالمَاءِ الحُلوِ. وبقيَّةِ الفَواكِهِ: طِيبُ أكلِها، وظُهورُ نُضْجِها. وما يظهَرُ فَمًا بَعْدَ فَمٍ، كالقِثَّاءِ والخِيارِ: أنْ يؤكَلَ عادَةً.
وكذا اشتدادُ بعضِ حبٍّ، فيصحُ بيعُ الكلِّ تبعًا لأفرادِه، ما لم يبدُ صلاحُه بالبيعِ.
وعُلِمَ منه: أنَّ صلاحَ نوعٍ ليس صلاحًا لغيرهِ
(فصلاحُ البلحِ: أن يحمرَّ أو يصفرَّ) لأنَّه عليه السلام نهى عن بيعِ الثمرةِ حتى تزهوَ. قيل لأنسٍ: وما زهْوُها؟ قال: تحمَارُّ، أو تصفارُّ
(1)
.
(و) صلاحُ (العنب: أن يتمَوَّه بالماءِ الحُلْوِ) أي: أن يصفوَ لونُه، ويظهرَ ماؤُه، وتذهبَ عفوصتُهُ
(2)
من الحلاوةِ. قالَهُ الحجاويُّ في "حاشية التنقيح"
(3)
. قال: فإنْ كانَ أبيضَ، حسُنَ قشرُه وضَرَبَ إلى البياضِ، وإنْ كان أسودَ، فحينَ يظهرُ فيه السوادُ. لقولِ أنسٍ: نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن بيعِ العنبِ حتى يسودَّ. رواه أحمدُ
(4)
.
(و) صلاحُ (بقيَّةِ الفواكهِ) كرمَّانٍ، ومِشمِشٍ، وخوخٍ، وجوزٍ، وبِطيخٍ بـ:(طيبِ أكلِها، وظهورِ نُضجِها) لحديثِ: نهى عن بيعِ الثمرةِ حتى تطيبَ. متفقٌ عليه
(5)
.
(و) صلاحُ (ما يظهرُ فَمًا بعدَ فمٍ، كالقِثَّاءِ، والخيارِ: أنْ يُؤكلَ عادةً) كالثمرةِ.
(1)
أخرجه البخاري (1488)، ومسلم (1555) من حديث أنس.
(2)
العُفُوصةُ: المَرَارَةُ والقَبْضُ. "القاموس المحيط" ص (804).
(3)
انظر "كشاف القناع"(8/ 81).
(4)
أخرجه أحمد (21/ 37)(13314)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1364، 1366).
(5)
أخرجه البخاري (2189)، ومسلم (1536) من حديث جابر.
وما تَلِفَ من الثَّمرَةِ قَبلَ أخذِهَا، فَمِنْ ضَمَانِ البَائِعِ، ما لَمْ تُبَعْ معَ أصلِها، أو يُؤَخِّرِ المُشتَرِي أخذَهَا عن عادَتِه.
وصلاحُ الحبِّ: أنْ يشتدَّ أو يبيضَّ
(وما تلِفَ من الثمرةِ) التي أُبيعتْ بعدَ بُدوِّ صلاحِها -لكن يُسامَحُ في تلفٍ يسيرٍ لا ينضبطُ، فلا يرجعُ بقسطِه من الثمنِ- بجائحةٍ سماويةٍ، وهو ما لا صُنعَ لآدميٍّ فيها، كريحٍ، ومطرٍ، وثلجٍ، وبَرَدٍ -بفتح الراء: المطرُ المنعقدُ- وبَرْدٍ - بسكون الراءِ: ضدُّ الحرِّ، وجليدٍ، وصاعقةٍ، وحرٍّ، وعطشٍ، وجرادٍ، وجُندُبٍ، ونحوِ ذلك (قبلَ أخذِها) ولو بعدَ قبضٍ وتسليمٍ بالتخليةِ؛ لأنَّها ليستْ بقبضٍ تامٍّ (فمن ضمانِ البائعِ) والأصلُ في ذلك كلِّه: حديثُ جابرٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بوضعِ الجوائح. وعنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنْ بعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ" رواه مسلمٌ
(1)
.
وإنْ أتلفَ الثمرَ آدميُّ، خُيرِّ مشترٍ بين الفسخِ، ويَرجعُ بما دفعَه من الثمنِ، والإمضاءِ، أي: البقاءِ على البيعِ، ومطالبةِ المتلفِ بالبدلِ
(ما لم تُبعْ) الثمرةُ (مع أصلِها) فإنْ أُبيعتْ معه، فمن ضمانِ مشترٍ. وكذا لو بيعتْ لمالكِ أصلِها؛ لحصولِ القبضَ التامِّ، وانقطاعِ علقِ البائعِ عنه
(أو يُؤخِّرِ المشتري أخذَهَا عن عادتِه) أي: عن عادةِ الأخذِ، فإنْ أخرَّه عنه، فمن ضمانِ المشتري؛ لتلفِه بتقصيرِه.
"تتمَّةٌ": مَنْ باعَ رقيقًا، شملَ بيعُه لباسًا معتادًا عليه، إلا ما كان عليه لجمالٍ، فإنَّه لبائعٍ. وإنْ كانَ معه مالٌ -ملَّكَه له سيِّدُهُ أو خصَّه به- أو كانتْ أمةً عليها حليُّ،
(1)
أخرجهما مسلم (1554).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهو لبائعِه، ما لم يشترِطْه أو بعضَه مشترٍ، فيكونُ له؛ لحديثِ ابنِ عمرَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ باعَ عبدًا وله مالٌ، فمالهُ للبائعِ، إلا أن يشترِطَه المبتاعُ". رواه مسلمٌ
(1)
. فإنْ كان المشتري
(2)
قَصَدَ ما اشترطَه مما كان مع الرقيقِ، اشتُرِط له شروطُ البيعِ، من العلمِ به، وغيرِه. وإنْ لم يكنْ المشتري قصدَ مالَ الرقيقِ، أو ثيابَ جمالِه، أو حُليَّهِ، فلا يُشترطُ له شروطُ البيعِ؛ لدخولهِ تبعًا بغيرِ قصدٍ، أشبهَ أساساتِ الحيطانِ.
ولو باعَ العبدَ وله سُرِّيةٌ، لم يفرِّقْ بينهما، كامرأتِه، وهي مِلكُ للسيِّدِ. نقلَهُ حربٌ. ذكرهَ في "الفروع"
(3)
ويَشملُ بيعُ دابَّةٍ لجامًا، ومِقودًا، ونَعلًا، ونحوَ ذلك
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1543).
(2)
سقطت: "كان المشتري" من الأصل. وانظر "مسلك الراغب"(2/ 470).
(3)
انظر "الإنصاف"(12/ 216).
(4)
انظر "الروض المربع"(4/ 563).
بابُ السَّلَمِ
(بابُ السَّلَمِ)
والتصرُّفِ في الدَّين، وما يتعلَّقُ به
قال الأزهريُّ: السَّلَمُ والسلفُ واحدٌ في قولِ أهلِ اللغةِ، إلا أنَّ السلفَ يكونُ قرْضًا، لكنَّ السَّلَمَ لغةُ أهلِ الحجازِ، والسلفَ لغةُ أهلِ العراقِ. قالَهُ الماورديُّ
(1)
.
وسُمِّيَ سلَمًا؛ لتسلَيمِ رأسِ المالِ في المجلسِ، وسلفًا؛ لتقديمه
(2)
.
والسَّلَمُ شرعًا: عقدٌ على شيءٍ موصوفٍ في الذمَّةِ، مُؤجَّلٍ بثمنٍ مقبوضٍ بمجلسِ العقدِ.
وهو جائزٌ بالإجماعِ، وسندُهُ: قولهُ تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وروى سعيدٌ بإسناده، عن ابنِ عباسٍ، قال: أشهدُ أن السَّلَفَ المضمونَ إلى أجلٍ مُسمًّى قدْ أحلَّه الله في كتابِه، وأَذِنَ فيه، ثمَّ قرأ هذه الآيةَ
(3)
. وهذا اللفظُ يصلُحُ للسَّلَمِ، ويشملُه بعمومِه.
وقولهُ عليه السلام: "مَنْ أسلفَ في شيءٍ، فليُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ" متفقُ عليه
(4)
من حديثِ ابنِ عباسٍ. ولأنَّ المثمنَ
(5)
أحدُ عِوضي البيعِ، فجازَ أنْ يثبتَ في الذمَّةِ، كالثمنِ، ولحاجةِ الناسِ إليه
(1)
"كشاف القناع"(8/ 85).
(2)
في الأصل: "لتعدِّيه".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 481).
(4)
أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604).
(5)
في الأصل: "الثمن".
ينعقِدُ بكلِّ ما يدلُّ عليه، وبلَفظِ البَيعِ
وشُروطُه سَبعَةٌ:
أَحدُها: انضِباطُ صِفَاتِ المُسلَمِ فيه، كالمَكيلِ، والموزُونِ،. . . .
(ينعقدُ) أي: السَّلمُ (بكلِّ ما يدلُّ عليه) أي: على السَّلَمِ، كـ: أسلمْتُكَ، أو: أسلفْتُكَ؛ لأنَّهما حقيقةٌ فيه؛ إذ هُما اسمٌ للبيع الذي عُجِّل ثمنُه، وأُجِّلَ مثمَنُه.
(و) ينعقدُ السَّلَمُ (بلفظِ البيعِ) لأنَّه بيعٌ حقيقةً إلا أنَّه إلى أجلٍ.
(وشروطُه) أي: السَّلَمِ (سبعةٌ) زائدةٌ على شروطِ البيعِ.
قال في "الإنصاف": ذكرَه جماعةٌ. وذكرَ في "الفروع" وغيرِه ستَّةً. وذكرَ في "الهداية" وغيرِها خمسةً، وذكرَ في "الكافي" و"المحرر" وغيرِهما أربعةً، مع ذكرِهم كلِّهم جميعَ الشروطِ. والظاهرُ: أنَّ الذي لم يُكملْ عددَ ذلك، جعلَ الباقيَ من تتمةِ الشروطِ، لا شروطًا لنفسِ السَّلَمِ
(1)
:
(أحدُها): كونُ مسلمٍ فيه ممَّا يمكنُ (انضباطُ صفاتِ المسلَمِ فيه) لأنَّ ما لا تنضبطُ صفاتهُ يختلفُ كثيرًا، فيفضي إلى المنازعةِ والمشاقَّةِ، وعدمُها مطلوبٌ شرعًا،
(كالمكيلِ) من حبوبٍ، وثمارٍ، وخلِّ، ودهنٍ، ولبنٍ ونحوِها
(والموزونِ) من ذهبٍ، وفِضَّةٍ، ومن قطنٍ، وحريرٍ، وصوفٍ، ونُحاسٍ، وزئبقٍ، وشَبٍّ، وكِبريتٍ، ورصاصٍ، وشحمٍ ولحمٍ نيئٍ، ولو مع عظمِه؛ لأنَّه كالنَّوى في التمرِ، إنْ عُيِّنَ محلٌّ يُقطعُ منه كظهرٍ وفخذٍ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يصحُّ في مطبوخٍ ومشويٍّ، ولا في لحمٍ بعظمه.
(1)
"الإنصاف"(12/ 219).
والمَذرُوعِ، والمعدُودِ مِنْ الحَيوانِ، ولو آدميًّا.
فلا يصِحُّ في المَعدُودِ من الفَوَاكِه، ولا فيما لا ينضَبِطُ، كالبُقولِ، والجُلودِ، والرُّؤوسِ، والأكَارعِ، والبَيضِ، والأوَاني المختَلِفَةِ رُؤُوسًا وأوسَاطًا، كالقمَاقِم ونحوِها.
ويُعتَبرُ قولُه: مِن بَقَرٍ أو غنمٍ، أو ضأنٍ أو معزٍ، جذعٍ أو ثنيٍّ، ذكرٍ أو أنثى، خَصيٍّ أو غيرِه، رضيعٍ أو فطيمٍ، معلوفةٍ أو راعيةٍ، سمينٍ أو هزيلٍ. قالهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(والمذروعِ) كثيابٍ، وخُيوطٍ
(والمعدودِ من حيوانٍ) كعشرينَ فرسًا، (ولو) كان (آدميًا) كعشرينَ عبدًا (فلا يصحُّ) السَّلَمُ (في المعدودِ من الفواكهِ) كرمَّانٍ، وكُمَّثرى، وخوخٍ، وإجَّاصٍ
(ولا) يصحُّ السَّلَمُ (فيما لا ينضبِطُ، كالبُقولِ) لاختلافِها، ولا يمكنُ تقديرُها بالحِزَمِ (والجلودِ) لاختلافِها، ولا يمكنُ ذرعُها، لاختلافِ أطرافِها (والرُّؤوسِ، والأكارعِ) لأنَّ أكثرَها العظامُ، ولحمُها قليلٌ، وليستْ موزونةً (والبيضِ) والجوزِ؛ لاختلافِ ذلك كِبَرًا وصِغَرًا (والأوَاني المختلفةِ رؤوسًا وأوسَاطًا، كالقمَاقِمِ): جمعُ قُمْقُمْ، بضمَّتين؛ لاختلافِها، فإنْ لم تختلفْ رؤوسُها وأوساطُها، صحَّ السَّلَمِ فيها (ونحوِها) كأسطالٍ وأباريقَ؛ لاختلافِها.
ولا يصحُّ السَّلَمُ فيما لا ينضبِطُ، كالجواهِر كلِّها، من دُرِّ، وياقوتٍ، ومَرجانٍ؛ لأنَّه يختلفُ اختلافًا متباينًا بالكِبَرِ والصِغَرِ، وحُسنِ التدويرِ، وزيادةِ ضوئِها.
ويصحُّ السَّلَمُ في فُلوسٍ، ولو نافقةً، وزنًا وعددًا، على ما في "الإقناع". ويكونُ
(1)
"الإنصاف"(12/ 223).
الثَّاني: ذِكرُ جنسِه ونوعِه بالصِّفات التي يختَلِفُ بها الثَّمن.
رأسُ مالِها عرْضًا لا نقدًا؛ لأنَّها ملحقةٌ بالنقدِ
(1)
.
"تتمَّةٌ": يصحُّ السَّلَمُ في السُّكَّرِ، والبانيدِ
(2)
، والدِّبسِ ونحوِها، ممَّا مستْهُ نارٌ؛ لأنَّ عملَ النارَ فيه معلومٌ عادةً، يمكنُ ضبطُه بالنَّشافِ والرطوبةِ، أشبَه المجفَّفَ بالشمسِ.
الشرطُ (الثاني) من شروطِ السَّلَمِ: (ذكرُ جنسِه) أي: جنسِ المسلَمِ فيه، كبُرٍّ، أو شعيرٍ، أو عَدَسٍ (ونوعِه، بالصفاتِ التي يختلفُ بها الثمنُ) غالبًا اختلافًا ظاهرًا.
فيذكرُ جنسَه، فيقولُ مثلًا: برٌّ. ويذكرُ نوعَه: صعيديٌّ، أو: بحيريٌّ. و: تمرٌ، ويذكرُ نوعَه، فيقولُ: برنيٌّ، أو: مَعقِليٌّ، أو: طَبرُزدٌ. ويذكرُ قدْرَ حبِّه، فيقولُ: صِغار، أو: كِبارٌ. ويذكرُ لونَه إنِ اختلفَ اللَّونُ، كالطَّبرزدِ: نوعٌ من التمرِ، يكون منه أسودُ وأحمرُ. ويذكرُ بلدَه، فيقولُ: كوفيٌّ، أو: بصريٌّ. ويذكرُ حداثتَه وقِدَمَه، فيقولُ: حديثٌ، أو: قديمٌ. جيَّدٌ، أو: رديٌ. ويبينُ قديمَ سنةٍ أو سنتينِ، ونحوِه. ويبيِّنُ كونَه مُشعِرًا، أي: به شعيرٌ ونحوُه.
ويذكرُ سنَّ حيوانٍ، من آدميِّ وغيرِه، فيقول: بنتُ مخاضٍ، أو: لبونٍ، ونحو ذلك. ويذكرُ نوعَه، كضأنٍ ومَعْزٍ، ثنيٍّ أو جَذَعٍ. ويذكرُ ذكوريتَه وأنوثتَه، سمينًا أو معلوفًا، هزيلًا أو راعيًا
(3)
. وفي إبلٍ: بُختيَّةً، أَو عِرابيَّةً، بيضاءَ، أو حمراءَ. وكذا
(1)
"دقائق أولي النهى"(3/ 299).
(2)
كذا في الأصل، وهو صحيح، وفي "دقائق أولي النهي" 3/ 300، و"المبدع" 4/ 71:"الفانيد"، وهو نوع من الحلوى. قال في تاج "العروس": الفانيذ: ضرب من الحلواء، معرب بانيد، بالدال المهملة. مادة:(فنذ).
(3)
في الأصل: "هزيل أو راعي".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خيلٌ. وتنسبُ بغالٌ وحميرٌ لبلدِها.
وفي صيدٍ يقولُ بعدَ ذكرِ نوعِه، كحَمَامٍ، وكُرْكِيٍّ، وذكرِ لونِه وكِبَره إنِ اختلفَ به، لا ذكوريتَه وأنوثتَه إلا في نحو دجاجٍ مما يختلفُ بها.
وما يميِّزُ مختَلِفَه، من صيدِ أُحبولةٍ، أو صيدِ كلبٍ، أو صيدِ صقرٍ، أو شبكةٍ، أو فخٍّ، ونحوِه. ويَذكرُ في لبنٍ النوعَ والمرعَى. وفي جبنٍ النوعَ والمرعى، ورَطْبٍ أو يابسٍ، جيِّدٍ أو رَديءٍ.
وفي ثوبٍ النوعَ، والبلَدَ، واللونَ، والطُّولَ، والعرضَ، والخشونَةَ، والصفاقةَ، أو ضدَّهما. فإنْ زادَ الوزنُ، لم يصحَّ السَّلَمُ.
وفي غزلٍ اللَّونَ، والنوعَ، والبلدَ، والوزنَ، والغِلظَ، والرِّقَّةَ.
وفي صوفٍ ونحوِه ذكرَ بلدٍ ولونٍ، وطولٍ أو قصرٍ، وذكوريةٍ أو أنوثةٍ، وزمانٍ. وفي كاغَدٍ
(1)
يذكرُ بلدًا، وطولًا، وعَرْضًا، وغِلَظًا، أو رِقَّةً، واستواءَ الصفةِ واللَّونِ، وما يختلفُ به الثمنُ
وفي رقيقٍ ذِكْرَ نوعٍ، كروميٍّ، أو حبشيٍّ، أو زِنجيِّ، وطولِ رقيقٍ بشبرٍ - قال أحمدُ: يقول: خماسيٌّ، أو سُداسيٌّ، أعْجميٌّ أو فصيحٌ، وذكَرٌ أو أنثى- وكحلاءَ أو دعجاءَ. وبَكارةٍ، أو ثيوبةٍ ونحوِها، كسِمَنٍ، وهزالٍ، وسائرِ ما يختلفُ به ثمنُه.
قال في "القاموس": والكَحَلُ: سوادُ العينِ مع سعَتِها. والدَّعَجُ: أنْ يعلوَ الأجفانَ سوادٌ خِلقَةً موضعَ الكحلِ
(2)
.
(1)
الكاغد: بفتح العين، هو: القرطاس، فارسي معرب. "تاج العروس": مادة: (كغد).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 303) هامش.
ويجوزُ أن يأخُذَ دونَ ما وُصِفَ له، ومِن غَيرِ نوعِه مِنْ جنسِه.
ولا يحتاجُ لذكرِ الجعُودةِ والسُّبوطةِ. وإنْ شرطَ شيئًا من صفاتِ الحُسنِ، كأقْنى الأنفِ، أو أزجِّ
(1)
الحاجبين، لزمَه ذكْرٌ
(2)
.
ولا يصحُّ شرطُ المتعاقدينِ الأردأَ أو الأجودَ؛ لأنَّه لا ينحصرُ، إذ ما مِنْ رديءٍ أو جيِّدٍ إلا ويحتملُ وجودَ أردأَ أو أجودَ منه. بل يصحُّ شرطُ جيَّدٍ ورديءٍ، ويجزئُ ما صدقَ عليه أنَّه جيِّدٌ أو رديءٌ، فينزلُ الوصفُ على أقلِّ درجةٍ
(ويجوزُ) لمُسْلَمٍ له (أنْ يأخذَ دونَ ما وُصِفَ له) من جنسِه؛ لأنَّ الحقَّ له، وقد رضيَ بدونِه
(و) له الأخذُ (من غيرِ نوعِه) كمعزٍ عن ضأنٍ، وجواميسَ عن بقرٍ، (من جنسِه) لأنَّهما كالشيءِ الواحدِ؛ لتحريمِ التفاضلِ بينهما.
وإنْ دفعَ أجودَ ممَّا أسلمَ فيه، من نوعِه، يلزمُ أخذُه؛ لأنَّه زادَه نفعًا.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يلزمُه أخذُه من غيرِ نوعهِ، ولو أجودَ منه، كضأنٍ عن معزٍ.
وإنْ كان من غيرِ جنسِه، كلحمِ بقرٍ عن ضأنٍ، لم يجزْ، ولو رضيا عليه؛ لحديثِ:"مَنْ أسَلمَ في شيءٍ فلا يصرِفْه إلى غيرهِ". رواه أبو داودَ
(3)
. ولأنَّه بيعٌ، بخلافِ غير نوعِه من جنسِه، فإنَّه قضاءٌ للحقِّ.
وإنْ دفعَ إليه أجودَ من جنسِه، ممَّا وقعَ عليه العقدُ، وطلبَ منه شيئًا نظيرَ الجودةِ، لم يصحَّ. وإنْ أحضرَ له بزيادةٍ عن القدرِ. وقال: خذْهُ وزدْني درهمًا، صحَّ؛ لأنَّ الدرهمَ في مقابلةِ الزيادةِ.
(1)
في الأصل: "أزخ".
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 302، 303).
(3)
أخرجه أبو داود (3468) من حديث أبي سعيد الخدري. وضعفه الألباني.
الثَّالِثُ: معرِفة قدرِهِ بمعيارِه الشَّرعي.
فلا يصِحُّ في مَكيلٍ وَزنًا، ولا في موزونٍ كَيلًا.
ولا يجوزُ أخذُ عِوضٍ في جودةٍ إنْ جاءَه بأجودَ ممَّا عليه؛ لأنَّ الجودةَ صفةٌ لا يجوزُ إفرادُها بالبيعِ. ويجوزُ ردُّ معيب، وأخذُ أرشِه مع إمساكِه. ولا يجوزُ أخذُ عِوضِ نقصِ رداءةٍ، لو جاءَه بأردأَ
(1)
(الثالثُ) من شروطِ السَّلَمِ: (معرفةُ قدرِه) أي: قَدرِ المسلَمِ فيه (بمعيارِه الشرعيِّ) في قدرِ كيلٍ في مكيلٍ، وقدرِ وزنٍ في موزونٍ، وقدرِ ذرعٍ في مذروعٍ، وعددٍ في معدودٍ، لحديثِ:"مَنْ أسلمَ في شيءٍ فليُسلِفْ في كيل معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ"
(2)
. ولأنَّه عِوضٌ في الذمَّةِ، فاشتُرطَ معرفةُ
(3)
قدرِه، كالثمنِ
(فلا يصحُّ) السَّلَمُ (في مَكيلٍ وزنًا، ولا) يصحُّ (في موزونٍ كيلًا) نصَّ عليه؛ لأنَّه مبيعٌ يُشترطُ معرفةُ قدرِه، فلم يجزُ بغيرِ ما هو مقدَّرٌ به في الأصلِ، فلم يجزْ، كما لو أسلَمَ في مذروعٍ وزنًا
(4)
.
ولابدَّ أنْ يكونَ المكيالُ، والصَنجةُ، والذراعُ، معلومًا عند عامَّةِ الناسِ؛ لأنَّه إذا كان مجهولًا تعذَّرَ الاستيفاءُ به عندَ التلفِ.
لكن لو عيَّنَ مكيالَ رجلٍ واحدٍ أو ميزانَه، لم يتعيَّنْ على الصحيحِ من المذهبِ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(3/ 304).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
سقطت: "معرفة" من الأصل.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 305)، "كشاف القناع"(8/ 103).
الرَّابعُ: أن يكونَ في الذِّمة إلى أَجلٍ مَعلُوم، له وقعٌ في العَادَةِ، كشَهرٍ ونحوِه.
قال في "الفروع": لم يتعيَّنْ في الأصحِّ. قال في "الرعاية": صحَّ ولم يتعيَّنَا في الأصحِّ. وجزمَ به في "المغني"، و"التلخيص"، و"الشرح" وغيرِهم. قال الزركشيُّ: هذا المذهبُ. وقيلَ: يتعيَّنُ. فعلى المذهبِ: في فسادِ العقدِ وجهانِ. وأطلقَهما في "التلخيص" و "الفروع" والزركشي. وأطلقَ أبو الخطابِ روايتينِ في صحةِ العقدِ بتعيُّنِ مكيالٍ:
أحدُهما: يصحُّ، وهو الصحيحُ، جزمَ به في "الرعاية الكبرى"، وهو ظاهرُ كلامِ الموفَّقِ والشارحِ وغيرِهما.
والثاني: لا يصحَّ. قالهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(الرابعُ) من شروطِ السَّلَمِ: (أنْ يكونَ) السَّلَمُ (في الذِّمَّةِ إلى أجلٍ معلومٍ) نصًّا؛ للخبرِ. فأمرَ بالأجلِ، والأمرُ للوجوبِ. ولأنَّ السَّلَمَ رخصةٌ جازَ للرِّفْقِ، ولا يحصلُ إلا بأجلٍ، فإذا انتفىَ الأجلُ، انتفَى الرِّفْقُ، فلا يصحُّ، كالكتابةِ. والحلولُ يُخرجُه عن اسمِه ومعناه (له) أي: الأجلِ المعلومِ (وقْعٌ في العادةِ، كشهرٍ ونحوِه) قال في "الكافي": أو نصفِه، ونحوه
(2)
. أي: نحوِ النصفِ. وفي "المغني" و"الشرح": وما قاربَ الشهرَ. قال الزركشيُّ: وكثيرٌ من الأصحابِ يمثِّلُ بالشهرِ والشهرينِ، فمِن ثَمَّ قال بعضُهم: أقلُّه شهرٌ.
قال في "الفروع": وليس هذا في كلامِ أحمدَ.
(1)
"الإنصاف"(12/ 256).
(2)
سقطت: "ونحوه" من الأصل.
الخامِسُ: أن يكونَ ممَّا يوجَدُ غَالبًا عندَ حُلولِ الأَجَل.
وظاهرُ كلامِه: اشتراط الأجل، ولو كان قريبًا. ومال إليه، وقال: هو أظهر
(1)
.
وعن الإمامِ: يصحُّ ولو يومًا. ذكرها القاضي.
(الخامسُ) من شروطِ السَّلَمِ: (أن يكونَ) المسلَمَ فيه (ممَّا يوجدُ غالبًا عندَ حلولِ الأجلِ) في محِلِّه -بكسرِ الحاءِ- أي: وقتِ حُلُولِه؛ لوجوبِ تسليمِه إذنْ. فإنْ كانَ لا يوجدُ فيه، أو يوجدُ نادرًا، كالسَّلَمِ في العنبِ والرُّطبِ إلى الشتاءِ، لم يصحَّ.
وإنْ أسلَمَ إلى وقتٍ يوجدُ فيه مسلَمٌ فيه عامًا، فانقطَعَ، وتحقَّقَ بقاؤُه، لزِمَه تحصيلُه ولو شقَّ.
وإنْ تعذَّرَ مسلَمٌ فيه، أو تعذَّرَ بعضُه، بأنْ لمْ يُوجدْ، خُيِّرَ مُسلِمٌ بين صَبْرٍ إلى وجودِه، فيطالِبُ به، أو فسخٍ فيما تعذَّرَ منه، كمنِ اشترى قِنًّا، فأبَقَ قبلَ قبضِه.
ويرجعُ إنْ فسخَ لتعذَّرِه كلِّه، برأسِ مالِه إنْ وُجِدَ، أو عِوضِه إنْ عَدِمِ؛ لتعذُّرِ ردِّه.
وإنْ أسلَمَ ذميٌّ إلى ذميٍّ في خمرٍ، ثمَّ أسلَمَ أحدُهما، رجعَ مُسْلِمٌ برأسِ مالِه، أو عِوضِه؛ لتعذُّرِ الاستيفاءِ أو الإيفاءِ، بأنْ يرجعَ في مثلِه إنْ كان مثليًّا، وقيمتِه إنْ كان متقوَّمًا. هذا إنْ فسخَ في الكلِّ، فإنْ فسخَ في البعضِ فبقسْطِه.
"فائدةٌ": لو اختَلَفَا في قدرِ الأجلِ، أو مُضيِّه، ولا بينةَ، فالقولُ قولُ المدينِ مع يمينِه في قدرِ الأجلِ، على المذهبِ. ونقلَه حربٌ. وفيه احتمالٌ ذكرَه في "الرعاية". وكذا في مضيِّه، على الصحيحِ من المذهبِ. جزمَ به في "المحرر" وغيرهِ، وصحَّحَه في "الفروع".
(1)
"الإنصاف"(12/ 259).
السَّادِسُ: معرِفةُ قدرِ رأسِ مالِ السَّلم، وانضباطُه.
فلا تَكِفي مشاهَدَتُه، ولا يصِحُّ بما لا ينضبِطُ.
وقيلَ: لا يُقبلُ قولُه، ويقبلُ قولُ المسلَمِ إليه، وهو المدينُ في مكانِ تسليمِه. نقلَهُ حربٌ، وجزمَ به في "الفروع" وغيرِه. قالَهُ في "الإنصاف"
(1)
.
(السادسُ) من شروطِ السَّلَمِ: (معرفةُ قدرِ رأسِ مالِ
(2)
السَّلَمِ) ومعرفةُ صفتِه؛ لأنَّه لا يُؤمَنُ فسخُ السَّلَمِ؛ لتأخُّرِ المعقودِ عليه، فوجبَ معرفةُ رأسِ مالِه؛ ليردَّ بدلَه، كالقرضِ. وقبضُ
(3)
رأسِ مالِ السَّلَمِ قبلَ التفرُّقِ من مجلسِ العقدِ تفرُّقًا يُبطلُ خيارَ مجلسٍ، لئلا يصيرَ بيعَ دينٍ بدينٍ.
(و) يُشترطُ أيضًا (انضباطُه) فلا يصحُّ جعلُ رأسِ مالِ السَّلَمِ في جواهرَ ونحوِه، ممَّا لا ينضبِطُ بالصفةِ
(فلا تكفي مشاهدتُه) أي: رأسِ مالِ السَّلَمِ، كما لو عقداه على صُبرَةٍ لا يعلمانِ قدرَها.
(ولا يصحُّ) السَّلَمُ (بما لا ينضبطُ) كجوهرٍ، وكتبٍ. ويُردُّ ما قُبضَ من ذلك على أنَّه رأسُ مالِ السَّلَمِ، لفسادِ العقدِ إنْ وُجِدَ، وإن لم يوجدْ فقيمتُه ولو مِثليًّا. قالَه في "شرح المنتهى" للمصنِّفِ
(4)
.
قالَ العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحِه" على "المنتهى"
(5)
: وفيه نظرٌ.
(1)
"الإنصاف"(12/ 266).
(2)
سقطت: "مال" من الأصل.
(3)
أي: ووجب قبض.
(4)
"معونة أولي النهى"(5/ 207).
(5)
"دقائق أولي النهى"(3/ 313).
السَّابِعُ: أن يقبِضَه قبلَ التفرُّقِ من مجلِس العَقدِ.
ولا يُشتَرطُ ذِكرُ مكَانِ الوَفاءِ؛. . . .
فإنِ اختَلَفا في قدرِ القيمةِ، فالقولُ قولُ مُسلَمٍ إليه بيمينِه؛ لأنَّه غارمٌ.
فإنْ تعذَّرَ قولُ مُسلَمٍ إليه، بأنْ قالَ: لا أعرفُ قيمةَ ما قبضتُه، فعليه قيمة مسلَمٍ فمِه مؤجَّلةً بأجلِ السَّلَمِ.
ويُقبلُ قولُ مسلَمٍ إليه في قبضِ رأسِ مالِه. وإنْ قالَ أحدُهما: قبضَ قبلَ التفرُّقِ، والآخرُ: بعدَه. فقولُ مدعي الصحَّةِ، وتقدَّمُ بينتُه عند التعارضِ.
وإنْ وجدَه مغصوبًا، أو معيبًا من غيرِ جنسِه، بطلَ
(1)
العقدُ إنْ عُيِّنَ، أو كانَ في الذِّمةِ وتفرَّقا قبلَ أخذِ بدلِه. وإنْ كانَ العيبُ من جنسِه، فله إمساكُه مع أرشِه، وردُّه، وطلبُ بدلِ ما في الذِّمةِ ما داما بالمجلسِ.
(السابعُ) من شروطِ السَّلَمِ: (أن يقبضَه): رأسَ مالِ السَّلَمِ (قبلَ التفرُّقِ من مجلسِ العقدِ) تَفرُّقًا يُبطلُ خيارَ مجلسٍ؛ لئلا يصيرَ بيعَ دينٍ بدينٍ.
وكقبضِ: ما بيدِه، أي: المسلَمِ إليه، أمانةٌ أو غصبٌ
(2)
، فيصحُّ جعلُه رأسَ مالِ السَّلَمِ في ذمَّةِ مَنْ هو تحتَ يدِه. ولا يصحُّ جعل ما في ذمَّتِه رأسَ مالِ سلمٍ؛ لأنَّ المسلَمَ فيه دينٌ، فإذا كان رأسُ مالِه دينًا، كانَ بيعَ دينٍ بدينٍ، بخلافِ أمانةٍ وغصبٍ
(ولا يُشترطُ) في السَّلَمِ (ذكرُ مكانِ الوفاءِ) لأنَّه لم يردْ في الحديثِ، وكباقي
(1)
تكررت: "بطل" في الأصل.
(2)
قوله: "أمانة أو غصب" بدلٌ من "ما" في قوله: "ما بيده". انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 312).
لأنَّه يجِبُ مكانَ العَقدِ، ما لم يُعقَد ببريَّةٍ ونحوِها، فيُشتَرطُ.
ولا يصِحُّ أخذُ رَهنٍ أو كَفيلٍ بمُسْلَمٍ فيه،. . . .
البيوعِ (لأنَّه يجبُ) الوفاءُ (مكانَ العقدِ) أي: عقدِ السَّلَمِ إذا كان محلَّ إقامةٍ؛ لأنَّ مقتضى العقدِ التسليمُ في مكانِه (ما لم) يكنْ (يُعقَد
(1)
ببريَّةٍ ونحوِها) كسفينةٍ، أو دارِ حربٍ، أو جبلٍ غيرِ مسكونٍ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ التسليمُ في ذلك المكانِ، فيكونُ محلُّ التسليمِ مجهولًا، فاشتُرِطَ تعيينُه بالقولِ، كالزمانِ (فيُشترطُ) تعيينُ مكانِ الوفاءِ.
فإنْ دفعَ السَّلَمَ في غير محلِّ ما وقعَ عليه العقدُ، من غيرِ أُجرةِ حملٍ، وتَراضيا جازَ، ومعَ الأجرَةِ لا يَصِحُّ، ولو تَراضَيا عليه؛ لأنَّه اعتياضٌ عن بعضِ السَّلَمِ
(ولا يصحُّ أخذُ رهنٍ أو كفيلٍ بمسلَمٍ فيه) رُويتْ كراهتُه عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابن عمرَ
(2)
. ولأنَّ الرهنَ إنًّما يجوزُ بشيءٍ يمكنُ استيفاؤُه من ثمنِ الرهنِ، والضَّمانُ يقيمُ ما في ذِمَّةِ الضَّامنِ مقامَ ما في ذِمَّةِ المضمونِ عنه، فيكونُ في حكمِ العِوَضِ والبدلِ عنه، وكلاهما لا يجوزُ؛ للخبرِ. وردَّه الموفَّقُ
(3)
.
"تتمَّةٌ": تصحُّ الإقالةُ في سلَمٍ، وفي بعضِه.
ومن له سلَمٌ، وعليه سلَمٌ من جنسِه، فقال لغريمِه: اقبِضْهُ لكَ، لم يصحَّ؛ لأنَّه حوالةٌ به. ويصحُّ إنْ قال: اقبضْه لي، ثمَّ لكَ.
وتصحُّ هبةُ كلِّ دَينٍ لمدينٍ فقط؛ لأنَّه إسقاطٌ، فهو يمتنعُ لغير مَنْ هو عليه.
(1)
في الأصل: "العقد".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 273) عن علي، وابن عباس، وابن عمر
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 314).
وإنْ تعذَّرَ حصُولُه، خُيِّر ربُّ المُسلَمِ بينَ صَبرٍ، أو فَسخٍ، ويرجِعُ برأسِ مالِه، أو بدَلِه إن تعذَّرَ.
ويصحُّ بيعُ دَينٍ مستقِرٍّ، من ثمنٍ وقرضٍ، وأجرةٍ استُوفيَ نفعُها، ونحوِها، لمدينٍ فقط، بشرطِ قبضِ عِوضِه قبلَ التفرُّقِ من المجلسِ.
وعدمُ صحةِ بيعِ الدينِ لغيرِ مَنْ هو عليه؛ لعدمِ القدرة على تسليمِه، أشبَه الرقيقَ الآبقِ.
ولا يصحُّ بيعُ غير مستقرٍّ، كدينِ كتابةٍ، وأجرةٍ قبلِ استيفاءِ نفعِها.
ومن استحقَّ على غريمِه مثلَ ما لَهُ عليه قدرًا وصفةً، حالَّيْن، أو مؤجَّلَيْنِ أجلًا واحدًا، تساقطا؛ لاستوائِهما، أو أُسقطَ الأقلُّ من الأكثرِ إنْ تفاوتا. هذا إذا كان أحدُ الدَّينَينِ، أو هما غيرَ سلَمٍ، أو كانَ لمْ يتعلَّقْ به حقٌّ، كرهنٍ بيعَ لربِّ الدَّينِ ليُقضى به دينٌ آخر، فإنَّه لا يقاصَصُ بذلك؛ لتعلُّقِ حقِّ الغيرِ به. وكذا عينٌ لمفلسٍ، تعلَّقَ به غرماؤُه.
ومَنْ دفعَ دَينًا نَوىَ به وفاءَ دَينِه، برِئَ، وإلا فمتبرِّعٌ؛ لعدمِ النيَّةِ. وما ذكروه في الأصولِ: أنَّ ردَّ الأمانةِ وقضاءَ الدَّينِ واجبٌ لا يحتاجُ إلى النيةِ، أي: نيةِ التقرُّبِ. وتكفي نيةُ حاكمٍ في وفائِه قهْرًا من مديونٍ؛ لامتناعِه، أو مع غيبتِه؛ لقيامِه مقامَه.
ومَنْ عليه دَينٌ لا يعلمُ به ربُّه، وجَبَ عليه إعلامُه به
(1)
.
(وإنْ تعذَّرَ حصولُه) أي: حصول السَّلَمِ، أو تعذَّرَ بعضه؛ بأنْ لمْ يوجدْ (خُيِّرَ ربُّ المسلَم)
(2)
فيه (بين) أنْ بـ (صبرَ) لحصولِه، (أو) بين أن بـ (فسخَ) العقدَ فيما تقدَّمَ حصوله (ويرجعَ بـ) ما دفعَه من (رأسِ مالِه، أو) أن يرجعَ بـ (بدلِه إنْ تعذَّرَ)
(1)
انظر "مسلك الراغب"(2/ 482).
(2)
في الأصل: "السلم".
ومَنْ أرادَ قضَاءَ دينٍ عَنْ غَيرِهِ فأبَى ربُّه، لم يُلزَم بقبوُلِه.
وجودُ رأسِ مالِه؛ لعدمِه. بمثلِ مثليٍّ وقيمةِ متقوَّمٍ
(ومن أرادَ قضاءَ دينٍ عن غيرهِ، فأبىَ ربُّه) أي: ربُّ الدينِ قبولَه، أو بذلَ أجنبيٌّ نفقةَ زوجةِ آخرَ، أعسرَ الزوجُ بنفقةِ زوجتِه أو لمْ يعسرْ، فأبتِ الزوجةُ قبولَها (لم يُلزمْ) أي: لم يجبرْ ربُّ الدينِ (بقبولِه) أي: قبولِ دفعِ الدَّينِ. وكذا لم تُجبرِ الزوجة على قبولِ النفقةِ المبذولةِ، وملكتِ الزوجة الفسخَ؛ لإعسارِ الزوجِ. فإنْ كان الأجنبيُّ وكيلًا عنهما، أو ملَّكَة الأجنبيُّ للمدِينِ أو للزَّوجِ، وقضاه ودفَعَاه لهما، أُجبرا على قبولِه.
بابُ القَرْض
يصِحُّ بكلِّ عينٍ يصِحُّ بيعُها، إلَّا بني آدَم.
ويُشتَرطُ:. . . . . . . . . . . . . .
(بابُ القَرْضِ)
بفتحِ القافِ، وحُكيَ كسرُها، مصدرُ قَرَضَ الشيءَ يقرِضُه، بكسرِ الراءِ: إذا قطعَه. واسمُ مصدرٍ بمعنى الاقْتِراضِ.
فهو في اللغةِ: القطعُ. ومنه سُمِّيَ المقِراضُ.
وشرعًا: دفعُ مالٍ إرْفاقًا لمَنْ ينتفعُ به، ويَرُدُّ بدَلَهُ.
وأجمعوا على جوازِه؛ لفعلِه عليه السلام
(1)
. وهو من المَرَافِقِ المندوبِ إليها -والمَرْفِقُ: ما ارتفقْتَ به وانتفعْتَ- لحديثِ ابنِ مسعو مرفوعًا: "ما من مسلمٍ يُقرِضُ مسلمً قَرْضًا مرتينِ، إلا كان كصدقةِ مرَّةٍ". رواه ابنُ ماجه
(2)
. ولأنَّ فيه تفريجًا وقضاءً لحاجةِ أخيه المسلمِ، أشبَهَ الصدقةَ عليه
(يصحُّ) القرضُ (بكلِّ عينٍ يصحَّ بيعُها) من مكيلٍ، وموزونٍ، وجوهرٍ، وحيوانٍ، وغيرِه (إلا بني آدمَ) لأنَّه لم يُنقلْ قرضُهم، ولا هو من المرافقِ. ولا يصحُّ قرضُ المنفعةِ
(ويُشترطُ) في القرضِ:
(1)
ثبت فعلُهُ من حديث أبي رافِعٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم استسلَفَ من رجل بَكرًا. . . الحديث، أخرجه مسلم (1600)، وغيره.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2430)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1389).
عِلمُ قَدرِهِ ووصفِهِ، وكونُ مُقرِضٍ يَصِحُّ تبرُّعُهُ.
ويَتِمُّ العَقْدُ بالقَبُولِ ويُملَكُ، ويَلزَمُ بالقَبضِ،
(عِلْمُ قدْرِه) أي: القرضِ، بمقدارٍ معروفٍ. فلا يصحُّ قرضُ دنانيرَ ونحوِها عددًا، إنْ لم يعرفْ وزنَها، إلا إنْ كانتْ يُتعاملُ بها عددًا، فيجوزُ، ويردُّ بدلَها عددًا
(و) معرفةُ (وصفِه) ليتمكَّنَ من ردِّ بدلِه.
(و) يُشترطُ (كونُ مقْرِضٍ يصحُّ تبرُّعُه) فلا يقرضُ نحوُ وليِّ يتيمٍ من مالِه، ولا مكاتَبٌ، ولا
(1)
ناظرُ وقفٍ من مالِ الوقفِ.
ومِن شأنِه: أن يُصادِفَ ذمَّةً، لا على ما يحدثُ. ذكرَه في "الانتصار"
(2)
؛ بأنْ يكونَ في ذمَّةٍ معينةٍ.
فلا يصحّ قرضٌ لجهةٍ، كمسجدٍ، وقنطرةٍ، ونحوِ ذلك ممَّا لا ذمَّةَ له. قالَهُ ابنُ نصرِ اللهِ في "حواشي الفروع". لكنْ يأتي: أنَّه يصحُّ اقتراضُ ناظرِ الوقفِ عليه، والإمامِ على بيتِ المالِ
(3)
.
قالَ في "الفروع": لا يلزمُ من الاقتراضِ على الوقفِ أنْ يكونَ في جهةِ الوقفِ، بل معناه: أنَّ الناظرَ يقترِضُ في ذمَّتِه للوقفِ؛ ليرجعَ به على جهتِه. وكذا بيتُ المالِ. انتهى.
(ويتمُّ العقدُ) أي: عقدُ القرضِ (بالقبولِ) كبيعٍ (ويُملَكُ) ما اقتُرِضَ بقبضٍ (ويَلزمُ) العقدُ (بالقبضِ) لأنَّه عقلًت يقفُ التصرُّف فيه على القبضِ، فوقفَ المِلكُ
(1)
سقطت: "لا" من الأصل.
(2)
في الأصل: "الإنصاف".
(3)
انظر "إرشاد أولي النهى"(1/ 703).
فلا يَملِكُ المُقرِضُ استرجاعَه، ويثبتُ له البَدَلُ حَالًّا. فإن كانَ مُتقَوَّمًا، فقِيمَتُه وقْتَ القَرضِ، وإنْ كانَ مِثلِيًّا، فمِثلُه، ما لَم يَكُنْ مَعِيبًا، أو فُلُوسًا - ونحوَها- فيُحرِّمُهَا السُّلطانُ، فلهُ القِيمَةُ.
عليه (فلا يملكُ المُقرِضُ استرجَاعَهُ) أي: القرضِ من مقترضٍ، كالبيعِ؛ للزومِه من جهتِه، إلا إنْ حُجِرَ على مُقترِضٍ؛ لفلسٍ، فيملكُ مقرِضٌ الرجوعَ فيه إنْ وجدَه؛ لحديثِ:"من أدركَ متاعَه بعينِه"
(1)
.
وللمُقتَرضِ أن يَشتَريَ بالقرضِ من مُقرِضِه
(ويثبتُ له) أي: للمُقرِضِ (البدلُ حالًّا) أي: في الحالِ (فإنْ كان) القرضُ (مُتقوَّمًا، فقيمتُه وقتَ القرضِ) أي: يومَ قبضِه (وإنْ كان) القرضُ (مِثليًّا) من مكيلٍ أو موزونٍ، لا صناعةَ فيه مباحةٌ، يصحُّ السَّلَمُ فيه؛ لأنَّه يُضمنُ في الغصْبِ والإتلافَ بمثلِه، (فـ) كذا هنا (مِثلُه)
وإنْ شرطَ مقرِضٌ الردَّ بعينِه، لم يصحَّ. ويجبُ على مقرِضٍ قبولُ قرضٍ مِثلي رُدَّ بعينِه (ما لمْ يكنِ) المردودُ بعينِه (معيبًا) تعيَّبَ عندَ المقترِضِ، كحنطةٍ ابتلَّتْ، فلا يلزمُه قبولُه؛ لما فيه من الضررِ؛ لأنَّه دونَ حقِّه. بخلافِ متقوَّمٍ رُدَّ بعينِه، فلا يلزمُه قبولُه؛ لأنَّ الواجبَ له قيمتُه
(2)
(و) ما لم يكنِ المردودُ بعينِه (فُلُوسًا، ونحوَها) كدراهمَ مكسَّرةٍ، (فيحرِّمُها) أي: يمنعُ الناسَ من المعاملةِ بها (السلطانُ، فله) أي: المقرِضِ (القيمةُ) عن الفُلُوسِ والدراهمِ المكسَّرةِ وقتَ القرضِ، سواءٌ نقصتْ قيمتُها قليلًا أو كثيرًا؛ لأنَّه
(1)
أخرجه البخاري (2402)، ومسلم (1559) من حديث أبي هريرة.
(2)
انظر "معونة أولي النهى"(5/ 219).
ويَجُوزُ شَرطُ رَهنٍ وضَمِينٍ فيه.
ويَجوزُ قَرضُ المَاءِ كَيلًا،
كالعيبِ، فلا يلزمُه قبولُها. وسواءٌ كانتْ باقيةً أو استهلكَها، وتكونُ القيمةُ من غيرِ جنسِ الدراهمِ. وكذا المغشوشةُ إذا حرَّمَها السلطانُ.
ويجبُ على مقترضٍ ردُّ مثلِ فلوسٍ اقترضَها، غلتْ أو رخُصتْ أو كَسدتْ؛ لأنَّها مثليَّةٌ.
ويجبُ ردُّ مثل
(1)
مكيلٍ وموزونٍ، فإن أعوزَ المثليُّ -أي: عزَّ المثلُ- فلم يوجدْ، فعليه قيمتُه يومَ إعوازِه؛ لأنَّه يومُ ثبوتِها في الذمَّةِ.
ويجبُ ردُّ قيمةِ غيرِ مكيلٍ وموزونٍ؛ لأنَّه لا مثلَ له، فضُمِنَ بقيمتِه. فجوهرٌ
(2)
ونحوُه يومَ قبضٍ؛ لاختلافِ قيمتِه في الزمنِ اليسير، لكثرةِ الراغبِ وقلَّتِه. وغيرُ الجواهرِ، كمعدودٍ ومذروعٍ، يومَ قرضٍ.
(ويجوزُ شرطُ رهنٍ وضمينٍ فيه) أي: القرضِ؛ لأنَّه عليه السلام استقرضَ من يهوديِّ شعيرًا، ورهنَه دِزعَه. متفقٌ عليه
(3)
. وما جازَ فعلُه، جازَ شرطُه. ولأنَّه يُرادُ للتوثُّقِ بالحقِّ، وليس ذلك بزيادةٍ. والضمينُ كالرهنِ، فلو عيَّنَهما وجاءَ بغيرهما، لم يلزمْ المقرضَ قبولُه، وإنْ كانَ ما أتى به خيرًا من المشروطِ، وحينئذٍ يُخيَّرُ بين فسخِ العقدِ وبين إمضائِه بلا رهنٍ ولا كفيلٍ
(4)
.
(ويجوزُ قرضُ الماءِ كَيلًا) كسائرِ المائعاتِ. ويجوزُ قرضُه لسقي أرضٍ إذا قُدِّرَ
(1)
سقطت: "مثل" من الأصل.
(2)
في الأصل: "كجوهرٍ".
(3)
أخرجه البخاري (2386)، ومسلم (1603) من حديث عائشة.
(4)
"كشاف القناع"(8/ 142).
والخُبزِ والخَمِيرِ عَددًا، وردُّه عدَدًا، بلا قَصدِ زِيادَةٍ.
وكلُّ قَرضٍ جَرَّ نفعًا فحرامٌ، كأنْ يُسكِنَه دارَه، أو يُعيرَه دابَّته، أو يَقضِيَه خَيرًا منه.
الماغ بأُنبُوبَةٍ
(1)
أو نحوِها ممَّا ئتَّخذُ من فَخَّارٍ ورَصاصٍ ونحوِه على هيئتِها.
وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ عن عينِ ماءٍ بين قومٍ لهم نَوباتٌ في أيَّامٍ، يَقتَرضُ أحدُهم الماءَ من نوبةِ صاحبِ يومِ الخميسِ؛ ليَسقيَ به، ويَردَّ عليه نوبتَهُ يومَ السبتِ؟ فقال الإمامُ: إذا كان الماءُ محدودًا يُعرفُ كم يخرجُ منه، فلا بأسَ؛ لتمكُّنِه من ردِّ المثلِ، وإلا يكنْ محدودًا لا يُعرفُ كم يخرجْ منه، أَكْرَهُهُ؛ لأنَّه لا يمكِنه ردُّ مثلِه.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع"
(2)
: ولعلَّه لا يحرُمُ؛ لأنَّ الماءَ العِدَّ لا يُملَكُ بملكِ الأرضِ، بل ربُّها أحقُّ به.
(و) يجوزُ قرضُ (الخُبْزِ والخميرِ عددًا، وردُّه عددًا، بلا قصدِ زيادةٍ) ولا قصدِ جَودَةٍ، ولا شَرطِهما، جازَ ذلك؛ لحديثِ عائشةَ قالتْ: قلت: يا رسولَ اللهِ، الجيرانُ يَستقرِضونَ الخبزَ والخَمِيرَ، ويردُّونَ زيادةً ونُقصانًا؟ فقال:"لا بأسَ، إنمَّا ذلك من مَرافقِ الناسِ، لا يُرادُ به الفضلُ"
(3)
. رواه أبو بكرٍ في "الشافي".
ويثبتُ البدلُ في ذمَّةِ المقترِضِ حالًّا، ولو مع تأجيلِه؛ لأنَّه وعدٌ لا يلزمُ الوفاءُ به. وكذا كلُّ دَينٍ حالٍّ، أو مؤجَّلٍ حلَّ، فلا يصحُّ تأجيلُه
(وكلُّ قرضٍ جرَّ نفعًا فحرامٌ، كـ) شرطِه، أي: المقرِضِ (أن يُسكِنَه) المقترضُ (دارَه، أو يُعيرَهُ دابَّتَه، أو يَقضِيَه خيرًا منه) أي: ممَّا أقرضَه؛ لأنَّ القرضَ عقدُ إرفاقٍ
(1)
في الأصل: "بالنوبة"، وانظر "كشاف القناع"(8/ 140).
(2)
"كشاف القناع"(8/ 140).
(3)
أخرجه ابن الجوزي في "التحقيق"(1502). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1394).
وإن فَعلَ ذلِكَ بلا شَرطٍ، أو قَضَى خَيرًا منه بلا مُواطأةٍ، جَازَ.
وقُربةٍ، فشرطُ النفعِ فيه يُخرجُه عن موضوعِه.
وكذا إنْ شرطَ أن يقضيَه ببلَدٍ آخرَ، ولحملِه مؤنةٌ، فإنْ لمْ يكنْ لحملِه مؤنةٌ، فقال في "المغني": الصحيحُ: جوازُه؛ لأنَّه مصلحةٌ لهما من غيرِ ضررٍ. وكذا لو أرادَ إرسالَ نفقةٍ إلى أهلِه، فأقرضَها ليُوفِّيَها المقترِضُ لهم، جازَ
(1)
.
(وإنْ فعلَ ذلك) كلَّه (بلا شرطِ) جازَ (أو قضىَ) مقترضٌ (خيرًا منه) أي: ممَّا أخذَه، جازَ، كصحاحٍ عن مكسَّرةٍ، أو أجودَ نقدًا أو سكَّةً ممَّا اقترضَ. وكذا ردُّ نوعٍ خيرًا مما أخذَه، أو أرجحَ يسيرًا في قضاءِ ذهبٍ أو فِضَّةٍ. وفي "المغنى" و"الكافي": تجوزُ الزيادةُ في القدرِ والصفةِ؛ للخبر
(2)
(بلا مُواطأةٍ، جازَ) في الجميعِ، نصًّا. أو عُلِمَتْ زيادتُه؛ لشهرةِ سخائِه وكرمِه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استسلفَ
(3)
بَكْرًا، فجاءتْه إبلُ الصدقةِ. قال أبو رافع
(4)
: فأمرني أن أقضيَ الرَّجلَ بَكْرةً، فقلتُ: إنِّي لم أجدْ في الإبلِ إلا جملًا رَباعيًّا. فقال: "أعطِه إيَّاه، فإنَّ من يخرِ الناسِ أحسنَهم قضاءً". رواه الجماعةُ إلا
(5)
البخاريَّ عن أبي رافعٍ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(3/ 328).
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 328).
(3)
في الأصل: "استلف".
(4)
سقطت: "قال أبو رافع" من الأصل.
(5)
سقطت: "إلا" من الأصل، والحديث أخرجه مسلم (1600)، وأبو داود (3346)، والترمذي (1318)، وابن ماجه (2285)، والنسائي (4631) من حديث أبي رافع. وأخرجه البخاري (2390) من حديث أبي هريرة.
ومتَى بذلَ المُقتَرِضُ ما عليهِ بغيرِ بَلَدِ القَرضِ، ولا مَؤنَةَ لحَمْلِه، لَزِمَ ربَّه قبولُه، مَعَ أَمنِ البَلَدِ والطَّريق.
وإنْ فعلَ مقترِضٌ ذلك قبلَ الوفاءِ، ولم ينوِ مقترضٌ احتسابَه من دَينِه، أو لم ينوِ مكافأتَهُ، لم يجزْ، إلا إنْ جرتْ عادةٌ بينهما بذلك الفعلِ قبلَ قرضٍ؛ لحديثِ أنسٍ مرفوعًا:"إذا أقرضَ أحدُكم، فأَهدَى إليه، أو حملَه على الدابَّةِ، فلا يركَبْها ولا يقبَلْه، إلا أن يكونَ جرى بينَه وبينَه قبلَ ذلك". رواه ابنُ ماجه
(1)
.
وكذا كلُّ غريمٍ حكمُهُ حكمُ المقترِضِ فيما تقدَّمَ.
فإن استضافَهُ مقترِضٌ، حسَبَ له مُقرِضٌ ما أكل. وهو في الدَّعَوَاتِ كغيرِه
(ومتى بذلَ المقترِضُ) أو الغاصبُ (ما عليه بغيرِ بلدِ القرضِ) أو الغصبِ (ولا مَؤُنَةَ لحملِه) إليه، كأثمانٍ (لزمَ ربَّه) أي: ربَّ القرضِ (قبولُ) أخذِ (هـ) إذا كان ذلك (مع أمنِ البلد والطريقِ) لعدمِ الضررِ عليه إذنْ.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه"
(2)
: قلتُ: وكذا ثمنٌ، وأجرةٌ، ونحوُهما.
قال في "الإنصاف"
(3)
قلتُ: لو قيلَ: بعدمِ اللزومِ، لم يكنْ بعيدًا؛ لأنَّه قدْ يتجدَّدُ عدمُ الأمنِ، وإن كانا غيرَ آمنينِ، لم يلزمْه أخذُه.
فإنْ كانَ لحملِه مَؤُنةٌ، كحديدٍ وقطنٍ وبرٍّ، وقيمتُه ببلدِ القرضِ أو الغصبِ أنقصُ من قيمتِه ببلدِ الطلبِ، [فلا يَلزَمُه إلَّا قِيمَتُه بها، أي: ببَلَدِ القَرض أو الغصب؛
(1)
أخرجه ابن ماجه (2432)، وضعفه الألباني.
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 331).
(3)
"الإنصاف"(12/ 356).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنَّه لا يَلزَمُه حملُهُ إلى بَلَدِ الطَّلَبِ]
(1)
، فيصيرُ كالمتعذِّرِ، وإذا تعذَّرَ المِثلُ، تعيَّنتِ القيمةُ. واعتبرتْ ببلدِ قرضٍ أو غصبٍ؛ لأنَّه الذي يجبُ فيه التسليمُ. فإن كانتْ قيمتُه ببلدِ القرضِ أو الغصبِ مساويةً لبلدِ الطلبِ أو أكثرَ، لزِمَهُ دفعُ المثلِ ببلدِ الطلبِ؛ لما سبقَ.
وعُلِمَ منه: أنَّه إنْ طُولِبَ بعينِ الغصبِ بغيرِ بلدِه
(2)
، لم يلزمْهُ. وكذَا لو طُولِبَ بأمَانَةٍ، أو عاريَّةٍ، ونحوِها، بغَيرِ بَلَدِها؛ لأنَّه لا يلزمُه حملُها إليه.
"فائدة": لو أقرضَ ذميٌّ ذميًّا خمرًا، ثمَّ أسلَما، أو أحدُهما، بطلَ القرضُ، ولم يجبْ على المقترِضِ شيءٌ.
(1)
سقط ما بين المعكوفين من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهى"(3/ 330).
(2)
في الأصل: "بلد".
بابُ الرَّهنِ
يَصِحُّ بشرُوطٍ خَمسَةٍ:
كونُه مُنَجَّزًا، وكوُنه معَ الحَقِّ، أو بَعدَهُ،
(بابُ الرَّهنِ)
هو لغةً: الثبوتُ والدوامُ، يقالُ: ماءٌ راهنٌ، أي: راكدٌ. ونعمةٌ راهنةٌ، أي: دائمةٌ. وقيل: هو من الحبسِ، قال اللهُ تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطُّور: 21]، وقال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدَّثر: 38]. أي: محبوسةٌ.
وشرعًا: توثقةُ دَيْنٍ بعينٍ يمكنُ استيفاؤُه منها، أو من ثمنِها.
وهو جائزٌ بالإجماعِ. ولا يصحُّ بدونِ إيجابٍ وقبولٍ، أو ما يدلُّ عليهما. قال في "الرعاية": وتصحُّ المعاطاةُ
(1)
.
ويُعتبرُ معرفةُ قدرِه، وصفتِه، وصفتِه، وكونُ راهنٍ جائزَ التصرُّفِ، مالكًا للمرهونِ، أو مأذونًا له فيه
(2)
(يصحُّ) الرهنُ (بشروطٍ خمسةٍ):
أحدُها: (كونُه) أي: الرهنِ (مُنجَّزًا) فلا يصحُّ معلَّقًا
(و) الثاني: (كونُه) أي: الرهنِ (مع الحقِّ) أي: مع الدَّينِ، لا قبلَه؛ لأنَّ الرَّهنَ تابعٌ له، فلا يتقدَّمُه (أو بعدَه) أي: الحقِّ، لقولِه تعالى:{وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البَقَرَة: 283] فجعلَه بدلًا عن الكتابةِ، فيكونُ في محلِّها، وهو بعدَ
(1)
في الأصل: "بالمعاطاة"، وانظر "الإنصاف"(12/ 360).
(2)
انظر "الروض المربع"(5/ 52).
وكُونُه مِمَّن يَصِحُّ بيعُه، وكونُه مِلكَهُ، أو مأذُونًا له في رَهنِه، وكونُه معلُوما جِنسُه، وقدرُهُ، وصِفَتُه.
وجوبِ الحقِّ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يصحُّ قبلَ الدَّينِ؛ لأنَّ الرَّهنَ تابعٌ له، كالشهادةِ، فلا يتقدَّمُه
(و) الثالثُ: (كونُه ممَّنْ يصحُّ بيعُه) وتبُّرعُه؛ لأنَّه نوعُ تصُّرفٍ في المالِ، فلم يصحَّ إلا من جائزِ التصرُّفِ، كالبيعِ
(و) الرابعُ: (كونُه مِلكَهُ) أي: لراهنِه، أو مالكًا لمنافعِه بإجارةٍ، أو للانتفاعِ به بعاريةٍ بإذنِ ربِّهما. لكن ينبغي أنْ يذكرَ لهما القدرَ الذي يُرهنُ عليه، وصفتَه، ومدَّتَه؛ دفعًا لتغريرِهما. فمتى أعلمَ ربَّهما بشيءٍ من ذلك، ثمَّ خالفَه ورهنَه بغيرِه، لم يصحَّ الرهنُ. فإنْ أذِنَ المؤجرُ أو المعيرُ أنْ يرهنَ العينَ على قدرٍ معينٍ، فرهنَه على أكثرَ، صحَّ أَذِنَ له، وبطلَ في الزائدِ. فإنْ رهنَه على دونِ ذلك، صحَّ. ويَملِكَانِ -ربُّهما- الرجوعَ فيهِمَا
(1)
قبلَ إقباضِه، لكن لا يملكُ المؤجرُ الرجوعَ في الإجارةِ إلا بعدَ انقضاءِ مدَّةِ التواجرِ. فإنْ بيعَ رهنٌ مُؤجرٌ أو مُعارٌ في وفاءِ دَينٍ، رجعَ مُؤجرٌ أو مُعيرٌ على راهنٍ بمثلِ مثلي، وبالأكثرِ من قيمةِ متقوَّمٍ؛ لأنَّه إنْ بيعَ بأقلَّ من قيمتِه، ضمِنَ راهنٌ نقصَه، وبأكثرَ، فثمنُه كلُّه لمالِكه
(2)
.
وإنْ تلِفَ رهنٌ معارٌ أو مُؤجَرٌ بتفريطٍ، ضمِنَه راهن ببدلِه، وبلا تفريطٍ، ضمِنَ الراهنُ المُعارَ، لا المُرجَرَ؛ لأنَّ العاريةَ مضمونةٌ، والمُؤْجَرَةُ أمانةٌ إنْ لمْ يتعدَّ أو يفرِّطْ
(أو مأذونًا له) من مالِكه (في رهنِه) فلا يصحُّ رهنُ مالِ غيرِه بغيرِ إذنِه
(و) الخامسُ: (كونُه) أي: الرَّهنِ (معلومًا جنسُه، وقدرُه، وصفتُه) لأنَّه عقدٌ
(1)
في الأصل: "بهما".
(2)
انظر "مسلك الراغب"(2/ 492).
وكُلُّ ما صَحَّ بيعُه صَحَّ رهنُه، إلَّا المُصحَفَ.
وما لا يَصِحُّ بيعُه، لا يَصِحُّ رهنُه، إلَّا الثَّمرَةَ قَبلَ بدُوِّ صَلاحِها، والزَّرعَ قبلَ اشتِدَادِ حَبِّه، والقِنَّ دونَ رَحِمِهِ المَحْرَم.
على مالٍ، فاشتُرِطَ العلمُ به. فلو قالَ: رهنتُكَ ما في هذا الكيسِ. ولم يعلمْ، لم يصحَّ.
(وكلُّ ما صحَّ بيعُه) من الأعيانِ، ولو كان نقدًا، أو مُؤْجَرًا، أو ضعارًا، أو شركةً مُشاعًا (صحَّ رهنُه) ولو على ثمنِه (إلا المصحفَ) فلا يصحُّ رهنُه، ولو لمسلمٍ؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى بيعِه المحرَّمِ
(وما لا يصحُّ بيعُه) كحرٍّ، وأمِّ ولدٍ، ووقفٍ، وآبقٍ، ومجهولٍ، وكلبٍ، وخنزيرٍ (لا يصحُّ رهنُه) لأنَّ القصدَ منه استيفاءُ الدَّيْنِ من ثمنِه عند التعذُّرِ، وما لا يصحُّ بيعُه لا يمكنُ فيه ذلك.
ويصحُّ رهنُ المساكنِ من أرضِ مصرَ والشامِ والعراقِ، ولو كانتْ آلتُها منه؛ لأنَّه يصحُّ بيعُها، بخلافِ أرضِها فلا يصحُّ
(إلا) رهنَ (الثمرةِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِها) بلا شرطِ قطعٍ، فيصحُّ
(و) إلا رهنَ (الزرعِ قبلَ اشتدادِ حبِّه) بلا شرطِ قطعٍ، فيصحُّ؛ لأنَّ النهيَ عن بيعِهما لعدمِ أمنِ العاهةِ، وبتقديرِ تلفِها لا يفوتُ حقُّ المُرْتهِنُ من الدَّينِ؛ لتعلُّقِه بذمَّةِ الرَّاهنِ
(و) إلا رهنَ (القنِّ) ذكرٍ أو أنثى، فيصحُّ رهنُه (دونَ رَحِمِه المحرَّمِ) وهو مفقودٌ هنا؛ لأنَّه إذا استحقَّ بيعَ الرَّهنِ، يباعُ هو ورَحِمُهُ المحرَّمُ، ويستوفي ربُّ الدَّيْنِ عن ثمنِ الرَّهنِ بما خصَّه؛ كأنْ كانتْ قيمةُ أمِّ الولدِ المرهونةِ إذا بِيعتْ مع ولدِها مائةً،
ولا يَصِحُّ رهنُ مالِ اليتيمِ للفَاسِقِ.
وقيمةُ ولدِها خمسونَ؛ الجملةُ: مائةٌ وخمسونَ، فيستوفي المائةَ من ثمنِ الرَّهنِ في مقابلةِ دَيْنِه، إن كانَ دَينُه مائةً، والخمسونَ لصاحبِ الرهنِ. وإن نقصَ فباقيه بذمَّةِ الرَّاهنِ يطلبُ منه.
"فائدةٌ": يصحُّ الرَّهنُ بكلِّ دَيْنٍ واجبٍ، كقرضٍ، وقيمةِ مُتلَفٍ، أو دَيْنٍ ماَلُه إلى الوجوبِ، كثمنٍ مدَّةَ خيارٍ. ويصحُّ أخذُ الرَّهنِ على عينٍ مضمونةٍ، كالغُصوبِ، والعواري، والمقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ.
قال في "الفائق": قلتُ: وعليه: يُخرَّجُ الرَّهنُ على عواري الكتب الموقوفةِ، والأسلحةِ والدروعِ الموقوفةِ على الغزاةِ.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع": إنْ قلنا: هي مضمونةٌ، صحَّ أخذُ الرَّهنِ بها، وإلا فلا. ويأتي في العاريةِ: أنَّها غيرُ مضمونةٍ، فلا يصحُّ أخذُ الرَّهنِ.
وعُلِمَ من ذلك: أنَّه يصحُّ أخذُ الرَّهنِ للوقفِ، فيصحُّ الضمانُ أيضًا لجهةِ الوقفِ؛ لأنَّ ما صحَّ رهنُه، صحَّ ضمانُه
(1)
.
(ولا يصحُّ رهنُ مالِ اليتيمِ للفاسقِ) لأنَّه تعريضٌ به للهلاكِ؛ لأنَّه قدْ يجحدُ الفاسقُ، أو يفرِّطُ، فيضيعُ.
ومثلُه: مكاتَبٌ، وسفيهٌ، وصغيرٌ، ومجنونٌ، وقنٌّ مأذونٌ له في تجارةٍ.
(1)
"كشاف القناع"(8/ 157).
فَصْلٌ
وللرَّاهِنِ الرُّجوعُ في الرَّهنِ
ما لَم يقبِضْة المرتَهِن، فإن قَبَضَه، لَزِمَ. ولم يصِحَّ تصرُّفُهُ
(فصلٌ)
(وللراهنِ الرجوعُ في الرهنِ) أي: له فسخُ الرَّهنِ؛ لعدمِ لزومِه بدونِ القبضِ. فإنْ تصرَّفَ الرَّاهنُ فيه بنحوِ بيعٍ أو عتقٍ، بطلَ.
ولا يُجبرُ الرَّاهنُ على إقباضِه إن امتنعَ؛ لعدمِ لزومِه، ويبقى الدَّينُ بغيرِ رهنٍ.
لكن إنْ شرطَ البائع
(1)
الزَهنَ في عقدِ بيعِ، وامتنعَ المشتري من إقباضِه، فللبائعِ الفسخُ. ولا يبطلُ بنحوِ إجارةٍ أو تدبيرٍ؛ لأنَّه لا يمنعُ البيعَ.
هذا (ما لم يقبضْه المرتَهِنُ) لقولِه تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البَقَرَة: 283]. (فإنْ قبضَه) المرتهِنُ (لزمَ) الرَّهنُ في حقِّ الرَّاهنِ فقط؛ لأنَّ الحظَّ فيه لغيرِه، فلزِمَ من جهتِه، فلا رجوعَ للرَّاهنِ فيه. فإنْ جُنَّ راهنٌ قبلَ إقباضِه، اعتُبرَ فيه إذنُ حاكمٍ
(2)
.
وإنْ ماتَ راهنٌ قبلَ إقباضِه، قامَ وارثُه مقامَه، فإنْ أبَى، لم يُجبَرْ، كالميِّتِ. وإنْ أحبَّ إقباضَه، وليس على الميِّتِ سوى هذا الدَّينِ، فله ذلك.
وليس لورثةِ راهنٍ إقباضُه، وثمَّ غريمٌ للميِّتِ لم يأذنْ فيه.
(ولم
(3)
يصحَّ تصرُّفُه) أي: تصرُّفُ الرَّاهنِ (فيه) أي: في الرَّهنِ المقبوضِ (بلا
(1)
سقطت: "البائع" من الأصل.
(2)
انظر "مسلك الراغب"(2/ 495).
(3)
في الأصل: "ولا".
فيه بلا إذنِ المُرتَهِن، إلَّا بالعِتقِ، وعَلَيه قِيمَتُه مكانَه، تكونُ رَهنًا.
وكَحسْبُ الرَّهنِ ونماؤُه رَهنٌ، وهو أَمانَةٌ بيدِ المُرتَهِنِ، لا يَضمَنُهُ، إلَّا بالتَّفرِيطِ،
إذنِ المرتهِنِ، إلا) إذا تصَّرفَ فيه (بالعتقِ) فيصحُّ العتقُ، سواءٌ كان الرَّاهنُ موسرًا أو مُعْسرًا. نصًّا؛ لأنَّه مبني على السِّرايةِ والتغليبِ. لكنْ يحرُمُ العتقُ بلا إذنِ المرتهِنِ؛ لإبطالِه حقَّه من عينِ الرَّهنِ (وعليه) أي: على الرَّاهنِ الموسرِ، أو معسرٍ أيسرَ (قيمةُ) الرَّ (هـ) ـنِ (مكانَه، تكونُ رَهْنًا) كبدلِ أضحيةٍ ونحوِها؛ لإبطالِه حقَّ مرتهنٍ من الوثيقةِ بغيرِ إذنِه، فلزمتْهُ قيمتُه. وتعتبرُ قيمتُه حالَ إعتاقٍ
(وكسْبُ الرَّهنِ، ونماؤُه) أي: الرَّهنِ المتصلِ، كصِمَنٍ وتعلُّمِ صَنعَةٍ، والمنفَصلِ، كولدٍ، وصوف، ولبن، وورق شجر مقصود (رَهن) أي: يكونُ رهنًا معه، ويباعُ معه لوفاءِ الدَّيْنِ إذا بِيعَ
(وهو) أي: الرَّهنُ (أمانةٌ بيدٍ المرتهِنِ) ولو قبلَ عقدٍ عليه، كبعدَ وفاءِ دَيْنٍ، أو أبراءٍ منه؛ لحديثِ أبي هريرةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَغلَقُ الرَّهنُ من صاحبِه الذي رهَنَه، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". رواه الشافعيُّ، والدراقطنيُّ
(1)
، وقال: إسنادٌ حسنٌ متصلٌ. ولأنَّه لو ضُمِنَ لامتنعَ الناسُ منه خوفَ ضمانِه، فتُعطَّلُ المدايناتُ، وفيه ضررٌ عظيمٌ.
فإنْ تَلِفَ (لا يضمنُه) المرتهنُ (إلا بالتفريطِ) أو بالتعدِّي عليه، كسائرِ الأماناتِ
(1)
أخرجه الشافعي في "الأم"(3/ 167، 186)، والدارقطني (3/ 32 - 33) من طريق سعيد بن المسيب به. ورجح الألباني إرساله في "الإرواء"(1406).
ويُقبَلُ قولُه بيمينِه في تَلَفِهِ، وأنَّه لم يُفرِّط.
وإن تَلِفَ بعضُ الرَّهنِ، فباقِيهِ رهنٌ بجَميعِ الحَقِّ، ولا ينفَكُّ مِنه شَيءٌ حتَّى يُقضَى الدَّينُ كلُّه.
(و) إنْ ادَّعَـ (ي) المرتهنُ تلفَ الرَّهنِ بحادثٍ ظاهرٍ، كنهبٍ، وحريقٍ، وقامتْ بيِّنَةٌ به قُبِلُ. فإن أنكرَ الرَّاهنُ التلفَ به، حلفَ أنَّه تلفَ به، وبرئَ.
وإن لم يُقِمْ بينةً بالحادثِ الظاهرِ، لم يُقبلْ قولُه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُه؛ لأنَّه لا تعذُّرَ لإقامةِ البيِّنةِ عليه.
وإنِ ادَّعَى تَلَفَه بسببٍ خفيٍّ، كسرقةٍ ونحوِها. أو لم يُعيِّنْ سببًا (قُبِلَ قولُه بيمينِه في تلفِه) بذلك، وبرِئَ منه؛ لأنَّه أمينٌ. فإنْ لمْ يحلفْ، قُضِيَ عليه بالنكولِ
(و) كذا يقبلُ قولُه بيمينِه (أنَّه لمْ يفرِّطْ) في الرَّهنِ.
ولا يسقطُ الدَّيْنُ بتلفِ الرَّهنِ. ولا يلزمُ الرَّاهنَ أن يرهنَ مكانَ ما تلفَ من الرَّهنِ رهنًا آخرَ؛ لأنَّ الرَّهنَ من أصلِه جائزٌ غيرُ واجبٍ.
(وإنْ تلِفَ بعضُ الرَّهنِ، فباقيه رهنٌ بجميعِ الحقِّ) لتعلُّقِ الحقِّ كلِّه بجميعِ أجزاءِ الرَّهنِ
(ولا ينفكُّ منه) أي: من الرَّهنِ (شيءٌ حتى يُقضَى الدَّينُ كلُّه) حكاه ابنُ المنذرِ إجماعَ مَنْ يُحفظُ عنه؛ لأنَّ حقَّ الوثيقةِ متعلِّقٌ بجميعِ الرَّهنِ، فيصيرُ محبوسًا بكلِّ الحقِّ، وبكلِّ جزءٍ منه، لا ينفكُّ منه شيءٌ حتى يَقضِيَ جميعَه.
وإنْ رهنَه عندَ رجلينِ فوفَّى أحدُهما، انفكَّ في نصيبِه؛ لأنَّ عقدَ الواحدِ مع الاثنينِ بمنزلةِ عقدين، فكأنَّه رهنَ كلَّ واحدٍ منهما النصفَ منفردًا.
أو رهنَه رجلانِ شيئًا، فوفَّاه أحدُهما ما عليه، انفكَّ الرَّهنُ في نصيبِه؛ لأنَّ الرَّهنَ
وإذا حَلَّ أجلُ الدَّينِ، وكانَ الراهِن قد شَرطَ للمُرتَهِنِ: أنه إن لم يأتِه بحقِّه عندَ الحلول، وإلَّا فالرَهنُ له، لم يَصِحَّ الشَّرطُ، بل يَلزَمُه الوفاءُ، أو يأذَنَ للمُرتَهِنِ في بيعِ الرَّهنِ، أو يبيعُه هُو بنَفسِه؛ ليوفِّيَه حقَّه، فإن ألَى، حُبِسَ أو عُزِّرَ، فإن أَصرَّ، باعَه الحَاكِم.
متعددٌ، فتعلَّقَ على كل منهما بنصيبِه، كتعددِ العقدِ. فلو رهنَ اثنانِ عبدًا لهما عندَ اثنينِ بألفٍ، فهذه أربعةُ عقودٍ، ويصير كلُّ ربعٍ منه رهنًا بمائتينِ وخمسينَ، فمتى قضاه في كلِّ شيءٍ، انفكَّ مِن الرَّهنِ بقدرِ ذلك. ذكرَه القاضي، ومشَي عليه في "الإقناع"
(1)
.
(وإذا حلُّ أجلُ الدَّينِ) المؤجَّلِ (وكانَ قدْ شرطَ للمرتهنِ: أنَّه إنْ لمْ يأتِه بحقِّه عندَ الحلولِ) أي: حلولِ الأجلِ (وإلا فـ) يكونُ (الرَّهنُ له) أي: للمرتهنِ (لم يصحَّ الشرطُ) لفسادِه، (بل يلزمُه) أي: المدِينَ (الوفاءُ) أي: وفاءُ دَينِه، (أو) أنّ الرَّاهنَ (يأذنُ للمرتهنِ في بيعِ الرَّهنِ، أو) أنَّ الرَّاهنَ (يبيعُه هو بنفسِه؛ ليُوفِّيَه) منه (حقَّه. فإنْ أبى) الرَّاهنُ وفاءَ الدَّينِ، أو الإذنَ للمرتهنِ في بيعه، أو أبَى أن يبيعَهُ هو بنفسِه (حبسَـ) ـهُ الحاكمُ (أو عزَّر) هُ على ذلك. (فإذا أصرَّ) بعد الحبسِ والتعزيرِ
(2)
(باعَه الحاكمُ) قهرًا عليه، ووفَّى ربَّ الدَّينِ حقَّه من ثمنِه.
وحُكمُ الغائبِ حكمُ الممتنعِ مِن الوفاءِ، فيبيعُ الحاكمُ عليه الرَّهنَ، ويُوفِّي منه؛ لأنَّ له النظرَ في مالِ الغائبِ، كما قطعَ به في "التنقيح"
(3)
.
(1)
انظر "كشاف القناع"(8/ 189).
(2)
في الأصل: "التعز"
(3)
انظر "التنقيح المشبع" ص (242)، "حواشي الإقناع"(1/ 558).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"تتمَّةٌ": وإذا رهنَ أرضًا، أو دارًا، أو بستانًا، أو طاحونًا، أو حمَّامًا، تبعَه في الرَّهنِ ما يتبعُ المبيعَ في البيعِ مِن شجرٍ وغيرِه. وما لا يبتعُ في البيعِ، فلا يتبعُ في الرَّهنِ.
وإذا أَذِنَ الراهنُ للمرتهِنِ في بيعِ الرَّهنِ، وعيَّنَ له نقدًا، تعيَّنَ، وإلَّا فيبيعُ بنقدِ البلدِ. فإنْ كانَ بالبلدِ نقودٌ، باعَ بأغلبِها رَواجًا. فإنْ تساوتْ، باعَ بجنسِ الدَّيْنِ. فإنْ لم يكنْ في البلدِ جنسُ الدَّيْنِ، باعَ بما يراه أصلحَ.
فَصْلٌ
وللمُرتَهِنِ رُكوبُ الرَّهنِ، وحَلبُه بقَدْرِ نفَقَتِه بلا إذنِ الرَّاهِن، ولو حَاضِرًا،
(فَصْلٌ)
(وللمرتهِنِ ركوبُ) الدَّابةِ (الـ) ـــــمـ (رهـ) ـو (نـ) ـــــــةِ، (و) له (حلبُه)
(1)
الحيوان المرهون، ولو أمةً مُرضِعةً؛ بأنْ يُؤجِرَهَا للاسترضَاعِ -لا لاستخدامِ عبدٍ، وسكنى دارٍ، واستعمالِ متاعٍ بقدرِ نفقتِه- ونحوِ ذلك.
فلا يجبُ على الرَّاهنِ، بل يكونُ (بقدرِ نفقتِه) لا بأكثرَ منها، متحرَّيًا للعدلِ في ذلك بقدرِ النفقةِ، فلا يُنْهِكُه، بحيثُ يضرُّ بها أو بولَدِها؛ إذ الانتفاعُ عِوضُ النفقةِ، وذلك إنَّما يتأتَّى من المرتهِنِ. أمَّا الزَاهنُ فإنفاقُه وانتفاعُه ليسا بسببِ الركوبِ والشربِ، بل بسببِ المِلكِ. لحديثِ أبي هريرةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " الظَهْرُ يُركبُ بنفقتِه إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يُشربُ بنفقتِه إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركبُ النفقةُ". رواه البخاريُّ
(2)
.
(بلا إذنِ الرَّاهن، ولو) كان الرَّاهنُ (حاضرًا) ولم يمتنعْ مِنَ النفقةِ عليه؛ لأنَّه مأذونٌ فيه شرعًا.
فإنْ فضلَ شيءٌ من اللَّبنِ بعد النفقةِ، باعَه المأذونُ له، من مرتهِنٍ أو غيرِه. وإنْ لم يُؤذَنْ فيه، باعَه حاكمٌ.
وإنْ لم يفِ الركوبُ أو اللَّبنُ بالنفقةِ، رجعَ المرتهِنُ على الرَّاهنِ بالزائدِ، إنْ نوى
(1)
في الأصل: "حلب".
(2)
أخرجه البخاري (2512).
وله الانتِفاعُ به مجَّانًا بإذنِ الرَّاهِن، لكِنْ يصيرُ مضمُونًا عَلَيهِ بالانتِفَاِعِ.
ومَؤُنَةُ الرَّهنِ، وأُجرَةُ مَخزَنِه، وأُجرَةُ ردِّهِ مِنْ إباقِه، عَلَى مالِكِه.
الرجوعَ، وإنْ لم ينوِ الرجوعَ كان متبرِّعًا لم يرجعْ به
(1)
.
(وله) أي: للمرتهِنِ (الانتفاعُ به) أي: بالرَّهنِ (مجَّانًا) بلا عِوضٍ، وله أنْ ينتفعَ به بعوضٍ. ولو بمحاباةِ في
(2)
الأجرةِ؛ بأنْ كانتْ دونَ أجرةِ المثلِ؛ لأنَّه كانتفاعٍ به بغيرِ عِوضٍ. ما لمْ يكنْ الدَّينُ قَرْضًا، فلا ينتفعُ به المرتهِنُ، ولو أذِنَ الرَّاهِنُ مجانًا أو بمحاباةٍ؛ لأنَّه يصيرُ قرضًا جرَّ نفعًا، فيحرُمُ
(بإذنِ الرَّاهنِ) وله أيضًا أن يَستأجرَه، وأن يَستعيرَه من الرَّاهنِ، ولا يخرجُ بذلك عن الرَّهنِ؛ لاستدامةِ القبض بيده، خلافا للقاضي
(لكن يصير) الرهن (مضمُونًا عليه بالانتفاعِ) به مجَّانًا؛ لصيرورتِه عاريةً.
وظاهرهُ: لا يصيرُ مضمونًا قبلَ الانتفاعِ به.
فإنِ انتفعَ المرتهِنُ بالرَّهنِ بغيرِ إذنِ الرَّاهنِ، فعليه أجرتُه في ذمَّتِه، كالغاصبِ. فإنْ كانتْ من جنسِ الدَّيْنِ، سقطَ منه بقدرِها بالمقاصَّةِ بشرطِها. وإن تلِفَ الرَّهنُ، ضمِنَه المرتهِنُ، لتعدِّيهِ بانتفاعِه به بغيرِ إذنِ ربِّه، كالوديعةِ
(ومَؤُنَةُ الرَّهنِ) من طعامِه، وكسوتِه، ومسكنه، وحافظٍ، وسَقيٍ، وتجفيفٍ، وكفَنِه إذا ماتَ، وبقيَّةِ تجهيزِه (وأجرةُ مَخزَنِه) إنِ احتاجَ إلى خزنٍ (وأُجرةُ ردِّه) أي: ردِّ الرَّهنِ (من إباقِه) أو شرودِه لو كان قِنًّا أو حيوانًا، فأبقَ أو شَرَدَ (على مالكِه) وكذا أُجرةُ سَقْيِه وتلقيحِه وزِبارِه -وهو قطعُ الأغصانِ الرديئةِ- وجِذاذِه، وثمنُ
(1)
انظر "مسلك الراغب"(2/ 503).
(2)
سقطت: "في" من الأصل.
وإنْ أنفَقَ المُرتَهِنُ على الرَّهنِ بلا إذنِ الرَّاهِنِ -مَعَ قُدرَتِه على استئذَانِه- فمُتَبرِّعٌ.
دوائِه، وأجرةُ مُداواتِه، وخِتانِه، على الرَّاهنِ؛ لما رَوى سعيدُ بنُ المسيبِ، عن أبي هريرة مرفوعًا:"لا يَغلقُ الرَّهنُ مِن صاحبِه الذي رهنَه، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه". رواه الشافعيُّ
(1)
.
فإنِ امتنعَ راهنٌ، أجبَره حاكمٌ. فإنْ لم يفعلْ، أخذَه حاكمٌ مِن مالِه. فإنْ لم يكنْ له مالٌ، أو كان الرَّاهنٌ غائبًا، بِيعَ مِن الزَهبِن بقدرِ الحاجةِ ما يجبُ عليه مِن المؤنةِ وغيرِها.
فإنْ خِيفَ استغراقُ ثمنِ الرَّهنِ في الإنفاقِ ونحوِه، بِيعَ كلُّه، وجُعِلَ ثمنُه رهنًا مكانَه.
وكذا يلزمُ المالكَ
(2)
فِطرتُه، فإنْ لم يكنْ له
(3)
شيءٌ غيرَ العبدِ، بِيعَ منه بقدرِ الفطرةِ. قالَهُ في "الإقناع"
(4)
في بابِ زكاةِ الفطرِ.
(وإنْ أنفقَ المرتهِنُ على الرَّهنِ) ليرجعَ على راهنٍ (بلا إذنِ الرَّاهنِ) متعلِّقٌ بـ: "أنفق"(مع قدرتِه على استئذانِه) لوجودِه (فـ) المنفقُ (متبرِّعٌ) حُكْمًا؛ لتصدُّقِه به. فلم يرجعْ، ولو نوىَ الرجوعَ فيه؛ لتفريطِه في ذلك.
وإنْ عجزَ عن استئذانِه؛ لتعذُّرِه من نحوِ غَيْبَةٍ، رجعَ المرتهِنُ بما قامَ عنه من
(1)
تقدم تخريجه (2/ 310).
(2)
أي: مالك العبد.
(3)
أي: للراهن.
(4)
"الإقناع"(1/ 449).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الواجبِ بالأقلِّ ممَّا أنفقَ من نفقةِ مثلِه، كما لو كانَ نفقةُ المثلِ خمسةً، فأنفقَ أربعةً، رجعَ بالأربعةِ إنْ نوىَ الرجوعَ، وإلا فمتبرِّعٌ. ولو أنفقَ ستةً، وكان نفقةُ المثلِ خمسةً، فليعرَ له الرجوعُ إلا بالخمسةِ، إن نوىَ الرجوعَ، وإلا فلا. والواحدُ الزائدُ تبرُّعٌ؛ لعدمِ وجوبِه.
ولا يُشترطُ استئذانُ حاكمٍ لتعذُّرِ استئذانِ مالكٍ، ولا إشهادٌ عليه بنيَّةِ الرجوعِ، بل يُقبلُ قولُه في نيةِ الرجوعِ.
فَصْلٌ
مَنْ قَبَضَ العَينَ لحظِّ نفسِهِ -كمُرتَهِنٍ
، وأَجِيرٍ، ومُستأجِرٍ، ومُشتَرٍ، وبائِعٍ، وغاصِبٍ، وملتَقِطٍ، ومُقتَرِضٍ، ومُضَارِبٍ- وادَّعَى الردَّ للمَالِكِ، فأنكَرَهُ، لم يُقبَل قولُه إلَّا ببيِّنةٍ.
(فصلٌ)
(مَنْ قبضَ العينَ لحظِّ نفسِه، كمرتِهنٍ) قبضَ عينَ الرَّهنِ (وأَجيرٍ) كخيَّاطٍ، وحَيَّاكٍ، ونحوِهما (ومستأجرٍ) قبضَ العينَ المؤجرةَ (ومشترٍ) قبضَ العينَ المبتاعةَ (وبائعٍ) قبضَ الثمنَ (وغاصبٍ) قبضَ العينَ المغصوبة
(1)
(وملتقطٍ) قبضَ اللُّقطةَ (ومقترضٍ) قبضَ عينَ القرضِ (ومضاربِ) قبضَ شركةَ المضاربةِ (وادَّعَى) قابضُ العينِ ممَّا ذُكِرَ (الردَّ) أي: ردَّ العينِ المقَبوضةِ (للمالكِ)
(2)
العينِ (فأنكرَ) المالكُ ردَّ (هـ) ــا، أي: ردَّ العينِ المقبوضةِ (لم يقبلْ) في ذلك (قولُه) أي: قولُ مدَّعي الردَّ (إلا) إذا كانَ (بـ) إقامةِ (بيِّنةٍ) في ردِّها
(وكذا) لا يُقبلُ قولُ (مُودِعٍ) في ردِّ ما قبضَه من وديعةٍ، (و) لا قولُ (وكيل) في ردِّ ما قبضه بطريق وكالة
(3)
(و) لا قولُ (وصيٍّ) فيما ردَّه بطريقِ وصايةٍ، إلا ببيِّنةٍ.
(1)
في الأصل: "المضمونةَ".
(2)
في الأصل: "لمالك".
(3)
سقطت: "ولا قولُ وكيل في ردِّ ما قبضه بطريق وكالة" من الأصل. والمثبت من "مسلك الراغب"(2/ 508).
وكَذَا مُودِعٌ، ووَكِيلٌ، ووصِيٌ، ودلَّالٌ بجُعلٍ، إذا ادَّعى الرَّدَّ، وبلا جُعلٍ، يُقبَلُ قولُه بيَمينه.
(و) كذا لا يُقبلُ قولُ (دلَّالٍ) إذا كانَ (جعْل، إذا ادَّعى الردَّ) لما قبضَه، (و) إذا كانَ الدلَّالُ (بلا جُعْلٍ، قُبِلَ قولُه بيمينِه) لأنَّه أمينٌ.
بابُ الضَّمَانِ والكَفَالَةِ
(بابُ الضَّمَانِ والكَفَالةِ)
الضمانُ: مشتقٌّ من الضمِّ. ورُدَّ: بأنَّ لامَ الكلمةِ في الضمِّ ميمٌ، وفي الضمانِ نونٌ، وأُجيبَ: بأنَّه مِن الاشتقاقِ الأكبرِ، وهو المشاركةُ في أكثرِ الأصولِ، مع ملاحظةِ المعنى.
وقال القاضي: مشتقٌّ من التضمينِ؛ لأنَّ ذمَّةَ الضامنِ تتضمَّنُ الحقَّ.
وقال ابنُ عقيلٍ: من الضِّمْنِ، فذمَّةُ الضامنِ في ضمنِ ذمَّةِ المضمونِ عنه؛ لأنَّه زيادةُ وثيقةٍ
وهو جائز إجماعًا؛ لقولِة تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يُوسُف: 72]. قال ابنُ عباسٍ: الزعيمُ: الكفيلُ
(1)
. ولقولِه عليه الصلاة والسلام: "الزعيمُ غارمٌ". رواه الترمذيُّ
(2)
.
وشرعًا: التزامُ مَنْ يصحُّ تبرُّعُه، ولو مفلسٌ لالتزامِه في ذمَّتِه؛ لأنَّ الحجرَ عليه في مالِه، أو قنٌّ أو مكاتبٌ بإذن سيَّدَهما؛ لأنَّ الحَجْرَ عليهما لحقِّه، فبإذنِه ينفَكُّ الحَجْرُ، كسائرِ تصرفاتِهما. ويُؤخذُ ما ضمِنَه قِنٌّ بإذنِ سيِّدِه مِن سيِّدِه؛ لتعلُّقِه بذمَّتِه. وكذا مكاتبٌ مِن سيِّدِه.
والالتزامُ: بما
(3)
يجبُ على آخرَ، من ثمنٍ، وقرضٍ، وقيمةِ مُتْلَفٍ، مع بقاءِ ما
(1)
أخرجه الطبري في "التفسير"(16/ 178).
(2)
أخرجه الترمذي (1265) من حديث أبي أمامة. وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "من"، وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 373)، "مسلك الراغب"(2/ 511).
يصِحَّانِ تَنجِيزًا، وتعَلِيقًا، وتَوقِيتًا، ممَّن يصِحُّ تبرُّعُه،
وجبَ على مضمونٍ عنه. فلا يسقطُ ذلك عنه بالضمانِ؛ لحديثِ: "نفسُ المؤمنِ مُعلَّقةٌ بدَيْنِه، حتى يُقضَى عنه"
(1)
. وقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي قتادةَ: "الآنَ برَدَت جِلدتُه"
(2)
. حينَ أخبرَه بقضاءِ دَيْنِه.
وما ضمِنَه مريضٌ مرضَ الموتِ المَخُوفِ مِن ثُلُثِه
(يصحَّانِ) أي: الضمانُ والكفالةُ (تنجِيزًا) أي: في الحالِ، (و) يصحَّانِ (تعليقًا) أي: معلَّقًا على شيءٍ، كـ: أنا كفيلٌ عندَ قدومِ الحاجِّ، ونحوِه. (و) يصحَّانِ (تَوْقِيتًا) أي: موقَّتًا، كـ: أنا كفيلٌ بدَينِه
(3)
شَهرًا، أو سنةً، ونحوَه. ويَبرأُ كفيلٌ إنْ لم يُطالبْه بإحضارِه فيه
(ممَّنْ): مُتعلِّقٌ بـ: "يصحَّان". (يصحُّ تبرُّعُه) وهو جائزُ التصرُّفِ. فلا يصحُّ من صغيرٍ، ولا مجنونٍ، ولا سفيهٍ؛ لأنَّه إيجابُ مالٍ بعقدٍ، فلمْ يصحَّ منهم، كالشراءِ. وإذا قالَ ضامنٌ: كنتُ حينَ الضمانِ صغيرًا، أو مجنونًا. وأنكرَهُ مضمونٌ له، فقولُه؛ لأنَّه يدَّعي سلامةَ العقدِ، ولو عُرِفَ لضامنٍ حالُ جنونٍ.
ويحصلُ الالتزامُ بلفظِ: ضَمِنْتُ دَينَكَ، أو: تحمَّلتُه، أو: عندي، أو: عليَّ ما لَكَ عندَه، وكـ: بِعْه، أو: زَوِّجْه وعليٍّ الثمنُ، أو المهرُ.
ومَنْ قالَ لآخرَ: اضمَنْ، أو: اكفَلْ عن فلانٍ، ففعلَ، لزِمَ المباشرَ دونَ الآمرِ.
ويصحُّ ضمانُ الأخرسِ بإشارةٍ مفهومةٍ منه. ولا يثبتُ ضمانُ الأخرسِ بكتابةٍ
(1)
أخرجه الترمذي (1078) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد (14536)(22/ 405) من حديث جابر، وفيه أنه قال ذلك لأبي قتادة. وحسنه الألباني "صحيح الجامع"(2753).
(3)
في الأصل: "بدنه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
متجرِّدةٍ عن إشارتِه المفهومةِ في خصوصِ ذلك. ومَنْ لا تُفهمُ إشارتُه فلا يصحُّ ضمانُه. وفي حكمِ الضمانِ سائرُ تصرُّفاتِه، فلا يصحُّ إلا بإشارةٍ مفهومةٍ.
ولا يُعتبرُ لصحةِ الضمانِ رضَا المضمونِ له؛ لأنَّ أبا قتادةَ ضمِنَ الميِّتَ بغيرِ رضَا المضمونِ له. وأقرَّه الشارعُ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ولا يُعتبرُ رضِا المضمونِ عنه؛ لحديثِ أبي قتادةَ. ولأنَّه لو قضَى الدَّيْنَ عنه بغيرِ إذنِه ورضاه، صحَّ، فكذا إذا ضمِنَ عنه.
ولا يُعتبرُ أيضًا للضامنِ أنْ يعرفَ المضمونَ له، والمضمونَ عنه؛ لأنَّه لا يُعتبرُ رِضاهُما، فكذا معرفتُهُما.
ولا يُعتبرُ أيضًا كونُ الحقِّ معلومًا للضَّامنِ، ولا كونُه واجبًا، حيثُ يكونُ مآلُه إلى العلمِ والوجوبِ. فيصحُّ ما لم يجبْ إذا آلَ إلى الوجوبِ، لقولِه تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يُوسُف: 72] فدلَّت الآية على ضمانِ حِمْلِ البعير، مع أنَّه لم يكنْ وجَبَ. فيصحُّ إنْ قال: ضمنتُ لكَ ما تُداينُه، و: ما تقومُ عليه البيِّنةُ، و: ما يُقضَى عليه. وهذه من الأمثلةِ المجهولةِ.
ومنه
(2)
: ضمانُ ما يلزمُ التُّجارَ في الأسواقِ، من دَيْنٍ، وما يقبضُه من
(3)
عينٍ مضمونةٍ.
واختارَ شيخ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: صحَّةَ
(4)
ضمانِ حارسٍ، ونحوِه.
(1)
أخرجه البخاري (2289) من حديث سلمة بن الأكوع.
(2)
أي: من ضمان ما يؤول إلى الوجوب.
(3)
في الأصل: "مما".
(4)
سقطت: "صحة" من الأصل.
ولِربِّ الحَقِّ مطالَبةُ الضَّامِنِ والمَضْمُونِ معًا، أو أيِّهِمَا شَاءَ.
ويصحُّ ضمانُ تجَّارِ حربٍ، في بلدٍ كانوا أو في بحرٍ. قال الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه: الطائفةُ الممتنعةُ من أهلِ الحربِ التي ينصُرُ بعضُها بعضًا، تجري مجرَى الشخصِ الواحدِ في معاهدتِهم. وإذا شورِطوا
(1)
على أنَّ تُجَّارَهم يدخلُونَ دارَ الإسلامِ بشرطٍ أنْ لا يأخذُوا للمسلمِينَ شيئًا، وما أخذُوه ضامنينَ له، والمضمونُ يُؤخذُ من أموال التُجَّارِ: جازَ ذلك. ويجبُ على وليِّ الأمرِ، إذا أخذُوا مالًا لتجَّارِ المسلمينَ أنْ يُطالبَهم بما ضمِنُوه، ويحبِسَهم على ذلك، كالحقوقِ الواجبةِ.
(ولربِّ الحقِّ مطالبةُ الضَّامنِ والمضمونِ معًا) لثبوتِ الحقِّ في ذمَّتِهما (أو) له مطالبةُ (أيِّهما شاءَ) من ضامنٍ، أو مضمونٍ عنه؛ لحديثِ:"الزعيمُ غارمٌ". رواه أبو داودَ
(2)
.
ولصاحبِ الدَّيْنِ مطالبتُهما في الحياةِ والموتِ؛ لأنَّ الحقَّ ثابتٌ في ذمَّتِهما، فملكَ مطالبةَ مَنْ شاءَ منهما.
فإنْ قيلَ: الشيءُ الواحدُ لا يَشغلُ محلَّينِ؟.
أُجيبَ: بأنَّ اشتغالَه على سبيلِ التعلُّقِ والاستيثاقِ، كتعلُّقِ دَيْنِ الرَّهنِ به، وبذمَّةِ الرَّاهنِ.
ولا يحلُّ دَيْنٌ مؤجَّلٌ بموتِ مضمونٍ عنه، ولا بموتِ ضامنٍ. وليس لربِّ الدَّيْنِ مطالبتُه بذلك إلا بعدَ حلولِ الأجلِ.
(1)
في الأصل: "شرطوا".
(2)
تقدم تخريجه آنفًا.
لكِنْ لو ضَمِنَ دَينًا حالًّا إلى أجَلٍ مَعلُومٍ، صَحَّ، ولم يُطالِبِ الضَّامِنَ قبلَ مُضيِّهِ.
(لكنْ) استدركٌ مِن قولِه: "يصحَّانٍ توقيتًا"(لو ضمِنَ) الضامنُ (دَيْنًا حالًّا إلى أجلٍ معلومٍ) كأنْ ضمِنَ الدَّيْنَ الحالَّ إلى شهرٍ ونحوِه، وكذا لو كان الدَّيْنُ مؤجَّلًا إلى شهرٍ، فضمِنَه إلى شهرين، (صحَّ) الضَّمانُ، (ولم) يكنْ لربِّ الدَّيْنِ أنْ (يُطالبَ الضَّامنَ قبلَ مُضيِّه) أي: مُضيِّ الأجلِ المعلومِ الذي أجَّلَه الضَّامنُ؛ لما روى ابنُ ماجه عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا
(1)
.
ولصاحبِ الدَّينِ مطالبةُ المديونِ
(2)
في الحالِّ، دونَ الضَّامنِ الذي ضمِنَ بالتأجيلِ.
ويصحُّ الضَّمانُ في بعضِ الدَّيْنِ، كما لو كانَ الدَّيْنُ عشرة، فضمِنَ خمسةً، فيطالبُ الضَّامنُ بالخمسةِ.
وإنْ ضمِنَ الدَّيْنَ المؤجَّلَ حالًّا، لئم يلزمْهُ أداؤُه قبلَ حلولِ أجلِه؛ لأنَّه فرعُ المضمونِ عنه، فلا يلزمُه ما لا يلزمُ المضمونَ عنه، كما أنَّ المضمونَ لو ألزمَ نفسَه بتعجيلِ المؤجَّلِ، لم يلزمْه تعجيلُه. وإنْ عجَّلَه ضامنٌ، لم يرجعْ به على المضمونِ قبلَ حلولِ الأجلِ.
(1)
يشير إلى حديث ابن عباس: أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما عندي شيء أعطكه. فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل. فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كم تستنظره؟ " فقال: شهرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحمل له" فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"من أين أصبت هذا؟ " قال: من معدن. قال "لا خير فيها"، وقضاها عنه
أخرجه ابن ماجه (2406)، وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "الدين المديون"، وانظر "مسلك الراغب"(2/ 515).
ويَصِحُّ ضَمانُ عُهدَةِ الثَّمنِ والمُثمَنِ، والمَقبُوضِ على وَجهِ السَّومِ،
(ويصحُّ ضمانُ) العُهْدةِ، وهو: ضمانُ (عهدةِ الثمنِ والمُثْمَنِ)
وألفاظُ ضمانِ العُهْدةِ: ضمنتُ عُهْدَتَه، أو: ثمنَه، أو: دَرَكَه، أو يقولُ الضَّامنُ للمشتري: ضمِنْتُ خَلاصَكَ منه. أو: متى خرجَ المبيعُ مُستحقًّا، فقدْ ضمِنْتُ لك الثمنَ.
وعهدةُ المبيعِ لغةً: الصَّكُّ يُكتبُ فيه الابتياعُ.
واصطلاحًا: ضَمانُ الثمنِ عن بابعٍ لمشترٍ، بأنْ يضمنَ ضامنٌ عن البائعِ الثمنَ، ولو قبلَ قبضِه؛ لأنَّه يؤولُ إلى الوجوبِ، إنْ ظهرَ المبيعُ مستحقًّا لغيرِ بابعٍ، أو رُدَّ المبيعُ على بابعٍ بعيبٍ أو غيرِه، أو يضمنُ أرشَهُ إن اختارَ مشترٍ إمساكًا مع عيبٍ.
وضمانُ المثمنِ
(1)
، بأنْ يضمنَ المثمنَ
(2)
عن المشتري لبابعٍ، إنْ ظهرَ الثمنُ مستحقًّا لغيرِ مشترٍ، أو رُدَّ الثمنُ بعيبٍ، أو يضمنُ أرشَهُ إنِ اختارَه بابعٌ.
فضمانُ العهدةِ للمشتري والبائعِ في الموضعينِ هو ضمانُ الثمنِ، أو جزءٍ منه، عن أحدِهما للآخرِ.
ولو بنَى مشترٍ بناءً في مبيعٍ، فبانَ المبيعُ مستحقًّا للغيرِ، فالأنقاضُ للمشتري، لجريانِها في مِلكِه. ويرجعُ بقيمةِ تالفٍ مِن ثمنِ جصٍّ، وطينٍ، ورمادٍ، وأجرةِ بنَّائينَ ونحوِهم، على بائعٍ؛ لأنَّه غرَّه. وكذا أجرةُ مبيعٍ مدَّةَ وضعِ يدِ مشترٍ. ويدخلُ في مِلكِ ضمانِ العهدةِ، فيرجعُ مشترٍ بذلك على ضامِنها؛ لأنَّه مِن دَرَكِ المبيعِ.
(و) يصحّ ضمانُ عينٍ مضمونةٍ، كـ (المقبوضِ على وجه السَّومِ) في بيعٍ ليُريَه
(1)
في الأصل: "الثمن".
(2)
في الأصل: "الثمن".
والعَينِ المَضمُونَة، كالغَصَبِ والعَارِيَّة.
أهلَه أو غيرَهم، إنْ رَضوه، وإلا ردَّه. وكذا إذا ساومَه فقط لنفسِه، إنْ أعجَبَه، وإلا ردَّه.
ولو أخذَه ليُريَه أهله
(1)
بلا مساومةٍ ولا قطعِ ثمنٍ، فغيرُ مضمونٍ، إلا أنْ يضمنَ التعدِّي والتفريطَ فيه.
والمقبوضُ على وجهِ السَّومِ في حكمِ المقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ؛ لأنَّه قبضَهُ على وجهِ البدلِ والعِوضِ، لكنْ في الإجارة ينبغي ضمانُ المنفعةِ، لا العينِ، إذ فسادُ العقودِ كصحيحِها، كما يأتي.
(و) مِن ضمانِ (العينِ
(2)
المضمونِة، كالغصبِ والعاريةِ) لأنَّ هذه الأعيانَ يضمنُها من هي بيدِه لو تلِفَتْ، فهي كالحقوقِ الثابتةِ في الذمَّةِ، وضمانُها في الحقيقةِ ضمانُ استنقاذِها وردِّها، أو قيمتِها عندَ تلفِها، فهي كعهدةِ المبيعِ
(3)
.
ويصحُّ ضمانٌ في الجعالةِ، والمسابقةِ، والمناضلةِ، ولو قبلَ العملِ؛ لأنَّه يؤولُ إلى اللُّزُومِ إذا عَمِلَ العَملَ، لا ضمانُ العملِ فيها.
ويصحُّ ضمانُ نفقةِ الزوجةِ، مسشقبلةً كانتْ أو ماضيةً. ولو زادَ على نفقةِ المعسر
(4)
.
(1)
سقطت: "أهله" من الأصل.
(2)
في الأصل: "الأعيانِ".
(3)
انظر "كشاف القناع"(8/ 240).
(4)
في الأصل: "نفقة الأماناتِ"، وانظر "كشاف القناع"(8/ 241).
ولا يصِحُّ ضَمانُ غيرِ المَضمُونَةِ، كالوَدِيعَةِ ونَحوِها، ولا دَينِ الكِتَابَةِ، ولا بعضِ دَينٍ لم يُقدَّر.
(ولا يَصحُّ ضَمانُ غَيرِ) العينِ (المضمُونَةِ) من أعيانِ الأمانَاتِ (كالوديعةِ ونحوِها) كالعينِ المُؤْجَرةِ، ومالِ الشركةِ، والمضاربةِ، وعينٍ أو ثمنٍ بيدِ وكيلٍ في بيعٍ أو شراءٍ؛ لأنَّها غيرُ مضمونةٍ على صاصِط اليدِ، فكذا على ضامِنِه، إلا أنْ يضمنَ التعدِّي فيها، فيصحُّ ضمانُها، كالغصبِ.
فعلى هذا: لا يصحُّ ضمانُ الدَّلَّالِين فيما يُعطَونَه لبيعةٍ، إلا أن يضمنَ تعدِّيهم فيه، أو هربَهم به، ونحوَه
(1)
، فيصحُّ.
(ولا) يصحُّ ضمانُ (دَيْنِ الكتابةِ) لأنَّه يؤولُ للوجوبِ.
(ولا) يصحُّ ضمانُ (بعضِ دَيْنٍ لمْ يُقدَّرْ) لجهالتِهِ حالًا ومآلًا.
ولا يصحُّ ضمانُ ولا كفالةُ جزيةِ مَنْ هي عليه، ولو بعدَ وجوبها بتمامِ الحولِ؛ لفواتِ صَغارِ المضمونِ عنه.
وإنْ شُرِطَ خيارٌ في ضمانٍ أو كفالةٍ فَسدَا؛ بمنافاتِه لهما.
"تتمَّةٌ": لو قالَ جائزُ التصرُّفِ لآخرِ: أَلْقِ متاعَكَ في البحرِ، أو في النَّارِ، ونحوِه، وعَليَّ ضمانُه، صحَّ، وضمِنَه.
ويجبُ إلقاءُ متاعٍ بسفينةٍ أو مكانِ حرقٍ ونحوِه إنْ خِيفَ تَلَفُ معصومٍ بسببِه. فإنْ ألقَى بعضُهم متاعَه في البحر؛ لتخِفَّ السفينةُ، لم يرجعْ به على أحدٍ.
وكذا لو قالَ إنسان: ألْقِ متاعَكَ. فألقاهُ، لم يرجعْ عليه؛ لأنَّه لم يُكْرِهْهُ على ذلك، ولا ضمِنَه له.
(1)
في الأصل: "ونحو".
وإن قَضَى الضَّامِنُ ما علَى المَدِينِ، ونَوَى الرُّجُوعَ عليه، رَجَعَ، ولو لم يأذَن له المَدِينُ في الضَّمانِ والقَضَاءِ،
وإنْ ألقى متاعَ غيرِه بغيرِ إذنِ ربِّه من السفينةِ، ليخفِّفَها
(1)
، ضمِنَه.
وإنْ سقطَ عليه متاعُ غيرِه، فخشِيَ أنْ يُهلكَه، فدفعَه، فوقعَ في الماءِ ونحوِه، لم يضمنْهُ.
(وإنْ قضىَ الضَّامنُ ما على المدينِ) من الدَّيْنِ، أو أحالَ ربَّ الدَّيْنِ (ونوىَ الرجوعَ عليه) أي
(2)
: على المدينِ بما دفعَه لربِّ الدَّيْنِ (رجعَ) به عليه، سواءٌ كان الضَّمانُ والقضاءُ أو الحوالةُ بإذنِ مضمونٍ عنه، أو لا؛ لأنَّه قضاءٌ مُيرِئٌ مِن دَيْنٍ واجبٍ، فكانَ من ضمانِ مَن هو عليه، كالحاكمِ إذا قضَاهُ عنه عندَ امتناعِه.
وإنْ قضاه ضامنٌ، أو أحالَ
(3)
ضامنٌ ربَّ دَيْنِ به، ولم ينوِ ضامنٌ رجوعًا على مضمونٍ عنه بما قضاه، أو أحالَ به عنه، لم يرجعْ؛ لأنَّه متطوِّعٌ
سواءٌ ضمِنَ بإذنِه، أو لا. وإليه أشارَ بقولِه:(ولو لمْ يأذنْ له المدينُ في الضَّمانِ والقضاءِ) بالأقلِّ
(4)
ممَّا قضَى ضامنٌ، ولو كان ما قضَاهُ قيمةَ عَرْضٍ عوَّضَه الضامنُ به، أي: الدَّيْنِ، أو قَدْرِ الدَّينِ. فلو كان الدَّينُ عشرةً، ووفَّاه عنه ثما نيةً، أو عوَّضَه عنه عَرْضًا قيمتُه ثمانيةٌ، أو بالعكس، رجعَ بالثمانيةِ؛ لأنَّه إنْ كانَ المقضيُّ أقلَّ، فإنَّما يرجعُ بما غرِمَ، ولهذا لو أَبرأَه غريمُه، لمْ يرجعْ بشيءٍ، وإنْ كانَ الأقلُّ الدَّيْنَ، فالزائدُ غيز لازمٍ، ولم ينوِ رجوعًا ليس له الطلب.
(1)
في الأصل: "ليخفها".
(2)
سقطت: "عليه أي" من الأصل. وانظر "مسلك الراغب"(2/ 518).
(3)
في الأصل: "حال".
(4)
أي: يرجع به عليه بالأقلِّ.
وكَذَا كلُّ من أدَّى عن غَيرِهِ دَينًا واجِبًا.
وإن بَرِئ المَديونُ، بَرِئَ ضامِنُه، ولا عَكْسَ.
ولو ضَمِنَ اثنانِ واحدًا، وقالَ كلٌّ: ضَمِنت لكَ الدَّينَ، كان لِربِّه طلَبُ كُلِّ واحدٍ بالدَّين كلِّه. وإنْ قَالا: ضَمِنَّا لكَ الدَّين، فبينَهُما بالحِصَص.
(وكذا) في الرجوعِ وعدمِه: (كلُّ مَنْ أدُّى) مِن كفيلٍ ومُؤدٍّ (عن غيرِه دَيْنًا واجبًا) فيرجعُ إنْ نوىَ الرجوعَ، وإلا فلا.
ولا يرجعُ مَنْ أدًّى عن غيرِه زكاةً، أو كفارةً، لافتقارِ النيَّةِ ممَّنْ هي عليه
(وإنْ برئَ المديونُ)
(1)
بوفاءٍ، أو إبراءٍ، أو حوالةٍ (برِئَ ضامنُه) لأنَّه تبعٌ له، والضَّمانُ وثيقة، فإذا برِئَ الأصلُ، زالتِ الوثيقةُ، كالرَّهنِ -ضامنًا واحدًا كان أو أكثرَ- من مَبلغِ الضَّمانِ
(ولا عكسَ) أي: لا يبرأُ مدينٌ ببراءةِ ضامنِه؛ لعدمِ تبعيَّتِه له.
وإنْ تعدَّدَ ضامنٌ، لم يبرأْ أحدُهم بإبراءِ غيرِه، سواءٌ ضمِنَ كلُّ واحدٍ منهم
(2)
جميعَ الدَّيْنِ أو جُزءًا منه. ويبرؤنَ بإبراءِ مضمونٍ عنه.
(ولو ضمِنَ اثنانِ واحدًا) عليه دَيْنٌ لآخرَ (وقال كلُّ) واحدٍ من الضامنَينِ: (ضمِنْتُ لكَ الدَّيْنَ، كان لربِّه) أي: ربِّ الدَّيْنِ المضمونِ له (طلبُ كلِّ واحدٍ) منهما، أو هما معًا، أو هما والمديونُ معًا (بالدَّيْنِ كلِّه) لأنَّ ضمانَ كلِّ واحدٍ منهما بالدَّيْنِ صادقٌ بجميعِه.
(وإنْ قالا) الضَّامنانِ: (ضمِنًّا لكَ الدَّيْنَ، (فـ) يكونُ (بينهما بالحصصِ) فإنْ
(1)
في الأصل: "المضمونُ".
(2)
سقطت: "منهم" من الأصل.
فَصْلٌ
والكَفَالَةُ:
هِيَ أنْ يلتَزِمَ بإِحضَارِ بَدَنِ مَنْ عَليِه حَقٌّ مالِيٌّ إلى رَبِّهِ.
أطلقا، كان بينهما نصفينِ، فيطالبُ كلُّ واحدٍ منهما بنصفِ الدَّيْنِ. وإنْ عيَّنَ كلُّ واحدٍ منهما حصَّةً، طولبَ بها.
(فصلٌ)
(والكفالةُ): مصدرُ كفَلَ به، كَفْلًا، وكُفُولًا، وكَفَالةً، وكَفَلْتُه، وكَفلتُ عنه: تحمَّلت. وقُرِئَ شاذًا: "وكفِلَها زكريا" بكسرِ الفاءِ.
و (هي) أي: الكفالةُ صحيحةٌ؛ لقولِه تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يُوسُف: 66].
وشرعًا: (أنْ يلتزمَ) الرشيدُ، ولو مفلسًا. فلا تصحُّ من الصَّغيرِ، والسَّفيهِ، والمجنونِ (بإحضارِ بدنِ) إنسانٍ (مَن عليه) وعندَه. يشمل: مَنْ عندَه عينٌ مضمونةٌ (حقٌّ ماليٌّ) احترزَ به عن الكفالِة ببدنِ مَنْ عليه حدٌّ ونحوُه (إلى ربِّه) أي: الحقِّ. والجار متعلِّقٌ بـ"إحضارِ". حاضرًا كان المكفولُ أو غائبًا. سواءٌ كان بإذنِه، أو بغيرِ إذنِه. وسواءٌ عَلِمَ الكفيلُ بقدرِ دَيْنِ المكفولِ، أو جَهِلَهُ، ولو كان المكفولُ به صبيًا أو مجنونًا، ولو بغيرِ إذنِ وليِّهما؛ لأنَّه قد يلزمُ إحضارُهُما إلى مجلسِ الحكمِ للشهادةِ عليهما، ونحوِها.
وتنعقدُ بألفاظِ الضَّمانِ كلِّها، كـ: أنا ضمينٌ ببدنِه، أو: زعيمٌ به.
وإنْ ضمِنَ معرفةَ إنسانٍ، أُخِذَ به، بالبناءِ للمفعولِ. قال أحمدُ في روايةِ أبي
ويُعتَبَرُ رِضا الكَفِيل، لا المَكفُولِ، ولا المَكفُولِ له.
ومتَى سَلَّمَ الكَفيلُ المَكفُولَ لرَبِّ الحَقِّ بِمَحَلِّ العَقْدِ، أو سَلَّمَ المَكفُولُ نفسَهُ،
طالبٍ فيمَنْ ضَمِنَ
(1)
لرجلٍ معرفةَ رجلٍ، أُخِذَ به، فإنْ لمْ يقدرْ، ضمِنَ.
ولا تصحُّ كفالةُ الوالدِ لولدِه؛ لأنَّه لا تُسمعُ دعواه عليه بغيرِ النفقةِ الواجبةِ بغيرِ النفقةِ الواجبةِ
(ويُعتبرُ) لصحةِ الكفالةِ (رضا الكفيلِ) فلا يصحُّ من مُكرَهٍ به -لأنَّه لا يلزمُه الحقُّ ابتداءً إلا برضاه (لا) أي: لا يُعتبرُ رضا (المكفولِ) به، كالضَّمانِ (ولا) رضا (المكفولِ له)
(2)
لأنَّه وثيقةٌ به، كالضَّمانِ.
وتصحّ الكفالةُ بالأعيانِ، كالغصوبِ والعواري. ولا تصحُّ بالأماناتِ، كالوديعةِ، والشركةِ، والمضاربةِ، إلا إن كفلَهُ بشرطِ التعدِّي فيها، فيصحُّ، كالضَّمانِ.
(ومتى سلَّمَ الكفيلُ المكفولَ) به (لربِّ الحقِّ) أي: المكفولِ له، وقد حلَّ الأجلُ، إنْ كانتِ الكفالةُ مؤجَّلةً (بمحلِّ العقدِ) أي: عقدِ الكفالةِ -ما لمْ يكنْ عيَّنَ الكفيلُ تسليمَه بمحلٍ، فيسلِّمُه فيه؛ وفاءً بالشرط- بعدَ حلولِ أجلِ الكفالةِ، أو قبلَه، إن لم يكنْ ضررٌ على المكفولِ له في تسليمِه له
(أو) أنَّ المكفولَ عنه متى (سلَّمَ المكفولُ) به (نفسَه) في محلِّ التسليمِ والأجلِ
(1)
في الأصل: "حسن".
(2)
سقطت: "له" من الأصل.
أو مَاتَ، بَرِئَ الكَفيلُ.
(أو ماتَ) أي: المكفولُ به، سواءٌ توانى الكفيلُ في التسليمِ، أو لا.
أو تلفتْ العينُ المضمونةُ، التي تَكفَّلَ ببدنِ مَنْ هي
(1)
عندَه، بفعلِ اللهِ تعالى قبلَ طلبٍ (برِئَ الكفيلُ) في هذه الصورِ.
وعُلِمَ ممَّا ذكرَ من تلفِ العينِ: أنَّه لا يبرأْ بعدَ طلبِه بها، ولا بتلفِها بفعلِ آدميٍّ، ولا بغصبِها.
ولو قال كفيلٌ: إن عَجَزْتُ عن إحضارِه، أو: متى عجَزْتُ عن إحضارِه، كان علئ القيامُ بما أقرَّ به. فقال ابنُ نصرِ اللهِ: لئم يبرأ بموتِ المكفولِ، ويلزمُه ما عليه. قال: وقد أفتيتُ فيها باللزومِ
(2)
ولا يبرأُ كفيلٌ إنْ ماتَ هو، أو ماتَ المكفولُ له.
فإنْ أحضرَ الكفيلُ المكفولَ به، وامتنعَ المكفولُ من التسليمِ بلا ضررٍ في تصليمِه، كأنْ
(3)
كانَ الدَّيْنُ مؤجَّلًا ونحوَه، وليس ثمَّ يدٌ حائلةٌ ظالمةٌ، فإنْ كانَ، لم يبرأْ الكفيلُ، ولو لم يُشهِدْ على امتناعِه. وقال القاضي: يرفعُه إلى الحاكمْ فيسلِّمُه إليه، فإنْ لم يجدْه، يُشهدْ عليه.
وإنْ كانتِ الكفالةُ مؤجَّلةً لم يلزمْه، أي: الكفيلَ، إحضارُه قبلَ أجلِها، كسائرِ الحقوقِ.
قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: إن كان المكفولُ في حبسِ الشرعِ، فسلَّمه الكفيلُ إليه
(1)
سقطت: "هي" من الأصل.
(2)
"معونة أولي النهى"(5/ 296).
(3)
في الأصل: "فإن"، وانظر "مسلك الراغب"(2/ 523).
وإن تَعذَّرَ على الكِفيلِ إحضَارُ المكفُولِ، ضَمِنَ جَميعَ ما عَليهِ.
في الحبس، برِئَ الكفيلُ. ولا يلزفه إحضارُه من الحبسِ إليه عندَ أحدٍ من الأئمةِ، ويُمكِّنُه الحاكمُ مِن الإخراجِ، ليحاكمَ غريمَه، ثمَّ يردُّه إلى الحبسِ.
وإنْ كانَ المكفولُ محبوسًا عندَ غيرِ حاكمِ الشرعِ، لم يلزمِ الكفيلَ تسليمُ المكفولِ عنه في هذه الحالةِ؛ لأنَّ الحبسَ يمنعُ ربَّ الدَّينِ استيفاءَ حقِّه، فلا أثرَ لتسليمِه.
وإنْ شرطَ كفيلٌ البراءةَ من المالِ إن تعذَّرَ إحضارُه عليه، فلا يضمنُ المالَ الذي على المكفولِ عنه؛ لحديثِ:"المسلمونَ على شروطِهم"
(1)
.
(وإنْ تعذَّرَ على الكفيلِ إحضارُ المكفولِ) مع حياتِه؛ بأنْ توارىَ، أو غابَ عن البلدِ غَيْبةً قريبةً أو بعيدةً، ومضَى زمنٌ يُمكِنُ الكفيلَ ردّه إلى البلدِ فيه، أو مضَى زمنٌ عَيَّنَه الكفيلُ لإحضارِ المكفولِ، كما لو قالَ: كفلتُه على أنْ أُحضِرَه لك غدًا، أو نحوَه. فمضَى الغدُ ولم يُحضِرْهُ. أو كانتِ الغيبةُ لا يُعلمُ فيها خبرُه، أو لامتناعِه، أو لأحدٍ منَعَه عنه، كذي سلطانٍ، ونحوِه. و (ضمِنَ) الكفيلُ (جميعَ ما عليه) أي: ما على المكفولِ من الدَّيْنِ.
قال المجدُ في "شرحه": ولم يسقطْ عنه المالُ بإحضارِه بعدَ الوقتِ المسمَّى
(2)
.
وقالَ في "الفروع"
(3)
: وإنْ قدَر
(4)
على المكفولِ وقد أدَّى عنه ما يلزِمُه، فظاهرُ
(1)
تقدم تخريجه (2/ 236).
(2)
"معونة أولي النهى"(5/ 296).
(3)
"الفروع"(6/ 407).
(4)
في الأصل: "قد".
ومن كَفَلَه اثنانِ، فسلَّمَهُ أحدُهُما، لم يَبَرأ الأخَرُ، وإن سَلَّم نفسَهُ، بَرِئَا.
كلامِهم: أنَّه في رجوعِه عليه كضامنٍ، وأنَّه لا يُسلِّمه للمكفولِ له، ثئَم يستردُّ ما أدَّاه، بخلافِ مغصوبٍ تعذَّرَ إحضارُه مع بقائِه، لامتناعِ بيعِه.
"فرعٌ": السَّجَّانُ كالكفيلِ، فيغرَمُ إنْ هربَ منه المحبوسُ، وعَجزَ عن إحضارِه. قال العلَّامةُ ابنُ نصرِ اللهِ: الأظهرُ: أنَّه كالوكيلِ في حفظِ الغريمِ. وقدْ كنتُ أَفتي بما ذكرَهُ المصنِّفُ -أعني به صاحبَ "الفروع" -ثمَّ ترجحَ عندي أنَّه كالوكيلِ بجُعلٍ. وكذا رسولُ الشرعِ ونحوُه، فإنْ هربَ غريمٌ من رسولِ الشرعِ، وكان بتفريطِ الرسولِ، لزِمَه إحضارُه دونَ ضمانِ ما عليه، وإنْ لم يكنْ منه تفريطٌ، فلا ضمانَ عليه، قياسًا على مَنْ أتلَفَ وثيقةً ضمِنَ فيها إنْ تعذَّرَ
(ومَن) أي: ومَن مَدينٌ (كفَلَهُ اثنانِ) معًا، أو لا (فسلَّمَه أحدُهما) أي: أحدُ الكفيلينِ لربِّ الدَّيْنِ (لم يبرأْ) الكفيلُ (الآخرُ) بذلك؛ لأنَّ إحدى الوثيقتينِ انحلَّتْ من غيرِ استيفاءٍ، فلم تنحلَّ الأخرى، كما لو أبرأَ أحدَهما. (وإنْ سلَّمَ) مكفولٌ (نفسَه، برِئَا) أي: الكفيلانِ؛ لأداءِ الأصلِ ما عليهما، فيبرأنِ ببراءته.
"تتمَّةٌ": لو كفلَ جُزءًا شائعًا، كثُلُثِ أو رُبعِ مَن عَلَيه الحقُّ، أو كَفَلَ عضوًا منه ظاهِرًا كراسٍ ويدٍ، أو باطِنًا كقَلب وكبدٍ، صحَّتْ الكفالةُ، ويلزمُه إحضارُه؛ لأنَّه لا يمكنُ إحضارُه إلا بإحضارِ الكلِّ. والله أعلم.
بَابُ الحَوالَةِ
وشُروطُها خَمسَةٌ:
أحدُها: اتِّفاقُ الدَّينَينِ في الجِنسِ،
(بابُ الحَوَالَةِ)
بفتح الحاءِ وكسرِها، مشتقةٌ مِن التحولِ؛ لأنَّها تُحوِّلُ الحقَّ مِن ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ أخرى.
ثابتةٌ بالسُّنةِ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "مطلُ الغنيِّ ظلمٌ
(1)
، ومَنْ أُحيلَ على ملئٍ فلتتْبَعْ". متفقٌ عليه
(2)
. وفي لفظٍ: "ومن أُحيلَ بحقِّه على ملئٍ فليَحتَلْ"
(3)
. وأجمعوا على جوازِها.
وهي عقدُ إرفاقٍ منفردٌ بنفسِه ليسَ محمولًا على غيرِه، ولا خيارَ فيها. وليستْ بيعًا، وجازتْ بلفظِه.
وهي: انتقالُ مالٍ من ذمَّةِ المُحيلِ إلى ذمَّةِ المُحالِ عليه، بحيثُ لا رجوعَ للمُحتالِ على المُحيلِ بحالٍ، إذا اجتمعتْ شروطُها.
ويصحُّ بلفظِ الحوالةِ، أو بمعناها الخاصِّ، كـ: أتبعتُكَ بدَينِكَ على زيدٍ ونحوِه.
(وشروطُها) أبي: شروطِ الحوالةِ (خمسةُ) شروطٍ:
(أحدُها: اتفاقُ الدَّينينِ في الجنسِ) كأنْ يحيلَ مَنْ عليه ذهبٌ بذهبٍ، أو
(1)
سقطت: "ظلم" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564).
(3)
أخرجه أحمد (9973)(16/ 48) من حديث أبي هريرة. دون قوله: "بحقه".
والصِّفَةِ، والحُلُول، والأَجَلِ.
الثَّانِي: عِلمُ قَدرِ كلٍّ مِنَ الدَّينَين.
الثَّالِثُ: استِقرَارُ المَالِ المُحالِ عليه،
فضةٌ بفضةٍ
(1)
، أو بالعكسِ، لم يصحَّ؛ للتخالفِ.
(و) اتفاقُ الدَّينينِ في (الصفةِ) كصحاحٍ بصحاحٍ، أو مضروبةٍ بمثلِها، فإنِ اختلفَا، لم يصحَّ.
(و) اتفاقُ الدَّينينِ في (الحلولِ) بأنْ يكونا حالَّينِ، فلا تصحُّ إنْ كان أحدُهما حالًّا والآخرُ مؤجَّلًا. (و) في (الأجلِ) بأنْ يكونا مؤجَّلينِ أجلًا واحدًا، فلا يصحُّ إنْ كان أجلُ أحدِهما يخالفُ الآخرَ. فلو كانَا حالَّينِ، فشرطَ المحتالُ تأخيرَه، أو بعضَه إلى أجلٍ معلومٍ، لم يصحَّ.
(الثاني) من الشروطِ: (عِلْمُ قدرِ كلٍّ من الدَّينينِ) فلا تصحُّ الحوالةُ بعَشَرَةٍ على خمسةٍ. وتصحُّ إذا أحالَ بخمسَةٍ من العشرةِ التي عليه على خمسةٍ له، أو بخمسةٍ عليه على خمسةٍ من عشرةٍ له؛ إذ الممتنعُ إنَّما هو أنْ يحيلَ بعشرةٍ على خمسةٍ، أو عكسُه.
ولا يضرُّ اختلافُ سَبَبَي الدَّينَينِ، كما في "الإقناع". قال في "شرحه": بأنْ يكونَ أحدُهما عن قرضٍ، والآخرُ ثمنُ مبيعٍ أو نحوِه
(2)
.
(الثالثُ) من الشروطِ: (استقرارُ المالِ المُحال
(3)
عليه) بأنْ يكونَ ثابتًا في
(1)
في الأصل: "أو فضة بفضةٍ. فلو أحالَ مَنْ عليه دراهمُ صحاحٍ"، وانظر:"كشاف القناع"(8/ 267)، "مسلك الراغب"(2/ 527).
(2)
"كشاف القناع"(8/ 268).
(3)
سقطت: "المحال" من الأصل
لا المُحَالِ به.
الرَّابِعُ: كونُهُ يصِحُّ السَّلمُ فيه.
الذمَّةِ، كبدلِ قرضٍ، وثمنِ مبيعٍ بعدَ لزومِ بيعٍ؛ لأنَّ غيرَ المستقرِّ عُرضةٌ للسقوطِ. ومقتضى الحوالةِ: إلزامُ المُحالِ عليه بالدَّينِ مطلقًا.
فلا تصحُّ الحوالةُ على المسلَمِ فيه، ولا على رأسِ مالِ سَلَمٍ بعدَ فسخِ السَّلَمِ، أو على صداقٍ قبلَ دخولٍ، أو مالِ كِتابَةٍ، لعَدَمِ استقرَارِهِما. وتصحُّ على صدَاقٍ بعدَ دخولٍ، ونحوِه
(لا) أبي: لا يُشترطُ استقرارُ المالِ (المُحالِ به) فيصحُّ إنْ أحالَ مكاتَبٌ سيِّدَه بمالِ كتابةٍ، أو أحالَ زوجُ امرأةٍ بصداقِها -ولو قبلَ دخولٍ- على مالٍ مستقرٍّ. وكذا حوالةٌ بجُعْلٍ قبلَ عملٍ؛ لأنَّ الحوالةَ به بمنزلةِ وفائِه. ويصحُّ الوفاءُ قبلَ الاستقرارِ.
ولا تصحُّ الحوالةُ بجزيةٍ، لفواتِ الصَّغارِ عن المُحيلِ، ولا حوالةُ ولدٍ على أبيهِ.
(الرابعُ) من الشروطِ: (كونُه) أبي: المُحتالِ عليه (يصحُّ السَّلَمُ فيه) من مثليٍّ، كمكيلٍ وموزونٍ، ومن غيرِ المثليِّ، كمعدودٍ ومذروعٍ ينضبطان بالصِّفةِ.
ولا تصحُّ فيما لا يصحُّ السَّلَمُ فيه، كالجوهرِ ونحوِه، وجلودٍ، ورؤوسٍ، وأكارعَ، وبيضٍ، ونحوِها، وأوانٍ مختلفةٍ رؤوسًا وأوساطًا، وفواكِهَ معدودةٍ، أو مغشوشِ أثمانٍ، أو معاجينَ، أو نَدٍّ، أو غاليةٍ، وقِسيٍّ، ونحوِه
(1)
.
"فائدةٌ": قال شيخُ الإسلامِ تقيُّ الدينِ ابنُ تيميةَ: الحوالةُ على ما لَهُ في الديوانِ إذنٌ في الاستيفاءِ فقطْ. ومثلُه: الحوالةُ على ما له في الوقفِ. وللمحتالِ إذَن الرجوعُ، ومطالبةُ مُحيلِه. فلو أحالَ الناظرُ بعضَ المستحقِّينَ على جهةٍ، لم تصحَّ.
(1)
انظر "الإقناع"(2/ 280).
الخَامِسُ: رضا المُحِيلِ لا المُحتَالِ، إنْ كانَ المُحالُ عليه مَليئًا، وهو مَنْ له القُدرةُ على الوَفاءِ، ولَيس مُمَاطِلا، ويُمكِنُ حُضُورُه لمجلِسِ الحُكمِ.
قالَهُ في "الإقناع"
(1)
.
(الخامسُ) من الشروطِ: يُعتبرُ (رضا المُحيلِ) لأنَّ الحقَّ عليه (لا) رِضا (المُحتالِ) لأنَّ للمحيلِ وفاءَ ما عليه من الحقِّ بنفسِه، وبمَنْ يقومُ مقامَه، وقدْ أقامَ المحالَ عليه مقامَ نفسِه في التقبيضِ، فلزِمَ المحتالَ القبولُ
(إنْ كانَ المحالُ عليه مَليئًا) قادرًا بمالِه، وقولِه، وبدنِه. (و) المليءُ عندَ الزركشيِّ (هو: مَنْ له القدرةُ
(2)
على الوفاءِ) أبي: له مالٌ يفي منه (وليس) المحال عليه (مماطلًا) أبي: بل يكونُ باذِلًا للحَقِّ.
(و) القدرةُ ببدنِه: (يمكنُ حضورُه إلى مجلسِ الحكمِ) أبي: مجلسِ القضاءِ.
فلا يلزمُ ربَّ الدَّيْنِ أنْ يحتالَ على والدِه؛ لأنَّه لا يمكنُه إحضارُهُ إلى مجلسِ الحكمِ. ولا يلزمُ أن يحتالَ على مَن هُو في غَيرِ بَلَدِه، لعَدَمِ قُدرَتِه على إحضَارِه مجلِسَ الحُكمِ.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصور في "شرحه" على "الإقناع"
(3)
: قياسُه: الحوالةُ على ذي سلطانٍ لا يمكنُه إحضارُه مجلسَ الحكمِ.
قال عمُّ والدي العلَّامةُ الشيخُ مرعي في كتابِه "غاية المنتهى"
(4)
: ويتجِّه: ولا على ذي شوكةٍ
(1)
انظر "كشاف القناع"(8/ 268).
(2)
في الأصل: "قدرة".
(3)
"كشاف القناع"(8/ 270).
(4)
"غاية المنتهى"(1/ 627).
فمتَى توفَّرَتِ الشّرُوطُ، بَرِئَ المحْيلُ من الدَّينِ بمُجرَّدِ الحَوالَةِ، أفلَسَ المُحَالُ عليهِ بعدَ ذلِكَ أو مَاتَ.
ومتَى لمْ تتوفَّرِ الشُّرُوطُ، لم تَصِحَّ الحَوالَةُ، وإنَّما تكُونُ وكالَةً.
ولا يصحُّ أنْ يحيلَ ربُّ الدَّيْنِ على أبيهِ؛ لأنَّ المحيلَ لا يملكُ مطالبةَ المحالِ عليه، ففرعُهُ كذلك
(فمتى توفَّرَتِ الشروطُ) الخمسةُ (برِئَ المحيلُ من الدَّيْنِ) الذي عليه (بمجرَّدِ الحوالةِ) لأنَّه يجبُ على مَنْ أُحيلَ على مليءٍ أنْ يحتالَ؛ لظاهرِ قولِه صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبعَ أحدُكم على مليءٍ فليتبعْ"
(1)
. فإنِ امتنعَ المحتالُ، أُجبِرَ على قبولِها. ولو (أفلسَ المحالُ عليه) أو جحدَ الدَّيْنَ (بعدَ ذلك) أبي: بعدَ الحوالةِ المتوفرةِ الشروطِ (أو ماتَ) أبي: ولو ماتَ المحتالُ عليه بعدَ ذلك، فيتبعُ ميراثَه إنْ كان
(ومتى لم تتوفَّرِ الشروطُ) الخمسةُ، فاختلَّت
(2)
، أو اختلَّ واحدٌ منها (لم تصحَّ الحوالةُ) فلربِّ الدَّيْنِ اتباعُ المديونِ المحيلِ، ومطالبتُه بدينِه (وتكونُ) هذه الحوالةُ (وكالةً) في قبضِ ما عليه إنْ تبعَه وطالبَه.
وإنْ ظنَّ المحتالَ عليه مَليئًا، أو جهِلَه، فبانَ مُفلسًا، رجعَ بدَينِه على المحيلِ. ولا يرجعُ إنْ رضيَ بالحوالةِ على مَن ظنَّه مليئًا أو جهلَه ولمْ يشترطِ الملاءةَ؛ لتفريطِه بتركِ اشتراطِها. فإنْ اشترطَها، فبانَ المحالُ عليه مُعْسِرًا، رجعَ على المحيلِ.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "المنتهى"
(3)
: ويُؤخذُ منه: صحَّةُ هذا الشرطِ؛ لما فيه من المصلحةِ.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في الأصل: "فاختلفَ".
(3)
"دقائق أولي النهى"(3/ 402).
بابُ الصُّلْحِ
(بابُ الصُّلْحِ)
اسمُ مصدرٍ، لـ: صالَحُه مصالحةً وصِلاحًا، بكسرٍ الصادِ. قال الجوهريُّ: والاسمُ: الصُّلْحُ. يُذكَّرُ ويُؤنَّثُ. وقد اصطلحا، وتصالحا، واصَّالحا، مشدَّدُ الصادِ. وصلُحَ الشيءُ، بضمِّ اللَّامِ وفتحِها
(1)
.
وهو لغةً: قطعُ المنازعةِ.
وأحكام الجوارِ -بكسرِ الجيمِ- مصدرٌ بمعنى المجاورةِ. وأصلُه الملازمةُ؛ لأنَّ الجارَ يلزمُ جارَه في السَّكنِ.
والصُّلْحُ شرعًا: معاقدةٌ يُتوصَّلُ بها إلى إصلاحٍ، أو موافقةٍ بين متخاصمَينِ.
وقال ابنُ رزينٍ في "شرحه": هو الموافقةُ بعدَ المنازعةِ.
والصُّلْحُ خمسةُ أنواعٍ:
أحدُها: يكونُ بين مسلمِينَ وأهلِ حربٍ. وتقدَّمتْ أقسامُه في الجهادِ.
والثاني: بين أهلِ عدلٍ وأهلٍ بَغيٍ. ويأتي في قتالِ أهلِ البغيِ.
والثالثُ: بين زوجينِ خِيفَ شِقاقٌ بينهما، أو خافتِ الزوجةُ إعراضَه. ويأتي في عِشْرَةِ النساءِ.
والرابعُ: بين متخاصِمَيْنِ في غيرِ مالٍ.
والخامسُ: بين متخاصِمَيْنِ في المالِ.
(1)
"المطلع" ص (182).
يَصِحُّ ممَّن يصِحُّ تبرُّعُه، مَعَ الإقرَارِ والإنكَارِ.
وهو قسمان: صلحٌ على إقرارٍ، وصلحٌ على إنكارٍ. وزادَ في "الإنصافِ"
(1)
: قسمًا ثالثًا، وهو: الصُّلْحُ مع السُّكوتِ عنه.
[والصُّلْحُ في الأموالِ على قسمينِ، قسمٌ على إقرارٍ، وقسمٌ على إنكارٍ]
(2)
والصلحُ على الإقرارٍ
(3)
نوعانِ:
نوعٌ
(4)
يقعُ على جنسِ الحقِّ، مثلُ أنْ يُقرَّ جائزُ التصرُّفِ له، وإليه أشارَ بقولِه: (يصحُّ
(5)
ممَّنْ يصحُّ تبرُّعُه): من جائزٍ التصرُّفِ. وأمَّا مَنْ لم يصحَّ تبرُّعُه، كالمكاتَبِ والقنِّ المأذونِ لهما في التجارةِ، ووليِّ الصغيرِ، والسَّفيهِ، والمجنونِ، وناظرِ الوقفِ، فلا يصحُّ؛ لأنَّه تبرُّعٌ، وهم لا يملكونَه. إلا إنْ أنكرَ مَنْ عليه الحقُّ، ولا بيِّنةَ لِمَنْ يدَّعيهِ من المكاتَبِ والوليِّ ونحوِ ذلك، فيصحُّ الصُّلْحُ؛ لما فيه من الحظِّ والمصلحةِ، لاستيفاءِ
(6)
البعضِ عندَ العَجْزِ عن استيفاءِ الكلِّ؛ لأنَّه أَوْلى من التركِ.
فيصحُّ (مع الاقرارِ) أبي: مع إقرارِ مَنْ عليه الحقُّ بالحقِّ. (و) يصحُّ مع (الإنكارِ) أبي: مع إنكارِ مَنْ عليه الحقُّ.
(1)
"الإنصافِ"(13/ 124).
(2)
كذا تكررت في الأصل
(3)
في الأصل: "إقرار".
(4)
سقطت "نوع" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 408).
(5)
في الأصل: "يصحُ الصُّلْحُ".
(6)
في الأصل: "لأنَّ استيفاءَ".
فإذَا أقرَّ للمُدَّعِي بِدَينٍ أو عَينٍ، ثمَّ صالَحَهُ على بعضِ الدَّينِ، أو بَعضِ العَينِ المُدَّعَاةِ، فهو هِبةٌ يصِحُّ بلفظِها، لا بلفِظِ الصُّلْحِ.
وإن صَالَحَهُ على عَينٍ غيرِ المُدَّعَاةِ، فهو بَيعٌ، يصِحُّ بلَفظِ الصُّلح، وتثبُتُ فيه أحكَامُ البَيعِ.
(فإذا أقرَّ) المُدَّعى عليه (للمدَّعي بدَيْنٍ) معلومٍ في ذمَّتِه (أو) أقرَّ بـ (عينٍ) بيدِه (ثمَّ صالَحَهُ) المقرُّ له (على) وضعِ (بعضِ الدَّينِ) المقَرِّ له (أو) على (بعضِ العينِ المُدَّعاةِ) كنصفٍ، أو ثلثٍ، ونحوِ ذلك (فهو) أبي: فيكونُ ذلك (هبةً) لوجودِ الإقرارِ بما ادّعيَ به، فـ (يصحُّ) ذلك؛ لأنَّ الإنسانَ لا يُمنعُ من إسقاطِ بعضِ حقِّه، أو هبتِه، كما لا يُمنعُ من استيفائِه. ويصحُّ (بلفظِها) أبي: بلفظِ الهبةِ. و (لا) يصحُّ (بلفظِ الصُّلْحِ) لأنُّه هضمٌ للحقِّ. ويعتبرُ له شروطُ الهبةِ من كونِه جائزَ التصرُّفِ، والعلمِ بالموهوبِ، ونحوِه. ولا يصحُّ بلفظِ البيعِ؛ لعدمِ الثمنِ. بل بلفظِ الهبةِ والإبراءِ ونحوِهما.
وقدْ منعَ الخِرَقيُّ، وابنُ أبي موسى الصُّلْحَ على إقرارٍ، وأباهُ الأكثرون.
فعلى الأوَّلِ: إنْ وفَّاه من جنسِ حقِّه، فهو وفاءٌ، ومن غيرِ جنسِه، معاوضةٌ. وإنْ أبرأهُ مِن بعضِه، فهو إبراءٌ، وإنْ وهبَه بعضَ العينِ، فهو هبةٌ، ولا يُسمَّى صُلْحًا
(1)
.
(وإنْ صالَحَهُ على عينٍ غيرِ المُدَّعاةِ) بها (فهو بيغ) للعينِ الذي وقعَ الصُّلْحُ عليها فـ (يصحُّ بلفظِ الصُّلْحِ) كسائرِ المعاوضاتِ، بخلافِ ما قبلَه؛ لأنَّ المعاوضةَ عن الشيءِ ببعضِه محظورةٌ. (وتثبتُ فيه) أبي: في هذا الصُّلْحِ (أحكامُ البيعِ) المتقدِّمِ ذكرُه في كتابِ البيع.
(1)
"كشاف القناع"(8/ 279).
فلو صالَحَه عن الدَّينِ بعَينٍ، واتَّفقَا في عِلَّةِ الرِّبا، اشترِطَ قَبضُ العِوَضِ في المَجلِس، وبشَيءٍ في الذِّمَّة، يبطُل بالتَّفرُّقِ قبلَ القَبضِ.
وإن صالَحَ عن عَيبٍ في المَبيعِ،
(فلو صالَحَه) المدَّعى عليه (عن الدَّيْنِ) الذي في الذمَّةِ، وأقرَّ له به (بعينٍ) من غيرِ جنسْه، (واتفقا) أبي: الدَّيْنُ المدَّعَى به، والعينُ الذي وقعَ الصُّلحُ عليها (في علَّةِ الرِّبا) بأنْ صالَحه بأثمانٍ عن أثمانٍ. فلو أقرَّ له بدينارٍ، فصالَحَه عن ذلك بعشرةِ دراهمَ مثلًا، أو عكَسِ، فهو صرفٌ، صحَّ. لكن (اشتُرطَ) فيه (قبضُ العِوضِ في المجلِسِ) قَبلَ التفرُّقِ منه.
ويحرُمُ الصُّلح عن الدَّينِ بجنسِه، إذا كان مثليًّا، كمكيلٍ أو موزونٍ لا صناعةَ فيه مباحةً، يصحُّ السلمُ فيه بأكثرَ مِن الدَّيْنِ، أو أقلَّ منه، على سبيلِ المعاوضةِ؛ لأنَّه ربًا، لا إنْ تركَ له بعضَ الدَّينِ وأخذَ الباقي على سبيلِ الإبراءِ، كما لو أبرأَهُ من الكلِّ.
وإنْ كانَ الدَّيْن غيرَ مكيلٍ ولا موزونٍ، وصالَحَه عنه بأكثرَ منه من جنسِه، جازَ؛ لأنَّ الواجبَ في غيرِ المثليِّ قيمته. فالصُّلْحُ في الحقيقةِ عن القيمةِ، وهي إنَّما تكونُ من النقدينِ، فاختلفَ الجنسُ، فلا ربا،
(و) لو صالَحه عن دينٍ (بشيءٍ في الذمَّةِ) بأنْ صالَحَه عن دينارٍ في ذمَّتِه بإردبِّ
(1)
قمحٍ أو نحوِه في الذمَّةِ (يبطُلُ) ذلك (بالتفرُّقِ) مِن المجلسِ (قبلَ القبض) لذلك الشيءِ؛ لأنَّه يصيرُ بيعَ دينٍ بدينٍ.
(وإنْ صالَحَ عن عيبٍ في المبيعِ) بشيءٍ من عينٍ كدينارٍ، أو منفعةٍ كسكنى
(1)
الإِرْدَبُّ: مِكيالٌ معروف لأهلِ مِصرَ يقال إنه يأخُذُ أربعَةً وعشرين صاعًا من الطَّعام بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. "لسان العرب": (ردب).
صَحَّ، فلو زالَ العَيبُ سَريعًا، أو لَم يَكن، رجَعَ بِما دَفَعَه.
ويصِحُّ الصُّلحُ عَمَّا تعذَّر عِلمُه مِن دَينٍ، أو عَينٍ.
و: أَقِرَّ لي بدَيْنِي، وأُعطِيكَ مِنه كَذَا، فأَقَرَّ، لَزِمَهُ الدَّينُ، ولم يلزَمْهُ أنْ يُعطِيَه.
دارِه شهرًا، ونحوه (صحَّ) وليس من الأرشِ في شيءٍ.
(فلو) حصلَ الصلحُ على عيبٍ في المبيعِ، فـ (زالَ العيبُ سريعًا) بلا كلفةٍ، ولا تعطيلِ نفعٍ على مشترٍ، كمريضٍ عُوفيَ، ونحوِه، رجعَ بما دفعَه. وكذا لو صالَحَ عن عيبٍ، فظهرَ أنَّه (لم يكن) معيبًا، (رجعَ بما دفعَه) عن المبيعِ
(1)
؛ لعدمِ استحقاقِه ذلك، كنفاخِ بطنِ امرأةٍ ظنَّه حملًا، ثمَّ ظهرَ الحالُ، أي: تبيَّنَ عدمُ الحملِ.
(ويصحُّ الصُّلحُ عمَّا) كان مجهولًا (تعذَّرَ عِلمُه مِن دَيْنٍ) كمَنْ بينهُما معاملةٌ وحسابٌ مضى عليه زمنٌ طويلٌ، (أو) عمَّا تعذَّر علمُه من (عينٍ) كقفيزِ حنطةٍ، وقفيزِ شعيرٍ اختلطا، وطُحِنا بمالٍ معلومٍ، نقدًا أو نسيئةً
(و) مَن قال لغريمِه: (أقرَّ لي بديني، وأُعطيكَ منه) أو قال: خذْ منه (كذا) أبي: عشرةً مَثَلًا (فأقرَّ) له (لزِمَه) أبي: المُقِرَّ بما أقرَّ به من (الدَّيْنِ) لأنَّه لا عذرَ لمَنْ اقرَّ (ولم) يصحَّ الصُّلحُ؛ لوجوبِ الإقرارِ عليه بالحقِّ، فلم يحلَّ له أخذُ العِوضِ عليه. فإن أخذ شيئًا، ردَّه. ولا (يلزمُه) أبي: ربَّ الدَّيْنِ (أنْ يُعطيَه) بما أوعدَ بإعطائِه؛ لعدمِ وجوبِه عليه.
(1)
كذا في الأصل. ولعلها: "المعيب"، وانظر "مسلك الراغب"(2/ 537).
فَصْلٌ
وإذا أنكَرَ دَعَوى المُدَّعِي، أو سَكَتَ وهُوَ يجهَلُ، ثمَّ صَالَحَه، صَحَّ الصُّلحُ، وكانَ إبراءً في حَقِّه، وبَيعًا في حَقِّ المُدَّعِي.
ومَنْ عَلِمَ بكَذِبِ نفسِه، فالصُّلحُ
(فصلٌ)
(وإذا أنكَرَ) المدَّعَى عليه (دعوى المدَّعِي، أو) أنَّ المدَّعَى عليه
(1)
(سكتَ وهو يجهلُ) أبي: المدَّعَى به، (ثمَّ صالَحَه) على مالٍ حالِّ، أو نسيئةٍ (صحَّ الصُّلحُ) في قولِ أكثرِ العلماءِ
(2)
؛ لعمومِ قولِه صلى الله عليه وسلم: "الصلحُ بين المسلمين جائزٌ"
(3)
. (وكان) الصلحُ (إبراءً في حقِّه) أبي: في حقِّ المدَّعَى عليه؛ لأنَّه بذَلَ العِوضَ لدفعِ الخصومةِ عن نفسِه، لا في مقابلةِ حقٍّ ثبتَ عليه. (وبيعًا في حقِّ المدَّعِي) فيما دفعَ ممَّا وقعَ عليه الصلحُ من المالِ؛ لأنَّه يعتقدُه عِوضًا عن مالِه، فلزِمَه حكمُ اعتقادِه.
فإنْ وجدَ المنكرُ بالمُصالَحِ عنه عَيبًا، لم يرجعْ به -أبي
(4)
: بما دفعَه مِن المالِ- ولا بأرشِه، على المدَّعي.
(ومَنْ عَلِمَ
(5)
بكذبِ نفسِه) من مدَّعٍ ومدَّعَى عليه، (فالصلحُ) في حقِّ مَنْ
(1)
سقطت: "عليه" من الأصل.
(2)
في الأصل: "علماء".
(3)
أخرجه أبو داود (3594) من حديث أبي هريرة. وحسنه الألباني.
(4)
في الأصل: "إلا".
(5)
في الأصل: "لم".
باطِلٌ في حَقِّه. وما أخَذَ فحَرامٌ.
ومن قال: صالِحنِي عنِ المِلكِ الذِي تَدَّعيه، لم يكُنْ مقِرًّا.
وإن صالَحَ أجنَبِيٌّ عَنْ فنكِرٍ للدَّعوَى، صَحَّ الصُّلح، أَذِنَ لَه أوْ لا، لكِنْ لا يَرجِعُ عليه بِدُونِ إذنِه.
ومن صالَحَ عن دارٍ، أو نَحوِها، فبانَ
عَلِمَ بكذبِ نفسِه، (باطلٌ في حقِّه) أمَّا المدَّعِي؛ فلأنَّ الصلحَ مبنيُّ على دعواه الباطلةِ. وأمَّا المدَّعى عليه، فلأنَّه مبنيُّ على جحدِه حقَّ المدَّعِي ليأكُلَ ما يَنقصُه بالباطلِ.
(وما أخذَ) مدَّعٍ عالمٌ كذبَ نفسِه، مما صُولِحَ به، أو مدَّعًى عليه ممَّا انتقصَه
(1)
من الحقِّ بجحدِه، (فـ) هو (حرام) لأنَّه أكلُ مالِ الغيرِ بالباطلِ، يجبُ عليه ردُّه.
(ومَنْ قالَ) لآخر: (صالحني عن المِلكِ الذي تدَّعيهِ، لم يكنْ مُقِرًّا به) أبي: بالمِلكِ للمقولِ له، لاحتمالِ إرادةِ صيانةِ نفسِه عن التبذُّلِ، وحضورِ مجلسِ الحكمِ بذلك.
(وإن صالحَ أجنبيٌّ عن مُنكِرٍ للدَّعوىَ، صحَّ الصُّلحُ) سواءٌ (أذِنَ) المنكرُ للدَّعوىَ (له) أبي: للأجنبيِّ من الصُّلحِ (أو لـ) مْ يأذنْ له فيه. (لكنْ): استدراكٌ على قولِه: "وإنْ صالحَ أجنبيٌّ"(لا يرجعُ) أجنبيٌّ (عليه) أبي: على المنكرِ بما دفعَه (بدونِ إذنِه) أبي: إذنِ المنكرِ.
(ومَنْ صالحَ) آخرَ (عن دارٍ، أو نحوِها) ككتابٍ وحيوانٍ، بعِوَضٍ، (فبانَ
(1)
في الأصل: "أنقصه"
العِوَضُ مُستحَقًّا، رجعَ بالدَّار مع الإقرَارِ، وبالدَّعوى مع الإنكَارِ.
ولا يَصِحُّ الصُّلحُ عن خِيارٍ، أو شُفَعةٍ، أو حَدِّ قَذْفٍ، وتَسقُطُ جَميعُهَا، ولا شَارِبًا، أو سَارِقًا ليُطلِقَه، أو شاهِدًا ليكتُمَ شهادَتَه.
العِوَضُ مستحقًّا) لغيرِ المُصالحِ، أو بانَ القِنُّ حرًّا، (رجعَ بالدارِ) ونحوِها، المصالَحِ عنها، إنْ بقيتْ، وببدلِها إنْ تلفِتْ، إنْ كانَ الصُّلحُ (مع الإقرارِ) لأنَّه بيعٌ حقيقةً، وقدْ تبيَّنَ فسادُه لفسادِ عِوضِه، فرجعَ فيما كان له (و) رجعَ المدَّعِي (بالدعوىَ) أبي: إلى دعواه قبلَ الصُّلحِ. وفي "الرعاية": أو قيمةِ المستحقِّ المصالَحِ به (مع الإنكارِ) لتبيُّنِ فسادِ الصُّلحِ بخروجِ المصالَحِ به غيرَ مالٍ، أشبَه ما لو صالَحَ بعصيرٍ، فبانَ خمرًا، فيعودُ الأمرُ إلى ما كان عليه قبلَهُ.
ووَجَّه ما في "الرعاية": أنَّ المدَّعي رضيَ بالعِوضِ، وانقطعتِ الخصومةُ، ولم يُسلَّم له، فكان له قيمتُه.
ورُدَّ: بأنَّ الصلحَ لا أثرَ له؛ لتبينِ فسادِه
(1)
.
(ولا يصحُّ الصُّلحُ) بعِوضٍ (عن خيارٍ) في بيعٍ، أو إجارةٍ، (أو) عن (شفعةٍ، أو) عن (حدِّ قذفٍ) لأنَّها لم تُشرَعْ لاستفادةِ مالٍ، بل الخيارُ للنظرِ في الحظِّ، والشفعةُ لإزالةِ الضررِ بالشركةِ. وحدُّ القذفِ للزجرِ عن الوقوعِ في أعراضِ الناسِ.
(وتسقُطُ جميعُها) أبي: الخيارُ، والشفعةُ، وحدُّ القذفِ، بالصُّلْحِ؛ لأنَّه رضِيَ بتركِها.
(ولا يصحُّ) أنْ يُصالِحَ (شاربًا) لخمرٍ، (أو سارقًا؛ ليُطلِقَه) ولا يرفعَهُ للسلطانِ؛ لأنَّه لا يصحُّ أخذُ العِوضِ في مقابلتِه. (أو) يصالِحَ (شاهدًا، ليكْتُمَ شهادتَه) لتحريمِ
(1)
"دقائق أولي النهى"(3/ 421).
فَصْلٌ
ويحرُمُ على الشَّخصِ أن يُجرِيَ ماءً في أرضِ غَيرِه، أو سَطحِه، بلا إِذْنِه، ويصِحُّ الصُّلحُ علَى ذلِك بِعَوضٍ.
كتمانِها إنْ صالَحَه على أنْ لا يَشهدَ عليه بحقِّ اللهِ، أو آدميٍّ. وكذا على أنْ لا يَشهدَ عليه بالزُّورِ؛ لأنَّه لا يُقابَلُ بعِوضٍ.
(فصلٌ) في أحكامِ الجوارِ
(ويحرُمُ على الشَّخصِ أنْ يُجريَ ماءً في أرضِ غيرِه، أو) في (سطحِ) غيرِ (هـ، بلا إذنِه) أي: إذنِ صاحبِ الأرضِ أو السَّطحِ؛ لتضرُّرِه، أو تضرُّرِ
(1)
أرضِه. وفي روايةِ: إنْ دعتْ ضرورةٌ
(2)
. وقيلَ: أو حاجةٌ.
(ويصحُّ الصُّلحُ على ذلك) أي: إجراءِ الماءِ في سطحِ غيرِه، أو أرضِ غيرِه (بعِوضٍ) لأنَّه إمَّا بيعٌ، أو إجارةٌ. فمعَ بقاءِ مِلكِه إجارةٌ، وإلا فبيعٌ؛ لأنَّ العِوضَ في مقابلةِ المحلِّ.
ويُعتبرُ لصحةِ ذلك إذا وقعَ إجارةً: عِلْمُ قدْرِ الماءِ الذي يُجريه؛ لاختلافِ ضررِه بكثرتِه وقلَّتِه. بساقيته. وعِلْمُ قدْرِ ماءِ مطرٍ برؤيةِ ما - أي: محلٍّ - يزولُ عنه من سطحٍ أو أرضٍ، أو بمساحتِه - أي: قدرِ طولِه وعَرْضِه - وتقديرِ ما يجري فيه الماءُ من ذلك المحلِّ.
(1)
سقطت: "أو تضرُّرِ" من الأصل.
(2)
أي: فيجوز بلا إذنه. وانظر "المغني"(7/ 28).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا
(1)
يُعتبرُ قدْرُ عُمْقِه. وفي "الإقناع": يُعتبرُ إنْ وقعَ إجارةً. ولا عِلْمُ مدَّتِه؛ للحاجةِ ويصحُّ شراءُ ممرٍّ في دارٍ ونحوِها، من مالِكه، وشراءُ موضعٍ بحائطٍ يُفتحُ بابًا، وشراءُ بقعةٍ تُحفرُ بئرًا، وشراءُ عُلْوِ بيتٍ، ولو لم يُبْنَ البيتُ إذا وُصِفَ. يعني: أنَّه يصحُّ شراءُ عُلْوِ بيتٍ غيرِ مبنيٍّ؛ ليبنيَه البائعُ، ثُمَّ يبني المشتري على عُلوِه إذا وُصِفَ البيتُ المطلوبُ شراءُ عُلْوِه؛ بأنْ يذكرَ طولَهُ، وعَرْضَهُ، وسَمْكَهُ، وآلتَه، من طينٍ ولَبِنٍ، أو طينٍ وآجُرٍّ، أو طينٍ ونُورَةٍ، وحجرٍ، ونحوِ ذلك. أو ليضعَ عليه خشبًا مَوصوفًا
(2)
.
قال في "المبدع": وظاهرُه: أنَّه لا يجوزُ أنْ يُحدثَ ذلك على الوقفِ. قال في "الاختيارات": وليسَ لأحدٍ أنْ يبنيَ على الوقفِ ما يضرُّه، اتفاقًا. وكذا إنْ لمْ يضرَّه، عندَ الجمهورِ
(3)
.
فإذا وقعَ الصُّلحُ على ما ذُكِرَ، كان الصُّلْحُ صُلحًا مؤبدًا، ولو كان إجارةً مدةً معلومةً.
قال في "المنتهى"
(4)
: فإذا مَضتْ - أي: مدَّةُ الإجارةِ - بقيَ البناءُ، وله أجرةُ المثلِ.
(1)
سقطت: "لا" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 422).
(2)
في الأصل: "موضوعًا". وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 424)، "مسلك الراغب"(2/ 542).
(3)
"المبدع"(4/ 293)، وانظر "كشاف القناع"(8/ 300).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 425).
ومن لَه حَقُّ ماءٍ يَجرِي على سَطحِ جارِه، لَمْ يَجُزْ لجارِهِ تعليَةُ سطحِه؛ ليمنَعَ جَريَ المَاءِ.
وحرُمَ على الجَارِ أن يُحدِثَ بمِلكِه ما يَضُرُّ بجَارِه، كحمَّامٍ، وكَنيفٍ،
ومتى زالَ البنيانُ أو الخشبُ، فله إعادتُه؛ لأنَّه استحقَّ إبقاءَهُ بعِوضٍ، سواءٌ زالَ لسقوطه
(1)
، أو لسقوطِ الحائطِ، أو لغيرِ ذلك. ورجعَ بأجرةِ مدَّةِ زوالِه عن البيتِ - في أثناءِ مدَّةِ الإجارةِ - سقوطًا لا يعودُ. قالَهُ في "المغني"
(2)
.
ولربِّ البيتِ الصلحُ على إزالةِ العُلْوِ عن البيتِ، أو الصلحُ على عدمِ عودِه بعدَ أنْ انهدمَ. قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "المنتهى"
(3)
: قلتُ: وعلى قياسِه: الحاكورةُ
(4)
المشهورةُ في الأوقافِ. فليس لجهةِ الوقفِ إلا أجرةُ المثلِ، كما هو العُرْفُ فيها.
"فائدةٌ": له تعليةُ بنائِه، ولو أفضَى إلى سدِّ الفضاءِ عن جارِه. قالَهُ شيخُ الإسلامِ الشيخُ تقيُّ الدينِ
(5)
.
(ومَنْ له حقُّ ماءٍ يجري على سطحِ جارِه، لم يَجزْ لجارِه تعليةُ سطحِه؛ ليمنعَ جريَ الماءِ) على سطحِه؛ لما فيه من إبطالِ حقِّ جارِه.
(وحَرُمَ على الجارِ أنْ يُحدِثَ بملكِه ما يَضُرُّ بجارِه، كحمَّامٍ) يتأذَّى جارُه بدُخانِه، أو ينضرُّ حائطُه بمائِه. ومثلُه: مطبخُ سُكَّرٍ (وكنيفٍ) أو بالوَعةٍ يتأذَّى جارُه
(1)
في الأصل: "سقوطه".
(2)
"المغني"(7/ 39)، وانظر "كشاف القناع"(8/ 301).
(3)
"دقائق أولي النهى"(3/ 425)، "حواشي الإقناع"(1/ 573).
(4)
الحاكورة: أرض تحبس لزرع الأشجار قرب الدور. "المعجم الوسيط": (حكر).
(5)
"الاختيارات" ص (134).
ورَحىً، وتنُّورٍ، وله منعُهُ مِن ذَلِكَ.
بريحِه، أو يصلُ إلى بئرِه.
فإنِ ادَّعى فسادَ بئرٍ بكنيفٍ أو بالوعةٍ، اختُبِرَ بالنِّفْطِ يُلقى فيها، فإنْ ظهرَ طعْمُه أو ريحُه بالماءِ، نُقِلتا، إنْ لم يمكنْ إصلاحُهما ببناءٍ أو غيرِه. هذا إذا كان كانتْ البئرُ أقدمَ منهما. قالَهُ في "حاشية المنتهى"
(1)
.
(و) أنْ يُحدثَ (رحًى) يهتزُّ بها حيطانُه، (وتنُّور) يتعدَّى دخانُه إليه. وكذا دكانُ حدادةٍ وقِصارةٍ يتأذَّى بدقِّه بهزِّ الحيطانِ؛ لحديث: "لا ضررَ ولا
(2)
ضرارَ"
(3)
. وهذا إضرارٌ بجارِه.
(وله) أي: الجارِ (منعُه من ذلك) الذي يتضرَّرُ منه. بخلافَ طبخٍ وخبزٍ في مِلكِه، فلا يُمنعُ منه؛ لدعاءِ الحاجةِ إليه، وضررُه يسيرٌ، لاسيما بالقرى.
وإنْ كان هذا الذي يحصلُ منه الضررُ للجارِ - من حمَّامٍ ورحًى وغيرِهما - سابقًا على مِلكِ الجارِ، مثلُ مَنْ له في مِلكِه مدبغةٌ، أو تنُّورٌ، ونحوُهما، فأحيا إنسانٌ إلى جانبِه مواتًا، أو بنى بجانبِه دارًا ونحوَه، أو اشترى دارًا بجانبِه، بحيثُ إنَّ صاحبَ المِلكِ المحدَثِ يتضرَّر بالمدبغةِ والتنُّورِ ونحوِهما، لم يلزمْ صاحبَها إزالتُه؛ لأنَّه لم يُحدثْ بملكِه، وإنَّما كان موجودًا قبلَهُ.
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 750).
(2)
في الأصل: "وإلا إضرار"
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (37/ 436)(22778)، وابن ماجه (2340) من حديث عبادة. وورد عن جماعة من الصحابة مرفوعًا. وصححه الألباني في "الإرواء"(896، 1250).
ويَحرُمُ التَّصرُّفُ في جِدَار جَارٍ مُشتَركٍ بفَتح رَوزَنَةٍ، أو طَاقٍ، أو ضَرْبِ وتَدٍ ونحوِه، إلَّا بإذنِه.
وكَذَا وضْعُ خَشَبٍ، إلَّا أنْ لا يُمكِنَ تسِقيفٌ إلَّا بِه، ويجبَرُ الجَارُ إن أبَى.
"تتمَّةٌ": قال شيخُ الإسلامِ، الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ تيميةَ: ومَن كانتْ له ساحةٌ يلقي فيها الترابَ والحيوانَ الميِّتَ، وتضرَّرَ الجيرانُ بذلك، فإنَّه يجبُ على صاحبِها أنْ يدفعَ ضررَ الجيرانِ؛ إمَّا بعمارتِها، أو بإعطائِها لمَنْ يعمرُها، أو يُمنعَ أنْ يُلقِيَ فيها ما يضرُّ بالجيرانِ
(1)
(ويحرُمُ) على الجارِ (التصرُّفُ في جدارِ جارٍ) ولو (مُشتَرَكـ) ـًا، بينَ المتصرِّفِ وغيرِه (بفتحِ رَوْزَنَةٍ) وهي: الكَوَّةُ، بفتحِ الكافِ وضمِّها. أي: الخَرْقُ في الحائطِ. (أو) بفتحِ (طاقٍ): ما انعطَفَ من الأبنيةِ، (أو) بـ (ضربِ وتَدٍ) ولو لسترةٍ (ونحوِه) كمسمارٍ، ورَفٍّ، وغيرِه (إلا بإذنِه) أي: بإذنِ مالِكه، أو شريكِه، كالبناءِ عليه.
(وكذا) يحرُمُ التصرُّفُ في جدارِ جارِه بـ (وضعِ خشبٍ) عليه (إلا أنْ لا يمكنَ) الـ (تسقيفُ إلا به) فيجوزُ بلا ضررٍ. نصًّا. (ويجبِرُ) الحاكمُ (الجارَ إنْ أبَى) أي: امتنعَ؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "لا يمنعَنَّ جارٌ جارَه أنْ يضعَ خشبَه على جدارِه". ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: مالي أَراكمْ عنها مُعرضِينَ؟ واللهِ لأرمينَّ بها بين أكتافِكُمْ. متفق عليه
(2)
.
ولأنَّه انتفاعٌ بحائطِ جارِه على وجهٍ لا يضرُّ، أشبَه الاستنادَ إليه. ولا فرقَ بين
(1)
"الإقناع"(2/ 376).
(2)
أخرجه البخاري (2463)، ومسلم (1609).
وله أن يُسنِدَ قِماشَهُ، ويَجلِسَ في ظِلِّ حائِطِ غَيرِه، وينظُرَ في ضَوءِ سِراجِه مِنْ غَيرِ إذنِه.
وحَرُمَ أن يتصرَّفَ في طريقٍ نافذٍ بما يَضُرُّ المَارَّ، كإخَرَاجِ دُكَّانٍ، ودَكَّةٍ، وجَنَاحٍ، وسَاباطٍ، ومِيزَابٍ، ويَضمَنُ ما تَلِفَ به.
البالغِ، واليتيمِ، والمجنونِ، والعاقلِ. ولم يجزْ لربِّ الحائطِ أخذُ عِوضٍ عنه إذنْ؛ لأنَّه يأخذُ عِوضَ ما يحبُ عليه بذلُه. ذكرَه في "المبدع"
(1)
.
(وله) أي: الإنسانِ (أنْ يُسنِدَ قُماشَه، ويجلسَ في ظلِّ حائطِ غيرِه) أي: بغيرِ إذنِه
(و) له أن (ينظُرَ في ضَوءِ سِرَاجِه) أي: سِرَاجِ غَيرِه (من غَيرِ إذنِه) لمشقَّةِ التحرُّزِ من ذلك، وعدمِ الضَّررِ.
(وحرُمَ) على الإنسانِ (أنْ يتصرَّفَ في طريقٍ نافذٍ بما يضرُّ المارَّ) في الطريقِ، (كإخراجِ دُكَانٍ) بضمِّ الدالِ، (و) إخراجِ (دَكَّةٍ) بفتحِها. قالَهُ في "القاموس". وهي: مِسْطَبَةٌ - بكسرِ الميمِ - للجلوسِ عليها. ولو كان الطريق واسعًا، ولو بإذنِ إمامٍ أو نائبِه؛ لأنَّ ذلك تضييقٌ على كلِّ حالٍ، وضررٌ. (وجَنَاحٍ) وهو: الرَّوْشَنُ على أطرافِ خشبٍ أو حجرٍ مدفونةٍ في الحائطِ (وساباطٍ) وهو: المستوفي للطريقِ على جِدارَيْنِ (وميزابٍ) فيحرُمُ إخراجُها بنافذٍ (ويضمنُ ما تَلِفَ به) أي: بما ذكرَ.
ويجوزُ إخراجُ ذلك بإذنِ إمامٍ أو نائبِه؛ لأنَّه نائبُ المسلمين، فإذْنُه كإذنِهم؛ ولحديثِ أحمدَ: أنَّ عمرَ اجتازَ على دارِ العباسِ، وقد نصبَ ميزابًا إلى الطريقِ، فقلَعَه. فقالَ: أتقلعُه وقد نصبَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه؟! فقال: واللهِ لا تنصِبُه إلا على
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 431).
ويَحرُمُ التَّصرُّفُ بذلِك في مِلكِ غَيرِه، أو هَوائِه، أو دَربٍ غيرِ نافِذٍ، إلَّا بإذنِ أهلِه.
ويُجبَرُ الشَّريكُ على العِمَارة معَ شَريكِهِ في المِلْكِ، والوَقفِ
ظهري. فانحنَى حتى صَعِدَ على ظهرِه، فنصبَهُ
(1)
. ولجريانِ العادةِ به.
هذا إذا كانَ بلا ضررٍ، بحيثُ يمكنُ عبورُ مَحْمِلٍ من تحتِه، وإلا لمْ يجزْ وضعُه، ولا إذنُه فيه.
فإنْ كانَ الطريقُ منخفضًا وقتَ وضعِه، ثمَّ ارتفعَ لطولِ الزمنِ، فحصلَ به ضررٌ، وجبتْ إزالتُه. ذكرَه الشيخُ تقيُّ الدينِ
(2)
.
(ويحرُمُ التصرُّفُ بذلك) أي: بما ذكرَ من إخراجِ دُكانٍ، ودَكَّةٍ، وجَنَاحٍ،
وسَاباطٍ، وميزابٍ (في مِلكِ غيرِه، أو هوائِه) أي: الغيرِ، (أو) في (دربٍ غيرِ نافذٍ، إلا بإذنِ أهلِه) أي: الدربِ غيرِ النافذِ، إنْ فُعِلَ فيه؛ لأنَّ الدربَ مِلْكُهم، فلم يجزْ التصرُّفُ فيه إلا بإذنِهم.
(ويُجبَرُ الشريكُ على العِمارةِ) في العينِ المشتركةِ (مع شريكِه)، كما يُجبَرُ على نقضِه عندَ خوفِ سقوطِه (في المِلكِ، والوقفِ) فإنْ أبَى شريكٌ البناءَ مع شريكِه، وأجبَرَهُ عليه حاكمٌ، وأصرَّ، أخَذَ حاكمٌ ترافَعَا إليه مِن مالِه النقدَ، وأنفقَ بقدرِ حصَّتِه، أو باعَ الحاكمُ عَرْضَه، إنْ لم يكنْ له نقدٌ، وأنفقَ من ثمنِه مع شريكِه بالمحاصَّةِ. فإنْ تعذَّرَ ذلك على الحاكمِ لنحوِ تغيُّبِ مالِه، اقترضَ عليه؛ ليؤدِّيَ ما عليه.
(1)
أخرجه أحمد (1790)(3/ 308) من حديث عبيد الله بن عباس. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1431).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 428).
وإن هَدَمَ الشَّريكُ البِنَاء، وكانَ لِخَوفِ سُقُوطِه، فلا شَيءَ علَيه، وإلا لزِمَتْهُ إعادتُه.
وإنْ بنَاهُ شريكٌ بإذنِ شريكِه، أو بنَاهُ بإذنِ حاكمٍ، أو بدونِ إذنِهما؛ ليرجعَ على شريكِه، وبنَاهُ شركةً، رجعَ لرجوعِه على المنفقِ، فقدْ قامَ عنه بواجبِ.
وإنْ بنَاهُ شريكٌ لنفسِه بآلتِه، فالمبنيُّ شركةٌ بينهما، كما كانَ؛ لأنَّ البانيَ إنَّما أنفقَ على التأليفِ، وهو أثرٌ لا عينٌ يَمِلكُها، وليسَ له أنْ يمنعَ شريكَهُ من الانتفاع به قبلَ أخذِ نصفِ نفقةِ تأليفِه، كما أنَّه ليسَ له نقضُه.
وإنْ بنَاهُ لنفسِه بغيرِ آلةِ المنهدمِ، فالبناءِ له خاصَّةً، وللباني نقضُه؛ لأنَّه مِلكُه. ولا يملكُ نقضَه إنْ دفعَ له شريكُه نصفَ قيمتِه. وليسَ لغيرِ الباني نقضُه، ولا إجبارُ الباني على نقضِه.
(وإن هدمَ الشريكُ) ما كان بينهما شركةً من (البناءِ) من غيرِ إذنِ شريكِه، (وكان) البناءُ (لخَوفِ
(1)
سقوطِه) أي: آيلٌ إلى السقوطِ، (فلا شيءَ عليه) لشريكِه فيما هدَمَه؛ لما فيه من المصلحةِ.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع"
(2)
: قياسُ ما سبقَ: يرجعُ بما يقابلُ حصتَه من أجرةِ الهدمِ، إنْ
(3)
نوىَ الرجوعَ.
(وإلا) وإنْ لمْ يكن البناءُ مخوفَ السقوطِ (لزمَتْهُ إعادتُه) كما كان؛ لتعدِّيه على حصةِ شريكِه، ولا يمكنُ الخروجُ مِن عهدةِ ذلك إلا بإعادةِ جميعِه. وقياسُ
(1)
في الأصل: "مخوف".
(2)
"كشاف القناع"(8/ 320).
(3)
في الأصل: "وإن".
وإن أهمَلَ شَريكٌ بناءَ حائِطِ بُستَانٍ اتَّفقَا عليه، فما تَلِفَ من ثَمرَتِه بسبَبِ إهمالِهِ، ضَمِنَ حِصَّةَ شَريكِهِ.
المذهب
(1)
: يلزمُه أرشُ نقصِه بالنقضِ
(وإنْ أهملَ) أحدُ الـ (شريكَـ) ــينِ (بناءَ حائطِ بستانٍ اتفقَا) الشريكانِ (عليه) أي: على بنائِه، إلى أنْ تَلِفَ مِنْ ثمرةِ البستانِ، (فما تَلِفَ مِن ثمرتِه) أي: مِن ثمرةِ البستانِ (بسببِ إهمالِه) أي: إهمالِ شريكِه، (ضمِنَ) الشريكُ المهمِلُ ما تَلِفَ مِنْ (حصَّةِ شريكِه) قالَه الشيخُ
(2)
؛ لتلفِه بسببِه.
"تتمَّةٌ": لو أرادَ أحدٌ من الشريكينِ بناءَ حائطٍ بين ملكيهما، لم يجبرِ الممتنعُ، ويبني الطالبُ في ملكِه إنْ شاءَ.
* * *
(1)
تكررت: "المذهب" في الأصل
(2)
أي: شيخ الإسلام في "الاختيارات" ص (134).
كِتابُ الحَجْرِ
وهُو: منعُ المَالِكِ من التَّصرُّفِ في مالِه.
وهو نوعان:
الأوَّلُ: لحَقِّ الغَيرِ، كالحَجْرِ على مُفلِسٍ،
(كتابُ الحَجْرِ)
للفَلَسِ وغيرِه. وهو - بفتحِ الحاءِ وكسرِها - لغةً: التضييقُ والمنعُ. ومنه سُمِّيَ الحرامُ حِجْرًا؛ لقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] لأنَّه ممنوعُ عنه. وسُمِّيَ العقلُ حِجْرًا؛ لقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] لأنَّه يمنعُ صاحبَه مِن تعاطي ما يَقْبُحُ، وتضرُّ عاقبتُه.
(وهو) شرعًا: (منعُ المالكِ مِن التصرُّفِ في مالِه). قولُه: "منعُ مالكٍ
…
إلخ": "منع": مصدرٌ مضافٌ إلى مفعولِه، وفاعلُه محذوفٌ؛ ليعمَّ الشَّرعَ، والحاكمَ. ولو عبَّرَ بدلَ: "مالكٍ" بـ "إنسانٍ"، "كالإقناع" "والمقنع" وغيرِه، لكانَ أَوْلَى، لِعَدِّهِ القنَّ مِن المحجورِ عليهم فيما يأتي.
والمنعُ سواءٌ كانَ مِن قبلِ الشَّرعِ، كالصغيرِ، والمجنونِ، والسَّفيهِ. أو الحاكمِ، كمنعِ المشتري مِن التصرُّفِ في مالِه حتَّى يَقْضيَ الثمنَ الحالَّ.
(وهو) أي: الحجرُ (نوعانِ):
(الأوَّلُ: لحقِّ الغيرِ) أي: غيرِ المحجورِ عليه، (كالحجرِ على المفلسِ) لحقِّ الغرماءِ.
والمفلسُ لغةً: مَن لا مالَ له، ولا مَا يدفعُ به حاجتَه.
وراهِنٍ، ومَرِيضٍ، وقِنٍّ، ومُكاتَبٍ، ومُرتَدٍّ، ومشتَرٍ بعدَ طلَبِ الشَّفيعِ.
الثَّانِي: لِحَظِّ نفسِهِ، كعَلَى صَغيرٍ، ومجنُونٍ، وسَفيهٍ.
ولا يُطالَبُ المَدِينُ، ولا يُحجَرُ عَليِه بدَينٍ لم يَحِلَّ،
والمفلسُ عندَ الفقهاءِ: مَنْ دينُه أكثرُ مِن مالِه. سُمِّيَ مُفلسًا، وإنْ كانَ ذا مالٍ؛ لاستحقاقِ مالِه الصَّرفَ في جهةِ دينِه، فكأنَّه معدومٌ. أو لما يؤولُ إليه مِن عدمِ مالِه بعدَ وفاءِ دينِه. أو لأنَّه يُمنعُ مِن التصرُّفِ في مالِه إلا الشيءَ التافهَ الذي لا يعيشُ إلا به، كالفلوسِ ونحوِها.
(و) على (راهنٍ) لحقِّ المرتهنِ في الرَّهنِ بعدَ لزومِه
(و) على (مريضٍ) مرضَ موتٍ مخوفًا، فيما زادَ على الثلثِ؛ لحقِّ الورثِة.
(و) على (قِنٍّ، و) على (مُكاتَبٍ) لحقِّ سيِّدِه
(و) على (مُرتدٍّ) لحقِّ المسلمينَ؛ لأنَّ تركتَه فيءٌ، فمُنعٍ مِن التصرُّفِ في مالِه؛ لِئلا يُفوِّتَه عليهم
(و) على (مشترٍ) في شقصٍ مشفوعٍ اشتراه (بعدَ طلبِ الشفيعِ) له، على القولِ بأنَّه لا يملكُه بالطلبِ؛ لحقِّ الشفيعِ.
النوعُ (الثاني): الحجرُ على الشخصِ (لحظِّ نفسِه، كـ) الحجرِ (على صغيرٍ، ومجنونٍ، وسفيهٍ) لأنَّ مصلحتَه عائدةٌ إليهم، والحجرُ عليهم عامٌّ في أموالِهم وذممِهم.
(ولا يُطالَبُ المدينُ) بدينٍ لم يحلَّ (ولا يُحجرُ عليه بدينٍ لم يحلَّ) لأنَّه لا يلزمُه أداؤُه قبلَ حلولِه.
قولُه "بدين": متعلِّقٌ بـ " لا يُحجرُ" من التنازعِ على إعمالِ الثاني، أي: لا يُطالبُ
لكِنْ لو أرادَ سَفرًا طَويلًا، فلِغَريمِه مَنعُه، حتَّى يُوثِّقَهُ برَهنٍ يُحرِزُ، أو كَفيلٍ مَليءٍ.
ولا يَحِلُّ دينٌ مؤجَّلٌ بجُنُونٍ، ولا بِمَوتٍ إنْ وثَّقَ ورثتُهُ بِمَا تقدَّم.
بدينٍ قبلَ حلولَه، ولا يُحجرُ بدينٍ، أي: على دينٍ، قبلَ حلولٍ
(لكن لو أرادَ) المدينُ (سفرًا طويلًا) فوقَ مسافةِ قصرٍ عندَ المُوَفَّقِ، وابنِ أخيهِ، وجماعةٍ. قال في "الإنصاف": ولعلَّه أوْلى، لكن أطلقَ في "التنقيح" السفرَ، فيشملُ الطويلَ والقصيرَ، وتبِعَه صاحبُ "المنتهى"
(1)
. والمصنِّفُ تبِعَ صاحبَ "الإقناع"، ومشى عليه المصنِّفُ في "غاية المنتهى".
"فرعٌ": لو أرادَ المدينُ سفرًا، فطالبه الغريمِ، فقال وكيلٌ: هذا يُعطيكَ. وصدَّقه الوكيلُ، ثمَّ ادَّعَى الوكيلُ أنَّ المسافرَ إنَّما وكَّلَه في أنْ يأخذَ مِن زيدٍ، ويُعطي، ولم يعطِه زيدٌ شيئًا، قُبِلَ قولُ الوكيلِ. فإنْ تبيَّنَ بيدِ الوكيلِ مالٌ غيرُ ذلك، أُعطيَ منه
(فلغريمِه): خبرٌ مقدَّمٌ، أي: لربِّ الدَّينِ (منعُهُ) مبتدأٌ مؤخرٌ، أي: منعُ ربِّ الدينِ مِن السفرِ (حتى يُوثِّقَه برهنٍ يُحرِزُ) أي: يُوفي منه جميعَ الدَّينِ (أو) يُوثِّقَه بـ (كفيلٍ مليءٍ) أي: قادرٍ على وفاءِ الدَّيْنِ.
وإنْ كانَ دينُه حالًّا، وهو قادرٌ على وفائِه، وطلبَ الدَّيْنَ منْه، فسافرَ قبلَ وفائِه، لم يجزْ له أنْ يترخَّصَ بقصرٍ، وفطرٍ، وأكلِ ميتةٍ؛ لأنَّه عاصٍ بسفره
(ولا يحلُّ دَيْن مؤجَّل بجنونٍ، ولا بموتٍ، إنْ وثَّقَ ورثُتهُ بما تقدَّمَ) مِن رهنٍ يُحرِزُ، أو كفيلٌ مليءٌ. ويحرُمُ مطالبةُ مَنْ عليه دَيْنٌ مؤجَّلٌ قبلَ حلولِ أجلِه. ولا يُحجرُ عليه.
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 754).
ويجِبُ على مَدِينٍ قادِرٍ وفاءُ دَينٍ حَالٍّ فَورًا بطلَبِ ربِّه، وإنْ مطَلَه حتَّى شَكَاهُ، وجَبَ على الحَاكِم أمرُهُ بوفَائِه، فإنْ أبَى حَبَسَهُ، ولا يُخرِجُه حتَّى يتبيَّنَ أمرُه.
(ويجبُ على مدينٍ قادرٍ وفاءُ دَيْنٍ حالٍّ فورًا بطلبِ ربِّه) له؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: "مطلُ الغنيِّ ظلمٌ"
(1)
. وبالطلبِ يتحقَّقُ المطلُ.
فعُلِمَ مِنْ هذا: أنَّه لا يلزمُه الدفعُ قبلَ الطلبِ. وجزمَ به في "المستوعب".
(وإنْ مطلَه) المدينُ (حتى شكاهُ) ربُّ الدَّيْنِ (وجبَ على الحاكمِ أمرُه بوفائِه، فإنْ أبَى) المدينُ الوفاءَ (حبسَه) الحاكمُ؛ لما رَوى عمروُ بنُ الشَّريدِ، عن أبيِه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"ليُّ الواجدِ ظلمٌ، يُحِلُّ عِرْضَه، وعقوبتَهُ" رواه أحمدُ، وأبو داودَ، وغيرُهما
(2)
. قال الإمامُ: قال وكيعٌ: عِرْضُه: شكْواهُ. وعقوبتُه: حبسُه.
قال في "المغني"
(3)
: إذا امتنعَ الموسرُ مِن قضاءِ الدَّيْنِ، فلغريمِه ملازمتُه، ومطالبتُه، والإغلاظُ عليه بالقولِ، فيقولُ: يا ظالمُ، يا معتدي، ونحوَه؛ للخبرِ، وحديثِ:"إنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالًا"
(4)
.
وظاهرُه: أنَّه يُحبسُ حيثُ توجَّه حبسُه، ولو أجيرًا خاصًّا، أو امرأةً مُزوَّجَةً
(5)
(ولا يُخرجُه) مِن الحبسِ (حتَّى يتبيَّنِ أمرُه) أي: حالُه؛ لأنَّ أمرَه بالحبسِ حكمٌ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد 29/ 465 (17946)، وأبو داود (3628)، وابن ماجه (2427)، والنسائي (4689). وحسنه الألباني في "الإرواء"(1434).
(3)
"المغني"(6/ 588).
(4)
أخرجه البخاري (2401)، ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة.
(5)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 442).
فإن كانَ ذُو عُسَرةٍ، وجبَت تخليَتُه، وحَرُمَتْ مُطَالبتُه والحَجرُ عليه ما دامَ مُعسِرًا.
لغيرِه، فلمْ يكنْ له رفعُه بغيرِ رضَا المحكومِ له. أو يتبيَّنَ للحاكمِ عدمُ استحقاقِ المحبوسِ؛ لكونِه مُعسرًا، أو نحوَ ذلك
(فإنْ كانَ) تبيَّنَ حالُه بأنَّه (ذو عُسرةٍ، وجبَتْ تخليتُه) أي: إطلاقُه مِنْ الحبسِ، (وحرمتْ مطالبتُه) وملازمتُه (والحجرُ عليه ما دامَ مُعسرًا) لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وفي إنظارِ المعسرِ فضلٌ عظيمٌ؛ لحديثِ بريدةَ مرفوعًا: "مَن أنظرَ مُعسِرًا، فله بكلِّ يومٍ مثلُه صدقةٌ قبلَ أنْ يحلَّ الدَّينُ، فإذا حلَّ الدَّينُ فأنظَرَه، فله بكلِّ يومٍ مِثليه صدقةٌ". رواه أحمدُ
(1)
بإسنادٍ جيدٍ.
"تتمَّةٌ": إذا غرمَ الشاكي للرسولِ شيئًا، أو للقاضي، أو لأعوانِه، فله الرجوعُ به على خصمِه المماطلِ، لا على القاضي وأعوانِه والرسلِ؛ لأنَّ الغرمَ حصلَ بسببِه. وكذلكَ مَن اشتُكِيَ لمَن عادتُه التغريمُ، كالوالي، والكاشفِ، والمحتسبِ، فإنَّه يرجعُ على خصمِه بما غرمَه، لا على الآخذِ. وهذا معنى قولِ صاحبِ "المنتهى": وغرِمَ لكذِبٍ عليه عندَ وليِّ أمرٍ، رجعَ به على كاذبٍ
(2)
.
لكنْ ظاهرُ قولِ صاحبِ "المنتهى": "كاذب": لو كان الشاكي صادقًا في دعواهُ، لا يرجعُ الغارمُ عليه بشيءٍ. لكنْ نقلَ عن صاحبِ "المنتهى" والمقدسي: حيثُ تعدَّىَ وشكَاهُ للشرطىِّ، ولو كانَ صادقًا في دعواهُ، يرجعُ على الشاكي.
(1)
أخرجه أحمد (23046)(38/ 153)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6108).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 441).
وإن سألَ غُرمَاءُ من له مَالٌ لا يَفِي بدينِهِ الحَاكِمَ الحَجْرَ عليه، لَزِمَهُ إجابتُهُم، وسُنَّ إظهارُ حَجْرٍ لفَلَسٍ.
(وإنْ سألَ غرماءُ) كلُّهم، أو بعضُهم (مَن له مالٌ لا يَفِي) أي: لا يقومُ المالُ الذي معه (بـ) ــوفاءِ (دَينِه، الحاكمَ الحجرَ عليه، لزِمَه) أي: الحاكمَ (إجابتُهم) للحجرِ عليه. والأصلُ في ذلك: ما روى كعبُ بنُ مالكِ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ على معاذٍ، وباعَ مالَه
(1)
. رواه الخلَّالُ بإسنادِه.
وظاهرُ ما تقدَّمَ عليه: أنَّه لابدَّ من سؤالِ مَن له حقٌّ الحاكمَ في الحجرِ عليه، وحُكمِ الحاكمِ به، وهو المذهبُ.
وعنه: إنْ ضاقَ مالُه عن ديونِه صارَ محجورًا عليه بغيرِ سؤالْ ولا حاكمٍ، واختارَها الشيخُ تقيُّ الدينِ.
وقيلَ: إنْ طلبَ المفلسُ من الحاكمِ
(2)
الحجرَ، لزِمتْه إجابتُه.
والصحيحُ الذي مشى
(3)
عليه في "الإقناع": لا يلزمُ الحاكمَ إجابةُ المعسرِ إلى الحجرِ عليه؛ لأنَّ الحجرَ حقٌّ لغرمائِه
(4)
.
(وسُنَّ إظهارُ حَجْرِ) المدينِ (لفَلَسٍ) وإظهارُ حجرٍ بالمناداةِ عليهما
(5)
، وغيرِها ممَّا يشتهرُ به؛ ليُعلمَ حالُهما، فلا يعامَلان
(6)
إلا على بصيرةٍ.
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 230 - 231)، والبيهقي (6/ 48). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1435).
(2)
في الأصل: "المفلس كالحاكم".
(3)
في الأصل: "من"
(4)
انظر "كشاف القناع"(8/ 338).
(5)
أي: على المحجور عليه لفلس أو سفه.
(6)
في الأصل: "يعاملون"، وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 447).
فَصْلٌ
وفائِدةُ الحَجرِ
أحكَامٌ:
أحدُها: تَعلُّقُ حَقِّ الغُرمَاءِ بالمَالِ، فلا يَصِحُّ تصرُّفُه فيه بشيءٍ،
وسُنَّ الإشهادُ عليه
(1)
، ليثبتَ عندَ مَن يقومُ مقامَ الحاكمِ لو عُزِلَ أو ماتَ، فيُمضِيه، ولا يحتاجُ إلى ابتداءِ حَجْرٍ ثانٍ.
(فصلٌ)
(وفائدةُ الحجرِ) على المفلسِ (أحكامٌ) أربعٌ:
(أحدُها: تعلُّقُ حقِّ الغرماءِ) مَن سألَ الحجرَ وغيرُه (بالمالِ) الموجودِ، والحادثِ بنحوِ إرثٍ؛ لأنَّه يُباعُ في ديونِهم، فتعلَّقتْ حقوقُهم به، كالرَّهنِ
(فلا يصحُّ تصرُّفُه فيه) ببيعٍ وغيرِه (ولو بالعتقِ) أو صدقةٍ (بشيءٍ) يسيرٍ أو كثيرٍ، فلا ينفذُ؛ لأنَّه ممنوعٌ من التبرُّعِ لحقِّ الغرماءِ.
فلم ينفذْ - كالمريضِ الذي يستغرقُ دينُه مالَه - إلا بتدبيرٍ ووصيةٍ؛ لأنَّ تأثيرَهما بعدَ زوالِ الحجرِ بالموتِ. وإنَّما يظهرُ أثرُ ذلك إذا ماتَ عن مالٍ، يخرجُ المدبَّرُ أو
(2)
الموصى به من ثُلثِه بعدَ وفاءِ دَينِه.
والمرادُ: تصرَّفًا مستأنفًا، كبيعٍ، وهبةٍ، ووقفٍ، وعتقٍ، وإصداقٍ، ونحوِه؛ لأنَّه محجورٌ عليه فيه، أشبَه الرَّاهنَ يتصرَّفُ في الرَّهنِ، ولأنَّه مُتَّهمٌ في ذلك.
فإنْ كانَ التصرُّفُ غيرَ مستأنفٍ، كالفسخِ لعيبٍ فيما اشتراه قبلَ الحَجْرِ، أو
(1)
أي: على الحجر.
(2)
سقطت: "أو" من الأصل.
ولو بالعِتْقِ.
وإنْ تصرَّف في ذِمَّتِه بشراءٍ، أو إقرارٍ، صَحَّ، وطُولِبَ بِه بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه.
الثَّانِي: أنَّ مَنْ وَجَدَ عينَ ما باعَه أو أقرضَه، فهو أحقُّ بها،
الإمضاءِ، أو الفسخِ فيما اشتراه قبلَه بشرطِ الخيارِ، صحَّ؛ لأنَّه إتمامٌ لتصرُّفٍ سابقٍ حجرَه، فلم يُمنعْ منه، كاستردادِ وديعةٍ أودعَها قبلَ حجرِه، ولا يتقيَّدُ بالأحظِّ.
وتصرُّفُه في مالِه قبلَ الحجرِ عليه صحيحٌ. نصًّا، ولو استغرقَ دينُه جميعَ مالِه؛ لأنَّه رشيدٌ غيرُ محجورٍ عليه، ولأنَّ سببَ المنعِ الحجرُ، فلا يتقدَّمُ سببَه. ويحرُمُ إنْ أضرَّ بغريمِه. ذكرَهُ الأَدميُّ البغداديُّ
(1)
. واقتصرَ عليه في "الفروع" قال في "الإنصاف": وهو حسنٌ
(2)
.
(وإنْ تصرَّفَ) المحجورُ عليه
(3)
(في ذمَّتِه بشراءٍ) أو ضمانٍ (أو إقرارٍ، صحَّ) لأهليتِه للتصرُّفِ، والحجرُ يتعلَّقُ بمالِه، لا بذمَّتِه. (وطولِبَ به بعدَ فكِّ الحجرِ عنه) بما لزِمَ في ذمَّتِه بعدَ الحجرِ عليه، من ثمنِ المبيعِ، أو بالمقرِّ به، أو المضمونِ؛ لأنَّه حقٌّ عليه منعَ تعلُّقَه بمالِه لحقِّ الغرماءِ السابقِ عليه، فإذا استُوفي فقدَ زالَ العارضُ
(4)
. وعُلِمَ منه: أنَّه لا يشاركُ الغرماءَ.
(الثاني) من الأحكامِ المتعلقةِ بالحجرِ: (أنَّ مَنْ وجدَ عينَ ما باعَهُ) للمفلسِ، (أو) عَينَ ما (أقرضه) أو عَينَ ما أعطاه رأسَ مالِ سَلَمٍ، (فهو أحقُّ بها). أو وجدَ شيئًا
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 448).
(2)
انظر "الإنصاف"(13/ 249).
(3)
أي: المحجور عليه لفلس.
(4)
في الأصل: "المعارض".
بشَرطِ كونِه لا يعلَمُ بالحَجرِ، وأن يَكونَ المُفلِسُ حَيًّا،
أجرَه للمفلسِ، ولو كان المُؤجرُ للمفلسِ نفسَه
(1)
، ولم يمضِ من مُدَّتها، أي: الإجارةِ، زمنٌ له أجرةٌ، فهو أحقُّ به. فإنْ مضىَ من المدَّةِ شيءٌ، فلا فسخ؛ تنزيلًا للمدَّةِ منزلةَ المبيعِ. ومُضِيُّ بعضِها، كتلفِ بعضِه. وكذا لو استؤجرَ لعملٍ معلومٍ، فإنْ لمْ يعملْ منه شيئًا، فله الفسخُ، وإلا فلا.
أو أجرَ عبدَه أو دابتَه، فحُجِرَ على المستأجِرِ لفلسٍ، ولم يمضِ من المدَّةِ شيءٌ له أجرةٌ عادةً، فهو، أي: واجدُ عينِ مالِه، أحقُّ بها؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا:"مَنْ أدركَ متاعَه عندَ إنسانٍ أفلسَ، فهو أحقُّ به". متفقٌ عليه
(2)
.
فالبائعُ ونحوُه بالخيارِ بين الرجوعِ فيها، وبين أنْ يكونَ أُسوةَ الغرماءِ. وسواءٌ كانت السلعةُ مساويةً لثمنِها، أو لا، ولو بعدَ خروجِها من المفلسِ وعودِها إليه بفسخٍ، أو شراءٍ، أو إرثٍ، أو هبةٍ، أو وصيةٍ.
فلو أنَّ المفلسَ اشترىَ سلعةً وباعَها واشتراها، فهي لأحدِ البائعين بقرعةٍ. فإنْ تركَ أحدُهما، فللثاني أخذُها بلا قرعةٍ.
ويُشترطُ لملكِ الرجوعِ سبعةُ شروطٍ:
أحدُها: (كونُه) أي: مَنْ يملكُ الرجوعَ (لا يعلمُ بالحَجْرِ) على المفلسِ.
(و) الثاني من الشروطِ: (أن يكونَ المفلسُ حيًّا) إلى أخذِها؛ لحديثِ أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما رجلٍ باعَ متاعَه، فأفلسَ الذي ابتاعَه، ولم يقبضِ الذي باعَه من ثمنِه شيئًا، فوجدَ متاعَه بعينِه، فهو
(1)
بأن أجر حرٌّ نفسه، فحجر على المستأجر لفلسٍ.
(2)
أخرجه البخاري (2402)، ومسلم (1559).
وأن يكُونَ عِوَضُ العَينِ كُلُّهُ باقِيًا في ذِمَّته، وأنْ تكُونَ كُلُّها في مِلكِه، ....
أحقُّ به. وإنْ ماتَ المشتري، فصاحبُ المتاعِ أسوةُ الغرماءِ". رواه مالكٌ، وأبو داودَ مرسلًا
(1)
.
(و) الثالثُ من الشروطِ: (أنْ يكونَ عِوضُ العينِ كلُّه باقيًا في ذمَّتِه) أي: المفلسِ؛ للخبرِ، ولما في الرجوعِ في قسطِ باقي العِوضِ من التشقيصِ، وإضرارِ المفلسِ والغرماءِ؛ لكونِه لا يُرغبُ فيه كالرغبةِ في الكاملِ.
هذا إن كانتِ السلعةُ عينًا واحدةً في مبيعٍ. وإنْ كانتْ عينينِ، كعبدينِ، وثوبينِ، وبقيَ واحدةٌ، وتلِفَتِ الأخرى، رجعَ فيها بقسطِها من الثمنِ.
(و) الرابعُ من الشروطِ: (أنْ تكونَ) السلعةُ (كلُّها في ملكِه) أي: في ملكِ المفلسِ، فلا رجوعَ لربِّ السلعةِ إنْ تلِف
(2)
بعضُها، كقَطعِ بعضِ أطرافِ العبدِ أو الأمةِ، أو ذهبتْ عينُه، أو جُرحَ جرحًا تَنقصُ به قيمتُه، أو وُطِئَتِ البكرُ، أو تلِفَ بعضُ الثوبِ، أو انهدمَ بعضُ الدارِ، ونحوِه، لم يكنْ للبائعِ الرجوعُ في العينِ، ويكونُ أسوةَ الغرماءِ.
وإنْ باعَ المشتري بعضَ المبيعِ، أو وهبَه، أو وقفَه، فكتلفِه، فيُمنعُ الرجوعَ؛ لأنَّ البائعَ ونحوَه لم يدركْ متاعَه، وإنَّما أدركَ بعضَه.
وإنْ صَبَغَ الثوبَ
(3)
، أو قَصَره، أو لَتَّ السَّويقَ بزَيتٍ ونحوِه، لم يُمنعْ الرجوعَ، ما لم يَنقصْ ذلك به. فإنْ نقصَ به، سقطَ الرجوعُ؛ لأنَّه نقصَ بفعِله، فأشبَه إتلافَ البعضِ. قطعَ به في "التنقيح" و"المنتهى".
(1)
أخرجه مالك (2/ 678)، وأبو داود (3520)، وصححه الألباني.
(2)
في الأصل: "تلفت".
(3)
أي: صبغه المشتري.
وأن تَكُونَ بحالِهَا، ولم تتغيَّر صِفتُها بما يُزيلُ اسمَهَا، ولم تَزِدْ زِيادَةً مُتَّصِلَةً،
وردَّ
(1)
هذا التعليلَ في "المغني": بأنَّ هذا النقصَ نقصُ صفةٍ، فلا يمنعُ الرجوعَ، كنسيانِ صنعةٍ، وهُزالِ عبدٍ. وقال المجدُ: هو الأصحُّ. وجزمَ به في "المبدع"
(2)
.
وإنْ زادتِ القيمةُ بما ذُكرَ من الصَّبغِ ونحوِه، فالزيادةُ في ذلك للمفلسِ، فيكونُ في ذلك شريكًا مع صاحبِه.
(و) الخامسُ من الشروطِ: (أن تكونَ) السلعةُ (بحالِها) أي: بأنْ (لم تتغيَّرْ صفتُها بما يُزيلُ اسمَها) كنَسيجِ غزلٍ، وخَبزِ دَقيقٍ، وعَمِلِ زَيتٍ صابُونًا، وقَطعِ ثَوبٍ قَميصًا، ونَجْرِ خَشَبٍ أبوابًا أو رفوفًا، وعَمَلِ شَريط إبَرًا، وعَمَلِ حَديدٍ مَسَامِيرَ، ونُحاسٍ صُحُونًا.
(ولم تزدِ) السلعةُ (زيادةً متَّصلةً) كسِمَنٍ، وكِبَرٍ، وتعلُّمِ صَنعَةٍ، ككتابةٍ، ونجارةٍ، ونحوِها، وتجدُّدِ حملٍ في بهيمةٍ، فإن زادتْ كذلك، فلا رجوعَ؛ لأن الزيادةَ للمفلسِ؛ لحدوثِها في ملكِه، فلمْ يستحقَّ ربُّ العينِ أخذَها منه، كالحاصلةِ بفعلِه، ولأنَّها لم تصلْ إليه من البائعِ، فلم يستحقَّ أخذَها منه، كغيرِها من أموالِه.
ويفارقُ الردَّ بالعيبِ؛ لأنَّه
(3)
من المشتري، فقدْ رضيَ بإسقاطِ حقِّه من الزيادةِ. والخبرُ محمولٌ على مَنْ وجدَ متاعَه على صفةٍ ليس بزائدٍ؛ لتعلُّقِ حقِّ الغرماءِ بالزيادَةِ.
(1)
في الأصل: "وزاد".
(2)
انظر "كشاف القناع"(8/ 352).
(3)
أي: الفسخ.
ولم تُخلَطْ بغيرِ مُتميِّزٍ، ولم يتَعلَّق بها حَقٌّ للغَيرِ.
وأمَّا الزيادةُ المنفصلةُ، كإنْ ولدتِ الأمةُ مَثَلًا، فإنْ كانَ قدْ باعَها حاملًا، ثمَّ وجدَها البائع وقتَ الرجوعِ قدْ ولَدَتْ، أخذَها وولَدَها. وإنْ وجدَها حاملًا على حكمِها، أخذَها أيضًا.
فإنْ كانَ قدْ باعَها حائِلًا، فوجدَها وقتَ الرجوعِ حاملًا، فليس له أخذُها؛ لأنَّ تجدُّدَ الحملِ مَنَعَه الرجوعَ؛ إذ هو زيادةٌ متصلةٌ.
فإنْ ولدتْ هذا الحملَ المتجدِّدَ. قال في "الإنصاف" ما معناه: إنَّه زيادةٌ منفصلةٌ
(1)
.
ومقتضاهُ: أنَّه يرجعُ فيهما؛ لأنَّ المنفصلةَ لا تمنعُ، فالتجدُّدُ يمنعُ؛ لأنَّها
(2)
وُلِدتْ من ذلك الحملِ المتجدِّدِ، فلا يمنعُ الرجوعَ.
وقدَّمَ في "الفروع" أنَّ المتصلةَ والمنفصلةَ لا تمنعُ الرجوعَ. وصححَّ في "المغني": يأخذُها دونَ الولدِ. والمذهبُ خلافُ ما في "المغني".
(و) السادسُ من الشروط: أنْ تكونَ العينُ (لم تُخلَطْ بغيرِ مُتميِّزٍ) أي: بما لا يتميَّزُ منه، كزيتٍ بزيتٍ، أو قمحٍ بقمحٍ، ونحوه، فلا رجوعَ فيه. وقولُه صلى الله عليه وسلم:"مَن أدركَ متاعَه بعينِه"
(3)
. أي: مَن قدرَ عليه وتمكَّنَ من أخذِه من المفلسِ.
(و) السابعُ من الشروطِ: أنْ تكونَ العينُ (لم يتعلَّقْ بها حقٌّ للغيرِ) كشفعةٍ، أو جنايةٍ، أو رهنٍ، ونحوِه
(1)
انظر "الإنصاف"(13/ 280).
(2)
في الأصل: "لأن".
(3)
تقدم تخريجه.
فمتَى وُجِدَ شيءٌ من ذَلِك، امتنَعَ الرُّجُوعُ.
الثالِثُ: يلزمُ الحَاكِمَ قَسْمُ مالِه الذي من جِنسِ الدَّينِ، وبَيعُ ما ليسَ مِن جِنسِه،
(فمتى وُجِدَ شيءٌ من ذلك) أي: من الشروطِ (امتنعَ الرجوعُ) لأنَّه فسخٌ بسببٍ حادثٍ، فلم يملك الرجوعَ فيه.
وإنْ كان الثمنُ مؤجَّلًا، فتُوقف العينُ للبائعِ إلى الحلولِ، فيختارُ الفسخَ أو التركَ.
فإذا كمُلَتِ الشروطُ المذكورةُ، أخذَ من وجدَ عينَ متاعِه، ولو حكمَ حاكمٌ بأنَّه أسوةُ الغرماءِ. قال الإمامُ أحمدُ: لو أنَّ حاكمًا حكمَ أنَّه أسوةُ الغرماءِ، ثمَّ رُفعَ إلى رجلٍ يرىَ العملَ بالحديثِ، جازَ له نقضُ حكمِه. ذكرَهُ في "المغني" و"الشرح"
(1)
.
ولا يفتقرُ إلى التسليمِ، فلو رجعَ في عبدٍ أبَقَ، صحَّ، وصارَ له، فإنْ قدِرَ عليه أخذَه، وإنْ تلِفَ فمن مالِه. وإنْ تبيَّنَ أنَّه كانَ تالفًا حينَ استرجاعِه، بطلَ رجوعُه.
وإنْ رجعَ في مبيعٍ اشتبَه بغيرِه، قُدِّمَ تعيينُ المفلسِ؛ لإنكارِه دعوى استحقاقِ البائعِ له. قالَهُ المصنِّفَ، والشارحُ، وصاحبُ "الفروع" وغيرُهم
(2)
.
(الثالثُ) من الأحكامِ المتعلِّقةِ بالحجرِ: أنْ (يلزمَ الحاكمَ) مفعولٌ مقدَّمٌ (قَسْمُ مالِه) فاعلُ "يلزم"، أي: مالِ المفلسِ (الذي من جنسِ الدَّينِ) الذي عليه، (و) يلزمُه (بيعُ ما ليسَ من جنسِه) أي: الدَّينِ، بنقدِ البلدِ، أو غالبِه رَواجًا، أو
(1)
انظر "كشاف القناع"(8/ 350).
(2)
"الإنصاف"(13/ 307).
ويَقسِمُهُ على الغُرمَاءِ بقَدْرِ دُيُونِهم، ولا يلزمُهُم بيانُ أنْ لا غَريمَ سِواهُم. ثُمَّ إنْ ظَهَرَ رَبُّ دَينٍ حَالٍّ، رجَعَ علَى كُلِّ غَريمٍ بقِسطِه.
الأصلحِ
(1)
، أَو الذي من جنسِ الدَّينِ
(ويقسمُه) أي: الثمنَ، أو المالَ الذي من جنسِ الدَّينِ (على الغُرَماءِ) بالمحاصَّةِ (بقَدرِ دُيونِهم) لا على الرؤوسِ. وأنْ يكونَ على الفورِ؛ لأنَّ هذا جلُّ المقصودِ من الحجرِ عليه، وتأخيرهُ مطلٌ، وظلمٌ للغرماءِ، ولما حجرَ عليه السلام على معاذٍ، باعَ مالَه في دينِه، وقسَمَ ثمنَه بين غرمائِه. ولفعلِ عمرَ، ولاحتياجِه إلى قضاءِ دَينهِ، فجازَ بيعُ مالِه فيه، كالسَّفيهِ، ولا يجوزُ بيعُه بدونِ ثمنِ مثلِه؛ لأنَّه محجورٌ عليه في مالِه، فلا يتصرَّف
(2)
له فيه إلا بما فيه حظٌّ، كمالِ السفيهِ.
(ولا يلزمُهم) أي: الغُرَماءَ الحاضِرينَ (بيانُ أنْ لا غريمَ) للمفلِسِ (سِواهُم) بخلافِ الورثةِ، يلزمُهم أنْ يبينوا أنْ لا وارثَ سِواهُم، ببيِّنَةٍ تشهدُ لهم: لا نعلمُ له وارثًا سِواهُم. ذكرَهُ في "الترغيب" و"الفصول" وغيرِهما؛ لئلا يأخذَ أحدُهم ما لا حقَّ له فيه. ثمَّ إنْ ظهرَ غريمٌ لم ينقضْ، ويرجعُ على كلِّ أحدٍ بقدرِ حصتِه
(3)
، وإليه أشارَ بقولِه:
(ثمَّ إنْ ظهرَ) بعدَ القسمِ (ربُّ دينٍ حالٍّ)
(4)
على المفلسِ (رجعَ) ربُّ المالِ (على كلِّ غريمٍ) ممَّنَ حاصصَ (بقسطِه) أي: بقدرِ حصَّةِ مَنْ ظهرَ ممَّا أخذَه الحاضرُ؛ لأنَّه لو كانَ حاضرًا، قاسمَهم، فإنْ ظهرَ بعدَ ذلك، قاسمَهم، كغريمِ
(1)
في الأصل: "أو الصالح"، وانظر:"دقائق أولى النهى"(3/ 461)
(2)
في الأصل: "يُتصوَّرُ"
(3)
"الفروع"(6/ 472).
(4)
في الأصل: "رب مال".
ويَجِبُ أن يَتْرَكَ له ما يحتاجُه مِنْ مَسكَنٍ وخَادِمٍ، وما يتَّجِرُ به، وآلةَ حِرفَةٍ.
الميِّتِ يظهرُ
(1)
بعدَ قَسْمِ مالِه
(ويجبُ) على الحاكمِ (أنْ يتركَ لـ) لمفلسِ من مالِـ (ـه ما يحتاجُه من مسكنٍ وخادمٍ) صالحيْنِ لمثلِه، فلا يُباعُ ذلك، كلباسِه، وقوتِه. وقولُه عليه السلام:"خُذُوا مَا وجَدتم"
(2)
. قضيةُ عينٍ، يحتملُ أنَّه لم يكنْ فيما وجَدُوه مسكنٌ، ولا خادمٌ. إنْ لمْ يكونا عينَ مالِ الغرماءِ، فيؤخذُ لما تقدَّمَ، ويُشترىَ للمفلسِ بدلُهما، أو يُترَكُ له من مالِه بدلُهما.
فإنْ تعددتِ الدورُ والخدمُ، تُركَ له بقدرِ الحاجةِ، وبيعَ باقيه. وكذا لو كانتِ الدارُ واسعةً عن سكنى مثلِه، بيعَ واشتُري سكنُ مثلِه، ورُدَّ الفضلُ على الغرماءِ.
وكذا ثيابٌ رفيعةٌ ليستْ لبسَ مثلِه، بيعتْ وأُخذَ له لبسُ مثلِه، ورُدَّ الفضلُ على الغرماءِ.
وإنْ كانتِ الثيابُ إذا بيعتْ واشتُري له كسوةُ مثلِه لا يفضلُ عنها شيءٌ من ثمنِ الثيابِ الرفيعةِ، تركتْ بحالِها؛ إذ لا فائدةَ إذنْ في البيعِ والشراءِ
(و) يتركُ الحاكمُ للمفلسِ (ما) أي: شيئًا من مالِه (يتَّجرُ به)
(3)
لمؤنتِه ومؤنةِ عيالِه. وفي "الموجز" و"التبصرة": وفرسٌ يحتاجُ ركوبَها
(4)
(و) يتركُ الحاكمُ له (آلةَ حرفةٍ) فلا تُباعُ؛ لدعاءِ الحاجةِ إليها
(1)
تكررت: "يظهر" في الأصل
(2)
أخرجه مسلم (1556) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3)
في الأصل: "فيه".
(4)
"كشاف القناع"(8/ 359).
ويجِبُ لَه ولعِيالِه أدنَى نفقَةِ مِثلِهم مِنْ مأكَلٍ ومشرَبٍ وكِسْوَةٍ.
(ويجبُ) على الحاكمِ أن
(1)
يجري (له) أي: للمفلسِ (ولعيالِه) كزوجةٍ، وخادمٍ، وقريبٍ تجبُ نفقتُه عليه بالمعروفِ (أدنى نفقةِ مثلِهم، من مأكلٍ ومشرَبٍ وكسوةٍ) من مالِه، إلى أنْ يفرَغَ من قَسمهِ بين غرمائِه، إنْ لمْ يكنْ له كسبٌ يفي بالنفقةِ. فإنْ كانَ كسبُه دونَ النفقةِ، كُمِّلَتْ من مالِه.
ويُجهَّزُ إنْ ماتَ، أو مَنْ تلزمُه مؤنتُه، غيرُ زوجةٍ، من مالِه، التجهيزَ الشرعيَّ، ممَّا كان يلبس
(2)
في حياتِه من ملبوسِ مثلِه. والزوجةُ من مالِها في خمسهَ أثوابٍ.
وفي "الرعاية": يُكفَّنُ في ثوبٍ
(3)
واحدٍ؛ اقتصارًا على الواجبِ
(4)
.
"تتمَّةٌ": إنْ تلِفَ شيءٌ من مالِه تحتَ يدِ أمينِ حاكمٍ، أو مودعٍ، من غيرِ تعدٍّ ولا تفريطٍ، فمن ضمانِ مفلسٍ. ويُباعُ بنقدِ البلدِ. ويُصرَفُ الثمنُ مما يحتاجُ إلى صرفه على البيع، إن لم يوجد متبرِّعٌ، بما يحتاجُه المبيعُ، من دلالةٍ ونحوِه. وكذا في مالِ التركةِ؛ لأنَّه مقدَّمٌ على الديونِ.
وإن كان في الغرماءِ من له دَيْنٌ مؤجَّلٌ لم يحلَّ، فلا يُوقفُ له شيءٌ مِن المالِ. فإنْ قُسِمَ قبلَ الحلولِ، فلا رجوعَ له على الغرماءِ. وإنْ كانَ حلَّ قبلَ القسمِ، شاركَهم، وإنْ حلَّ بعدَ قسمةِ البعضِ، شاركَهم فيما بقيَ من المالِ الذي لم يُقسَمْ.
ومَنْ ماتَ وعليه دِينٌ مؤجَّلٌ، لم يحلَّ بموتِه، إذا أوثقَ الورثةُ أو غيرُهم برهنٍ، أو
(1)
في الأصل: "أي".
(2)
في الأصل: "لبيس".
(3)
في الأصل: "ثواب".
(4)
"كشاف القناع"(8/ 360).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كفيلٍ مليءٍ، من أقلِّ الأمرينِ، من قيمةِ التركةَ أو الدَّينِ، كما لا
(1)
تحلُّ الديونُ التي له بموتِه، فتختصُّ أربابَ الديونِ الحالَّةِ بالمالِ، ويتقاسمونَه، ولا يُتركُ للمؤجَّلِ شيءٌ، ولا يَرجِعُ ربُّه على الغرماءِ بعدَ حلولِه فيما تقاسمونَهُ.
فإنْ تعذَّرَ التوثيقُ؛ لعدمِ وارثٍ أو غيره؛ بأنْ كان وارثًا، لكنْ لمْ يُوَثِّقْ، حلَّ الدَّينُ؛ لغلبةِ الضررِ، فيأخذُه ربُّه كلَّه إنِ اتَّسعتِ التركةُ، أو يحاصصُ به الغرماءَ.
"تنبيهٌ": يقدَّمُ صاحبُ رهنٍ لازمٍ، فيختصُّ بثمنِه إنْ كانَ قدرَ دينِه، وإلا ردَّ ما زادَ على الغرماءِ.
ويُقدَّمُ مَنْ له عينُ مالٍ مشروطٍ، ثمَّ مَنْ له عينٌ مؤجَّرةٌ عندَه، أو عينًا مستأجِرُها من مفلسِ.
وإنْ بقيَ على المفلسِ بقيَّةٌ من دَينٍ، أُجبرَ المحترفُ على التكسُّبِ، وعلى إيجارِ نفسِه فيما يليقُ بمثلِه من الصنائعِ؛ لقضاءِ ما بقيَ عليه، مع بقاءِ الحجرِ عليه إلى الوفاءِ. ويُجْبَرُ على إيجارِ موقوفٍ عليه، وإيجارِ أمِّ ولدٍ إنِ استغنىَ عنها.
ولا يُجبَرُ على قبولِ هبةٍ، وصدقةٍ، ووصيةٍ، لما فيه من المنَّةِ. ولا على تزويجِ أمِّ ولدٍ؛ لوفاءِ دَينٍ من مهرِها، ولو لمْ يكنْ يطؤها؛ لما فيه من تحريمِه عليها بالنكاحِ، وتعلُّقِ حقِّ الزوجِ بها.
ولا ينفكُّ الحجرُ عن المفلسِ إلا بحكمِ حاكمٍ، إن بقيَ عليه شيءٌ، وإلا انفكَّ.
فإذا انفكَّ عنه، فليسَ لأحدٍ مطالبتُه حتى يملكَ مالًا. فإنِ ادَّعوا - الغرماءُ -
(1)
سقطت: "لا" من الأصل.
الرَّابِعُ: انقِطَاعُ الطَّلبِ عَنه، فمن بَاعَه، أو أَقرضَه شَيئًا - عَالِمًا بحَجرِه - لم يَملِك طَلَبَه حتَّى ينفكَّ حَجْرُه.
عقبَ ذلك بأنَّ له مالًا، لم يُقبلْ إلا ببينةٍ. فإنِ ادَّعوا بعدَ مدَّةٍ
(1)
وبيَّنوا سببَه، سألَه الحاغ، فإنْ أنكرَ، فقولُه مع يمينِه، وإنْ أقرَّ وقال: هو لفلانٍ. وصدَّقَهُ المقَرُّ لهُ، حلَفَ المقَرُّ لهُ
(2)
، وإلا أُعيدَ عليه الحجرُ إنْ طلبَ الغرماءُ.
فإنْ انفكَّ عنه، فلزمتْهُ ديونٌ أخرى، وحُجِرَ عليه، شاركوا - غرماءُ الحجرِ الأوَّلِ - غرماءَ الحجرِ الثاني في مالِه الموجودِ.
(الرابعُ) من الأحكامِ المتعلِّقةِ بالحجرِ: (انقطاعُ الطَّلبِ عنه) أي: عن المفلسِ؛ لقولِه تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وهو خبرٌ بمعنى الأمرِ، أي: فأنظروه إلى ميسرتِه. ولحديثِ: "خذوا ما وجدتُم، وليسَ لكمْ إلَّا ذلك"
(3)
. ورُويَ: "لا سبيلَ لكمْ عليه"
(4)
.
(فمَنْ باعَهُ) أي: باعَ المفلسَ شيئًا (أو أقرضَه شيئًا - عالمًا بحَجْرِه - لم يملكْ طلبَه) ببدلِ القرضِ، أو ثمنِ المبيعِ؛ لأنَّه الذي أتلفَ مالَه بمعاملةِ مَنْ لا شيءَ معه (حتى ينفكَّ حَجْرُه) لتعلُّقِ حقِّ الغرماءِ حالةَ الحجرِ بعينِ مالِ المفلسِ. لكنْ إذا وجدَ البائعُ أو المقرِضُ أعيانَ مالِهما، فلهما الرجوعُ إنْ جهِلا الحجرَ عليه، وإلا فلا.
* * *
(1)
في الأصل: "هذه"، وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 472)، "مسلك الراغب"(2/ 573).
(2)
سقطت: "حلف المقر له" من الأصل. وانظر "مسلك الراغب"(2/ 573).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه البيهقي (6/ 50) من حديث جابر.
فَصْلٌ
ومَنِ دَفَع مالَه إلى صَغيرٍ، أو مَجنُونٍ، أو سَفيهٍ، فأتلَفَهُ، لم يضمَنْهُ.
ومَنْ أخَذَ مِنْ أحدِهِم مالًا، ضَمِنَه حتَّى يأخذَهُ وليُّه، لا إنْ أخَذَهُ ليحفَظَهُ [وتَلِفَ ولم يُفَرِّط، كمَنْ أخَذَ مغصُوبًا ليحفظَهُ] لِربِّه.
ومن بلغَ رشَيدًا، أو بلَغَ مجنُونًا ثمَّ عَقَلَ ورَشَدَ،
(فصلٌ)
في أحكامِ المحجورِ عليه لحظِّ نفسِه
(و) هو الصبيُّ، والمجنونُ، والسَّفيهُ. وإليه أشارَ بقولِه:(مَن دفعَ مالَه) بعقدٍ، أو لا (إلى صغيرٍ) وهو: مَنْ لمْ يبلغْ، من ذكرٍ أو أنثى (أو) إلى (مجنونٍ، أو) إلى (سفيهٍ، فأتلَفَهُ) واحدٌ منهم. عَلِمَ الدافعُ بحجرِه، أو لا (لم يضمنه) لقولِه تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].
(ومَن أَخَذَ من أحدِهم) أي: الصبيِّ، والمجنونِ، والسَّفيهِ (مالًا، ضمِنَهُ) ولو بإعطاءٍ من أحدِهم (حتى يأخذَهُ وليُّه) أي: وليُّ المأخوذِ منه (لا إنْ أخذَهُ) الإنسانُ ممَّنْ ذُكِرَ (لـ) أجلِ ما (يحفظُهُ) له (وتَلِفَ) بيَدِه
(1)
(ولم يُفرِّطْ) فيه، فلا ضمانَ عليه (كمَنْ أخذَ مغصوبًا) من غاصبٍ (ليحفظَه لربِّه) ولم يُفرِّطْ، فلا يضمنُه؛ لأنَّه محسنٌ بالإعانةِ على ردِّ الحقِّ لمستحقِّهِ. فإنْ فرَّطَ، ضمِنَ.
(ومَنْ بلغَ) من ذكرٍ، وأنثى، وخنثى (رشيدًا، أو بلغَ مجنونًا، ثمَّ عَقَلَ ورشَدَ،
(1)
في الأصل: "سيِّده".
انفَكَّ الحَجرُ عنهُ، ودُفِعَ إليه مالُه، لا قَبلَ ذلِكَ بحَالٍ.
وبُلُوغُ الذَّكَر بثلَاثةِ أشياءَ:
إمَّا بالإمنَاءِ، أو بتَمامِ خَمسَ عَشرَةَ سَنةً،
انفكَّ الحَجْرُ عنه) لقولِه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]. الآية. ولأنَّ الحَجْرَ عليه إنَّما كانَ لعجزِه عن التصرُّفِ في مالِه؛ حفظًا له، وقد زالَ، فيزولُ الحَجْرُ؛ لزوالِ علَّتِه. بلا حكمِ حاكمٍ؛ لأنَّ الحَجْرَ عليهما لا يحتاجُ إلى حكمٍ، فيزولُ بدونِه. ولقولِه تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
(ودُفِعَ إليه مالُهُ)؛ للآيةِ. ويُستحبُّ بإذنِ قاضٍ، وإشهادٍ برشدٍ ودفعٍ؛ ليأمنَ التبعةَ. (لا) يُعطي مالُه (قبلَ ذلك بحالٍ) لأنَّ اللهَ تعالى لما أمرَ بدفعِ أموالِ اليتامى بوجودِ شرطينِ - وهما: البلوغُ، والرُّشدُ - اقتضى أنْ لا يدفعَ إليهم قبلَ وجودِهما. ولو صاروا شيوخًا.
(وبُلوغُ الذَّكَرِ بثلاثةِ أشياءَ):
أحدُها: ما ذكرَه بقولِه: (إمَّا بالإمناءِ) باحتلامٍ، أو غيرِه، لقولِه تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59].
قال ابنُ المنذرِ: أجمعوا على أنَّ الفرائضَ والأحكامَ تجبُ على المحتلمِ العاقلِ.
الثاني: ما ذكرَهُ بقولِه: (أو بتمامٍ) أي: استكمالِ (خمسَ عشرةَ سنةً) لحديثِ ابنِ عمرَ: عُرضْتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم. يومَ أحدٍ، وأنا ابنُ أربعَ عَشْرةَ سنةً، يُجزْني، وعُرِضْت يومَ الخندقِ، وأنا ابنُ خمسَ عَشْرةَ سنةً، فأجازَني. متفقٌ عليه
(1)
. وفي
(1)
أخرجه البخاري (2664)، ومسلم (1868).
أو نباتِ شَعْرٍ خَشِنٍ حَولَ قُبُلِه.
وبُلوغُ الأُنثَى بذلِك، وبالحَيضِ.
روايةِ البيهقيِّ
(1)
بإسنادٍ حسنٍ: فلم يُجزْني ولمْ يَرَني بلغْتُ.
الثالثُ: ما ذكرَه بقولِه: (أو نباتِ
(2)
شَعَرٍ خَشِنٍ حولَ قُبُلِهِ) أي: يستحقُّ أخذُه بالموسى، لا زَغَبٍ ضعيفٍ؛ لأنَّه عليه السلام لما حكَّمَ سعدَ بنَ معاذٍ في بني قريظةَ، فحكمَ بقتلِ مقاتِلهم، وسبي ذراريهم، وأمرَ أنْ يُكشفَ عن مُؤتَزَرِهم، فمَن أنبتَ فهو من المقاتِلةِ، ومَنْ لم يُنبتْ فهو من الذريةِ، فبلغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم.، فقال:"لقدْ حكمَ بحكمِ اللهِ من فوقِ سبعةِ أرقعةٍ". متفقٌ عليه
(3)
.
(و) يحصلُ (بلوغُ الأنثى بذلك) الذي يحصلُ به بلوغُ الذَّكَرِ، (و) تزيدُ الأنثى على الذَّكَرِ (بالحيضِ) لحديث:"لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائضِ إلا بخمارٍ". رواه الترمذيُّ
(4)
وحسَّنَه.
وحملُها دليلُ إنزالِها. وقدرُ زمنِ حملٍ يُحكمُ فيه ببلوغِها، إذا ولدتْ أقلُّ مدةِ الحملِ، وهي ستَّةُ أشهرٍ، فيُحكمُ ببلوغِها فيها؛ لأنَّه اليقينُ.
وبلوغُ الخنثى المشكلِ بسنٍّ، وهو خمسَ عشرةَ سنةً، أو نباتٍ حولَ قُبُلَيه. فإنْ وُجِدَ حولَ أحدِهما، فلا. قالَهُ القاضي، وابنُ عقيلٍ. أو إمناءٍ من أحدِ فرْجَيْهِ.
(1)
أخرجه البيهقي (6/ 55).
(2)
في الأصل: "بنباتِ".
(3)
أخرجه البخاري (3804)، ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري. وليس فيه ذكر الكشف عن مؤتزرهم. وقد أخرج ذلك أبو داود (4404) من حديث عطية القرظي. وصححه الألباني.
(4)
أخرجه الترمذي (377) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
والرُّشْدُ: إصلاحُ المَالِ، وصَونُه عَمَّا لا فائِدَةَ فيهِ.
(والرُّشدُ: إصلاحُ المالِ) لا غيرُ، في قولِ أكثرِ العلماءِ. بتنميتِه بالتكسُّبِ بالبيعِ والشراءِ ونحوِه؛ لقولِ ابنِ عباسٍ في قولِه تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أي: صلاحًا في أموالِهم. (وصونُه) أي: المالِ (عـ) ــن صرفِه فيـ (ـما لا فائدةَ فيه) كالقمارِ، والغناءِ، وشراءِ المُحرَّماتِ، كالخمرِ وآلاتِ اللهوِ؛ لأنَّ مَن صرفَ مالَه في ذلك عُدَّ سفيهًا. وليسَ الصدقةُ به، وصرفُه في جهةِ برٍّ، كغزوٍ، وحجٍّ
(1)
. وفي مطعمٍ، ومشربٍ، وملبسٍ، ومنكحٍ لا يليقُ به تبذيرًا؛ لأنَّه لا إسرافَ في الخير.
قال في "الاختيارات": الإسرافُ: ما صرَفَه في المُحرَّماتِ، أو كانَ صرفُه في المباحِ يضرُّ بعيالِه، أو كانَ صرفُه في المباحِ قدرًا زائدًا على المصلحةِ.
قال العلَّامةُ الشيخُ موسى الحجاويُّ صاحبُ "الإقناع" في حاشيتِه: الفرقُ بين الإسرافِ والتبذيرِ: أنَّ الإسرافَ: صرفُ الشيءِ فيما ينبغي
(2)
زائدًا على ما ينبغي. والتبذيرُ: صرفُ الشيءِ فيما لا ينبغي
(3)
.
* * *
(1)
في الأصل: "كغزو حج".
(2)
في الأصل: "فيما لا ينبغي".
(3)
"كشاف القناع"(8/ 381).
فَصْلٌ
وولايَةُ المَملُوكِ لمالِكِه، ولو فَاسِقًا.
ووِلايةُ الصَّغِيرِ، والبالِغِ بسَفَهٍ أو جُنونٍ لأَبيه، فإنْ لم يكُن فَوصِيُّه، ثمَّ الحَاكِمُ،
(فصلٌ)
(وولايةُ المملوكِ لمالِكه) أي: سيِّدِه؛ لأنَّه مالُه (ولو) كانَ سيِّدُه (فاسقًا) أي: غيرَ عدلٍ؛ لأنَّ تصرُّفَ الإنسانِ في مالِه لا يتوقَّفُ على عدالتِه.
(وولايةُ الصغيرِ) الذي دونَ البلوغِ (والبالغِ) الذي (بـ) ــه (سفهٌ، أو جنونٌ، لأبيهِ) لكمالِ شفقتِه، ولو كافرًا على ولدِه الكافرِ. ولا ولايةَ لكافرٍ على ولدِه المسلمِ؛ لقولِه تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
هذا إذا كانَ الأبُ بالغًا، وأمَّا مَن كانَ دونَ البلوغِ، فلا ولايةَ له.
وصورتُه: ما إذا أُلحقَ الولدُ بابنِ عشرٍ؛ احتياطًا للنسبِ، فيُلحقُ به الولدُ، ولا يثبتُ به بلوغُه
(فإنْ لم يكنْ) أبٌ، (فوصيُّه) أي: وصيُّ الأبِ العدلُ الذي اختارَه، ولو كانَ بجُعْلٍ، وهناكَ متبرِّعٌ؛ لأنَّه نائبُ الأبِ، كوكيلِه في الحياةِ،
(ثمَّ) بعدَ الأبِ ووصيِّه، تكونُ الولايةُ على الصغيرِ، وعلى مَن بلغَ مجنونًا، أو عاقلًا، ثمَّ جُنَّ:(الحاكمُ) لأنَّ الولايةَ انقطعتْ من جهةِ الأبِ، فتكونُ للحاكمِ، كولايةِ النكاحِ؛ لأنَّه وليُّ مَنْ لا وليَّ له.
فإن عُدِمَ الحَاكِمُ فأَمِينٌ يقومُ مقامَهُ.
وشُرِطَ في الوَليِّ:
الرُّشدُ، والعَدالَةُ، ولو ظَاهِرًا.
والجَدُّ، والأمُّ، وسائِرُ العَصَباتِ، لا وِلايةَ لهُم، إلَّا بالوَصيَّةِ.
ويحرُمُ على وَليِّ الصَّغير والمَجنُونِ والسَّفيهِ أنْ يتصرَّف فِي مالِهِم إلَّا بمَا فيهِ حَظٌّ ومَصلَحَةٌ.
(فإنْ عُدِمَ الحاكمُ) أي: لم يوجدْ. وكذا إنْ كانَ فاسقًا (فأمينٌ يقومُ مقامَه) أي: الحاكمِ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا ولايةَ للجدِّ، والأمِّ، وباقي العصباتِ. وحاكمٌ عاجزٌ كالعدمِ.
سألَ الأثرمُ الإمامَ عن رجلٍ ماتَ، وله ورثةٌ صغارٌ، كيفَ يصنعُ؟ فقال: إنْ لمْ يكنَ لهم وصيٌّ، ولهم أم مشفقةٌ، تدفعُ إليها.
(وشُرِطَ في الوليِّ) من أبٍ، أو وصيِّه، أو حاكمٍ، أو أمين:
(الرُّشدُ) كما تقدَّمَ تعريفُه: هو إصلاحُ المالِ، وصونُه عن صرفِه فيما لا فائدةَ فيه.
(و) شُرِطَ فيه أيضًا: (العدالةُ، ولو ظاهرًا) وكذلك يُشترطُ في الوليِّ الكافرِ على ولِده الكافرِ: أنْ يكونَ عدْلًا في دينِه، ولو ظاهرًا.
(والجَدُّ، والأمُّ، وسائرُ العصباتِ، لا وِلايةَ لهم) لأنَّ المالَ محلُّ الخيانةِ (إلا) إذا كانتْ ولايةُ مَنْ ذُكِرَ، أو غيرِهم من الأجانبِ (بالوصيَّةِ) من قبلِ أبٍ، أو من قبلِ حاكمٍ نصَّبَهُ.
(ويحرُمُ على وليِّ الصغيرِ، و) على وليِّ (المجنونِ، و) وليِّ (السَّفيه، أنْ ينصرَّفَ في مالِهم إلا بما فيه حظٌّ ومصلحةٌ) لهم؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ
وتَصرُّفُ الثَّلاثَةِ ببَيعٍ، أو شِرَاءٍ، أو عِتقٍ، أو وَقفٍ، أو إقرارٍ، غَيرُ صَحيحٍ، لكِنَّ السَّفيهَ إنْ أقَرَّ بحَدٍّ، أو نَسَبٍ، أو طَلاقٍ، أو قِصَاصٍ، صَحَّ، وأُخِذَ به في الحَالِ. وإن أقرَّ بمالٍ، أُخِذَ به بعدَ فَكِّ الحَجْرِ.
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. والسَّفيه والمجنونُ في معناه.
(وتصرُّف الثلاثةِ) أي: الصغيرِ، والسَّفيهِ، والمجنونِ (ببيعٍ، أو شراءٍ، أو عتقٍ، أو وقفٍ، أو إقرارٍ، غيرُ صحيح) قبلَ الإذنِ؛ لأنَّ تصحيحَ تصرُّفِهم يُفضي إلى ضياعِ مالِهم، وفيه ضررٌ عليهم
(لكنَّ السَّفيهَ إنْ أقرَّ بحدٍّ) أي: بما يوجبُه من نحوِ زنًى، أو قذفٍ (أو) أقرَّ بـ (نسبٍ، أو طلاقٍ) أو خُلعٍ (أو قصاصٍ، صحَّ) الإقرارُ (وأُخِذَ به في الحالِ) قال ابن المنذرِ: هو إجماعُ مَن نحفظُ عنه؛ لأنَّه غيرُ متَّهمٍ في نفسِه، والحَجْرُ إنَّما يتعلُّقُ بمالِه، فيقبل على نفسِه
وقولِه: "في الحالِ" يعني: فلا يُنتظَرُ رُشدُهُ، ولا وليُّهُ لو كان غائبًا.
(وإنْ أقرَّ بمالٍ) كثمنٍ، وقرْضٍ، وقيمةِ متلَفٍ، صحُّ إقرارُه، لكنْ لـ (ــا) يُؤ (خذُ به) إلا (بعدَ فكِّ الحَجْرِ) عنه؛ لأنَّه مكلَّفٌ يلزمُه ما أقرَّ به، كالرَّاهنٍ يُقِرُّ بالرهنِ. ولا يقبلُ في الحالِ؛ لئلا يزولَ معنى الحَجْرِ، لكنْ إنْ عَلِمَ الوليُّ صحَّةَ ما أقرَّ به السَّفيهُ، لزِمَه أداؤُه في الحالِ.
* * *
فَصْلٌ
وللوَليِّ مَعَ الحَاجَةِ أنْ يأكُلَ مِن مالِ مُوَلِّيهِ الأقلَّ مِنْ أُجرَةِ مِثلِه وكِفَايَتِه،
(فصلٌ)
(وللوليِّ) غيرِ الحاكمِ وأمينِه؛ لأنَّهما لا يأكلون شيئًا؛ لاستغنائِهما بما لَهُما في بيتِ مالِ المسلمين (مع الحاجةِ أنْ يأكلَ من مالِ مُوَلِّيهِ) لقولِه تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه: أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إنِّي فقيرٌ، وليسَ لي شيءٌ، وليَ يتيمٌ؟ فقال:"كُلْ من مالِ يتيمِكَ، غيرَ مسرفٍ"
(1)
. رواه أبو بكرٍ. فيأكلُ مَنْ يُباحُ له الأكلُ.
فحينئذٍ؛ الذي يجوزُ له ذلك مع الحاجةِ أو الفرضِ، هو وصيُّ الأبِ، ووصيُّ الحاكمِ، وأمينٌ غيرُ الحاكمِ.
فأمَّا الأبُ، فيجوزُ له مع الحاجةِ وعدَمِها، ولا يلزمُه عوضُه. وهلْ للوَليِّ أنْ يَقضيَ دَيْنَه من مالِ مُوَلِّيهِ، أم لا؟ تأملٌ!
بـ (الأقلِّ) من أمرين: (من أجرةِ مثلِه) أ (و) قدرِ (كفايتِه) يعني: أنَّه لو كانتْ أجرةُ مثلِه عشرةَ دراهمَ في كلِّ شهرٍ، ويكفيه ثمانيةٌ، أو كانتْ أجرةُ مثلِه ثمانيةً، ولا يكفيه إلا عشرةٌ، ليس له أنْ يأكلَ في الصُّورتينِ إلا ثمانيةً؛ لأنَّه إنَّما يُباحُ له الأكلُ بالعملِ والحاجةِ جميعًا، فلمْ يجزْ أنْ يأخذَ إلا ما وُجِدَا فيه. وفي "الإيضاح": إذا قرَّرَهُ حاكمٌ.
(1)
أخرجه أبو داود (2872) قال الألباني: حسن صحيح.
ومعَ عَدَمِ الحَاجَة يأكُلُ ما فرَضَه له الحاكِمُ.
ولزوجَةٍ، ولكِلِّ متَصرِّفٍ في بيتٍ أن يتصَدَّقَ مِنُه بلا إذنِ صَاحِبه بما لا يَضُرُّ، كرَغِيفٍ ونحوِه، إلَّا أن يمنَعَه، أو يكُونَ
(ومع عدمِ الحاجةِ) إلى الأكلِ، جازَ له أنْ (يأكلَ ما فرضَه له الحاكمُ) ولو كان غنيًّا.
وقد عُلِمَ من ذلك: أنَّ للحاكمِ الفرضَ في مالِ الصغيرِ والمجنونِ والسَّفيهِ، لكنْ ينبغي تقييدُ ذلك بوجودِ المصلحةِ.
ويُقبلُ قولُ الوليِّ في دفعِ المالِ إلى اليتيمِ بعدَ بلوغِه ورُشدِه وعقلِه، إنْ كان الوليُّ متبرِّعًا؛ لأنَّه أمينٌ. وإنْ لم يكنْ مُتبرِّعًا، وكانَ بأجرةٍ، فلا يُقبلُ قولُه في دفعِ المالِ إلا ببيِّنةٍ.
(ولزوجةٍ، ولكلِّ متصرِّفٍ في بيتٍ) كأجيرٍ، وخادمٍ، وقريبٍ (أنْ يتصدَّقَ
(1)
منه بلا إذنِ صاحبِه) أي: صاحبِ البيتِ (بما لا يضرُّ) صاحبَ البيتِ (كرغيفٍ ونحوِه) كفلسٍ وبيضةٍ؛ لجريانِ العادةِ بالمسامحةِ فيه؛ لحديثِ عائشةَ مرفوعًا: "إذا أنفقتِ المرأةُ من طعامِ زوجِها غيرَ مفُسِدةٍ، كان لها أجرُها مما أنفقتْ، ولزوجِها أجرُ ما كسبَ، وللخازنِ مثلُ ذلك، لا يَنقصُ بعضُهم من أجرِ بعضٍ شيئًا". متفقٌ عليه
(2)
. ولمْ يذكرْ إذْنًا؛ ولأنَّ العادةَ السَّماحُ وطيبُ النفسِ به، (إلا أنْ يَمنعَه
(3)
الزوجُ) زوجتَه، أو ربُّ البيتِ التصرُّفَ فيه من الصدقةِ مطلقًا، (أو يكونَ) الزوجُ، أو
(1)
في الأصل: "يتصرف"
(2)
أخرجه البخاري (1425)، ومسلم (1024).
(3)
في الأصل: "يمنع".
بَخيلًا، فيَحرُمُ.
ربُّ البيتِ (بخيلًا) فيُشَكُّ في رضاهُ (فيحرُمُ) الصدقةُ في شيءٍ من مالِه بغيرِ إذنِه.
ويحرُمُ على الزوجِ الصدقةُ بطعامِ المرأةِ بغيرِ إذنِها؛ لأنَّ العادةَ لمْ تجرِ به.
* * *
بابُ الوَكالَةِ
وهي: استِنَابةُ جَائِزِ التَّصرُّفِ مِثلَه فيمَا تدخُلُه النِّيابَةُ،
(بابُ الوكالةِ)
بفتحُ الواوِ وكسرِها، اسمُ مصدرٍ، بمعنى التوكيلِ.
وهي لغةً: التفويضُ، تقولُ: وكَّلتُ أمري إلى اللهِ. أي: فوَّضتُه إليه، واكتفيتُ به. وتطلقُ أيضًا بمعنى الحفظِ، ومنه:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] أي: الحفيظُ
(وهي) شرعًا: (استنابةُ جائزِ التصرُّفِ) فيما وكَّلَ فيه (مِثلَه) أي: جائزَ التصرُّفِ، وهو الحرُّ، المكَلَّفُ، الرشيدُ، كما مرَّ. والمرادُ: حيثُ اعتُبرَ ذلك، كما يأتي.
ويُمكنُ أنْ يُرادَ بجائزِ التصرُّفِ هنا: مَن يصحُّ منه فِعلُ ما وكِّلَ فيه، فيختلفُ باختلافِ الموكَّلِ فيه. وهو منصوبٌ بـ "استنابةِ"(فيما) متعلِّقٌ بـ "استنابِة"(تدخلُه النيابةُ) من حقوقِ الله، وحقوقِ الآدميين.
وجوازُها بالإجماعِ؛ لقولِه تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] أي: الزكاةِ، حيثُ جوِّزَ العملُ عليها، وهو بحكمِ النيابةِ عن المستحقِّين. ولفعلِه عليه السلام، ولدعاءِ الحاجةِ إليها، إذ لا يمكنُ كلَّ
(1)
أحدٍ فعلُ ما يحتاجُ إليه بنفسِه.
وخرجَ: ما لا تدخلُه النيابةُ، كالصَّلاةِ
(1)
في الأصل: "من".
كَعَقْدٍ، وفَسْخٍ، وطلاقٍ، ورَجعَةٍ، وكِتَابَةٍ، وتَدبيرٍ، وصُلْحٍ، وتَفرِقَةِ صَدَقَةٍ ونذرٍ وكفَّارَةٍ، وفِعلِ حَجٍّ وعُمرَةٍ. لا فيَما لا تدخُلُه النِّيابَةُ، كصلاةٍ، وصَومٍ، وحَلِفٍ، وطَهَارَةٍ من حَدَثٍ.
(كعقدِ) بيعٍ، وهبةٍ، وإجارةٍ، ونكاحٍ؛ لأنَّه عليه السلام وكَّلَ في الشراءِ، والنكاحِ
(1)
. وأُلحقَ بهما سائرُ العقودِ. (وفسخِ) لنحوِ بيعٍ، وخُلعٍ (وطلاقٍ) لأنَّ ما جازَ التوكيلُ في عقدِه، جازَ في حلِّه بطريقِ الأَوْلى. (ورجعةٍ) لأَنَّه يُملكُ بالتوكيلِ الأقوى وهو إنشاءُ النكاحِ، فالأضعف وهو تجديدُه بالرجعةِ من بابِ أَوْلى
(وكتابةِ) رقيقٍ (وتدبيرٍ، وصلحٍ) لأنَّه عقدٌ على مالٍ، أشبَه البيعَ (وتفرقةِ صدقةٍ ونذرٍ، وكفَّارةٍ) لأنَّه عليه السلام كان يبعثُ عمَّالَه لقبضِ الصدقاتِ وتفريقِها، وحديثُ معاذٍ شاهدٌ بذلك
(وفعلِ حجٍّ، و) فعلِ (عمرةٍ) فيستنيبُ مَن يفعلُهما عنه مطلقًا في النفَلِ، ومع العجزِ في الفرضِ، على ما سبقَ في الحجِّ.
و (لا) تصحُّ وكالةٌ في عبادةٍ بدنيةٍ محضةٍ لا تتعلَّقُ بالمالِ (فيما لا تدخلُه النيابةُ، كصلاةٍ، وصومٍ، وحَلفٍ، وطهارةٍ من حدثٍ) واعتكافٍ، وغُسلِ جمعةٍ، وتجديدِ وضوءِ؛ لتعلُّقِهَا ببدنِ الفاعلِ ممَّنْ تلزمُه.
والحاصلُ: أنَّ الحقوقَ ثلاثةُ أنواعٍ:
نوعٌ تصحُّ الوكالةُ فيه مطلقًا؛ وهو ما تدخلُه النيابةُ من حقوقِ اللهِ تعالى، وحقوقِ الآدميِّ.
(1)
وكَّلَ عمرو بن الجعد في شراء الشاة. أخرجه البخاري (3642). ووكل أبا رافع في تزوج ميمونة. أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 348) مرسلًا، والترمذي (841) موصولًا. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1849).
وتصِحُّ الوَكالَةُ مُنجَّزةً، ومُعلَّقةً، ومُؤقَّتةً.
وتنعَقِدُ بكلِّ ما دَلَّ عليها من قَول، وفِعلٍ.
ونوعٌ لا تصحُّ الوكالةُ فيه مطلقًا، كالصَّلاةِ، والصومِ، والطهارةِ.
ونوعٌ تصحُّ فيه مع العجزِ دونَ القدرةِ، كحجِّ فرضِ وعمرتِه.
(وتصحُّ الوكالةُ منجَّزةً) أي: في الحالِ
(و) تصحُّ (معلَّقةً) كـ: إذا قدِمَ الحاجُّ فخذْ كذا. و: إذا جاءَ الشتاءُ فاشترِ كذا.
و: إذا طلبَ أهلي شيئًا فادفعْه، أو خذْه لهم. ونحو ذلك.
(و) تصحُّ (مؤقتةً) كـ: أنتَ وكيلي شهرًا، أو سنةً. أو نحوِ ذلك.
(وتنعقدُ) الوكالةُ (بكلِّ ما دلَّ عليها) أي: على الوكالةِ (من قولٍ) كـ: وكَّلتُكَ في كذا
(1)
. وينعقدُ بكلِّ قولٍ يدلُّ على إذنٍ، كـ: بعْ عبدي فلانًا، أو: أعتقْه، ونحوِه، أو: فوَّضتُ إليك أمرَه، أو: جعلتُك نائبًا عنِّي في كذا، أو: أقمتُكَ مقامي؛ لأنَّه لفظٌ دلَّ على الإذنِ، فصحَّ، كلفظِها الصريحِ.
قال في "الفروع": (و) دلَّ كلامُ الفهامةِ القاضي على انعقادِها بكلِّ (فعلٍ) دالٍّ، كبيعٍ. وهو ظاهرُ كلامِ الشيخِ فيمَنْ دفعَ ثوبَه إلى قصَّارٍ، أو خياطٍ، وهو أظهرُ، كالقبولِ
(2)
.
وظاهرُ كلام "المنتهى" وغيرِه: عدمُ صحةِ الوكالةِ بالفعلِ الدالِّ عليها من الموكِّلِ. قال في "الإنصاف"
(3)
: وهو صحيحٌ.
(1)
في الأصل: "هذا".
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 502).
(3)
"الإنصاف"(13/ 437).
وشُرِطَ تَعيينُ الوَكيلِ،
قال ابنُ نصرِ اللهِ: ويتخرَّجُ انعقادُها بالخطِّ والكتابةِ الدَّالةِ على ذلك، ولم يتعرَّضْ له الأصحابُ، ولعلَّه داخلٌ في قولِه:"بفعلٍ دالٍّ"؛ لأنَّ الكتابةَ فعلٌ يدلُّ على المعنى
(1)
.
وهذا القولُ مما ينفعُ الناسَ في هذا الزمن، فإنَّه واقعٌ كثيرًا.
ويصحُّ قبولُ وكالةٍ بكلِّ قولٍ أو فعلٍ دلَّ عليه؛ لأنَّ وكلاءَه عليه السلام، لم يُنقَلْ عنهم سوى امتثالٍ أوامرِه الشريفةِ، ولأنَّه إذنٌ في التصرُّفِ، فجازَ قبولُه بالفعلِ، كأكلِ الطعامِ. ولو كان القبولُ متراخيًا عن الإذنِ. فلو بلغَه أنَّ زيدًا وكَّلَه في بيعِ عبدِه منذُ سنةٍ، فقَبِلَ، أو باعَه من غيرِ قولٍ، صحَّ؛ لأنَّ قبولَ وكلائَه عليه السلام كان بفعلِهم، وكانَ متراخيًا.
وكذا كلُّ عقدٍ جائزٍ، كشركةٍ، ومساقاةٍ، ومزارعةٍ، فهو كالوكالةِ فيما تقدَّمَ.
(وشُرِطَ) لوكالةٍ: (تعيينُ الوكيلِ) والموكَّلِ فيه؛ كأنْ يقولَ: وكَّلتُ فلانًا كذا في كذا.
فلا يصحُّ: وكَّلتُ أحدَ هذينِ. أو: في شراءِ أحدِ هذينِ. وفي "الانتصار": لو وكَّلَ زيدًا، وهو لا يعرفُه، أو لم يعرفْ الوكيلُ موكِّلَه، لم تصحَّ
(2)
.
قال العلَّامةُ عمُّ والدي في "غاية المنتهى"
(3)
: وفيه تأمُّلٌ.
ولعلَّ وجهَ التأمُّلِ؛ لأنَّ تعيينَ الوكيلِ يستلزمُ معرفتَه بما يتميَّزُ به عن غيرِه، فإذا قال: وكَّلتُ زيدًا. ولم يصفْه بما يميِّزُه عن باقي المسمينَ به، لم يكنْ معينًا له، فهو
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 778).
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 665)، "دقائق أولي النهى"(3/ 502).
(3)
"غاية المنتهى"(1/ 665).
لا عِلمُهُ بها.
وتَصِحُّ في بيعِ مالِه كُلِّه، أو ما شَاءَ مِنهُ، وبالمُطَالَبةِ بحقُوقِه، وبالإبرَاءِ مِنها كُلِّها، أو ما شَاءَ مِنها.
ولا تَصِحُّ إنْ قالَ: وكَّلتُكَ في كُلِّ قَليلٍ وكَثيرٍ، وتُسمَّى: المُفَوَّضَةَ.
بمنزلةِ: وكَّلتُ أحدَ هذينِ. وهذا واضحٌ. انتهى
(1)
.
و (لا) يُشترطُ لصَّحةِ التصرُّفِ (عِلمُه) أي: الوَكيلِ (بها) أي: الوكالةِ. فلو باعَ عبدَ زَيدٍ، على أنَّه فضوليٌّ، وبانَ أنَّ
(2)
زيدًا كانَ وكَّلَه في بيعِه قبلَ البيعِ، صحَّ؛ اعتبارًا بما في نفسِ الأمرِ، لا بما في ظنِّ المكلَّفِ.
(وتصحُّ) الوكالةُ (في بيعِ مالِه كلِّه، أو) في بيعِ (ما شاءَ من) مالِه
(و) تصحُّ الوكالةُ (بالمطالبةِ بحقوقهِ) كلِّها، أو بعضِها. (و) تصحُّ الوكالةُ (بالإبراءِ منها كلَّها، أو ما شاءَ مِنها)
(3)
أي: من الحقوقِ.
قال في "الفروع"
(4)
: وظاهرُ كلامِهم في: بِعْ من
(5)
مالي ما شئتَ. له بيعُ كلِّ مالِه
(ولا تصحُّ) الوكالةُ (إنْ قال: وكَّلتُكَ في كلِّ قليلٍ وكثيرٍ. وتُسمَّى) هذه الوكالةُ: (المُفوَّضةَ) ذكرَه الأزجيُّ اتفاقَ الأصحابِ؛ لأنَّه يدخلُ فيه
(6)
كلُّ شيءٍ،
(1)
"حواشي الإقناع"(1/ 589).
(2)
سقطت: "أن" من الأصل.
(3)
سقطت: "كلَّها، أوما شاءَ مِنها" من الأصل.
(4)
"الفروع"(7/ 68).
(5)
سقطت: "من" من الأصل.
(6)
سقطت: "فيه" من الأصل.
وللوَكِيلِ أنْ يوَكِّلَ فيمَا يعجَزُ عنهُ، لا أنْ يعقِدَ مع فَقِيرٍ، أو قَاطِعِ طَريقٍ، أو يبيعَ مؤجَّلًا،
من هبةِ مالِه، وطلاقِ نسائِه، وإعتاقِ رقيقِه، فيعظمَ الغررُ والضررُ؛ ولأنَّ التوكيلَ شرطُه: أنْ يكونَ في تصرُّفٍ معلومٍ.
(وللوكيلِ أن يُوكِّلَ فيما يعجزُ عنه) لكثرتِه، ولو في جميعِه؛ لدلالةِ الحالِ على الإذنِ فيه. وحيثُ اقتضتِ الوكالةُ جوازَ التوكيلِ، جازَ في جميعِه، كما لو أذنَ فيه لفظًا.
وفيما لا يتولَّى مثلَه بنفسِه، كالأعمالِ البدنيةِ في حقِّ أشرافِ الناسِ المُترفِّعينَ عنها عادةً؛ لأنَّ الإذنَ إنَّما ينصرفُ
(1)
لما جرتْ به العادةُ.
وليسَ لوكيلٍ توكيلٌ فيما يتولَّى مثلَه بنفسِه، إلا بإذنِ موكِّلٍ، أو أنَّه يُفوِّضُ له في الوكالةِ، فيتناولُ أنَّه يوكِّلُ، ولو فيما يتولَّى مثلَه بنفسِه.
وكذا وصيٌّ يوكِّلُ، وحاكمٌ يستنيبُ.
(لا) أي: لا
(2)
يصحُّ (أنْ يعقدَ) وكيلٌ في نحوِ بيعٍ وإجارةٍ (مع فقيرٍ، أو قاطعِ طريقٍ) إلا بإذنِ موكِّلٍ؛ لأنَّه تغريرٌ بالمالِ.
قال الفهَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "المنتهى"
(3)
: قلتُ: وفي معناه: كلُّ مَنْ يَعسُرُ على موكِّلٍ أخذُ العوضِ منه.
(أو) أي: ولا يصحُّ أن
(4)
(يبيعَ) وكيلٌ (مؤجَّلًا) إلا بإذنٍ. فإنْ فعلَ، لم يصحَّ؛
(1)
في الأصل: "يندرف".
(2)
سقطت: "أي: لا" من الأصل.
(3)
"دقائق أولي النهى"(3/ 512).
(4)
سقطت: "أن" من الأصل.
أو بمنفَعَةٍ أو عَرْضٍ، أو بغَيرِ نَقدِ البَلَدِ، إلَّا بإذنِ مُوكِّلِه.
لأنَّ الإطلاقَ ينصرفُ إلى الحلولِ
(أو) أي: ولا يصحُّ أنْ يبيعَ الوكيلُ (بمنفعةٍ) كسُكنى دارٍ، وخدمةِ عبدٍ
(أو عرْضٍ) أي: ولا يصحُّ بعرْضٍ، كثوبٍ، وفلوسٍ
(أو بغيرِ نقدِ البلدِ) أي: فلا يصحُّ أنْ يبيعَ الوكيلُ بغيرِ نقدِ البلدِ؛ لأنَّ الأصلَ في البيعِ الحلولُ. وإطلاقُ النقدِ ينصرفُ إلى نقدِ البلدِ، ولهذا لو باعَ وأطلقَ، انصرفَ إلى نقدِ البلدِ.
ولا أنْ يبيعَ بغيرِ غالبِه رَواجًا، إنْ كانَ في البلدِ نقودٌ. فإنْ تساوتِ النقودُ رَواجًا، فبالأصلحِ؛ لأنَّه الذي ينصرفُ إليه الإطلاقُ.
هذا إنْ لمْ يعيِّنْ
(1)
الموكِّلُ نقدًا، فإنْ عيَّنَه، أو قال: بعْ بكذا حالًّا. تعيَّنَ ما عيَّنَه الموكِّل. وإليه أشارَ بقولِه: (إلا بإذنِ موكِّلِه) أو قرينةٍ، كبيعِ حِزَمِ بَقْلٍ ونحوِها بفلوسٍ.
"تتمَّةٌ": مَنْ وكِّلَ في خصومةٍ، لم يكنْ وكيلًا في القبضِ. وإنْ وكِّلَ في القبضِ، كانَ وكيلًا في الخصومةِ. وإنْ وكِّلَ في قبضِ الحقِّ من إنسانٍ، تعيَّنَ القبضُ منه، ومن وكيلِه. ولا يملكُ قبضَه من مورِّثِه لو ماتَ؛ لأنَّه لم يأمرْه بذلك، ولا يقتضيه
(2)
العرفُ.
وفي "الفنون": لا تصحُّ الوكالةُ ممَّنْ علمَ ظلمَ موكِّلِه في الخصومةِ. قاله
(3)
في
(1)
في الأصل: "يبيِّنْ"، وانظر "كشاف القناع"(8/ 426).
(2)
في الأصل: "ولا يقبضُه".
(3)
في الأصل: "قال".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"الإنصاف"
(1)
. لقولِه تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
وكذا لو ظنَّ ظلمَه. ومع الشكِّ احتمالانِ، ولعلَّ الجوازَ أَوْلى، كالظنِّ في عدمِ ظلمِه، فإنَّ الجوازَ فيه ظاهرٌ. انتهى
(2)
.
* * *
(1)
"الإنصاف"(13/ 531)، وانظر "كشاف القناع"(8/ 450).
(2)
"الإنصاف"(13/ 531).
فَصْلٌ
والوَكَالَةُ، والشَّرِكَةُ، والمُضَارَبَةُ، والمُساقَاةُ، والمُزارَعَة، والوَديعَةُ، والجَعَالَةُ، عقودٌ جائِزةٌ من الطَّرفين، لكلٍّ من المُتعاقِدَينِ فَسخُها.
وتَبطُلُ كلُّها بمَوتِ أحَدِهِمَا، وجُنُونِهِ، وبالحَجْرِ لِسَفَهٍ، حيثُ اعتُبِرَ الرُّشدُ.
وتَبطُلُ الوكَالَةُ بطُرُوِّ فِسقٍ لمُوَكِّلٍ ووكيلٍ فِيمَا يُنافِيِه، كإيجابِ النِّكاح،
(فصلٌ)
(والوَكالةُ، والشركةُ، والمضاربةُ، والمساقاةُ، والمزارعةُ، والوديعةُ، والجعالةُ) والمسابقةُ، والعاريةُ (عقودٌ جائزةٌ من الطرفين) لأنَّ غايتَها إذنٌ، وبذلُ نفعٍ، وكلاهما جائزٌ؛ لأنَّها من جهةِ الموكِّلِ إذنٌ، ومن جهةِ الوكيلِ بذلُ نفعٍ (لكلٍّ من المتعاقدينِ) من موكِّلٍ ووكيلٍ (فسخُها) أي: هذه العقودِ
(وتبطلُ) هذه العقودُ (كلُّها بموتِ أحدِهما) أي: المتعاقدين.
وتبطلُ هذه العقودُ (بجنونِ) أحدهما
(و) تبطلُ أيضًا (بالحجرِ) على أحدِهما، من وكيلٍ أو موكِّلٍ (لسفهٍ، حيثُ اعتُبِرَ الرُّشدُ) كالتصرِّفِ الماليِّ. فإنْ وكَّلَ في نحوِ طلاقٍ ورجعةٍ، لم تبطلْ بسفهٍ. وكذا في الشيءِ اليسيرِ، نحوَ احتطابٍ، واستقاءِ ماءٍ، ونحوِه.
(وتبطلُ الوكالةُ بطُرُوٍّ) أي: حدوُثِ (فسقٍ لمُوَكِّلٍ ووكيلٍ فيما يُنافيهِ) الفسقُ فقطْ (كإيجابِ النكاحِ) لأنَّه يُشترطُ فيه العدالةُ. بخلافِ الوكيلِ في قبولِه، أو في بيعٍ أو شراءٍ، فلا ينعزلُ بفسقِ موكِّلِه، ولا بفسقِه؛ لأنَّه يجوزُ منه ذلك لنفسِه، فجازَ
وبفَلَسِ مُوَكِّلٍ فيمَا حُجِرَ عليه فيه، وبردَّتِه، وبتَدبيرِه أو كِتابتِه قِنًّا وَكَّلَ في عِتقِه، وبوطئِه زَوجةً وكَّلَ فِي طَلاقِها، ويمَا يدُلُّ على الرُّجُوعِ من أحَدِهِما.
وينَعزِلُ الوَكيلُ بموتِ مُوكِّلِه، وبعَزلِه له، ولو لمْ يَعلَم،
لغيرِه، كالعدلِ
(1)
.
(و) تبطلُ وكالةٌ (بفَلَسِ موكِّلٍ فيما حُجِرَ عليه فيه) كأعيانِ مالِه؛ لانقطاعِ تصرُّفِه فيها، بخلافِ ما لو وكَّلَ في شراءِ شيءٍ في ذمَّتِه، أو في ضمانٍ، أو اقتراضٍ.
(و) تبطلُ الوكالةُ (برِدَّتِه) أي: المُوَكِّلِ؛ لمنعِه من التصرُّفِ في مالِه ما دامَ مُرْتدًّا، ولا تبطلُ بردَّةِ وكيلٍ إلا فيما ينافيها.
(و) تبطلُ وكالةٌ (بتدبيرِه) أي: السيِّدِ (أو كتابتِه قِنًّا وكَّلَ في عتقِه) لدلالتِه على رجوعِ الموكِّلِ عن الوكالةِ في العتقِ.
(و) تبطلُ الوكالةُ (بوطئِه) أي: الموكِّلِ (زوجةً وكَّلَ في طلاقِها) لأنَّه دليلُ رغبتِه فيها، واختيارِ إمساكِها. ولذلك كانَ رجعةً في المطلَّقةِ رجعيًّا، بخلافِ القُبلةِ، والمباشرةِ دونَ الفرجِ، ونحوِه، خلافًا "للإقناع"
(2)
.
(و) تبطلُ وكالةٌ (بما يدلُّ على الرجوعِ من أحدِهما) أي: الموكِّلِ والوكيلِ، من قولٍ أو فعلٍ.
(وينعزلُ الوكيلُ بموتِ موكِّلِه، وبعزلِه له، ولو لم يعلَمْ) أي: الوكيلُ بموتِ موكِّلِه، أو عزلِه؛ لأنَّ الوكالةَ لا يفتقرُ رفعُها من أحدِهما إلى رضا الآخرِ، فلم تفتقرْ إلى علمِه، كالطلاقِ، فيضمنُ ما تصرَّفَ فيه
(1)
"كشاف القناع"(8/ 426).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 515).
ويَكُونُ ما بيدِهِ بعدَ العَزلِ أمانَةً.
(ويكونُ ما بيدِه بعدَ العزلِ أمانةً) لا يضمنُه إذا تَلِفَ بغيرِ تعدٍّ منه ولا تفريطٍ، حيثُ لم يتصرَّفْ. وأمَّا ما تلِفَ بتصرُّفِه، فيضمنُه، كما سبقَ.
وكذلك عقودُ الأماناتِ كلِّها، كالوديعةِ، والرهنِ، إذا انتهتْ؛ بأنْ كانت مُغيَّاةً بمدَّةٍ وانقضتْ، أو انفسختْ بموتٍ، أو عزلٍ حيثُ أمكنَ، فإنَّها تكونُ أمانةً. وكذلك الهبةُ للولدِ إذا رجعَ فيها الأبُ، فهي أمانةٌ ما دامتْ بيدِ ولدِه.
"فائدةٌ": الوكيلُ في الضبطِ - مثلُ مَن وكَّلَ رجلًا كتابةَ ما لَهُ، وما عليه، كأهلِ الديوانِ - قولُه أَوْلى بالقبولِ من وكيل التصرُّفِ؛ لأنَّه مؤتمنٌ على نفسِ الإخبارِ بما له وبما عليه.
ونظيرُه: إقرارُ كُتَّابِ الأموالِ، وكُتَّابِ السلطانِ بما على بيتِ المالِ، وسائرِ أهلِ الديوانِ بما على جهاتِهم من الحقوقِ، من ناظرِ الوقفِ، وعاملِ الصدقةِ والخراجِ
(1)
، ونحوِ ذلك، فإنَّ هؤلاءِ لا يخرجونَ عن وكالةٍ أو ولايةٍ. ذكرَهُ في "الاختيارات". انتهى
(2)
.
* * *
(1)
في الأصل: "وخراج".
(2)
"كشاف القناع"(8/ 456).
فَصْلٌ
وإن باعَ الوَكِيلُ بأنقَصَ عن ثَمَنِ المِثْلِ، أو عَنْ ما قدَّره له مُوكِّلُه، أو اشترَى بأَزيدَ، أو بأكثَرَ ممَّا قدَّره له، صَحَّ، وضَمِنَ في البَيعِ كُلَّ النَّقْصِ، وفي الشِّرَاءِ كُلَّ الزائِدِ.
و: بِعْهُ لزيدٍ، فَباعَهُ لغيرِه، لم يَصِحَّ.
(فصلٌ)
(وإنْ باعَ الوكيلُ بأنقصَ عن ثمنِ المثلِ، أو) بأنقصَ (عمَّا قدرَه له موكِّلُه، أو اشترى) الوكيلُ (بأزيدَ) من ثمنِ المثلِ، (أو) اشترى (بأكثرَ ممَّا قدَّرَه له، صحَّ) البيعُ والشراءُ. نصًّا؛ لأنَّ مَنْ صحَّ بيعُه وشراؤُه بثمنٍ، صحَّ بأنقصَ منه، وأزيدَ (وضمِنَ في البيعِ) الذي باعَه الوكيلُ (كلَّ النقصِ) عن ثمنِ المثلِ، أو عمَّا قدَّرَه له (و) ضمِنَ (في الشراءِ) الذي اشتراه (كلَّ الزائدِ) عن ثمنِ المثلِ، أو عمَّا قدر له.
وكذا وصيٌّ، وناظرُ وقفٍ، وبيتِ المال، إذا باع بدون ثمن المثل، أو اشترى بأكثرَ منه. ذكرَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ
(1)
. وكذا إنْ أجَّرَ بدونِ أجرةِ المثلِ.
وليس للوكيلِ شراءُ معيبٍ، وللوكيلِ والموكِّلِ ردُّه. فإنْ رضيَ الموكِّلُ به معيبًا، لم يملكِ الوكيلُ ردَّه
(و) إنْ قالَ لوكيلِه: (بعْه لزيدٍ، فباعه) الوكيل (لغيرِه) أي: غيرِ زيدٍ، (لم يصحَّ) البيعُ، لمخالفتِه. سواءٌ قدَّرَ له الثمنَ، أو لم يقدِّرْه؛ لأنَّه قدْ يكونُ غرضُه في
(1)
"الاختيارات الفقهية" ص (140)، وانظر "كشاف القناع"(8/ 440).
ومَنْ أُمِرَ بدَفعِ شَيءٍ إلى مُعيَّنٍ ليصنَعَهُ، فدَفَعَ ونَسِيَهُ، لم يَضْمَن، وإنْ أطلَقَ المَالِكُ، فدَفَعه إلى مَنْ لا يعرِفُه، ضَمِنَ.
والوَكِيلُ أمينٌ، لا يَضمَنُ ما تَلِفَ بيدِه بلا تَفرِيطٍ، ويُصدَّقُ بيَمينِه في التَّلَفِ، وأنَّه لم يُفرِّط،
تمليكِه لزيدٍ دونَ غيرِه، إلا إنْ عَلِمَ الوكيلُ، ولو بقرينةٍ، أنَّه لا غرضَ له في عينِ زيدٍ. ذكره الموفَّقُ والشارح
(1)
.
(ومَن أُمرَ بدفعِ شيءٍ) كثوبٍ أمرَهُ مالكُه بدفعِه (إلى) نحوِ قصَّارٍ، أو صبَّاغٍ (معيَّنٍ؛ ليصنعَه، فدفعَ) المأمورُ الشيءَ إلى مَنْ أُمرَ بدفعِه له، (ونسيَه) فضاعَ (لم يضمنْ) لأنَّه لم يتعدَّ، ولم يفرِّطْ، بلْ فعلَ ما أُمِرَ به
(وإنْ أطلقَ المالكُ) بأنْ قال مثلًا: ادفعْه إلى مْن يَقصُرُهُ، أو يصبَغُه (فدفعَه إلى مْن لا يعرفُه) أي: يعرفُ عينَه، ولا يعرفُ اسمَه، ولا دكَّانَه (ضَمِنَ) لتفريطِه. وأطلقَ أبو الخطابِ: إذا دفعَه إليه، لم يضمنْ إذا اشتبَه عليه
(2)
.
(والوكيلُ أمينٌ، لا يضمنُ ما تلِفَ بيدِه) مِن ثمنٍ أو مثمنٍ، أو غيرِهما، إذا كانَ (بلا تفريطٍ) ولا تعدٍّ؛ لأنَّه نائبُ المالكِ في اليدِ والتصرُّفِ، فالهلاكُ في يدِه، كالهلاكِ في يدِ المالكِ، كالمودعِ والوصيِّ ونحوِه، وسواءٌ كان متبرِّعًا، أو بجُعْلٍ، فإنْ فرَّطَ، أو تعدَّى، ضمِنَ (ويُصدَّقُ) وكيلٌ (بيمينِه في) دعوى (التلفِ، و) يُصدَّقُ بيمينِه (أنَّه لمْ يُفرِّطْ) لأنَّه أمينٌ، ولا يُكلَّفُ بينةً؛ لأنَّه ممَّا يتعذَّرُ إقامةُ البينةِ عليه، ولئلا يمتنعَ الناسُ من الدخولِ في الأماناتِ مع الحاجةِ إليها.
(1)
"دقائق أولي النهى"(3/ 529).
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 532).
وأنَّه أُذِنَ له في البَيعِ مُؤجَّلًا، أو بغيرِ نَقدِ البَلَدِ.
ومثلُ الوكيلِ: كلُّ مَن كانَ بيدِه شيءٌ لغيرِه، كالأبِ، والوصيِّ، وأمينِ الحاكمِ، والشريكِ، والمُضارِبِ، والمُرْتهنِ، والمستأجرِ، والمودَعِ، يُقبلُ قولُهم في التلفِ، وعدمِ التفريطِ والتعدِّي.
وإنْ ادَّعى وكيلٌ، وأجيرٌ مشترَكٌ، كصائغٍ، وصبَّاغٍ، وخياطٍ، في ردِّ العينِ
(1)
.
وظاهرُه: أنَّه يُقبلُ
(2)
قولُ أجير خاصٍّ. وأطلق في "الإقناع" أنه لا يقبل قول الأجيرِ في الردِّ، ولا قولُ مستأجرِ نحو دابَّةٍ في ردِّها، ولا مضاربٍ، ومرتهنٍ، وكلِّ مَن قبضَ العينَ لنفعِ نفسِه، كالمستعيرِ.
ودعوى الكلِّ تلفًا بحادثٍ ظاهرٍ، كحريقٍ، ونهبٍ، ونحوِهما، فلا يُقبلُ إلا ببينةٍ تشهدُ بالحادثِ الظاهرِ؛ لعدمِ خفائِه؛ لأنَّه لا تتعذَّرُ البينةُ عليه.
ويُقبلُ قولُه
(3)
فيما تَلِفَ بعدَ إقامةِ البينةِ، بيمينِه، في تلفِ العينِ بسببِ الحادثِ الظاهرِ؛ لتعذِّرِ إقامةِ البينةِ على تلفِها به، كما لو تَلِفَتْ بسببٍ خفيٍّ، فيقبلُ قولُه بيمينِه من غيرِ إقامةِ بينةٍ.
(و) يصدَّقُ بيمينِه (أنَّه) أي: الموكِّلَ (أذِنَ له في البيعِ مؤجَّلًا) أي: نَساءً. وأنكرَهُ، فقولُ وكيلٍ (أو) قال وكيلٌ: أذنتَ لي في البيعِ (بغيرِ نقدِ البلدِ) أو بعَرْضٍ. وأنكرَهُ موكِّلٌ، فقولُ وكيلٍ.
"تتمَّةٌ": وإنِ اختلفَ الوكيلُ والموكِّلُ في صفةِ الإذنِ؛ بأن قال: وكَّلتَني في
(1)
الجواب: لم يقبل.
(2)
في الأصل: "لا يقبل".
(3)
أي: مدعي التلف بسبب ظاهر.
وإن ادَّعَى الرَّدَّ لوَرَثَةِ المُوَكِّلِ مُطلقًا، أو لَه، وكان بجُعْلٍ، لم يُقبَل.
ومَن عليه حَقٌّ، فادَّعى إنسانٌ أنَّه وكيلُ رَبِّه في قَبضِه، فصدَّقَه، لم يلزَمْهُ
شرائِه بعشرةٍ. فقال الموكِّلُ: بل بخمسةٍ. أو: وكَّلتَني في شراءِ عبدٍ. قال: بلْ أمَةٍ. أو: أنْ أبيعَه من زيدٍ. قال: بل من عمرٍو. أو قال: موكِّلٌ: أمرتُكَ ببيعِه نسيئةً برهنٍ، أو ضامنٍ. وأنكرَ وكيلٌ، ولا بينةَ، فالقولُ قولُ وكيلٍ بيمينِه؛ لأنَّه أمينٌ، كمُضاربٍ اختلفَ مع ربِّ المالِ في مثلِ ذلك، وكخياطٍ إذا قال: آذنتَني في تفصيلِه قَبَاءً. وقال ربُّه: بل قميصًا، ونحوَه.
وإنْ باعَ الوكيلُ السلعةَ، وقال للموكِّل: بذلك أمرتَني. فقال: بل أمرتُك برهنِها. صُدِّقَ ربُّها، فاتتْ أو لم تَفُتْ؛ لأنَّ الاختلافَ هنا في جنسٍ التصرُّفِ.
وإنِ اختلفا في أصلِ الوكالةِ، فقولُ مُنكرٍ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الوكالةِ.
(وإنِ ادَّعَى) وكيلٌ (الرَّدَّ) فيما وكِّلَ فيه (لوَرثةِ الموكِّل مطلقًا) أي: سواءٌ كان بجُعْلٍ أو بلا جُعْلٍ، لم يُقبلْ قولُه بيمينِه؛ لأنَّهم لم يأمنوه.
وكذا لو ادَّعَى الوكيلُ الردَّ إلى غيرِ مَنِ ائتمنَه، ولو بإذنِ الموكِّلِ؛ لأنَّه لا بدَّ من إقامةِ الوكيلِ بيِّنَةً تشهدُ بدفعِه إذا أنكرَه.
وكذا لم يُقبلْ قولُ ورثةِ وكيلٍ في دفع لموكِّلٍ؛ لأنَّه لم يأتمنْهم.
(و) كذا لو ادَّعى وكيلٌ الردَّ (له) أي: للموكِّلِ وهو حيٌّ (وكان) الوكيلُ (بجُعْلٍ، لم يُقبلْ) قولُه بيمينِه، ولا بدَّ من بيِّنةٍ
(ومَن عليه حقٌّ) من دينٍ، أو عينٍ، عاريةٍ، أو وديعةٍ، ونحوِها (فادَّعى إنسان أنَّه وكيلُ ربِّه) أي: صاحبِه (في قبضِه) الدَّيْنَ، أو الوديعةَ (فصدَّقَه) أي: صدَّقَ مْن عليه الحقُّ مدَّعي الوكالةِ، أو الوصيةِ، أو الحوالةِ (لم يلزمْه) أي: مَن عليه الحقُّ في ما
دفعُه إليه. وإن ادَّعى موتَه، وأنَّه وارِثُه، لزِمَه دفعُه، وإنْ كذَّبه، حَلَف أنَّه لا يعلَم أنَّه وارِثُه، ولم يدفَعْهُ.
(دفعَه إليه) أي: إلى مَنْ ادَّعى الوكالةَ
(وإن ادَّعى) شخصٌ (موتَه) أي: ربِّ الحقِّ (وأنَّه و ارثُه، لزِمَه) أي: مَن عليه الحقُّ (دفعُه) أي: الحقِّ لمدَّعي إرثِه، مع تصديقٍ منه على ذلك؛ لأنَّه مقرٌّ له بالحقِّ، وأنَّه يَبرا بهذا الدفعِ، فلزِمَه الدفعُ، كما لو طلبَه مورِّثُه
(وإنْ كذَّبَه) المدينُ أو الوكيلُ، ولم يكن إثباتٌ، (حلفَ) المدينُ أو الوكيلُ على
(1)
نفي العلمِ: (أنَّه لا يعلمُ أنَّه وارثُه، ولم يـ) ـلزمْه الـ (دفعُ) إليـ (ـه)
ولا يلزمُ ربَّ الحقِّ دفعُ الوَثيقَةِ المكتُوبِ فيها الدَّينُ ونحوُه إلى مَن كان عليه الحقُّ؛ لأنَّها مِلكُه، فلا يلزمُه تسليمُها لغيرِه، بل يلزمُ ربَّ الحقِّ الإشهادُ بأخذِه الحقَّ؛ لأنَّ بيِّنةَ الآخذِ تُسقِطُ البيِّنةَ الأُولى، كما لا يلزمُ البائعَ دفعُ حُجَّةِ ما باعَه لمشترٍ.
* * *
(1)
في الأصل: "وليِّ"، وانظر "مسلك الراغب"(2/ 608).
كِتابُ الشَّرِكَة
وهِيَ خَمسَةُ أنواعٍ، كلُّها جَائِزَةٌ ممَّن يجُوزُ تصرُّفُه:
أحدُها: شَرِكَةُ الَعِنَانِ.
(كتابُ الشَّرِكةِ)
بفتحَ الشينِ مع كسر الراءِ وسكونِها، وبكسرِ الشين مع سكونِ الراءِ.
وتجوزُ بالإجماعِ؛ لقولِه تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، وقولِه:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24]. الآية. والخلطاءُ: هم الشركاءُ. ولقولِه عليه الصلاة والسلام: "يقولُ اللهُ تعالى: أنا ثالثُ الشريكيْنِ، ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَه خرجتُ من بينِهما". رواه أبو داودَ
(1)
من حديثِ أبي هريرةَ، وإسنادُه ثقاثٌ.
(وهي) أي: شركةُ العقودِ، المقصودةُ هنا (خمسةُ أنواعٍ، كلُّها جائزةٌ) عندَ الإمامِ، تصحُّ (ممَّنْ يجوزُ تصرُّفُه) في المالِ. فلا تنعقدُ مع صغيرٍ، ولا سفيهٍ، وعلى ما في الذمَّةِ:
(أحدُها) أي: أحدُ هذه الخمسةِ أنواعٍ: (شركةُ العِنانِ) بكسرِ العينِ. ولا خلافَ في جوازِها، بل في بعضِ شروطِها، سُمِّيتْ بذلك؛ لاستوائِهما في المالِ والتصرُّفِ، كالفارسَيْنِ يستويانِ في السيرِ، فإنَّ عِنانَي فرسيْهما يكونانِ سواءً، أو لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يملكُ التصرُّفَ في جميعِ المالِ، كما يملِكُه في عِنانِ فَرَسِه.
(1)
أخرجه أبو داود (3383)، وضعفه الألباني.
وهي: أن يشتَرِكَ اثنَانِ فأكثَرُ في مالٍ يتَّجِرَانِ فيه، ويكونَ الرِّبحُ بينَهُما بحَسَبِ ما يتَّفِقَان.
وشروطُها أربَعةٌ:
الأوَّلُ: أن يكونَ رأسُ المَالِ من النَّقدَينِ المَضرُوبَين، الذَّهبِ والفِضَّة، ولو لَمْ يتَّفِقِ الجِنْسُ.
وقال الفرَّاءُ وابنُ قتيبةَ وغيرُهما: مِن عنَّ الشيءُ، إذا عرَضَ؛ لأنَّ كلًّا منهما عنَّ له أنْ يشاركَ صاحبَه.
وقيل: من المعانَّةِ، وهي المعارضةُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما عارضَ صاحبَه بمالِه وفعاله.
(وهي) أي: شركةُ العِنانِ: (أنْ يشتركَ اثنانِ فأكثرُ) من اثنينِ
(1)
(في مالٍ يتَّجرانِ فيه) أي: في المالِ ببدنيَهِما، (ويكونَ الربحُ بينهما بحسبِ ما يتَّفقانِ) عليه من التجزُّئ؛ كأنْ يتفقانِ لأحدِهما الثلثُ، والباقي للآخرِ، أو يكونُ بينهما مناصفةً، ونحو ذلك.
(وشروطُها أربعةٌ):
(الأوَّل) من شروطِ العِنانِ: (أنْ يكونَ رأسُ المالِ من النقدينِ المضروبينِ) - ولو بسكَّةِ الكفَّارِ - وهما: (الذَّهبُ والفِضَّةُ، ولو لم يتَّفقِ الجنسُ) أي: لا يشترطُ أنْ يكونَ مالُ الشركةُ جنسًا واحدًا، بل يجوزُ إنْ أحضرَ أحدُ الشريكينِ ذهبًا، والآخرُ فِضَّةً. ولا تصحُّ الشركةُ بغيرِ الذهبِ والفضةِ، ولو كانتْ بفلوسٍ نُحَاسٍ نافِقَةٍ. ولا تصحُّ الشركةُ بعروضٍ؛ لأنَّ القيمةَ تزيدُ وتنقصُ، فلا يتحقَّقُ منه الربحُ.
(1)
في الأصل: "اثنان"
الثَّانِي: أن يكونَ كلٌّ من المَالَين معلُومًا.
الثالِثُ: حُضُورُ المَالَين، ولا يُشتَرطُ خلطُهُما، ولا الإذنُ في التَّصرُّفِ.
الرَّابِعُ: أن يشتَرِطَا لكلِّ واحدٍ منهُما جُزءًا معلُومًا من الرِّبح، سَواءٌ شَرَطَا لِكُلِّ واحِدٍ منهُمَا على قَدرِ مالِه، أو أقَلَّ، أو أكثَرَ.
(الثاني) من الشروطِ: (أنْ يكونَ كلُّ من المالَينِ مَعلُومًا) قدْرًا وصِفَةً، فلا يصحُّ على مجهولَينِ، أو أحدِهما؛ للغررِ.
(الثالثُ) من الشروطِ: (حضورُ المالَين) فلا تصحُّ الشركةُ على مالٍ غائبٍ، ولا على مالٍ في الذمَّةِ؛ لأنَّه لا يمكنُ التصرُّفُ فيه في الحالِ، وهو مقصودُ الشركةِ. لكنْ إذا أحضرَاه وتفرَّقا، ووُجِدَ منهما ما يدلُّ على الشركةِ فيه، انعقدتْ حينئذٍ.
(ولا يُشترطُ) في الشركةِ (خلطُهما) أي: خلطُ المالَينِ، ولا أنْ تكونَ بأيدي الشركاءِ؛ لأنَّها عقدٌ على التصرُّفِ، كالوكالةِ.
(ولا) يُشترطُ (الإذنُ) من أحدِهما للآخرِ (في التصرُّفِ) لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما مَلَكَ التصرُّفَ بالعقدِ.
(الرابعُ) من الشروطِ: (أنْ يشتَرِطا لكلِّ واحدٍ منهما جزءًا) من الربحِ مُشاعًا (معلومًا من الربحِ) كنصفٍ، أو ثلثٍ، أو غيرِهما (سواءٌ شرَطا) الشريكانِ (لكلِّ واحدٍ منهما على قدرِ مالِه) من الربحِ (أو) شرَطا على (أقلَّ) من قدرِ المالِ (أو) على (أكثرَ) من قدرِ المالِ؛ لأنَّ الربحَ يُستحقُّ بالعملِ، وقد يتفاضلانِ فيه؛ لقوَّةِ أحدِهما وحِذْقِه، فجازَ أنْ يجعلَ له حظًّا من ربحِ مالِه، كالمضاربِ.
فمَتَى فُقِدَ شَرطٌ، فَهِيَ فاسِدَة، وحيثُ فَسَدَت فالرِّبحُ على قَدرِ المَالَين، لا علَى ما شَرَطَا، لكِن يَرجِعُ كُلٌّ مِنهُما على صاحِبِه بأُجرَةِ نِصفِ عَملِه.
وكُلُّ عَقدٍ لا ضَمَانَ في صَحيحِه، لا ضَمَانَ في فَاسِدِه، إلَّا بالتَّعدِّي أو التَّفرِيط، كالشَّرِكَة، والمُضَارَبَةِ، والوَكَالَةِ، والوَديعَةِ، والرَّهنِ، والهِبَةِ.
وما يشتريه كلُّ منهما بعدَ عقدِ الشركةِ، فهو بينهما مشترَكٌ، حيثُ لم ينوِهِ لنفسِه.
وأمَّا ما يشتريه أحدُهما لنفسِه، فهو له خاصةً، والقولُ قولُه في ذلك؛ لأنَّه أعلمُ بنيتِه
وإنْ تلِفَ أحدُ المالينِ، أو بعضُه، ولو قبلَ الخلطِ، فالتالفُ من ضمانِهما معًا.
(فمتى فُقِدَ شرطٌ) من هذه الشروطِ الأربعةِ (فهي) أي: شركةُ العِنانِ (فاسدةٌ، وحيثُ فسدتِ) الشركةُ (فـ) يكونُ ما تحصَّلَ من (الربحِ) بين الشريكينِ (على قدرِ المالَينِ) لأنَّ التصرَّفَ صحيحٌ؛ لكونِه بإذنِ مالِكِه، والربحُ نماءُ المالِ (لا) أي: لا يكونُ الربحُ (على ما شرَطا) في تجزئةِ الربح (لكنْ يرجعُ كلٌّ منهما) أي: من الشريكينِ (على صاحبِه بأجرةِ نصفِ عملِه) لأنَّه عملٌ في نصيبِ شريكِه، فيرجعُ به عليه
(وكلُّ عقدٍ لا ضمانَ في صحيحِه، لا ضمانَ في فاسدِه، إلا) إذا كان (بالتعدِّي أو التفريطِ) وذلك في كلِّ أمانةٍ وتبرُّعٍ (كالشركةِ، والمضاربةِ، والوكالةِ، والوديعةِ، والرهنِ، والهبةِ) والصدقةِ، والهديةِ، والوقفِ، فلا يُضمنُ منها ما لا يُضمَنُ في العقدِ الصحيحِ؛ لدخولِهما على ذلك بحكمِ العقدِ.
وكلُّ عقدٍ لازمٍ يجبُ الضمانُ في صحيحِه، يجبُ في فاسدِه، كبيعٍ، وإجارةٍ،
ولكُلٍّ من الشَّريكَينِ أن يَبيعَ، ويَشتَرِيَ، ويأخُذَ، ويُعطِي، ويُطالِبَ، ويُخاصِمَ، ويفعلَ كلَّ ما فيه حَظٌّ للشَّرِكَة.
ونكاحٍ، وقرضٍ، وعاريةٍ
(1)
.
(ولكلٍّ من الشريكينٍ أنْ يبيعَ) من مالِ الشركةِ (ويشتري) به مساومةً، ومرابحةً، ومواضعةً، وتوليةً، وكيفَما رأى المصلحةَ
(2)
؛ لأنَّها عادةُ التجارِ، (ويأخذَ) ثمنًا ومُثْمَنًا، (ويعطيَ) ثمنًا ومُثْمَنًا، (ويطالبَ) بالدَّينْ (ويخاصِمَ) فيه؛ لأنَّ مَنْ مَلَكَ قبضَ شيءٍ، مَلَكَ الطلبَ به، والخصومةَ فيه، ويُحيلَ ويحتالَ. (ويفعلُ كلَّ ما فيه حظٌّ) ومصلحةٌ (للشركةِ) كحبسِ غريمٍ، ولو أبىَ الشريكُ الآخرُ حَبْسَه.
وليسَ لأحدٍ منهما مكاتبةُ رقيقٍ، ولا تزويجُه، ولا عتقُه - ولو بمالٍ - ولا أنْ يقرضَ، ولا أنْ يحابيَ، ولا يضاربَ، ولا يشاركَ فيه، ولا أنْ يخلطَ المالَ بمالِه، أو مالِ غيرِه، ولا أنْ يأخذَ بمالِ الشركةِ سَفْتَجةً
(3)
؛ بأنْ يدفعَ إلى إنسانٍ شيئًا من مالِ الشركةٍ، ويأخذَ منه كتابًا إلى وكيلِه ببلدٍ آخرَ؛ ليستوفيَ منه ذلك المالَ بتلك البلدةِ. ولا يُعطيها - أي: السَّفْتَجةَ - بأنْ يأخذَ من إنسانٍ عَرْضًا، ويُعطيه بثمنِه كتابًا إلى وكيلِه ببلدٍ آخرَ؛ ليستوفي منه ذلك المالَ، إلا بإذنِ شريكِه فيما ذُكِرَ من هذه المسائلِ.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 235).
(2)
في الأصل: "وكيفَ رأى أيَّ المصلحةِ"، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 237).
(3)
السفتجة: بفتح السين المهملة والتاء المثناة فوق، بينهما فاء ساكنة وبالجيم: كتاب لصاحب المال إلى وكيله في بلد آخر، ليدفع إليه بدله. وفائدته: السلامة من خطر الطريق ومؤنة الحمل. "المطلع" ص (190).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويملكُ الإيداعَ، والرهنَ، والارتهانَ؛ لحاجةٍ.
ولكلٍّ منهما عزلُ وكيلٍ وكَّلاه، أو وكَّلَه أحدُهما. وليس لشريكٍ أن يوكِّلَ فيما يتولَّى مثلَه بنفسِه.
وله السفرُ بالمالِ مع أمنِ الطريقِ والبلدِ. ومثلُه: وليُّ يتيمٍ.
وإنْ لمْ يعلما بأمنِ الطريقِ والبلدِ، أو لمْ يعلما بفلَسِ مشترٍ، لم يضمنا. وكذا حكمُ ظالمٍ ببلدٍ يأخذُ مالَ مَن يسافرُ إليه.
وليس له أن يشتريَ بغيرِ إذنِ شريكِه بأكثرَ من مالِ الشركةِ. فإنْ فعلَ، فهو عليه، إنْ تَلِفَ أو خسِرَ، وله ربحُه إنْ ربحَ.
وما يشتريه بعضُ الشركاءِ بعدَ عقدِها، فهو للجميعِ، ما لم ينوِ بالشراءِ لنفسِه، فيختصُّ به.
وخسرانُ الشركةِ على قدرِ مالِ الشركةِ.
وإن أبرأَ أحدُهما من الدَّينِ، لزِمَ في حقِّه دونَ شريكِه. وكذا إنْ أقرَّ بمالٍ على الشركةِ غيرِ متعلِّقٍ بها، لزِمَ في حقِّه فقط.
ويجبُ على كلِّ واحدٍ منهما أنْ يفعلَ ما جرتِ العادةُ، من إحرازٍ، ونشرِ ثوبٍ، وطيِّه، ونحوِ ذلك. فإنِ استأجرَ مَن فَعلَهُ بأجرةٍ، غرِمَها من مالِه
وما جرتِ العادةُ أن يستنيبَ الشريكُ فيه، كالاستئجارِ للنداءِ على المتاعِ ونحوِه، فله أنْ يستأجرَ من مالِ الشركةِ مَن يفعلُه. وليسَ له فعلُه ليأخذَ أجرتَه بلا شرطٍ.
وإذا استأجرَ أحدُ الشريكينِ الآخرَ في عملِ شيءٍ لا يلزمُه عادة، أو عمِلَه غلامُه،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو حملَه على دابَّتِه، جازَ ذلك، وكان له أجرةُ مثلِه. وكذا أجرةُ مكانٍ لمالِ الشركةِ، وبَذْلُ خِفارةٍ وعُشْرٍ على المالِ. قال الإمامُ أحمدُ: ما أنفقَ على المالِ المشتركِ، فعلى المالِ بالحصصِ.
ويحرُمُ على شريكٍ أكلُ شيءٍ من مالِ الشركةِ بلا إذنِ شريكِه.
ومَن قالَ: عزلتُ شريكي، انعزلَ، وصحَّ تصرُّفُ المعزولِ في قدرِ نصيبِه فقطْ، وصحَّ تصرُّفُ العازلِ في جميعِ المالِ؛ لعدمِ رجوعِ المعزولِ عن الإذنِ له بالتصرُّفِ.
* * *
فَصْلٌ
الثَّاني: المُضَارَبةُ.
(فصلٌ)
(الثاني) من الخمسةِ أنواعٍ: (المُضَارَبةُ) بتسميةِ أهلِ العراقِ، مأخوذةٌ من الضَّرْبِ في الأرضِ، وهو السفرُ فيها للتجارةِ. قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. ويحتملُ أنْ يكونَ من ضربِ كلٍّ منهما بسهمٍ في الربحٍ.
وسمَّاها أهلُ الحجازِ: قِراضًا، فقيلَ: هو مِن القرْضِ، بمعنى القطعِ، يُقالُ: قَرَضَ الفأرُ الثوبَ: إذا قطعَه. فكأنَّ ربَّ المالِ اقتطعَ مِن مالِه قِطعةً وسلَّمَها إلى العاملِ، واقتطعَ له قِطعةً من ربحِها. وقيل: من المساواةِ والموازنةِ، يُقالُ: تقارضَ الشاعرانِ: إذا توازنا.
وهي جائزةٌ بالإجماعِ، حكاة ابنُ المنذرِ. ورُويتْ عن عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وحكيمِ بنِ حزامٍ
(1)
، رضي الله عنهم، ولمْ يُعرفْ لهم مخالفٌ. والحكمةُ تقتضيها؛ لأنَّ بالناسِ حاجةً إليها، فإنَّ النقدينِ لا تُنمَّى إلا بالتجارةِ، وليس كلُّ مَنْ يملكُها يُحسنُ التجارةَ، ولا كلُّ مَن يحسنُها له مالٌ، فشرعتْ لدفعِ الحاجةِ
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 390) عن عمر. وأخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 688) عن عثمان. وأخرجه عبد الرزاق (8/ 248) عن علي. وأخرجه البيهقي (6/ 111) عن حكيم.
وذكره البيهقي في "معرفة السنن"(8/ 323) عن ابن مسعود.
(2)
انظر "كشاف القناع"(8/ 497)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 239).
وهيَ: أن يدفَعَ مِن مَالِه إلى إنسَانٍ ليتَّجِرَ فيه، ويكُونَ الرِّبحُ بينهُما بحَسَبِ ما يتَّفِقَان.
وشُروطُها ثلاثَةٌ:
أحدُها: أن يكونَ رأسُ المالِ مِنْ النَّقدَين المَضرُوبَين.
(وهي) شرعًا: (أنْ يدفع من مالِه) أي: نقدٍ مضروبٍ خالٍ من العشِّ الكثيرِ (إلى إنسانٍ؛ ليتَّجرَ فيه) أي: في المالِ بجزءٍ مشاعٍ من الربحِ، (ويكونَ الربحُ بينهما بحسبِ
(1)
ما يتَّفقانِ) عليه من أنْ يكونَ لكل منهما نصفُ الربحِ، أو لأحدِهما ثلثُه، أو ربعُه، أو أكثرُ أو أقلُّ، والباقي للآخرِ، ونحوِ ذلك.
وتصحُّ معلقة؛ كـ: إذا جاءَ رأسُ الشهرِ فضاربْ بهذا على كذا.
وتصحُّ مؤقتةً؛ بأنْ يقولَ ربُّ المالِ: ضاربتُك على هذه الدراهمِ سنةً، فإذا مضتِ السنةُ فلا تبعْ ولا تشتر.
وهي أمانةٌ بدفعِ المالِ، ووكالةٌ بالإذنِ في التصرُّفَ.
(وشروطُها) أي: شروطُ المضاربةِ (ثلاثةٌ):
(أحدُها) أي: أحدُ
(2)
الشروطِ: (أنْ يكونَ رأسُ المالِ من النقدينِ) وهما: الذهبُ والفِضَّةُ (المضروبينِ) ولو بسكَّةِ الكفارِ. فلا تصحُّ بغيرِ مضروبٍ، ولا بعروضِ التجارةِ، كما تقدَّمَ
(3)
.
(1)
في الأصل: "على حسبِ".
(2)
في الأصل: "إحدى".
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 240).
الثَّانِي: أن يكونَ مُعيَّنًا معلُومًا، ولا يُعتَبرُ قَبضُه بالمَجلِسِ، ولا القَبولُ.
الثَّالِثُ: أن يُشتَرطَ للعَامِلِ جُزءٌ معلومٌ مِن الرِّبح.
فإن فُقِدَ شَرطٌ، فهِي فاسِدَةٌ، ويَكونُ للعَامِل
(الثاني) من شروطِ المضاربةِ: (أنْ يكونَ) المالُ (معيَّنًا) فلا يصحُّ: ضارِبْ بأحدِ هذينِ الكيسينِ، تساوَى ما فِيهِمَا أو اختَلفَ، عَلِما ما فيهما أو جهلاه؛ لأنَّها عقدٌ تمنعُ صحتَه الجهالةُ، فلم تجزْ على غيرِ معيَّنٍ، كالبيعِ
(معلومًا) قدرُه، فلا يصحُّ بمجهولٍ، كصبرةِ دراهمَ أو دنانيرَ؛ إذ لا بدَّ من الرجوعِ إلى رأسِ المالِ عندَ الفسخِ، ليُعلمَ الربحُ، ولا يمكنُ ذلك مع الجهلِ.
(ولا يُعتبرُ) لمضاربةٍ (قبضُه) أي: قبضُ العاملِ المالَ (بالمجلسِ) فتصحُّ، وإنْ كانَ المالُ بيد ربِّه؛ لأنَّ موردَ العقدِ العملُ
(1)
(ولا) يُعتبرُ أيضًا (القبولُ)
(2)
أي: قولُ: قبلتُ، ونحوُه. فتكفي مباشرتُه للعمل، ويكونُ قبولًا لها، كالوكالةِ
(3)
.
(الثالثُ) من شروطِ المضاربةِ: (أنْ يشترطَ) المضارِبُ (للعاملِ جزءٌ معلومٌ من الربحِ) كنصفٍ، أو ثلثٍ، أو ربعٍ، أو سدسٍ، أو جزءٍ من أحدَ عشرَ جزءًا من الربحِ
(فإنْ فُقِدَ شرطٌ) من هذه الشروطِ الثلاثةِ (فهي) أي: المضاربةُ (فاسدةٌ) فإذا فسدتْ كانت كالإجارةِ الفاسدةِ، فيكونُ الربحُ كلُّه لربِّ المالِ، (ويكونُ للعاملِ
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 565)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 240).
(2)
في الأصل: "القول".
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 565)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 241).
أجرُ مِثلِه، وما حَصَلَ من خَسارَةٍ، أو رِبحٍ، فللمَالِك.
وليس للعَامِل شِراءُ من يَعتِقُ على ربِّ المَال، فإن فَعَلَ، عَتَقَ، وضَمِنَ ثَمنَه، ولو لم يَعلَم.
أجرُ مثلِه) في نظيرِ عملِه، خَسِرَ المالُ أو ربحَ. وتصرُّفُه في مالِ المضاربةِ الفاسدةِ صحيحٌ؛ لأنَّه مأذونٌ من ربِّه بالتصرُّفِ
(وما حصلَ من خسارةٍ) في مالِ المضاربةِ، فعلى مالكِ المالِ، (أو) ما حصلَ من (ربحٍ، فللمالك)
(1)
أي: لربِّ المالِ؛ لأنَّه نماءُ مالِه.
(وليسَ للعاملِ شراءُ مَن يَعتِقُ على ربِّ المالِ) بغيرِ إذنِه. وظاهرُه: لقرابةٍ، أو تعليقٍ، أو إقرارٍ بحريَّتِه؛ لأنَّ عليه فيه ضررًا. والمقصودُ من المضاربةِ الربحُ، وهو منتفٍ هنا
(2)
.
(فإنْ فعلَ) أي: اشترى من يَعتِقُ على ربِّ المالِ، صحَّ الشراءُ، و (عتَقَ) على ربِّ المالِ؛ لتعلُّقِ حقوقِ العقدِ به، بدخولِه في مِلْكِه
(3)
. (و) لكنْ يـ (ضمنُ) العاملُ (ثمنَه) الذي اشتراه به، سواءٌ علمَ بأنَّه يعتقُ على ربِّ المالِ، أو (لم يعلمْ) لأنَّ الإتلافَ الموجبَ للضمانِ لا فرقَ فيه بين العلمِ والجهلِ.
وقال أبو بكرٍ في "التنبيه": إنْ لمْ يعلمْ، لم يضمنْ. وجزمَ به في "عيون المسائل" وقال: لأنَّ الأصولَ فرَّقتْ بين العلمِ وعدمِه في بابِ الضمانِ، كالمعذورِ. واختارَهُ القاضي في "التعليق الكبير". قالَهُ في "التلخيص" وقال: هذا الصحيحُ عندي
(4)
.
(1)
في الأصل: "فلمالك".
(2)
انظر "كشاف القناع"(8/ 505)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 241).
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(3/ 572)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 242).
(4)
"الإنصاف"(14/ 85).
ولا نفقَةَ للعَامِلِ إلَّا بشَرطٍ، فإن شُرِطَت مُطلَقَةً واختلَفَا، فلَه نفقَةُ مثلِه عُرفًا من طَعَامٍ وكِسوَةٍ.
ويملِكُ العَامِلُ حِصَّتَه من الرِّبحِ بظُهُورِهِ قَبْلَ القِسمَةِ كالمَالِكِ،
وإن اشترى العاملُ، ولو بعضَ زوجٍ، أو بعضَ زوجةٍ، لمَنْ له في المالِ مِلكٌ، صحَّ الشراءُ، وانفسخَ النكاحُ؛ لأنَّ النكاحَ لا يُجامِعُ المِلكَ، ويتنصَّفُ المهرُ على ربِّ المالِ بشراءِ زوجتهِ قبلَ الدخولِ، ويرجعَ
(1)
به على العاملِ، ولا ضمانَ عليه إن اشترى زوجَ ربَّةِ المالِ فيما يفوتُها من مهرٍ ونفقةٍ؛ لأنَّه لا يعودُ للمضاربةِ، وسواءٌ كان
(2)
بعينِ المالِ، أو في الذمَّةِ له.
وعلى العاملِ أنْ يفعلَ ما يلزمُه، وأنْ يتجنَّبَ
(3)
ما يضرُّ بالشركةِ، كما تقدَّمَ في شركةِ العِنان.
(ولا نفقةَ للعاملِ) لأنَّه دخلَ على العملِ بجزءٍ، فلا يستحقُّ غيرَه (إلا بشرط)
(4)
(فإْن شُرِطتْ) نفقةُ العاملِ (مُطْلقةً، واختلفا) أي: تشاحَّا - العاملُ وربُ المالِ - في النفقةِ
(5)
(فلَه) أي: للعاملِ (نفقةُ مثلِه عُرْفًا، من طعامٍ وكِسوةٍ) لأنَّ إطلاقَها يقتضي جميعَ ما هو من ضروراتِه المعتادةِ، كالزوجةِ.
(ويملكُ العاملُ حصَّته من الربحِ بـ) مجرَّدِ (ظهورِه قبلَ القسمةِ، كالمالكِ)
(1)
في الأصل: "ورحع".
(2)
أي: كان الشراء.
(3)
في الأصل: "يجنب".
(4)
سقطت "إلا بشرط" من الأصل.
(5)
في الأصل: "والنفقة".
لا الأَخْذَ مِنهُ إلَّا بإذنٍ.
وحيثُ فُسِخَت - والمَالُ عَرضٌ - فرَضِيَ ربُّه بأَخذِه، قَوَّمَه، ودَفَعَ للعَامِل حِصَّتَهُ. وإن لم يَرضَ،
للمالِ، وكما في المساقاةِ والمزارعةِ؛ لأنَّ الشرطَ صحيحٌ، فيثبتُ مقتضاه، وهو أنْ يكونَ له جزءٌ من الربحِ، فإذا وُجِدَ، وجبَ أنْ يملكَه بحكمِ الشرطِ. وأيضًا فهذا الجزءُ مملوكٌ، ولابدَّ له من مالكٍ، وربُّ المالِ لا يملكُه اتفاقًا، فلزِمَ أنْ يكونَ للمضاربِ، ولملكِه الطلبَ بالقسمةِ، ولا يمتنعُ أنْ يملكَه، ويكونُ وقايةً لرأسِ المالِ، كنصيبِ ربِّ المالِ من الربحِ، ولو لمْ يعملْ المضاربُ إلا أنَّه صَرَفَ الذهبَ بورِقٍ، فارتفعَ الصرفُ، استحقَّه. نصَّا
و (لا) يملكُ المضاربُ (الأخذَ منه) أي: الربحِ (إلا بإذنِ) ربِّ المالِ؛ لأنَّ نصيبَه مُشاعٌ، فلا يقاسمُ نفسَه. ولأنَّ مِلكَه له غيرُ مستقرٍّ.
وإنْ شرطا
(1)
انَّه لا يملكُه إلا بالقسمةِ، لم يصحَّ الشرطُ؛ لمنافاتِه مقتضى العقدِ.
(وحيثُ فُسِخَتِ) المضاربةُ (والمالُ عَرْضٌ) أو دراهمُ، وكان دنانيرَ، أو عكسُه؛ بأنْ كان دنانيرَ، وأصلُه دراهمَ. وتصادقَ ربُّ المالِ مع العاملِ على وجودِ ربحٍ فيه (فرضِيَ ربُّه) أي: ربُّ المالِ (بأخذِه) أي: مالِ المضاربةِ على صفتِه التي هو عليها (قوَّمَه) أي: مالَ المضاربةِ (ودفعَ للعاملِ حِصَّتَه) ممَّا ظهرَ من الربحِ بتقويمِه
(وإن لم يرضَ) ربُّ مالٍ بعدَ فسخِ مضاربةٍ بأخذِ العُرُوضِ، أو والدراهمِ عن
(1)
كذا في الأصل، وفي "دقائق أولي النهى" 3/ 581:"شرط"
فعلَى العَامِلِ بيعُهُ، وقَبضُ ثَمنه.
والعامِلُ أَمينٌ، يُصَدَّقُ بيمينِه في قَدرِ رأسِ المَالِ،
الدنانيرِ، أو عكسِه (فعلى العاملِ بيعُه، وقبضُ ثمنِه) لأنَّ عليه ردَّ المالِ ناضًّا كما أخذَه، وسواءٌ كان فيه ربحٌ أو لا.
فإنْ نضَّ له قدْرَ رأسِ المالِ، لزِمَه أنْ ينضَّ الباقي. ولو كان صِحاحًا، فنضَّ قُراضةً، أو مكسَّرةً، لزِمَ العاملَ ردُّه إلى الصحاحِ بطلبِ ربِّها، فيبيعُها بصحاحٍ، أو بعرضٍ، تمَّ يشتريها به.
كما يلزمُ العاملَ، بعدَ فسخِ المضاربةِ، تقاضيه - أي: مالِ المضاربةِ - لو كان دَيْنًا ممَّنْ هو عليه، سواءٌ ظهرَ ربحٌ أو لا؛ لاقتضاءِ المضاربةِ ردَّ رأسِ المالِ على صفتِه، والدَّيْنُ لا يجري مجرى الناضِّ، فلزِمَه أنْ ينضَّه كلَّه لا قدْرَ رأسِ المالِ فقط؛ لأنَّه لا يستحقُّ نصيبَه من الربحِ إلا عندَ وصولِه إليهما على وجهٍ يُمكنُ قِسْمَتُه، ولا يحصلُ ذلك إلا بعدَ تقاضيهِ.
وإنْ ماتَ عاملٌ، أو مودَعٌ، أو وصيٌّ، وجُهِلَ بقاءُ المالِ بيدِه، فهو دَيْنٌ في تركتِه.
قال الفهَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع"
(1)
: قلتُ: وقياسُه: ناظرُ وقفٍ، وعاملُه، إذا قبضَ للوقفِ شيئًا، وماتَ، وجُهِلَ بقاؤُه.
(والعاملُ أمين) لتصرُّفِه في المالِ بإذنِ ربِّه. ولا يضمنُ ما تَلِفَ بيدِه بلا تعدٍّ ولا تفريطٍ
(يُصدَّقُ بيمينِه) حيثُ لا بينةَ (في قدرِ رأسِ المالِ) لأنَّه منكرٌ لما يُدَّعى عليه زائدًا، والأصلُ عدمُه
(1)
"كشاف القناع"(8/ 523).
وفي الرِّبحِ وعَدَمِه، وفي الهَلاكِ، والخُسرَان، حتَّى ولو أقَرَّ بالرِّبح.
(و) كذا يُصدَّقُ العاملُ في دعواه (في) قدْرِ (الربحِ، و) في (عدمِه، و) في (الهلاكِ) سواءٌ تَلِفَ كلُّه أو بعضُه، لكنْ إن ادَّعى الهلاكَ بأمرٍ ظاهرٍ، كُلِّفَ البينةَ لتشهدَ له به، ثمَّ يحلفُ إنْ تلِفَ به (و) في قدرِ (الخسرانِ) إنْ لم تكنْ بيِّنةٌ؛ لأنَّ ذلك مُقتضى تأمينِه (حتى ولو أقرَّ) عاملٌ (بالرِّبحِ) أي: بأنَّه ربحَ، ثمَّ ادَّعى تلفًا أو خسارةً بعدَ الربحِ، قُبِلَ قولُه؛ لأنَّه أمينٌ.
ويُصدَّقُ فيما يذكرُ أنَّه اشتراه لنفسِه، أو للمضاربةِ.
ويُصدَّقُ بيمينِه في نفي ما يُدَّعى عليه من خيانةٍ أو تفريطٍ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُهما. وإذا شرطَ العاملُ النفقةَ، ثمَّ ادَّعى أنَّه أنفقَ من مالِه بنيةِ الرجوعِ، فلَهُ ذلك، سواءٌ كانَ المالُ بيدِه، أو رجعَ إلى ربِّه، كالوصيِّ إذا ادَّعى النفقةَ على اليتيمِ.
وإذا اشترى العاملُ شيئًا، وقال المالكُ: كنتُ نهيتُكَ عنه، وأنكرَ عاملٌ، فقولُه؛ لأنَّ الأصلَ معه.
وإذا ادَّعى عاملٌ بعدَ أنْ أقرَّ بربحٍ: أنَّه أقرَّ غلطًا، أو كاذبًا، أو نسيانًا، أنَّه لا يُقبلُ منه.
والقولُ قولُ ربِّ المالِ في عدمِ ردِّه إليه.
ويُقبلُ قولُ المالكِ في صفةِ خروجِ المالِ
(1)
عن يدِه؛ بأنْ
(2)
قال المالكُ: أعطيتُكَ ألفًا قِراضًا على النصفِ من ربحِه، وقال العاملُ: بل قِراضًا ليسَ لك شيءٌ من ربحِه. فالقولُ قولُ ربِّ المالِ؛ لأنَّ الأصلَ بقاءُ مِلكِه عليه. فإذا حلفَ، قسمنا
(1)
في الأصل: "المالك".
(2)
في الأصل: "فإن".
ويُقبَلُ قَولُ المَالِك في قَدرِ ما شَرَطَ للعَامِلِ.
الربحَ بينهما. وفيه وجهٌ: يتحالفانِ
وإنْ خسرَ المالَ أو تلِفَ، فقالَ ربُّ المالِ: كان قَرضًا
(1)
. وقال العاملُ: كان قِراضًا، أو بضاعةً. فالقولُ قولُ ربِّ المالِ؛ لأنَّ الأصلَ في القابضِ لمالِ غيرِه الضمانُ.
فلو أقامَا بيِّنتينِ، قُدِّمتْ بينةُ عاملٍ؛ لأنَّ معها زيادةَ علمٍ.
قال في "المغني"
(2)
: وإنْ قالَ ربُّ المالِ: كان بضاعةً. وقال العاملُ: كان قراضًا. احتملَ أنْ يكونَ القولُ قولَ العاملِ؛ لأنَّه
(3)
عمِلَه له، فيكونُ القولُ قولُه فيه. ويحتملُ أنْ يتحالفَا، ويكونُ للعامل
(4)
أقلُّ الأمرينِ من نصيبِه من الربحِ، أو أجر مثله؛ لأنَّه لا يدَّعي أكثرَ من نصيبِه من الربح، فلا يستحقُّ زيادةً عليه. وإنْ كانَ الأقلُّ أجرَ مثلِه، فلم يثبتْ كونُه قِراضًا، فيكونُ له أجرُ عملِه.
وإنْ قالَ ربُّ المالِ: كانَ بضاعةً. وقال العاملُ: كانَ قِراضًا، حلفَ كلٌّ منهما على إنكَارِ ما ادَّعاه خَصْمُه، وكانَ له أجرُ عملِه، لا غيرُ. انتهى.
(ويُقبلُ قولُ المالكِ) بعدَ ربحٍ مالٍ مضاربةٍ (في قدْرِ ما شَرَطَ للعاملِ) من الربحِ، كما لو قالَ عاملٌ: شرطتَ لي النصفَ. وقال المالكُ: بل الثلثَ. فقولُ مالكٍ. نصًّا؛ لأنَّه منكرٌ للسدسِ الزائدِ، ومنكرٌ اشتراطَه له. فإنْ أقامَا بيِّنتينِ، قُدِّمتْ بيِّنةُ العاملِ.
(1)
في الأصل: "قراضًا".
(2)
"المغني"(7/ 187).
(3)
في الأصل: "لأن".
(4)
سقطت: "للعامل".
فَصْلٌ
الثَّالِثُ: شَرِكَةُ الوُجُوه.
وهي: أن يَشترِكَ اثنان لا مالَ لهُما في رِبحِ ما يَشتَرِيانِ من النَّاسِ في ذِمَمِهِمَا، ويكونَ المِلكُ والرِّبحُ كَمَا شَرَطَا،
(فصلٌ)
(الثالثُ) من الخمسةِ أنواعٍ: (شركةُ الوجُوهِ) سمِّيتْ بذلك؛ لأنَّهما يُعامِلانِ فيها بوجههِما. والجاهُ والوجهُ واحدٌ. يُقالُ: فلانٌ وجيهٌ، إذا كان ذا جاهٍ.
وهي جائزةٌ؛ إذ معناها: وكالةُ كلِّ واحدٍ منهما صاحبَه في الشراءِ والبيعِ، والكفالةِ بالثمنِ. وكلُّ ذلك صحيحًا؛ لاشتمالِها على مصلحةٍ من غيرِ مفسدةٍ.
(وهي: أنْ يشتركَ اثنانِ لا مالَ لهما في ربحِ ما يشتريانِ من الناسِ في ذممهما) أي: بوجوهِهما، وثقةِ التجارِ بهما
(ويكونُ المِلكُ) فيما يَشتَريانِه بجاهِهما، بينهما سويَّةً، أو أثلاثًا، كما شرطاه عندَ العقدِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"المؤمنونَ على شروطِهم"
(1)
. ولأنَّها مبنيةٌ على الوكالةِ، فتتقيدُ بما وقعَ الإذنُ والقبولُ فيه.
(والرِّبحُ) فيها بينهما (كما شرَطَا) من تساوٍ وتفاضلٍ؛ لأنَّ أحدَهما قدْ يكونُ أوثقَ عندَ التجارِ من الآخرِ. فيجوزُ له أنْ يشترطَ زيادةً في الربحِ في مقابلةِ أوثقيتِه، وزيادةِ إبصارِه بالتجارةِ. ولأنَّها منعقدةُ على عملٍ وغيرِه، فكانَ ربحُها على ما
(2)
(1)
تقدم تخريجه (2/ 236).
(2)
سقطت: "ما" من الأصل.
والخَسَارةُ عَلَى قَدْرِ المِلك.
الرَّابعُ: شَرِكةُ الأبدَانِ
.
وهي: أن يشتَرِكَا فيما يَتَملَّكَانِ بأبدانِهما مِن المُباح، كالاحِتشَاشِ، والاحتِطَابِ والاصطِيادِ، أو يشتَرِكَا فيما يتَقبَّلانِ في ذِمَمِهِما مِنَ العَمَلِ.
شرَطا، كشركةِ العِنانِ.
(والخَسَارةُ) بتلفٍ، أو بيعٍ بنقصانٍ عمَّا اشترى به، فهو (على قدرِ المِلكِ) أي: على قدرِ ملكيهما في المشتَرَى. فعلى مَنْ يملِكُ فيه الثلثين: ثُلُثَا الخسارةِ. وعلى مَن يملكُ فيه الثلثَ: ثلثُ الخسارةِ. ونحو ذلك. سواءٌ كان الرِّبحُ بينهما كذلك، أو لمْ يكنْ؛ لأنَّ الخَسارةَ نقصُ رأسِ المالِ، وهو مختصٌّ بملَّاكِه، فيوزَّعُ بينهما على قدرِ حصصِهما.
وشركةُ الوجوه في التصرُّفِ، من بيعٍ، وشراءٍ، وخصومةٍ، وإقرارٍ، ونحوِ ذلك، كشركةٍ عِنانٍ، فيما يجبُ لهما وعليهما.
(الرابعُ) من الخمسةِ أنواعٍ: (شركةُ الأبدانِ) أي: شركةٌ بالأبدانِ، فحُذِفتِ الباءُ، ثمَّ أضيفتْ؛ لأنَّهم بذلوا أبدانَهم في الأعمالِ لتحصيلِ المكاسبِ.
(وهي) نوعانِ:
أحدُهما: (أنْ يشترِكَا) أي: اثنانِ فأكثرُ (فيما يتملَّكَانِ بأبدانِهما من) العمل (المباحِ، كالاحتِشَاشِ، والاحتطابِ، و الاصطيادِ) وتلصُّصٍ على دارِ حربٍ ونحوِ ذلك من سائرِ المباحاتِ
(أو يشتركا فيما يتقبَّلانِ في ذِمَمِهما من العملِ) كحدادةٍ، وقِصارةٍ، وخياطةٍ.
ولو قالَ أحدُهما: أنا أتقبلُ، وأنتَ تعملُ، والأجرةُ بيننا، صحَّ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما يتقبَّلُه أحدُهما من العملِ يصير في ضمانِهما يُطالَبانِ به، ويلزمُهما عملُه. ولكلٍّ طلبُ أجرةٍ.
وما تلفَ من أجرةٍ بيدِ أحدِهما بلا تفريطٍ، عليهما. وإقرارٌ بما في يدِه، يُقبلُ عليهما، بخلافِ إقرارِه بما في يدِ شريكهِ، أو بدَيْنٍ عليه، فلا يُقبلُ إقرارُه
ولا يُشترطُ لصحَّتِها اتفاقُ صنعةٍ. فلو اشتركَ حدادٌ ونجارٌ، أو خياطٌ وقصارٌ، فيما يتقبَّلانِ في ذِمَمِهما من عملٍ، صحَّ؛ لاشتراكِهما في كسبِ مباحٍ، أشبَه ما لو اتفقتِ الصنائعُ.
ولا يُشترطُ لصحَّةِ الشركةِ معرفةُ الصنعةِ لواحدٍ منهما. فلو اشتركَ شخصانِ لا يعرفانِ الخياطةَ، ويدفعانِ ما تقبَّلاهُ لمَنْ يعملُه - بدونِ أجرةِ ما تقبَّلاهُ به - والباقي لهما، صحَّ. ويلزمُ غيرَ عارفٍ إقامةُ عارفٍ للصنعةِ مُقامَه في العملِ؛ ليعملَ ما لزِمَه للمستأجر.
وإن مرضَ أحدُهما، أو تركَ العملَ لعذرٍ كانَ أو لا، فالكسبُ بينهما على ما شرَطَا.
فإنْ طلبَ الشريكُ ممَّنْ تركَ العملَ لعذرٍ أنْ يُقيمَ مُقامَه مَن يعملُ، ألزمَ به؛ ليفيَ بمقتضى العقدِ، وللآخرِ الفسخُ إنِ امتنعَ، أو لم يمتنعْ.
وإنْ اشترَكَا على أنْ يحملا على دابَّتيْهِما، والأجرةُ بينهما، صحَّ. وإنْ أجرَّهما بأعيانِهما، فلكلٍّ أجرةُ دابَّتِه.
ويصحُّ دفعُ دابَّتِه ونحوِها لمَن يعملُ عليها، وما رزقَه اللهُ بينهما على ما شرَطَا
(1)
.
(1)
انظر "الروض المربع"(5/ 271).
الخَامِسُ: شَرِكة المُفَاوَضَة
.
وهي: أن يُفوِّضَ كُلٌّ إلى صَاحِبِه شِراءً وبَيعًا في الذِّمَّةِ، ومُضَارَبَةً، وتَوكِيلًا، ومُسَافَرةً بالمَالِ، وارتِهَانًا.
(الخامسُ) مِن الخمسِة أنواعٍ: (شركةُ المفاوَضَةِ) وهي مُفاعَلَةٌ، يُقالُ: فاوضَه مفاوضَةً، أي: جازَاه. وتفاوضوا في الأمرِ، أي: فاوض بعضُهم بعضًا.
والمفاوضةُ لغةً: الاشتراكُ في كلِّ شيءٍ، كالتفاوضِ.
وشرْعًا: قسمانِ:
صحيحٌ: (وهي: أنْ يُفوِّضَ كلٌّ إلى صاحبِه شراءً، وبيعًا في الذِّمَّةِ، ومضاربةً، وتوكيلًا، ومسافرةً بالمالِ، وارتهانًا) وضمانَ - وهو تقبُّلُ - ما يرَى مِن الأعمالِ، كخياطةٍ وحدادةٍ. فهي صحيحةٌ، وهي: الجمعُ بين عِنانٍ ومضاربةٍ، ووجوهٍ وأبدانٍ.
القسمُ الثاني: فاسدٌ، وهو: أن يُدخلا في الشركةِ كسبًا نادرًا، كوِجدَانِ لُقطةٍ، أو ركازٍ، أو يُدخِلا فيها ما يحصلُ لهما من ميراثٍ، أو يُدخلا فيها ما يلزمُ أحدَهما من ضمانِ غصبٍ، أو أرشِ جنايةٍ، أو ضمانِ عاريةٍ، ولزومِ مهرٍ بوطءٍ؛ لأنَّه عقدٌ لم يردِ الشرعُ بمثلِه، ولما فيه من كثرةِ الغرَرِ.
ولكلٍّ من الشريكينِ في هذا القسمِ ما يستفيدُه، وله ربحُ مالِه، وله أجرةُ عملِه؛ لفسادِ الشركةِ.
ويختصُّ كلٌّ منهما بضمانِ ما غصبَه، أو جنَاهُ، أو ضمِنَه عن الغيرِ؛ لأنَّ لكلِّ نفسٍ ما كسبتْ
(1)
وعليها ما اكتسَبَتْ.
(1)
في الأصل: "اكتسبت". وانظر "دقائق أولي النهى"(3/ 599)
ويَصِحُّ دَفعُ دابَّةٍ أو عَبدٍ لمن يَعملُ به بِجُزءٍ مِنْ أُجرَتِه، ومِثلُه خِياطَةُ ثَوبٍ، ونَسجُ غَزلٍ، وحَصَادُ زَرعٍ، ورَضَاعُ قِنٍّ، واستيفاءُ مالٍ بجُزءٍ مُشَاعٍ مِنه، وبيعُ مَتاعٍ بجُزءٍ مِنْ رِبحِه.
ويصحُّ دفعُ دابَّةٍ، أو نَحْلٍ، أو نحوِهِما، لِمَن يقومُ بِهمَا مدَّةً معلُومَةً بجُزءٍ مِنهما، والنَّماءُ مِلكٌ لهما،
(ويصحُّ دفعُ دابَّةٍ أو عبدٍ) أو قِربَةٍ، أو قِدْرٍ، أو آلَةِ حَرثٍ، أو نَورَجٍ
(1)
، أو مِنجَلٍ (لمَن يعملُ به بجزءٍ من أجرتِه) كنصفٍ، أو ربعٍ، أو خمسٍ، أو ثلثٍ، أو سدسٍ، ونحوِه
(ومثلُه) أي: مثلُ الدابَّةِ أو العبدِ: (خياطةُ ثوبٍ، ونسجُ غزلٍ، وحصادُ زرعٍ، ورضاعُ قنٍّ، واستيفاءُ مالٍ) ممَّن هو في جهتِه، وبنَاءُ دارٍ، أو طاحونٍ، ونَجْرُ بابٍ، وطحنُ نحوِ برٍّ
(2)
(بجزءٍ مشاعٍ منه) أي: ممَّا ذُكِرَ
(و) مثلُه أيضًا: (بيعُ متاعٍ بجزءٍ من ربحِه) أي: ربحِ المتاعِ.
(ويصحُّ دفعُ دابَّةٍ، أو نحلٍ، أو نحوِهما) كعبدٍ وأمَةٍ (لمَن يقومُ بهما مدَّةً معلومةً) كسنةٍ ونحوِها (بجزءٍ منهما) كرُبعِهما، أو خمسِهما، (والنماءُ) المتحصِّلُ من ذلك، من نتاجٍ، أو صوفٍ، أو وبُرٍّ، أو لبنٍ، أو عسلٍ، أو شمعٍ ونحوِه
(3)
(مِلكٌ لهما) أي: لربِّ ذلك، ولمَن يقومُ بالخدمةِ بقدرِ ملكيهما على ما اتفقا عليه.
(1)
النَّورَجُ: حديدَةُ المحراث، وآلةٌ يجرُّها ثَورَان أو نحوُهُما تُداسُ بها أعوادُ القَمحِ المحصودِ ونحوه؛ لفصل الحبِّ من السَّنابِل. "المعجم الوسيط":(نورج).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 250).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 251).
لا إن كان بجُزءٍ من النَّماءِ، كالدَّرِّ، والنَّسلِ، والصُّوفِ، والعَسَل، وللعَامِلِ أجرةُ مِثلِه.
و (لا) يصحُّ (إنْ كان) دفعَ دابَّةً، أو نحلًا ونحوَهما لمَن يقومُ بهما (بجزءٍ من النماءِ، كالدَّرِّ، والنسل
(1)
، والصُّوفِ، والعَسَلِ) والمسكِ، والزَّبَادِ؛ لحصولِ نمائِه بغيرِ عملٍ من العاملِ
(وللعاملِ) حيثُ عملَ على شرطِ أن يكونُ له جزءٌ من النَّماءِ (أجرَةُ
(2)
مثلِه) لفسادِ العقدِ.
* * *
(1)
سقطت: "والنسل" من الأصل.
(2)
في الأصل: "أجر".
بَابُ المُسَاقَاةِ
وهي: دَفعُ شَجَرٍ لِمَن يقومُ بمصَالِحِه بجُزءٍ من ثَمرِهِ.
بشَرطِ: كونِ الشَّجرِ معلُومًا، وأن يكُونَ له ثَمَرٌ يُؤكَلُ،
(بابُ المُساقاةِ)
مفاعلةٌ من السقي؛ لكونِه كان أهمَّ أمرِها؛ لأنَّ النخلَ كانتْ تُسقَى بالحجازِ نضحًا من الآبارِ، فتكثرُ مشقَّتُه، فأُخذتِ المفاعلةُ منه.
(وهي) شرعًا: (دفعُ شجرٍ) مغروسٍ معلومٍ للمالكِ والعاملِ، برؤيةٍ أو وصفٍ
(1)
. فلو ساقَاه على بستانٍ غيرِ معيَّنٍ ولا موصوفٍ، أو على أحدِ هذين الحائطينِ، لم يصحَّ؛ لأنَّها معاوضةٌ يختلفُ الغرضُ فيها باختلافِ الأعيانِ، فلمْ تجزْ على غيرِ معلومٍ، كالبيعِ
(لمَن يقومُ بمصالحِه) أي: مصالحِ الشجرِ من سقيٍ وغيرِه (بجزءٍ من ثمرهِ): الشجرِ الذي وقعَ عليه المُسَاقاةُ
(بشرطٍ: كونِ الشجرِ معلومًا) للمالكِ والعاملِ برؤيةٍ أو وصفٍ
(و) بشرطِ: (أنْ يكونَ) الشجرُ (له ثمرٌ يُؤكَلُ) وإنْ لمْ يكنْ نخلاً، ولا كرْمًا؛ لحديثِ ابنِ عمرَ قالَ: عاملَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبرَ بشطرِ ما يخرجُ منها مِن ثمرٍ، أو زرعٍ. متفقٌ عليه
(2)
.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يصحُ على قطنٍ، ومَقَاثي، وما لا ساقَ له، وعلى ما لا ثمرَ له
(1)
في الأصل: "أوصف"
(2)
أخرجه البخاري (2328)، ومسلم (1551).
وأن يُشرَطَ للعامِل جُزءٌ مُشاعٌ مَعلُومٌ من ثَمَرِه.
مأكولٌ، كسَرْوٍ، وصَفْصافٍ، ولو كان له زَهْرٌ مقصودٌ، كنَرجِسٍ، وياسمينٍ، ولا إنْ جَعَلَ للعاملِ كلَّ الثمرةِ.
فعلى المذهبِ: لا تصحُّ مساقاتُه؛ لأنَّه ليسَ منصوصًا عليه، ولا في معنى المنصوصِ، ولأنَّ المُسَاقَاةَ إنَّما تكونُ بجزءٍ مِن الثمرةِ، وهذا لا ثمرةَ له.
وقالَ الشارحُ والموفَّقُ: تصحُّ المساقاةَ على ما له ورَقٌ يُقصدُ، كتوتٍ، أو ما له زَهْرٌ، كوردٍ ونحوِه. فأُجريَ الورقُ والزَهْرُ مجرى الثمرِ.
قالَ في "الإقناع": وعلى قياسِه: شجرٌ له خشبٌ يُقصدُ، كحَوَرٍ وصَفصَافٍ
(1)
.
ولا يصحُّ إنْ جَعَلَ للعاملِ جُزءًا مبهمًا، كسهمٍ، ولم يُعيِّنْه. وأمَّا لو عيَّنَه، كما لو قالَ: سهمٌ من مائةٍ ونحوِها، جازَ.
ولا يصحُّ إنْ جَعَلَ له دراهمَ معيَّنةً أو غيرَ معيَّنةٍ، ولا ثمرةَ شجرةٍ بعينِها فأكثرَ. وإنْ كانَ في البستانِ أجناسٌ، وجعلَ له مِن كلِّ جنسٍ جزءًا مُشاعًا معلومًا، كنصفِ البلحِ، وثلثِ العنبِ، وربعِ الرمَّانِ، وهكذا، جازَ. أو ساقاه على بستانٍ واحدٍ ثلاثَ سنينَ، السنةُ الأولى بالنصفِ، والثانيةُ بالثلثِ، والثالثةُ بالربعِ، ونحوِه، جازَ.
وتصحُّ المساقاةُ على البعلِ مِن الشجرِ، كالذي يحتاجُ للسَّقي، وهو الذي يشربُ بعروقِه
(2)
.
(و) بشرطِ (أنْ يُشرطَ للعاملِ جزءٌ مشاعٌ معلومٌ مِن ثمرِه) أي: مِن ثمرِ الشجرِ
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 8).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 253).
والمُزارَعَةُ:
دَفعُ الأرضِ والحَبِّ لِمَن يزرَعُه، ويَقومُ بمصَاْلِحه.
بشَرْطِ: كَونِ البَذرِ مَعلُومًا جِنسُهُ وقَدرُهُ، ولو لم يُؤكَل، وكَونِه مِن رَبِّ الأَرضِ، وأن يُشرَطَ للعَامِل جزءٌ مُشاعٌ مَعلومٌ مِنه.
ويصِحُّ كَونُ الأَرضِ، والبَذرِ، والبَقَرِ مِن واحِدٍ، والعَمَلِ من آخَرَ.
النامي بعملِه المتكررِ كلَّ عامٍ
(1)
، كالنَّخلِ، والكَرْمِ، والرمَّانِ، والجَوْزِ، واللَّوْزِ، والزيتونِ. فلا تصحُّ على ما يتكرَّرُ حملُه في عامٍ واحدٍ، كالقطنِ والمقاثي ونحوِ ذلك.
(والمزارعةُ): مشتقَّةٌ من الزَّرعِ، وتُسمَّى مخابرةً، من الخَبَارِ - بفتح الخاءِ - وهي: الأرض الَّليِّنةُ، ومُؤاكَرَةً. والعاملُ فيها: خبيرٌ ومؤاكِرٌ.
هي: (دفعُ الأرضِ، و) دفعُ (الحبِّ لمَن يزرعُه، ويقومُ بمصالحِه)
لكن (بشرط
(2)
: كونُ البذرِ معلومًا جنسُه) كحبٍّ بَحيريٍّ، أو صعيديٍّ، ونحوِهما.
(و) بشرطِ: كونِ البذرِ معلومًا (قدْرُه، ولو لم يُؤكلْ)
(و) بشرطِ: (كونِه) أي: الحبِّ (من ربِّ الأرضِ)
(و) بشرطِ: (أنْ يُشرَطَ للعاملِ جزءٌ مُشاعٌ معلومٌ) كثلثٍ، أو ربعٍ، أو ثمنٍ، ونحوِه (منه) أي: من المزروعِ.
(ويصحُّ كونُ الأرضِ، والبذرِ) أي: الحبِّ (والبقرِ) لأجلِ الحرثِ والسقي ونحوِه (من واحدٍ، والعملِ من آخرَ).
(1)
في الأصل: "عامِه".
(2)
في الأصل: "يُشترطُ".
فإن فُقِدَ شَرطٌ، فالمُساقَاةُ والمُزارعَةُ فاسِدةٌ، والثَّمرُ والزَّرعُ لربِّه، وللعَامِل أَجرُ مِثلِه. ولا شَيءَ لَه إن فَسَخَ، أو هَرَبَ قبلَ ظُهُورِ الثَّمرَةِ. وإن فَسَخَ بعدَ ظُهورِهَا، فالثَّمرَةُ بينَهُما على ما شَرَطا، وعلَى العَامِل تَمَامُ العَمَلِ ممَّا فيه نُموٌّ، أو صَلاحٌ للثَّمر.
(فإنْ فُقدَ شرطٌ، فالمساقاةُ والمزارعةُ فاسدةٌ)
(1)
فإذا فسدتِ المساقاةُ والمزارعةُ، (فالثمرُ) في المساقاةِ (والزرعُ) في المزارعةِ (لربِّه) أي: ربِّ الشجرِ والبذرِ؛ لأنَّه عَينُ مالِه، يَنقلِبُ من حالٍ إلى حالٍ، (وللعاملِ أجرُ مثلِه) أي: أجرةٌ مثلِه، (ولا شيءَ له) أي: للعامل من الثمرِ في المساقاةِ، ومن الزرعِ في المزارعةِ (إنْ فسخَ) العاملُ (أو هربَ قبلَ ظهورِ الثمرةِ) لأنَّه قدْ رضيَ بإسقاطِ حقِّه.
(وإنْ فسخَ) العاملُ (بعدَ ظهورِها) أي: ظهورِ الثمرةِ (فالثمرةُ بينهما على ما شرطا) هـ عندَ العقدِ (وعلى العاملِ تمامُ
(2)
العملِ) في المساقاةِ والمزارعةِ (ممَّا فيه نموٌّ أو صلاحٌ
(3)
للثمر) ةِ، من السقي، والحرثِ، وآلتِه، وبَقَرِه، وزِبارٍ - بكسر الزاي، وهو: تخفيفُ الكرْمِ وغيرِه من الأغصانِ، وقطعُ ما يحتاجُ إلى قطعِه من الأغصانِ الرديئةِ - وإصلاحِ الحُفَرِ التي يجتَمعُ فيها الماءُ على أصولِ الشجرِ، وإدارةِ الدُّولابِ، والتلقيحِ - وهو: جعلُ طلعِ الفحَّالِ في طلعِ الثمرةِ - والتشميسِ، وإصلاحِ طُرقِ الماءِ، وقطعِ الحشيشِ المضرِّ والشوكِ، وتفريقِ زِبْلٍ وسِباخٍ، ونقلِ ثمرٍ وزرعٍ ونحوِه، وحصادٍ، ولُقَاطِ قِثاءٍ ونحوِه، وتصفيةِ زرعٍ، وتجفيفِ ثمرةٍ وزرعٍ، وقطعِهما.
(1)
سقطت: "فالمساقاةُ والمزارعةُ فاسدةٌ" من الأصل.
(2)
في الأصل: "إتمام".
(3)
في الأصل: "وصلاح".
والجَذاذُ علَيهِمَا بقَدرِ حِصَّتَيهِما، ويتَّبِعَان العُرفَ في الكُلَفِ السُّلطَانِيَّةِ، ما لَم يكُنْ شَرْطٌ، فَيُتَّبَعُ.
وإنْ فسخَ ربُّ المالِ المساقاةَ قبلَ ظهورِ الثمرةِ والزرعِ وبعدَ شروعِ العاملِ في العملِ، فعليه للعاملِ أجرةُ مثلِه.
وعلى ربِّ أصلٍ حفظُ ما يحفظُ، كسدِّ حائطٍ، وإجراء نهرٍ، وحفرِ بئرٍ، وثمنِ دولابٍ، وما يديرُه من بهائمَ، وشراءِ ماءٍ، وشراءِ ما يلقحُ به من طلعٍ، وتحصيلِ زبلٍ وسباخٍ؛ لأنَّ هذا كلَّه ليس من العملِ، فهو على ربِّ المالِ
(1)
.
(والجَذاذُ) أي: قطعُ الثمرِ (عليهما) أي: على ربِّ المالِ والعاملِ (بقدرِ حِصَّتَيْهِما) نصًّا.
(ويتَّبِعان) أي: ربُّ المالِ والعاملُ (العُرْفَ) وهو: ما تعارفَهُ الناسُ بينهم (في الكُلَفِ السُّلطَانيَّةِ) أي: التي يطلبُها السلطانُ (ما لمْ يكنْ شرطٌ) فيعملُ به. فما عُرِفَ أخذُه من ربِّ المالِ، فهو عليه، وما عُرفَ من العاملِ، فعليه، وما طُلبَ من قريةٍ من وظائفَ سلطانيةٍ ونحوِها، فعلى قدرِ الأموالِ، وإن وُضعتْ على الزرعِ، فعلى ربِّه، وعلى العقارِ، فعلى ربِّه ما لم يشترطْه على مستأجرٍ. وإنْ وضعَ مطلقًا، فالعادةُ. قالَهُ الشيخُ تقيُّ الدينِ.
والخراجُ على ربِّ المالِ؛ لأنَّه على رقبةِ الأرضِ، أثمرتِ الشجرُ، أو لم تُثمرْ؛ ولأنَّه أجرةُ الأرضِ، فكان على مَن هي في ملكِه
(2)
.
(فيُتَّبعُ) الشرطُ، ويعملُ به حسبما اتفقا عليه.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 256).
(2)
"دقائق أولي النهى"(3/ 609).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يجوزُ لربِّ الأرضِ أنْ يشرِطَ على الفلاحِ شيئًا مأكولًا ولا غيرَه من دجاجٍ، ولا غيرِها التي يسمُّونها: خدمةً، وتُسمَّى الآن: ضيافةً، ولا أخذُه بشرطٍ، ولا غيرِه.
"فائدةٌ": إذا جاءتْ أمطارٌ، أو فاضتْ أنهارٌ أو عيونٌ، فاضتْ عن سقي العاملِ، لم تنقُصْ بذلك نصيبَه.
"فرعٌ": لو أجرَ إنسانٌ أرضَه سنةً لمَن يزرعُها، فزرعَها، فلم ينبتِ الزرعُ تلك السنةَ، ثمَّ نبتَ في السنةِ الأخرى، فهو للمستأجرِ، وعليه الأجرةُ لربِّ الأرضِ مدةَ احتباسِها، فيلزمُه المُسمَّى للسنةِ الأولى، وأجرةُ المثلِ للثانية، وليس لربِّ الأرضِ مطالبتُه بقلعِه قبلَ إدراكِه. قالَه في "الإقناع"
(1)
.
* * *
(1)
"الإقناع"(2/ 486).
بابُ الإجَارَةِ
وشُروطُها ثَلاثةٌ:
مَعرِفَةُ المَنفَعةِ، ومَعرِفَةُ الأُجرَةِ،
(بابُ الإجارةِ)
وهي لغةً: المجازاةُ، مشتقَّةٌ من الأجرِ، وهو العِوَضُ، ومنه سُمِّيَ الثوابُ أجرًا. يُقالُ: آجرَه الله على عملِه، أي: جازاه عليه.
وشرعًا: عقدٌ على منفعةٍ مباحةٍ معلومةٍ، من عينٍ معيَّنَةٍ، أو موصوفةٍ في الذِّمَّةِ، مدَّةً معلومةً، أو عملٍ معلومٍ، بعِوضٍ معلومٍ.
وتنعقدُ بلفظِ الإجارةِ، والكِراءِ وما في معناهما، وبلفظِ بيعٍ إن لم يضفْ للعينِ
(1)
.
(وشروطُها) أي: الإجارةِ (ثلاثةٌ):
أحدُها: (معرفةُ المنفعةِ) لأنَّها المعقودُ عليها، فاشتُرِطَ العلمُ بها، كالبيعِ. إما بعُرفٍ
(2)
، كسُكنى الدارِ شهرًا؛ لأنَّها لا تُكرَى إلا لذلك. فلا يَعملُ فيها حِدادَةً، ولا قِصارةً، ولا يُسكِنُها دابَّةً، ولا يجعلُها مخزنًا لطَعامٍ. ويَدخُلُ ماءُ بِئرٍ تَبَعًا. وله إسكانُ ضيفٍ.
(و) الثاني: (معرفةُ الأجرةِ) لأنَّه عِوَضٌ في عقدِ معاوضةٍ، فاعتُبِرَ علمُه، كالثمنِ؛ ولخبرِ:"مَنْ استأجرَ أجيرًا فلْيُعْلِمْه أجرَه"
(3)
.
(1)
انظر "الروض المربع"(5/ 293).
(2)
سقطت: "إما بعرف" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(4/ 8)، "الروض المربع"(5/ 295).
(3)
أخرجه أحمد (18/ 116)(11565) من حديث أبي سعيد الخدري. وضعفه الألباني =
وكَونُ النَّفعِ مُباحًا، يُستَوفَى دُونَ الأَجزَاء.
فتَصِحُّ إجارةُ كُلِّ ما أمكَنَ الانتفَاعُ به مَعَ بَقاءِ عَينهِ، إذا قُدِّرَتْ منفعتُه بالعَمَل، كرُكوبِ الدَّابة لِمَحَلٍّ مُعيَّنٍ، أو قُدِّرَت بالأَمَدِ وإن طَالَ، حيثُ كانَ يَغلِبُ على الظَّنِّ بقاءُ العَينِ.
(و) الشرطُ الثالثُ: (كونُ النفعِ مباحًا) مطلقًا، كإجارةِ دارٍ يجعلُها مسجدًا، أو شجرٍ لنشرِ ثيابٍ، أو قُعودٍ بِظلِّه.
قولُه: "مطلقًا". أي: مباحًا إباحةً مُطلَقةً لا تختصُّ بحالٍ دونَ حالٍ آخرَ. فخرجَ به: آنيةُ الفضَّةِ في حالِ الضَّرورةِ، وثيابُ الحريرِ، وغيرُ ذلك.
(يُستوفَى) مِن عينٍ مؤجَّرَةٍ (دونَ) استهلاكِ (الأجزاءِ) بخلافِ شمعٍ لشَعْلٍ، وصابونٍ لغَسْلٍ؛ لأنَّ الإجارةَ هي بيعُ المنافعِ، فلا تدخلُ الأجزاءُ فيها
(1)
.
(فتصحُّ إجارةُ كلِّ ما أمكنَ الانتفاعُ به مع بقاء عينِه) كالأرضِ، والدُّورِ، والبهائمِ، والثيابِ، ونحوِها (إذا قُدِّرتْ منفعتُه بالعملِ، كركوبِ الدَّابَّةِ لمحلٍّ معيَّنٍ) أو يحملُ عليها شيئًا معلومًا إلى محلٍّ معينٍ (أو قُدِّرتْ بالأمدِ) كهذِه الدَّارِ شهرًا. (وإنْ طالَ الأمدُ) لأنَّ المعتبرَ كونُ المستأجرِ يمكنُه استيفاءُ المنفعةِ منها غالبًا. قال في "الفروع": وظاهرُه: ولو ظُنَّ عدمُ العاقدِ، ولا فرقَ بين الوقفِ والمِلكِ، بل الوقفُ أَوْلى. قالَهُ في "الرعاية"
(2)
. (حيثُ كانَ يَغلِبُ على الظَّنِّ بقاءُ العَينِ) وأن لا يُظنَّ عدمُها فيه، بهدمٍ أو بموتٍ أو غيرِه، فإنْ ظُنَّ ذلك كإجارَةِ دارٍ مائتي سنةٍ، أو عَبدٍ مائةَ سنةٍ، لم يصحَّ في المدَّةِ كلِّها.
= في "الإرواء"(1490).
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 260).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 36)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 261).
فَصْلٌ
والإجَارةُ ضَربَان:
الأوَّلُ: على عَينٍ.
فإن كانَت مَوصُوفةً اشتُرِطَ فيها: استِقصَاءُ صِفَاتِ السَّلم، وكَيفيَّةُ السَّيرِ مِنْ هِملاجٍ وغَيرِه، لا الذُّكوَرةِ
(فصلٌ)
(والإجارةُ ضربانِ):
الضربُ (الأوَّلُ): أنْ تقعَ (على) منفعةِ (عينٍ) ثمَّ العينُ إمَّا معيَّنةٌ، أو موصوفةٌ في الذمَّةِ، ولكلٍّ منهما شروطٌ.
وبدأَ بشروطِ الموصوفةِ، لقلَّةِ الكلامِ عليها، فقالَ:(فإنْ كانتْ موصوفةً) أي: في الذمَّةِ (اشتُرِطَ فيها) أي: في الموصوفةِ في الذمَّةِ:
(استقصاءُ صفاتِ السَّلَمِ) لاختلافِ الأغراضِ باختلافِ الصفاتِ. فإنْ لمْ توصفْ بما يضبطُها، أدَّى إلى التنازعِ. فإذا استُقْصِيتْ صفاتُ السَّلَمِ، كان أقطعَ للنزاعِ، وأبعَدَ من الغَرَرِ.
(وكيفيَّةُ السيرِ من هِملاجٍ) بكسرِ الهاءِ، وهي التي تمشي الهَملَجَةَ
(1)
، وهي: مِشيةٌ معروفةٌ، فارسيٌّ معرَّبٌ. (وغيرِه) لاختلافِ الغرضِ باختلافِه.
و (لا) يُشترطُ ذكرُ (الذكورةِ والأنوثةِ)
(1)
في الأصل: "الهملاجة".
والأُنوثَةِ والنَّوعِ.
وإن كانَت مُعيَّنةً، اشتُرِطَ: معرِفتُها، والقُدرةُ على تَسلِيمِها،
(و) لا يُشترطُ ذكرُ (النوعِ) أي: في المركوبِ، كعربيٍّ أو بِرذونٍ في الفرسِ، ولا بَخَتيٍّ أو عِرابٍ من إبلٍ؛ لأنَّ تفاوتَه يسيرٌ.
ويُشترطُ أيضًا ذكرُ توابعِ الراكبِ العُرفيَّةِ، كزادٍ وأثاثٍ
(1)
.
(وإنْ كانت مُعيَّنةً) أي: العينُ المؤجرةُ للعاقدين برؤيةٍ أو صفةٍ (اشتُرِطَ) لها خمسةُ شروطٍ:
الأوَّلُ: (معرفتُها) ممَّا لا يَصحُّ فيه السَّلَمُ. فلو استأجرَ حمَّامًا فلابدَّ من رؤيتِه؛ لأنَّ الغرضَ
(2)
يختلفُ بالصِّغرِ والكِبَرِ
(3)
، ومعرفةِ مائِه، ومشاهدةِ الإيوانِ
(4)
، ومَطرَحِ الرَّمادِ، ومَصرِفِ الماءِ. وكَرِه أحمدُ كِراءَ الحمَّامِ؛ لأنَّه يدخلُه
(5)
من تَنكشفُ
(6)
عورتُه فيه
(و) الشرطُ الثاني: (القدرةُ على تسليمِها) فلا تصحُّ إجارةُ العبدِ الآبقِ، والجملِ الشاردِ، والطيرِ في الهواءِ، ولا مغصوبٍ ممَّن
(7)
لا يَقدِرُ على أخذِه، ولا إجارةُ المشاعِ مُفرَدًا لغيرِ الشريك.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 262).
(2)
في الأصل: "العِوَضَ"، وانظر "الروض المربع"(5/ 305).
(3)
في الأصل: "بالصغير والكبير".
(4)
الإيوانُ: الصُّفَّةُ العظيمة. شِبْهُ أَزَجٍ. وهو أَعجمي. "لسان العرب"(أون).
(5)
في الأصل: "يدخلونه"، وانظر "الروض المربع"(5/ 306).
(6)
في الأصل: "تكشف".
(7)
في الأصل: "مما".
وكَونُ المؤجِّرِ يملِكُ نفعَهَا، وصحَّةُ بيعِها، سِوَى حُرٍّ ووقفٍ وأمِّ ولَدٍ، واشتمالُها على النَّفعِ المقصُودِ مِنها، فلا تَصِحُّ في زَمِنةٍ لحَمْلٍ، وسَبِخَةٍ لزَرعٍ.
الثَّانِي: على مَنفعَةٍ في الذِّمَّةِ.
فيُشتَرطُ: ضَبطُها بما لا يختَلِفُ،
(و) الشرطُ الثالثُ: (كونُ المؤجرِ يملكُ نفعَها) أي: نفعَ العينِ. بملكِ العينِ، أو استئجارِها، أو مأذونًا له بطريقِ الولايةِ، كحاكمٍ يؤجِّرُ مالَ نحوِ سفيهٍ أو غائبٍ، أو وقفٍ لا ناظرَ له، أو من قِبلِ شخصٍ معيَّنٍ، كناظرٍ خاصٍّ، ووكيلٍ في إجارةٍ؛ لأنَّها بيعُ منافعَ، فاشتُرِطَ فيها ذلك، كبيعِ الأعيانِ.
(و) الشرطُ الرابعُ: (صحةُ بيعِها) كعبدٍ، ودارٍ، وثوبٍ، ونحوِها، بخلافِ كلبٍ وخنزيرٍ، ونحوِهما
(سوى حرٍّ) وحرةٍ، (ووقفٍ، وأمِّ ولدٍ) فتصحُّ إجارتُها؛ لأنَّ منافَعها مملوكةٌ، ومنافعُ الحرِّ تُضمَنُ بالغصبِ، أشبهتْ منافعَ القنِّ
(1)
.
(و) الشرطُ الخامسُ: (اشتمالُها) أي: العينِ (على النفعِ المقصودِ منها، فلا تصحُّ في زَمِنَةٍ لحملٍ، و) لا أرضٍ (سبخَةٍ لزرعٍ) لأنَّه لا يمكنُ تسليمُ هذه المنفعةِ من هذه العينِ.
الضربُ (الثاني) من ضربي الإجارةِ: أن تكونَ (على منفعةٍ في الذمَّةِ)
(فيُشرَطُ) لها ثلاثةُ شروطٍ:
الأوَّلُ: (ضبطُها) أي: المنفعةِ (بما) أي: وصفٍ (لا يختلفُ) به العملُ،
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 263).
كَخِياطَةِ ثَوبٍ بصِفَةِ كَذَا، أو بِناءِ حَائِطٍ بذِكْرِ طُولِه وعَرضِه وسَمْكِه وآلَتِه، وأن لا يُجمَعَ بينَ تقدِيرِ المُدَّةِ والعَمَل، كـ: يَخيطُهُ في يَومٍ. وكَونُ العَمَلِ
(كخياطةِ ثوبٍ بصفةِ كذا) أي: صفةِ الخياطةِ (أو بناءِ حائطٍ بذكرِ
(1)
طولِه) أي: الحائطِ (و) بذكرِ (عرْضِه وسَمْكِهُ) بفتحِ السينِ، (وآلتِه) لاختلافِ الغرضِ، فيقولُ: مِن حجارةٍ، أو آجُرٍّ، أو لبِنٍ، و: بالطينِ، أو الجصِّ ونحوِه. فلو بناه ثمَّ سقطَ، فله الأجرةُ؛ لأنَّه وفَّىَ بالعملِ، إلا إنْ كان سقوطُه بتفريطِه، نحو أنْ بنَاهُ محلُولًا، فعليه إعادتُه، وغُرْمُ ما تلفَ به.
وإنِ استأجرَهُ لبناءِ أذرُعٍ معلومةٍ، فبنى بعضَها وسقطَ، فعليه إعادتُه وتمامُ الأذرعِ
(2)
؛ ليفيَ بالمعقودِ عليه.
وإنِ استأجرَهُ لضربِ لَبِنٍ، ذكرَ عددَه وقالبَهِ وموضِعَ الضربِ. ولا يَكتَفي بمشاهدةِ القالَبِ إنْ لم يكنْ معروفًا، كالسَّلَمِ
(3)
.
(و) الشرطُ الثاني: (أنْ لا يُجمعَ بين تقديرِ المدَّةِ والعملِ، كـ) قوله: استأجرتُك لـ (تخيطَه) أي: هذا الثوبَ (في يومٍ) لأنَّه قد يفرُعُ منه قبلَ انقضاءِ اليومِ. فإنِ استُعمِلَ في بقيِّتِه، فقدْ زادَ على المعقودِ
(4)
عليه، وإنْ لم يعملْ فقدْ تركَه في بعضِ زمنِه، فيكونُ غررًا يُمكنُ التحرُّزُ منه، ولم يوجدْ مثلُه في محلِّ الوفاقِ.
(و) الشرطُ الثالثُ: (كونُ العملِ) المعقودِ عليه
(1)
في الأصل: "يذكر".
(2)
في الأصل: "الأرزع"
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 265).
(4)
في الأصل: "المقصودِ".
لا يُشتَرطُ أن يكونَ فاعِلُه مُسلِمًا، فَلا تَصِحُّ الإجارَةُ لأذانٍ، وإقامَةٍ، وإمَامَةٍ، وتَعلِيمِ قُرَانٍ وفِقهٍ وحَديثٍ، ونيابَةٍ في حَجٍّ، وقَضَاءٍ. ولا يَقَعُ إلَّا قُربةً لفَاعِلِه، ويحرُم أخذُ الأجرَةِ عَليه،
(لا يُشترطُ أن يكونَ فاعلُه مسلمًا، فلا تصحُّ الإجارةُ لأذانٍ، وإقامةٍ، وإمامةٍ، وتعليمِ قرآنٍ، وفقهٍ، وحديثٍ، ونيابةٍ في حجٍّ، وقضاءٍ. ولا يقعُ إلا قُربةً لفاعلِه. ويحرُمُ أخذُ الأجرةِ عليه) لحديثِ عثمانَ بن أبي
(1)
العاصِ: إنَّ آخرَ ما عهدَ إليَّ
(2)
النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن اتَّخذْ مؤذِّنًا لا يأخذُ على أذانِه أجرًا
(3)
. قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. وعن عبادةَ بنِ الصامتِ قال: علَّمتُ ناسًا من أهلِ الصُفَّةِ القرآنَ والكتابةَ، فأهدَى إليَّ رجلٌ منهم قوسًا. قال: قلتُ: قوس، وليس بمالٍ. قال: قلتُ: أتقلَّدُها في سبيلِ اللهِ، فذكرتُ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقصصتُ عليه القصَّةَ. قال:"إنْ سرَّكَ أن يقلِّدَكَ اللهُ قوسًا من نارٍ، فاقبلْها"
(4)
. وعن أُبيِّ بنِ كعبٍ أنَّه علَّم رجلًا سورةً من القرآنِ، فأهدَى له خميصةً، أو ثوبًا، فذكرَ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:"إنَّكَ لو لبستَها، ألبسكَ اللهُ مكانَها ثوبًا من نارٍ"
(5)
. رواه الأثرمُ في "سننِه". ولأنَّ من شرطِ صحةِ هذه الأفعالِ كونُها قربةً إلى اللهِ، فلم يصحَّ أخذُ الأجرةِ عليها، كما لو استأجرَ إنسانًا يصلِّي خلفَه الجمعةَ، أو التراويحَ.
(1)
سقطت: "أبي" من الأصل.
(2)
سقطت: "إلي" من الأصل.
(3)
أخرجه الترمذي (209)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه أبو داود (3416)، وابن ماجه (2157)، وصححه الألباني.
(5)
أخرجه عبد بن حميد (175) بهذا اللفظ. وأخرجه ابن ماجه (2158) بلفظ: "قوسًا" بدل: "خميصةً، أو ثوبًا" صححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه".
وتَجوزُ الجَعَالَةُ.
(وتجوزُ الجَعَالةُ) على ذلك؛ لأنَّها أوسعُ من الإجارةِ، ولهذا جازتْ مع جهالةِ العملِ والمدةِ.
أو على رُقيةٍ
(1)
. كما يجوزُ الأخذُ في الكلِّ بلا شرطٍ، وأخذُ رِزقٍ على مُتعدٍّ نفعُه، كقضاءٍ، وإمامةٍ، وتدريسٍ، كالوقفِ على مَن يقومُ بهذه المصالحِ.
قال الشيخُ: ما يُؤخذُ من بيتِ المالِ فليس عِوَضًا وأجرةً، بل رِزقٌ للإعانةِ على الطاعةِ، فمَن عمِلَ منهم للهِ أُثيبَ.
وحَرُمَ أخذُ رزقٍ وجُعلٍ وأجرةٍ على قاصرٍ، كصومٍ، وصلاةٍ خلفَه، وعبادتُه لنفسِه
وصحَّ استئجارٌ لبناءِ نحوِ مسجدٍ وقنطرةٍ، ولذبحِ أضحيةٍ وهدي، وتفرقتِهما، وتفرقةِ صدقةٍ، وحلقِ شعرٍ وتقصيرِه، وختانٍ، وقطعِ شيءٍ من جسدٍ، ولحاجةٍ، ولتعليمِ نحوِ خطٍّ وحسابٍ، وشعرِ مباحٍ، فإنْ نسيَه في المجلسِ، أعادَ تعليمه، وإلا فلا، ولحجمٍ وفصدٍ.
وكُرِه لحُرٍّ أكلُ أجرهِ، ولو أخذَه بلا شرطٍ، تنزيهًا له، ويُطعمُه رقيقًا وبهائمَ. وكذا أجرةُ كَسحِ كنيفٍ، وكسبُ ماشطةٍ وحمَّاميّ. انتهى
(2)
.
* * *
(1)
أي: وتجوز الجعالة على رقية أيضًا.
(2)
"غاية المنتهى"(1/ 728).
فَصْلٌ
وللمستَأجِرِ استيفَاءُ النَّفع
بنَفسِه، وِبَمن يقومُ مَقَامَه، لكنْ بشَرطِ كونِهِ مِثلَهُ في الضَّررِ، أو دُونَه.
(فصلٌ)
(وللمستأجرِ استيفاءُ النفعِ) المعقودِ عليه (بنَفسِه، وبمَن يقومُ مَقَامَه، لكن بشَرطِ كونِه مثلَهُ في الضَّرِر، أو دُونَه) لا أكثرَ ضررًا منه؛ لأنَّه لا يستحقُّه. أو مخالِفٍ، كمَنْ استأجرَ لبناءٍ، فلا يغرسُ، وعكسُه. وكذا مَن استأجرَ فرسًا ليركبَها بسرجٍ، لم يجزْ عُريًا، وعكسُه.
ومَن أكترىَ أرضًا لزرعِ بُرٍّ، أو نوعٍ منه، فله زرعُ بُرٍّ وشعيرٍ وباقلَّاء؛ لأنَّه دونَه في الضررِ. ولا يجوزُ له زرعُ دُخنٍ وذُرةٍ وقطنٍ؛ لأنَّه أكثرُ ضررًا من البُرِّ. ولا غرسٌ، أو بناءٌ؛ لأنَّ ضررَهما أكثرُ من الزرعِ
(1)
.
وإنِ استأجرَ أرضًا لأحدِهما، لا يملكُ الأخرَ؛ لاختلافِ ضررِهما. فالغرسُ يضرُّ بباطنِ الأرضِ، والبناءُ يضرُّ بظاهرِها.
وإنِ اكترَاها لغرسٍ، له الزرعُ؛ لأنَّه أقلُّ ضررًا.
وإنِ اكترَاها للبناءِ، لم يكنْ له الزرعُ، وإنْ كانَ أخفَّ ضررًا؛ لأنَّه ليسَ من جنسِه. وفيه وجهٌ، وجزمَ به في "الإقناع"
(2)
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 267).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 45).
وعلى المُؤجِّر كلُّ ما جَرَت به العَادَةُ مِن آلةِ المَركُوبِ، والقَوْدِ والسَّوقِ، والشَّيلِ والحَطِّ، وتَرمِيمِ الدَّارِ بإصلاحِ المُنكَسِر وإقامَةِ المَائِل، وتَطييِنِ السَّطحِ، وتَنظيفِه من الثَّلجِ ونحوِه.
وعلى المُستَأجِرِ المَحْمِلُ
(وعلى المؤجرِ) مع إطلاقٍ (كلُّ ما جَرَتْ به العادةُ، من آلةِ المركوبِ) ليتمكَّنَ به من التصرُّفِ. (والقودِ والسَّوقِ) للدابَّةِ (والشَّيلِ والحطِّ) لمحمولٍ؛ لأنَّه العُرْفُ، وبه يتمكَّن المُكتري من الانتفاعِ.
وعلى مؤجرٍ تبريكُ بعيرٍ لامرأةٍ وشيخٍ ومريضٍ؛ لركوبٍ ونزولٍ. وكذا كلُّ مَن ضعُفَ عن الركوبِ والبعيرُ قائمٌ؛ لسِمَنٍ ونحوِه.
فإنْ أرادَ مكترٍ إتمامَ الصَّلاةِ، وطلبَه الجمَّالُ بقَصرِها، لم يلزمْه، بل تكونُ خفيفةً في تمامٍ.
(و) على مؤجرٍ ما يتمكَّنُ به مستأجرٌ من نفعٍ، كـ (ترميمِ الدارِ) المؤجرةِ (بإصلاحِ المنكسر
(1)
، وإقامةِ المائلِ) من حائطٍ، وسقفٍ، وبلاطٍ (وتطيينِ السَّطحِ، وتنظيفِه من الثلجِ ونحوِه) كإصلاحِ بركةِ دارٍ، وأحواضِ حمَّامٍ، ومجاري مياهِ، وسلاليمِ الأسطحةِ؛ لأنَّ بذلك وشبهِه يتمكَّنُ مستأجرٌ من النفعِ المعقودِ عليه
(2)
.
(و) يجبُ (على المستأجرِ) بمعنى أنَّه لا يلزمُ المؤجرَ، بل إنْ أرادهُ مكترٍ، فمن مالِه (المَحْمِلُ) قال في "القاموس": كمجلسٍ: شِقَّتانِ على البعيرِ، يُحملُ فيهما
(1)
في الأصل: "منكسر".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 268).
والمِظلَّةُ، وتَفرِيغُ البالُوعَةِ والكَنيفِ، وكَنسُ الدَّارِ مِنَ الزِّبْلِ ونَحوِه، إنْ حَصَلَ بفعلِه.
العديلانِ (والمِظلَّةُ) بالكسرِ والفتحِ: الكبيرُ من الأخبيةِ. قالَهُ في "القاموس"
(1)
.
(و) على مكتري دارٍ أو حمامٍ ونحوِه، (تفريغُ البالوعةِ والكنيفِ، وكنسُ الدارِ من الزِّبْلِ ونحوِه) كرمادٍ (إنْ حصلَ بفعلِه) أي: المستأجرِ، كما لو ألقَى فيها جِيفةً، أو ترابًا ونحوَه.
* * *
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 269).
فَصْلٌ
والإجَارةُ عَقدٌ لازِمٌ
، لا تَنفَسِخُ بمَوتِ المُتعاقِدَينِ، ولا بتَلَفِ المَحمُولِ، ولا بوَقفِ العَينِ المُؤجَّرةِ، ولا بانتقَالِ المِلكِ فيها بنحوِ هِبَةٍ وبيعٍ. ولمُشتَرٍ لم يَعلَمْ: الفَسْخُ، أو الإمضَاءُ والأُجرَةُ له.
(فصلٌ)
(والإجارةُ عقدٌ لازمٌ) من الطرفينِ، ليسَ لأحدِهما فسخُها بلا موجبٍ؛ لأنَّها عقدُ معاوضةٍ، كالبيعِ
(لا تنفسخُ بموتِ المتعاقدينِ) أو أحدِهما، مع سلامةِ المعقودِ عليه؛ للزومِها (ولا) تنفسخُ (بتلفِ المحمولِ) كما لو استأجرَ دابَّةً ليحملَ عليها هذا القنطارَ القطنَ، فتلف، لم تنفسخْ. وله أنْ يحملَها من أي قطنٍ كانَ
(1)
(ولا) تنفسخُ (بوقفِ العينِ المؤجرةِ)
(ولا) تنفسخُ (بانتقالِ المِلكِ فيها
(2)
بنحوِ هبةٍ وبيعٍ) أو إرثٍ، أو وصيةٍ، أو نكاحٍ، أو خُلْعٍ، أو طلاقٍ، أو صلحٍ، أو جُعالةٍ. (ولمشترٍ لم يعلمْ) بذلك:(الفسخُ، أو الإمضاءُ) للبيعِ مجانًا. أي: بلا أرشٍ.
وفي "الرعاية": الفسخُ، أو الأرشُ. قال أحمدُ: هو عيبٌ
(3)
. (والأجرةُ) من حينِ الشراءِ (له) نصًّا.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 270).
(2)
سقطت: "فيها" من الأصل.
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 270)، "دقائق أولي النهى"(4/ 62).
وتَنفَسِخُ بتَلَفِ العَينِ المُؤجَّرةِ المُعيَّنةِ، وبمَوتِ المُرتَضِعِ، وهَدمِ الدَّارِ.
واستُشكِلَ: بكونِ المنافعِ مدةَ الإجارةِ غيرُ مملوكةٍ للبائعِ، فلا تدخلُ في عقدِ البيع، فكيف يكونُ عوَضُها - وهو الأجرةُ - للمشتري؟.
وأُجيبَ: بأنَّ المالكَ يملكُ عوضَها، وهو الأجرةُ، ولم تستقرَّ بعدُ، ولو انفسخَ العقدُ لرجعتِ المنافعُ إلى البائعِ. فإذا باعَ العينَ ولم يستثنِ شيئًا، لم تكنْ تلك المنافعُ ولا عوضُها مستحقًّا له؛ لشمولِ البيعِ للعينِ ومنافعِها، فيقومُ المشتري مقامَ البائعِ فيما كان يستحقُّه منها، وهو استحقاقُ عِوضِ المنافعِ مع بقاءِ الإجارةِ إنْ كان المشتري غيرَ المستأجرِ. فإنْ كان هو المستأجرُ، اجتمعَ عليه للبائعِ الأجرةُ والثمنُ؛ لأنَّ عقدَ البيعِ، لم يشملِ المنافعَ الجاريةَ في مِلكِه بعقدِ التآجرِ؛ لأنَّ شراءَ الإنسانِ لمِلكِ
(1)
نفسِه محالٌ
(2)
.
(وتنفسخُ) الإجارةُ (بتلفِ العينِ المؤجرةِ المعيَّنةِ) كدابةٍ وعبدٍ ماتا؛ لأنَّ المنفعةَ زالتْ بالكليةِ. وإنْ كانَ التلفُ بعدَ مضي مدةٍ لها أجرةٌ، انفسختْ فيما بقي، ووجبَ للماضي القسطُ
(3)
.
(و) تنفسخُ الإجارةُ أيضًا (بموتِ المرتضعِ) أو امتناعِه من الرضاعِ منها؛ لتعذُّرِ استيفاءِ المعقودِ عليه؛ لأنَّ غيرَه لا يقومُ مقامَه في الارتضاعِ؛ لاختلافِ المرتضعَينِ فيه. وقد يدِرُّ اللبنُ على واحدٍ دونَ آخرَ. وكذا إنْ ماتتْ مرضعةٌ.
(و) تنفسخُ الإجارةُ بـ (هدمِ الدَّارِ) قبلَ انقضاءِ مدةِ الإجارةِ، انفسختْ فيما بقيَ
(1)
في الأصل: "الملك".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 271).
(3)
"الروض المربع"(5/ 328).
ومتَى تعذَّر استيفَاءُ النَّفعِ - ولو بَعضِه - مِنْ جِهَةِ المؤجِّر، فلا شَيءَ لَه، ومِنْ جِهَةِ المُستَأجِرِ، فعَلَيه جَميعُ الأُجرَة.
من المدَّةِ؛ لتعطُّلِ
(1)
النفعِ فيه.
ويُخيَّرُ مستأجرٌ فيما انهدمَ بعضُه، كدارٍ انهدمَ منها بيتٌ، بين فسخٍ وإمساكٍ للعيبِ. فإنْ أمسكَ، فبالقسطِ من الأجرةِ؛ لأنَّه رضيَ به ناقصًا، فأشبَه ما لو رضيَ بالمبيعِ معيبًا. ذكرَهُ ابنُ عقيلٍ
(2)
.
(ومتى تعذَّرَ استيفاءُ النفعِ) من العينِ المؤجرةِ (ولو بعضِه) أي: بعضِ النفعِ؛ بأنْ سلَّمه العينَ، ثمَّ حوَّلَه قبلَ انقضاءِ المدةِ (من جهةِ المؤجرِ) أي: بفعلِه (فلا شيءَ له) من الأجرةِ؛ لأنَّه لم يسلم له ما تناولَه عقدُ الإجارةِ، فلمْ يستحقَّ شيئًا
(3)
(ومن جهةِ المستأجرِ، فعليه جميعُ الأجرةِ) بأنْ لمْ يَسكُنْ مستأجرٌ في مؤجَّرَةٍ؛ لعذُّرٍ يختصُّ به أوَّلًا، فعليه الأجرةُ.
أو تحوَّلَ مستأجرٌ منها في أثناءِ المدَّةِ، فعليه الأجرةُ؛ لاقتضاءِ الإجارةِ تمليكَ المؤجرِ الأجرَ، والمستأجرِ النفعَ، فإذا تركَهُ مستأجرٌ اختيارًا منه، لم تنفسخِ الإجارةُ، ولم يزلْ مِلكُه عن المنافعِ، كمَن اشترى شيئًا وقبضَه وتركَهُ.
ولا يجوزُ لمؤجِّرٍ تصرُّفٌ فيها. فإنْ فعلَ، ويدُ مستأجرٍ عليها؛ كأنْ سكنَ الدارَ، أو أجَّرَها لغيرِ مستأجرٍ، فعليه أجرةُ المثلِ لمستأجِرٍ، وعلى المستأجرِ الأجرةُ المعقودُ عليها له.
وإنْ تصرَّفَ قبلَ تسليمِها، أو امتنعَ منه حتى انقضتِ المدةُ، انفسختِ الإجارةُ
(4)
.
(1)
في الأصل: "لتعطيل".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 271).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 272).
(4)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 272).
وإن تَعذَّرَ بغَيرِ فِعلِ أحَدِهما، كشُرُودِ المؤجَّرَةِ، وهَدمِ الدَّارِ، وجَبَ من الأُجرَةِ بقَدْرِ ما استُوفِيَ.
وإن هَرَبَ المُؤجِّر وتَرَكَ بهائِمَهُ، وأَنفَقَ عليها المُستَأجِرُ بنيَّةِ الرُّجُوع، رَجَعَ؛ لأنَّ النفقَةَ علَى المُؤجِّرِ، كالمُعِيرِ.
وإنْ سلَّمَه له في أثنائِها، انفسختْ فيما مضى، ووجبَ أجرُ الباقي بالحصَّةِ.
(وإنْ تعذَّرَ) استيفاءُ النفعِ (بغيرِ فعلِ أحدِهما) أي: المؤجرِ والمستأجرِ، (كشُرُودِ) الدابَّةِ (المؤجَّرةِ، وهدمِ الدَّارِ) المؤجرةِ (وجبَ من الأجرةِ بقدرِ ما استُوفِيَ) من النفعِ قبلَ ذلك؛ لعذرِ كلٍّ منهما.
(وإنْ هربَ المؤجِّرُ) للعينِ، أو ماتَ جمالٌ أو حمَّارٌ أو بغَّالٌ (وتركَ بهائمَه) التي أكراها. (وأنفقَ عليها المستأجرُ) بدُونِ إذْنِ حاكِمٍ (بنيةِ الرُّجوعِ، رجعَ) على مالِكها بما أنفقَهُ، سواءٌ قدرَ على استئذانِ الحاكمِ، أو لا، أشهدَ على نيةِ رجوعِه؛ بأنْ قالَ: اشهدوا أنَّ ما أنفقتُه على هذه البهائمِ بنيةِ الرجوعِ، أو لا؛ لقيامِه عنه بواجبٍ.
وإنْ اختلفا فيما أنفقَه، وكانَ الحاكمُ قدَّرَه، قُبلَ قولُ المستأجرِ في ذلك دونَ ما زادَ. وإنْ لم يقدِّرْه، قُبلَ قولُه في قدرِ النفقةِ بالمعروفِ. قالَه في "المبدع"
(1)
(لأنَّ النفقةَ على المؤجِّرِ) أي: على مالِكها (كالمعيرِ) فإنَّ نفقتَها على مالكِها.
فإذا انقضتِ الإجارةُ، باعَها - أي: البهائمَ - حاكمٌ، ووفَّاه ما أنفقَه على البهائمِ؛ لأنَّ فيه تخلُّصًا لذمةِ الغائبِ.
* * *
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 54)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 273).
فَصْلٌ
والأَجِيرُ قِسمَانِ:
خَاصٌّ: وهو من قُدِّرَ نفعُه بالزَّمَنِ.
ومُشتَركٌ: وهو من قُدِّرَ نفعُه بالعَمَلِ.
فالخَاصُّ لا يضمَنُ ما تَلِفَ بيَدِه، إلَّا إنْ فَرَّط.
(فصلٌ)
(والأجيرُ قِسمانِ):
الأوَّلُ: (خاصُّ: وهو مَن قُدِّرَ نفعُه بالزَّمَنِ) بأن استُؤجِرَ لخدمةٍ أو عملٍ، في بناءٍ أو خياطةٍ، يومًا أو أسبوعًا ونحوَه.
(و) الثاني: (مشترَكٌ: وهو مَنْ قُدِّر نفعُه بالعملِ) كخياطةِ ثوبٍ، وبناءِ حائطٍ، وحملِ شيءٍ إلى مكانٍ معيَّنٍ، أو على عملٍ في مدَّةٍ لا يستحقُّ نفعَه في جميعِها، كالطبيبِ والكحَّالِ
(فـ) ــالأجيرُ (الخاصُّ لا يضمنُ ما تَلِفَ بيدِه) نصًّا. كما لو انكسرتْ منه الجرَّةُ التي يستقي بها، أو الآلةُ التي يحرثُ بها، أو المكيلُ الذي يكيلُ به، ونحوُه؛ لأنَّ عملَه غيرُ مضمونٍ عليه، فلمْ يضمنْ ما تلفَ به، كسرايةِ القصاصَ والحدَّ
(1)
. إلا أنْ يتعمدَ إتلافًا، فيضمنُ، لإتلافِه مالَ غيرِه على وجهِ التعدَّي
(إلا إنْ فرَّطَ): أي: قصَّرَ في الحفظِ، فيضمنُ، كسائرِ الأمناءِ
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 64)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 275).
والمُشتَرَكُ يَضمَنُ ما تَلِفَ بفِعلِه مِنْ تَخرِيقٍ، وغَلَطٍ في تَفصِيلٍ، وبزَلَقِهِ، وبسُقُوطٍ عن دابَّتِهِ، وبانقِطَاعِ حَبلِه،
(و) الأجيرُ (المُشترَكُ يضمنُ ما تَلِفَ بفعلِه) أي: المشتركِ (من تخريقِ) قصَّارٍ الثَّوبَ بدقِّه، أو مدِّه، أو عصرِه، أو بسطِه (وغَلَطِ) خيَّاطٍ (في تفصيلٍ). وكذا طباخٌ، وحائكٌ، وخبّازٌ، وملَّاحٌ، فيضمنُ ما تَلِفَ من يدِه أو جدفِه، أو ما يعالجُ به السفينةَ، سواءٌ كان ربُّ المتاعِ معه، أو لا
(1)
.
(و) يضمنُ حاملٌ ما تلِفَ (بزَلَقِه) أو عثرتِه وسقوطِه عنه كيف كان
(و) يضمنُ ما تلفَ (بسقوطِ) الحِمْلِ (عن دابَّتِه) أو رأسِه (و) ما تلفَ (بانقطاعِ حَبْلِه) الذي يشدُّ به حِمْلَه.
ويضمنُ ما نقصَ بخطئِه في فعلِه، كصبَّاغٍ أُمرَ بصبغِ ثوبٍ أصفرَ، فصبغَهُ أسودَ، وخياطٍ أُمرَ بتفصيلِه قَبَاءً، ففصَّلَهُ قميصًا، أو ثوبَ رجلٍ، فقطعَه قميصَ امرأةٍ؛ لأنَّ عملَ الأجيرِ المشتركِ مضمونٌ عليه، فما تولَّدَ منه يجبُ أنْ يكونَ مضمونًا عليه، كالعدوانِ بقطعِ عضوٍ
(2)
.
ودليلُ ضمانِ عمله عليه: أنَّه لا يستحقُّ الأجرَ، إلا بالعملِ، وأنَّ الثوبَ لو تلفَ في حرزِه بعد عملِه، لا أجرَ له عليه، بخلافِ الخاصِّ، وسواءٌ حضرَهُ ربُّ المالِ أو لا؛ لأنَّ وجوبَ الضمانِ عليه، لجنايةِ يدِه، كالعُدوان.
فإن تبرَّع قصَّارٌ ونحوُه بعَمَله، لم يَضمَن جِنايَةَ يَدِه
(3)
، نصًّا؛ لأنَّه أمينٌ محضٌ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 67).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 276).
(3)
سقطت: "كالعدوان. فإن تبرع قصار ونحوه بعمله، لم يضمن جناية يده" من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهى"(4/ 68).
لا ما تَلِفَ بحِرزِه، أو غَيرِ فِعلِه، إن لَمْ يُفرِّطْ.
ولا يَضْمَنُ حجَّامٌ، وختَّانٌ، وبَيطَارٌ - خاصًا كان أو مُشتَرَكًا - إن كَانَ حاذِقًا، ولم تَجنِ يَدُهُ، وأَذِنَ فيه مُكلَّفٌ، أو وليُّه.
فإنِ اختلفا في أنَّه أجيرٌ أو متبرِّعٌ، فقولُ قصَّارٍ أو نحوِه؛ لأنَّ الأصلَ براءتُه.
و (لا) يضمنُ أجيرٌ (ما تلفَ بحرزِه، أو) بسببٍ (غيرِ فعلِه)؛ لأنَّه عينٌ مقبوضةٌ بعقدِ الإجارةِ، لم يتلفْها بفعلِه، أشبَه المستأجرةَ، ولأنَّه قبضها بإذنِ مالِكها لنفعٍ يعودُ عليهما، أشبَه المضاربَ (إنْ لمْ يفرِّطْ) أو يتعدَّى الأجيرُ. فإن تعدَّى أو فرَّط، ضمِنَ، كسائرِ الأمناءِ.
(ولا يضمنُ حجَّامٌ، وختَّانٌ، وبيطَارٌ) وطبيبٌ، وكحالٌ (خاصًّا كان أو مشترَكًا) بشرطِ:
(إن كان حاذقًا) أي: عارفًا في صناعتِه؛ لأنَّ إذا لم يكنْ كذلك، لم تحلَّ له مباشرةُ الفعلِ، فيضمنُ سرايتَه، كما لو تعدَّى به، وأن لا يتجاوزَ بفعلِه له ما لا ينبغي تجاوزُه
(1)
.
(ولم تجنِ يدُه) فإنْ تجاوزَ بالختانِ إلى الحشفةِ، أو بقطعِ السِّلعةِ، أو نحوِها محلَّ القطعِ، أو قطعَ في وقتٍ لا يصلُحُ فيه القطعُ، أو بآلةٍ كالَّةٍ ونحوِها، ضمِنَ؛ لأنَّه إتلافٌ لا يختلفُ ضمانُه بالعمدِ والخطأ، كإتلافِ المالِ
(وأذِنَ فيه) أي: الفعلِ (مكلَّفٌ) وقعَ الفعلُ به (أو) أَذِنَ فيه (وليُّه) أي: الصغيرِ والمجنونِ، وقعَ فيه الفعلُ. فإن لم يؤذنْ فيه، ضمِنَ؛ لأنَّه فعلٌ غيرُ مأذونٍ فيه، وعليه يُحملُ ما روي أنَّ عمرَ قضىَ في طفلةٍ ماتتْ من الختانِ بديتِها على عاقلةِ خاتنتِها
(2)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 277).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 167) من طريق أبي المليح: أن ختانة بالمدينة ختنت جارية =
ولا رَاعٍ لم يتَعدَّ أو يُفرِّط بنَومٍ، أو غَيبَتِها عنه. ولا يصِحُّ أن يرعَاها بجُزءٍ من نَمائِها.
(ولا) ضمانَ على (راعٍ لم يتعدَّ أو يفرِّطْ بنومٍ أو غيبتِها) أي: الماشيةِ (عنه) ونحوِه، كإسرافٍ في ضربٍ، أو سلوكِه موضعًا يتعرَّضُ لتلَفِها به؛ لأنَّه أمينٌ على حفظِها، فلا يضمنُها بدون ما ذُكرَ، كالمؤجرةِ. فإنْ تعدَّى أو فرَّطَ، ضمِنَ، كالوديعِ.
فإنِ اختلفا في تعدٍّ أو تفريطٍ، فقولُ راعٍ؛ لأنَّه أمينٌ. وإنْ فعل فعلًا واختلفا في أنَّه تعدٍّ، رُجعَ إلى أهلِ الخبرةِ.
وإنِ ادَّعى راعٍ موتًا لها أو لبعضِها، قُبِلَ قولُه بيمينِه، ولو لم يُحضِرْ جِلْدًا ولا غيرَه منها؛ لأنَّه أمينٌ
(1)
.
(ولا يصحُّ أنْ يرعاها بجزءٍ من نمائِها) وفي "الفصول": يلزمُ الراعي توخِّي، أي: تحرِّي أمكنَةِ المرعىَ النافعِ، وتوقِّي النباتِ المضرِّ، ويلزمُه ردُّها عن زرعِ الناسِ، ويلزمُه إيرادُها الماءَ إذا احتاجتْ إليه على الوجهِ الذي لا يضرُّها شربُه، ودفعُ السِّباعِ عنها، ومنعُ بعضِها عن بعضٍ قتالًا ونطاحًا، فيردُّ الصائلةَ عن الموصولِ عليها، والقرناءَ عن الجمَّاءِ، والقويةَ عن الضعيفةِ. فإذا جاءَ المساءُ وجبَ عليه إعادتُها إلى أربابِها
(2)
.
ويجوزُ عقدُ الإجارةِ على رعي ماشيةٍ معيَّنةٍ؛ بأنْ يقولَ: استأجرتُك لترعَى هذه
= فماتت، فقال لها عمر: ألا بقيت كذا، وجعل ديتها على عاقلتها. وهو مرسل منقطع. وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 278).
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 278).
(2)
انظر "كشاف القناع"(9/ 136)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 278).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الماشيةَ. وعلى رعي جنسٍ موصوفٍ في الذِّمَّةِ؛ بأنْ يقولَ: استأجرتُك لرعي إبلٍ، أو بقرٍ، أو غنمٍ، ويصفُها، يرعاها مدَّةً معلومةً.
فإنْ كانتِ الإجارةُ على ماشيةٍ معيَّنةٍ، تعيَّنتْ، فلا يبدِلُها المستأجرُ بغيرِها، كالمبيعِ المعيَّنِ. ويبطلُ العقدُ فيما تلفَ منها. ويسقطُ من الأجرةِ قسطُ ما تلفَ، وله أجرُ ما بقيَ بالحصَّةِ. ونماؤُها في يدِه أمانةٌ لا يضمنُه إذا تلفَ، إن لمْ يتعدَّ أو يفرِّطْ.
وإنْ عقدَ على رعي شيءٍ موصوفٍ في الذمَّةِ، ذكرَ جنسَه، ونوعَه، فيقولُ: إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا. ويقولُ في الإبل: بخاتي، أو عِراب، وفي البقرِ: بقرًا، أو جواميسَ، وفي الغنمِ: ضأنًا، أو معزًا. ويذكرُ كبرَه وصغرَه، وعددَه، وجوبًا؛ لأنَّ الغرضَ يختلفُ باختلافِ ذلك، فاعتُبرَ العلمُ به؛ إزالةً للجهالةِ.
ولا يلزمُه، أي: الراعي، رعيُ سخالِها، سواءٌ كانتْ على معيَّنةٍ، أو موصوفةٍ؛ لأنَّ العقدَ لمْ يتناولْها، فإن أطلقَ ذِكرَ البقرِ، وذِكرَ الإبلِ، لمْ يتناولْ العقدُ الجواميسَ والبخاتيَّ؛ حملًا على العُرْفِ، ذكرَه في "الإقناع"
(1)
.
* * *
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 137).
فَصْلٌ
وتَستَقِرُّ الأُجرةُ بفراغِ العَمل، وبانتِهَاءِ المُدَّةِ، وكذا ببَذْلِ تَسليمِ العَينِ إذا مَضَت مدَّةٌ يمكِنُ استيفاءُ المنفَعَةِ فيها، ولم تُستَوفَ.
(فصلٌ)
(وتستقرُّ الأجرةُ) أي: تثبتُ الأجرةُ كاملةً بذمَّةِ مُستأجرٍ، كسائرِ الديونِ (بفراغِ العملِ) هكذا في "التنقيح". والمرادُ: إنْ كانَ الأجيرُ يعمل ببيتِ المستأجرِ، وإلا فبتسليمِه معمُولًا، الضمانُ عليه
(1)
(و) تستقرُّ الأجرةُ (بانتهاءِ المدَّةِ) حين سُلِّمتْ إليه العينُ التي وقعتِ الإجارةُ عليها، ولا حاجزَ له عن الانتفاعِ، ولو لمْ ينتفعْ؛ لأنَّ المعقودَ عليه تلفَ تحتَ يدِه، وهو حقُّه، فاستقرَّ عليه بدلُه، كثمنِ المبيعِ إذا تلفَ في يدِ المشتري.
(وكذا) تُستحقُّ الأجرةُ كاملةً (ببذلِ تسليمِ العينِ) معيَّنةً كانتْ في العقدِ، أو موصوفةً في الذمَّةِ لمستأجرٍ؛ لأنَّ تسليمَ العينِ يجري مجرى تسليمِ نفعِها
(2)
(إذا مضتْ مدةٌ يمكنُ استيفاءُ المنفعةِ فيها، ولم تُستَوف)
(3)
كما لو قالَ: اكتريتُ منكَ هذه الدابَّةَ لأركبَها إلى بلدِ كذا بكذا، ذهابًا وإيابًا، وسلَّمَها إليه المؤجرُ، ومضتْ مدَّةُ يمكنُ ذهابُه إلى ذلك البلد، ورجوعُه على العادةِ، ولم يفعلْ. نقلَ ذلك في "المغني" عن الأصحابِ؛ لأنَّ المنافعَ تلِفتْ تحتَ يدِه باختيارِه، فاستقرَّ
(4)
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 145)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 279).
(2)
انظر "كشاف القناع"(9/ 144)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 280).
(3)
في الأصل: "تستوفي"
(4)
في الأصل: "كاستقر"
ويَصِحُّ شَرطُ تَعجِيلِ الأُجَرة، وتأخِيرِهَا.
وإن اختَلَفا في قَدرِهَا، تحالَفَا وتفَاسَخَا.
الضمانُ عليه
(1)
(ويصحُّ شرطُ تعجيلِ الأجرةِ) كما لو استأجرَ سنةَ تسعٍ في سنةِ ثمانٍ، وشرطَ عليه تعجيلَ الأجرةِ يومَ العقدِ.
(و) يصحُّ شرطُ (تأخيرِها) أي: الأجرةِ؛ بأنْ تكونَ مؤجَّلةً بأجلٍ معلومٍ، كالثمنِ
(2)
(وإنِ اختلفا) أي: المؤجرُ والمستأجرُ، أو اختلفَ ورثتُهُما
(3)
(في قدرِها) أي: الأجرةِ، ولا بيَّنةَ لواحدٍ منهما (تحالفا) أي: حلفَ أولًا مؤجرٌ، ثم مستأجرٌ (و) إنْ لمْ يرضَ أحدُهما بقولِ الآخرِ بعد التحالفِ (تفاسَخَا) وقيلَ: ينفسخُ بنفس
(4)
التحالفُ.
ووجهُ المذهبِ: أنَّه عقدٌ صحيحٌ، فلم ينفسخْ باختلافِهما وتعارضِهما في الحجَّةِ، كما لو أقامَ كلٌّ منهما بينةً.
وعُلِمَ ممَّا تقدمَ: أنَّ الفسخَ لا يفتقرُ إلى حكمِ حاكمٍ لاستدراكِ الظلامةِ، أشبَه ردَّ المعيبِ. وقيل: يفتقرُ.
وعلى المذهبِ: ينفسخُ العقدُ بفسخِ أحدِهما بعدَ التحالفِ ظاهرًا وباطنًا؛ لأنَّه
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 146)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 280).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 74)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 280).
(3)
سقطت: "ورثتهما" من الأصل. والمثبت من "فتح وهاب المآرب"(2/ 280).
(4)
سقطت: "بنفس" من الأصل.
وإن كانَ قد استَوفَى ما لَهُ أُجرَةٌ، فأُجرَةُ المِثلِ.
والمُستَأجِرُ أمينٌ لا يَضمَنُ - ولو شَرَطَ على نفسِه الضَّمَانَ - إلَّا بالتَّفرِيطِ، ويُقبَلُ قولُه في أنَّه لمْ يُفرِّط، أو أنَّ ما استأجَره أَبَقَ، أو شَرَدَ، أو مَرِضَ، أو مَاتَ.
وإن شَرَطَ عليه أن لا يَسِيرَ بها
فسخٌ لاستدراكِ الظِّلامةِ
(1)
، فتعدُّ ظاهرًا وباطنًا، أشبَه الردَّ بالعيبِ، أو يُقالُ: فسخٌ بالتحالفِ فوقعَ ظاهرًا وباطنًا.
(و) إذا تحالفا - المؤجرانِ - أو ورثتُهما، وفُسختِ الإجارةُ فـ (إنْ كانَ قد استوفى) من العينِ المؤجرةِ (مما له أجرةٌ، فأجرةُ المثلِ) لمدَّةِ بقائها في يدِه
(2)
(والمستأجرُ أمينٌ لا يضمنُ - ولو شرَطَ على نفسِه الضَّمانَ - إلا بالتفريطِ) أو التعدِّي. وإنْ شرطَ المؤجرُ على المستأجرِ ضمانَ العينِ، فالشرطُ فاسدٌ (ويُقبلُ قولُه في أنَّه لمْ يُفرِّطْ) أي: يُقصِّرْ في الحفظِ (أو أنَّ ما استأجرَه أَبَقَ، أو شَرَدَ، أو مرِضَ، أو ماتَ) في مدَّةِ الإجارةِ أو بعدَها، قُبِلَ قولُه بيمينِه؛ لأنَّه مؤتَمنٌ. والأصلُ عدمُ انتفاعِه، وسواءٌ أجابَه صحيحًا، أو لا. وكذا لو صدَّقَه مالكٌ على وجودِ نحوِ إباقٍ، واختلَفا في وقتِه، ولا بيَّنةَ لمالكٍ، فقولُ مستأجرٍ فيه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ العلمِ، ولأنَّه حصلَ في يدِه، وهو أعلمُ بوقتِه
(3)
.
(وإنْ شرطَ) المؤجرُ (عليه) أي: على المستأجرِ (أنْ لا يسيرَ بها) المستأجرُ
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 280).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 281)، "دقائق أولي النهى"(3/ 225).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 282)، "دقائق أولي النهى"(4/ 66).
في اللَّيل، أو وَقتَ القَائِلَةِ، أو لا يتأَخَّرَ بها عن القَافِلَةِ، ونَحوِ ذلِكَ ممَّا فيه غَرَضٌ صَحِيحٌ، فخالَفَ، ضَمِنَ.
ومتَى انقَضَت الإجَارةُ، رفَعَ المستأجِرُ يدَه، ولم يَلزَمْهُ الردُّ، ولا مَؤنَتُه كالمُودَعِ.
(في الليلِ، أو) أنْ لا يسيرَ بها (وقتَ القائلةِ، أو لا يتأخَّرَ بها
(1)
عن القافلةِ، ونحو ذلك) وهو أن لا يجعلَ سيرَه في آخرِها، وأشباه هذا
(2)
(ممَّا فيه غرضٌ، فخالفَ) المستأجر (ضمن) لمخالفته الشرط الصحيح، كما لو شرط عليه ألَّا يحمِّلَها إلا قفيزًا، فحمَّلَها قفيزَين.
(ومتى انقضتْ) مدَّةُ (الإجارةِ، رفعَ المستأجرُ
(3)
يدَه) عن مؤجَّرةٍ، (ولم يلزَمْه الردُّ، ولا مؤنَتُه، كالمُودَعِ) لأنَّه عقدٌ لا يقتضي الضمانَ، فلا يقتضي ردَّه ومؤْنَتَه، بخلافِ العاريةِ.
"فائدةٌ": وتصحُّ إجارةُ وقفٍ، فإنْ ماتَ المؤجرُ، انفسختِ الإجارةُ، إنْ كانَ المؤجرُ الموقوفُ عليه ناظرًا بأصلِ الاستحقاقِ، وهو مَنْ يستحقُّ النظرَ؛ لكونِه موقوفًا عليه، ولم يَشرُطْ الواقفُ ناظرًا؛ بناءً على أنَّ الموقوفَ عليه يكونُ له النظرُ إذا لمْ يَشرُطْ الواقفُ ناظرًا، وهو المذهبُ
ووجهُ انفساخِها إذنْ: أنَّ البطنَ الثاني يستحقُّ العينَ بجميعِ منافعِها تلقيًا من الواقفِ بانقراضِ الأوَّلِ، بخلافِ الطِّلْقِ، فإنَّ الوارثَ يملكُه من جهةِ الموروثِ، فلا
(1)
سقطت: "بها" من الأصل.
(2)
سقطت: "هذا" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(9/ 139).
(3)
في الأصل: "مستأجر".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يملكُ إلا ما خلَّفَه، وحقُّ المورِّثِ المؤجِّرِ لمْ ينقطعْ عن ميراثِه بالكليةِ، بل آثارُه باقية فيه، ولهذا تُقضَى منه ديونُه، وتنفذُ وصاياه.
وإنْ جَعلَ
(1)
للموقوفِ عليه الواقفُ النَّظرَ؛ بأنْ قال: والنظرُ لزيدٍ، أو للأرشدِ فالأرشدِ، ونحوِه، أو تكلَّمَ بكلامٍ يدلُّ عليه. أي: على جعلِ النظرِ للموقوفِ عليه
(2)
، فله النظرُ بالاستحقاقِ والشرطْ. ولا تبطلُ الإجارةُ بموتِه؛ لأنَّ إيجارَه هنا بطريقِ الولايةِ، ومَنْ يلي
(3)
بعدَه إنَّما يملكُ التصرُّفَ فيما لمْ يتصرَّفْ فيه الأوَّلُ - وهذه الصورةُ الثانيةُ - فيرجعُ مستأجرٌ عجَّل
(4)
الأجرةَ على مؤجِّرٍ قابضٍ للأجرةِ في تركتِه، حيثُ قلنا: تنفسخُ - في الصورةِ الأولى - بموتِه؛ لأنَّه تبيَّنَ عدمُ استحقاقِه لها، فإنْ تعذَّرَ أخذُها، فظاهرُ كلامِهم: أنَّها تسقطُ. قالَه في "المبدع".
وإنْ كانَ المؤجِّرُ للوقفِ الناظرَ العامَّ، وهو الحاكمُ، أو مَن شرَطَ له الواقفُ النظرَ، وكان أجنبيًّا أو من أهلِ الوقفِ، لمْ تنفسخِ الإجارةُ بموتِه، ولا بعزلِه في أثناءِ المدَّةِ أو قبلَها، كما لو أجَّرَ سنةَ خمسٍ في سنةِ أربعٍ ومات، أو عزلَ قبلَ دخولِ سنةِ خمسٍ؛ لما مرَّ من أنَّه أجَّرَ بطريقِ الولايةِ، ومن يلي النظرَ بعدَه، إنَّما يملكُ التصرُّفَ فيما لمْ يتصرَّفْ هو فيه، وكملكِه الطِّلقِ إذا أجَّرَه، ثمَّ ماتَ، فإنَّ الإجارةَ لا تبطلُ بموتِه.
(1)
في الأصل: "حصلَ".
(2)
في الأصل: "للموقوفِ عليه الواقف".
(3)
في الأصل: "يكْن".
(4)
في الأصل: "تحلُّ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال في "الإقناع": والذي يتوجَّهُ: أنَّه لا يجوزُ للموقوفِ عليهم أنْ يستسلفوا الأجرةَ؛ لأنَّهم لمْ يملكوا المنفعةَ المستقبلةَ، ولا الأجرةَ عليها، فالتسلفُ لهم قبضُ ما لا يستحقُّونَه، بخلافِ المالكِ. وعلى هذا: فللبطنِ الثاني أنْ يطالبَ بالأجرةِ المستأجرةِ الذي سلَّفَ المستحقِّينَ؛ لأنَّه لمْ يكنْ له التسليفُ، ولهم أن يطالبوا الناظرَ إنْ كانَ هو المُسلِفَ. ذكرَه في "الاختيارات"
(1)
.
اعلمْ أنَّه تخلَّص ممَّا تقدَّمَ من الصورِ الثلاثِ: أنَّ المؤجرَ للوقفِ لا يخلو: إمَّا أنْ يكونَ غيرَ مستحقٍّ في الوقفِ، كالناظرِ الأجنبيِّ، والحاكمِ، أو يكونَ مستحقًّا، والمستحقُّ إمَّا أنْ يكونَ شُرِطَ له النظرُ بسببِ الاستحقاقِ فقطْ، أو بالاستحقاقِ والشرطِ معًا، أو لا. ففي الأُوْلَى: لا تنفسخُ، قولًا واحدً. وفي الثانيةِ: تنفسخُ على الصحيحِ. وفي الثالثةِ: إنْ ألحقناه بالأوَّلِ، وهو الأجنبيُّ، لمْ تنفسخْ قولًا واحدًا، وهو الذي جزمَ به في "الإقناع" و"المنتهى". وإنْ ألحقناه بالثاني، وهو المستحقُّ للنظرِ باستحقاقِه الوقفَ، لا بالشرطِ، ففيه خلافٌ.
فظهرَ أنَّه لا تنفسخُ إجارةُ الوقفِ بموتٍ المؤجِّرِ إلا في صورةٍ واحدةٍ، على الصحيح، وهي ما إذا كان المؤجرُ مستحقًّا للنظرِ بسببِ استحقاقه للوقف لا بالشرط، فإنَّ الوقفَ يُعمَلُ فيه بشرطِ واقِفِه، فإذا شرطَ في الوقفِ: أنْ لا يؤجَّرَ أبدًا، أو إلا مدَّة كذا ونحوه، وجبَ العملُ بشرطِه، فلا تصحُّ إجارةٌ على خلافِ ما شرطَه، إلا عندَ الضرورةِ، فيزادُ حينئذٍ بحسبها.
قال في "شرح الإقناع": ولم يزلْ عملُ القضاةِ في عصرِنا وقبلَه عليه. قال:
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 74، 75).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأفتَى به شيخُنا المرداويُّ - وهو العلَّامةُ الشيخُ محمدٌ، جدُّنا من قِبلِ الوالدةِ، رحمه الله قال الشيخُ منصورٌ: ولم نزلْ نُفتي به، إذْ هو أَوْلى مَن بيعِه إذنْ. انتهى
(1)
.
وتجوزُ إجارةُ الإقطاعِ، كالوقفِ، فلو أجرَه المُقْطَعُ، ثمَّ استحقَّتْ الأقطاعُ لآخرَ، فالصحيحُ أنَّ الإجارةَ تنفسخُ بانتقالِه عنه. وإنْ كانتْ الأقطاعُ عُشْرًا. قال الشيخُ منصورٌ: أو خَرَاجًا؛ بأنْ أقطعَه عُشرَ الخارجِ من الأرضِ، أو خراجها دونَ الأرضِ، لمْ تصحَّ إجارتُها؛ لأنَّه لا يملكُ الأرضَ ولا منفعتَها، كتضمينِه، أي: كما أنَّ تضمينَ العُشرِ والخراجَ بقدرٍ معلومٍ باطلٌ
(2)
.
"تتمَّةٌ": كلُّ مَن قبضَ العينَ لحظِّ نفسِه، كمُرتهنٍ، وأجيرٍ، ومُشترٍ، وبائعٍ، وغاصبٍ، ومُلتقطٍ، ومُقترضٍ، ومُضاربٍ، وادَّعَى الردَّ لمالكٍ، فأنكرَه، لمْ يُقبلْ بلا بيِّنةٍ. وكذا مُودِعٌ، ووكيلٌ، ووصِيٌ، ودلَّالٌ، وناظرُ وقفٍ، وعاملُ خراجٍ، لا زكاةَ، أي: لأنَّ الزكاةَ عبادةٌ، فقولُ مدَّعيها بجُعلٍ وبدونِه يُقبلُ قولُه بيمينِه. ودعوى التلفِ تُقبلُ من كلِّ أمينٍ بيمينٍ. انتهى.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(10/ 43).
(2)
"كشاف القناع"(9/ 77).
بَابُ المُسَابَقَةِ
وهي جَائزِةٌ في السُّفُنِ، والمَزارِيقِ، والطُّيُورِ، وغَيرِها،
(بابُ المسابقةِ)
هو بتحريكِ الباءِ: العِوضُ الذي يُسابَقُ عليه، وبسكونِها: المسابقةُ: أي: المجاراةُ بين حيوانٍ وغيرِه.
والسَّبَقُ - بفتحِ الباءِ -: الشيءُ الذي يُسابقُ عليه. والسبَقَةُ: الجُعلُ يُتسابَقُ عليه.
(وهي) أي: المسابقَةُ (جائزةٌ في السُّفُنِ، والمزارِيقِ) جمعُ مِزرَاقٍ، وهو: الرمحُ القَصيرُ (والطيورِ) حتى بحَمَامٍ، خِلافًا للآمديِّ
(1)
(وغيرِها) كالرِّماحِ، والأحجارِ تُرمَى باليَدِ، أو المقاليعِ، أو المجانيق.
قال في "الوسيلة": يُكرَهُ الرقصُ واللعبُ كلُّه، ومجالسُ الشعرِ. وذكرَ ابنُ عقيلٍ وغيرُه: يُكرَهُ لعِبُه بأُرْجُوحةٍ، ونحوِها
(2)
.
وأطلقَ في "الفروع" في كراهةِ اللعبِ الغيرِ المُعِينِ على عدوٍّ، وجهين. قال في "تصحيح الفروع" و"الإنصاف": أحدُهما: يكره. قلتُ: وهو الصوابُ، اللهمَّ إلا أنْ يكونَ له فيه قصدٌ حسنٌ.
قال في "الفروع": وذكر شيخُنا: يجوزُ ما قدْ يكونُ فيه منفعةٌ بلا مضرَّةٍ.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 283).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 80).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وظاهرُ كلامِه: لا يجوزُ اللعبُ المعروفُ بالطَّابِ
(1)
والنقيلةِ
(2)
. وقال: كلُّ فعلٍ أفضىَ
(3)
إلى المحرَّمِ كثيرًا، حرَّمَه الشارعُ إذا لمْ يكنْ فيه مصلحةٌ راجحةٌ. وقال: ما شغلَ أو ألهَى عمَّا أمرَ اللهُ به، فهو منهيٌّ عنه، وإن لمْ يحرُمْ جنسُه، كبيعٍ وتجارةٍ ونحوِهما.
ويُستحبُّ بآلةِ حربٍ. قال جماعةٌ: والثِّقافُ
(4)
. نقلَ أبو داودَ: لا يُعجبني أن يتعلَّمَ بسيفِ حديدٍ، بل بسيفِ خشبٍ
(5)
.
وليس من اللهوِ تأديبُ فرسِه، وملاعبةُ أهلِه، ورميُه عن قوسِه. وفي "الإقناع"
(6)
: يُكرَهُ لمَن عَلِمَ الرميَ أن يتركَه، كراهةً شديدةً. وتجوزُ المصارعةُ، ورفعُ الأحجارِ لمعرفةِ الأشدِّ.
وأمَّا اللعبُ بالنردِ، والشِّطْرَنجِ، ونِطاحِ الكباشِ، ونِقارِ الدُّيوكِ، فلا يُباحُ بحالٍ، وهي بالعِوَضِ أشدُّ حرمةً.
(1)
الطاب: عِصيٌّ صِغارٌ تُرمى ويُنظَر للونها؛ ليرتَّب عليه مُقتضاهُ الذي اصطلحوا عليه. "تحفة الحبيب على شرح الخطيب"(5/ 381).
(2)
النقيلة: قطعة خشب يحفر فيها حفر، ثلاثة أسطر، ويجعل فيها حصى صغار يلعب بها. وقد تسمى الأربعة عشر. وهي المسماة في مصر المنقلة. وقيل: بأنها خشبة يحفر فيها ثمانية وعشرون حفرة، أربعة عشر من جانب، وأربعة عشر من الجانب الآخر، ويلعب بها. ولعلها، نوعان فلا تخالف. "الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 900).
(3)
في الأصل: "أمضى".
(4)
والثِّقافُ: حَديدَةٌ تُسَوَّى بها الرِّماحُ ونحوها. "لسان العرب"(ثقف).
(5)
"الفروع"(7/ 187).
(6)
في الأصل: "الإقنا". وانظر "الإقناع"(2/ 542).
وعلى الأقدَامِ، وبكُلِّ الحَيَوانَاتِ.
لكِنْ لا يَجوزُ أخذُ العِوضِ إلَّا في مسابقة الخَيلِ والإبِلِ والسِّهام،
بشُروطٍ خَمسَةٍ:
أحدُها: تعيين المَركُوبَيَن، أو الرامِييَنِ بالرُّؤيَةِ.
الثَّانِي: اتِّحادُ المَركُوبين، أو القَوسَين بالنَّوعِ.
(و) تجوزُ المسابقةُ (على الأقدامِ، وبكلِّ الحيواناتِ) كإبلٍ، وبغالٍ، وحميرٍ، وفيلةٍ (لكنْ لا يجوزُ أخذُ العِوضِ) أي: مالٍ لمَن سَبقَ (إلا في مسابقةِ الخيلِ والإبلِ والسِّهامِ) أي: نُشَّابٍ، ونبلٍ للرجالِ. قالَه في "الإقناع"
(1)
.
(بشروطٍ خمسةٍ) متعلِّقٌ بـ"جائزةٍ":
(أحدُها: تعيينُ
(2)
المركوبَيْنِ) في المسابقةِ (أو الراميينِ)
(3)
في المناضلةِ (بالرؤيةِ) فيهما.
الشرطُ (الثاني: اتحادُ المركوبينِ) بالنوعِ في المسابقةِ، (أو) اتحادُ (القوسينِ بالنوعِ) في المناضلةِ؛ لأنَّ التفاوتَ بين النوعينِ معلومٌ بحكمِ العادةِ، أشبهَا الجنسينِ. فلا تصحُّ مسابقةٌ بين قوسٍ عربيةٍ - أي: قوسِ النبلِ. قال في "الصحاح": النبلُ: السِّهامُ العربيةُ، لا واحدَ لها من لفظِها - وقوسٍ فارسيةٍ. أي: قوسِ النُّشَّابِ. قالَهُ الأزهريُّ. ولا يُكرَهُ الرميُ بها.
(1)
"الإقناع"(2/ 542).
(2)
في الأصل: "تعين"
(3)
في الأصل: "الراعيين".
الثَّالِثُ: تَحدِيدُ المَسَافَةِ بما جَرَت به العَادَة.
فإنْ لمْ يُذكرْ أنواعُ القوسِ التي يرميانِ بها في الابتداءِ، لمْ يصحَّ.
الشرطُ (الثالثُ: تحديدُ المسافةِ) بالابتداءِ والغايةِ، وتحديدُ مدى رميٍ (بما جرتْ به العادةُ) أمَّا في المسابقَةِ
(1)
: فلأنَّ الغرضَ معرفةُ الأسبقِ، ولا تحصلُ إلا بالتساوي في الغايةِ؛ لأنَّ من الحيوانِ ما يقصرُ في أوَّلِ عَدْوِه، ويُسرِعُ في انتهائِه
(2)
، وبالعكسِ، فيحتاجُ إلى غايةٍ تجمعُ حاليه.
فإنِ استبقا بلا غايةٍ؛ ليُنظرَ أيَّهما يقفُ أولا
(3)
، لمْ تجزْ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن لا يقفَ أحدُهما حتى ينقطعَ فرسُه. ويتعذَّرُ الإشهادُ على السبقِ فيه.
وأمَّا في المناضلةِ: فلأنَّ الإصابةَ تختلفُ بالقربِ والبعدِ، فإنْ قُيِّدَ بمدىً تتعذَّرُ فيه الإصابةُ غالبًا، وهو ما زادَ على ثلاثمائةِ ذراعٍ، لمْ يصحَّ؛ لأنَّه يفوتُ به الغرضُ المقصودُ بالرمي. وقد قيلَ: إنَّه ما رمى في أربعمائةِ ذراعِ إلا عقبةُ بنُ عامرٍ الجهنيُّ
(4)
.
ولا يصحُّ تناضلُهما على أنَّ السبقَ لأبعدِهما رميًا؛ لعدمِ تحديدِ الغايةِ. قالَه في "الإقناع"
(5)
.
(1)
في الأصل: "المسافةِ".
(2)
في الأصل: "أثنائِه".
(3)
في الأصل: "وإلا".
(4)
"دقائق أولي النهى"(4/ 83).
(5)
"كشاف القناع"(9/ 165).
الرَّابِعُ: عِلمُ العِوَضِ، وإباحَتُه.
الخَامِسُ: الخُروجُ عن شِبْهِ القِمَار؛ بأنْ يكُونَ العِوضُ من واحِدٍ.
فإن أخَرجَا معًا، لمْ يَجز إلَّا بمُحَلِّل لا يُخرِجُ شَيئًا.
الشرطُ (الرابعُ: علمُ العوض)
(1)
لأنَّه مالٌ في عقدٍ، فوجبَ العلمُ به، كسائرِ العقودِ.
ويعلمُ بالمشاهدةِ، أو الوصفِ. ويجوزُ حالًّا ومؤجَّلًا، وبعضُه حالًّا وبعضُه مؤجَّلًا، كالبيعَ
(2)
(وإباحتُه): أي: العوضِ؛ لما تقدَّمَ في البيعِ، فلا يصحُّ على خمرٍ ونحوِه. وهو تمليكٌ للسابقِ بشرطِ سبقِه.
الشرطُ (الخامسُ: الخروجُ بالعِوضِ عن شبهِ القمارِ) بكسرِ القافِ، يُقالُ: قامَرَهُ قِمارًا ومُقامرةً، فقمرَه: إذا راهنَه فغلَبَه
(بأنْ يكونَ العِوضُ من واحدٍ) بأنْ لا يُخرِجَ جميعُهم العِوضَ؛ لأنَّه إذا أخرجَه كلٌّ منهم، لمْ يَخْلُ عن
(3)
أن يغنمَ أو يغرَمَ، وهو شِبْهُ القِمارِ.
(فإنْ أخرجَا) أي: المتسابقانِ (معًا، لمْ يجزْ) تساويًا، أو تفاضلًا؛ لأنَّه قِمارٌ، إذْ لا يخلو كلٌّ منهما عن أنْ يغنمَ أو يغرَمَ
(4)
(إلا بمحلِّلٍ لا يُخرِجُ شيئًا) لما روى أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أدخَلَ فرسًا بين فرسينِ، وهو لا يأمنُ أنْ يُسبقَ، فليس
(1)
في الأصل: "على عوض".
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 83)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 286).
(3)
سقطت: "عن" من الأصل. وانظر "دقائق أولى النهى"(4/ 84).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 84)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 287).
ولا يجوزُ أكثرُ من واحِدٍ يُكافِئُ مركُوبُهُ مَركوبَيهِما، أو رميُهُ رَميَيهِمَا.
فإنْ سَبَقَا مَعًا أحرَزا سبقَيهِما، ولم يأخُذَا من المُحلِّل شيئًا، وإن سَبَقَ أحدُهُما، أو سَبَقَ المحلِّلُ، أحرَزَ السَّبقَين.
والمُسابقَة جَعَالَةٌ، لا يُؤخَذ بِعِوَضِها رَهنٌ، ولا كَفيلٌ.
قِمارًا، ومَنْ أدخلَ فرسًا بين فرسينِ، وهو آمِنٌ أنْ يسبق، فهو قِمارٌ". رواه أبو داودَ
(1)
. فجعلَهُ قِمارًا؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يجوزُ أنْ يخلوَ من ذلك
(2)
.
(ولا يجوزُ) كونُ محلِّلٍ (أكثرُ من واحدٍ) لدفعِ الحاجةِ به، (يُكافِئُ مركوبُه) أي: المحلِّلِ (مركوبَيْهِما) في المسابقةِ، (أو) يُكافئٌ (رميُه رميَيهما) في المناضلةِ؛ لحديثِ أبي هريرةَ المتقدِّمِ.
(فإنْ سبقا معًا) أي: سبقَ المُخرِجانِ المحلِّلَ، ولم يَسبقْ أحدُهما الآخرَ
(3)
(أحرزَا سبْقَيهما) أي: أحرزَ كلٌّ منهما سَبقَه؛ لأنَّه لا سابقَ منهما، ولا شيءَ للمحلِّلِ؛ لأنَّه لمْ يسبقْ أحدَهما
(4)
(ولم يأخُذَا من المحلِّلِ شيئًا) لئلا يكونَ قِمارًا
(وإنْ سبَقَ أحدُهما) أي: المخرجينِ؛ صاحبَه والمحلِّلَ (أو سبَقَ المحلِّلُ) المُخرجينِ (أحرزَ السَّبَقَيْنِ) لأنَّهما جُعِلا لمَن سَبق.
(والمُسابقةُ جَعَالةٌ) لأنَّ الجُعلَ في نظيرِ عملِه، وسبْقِه (لا يُؤخذُ بعوضِها رهنٌ، ولا كفيلٌ) لأنَّه جُعلٌ على ما لا تتحققُ القدرةُ على تسليمِه، وهو السبْقُ أو
(1)
أخرجه أبو داود (2579). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1509).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 287).
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 85)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 288).
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 85)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 288).
ولكُلٍّ فسخُهَا، ما لمْ يَظهَرِ الفَضلُ لِصَاحِبه.
الإصابةُ، أشبَه الجُعلَ في ردِّ الآبَقِ.
(ولكلٍّ) من المتسابقينِ (فسخُها) كسائرِ الجَعالاتِ (ما لمْ يظهرِ الفضلُ لصاحبِه) فيمتنعُ عليه، أي: المفضولِ؛ بأنْ يسبقَه في بعضِ المسافةِ، أو أصابَ أكثرَ منه في أثناءِ الرمي؛ لئلا يفوتَ غرضُ المسابقةِ بفسخِ مَن ظهرَ له فضلُ صاحبِه. وأمَّا الفاضلُ فله الفسخُ
(1)
.
"فرعٌ": كُرِهَ لمَن حضرَهما من أمينٍ وشهودٍ وغيرِهما مدحُ أحدِهما، أو مدحُ المصيبِ، وعيبُ المخطئ؛ لما فيه من كسرِ قلبِ صاحبِه وغيظِه. وحرَّمَه ابنُ عقيلٍ.
قال في "الفروع": ويتوَجَّه في شيخِ العلمِ وغيرِه مدحُ المصيبِ من الطلبةِ، وعيبُ غيرِه كذلك.
وفي "الإنصاف": قلتُ: إنْ كانَ مدحُه يفضي إلى تعاظُمِ الممدوحِ، أو كسرِ قلبِ غيرِه، قويَ التحريمُ، وإنْ كان فيه تحريضٌ على الاشتغالِ ونحوِه، قويَ الاستحبابُ
(2)
.
* * *
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 88)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 289).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 97).
كِتابُ العَاريَّةِ
وهي مُستَحبَّة، مُنعِقدَةٌ بكلِّ قولٍ أو فِعلٍ يدلُّ عليها،
(كتابُ العاريَّةِ)
بتخفيفِ الياءِ وتشديدِها. من عارَ الشيءُ، إذا ذهبَ وجاءَ. ومنه قيل للبطَّالِ: عَيَّارٌ، لتردُّدِه في بطالتِه. وعارَه وأعارَه لغتانِ، كأطاعَه وطاعَه.
أو من العُرْي، وهو: التجرُّدُ، لتجرُّدِها عن العِوضِ. أو من التعاورِ، وهو التناوبُ؛ لجَعْلِ المالكِ للمستعيرِ نوبةً في الانتفاعِ.
(وهي) أي: العاريةُ (مستحبَّةٌ) لأنَّها من البرِّ والمعروفِ، فلا تجبُ. قالَ تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]: قال ابنُ عباسٍ وابنُ مسعودٍ: هي العواريُّ
(1)
. وقولُه عليه السلام: "العاريَّةُ مُؤَدَّاةٌ"
(2)
. والمعنى: شاهدٌ بذلك، فهي كهبةِ الأعيانِ
(3)
(منعقدةٌ بكلِّ قولٍ أو فعلٍ يدلُّ عليها) أي: الإعارةِ، كـ: أعرتُكَ هذه الدابَّةَ، أو: اركبْها إلى محلِّ كذا، أو: استرحْ عليها، أو: خذْها تحتَكَ، ونحوه. وكدفعِه دابَّةً لرفيقِه عند تعبِه، وتغطيتِه بكسائِه لبردِه، كدفعِ الصدقةِ. فإذا ركبَ الدابَّةَ، أو
(1)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(24/ 641) عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (1657) عن ابن مسعود.
(2)
أخرجه أبو داود (3565) من حديث أبي أمامة الباهلي. وصححه الألباني.
(3)
انظر "كشاف القناع"(9/ 190)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 291).
بشُروط ثَلاثَةٍ:
كَونُ العَينِ منتفعًا بها معَ بَقائِهَا. وكَونُ النَّفعِ مُباحًا. وكَونُ المُعيرِ أهلًا للتبرُّعِ.
استبقَى الكساءَ عليه، كان قَبولًا
(1)
.
وكذا لو سمِعَ من يقولُ: مَنْ يعيرُني كذا؟ فأعطَاه، كفَى؛ لأنَّه إباحةٌ لا عقدٌ.
قال في "الترغيب": يكفي ما دلَّ على الرِّضى من قولٍ أو فعلٍ
(2)
وذلك (بشروطٍ ثلاثةٍ):
(أحدُها: كونُ العينِ) المعارةِ (مُنتفعًا بها مع بقائِها) كدوابَّ، ورقيقٍ، ودورٍ، ولباسِ، وأوانٍ. بخلافِ ما لا يُنتفَعُ به إلا مع تَلَفِ عينِه، كأطعمةٍ وأشربةٍ. فإنْ أعطاها بلفظِ إعارةٍ، فقالَ ابنُ عقيلٍ: يحتملُ أنْ تكونَ إباحةُ الانتفاعِ على وجهِ الإتلافِ. نقلَه المجدُ في "شرحه"، واقتصرَ عليه
(3)
(و) الشرطُ الثاني: (كونُ النفعِ مباحًا) لمستعيرٍ؛ لأنَّ الإعارةَ لا تُبيحُ له إلا ما أباحَه الشرعُ.
فلا تصحُّ لغناءٍ أو زمرٍ ونحوِه، ولا إناءٍ من أحدِ النقدينِ، ولا حُلىٍّ
(4)
محرَّمٍ ونحوِه، ولا أمةٍ ليطأَهَا، أو يقبِّلَها ونحوِه.
(و) الشرطُ الثالثُ: (كونُ المعيرِ
(5)
أهلًا للتبرُّعِ) لأنَّها نوعُ تبرُّعٍ؛ إذ هي
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 100)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 292).
(2)
انظر "معونة أولي النهى"(6/ 246).
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 101)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 292).
(4)
في الأصل: "ولا على".
(5)
في الأصل: "المستعير"
وللمُعِيرِ الرُّجوعُ في عَاريَّتِه أيَّ وقتٍ شَاءَ، ما لَم يُضِرَّ بالمُستَعير.
فمن أعَارَ سَفينةً لحَملٍ، أو أرضًا لدَفنٍ أو زَرعٍ، لمْ يَرجِعْ حَتَّى تُرسَى السَّفينَةُ، ويبلَى الميِّتُ، ويُحصَدَ الزَّرعُ، ولا أُجرَةَ منذُ رَجَعَ إلَّا في الزَّرع.
إباحةُ منفعةٍ.
وذكرَ صاحبُ الأصلِ
(1)
شرطًا رابعًا، وهو: كونُ المستعيرِ أهلًا للتبرُّعِ له. فلا تصحُّ إعارةُ عبدٍ مسلمٍ لكافرٍ، لخدمتِه
(وللمعيرِ الرجوعُ في عاريَّتِه أيَّ وقتٍ شاءَ) مطلقةً كانتْ أو مؤقتةً (ما لمْ يُضِرَّ) الرجوعُ (بالمستعيرِ)
(فـ) مثالُ ذلك: (مَن أعارَ سفينةً لحملٍ، أو) أعارَ (أرضًا لدفنِ) ميِّتٍ (أو لزرعٍ، لمْ يرجعْ) في الإعارةِ حتى (تُرسى السفينةُ، ويَبْلى الميِّتُ، ويُحصدَ الزرعُ) عندَ أوانِه. وليس لمعيرٍ تملُّكُ زرعِه بقيمتِه. نصًّا؛ لأنَّ له وقتًا
(2)
ينتهي إليه
(ولا أجرةَ) على مستعيرٍ لمعيرٍ (منذُ رجعَ) أي: من حينِ رجعَ المعيرُ إلى حينِ زوالِ الضررِ، بحيثُ كانَ الرجوعُ يضرُّ بالمستعيرِ، ولا إذا أعارَ لغرسٍ أو بناءٍ، ثمَّ رجعَ إلى تملُّكِه بقيمتِه أو قلعِه، مع ضمانِ نقصِه؛ لأنَّ بقاءَ ذلك بحكمِ الإعارةِ؛ لأنَّه لا يملكُ الرجوعَ في المنفعةِ في حالٍ تضرُّ بالمستعيرِ، فلا يملكُ طلبَ بدلِها، كالعينِ الموهوبةِ، ولأنَّه إذا أبَى أخْذَ الغراسِ أو البناءِ بقيمتِه أو قلعِه وضمانِ نقصِه، فإبقاؤُه في الأرضِ من جهتِه، فلا أجرةَ له، كما قبلَ الرجوعِ
(إلا في الزرعِ) أي: إذا أعارَه للزرعِ، وزرَعَ، ثمَّ رجعَ المعيرُ قبلَ أوانِ حصدِه،
(1)
مراده: الفتوحي في "المنتهى".
(2)
في الأصل: "وقت"
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يُحصدُ قصيلًا، فلَه أجرةُ مثلِ الأرضِ من رجوعِه إلى الحصادِ؛ لوجوبِ تبقيتِه فيها قهرًا عليه؛ لأنَّه لمْ يرضَ بذلك بدليلِ رجوعِه، ولأنَّه لا يملكُ أخذَ الزرعِ بقيمتِه؛ لأنَّ له أمدًا
(1)
ينتهي إليه، وهو قصيرٌ بالنسبةِ إلى الغرسِ، فلا داعيَ إليه، ولا إلى قلعِه وضمانِ نقصِه؛ لأنَّه لا يمكنُ نقلُه إلى أرضِ أخرى، بخلافِ الغِراسِ وآلاتِ البناءِ. والمستعيرُ إذا اختارَ قلعَ زرعِه، ربَّما يفوِّتُ على المالكِ الانتفاعَ بأرضِه ذلك العامِ، فيتضرَّرُ به، فتعيَّنَ إبقاؤُه بأجرتِه إلى حصادِه، جمعًا بين الحقَّينِ.
* * *
(1)
في الأصل: "أمر"
فَصْلٌ
والمستعيرُ - في استيفَاءِ النَّفعِ - كالمُستَأجِرِ، إلَّا أنَّه لا يُعيرُ ولا يُؤجِّرُ إلَّا بإذنِ المَالِك.
(فصلٌ)
(والمستعيرُ في استيفاءِ النفعِ) من عينٍ معارةٍ، (كالمستأجر)
(1)
فله أن ينتفعَ بنفسِه ومَن يقومُ مقامَه؛ لمِلكِه التصرُّفَ فيها بإذنِ مالِكها
فإذا أعارَه أرضًا لغرسٍ أو بناءٍ: فله أنْ يزرعَ فيها ما شاءَ. وصحَّحَ الحارثيُّ: إذا أعارَه للبناءِ، لا يزرعُ.
وإن استعارَها لزرعٍ: لمْ يغرسْ، ولم يَبْنِ. ولغرسٍ: لا يبني. ولبناءٍ: لا يغرسُ؛ لأنَّ ضررَهما مختلِفٌ. ولا إنْ استعارَها مدَّةً لزرعٍ: أنْ يزرعَ أكثرَ منها. ولا إنْ استعارَها لزرع شعيرٍ: أنْ يزرعَها حنطةً
(2)
(إلا أنَّه) أي: المستعيرَ (لا يُعيرُ) ما استعارَه، (ولا يُؤجِرُ) لعدمِ ملكِه منافعَه، بخلافِ المستأجرِ (إلا بإذنِ المالك)
(3)
: مُعيرِه. فإنْ أذنَ، جازَ. ولا يضمن مستأجرٌ من مستعيرٍ، وعكسُه، تلفَ عينٍ
(4)
عندَه بلا تعدِّ ولا تفريطٍ
(5)
.
(1)
في الأصل: "كمستأجر".
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 110).
(3)
في الأصل: "مالك".
(4)
في الأصل: "وهو عينٌ".
(5)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 295).
وإذا قَبَضَ المُستَعِيرُ العَارِيَّةَ، فَهيَ مَضمُونَةٌ عليهِ بمِثلِ مِثِليٍّ، وقِيمَةِ مُتقَوَّمٍ يومَ تَلَفٍ، فرَّطَ أو لا.
لكِنْ لا ضَمَان في أربعِ مَسَائل إلَّا بالتَّفرِيطِ:
فيمَا إذَا كانت العَاريَّةُ وقفًا، ككُتُبِ عِلمٍ، وسِلاحٍ. وفيمَا إذا أعارَهَا المستَأجِرُ.
أو بَلِيتَ فيما أُعِيرَت له.
(وإذا قبضَ المستعيرُ العاريَّةَ، فهي مضمونةٌ عليه) بكلِّ حالٍ. نصًّا (بمثلِ مِثليٍّ) كصَنجَةٍ
(1)
من نُحاسٍ لا صناعةَ بها؛ استعارَها ليزِنَ بها، فتلِفَتْ، فعليه مثلُ وزنِها من نوعِها. (وقيمةِ مُتقوَّمٍ يومَ تلفٍ) لأنَّه يومُ تحقُّقِ فواتِها (فرَّطَ أو لا) أي: فرَّطَ أو لمْ يفرِّطْ. ويلغو شرطُ عدمِ ضمانِها؛ لأنَّ مقتضى العقدِ في العاريَّةِ الضمانُ.
(لكنْ لا ضمانَ في أربعِ مسائلَ إلا بالتفريطِ) والتعدِّي:
المسألةُ الأُوْلى: (فيما إذا كانت العاريَّةُ وقفًا، ككتبِ علمٍ، وسلاحٍ) كدروعٍ
(2)
موقوفةٍ على غُزاةٍ
(و) الثانيةُ: (فيما إذا أعارَها المستأجرُ) فتلفتْ عندَه بلا تفريطٍ، فلا ضمانَ؛ لقيامِه مقامَ المستأجرِ في استيفاءِ المنفعةِ. فحكمُه حكمُه في عدمِ الضمانِ
(3)
.
والثالثةُ: التي أشارَ إليها بقولِه: (أو بَلِيتَ) العاريَّةُ (فيما أُعيرتْ له) لأنَّ الإذنَ
(1)
في الأصل: "لصنجةٍ".
(2)
في الأصل: "كدرع".
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 296).
أو أركَبَ دابَّته مُنقَطِعًا لله تعالى، فتَلِفَت تَحتَه.
في الاستعمالِ تضمَّنَ الإذنَ في الإتلافِ الحاصلِ به، وما أُذنَ في إتلافِه لا يُضمنُ، كالمنافعِ.
قال أبنُ نصرِ اللهِ: فعلى هذا: لو تلِفَتْ بالانتفاعِ بالمعروفِ، فلا ضمانَ.
وعُلِمَ من قولِه: "بمعروفٍ": أنَّه لو حَمَلَ في الثوبِ ترابًا، فتلِفَ، ضمِنَه؛ لتعدِّيه بذلك
(1)
.
قال في "الإقناع"
(2)
: وليسَ له أنْ يستعملَ ما استعارَه في غيرِ ما يُستعملُ فيه مثلُه، مثلَ أن يحشوَ القميصَ قطنًا، كما يُفعَلُ بالجَوالِقِ
(3)
، أو يَحملَ فيه ترابًا، أو يستعملَ المناشِفَ والطَّنافِسَ في ذلك، أو يستظلَّ بها من الشمسِ، أو نحوه. فإنْ فعلَ، ضمِنَ ما نقصَ من أجزائِها بهذه الاستعمالاتِ؛ لتعدِّيه بها.
فإنِ اختلفَا، أي: المعيرُ والمستعيرُ، فيما ذهَبتْ به أجزاؤُها، فقال المستعيرُ: ذهبتْ بالاستعمالِ المعهودِ - أي: المعتادِ - وقال المعيرُ: ذهبتْ بغيرِه. ولا بيِّنةَ، فقولُ مستعيرٍ مع يمينِه، ويبرأُ من ضمانِها؛ لأنَّه منكرٌ، والأصلُ براءتُه.
والرابعةُ: التي أشارَ إليها بقولِه: (أو أركبَ دابَّتَه) شخصًا (منقطعًا للهِ تعالى، فتلِفَتْ) الدَّابَّةُ (تحتَه) أي: المنقطعِ، لمْ يضمنْها؛ لأنَّها غيرُ مقبوضةٍ؛ لأنَّها بيدِ صاحِبها، وراكبُها لمْ ينفردْ بحفظِها، أشبَه ما لو غطَّىَ ضيفَه بلحافٍ، فتلِفَ عليه، لمْ يضمنْه.
(1)
"كشاف القناع"(9/ 217).
(2)
"الإقناع"(2/ 563).
(3)
الجوالق: بكسر اللام وفتحها: وعاء من الأَوعية. معرّب. "لسان العرب": (جلق).
ومن استَعَارَ ليرَهَنَ، فالمُرتَهِنُ أمينٌ، ويَضمَنُ المُستَعِيرُ.
ومن سَلَّم لشَريكِه الدابَّة ولم يَستَعمِلْها، أو استَعمَلَها في مُقابَلَةِ عَلَفِهَا بإذنِ شَريكِه، وتَلِفَت بلا تَفرِيطٍ، لمْ يَضمَن.
(ومَن استعارَ ليرهنَ) بإذنِ ربِّه، فيصحُّ الرَّهنُ إذًا (فالمرتهنُ أمينٌ) فلا ضمانَ بغيرِ تفريطٍ (ويضمنُ المستعيرُ) لأنَّ العاريَّةَ مضمونةٌ مطلقًا
(ومن سلَّمَ لشريكِه الدَّابةَ) المشتركةَ؛ ليحفظَها (ولم يستعملْها، أو استعملَها في مُقابلةِ عَلَفِها بإذنِ شريكِه، وتلفَت بلا تفريطٍ) أو تعدٍّ (لم يضمنْ) كما لو سُرقتْ من حرزِ مثلِها. أمَّا لو وضعَها في غيرِ حرزِ مثلِها
(1)
، أو تعدَّى فيها؛ بأنْ ساقَها فوقَ العادةِ، أو ضرَبها فوقَ العادةِ، فإنَّه يضمنُها. وسواءٌ تسلَّمها أمانةً، أو بإجارةٍ صحيحةٍ أو فاسدةٍ؛ كأنْ أَذِنَ له أنْ يركبَها بعلَفِها. أمَّا إنْ أَذِنَ له في الركوبِ مجانًا، فإنَّه يضمنُ مطلقًا، وكذا لو وضعَ يدَه عليها بغيرِ إذنِ شريكِه
(2)
.
* * *
(1)
سقطت: "مثلها" من الأصل.
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 297).
كِتابُ الغَصبِ
وهو: الاستِيلاءُ عُرفًا على حَقِّ الغَيرِ عُدوَانًا.
(كتابُ الغصبِ)
وما في مَعنى ذَلكَ مِن الإتلافَاتِ
وهو لغةً: أخذُ الشيءِ ظلمًا. وهو حرامٌ بالإجماعِ.
(وهو) أي: الغصبُ: مصدرُ غَصَبَ الشيءَ يغصِبُه - بكسرِ الصادِ - غصْبًا، واغتصبَه يَغْتصِبُه اغْتِصابًا. والشيءُ مغصوبٌ.
وشرْعًا: (الاستيلاءُ) من
(1)
غيرِ حربيٍّ (عرفًا) أي: فعلٌ يُعدّ استيلاءً عُرْفًا (على حقِّ الغيرِ) مالًا كان أو اختصاصًا (عُدْوانًا) أي: قهرًا بغير حقٍّ.
فعُلِمَ منه: أنَّ الغَصْبَ لا يحصلُ بغيرِ الاستيلاءِ، وأنَّ استيلاءَ
(2)
الحربيِّ على مالِنا ليس غصبًا؛ لأنَّه يَملِكُه بذلك، كما تقدَّمَ في الغنيمةِ، وأن السرقةَ، والنهبَ، والاختلاسَ، ليست غصبًا؛ لعدمِ القهرِ فيها، وأنَّ استيلاءَ الوليِّ على مالِ مولِّيهِ، ليس غصْبًا؛ لأنَّه بحقٍّ.
قيلَ: "قهرًا"؛ زيادةً في الحدِّ؛ لأنَّ الاستيلاءَ يدلُّ عليه.
قال في "المبدع": وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يستلزمُه، مع أنَّه يخرجُ بقيدِ القهرِ ما تقدَّمَ
(3)
من المسروقِ والمنتهَب والمختلَسِ.
(1)
"من" ليست في الأصل، اقتضى السياق إضافتها.
(2)
في الأصل: "الاستيلاءَ".
(3)
في الأصل: "مما تقدَّمَ".
ويلزَم الغَاصِبَ ردُّ ما غَصَبه بنمائِه، ولو غَرِمَ على ردِّهِ أضعافَ قيمَتِهِ.
وإن سَمَرَ بالمَسَامِيرِ بابًا، قلَعَها وردَّها.
وإن زَرَعَ الأَرضَ، فليسَ لربِّها بعدَ
ودخلَ في الحدِّ: ما يُؤخذُ من الأموالِ بغيرِ حقٍّ، كالمكوسِ
(1)
.
(ويلزمُ الغاصبَ ردُّ ما غصبَه بنمائِه) المتَّصلِ، كقِصَارَةِ ثوبٍ، وسِمَنِ حيوانٍ، وتعلُّمِ قنٍّ صنعةً. وبنمائِه المنفصلِ، كولدِ بهيمةٍ. وكذا ولدِ أمةٍ، حيثُ لا يحكمُ بحريَّتِه
(2)
(ولو غرِمَ على ردِّه)
(3)
المغصوبَ (أضعافَ قيمتِه) أي: المغصوبِ؛ لأنَّه هو المتعدِّي، فلم ينظرْ إلى مصلحتِه، فكانَ أَوْلى بالغرامةِ؛ لقولِه عليه السلام:"على اليدِ ما أخذتْ حتى تؤدِّيَه". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجه
(4)
، وحسَّنَه الترمذيُّ.
(وإنْ سَمَرَ) غاصبٌ (بالمساميرِ) المغصوبةِ (بابًا) أو غيرَه، (قعلها) وجوبًا (وردَّها) لربِّها؛ للخبرِ المتقدِّمِ. ولا أثرَ لضرَرهِ؛ لأنَّه بتعدِّيه، كما لو غصَبَ فصيلًا وأدخلَه دارَه، فكبُرَ وصارَ لا يمكنُ إخراجُه؛ لضيقِ بابِها عليه، فإنَّه ينقضُ مجَّانًا، ويخرجُ الفصيلُ
(5)
(وإنْ زرعَ) الغاصبُ (الأرضَ، فليس لربِّها) أي: الأرضِ إذا رُدَّتْ (بعدَ
(1)
"كشاف القناع"(9/ 227).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 300).
(3)
في الأصل: "ردِّ".
(4)
أخرجه أبو داودَ (3561)، والترمذيُّ (1266)، وابنُ ماجه (2400) من حديث سمرة بن جندب. وضعفه الألباني.
(5)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 301).
حَصدِه إلَّا الأُجرَة، وقَبلَ الحَصدِ: يُخيَّرُ بينَ تَركِه بأُجرَتِه، أو تَملُّكِهِ بنَفقَتِه - وهَى مِثلُ البَذْر - وعِوَضِ لواحِقِه.
وإن غَرَسَ أو بَنَى في الأرضِ، أُلزِمَ بقَلعِ غَرسِه وبنائِه، حتَّى ولو كانَ أحدَ الشَّريكَين وفَعَلَه بغيرِ إذنِ شَريكِهِ.
حصدِه) أي: الزرعِ (إلا الأجرةُ) أي: أجرةُ المثلِ، من وضعِ يدِه على الأرضِ إلى ردِّها، وليس له تملُّكُ الزرعِ بعدَ حصادِه؛ لأنَّه انفصلَ عن ملكِه
(1)
(وقبلَ الحصدِ يُخيَّرُ) ربُّ أرضٍ قدَرَ عليها من غاصبٍ (بين تركِه) أي: الزرعِ في أرضِه غلى الحصادِ (بأجرتِه) أي: أجرةِ مثلِه، (أو تملُّكِه) أي: الزرعِ (بنفقتِه - وهي مثلُ البَذْرِ - وعِوضِ لواحِقِه) من حرثٍ، وسقيٍ، ونحوِهما.
(وإنْ غرسَ) غاصبُ أرضٍ فيها (أو بنىَ في الأرضِ، أُلزِمَ بقلعِ غرسِه وبنائِه) لحديثِ: "ليس لعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ". رواه الترمذيُّ
(2)
وحسَّنَه. ولزِمَه أرشُ نقصِها وتسويةُ الأرضِ، وأجرتُها إلى تسليمِها؛ لتلفِ منافعِها تحتَ يدِه العادية. وكذا لو لمْ ينتفعْ بها، لزِمَه أجرتُها وأرشُ نقصِها إنْ نقصتْ بتركِ زرعِها ذلك العامِ
(3)
(حتى ولو كان) الغاصبُ (أحدَ الشَّريكينِ) في الأرضِ (وفعلَه بغيرِ إذنِ شريكِه) للتعدِّي.
* * *
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 301).
(2)
أخرجه الترمذي (1378) من حديث سعيد بن زيد. وصححه الألباني في "الإرواء"(1520).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 302).
فَصْلٌ
وعلى الغَاصِب أَرشُ نَقصِ المَغصُوبِ، وأُجرتُه، مُدَّةَ مَقَامِه بِيَدِهِ. فإن تَلِفَ، ضُمِنَ المِثليُّ بمِثلِه،
(فصلٌ)
(وعلى الغاصبِ أرشُ نقصِ المغصوبِ) لحصولِه بتعدِّيه على مِلكِ غيرِه (وأُجرتُه) أي: أجرةُ مثلِ المغصوبِ (مدَّةَ مَقَامِه بيدِه) إلى وقتِ التسليمِ
(فإنْ تَلِفَ) مغصوبٌ، كحيوانٍ قتلَه غاصبٌ أو غيرُه، أو ماتَ حتفَ أنفِه، ولو غصبَه مريضًا فماتَ من مرضِه، وكثوبٍ أحرقَه شخصٌ، أو احترق
(1)
بصاعقةٍ ونحوِه
(2)
(ضُمِنَ) مغصوبٌ (المثليُّ) وهو كلُّ مكيلٍ من حبٍّ وتمرٍ ومائعٍ وغيرِها، أو موزونٍ كحديدٍ ونُحاسٍ ورَصاصٍ وذهبٍ وفِضَّةٍ وحريرٍ وكَتَّانٍ وقُطْنٍ ونحوِها. لا صِناعةَ فيه: أي: المكيلِ
(3)
، بخلافٍ نحوِ هريسةٍ. أو الموزونِ، بخلافِ حُليٍّ وأسطالٍ ونحوِها. مباحةً: خرجَ: أواني الذهبِ والفضةِ، فتُضمنُ بوزنِها؛ لتحريمِ صناعتِها. يصحُّ السَّلَمَ فيه: بخلافِ نحوِ جوهرٍ، ولُؤْلُؤٍ
(بمثلِه) متعلِّقٌ بـ"ضمِنَ"؛ لأنَّ المثلَ
(4)
أقربُ إليه من القيمةِ؛ لمماثَلته
(5)
له من
(1)
في الأصل: "احترقا".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 303).
(3)
سقطت: "أي المكيل" من الأصل.
(4)
في الأصل: "المثلي".
(5)
في الأصل: "المماثلةِ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
طريقِ الصورةِ والمشاهدةِ والمعنى، بخلافِ القيمةِ فإنَّها تُماثلُ من طريقِ الظنِّ والاجتهادِ.
وسواءٌ تماثلت أجزاءُ المثليِّ
(1)
، أو تفاوتتْ، كالأثمانِ - ولو دراهمَ مغشوشةً رائجةٍ - والحبوبِ والأدهانِ، ونحوِها. وفي رُطبٍ صارِ تمرًا، وسمسمٍ صارَ شَيرَجًا، يُخيَّرُ مالِكُه، فيُضمِّنُه أيَّ المِثلينِ أحبَّ.
وأمَّا مباحُ الصناعةِ، كمعمولِ حديدٍ ونحاسٍ وصوفٍ وشعَرٍ مغزولٍ، فيُضمَنُ بقيمتِه؛ لتأثيرِ صناعتِه في قيمتِه، وهي مختَلفة، والقيمةُ فيه أحصرُ.
فإنْ أعوزَ المِثليُّ
(2)
، لعدمٍ أو بُعْدٍ أو غلاءٍ، فالواجبُ قيمةُ مثلِه يومَ إعوازِه، أي: المثليِّ؛ لوجوبِ القيمة في الذمةِ حينَ انقطاعِ المثلِ، كوقتِ تلفِ المتقوَّمِ. ودليلُ وجوبِها إذنْ، أنَّه يستحقُّ طلبَها. ويجبُ على الغاصبِ أداؤُها، ولا يبقى وجوبُ المِثلِ؛ للعجزِ عنه، ولأنَّه لا يستحقُّ طلبَه ولا استيفاءَه.
فإنْ قدَرَ مَنْ وجبَ عليه المِثلُ قبلَ دفعِ القيمةِ، لا بعدَ أخذِها، وجبَ المِثلُ؛ لأنَّه الأصلُ، وقدْ قدَرَ عليه قبلَ أداءِ البدلِ، ولو بعدَ الحكمِ عليه بالقيمةِ، كمَن عَدمَ الماء، ثمَّ قدَرَ عليه قبلَ انقضاءِ الصَّلاةِ.
فإنْ أخذَ المالكُ القيمةَ عنه، استقرَّ حكمُها، ولم تردَّ، ولا طلَبَ بالمثلِ إذنٌ؛ لحصولِ البراءةِ بأخذِها
(3)
.
(1)
في الأصل: "المثل".
(2)
في الأصل: "المثل".
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 304).
والمتَقوَّمُ بقيمَتِه يومَ تَلفِه في بَلَدِ غَصبهِ.
ويَضمَنُ مُصَاغًا مُباحًا، من ذَهبٍ أو فِضَّة، بالأكثَرِ من قِيمَتِه أو وَزنِه، والمُحرَّمَ بوزنِه.
(و) ضُمِنَ (المتقوَّمُ) إذا تلِفَ (بقيمتِه يومَ تلفِه) لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: "مَن أعتقَ شِرْكًا له في عبدٍ، قُوِّمَ عليه قيمةَ العدْلِ" متفقٌ عليه
(1)
. فأمرَ بالتقويمِ في حصَّةِ الشريكِ؛ لأنَّها مُتلَفةٌ بالعِتْقِ، ولم يأمرْه بالمثلِ. ولأنَّ غيرَ المثلي لا تتساوى أجزاؤُه، وتختلفُ صفاتُه، فالقيمةُ فيه أعدلُ وأقربُ إليه.
وتعتبرُ قيمتُه (في بلدِ غَصْبِه) من نقدِ بلدِ الغَصْبِ؛ لأنَّه موضعُ الضمانِ بمقتضى التعدِّي، فإنْ تعدَّدَ نقدُ بلدِ غصبِه؛ بأنْ كانَ فيه نقودٌ، فالقيمةُ من غالبِه رَواجًا؛ لانصرافِ اللفظِ إليه فيما لو باعَ بنقدٍ مطلقٍ
(ويَضمنُ مُصاغًا مباحًا) أي: فيه صناعةٌ مباحةٌ، كمعمولٍ (من ذهبٍ، أو فضةٍ) من أساورَ، وخلاخيلَ، ودَمالجَ
(2)
ونحوِها (بالأكثرِ من قيمتِه، أو وزنِه) فإنْ كانَ المصوغُ من أحدِ النقدينِ، قُوِّمَ بالآخرِ؛ لئلا يؤدِّي إلى الرِّبا، فيقوَّمُ حليُّ الذهبِ بالفضةِ، وحليُّ الفضةِ بالذهبِ، أو كان المغصوبُ محلَّىً بأحدهما، قومه بغير جنسه. وإن كان المغصوب محلَّىً بهما معًا، قوَّمَه بما شاءَ منهما؛ للحاجةِ إلى التقويمِ بأحدِهما؛ لأنَّهما قيمُ المتلفاتِ، وليس أحدُهما أَوْلى من الآخرِ.
(والمحرَّمُ) صناعتُه، كأواني ذهبٍ وفضةٍ، وحليٍّ محرَّمٍ، كسرجٍ وركابٍ، ضمِنَه الغاصبُ (بوزنِه) فقط؛ لأنَّ الصناعةَ المحرَّمةَ لا قيمةَ لها شرعًا.
(1)
أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1501).
(2)
الدملج والدملوج: سوار يحيط بالعضد. "المعجم الوسيط": (دملج).
ويُقبَلُ قولُ الغَاصِبِ في قِيمَةِ المَغصُوبِ، وفي قَدرِه.
وفي "الانتصار" و"المفردات": لو حكمَ حاكمٌ بغيرِ المثلِ في المثليِّ، وبغيرِ القيمةِ في المتقوَّمِ، لمْ ينفذْ حكْمُه، ولم يلزمْ قبولُه. واقتصرَ عليه في "المبدع" وغيرِه
(1)
.
(ويُقبلُ قولُ الغاصبِ) بأنِ اختلفَ المالكُ والغاصبُ (في قيمةِ المغصوبِ) بأنْ تَلِفَ. (وفي قدرِه) وفي حدوثِ عيبِه، وفي صناعةٍ فيه؛ بأنَّ قالَ مالكُه: كان كاتبًا، وأنكرَه غاصبٌ. أو اختلفا في مِلكِ ثوبٍ على مغصوبٍ، أو اختلفا في مِلكِ سرجٍ عليه، فالقولُ قول الغاصبِ بيمينِه، حيثُ لا بيِّنةَ للمالكِ؛ لأنَّه منكرٌ، والأصلُ براءتُه من الزائدِ، وعدمُ الصناعةِ فيه، وعدمُ ملكِ الثوبِ، أو السرجِ عليه.
وإنِ اختلفا في ردِّه، أو في وجودِ عيبٍ فيه؛ بأنْ قالَ الغاصبُ: كانَ العبدُ أعورَ، أو أعرجَ، أو يبولُ في فراشِه، ونحوِه، فقولُ مالكٍ بيمينِه على نفي ذلك؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الردِّ والعيب
(2)
.
"فرعٌ": ومَن بيدِه غُصوبٌ لا يعرِفُ ربَّها
(3)
. وعنه: أو عَرَفَه وشقَّ دفعُه إليه، وهو يسيرٌ، كالحبَّةِ.
أو كان بيدِه رهونٌ لا يعرِفَ أربابَها. ونقلَ أبو الحارثِ: أو عَلِم المرتهنُ ربَّ المالِ، لكنَّه أيسَ منه.
أو بيدِه أماناتٌ من ودائعَ وغيرِها، لا يعرفَ أربابَها، أو عرَفَهم وفُقِدُوا، وليس لهم ورثةٌ. فسلَّمَ الغصوبَ، أو الرُّهونَ، أو الأماناتِ التي لا يعرِفُ أربابَها، إلى حاكمٍ -
(1)
"كشاف القناع"(9/ 286).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 167)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 306).
(3)
في الأصل: "أربابَها".
ويضمَنُ جِنايَتَه وإتلافَه بالأقلِّ من الأَرْشِ أو قيمَتِه.
وإن أطعَمَ الغَاصِبُ ما غَصَبَه، حتَّى ولو لِمَالكِه، ولم يَعلَم، لمْ يَبْرأ الغَاصِبُ
ويلزمُ الحاكمَ قبولُها - برِئَ من عهدتِها؛ لقيامِ قبضِ الحاكمِ لها مقامَ قبضِ أربابِها.
ولمَنْ بيدِه الغصوبُ، أو الرهونُ، أو الأمانات
(1)
، إنْ لمْ يدفعْها لحاكمٍ، الصدقةُ بها عنهم بلا إذنِ حاكمٍ. ونقلَ المرُّوذيُّ
(2)
: على فقراءِ مكانِه، أي: الغَصْبِ. بشرطِ ضمانِها لأربابِها؛ لأنَّ الصدقةَ بها عنهم بدونِ ضمانٍ إضاعةٌ لها، لا إلى بَدَلٍ، وهو غيرُ جائزٍ.
ويسقطُ عن الغاصبِ أو السارقِ ونحوِه، إثمُ الغصبِ أو السرقةِ ونحوِها؛ لأنَّه معذورٌ بعجزِه عن الردِّ؛ لجهلِه بالمالكِ. وثوابُها لأربابِها. وفي الصدقةِ بها عنهم جمعٌ بين مصلحةِ الغاصبِ بتبرئةِ ذمَّتِه، ومصلحةِ المالكِ بتحصيل الثوابِ له.
وإذا حضروا بعدَ الصدقةِ بها، خُيِّروا بين الأجرِ والأخذِ من المتصدِّقِ، فإنْ رجعوا عليه، فالأجرُ له. نصًّا
(3)
.
(ويضمنُ) الغاصبُ (جنايتَه) أي: جنايةَ المغصوبِ، أو
(4)
إتلافَ المغصوبِ (وإتلافه بالأقلِّ من الأرشِ) أي: أرشِ النقصِ (أو قيمةِ) التالفِ
(وإنْ أطعمَ الغاصبُ ما غصبَه، حتى ولو لمالكِه) أي: مالكِ المغصوبِ (ولمْ يعلمْ) المالكُ، أو غيرُه (لم يبرأْ الغاصبُ) من عهدتِه، واستقرَّ الضمانُ عليه. وقال
(1)
في الأصل: "الأمات".
(2)
في الأصل: "المروزي".
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 168).
(4)
في الأصل: "أي".
وإن عَلِمَ الآكِلُ حقيقَةَ الحَالِ، استقرَّ الضَّمانُ عليه.
ومن اشترَى أرضًا، فغَرَسَ أو بَنى فِيهَا، فخَرَجَت مُستَحقَّةً للغَيرِ، وقُلِعَ غَرسُه وبناؤُه، رَجَعَ على البَائِعِ بجَميعِ ما غَرِمَه.
جماعةٌ: وكذا إذا أطعمَه لعبدِه، أو دابَّتِه غيرَ عالمٍ به
(1)
.
(وإنْ عَلِمَ الآكلُ) من مالكٍ وغيرِه (حقيتةَ الحالِ) أي: بأنَّه مغصوبٌ (استقرَّ الضمانُ عليه) لأنَّه أتلفَ مالَ غيرِه بغيرِ إذنِه، عالمًا، من غيرِ تغريرٍ. وللمالكِ تضمينُ الغاصبِ؛ لأنَّه حالَ بينَه وبينَ مالِه، والآكلِ؛ لأنَّ التلفَ حصلَ في يدِه. فإنْ ضمِنَ الغاصبُ، رجعَ على الآكلِ، وإن
(2)
ضمِنَ الآكلُ، فهدرٌ. قالَه في "المبدع"
(3)
.
(ومَن اشترى أرضًا، فغرسَ) فيها (أو بنىَ فيها، فخرجتْ مستحقَّةً للغيرِ) أي: لغيرِ بائعِها (وقُلِعَ غرسُه وبناؤُه) أي: المشتري؛ لأنَّه وُضِعَ بغيرِ حقٍّ (رجعَ) مشترٍ (على البائع
(4)
بجميعِ ما غرِمَه) من ثمنٍ أقبضَه، وأجرةِ غارسٍ وبانٍ، وثمنِ مؤنٍ مستهلكةٍ، وأرشِ نقصٍ بقلعٍ، وأجرةٍ، ونحوِه؛ لأنَّه غَرَّه ببيعِه، وأوهمَه أنَّها مِلكُه، وذلك سببُ بنائِه وغرسِه.
وعُلِمَ منه: أنَّ لمستحقِّ الأرضِ قلعَ الغراسِ والبناءِ بلا ضمانِ نقصٍ؛ لوضعِه في مِلكِه بغيرِ إذنِه، كالغاصبِ
(5)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 307).
(2)
سقطت: "إن" من الأصل.
(3)
"المبدع"(5/ 178)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 308).
(4)
في الأصل: "بائعٍ".
(5)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 156)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 309).
فَصْلٌ
ومَنْ أتلَفَ - ولو سَهوًا - مالًا لغيرِه، ضَمِنَه. وإن أُكرِهَ على الإتلافِ، ضَمِنَ مَنْ أكرَهَهُ.
(فصلٌ)
(ومَن أتلفَ) من مكلَّفٍ أو غيرِه، إنْ لمْ يدفعْه ربُّه له (ولو سهوًا، مالًا) محترمًا (لغيرِه) بلا إذنِه، ومثلُه يضمَنُه، (ضمِنَه) أي: ما أتلفَه؛ لأنَّه فوَّتَه عليه، فوجبَ عليه الضمانُ، كما لو غصبَه فتلِفَ عندَه.
وخرجَ بـ"المالِ": نحوُ سِرْجينٍ نجسٍ، وكلبٍ، ونحوِهما.
وبـ"المحترمِ": نحوُ صنمٍ، وصليبٍ، وآلاتِ لهوٍ.
وبقولِه: "لغيرِه": مالُ نفسِه.
و: "بلا إذنِه": عما لو أذِنَ مالكُه المطلقُ التصرُّفِ في إتلافِه، فإنَّ المتلفَ حينئذٍ يكونُ وكيلًا عن مالكِه في الإتلافِ.
وبقولِه: "ومثلُه يضمنُه": ما يتلفُه أهلُ العدلِ من مالِ أهلِ البغي، وعكسُه، حالَ الحربِ، وعمَّا يتلفُ المسلمُ من مالِ الحربيِّ، والحربيُّ من مالِ المسلمِ، وعمَّا يتلفُه الصغيرُ والمجنونُ من مالٍ دفعهَ إليهما مالكُه، وعمَّا يتلفُه الأبُ من مالِ ولدِه، وعمَّا يتلفُه دفعًا عن نفسِه، كما لو صالَ عليه رقيقٌ أو بهيمةٌ لمعصومٍ
(1)
(وإنْ أُكرِهَ) إنسانٌ (على الإتلافِ) أي: إتلافِ مالِ غيرِه المضمونِ (ضمِنَ مَن أكرَهَهُ) ولو أكرِه على إتلافِ مالِ نفسِه
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 171)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 309).
وإنْ فَتَحَ قفَصًا عن طائِرٍ، أو حَلَّ قِنًّا أو أسِيرًا أو حَيوانًا مربُوطًا، فذَهَبَ، أو حَلَّ وِكاءَ زِقٍّ فيهِ مَائِعٌ فاندَفَقَ، ضَمِنَهُ.
ولو بَقِيَ الحيوانُ، أو الطَّائِرُ حتَّى نفَّرَه آخَرُ، ضَمِنَ المُنفِّرُ.
(وإنْ فتحَ قَفَصًا عن طائرِ) مملوكٍ محترمٍ فيه، ففاتَ، أو أتلفَ شيئًا، ضمِنَه، أو فتحَ إصطبلَ حيوانٍ (أو حلَّ قنًّا)
(1)
: قيدَ قنٍّ (أو أسيرًا، أو) حلَّ قيدَ (حيوانٍ، مربوطًا، فذهبَ) أي: الطائرُ، والعبدُ، والأسيرُ، ضمِنَ الفاتحُ والحالُّ
(أو حلَّ وِكاءً) بكسرِ الواوِ، وهو الحبلُ الذي يُربطُ به القِرْبةُ (زِقِّ) دُهنٍ، بكسرِ الزاي، أي: ظرْفٌ (فيه مائعٌ) أو جامد، (فاندفقَ) أو حلَّ وكاءَ زِقٍّ حامدٍ فأذابتْهُ
(2)
الشمسُ، فاندفقَ (ضمِنَه) المتعدِّي بذلك
فإنْ قرَّبَ إليه شخصٌ نارًا فذَابَ بها، فقِياسُ مذهبِنَا: يضمنُه مَن قَرَّبَ النَّارَ، كالدَّافِعِ معَ الحافِرِ. قالَه المجدُ
(3)
.
(ولو بقيَ الحيوانُ) الذي حَلَّ قيدَه (أو الطائرُ) الذي فَتَحَ قفصَه (حتى نفَّرَه آخرُ) بعد ذلك، فذهبا، (ضمِنَ المنفِّرُ) وحدَهُ؛ لأنَّ سبَبَه أخصُّ، فاختصَّ الضمانُ به.
وكذا لو حلَّ حيوانًا وحرَّضَه آخرُ، فجنيَ، فضمانُ جنايتِه على المحرِّضِ.
وإنْ وقعَ طائرُ على جدارٍ، فنفَّرَه شخصٌ، فذهبَ، لمْ يضمنْه؛ لامتناعِه قبلَه، فليس تنفيرُه بسببِ فواتِه، وإنْ رماه فقتلَه، ضمِنَه، كما لو رمَاه في هواءِ غيرِه.
(1)
سقطت: "قنًّا" من الأصل.
(2)
في الأصل: "فأذهبتْهُ".
(3)
"كشاف القناع"(9/ 304).
ومَنْ أوقَفَ دابَّةً بطَريقٍ - ولو واسِعًا - أو تَرَكَ بها نحوَ طِينٍ أو خَشَبةٍ، ضَمِنَ ما تَلِفَ بذلِكَ، لكِنْ لو كانَتِ الدَّابَّةُ بطَريقٍ واسِعٍ فضَرَبَها، فرفَسَتْهُ، فلا ضَمَانَ.
ومن اقتنَى كَلبًا عَقُورًا، أو أسوَدَ بَهيمًا، أو أسَدًا، أو ذِئبًا، أو جَارِحًا، فأَتلَفَ شيئًا،
(ومَن أوقفَ دابَّةً) له، أو لغيرِه (بطريقٍ، ولو) كان الطريقُ (واسعًا) نصًّا. (أو تركَ بها) أي: الطريقِ، ولو واسعًا (نحوَ طينٍ، أو خشبةٍ) أو عمودٍ، أو حجرٍ، أو كيسِ دراهمَ، أو أسندَ خشبةً إلى حائطٍ (ضمِنَ ما تَلِفَ بـ) سببِ (ذلك) الفعلِ؛ لتعدِّيه به؛ لأنَّه ليس له في الطريقِ حقٌّ، وطبْعُ الدابَّةِ الجنايةُ بفمِها، أو رِجْلِها، فإيقافُها في الطريقِ، كوضعِ الحجرِ، ونصبِ السكينِ فيه
(1)
.
(لكن لو كانت الدابَّةُ بطريقٍ واسعٍ، فضربَها فرفَسَتْهُ، فلا ضمانَ) أو نفحَتْ
(2)
دابَّةٌ بطريقٍ ضيقٍ مَن ضرَبَها، ضمِنَ.
المرادُ: أنَّ ضربَها لا يمنعُ الضمانَ، حيثُ كانت بطريقٍ ضيقٍ. ولعلَّ المرادَ: إذا ضربَها ليمرَّ، أمَّا إنْ ضربَها عبثًا، فنفحتْه، فماتَ، فالأظهرُ: عدمُ الضمانِ.
(ومَن اقتنَى كلبًا عقورًا) بأنْ يكونَ له عادةٌ بالعقرِ، (أو) اقتنى كلبًا (أسودَ بهيمًا، أو) اقتنى (أسدًا، أو ذئبًا، أو جارحًا) أو كبشًا معلَّمًا النِّطاحَ، أو اقتنَى هرًّا تأكلُ الطيورَ، وتقلِبُ القُدورَ، مع علمِه بحالِها؛ بأنْ تقدَّمَ للهرِّ عادةٌ بذلك - ويجوزُ قتلُه حينئذٍ - أو نحوَ دبٍّ، وقردٍ، وصقرٍ، وبازٍ
(3)
(فأتلفَ شيئًا) بمنزلهِ، أو خارجِه
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 174)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 312).
(2)
نَفَحَتِ الدابة: رَمحتْ برجلها. "لسان الغرب": (نفح).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 313).
ضَمِنَه، لا إنْ دَخَلَ دارَ ربِّه بلا إذنِه.
(ضمِنَه) مقتنيها؛ لأنَّه متعدِّيًا باقتنائِها.
ولا فرق في ضمانٍ إتلافِ ما لا يجوزُ اقتناؤُه ممَّا تقدَّمَ بين الإتلافِ في الليلِ والنهارِ؛ لأنَّه للعدوانِ. بخلافِ البهائمِ من إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ ونحوِها، إلا أنْ يكونَ المخروقُ ثوبُه أو نحوُه، دخلَ منزلَه بغيرِ إذنِه، أو دخلَ بإذنِه، ونبَّهه ربُّ المنزلِ؛ لأنَّه إذا دخلَ بغيرِ إذنِه، فهو المتعدِّي
(1)
بالدخولِ، وإن كان بإذنِه، ونبَّهه على أنَّه عقورٌ، أو غيرُ موثوقٍ، فقدْ أدخلَ الضرَّرَ على نفسِه على بصيرةٍ
(2)
، وإليه أشارَ بقولِه:(لا إنْ دخلَ دارَ ربِّه بلا إذنِه)
ولا يضمنُ مقتني المذكوراتِ، من الكلبِ العقورِ ونحوِه، ما أفسدتْ بغيرِ ذلك المذكورِ من عَقرٍ، أو خَرقِ ثوبٍ؛ بأنْ أفسدتْ ببولٍ، أو ولوغٍ في إناءٍ؛ لأنَّ هذا لا يختصُّ بالكلبِ العقورِ
ولو حصلَ عندَه كلبٌ عقورٌ، أو سِنَّورٌ ضارٌّ، أي: له عادةٌ بأكلِ الطيورِ، وقَلبِ القدورِ، من غيرِ اقتناءٍ، ومن غيرِ اختيارٍ، فأفسدَ شيئًا، لمْ يضمنْ ما أفسدَه؛ لأنَّه لا تعدِّي منه، ولا تسبُّبَ إذ لمْ يقتنْه
وإنِ اقتنَى حمَامًا، أو غيرَه من الطيرِ، فأرسلَهُ نهارًا، فلقطَ حبًّا للغيرِ، ضمِنَ المقتني، خرَّجَه في "الآداب" على مسألةِ الكلبِ العقورِ. وإنْ قلنا: يحرُمُ الاقتناءُ؛ وإلا ففيه نظرٌ. وبَعُدَ الجزمُ بعدمِ الضمانِ. وفي "المغني": لا ضمانَ. وكذا نقلَهُ في "الإنصاف" عن الحارثيِّ، واقتصرَ عليه
(3)
.
(1)
في الأصل: "إذا دخلَ بغيرِ إذنِه، أو دخلَ بإذنِه هو المتعدِّي".
(2)
"كشاف القناع"(9/ 309، 310).
(3)
"كشاف القناع"(9/ 310).
ومن أجَّج نارًا بمِلكِه، فتعدَّت إلى مِلكِ غَيرِه بتَفرِيطِه، ضَمِنَ، لا إنْ طَرأَتْ ريحٌ.
ومَن اضطَجَع في مَسجِدٍ، أو في طَريقٍ،
(ومن أجَّجَ نارًا بملكِه) بأنْ أوقدَ النارَ حتى صارتْ تلتهبُ في دارِه، أو على سطحِه، أو سقى أرضَه لشجرٍ أو زرعٍ بها، أو ليزرَعَها (فتعدَّتْ): ما ذُكِرَ من النارِ والماءِ (إلى مِلكِ غيرِه) أي: الفاعلِ، فأتلَفَ شيئًا (بتفريطِه) بأنْ تركَ النارَ موجَّجَةً، والماءَ مفتوحًا، ونامَ ونحوه؛ لتعدِّيه أو تقصيرِه، كما لو باشرَ إتلافَه
(1)
(ضمِنَ) ما أتلفَته. قال في "الرعاية": قلتُ: بأنْ كانَ المكانُ مغصوبًا، ضمِنَ مطلقًا، يعني: سواءٌ فرَّطَ، أو أسْرَفَ، أو لا. وجزمَ بمعناه في "الإقناع"
(2)
.
(لا إنْ طرأَتْ ريحٌ) بعدَ أنْ لمْ تكنْ؛ لعدمِ تفريطِه. قال في "عيون المسائل": لو أجَّجَها
(3)
على سطحِ دارٍ، فهبتْ الريحُ، فأطارتِ الشررَ لمْ يضمنْ؛ لأنَّه في مِلكِه، ولم يفرِّطْ. وهبوبُ الريحِ ليسَ من فعلِه
(ومَن اضطجَعَ في مسجدٍ، أو) اضطجعَ، أو قامَ (في طريقٍ) واسعٍ، لا ضيِّقٍ، فعثرَ به حيوانٌ، لمْ يضمنْ تلفَه، ولا نقصَه؛ لأنَّه فعَلَ مباحًا لمْ يتعدَّ به على أحدٍ، في مكانٍ له فيه حقٌّ، أشبَه ما لو فعلَه بملكِه.
ويضمنُ إنْ كان الفعلُ محرَّمًا، كالجلوسِ مع الحيضِ والجنابةِ في المسجدِ، أو مع ضررِ المارَّةِ في الطريقِ. قالَه في "شرح المنتهى".
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 313).
(2)
"الإقناع"(2/ 595)، وانظر "دقائق أولي النهى"(4/ 176).
(3)
في الأصل: "أجَّجَها يضمنُ"، وانظر "كشاف القناع"(9/ 311).
أو وَضَعَ حَجَرًا بِطينٍ في الطَّريقِ؛ ليطأَ عليه النَّاسُ، لمْ يَضمَن.
ومقتضى كلامِ الحارثيِّ: لا ضمانَ أيضًا؛ لأنَّ المنعَ لا لذاتِ الجلوس، بل لمعنىً قارنَه، وهو الجنابةُ أو الحيضُ، فأشبَه مَن جلسَ بملكِه بعدَ نداءِ الجمعةِ
(1)
(أو وضَعَ
(2)
حجرًا بطينٍ في الطريقِ؛ ليطأَ عليه الناسُ، لمْ يضمنْ) لأنَّ فيه نفعًا للمسلمين، كإصلاحِها، وإزالةِ الماءِ والطينِ منها، وحفرِ هَدَفَةٍ
(3)
فيها، وقلعِ حجرٍ يضرُّ بالمارَّةِ.
وإنْ أحدثَ بركةً للماءِ، أو كنيفًا، أو مستحمًّا، فنَزَّ إلى جدارِ جارِه، فأوهاه وهدمَه، ضمِنَه؛ لأنَّ هذه الأسبابَ تتعدَّى. ذكرَه في "الفصول"، و "التلخيص" قالا
(4)
: وللجارِ منعُه من ذلك، إلا أنْ يبنيَ حاجزًا محكمًا يمنعُ النَّزَّ.
زادَ ابن عقيلٍ، أو يَبعُدُ، بحيثُ لا يتعدَّى النَّزُّ إلى جدارِ جارِه. وقال أيضًا: الدَّقُّ الذي يهدُّ الجدارَ مضمونُ السرايةِ؛ لأنَّه عدوانٌ محضٌ
(5)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(9/ 316).
(2)
في الأصل: "وقع".
(3)
الهدف: كل شيء مرتفع من بناء، أَو كَثِيب رَمْل، أَو جبل. "لسان العرب":(هدف). وفي "كشاف القناع"(9/ 315): أي: ربوة عالية.
(4)
في الأصل: "قال".
(5)
"كشاف القناع"(9/ 316).
فَصْلٌ
ولا يَضمَنُ ربُّ بهيَمةٍ غَيرِ ضَارِيَةٍ ما أتلَفَتهُ نَهارًا من الأَموالِ والأبدَانِ، ويضمَنُ راكِبٌ وسَائِقٌ وقَائِدٌ قادِرٌ على التَصرُّفِ فيها.
(فصلٌ)
(ولا يضمنُ ربُّ بهيمةٍ غيرِ ضاريةٍ)
(1)
أي: معروفةٍ بالصَّوْلِ (ما أتلفتْه نهارًا من الأموالِ والأبدانِ) إن لمْ تكنْ يدُه عليها، ولو كان المتلَفُ صيدًا بالحرمِ؛ لحديثِ:"العجماءُ جُرْحُها جُبَارٌ". متفقٌ عليه
(2)
. يعني: هَدَرًا.
فإنْ كانتْ ضاريةً، أو من الجوارحِ وشِبْهِها، ضمِنَ. قال الشيخُ تقيُّ الدينِ فيمَنْ أمرَ رجلًا بإمساكهِا، أي: الضاريةِ: ضمِنَه إن لمْ يُعْلِمْه بها.
وفي "الانتصار": البهيمةُ الصائلةُ يلزمُ مالِكَها وغيرَه إتلافُها
(3)
(ويضمَنُ راكبٌ، وسائقٌ، وقائدٌ قادرٌ على التصرُّفِ فيها) جنايةَ يدِها، وفمِها، وولدِها، ووطءٍ برجلِها؛ لحديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ مرفوعًا: "مَن أوقفَ
(4)
دابَّةً في سبيلٍ من سُبُلِ المسلمين، أو في سوقٍ من أسواقِهم، فأوطأَتْ
(5)
بيدٍ أو رِجلٍ، فهو ضامنٌ". رواه الدارقطنيُّ
(6)
. ولأنَّ فعلَها منسوبٌ إلى مَن هي معه إذا كان يمكنُه
(1)
في الأصل: "الضارية".
(2)
أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710) من حديث أبي هريرة.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 181)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 315).
(4)
في الأصل: "وقف".
(5)
في الأصل: "فإنْ وطأتْ".
(6)
أخرجه الدارقطني (3/ 179) قال الألباني في "الإرواء"(1525): ضعيف جدا.
وإن تعدَّدَ راكِبٌ، ضَمِنَ الأوَّلُ، أو مَنْ خَلفَه إن انفَرَدَ بتدبِيرِهَا، وإن اشتَرَكَا في تَدبِيرِها، أو لمْ يَكُنْ إلَّا قائِدٌ وسَائِقٌ، اشتَركَا في الضَّمان.
حفظُها.
ولا يضمنُ مَن بيدِه دابَّةٌ جنايةَ ذَنَبِها؛ لأنَّه لا يمكنُ التحفُّظُ منه
(وإنْ تعدَّدَ راكبُ) دابَّةٍ؛ بأنْ كانَ عليها اثنانِ فأكثرُ (ضمِنَ الأوَّلُ) ما يضمنُه المنفردُ؛ لأنَّه المتصرِّفُ فيها، والقادرُ على كفِّها (أو) أي: ويضمنُ (من خلفَه إنِ انفردَ بتدبيرِها) لصغرِ الأوَّلِ، أو مرضِه، أو عماه
(وإنِ اشتركا) أي: الراكبانِ (في تدبيرِها، أو لمْ يكنْ) معها (إلا قائدٌ وسائقٌ، اشتركا في الضمانِ) لأنَّ كلًّا منهما لو انفردَ لضَمِنَ، فإذا اجتمعا، ضمنا
(1)
.
ويشارك راكبٌ معهما، ومع أحدِهما، من سائقٍ وقائدٍ.
وإبلٌ مُقطَرَةٌ
(2)
، كواحدةٍ في الضمانِ. وبِغالٌ أيضًا مُقطَرَةٌ، كواحدةٍ في الضمانِ على قائدٍ؛ لأنَّ الجميعَ يسيرُ بسيرِ الأوَّلِ، ويقفُ بوقوفِه، ويطأُ بوَطئِه، وبذلك يمكنُه حفظُ الجميعِ عن الجنايةِ.
وإنْ كانَ مع القائدِ سائقٌ، شاركَ السائقُ القائدَ في ضمانِ الأخيرِ فقطَ، إنْ كان السائقُ في آخرِها؛ لأنَّهما اشتركا في التصرُّفِ في الأخيرِ، ولا يشاركُ السائقُ القائدَ فيما قبلَ الأخيرِ؛ لأنَّه ليسَ سائقًا له ولا تابعًا لما يسوقُه.
وإنْ كانَ سائقٌ فيما عدا الأوَّلِ من المُقطَرَةِ، شاركَ السائقُ القائدَ في ضمانِ ما
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 316).
(2)
الإبل المقطرة: هو أَن تُشَدَّ الإِبلُ على نَسَقٍ واحدًا خَلفَ واحد. وقَطَرَ الإِبلَ يَقْطُرها قَطْرًا وقَطَّرها قَرَّب بعضَها إِلى بعض على نَسَقٍ. "لسان العرب": (قطر).
ويَضمَنُ ربُّها ما أتلَفَتهُ ليلًا، إن كانَ بتفرِيطِه.
وكَذَا مُستَعيرُهَا ومستأجِرُهَا، ومَنْ يحفَظُها.
باشرَ سوقَه، وفي ضمانِ ما بعدَه، فيختصُّ به السائقُ، دونَ ما قبلَه؛ لأنَّه ليس بسائقٍ له، ولا تابعٍ لما يسوقُه، فانفردَ به القائدُ.
وسواءٌ كان السائقُ والقائدُ مالكًا، أو أجيرًا، أو مستأجِرًا، أو مستعيرًا، أو موصى له بنفعِها.
ولو انفلتتْ دابَّةٌ ممَّنْ هي بيدِه، وأفسدتْ، فلا ضمانَ. نصًّا. فلو استقبلَها إنسانٌ فردَّهَا، فقياسُ قولِ الأصحابِ: الضمانُ. قالَهُ الحارثيُّ
(1)
(ويضمنُ ربُّها) أي: مالكُ الدابَّةِ (ما أتلفتْه) من زرعٍ، وشجرٍ، وثوبٍ خرقتْه، أو مضغتْه، أو وَطِئَتْ عليه (ليلًا) فقطْ. نصًّا (إن كان بتفريطه) في حفظِها؛ بأنْ لمْ يضمَّها، بحيثُ لا يمكنُها الخروجُ. فإنْ فعلَ
(2)
، فأخرجَها غيرُه، أو فتحَ عليها بابَها، فعليه الضمانُ، دونَ مالكِها؛ لتسبُّبِه.
ولا يضمنُ ما أفسدتْ نهارًا إلا غاصبُها، فيضمنُ ما أفسدتْ نهارًا أيضًا؛ لتعدِّيه بإمساكِها
(3)
(وكذا) أي
(4)
: ويضمنُ (مستعيرُها، ومستأجرُها، ومَن يحفظُها) أي: مَن استؤجرَ لحفظِها.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 184).
(2)
أي: ضمها.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 184)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 317).
(4)
سقطت: "أي" من الأصل.
ومَنْ قَتلَ صَائِلًا عليِه، ولو آدميًّا؛ دَفْعًا عن نفسِه أو مالِه. أو أتلف مِزمَارًا، أو آلةَ لَهوٍ، أو كَسَرَ إناءَ فِضَّةٍ أو ذَهَبٍ، أو فيهِ خَمرٌ مأمورٌ بإراقَتِهَا، أو كَسَرَ
(ومن قَتَلَ) حيوانًا (صائلًا) أي: واثبًا (عليه، ولو) كان الصائلُ (آدميًا) صغيرًا أو كبيرًا، عاقلًا أو مجنونًا، حرًّا أو عبدًا
(1)
، أو غيرَه من البهائمِ والطيورِ
(2)
(دفعًا عن نفسِه أو مالِه) لمْ يضمنْه.
ولو دفعَ إنسانٌ الصائلَ عن غيرِه - غيرَ ولده
(3)
، ونسائِه، كزوجتِه، وأُمِّه، وأختِه، وعمَّتِه، وخالتِه - بالقتلِ، ضمِنَه.
وفي "الفتاوى الرجبيات" عن ابنِ عقيلِ، وابنِ الزاغونيِّ: لا ضمانَ عليه أيضًا
(4)
.
قال العلَّامةُ الشيخُ يوسفُ الفتوحيُّ في "حاشيتِه على المنتهى": ومحلُّه: إنْ لمْ يندفعْ إلا بالقتلِ، وإلا ضمِنَه. ولو دفعَه عن أجنبيٍّ فقُتِلَ، ضمِنَه
(أو أَتلَفَ) بكسرٍ، أو خرقٍ، أو غيرِهما، ولو كان - ما يأتي - مع صغيرٍ حالَ إتلافِه (مِزمارًا، أو آلةَ لهوٍ) كطنبورٍ، أو عودٍ، أو طبلٍ، أو دُفٍّ بصُنُوجٍ، أو حِلَقٍ، أو نَرْدٍ، أو شِطْرَنج، أو أتلفَ صليبًا
(5)
(أو كسَرَ إناءَ فِضَّةٍ أو) إناءَ (ذهبٍ، أو) كسرَ، أو شقَّ إناءً (فيه خمرٌ مأمورٌ بإراقتِها) وهي ما عدا خمر الخلَّالِ وَالذمِّي المُستَتِرِ
(1)
في الأصل: "حرًّا أو مجنونًا".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 317).
(3)
في الأصل: "ولد".
(4)
"كشاف القناع"(9/ 330).
(5)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 318).
حُلِيًّا مُحرَّمًا، أو أتلَفَ آلةَ سِحرٍ أو تَعزِيمٍ أو تنجيمٍ، أو صُوَر خَيالٍ، أو أتلَفَ كُتُبَ مبتَدِعَةٍ مُضِلَّةً، أو أتلَفَ كِتابًا فيه أحاديثُ رَديئةٌ، لمْ يضمَن في الجَميع.
(أو كسرَ حُليًّا محرَّمًا) على ذكر، لمْ يستعملْه، أي: يتخذُه، يصلُحُ للنساءِ، لمْ يضمنْه؛ لعدمِ احترامِه. وأما إذا أتلفَه، فقدْ تقدَّمَ: أنَّ محرَّمَ الصناعةِ يُضمنُ بمثلِه وزنًا، وتُلغَى صناعتُه.
قال في "الآداب الكبرى": ولا يجوزُ تخريقُ
(1)
الثيابِ التي عليها الصورُ، ولا الرُّقوم التي تصلُحُ بُسطًا ومَضَارِجَ
(2)
، وتداسُ، ولا كسرُ الحليِّ المحرَّمِ على الرجالِ إنْ صلحَ للنساءِ. قال في موضعٍ آخرَ: ولم يستعملْه الرجالُ
(3)
(أو أتلفَ آلةَ سحرٍ، أو) آلةَ (تعزيمٍ، أو) آلةَ (تنجيمٍ، أو) أتلفَ (صورَ خَيَالٍ، أو أتلفَ كتبَ مبتدِعَةٍ مُضِلَّةٍ، أو أتلف كتابًا فيه أحاديثُ رديئةٌ) أو أتلفَ كتبَ أكاذيبَ، أو سخائفَ لأهلِ الخلاعةِ والبطالةِ، أو أتلفَ كتبَ كُفرٍ، أو أحرقَ محزنَ خمرٍ. قال في "الهدى": يجوزُ تحريقُ أماكنِ المعاصي وهدُمها، كما أحرقَ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ مسجدَ الضرارِ، وأمرَ بهدمِه
(4)
(لمْ يضمنْ في الجميعِ) ولا فرقَ بين كونِ المتلِفِ لما تقدَّمَ مُسلمًا، أو كافرًا.
"فرعٌ": قال الشيخُ: للمظلومِ الدُّعاءُ على ظالمِه بقَدرِ ما يوجِبُه ألمْ ظلمِه، لا
(1)
في الأصل: "تحريق".
(2)
المضارج: الثياب الخلقان تبتذل. واحدها: مضرج. "الصحاح" للجوهري (2/ 349).
(3)
انظر "كشاف القناع"(9/ 338)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 319).
(4)
أخرجه الطبري (14/ 468) عن الزهري وآخرين مرسلاً. قال الألباني في "الإرواء"(1531): مشهور في كتب السيرة، وما أرى إسناده يصح. وانظر "كشاف القناع"(9/ 338)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 319).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على مَن شتَمه. ولو كذَبَ عليه، لمْ يَفتَرِ عليه، بل يدعو عليه نظيرَه، وكذا إنْ أفسدَ عليه دينَه. قال أحمدُ: الدُّعاءُ قِصَاصٌ، ومَن دعَا على مَن ظلَمَه فما صَبرَ. يريدُ: أنَّه انتصرَ
(1)
.
* * *
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 339)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 320).
بابُ الشُّفعَةِ
لا شُفعَةَ لكافِرٍ علَى مُسلِمٍ.
(بابُ الشُّفعَةِ)
بإسكانِ الفاءِ، من الشفعِ، وهو: الزَّوجُ؛ لأنَّ نصيبَ الشفيعِ كان منفردًا في مِلكِه، وبالشفعةِ يضمُّ المبيعَ إلى ملكِه، فيشفعُه به. أو من الشفاعةِ، أي: الزيادةِ؛ لأنَّ المبيعَ يزيدُ في مِلكِ الشفيعِ، أو لأنَّ الرجلَ كان إذا أرادَ بيعَ دارِه، أتاه شريكُه، أو جارُه، فتشفَّعَ له فيما باعَ، فشفَّعَه وجعلَه أوْلى به، أو لأنَّ طالبَها يُسمَّى شفيعًا؛ لمجيئِه تاليًا للمشتري، فهو ثانٍ بعدَ أوَّلٍ، فسُميِّ طلبُه: شُفْعةً.
وهي شرعًا: استحقاقُ الشريكِ انتزاعَ شِقصِ شريكِه ممَّن انتقلَ إليه بعِوضٍ ماليٍّ إن كان مثلَه، أو دونَه.
فـ (لا شفعةَ لكافرٍ) حالَ بيعٍ، أسلمَ بعدُ، أو لا، ولو كان كفرُه ببدعةٍ، كالدُّعاةِ بخلقِ القرآنِ، والغُلاةِ، كمعتقدٍ غلَطَ جبريلَ في الرسالةِ، فلا شفعةَ لهم
(1)
(على مسلمٍ) نصًّا؛ لقولِه عليه السلام: "لا شُفعةَ لنصرانيٍّ". رواه الدارقطنيُّ
(2)
في كتاب "العلل".
قال العلَّامةُ عمُّ والدي الشيخُ مرعي في "غاية المنتهى"
(3)
: ويتَّجِهُ
(4)
: ثبوتُها
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 321).
(2)
أخرجه الدارقطني في "العلل"(12/ 61). وقال الألباني في "الإرواء"(1533): منكر.
(3)
"غاية المنتهى"(1/ 795).
(4)
سقطت: "ويتجه" من الأصل.
وتَثبُتُ للشَّريكِ فيما انتقَلَ عنهُ مِلْكُ شَريكِه، بشروطٍ خَمسةٍ:
أحدُها: كونُه مَبيعًا، فلا شُفعَةَ فيما انتَقَلَ مِلكُهُ عنه بغَيرِ بيعٍ
لمجوسيٍّ على كتابيٍّ، فالكفرُ هنا مِلَّةٌ.
(وتثبتُ) الشفعةُ (للشريكِ فيما انتقلَ عنه مِلكُ شريكِه بشروطٍ خمسةٍ):
(أحدُها) أي: أحدُ الشروطِ الخمسةِ: (كونُه) أي: الشِقصِ المنتقِلِ عن الشريكِ (مبيعًا) صريحًا، أو في معناه، كصلحٍ عن إقرارٍ بمالٍ، أو عن جنايةٍ توجبُه، وهبةٍ بعِوضٍ معلومٍ؛ لأنَّه بيعٌ في الحقيقةِ؛ لحديثِ جابرٍ:"هو أحقُّ بالثمنِ"
(1)
. رواه الجوزجانيُّ. ولأنَّ الشفيعَ يأخذُه بمثلِ عِوضِه الذي انتقلَ إليه، ولا يمكنُ هذا في غيرِ المبيعِ
(2)
(فلا شفعةَ فيما) أي: في شِقصٍ (انتقلَ مِلكُه عنه بغيرِ بيعٍ) بأنِ انتقلَ نصيبُ الشريكِ بغيرِ عِوضٍ، كالإرثٍ، والهبةِ بغيرِ ثوابٍ، والوصيةِ، أو كان عوضُه غيرَ ماليٍّ، بأن جُعلَ صداقًا، أو خلعًا، أو صلحًا عن دمٍ عمدٍ. ولأنَّ الخبرَ وردَ في البيعِ، وهذه ليست في معناه
(3)
.
ولا شفعةَ أيضًا في ما أخذَه المنتقلُ إليه أجرةً، أو جعالةً، أو ثمنًا في سلَمٍ إنْ صحَّ جعلُ العَقارِ رأسَ مالِ السَّلَمِ، أو عِوضًا في كتابةٍ؛ لأنَّه لا يمكن الأخذُ بقيمةِ الشقصِ؛ لأنها ليست بعوضِه في المسائلِ الأربعِ، ولا
(4)
بقيمةِ مُقابلِهِ من النفعِ والعينِ. وأيضًا الخبرُ واردٌ في البيعِ، وليست هذه في معناه.
(1)
أخرجه أحمد (22/ 230)(14326)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1534).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 322).
(3)
انظر "الروض المربع"(5/ 427)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 322).
(4)
سقطت: "لا" من الأصل.
الثَّانِي: كونُه مُشَاعًا مِنْ عَقَارٍ، فلا شُفعَةَ للجَارِ، ولا فِيمَا ليسَ بعَقَارٍ، كشَجَرٍ وبناءٍ مُفْرَدٍ، ويُؤخَذُ الغِراسُ والبِنَاءُ تبعًا للأَرضِ.
وردَّ الحارثيُّ ذلك، وصحَّحَ جريانَ الشفعةِ قولًا واحدًا
(1)
أو كان عِوضُه غيرَ مالٍ، كما لو اشتراه الذميُّ بخمرٍ أو خنزيرٍ؛ لأنَّهما ليسا بمالٍ.
ولا تجبُ الشفعةُ بفسخٍ يرجعُ به الشقصُ إلى العاقدِ، كردِّه بعيبٍ، أو مقايَلةٍ
(2)
، أو لغبنٍ، أو اختلافِ متبايعين في الثمنِ، أو خيارِ مجلسٍ، أو شرطٍ، أو تدليسٍ؛ لأنَّ الفسخَ رفعُ العقدِ، فليس بيعًا، ولا في معناه.
الشرطُ (الثاني: كونُه) أي: الشقصِ المبيعِ (مُشَاعًا) أي: غيرَ مُفرَزٍ
(3)
(من عقارٍ) بفتحِ العينِ
(فلا شفعةَ للجارِ) في مقسومٍ محدودٍ؛ لحديثِ جابرٍ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعةِ فيما لمْ يُقسَمْ، فإذا وقعتِ الحدودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شفعة. متفقٌ عليه
(4)
.
(ولا) شفعةَ (فيما ليسَ بعقارٍ) أي: أرضٍ (كشجرٍ، وبناءٍ مفردٍ) وحيوانٍ، وجوهرٍ، وسيفٍ، وسفينةٍ، وزرعٍ، وثمرٍ، وكلِّ منقولٍ؛ لأنَّه لا يبقى على الدوامِ، ولا يدومُ ضررُه، بخلافِ الأرضِ.
(ويُؤخذُ الغِراسُ والبناءُ) بالشفعةِ (تبعًا للأرضِ) قال في "المغني": بغيرِ
(1)
"كشاف القناع"(9/ 348)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 322).
(2)
في الأصل: "متفائلةٍ".
(3)
في الأصل: "مُفرَدٍ".
(4)
أخرجه البخاري (2214)، ومسلم (1608).
الثَّالِثُ: طلَبُ الشُّفْعَةِ سَاعةَ يعلَمُ، فإن أخَّرَ الطَّلبَ لغيرِ عُذْرٍ، سَقَطَتْ.
والجَهلُ بالحُكمِ عُذْرٌ.
خلافٍ في المذهب
(1)
.
الشرطُ (الثالثُ: طلبُ الشفعةِ ساعةَ يعلمُ) بالبيعِ، إنْ لم يكنْ عذرٌ، وإلا بطلتْ. نصًّا؛ لحديثِ:"الشفعةُ كحلِّ العقالِ". رواه ابنُ ماجه
(2)
. وفي لفظٍ: "الشفعةُ كنشطِ العقالِ، إنْ قُيَّدتْ ثبتتْ، وإنْ تُركتْ فاللَّومُ على مَن تركَها"
(3)
.
فإن لمْ يعلمْ بالبيعِ، فهو على شفعتِه، ولو مضى سُنون
(4)
(فإنْ أخرَّ الطلبَ لغيرِ عذرٍ، سقَطَت)
(5)
أمَّا إنْ كان لعذرٍ، كشدَّةِ جوعٍ، أو عطشٍ به، حتى يأكلَ ويشربَ، أو أخرَّه المحدثُ لطهارةٍ، أو حاقنٌ، أو حاقبٌ؛ ليقضيَ حاجتَه، أو مؤذِّنٌ ليؤذنَ أو يقيمَ الصَّلاةَ، أو لصلاةِ جماعةٍ يخافُ فوتَها، أو أخرَّه مَن عَلِمَ ليلًا حتى يُصبحَ، مع غيبةٍ مشترٍ في جميعِ هذه الصورِ؛ لأنَّه مع حضورِه يمكنه مطالبتُه بلا اشتغالٍ عن أشغَالِه.
(والجهلُ بالحكمِ عذرٌ) لأنَّ الجهلَ ممَّا يُعذرُ به، أشبَه ما لو تركَها لعدمِ علمِه بها، بخلافِ ما لو تركَها جهلًا باستحقاقِه لها، أو نسيانًا للطلبِ أو البيعِ. فإنْ لمْ يكنْ مثلُه يجهلُه، سقطتْ شفعتُه.
(1)
"المغني"(7/ 439)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 324).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2500) من حديث ابن عمر. وضعفه الألباني.
(3)
لمْ أجده بهذا اللفظ مسندًا. وانظر "التلخيص الحبير"(3/ 56)، "الإرواء"(1542).
(4)
في الأصل: "ستون"، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 324).
(5)
سقطت: "سقطت" من الأصل.
الرَّابِعُ: أخذُ جميعِ المَبيعِ، فإن طَلَبَ أَخْذَ البَعضِ معَ بقاءِ الكُلِّ، سَقَطَت.
والشُّفعةُ يينَ الشُّفعَاءِ على قَدْرِ أملاكِهم.
الخامِسُ: سَبقُ مِلْكِ الشَّفيعِ لرَقَبةِ العَقَارِ، فلا شُفعَةَ لأحدِ اثنَين اشتَريَا عَقَارًا معًا.
الشرطُ (الرابعُ: أخذُ جميعِ) الشقصِ (المبيعِ) دفعًا لضررِ المشتري بتبعيضِ الصفقةِ في حقِّه
(1)
بأخذِ بعضِ المبيعِ، مع أنَّ الشفعةَ على خلافِ الأصلِ؛ دفعًا لضررِ الشركةِ. فإذا أخذَ البعضَ، لمْ يندفعِ الضررُ
(2)
.
(فإنْ طلبَ) الشفيعُ (أخذَ البعضِ) أي: بعضِ المبيعِ (مع بقاءِ الكلِّ) أي: كلِّ المبيعِ (سقطتْ) شفعتُه
(والشفعةُ بين الشفعاءِ على قدرِ أملاكهم) فيما منه الشقصُ المبيعُ؛ لأنَّها حقٌّ يُستفادِ بسببِ المِلكِ، فكانتْ على قدرِ الأملاكِ، كالغلَّةِ. فدارٌ بين ثلاثةٍ: لواحدٍ نصفٌ، ولآخرَ ثلثٌ، ولآخرَ سدسٌ. باعَ صاحبُ الثلثِ نصيبَه، فأصل المسألةِ من ستةٍ، مخرَج الكُسُورِ، الثلثُ بينهُما، أي: بين صاحبِ النصفِ والسدسِ على أربعةٍ، بسطُ نصفٍ ثلاثةٌ، وبسطُ السدسِ واحدٌ، فلصاحبِ النصفِ ثلاثةٌ، ولربِّ السدسِ واحدٌ
(3)
.
الشرطُ (الخامسُ: سبقُ مِلكِ الشفيعِ لرقبةِ العقارِ، فلا شفعةَ لأحدِ اثنينِ اشتريا عقارًا معًا) أىِ: صفقةً واحدةً؛ لأنَّه لا مزيةَ لأحدِهما على الآخرِ؛
(1)
في الأصل: "صفتِه".
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 207)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 325).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 326).
وتَصرُّفُ المُشتَرِي بعدَ أخذِ الشَّفيعِ بالشُّفعَةِ باطِلٌ، وقبلَه صَحيحٌ.
ويَلزَمُ الشَّفِيعَ أن يدفَعَ للمُشتَرِي الثَّمنَ الذي وقَعَ عليهِ العَقدُ، فإنْ كانَ مِثليًّا فمِثلُه، أو مُتقوَّمًا فقيمتُه.
لاستوائِهما في البيعِ في زمنٍ واحدٍ
(وتصرُّفُ المشتري) في شقصٍ مشفوعٍ (بعدَ أخذِ الشفيعِ بالشفعةِ، باطلٌ) لانتقالِ المِلكِ للشفيعِ بالطلبِ، كما تقدَّمَ
(و) تصرُّفُ مشتري (قبلَه) أي: الطلبِ بالشفعةِ بوَقفٍ على معيَّنٍ، أو هبةٍ، أو صدقةٍ، أو جَعلِه عوضًا في عتقٍ، أو طلاقٍ، أو خلعٍ، أو صلحٍ عن دمِ عمدٍ، ونحوِه ممَّا لا شفعةَ فيه ابتداءً، صحيحٌ. وتسقطُ الشفعةُ؛ لما فيه
(1)
من الإضرارِ بالموقوفِ والموهوبِ له ونحو ذلك؛ لأنَّه ملكُه بغيرِ عِوضٍ؛ لأنَّ الثمنَ إنَّما يأخذُه المشتري، والضررُ لا يزولُ بالضررِ.
(ويلزمُ الشفيعَ أنْ يدفعَ للمشتري الثمنَ الذي وقَعَ عليهِ العَقدُ، فإن كانَ
(2)
مِثليًا فمثلُه) كدراهمَ، ودنانيرَ، وحبوبٍ، وأدهانٍ من جنسِه؛ لأنَّه مثلُه من طريقِ الصورةِ والقيمةِ، فهو أولى به ممَّا سواه، ولأنَّ الواجبَ بذلُ الثمنِ مكانَ مثلِه، كبذلِ قرضٍ ومتلَفٍ
(3)
(أو متقوَّمًا، فقيمتُه) من حيوانٍ، أو ثيابٍ، ونحوِها؛ لأنَّها بدلُه في الإتلافِ. وتعتبرُ وقتَ الشراءِ؛ لأنَّه وقتُ استحقاقٍ الأخذٍ، سواءٌ زادتْ أو نقصتْ بعدُ، وإنْ
(1)
سقطت: "فيه" من الأصل.
(2)
سقطت: "الثمنَ الذي وقَعَ عليهِ العَقدُ، فإن كانَ" من الأصل.
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 327).
فإن جُهِلَ الثَّمنُ -ولا حِيلَةَ- سَقَطَت الشُّفعَةُ، وكَذَا إن عَجَزَ الشَّفيعُ، ولو عن بَعضِ الثَّمَنِ، وانتُظِرَ ثلاثَةَ أيَّامٍ ولم يأَتِ به.
كانَ ثمَّ خيارٌ، اعتبرتْ عندَ لزومِه؛ لأنَّه وقتُ استحقاقِ الأخذِ
(1)
(فإنْ جُهِلَ الثمنُ) أي: قدرُه، كصبرةٍ تلفتْ، أو اختلطتْ بما لا تتميَّزُ منه، (ولا حيلةَ) في ذلك على إسقاطِ الشفعةِ، (سقطتْ الشفعةُ) لأنَّها لا تُستحقُّ بغيرِ بدَلٍ، ولا يمكِنُ أن يُدفَعَ إليه ما لا يدَّعِيه، وكما لو عُلِمَ قدرُ الثَّمنِ عندَ الشراءِ، ثمَّ نُسِيَ.
(وكذا) تسقطُ الشفعةُ (إنْ عجزَ الشفيعُ) عن ثمنِ شقصٍ مشفوعٍ (ولو) كان عجزُه (عن بعضِ الثمنِ، وانتُظِرَ ثلاثةَ أيامٍ) من حينِ أخذِه بالشفعةِ، حتى يتبيَّنَ عجزُه. نصًّا، ولأنَّه قدْ يكونُ معه نقدٌ، فيُمهلُ بقدرِ ما يُعِدُّه فيه، والثلاثُ يمكنُ الإعدادُ فيها غالبًا (ولم يأتِ به) سقطتِ الشفعةُ، فلو أتى الشفيعُ برهنٍ، أو ضمينٍ، لم يلزمْ المشتري قبولُهما، ولو كان الرَّهنُ مُحرَزًا، والضمينُ مليئًا؛ لما
(2)
على المشتري من الضررِ بتأخيرِ الثمنِ، والشفعةُ شُرِعتْ لدفعِ الضررِ، فلا تثبتُ معه. أو بذَلَ الشفيعُ عِوضًا عن الثمنٍ؛ بأنْ كانَ نقدًا، فدفعَ عنه عَرْضًا، لم يلزمْ المشتري قبولُه.
والأخذُ بالشفعةِ نوعُ بيعٍ، لكنْ لا خيارَ فيه، أي: في الأخذِ بالشفعةِ؛ لأنَّه قهريٌّ
(3)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 223)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 327).
(2)
سقطت: "لما" من الأصل.
(3)
"كشاف القناع"(9/ 390)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 329).
بابُ الودِيعَةِ
يُشتَرَطُ لِصِحَّتِها: كَونُهَا مِنْ جائزِ التَّصرُّفِ لمثلِه.
(بابُ الوديعةِ)
وهي فعيلةٌ، من ودَعَ الشيءَ: إذا تركَه؛ لتركِها عندَ المودَعِ، أو من الدَّعةِ، فكأنَّها عندَه غيرُ مبتذلةٍ للانتفاعِ بها. أو من أودعَ: إذا سكَنَ واستقرَّ، فكأنَّها ساكنةٌ عندَ المودَعِ. قال الأزهريُّ: سُمِّيتْ وديعةً -بالهاءِ- لأنَّهم ذهبوا بها إلى الأمانةِ.
وأجمعوا على جوازِ الإيداعِ، لقولِه تعالى:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البَقَرَة:283]. وحديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ تعالى عنه مرفوعًا: "أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَكَ، ولا تخنْ من خانَك". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
وحسَّنَه. ولحاجةِ الناسِ إليها
(2)
.
وشرْعًا: المال المدفوعُ إلى مَن يحفظه بلا عِوضٍ.
ويُستحبُّ قبولُها لمن عَلِمَ أنَّه ثقةٌ قادرٌ على حفظِها. ويُكرَهُ لغيرِه، إلا برضا ربِّها
(يشترطُ لصحتِها: كونُها من جائزِ التصرُّفِ لمثله)
(3)
وهو البالغُ الرشيدُ. ويُعتبرُ لها أركانُ الوكالةِ.
قال الشيخ موسى الحجاويُّ في "حاشيته": أركان الوكالةِ: الموكِّلُ، والوكيلُ، والموكَّل فيه. وأركانُ الوديعةِ: المودِعُ، المودَعُ، والوديعةُ.
(1)
أخرجه أبو داودَ (3535)، والترمذيُّ (1264)، وصححه الألباني.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 233)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 330).
(3)
سقطت: "لمثله" من الأصل.
فلو أودَعَ مالَه لصَغيرٍ أو مجنونٍ أو سَفيهٍ، فأتلفَه، فلا ضَمَانَ.
وإن أودَعَهُ أحدُهُم، صارَ ضامِنًا، ولم يَبرأْ إلَّا بردِّهِ لوليِّهِ.
ويلزمُ المُودَعَ حِفظُ الودِيعَةِ في حِرزِ مِثِلها بنفسِه، أو بمَن يقومُ مقامَه، كزوجَتِه وعَبدِه.
وإن دفعَها -لعُذرٍ- إلى أَجنبيٍّ، لم يَضْمَن.
ومرادُهم: أنَّ حكمَها حكمُ الوكالةِ، لا تعدادَ الأركانِ، ولهذا قال الشارحُ: فتبطلُ بما يبطلُ الوكالةَ، إلا إذا عزَلَه ولم يعلمْ بعزلِه. وإنْ عزلَ نفسَه فيه أمانةٌ بيدِه، كثوبٍ أطارتْهُ الريحُ إلى دارِه، يجبُ ردُّه إلى مالكِه
(فلو أودعَ) جائزُ التصرُّفِ (مالَه لصغيرٍ) وديعةً (أو مجنونٍ، أو سفيهٍ، فأتلفَه، فلا ضمانَ) بتلفِه في يدِ قابضِه
(وإنْ أودعَه أحدُهم) أي: الصغيرُ، أو المجنونُ، أو السَّفيهُ (صارَ ضامنًا) للوديعةِ (ولم يبرأْ إلا بردِّه لوليِّه) في مالِه، كدينِه الذي له عليه. ويضمنُها قابضُها من الصغيرِ إنْ تلفتْ، لتعدِّيه بأخذِها، ما لم يكنْ الصغيرُ مأذونًا له في الإيداعِ، أو يَخَفْ قابضُها من الصغيرِ هلاكَها معه إنْ تركَها، كضائعٍ وموجودٍ في مهلكَةٍ، فلا ضمانَ عليه بأخذِه، لقصدِه به التخلصَّ من الهلاكِ، فالحظُّ فيه لمالكِه
(1)
(ويلزمُ المودَعَ حفظُ الوديعةِ في حِرزِ مثلِها) عُرْفًا (بنفسِه، أو بمَن يقومُ مقامَه، كزوجتِه وعبدِه) وخازنِه.
(وإن دفعَها لعذرٍ) كمَن حضرَه الموتُ، أو أرادَ سفرًا (إلى أجنبيٍّ) أو حاكمٍ (لم يضمنْ) وإن لم يكنْ له عذرٌ حينَ دفعَها إلى الأجنبيِّ، ضمِنَ؛ لتعدِّيه؛ لأنَّه ليسَ
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 246)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 331).
وإنْ نهَاهُ مالِكُها عن إخراجِهَا؛ من الحِرزِ، فأخرَجَها لطَرَيَانِ شيءٍ الغَالِبُ مِنا الهلاكُ، لم يضمَن، وإن ترَكَها ولم يُخرِجْها، أو أخْرَجَهَا لغيرِ خَوفٍ، ضَمِنَ.
فإن قَالَ له: لا تخرِجْهَا ولو خِفتَ عليها، فحَصَل خَوفٌ وأخرَجَها، أو لا، لم يضمَن.
له أنْ يودِعَ بلا عذرٍ
(1)
.
(وإنْ نهاه مالكُها) أي: ربُّها (عن إخراجِها) من مكانٍ عيَّنَه لحفظِها (من الحرزِ) أي: في كلِّ مالٍ بحسَبِه (فأخرجَها) وديعٌ منه (لطريانِ) أي: وجودِ (شيءٍ الغالبُ منه الهلاكُ) كحريقٍ، ونهبٍ، فتلفت (لم يضمنْ) ما تلِفَ بنقلِها
(وإنْ تركها) إذَنْ بمكانٍ مع طَرَيانِ ما الغالبُ معهُ الهلاكُ (ولم يخرجْها) فتلِفَتْ، ضمِنَ، لتفريطِه، ويحرُمُ.
(أو أخرَجَها) من حرزٍ نهاه مالكُها عن إخراجِها منه (لغيرِ خوفٍ) فتلتفَتْ بالأمرِ المخوفِ أو غيرِه (ضمِنَ) سواءٌ أخرجَها إلى مثلِه، أو أحرزَ منه، لمخالفةِ ربِّها بلا حاجةٍ
(2)
(فإنْ قالَ له) مالكُها: (لا تخرِجْها، ولو خفتَ عليها، فحصلَ خوفٌ وأخرجَها) خوفًا عليها (أو لا) أي: أو لم يخرجْها مع الخوفِ، فتلِفَتْ مع إخراجِها، أو تركِه، (لم يضمنْـ) ها؛ لأنَّه إنْ تركَها فهو ممتثلٌ أمرَ صاحبِها؛ لنهيه عن إخراجِها مع الخوفِ، كما لو أمرَ بإتلافِها. وإنْ أخرجَها بلا خوفٍ، فتلتفَتْ ضمِنَ، كما تقدَّمَ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 240)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 332).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 332، 333).
وإن ألقَاهَا عندَ هجومِ ناهِبٍ ونحوِه؛ إخفاءً لها، لم يَضمَن.
وإن لم يَعلِفِ البَهيمَةَ حتَّى ماتَت، ضمِنَها.
(وإنْ ألقاهَا) وديعٌ (عندَ هجومِ ناهبِ ونحوُه)، كقاطِعِ طريقٍ (إخفاءً لها، لمْ يضمنْ) لأنَّه عادةُ الناسِ في حفظِ أموالِهَم.
وإنْ أمرَه بحفظِها، وأطلقَ، فشدَّها على وسطِه، فهو أحرزُ لها. وكذا إن تركَها ببيتِهِ
(1)
في حرزِها،
وإنْ أمرَه بحفظِها في صندوقٍ وقال: لا تُقفِلْ عليها، ولا تنمْ فوقَها، فخالفَه في ذلك. أو قال: لا تُقفِلْ عليها إلا قُفلًا واحدًا، فجعلَ عليها قُفلَينِ، فلا ضمانَ عليه، ذكرَه القاضي
(2)
(وإنْ لم يَعلِفْ) وديعٌ (البهيمةَ)
(3)
أو يسقِهَا (حتى ماتتْ) جوعًا، أو عطشًا (ضمِنَها) لأنَّ علفَها وسقيَها من كمالِ الحفظِ الذي التزمَه بالاستيداعِ، بل هو الحفظُ بعينِه؛ إذِ الحيوانُ لا يبقىَ عادةً بدونِهما، ويلزمانِه.
(1)
في الأصل: "ببينةٍ".
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 239).
(3)
في الأصل: "بهيمة".
فَصْلٌ
وإن أرادَ المُودَعُ السَّفَرَ، ردَّ الوديعَةَ إلى مالِكِها
، أو إلَى من يَحفَط مالَه عادَةً.
فإن تعذَّرَ، ولم يَخَفْ عليهَا معة في السَّفر، سافرَ بها، ولا ضَمَان. فإن خَافَ عليهَا، دفعَها إلى الحاكم،
(فصلٌ)
(وإنْ أرادَ المودَعُ السفرَ، ردَّ الوديعةَ إلى مالكِها) أو لم يُرِدْ سفرًا، بل خافَ عليها عندَه من نهبٍ، أو غرقٍ ونحوِهما، ردَّها إلى مالكِها (أو إلى مَن يحفظُ مالَه) أي: مالَ ما لكِها (عادةً) كزوجتِه، وعبدِه
(1)
(فإنْ تعذَّرَ) الردُّ، أي: لئم يجدْ مَن يردُّها عليه منهم، أي: من المالكِ، أو مَن يحفظُ مالَه، ووكيلِه، (ولم يخفْ عليها معه في السفرِ) بأنْ كانَ السفرُ أحفظَ لها، ولم ينْهَهُ ربّها عن السفرِ بها
(2)
(سافرَ بها)، أي: بالوديعةِ (ولا ضمانَ) على المستودَعِ إذا سافرَ بها، مع كونِه أحفظَ، ولم ينهَهُ
(3)
(فإنْ خافَ) المستودَعُ (عليها) أي: الوديعةِ إذا سافرَ بها، ولم يجدْ المستودَعُ مالكَها، ولا مَنْ يحفظُ مالَه عادةً، ولا وكيلَه في قبضِها، (دفعَها) المستودَعُ (إلى الحاكمِ) المأمونِ؛ لأنَّ في السفرِ بها غررًا؛ لأنَّه عُرْضةٌ للنهبِ وغيرِه، ولأنَّ الحاكمَ يقومُ مقامَ صاحبِها عندَ غيبتِه.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 240)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 334).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 335).
(3)
"كشاف القناع"(9/ 416)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 335).
فإن تعذَّرَ فَلِثِقَةٍ.
ولا يَضْمَنُ مسافِرٌ أُودِعَ فسافَرَ بها، فتَلِفَت بالسَّفر.
وإن تعدَّى المُودَعُ في الودِيعَةِ؛ بأن رَكِبَها لا لِسَقيِهَا، أو لَبِسَهَا لا لِخَوفٍ من عُثٍّ، أو أخرَجَ الدَّراهِمَ ليُنِفقَها، أو لينظُرَ إليها، ثمَّ ردَّها،
وظاهرُه: أنَّه إذا أودعَها مع قدرتِه على الحاكمِ أنَّه يضمنُها.
(فإنْ
(1)
تعذَّرَ ذلك) أي: دفعُها إلى الحاكمِ المأمونِ، أوفى عَهِا المستودَعُ (ثِقَةً) لفعلِه عليه السلام لما أرادَ أن يهاجرَ، أودعَ الودائعَ التي كانتْ عندَه لأمِّ أيمنَ رضيَ الله تعالى عنها، وأَمَرَ عليًّا رضي الله عنه أنْ يردَّها إلى أهلِها
(2)
.
(ولا يضمنُ مسافرٌ أُودِعَ) وديعةً في سَفَرِه (فسافرَ بها، فتلِفَتْ بالسفرِ) لأنَّ إيداعَه في هذه الحالِ يقتضي الإذنَ في السفرِ بها.
(وإنْ تعدَّى المودعُ في الوديعة)
(3)
كأنْ كانتْ دابَّةً؛ (بأنْ ركِبَها، لا لسَقيِها) أو عَلْفِها. وله الاستعانةُ بالأجانبِ في ذلك، وفي الحَملِ والنقلِ.
(أو) كانتْ ثيابًا فـ (لبِسَها، لا لخوفٍ) عليها (من عُثٍّ) - بضمِّ العينِ المهملةِ، جمعُ عُثَّةٍ: سوسةٌ تلحَسُ الصوفَ- ونحوِه، كافتراشِ فرشٍ، لا لخوفٍ من عُثٍّ، وكاستعمالِ آلةِ صناعةٍ من خشبٍ، لا لخوفٍ من الأرضةِ.
(أو أخرجَ الدارهمَ) أو الدنانيرَ المودَعةَ، (لينفقَها، أو لينظرَ إليها، ثمَّ ردَّها)
(1)
في الأصل: "وإن".
(2)
أخرجه البيهقي (6/ 289) من حديث عائشة، دون ذكر أمِّ أيمن. وحسنه الألباني في "الإرواء"(1546). وانظر "كشاف القناع"(9/ 417)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 335).
(3)
سقطت: "في الوديعة" من الأصل.
أو حَلَّ كيسَها فقط، حَرُمَ عليه، وصارَ ضامِنًا، ووجَبَ عليه ردُّها فَورًا، ولا تعودُ أمانةً بغَيرِ عَقدٍ متجدِّدٍ.
وصَحَّ: كلَّما خُنتَ، ثمَّ عُدتَ إلى الأمانَةِ، فأنتَ أمينٌ.
إلى وِعائِها، ولو بنيَّةِ الأمانةِ، (أو حلَّ كِيسَها) بلا إخراجٍ، ضمِنَها، لهَتكِ الحرزِ بتعدِّيه.
أو كَسَرَ خَتمَهَا، أو كانت مَشدُودَةً، فحَلَّ الوَديعُ الشدَّ، أو كانت مَصرُورَةً في خِرقةٍ، ففتحَ الوديعُ الصّرَّةَ (فقط، حرُمَ عليه، وصارَ ضامنًا) لما فيه من هتكِ الحرزِ.
(ووجبَ عليه ردُّها) أي: الوديعةِ، حيثُ بطلَتْ (فورًا) أي: الوديعةِ؛ لأنَّها أمانةٌ محضةٌ، وقد زالتْ بالتعدِّي
(1)
(ولا تعودُ أمانةً) أي: وديعةً (بغيرِ عقدٍ متجدِّدٍ) لبطلانِ الاستئمانِ بالعدوانِ، و (صحَّ) قولُ مالكٍ لمودَع:(كلَّما خُنْتَ، ثمَّ عُدْت إلى الأمانةِ، فأنتَ أمينٌ) لصحةِ تعليق الإيداعِ على الشرطِ، كالوكالَةِ.
وإنْ خلطَ إحدى وديعَتيْ زيدٍ بالأُخرى بلا إذنٍ، وتعذَّرَ التمييزُ، فوجهانِ. ذكرَه في "الرعاية".
وإنِ اختلطتِ الوديعةُ بلا فعلِه، ثمَّ ضاعَ البعضُ، جُعِلَ من مالِ المودَعِ في ظاهرِ كلامِه. ذكرَه المجدُ في "شرحه"
(2)
.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 244)، "كشاف القناع"(9/ 419)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 337).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 245).
فَصْلٌ
والمودَعُ أمينٌ
، لا يضمَنُ إلَّا إن تعدَّى، أو فرَّطَ، أو خَانَ.
ويُقبَل قولُه بيمينِه في عَدَمِ ذلِكَ، وفي أنَّها تَلِفَت، أو: أنَّكَ أذِنْتَ لي في دَفْعِها لفُلانٍ، وفَعْلتُ.
(فصلٌ)
(والمودَعُ أمينٌ) لأنَّ اللهَ تعالى سمَّاها أمانةً، بقولِه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّساء: 58]. (لا يضمنُ إلا إنْ تعدَّى، أو فرَّط، أو خانَ) في الوديعةِ
(ويُقبلُ قولُه) أي: المودَعِ (بيمينِه في عدمِ ذلك) أي: التعدِّي والتفريطِ والخيانةِ؛ لأنَّه أمينٌ، والأصل براءتُه.
(و) يُقبل قولُه (في: أنها تلِفَت
(1)
، أو: أنكَ أَذِنتَ لي في دفعِها لفلانٍ، وفَعَلتُ) أي: دفعتُها له، مع إنكارِ مالكِها الإذنَ. نصًّا؛ لأنَّه ادَّعى دفعًا يبرأ به من ردِّ الوديعةِ، أشبَه ما لو ادَّعى الردَّ إلى مالكِها.
ولا يلزمُ المدَّعى عليه للمالكِ غيرُ اليمينِ، ما لم يُقرَّ بالقبضِ. وكذا إنِ اعترفَ المالك بالإذنِ في الدفعِ له، وأنكرَ أنْ يكونَ دفَعَ له، إن كانَ المدفوعُ إليه وديعًا، وإنْ كانَ دائنًا، فقدْ تقدَّمَ في الضمانِ ما فيه.
وذكر الأزجيُّ: إنِ ردَّ إلى رسولِ موكِّلٍ ومودِع، فأنكرَ الموكِّلُ، ضمِنَ؛ لتعلُّقِ
(1)
في الأصل: "أنتَ تأذنُ".
وإن ادَّعَى الردَّ بعدَ مَطلِه بِلا عُذرٍ، أو ادَّعى ورَثته الردَّ، لم يُقبل إلَّا ببيِّنةٍ، وكَذَا كلُّ أمينٍ.
وحَيثُ أخَّرردَّها بعدَ طَلَبٍ بلا عُذرٍ، ولم يَكُن لحَملِها مَؤُنَةٌ، ضَمِنَ. وإنْ أكِرهَ على دفعِها لغيرِ ربِّها، لم يَضمَن.
الدَّفعِ بثالثِ. ويحتملُ: لا
(1)
.
(وإن ادَّعى الردَّ بعدَ مطلِه) أي: تأخيرِ دفعِها إلى مستحقِّه
(2)
(بلا عذرٍ) في تأخيرٍ (أو ادَّعى ورثتُه الردَّ) أي: ورثةُ مودَعٍ، منهم أو من مورِّثِهم (لم يُقبلْ) ذلك (إلا ببيِّنةٍ) لأنَّهم غيرُ مؤتمنينَ عليها من قِبَلِ مالكِها. (وكذا كلُّ أمينٍ) أي: من يُقبلُ قولُه بيمينِه
(وحيثُ آخَّرَ ردَّها بعدَ طلبِ بلا عُذرٍ) من نحوِ أكلٍ، ونومٍ، وهضمِ طعامٍ، وصلاةٍ، وطهارةٍ، ومطَرٍ
(3)
كثيرٍ. (ولم يكنْ لحملِها مَؤُنةٌ) أو في وقتٍ لا يمكنُ دفعُها إليه، لبُعْدِها، ولمخافةٍ في طريقِها، أو للعجزِ عن حملِها، أو غيرِ ذلك، لم يكنْ متعدِّيًا بتركِ تسليمِها ولم يضمنها، لعدمِ عدوانِه
(4)
. وإن كان بخلاف ذلك (ضمنَ) إن تلِفَتْ أو نقصتْ، كالغاصبِ.
(وإنْ أُكْرِه) المودَعُ (على دفعِها) أي: الوديعةِ (لغيرِ ربِّها) كما لو أخذها منه قهرًا؛ لأنَّ الإكرَاه عذر يبيحُ له دفعُها (لم يضمنِ) الوديعةَ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 248)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 339).
(2)
في الأصل: "إلى مَن معه".
(3)
في الأصل: "ومكرٍ".
(4)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 340).
وإن قالَ: له عِندي ألفٌ وديعةً، ثم قالَ: قبَضَهَا، أو: تَلِفَت قبلَ ذلِكَ، أو: ظَننتُها باقيةً ثمَّ عَلِمتُ تلَفَها، صُدِّقَ بيَمينِه، ولا ضَمَان.
وإن قالَ: قَبضْتُ منه ألفًا وديْعَةً، فتَلِفَت، فقالَ: بل غَصْبًا، أو: عَاريةً، ضَمِنَ.
(وإنْ قالَ: له عندي ألفٌ وديعةً. ثمَّ قال: قبضَها، أو: تلفِتَ قبلَ ذلك، أو: ظننتُها باقيةً ثمَّ علمتُ تلَفها، صُدِّقَ بيمينِه، ولا ضمانَ) خلافًا لصاحبِ " الإقناع". وقال القاضي: يُقبلُ. ومشىَ عليه المصنِّفُ هنا، وفي "الغاية"
(1)
.
(وإنْ قالَ: قبضتُ منه ألفًا وديعةً، فتلِفتُ، فقال: بل غصْبًا، أو: عاريةً، ضمِنَ) أو خلطَها بغيرِ متميِّزٍ، كدراهمَ بدراهمَ، وزيتٍ بزيتٍ، في مالِه أو غيرِه، فضاعَ الكلُّ، ضمن
(2)
الوديعةَ؛ لتعدِّيه. وإن ضاعَ البعض ولم يدرِ أيَّهما ضاعَ، ضمِنَ أيضًا. وإنْ أخذَ درهمًا من غيرِ مَحرَزِه، ثمَّ ردَّه، فضاعَ الكلُّ، ضمِنَه وحدَه. وإنْ ردَّ بدلَه غيرَ متميِّزٍ
(3)
، ضمِنَ الجميعَ
(4)
.
(1)
"غاية المنتهى"(1/ 800، 801)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 341).
(2)
في الأصل: "خمسَ".
(3)
في الأصل: "مثمنٍ".
(4)
"الروض المربع"(5/ 466)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 341).
بابُ إحيَاءِ المَوَاتِ
وهيَ: الأَرضُ الخَرَابُ الدَّارِسَةُ التي لم يَجرِ عَليهَا مِلكٌ لأحَدٍ، ولم يُوجَد فِيهَا أَثرُ عِمَارَةٍ، أو وُجِدَ بهَا أثَرُ مِلْكٍ وعِمَارَةٍ، كالخِرَبِ التي ذهبَت أنهَارُها، واندَرَسَت
(بابُ إحياءِ المواتِ)
قال في "القاموس": المُوَاتُ، كغُرابٍ: الموت. وكسَحابٍ: ما لا روحَ فيه، وأرضٌ لا مالكَ لها. والمَوَتان، بالتَّحريك: خلافُ الحيوانِ، أو أرضٌ لم تُحيَ بعدُ. وبالضمِّ: مَوتٌ يقعُ بالماشيةِ، ويُفتحُ.
وفي "المغني": المَوَاتُ، هو: الأرضُ الخرابُ الدَّارسةُ. وتُسمَّى ميتةً، ومواتًا، وموتانًا، بفتح الميم والواو. والمُوتانِ، بضمِّ الميم
(1)
وسكونِ الواوِ: الموتُ الذريعُ. ورجلٌ مَوْتان القلبِ -بفتح الميمِ وسكونِ الواوِ -يعني: عميُّ القلبِ لا يفهمُ
(2)
.
(و) المَوَاتُ اصطلاحًا: (هي: الأرضُ الخرابُ الدَّارسةُ التي لم يَجرِ عليها مِلكٌ لأحدٍ، ولم يُوجدْ فيها أثرُ عِمَارةٍ) قال في "المغني"
(3)
: بغيرِ خلافٍ نعلمُه بين القائلينَ بالإحياءِ (أو وُجِدَ بها) أي: بالأرضِ (أثرُ مِلكٍ) غيرِ جاهليٍّ (كالخَرِبِ) بفتحِ الخاءِ وكسرِ الراءِ، وهي: ما تهدَّمَ من البُنيانِ (التي ذهبتْ أنهارُها، واندرسَتْ
(1)
سقطت: "الميم" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 257).
(3)
"المغني"(8/ 146).
آثارُهَا، ولم يُعلَم لَهَا مالِكٌ.
فمَنْ أحيَا شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، ولو كان ذِميًّا، أو بِلا إذنِ الإمَامِ، ملكَهُ بما فيه مِنْ مَعدِنٍ جَامِدٍ، كذَهَبٍ، وفِضَّةٍ، وحَدِيدٍ، وكُحْلٍ -ولا خَرَاجَ عليه، إلَّا إنْ كانَ ذِميًّا- لا ما فيهِ منْ معْدِنٍ جارٍ، كنِفْطٍ وقَارٍ.
آثارُها، ولم يُعلمْ لها مالك) الآن، مُلِكَ بإحياءٍ، سواءٌ كانت بدارِ الإسلامِ أو الحربِ. وصحَّحَ الحارثيُّ، وتبِعَه في "الإنصاف": التفرقةَ بينهما، وتبِعَهما في "الإقناع"
(1)
.
(فمَنْ أحيا شيئًا من ذلك) ممَّا يجوزُ إحياؤُه، (ولو كانَ) المُحيي (ذِمِّيًا، أو) كان الإحياءُ (بلا إذنِ الإمامِ، ملكَهُ) محييه (بما فيه من مَعدِنٍ جامدٍ) باطنٍ (كذهبٍ، وفضَّةٍ، وحديدٍ، وكُحْلٍ) ونحاسٍ، ورَصاصٍ
(ولا خَرَاجَ عليه) أي: على مْن أحيا مَواتَ العَنْوةِ، (إلا إنْ كان ذِميَّا) فعليه الخَرَاجُ؛ لأنَّ الأرضَ للمسلمين، فلا تُقرُّ في يدِ غيرِهم بدونِ الخَرَاجِ، كغيرِ المواتِ.
وهل يملكُه مع ذلك؟ عبارةُ "الإنصاف" أولًا: تقتضي أنَّه يملكُه. وثانيًا: صريحَةٌ في أنه لا يملكُه، بل يقرُّ بيدِه بالخراجِ
(2)
.
و (لا) يملكُ (ما فيه من معدِنٍ جارٍ) أي: كلَّما أُخِذَ منه شئٌ خلفَه غيرُه (كنِفْطٍ وقَارٍ)، أو ظهرَ فيه كَلأٌ أو شجرٌ، فهو أحقُّ به، ولا يملِكُه.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 259).
(2)
"كشاف القناع"(9/ 440).
ومن حَفَرَ بئرًا بالسَّابِلَةِ ليرتَفِقَ بِها، كالسَّفَّارةِ لشُربهم ودوابِّهم، فهم أحقُّ بمائِها ما أقامُوا، وبعدَ رحيلِهم تكونُ سَبِيلًا للمُسلِمِينَ، فإن عَادُوا، كانُوا أحقَّ بِهَا.
(ومَن حفرَ بئرًا بالسَّابلةِ) أي: بالطريقِ (ليَرتَفِقَ بها كالسَّفَّارَةِ لشُربِهم، و) شربِ (دوابِّهم، فهم) أي: الحافِرونَ لها (أحقُّ بمائِها) أي: البئرِ التي حفروها، (ما أقاموا) عليها، ولا يملكونها؛ لجَزْمِهم بانتقالِهم عنها وتركِها لمن ينزلُ منزِلَهم، بخلافِ المتملِّكِ
(1)
.
(وبعدَ رحيلِهم) أي: الحافرين
(2)
لها (تكونُ سبيلًا للمسلمين) لعدمِ أولويَّةِ أحدٍ من غيرِ الحافرين على غيرِه.
(فإنْ عادُوا) أي: الحافرونَ لها (كانوا أحقَّ بها) من غيرِهم؛ لأنَّهم إنَّما حفروها لأنفسِهم، ومَن عادتُهم الرحيلُ والرجوعُ، فلا تزولُ أحقيتُهم به
(3)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 264)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 346).
(2)
في الأصل: "الحاضرين".
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 264)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 346).
فَصْلٌ
ويحصُلُ إحياءُ الأَرضِ المَواتِ:
إمَّا بحائِطٍ مَنيعٍ، أو إجرَاءِ مَاءٍ لا تُزرَعُ إلَّا به، أو غَرسِ شَجَرٍ،
(فَصلٌ)
(1)
(ويحصلُ إحياءُ الأرضِ المَواتِ):
(إمَّا بحائطٍ مَنيعٍ) سواءٌ أرادَها لبناءٍ، أو زرعٍ، أو حظيرةٍ لغنمٍ أو خشبٍ، أو غيرِهما، لحديثِ جَابرٍ مرفوعًا:"مَن أحاطَ حائطًا على أرضٍ، فهي له". رواه أحمدُ، وأبو داودَ
(2)
. ولأنَّ الحائطَ حاجزٌ منيعٌ، ولا اعتبارَ للقصدِ، بدليلِ ما لو أرادَها حظيرةً، فبناها بجصٍّ وآجُرِّ، وقسَّمَها بيوتًا.
وقولُه: "منيعٌ" أي: يمنعُ مَن وراءَه. ولا يُعتبرُ مع ذلك تسقيفٌ، ولا تركيبُ بابٍ؛ لأنَّه لم يُذكرْ في الخبرِ.
(أو إجراءِ ماءٍ) بأن يسوقَه إليها من نهرٍ أو بئرٍ (لا تُزرعُ إلا به) أي: بالماءِ المسبوقِ إليها
(أو غرسِ شجرٍ) بأنْ كانتْ لا تصلُحُ لغرسٍ، لكثرةِ أحجارِها ونحوِها، فينقِّيها ويغرسُها؛ لأنَّه يُرادُ للبقاءِ، كبناءِ الحائطِ. ولا يحصلُ إحياءٌ بحرثٍ وزرعٍ.
(1)
سقطت: "فصل" من الأصل.
(2)
أخرجه أحمدُ (23/ 312)(15088) من حديث جابر. ولم أجده عنه عند أبي داودَ، وإنما أخرجه (3077) من حديث سمرة. وصححه الألباني في "الإرواء"(1554).
أو حَفْرِ بئرًا فيها.
فإن تحَجَّر مَواتًا؛ بأنْ أدارَ حولَه أَحجَارًا، أو حَفَر بئرًا لم يصِل ماءَها، أو سَقَى شجَرًا ضباحًا كزيتونٍ ونحوه، أو أصلَحَه ولم يُرَكِّبْه، لم يملِكْهُ، لكنَّه أحقُّ بهِ مِن غَيرِه، ووارِثه بعدَه، فإن أعطَاهُ لأحَدٍ، كان له.
(أو حَفْرِ بئرًا
(1)
فيها) أي: المواتِ، أو نهرًا. نصًّا. ويصلُ إلى ماءِ البئرِ.
(فإنْ تحجَّرَ مواتًا) أي: شرعَ في إحيائِه من غيرِ أن يُتمَّه؛ (بأنْ أدارَ حولَه أحجارًا) أو ترابًا، أو شوكًا، أو حائطًا غيرَ منيعٍ، لم يملكْه
(أو حفرَ بئرًا لم يصلْ ماءَها) لم يملكْها. نصًّا.
(أو سقَى شجرًا مباحًا، كزيتونٍ ونحوِه) كخَرنُوبٍ (أو أصلَحِه، ولم يُرَكِّبْه)
أي: يُطَعِّمْه (لم يملِكْه) فإنْ طَعَّمَهُ، ملكَه بذلك (لكنَّه أحقُّ به من غيرِه) لحديثِ:"مَن سبقَ إلى ما لم يسبقْ إليه مسلمٌ، فهو له"
(2)
.
(و) كذا (وارثُه بعدَه) أحقُّ به؛ لحديثِ: "مَن تركَ حقًّا، أو مالًا، فلورثتِه"
(3)
.
ولأنَّه حقٌّ للمورِّثِ، فقامَ فيه وارثُه مقامَه، كسائرِ حقوقِه.
(فإنْ أعطاه لأحدٍ، كان له) فيكونُ أحقَّ به من غيرِه؛ لأنَّ مَن له الحقُّ أقامَه مقامَه فيه.
وليس له، أي: المتحجِّرِ، أو وارثِه، أو مَن انتقلَ إليه بَيعُه؛ لأنَّ لم يملِكْه. وشرطُ المبيعِ: أنْ يكونَ مملوكَا.
(1)
في الأصل: "بئر"، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 348).
(2)
أخرجه أبو داود (3071) من حديث أسمر بن مضرس. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (6731)، ومسلم (1619) من حديث أبي هريرة. دون لفظة "حقًا".
ومن سَبَقَ إلى مُباحٍ، فَهوَ له، كصيدٍ، وعَنْبَرٍ، ولؤُلؤٍ، ومَرجَانٍ، وحَطَبٍ، وثَمَرٍ، ومنبوذٍ؛ رغبةً عنه.
"فائدةٌ": ومَن نزلَ عن وظيفةٍ من إمامةٍ، أو خطابةٍ، أو تدريسٍ، ونحوِه، لزيدٍ، وهو لها أهلٌ، لم يتقرَّرْ غيرُه فيها. فإنْ قُرِّرَ هو، أي: قرَّرَه مَن له الولايةُ، كالناظرِ، تمَّ الأمرُ له، وإلا؛ بأنْ لمْ يقرِّرْه مَن له ولايةُ التقريرِ، فهي -أي: الوظيفةُ- للنازلِ؛ لأنَّه لم تحصلْ له رغبةٌ مطلقةٌ عن وظيفتِه.
وقال الشيخُ: لا يتعيَّنُ المنزولُ له، ويُولِّي مَن له الولايةُ مَن يستحقُّها شرعًا.
وقال الموضِّحُ: مُلخَّصُ كلامِ الأصحاب: يستحقُّها منزولٌ له إنْ
(1)
كانَ أهلًا، وإلا فلناظرٍ توليةُ مستحقِّها شرعًا.
وممَّا يُشبهُ
(2)
النزولَ عن الوظائفِ: النزولُ عن الإقطَاعِ، فإنَّه نزولٌ عن استحقاقٍ يختصُّ
(3)
به؛ لتخصيصِ الإمامِ له استغلالَه، أشبَه مُستحِقَّ الوظيفَةِ، وأخذُ العوضِ عن ذلك قريبٌ من الخُلعِ، كما قالَه ابنُ نصرِ اللهِ، وغيرُه.
قلتُ: وإنْ لمْ يتم النزولُ، فله الرجوعُ بما بذلَه من العِوضِ؛ لأنَّ البدَل لم يسلمْ له. قالَهُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع"
(4)
.
(ومَن سبقَ إلى مباحٍ، فهو له، كصيدٍ، وعنبرٍ، ولؤلؤٍ، ومَرْجَانٍ، وحطَبِ، وثمَرٍ، ومنبوذٍ) أي: مطروحٍ. (رغبةً عنه) كالنِّثارِ في الأعراسِ، ونحوِها. وما يتركُه حصَّادٌ ونحوُه، من زرعٍ وثمرٍ؛ رغبةً عنه، وكِسْرَةٍ، ولحمٍ على شيءٍ من عظمٍ،
(1)
تكررت: "إن" في الأصل.
(2)
في الأصل: "يثبتُ".
(3)
في الأصل: "مختصّ".
(4)
"كشاف القناع"(9/ 456).
والمِلكُ مقصُورٌ فيه على القَدْرِ المَأخوذِ.
فيملكُه بأخذِه، مسلمًا كان أو ذِمِّيًّا، ويُقسمُ بين عددٍ بالسويِّةِ؛ لاستوائِهم في السببِ، وإمكانِ القسمةِ
(1)
(والمِلكُ مقصور فيه على القدرِ المأخوذِ) فلا يملِكُ ما لمْ يحُزْه، ولا يمنعُ غيرَه منه.
"فرعٌ": ومَن جَلَسَ في نحوِ جامعٍ لفتوى، أو إقراءٍ، فهو أحقُّ بمكانِه ما دامَ، أو غابَ لعذرٍ وعادَ قريبًا. ومَن سبقَ إلى رِباطٍ، أو نزلَ فقيهٌ بمدرسةٍ، أو صوفيٌّ بخانَقَاه
(2)
، لم يبطلْ حقُّه بخروجِه منه لحاجةٍ
(3)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 350).
(2)
الخانَقاه: بُقْعَةٌ يَسْكُنُها أَهْلُ الصَّلاةِ والخَيْرِ، والصُّوفِيَّةُ. والنونُ مفتوحة. مُعَرَّب. "تاج العروس":(خنق).
(3)
انظر "الروض المربع"(5/ 492)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 350).
بَابُ الجَعَالَةِ
وهي: جَعلُ مالٍ مَعلُومٍ لمن يَعمَلُ له عَملًا مُباحًا، ولو مَجهُولًا، كقَولِه: مَنء رَدَّ لُقَطَتي، أو بَنَى محب هَذَا الحائِطَ، أو أذَّنَ بهذا المَسجِدِ شَهرًا، فله كَذَا.
فمن فَعَلَ العَملَ بعدَ أن بلَغَه الجُعْلُ،
(بابُ الجَعَالةِ)
بتثليثِ الجيمِ. ذكرَه ابنُ مالكٍ. مشتقٌ مِن الجَعْلِ، بمعنى: التسميةِ؛ لأنَّ الجاعلَ يُسمِّي الجُعلَ للعاملِ. أو مِن الجَعلِ، بمعنى: الإيجابِ، يُقالُ: جَعلتُ له كذا. أي: أوجئتَ. ويُسمَّى ما يُعطاه الإنسانُ على أمرٍ يفعلُه: جُعلًا، وجَعَالةً، وجَعيلةً. قالَه ابنُ فارسٍ
(1)
.
ويَدلُّ لمشروعيتِها: قولُه تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يُوسُف: 72].
(وهي) شرعًا: (جعلُ مالٍ
(2)
معلومٍ) فلا يصحُّ: مَن رَدَّ عبدي، فله نصفُه. ونحوُه (لمن يعملُ) مُتعلِّقٌ بـ"جَعْلُ" (له) أي: الجاعلِ (عَمَلًا مباحًا) بخلافِ نحوِ زمرٍ وزِنًا، (ولو) كان العملُ (مجهولًا، كقولِه: مَن ردَّ لُقَطَتي، أو: بنَى لي هذا الحائطَ، أو: أذَّنَ بهذا المسجدِ شهرًا، فلَه كذا).
(فمَن فعلَ العملَ) أي: العملَ المسمَّى عليه الجعلُ (بعدَ أنْ بلغَه الجُعلُ،
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 280)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 351).
(2)
سقطت: "مال" من الأصل.
استحقَّه كلَّه، وإن بلَغَهُ في أثناءِ العَمَلِ، استحقَّ حِصَّةَ تمامِهِ، وبَعدَ فَراغِ العَمَلِ، لم يستَحِقَّ شَيئًا.
وإن فَسَخَ الجَاعِلُ قَبْلَ تمَامِ العَمَلِ، لَزِمَهُ أُجرَةُ المِثْلِ، وإن فَسَخَ العَامِلُ، فلا شيءَ له.
اسْتحقَّه كلَّه) لأنَّ العقدَ استقرَّ بتمامِ العملِ، فاستحقَّ ما جُعِلَ له، كالربحِ في المضاربةِ.
(وإنْ بلغَه) الجُعلُ (في أثناءِ العملِ، استحقَّ) مِن الجُعلِ (حِصَّةَ تمامِه) أي: بقسطِ ما عمِلَه بعدَ بلوغِه
(1)
(و) مَن بلغَه (بعدَ فراغِ العملِ) أي: تمامِه (لم يستحقَّ شيئًا) أي: مِن الجُعلِ؛ لأنَّه مُتبرِّعٌ بعملِه.
(وإن فَسَخَ الجاعِلُ قبلَ تمامِ العملِ، لزِمَه أُجرةُ المثلِ) لأنَّه عمِلَ بعِوضٍ لم يُسلَّمْ له، فكان له
(2)
أَجرةُ عملِه، ولا شيءَ له لما يعمله بعدَ الفسخِ؛ لأنَّه غيرُ مأذونٍ فيه.
وإنْ زادَ الجاعلُ، أو نقصَ مِن الجُعلِ قبلَ الشروعِ في العملِ، جازَ، وعُمِلَ به؛ لأنَّها عقدٌ جائزٌ، فجازَ فيه ذلك، كالمضاربةِ.
(وإنْ فسخَ العاملُ) قبلَ تمامِ عملِه، (فلا شيءَ له) لإسقاطِه حقَّ نفسِه، حيثُ لمْ يوفِّ ما شُرِطَ عليه
(3)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 353).
(2)
في الأصل: "والجوازُ: له".
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 284)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 354).
ومن عَمِلَ لِغَيرِه عَمَلًا بإذنه، من غيرِ أُجرَةٍ وجَعَالَةٍ، فلهُ أُجرة المِثلِ، وبغَيرِ إذنِه، فلا شَيءَ له، إلَّا في مسأَلتَين:
إحداهُما: أن يُخلِّصَ مَتَاعَ غَيرِه مِنْ مَهلَكَةٍ، فلَهُ أُجرَة مِثلِه.
الثَّانِيَةُ: أن يَرُدَّ رَقيقًا آبِقًا لسيِّدِه،
(ومَن عملَ لغيرِه عملًا بإذنِه، مِن غيرِ أُجرةٍ وجَعَالةٍ، فله أجرةُ المثلِ) لدِّلالةِ العُرفِ على ذلك.
(وبغيرِ إذنِه، فلا شيءَ له) لتبرُّعِه بعملِه، حيثُ بذلَه بلا عوضٍ. ولئلا يلزمَ الإنسانَ ما لم يلتزمْه، ولم تطبْ به نفسُه (إلا في مسألتين):
(إحداهما) أي: إحدى
(1)
المسألتين: (أن يخلِّصَ متاعَ غيرِه مِن مَهلَكَةٍ) أي: مِن بحرٍ، أو فمِ سَبُعٍ، أو فلاةٍ، يُظنُّ هلاكُه في تَركِه.
وكذا لو انكسرتِ السفينةُ، فخلَّصَ قومٌ الأموالَ مِن البَحرِ، فتجبُ لهم الأجرةُ على المُلَّاكِ؛ لأنَّ فيه حثًّا وترغيبًا في إنقاذِ الأموالِ مِن الهلكةِ، فإنَّ الغوَّاصَ إذا عَلِمَ أنَّ له الأجرةَ غرَّرَ
(2)
بنفسِه، وبادرَ إلى التخليصِ، بخلافِ ما إذا عَلِمَ أنَّه لا شيءَ له
(3)
(فله أجرةُ مثلِه) وإن لم يأذنْ له ربُّه؛ لأنَّه يُخشَى هلاكُه وتلفُه على مالكِه.
المسألةُ (الثانيةُ: أنْ يرُدَّ رَقيقًا) مِن قِنٍّ، ومُدبَّرٍ، وأمِّ ولدٍ (آبقًا لسيِّدِه) ما لم يمُتْ سيِّدُ مدبَّرٍ خرجَ مِن الثلثِ، أو أمِّ ولدٍ قبلَ وصولٍ، فيعتُقا، ولا شيءَ له لم يَتِمَّ؛
(1)
في الأصل: "أحد".
(2)
في الأصل: "عنَّ".
(3)
انظر "كشاف القناع"(9/ 485)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 354).
فله ما قدَّره الشَّارِعُ، وهو دِينَارٌ، أو اثنَا عشَرَ دِرهَمًا.
إذ العتيقُ لا يُسمَّى آبقًا. أو يهرُبُ الآبقُ مِن واجِدِه قبلَ وصولِه؛ لأنَّه لم يردَّ شيئًا
(فله ما قدَّرَه الشارعُ) سواءٌ ردَّه من المصرِ أو خارجَه، قَربُتِ المسافةُ أو بعُدتْ. ولو كانَ الرادُّ زوجًا للرقيقِ، أو ذا رحِمٍ في عيالِ المالكِ. وسواءٌ كان الآبقُ يساوي المقدارَ الذي قدَّرَه الشارعُ، أوْ لا
(1)
.
"تنبيه": يُقال: أبقَ العبدُ: إذا هرَبَ
(2)
من سيِّده، بفتحِ الباءِ، يأبِقُ، بكسرِها وضمِّها، فهو آبِقٌ.
وقال الثعالبيُّ في "سرِّ اللغة": لا يقالُ للعبدِ: آبقٌ، إلا إذا كان ذهابُه من غيرِ خوفٍ، ولا كدٍّ في العملِ، وإلَّا فهو هاربٌ
(3)
.
(وهو): ما قدَّرَه الشارعُ: (دينارٌ، أو اثنا عشرَ درهمًا) رُويَ عن عمرَ، وعليٍّ، وابن مسعودٍ
(4)
.
وروىَ ابنُ أبي ملكية، وعمرُو بنُ دينارٍ، مرسلًا: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعلَ
(5)
في ردِّ الآبقِ إذا جاءَ به خارجًا من الحرمِ دينارًا
(6)
.
والمعنى فيه: الحثُّ على حفظِه على سيِّدهِ، وصيانةِ العبدِ عمَّا يُخافُ من لحاقِه
(7)
بدارِ الحربِ، والسعي في الأرضِ بالفسادِ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 285)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 355).
(2)
في الأصل: "تهرَّبَ".
(3)
"كشاف القناع"(9/ 487)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 355).
(4)
انظر "مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 505)، "سنن البيهقي"(6/ 200).
(5)
سقطت: "جعل" من الأصل.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 442).
(7)
في الأصل: "إلحاقِه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونقلَ ابنُ منصورٍ: سُئِلَ أحمدُ عن جُعْلٍ الآبقِ؟ فقال: لا أدري، قد تكلَّمَ الناسُ فيه، لم يكنْ عندي
(1)
فيه حديثٌ صحيحٌ.
وعلى الأوَّلِ: فإن ردَّه الإمامُ، فلا شيءَ له في ردِّه. نصًّا؛ لانتصابِه للمصالحِ، وله حقٌّ في بيتِ المالِ على ذلك
(2)
.
(1)
في الأصل: "عنده".
(2)
"كشاف القناع"(9/ 486، 487).
بَابُ اللُّقَطَةِ
وهي ثَلاثَةُ أقسَامٍ:
أحدُها: ما لا تتبعُهُ هِمَّة أوسَاطِ النَّاسِ، كسَوطٍ، ورَغيفٍ، ونَحوِهِما.
(بابُ اللُّقَطَةِ)
بضمِّ اللامِ وفتحِ القافِ. ويُقالُ: لُقاطةٌ، بضمِّ اللَّامِ، و: لَقَطةٌ، بفتحِ اللَّامِ والقافِ.
وعُرْفًا: مالٌ كنقدٍ ومتاعٍ، أو مختصٌّ كخمرِ خلَّالٍ
(1)
، ضائعٌ كساقطٍ بلا علمٍ، أو في معناه -أي: الضائعِ- كمتروكٍ قصدًا لمعنًى يقتضيه، ومدفونٍ منسيٍّ. لغير حربيٍّ، فإنْ كانَ لحربيٍّ، فلآخذِهِ، كما لو ضلَّ الحربيُّ الطريقَ، فلآخذه هو وما معه.
(وهي) أي: اللقطةُ (ثلاثةُ أقسامٍ) بالاستقراءِ:
(أحدُها: ما لا تتبَعُه همِّهُ أوساطِ الناسِ) أي: لا يهتمُّونَ في طلبِه (كسوطٍ): ما يُضربُ به. وفي "شرح المهذب": هو فوقَ القضيبِ، ودونَ العصا
(2)
(ورغيفٍ ونحوِهما)
(3)
، كالخرقةِ، والحبلِ، والكسرةِ، والتَّمرةِ، والعصا، وكلِّ ما لا خَطَرَ له.
(1)
في الأصل: "خال".
(2)
"كشاف القناع"(9/ 491)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 357).
(3)
في الأصل: "ونحوها".
فهذا يملَكُ بالالتِقَاطِ، ولا يَلزَمُ تعريفهُ، لكِنْ إنْ وجَدَ ربَّه، دفَعَهُ، إنْ كانَ باقِيًا، وإلَّا لم يَلزمْهُ شَيءٌ.
ومَنْ تركَ دابَّتَهُ تَزكَ إياسٍ بمَهلَكَةٍ أو فَلاةٍ، لانِقطَاعِها، أو لعَجْزِه عَنْ عَلَفِها، مَلَكَها آخِذُها،
قال في "المبدع": والمعروفُ في المذهبِ تقيدُه بما لا تتبعُه همةُ أوساطِ الناسِ، ولو كثُرَ.
ونصَّ في روايةِ أبي بكرِ بنِ صدقةَ: أنَّه يعرِّفُ الدِّرهمَ.
وقال ابنُ عقيلَ: لا يجبُ ما تعريفُ الدَّانقِ. وحملَهُ في "التلخيص" على دانقِ الذهب؛ نظرًا لعُرْفِ العراقِ
(1)
(فهذا يُملكُ
(2)
بالالتقاطِ) ويُباحُ الانتفاعُ به. نصًّا. (ولا يلزمُ تعريفُه) لأنَّه من قبيل المباحاتِ. (لكنْ إنْ وجدَ ربَّه، دفعَه، إن كانَ باقيًا) أي: موجودًا (وإلا) أي: بأنْ لمْ يكنْ باقيًا (لم يلزمْه شيءٌ) أي: لم يلزمْه بدلُه
(ومَنْ تركَ دابَّتَه) أي: لا عبدَه أو متاعَه (ترْكَ إياسٍ بمهلكةٍ أو فلاةٍ؛ لانقطاعِها) أي: عجزِها عن المشي (أو) تركَها (لعجزِه عن علفِها، ملكَها آخذُها) لحديثِ الشعبيِّ مرفوعًا: "من وجدَ دابَّةً قد عجزَ عنها أهلُها فسيَّبوها، فأخذَها فأحياها، فهي له"
(3)
. وفي القولِ بملكِها: إحياؤُها وإنقاذُها؛ ولأنَّها تُركتْ رغبةً عنها، أشبَه سائرَ ما يُتركُ رغبةً عنه
(1)
"كشاف القناع"(9/ 491، 492).
(2)
في الأصل: "يملكُه".
(3)
أخرجه أبو داود (3524)، وحسنه الألباني.
وكَذَا ما يُلقَى في البَحرِ خَوفًا من الغَرقِ.
الثَّانِي: الضَّوالُّ التي تمتَنِعُ من صِغَارِ السِّباع، كالإبلِ والبَقرِ والخَيلِ والبِغَالِ والحَميرِ والظِّباء.
فيحرُم التِقاطُها، وتُضمَنُ كالغَصْبِ، ولا يَزولُ الضَّمانُ إلَّا بدَفعِها للإمَامِ أو نائِبهِ، أو بردِّها إلى مكانِها بإذِنه.
(وكذا ما يُلقى) من سفينةٍ (في البحرِ؛ خوفًا من الغرقِ) فيملكُه آخذُه، لإلقاءِ صاحبِه له اختيارًا فيما يتلفُ بتركِه، أشبَه ما ألقاه رغبةً عنه.
القسمُ (الثاني: الضَّوالُّ): جمعُ ضالةٍ، اسمٌ للحيوانِ خاصةً دونَ سائرِ اللقطةِ. ويُقالُ لها: الهوامي، والهوافي، والهواملُ (التي تمتنعُ من صغارِ السِّباعِ) كذئبٍ، وثعلبٍ، وابنِ آوى، وأسدٍ صغيرٍ. وامتناعُها إمَّا لكبرِ جُثَّتِها (كالإبلِ، والبقرِ، والخيلِ، والبغالِ، والحميرِ، والظِّباءِ)
(فيحرمُ التقاطُها) لقوله عليه السلام: "ما لَكَ ولها
(1)
، فإنَّ معها حذاءها وسقاءَها، تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الشجرَ حتى يجدَها ربُّها"
(2)
. ولحديثِ: "لا يُؤوي الضَّالةَ إلا ضالٌّ". رواه أحمدُ، وأبو داودَ، وابن ماجه
(3)
.
(وتُضمنُ كالغصبِ) لعدمِ إذنِ الشارعِ فيه. (ولا يزولُ الضَّمانُ إلا بدفعِها للإمامِ أو نائبِه) لأنَّ له نظرًا في مالِ الغائبِ (أو بردِّها)
(4)
إلى مكانِها المأخوذةِ منه
(1)
في الأصل: "وما لها".
(2)
أخرجه البخاري (2427)، ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(3)
أخرجه أحمدُ (31/ 520)(19184)، وأبو داودَ (1720)، وابن ماجه (2503) من حديث جابر بن عبد الله. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1563).
(4)
في الأصل: "يردها".
ومن كتَمَ شيئًا مِنها فَتَلِفَ، لزِمَه قِيمَتُه مرَّتَين.
وإنْ تَبعَ شَيءٌ مِنهَا دوابَّهُ فطَرَدَه، أو دَخَلَ دارَهُ فأخرَجَه، لم يضمَنْهُ حيثُ لم يأخُذْهُ.
الثَّالِثُ: كالذَّهب، والفِضَّةِ، والمتَاع، وما لا يَمتَنِعُ من صِغارِ السِّباع، كالغَنم، والفُصْلانِ، والعَجَاجِيلِ، والأَوْزِ، والدَّجَاجِ.
(بإذنِه) أي: الإمامِ، أو نائبِه. فإنْ ردَّه بغيرِ إذنِه فتلفَ، ضمِنَه، كالمسروقِ والمغصوبِ
(1)
.
(ومَن كتمَ شيئًا منها) عن ربِّه، ثمَّ ثبتَ ببيِّنةٍ أوإقرارٍ (فتلفَ، لزِمَه قيمتُه مرَّتينِ) لربِّه. نصًّا؛ لحديث: "في الضالَّةِ المكتومةِ غرامتُها، ومثلُها معها"
(2)
قال أبو بكرٍ في "التنبيه": وهذا حكمُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(وإنْ تبعَ شيءٌ منها دوابَّه فطردَه، أو دخلَ دارَه، فأخرجَه، لم يضمنْه، حيثُ لمْ يأخذْه) ولم تثبتْ يدُه عليها.
القسمُ (الثالثُ): ما عدَهُما، أي: القسمين السابقينِ (كالذهبِ، والفضةِ، والمتاعِ) كثيابٍ، وكتبٍ، وفُرُشٍ، وأوانٍ، وآلالتِ حِرَفٍ، ونحوِها، (ومما لا يمتنعُ من عغارِ السِّباعِ، كالغنمِ، والفُصلانِ) بضمِّ الفاءِ وكسرِها، جمعُ فصيلٍ: ولدُ الناقةِ إذا فُصلَ عن أمِّه (والعجاجيلِ) جمعُ عجلٍ: ولدُ البقرةِ (والأوْزِ، والدَّجاجِ) ونحوِ ذلك، كخشَبَةٍ صغيرةٍ، وقطعةِ حديدٍ أو نحاسٍ أو رصاصٍ - والمريضُ من
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 360).
(2)
أخرجه أبو داود (1718) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني.
فَهذِه يجُوزُ التقَاطُها لمِنَ وَثِقَ مِنْ نفسِه الأمانَةَ، والقدرَةَ على تَعرِيفِها، والأفضَلُ معَ ذلِكَ تركُها.
فإنْ أخذَهَا، ثمَّ ردَّها إلى مَوضِعِها، ضَمِنَ.
كبارِ الإبلِ ونحوِها، كالصغيرِ - وجحاشِ الحمير
(1)
(فهذه يجوزُ التقاطُها لمن وثِقَ مِن نَفسِه الأمانةَ) أي: الحفظَ (والقدرةَ على تعريفها) فإنْ عجَزَ عن تعريفِها، فليسَ له أخذُها.
وإنْ أخذَها بنيةِ الأمانةِ، ثمَّ طرأَ قصدُ الخيانةِ، فاختيارُ الموفَّقِ: لا يضمنُ. وصححَّه الحارثيُّ.
ويحرمُ على ملتقطٍ لا يأمنُ نفسَه عليها أخذُها، ويضمنُها إنْ تلِفتْ، فرَّطَ أو لا؛ لأنَّه غيرُ مأذونٍ فيه، أشبَه الغاصبَ. ولم يملكْها مَن لا يأمنُ نفسَه
(2)
عليها
(3)
(والأفضلُ مع ذلك) أي: لمن أمِنَ نفسَه عليها، وقويَ على تعريفِها (تركُها) أي: اللُّقطةِ، فلا يتعرَّضُ لها. رُويَ عن ابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ
(4)
(فإنْ أخذَها) أي: اللقُّطةَ (ثمَّ ردَّها إلى موضِعها) أو فرَّطَ فيها، فتلِفتْ (ضمِنَها)؛ لأنَّها أمانةٌ حصلتْ
(5)
في يدِه، فلزِمَه حفظُها، كسائرِ الأماناتِ. وتركُها والتفريطُ فيها تضييعٌ لها.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 294)، "كشاف القناع"(9/ 499)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 361).
(2)
في الأصل: "من نفسه".
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 362).
(4)
أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (4/ 417).
(5)
في الأصل: "جعلت".
فَصْلٌ
وهذا القِسمُ الأخيرُ ثلاثَةُ أنواعٍ:
أحدُها: ما التقَطَهُ مِنْ حَيوانٍ.
فيلزَمُهُ خَيرُ ثَلاثَةِ أُمورٍ: أكلُهُ بقيمَتِهِ، أو بيعُهُ وحِفْظُ ثَمنِهِ، أو حِفظُه، ويُنفِقُ عليهِ مِنْ مالِه،
(فصلٌ)
(وهذا القسمُ الأخيرُ ثلاثةُ أنواعٍ):
(أحدُها) أي: أحدُ الأنواعِ الثلاثةِ: (ما التقطَه من حيوانٍ) مأكولٍ، كفصيلٍ، وشاةٍ، ودجاجةٍ
(فيلزمُه) أي: الملتقطَ (خيرُ ثلاثةِ أمورٍ) أي: فعلُ الأصلحِ
(1)
لمالكِه:
(أكلُه بقيمتِه) في الحالِ؛ لحديثِ: "هي لكَ، أو لأخيكَ، أو للذئبِ"
(2)
. فسوَّى بينَه وبين الذئبِ، والذئبُ لا يَستَأني بأكلِها، ولأنَّ في أكلِ الحيوانِ في الحالِ إغناءً عن الإنفاقِ عليه، وحراسةً لماليَّتِه على صاحبِه إذا جاءَ، فإنَّه يأخذُ قيمتَه بكمالِها. ومتى أرادَ أكلَه، حَفِظَ صِفَتَه، فمتى جاءَ صاحبُه فوصفَه، غرمَ قيمتَه له
(3)
(أو بيعُه) أي: الحيوانِ (وحفظُ ثمنِه) ولو بلا إذنِ إمامٍ
(أو حفظُه، وينفقُ) ملتقِطٌ (عليه من مالِه) ليحفظَه لمالكِه. فإنْ تركَه بلا إنفاقٍ
(1)
في الأصل: "الأصلي".
(2)
أخرجه البخاري (2427)، ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 294)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 363).
وله الرُّجوعُ بما أنَفَقَ إن نواه.
فإن استَوتِ الثَّلاثَةُ، خُيِّر.
الثَّانِي: ما يُخشَى فَسادُه.
فيلزُمُه فِعلُ الأصلَحِ من بَيعِهِ، أو أكلِهِ بِقيمَتِه، أو تَجفِيفِ ما يُجفَّفُ.
فإن استَوتِ الثَّلاثَةُ، خُيِّر.
عليه، فتلِفَ، ضمِنَه؛ لتفريطِه (وله الرجوعُ) أي: الملتقطِ على ربِّه، إنْ وجدَه (بما أنفقَ) عليه (إنْ نواه) أي: الرجوعَ. نصًّا؛ لأنَّه أنفقَ عليه لحفظِه، فكانَ من مالِ صاحبِه، كمؤنةِ تجفيفِ عنبٍ ورُطبٍ
(فإنِ استوتِ) الأمورُ (الثلاثةُ) في نظرِ ملتقطٍ، فلمْ يظهرْ له أنَّ أحدَهما أحظُّ، (خُيِّرَ) بين الثلاثةِ؛ لعدمِ المرجِّحِ
(1)
.
النوع (الثاني: ما يُخشىَ فسادُه) بإبقائه، كخضرواب ونحوِها
(فيلزمُه) أي: الملتقطَ (فعلُ الأصلحِ) أي: الأحظِّ لمالكِه:
(من بيعِه) بقيمتِه، وحفظِ ثمنِه، بلا إذنٍ حاكمٍ
(أو أكلِه بقيمتِه) قياسًا له على الشاةِ. ولحفظِ ماليَّتِه على ربِّه
(أو تجفيفِ ما يُجفَّفُ) كعنبٍ ورُطَبٍ؛ لأنَّه أمانة بيدِه، فتعيَّن عليه فعلُ الأحظِّ. فإنِ احتاجَ في تجفيفِه إلى مؤنةٍ، باعَ بعضَه فيه.
(فإنِ استوتْ) الأمورُ (الثلاثَةُ، خُيِّرَ) ملتقطٌ بينها. فإن تركَها حتى تلِفتْ، ضمِنَه
(2)
.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 295)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 364).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 295)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 365).
الثالِثُ: باقي المَال.
ويلزَمُهُ التَّعِريفُ في الجَميعِ فَورًا نَهارًا، أوَّلَ كُلِّ يَومٍ مدَّةَ أُسبُوعٍ، ثم عادةً مدَّةَ حَولٍ.
وتعريفُها: بأن ينادِيَ في الأسواقِ، وأبوابِ المساجِدِ:
النوعُ (الثالثُ: باقي المالِ) المباحِ التقاطُه، من أثمانٍ ومتاعٍ، ونحوِهما.
(ويلزمه) أي: الملتقطَ (التعريفُ في الجميعِ) من حيوانٍ وغيرِه، سواءٌ أرادَ تملُّكًا، أو حفظًا لربِّه؛ لأنَّه عليه السلام أمرَ به زيدَ بن خالدٍ، وأبيَّ بن كعبٍ
(1)
، ولم يفرقْ، ولأنَّ حفظَها لربِّها إنَّما يفيدُ بإيصالِها إليه، وطريقُه التعريفُ
(فورًا)؛ لأنَّه مقتضى الأمرِ، ولأنَّ صاحبَها يطلبُها عَقِبَ ضياعِها
(2)
. (نهارًا) لأنَّه مجمعُ الناسِ وملتقاهُم (أوَّلَ كلِّ يومِ) قبلَ اشتغالِ الناسِ بمعاشِهم (مدَّةَ أسبوعِ) أي: سبعةَ أيامٍ؛ لأنَّ الطلبَ فيه أكثرُ، (ثمَّ) يعرِّفُها (عادةً) أي: كعادةِ الناسِ في ذلكَ (مدَّةَ حولٍ) من التقاطٍ، رُوي عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عباسٍ
(3)
؛ لحديثِ زيدِ بنِ خالدٍ، فإنَّه عليه السلام أمرَه بعامٍ واحدٍ، ولأنَّ السَّنَةَ لا تتأخَّرُ عنها القوافلُ، ويمضي فيها الزمانُ التي تُقصدُ فيه البلادُ من الحرِّ والبردِ، والاعتدالِ كمدةِ العِنِّينِ.
(وتعريفُها؛ بأنْ يناديَ في الأسواقِ) عندَ اجتماعِ الناسِ (وأبوابِ المساجد) أوقات
(4)
الصَّلواتِ؛ لأنَّ المقصودَ إشاعةُ ذكرِها. وإنْ كانَ في صحراءَ، عرَّفَها في
(1)
حديث زيد بن خالد تقدم قريبًا. أما حديث أبي فقد أخرجه البخاري (2426)، ومسلم (1723).
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 296)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 366).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 413، 414) عنهم جميعًا.
(4)
سقطت: "أوقات" من الأصل.
مَنْ ضَاعَ مِنهُ شَيءٌ، أو نَفَقَةٌ.
وأُجرَةُ المُنادِي على المُلتَقِطِ.
فإذا عرَّفَها حَولًا، ولم تُعرَفْ، دخَلَت في مِلْكِه
أقربِ البلادِ إليها. وكُرِهَ تعريفُها داخلَ المساجدِ:
(مَن ضاعَ منه شيءٌ، أو:) مَن ضاعَ منه (نفقةٌ) قالَه في "المحرر". وفي "المغني" و"الشرح": فيقولُ: مَن ضاعَ منه ذهبٌ أو فضةٌ، أو دنانيرُ أو دراهمُ، أو ثيابُ، ونحوُ ذلك.
(وأجرةُ المُنادي على الملتقطِ) نصًّا؛ لأنَّه سببٌ في العملِ، والتعريفُ واجبٌ على الملتقطِ، فأجرتُه عليه
(1)
(فإذا عرَّفَها حوْلًا) كاملًا (ولم تُعرَفْ) فيه، وهي ممَّا يجوزُ التقاطُه (دخلتْ في ملكِه) أي: الملتقطِ؛ غنيًّا كان أو فقيرًا، لقولِه عليه السلام
(2)
في حديثِ زيدِ بن خالدٍ: "فإنْ لَمْ تُعرَفْ، فاستَنفِقْها"
(3)
. وفي لفظٍ: "وإلَّا فهي كسبيلِ مالكٍ"
(4)
. وفي لفظٍ: "كُلْها"
(5)
. وفي لفظٍ: "فانتفعْ بها"
(6)
. وفي لفظٍ: "فشأنكَ بها"
(7)
.
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 506)، "دقائق أولي النهى"(4/ 297)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 367).
(2)
سقطت: "السلام" من الأصل.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ البخاري (2427)، ومسلم (1722).
(4)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1723) من حديث أبيٍّ.
(5)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1722) من حديث زيد بن خالد.
(6)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد (35/ 99)(21168) من حديث أبيٍّ.
(7)
أخرجه بهذا اللفظ البخاري (2429)، ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد.
قَهرًا عليه، فيتصرَّفُ فيها بِما شاءَ، بِشَرطِ ضَمانِها.
وفي حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ: "فاستنفقْها"
(1)
. وفي لفظٍ: "فاستمتعْ بها"
(2)
. وهو حديثٌ صحيحٌ.
(قهرًا عليه): أي: حكمنا بدخولِها في ملكِه، كالميراثِ. نصًّا، فلا يقفُ على اختيارِه، ولأنَّ الالتقاطَ والتعريفَ سببُ التملُّكِ، فإذا تمَّا، وجبَ أن يثبتَ المِلكُ حُكمًا، كالإحياءِ والاصطيادِ، فلا يقفُ على قولِه، ولا اختيارِه
(3)
(فيتصرَّفُ فيها) أي: في اللُّقطةِ (بما شاءَ) من بيعٍ، أو وقفٍ، أو هبةٍ (بشرطِ ضمانِها) أي: مثلِها إنْ كانتْ مثليَّةً، وإلا فقيمتُها؛ لتعذُّرِ ردِّها
(4)
.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ البخاري (2427)، ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد. ولم أجده عندهما عن أبيٍّ.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ البخاري (2426)، ومسلم (1723) من حديث أبي.
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 367).
(4)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 368).
فَصْلٌ
ويحرُمُ تصرُّفُهُ فِيها حتَّى يَعرِفَ وعاءَها، ووِكَاءَها -وهو ما شُدَّ بهِ الوِعَاءُ- وعِفَاصَها -وهو صِفَة الشَّدِّ- ويعرِفَ قَدْرَهَا، وجِنْسَهَا، وصِفَتَهَا.
(فصلٌ)
(ويحرُمُ تصرُّفُه) أي: الملتقطِ (فيها) أي: الُّلقَطةِ (حتى يَعرِفَ وعاءَها) وهو ظرفُها، كيسًا كانَ أو غيرَه، كخرقةٍ مشدودةٍ فيها، وقِدْرٍ وزِقِّ فيه اللُّقطةُ المائعةُ، ولفافةٍ على ثيابٍ
(و) حتى يعرفَ (وكاءَها) بالمدِّ، وهو: الخيطُ أو السيرُ الذي تُشدُّ به، وكونُ الخيطِ من إبريسَمٍ، أو قطنٍ، أو كَتَّانٍ. وإليه أشارَ بقولِه:(وهو ما شُدَّ به الوِعاءُ) ممَّا تقدمَ
(و) حتى يعرفَ (عِفَاصَها) بكسرِ العينِ المهملةِ (وهو صفةُ الشَّدِّ) فيتعرَّفُ الربطَ
(1)
: هل هو عِقدةٌ أو عِقدَتان، وأُنشُوطَةٌ
(2)
أو غيزها. ويُطلقُ على وعاء النفقةِ، جلدًا أو خرقةً، أو غلافِ القارورةِ: الجلدُ يُغطَّى به رأسُها
(و) حتى يعرِفَ (قدرَها) بكيلٍ، أو وزنٍ، أو عدٍّ، أو ذرعٍ
(و) حتى يعرِفَ (جنسَها وصِفتَها) أي: نوعَها ولونَها؛ لحديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ أنَّه قال: وجدتُ مائةَ دينارٍ، فأتيتُ بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:"عرِّفْها حَوْلًا". فعرَّفتُها
(1)
في الأصل: "المربطُ".
(2)
الأنْشُوطَةُ، بضم الهمزة: ربطةٌ دون العُقدَةِ إذا مُدَّت بأحَدِ طَرفيها انفَتَحَت. "المصباح المنير": (نشط).
ومتَى وصفَها طالِبُها يَومًا مِنَ الدَّهرِ، لَزِمَ دفعُها إليه بنمائِها المُتَّصِل،
حَوْلًا، فلم تُعرفْ، فرجعتُ إليه، فقال:"اعرفْ عِدَّتَها، ووعاءَها، ووكاءَها، واخلطْها بمالِكَ، فإنْ جاءَ ربُّها فأدِّها إليه"
(1)
. ولأنَّه حيثُ وجبَ دفعُها إلى ربِّها بوصفِها، فلا بدَّ من تعريفِها؛ لأنَّ ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به واجبٌ.
(ومتى وصفهَا) أي: اللقطةَ (طالبُها يومًا من الدَّهر، لزِمَ دفعُها إليه بنمائها المتِّصلِ) مطلقًا؛ لقولِه عليه السلام: "فإنْ جاءَ طالبُها يومًا من الدَّهرِ، فأدِّها إليه"
(2)
. ولأنَّه يتعذُّرُ إقامةُ البيِّنةِ عليها غالبًا؛ لسقوطِها حالَ الغفلةِ أو السهوِ، فلو لم يجبْ دفعُها بالصفةِ، لما جاز التقاطُها. يعني: بلا بيِّنةٍ ولا يمينٍ، ولو لم يغلبْ على الظنِّ صِدْقُه.
فإن لمْ يصفْها ولم يُقمْ بينةً، لم تُدفعْ إليه، ولو غلبَ على الظنِّ صِدْقُه. ويَضمَنُ إذًا إنْ جاءَ آخرُ ووصفَها، وله تَضمينُ مَن شاءَ منهما، وقرارُ الضمانِ على الآخذِ.
وإن لم يأتِ أحدٌ، فللملتقطِ مطالبةُ آخذِها بها؛ لأنَّه لا يأمنُ مجيءَ صاحبِها، فيلزمُه بها، ولأنَّها أمانةٌ بيدِه.
قال في "الشرح" و "المبدع": ويستحبُّ كتبُ صفاتِها؛ ليكونَ أثبت لها
(3)
؛ مخافةَ نسيانِها
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2426)، ومسلم (1723).
(2)
أخرجه البخاري (2427)، ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(3)
في الأصل: "ليكونَ النماءُ أثبتَ لها".
(4)
انظر "كشاف القناع"(9/ 515)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 370).
وأمَّا المُنفَصِلُ بعدَ حَولِ التَّعريفِ، فلواجِدِهَا.
وإن تَلِفَت، أو نَقَصَت في حَولِ التَّعرِيفِ، ولم يُفرط، لم يَضمَنُ، وبعدَ الحَولِ، يضمن مُطلَقًا.
وإنْ أدرَكَهَا ربُّها بعدَ الحَولِ مَبيعَةً، أو مَوهُوبَةً، لم يكُنْ له إلَّا البَدَلُ.
ومَنْ وجَدَ في حَيوانٍ نقدًا،
(وأمَّا المنفصلُ بعدَ حَوْلِ التعريفِ، فلواجدِها) لأنَّه نماءُ ملكِه، ولأنَّه يضمنُ النقصَ
(1)
بعدَ الحولِ، فالزيادةُ له؛ ليكونَ الخراجُ بالضمانِ
(وإنْ تلِفتْ) اللُّقطةُ (أو نقصتْ) أو ضاعَتْ (في حَوْلِ التعريفِ، ولم يُفرِّطْ، لم يضمنـ) ـــها؛ لأنَّها أمانةٌ بيدِه
(2)
، كالوديعةِ. (و) إنْ تلِفتْ أو نقصتْ (بعدَ الحَوْلِ يضمنُـ) ــــــــها ملتقطٌ (مطلقًا) أي: فرَّطَ أو لا، لدخولِها في ملكِه، فتلفُها من مالِه، ومِلكُ الملتقطِ لها مراعىً، يزولُ بمجيء صاحبِها. ويضمنُ بدلَها إنْ تعذَّرَ ردُّها
(3)
(وإنْ أدركها) أي: اللقطةَ (ربُّها بعدَ الحَوْلِ) والتعريفِ (مبيعةً، أو موهوبةً) بيدِ مَن انتقلتْ
(4)
إليه، (لم يكنْ له) أي: ربِّها (إلا البدلُ) لصحَّةِ تصرُّفِ الملتقطِ فيها؛ لدخولِها في مِلكِه.
(ومَن وجدَ في حيوانٍ نقدًا) كدراهمَ أو دنانيرَ وجدَها في بطنِ شاةٍ ذبحَها، فلقطةٌ (أو) وجدَ فيه (دُرَّةً) أو عنبرةً (فلقطة) قال في "الفروع"
(5)
: وإنْ وجدَ دُرَّةً
(1)
في الأصل: "البعض".
(2)
في الأصل: "إمَّا بيدِه".
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 303)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 370).
(4)
في الأصل: "التقطتْ".
(5)
"الفروع"(7/ 320).
أو دُرَّةً، فلُقَطَةٌ لواجِدِه، يلزَمُهُ تعرِيفُه.
ومن استيقَظَ فوجَدَ في ثويه مالًا، لا يدرِي مَنْ صَرَّه، فهو لَه.
ولا يبرأُ مَنْ أخذَ من نائِمٍ شيئًا، إلَّا بتسليِمِه له بعدَ انتباهِهِ.
غيرَ مثقوبةٍ في سمكةٍ، فلصيادٍ؛ لأنَّ الظاهرَ ابتلاعُها من معدنِها.
وتبِعَه في "المنتهى" و"الإقناع". فإنْ كانتْ مثقوبةً أو متصلةً بذهبٍ أو فِضَّةٍ ونحوِهما، فلقطةٌ، يعرِّفُها
(1)
ويبدأُ بالبائِعِ؛ لاحتمالِ أن يكونَ من مالِه
(2)
. فإنْ لم تُعرفْ (فلو أجده) نصًّا (يلزمُه تعريفُه) كسائرِ الأموالِ الضائعةِ
(ومَن استيقظَ) من نومٍ أو إغماءٍ (فوجدَ في ثوبِه) أو كيسِه (مالًا) دراهمَ أو غيرَها (لا يدري مَن صرَّه) أو وضعَه في كيسِه أو جَيْبِه (فهو له) بلا تعريفٍ
(ولا يبرأُ مَن أخذَ من نائمٍ شيئًا؛ إلا بتسليمِه له بعد انتباهِه) لتعدِّيه؛ لأنَّه
(3)
إمَّا سارقُ أو غاصبٌ، فلا يبرأُ منَ عُهدتِه إلا بردِّه لمالكِه في حالٍ يصحُّ قبضُه له فيها.
ومَن أُخِذَ متاعُه، كثيابٍ في حمَّامٍ، وتُرِكَ له بدَله، فلقطةٌ. أو أُخذَ مداسُه، وتُرِك بدلُه، فلقطةٌ، لا يملكُه بذلك؛ لأنَّ سارقَ الثيابِ ونحوِها، لم يجرِ بينَه وبين مالكِها معاوضة تقتضي زوالَ ملكِه عنها، فإذأ أخذَها فقد أخذَ مالَ غيرِه، ولا يعرِفُ صاحبَه، فيُعَرِّفُه كاللُّقطةِ.
ويأخذُ ربُّ الثيابِ ونحوِها حقَّه منه، أي: ممَّا تُرِكَ له بعدَ تعريفِه من غيرِ رفعِه إلى حاكمٍ.
(1)
في الأصل: "يصرفُها".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 371).
(3)
سقطت: "لأنَّه" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلو كانتْ الثيابُ المتروكةُ أكثرَ قيمةً من المأخوذةِ، فإنَّما يأخذُ منها بقدرِ قيمةِ ثيابِه؛ لأنَّ الزائدَ فاضلٌ عمّا يستحقُّه، ولم يرضَ صاحبُها بتركِها عِوضًا عمَّا أخذَه، ويتصدَّقُ بالباقي
(1)
.
"تتمَّةٌ": قال في "الفروع"
(2)
: للرقيقِ أنْ يلتقطَ ويُعرِّفَ بلا إذنِ سيِّدِه، في الأصحِّ فيهما.
"فائدةٌ": لو التقطَها اثنانِ فأكثرَ، فعرَّفَاها
(3)
حَوْلًا، فلم تُعرفْ، ملَكَاها سوِّيةً. وإنْ رآها اثنانِ معًا، فبادرَ أحدُهما فأخذَها، أو رآها أحدُهما وأعلَمَ بها صاحبَه، فأخذَها، فهي لآخذِها؛ لأنَّ استحقاقَ اللُّقطةِ بالأخذِ، لا بالرؤيةِ، كالاصطيادِ. وإنْ قالَ أحدُهما لصاحبِه: هاتِها نعرفْها، نَظَرتَ في نيَّته، فإن أخذَهَا لِنَفسِه، فهي لهُ دُونَ الآمِرِ، وإن أخذَها للآمِرِ، فهي له، كما لو وكلَّه في الاصطيادِ
(4)
.
(1)
انظر "كشاف القناع"(9/ 521)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 372).
(2)
"الفروع"(7/ 317).
(3)
في الأصل: "فعرفها".
(4)
في الأصل: "نَظَرتَ في نيَّته فأدفعَها لنفسِه، فله وللآمرِ كما لو وكلَّه في الاصطيادِ"، وانظر "المغني"(8/ 301).
بابُ اللَّقِيطِ
وهوَ: طِفلٌ يُوجَدُ لا يُعْرَفُ نَسَبُه ولا رِقُّهُ.
والتقاطُه، والإنْفَاقُ عليهِ فَرضُ كِفايَةٍ. ويُحكَمُ بإسلامِه، وحُريَّتِهِ.
ويُنفَقُ عليهِ ممَّا معَه
(بابُ اللَّقيطِ)
فعيلٌ بمعنى مفعول.
(وهو) شرعًا: (طفلٌ يُوجدُ) مطروحًا في شارعٍ أو غيرِه (لا يُعرفُ نسبُه، ولا) يُعرفُ رِقُّه
(والتقاطُهُ، والانفاقُ عليه، فرضُ كفايةٍ) لقولِه تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المَائدة: 2] ولأنَّ فيه إحياءَ نفسٍ، فكان واجبًا، كإطعامِه إذا اضطرَّ، وإنجائَه من نحوِ غرقٍ. فإنْ تركَه جميعُ مَن رآهُ، أَثِمُوا.
(ويُحكَمُ بإسلامِه) أي: اللقيطِ إنْ وُجِدَ بدارِ إسلامٍ فيه مسلمٌ أو مسلمةٌ يمكنُ كونُه منه؛ لظاهرِ الدارِ، وتغليبًا للإسلامِ، فإنَّه يعلُو ولا يُعلَى عليه.
(و) يُحكمُ بـ (حريِّتِه) لأنَّها الأصلُ في الآدميينَ، فإنَّ اللهَ خلقَ آدمَ وذريَّتَه أحرارًا، والرقُّ لعارضٍ. والأصلُ عدمُه
(وينفقُ عليه) أي: اللقيطِ (ممَّا معه) أي: من مالِه، بلا حكمِ حاكمٍ؛ لولايتِه عليه، كالوصيِّ. ولأنَّه من الأمرِ بالمعروفِ، والأَوْلى: بإذنِه؛ احتياطًا. بخلافِ مَن غابَ وله وديعةٌ ونحوُها، وأولادٌ، فلا ينفقُ عليهم منها إلا بإذنِ حاكمٍ.
وينفقُ على اللَّقيطِ واجدُهُ بالمعروفِ، كوليِّ اليتيمِ، فإنْ بلغَ واختلفا في قدرِ ما
إن كانَ، فإن لَمْ يَكُنْ، فمِنْ بَيتِ المَالِ، فإنْ تَعذَّرَ، اقتَرَضَ عليه الحَاكِمُ، فإن تَعذَّرَ، فعَلَى مَنْ عَلِمَ بحَالِه.
والأحقُّ بحضَانَتِه واجِدُه،
أُنفِقَ، أو في التفريطِ في الإنفاقِ، فقولُ منفِقٍ؛ لأنَّه أمينٌ
(إن كانْ، فإنْ لمْ يكنْ) معه شيءٌ (فـ) ينفقُ عليه (من بيتِ المالِ) لما روى سعيدٌ عن سنينِ
(1)
أبي جميلةَ، قال: وجدتُ ملقُوطًا، فأتيتُ به عمرَ، فقال عريفي: يا أميرَ المؤمنين، إنَّه رجلٌ صالحٌ. فقال عمز: كذلك هو؟ قال: نعمْ. قال: فاذهبْ، فهو حرٌّ، ولك ولاؤُه، وعلينا نفقتُه. وفي لفظٍ: علينا رَضاعُه
(2)
.
(فإنْ تعذَّرَ) أخذُ نفقتِه من بيتِ المالِ؛ لكونِ البلدِ ليس به بيتُ مالٍ
(3)
، أو به ولا مالَ به، ونحوه (اقترضَ عليه الحاكمُ) أي: على بيتِ المالِ. وإنَ اقترضَ الحاكمُ ما أنفقَ عليه، ثمَّ بانَ رقيقًا، أو له أبٌ موسرٌ، رجع عليه، فإن لم يظهرْ له أحدٌ، وفَّى من بيتِ المالِ
(فإنْ تعذَّرَ) الاقتراضُ عليه أو الأخذُ منه؛ لنحوِ منعٍ مع وجودِ المالِ فيه
(4)
(فعلى من عَلِمَ بحالِه) من ملتقطٍ وغيرِه.
(والأحقُّ بحضانتِه) أي: اللقيطِ (واجدُه) لأنَّه سبقَ إليه، فكانَ أَوْلى به. وأَوْلى الناسِ بحفظِ ماله واجِدُه
(1)
في الأصل: "سنن"، وهو خطأ.
(2)
أخرجه مالك (2/ 738)، والبخاري تعليقًا قبل (2662). وصححه الألباني في "الإرواء"(1573).
(3)
سقطت: "مال" من الأصل.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 312)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 375).
إنْ كانَ حُرًّا، مُكلَّفًا، رَشِيدًا، أَمينًا، عدلًا، ولو ظَاهرًا.
(إن كان حرًّا) تامَّ الحريةِ؛ لأنَّ منافعَ القِنِّ، والمدبَّرِ، والمعلَّقِ عتقُه بصفةٍ، وأمِّ الولد، مستحقَّةٌ لسيِّدِه، فلا يُذهِبُها في غيرِ نفعِه إلا بإذنه.
وكذا المكاتبُ، ليس له التبرُّعُ بمنافعِه إلا بإذنِ سيِّدِه. وكذا المبعَّضُ، لا يتمكَّنُ من استكمالِ الحضانةِ.
فإنْ أذِنَ السيِّدُ لرقيقِه، أُقِرَّ بيدِه؛ لأنَّه يصيرُ كأنَّ السيِّدَ التقطَه واستعانَ برقيقِه في حضانتِه. قال ابنُ عقيلٍ: إنْ أَذِنَ له السيِّدُ، لثم يكنْ له الرجوعُ بعدَ ذلك، وصارَ كما لو التقطَه.
(مكلَّفًا)؛ لأنَّ غيرَ المكلَّفِ لا يلي أمرَ نفسِه، فغيرُه أَوْلى
(رشيدًا) فلا يقر غيرُ المكلَّفِ مع سفيهٍ؛ لأنَّه لا ولايةَ له على نفسِه، فعلى غيرِه أَوْلى
(أمينًا، عدْلًا، ولو) أنَّه عدلٌ (ظاهرًا) كولايةِ النكاحِ؛ لأنَّ عمرَ رضي الله عنه أقرَّ اللقيطَ في يدِ أبي جميلةَ حينَ قالَ له عريفُه: إنَّه رجلٌ صالحٌ
(1)
.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 315)، "كشاف القناع"(9/ 531)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 376).
فَصْلٌ
وميراثُ اللَّقِيطِ ودِيتُه -إن قُتِلَ- لبيتِ المَالِ.
وإن ادَّعاهُ مَنْ يُمكِنُ كونُه مِنهُ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى، أُلحِقَ به ولو مَيِّتًا، وثَبتَ نسبُه، وإرثُه.
(فصلٌ)
(وميراثُ اللَّقيطِ، ودِيتُه -إنْ قُتِلَ- لبيتِ المال) إنْ لمْ يكنْ له وارثٌ، كغيرِ اللَّقيطِ. فإنْ كان له زوجةٌ، فلها الربعُ، والباقي لبيتِ المالِ. وإن كان له بنتٌ، أو ذو رحِمٍ، كبنتِ بنتٍ، أخذَ الجميعَ. ولا يرتُه ملتقطهُ، لحديثِ:"الولاءُ لمَنْ أعتقَ"
(1)
.
وذكرَ ابنُ أبي موسى في "الإرشاد": أنَّ بعضَ شيوخِه حكى روايةً عن أحمدَ: أنَّ الملتقطَ يرثُه. واختارَهُ الشيخُ تقيُّ الدينِ ونصرَه، وصاحبُ "الفائق". قال الحارثيُّ: وهو الحقُّ
(2)
(وإن ادَّعاه مَنْ يُمكِنُ كونُه مِنهُ مِنْ ذَكرٍ أو أُنثَى، أُلحِقَ به، ولو مَيِّتًا، وثَبتَ نسبُه، وإرثُه)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة.
(2)
"الإنصاف"(16/ 309).
(3)
"وإن ادَّعاه مَنْ يُمكِنُ كونُه مِنهُ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى، أُلحِقَ به، ولو مَيتا، وثَبتَ نسبُه، وإرثُه" ليست في الأصل.
وإن ادَّعاه اثنانِ فأكثرُ معًا، قُدِّم من لَه بيِّنة، فإن لم تَكُن، عُرِضَ على القَافَةِ، فإن ألحَقَتْهُ بواحِدٍ، لَحِقَه، وإن ألحَقَتْهُ بالجَميعِ، لَحِقَهم، وإن أشكَلَ أمرُهُ، ضَاعَ نسبُه.
(وإن ادَّعاهُ) أي: اللَّقيطَ (اثنانِ فأكثرُ معًا)، فإن ادَّعاهُ أحدُهما بعدَ الآخرِ، لحِقَ بالأوَّلِ، إلا أنْ تلحقَه القافةُ بالثاني، فيلحقُ به، وينقطعُ نسبُه من الأوَّلِ (قُدِّمَ مَن له بيِّنةٌ) لأنَّها علامةٌ واضحةٌ على إظهارِ الحقِّ
(فإن لم تكنْ) لواحدٍ منهما بيِّنةٌ بدعواه (عُرِضَ) اللقيطُ (على القافةِ): وهم قومٌ يعرفون الأنسابَ بالشَّبَهِ، ولا يختصُّ ذلك بقبيلةٍ معيَّنةٍ، بل مَنْ عُرفتْ منه معرفةُ ذلك، وتكرَّرتْ منه الإصابةُ، فهو قائفٌ
(فإنْ ألحقتْهُ) القافةُ (بواحدٍ) أو باثنين، لحِقَ نسبُه بهما؛ (لحِقَه) بقضاءِ عمرَ، ولم يُنكَرْ، فكانَ إجماعًا.
(وإنْ ألحقتْه) القافةُ (بالجميعِ، لحِقَهم) وإنْ كثُروا؛ لأنَّ المعنى الذي لأجلِه أُلحِقَ باثنينِ موجودٌ فيما زادَ عليه، فيقاسُ عليه. وإذا جازَ أن يُخلقَ من اثنينِ، جازَ أن يُخلقَ من أكثرَ
(وإنْ أشكلَ أمرُه) و على القافةِ، فلم يظهرْ لهم فيه شيءٌ، أو اختلفَ فيه قائفانِ، فألحقَه أحدُها بواحدٍ، والآخرُ بآخرَ، أو اختلفَ قائفانِ اثنانِ وثلاثةٌ من القافةِ؛ بأنْ قالَ اثنان منهم: هو ابنُ زيدٍ. وثلاثةٌ: وهو ابنُ عمرو (ضاعَ نسبهُ) لتعارضِ الدليلِ ولا مرجِّحِ لبعضِ مَن يدِّعيه، أشبه من لئم يُدَّعَ نسبُه. ولا يُرجَّحُ أحدُهما بذكرِ علامةٍ في جسِده.
وإن ادَّعى نسبَ اللقيطَ رجلٌ وامرأةٌ، ألحِقَ بهما جميعًا؛ لعدمِ التنافي؛ لأنَّه
ويكفي قائِفٌ واحِدٌ، وهو كالحَاكِمِ، فيَكفِي مُجرَّدُ خَبَرِه، بشَرطِ كونِه مُكلَّفًا، ذَكَرًا، عَدلًا، حُرًّا، مُجرَّبًا في الإصَابَةِ.
يمكنُ كونُه منهما بنكاحٍ بينهما، أو وطءِ شُبهةٍ.
(ويكفي قائفٌ واحدٌ) في إلحاقِ النسبِ (وهو كالحاكمِ، فيكفي مجرَّدُ خبرِه) لأنَّه ينفُذُ ما يقولُه، بخلافِ الشاهدِ.
فإنْ ألحقَّه بواحدٍ، ثمَّ ألحقَه بآخرَ، كان لاحقًا بالأوَّل فقط؛ لأنَّ إلحاقَه جرى مجرى حكمِ الحاكمِ، فلا يُنقضُ بمخالفةِ غيرِه له. وكذا لو ألحقَه بواحدٍ، ثمَّ عادتْ فألحقتْه بآخرَ. وإنْ أقامَ الآخرُ بيِّنةً أنَّه ولدُه، حُكمَ له به، وسقطَ قولُ القائِفِ لأنَّهُ بدلُه، فيسقُطُ بوجُودِ الأصلِ، كالتيمُّمِ معَ الماءِ (بشرط كونِه):
(مكلَّفًا، ذكرًا) لأنَّ القيافةَ حكمٌ، مُستنَدُها النظرُ والاستدلالُ، فاعتبرتْ فيه الذكورةُ، كالقضاءِ
(عدْلًا) لأنَّ الفاسقَ لا يُقبلُ خبرُه. وعُلِمَ منه: اشتراطُ إسلامِه بالأَوْلى.
(حرًّا) لأنَّه كحاكمٍ. قال في "الإقناع"
(1)
: ولا تشترطُ حريتُه
(مُجرَّبًا في الإصابةِ) أي: كثيرُ الإصابةِ، فَمَنْ عرفَ مولودًا بين نسوةٍ، ليس فيهنَّ أمُّه، ثمَّ وهي فيهنَّ، فأصابَ كلَّ مرَّةٍ، فقائفٌ.
وقال القاضي: يُتركُ الصبيُّ بين عشرةِ رجالٍ غيرَ مدَّعيه، فإنْ ألحقَه بأحدِهم، سقطَ قولُه، وإن نفاهُ عنهم، تركَ مع عشرين، منهم مُدِّعيه، فإن ألحقَه به، عُلمتْ إصابتُه وإلا فلا.
وهذه التجربةُ عندَ عرضِه على القائفِ للاحتياطِ في معرفةِ إصابتِه، ولو لم نجرِّبه
(1)
"الإقناع"(3/ 61).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بعدَ أنْ يكونَ مشهورًا بالإصابةِ وصحةِ المعرفةِ في مرَّاتٍ كثيرةٍ، جازَ. وقضيةُ إياسِ ابنِ معاويةَ في ولدِ الشريفِ من جاريةٍ شاهدةٌ بذلك
(1)
.
"فائدةٌ": لو ولدتِ امرأةٌ ذكرًا، وأخرى أنثى، وادَّعتْ كلُّ واحدةٍ أنَّ الذَّكرَ ولدها دون الأنثى، ففي "المغني": يحتملُ وجهين:
أحدُهما: أنْ يُرَى المرأتانِ مع الولدينِ القافةَ. قال الحارثيُّ عنه: وهو المذهبُ على ما مرَّ من نصِّه.
الثاني: أن يعرضَ لبنُهما على أهلِ الطبِّ والمعرفةِ، فإنَّ لبنَ الذكرِ يخالفُ لبنَ الأنثى في طبعِه وزِنَتِه. وقد قيلَ: إنَّ لبنَ الابنِ ثقيلٌ، ولبنَ البنتِ خفيفٌ.
فإن لم توجدْ قافةٌ، اعتبرَ باللبنِ خاصَّةً
(2)
.
وإن تنازَعا أحدَ الولدينِ، وهما ذكرانِ أو أنثيانِ، عُرِضوا على القافةِ، كما ذكرنا
(3)
.
قال الحارثيُّ عن الثاني، وهو اعتبارُ اللبنِ: إنْ كان مطَّرِدًا في العادةِ غيرَ مختلفٍ، فهو إنْ شاءِ اللهُ تعالى أظهرُ من الأوَّلِ، فإنَّ أصولَ السنَّةِ
(4)
قدْ تخفَى على القائفِ
(5)
.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 325، 326، 327)، "كشاف القناع"(9/ 553)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 378، 379، 380).
(2)
انظر "المغني"(8/ 382)، "الإنصاف"(16/ 347).
(3)
"المغني"(8/ 383).
(4)
في الأصل: "الشبهِ".
(5)
"الإنصاف"(16/ 348).