الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الوَقفِ
يحصُلُ بأحدِ أمرينِ:
بالفِعلِ مَعَ دَليلٍ يَدُلُّ عليه، كأنْ يَبْنيَ بُنيانًا على هَيئَةِ مَسجدٍ، وَيأذنَ إذنًا عَامًا بالصَّلاةِ فيه، أو يَجعَلَ أرضَه مقبَرَةً، ويأذَنَ إذنًا عامًا بالدَّفنِ فيها.
(كتابُ الوقفِ)
يُقالُ: وقَّفَ الشيءَ، وحبَّسَه، وأحبسَه، وسبَّلَه، بمعنًى واحدٍ. وأوقفَه لغةٌ شاذَّةٌ.
وهو مما اختصَّ به المسلمون. قال الشافعيُّ: لم يحبِّس أهلُ الجاهليةِ، وإنما حبَّسَ أهلُ الإسلامِ
(1)
.
(يحصلُ الوقفُ بأحدِ أمرينِ):
(بالفعلِ مع دليلٍ يدلُّ عليه) أي: الوقفِ؛ (كأنْ يبنيَ بنيانًا على هيئةِ مسجدٍ
(2)
، ويأذنَ إذنًا عامًا بالصَّلاةِ فيه) ولو بفتحِ الأبوابِ؛ أو التأذينِ، أو كتابةِ لوحٍ بالإذنِ أو الوقفِ. قالَهُ الحارثيُّ.
وكذا لو دخلَ بيتَه في المسجدِ، وأذنَ فيه، ولو نوى خلافَه. نقلَه أبو طالبٍ. أي: لا أثرَ لنيَّته خلافَ ما دَلَّ عليه الفِعلُ
(3)
(أو يجعلَ أرضَه مقبرةً، ويأذنَ) للناسِ (إذنًا عامًا بالدَّفنِ فيها) بخلافِ الإذنِ الخاصِّ، فقد يقعُ على غيرِ الموقوفِ، فلا
(1)
"الروض المربع"(5/ 530).
(2)
في الأصل: "المسجدِ".
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 330).
وبالقَولِ، وله صَريحٌ وكِنَايَةٌ.
فصَرِيحُه: وَقفْتُ، وحَبَّستُ، وسَبَّلتُ.
وكنايتُه: تصدَّقتُ، وحرَّمتُ، وأبَّدتُ. فلابدَّ فِيها مِن نيَّةِ الوَقفِ،
يفيدُ دلالةَ الودفِ. قالَه الحارثيُّ
(1)
.
وأشارَ إلى الصفةِ القوليهَ بقولِه: (و) يحصلُ (بالقولِ)، وكذا إشارةٌ مفهومةٌ من أخرسٍ.
(وله) أي: القولِ (صريحٌ، وكنايةٌ).
(فصريحُه) أي: القولِ: (وقَّفتُ، وحبَّستُ، وسبَّلتُ) فمتى أتى بكلمةٍ من هذه الثلاث
(2)
، صحَّ بها الوقفُ؛ لعدمِ احتمالِ غيرِه بعُرفِ الاستعمالِ المنضَمِّ إليه عرفُ الشرعِ
(3)
.
(وكنايتُه: تصدَّقتُ، وحرَّمتُ، وأبَّدتُ) لعدمِ خلوصِ كلَّ منها عن الاشتراكِ. فالصدقةُ: تستعملَ في الزكاةِ، وهي ظاهرةٌ في صدقةِ التطوعِ. والتحريمُ: صريحٌ في الظهارِ. والتأبيدُ: يستعملُ في كلِّ ما يُرادُ تأبيدُه، من وقفٍ وغيرِه.
(فلا بدَّ فيها) أي: في الكنايةِ (من نيةِ الوقفِ) فمتى أتى بإحدى هذه الكناياتِ، واعترَفَ أنَّه نوىَ بها الوقفَ، لزِمَه في الحكمِ؛ لأنَّها بالنيةِ صارتْ ظاهرةً فيه. وإنْ قالَ: ما أردتُ بها الوقفَ. قُبِلَ قولُه؛ لأنَّه أعلمُ بضميرِه؛ لعدمِ
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 330)، وانظر " فتح وهاب المآرب"(2/ 382).
(2)
في الأصل: "الثلاثة".
(3)
"كشاف القناع"(9/ 10)، وانظر " فتح وهاب المآرب"(2/ 382).
ما لَمْ يقلْ: على قَبيلَةِ كَذا، أو طَائِفَةِ كَذا.
الاطلاعِ على ما في الضمائرِ (ما لم يقلْ): تصدَّقتُ بداري (على قبيلةِ كذا، أو) على (طائفةِ كذا) لأنَّ ذلك كلَّه لا يُستعملُ في غيرِ الوقفِ، فانتفتِ الشركةُ. وكذا: تصدَّقتُ بأرضي، أو داري على زيدٍ، والنظرُ لي في أيامِ حياتي. أو: ثمَّ من بعدِ زيدٍ على عمرٍو، أو: على ولدِه، أو: على مسجدِ كذا ونحوِه
(1)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(10/ 10)"دقائق أولي النهى"(4/ 332)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 383).
فَصْلٌ
وشُرُوطُ الوَقفِ سَبْعةٌ:
أحدُها: ممونُه مِنْ مالِكٍ جَائزِ التَّصرُّفِ، أو مِمَّنْ يَقومُ مقَامَهُ.
الثَّانِي: كَونُ المَوقُوفِ عَينًا يصِحُّ بيعُها، ويُنتَفَعُ بِها نَفعًا مُباحًا مَعَ بقَائِهَا.
(فصلُ)
(وشروطُ الوقفِ سبعةٌ):
(أحدُها) أي: شروط الوقفِ: (كونُه من مالكٍ جائزِ التصرُّفِ، أو ممَّنْ يقومُ مقامَه) فلا يصحُّ من صغيرٍ أو سفيهٍ، كسائرِ تصرفاتِه الماليةِ.
قال في "الاختيارات": ويجوزُ للإنسانِ أن يتصرَّفَ فيما في يدِه بالوقفِ وغيرِه، حتى تقومَ بينةٌ شرعيةٌ أنه ليس ملكًا له، لكن لا يحكمُ بالوقفِ حتى يثبتَ المِلكُ
(1)
.
(الثاني) من شروطِ الوقفِ: (كونُ الموقوفِ عينًا يصحُّ بيعُها، و) - بخلافِ أمِّ ولدٍ - (يُنتفعُ بها نفعًا مباحًا) كإجارةٍ، أي: بأن يكونَ النفعُ مباحًا بلا ضرورةٍ، مقصودًا، متقوَّمًا يستوفى (مع بقائِها) أي: العينِ؛ لأنَّه يُرادُ للدوامِ؛ ليكونَ صدقةً جاريةً، ولا يُوجدُ ذلك فيما لا تبقَى عينُه.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 29)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 384).
فلا يَصِحُّ وَقفُ مَطعُومٍ ومَشرُوبٍ - غَيرَ المَاءِ - ولا وَقفُ دُهْنٍ وشَمعٍ وأثمَانٍ وقَنادِيلِ نَقْدٍ عَلى المَساجِدِ، ولا عَلى غَيرِهَا.
الثَّالِثُ: كونُه على جِهَةِ بِرِّ وقُربَةٍ،
(فلا يصحُّ وقفُ مطعومٍ ومشروبٍ، غيرَ الماءِ) وأمَّا الماءُ، فيصحُّ وقفُه، نصَّ عليه. قالَهُ في "الفائق" وغيرِه
(1)
.
(و) لا يصبحُّ (وقفُ دُهْنٍ، وشمع، وأثمانٍ) ولو لتَحَلِّ ووزنٍ، وكوقف الدراهمِ والدنانيرِ؛ ليُنتَفَعَ باقتِرَاضِها؛ لأنًّ الوقف تحبيسُ الأصلِ وتسبيلُ المنفعة، وما لا ينتفع به إلا بإتلافهِ لا يصبحُّ فيه ذلك، فيزكِّي النقدَ ربُّه؛ لبقاءِ ملكِه عليه
(2)
.
وقال في "الفائق": وعنه: يصبحُّ وقفُ الدراهمِ، فيُنتَفعُ بها في القرضِ ونحوِه. اختارَهُ الشيخُ تقيُّ الدينِ. وقال في "الاختيارات": ولو وقفَ الدراهمَ على المحتاجين، لم يكنْ جوازُ هذا بعيدًا
(3)
.
(وقناديلِ نقدٍ على المساجد، ولا على غيرِها) أي: غيرِ المساجدِ، وهو باقٍ على ملكِ ربِّه، فيزكِّيه. وقيل: يصبحُّ، فيكسرُ ويصرفُ في مصالحه. اختارَهُ الموفَّق. قال في "الإنصاف": قلتُ: وهو الصَّوابُ
(4)
.
(الثالثُ) من شروطِ الوقف: (كونُه) أي: الوقفِ (على جهةِ برٍّ وقربةٍ) وهو: اسمٌ جامعٌ للخيرِ، وأصلُه الطاعةُ للهِ تعالى. والمرادُ: اشتراطُ معنى القُربةِ في
(1)
"كشاف القناع"(10/ 15).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 385).
(3)
"الإنصاف"(16/ 387).
(4)
في الأصل بعده: "وقال الشيخُ تقيُّ الدين" وانظر "الإنصاف"(16/ 387)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 385).
كالمَسَا كِينِ، والمَسَاجِدِ، والقَنَاطِرِ، والأقَارِبِ.
فلا يصِحُّ على الكَنائِسِ، ولا على اليَهودِ والنَّصَارى، ولا عَلى جِنْسِ الأغنيَاءِ، أو الفُسَّاقِ. أمَّا لو وَقَفَ على ذِمي أو فاسِقٍ أو غَنيِّ مُعيَّنٍ، صَحَّ.
الصَّرفِ إلى الموقوفِ عليه؛ لأنَّ الوقفَ قربةٌ وصدقةٌ، فلا بدَّ من وجودِها فيما لأجلِه الوقفُ؛ إذ هو المقصودُ، سواءٌ كان الوقفُ من مسلمٍ أو ذميٍّ.
(كالمساكينِ) والفقراءِ، والغزاةِ، والعلماءِ، والمتعلمينَ (والمساجدِ، والقناطرِ، والأقاربِ) لأنّه شُرِعَ لتحصيلِ الثوابِ، فإذا لم يكنْ على برٍّ، لم يحصلْ مقصودُه الذي شُرِعَ لأجلِه
(1)
.
(فلا يصحُّ) الوقفُ (على الكنائسِ) جمعُ كنيسةٍ: متعبَّد اليهودِ، أو النصارى، أو الكفارِ. قالَه في "القاموس".
(ولا) يصحّ الوقف (على) طائفةِ (اليهودِ والنصارى).
(ولا) يصحّ الوقفُ (على جنسِ الأغنياءِ، أو الفُسَّاقِ) والمَغَاني. ولا على التنويرِ على قبرٍ، ولا على تبخيرِه، ولا على مَنْ يقيمُ عندَه، أو يخدمُه، أو يزورُه. قالَهُ في "الرعاية"؛ لأنَّ ذلك ليس من البرِّ.
لكن في منعِ الوقفِ على من يزورُه نظرٌ، فإنَّ زيارةَ القبورِ سُنَّةٌ للرجالِ، إلا أنْ يُحملَ على زيارةٍ فيها سفرٌ. قالَهُ في "شرح الإقناع"
(2)
.
(أمَّا لو وقفَ على ذميٍّ أو فاسقٍ أو غنيٍّ معيِّنٍ، صحَّ) لأنَّه لا يتعيَّنُ كونُ الوقفِ عليه لأجلِ دينِه، أو فسقِه، أو غنائِه؛ لاحتمالِ كونِه لفقرِه، أو قرابتِه، ونحوِها،
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 386).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 20).
الرَّابعُ: كونُه على مُعيَّنٍ - غيرٍ نَفْسِهِ - يَصِحُّ أنْ يَملِكَ.
ولما روي أن صفيَّةَ رضي الله عنها زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم: وقفتْ على أخٍ لها يهوديٍّ
(1)
.
فيصحُّ الوقفُ على الذميِّ المعيَّنِ، والفاسقِ المعيَّنِ، والغنيِّ المعيَّنِ.
قال أحمدُ في نصارى وقَفُوا على البِيعَةِ ضياعًا كبيرةً، وماتوا، ولهم أبناءُ نصارى، فأسلموا، والضِّياعُ بيدِ النصارى: فلهم أخذُها، وللمسلمين عونُهم حتى يستخرجوها من أيدِيهم.
ولا يصحّ الوقفُ أيضًا على من يعمرُها؛ لأنَّه يُرادُ لتعظيمِها
(2)
.
الشرطُ (الرابعُ: كونُه) أي: الوقفِ (على معيَّنٍ) من جهةٍ، أو شخصٍ (غيرِ نفسِه) أمَّا لو وقفَ على نفسِه فلا يصحُّ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ الوقفَ تمليكٌ، إمَّا للرَّقبةِ أو المنفعةِ. ولا يجوزُ أن يُملِّكَ نفسَه من نفسِه، كما لا يجوزُ له أن يبيعَ مالَه من نفسِه.
وعنه: يصحُّ الوقفُ على النفسِ. قال المنقِّحُ: "اختارَه جماعةٌ، وعليه العملُ، وهو أظهز. وفي "الإنصاف": وهو الصَّوابُ، وفيه مصلحة عظيمة، وترغيبٌ في فعلِ الخيرِ، وهو من محاسنِ المذهبِ
(3)
.
(يصحُّ أن يملكَ) مِلكًا ثابتًا، كزيدٍ، أو مسجدِ كذا؛ لأنَّ الوقفَ تمليكٌ، فلا يصحُّ على معيَّنٍ، كالهبةِ، ولأنَّ الوقفَ يقتضي الدوامَ.
(فلا يصحُّ الوقفُ على مجهولٍ، كرجُلٍ)؛ لصِدْقِه بكلِّ رجلٍ (و)
(1)
أخرجه عبد الرزاق (9913) عن عكرمة.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 337)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 387).
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 338، 339)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 388).
فلا يَصِحُّ الوَقْفُ على مَجهولٍ، كَرَجُلٍ، ومَسجِدٍ، أو: عَلَى أحَدِ هَذَينِ، ولا عَلَى نَفسِهِ، ولا عَلَى مَنْ لا يَملِكُ كالرَّقيقِ، ولَو مُكَاتَبًا، والمَلائِكَةِ، والجِنِّ، والبَهائِمِ، والأموَاتِ، ولا عَلَى الحَمْلِ استِقْلالًا، بلْ تَبَعًا.
كـ (مسجدٍ) لصدقِه بكلِّ مسجدٍ (أو على) مُبهمٍ، كـ (ــأحَدِ هذينِ) الرَّجُلينِ، أو المسجِدَين، ونحوِهما؛ لتردُّدِه، كبِعتُكَ أحدَ هذين العَبدَينِ
(1)
.
(ولا) يصحّ الوقفُ (على نفسِه) وتقدَّمَ الخلافُ في ذلك.
(ولا) يصحُّ الوقفُ (على من لا يملكُ كالرقيقِ، ولو مكاتبًا) ومدبَّرًا، وأمَّ ولدٍ.
(و) لا يصحُّ الوقفُ على (الملائكَةِ، والجنِّ، والبهائِمِ) لأن الوقفَ تمليكٌ فلا يصحُّ على مَن لا يملِكُ.
وأمَّا الوقفُ على المساجدِ ونحوِها، فعلى المسلمين، إلا أنَّه عُيِّنَ في نفعٍ خَاصٍّ لهم
(2)
.
(و) لا يصحُّ الوقفُ على (الأمواتِ).
(ولا) يصحُّ الوقفُ على (الحملِ
(3)
استقلالًا) كوقفِ دارِه على ما في بطنِ هذه المرأةِ؛ لأنَّه تمليك إذن، وهو لا يملكُ. وكذا الوقفُ على المعدومِ. (بل) يصحّ الوقفُ على الحملِ، وعلى مَن سيولدُ (تبعًا) لمن يصحُّ الوقفُ عليه، كـ: وقفتُ على أولادي، أو: على أولادِ فلانٍ، وفيهم حملٌ، فيشملُه الوقفُ.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 388).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 389).
(3)
في الأصل: "الوقف".
الخَامِسُ: كونُ الوَقفِ مُنَجَّزًا.
فَلا يَصِحّ تَعليقُه، إلَّا بمَوتِهِ، فيلَزَمُ مِنْ حِينِ الوقفِيَّةِ، إنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ.
السَّادِسُ: أنْ لا يشتَرِطَ فيهِ ما يُنافِيه "كَقولِه: وقَفْتُ كَذَا عَلَى أنْ أبيعَه، أو أهبَهُ متَى شِئتُ، أو بشَرطِ الخِيارِ لِي، أو بِشَرطِ أنْ
الشرطُ (الخامس: كونُ الوقفِ مُنَجَّزًا) أي: غيرَ معلَّقٍ، ولا مؤقَّتٍ، ولا مشروطٍ فيه خيارٌ، أو نحوُه.
(فلا يصحُّ تعليقُه) أي: الوقفِ، سواءٌ كانَ التعليقُ لابتدائِه؛ كـ: إذا قدمَ زيدٌ، أو: وَلِدَ لي ولدٌ، فهذا وقفٌ عليه. أو: إذا جاء رمضانُ فهذا وقفٌ على كذَا، ونحوه. أو لانتهائِه؛ كـ: دارِي وقفٌ على زيدٍ إلى أن يحضُرَ عمرٌو، أو: يُولدُ لي ولدٌ، ونحوُه؛ لأنَّه نقلٌ للمِلكِ فيما لم يُبْنَ على التغليبِ والسِّرايةِ، فلم يجزْ تعليقُه بشرطٍ في الحياةِ، كالهبةِ.
(إلا) إنْ علَّقَ واقفٌ الوقفَ (بموتهِ) كقولِه: هو وقفٌ بعدَ موتي. فيصحُّ؛ لأنَّه تبرُّعٌ مشروطٌ بالموتِ، فصحَّ (فيلزمُ) الوقفُ المعلَّقُ بالموتِ (من حينِ الوقفيَّةِ) أي: من حينِ قولِه: هو وقفٌ بعدَ موتي (إنْ خرجَ من الثلثِ) أي: ثلثِ
(1)
مالِ الواقفِ؛ لأنَّه في حكمِ الوصيةِ. فإنْ كان قدرَ الثلثِ فأقلَّ، لزِمَ. وإنْ زادَ، لزمَ في الثلثِ، ووُقِف الباقي على الإجازةِ.
الشرطُ (السادسُ: أن لا يَشتَرِطَ فيه) أي: في الوقف (ما ينافيه، كقولهِ: وقفتُ كذا على أنْ أبيعَه، أو أهبَهُ متى شئتُ، أو بشرطِ الخيارِ لي، أو بشرطِ أن أُحوِّلَه) أي: الوقف، عن الموقوفِ عليه (من جهةٍ إلى جهةٍ) بأنْ قالَ: وقفتُ
(1)
سقطت: "أي: ثلث" من الأصل.
أُحوَلَه مِنْ جِهَةٍ إلى جِهَةٍ.
السَّابِعُ: أنْ يَقِفَهُ على التَّأبيدِ.
فلا يَصِحّ: وقَفتُه شَهْرًا، أو إلى سَنَةٍ، ونَحوِها.
ولا يُشتَرطُ تَعيينُ الجِهَةِ، فلو قَالَ: وقَفْتُ كَذَا، وسَكَتَ، صَحَّ، وكَانَ لِوَرثَتِهِ مِنَ النَّسَبِ
داري على كذا، على أنْ أحوِّلَها عن هذه الجهةِ، أو عن الوقفيَّةِ؛ بأنْ أرجعَ فيها متى شئتُ، لم يصحَّ الوقفُ.
الخرطُ (السابعُ: أنْ يقفَهُ على التأبيدِ) لأنَّ مقتضى الوقفِ التأبيدُ، والتأقيتُ ينافيه.
(فلا يصحُّ: وقفتُه) أي: العبدَ، أو الدارَ، أو البستانَ، ونحوَه (شهرًا، أو) قال: وقفتُه (إلى سنةٍ) لم يصحَّ (ونحوِها) أي: نحوِ ما ذُكرَ ممَّا فيه تأقيتُ الوقفِ.
(ولا يُشترطُ تعيينُ الجهةِ) أي: من جهاتِ البرِّ، (فلو قال: وقفتُ كذا) أي: هذه الدارُ وقفٌ، (وسكتَ) ولم يسمِّ مصرفًا، (صحَّ) الوقفُ.
وعُلِمَ منه: صحَّةُ الوقفِ، وإنْ لمْ يعيِّنْ له مصرفًا، خلافًا لما في "الإقناع".
قال العلَّامةُ الشيخُ يوسفُ الفتوحيُّ: وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يقفْ على معيَّنٍ، وتقدَّمَ أنَّه شرطَ.
(وكان لورثتِه من النسب
(1)
) أي: ورثةِ الواقفِ نَسَبًا؛ لأنَّ الوقفَ مصرفُه البرُّ، وأقاربُه أَوْلى الناسِ ببرِّه؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: "إنَّكَ إنْ تدَعَ ورثتَكَ أغنياءَ،
(1)
سقطت: "من النسب" من الأصل.
على قَدْرِ إرثِهم.
خيرٌ من أنْ تدَعَهم عالةً يتكفَّفون الناسَ"
(1)
. ولأنَّهم أَوْلى الناسِ بصدقاتِه النوافلِ والمفروضاتِ، فكذا صدقتُه المنقولةُ، ولأنَّ الإطلاقَ إذا كان له عرفٌ، صحَّ وصُرفَ إليه. وعرْفُ المصرفِ هنا: أولى الجهات به، فكأنه عيَّنَهم لصرفِه، بخلاف ما إذا عيَّنَ جهةً باطلةً، كقولِه: وقفتُ على الكنيسةِ، ولم يذكرْ بعدَها جهةً صحيحةً، فإنَّه عيَّنَ المصرفَ، واقتصرَ عليه.
وخرجَ بقولِه: "نسبًا": المُعتِقُ والزوجان، فيردُّ على أقرابِه ما للمُعتِقِ والزَّوجِ، أو الزوجةِ
(2)
.
(على قدرِ إرثِهم) من الواقفِ. فإنْ عُدِمُوا فهو للفُقراءِ والمساكين، ويكونُ ذلك وقفًا عليهم، فلا يملكون نقلَ المِلكِ في رقبتِه
(3)
.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(2)
"كشاف القناع"(10/ 31)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 392).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 392).
فَصْلٌ
ويَلزَمُ الوَقفُ بمُجرَّدِهِ، ويَملِكُهُ المَوقُوفُ عَليهِ، فَينظُرُ فيهِ هو، أو وَليُّه، ما لم يشتَرِطِ الوَاقِف نَاظِرًا، فيَتَعيَّنُ.
(فصل)
(ويلزمُ الوقفُ بمجرَّدِه) أي: بمجرَّدِ اللفظِ.
وعُلِمَ منه: أنَّ إخراجَه عن يدِه ليس شرطًا لصحَّتِه بطريقِ أَوْلى.
(ويَملِكُه الموقوفُ عليه) إذا كان معينًا؛ لأنَّ الوقفَ سببُ نقلِ الملكِ عن الواقفِ، ولم يخرجْ عن الماليةِ، فوجبَ أن ينتقلَ المِلكُ إليه، كالهبةِ والبيعِ. ولو كان الوقفُ تمليكًا للمنفعةِ المجرَّدةِ، لما كان لازمًا، كالعاريةِ، ولما زالَ مِلكُ
(1)
الواقفِ عنه، كالعاريةِ. ويفارقُ العتقَ، فإنَّه يُخرجُ المعتوقَ عن الماليةِ. وامتناعُ التصرُّفِ في الرقبةِ لا يمنعُ المِلكَ كأمِّ الولدِ
(2)
.
(فينظُرُ فيه) أي: الوقفِ (هو) أي: الموقوفُ إنْ كان مكلَّفًا رشيدًا (أو وليُّه) إنْ كان محجورًا عليه (ما لم يشترطْ
(3)
الواقفُ ناظرًا، فيتعيَّنُ) لأنَّ عمرَ جعلَ وقفَه إلى بنتِه حفصةَ، ثمَّ يليه ذو الرأي من أهلها
(4)
.
(1)
في الأصل: "ذلك".
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 348)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 393).
(3)
في الأصل: "يشرط".
(4)
أخرجه أبو داود (2879)، وصححه الألباني في "الإرواء" تحت حديث (1582).
ويَتعيَّنُ صَرفُه إلى الجِهَةِ التي وُقِفَ عَليها في الحَالِ، ما لَمْ يَستَثْنِ الوَاقِفُ مَنفَعَتَهُ، أو غَلَّتَه له، أو لِولَدِه، أو لِصَدِيقِهِ مُدَّةَ حَياتِهِ، أو مُدَّةً مَعلُومَةً، فيُعمَلُ بِذَلِكَ.
وحَيثُ انقطَعَتِ الجِهَةُ، والوَاقِفُ حَيٌّ، رجَعَ إليهِ وَقْفًا.
(ويتعيَّنُ صرفُه إلى الجهةِ التي وُقِفَ عليها في الحالِ) فلا يُصرفُ الوقفُ في غيرِ ما شرطَه الواقفُ، وإلا لم يكنْ لتعيينِه فائدةٌ.
(ما لم يستثنِ الواقفُ منفعتَه) أي: منفعةَ الوقفِ.
(أو) المتثنى (غَلَّتَه له) أي: لنفسِه، صحَّ (أو لولدِه، أو لصديقِه مدَّةَ حياتِه، أو مدَّةً معلومةً) كسنةٍ أو سنتين.
أو استثنى الأكلَ ممَّا وقفَه، أو استثنى النفقةَ عليه، وعلى عيالِه ممَّا وقفَهُ. أو شرطَ الانتفاعَ لنفسه وعياله، ونحوِهم. ولو كان الانتفاعُ بسُكنى مدَّةَ حياتِهم
(1)
.
(فيعملُ بذلك) الوقفِ والشرطِ.
(وحيثُ انقطعتِ الجهةُ) الموقوفُ عليها؛ بأنْ وقفَ على أولادِه، أو أولادِ زيدٍ فقطْ، فانقرضوا (والواقفُ حيٌّ، رجعَ) الوقفُ (إليه) أي: الواقفِ (وقفًا) عليه. يعني: ومتى قلنا: يَرجِعُ إلى أقاربِ الواقفِ وقفًا، وكان الواقِفُ حيًّا، فإنَّه يَرجِعُ إليه وَقفًا. فإذا ماتَ، يُصرَفُ للفُقراءِ والمساكينِ.
وعنه: لا يَرجِعُ إليه، بل يُصرفُ للفقراءِ والمساكين في الحَالِ. ومشى على هذه الروايةِ المصنِّفُ في "غاية المنتهى"
(2)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 395).
(2)
"غاية المنتهى"(2/ 12).
ومَنْ وَقَفَ عَلَى الفقَراءِ، فافتَقَرَ، تَنَاوَلَ مِنْهُ.
ولا يَصِحّ عِتقُ الرَّقَيقِ المَوقُوفِ بحَالٍ، لكِنْ لو وَطِئَ الأمَةَ المَوقُوفَةَ عَليهِ، حَرُمَ، فإن حَمَلَتْ، صَارَت أُمَّ ولَدٍ تَعتِقُ بمَوتِه،
قال ابنُ الزاغونيِّ في "الواضح": الخلافُ في الرجوعِ إلى الأقاربِ، أو إلى بيتِ المالِ، أو إلى المساكين، مختصٌّ بما إذا ماتَ الواقفُ. أمَّا إذا كان حيًّا فانقطعتِ الجهةُ، فهل يعودُ الوقفُ إلى مِلكِه، أوإلى عصبتِه؟ فيه روايتانِ. انتهى. وجزمَ ابنُ عقيلٍ في "المفردات" بدخولِه.
وكذا لو وقفَ على أولادِه وأنسالِهم أبدًا، على أنَّه مَن تُوفي منهم عن غيرِ ولدٍ، رجعَ نصيبُه إلى أقربِ الناسِ إليه، فتُوفيَ أحدُ أولادِه عن غيرِ ولدٍ، والأبُ الواقفُ حيٌّ، رجعَ إليه نصيبُه؛ لأنَّه أقربُ الناسِ إليه
(1)
.
(ومَن وقفَ على الفقراءِ، فافتقَرَ، تناولَ) أي: جازَ له التناولُ (منه) لوجودِ الوصفِ -الذي هو الفقرُ- فيه.
(ولا يصحُّ عِتقُ الرقيقِ الموقوفِ بحالٍ)؛ لتعلُّقِ حقِّ مْنْ يؤولُ إليه الوقفُ به، ولأنَّ الوقفَ عقدٌ لازمٌ لا يمكنُ إبطالُه، وفي القولِ بنفوذِ عتقِه إبطالٌ له.
وإنْ كانَ بعضُه غيرَ موقوفٍ، فأعتقَه مالكُه، صحَّ فيه، ولم يَسرِ إلى البعضِ الموقوفِ؛ لأنَّه إذا لم يعتقْ بالمباشرةِ فلأنْ لا يعتقَ بالسرايةِ أَوْلى.
الكنْ لو وطئَ الأمةَ الموقوفةَ عليه، حرُمَ) ولا حدَّ عليه؛ للشبهةِ. ولا مهرَ عليه. (فإنْ حملَتْ، صارتْ أمَّ ولدٍ تَعتِقُ بموتِه) وولدُه حرٌّ؛ للشبهةِ، وعليه قيمته يوم وضعِه حيًّا؛ لتفويته رقَّه على مَن يؤولُ إليه الوقفُ بعدَهُ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(10/ 32)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 396).
وتَجِبُ قِيمَتُها فِي تَرِكَتِهِ، يُشتَرى بِهَا مِثلُها.
(وتجبُ قيمتُها في تركتِه)؛ لأنَّه أتلفَها على مَن بعدَهُ من البطونِ (يُشترى بها) أي: بقيمتِها (مثلُها) لتَجبُرَ على البطنِ الثاني ما فاتَهم. وتكونُ المشتراةُ وقفًا بمجرَّدِ الشراءِ، كبدَلِ أضحيةٍ.
* * *
فَصْلٌ
ويُرجَعُ في مصرِفِ الوَقْفِ إلى شَرْطِ الواقِفِ، فإن جُهِلَ، عُمِلَ بالعَادَةِ الجَارِيَةِ، فإن لم تَكُنْ فَبِالعُرفِ، فإن لم يَكُن فالتَّسَاوِي بين المُستَحِقِّينَ.
ويُرْجَع إلى شَرطِه في التَّرتِيبِ بينَ البُطُونِ، أو الاشتِرَاكِ، وفي إيجَارِ
(فصل)
(ويُرجعُ) بالبناءِ للمفعوِل (في مصرفِ الوقفِ إلى شرطِ الواقفِ).
(فإنْ جُهِلَ) شرطُه؛ بأنْ قامتْ بينةٌ بالوقفِ في دون شرطِه (عُمِلَ بالعادةِ الجاريةِ) أي: المستمرَّةِ إنْ كانتْ.
(فإنْ لم تكنْ) عادةٌ جاريةٌ (فـ) يُعملُ (بالعُرْفِ) لأنَّ العادةَ المستمرَّةَ، والعُرْفَ المستقِرَّ في الوقفِ يدلُّ على شرطِ الواقفِ أكثرَ ممَّا يدلُّ لفظُ الاستفاضةِ. قالَهُ الشيخُ تقيُّ الدين.
ونُقِلَ عنه أنَّه أفتَى فيمَن وقفَ على أحدِ أولادِه، وله عِدَّةُ أولادٍ، وجُهِلَ اسمُه: أنَّه يميَّزُ بالقرعةِ
(1)
(فإنْ لم يكنْ) عادةٌ ولا عرفٌ ببلدِ الواقفِ، كمَنْ بباديةٍ (فالتساوي بين المستحقِّين) فيسوِّي بينهم؛ لثبوتِ الشركةِ دون التفضيلِ.
(ويُرجعُ)، بالبناءِ للمفعولِ، في أمورِ الوقفِ (إلى شرطِه) أي: إلى شرطِ الواقفِ
(2)
(في الترتيب بين البطونِ) كجَعلِ استحقاقِ بطنٍ مُرتَّبًا على آخَرَ، كـ:
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 356)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 398).
(2)
في الأصل: "الوقف".
الوَقْفِ أو عَدَمِهِ، وفي قَدرِ مُدَّةِ الإيجَارِ، فلا يُزادُ على ما قَدَّرَ.
ونَصُّ الوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ، يَجِبُ العَمَل بجَمِيعِ ما
على أولادي، ثمَ أولادِهم، (أو الاشتراكِ) بأنْ قال: على أولادي وأولادِهم ونَسلِهم وعقبِهم، كانتِ الواوُ للاشتراكِ؛ لأنَّها لمطلقِ الجمعِ، فيشتركون فيه بلا تفضيلٍ
(1)
.
(و) يُرجعُ إلى شرطِ واقفٍ (في إيجارِ الوقفِ، أو عدمِه
(2)
) أي: عدمِ إيجارِه، (وفي قدرِ مدَّةِ الإِيجارِ) أي: في قدرِ المُدَّةِ. فإذا شرطَ أن لا يؤجَّرَ أكثرَ من سنةٍ، لم تجزِ الزيادةُ عليها، لكن عندَ الضرورةِ يُزادُ بحسبِها.
ولم يزلْ عملُ القضاةِ في عصرِنا وقبلَه عليه، بل نُقِلَ عن أبي العباسِ رحمه الله. وهو داخلَ
(3)
في قولِه: "والشروطُ إنَّما يلزمُ الوفاءُ بها، إذا لم تفضِ إلى الإخلالِ بالمقصودِ الشرعيِّ". وأفتى به شيخُنا المرداويُّ، ولم نزلْ نُفتي به، إذ هو أَوْلى من بيعِه إذًا.
قال الحارثيُّ: وعن بعضِهم: جوازُ الزيادةِ بحسب المصلحةِ، وهو يحتاجُ عندي إلى تفصيلٍ. ذكرَه العلَامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرح الإقناع"
(4)
.
(فلا يُزادُ) في المدَّةِ (على ما قَدَّرَ) إلا عندَ الضرورةِ، كما أوضحتُه فيما تقدَّمَ.
(ونصُّ الواقفِ كنصِّ الشارعِ) لا تجوزُ مخالفتُه، بل (يجبُ العملُ بجميعِ ما
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 399).
(2)
في الأصل: "وعدمه".
(3)
في الأصل: "أدخل".
(4)
"كشاف القناع"(10/ 43).
شَرَطَهُ، ما لَمْ يُفْضِ إلى الإخلالِ بالمَقصُودِ، فَيُعْمَلُ به فِيمَا إذا شَرَطَ أنْ لا يَنزِلَ في الوَقْفِ فَاسِقٌ، ولا شِرِّيرٌ، ولا ذُو جَاهٍ.
وإنْ خَصَّصَ مَقْبَرَةً، أو مَدرَسَةً، أو إمَامَتَهَا بأهْلِ مَذهَبٍ، أو بَلَدٍ، أو قَبيلَةٍ، تخصَّصَت، لا المُصلِّينَ بها،
شرطَه) الواقفُ، (ما لم يُفضِ إلى الإخلالِ بالمقصودِ) الشرعيِّ. ولا تجوزُ المحافظةُ على بعضِها مع فواتِ المقصودِ الشرعي بها.
ومَن شَرَطَ في القُرُباتِ أنْ يُقدَّمَ فيها الصنفُ المفضولُ، فقدْ شرطَ خلافَ شرطِ اللهِ، كشرطِه في الإمامةِ تقديمَ غيرِ الأعلم، فشرطُه باطلٌ لا يجوزُ العملُ به
(1)
.
(فيُعمَلُ به) أي: الشرطِ وجوبًا (فيما إذا شرطَ أن لا ينزلَ في الوقفِ فاسقٌ) سواءٌ كان فسقُه بظلمِه الخَلقَ وتعدِّيه عليهم بقولِه وفعلِه، من نحوِ سبٍّ أو ضربٍ، أو كان فسقُه بتعدِّيه حدودَ اللهِ. يعني: ولو لم يشرطْه الواقفُ
(2)
.
(ولا شِرِّيرٌ، ولا ذو جاهٍ) ولا رافضيٌّ، أو مبتدعٌ، أو مَن يقول
(3)
بخلقِ القرآنِ.
(وإن خصَّصَ) واقفٌ (مقبرةً، أو مدرسةً، أو) خصَّصَ (إمامتَها بأهلِ مذهبٍ، أو) بأهلِ (بلدٍ، أو) بأهلِ (قبيلةٍ، تخصَّصتْ) بهم؛ عملًا بشرطِه.
و (لا) يصحُّ شرطُ واقفِ المدرسةِ ونحوِه، تخصيصَ (المصلِّين بها) بذي
(1)
انظر "كشاف القناع"(10/ 49)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 400).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 50)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 401).
(3)
في الأصل: "يرى"، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 401).
ولا إن شَرَطَ عَدَمَ استحقَاقِ مَنْ ارتَكَبَ طَريقَ الصَّلاحِ.
مذهبٍ، فلا تختصُّ بهم، ولغيرِهم الصلَّاةُ بها؛ لعدمِ التزاحم. ولو وقعَ، فهو أفضلُ؛ لأنَّ الجماعةَ ترادُ.
(ولا) يصحُّ (إنْ شرَطَ) الواقفُ (عدمَ استحقاقِ من ارتكبَ طريقَ الصَّلاحِ) لمخالفةِ ما شرطَه اللهُ، ولإخلالِه بالمقصودِ الشرعيِّ.
قال الشيخُ: ولو حكمَ حاكمٌ بمحضَرٍ لوقفٍ فيه شروط، ثمَّ ظهرَ كتابُ الوقف
(1)
غيرُ ثابتٍ، وجبَ ثبوتُه والعملُ به
(2)
.
وفي "الأحكام السلطانية" لأبي يَعلى
(3)
رحمه الله: يَعملُ والي المظالمِ في وقفٍ عامٍّ بديوانِ حاكمٍ، أو سَلطنةٍ، أو كتابٍ قديمٍ يقغ في النفسِ صحَّتُه
(4)
.
قال ابنُ قندسٍ في "حاشيته" على "المحرر": فائدةٌ: إذا جُهِلَ شرطُ الواقفِ، وتعذَّرَ العثورُ عليه، قُسِمَ على أربابِه بالسَّويَّةِ، فإنْ لم يُعرَفوا، جُعِلَ كوقفٍ مطلقٍ لم يُذكَر مصرِفُه. قال ذلك في "التلخيص"
(5)
.
وفي "الاختيارات"
(6)
: العادةُ المستمرةُ، والعُرْفُ المستقرُّ في
(7)
الوقف يدلُّ على شرطِ الواقفِ، أكثرَ ممَّا يدلُّ لفظُ الاستفاضة. انتهى.
* * *
(1)
في الأصل: "كتاب الله".
(2)
"كشاف القناع"(10/ 51).
(3)
في الأصل: "لابنِ القيم" وهو خطأ.
(4)
انظر "الفروع"(7/ 364)، "مطالب أولي النهى"(4/ 323).
(5)
"الإنصاف"(16/ 472).
(6)
"الاختيارات" ص (176).
(7)
في الأصل: "المستوفي".
فَصْلٌ
ويُرجَعُ في شَرطِه إلى النَّاظِرِ.
ويشترَط في النَّاظِرِ خَمسَةُ أشيَاءَ:
الإسلامُ، والتَّكلِيفُ،
(فصلٌ)
(ويُرجعُ في شرطِه) أي: الواقفِ (إلى الناظرِ) سواءٌ شرطَه لنفسِه، أو للموقوفِ عليه، أو لغيرِهما. إمَّا بالتَّعيينِ كفُلانٍ، أو بالوصفِ كالأرشدِ، أو الأعلمِ، أو الأكبرِ، أو مَن هو بصفةِ كذا.
فمن وُجِدَ فيه الشروطُ، ثبتَ له النظرُ؛ عملًا بالشروطِ
(1)
.
(ويُشترطُ في الناظرِ) مطلقًا (خمسةُ أشياءَ):
أحدُها: (الإسلامُ) إن كان الوقفُ على مسلمٍ، أو جهةٍ من جهاتِ الإسلامِ، كالمساجدِ، والمدارسِ، والرُّبُطِ، ونحوِها، لقوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141].
فإن كان الوقفُ على معيَّنٍ كافرٍ، فله النظرُ عليه؛ لأنَّه ملكُه، كما تقدمَ، ينظرُ فيه لنفسِه، أو وليُّه.
(و) الشرطُ الثاني: (التكليفُ) لأنَّ غيرَ المكلَّفِ لا يَنظرُ إلا في مِلكِه الطَّلْقِ، ففي الوقفِ أَوْلى.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 53)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 402).
والكفايةُ للتَّصرُّفِ، والخِبْرةُ بِهِ، والقوَّةُ عَليهِ، فإن كَانَ ضَعيفًا، ضُمَّ إليهِ قَوِيٌّ أمينٌ.
ولا تُشتَرطُ الذُّكُورَةُ، ولا العَدالَةُ، حيثُ كانَ بِجَعْلِ الوَاقِفِ لَهُ، فإن كَانَ مِنْ غَيرِهِ، فَلا بُدَّ مِنَ العَدَالَةِ.
(و) الشرطُ الثالثُ: (الكفايةُ للتصرُّفِ).
(و) الشرطُ الرابعُ: (الخِبرةُ به) أي: العلمُ بالتصرُّفِ فيه.
(و) الشرطُ الخامسُ: (القوَّةُ عليه) لأنَّ مراعاةَ حفظِ الوقفِ مطلوبةٌ شرعًا، وإنْ لم يكن الناظرُ متَّصفًا بهذه الصفةِ، لم يمكنْه مراعاةُ حفظِ الوقفِ. (فإنْ كان ضعيفًا، ضُمَّ إليه قويٌّ أمينٌ) ليحصلَ المقصودُ، سواءٌ كان ناظرًا بشرطٍ، أو موقوفًا عليه.
(ولا تُشترطُ) فيه (الذُّكورةُ) لأنَّ عمرَ أوصى بالنظرِ إلى حفصةَ رضي الله عنهما
(1)
.
(ولا) تُشترطُ فيه (العدالةُ) ويُضمُّ إلى الفاسقِ عدلٌ، لما فيه من العملِ بالشَّرطِ وحفظِ الوقفِ (حيثُ كان بجَعْلِ الواقفِ له) إمَّا بشرطِ الواقفِ، أو كونِ الوقفِ عليه.
(فإنْ كان من غيرِه) أي: غيرِ موقوفٍ عليه (فلا بدَّ من) شرطِ (العدالةِ) فيه؛ لأنَّها ولايةٌ على مالٍ، فاشُترِطَ لها العدالةُ، كالولايةِ
(2)
على مالِ اليتيمِ.
فإن لم يكُنِ الأجنبيُّ المولَّى من حاكِمٍ، أو ناظرٍ أصليٍّ عدلًا، لم تصحَّ ولايتُه؛
(1)
تقدم تخريجه (3/ 16).
(2)
في الأصل: "كالولاء".
فإن لم يَشرُطِ الوَاقِفُ نَاظِرًا، فالنَّظَرُ للموقُوفِ عَليه مُطلقًا، حَيثُ كان مَحصُورًا، وإلَّا فللحَاكِمِ.
ولا نَظَرَ لحَاكِمٍ مَعَ ناظِرٍ خَاصٍّ،
لفواتِ شرطِها، وهو العدالةُ، وأُزيلتْ يدُه عن الوقفِ؛ حفظًا له
(1)
.
(فإنْ لم يشرُطِ الواقفُ ناظرًا) لوقفِه، أو شرَطَه لمعيَّنٍ فماتَ (فالنَّظر للموقُوفِ عليه) إن كان الموقوف
(2)
عليه آدميًّا مُعيَّنًا، كزيدٍ. (مطلقًا): أي: عدْلًا كان
(3)
أو فاسقًا (حيث كان) الموقوفُ عليه جَمْعًا (محصورًا) كلّ منهم ينظرُ على حصَّته؛ لأنَّه مِلكُه وغلَّتُه له، (وإلا) بأنْ كان الوقفُ على غيرِ محصورٍ، كالوقفِ على جهةٍ لا تنحصرُ، كالفقراءِ، والمساكينِ، والعلماءِ، والغزاةِ (فـ) نظرُه (للحاكمِ) أو من يستنيبُه الحاكمُ على بلدِ الوقفِ
(4)
.
(ولا نظرَ لحاكمٍ مع ناظرٍ خاصٍّ) قال في "الفروع": ويتوجَّه: مع حضورِه، فيقرِّرُ حاكمٌ في وظَيفةٍ خلتْ في غيبتِه؛ لما فيه من القيامِ بلفظِ الواقفِ في المباشرةِ، ودوامِ نفعِه. انتهى.
وعلى هذا: لو ولَّى الناظرُ الغائبُ إنسانًا، وولَّى الحاكمُ آخرَ، قُدِّمَ الأسبقُ توليةً منهما
(5)
.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 62).
(2)
سقطت: "فمات فالنظر للموقوف عليه إن كان الموقوف" من الأصل. والمثبت من "فتح وهاب المآرب"(2/ 404).
(3)
سقطت: "كان" من الأصل.
(4)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 405).
(5)
"كشاف القناع"(10/ 67، 68).
لكِنْ له أن يَعتَرِضَ عَليهِ إنْ فَعَلَ ما لا يَسُوغُ.
ووَظيفَةُ النَّاظِرِ:
حِفظُ الوَقفِ، وعِمَارتُه، وإيجَازه، وزَرعُه، والمُخَاصَمَةُ فيهِ، وتَحصِيلُ رَيعِه، والاجتِهَادُ في تَنميَتِهِ، وصَرفُ الرَّيعِ في جِهَاتِه؛ مِنْ عِمَارَةٍ، وإصلاحٍ، وإعطَاءِ المُستَحِقِّينَ.
وإن آجَرَة بأنقَصَ، صَحَّ، وضَمِنَ النَّقصَ.
وله الأكلُ بمَعرُوفٍ، ولو لَمْ يَكُن
(لكن له) أي: الحاكمِ (أن يعترضَ عليه) أي: على الناظرِ الخاصِّ (إنْ فعلَ) الخاصُّ (ما لا يسوغُ) له فعلُه؛ لعمومِ ولايتِه.
(ووظيفةُ الناظرِ: حفظُ الوقفِ، وعمارتُه، وإيجارُه، وزرعُه، والمخاصمةُ فيه، وتحصيلُ رَيعِه) من أجرةٍ، أو زرعٍ، أو ثمرٍ (والاجتهادُ في تنميتِه، وصرفُ الرَّيعِ في جهاتِه، من عمارةٍ، وإصلاحِ) نحو مائل ومنكسرٍ (وإعطاءِ المستحقِّين) وشراءِ طعامٍ، وشرابٍ، ولباسٍ شرَطَهُ واقفٌ من رَيعِه؛ لأنَّ الناظرَ هو الذي يلي الوقفَ. وحفظُه، وحفظُ رَيعِه، وتنفيذُ شرطِ واقفِه، وطلبُ الحظِّ فيه، مطلوبٌ شرعًا، فكان ذلك إلى الناظرِ
(1)
.
(وإنْ آجَرَه) أي: الوقفَ ناظرٌ (بأنقصَ) من أجرِ مثلِه (صحَّ) عقدُ الإجارةِ (وضمِنَ) الناظرُ (النقصَ) الذي
(2)
لا يُتغابَنُ به عادةً، إنْ كان المستحقُّ غيرَه؛ لأنَّه يتصرَّفُ في مالِ غيرِه على وجهِ الحظِّ، فضمِنَ ما نقصَه بعقدِه، كالوكيلِ.
(وله) أي: الناظرِ (الأكلُ بمعروفٍ) قال في "القواعد": (ولو لم يكن
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 362)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 406).
(2)
في الأصل: "أي".
مُحتَاجًا، وله التَّقرِيرُ في وظَائِفِه.
ومَنْ قُرِّرَ في وَظيفَةٍ عَلى وِفْقِ الشَّرعِ، حَرُمَ إخراجُهُ منها بلا مُوجبٍ شَرعِيٍّ. ومَنْ نَزَلَ عَنْ وظِيفَةٍ بيَدِه لِمَنْ هو أَهلٌ لها، صَحَّ، وكَانَ أحَقَّ بها.
محتاجًا). وقال الشيخُ: له أخذُ أجرةِ عملِه، مع فقرِه.
(وله) أي: الناظرِ (التقريرُ في وظائفِه) لأنَّه من مصالحِه.
(ومَن قُرِّرَ) بالبناءِ للمجهولِ (في وظيفةٍ على وَفقِ الشرعِ، حَرُمَ) على ناظرٍ وغيرِه (إخراجُه منها بلا موجِبِ شرعيٍّ) كتعطيله القيامَ بها.
وله الاستنابةُ، ولو عيَّنَه واقفٌ. ولو تصادقَ مستحقُّون لوقفٍ، على شيءٍ من
(1)
مصارفِه ومقاديرِ استحقاقِهم فيه ونحوه، ثمَّ ظهرَ كتابُ وقفٍ مُنافٍ لما وقعَ عليه التصادقُ، عُمِلَ بما في كتابِ الوقفِ، ولَغا ما في التصادقِ. أفتى به ابنُ رجبٍ.
وإنْ حكمَ بمحضرِ وُقِفَ فيه شروطٌ، ثمَّ ظهرَ كتابُ وقفٍ فيه ما ينافي المحضرَ المذكورَ، وجبَ ثبوتُ كتابِ الوقفِ إنْ أمكنَ، والعملُ به
(2)
.
(ومَن نزل عن وظيفةٍ) من إمامةٍ، أو خطابةٍ، أو تدريسٍ، ونحوِه (بيدِه، لمن هو أهلٌ لها، صحَّ، وكان أحقَّ بها) أي: لم يتقرَّرْ غيرُه فيها؛ لتعلُّقِ حقِّه بها، وإلا -بأن لم يقرِّرْه مَن له ولايةُ التقريرِ- فهي، أي: الوظيفةُ، للنازلِ؛ لأنَّه لم يحصلْ له رغبةٌ مطلقةٌ عن وظيفتِه.
(1)
سقطت: "من" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 363).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الشيخُ
(1)
: لا يتعيَّنُ المنزولُ له، ويُولِّي مَن له الولايةُ مَن يستحقُّها شرعًا.
واعترضَه ابنُ أبي المجدِ: بأنَّه لا يخلو إمِّا أنْ يكونَ نزولُه بعوضٍ أو لا، وعلى كلٍّ لم يحصلْ منه رغبةٌ مطلقةٌ عن وظيفتِه.
وقال الموضِّحُ: ملخَّصُ كلامِ الأصحابِ: يَستحقُّها منزولٌ له إن كان أهلًا، وإلا فلناظِرٍ توليةُ مستحقِّها شرعًا. انتهى.
وممَّا يُشبِه النزولَ عن الوظائفِ: النزولُ عن الإقطاعِ، فإنَّه نزولٌ عن استحقاقٍ يختصُّ به، لتخصيصِ الإمامِ له استغلاله، أشبَه مستحقَّ الوظيفةِ، وأخذُ العِوضِ من ذلك قريبٌ من الخُلعِ، كما قالَهُ ابنُ نصرِ اللهِ وغيرُه.
قال العلَّامةُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه" على "الإقناع": قلتُ: وإنْ لم يتمَّ النزول، فله الرجوعُ بما بذلَه من العِوضِ؛ لأنَّ البدلَ لم يسلَّمْ له.
وقال ابنُ القيمِ: ومَن بيدِه أرضٌ خراجيةٌ، فهو أحقُّ بها بالخراجِ، كالمستأجرِ، ويرثُها ورثتُه كذلك، فيكونونَ أحقَّ بها بالخراجِ.
وليس للإمامِ أخذُها منه، ولا من ورثتِه، ودفعُها إلى غيرِه؛ لأنَّه أحقُّ بها من غيرِه. وإنْ نزلَ عنها أوآثرَ بها أحدًا، فالمنزولُ له أحقُّ بها، والمؤثَرُ أحقُّ بها من غيرِه
(2)
.
"فائدةٌ ": في استحقاقِ الورثةِ ما تجمد لمورِّثِهم: قال في "الفروع"
(3)
: وأنَّ لورثةِ إمامِ مسجدٍ أجرةُ عملِه في أرضِه، كما لو كان الفلاحُ غيرَه، ولهم من مَغلِّه
(1)
أي: شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
"كشاف القناع"(9/ 455، 456).
(3)
"الفروع"(7/ 367).
وما يأخذُه الفُقهَاءُ مِنْ الوَقفِ، فَكالرِّزقِ مِنْ بيتِ المَالِ، لا كَجُعلٍ، ولا كأُجْرَةٍ.
بقدرِ ما باشرَ مُورِّثُهم من الإمامةِ.
(وما يأخذُه الفقهاءُ من الوقفِ، فكالرَّزقِ من بَيتِ المالِ) للإعانةِ على الطاعةِ. وكذا الموقوفُ على أعمالِ البرِّ، والموصى به، أو المنذورُ له
(1)
(لا كجُعْلٍ، ولا كأُجرةٍ) فلا ينقصُ به الأجرُ مع الإخلاصِ.
قال في "شرح المنتهى" للمصنِّفِ
(2)
: وعلى الأقوالِ الثلاثةِ حيث كان الاستحقاقُ بشرطٍ، فلابدَّ من وجودِه. انتهى.
وهذا في الأوقافِ الحقيقيةِ، وأمَّا الأوقافُ التي من بيتِ المالِ، كأوقافِ السَّلاطين، فيجوزُ لمَن له الأخذُ من بيتِ المالِ التناولُ منها، وإن لم يباشرِ المشروطَ، كما أفتى به صاحبُ "المنتهى" بالموافقةِ لبعضِ المعاصرين له، وهو الشيخُ الرمليُّ وغيرُه في وقفِ جامعِ طولونَ ونحوِه.
* * *
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 380)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 409).
(2)
"معونة أولي النهى"(7/ 248).
فَصْلٌ
ومَنْ وقَفَ على ولَدِهِ، أو ولدِ غَيرِه، دَخَلَ المَوجُودُونَ فَقط، مِن ذُكُورٍ وإناثٍ بالسَّويَّةِ مِنْ غَيرِ تَفضِيلٍ، ودَخَلَ أولادُ الذّكُورِ خاصَّةً.
(فصل)
(ومَن وقفَ على ولدِه، أو) وقفَ على (ولدِ غيرِه) كـ: على ولدِ زيدٍ، (دخلَ) الأولادُ (الموجودون) حالَ الوقفِ، ولو حملًا (فقط) نصًّا. (من ذكورٍ وإناثٍ) وخناثي؛ لأن اللفظَ يشملُهم؛ إذ الولدُ مصدرٌ أُريدَ به اسمُ المفعولِ، أي: المولودِ (بالسُّويةِ) لأنَّه شِركٌ بينهم، وإطلاقُ التشريكِ يقتضي التسويةَ (من غيرِ تفضيلٍ) بينهم.
(ودخلَ) أيضًا في الوقفِ على ولدِه، أو أولادِه، أو ولدِ غيرِه:(أولادُ) بنيهِ - مطلقًا، سواءٌ وُجدوا حالةَ الوقفِ، أو لا- (الذكورِ خاصَّةً) دون أولادِ البناتِ؛ لأنَّهم لا يُنسَبونَ إليه، بل إلى آبائِهم. قال تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]. قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا
…
بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعِدِ
(1)
وأمَّا قولُه عليه السلام: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ"
(2)
. ونحوُه، فمِن خصائصِه: انتسابُ أولادِ فاطمةَ إليه
(3)
.
(1)
في الأصل: "الأماجد".
(2)
أخرجه البخاري (2704) من حديث أبي بكرة.
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 368)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 411).
وإن قَالَ: علَى وَلَديِ، دَخَلَ أولادُه المَوجُودُونَ، ومَنْ يولَدُ لَهُم، لا الحَادِثُونَ.
و: عَلَى وَلَدِي، ومَنْ يُولَدُ لي، دَخَلَ المَوجُودُونَ، والحَادِثُونَ تَبَعًا.
ومَنْ وقَفَ على عَقِبِهِ، أو نَسلِهِ، أو وَلَدِ وَلَدهِ، أو ذُرِّيته، دَخَلَ الذُّكُورُ والإناثُ، لا أولادُ الإنَاثِ، إلَّا بِقَرِينَةٍ.
(وإنْ قالَ): وقفتُ (على ولدي. دخلَ أولادُه الموجودونَ) حالَ الوقفِ، (ومَن يولدُ لهم) تبعًا لهم، (لا الحادِثونَ) بعدَ الوقفِ، خلافًا لما مشى عليه في "الإقناع".
(و) مَن قالَ: وقفتُ (على ولدي، ومَن يولدُ لي، دخلَ الموجودونَ، والحادِثونَ تبعًا) لهم.
(ومَن وقفَ على عَقِبِه، أو) وقفَ (على نسلِه، أو) وقفَ على (ولدِ ولدِه، أو) وقفَ على (ذُرِّيتِه، دخلَ الذكورُ والإناثُ، لا أولادُ الإناثِ) ولا يستحقّون من الوقفِ، كما لو وقفَ على من يُنسبُ إليه (إلا بقرينةٍ) كقولِه: مَن ماتَ عن ولدٍ، فنصيبُه لولدِه. وكقولِه: وقفتُ على أولادي: فلانٍ، وفلانٍ، وفلانةٍ، ثمَّ أولادِهم، ونحوِه. أو: على أنَّ لولدِ الذكرِ سهمينٍ، ولولدِ الأنثى سهمًا، ونحوِه.
وأصلُ "النسلِ" من النُّسَالةِ؛ وهي: شعرُ الدَّابةِ إذا سقطَ عن جسدِها.
وأعقبَ الرجلُ: ترك عَقِبًا، وعَقَّب: إذا خلَّف. قال القاضي عياضٌ: هو الرجلُ الذي يأتي بعدَه.
والذريَّةُ من ذرأ: إذا زرعَ
(1)
، ومنه قولُهم:
شَقَقتِ القَلبَ نمَّ ذرأتِ فيه
أو مِن ذرَّ: إذا طلع. ومنه قولهم: ذرَّ قرنُ الشمس. وقيلَ غيرُ ذلك
(2)
.
(1)
في الأصل: "من ذرَّ: إذا طلعَ".
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 369).
ومَنْ وقَفَ على بَنيِهِ، أو بَني فُلانٍ، فللذُّكُورِ خاصَّةً.
وئكَرهُ هُنا أن يُفَضِّلَ بعضَ أولادِه عَلى بَعضٍ لغَيرِ سَببٍ. والسُّنَةُ: أن لا يُزادَ ذَكرٌ على أُنثَى.
فإن كانَ لبَعضِهم عِيالٌ، أو به حَاجَةٌ، أو عَاجِزٌ عن التَكسُّبِ، أو خَصَّ المُشتَغِلينَ بالعِلمِ، أو خَصَّ ذَا الدِّينِ والصَّلاحِ، فلا بأسَ.
(ومَن وقفَ على بَنيهِ، أو بني فُلانٍ، فللذُّكورِ خاصَّةً) لأنَّ لفظَ البنينَ وُضِعَ لذلك حقيقةً. قال تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} [الصافات: 153]{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]. فلا يدخلُ فيه الخُنثى؛ لأنَّه لا يُعلمُ كونُه ذكرًا.
وكذلك لو وقفَ على بناتِه، اختصَّ به الإناثُ، ولا يدخلُ فيهنَّ الخُنثى. قال في "الشرح": لا نعلمُ فيه خلافًا
(1)
.
(ويُكرَهُ هنا) أي: في كتابِ الوقفِ (أن يُفضِّلَ بعضَ أولادِه على بعض) أو يخُصَّ بعضَهم بالوقفِ دونَ بعضٍ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى التقاطعِ الغيرِ سببٍ) يقتضي التفضيلَ.
(والسُّنَّةُ) للواقفِ (أن لا يزادَ ذكرٌ على أنثى) أي: للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثى؛ لأنَّ القصدَ القربةُ على وجهِ الدوامِ، وقد استووا في القَرَابةِ.
(فإنْ كان لبعضِهم عيالٌ، أو به حاجةٌ) كمسكَنَةٍ، أو عمًى، ونحوِه (أو عاجزٌ عن التكسُّبِ، أو خَصَّ) أو فضَّلَ (المشتغلينَ بالعلمِ، أو خصَّ) أو فضَّلَ (ذا الدِّينِ والصَّلاحِ، فلا بأسَ) بذلك، نصَّ عليه؛ لأنَّه لغرضٍ مقصودٍ شرعًا.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 89).
فَصْلٌ
والوَقفُ عَقدٌ لازِمٌ، لا يَنفَسِخُ بإقالَةٍ ولا غَيرِها، ولا يُوهَبُ، ولا يُرهَنُ، ولا يُورَثُ، ولا يُبَاعُ إلَّا أن تتعطَّلَ منافِعُه بخرَابٍ أو غَيرِه، ولم يُوجَدْ ما يُعَمَّرُ به، فيُباعُ ويُصرَفُ ثَمنُه في مِثلِه، أو بَعضِ مِثلِه، وبمُجرَّدِ شِراءِ البَدَلِ يَصيرُ وَقفًا.
وكَذا حُكمُ المَسجِدِ لو ضَاقَ
(فصلٌ)
(والوقفُ عقدٌ لازمٌ) بمجرَّدٍ القولِ، أو ما يدلُّ عليه (لا ينفسخُ
(1)
) الوقفُ (بإقالةٍ ولا غيرِها) لأنَّه عقدٌ يقتضي التأبيدَ.
(ولا يُوهبُ، ولا يُرهنُ، ولا يُورثُ، ولا يُباعُ) فيحرمُ بيعُه، ولا المناقلةُ به (إلا أنْ تتعطَّلَ منافعُه) المقصودةُ منه (بخرابٍ) له، أو لمحلَّتِه (أو غيرِه) كخشبٍ تشعَّثَ وخِيفَ سقوطُه، أو غيرِه (ولم يوجدْ) في رَيعِ الوقفِ (ما يُعمِّرُ به، فيباعُ).
(و) حيثُ يُباعُ الوقفُ، فإنَّه (يُصرفُ ثمنُه في مثلِه) لأنَّ في إقامةِ البدَلِ مقامَه تأبيدًا له وتحقيقًا للمقصودِ، فتعيَّنَ وجوبُه، (أو بعضِ مثلِه) إن لم يمكنْ في مثلِه. ويُصرفُ في جهتِه.
(وبمجرَّدِ شراءِ البدَلِ) لجهةِ الوقفِ (يصيرُ وقفًا) والاحتياطُ وقفُه؛ لئلا ينقضُه بعدَ ذلك من لا يَرى وقفَه بمجرَّدِ الشراءِ.
(وكذا حكمُ المسجدِ) الذي تعطَّلَتْ منفعتُه المقصودةُ منه، حتى (لو ضاقَ
(1)
في الأصل: "لا يُفسخُ".
على أهلِه، أو خَرِبَت مَحَلَّتُهُ، أو استَقْذَرَ مَوضِعُهُ.
ويَجوزُ نَقلُ آلتِه وحِجَارَتِه لِمَسجِدٍ آخَرَ احتاجَ إليها، وذَلِكَ أولَى مِنْ بيعِه.
ويَجوزُ نَقْضُ مَنَارةِ المَسجِدِ، وجَعلُها في حَائِطِه؛ لتَحصِينِه.
ومَنْ وقَفَ على ثَغرٍ، فاخْتَلَّ، صُرِفَ في ثَغرٍ مِثلِه، وعَلَى قِياسِهِ مَسجِدٌ ورِبَاطٌ، ونحوُهُما.
على أهلِه) المصلِّينَ به. قال في "المغني"
(1)
: ولم تُمكنْ توسعتُه في موضعِه.
(أو) كان تعطيلُ نفعِه بأن (خَرِبتْ محلَّتُه) أي: النَّاحيةُ التي بها المسجدُ.
(أو استَقذَرَ موضِعُه) أي: المسجدِ، فيصحُّ بيعُه، ويصرفُ ثمنُه في مثلِه.
(ويجوزُ نقلُ آلتِه وحِجارته)، أي: المسجدِ الذي يجوزُ بيعُه لخرابه، أو خرابِ محلَّتِه، أو قَذَرِ محلِّه (لمسجدٍ آخرَ احتاجَ إليها. وذلك) أي: نقلُ آلاتِه وأنقاضِه إلى مثلِه (أَوْلى من بيعِه) لبقاءِ الانتفاعِ من غيرِ خللٍ فيه.
وعُلِمَ من قولِه: "لمسجدٍ آخرَ": أنَّه لا يُعمَّرُ بآلاتِ المسجدِ مدرسةٌ، ولا رباطٌ، ولا بئرٌ، ولا حوصٌ، ولا قنطرةٌ. وكذا آلاتُ كلِّ واحدٍ من هذه الأمكنةِ، لا يعمرُ بها ما عداه؛ لأنَّ جعلَها في مثلِ العينِ ممكنٌ، فتعيَّنَ. قالَه الحارثيُّ
(2)
.
(ويجوزُ نقضُ منارةِ المسجدِ، وجعلُها في حائطِه؛ لتحصينِه) من نحوِ كلابٍ؛ لأنَّه أنفعُ.
(ومَن وقف على ثغرٍ، فاختلَّ) الثغرُ الموقوفُ عليه، (صُرِفَ في ثغرٍ مثلِه. وعلى قياسِه) أي: الثغرِ: (مسجدُ، ورباطٌ، ونحوُهما) كسقايةٍ، فإذا تعذَّرَ
(1)
"المغني"(8/ 220).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 107).
ويَحرُمُ حَفرُ البِئرِ وغَرسُ الضَّجَرِ بالمَسَاجِدِ، ولعلَّ هَذا حَيثُ لم يَكُنْ فيهِ مَصلَحَةٌ.
الصرفُ فيها، صُرِفَ في مثلِها؛ تحصيلًا لغرضِ الواقفِ حسبَ الإمكانِ.
(ويحرُمُ حفرُ البئرِ) بمسجدٍ، ولو للمصلحةِ العامَّةِ؛ لأنَّ البقعةَ مستحقةٌ للصَّلاةِ، فتعطيلُها عدوانٌ.
(و) يحرُمُ (غرسُ الشجرِ بالمساجدِ) لما تقدَّمَ. (ولعلَّ هذا حيثُ لم يكنْ فيه مصلحةٌ) بأن كان ينتفعُ بثمرِها، ويُصرفُ في مصالحِ الوقفِ.
قال ابنُ عقيلٍ في "الفنون": لا بأسَ بتغييرِ حجارةِ الكعبةِ إن عرضَ لها مَرَمَّةٌ؛ لأنَّ كل عصرٍ احتاجتِ الكعبةُ فيه إليه، أي: إلى تغيير الحجارةِ قدْ فُعِلَ، ولم يظهرْ نكيرٌ. ولو تعيَّنتِ الآلةُ، لم يجزْ التغييرُ، كالحجرِ الأسودِ، فلا يجوزُ تغييرُه، ولا يجوزُ نقلُه من موضعِه إلى موضعٍ آخرَ، ولا يقومُ غيرُه مقامَه، مع وجودِه، ولا يَنتَقلُ النسكُ معه إذا نقلَ من موضعِه.
ويُكرَهُ نقلُ حجارتِها عند عمارتِها إلى غيرِها. كما لا يجوزُ ضرْبُ ترابِ المساجدِ لَبِنًا في غيرِها، أي: المساجدِ، بطريقِ الأَوْلى، لما تقدَّمَ من أنَّه يتعيَّنُ صرفُ الوقفِ للجهةِ المعينةِ.
قال في "الفنون": ولا يجوزُ أن تُعَلَّى أبنيتُها زيادةً على ما وُجِدَ من عُلْوِها.
قال في "الفروعِ": ويتوجَّهُ: جوازُ البناءِ على قواعدِ إبراهيمَ عليه السلام، يعني: إدخالُ الحِجْرِ في البيتِ، وجعلُ بابين له؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لولا المُعارِضُ في زمنِه - وهو أنَّ قومَه حديثٌ عهدُهم بجاهليةٍ - لفَعَلَه، كما في حديثِ عائشةَ
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (1583)، ومسلم (1333).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن هبيرةَ فيه - أي: حديثِ عائشةَ -: يدلُّ على جوازِ تأخيرِ الصَّوابِ؛ لأجلِ قالةِ الناسِ. ورأى مالكٌ والشافعيُّ تركَه. أي: تركَ البناءِ على قواعدِ إبراهيمَ عليه السلام؛ لئلا يصيرَ البيتُ ملعبةً للملوكِ. وهو ظاهرٌ
(1)
.
"خاتمةٌ": قال الشيخُ تقيُّ الدينِ: والأرزاقُ التي يقدِّرُها الواقفونَ، ثمَّ يتغيرُ النقدُ فيما بعدُ، نحو أنْ يَشرُطَ مائةَ درهمٍ ناصريةً، ثمَّ يحرمُ التعاملُ بها، وتصيرُ الدراهمُ ظاهريةً، فإنَّه يعطى المستحقُّ من نقدِ البلدِ ما قيمتُه قيمةُ المشروطِ
(2)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(10/ 114، 115).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 115).
بَابُ الهِبَةِ
وهِيَ: التَّبَرَّعُ بالمَالِ في حَالِ الحَيَاةِ.
وهِيَ مُستحَبَّةٌ، مُنعَقِدَةٌ بكُلِّ قَولٍ أو فِعلٍ يدلُّ عَليهَا.
(بابُ الهبةِ)
أصلُها مِن هَبوبِ الريحِ، أي: مُرُورِه. يُقالُ: وهَبَ له الشيءَ وَهبًا، بإسكانِ الهاءِ وفَتحِها، فهو واهِبٌ ووَهَّابٌ ووَهُوبٌ ووَهَّابةٌ. والاسمُ: المَوهِبُ والموهِبةُ، بكَسرِ الهاءِ فيهما. والاتِّهابُ: قبولُ الهبةِ. والاستيهَابُ: سُؤالها. وتَواهَبوا: وهَبَ بعضُهم لبعضٍ. وواهبَهُ فوَهبَهُ يَهَبُه، كيَدَعُه، ويَرِثُه: غَلَبَه في الهِبَة. ولا يقالُ: وهَبتُكَه. قالَهُ في "القاموس"
(1)
. وحكاهُ أبو عمرٍو عن أعرابيٍّ.
(وهي) شرعًا: (التبرُّعُ بالمالِ في حَالِ الحياةِ). خَرَجَ: الوَصيةُ.
و (هي): أي الهبةُ (مستحبَّةٌ) إذا قُصِدَ بها وجهُ اللهِ، كالهِبَةِ للعُلماءِ والفُقراءِ والصالحينَ.
قال الحارثيُّ: وجِنسُ الهِبَةِ مَندوبٌ إليه؛ لشُمولِه معنى التَّوسِعَةِ على الغيرِ.
ولا تُستَحبُّ إنْ قُصِدَ بها مباهاةٌ ورياءٌ وسمعةٌ، فتُكرَهُ
(2)
.
(منعَقِدَةٌ بكلِّ قولٍ أو فِعلٍ يدُلُّ عَلَيها) كإرسالِ هَديَّةٍ، ودَفعِ دَراهِمَ
(3)
لفقيرٍ.
(1)
"القاموس المحيط": (وهب).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 119)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 420).
(3)
في الأصل: "درهم".
وشُروطُهَا ثَمانِيَة:
كُونُها من جَائزِ التَصرُّفِ، وكَونُهُ مُختَارًا غَيْرَ هَازِلٍ، وكَونُ المَوهُوبِ يَصِحُّ بيعُه، وكَونُ المَوهُوبِ لَهُ يصِحُّ تَمَلُّكُهُ، وكَونُهُ يَقْبَلُ ما وُهِبَ لَهُ بقَولٍ أو فِعلٍ يَدلُّ عَليهِ، قَبلَ تَشَاغُلِهِمَا بِمَا يَقطَعُ البَيعَ عُرفًا، وكَونُ الهِبَةِ منجَّزَةً،
(وشُروطُها ثمانيةٌ):
أحدُها: (كونُها من جائزِ التصرُّفِ) أي: مكلَّفٍ رَشيدٍ.
(و) الشرطُ الثاني: (كونُه مختارًا غَيرَ هازلِ) أي: غَيرَ مُكرَهٍ، ولا لاعِبٍ.
(و) الشرطُ الثالثُ: (كونُ الموهوبِ يصحُّ بيعُه) وما لا يصحُّ بيعُه لا تَصِحُّ هِبتُه، كأمِّ الولدِ.
(و) الشرطُ الرابعُ: (كونُ الموهوبِ له يصحُّ تملُّكُهُ) وهو الحرّ البالغُ الرشيدُ. فلا تصحُّ لصغرٍ ومجنونٍ وقنٍّ.
(و) الشرطُ الخامسُ: (كونُه يقبلُ ما وُهِبَ له
(1)
بقولٍ أو فعلٍ) كالبَيعِ (يَدلُّ عليه) أي: على القَبولِ (قَبلَ تشاغُلِهما بما يَقطَعُ البَيعَ عُرْفًا) لأنًّ حالةَ المجلِسِ كحالِ العقدِ؛ لأنَّه يُكتفى بالقبضِ فيه لما اعتُبِرَ فيه القبضُ. فإن تفرَّقا من المجلسِ قبلَ إتمامِه، أو تشاغَلا بما يقطَعُه عُرْفًا، بطَلَ؛ لأنَّهما أعرَضا عنه، أشبَهَ ما لو صرَّحَ بالردِّ.
(و) الشرطُ السادسُ: (كونُ الهبةِ منجَّزةً) فلا يصحّ تعليقُها على شرطِ مستقبَلٍ، كـ: إذا جاءَ رأسُ الشهرِ، أو قدِمَ فلانٌ، فقدْ وهبتُكَ كذا؛ قياسًا على البيعِ
(2)
.
(1)
سقطت: "له" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(10/ 137)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 421).
وكَونُها غَيرَ مُؤقَّتَةٍ، لكِنْ لو وُقِّتَتْ بِعُمُرِ أحَدِهِمَا، لَزِمَت ولَغَا التَّوقِيتُ،
(و) الشرطُ السابعُ: (كونُها غيرَ مؤقَّتةٍ) كقولِه: وهبتُك هذا سنةً، أو شهرًا. فلا تصحُّ؛ لأنَّها تمليكُ عينٍ فلا توقَّتُ، كالبيعِ
(1)
.
(لكنْ لو وقِّتَتَ بعُمُرِ أحدِهما، لزِمَت ولَغَا التَّوقيتُ) فتصحُّ معَ التَّوقيتِ بالعُمُرِ؛ لأنَّ شَرْطَ رجوعِها هُنا على غَيرِ الموهُوبِ له، وهو وارِثُه، بخلافِ التوقيتِ بزَمَنٍ معلومٍ.
ومعنَاهَا
(2)
: شَرطُ الوَاهِبِ على المتَّهبِ عَودُ مَوهُوبٍ على كُلِّ حَالٍ إليه
(3)
، أو إلى ورَثَتِه.
سُمِّيَتْ عُمْرَى؛ لتقييدِها بالعُمُرِ، كأعمَرتُكَ، أو: أرقَبتُكَ هذه الدَّارَ، أو هذه الفَرَسَ، أو هذه الأَمَةَ. يُقالُ: أعمرتُه، وعمَّرتُه، مشدَّدًا: إذا جَعَلتَ له الدَّارَ مُدَّةَ عُمُرِكَ، أو عُمُرِه. وأرقبتُكَ: أعطيتُكَ.
ونصّ أحمدَ فيمَنْ يُعمِرُ أمَةً: لا يَطَؤها. نقلَه يَعقوب وابنُ هانئٍ. وحَمَلَه القاضي على الوَرعِ.
أو: جَعَلتُها لك عُمرَكَ، أو: حياتَكَ. أو: جعلتُها لك عُمُري، أو: رُقْبى، أو: ما بقيتَ. أو: أعطيتُكها عمرَكَ، أو: حياتَكَ، أو: عُمْرَىَ، أو: رُقْبى، أو: ما بقيتُ، فتصحُّ؛ لحديثِ جابرٍ مرفوعًا:"العُمْرَى جائزةٌ لأهلِها". رواه أبو داودَ، والترمذيُّ
(4)
وحسَّنَه.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 138)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 422).
(2)
أي: ومعنى العُمرَى.
(3)
سقطت: "إليه" من الأصل.
(4)
أخرجه أبو داودَ (3558)، والترمذيُّ (1351)، وصححه الألباني.
وكَونُها بَغَيرِ عِوَضٍ، فإن كانت بِعِوَضٍ مَعلُومٍ، فَبَيعٌ، وبعِوَضٍ مَجهُولٍ، فَبَاطِلَةٌ.
وأمَّا حديثُ: "لا تُعمِرُوا ولا تُرقِبُوا"
(1)
. فالنهيُّ على سبيلِ الإعلامِ لهم بنفوذِها للمُعمَرِ والمُرقَبِ؛ بدليلِ بقيَّةِ الحديثِ: "فمَن أعمرَ عُمْرَى، فهي للذي أُعمِرَهَا حيًّا وميِّتًا"
(2)
.
وتكونُ لمُعطَى ولوَرَثَتِه بَعدَه إنْ كانواح للخبرِ، كتصرِيحِه -أي: المُعْمِرِ- بأنَّ العُمْرَىَ بعدَ مَوتِ مُعمَرٍ لِوَرَثَتِه، سواءٌ كانت عَقَارًا أو حيوانًا، أو غيرَهما. وإلَّا يَكُنْ له وارِثٌ، فهي لبَيتِ المالِ. نصًّا.
قال في "الإقناع"
(3)
: وإن أضافَ الهبةَ إلى عُمُرِ غَيرِه؛ بأن قال: وهبتُكَ الدَّارَ ونحوَها عُمُرَ زَيدٍ، لم تصحَّ؛ لأنَّها مؤقَّتةٌ، وليعسَتْ مِن العُمْرَى، ولا الرُّقْبى.
(و) الشرطُ الثامنُ: (كونُها بغيرِ عوضٍ).
(فإنْ كانت بعِوضٍ معلومٍ، فـ) هي (بيعٌ) أي: فيُشتَرَطُ لها شُروطُ صِحَّةِ البيعِ؛ لأنَّه تمليكٌ بعِوضٍ معلومٍ، ويَثبتُ الخِيارُ والشّفعَةُ، وكما لو شُرِط في عَاريَّةٍ مُؤقَّتَةٍ عِوَضٌ مَعلومٌ، فتَصيرُ إجارَةً.
(وبعِوضٍ مجهولٍ، فباطلةٌ) كالبيعِ بثَمَنٍ مجهولٍ. وحكمُها كالبيعِ الفاسدِ، فتُرَدُّ بزيادَتِها المتَّصِلةِ والمنفصلةِ؛ لأنَّها نماءُ مِلكِ الواهبِ. وإنْ تَلِفَتْ أو زوائِدُها، ضَمِنَها ببَدَلِها.
(1)
أخرجه أبو داود (3556) من حديث جابر. وصححه الألباني.
(2)
لم أجد تتمة الحديث بهذا اللفظ، وإنما تتمته عند أبي داود وغيره بلفظ:"فمن أرقب شيئا أو أعمره فهو لورثته".
(3)
انظر "كشاف القناع"(10/ 140).
ومَنْ أهدَى ليُهدى له أكثَرَ، فلا بَأسَ.
ويكرَهُ رَدُّ الهِبَةِ وإنْ قَلَّتْ، بَلِ السُّنَةُ أنْ يُكَافِئَ أو يَدعُو،
والهبةُ المطلقةُ لا تَقتَضِي عِوَضًا، سواءٌ كانت لمثلِه، أو دونِه، أو أعلى منه. وإنِ اختَلَفا
(1)
في شرطِه
(2)
، فقولُ مُنكِرٍ بيمينِه. وإنِ اختلَفَا في الصَّادِرِ بَينَهُما، فقال مَن بِيَدِه العينُ: وهَبتَني ما بِيَدي. فقال مَن كانت بيدِه قبلُ: بل بِعتُكَه، ولا بيِّنةَ لأحدِهما، يحلِفُ كُلٌّ منهما على ما أنَكرَ من دَعوَى الآخَرِ، ولا يصحُّ البيعُ، ولا الهبةُ.
(ومَن أهدَى) شيئًا (ليُهدَى له أكثرَ) منه، (فلا بأسَ) به.
(ويُكرَهُ ردُّ الهبةِ، وإن قلَّتْ) لحديثِ أحمدَ، عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا:"لا تردُوا الهديَةَ"
(3)
.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا يجِبُ قبولُ هبةٍ، ولو جاءتْ بلا مسألةٍ ولا استشرافِ نفسٍ. وهو إحدَى الروايتينِ. قال الحارثيُّ: وهو مقتضى كلامِ المصنِّفِ، أي: الموفَّقِ، وغيرِه من الأصحابِ. قال في "الإنصاف": وهو الصَّوابُ.
وعنه: يجبُ اختارَها أبو بكر في "التنبيه"، و"المستوعب"، وتبِعَهما صاحبُ "المنتهى" في الزكاة
(4)
.
(بل السُّنَّةُ أنْ يُكافِئَ) المُهدِيَ له، (أو يَدعُو) له. وفي "الفروع": ويتوجَّه:
(1)
أي: الواهب والموهوب.
(2)
أي: في شرط العوض في الهبة.
(3)
أخرجه أحمد (6/ 389)(3838)، وصححه الألباني في "الإرواء".
(4)
"دقائق أولي النهى"(4/ 392).
وإنْ عَلِمَ أنَّه أهدَى حَيَاءً، وَجَبَ الردُّ.
إن لم يجدْ، دعا له. كما رواه أحمدُ وغيرُه
(1)
.
(وإنْ علمَ) المهدَى له (أنَّه) أي: المهدي (أهدَى حياءً، وجبَ الردُّ) أي: ردُّ هديَّيه إليه. قالَه ابنُ الجوزيِّ. قال في "الآداب": وهو قولٌ حسنٌ؛ لأنَّ المقاصدَ في العقودِ معتبرةٌ عندنا
(2)
.
* * *
(1)
يشير إلى حديث ابن عمر مرفوعًا: "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوا به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" أخرجه أحمد (9/ 266)(5365)، وأبو داود (1672)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1617).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 393).
فَصْلٌ
وتُملَكُ الهِبَةُ بالعَقْدِ.
وتَلزَمُ بالقَبضِ شَرطِ أنْ يَكونَ القَبضُ بإذِنِ الوَاهِبِ.
فقَبْضُ ما وُهِبَ بكَيلٍ أو وَزْنٍ أو عَدٍّ أو ذَرْعٍ بِذَلِكَ، وقَبضُ الصُّبْرَةِ، وما يُنقَلُ بالنَّقْلِ،
(فصلٌ)
(وتُملَكُ الهبةُ بالعقدِ) أي: إيجابٍ وقبولٍ، بأنْ يقولَ: وهبتُكَ، أو: أهديتُك، أو: أعطيتُك. فيقولُ: قَبِلتُ، أو: رَضِيتُ، ونحوُه.
وبالمعاطاةِ الدالَّة عليها؛ لأنَّه عليه السلام كان يُهدي ويُهدَى إليه، ويُفرِّقُ الصَّدقَاتِ، ويأمرُ سُعاتِه بأخذِها، وتَفريقِها، وكان أصحابُه يفعلون ذلك، ولم يُنقلْ عنهم إيجابٌ ولا قبولٌ، ولو كان شرطًا لنُقِلَ عنهم متواترًا، أو مشهورًا
(1)
.
(وتلزمُ) الهبةُ (بالقبضِ، بشرطِ أن يكونَ القبضُ بإذنِ الواهب) فلا تلزمُ قبلَهما.
(فقبضُ ما وُهِبَ بكيلٍ أو وزنٍ أو عَدٍّ أو ذَرْعٍ بذلك) أي: بكيلٍ ووزنٍ وعدٍّ وذرعٍ.
(وقَبضُ الصُّبرةِ) بِيعَت جُزافًا بنَقلٍ، (و) في (ما يُنقَلُ بالنَّقل
(2)
) كأحجارِ طواحين. وفي حيوانٍ بتَمشيَتِه.
(1)
"الروض المربع"(6/ 7).
(2)
سقطت: "بالنقل" من الأصل.
وقَبْضُ ما يُتَنَاوَلُ بالتَّنَاوُلِ، وقَبْضُ غَيرِ ذَلِكَ بالتَّخلِيَةِ.
ويَقْبَلُ ويَقْبِضُ لصَغِيرٍ ومَجنُونٍ وليُّهُمَا.
ويَصِحُّ أنْ يَهَبَ شَيئًا، ويَستَثْنيَ نفعَهُ مدَّةً معلُومَةً، وأن يَهَبَ حَامِلًا، ويَستَثْنيَ حَمْلَهَا. وإنْ وهَبَهُ وشَرَطَ الرُّجُوعَ متَى شَاءَ، لَزِمَتْ ولَغَا الشَّرطُ.
إنْ وَهَبَ دَينَهُ لمَدِينِهِ، أو أبرَأَهُ مِنهُ، أو تَرَكَهُ لَهُ، صَحَّ،
(وقبضُ ما يُتناولُ) كدَنانيرَ، ودراهمَ، وكُتُبٍ (بالتّنَاوُلِ) باليَدِ.
(وقبضُ غيرِ ذلك) أي: المذكُورِ، كأرضٍ، وينَاءٍ، وشَجَرٍ (بالتَّخلِيَةِ) مِن واهِبٍ.
(ويَقبَلُ) لصَغيرٍ ومجنونٍ، (ويَقبِضُ لصغيرٍ ومجنونٍ وليُّهما) وهو أبٌ، أو وصيُّة، أو الحاكمُ، أو أمينُه؛ لأنَّه قبولٌ لمال المحجورِ فيه حظٌّ، فكان إلى الوليِّ، كالبيعِ والشراءِ. فإنْ عُدِمَ الوليُّ، فمَن يَليه؛ لدعاءِ الحاجةِ، لئلا تضيعَ وتَهلِكَ.
ويصحُّ من صغيرٍ ومجنونٍ قبضُ مأكولٍ يُدفعُ مِثلُه للصَّغيرِ.
(ويصحُّ أن يَهبَ شيئًا، ويَستَثنيَ نفعَهُ) أي: الموهوبِ (مدَةً معلومةً) نحوَ شهرٍ وسنةٍ.
(وأن يهبَ حاملًا، ويَستثنيَ حملَهَا) كالعتقِ.
(وإن وهبَه وشَرَطَ الرجوعَ) في الموهوبِ (متى شاءَ) أي: في أيِّ وقتٍ شاءَ، (لزمِتْ) الهبةُ (ولغَا) أي: بطلَ (الشَّرطُ) لمنافاتِه التمليكَ.
(وإنْ وهبَ دَيْنَه لمدينِه، أو أبرأَهُ منه، أو تركه له) أو أسقَطَه عنه، أو مَلَّكَه لهُ، أو تصدَّقَ بالدَّينِ عليه - أي: المدينِ - أو عفَا عنه، أي: الدَّين
(1)
(صحَّ) ذلك
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 427).
ولَزِمَ بمُجرَّدِهِ، ولو قَبلَ خلُولهِ. وتصِحُّ البَراءَةُ، ولَوْ مَجهُولًا.
ولا تَصِحُّ هِبَةُ الدَّينِ لغَيرِ مَنْ هُوَ عَلَيهِ، إلَّا إنْ كانَ ضَامِنًا.
جميعُه، وكان مُسقِطًا للدَّينِ، (ولزِمَ بمجرَّدِه
(1)
، ولو) كان ذلك (قبلَ حُلولِه) أي: الدَّينِ.
(وتصحُّ البراءةُ، ولو مجهولًا) قدرُه ووصفُه، ولو كان الدُّينُ المُبرَأُ منه مجهولًا لهما، أو لأحدِهما، ولو لم يتعذَّرْ علمُه؛ لأنَّه إسقاطُ حقٍّ، فينفذُ مع العلمِ والجهلِ، كالعتقِ والطلاقِ.
(ولا
(2)
تصحُّ هِبةُ الدَّين لغيرِ مَن هو عليه) أي: لمَن هو في ذمَّتِه، (إلا إنْ كان ضامنًا) فيصحُّ.
* * *
(1)
سقطت: "ولزم بمجرده" من الأصل.
(2)
في الأصل: "فلا".
فَصْلٌ
ولِكُلِّ واهِبٍ أن يَرجِعَ في هِبَتِه قَبلَ إقبَاضِها مَعَ الكَرَاهَةِ. ولا يَصِحُّ الرُّجوعُ إلَّا بالقولِ.
وبَعدَ إقبَاضِهَا يَحرُمُ، ولا يَصِحُّ
(فصلٌ)
(ولكلِّ واهبِ أن يرجعَ في هِبَتِه قبلَ إقباضِها) أي: قبلَ القبضِ، ولو بعدَ تصرُّفِ المتَّهَبِ، وتبطلُ.
(معَ الكَرَاهةِ) خروجًا من خلافِ مَن قال: إنَّ الهبةَ تلزمُ بالعقدِ.
(ولا يصحُّ الرجوعُ إلا بالقولِ) نحو: رجعتُ في هِبَتي، أو: ارتجعتُها، أو: رددتُها، أو: عدتُ فيها؛ لأنَّ الملكَ ثابتٌ، للموهوبِ له يقينًا، فلا يزولُ إلا بيقينٍ، وهو صريحُ الرجوعِ، فلو تصرَّفَ فيه قبلَ رجوعِه بالقولِ، لم يصحَّ، ولو نوىَ به الرجوعَ
(1)
.
(وبعدَ إقباضِها) أي: الهبةِ - ولو نُقُوطًا، أو حُمُولةً في نحوِ عُرسٍ، كما في "الإقناع"، للزُومِها - (يحرمُ) الرجوعُ فيها (ولا يصحُّ) الرجوعُ بعدَه؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا:"العائدُ في هبتِه، كالكلبِ يقيءُ ثمَّ يعودُ في قيئِه". متفقٌ عليه
(2)
. وسواءٌ عَوَّضَ عنها، أو لم يعوِّضْ؛ لأنَّ الهبةَ المطلقةَ لا تقتضي ثوابًا".
(1)
"كشاف القناع"(10/ 124)، "دقائق أولي النهى"(4/ 413)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 428).
(2)
أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (1622).
ما لَمْ يَكُنْ أبًا، فلَهُ أن يَرجِعَ بشُروطٍ أربَعَةٍ:
أن لا يُسقِطَ حقَّه من الرُّجُوعِ، وأنْ لا تَزِيدَ زِيادَةً متَّصِلَةً، وأنْ تَكُونَ باقِيَةً في مِلكِهِ، وأنْ لا يَرهَنَهَا.
(ما لم يكنْ إلا فله أن يرجعَ) في هبتِه (بشروطٍ أربعةٍ):
الأوَّلُ: (أن لا يُسقِطَ حقَّه من الرجوعِ) فيما وهبَه لولدِه، فيسقطُ، خلافًا لما في "الإقناع"؛ لأنَّ الرجوعَ مجرَّدُ حقِّه، وقد أسقطه
(1)
.
(و) الثاني: (أن لا تزيدَ) العينُ الموهوبةُ عندَ الولدِ (زيادةً متَّصلةً) تزيدُ في قيمتِها، كالسِّمَنِ، والكِبَرِ، والحَمْلِ، وتعلُّمِ صَنعَةٍ، أو تعلُّمِ كتابةٍ أو قرآنٍ؛ لأنَّ الزيادة للموهوبِ له، لكونِها نماءَ ملكِه، ولم تنتقلْ إليه من جهةِ أبيه، فلم يملكْ الرجوعَ فيها كالمنفَصلةِ. وإذا امتنعَ الرجوعُ فيها، امتنعَ في الأصلِ، لئلا يُفضيَ إلى سُوءِ المشاركةِ وضررِ التشقيصِ.
(و) الثالثُ: (أن تكونَ) العينُ الموهوبةُ (باقيةً في ملكِه) فيَمنعُ الرجوعَ بيعُه، أي: الولدِ لما وهبَه له أبوه. وكذا هبتُه، ووقفُه، ونحوُه مما يَنقلُ المِلكَ، أو يمنعُ التصرَّفَ، كالاستيلادِ.
(و) الرابعُ: (أن لا يرهنَها) لأنَّ في رجوعِه إبطالًا لحقِّ المرتهنِ وإضرارًا به، إلا أنْ ينفكَّ الرهنُ بوفاءٍ أو غيرِه، فيملِكُ الرجوعَ إذنْ؛ لأنَّ ملكَ الابنِ لم يَزُلْ، وقد زالَ المانعُ
(2)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 411).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 412)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 430).
وللأبِ الحُرِّ أن يتملَّكَ مِن مَالِ ولَدِه ما شَاءَ بشُروطٍ خَمسَةٍ:
أن لا يَضُرَّهُ، وأن لا يَكُونَ في مَرضِ مَوتِ أحدِهِمَا،
(وللأبِ) فقطْ (الحرِّ) محتاجًا وغيرَه (أنْ يتملَّكَ من مالِ ولدِه ما شاءَ) بعلمِه، وبغيرِ علمِه، صغيرًا كان الولدُ أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، راضيًا أو ساخطًا؛ لحديث:"أنتِ ومالُك لأبيكَ". رواه الطبرانيُّ في "معجمه"
(1)
مطولًا. ورواه غيرُه، وزادَ:"إنَّ أولادَكم من أطيبِ كسبِكم، فكلوا من أموالهم"
(2)
. وعن عائشة مرفوعًا: "إن أطيبَ ما أكلتم من كسبِكم، وإنَّ أولادَكم من كسبِكم". أخرجه سعيدٌ، والترمذيُّ
(3)
وحسَّنَهُ. وروى محمدُ بنُ المنكدرِ والمطَّلبُ بنُ حنطبٍ قالا: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ لي مالًا وعيالًا، ولأبي مالٌ وعيالٌ، وألي يريدُ أن يأخذَ مالي؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أنتِ ومالُك لأبيكَ". رواه سعيدٌ
(4)
.
(بشروطٍ خمسةٍ):
الأوَّلُ: (أن لا يضرَّه) أي يَضرَّ الأبُ ولدَهُ بما يتملَّكُه منه، فإنْ ضرَّه بأنْ تتعلَّقَ حاجةُ الولدِ به، كآلةِ حِرفتِه ونحوِها، لم يتملَّكْه؛ لأنَّ حاجةَ الإنسانِ مقدَّمةٌ على دَينِه، فلأنْ تُقدَّمَ على أبيه أَوْلى.
(و) الشرطُ الثاني: (أن لا يَكونَ) التملُّكَ - بالرفع - (في مرضِ مَوتِ أحدِهما)
(1)
أخرجه الطبراني (7/ 230)، (6961) من حديث سمرة.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2292) من حديث عمرو بن العاص. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور (2287، 2288)، والترمذي (1358)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور (2290). وأخرجه ابن ماجه (2291) من حديث جابر. وصححه الألباني.
وأنْ لا يُعطِيَه لولَدٍ آخَرَ، وأنْ يَكونَ التَملُّكُ بالقَبضِ مَعَ القَولِ أو النِّيةِ، وأن يكونَ ما يتملَّكهُ عَينًا مَوجُودَةً،
المخوفِ، فلا يصحُّ؛ لانعقادِ سببِ الإرثِ.
وليس للأمِّ ولا للجدِّ التملُّكُ من مالِه، كغَيرِهما مِن الأقارِبِ.
قال الشيخُ تقيُّ الدين: ليس للأبِ الكافرِ أن يتملَّكَ مالَ ولدِه المسلمِ، لاسيَّمَا إذا كان الولَدُ كافرًا ثمَّ أسلمَ. قال في "الإنصاف": وهذا عينُ الصَّوابِ. وقال أيضًا: الأشبَهُ أنَّ الأبَ المسلمَ ليس له أن يأخذَ من مالِ ولدِه الكافرِ شيئًا
(1)
.
(و) الشرطُ الثالثُ: (أن لا يُعطيَه) - ما تملَّكَه الأبُ - (لولدٍ آخرَ)، فلا يتملَّكُ من مالِ ولدِه زيدٍ ليعطيَه لولدِه عمرٍو؛ لأنَّه ممنوعٌ من تخصيصِ بعضِ ولدِه بالعطيَّةِ من مالِ نفسِه، فلأنْ يُمنعَ من تخصيصِه بما أخذَ من مالِ ولدِه الآخرِ أَوْلى
(2)
.
(و) الشرطُ الرابعُ: (أن يكونَ التملُّكُ بالقَبضِ معَ القَولِ) بقولِه: تملَّكتُه، أو نحوه، (أو النيَّةِ) قال في "الفروع": ويتوجَّه: أو قرينةْ؛ لأنَّ القبضَ أعمُّ من أن يكونَ للتملُّكِ أو غيرِه، فاعتُبرَ القولُ أو النيةُ؛ ليتعيَّنَ وَجهُ القَبضِ
(3)
.
وزادَ صاحبُ "الإقناع" شرطًا سادَسًا فقَال: ولا يَصِحُّ تَصرّفُه فيه - أي: في مالِ ولَدِه - قبلَ ذلك، أي: قبلَ القبضِ مع القولِ أو النيةِ، ولو عِتْقًا
(4)
.
(و) الشرطُ الخامسُ: (أنْ يكونَ ما يتملكُه) الأبُ (عينًا موجودةً) فلا يتملَّكُ
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 415)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 431).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 414)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 431).
(3)
"كشاف القناع"(10/ 163).
(4)
انظر "كشاف القناع"(10/ 163).
فلا يَصِحُّ أنْ يتملَّكَ ما فِي ذِمَّتهِ مِنْ دَين ولَدِهِ، ولا أنْ يُبرِئَ نَفسَهُ.
وليسَ لولَدِهِ أن يُطَالِبَه بمَا في ذِمَّتِه من الدَّينِ، بَلْ إذا مَاتَ أخَذَه مِنْ تَرِكَتِهِ، مِنْ رَأسِ المَالِ.
دينَ ابنِه؛ لأنَّه لا يملكُ التصرُّفَ فيه قبلَ قبضِه.
(فلا يصحُّ أن يتملَّك) الأبُ (ما في ذمَّتِه من دينِ ولدِه، ولا) يملكُ (أن يُبرِئَ نفسَه) من دينٍ لولدِه عليه، كإبرائِه لغريمِه وقبضِه منه؛ لأنَّ الولدَ لم يملكْهُ قبلَ قبضِه.
(وليس لولدِه) ولا لورثتِه (أن يُطالبَه بما في ذِمَّتِه من الدَّينِ) من نحوِ قرضٍ، وثمنِ مبيعٍ، أو قيمةِ مُتلَفٍ، كثَوبٍ ونحوِه حَرَقَهُ لوَلَدِه، أو أرشِ جنايةٍ على ولدِه، كقلعِ سنةٍ، وقطعِ طرَفِه. ولا بشيءٍ غيرِ ذلك ممَّا للابنِ عليه، كأجرةِ أرضٍ زرعَها، أو دارٍ سكنَها، ونحوِه؛ لحديثِ:"أنتَ ومالُكَ لأبيكَ"
(1)
. إلا بنفقتِه الواجبةِ على أبيه؛ لفقْرِه وعجزِه عن تكسُّبٍ. قال في "الوجيز": له مطالبتُه بها وحبسُه عليها
(2)
.
(بل إذا ماتَ) الأبُ (أخذَه) أي: الدَّينَ (من تركتِه، من رأسِ المالِ) كسائرِ الديونِ. وإنْ وجدَ الولدُ عينَ مالِه الذي أقرضَه لأبيه، أو باعَه له، ونحوه، كعينِ ما غصبَه منه بعدَ موتِه، فله - أي: الولدِ - أخذُه، أي: ما وجدَه من عينِ مالِه
(3)
.
* * *
(1)
تقدم تخريجه (3/ 49).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 417).
(3)
"كشاف القناع"(10/ 166)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 433).
فَصْلٌ
ويُبَاحُ للإنسَانِ أنْ يَقْسِمَ مالَهُ بينَ وَرَثَتِه في حَالِ حَياتِه، ويُعطِيَ مَنْ حَدَثَ حِصتَهُ وجُوبًا، ويَجِبُ عَليهِ التَّشوِيَةُ بينَهم علَى قَدْرِ إرثِهم.
(فصل)
(ويُباحُ للإنسانِ أن يَقسِمَ مالَه بينَ ورَثَتِه في حَالِ حَيَاتِه) على فرائضِ اللهِ؛ لعدمِ الجَوْرِ فيها (ويُعطيَ مَن حَدَثَ) من وارثٍ (حصَّتَه) ممَّا قَسَمَ (وجوبًا) ليحصلَ التعديلُ الواجبُ.
(ويجبُ عليه) أي: على واهبٍ، ذكرٍ أو أُنثى (التسويةُ بينَهم على قَدرِ إرثِهم) نصًّا؛ لحديثِ جابرٍ قال: قالت امرأةُ بشيرٍ لبشيرٍ
(1)
: أعطِ ابني غلامًا، وأشهدْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ ابنةَ فلانٍ سألتْني أنْ أنحلَ ابنَها غلامي. فقال: "ألَهُ إخوةٌ؟ " قال: نعمْ. قال: "فكلُّهم أعطيتَ مثلَ ما أعطيتَه؟ " قال: لا. قال: "فليس يصحُّ هذا، وإنِّي لا أشهدُ إلا على حقٍّ". رواه أحمدُ، ومسلمٌ، وأبو داودَ
(2)
. ورواه أحمدُ من حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ، وقال فيه:"لا تُشهدنِي في على جَورٍ، إنَّ لبنيكَ عليك من الحقِّ أن تعدِلَ بينهم"
(3)
. وفي لفظٍ لمسلمٍ: "اتقوا اللهَ واعدلوا في أولادِكم"
(4)
، ولأحمدَ، وأبي داودَ،
(1)
سقطت: "لبشير" من الأصل.
(2)
أخرجه أحمدُ (22/ 376)، (14492)، ومسلمٌ (1624)، وأبو داودَ (3545).
(3)
أخرجه أحمد (30/ 321)(18369).
(4)
أخرجه مسلم (1623).
فإن زَوَّجَ أحدَهُم، أو خَصَّصَهُ بلا إذنِ البقيَّةِ، حَرُمَ عَليه، ولَزِمَه أن يُعطيَهُمْ حتَّى يَستَوُوا.
فإن ماتَ قَبلَ التَّسويَةِ بينَهم، ولَيسَ التَّخصِيصُ بمَرضِ مَوتِه المَخُوفِ، ثَبَتَ للآخِذِ،
والنسائيِّ: "اعدِلوا بين أبنائِكم، اعدِلوا بين أبنائكم، اعدِلوا بين أبنائِكم"
(1)
.
فأمرَ بالعدلِ بينهم، وسمَّى تخصيصَ بعضِهم جَوْرًا، والجَوْرُ حرامٌ. وقِيسَ على الأولادِ باقي الأقاربِ، بخلافِ الزوجِ والزوجةِ والمَوالي.
ولا يجبُ على المسلمِ التعديلُ بين أولادِه الذِّمِّيين. قالَهُ الشيخُ تقيُّ الدينِ
(2)
.
(فإنْ زوَّجَ أحدَهم) أي: أحدَ أولادِه (أو خصَّصَه بلا إذنِ البقيَّةِ، حَرُمَ عليه، ولزِمَه أن يُعطيَهم حتى يستَوُوا) بمَن خصَّه أو فضَّلَه. نصًّا. ولو في مرضِ موتِه؛ لأنَّه تدارُكٌ للواجبِ. ويجوزُ للأبِ تمليكُه بلا حِيلةٍ. قدَّمَه الحارثيُّ، وتبعَه في "الفروع".
(فإنْ ماتَ) معطٍ (قبلَ التسويةِ) أي: التعديلِ (بينهم، وليس التخصيصُ بمرضِ موتِه) أي: المعطي، (المخوفِ، ثبتَ للآخِذِ) فلا رجوعَ لبقيَّةِ الورَثَةِ عليه. نصًّا؛ لخبرِ الصدِّيقِ
(3)
. وكما لو كان أجنبيًا، أو انفردَ.
(1)
أخرجه أحمد (30/ 393)(18452)، وأبو داودَ (3544)، والنسائيِّ (3687) من حديث النعمان بن بشير. وصححه الألباني.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 406)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 434).
(3)
يشير إلى قول أبي بكر الصديق لعائشة رضي الله عنهما لما حضرته الوفاة: يا بنية، إني كنت نحلتُك جذاذ عشرين وسَقًا، ولو كنتِ جذذتيه وحُزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مالُ الوارث، فاقتسموه على كتاب الله. أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 752).
وإن كانَ بمَرضِ مَوتِه، لم يَثبُت له شَيءٌ زائِدٌ عَنهُم إلَّا بإجازَتِهم، ما لَمْ يكُن وقفًا، فيصِحّ بالثُّلُثِ، كالأجنَبيِّ.
فإن كانت بمرضِه المخوفِ، توقَّفتْ على إجازةِ الباقي، وأشارَ إليها بقولِه:(وإن كانَ بمرضِ موتِه، لم يثبتْ له شيءٌ زائدٌ عنهم إلا بإجازتهم) أي: إجازةِ بقيَّةِ الورثةِ، فحكمُها كالوصيَّةِ (ما لم يكنْ وقفًا، فيصحُّ بالثُّلُثِ) في مرضِ موتِه المخوفِ على بعضِ الورثةِ. قال أحمدُ في روايةِ جماعةٍ منهم الميمونيُّ: يجوزُ للرجلِ أن يقفَ في مرضِه على ورثتِه. فقيل له: أليسَ تذهبُ أنَّه: لا وصيةَ لوارثٍ؟ فقال: نعمْ، والوقفُ غيرُ الوصيةِ؛ لأنَّه لا يباعُ، ولا يورثُ، ولا يصيرُ مِلكًا للورثةِ.
ومرادُ الإمامِ بكونِه لا يصيرُ مِلكًا: يعني: طَلْقًا، وذلك لما تقدَّمَ من أنَّ الوقفَ مِلكٌ للموقوفِ عليه المعيَّنِ.
(كالأجنبيِّ
(1)
): فلا يصحُّ وقفُ مريضٍ مرضَ الموتِ المخوفِ على أجنبيٍّ بزيادةٍ على الثلثِ، أو على وارثٍ بزيادةٍ على الثلثِ
(2)
.
* * *
(1)
في الأصل: "كأجنبيٍّ".
(2)
"كشاف القناع"(10/ 149)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 436).
فَصْلٌ
والمَرَضُ غَيرُ المَخوفِ - كالصُّدَاعِ، ووَجَعِ الضِّرسِ- تبرُّعُ صَاحِبِه نافِذٌ في جَميعِ مَالِه، كَتَبرُّع الصَّحيحِ، حتَّى ولو صَارَ مخُوفًا ومَاتَ منه بَعدَ ذلِكَ.
والمَرضُ المَخُوفُ، كالبِرسَامِ، وذَاتِ الجَنْبِ، والرُّعَافِ الدَّائِمِ، والقِيَامِ المُتدَارِكِ،
(فصلٌ)
(والمرضُ غيرُ المخوفِ - كالصُّدَاعِ) أي: وجَعِ الرَّأسِ (و) كـ (وجعِ الضِّرسِ- تبرُّعُ صاحبِه) أي: صاحبِ المرضِ غيرِ المخوفِ (نافذٌ) أي: صحيحٌ (في جميعِ مالِه، كتبرُّعِ الصحيحِ) لأنَّه في حكمِ الصحةِ؛ لكونِه لا يُخَافُ منه في العادةِ، (حتى ولو صارَ) المرضُ (مخوفًا وماتَ منه بعدَ ذلك) كعطيَّةِ صحيحِ، تصحُّ من جميعِ مالِه.
(والمرضُ المخوفُ: كالبِرسَامِ) بكسرِ الموحدةِ، وهو: بُخَارٌ يَرتَقِي إلى الرأسِ، يؤثرُ في الدِّماغِ، فيختلُّ به العقلُ. وقال عياضٌ: هو ورمٌ في الدِّماغِ يتغيرُ منه عقلُ
(1)
الإنسانِ ويَهذي. (وذاتِ الجنب): قرْحٌ بباطنِ الجنبِ. (والرُّعافِ الدَّائمِ) لأنَّه يُصفِّي الدَّمَ، فتذهبَ القوَّةُ. (والقيامِ المتدارِكِ) أي: الإسهالِ الذي لا يَستَمسِكُ، وإنْ كانَ ساعَةً؛ لأنَّ مَن لحِقَه ذلك، أسرعَ في هلاكِه. وكذا إسهالٌ معه دمٌ؛ لأنَّه يُضعفُ القوَّةَ.
(1)
في الأصل "العقل".
وكَذلِكَ مَنْ بَيْنَ الصَّفَينِ وقْتَ الحَربِ، أو كَانَ باللُّجَّةِ وقتَ الهَيَجَانِ، أو وَقَعَ الطَّاعُونُ ببَلَدِهِ، أو قُدِّمَ للقَتلِ، أو حُبِسَ لَهُ، أو جُرِحَ جُرحًا مُوحِيًا.
فكُلُّ مَنْ أصَابَه شَيءٌ من ذَلِكَ، ثُمَّ تبرَّعَ ومَاتَ، نَفَذَ تبرُّعُهُ بالثُّلُثِ فقَط، للأجنَبيِّ فقَط. وإن لَمْ يَمُت، فالكصَّحِيحِ.
(وكذلك مَن بينَ الصَّفينِ وقتَ الحَربِ) أي: اختلاطِ الطائفتينِ للقتالِ، وكلُّ من الطائفتينِ مُكافِئٌ للأُخرَى، أو كان مُعطٍ مِن الطائفةِ المقهورةِ
(1)
.
(أو كان باللُّجَّةِ) بضمِّ اللامِ، أي: لجَّةِ البحرِ (وقتَ الهَيجَانِ) أي: عندَ ثوَرَانِ البحرِ بريحٍ عاصِفٍ.
(أو وقعَ الطاعونُ ببلَدِه) قال في "شرح مسلم": الطاعونُ: وباءٌ معروفٌ، وهو بثرٌ وورَمٌ مُؤلمٌ جدًّا، يخرجُ من لَهَبٍ، ويَسوَدُّ ما حولَه، ويخضرُّ، ويَحمَرُّ حُمرَةً بِنَفسَجيَّةً، ويحصُلُ معه خَفَقَانُ القلبِ "لأنَّه مخوفٌ إذا كان به
(2)
.
(أو قُدِّمَ للقَتلِ) قِصاصًا أو غيره؛ لظهورِ التَّلَفِ وقُرْبه (أو حُبِسَ له) أي: القتلِ.
(أو جُرِحَ جرحًا موحِيًا) مع ثباتِ عقله، فكَمَرضٍ مخوفٍ. فإن لم يثبتْ عقلُه، فلا حُكمَ لعطيَّتِه، بل ولا لكلامِه
(3)
.
(فكلُّ مَن أصابَه شيءٌ من ذلك) أي: ممَّا تقدَّمَ من المرضِ المخوفِ وغيرِه (ثمَّ تبرَّعَ وماتَ، نفذَ تبرُّعُه
(4)
بالثلثِ) فما دونَه (فقطْ، للأجنبيِّ فقطْ) ويَقِفُ على الإجازةِ فيما زادَ عليه، ولوارثٍ بشيءٍ.
(وإنْ لم يمتْ، فكالصَّحيحِ) من نفوذِ عطاياه كلِّها؛ لعدمِ المانعِ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 421)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 438).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 172، 173)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 438).
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 421)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 439).
(4)
في الأصل: "تبره".
كِتابُ الوَصيَّةِ
تَصِحُّ الوَصيَّةُ مِنْ كُلِّ عَاقِلٍ لَمْ يُعَايِنِ المَوتَ، وَلو مُمَيِّزًا، أو سَفِيهًا.
فَتُسَنُّ بخُمُسِ ....
(كتابُ الوصيَّةِ)
مِن وَصَيْتُ الشيءَ: إذا وصَلْتَهُ؛ لأنَّ الميِّتَ وَصَلَ ما كان فيه من أمرِ حياتِه بما بعدَه من أمرِ مماتِه.
(تصحُّ الوصيةُ من كلِّ
(1)
عاقلٍ) للوصيَّةِ؛ لأنَّها تصرّفٌ تمحَّضَ نفعًا له، فصحَّ، كالإسلامِ، والصَّلاةِ.
وأركانُها أربعةٌ: موصٍ وصيغةٌ، وموصَى به، وموصَى له.
وقدْ أشارَ إلى الأوَّلِ بقولِه: من عاقلٍ (لم يعاينِ الموتَ) فإنْ عاينَه، لم تصحَّ؛ لأنَّه لا قولَ له، والوصيةُ قولٌ. قال في "الفروع": ولنا خلافٌ: هل تقبلُ التوبةُ ما لم يعاينِ المَلَكَ، أو ما دامَ مكلَّفًا، أو ما لم يُغَرْغرْ؟.
قال في "تصحيح الفروع": والأقوالُ الثلاثةُ متقاربةٌ. والصَّوابُ: تقبلُ ما دامَ عقلُه ثابتًا
(2)
.
(ولو مُميِّزًا) يَعقِلُها (أو سَفيهًا) فتصحُّ؛ لتمحُّضِها نفعًا له بلا ضررٍ.
(فتسنُّ) الوصيةُ (بخُمُس) أي: من مالهِ. روي عن أبي بكرٍ، وعليٍّ
(3)
. قال
(1)
سقطت: "كل" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 440).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور (334) عن الضحاك: أن أبا بكر وعليًّا أوصيا بالخمس من أموالهما لمن لا يرث من ذوي قرابتهما.
مَنْ تَرَكَ خَيرًا، وهُوَ المَالُ الكَثيرُ عُرفًا.
وتُكرَهُ لفَقيرٍ لَهُ ورَثَةٌ. وتُباحُ له إن كَانُوا أغنياءَ. وتَجِبُ على مَنْ عَليهِ حَقٌّ بلا بيِّنَةٍ. وتَحرُمُ على مَنْ له وَارِثٌ بزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ، ولِوارِثٍ بشَيءٍ، وتَصِحُّ
أبو بكرٍ: وصَّيتُ بما رضيَ اللهُ تعالى به لنفسِه
(1)
. يعني في قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفَال:41].
(مَن تركَ خيرًا، وهو) أي: الخيرُ: (المالُ الكثيرُ عُرْفًا) ولا يتقدَّرُ بشيءٍ.
(وتكره) وصيةٌ (لفقيرٍ) أي: منه، إن كان (له ورثةٌ) محتاجونَ، كما في "المغني"؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام:"إنْ تتركْ ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تدعَهم عالةً"
(2)
.
(وتُباحُ له) الوصيَّةُ (إنْ كانوا) أي: الورثَةُ (أغنياءَ) قاله في "الإنصاف".
(وتجبُ على مَن عليه حقُّ بلا بيِّنةٍ) ذِكْرُ الحقِّ، سواءٌ كان للهِ، أو لآدميٍّ؛ لئلا يضيعَ.
(وتحرُمُ) الوصيةُ (على مَن له وارثٌ بزائدٍ على الثلثِ) لأجنبيٍّ، (ولوارثٍ بشيءٍ) مطلقًا. نصًّا؛ لقولِه عليه السلام:"إنَّ اللهَ قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارثٍ". رواه الخمسةُ إلا النسائيُّ
(3)
.
(وتصحُّ) هذه الوصيةُ المحرَّمةُ ....
(1)
أخرجه عبد الرزاق (16363)، والبيهقي (27016).
(2)
تقدم تخريجه (3/ 15). وانظر "كشاف القناع"(10/ 208)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 443).
(3)
أخرجه أحمد 36/ 628 (22294)، وأبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713) من حديث ألي أمامة الباهلي. وصححه الألباني في "الإرواء"(1635، 1655).
وتَقِفُ على إجَازَةِ الوَرَثَةِ.
والاعتبارُ بكَونِ مَنْ وُصِّيَ أو وُهِبَ له وارِثًا أو لا: عِندَ المَوتِ، وبالإجَازَةِ أو الرَّدِّ: بعدَه.
فإن امتَنَعَ المُوصَى له -بعدَ مَوتِ المُوصِي- مِنَ القَبولِ ومِنَ الردِّ،
(وتقفُ على إجازةِ الورثةِ)، لحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا:"لا تجوزُ وصيةٌ لوارثٍ، إلا أنْ يشاءَ الورثةُ"
(1)
.
(والاعتبارُ بكونِ مَن وُصِّيَ) له (أو وُهِبَ له) هبةٌ
(2)
، من مريضٍ (وارثًا أو لا: عندَ الموتِ) أي: موتِ موصٍ وواهبٍ.
فمن وصَّى لأحدِ إخوتِه، أو وهبَه في مرضِه، فحدثَ له ولدٌ، صحَّتا إن خرَجَتا من الثلثٍ؛ لأنَّه عندَ الموتِ ليس بوارثٍ.
وإنْ وصَّى أو وهبَ مريضٌ أخاه، وله ابنٌ، فماتَ قبلَه، وقَفَتا على إجازةِ باقي الورثةِ.
(و) الاعتبارُ (بالإجازةِ) في
(3)
وصيةٍ، أو عطيةٍ، (أو الردِّ) لأحدِهما:(بعدَه) أي: الموتِ، وما قبلَ ذلك من ردٍّ، أو إجازةٍ، لا عبرةَ به؛ لأنَّ الموتَ هو وقتُ لزومِ الوصيةِ، والعطيةُ في معناها
(4)
.
(فإنْ امتنعَ المُوصَى له -بعدَ موتِ الموصى- من القبولِ، ومن الردِّ)
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 98). وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6198).
(2)
في الأصل: "رغبةً).
(3)
سقطت "في" من الأصل.
(4)
"دقائق أولي النهى"(4/ 449)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 444).
حُكِمَ عليه بالرَّدِّ، وسَقَطَ حقُّه.
وإن قَبِلَ ثمَّ رَدَّ، لَزِمَت ولم يصِحَّ الرَّدُّ.
وتَدخُلُ في مِلكِه مِنْ حِينِ قَبولِه، فَما حَدَثَ مِنْ نَماءٍ مُنفَصِلٍ قَبلَ ذَلِكَ، فلِلوَرَثَةِ.
وتَبطُلُ الوصيَّةُ بخَمسَةِ أشياءَ:
برجُوعِ المُوصِي بقَولٍ ....
للوصيةِ، (حُكِمَ عليه بالردِّ، وسقطَ حقُّه) من الوصيةِ؛ لعدمِ قبولِه.
(وإنْ قَبِلَ) الوصيةَ، (ثمَّ ردَّ) الوصيةَ (لزِمتْ) ولو قبلَ القبضِ (ولم يصحَّ الردُّ).
(وتدخلُ في مِلكِه من حينِ قبولِه) لأنَّ مِلكَه قد استقرَّ عليها بالقبولِ (فما حدثَ) من عينٍ مُوصًى بها بعدَ موتِ موصٍ، وقبلَ قبولِ موصًى له بها (من نماءٍ منفصلٍ) ككَسبٍ
(1)
، وثمرةٍ، وولدٍ (قبلَ ذلك) أي: قبلَ القبولِ (فللورثةِ) أي: ورثةِ موصٍ؛ لملكِهم العينَ حينئذٍ. ويتبعُ العينَ الموصَى بها نماءٌ متَّصلٌ، كسِمَنٍ، وتعلُّمِ صنعةٍ.
(وتبطلُ الوصيةُ بخمسةِ أشياءَ):
الأوَّلُ: (برجوعِ المُوصِي) في وصيتِه (بقولٍ) كـ: رجعتُ في وصيتي، أو: أبطلتُها، كـ: رَدَدتها، أو فسختها. أو قال موصٍ في موصًى به: هذا لورثتي، أو: في ميراثي. أو قال: ما وصيتُ به لزيدٍ فلعمرٍو. فهو رجوعٌ عن الوصيةِ الأولى، لمنافاتِه لها.
وإن وصَّى بشيءٍ لإنسانٍ، ثمَّ وصَّى به لآخرَ، ولم يقلْ: ما وصيت به لزيدٍ،
(1)
في الأصل: "كالكَسبِ".
أو فِعلٍ يَدلُّ عَليه، وبمَوتِ المُوصَى لَه قَبلَ المُوصِي، وبقَتلِه للمُوصِي، وبردِّهِ للوصيَّةِ، وبتَلَفِ العَينِ المُعيَّنةِ المُوصَى بِهَا.
فلعمرٍو، فالموصى به بينَهُما
(1)
.
(أو فعلٍ) بأن أزالَ اسمَه، فطَحَنَ الحنطَةَ، أو خبزَ الدَّقيقَ الموصَى به، أو جعَلَ الخبزَ فَتيتًا، أو نسجَ الغَزلَ، أو عمِلَ الثوبَ قميصًا، أو ضربَ النُّقرَةَ دَرَاهِمَ، أو ذبحَ الشاةَ، أو بنىَ الحَجَرَ أو الآجُرَّ الموصَى به، أو غرَسَ نَوًى مُوصًى، فصارَ شجرًا، أو نجَرَ الخشَبةَ بابًا، أو كُرسيًّا، أو دُولابًا، أو أعادَ دارًا انهدَمتْ، أو جَعلَها حمَّامًا، أو نحوَه، فرجُوعٌ
(2)
. (يدلُّ عليه) أي: ذلكَ الفعلُ، أو القولُ.
(و) الثاني: (بموتِ الموصَى له قبلَ الموصِي)؛ لأنَّها عطيةٌ صادفتِ المعطَى له ميتًا، فلم تصحَّ، كهبتِه ميتًا
(3)
.
(و) الثالثُ: (بقتِله) أي: قتلِ الموصَى له (للموصي).
(و) الرابعُ: (بردِّه للوصيةِ) فتبطلُ بذلك.
(و) الخامسُ: (بتلفِ العينِ المعيَّنةِ الموصَى بها) بأنِ انهدمتِ الدارُ، أو ماتَ العبدُ الموصَى به قبلَ موتِ موصٍ، أو بعدَه قبلَ قبولِها؛ لأنَّ حقَّ موصًى له لم يتعلَّقْ بغيرِ العينِ، فإذا ذهبتْ زالَ حقّه، بخلافِ إتلافِ وارثٍ، أو غيرِه له؛ لأنَّه
(4)
إذا قَبِلَه موصًى له، فإنَّ على مُتلفِه ضمانُه له
(5)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 446).
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 456)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 446).
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 453)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 446).
(4)
سقطت: "لأنَّه" من الأصل.
(5)
"دقائق أولي النهى"(4/ 493)، وانظر "فتح وهاب الآرب"(2/ 447).
بَابُ المُوصَى لَهُ
تصِحُّ الوصيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ تَمليكُه، ولو مُرتَدًّا، أو حَربيًّا، أو لا يملِكُ، كحَملٍ،
…
(بابُ الموصَى له)
وهو الثالثُ من أركانِ الوصيةِ.
(تصحُّ الوصيةُ لكلِّ مَن يصحُّ تمليكُه) من مسلمٍ معيَّنٍ كزيدٍ، أوْ لا كالفقراءِ، وكافرٍ معيَّنٍ.
(ولو مرتدَّا، أو حَربيًّا) فلا تصحّ لعامَّةِ النصارى، ونحوِهم، لكنْ لو وصَّى لكافرٍ بعبدٍ مسلمٍ، أو مصحفٍ، أو سلاحٍ، أو حدِّ قذفٍ، لم يصحَّ
(1)
.
(أو لا يملكُ، كحملٍ) لأنَّه يرِثُ، وهي في معنى الإرثِ من جهةِ الانتقالِ عن الميِّتِ مجَّانًا، إن كان موجودًا حالَ الوصيةِ؛ لأنها تمليكٌ، فلا تصحُّ لمعدوم؛ بأن تضعه حيًّا لأقلَّ من ستَّةٍ أشهُر مِن حِينِ الوصيةِ؛ لأنَّ أقلَّ مدَّةِ الحملِ ستَّةُ أشهرٍ، كما يأتي، فإذا وضَعَتْه لأقلَّ منها، وعاشَ، لزِمَ أن يكونَ موجودًا حينَها، فراشًا كانت لزوجٍ أو سيِّدٍ، أو بائنًا، أو تضعَه لأقلَّ من أربعِ سنينَ إن لم تكنْ فراشًا، أو كانتْ فراشًا لزوجٍ أو سيِّدٍ إلا أنَّه لا يطؤُها؛ لكونِه غائبًا في بلدٍ بعيدٍ، أو مريضًا مرضًا يمنعُ الوطءَ، أو كانَ أسيرًا، أو محبوسًا، أو عَلِمَ الورثةُ أنَّه لم يطأْها، أو أقرُّوا بذلك؛ للحاقِه بأبيه. فإنْ وضعتْه لأكثرَ من أربعِ سنينَ، لم يستحقَّ؛ لاستحالةِ الوجودِ حينَ الوصيةِ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 460)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 448).
وَبهيمَةٍ، ويُصرَفُ في عَلَفِها.
وتصِحُّ للمسَاجِدِ، ....
"تنبيهٌ": قولُه: "أو أقرُّوا" صوابَه: "وأقرُّوا" لأنَّ علمَهم مع عدمِ إقرارِهم به لا وصولَ إلى الاطلاعِ عليه.
ويثبتُ الملكُ
(1)
من حينِ قبولِ الوليِّ الوصيةَ
(2)
بعدَ موتِ الموصى. وإنِ انفصلَ ميتًا، بطلتِ الوصيةُ، واللهُ أعلمُ. قالَهُ في "شرح الإقناع"
(3)
.
(و) تصحُّ الوصيةُ لـ (بهيمةٍ، ويُصرَفُ في عَلَفِها) قال في "المنتهى" و "شرحه"
(4)
: وتصحُّ الوصيةُ لفرَسٍ حبيسٍ يُنفقُ عليه؛ لأنَّه من أنواعِ البرِّ، فإنْ ماتَ الفرسُ الموصَى له قبلَ صرفِ موصًى به، أو بعضِه، رُدَّ موصًى به، أو باقيه للورَثةِ، ولا يصرفُ في فرسٍ حبيسٍ آخرَ. نصًّا.
(وتصحُّ) الوصيةُ (للمساجدِ) وتُصرفُ في مصالحِهم؛ لأنَّه العُرْفُ. ويبدأُ الناظرُ بالأهمِّ والأصلحِ باجتهادٍ.
فإنْ قال: إنْ متُّ، فبيتي للمسجدِ، أو: فأعطوِه مائةً من مالي. فقال في "الفروع": يتوجَّهُ صِحَّتُه.
فلو أرادَ بها تمليكَ المسجدِ، لم يصحَّ، كما صرَّحَ بعدمِ الصحةِ بذلك في "المبدع"، وكذا حكمُ الرِّباطِ، والمدرسةِ في ذلك. ولعلَّ مثلَ ذلك: الكعبةُ،
(1)
أي: للحمل.
(2)
أي: الوصية للحمل.
(3)
"كشاف القناع"(10/ 241، 242)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 449).
(4)
"دقائق أولي النهى"(4/ 466).
والقَنَاطِرِ ونَحوِهَا، وللَّهِ ولِرَسُولِه، وتُصرَفُ في المَصالِحِ العَامَّةِ.
وإن أوصى بإحرَاقِ ثُلُثِ مالِه، صَحَّ، وصُرِفَ في تَجمِيرِ الكَعْبَةِ، وتَنويرِ المسَاجِدِ. و: بِدَفنِهِ في التُّرابِ، صُرِفَ في تَكفِينِ المَوتَى. و: برَميهِ في المَاءِ، صُرِفَ في عَمَلِ سُفُنٍ للجِهَادِ.
ولا تَصِحُّ لكَنيسَةٍ، أو بَيتِ نَارٍ، أو كُتُبِ التَّورَاةِ والإنجِيلِ، أو مَلَكٍ، أو مَيِّتٍ، ....
والضريحُ النبويُّ
(1)
، (و القناطر) ويُصرفُ في عمارتِهم. (و نحوِها)، كسِقَايَةٍ.
(و) تصحَّ الوصيةُ (لله ولرسولِه
(2)
، وتُصرفُ في المصالحِ العامةِ) كالفيء.
(وإنْ أوصى
(3)
بإحراقِ ثُلُثِ مالِه، صحَّ، وصُرِفَ في تجميرِ الكعبةِ) أي: تَبخيرِها
(4)
(و) في (تنويرِ المساجدِ).
(و) مَن وصَّى بثلثِ مالِه (بدفنِه في الترابِ، صُرِفَ في تكفينِ الموتى).
(و) مَن وصَّى بثلثِه (برميِه في الماءِ، صُرِفَ في عملِ سُفُنٍ للجهادِ) تصحيحًا لكلامِه حسَبَ الإمكانِ.
(ولا تصحُّ) الوصيةُ (لكنيسةٍ، أو بيتِ نارٍ) أو مكانٍ من أماكِنِ الكفرِ (أو كتُبِ التوراةِ والإنجيلِ) فلا تصحُّ الوصيةُ له؛ لأنَّهما منسوخانِ، وفيهما تبديلٌ، والاشتغالُ بهما غيرُ جائزٍ.
(أو ملَكٍ) بفتح اللام: أحدِ الملائكةِ، (أو ميِّتٍ) فلا تصحُّ الوصيةُ لهما؛
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 466)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 449).
(2)
في الأصل: "ورسولِه".
(3)
في الأصل: "وصَّى".
(4)
في الأصل: "تجمير أي تبخيرها الكعبة".
أو جِنِّيٍّ، ولا لِمُبَهمٍ، كأحَدِ هَذَين.
فلو أوصَى بثُلُثِ مالِه لِمَن تَصِحُّ له الوَصيَّةُ، ولِمَن لا تَصِحُّ، كانَ الكُلُّ لِمَن تَصِحُّ له، لكن لو أوصَى لحَيٍّ ومَيِّتٍ، كانَ للحَيِّ النِّصفُ فَقَط.
لأنَّهما لا يَملِكانِ، أشبَه ما لو وصَّى لحَجرٍ (أو جنيٍّ)، كالهبةِ لهم؛ لعدمِ صحةِ تمليكِهم
(1)
.
(ولا) تصحُّ (لمبهمٍ، كأحدِ هذينِ) بأنْ قال: وصيتُ بثلثي لأحدِ هذينِ، أو قال: وصيتُ به لجاري فلانٍ، أو قريبي فلانٍ، باسمٍ مشتَرَكٍ معه يصحُّ.
(فلو أوصَى بثلثِ مالِه لمَن تصحُّ له الوصيةُ، ولمَن لا تصحُّ، كان الكلُّ لمَن تصحُّ له، لكنْ لو أوصَى لحيٍّ وميِّتٍ، كان للحيِّ النصفُ فقطْ) من الموصَى به؛ لأنَّه أضافَ الوصيةَ إليهما، فإذا لم يكنْ أحدُهما أهلًا للتمليكِ، بطلتِ الوصيةُ في نصيبِه دونَ نصيبِ الحيِّ؛ لخلوِّه عن المعارضِ، كما لو كانت لحيَّينِ، فماتَ أحدُهما.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 472)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 451).
فَصْلٌ
وإذا أوصَى لأهلِ سِكَّتِهِ، فلأَهلِ زُقَاقِه حَالَ الوَصيَّةِ. ولِجِيرَانِه، تنَاوَلَ أربعينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
والصَّغيرُ، والصَّبي، والغُلامُ، واليافِعُ، واليَتيمُ: مَنْ لم يبلُغ
…
(فصل)
(وإذا أوصَى لأهلِ سِكَّتِه) بكسرِ السينِ (فـ) الموصَىْ به (لأهلِ زُقَاقِه) أي: الموصى -بضمِّ الزايِّ- وهو دَربُه. سُمِّيَ سِكَّةً؛ لاصطِفَافِ البيوتِ به. وكانت الدروبُ بمدينةِ السَّلامِ تسمَّى سِكَكًا. فيستحقُّ مَن كان ساكنًا به (حالَ الوصيةِ) نصًّا؛ لأنَّه قدْ يلحظُ سكَّانَها الموجودين؛ لحصرِهم.
(و) إنْ وصَّى (لجيرانِه، تناولَ أربعين دارًا من كلِّ جانب) نصًّا؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "الجارُ أربعونَ دارًا، هكذا، وهكذا، وهكذا"
(1)
.
وجارُ المسجدِ: مَن سمِعَ أذانَه؛ لقولِ علي في حديثِ: "لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ"
(2)
. قال: مَن سمِعَ النداءَ. ولا يدخلُ فيهم مَن وُجِدَ بين الوصيةِ والموتِ، كمَن وُجِدَ بعدَ الموتِ.
(والصغيرُ، والصبيُّ، والغلامُ، واليافعُ، واليتيمُ: مْن لمْ يبلغْ) فتطلقُ هذه الأسماءُ على الولدِ مِن ولادتِه إلى بُلُوغِه، بخلافِ الطفلِ، فإلى التمييزِ. قال الجوهريُّ: الصبيُّ: الغلامُ.
(1)
أخرجه أبو يعلى (5982). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1659).
(2)
أخرجه الدارقطني (1/ 419) من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني في "الإرواء"(491).
والمُميِّزُ: مَن بَلَغَ سَبعًا. والطِّفل: مَنْ دَونَ سَبعٍ. والمُراهِقُ: من قَارَبَ البُلوغَ.
والشَّابُ، والفَتَى: مِنَ البُلوغِ إلى ثَلاثِينَ. والكَهْلُ: مِنَ الثَّلاثِيَن إلى الخَمسين. والشَّيخُ: مِنَ الخَمسينَ إلى السَّبعينَ. ثمَّ بعدَ ذلِكَ هَرِمٌ.
والأيِّمُ، والعَازِبُ: مَنْ لا زَوجَ لهُ مِنْ رَجُلٍ وامرَأةٍ. والبِكرُ: مَن لم يتزوَّج.
ورَجُلٌ ثيِّبٌ، وامرأةٌ ثيِّبَةٌ: إذا كانَا قَدْ تزوَّجَا ....
(والمميِّزُ: مَن بلغَ سبعًا. والطفلُ: مَن دونَ سبعٍ) قال في "البدر المنير": الطفلُ: الولدُ الصغيرُ من الإنسانِ والدوابِّ. قال بعضُهم: ويبقى هذا الاسمُ للولدِ حتى يميِّز، ثمَّ لا يقالُ له بعدَ ذلك: طفلٌ، بل صبيُّ، وحَزَوَّرٌ، ويافعٌ، ومراهقٌ وبالغٌ
(1)
.
(والمُراهِقُ: مَن قاربَ البلوغَ) قال في "القاموس": راهقَ الغلامُ: قاربَ الحُلمَ.
(والشَّابُ، والفتىَ: من البلوغِ إلى ثلاثين
(2)
) سنةً.
(والكهلُ: من الثَّلاثينَ) سنةً (إلى الخمسين) سنةً.
(والشيخُ: من الخمسين) سنةً (إلى السَّبعينَ) سنةً (ثمَّ بعدَ ذلك: هرِمٌ) إلى آخرِ عمرِه.
(والأيِّمُ، والعازبُ: مَن لا زوجَ له من رجلٍ وامرأةٍ).
(والبِكرُ: من لم يتزوَّجْ. ورجلٌ ثيِّبٌ، وامرأةٌ ثيِّبةٌ: إذا كانا قد تزوَّجَا.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 256).
(2)
في الأصل "الثلاثين".
والثُّيُوبَةُ: زوالُ البَكَارَة، ولو مِنْ غَيرِ زَوجٍ.
والأرَامِلُ: النِّسَاءُ اللاتِي فارَقَهنَّ أزواجُهُنَّ بمَوتٍ أو حَياةٍ.
والرَّهطُ: ما دَونَ العَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ خَاصَّةً.
والثُّيُوبةُ: زوالُ البكارةِ، ولو من غيرِ زوجٍ).
(والأراملُ: النساءُ اللاتي فارقهنَّ أزواجُهنَّ بموتٍ، أو حياةٍ).
(والرَّهطُ: ما دونَ العشَرَةِ من الرجالِ خاصَّةً) قالَه في "القاموس".
بَابُ المُوصَى بِهِ
تَصِحُّ الوصيَّةُ حتَّى بمَا لا يَصِحُّ بَيعُهُ، كالآبِقِ والشَّارِدِ، والطَّيرِ بالهوَاءِ، والحَمْلِ بالبَطْنِ، واللَّبَنِ بالضَّرعِ.
وبالمَعدُومِ، كبِمَا تَحمِلُ أمتُهُ، أو شَجَرَتُه أبدًا، أو مُدَّةً معلُومَةً.
(بابُ الموصى
(1)
به)
وهو المُكمِّلُ لأركانِ الوصيَّةِ الأربعةِ.
(تصحُّ الوصيةُ حتى بما لا يصحُّ بيعُه) لعدمِ القدرةِ على تسليمِه، وللوصيِّ السعيُّ في تحصيلِه، (كالآبقِ، والشاردِ، والطَّيرِ بالهواءِ، والحملِ بالبطنِ، واللَّبنِ بالضرعِ) وسمكٍ في لُجَّةٍ.
قال الحارثيُّ: وعلى التمثيلِ هاهنا بالَّلبنِ في الضَّرعِ مناقشةٌ، فإنَّه يمكنُ التسليمُ بالحلبِ، لكنَّه من نوعِ المجهولِ، أو المعدومِ؛ لتجدُّدِه شيئًا فشيئًا
(2)
.
(و) تصحُّ الوصيةُ (بالمعدومِ، كـ: بما تحملُ أمتُهُ) قال أبو العباس في تعاليقِه القديمةِ: ويظهرُ لي أنَّه لا تصحُّ الوصيةُ بالحملِ؛ نظرًا إلى علَّةِ التفريقِ، إذ ليس التفريقُ مختصًا بالبيع، بل هو عامٌّ في كلِّ تفريقٍ إلا العتقِ وافتداءِ الأسرى
(3)
(أو): تحملُ (شجرتُه أبدًا، أو: مدَّةً معلومةً) كسنةٍ، أو سنتين.
(1)
سقطت: (الموصى) من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(10/ 264).
(3)
"كشاف القناع"(10/ 264)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 457).
فإن حَصَلَ شَيءٌ، فللمُوصَى له، إلا حَمْلَ الأمَةِ، فقيمَتُه يَومَ وَضعِهِ.
وتَصِحُّ بغَيرِ مَالٍ، كَكَلبٍ مُباحِ النَّفعِ، وزَيتٍ مُتنجِّسٍ.
وتَصِحُّ بالمَنَفَعَةِ المُفرَدَةِ، كَخِدمَةِ عَبدٍ، وأُجرَةِ دَارٍ، ونَحوِهِما.
(فإنْ حصلَ شيءٌ) ممَّا وصَّى به من المعدومِ (فللموصَى له) -ولا يلزمُ الوارثَ السقيُ؛ لأنَّه لم يضمن تسليمَها، بخلافِ بائعٍ - (إلا حمْلَ الأمةِ) الموصَى له به، (فـ) ـــيكونُ له (قيمتُه)؛ لئلا يُفرَّقَ بينَ ذوي الرَّحمِ في المِلكِ.
والظاهرُ: أنَّ القيمةَ تُعتبرُ يومَ الولادةِ، إنْ قَبِلَ قَبْلَها، وإلا فوقتَ القبولِ. ولهذا أشارَ المصنِّفُ بقولِه:(يومَ وضعِه) أي: يومَ الولادةِ.
(وتصحُّ) الوصيةُ (بغير مالٍ، ككلبِ مباحِ النفعِ، وزيتٍ مُتنجِّسٍ) فتصحُّ الوصيةُ به لغيرِ مسجدٍ؛ لأنَّ فيه نفعًا مباحًا، وهو الاستصباحُ، بخلافِ المسجدِ، فإنَّه يحرُمُ فيه.
(وتصحُّ) الوصيةُ (بالمنفعةِ المفردةِ) عن الرقبةِ؛ لأنَّه يصحّ تمليكُها بعقدِ المعاوَضَةِ، فصحَّتِ الوصيةُ بها كالأعيانِ (كخدمةِ عبدٍ، وأجرةِ دارِ، ونحوِهما) كثمرةِ بستانٍ، أو ثمرةِ شجرةٍ، سواءٌ أوصَى بذلك مدَّةً معلومةً، أو أَوصَى بجميعِ الثمرةِ والمنفعةِ في الزَّمانِ كلِّه؛ لأنَّ غايتَه جهالةُ القدرِ، وجهالةُ القدرِ لا تقدحُ. ولو قال: وصَّيتُ بمنافعِه، وأطلقَ، أفادَ التأبيدَ أيضًا؛ لوجودِ الإضافةِ المعمَّمةِ. ولو وقَّتَ شهرًا أو سنةً، وأطلقَ، وَجَبَ في أولِ زَمنٍ لظهورِ معنَى الإبهامِ بقولِه: مِنَ السنين
(1)
.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 274)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 458).
وتَصِحُّ بالمُبهَمِ، كثَوبٍ، ويُعطَى ما يقعُ عليهِ الاسْمُ.
فإن اختلَفَ الاسمُ بالعُرفِ والحَقيقَةِ، غُلِّبَتِ الحَقيقَةُ.
فالشَّاةُ، والبَعيرُ، والثَّورُ: اسمٌ للذَّكَرِ والأُنثَى مِنْ صَغيرٍ وَكَبيرٍ.
والحِصَانُ، والجَمَلُ، والحِمَارُ، والبَغْلُ، والعَبدُ: اسمٌ للذَّكَرِ خاصَّةً.
والحِجْرُ، والأتَانُ، والنَّاقَةُ، والبَقَرَةُ: اسمٌ للأُنثَى.
(وتصحُّ) الوصيةُ (بالمبهمِ، كثوبٍ، ويُعطى) الموصَى له (ما يقعُ عليه الاسمُ) أي: اسمُ الثوبِ؛ لأنَّه اليقينُ، سَواءٌ كان منسوجًا من حريرٍ، أو كتَّانٍ، أو قطنٍ، أو صوفٍ، أو شعرٍ، ونحوِه، مصبوغًا أو لا، صغيرًا أو كبيرًا؛ لأنَّ غايتَه أنَّه مجهولٌ، والوصيةُ تصحُّ بالمعدومِ، فبهذا أَوْلى.
(فإنِ اختلفَ الاسمُ) أي: اسمُ الموصَى به (بالعُرْفِ والحقيقةِ) اللُّغويَّةِ، (غُلِّبتِ الحقيقةُ) على العُرْفِ.
(فالشَّاةُ، والبعيرُ) ..
والفَرَسُ، والرَّقيقُ: اسمٌ لهُمَا.
والنَّعجَةُ: اسمٌ للأُنثى مِنَ الضَّأنِ.
والكَبشُ: اسمٌ للذَّكَرِ الكَبيرِ مِنهُ.
والتَّيسُ: اسمٌ للذَّكَرِ الكَبيرِ مِنَ المَعْزِ.
والدَّابَّةُ عُرفًا: اسمٌ للذَّكَرِ والأُنثَى مِنَ الخَيلِ والبِغَالِ والحَمِيرِ.
بَابُ المُوصَى إليه
تَصِحُّ وصيَّةُ المُسلِمِ إلى كُلِّ مُسلِمٍ مُكلَّفٍ رَشِيدٍ عَدْلٍ، ولو ظَاهِرًا، أو أعمَى، أو امرأةً، أو رَقيقًا، لكِنْ لا يَقبَلُ إلَّا بإذنِ سَيِّدِهِ.
وتَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ إلى عَدلٍ في دِينِهِ.
ويُعتَبرُ وجودُ هَذهِ الصِّفَاتِ عندَ الوصيَّةِ والمَوتِ.
وللمُوصَى إليهِ أن يَقبَلَ، وأن يَعزِلَ نفسَه متَى شَاءَ.
وتَصِحُّ الوصيَّةُ معلَّقَةً، كإذا بلغَ، أو حَضَرَ، أو رَشَدَ، أو تَابَ مِن فِسْقِهِ، أو إن ماتَ زيدٌ فعَمرٌو مكانَه.
وتصِحُّ مؤقَّتةً، كزيدٍ وَصيٌّ سَنةً، ثمَّ عَمرٌو.
وليسَ للوَصيِّ أن يُوصِيَ، إلَّا إن جَعَلَ له ذَلِكَ.
ولا نَظَر للحَاكِم معَ الوصيِّ الخَاصِّ إذا كانَ كُفؤًا.
…
(1)
(إذا كان) الوصيُّ (كفُؤًا) في ذلك التصرُّفِ الذي أُسندَ إليه، فقُطعَ نظرُ الحاكمِ، لكنْ له الاعتراضُ عليه إنْ فعلَ ما لا يَسوغُ على ما تقدَّمَ في ناظرِ الوقفِ
(2)
.
(1)
سقط من الأصل شرح ما بين العبارتين وهو بمعدل أربع لوحات ويشمل بقية باب الموصى به، وباب الموصى إليه عدا السطرين الأخيرين منه. وهما ما يأتي.
(2)
"كشاف القناع"(10/ 312)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 464).
فَصْلٌ
ولا تَصِحُّ الوصيَّةُ إلَّا في شيءٍ مَعلُومٍ يَملِكُ المُوصِي فِعلَه، كقَضَاءِ الدَّينِ، وتَفريقِ الوصيَّةِ، ورَدِّ الحُقوقِ إلى أهلِها، والنَّظَرِ في أمرِ غَيرِ مُكلَّفٍ، لا باستيفَاءِ الدَّينِ مَعَ رُشْدِ وارِثِه.
(فصلٌ)
(ولا تصحُّ الوصيةُ إلا في شيءٍ): تصرُّفٍ (مَعلومٍ) ليعلَمَ الوصيُّ ما وُصِّي به إليه؛ ليحفَظَه ويتصرَّفَ فيه (يَملِكُ الموصى
(1)
فعلَه، كقضاءِ الدَّينِ، وتفريقِ الوصيةِ، وردِّ الحقوقِ إلى أهلِها، والنظرِ في أمرِ غيرِ مُكلَّفٍ) رشيدٍ، من طفلٍ، ومجنونٍ، وسفيهٍ.
و (لا) تصحُّ الوصيةُ (باستيفاءِ الدَّينِ مع رُشدِ وارثِه) لأنَّ المالَ انتقلَ عن الميِّتِ إلى ورثتِه الذين لا وِلايةَ له عليهم، فلم تصحَّ الوِصيةُ باستيفائِه، كما لو لم يكونوا وارثين
(2)
.
"تتمَّةٌ": قال الضيخُ تقيُّ الدينِ: ما أنفقَه وصيٌّ متبرِّعٌ بالمعروفِ في ثبوتِ الوصيةِ، فمن مالِ اليتيمِ. انتهى.
وعلى قياسِه: كلُّ ما فيه مصلحةٌ له. ذكرَهُ الشيخُ منصورٌ في "شرحه على "الإقناع"
(3)
.
(1)
في الأصل: "الموصى إليه".
(2)
"كشاف القناع"(10/ 319)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 465).
(3)
"كشاف القناع"(10/ 319).
ومَنْ وُصِّيَ في شَيءٍ، لم يَصِرْ وصيًّا في غَيرِه.
وإنْ صَرَفَ أجنبيٌّ المُوصَى بِهِ لمُعيَّنٍ في جهَتِهِ، لم يَضمَنْهُ.
وإذا قالَ له: ضَعْ ثُلُثَ مالِي حيثُ شِئتَ، أوأعطِهِ، أو تصدَّقَ به عَلَى مَنْ شِئتَ، لم يَجُزْ له أخذُهُ، ولا دَفعُه إلى أقارِبِه الوَارِثينَ، ولا إلى وَرَثَةِ المُوصِي.
ومَنْ مَاتَ ببريَّةٍ ونَحوِهَا،
…
(ومَن وُصِّي في شيءٍ، لم يَصِرْ وصيًّا في غيرِه) لأنَّه استفادَ التصرُّفَ بالإذنِ من جهتِه، فكان مقصورًا على ما أُذنَ فيه، كالوكيلِ. فإنْ وصَّى إليه في تركتِه، وأن يقومَ مقامَه، فهذا وصيٌّ في جميعِ أمورِه، يبيعُ ويشتري إذا كان نظرًا لهم.
(وإنْ صَرَفَ أجنبيٌّ) أي: مَن ليس بوارثٍ، ولا وصيِّ (الموصى به لمعيَّنٍ في جهتِه): الموصَى به فيها، (لم يضمنْه) لمُصَادَقَةِ
(1)
الصَّرفِ مُستَحِقَّه، كما لو دفعَ وديعةً إلى ربِّها بلا إذنِ مودِعٍ.
وظاهرُه: ولو مع غيبةِ الورثةِ.
وظاهرُه أيضًا: أنَّ الموصَى به لغيرِ معيَّنٍ، كالفقراءِ، إذا صرفَه الأجنبيُّ في جهتِه، ضمنَه؛ لأنَّ المدفوعَ إليه لم يتعيَّنْ مستحِقًّا ولا نظرَ للدافعِ في تعيينِه.
(وإذا قال له: ضعْ ثلثَ ما لي حيثُ شئتَ، أو: أعطِهِ) لمَن شئتَ، (أو: تصدَّقْ به على مَن شئتَ، لم يجزْ له أخذُه) لأنَّه مُنَفِّذٌ، كالوكيلِ في تفرقةِ مالٍ، (ولادفعُه إلى أقار بِه) أي: الوصيِّ (الوارثين) له، ولو كانوا فقراءَ. نصًّا. (ولا) دفعُه (إلى ورثةِ الموصِي) نصًّا. لأنَّه قدْ وصَّى بإخراجِه، فلا يُرجَعُ إلى ورَثَتِه.
(ومَن ماتَ ببريَّةٍ) بفتحِ الباءِ، وهي الصحراءُ، (ونحوِها)، كجزائرَ لا عمرانَ
(1)
في الأصل: "المصادفة".
ولا حَاكِمَ، ولا وَصِيَّ، فلِكُلِّ مُسلِمٍ أخذُ تَرِكَتِهِ، وبيغ ما يَراهُ، ويُجَهِّزُهُ مِنها إنْ كانَتْ، وإلَّا جَهَّزَهُ مَنْ عِندَهُ، ولهُ الرُّجوُعُ بمَا غَرِمَه، إن نَوَى الرُّجوعَ.
بها. (ولا حاكمَ) حضرَ موتَه، (ولا وصيَّ) له؛ بأنْ لم يوصِ لأحدٍ، أو لم يَقبَلْ المحوصَى إليه (فلكلِّ مسلمِ) حضرَ (أخذُ تركتِهِ، وبيعُ ما يراه) منها، كسريعِ الفسادِ؛ لأنَّه موضعُ ضرورَةٍ لحفظِ مالِ المسلمِ عليه؛ إذ في تركِه إتلافٌ. نصَّ عليه.
(ويُجهِّزُهُ منها) أي: تركتِه (إنْ كانت) أي: وُجِدتْ (وإلا) يكنْ معه شيءٌ (جهَّزهُ) مَن حضرَه: (مَنْ عِندَه، وله الرجوعُ بما غَرِمَه) على تركتِه حيثُ كانتْ (إنْ نوىَ الرجوعَ) مطلقًا -أي: سواءٌ استأذنَ حاكمًا أو لا، أشهَدَ على نيَّةِ الرجوعِ أو لا- أو استأذنَ حاكمًا في تجهيزِه، فله الرجوعُ على تركتِه، أو على مَن يلزمُه كفنُه؛ لأنَّه لو لم يرجعْ إذن لامتنعَ الناسُ من فعلِه مع حاجةِ الناسِ إليه، ما لم ينوِ التبرُّعَ، فإنْ نواه، فلا رجوعَ له. وكذا لو لم ينوِ تبرُّعًا ولا رجوعًا، فإنَّه لا رجوعَ له على مقتضى قولِه:"إنْ نواه"، وهو قياسُ ما تقدَّمَ فيمَن قامَ عن غيرِه بدينٍ واجبٍ. واللهُ أعلم
(1)
.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 319).
كِتابُ الفرائِضِ
(كِتابُ الفرائِضِ)
جمعُ فريضةٍ، بمعنى: مفروضةً، أي: مُقدَّرَةً، فهي نَصيبٌ مقدَّرٌ شرعًا لمُستَحِقِّه.
وقدْ حَثَّ صلى الله عليه وسلم على تعلُّمِه وتعليمِه فقال: "تعلَّموا الفرائضَ، وعلِّمُوها النَّاسَ
(1)
، فإنِّي امرؤٌ
(2)
مقبوضٌ، وإنَّ العلمَ سيُقبضُ، وتظهرُ الفتنُ، حتى يختَلِفَ اثنانِ في الفريضةِ، فلا يجِدَانِ مَن يفصلُ بينهما". رواه الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، والحاكمُ، ولفظُه له عن ابن مسعودٍ
(3)
. وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "تعلَّموا الفرائضَ، وعلِّموها، فإنَّها نِصفُ العلمِ، وهو يُنسى، وهو أوَّلُ عِلمٍ
(4)
يُنزعُ عن أمتي". رواه ابنُ ماجه، والدارقطنيُّ
(5)
. وعن ابنِ عمرَ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "العلمُ ثلاثةٌ وما سِوى ذلك فضلٌ: آيةٌ محكمةٌ، وسنَّةٌ قائمةٌ، وفريضةٌ عادلةٌ". رواه ابنُ ماجه
(6)
.
وحُكيَ أنَّ الوليدَ بنَ مسلمٍ رأى في منامِه أنَّه دخَلَ بُستانًا، فأكلَ من جميعِ ثمَرِه
(1)
سقطت: "وعلِّمُوها النَّاسَ" من الأصل.
(2)
سقطت: "امرؤٌ" من الأصل.
(3)
أخرجه الترمذي عقب (2091)، والحاكم (4/ 333). ولم أجده عند أحمد. والحديث ضعفه الألباني في "الإرواء"(1664).
(4)
في الأصل: "شيء".
(5)
أخرجه ابنُ ماجه (2719)، والدارقطنيُّ (4/ 67)، وضعفه الألباني.
(6)
أخرجه ابنُ ماجه (54) من حديث عبد الله بن عمرو، لا ابن عمر. وضعفه الألباني.
وهِيَ: العِلمُ بقِسْمَةِ المَوارِيثِ.
وإذا مَاتَ الإنسانُ بُدئَ مِنْ تَرِكَتِه بكَفَنِه، وحَنُوطِهِ، ومَؤُنَةِ تَجهِيزِه مِنْ رأسِ مالِه، سَواءٌ كانَ قَدْ تعلَّق بهِ حَقُّ رَهنٍ، أو أَرْشِ جِنَايَةٍ، أو لَا.
إلَّا العِنبَ الأبيضَ، فقصَّه على شيخِه الأوزاعيِّ؟ فقال: تُصيبُ من العلومِ كلِّها إلا الفرائضَ، فإنَّها جوهرُ العلمِ، كما أنَّ العنبَ الأبيضَ جوهرُ العنبِ.
والأصلُ فيها: الكتابُ والسنةُ. وستقفُ على ذلك مفصَّلًا
(1)
.
(وهي) أي: الفرائضُ (العِلمُ بقِسمَةِ الموارِيثِ): جمعُ ميراثٍ، وهو الحقُّ المخلَّفُ عن الميِّتِ. وأصلُه: مِورَاثٌ. قُلبَت الواوُ ياءً لانكِسارِ ما قبلَها، ويُقالُ له أيضًا: التُّرَاثُ، وأصلُ التاء فيه واوٌ.
والإرثُ لغةً: البقاءُ وانتقالُ الشيءِ من قومٍ إلى قومٍ آخرين، ويُطلقُ بمعنى الميراثُ.
ويُسمَّى القائمُ بهذا العلمِ: فارضًا، وفريضًا، وفرْضيًّا -بفتحِ الراءِ وسكونِها- وفرَّاضًا، وفرائضيًّا.
وموضوعُه: التركاتُ، لا العَدَدُ.
(وإذا ماتَ الإنسانُ بُدئَ من ترِكلتِه بكفَنِه، وحَنُوطِه، ومَؤنَةِ تجهيزِه) بالمعروفِ (من رأسِ مالِه، سواءٌ: كان قد تعلَّقَ به) أي: المالِ (حقُّ رهنٍ، أو أرشِ جِنَايَةٍ، أو لا): أو لم يتعلَّقْ به شيءٌ من ذلك، كحالِ الحياةِ؛ إذ لا يُقضَى دينُه إلا بما فضَلَ عن حاجَتِه.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 469).
وما بَقِيَ بعدَ ذَلِكَ يُقضَى مِنهُ دُيونُ اللَّه، ودُيونُ الآدميِّينَ.
وما بَقِيَ بعدَ ذلِكَ تُنفَّذُ وصَايَاه مِنْ ثلُثِه، ثمَّ يُقسَمُ ما بَقِيَ بعدَ ذَلِكَ على وَرثَتِهِ.
(وما بَقِي بَعدَ ذلِكَ) أي: بعدَ مَؤنَةِ تجهيزِه بالمعروفِ (يُقضىَ منه دُيونُ اللهِ) كزكاةِ المالِ، وصدقةِ الفطرِ، والكفاراتِ، والحجِّ الواجبِ، والنذرِ
(1)
(و) تُقضىَ منه (ديونُ الآدميِّينَ) من قرضٍ، وثمنٍ، وأجرةٍ، وجَعالةٍ استقرَّتْ، ونحوِها. ويُبدأُ منها بالمتعلِّقِ بعينِ المالِ، كدينٍ برهنٍ، وأرشِ جنايةٍ برقبةِ العبدِ الجاني، ونحوِه، ثمَّ الديونُ المرسلة في الذِّمةِ.
(وما بقيَ بعدَ ذلك تُنفَّذُ وصاياه) لأجنبيٍّ (من ثُلثِه) إلا أن تجيزَ الورثةُ. فتُنفَّذُ وإنْ زادتْ على الثلثِ (ثمَّ يُقسمُ ما بقيَ بعدَ ذلك على ورثتِه) لقولِه تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّساء: 12].
(1)
"كشاف القناع"(10/ 330)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 471).
فَصْلٌ
وأسبابُ الإرثِ ثَلاثَةٌ:
النَّسبُ، والنِّكَاحُ الصَّحيحُ، والوَلاءُ.
(فصل)
(وأسبابُ الإرثِ) -جمعُ سَبَبٍ. وهو لغةً: ما يُتوصَّلُ به لغَيرِه، كالسُّلَّمِ لطلوعِ الصَّطحِ. واصطلاحًا: ما يلزمُ من وجودِه الوجودُ، ومن عدمِه العدمُ لذاتِه. أي: انتقالُ التركةِ عن ميِّتٍ إلى حيِّ بموتِه- (ثلائةٌ):
أحدُها: (النسبُ) أي: قرابةٌ، وهي: الاتِّصالُ بين إنسانين بالاشتراكِ في ولادةِ قريبةٍ أو بعيدةٍ، فيرثُ بها؛ لقولِه تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفَال: 75].
(و) الثاني: (النكاحُ) وهو: عقدُ الزوجيَّةِ الصحيحِ، سواءٌ دخلَ أو لا. فلا ميراثَ في النكاحِ الفاسدِ؛ لأنَّ وجودَه كعدمِه.
(و) الثالث: (الوَلاءُ) وهو: العِتْقُ. فمعناه: أنْ يُعتِقَ الإنسانُ عَبدًا، فيموتُ العتيقُ، ولا وراثَ له من النَّسبِ، فيرثُه مُعتِقُه؛ لإنعامِه عليه بعتقِه وعَصَبتِه؛ لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا:"الولاءُ لُحمةٌ كلحُمةِ النسبِ". رواه ابنُ حبانَ في "صحيحه"، والحاكمُ
(1)
وقال: صحيحُ الإسناد
(2)
.
"تتمَّةٌ": يمكنُ اجتماعُ الأسبَابِ الثلاثةِ فيمَن مَلَكَ ابنهَ عمِّه وأعتَقَها، ثمَّ
(1)
أخرجه ابن حبان (4950)، والحاكم (4/ 341). وصححه الألباني في "الإرواء"(1668).
(2)
في الأصل "الإنسان".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تزوَّجَها وماتَتْ، فهو زوجُها، وابنُ عمِّها، ومُعتِقُها.
ولا يُورَثُ بغيرِ هذه الثلاثةِ. نصًّا. فلا إرثَ بالموالاةِ، أي: المؤاخاةِ، والمعاقدةِ أي: المحالفةِ، ولا بإسلامِه على يديه، وكونِهما من أهلِ ديوانٍ -أي: مكتوبين في ديوانٍ واحدٍ- والتقاطِ طفلٍ. واختارَ الشيخُ تقيُّ الدينِ، وصاحبُ "الفائق": بلى
(1)
عندَ عدمِ الرحمِ والنكاحِ والولاءِ.
وقد رُويَ عن الإمامِ أحمدَ رحمه الله: أنَّ الإرثَ يثبُتُ عندَ عدمِ هذه الأسبَابِ الثلاثةِ بأسبابٍ ثلاثةٍ أخرى:
أحدُها: عَقدُ المولاةِ، وهي: المعاقَدَةُ على التوارُثِ؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النِّساء: 33]. وكان التَّوارُثُ بذلك في صدرِ الإسلام، فلمَّا نزلَ قولُه تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفَال: 75]. نُسِخَ على المشهُور. وهذه الرِّوايَةُ تَقتَضي أنَّه لم تُنسَخ جُملَةً، وإنما قُدِّمَ عليه
(2)
أولُوا الأرحَام.
والثاني: إسلامُ الكافرِ على يدِ مُسلمٍ، فيرثُه المسلمُ عندَ عَدَمِ ورَّاثٍ له بشيءٍ من الأسبابِ الثلاثةِ السابقةِ؛ لما روى راشدُ بنُ سعدٍ
(3)
قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من أسلمَ على يديه رجلٌ، فهو مولاه، يَرِثُه، ويَدي عنه". رواه سعيدٌ
(4)
.
(1)
سقطت: "بلى" من الأصل.
(2)
سقطت: "على المشهُور. وهذه الرِّوايَةُ تَقتَضي أنَّه لم تُنسَخ جُملَةً، وإنما قدِّمَ عليه" من الأصل. والمثبت من "فتح وهاب المآرب"(2/ 474).
(3)
في الأصل "سود".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور (201) من حديث راشد بن سعد مرسلًا. وانظر=
وموانِعُه ثَلاثَةٌ:
القَتلُ، والرِّقُّ، واختِلَافُ الدِّينِ.
والمُجمَعُ على تَوريثِهم مِنَ الذُّكُورِ بالاختصَارِ عَشَرَةٌ:
الابنُ، وابنُهُ وإن نَزَلَ، والأبُ، وأبوهُ وإن عَلا، ....
الثالثُ: كونُهما من أهلِ الدِّيوانِ، أي: بكونِهما مكتوبينِ في دَفتَرِ العَطاءِ، وفي قبلةٍ واحدةٍ؛ لدِلالتِه على اجتماعِ نَسَبِهما في أبٍ واحدٍ. ذكرَ ذلك العلَّامةُ محبُّ الدينِ أحمدُ بنُ نصرِ الله البغداديُّ في "شرحه" على فرائضِ "المحرر"
(1)
.
(وموانِعُه) أي: التَّوارُثِ (ثلاثةٌ):
أحدُها: (القتلُ).
(و) الثاني: (الرِّقُّ).
(و) الثالثُ: (اختلافُ الدِّينِ) وتأتي في أبوابِها مفصلةً.
وأركانُه ثلاثةٌ: وارثٌ، وموِّرثٌ، وحقٌ موروثٌ.
وشروطُه ثلاثةٌ: تحقُّقُ حياةِ الوَارِثِ أو إلحاقُه بالأحياءِ، وتحقُّقُ موتِ المورِّثِ أو إلحاقُه بالأمواتِ، والعلمُ بالجهةِ المقتضيةِ للإرثِ. وتعلمُ ممَّا يأتي.
(والمجمعُ على توريثِهم من الذُّكُورِ عَشَرَةٌ):
(الابنُ، وابُنُه، وإنْ نزلَ) بمحضِ الذكورِ؛ لقولِه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّساء: 11] الآية. وابنُ الابنِ ابنٌ؛ لما تقدَّمَ في الوقفِ.
(والأبُ، وأبوهُ وإنْ عَلا) بمَحْضِ الذُّكُورِ؛ لقولِه تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ
= "الصحيحة (2316).
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 474).
والأخُ مُطلَقًا، وابنُ الأخِ لا مِنَ الأمِّ، والعَمُّ، وابنُه كذَلِكَ، والزَّوجُ، والمُعتِقُ.
ومِنَ الإنَاثِ بالاختصَارِ سَبْعٌ:
البنتُ، وبنتُ الابنِ وإن نَزلَ أبوها، والأمُّ، والجدَّةُ مُطلَقًا، والأختُ مُطلَقًا،
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النِّساء: 11] الآية. والجَدُّ أبٌ. وقيل: ثبتَ إرثُه بالسُّنَّةِ؛ لأنَّه عليه السلام أعطاه السُدسَ
(1)
.
(والأخ مطلقًا) أي: سواءٌ كان لأبٍ، أو لأمٍّ، أو لهما؛ لقولِه تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النِّساء: 176]، وقولِه:{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ السُّدُسُ} [النِّساء: 12].
(وابن الأخِ لا) إن كانَ أبوه أخا الميِّتِ (مِنَ الأمِّ) لأنَّه من ذوي الأرحامِ. وابنُ الأخ لأبوينِ أو لأبٍ، عصبةٌ.
(والعمُّ) لا من الأمِّ، (وابنُه كذلك) أي: لا مِن الأمِّ.
(والزَّوجُ، والمُعتِقُ) وعَصبَتُهُ المتعصِّبُون بأنفُسِهم؛ للخبرِ والإجماعِ
(2)
.
(و) المجمعُ على توريثهنَّ (من الإناثِ بالاختصارِ سبعٌ):
(البنتُ، وبنتُ الابنِ وإنْ نزلَ أبوها) بمحضِ الذكورِ.
(والأمُّ، والجدَّةُ مطلقًا) من قِبَلِها، أو من قِبَلِ الأبِ، على تفصيلٍ يأتي.
(والأختُ مطلقًا) أي: سواءٌ كانتْ شقيقةً، أو لأبٍ، أو لأمٍّ.
(1)
أخرجه أحمد (33/ 424)(20310)، وأبو داود (2897) من حديث معقل بن يسار. وصححه الألباني.
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 475).
والزَّوجَةُ، والمُعتِقَةُ.
(والزوجةُ) هي بالتَّاءِ لغةُ سائرِ العربِ، ما عدا أهلِ الحجازِ، واقتصرَ الفقهاءُ والفرضيِّونَ عليها للإيضاحِ وخوفِ اللَّبسِ.
(والمُعْتِقةُ) ومُعتِقَتُها وإنْ علَتْ.
فَصْل
والوُرَّاثُ ثلَاثةٌ:
ذو فَرضٍ، وعَصَبةٍ، ورَحمٍ.
والفُروضُ المقدَّرةُ سِتَّة:
(فصل)
(والورَّاثُ
(1)
ثلاثةُ) أصنافٍ: (ذو فَرضٍ. و) الثاني: (عَصَبَةٌ. و) الثالثُ: ذو (رحِمِ). ولكُلٍّ كلامٌ يخصُّه.
وَإذا اجتمعَ جميعُ الذكورِ، ورِثَ منهم ثلاثةٌ: الابنُ، والأبُ، والزوجُ.
وجميعُ النِّساءِ، ورثَ منهنَّ خمسةٌ: البنتُ، وبنتُ الابنِ، والأمُّ، والزوجةُ، والشقيقةُ.
ومن الصنفينِ، ورثَ: الأبوانِ، والولَدَانِ، وأحدُ الزوجينِ.
(والفروضُ المقدَّرةُ) في كتابِ اللهِ، والثابت بالاجتهادِ، ومستحقِّيها.
والفروضُ: جمعُ فرضٍ، وهو في اللغةِ يُقالُ لمعانٍ منها أصلُها: الحَزُّ والقطعُ. ومنها: التقديرُ.
وفي الاصطلاحِ: النصيبُ المقدَّرُ شرعًا لوارثٍ خاصٍّ، الذي لا يُزادُ إلا بالردِّ، ولا ينقصُ إلا بالعَولِ.
وهي (ستَّة):
(1)
في الأصل: "والوارث".
النِّصفُ، والرُّبُعُ، والثُّمُنُ، والثُّلثَانِ، والثُّلُثُ، والسُّدُسُ.
وأصحَابُ هَذِه الفُروضِ بالاختصَارِ عَشَرَةٌ:
الزوجَان، والأبوَانِ، والجَدُّ، والجَدَّةُ مطلَقًا، والأُختُ مُطلَقًا، والبِنتُ، وبنتُ الابنِ، والأخ مِنَ الأمِّ.
فالنِّصفُ فَرضُ خَمسَةٍ:
فرضُ الزَّوجِ حَيثُ لا فَرعَ وارِثٌ للزَّوجَةِ، وفَرضُ البنتِ، ....
(النصفُ، والرُّبُعُ، والثُّمنُ، والثُّلُثانِ، والثلثُ، والسُّدُسُ). والسابعُ -وهو ثلثُ الباقي- ثبتَ باجتهادِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم.
(وأصحابُ هذه الفروضِ بالاختصارِ عشرةٌ):
(الزوجانِ) على البدليَّةِ.
(والأبوانِ) مجتمعينِ ومُفتَرِقين.
(والجدُّ، والجدَّةُ مطلقًا) أي: لأمِّ، أو لأبٍ.
(والأختُ مطلقًا) أي: من كلِّ جهةٍ.
(والبنتُ، وبنتُ الابنِ) وإنْ نزلَ أبوها.
(والأخُ من الأمِّ).
وإن أردتَ تفصيلَ أحوالِ أصحابِ الفروضِ:
(فالنصفُ فرضُ خمسةٍ):
الأوَّلُ: (فرضُ الزوجِ، حيثُ لا فَرْعَ وارِثٌ للزَّوجة) ذكرًا كان أو أنثى، من ولدٍ أو ولدِ ابنٍ، منه أو من غيرِه.
(و) الثاني: (فرضُ البنتِ) عندَ انفرادِها عن مُعَصِّبِها، وهو أخوها؛ لقولِه
وفَرضُ بنتِ الابنِ معَ عَدَم أولادِ الصُّلبِ، وفَرضُ الأُختِ الشَّقيقَةِ مَعَ عَدَمِ الفَرعِ الوارِثِ، وفَرضُ الأُختِ للأبِ مَعَ عَدَمِ الأشقَّاءِ.
والرُّبُعُ فَرضُ اثنَينِ:
فرضُ الزَّوجِ مَعَ الفَرعِ الوَارِثِ، وفَرضُ الزَّوجَةِ فأكثَرَ مَعَ عَدَمِهِ.
تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النِّساء: 11].
(و) الثالثُ: (فرضُ بنتِ الابنِ) عندَ فقد البنتِ، وفقدِ الابنِ أيضًا، وعندَ انفرادِها عن معصِّبٍ لها من أخٍ، أو ابنِ عمٍّ، إجماعًا؛ قياسًا على بنتِ الصُّلبِ؛ لأنَّ ولدَ الولدِ كالولدِ إرثًا وحجبًا؛ الذكرُ كالذكرِ، والأنثى كالأنثى. ولهذا أشارَ إليه بقولِه:(مع عدمِ أولادِ الصُّلبِ).
(و) الرابعُ: (فرضُ الأختِ الشقيقةِ) أي: الواحدةِ (مع عدمِ الفرعِ الوارثِ) أي: من أولادٍ، وأولادِهم الذكورِ والإناثِ، وعندَ اتفرادِها عن معصِّبٍ لها من أخٍ شقيقٍ، أو جدٍّ، أو أبٍ.
(و) الخامسُ: (فرضُ الأختِ) الواحدةِ (للأب مع عدمِ) الإخوةِ (الأشقاءِ) من ذكرٍ أو أنثى، وعندَ انفرادِها عن معصِّبٍ لها من أَخٍ لأبٍ أو جدٍّ، وعمَّنْ شرطنا فقدَه في الشقيقةِ.
(والرُّبُعُ فرضُ اثنين):
الأول: (فرضُ الزوجِ مع الفرعِ الوارثِ) وهو الابنُ، أو البنتُ، سواءٌ كان منه، أو من غيرِه، أو ولدُ ابنٍ، وإنْ سفلَ أبوه بمحضِ الذكورِ.
(و) الثاني: (فرضُ الزوجةِ فأكثرَ، مع عدمِه) أي: عدمِ الفرعِ الوارثِ، وهم الأولادُ الذكورُ والإناثُ للميِّتِ، من الزوجةِ أو من غيرِها، وأولادُهم الذكورُ
والثُّمُنُ فَرضُ واحِدٍ:
وهو الزَّوجَةُ فأكثَرَ مَعَ الفَرعِ الوَارِثِ
.
والإناثُ؛ لأنَّ أولادَ الابنِ كالأولادِ عند عدمِهم إرثًا وحجبًا بالإجماعِ، الذكرُ كالذكرِ، والأنثى كالأنثى؛ قياسًا على الأولادِ.
(والثمنُ
(1)
: فرضُ واحدٍ):
(وهو الزوجةُ فأكثرَ) إلى أربعٍ، (مع الفرعِ الوارثِ) وهم البنينَ، الواحدُ فأكثرَ، والبناتُ؛ الواحدةُ
(2)
فأكثرَ، أو مع أولادِ البنينَ، الذكورُ والإناثُ؛ الواحدُ أو الواحدةُ فأكثرَ؛ قياسًا على الأولادِ.
(1)
في الأصل: والثالث.
(2)
في الأصل: "الواحد".
فَصْل
والثُّلُثَانِ فَرضُ أربَعَةٍ:
فَرضُ البنتَينِ فأكثَرَ، وبنتَي الابنِ فأكثَرَ، والأُختَينِ الشَّقيقَتَينِ فأكثَرَ، والأُختَينِ للأبِ فأكثَرَ.
والثُّلثُ فرضُ اثنين:
(فصلٌ)
(والثُّلُثانِ فَرضُ أربعةٍ):
الأوَّل: (فرضُ البنتينِ فأكثرَ)، أي: ثِنتَينِ فأكثرَ.
(و) الثاني: فَرضُ (بِنتَي الابنِ، فأكثرَ) أي: ثِنتَين فأكثرَ، قياسًا على البناتِ.
(و) الفرضُ الثالثُ: (الأُختَينِ الشَّقيقَتَينِ فأكثرَ) أي: فما يَزيدُ عن ثِنتَينِ، كثلاثٍ وأربعٍ فأكثرَ.
(و) الفرضُ الرابعُ: (الأختينِ للأب
(1)
فأكثرَ) أي: ثلاث وأربَعٌ فأكَثَر.
"فائدةٌ": لابدَّ من اشتِرَاطِ عدمِ المُعصِّبِ في إرثِ هؤلاءِ الإناثِ الثُّلُثَينِ، ولابدَّ من اشتِراطِ عدمِ الأولادِ في إرثِ بناتِ الابنِ الثلثينِ، وفي إرثِ الأخواتِ كذلك، ولابدَّ من اشتراطِ عدمِ الأشقَّاءِ في إرثِ الأخواتِ للأبِ الثُّلُثينِ، وكلّ ذلك معلومٌ.
(والثلثُ فرضُ اثنين):
(1)
في الأصل: "لأب".
فرضُ ولَدَي الأمِّ فأكثَرَ، يستَوي فيهِ ذَكرُهُم وأُنثاهُم، وفَرضُ الأُمِّ حَيثُ لا فَرعَ وارِثٌ للميِّتِ، ولا جَمعَ مِنَ الإخوَةِ والأخوَاتِ، لكِنْ لو كانَ هُناكَ أبٌ وأمٌّ وزَوجٌ أو زَوجَةٌ، كانَ للأمِّ ثُلُثُ البَاقِي.
والسُّدُسُ فرضُ سَبَعةٍ:
فرضُ الأمِّ مَعَ الفَرعِ الوَارِثِ، أو جَمْعٍ مِنَ الإخوَةِ والأخوَاتِ،
الأوَّلُ: (فرضُ ولَدي الأمِّ فأكثَرَ، يَستَوي فيه ذكرُهم وأُنثاهُم) وهم: الإخوةُ لأمٍّ إنْ كثُروا وزادوا عن الاثنينِ.
(و) الثاني (فَرضُ الأمِّ حيثُ لا فرعَ وارثٌ للميِّتِ، ولا جمعَ من الإخوةِ والأخواتِ) أي: لا ولدَ، ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا كان أو متعدِّدًا، ولا ولدَ ابنٍ، ولا من الإخوةِ والأخواتِ جمعُ بَناتٍ فأكثَرَ. وليس
(1)
الجمعُ على حقيقتِه من أنَّ أقلَّه ثلاثةٌ.
(لكِنْ لو كانَ هُناكَ أبٌ، وأمٌّ، وزوجٌ أو زوجةٌ، كان للأمِّ ثُلُثُ الباقي) بعدَ فرضِ الزَّوجَينِ. نصًّا؛ لأنَّهُمَا استَوَيا في السَّبَبِ المُدْلَى به، وهو الوِلادَةُ، وامتازَ الأبُ بالتعصيبِ، بخلافِ الجدِّ. وتسمَّيان بـ "الغرَّاوَينِ"؛ لشهرتِهما، وبـ "العُمَريَّتَينِ"، لقضاءِ عمرَ فيهما بذلك.
(والسُّدُسُ فرضُ سبعةٍ) من العددِ:
(فرضُ الأمِّ مع الفرعِ الوارثِ) الولدِ، وولدِ الولدِ، أو البنتِ، أو بنتِ الابنِ، (أو جمعٍ) أي: اثنين (من الإخوةِ والأخواتِ) والخَنَاثَى مِنهُم.
(1)
في الأصل: "ولا ليس".
وفَرضُ الجَدَّة فأكثرَ إلى ثَلاثٍ إن تَساوَيْنَ مَعَ عَدَمِ الأُمِّ، وفَرضُ ولَدِ الأمِّ الواحِدِ، وفَرضُ بنتِ الابنِ فأكثرَ مَعَ بنتِ الصُّلْبِ، وفَرضُ الأُختِ للأبِ مَعَ الأختِ الشَّقيقَةِ، وفَرضُ الأبِ مَعَ الفَرعِ الوَارِثِ، وفَرضُ الجَدِّ كذَلِكَ، ولا يَنزِلَانِ عَنهُ بحَالٍ.
(وفرضُ الجدَّةِ) الواحدَةِ (فأكثرَ إلى ثلاثٍ إنْ تساوَيْنَ) أي: تَساوٍ في القربِ أو البعدِ من ميِّتٍ (معَ عدَمِ الأمِّ).
فلا يَرِثُ عندَنا أكثرُ من ثلاثِ جدَّاتٍ، وهنَّ: أمّ الأمِّ، وأمُّ الأبِ، وأمُّ الجدِّ أبي الأبِ فقط. وأشارَ المصنِّفُ إلى ذلك بقولِه:"إلى ثلاثٍ".
(وفرضُ ولدِ الأمِّ الواحدِ) ذكرًا كان، أو أنثى.
(وفرضُ بنتِ الابنِ فأكثرَ مع بنتِ الصُّلبِ) الواحدةِ. وكذا بنتُ ابنٍ نازلةٌ له فأكثرَ مع بنتِ ابنٍ واحدةٍ أعلى منها.
(وفرضُ الأختِ للأبِ مع الأختِ الشقيقةِ) الواحدةِ.
(وفرضُ الأبِ مع الفرعِ الوارثِ) يعني: أنَّ الأبَ يرثُ السُّدُسَ مع الابنِ، أو ابنِ الابنِ، أو البنتِ، أو بنتِ الابنِ. (وفرضُ الجدِّ كذلك) مع فقدِ الأبِ، (ولا ينزلانِ عنه بحالٍ) فلا يأخذانِ أقلَّ من السُّدُسِ.
فَصْلٌ
والجَدُّ مَعَ الإخَوةِ الأشقَاءِ، أو لأبٍ، ذُكورًا كانوا أو إناثًا، كأحَدِهِم
.
فإنْ لَمْ يكُنْ هناكَ صَاحِبُ فَرضٍ، فلَهُ معَهُم خَيرُ أمرَينِ: إمَّا المُقَاسَمَةُ، أو ثُلُثُ جَميعِ المَالِ.
(فصلٌ)
(والجدُّ) لأبٍ وإنْ علا بمحضِ الذُّكُورِ (معَ الإخوةِ الأشقاءِ، أو لأبٍ، ذُكورًا كانوا أو إناثًا)، واحدًا أو متعدِّدًا (كأحَدِهم) أي: كأخٍ مِنهُم.
(فإن لم يكنْ هُناكَ صاحبُ فرضٍ، فلهُ مَعَهُم خَيرُ أمرين: إمَّا المقاسمةُ، أو ثلثُ جميعِ المالِ).
والمقاسمةُ خيرٌ له إنْ نقَصُوا عن مِثلَيهِ، وذلك في خمسٍ صورٍ: جدٌّ وأخٌ، جدٌّ وأختٌ، جدٌ وأختانِ، جدٌ وأخٌ وأختٌ، جدٌّ وثلاثُ أخواتٍ.
والثلثُ خيرٌ له إنْ زادوا على مِثلَيهِ، كجدٍّ وثلاثِ إخوةٍ فأكثرَ، أو جدٍّ وخمسِ أخواتٍ فأكثرَ. ولا حصرَ
(1)
لصُورِه.
ويستوي له الأمرانِ إذا كانوا مِثلَيهِ، وذلك في ثلاثِ صورٍ: جدٌّ وأخوانِ، جدٌّ وأخٌ وأختانِ، جدٌّ وأربعُ أخواتٍ.
وحيثُ استوى له الأمرانِ، قَسِّمْ له ما شئتَ منهما. ذكرَهُ في "شرح المنتهى" للمصنِّفِ
(2)
.
(1)
في الأصل: "تنحصر".
(2)
انظر "كشاف القناع"(10/ 344).
وإن كَانَ هُناكَ صَاحِبُ فَرضٍ، فلَهُ خَيرُ ثَلاثَةِ أمُورٍ: إمَّا المُقَاسَمَةُ، أو ثُلُثُ البَاقِي بعدَ صَاحِبِ الفَرضِ، أو سُدُسُ جَميعِ المَالِ.
فإن لم يَبقَ بعدَ صَاحِبِ الفَرض إلَّا السُّدُسُ،
(وإنْ
(1)
كان هناك صاحبُ فرضٍ) من زوجٍ أو زوجةٍ، أو بنتٍ أو بنتِ ابنٍ، أو أمٍّ أو جدَّةٍ (فله خيرُ ثلاثةِ أمورٍ) وهي:
(إمَّا المقاسمةُ) لمَن، معه من الإخوةِ، أو الأخواتِ، كأخٍ منهم.
(أو) أخذُ (ثلثِ الباقي) من المالِ (بعدَ صاحبِ الفرضِ).
(أو) أخذُ (سدسِ جميعِ المالِ) ولو عائلًا.
فالمقاسمةُ خيرٌ له في نحوِ: جدَّةٍ، وجدٍّ، وأخٍ. وثلثُ الباقي خيرٌ له في نحوِ: جدَّةٍ، وجدِّ، وثلاثِ إخوةٍ. والسُّدُسُ خيرٌ له في نحوِ: أمِّ، وبنتٍ، وجدِّ، وأخوينِ.
ومتى زادَ الإخوةُ عن مثليهِ، فلا حظَّ له في المقاسمةِ. ومتى نقصُوا عنه، فلا حظَّ له في ثلثِ الباقي.
ومتى زادتْ الفروضُ عن النصفِ، فلا حظَّ له في ثلث ما بقي. وإن نقصت عن النصف، فلا حظَّ له في السّدُسِ. وإن كانَ الفرضُ النصفَ وحدَه، استوى له سدُسُ المالِ وثلثُ الباقي. وإنْ كانَ الإخوةُ اثنين، استوى ثلثُ الباقي والمقاسمةُ.
وقدْ تستوي له الأمورُ الثلاثةُ، وذلك إذا كان الفرضُ النصفَ والإخوةُ اثنينِ، كزوج وجدٍّ وأخوينِ. ويُعطى له السدسُ إذا كان خيرًا له، ولو عائلًا.
(فإن لم يبقَ بعدَ صاحبِ الفرضِ
(2)
إلا السُّدُسُ) كبنتينِ وأمٍّ، وجدٍّ وإخوةٍ،
(1)
في الأصل: "فإن".
(2)
في الأصل: "الفروض".
أخَذَهُ، وسَقَطَ الإخوَةُ، إلَّا الأُختُ الشَّقيقَةُ، أو لأبٍ، في المَسألَةِ المُسمَّاةِ بـ "الأكدَريَّةِ"، وهي: زوجٌ، وأمٌّ، وجَدٌّ، وأُختٌ:
فلِلزَّوجِ النِّصفُ، وللأُمِّ الثُّلُثُ، وللجَدِّ السُّدُسُ، ويُفرَضُ للأُختِ النِّصفُ، فَتعولُ لِتسعةٍ، ثُمَّ يُقسَمُ نَصِيبُ الجَدِّ والأُختِ بينَهُما أربَعَةً
للبنتين الثلثانِ؛ أربعةٌ، وللأمِّ السُّدسِ، وبقيَ سدسٌ (أخذَه) الجدُّ، (وسقطَ الإخوةُ) لأبوينِ أو لأبٍ، ذكورًا أو إناثًا، واحدًا أو أكثرَ؛ لأنَّ الجدَّ لا ينقصُ أبدًا عن السُّدسِ.
(إلا الأختُ الشقيقةُ، أو لأبِ، في المسالةِ المسمَّاةِ بالأكدريَّةِ) سُمِّيتْ بذلك لتكديرِها أصولَ زيدٍ؛ حيثُ أعالَها، ولا عولَ في مسائلِ الجدِّ والإخوةِ غيرَها.
وقيل: لأنَّ عبدَ الملكِ بنَ مروانِ سألَ عنها رجلًا اسمُه أكدَرُ، فأفتَى فيها على مذهبِ زيدٍ، وأخطأ، فنُسِبَت إليه.
وقيل: لأنَّ الميِّتَةَ كان اسمُها أكدَرَةَ. وقيلَ: كان اسمُ زوجِها أكدرَ، وقيلَ: اسمُ السائلِ.
وقيل: بل سُمِّيتْ بذلك؛ لكثرةِ أقوالِ الصحابةِ فيها، وتكدُّرِها.
(وهي: زوجٌ، وأمُّ، وجدٌّ، وأختٌ: فللزوجِ النصفُ، وللأمِّ الثلثُ، وللجدِّ السُّدسَ، ويُفرَضُ للأختِ النِّصفُ، فتعولُ لتسعةٍ) ولم تُحجب الأمُّ عن الثلثِ؛ لأنَّه تعالى إنما حجبَها عنه بالولدِ والإخوةِ، وليس هنا ولدٌ ولا إخوةٌ.
(ثمَّ يُقسَمُ نصيبُ الجدِّ والأختِ بينهما) أي: الجدِّ والأختِ (أربعةً) من
على ثَلاثَةٍ، فتَصِحُّ من سَبعَةٍ وعِشرِينَ.
وإذا اجتَمَعَ معَ الشَّقيقِ ولَدُ الأبِ، عَدَّهُ على الجَدِّ إنْ احتَاج لعَدِّهِ، ثُمَّ يأخُذُ الشَّقيقُ ما حَصَلَ لولَدِ الأبِ،
…
تسعةٍ (على ثلاثةٍ) والأربعة لا تنقسمُ على ثلاتةٍ، وتُباينُها، فاضربِ الثلاثةَ في المسألةِ بعولِها تسعَة (فتصحُّ من سبعةٍ وعشرينَ): للزوجِ تسعةٌ، وهي ثلثُ المالِ، وللأمِّ ستَّةٌ، وهي ثلثُ الباقي، وللجدِّ ثمانيةٌ، وهي ثلثا
(1)
الباقي بعد كل
(2)
من الزوجِ والأمِّ
(3)
، وللأختِ أربعةٌ، وهي ثلثُ باقي الباقي. فلذلك يُعايا بها، فيقالُ: أربعةٌ ورِثوا مال ميتٍ، أخذَ أحذهم ثلثَه، والثاني ثلثُ ما بقيَ، والثالثُ ثلثُ باقي ما بقيَ، والرابعُ ما بقيَ؟.
ولا عَوْلَ في مسائِلهما، أي: الجدِّ والإخوةِ في غيرِها.
(وإذا اجتمعَ مع الشقيقِ) أي: ولدِ الأبوينِ (ولدُ الأبِ عَدَّه على الجدِّ إنِ احتاجَ لعدِّه) أي: زاحمهُ، وتُسمَّى:"المعادَّةَ".
وصورةُ ذلك: إذا اجتمعَ ولدُ الأبوينِ، وولدُ الأبِ، مع الجدِّ، عادَّ ولدُ الأبوينِ الجدَّ بولَدِ الأبِ، أي: زاحمَه، فيُقسَمُ له معه، ثمَّ يأخذُ قَسْمَه. فجدُّ وأخٌ لأبوينِ وأخٌ لأبٍ، فيقولُ الأخُ لأبوينِ للجَدِّ: نحن اثنانِ، وأنتَ واحدٌ، فلك الثلثُ، ولنا الثلثانِ. فيُعطيه الثلثَ، ثمَّ يعودُ يأخذُ الأخ لأبوينِ الثلثَ الذي قَسَمَ لأخيه، فيَتِمُّ له الثلثانِ. وإليه أشارَ بقولِه:(ثمُّ يأخذُ الشقيقُ ما حصَلَ لولدِ الأبِ) وهو الثلثُ.
(1)
سقطت: "ثلثا" من الأصل.
(2)
سقطت: "كل" من الأصل.
(3)
في الأصل: "والأمِّ والأختِ" وانظر "دقائق أولي النهى"(4/ 540).
إلَّا أنْ يكونَ الشَّقيقُ أُختًا واحِدَةً، فتأخُذُ تمَامَ النِّصفِ، ومَا فَضَلَ فهُو لولَدِ الأبِ.
فَمِنْ صُورِ ذَلِكَ "الزَّيدِيَّاتُ" الأربَعُ:
العَشرِيَّةُ
، وهي: جَدٌّ، وشَقيقَةٌ، وأخٌ لأبٍ.
هذا إنْ كان ولدُ الأبوينِ ذكرًا. وأمَّا إنْ كان أنثى، فأشارَ إليه بقولِه:(إلا أن يكونَ الشقيقُ أختًا واحدةً، فتأخذُ تمامَ النِّصفِ) لأنَّه لا يمكنُ أن تُزادَ عليه معَ عَصَبَةٍ، ويأخذُ الجدُّ الأحظَّ له، على ما تقدَّمَ.
(وما فَضَلَ) بعدَما يأخُذَانه، أي: بعدَ أخذِ الجدِّ الأحظَّ له، وأخذِ الأختِ تمامَ النصفِ، (فهو لولدِ الأب) واحدًا كان أو أكثرَ. هذا إن بقيَ شيءٌ، وإلَّا سقَطَ.
(فمن صورِ ذلك الزَّيدِيَّاتُ الأربعُ): نسبةً إلى زيدِ بنِ ثابتٍ رضي اللهُ تعالى عنه.
الأولى
(1)
: (العَشْريَّةُ؛ وهي: جدُّ، و) أختٌ (شقيقةٌ، وأخٌ لأبٍ) فتصحُّ من عشرةٍ؛ للجدِّ أربعةٌ؛ وللشقيقةِ خمسةٌ، وللأخِ لأبٍ ما بقيَ، وهو سهمٌ.
وأصلُها من خمسةٍ؛ للجدِّ سهمانِ من خمسةٍ؛ على أنَّ المقاسمةَ خيرٌ له. فيبقى ثلاثة؛ للأخِ للأبِ سهمانِ، وللشقيقةِ سهمٌ، ثمَّ تعودُ الشقيقةُ وتأخذُ بقيةَ نصفِها من الأخِ للأبِ، ثمَّ يفضلُ له نصفُ سهمٍ. فحينئذٍ لا تنقسمُ المسألةُ، فتضربُها في اثنينِ بعشرةٍ. وتقدَّم قسمتُها.
(1)
في الأصل: "الأول".
والعِشرِينيَّةُ
، وهِيَ: جَدٌّ، وشَقِيقَةٌ، وأختَانِ لأبٍ.
ومُحْتَصَرَةُ زَيدٍ
، وهِيَ: أمٌّ، وجَدٌّ، وشَقيقَةٌ، وأخٌ، وأختٌ لأبٍ.
وتسعِينيَّةُ زَيدٍ
، وهِيَ: أمٌّ وجَدٌّ، وشَقيقَةٌ، وأخَوَانِ، ....
(و) الثانيةُ: (العِشرينيَّةُ، وهي: جدٌّ، وشقيقةٌ، وأختانِ لأبٍ) لأنَّ النصفَ الباقي للأختينِ بينهما، لكلِّ أختٍ ربعٌ، فتضرب مخرجَه أربعةً في خمسةٍ، تبلغ عشرينَ؛ للجدِّ ثمانيةٌ، وللشقيقةِ عشرةٌ، ولكلِّ واحدةٍ من الأختينِ لأبٍ واحدٌ، وتسمَّى عِشرينيَّةَ زيدٍ.
(و) الثالثةُ: (مختصَرَةُ زيدٍ، وهي: أمٌّ، وجَدٌّ، وشقيقةٌ، وأخٌ، وأختٌ لأبٍ) وتصحُّ من أربعةٍ وخمسينَ؛ للأمِّ تسعةٌ، وللجدِّ خمسةَ عشرَ، وللشقيقةِ سبعةٌ وعشرون، وللأخِ لأبِ سهمانِ، ولأختِه سهمٌ. هذا إنِ اعتبرتَ للجدِّ ثلثَ الباقي. فإن اعتَبرتَ له المقاسمةَ، فأصلُها ستةٌ عددُ رؤوسهِم؛ للأمِّ واحدٌ، يبقى خمسةٌ على ستةٍ عددِ رؤوسِ الجدِّ والإخوةُ، لا تنقَسِمُ وتباينُ، فتضربُ عددَهم، وهو ستةٌ، في أصلِ المسألةِ مخرَجِ السدُسِ، وهو ستَّةٌ، يحصلُ ستةٌ وثلاثُون؛ للأمِّ سدُسُها وهو ستةٌ، وللجدِّ عشرةٌ، وللأختِ لأبوينِ ثمانيةَ عشرَ، يبقى سهمانِ، للأخِ والأخت لأبٍ على ثلاثةٍ تُباينُهما، فاضربْ ثلاثةً في ستةٍ وثلاثين، تبلغُ مائةً وثمانيةً، ومنها تصحُّ للأمِّ ثمانيةَ عشرَ، وللجدِّ ثلاثون، وللشقيقةِ أربعةُ وخمسون، وللأخِ لأبٍ أربعةٌ، وللأخت لأبٍ سهمان
(1)
، والأنصباءُ كلُّها متوافِقَةٌ بالنصفِ، فتردُّ المسألة لنصفِها، ونصيبُ كلِّ وارثٍ لنصفِه، فتَرجِعُ كما سبق.
(و) الرابعةُ: (تسعينيَّةُ زيدٍ، وهي: أمُّ) أو جدةٌ (وجدٌّ، وشقيقةٌ، وأخوانِ)
(1)
في الأصل: " سهمًا".
وأُختٌ لأبٍ.
لأبٍ، (وأخت لأب) صحَّتْ من تسعينَ؛ لأنَّ للأمِّ أو الجدَّةِ سُدُسًا، وهو ثلاثةٌ من ثمانيةَ عشرَ، وللجدِّ ثلثُ الباقي خمسةٌ، وللشقيقةِ النصفُ تسعةٌ، يبقى لأولادِ الأبِ واحدٌ على خمسةٍ، لا يصحُّ، فاضربْ خمسةً في ثمانيةَ عشرَ، تبلغُ ما ذُكرَ، للأمِّ أو الجدُّةِ خمسةَ عشرَ، وللجدِّ خمسةٌ وعشرون، وللأختِ لأبوين خمسةٌ وأربعون، ولأولادِ الأبِ خمسةٌ، لأُنثاهُم واحدٌ، ولكلِّ ذكرٍ اثنانِ، وتُسمَّى:"تسعينيَّةَ زيدٍ"؛ لأنَّه صحَّحَها ممَّا ذُكِرَ.
بَابُ الحَجْبِ
اعلَمْ أنَّ الحَجْبَ بالوَصْفِ يَتَأتَّى دُخُولُه عَلَى جَميعِ الورَثَةِ. والحَجْبُ بالشَّخْصِ نُقصَانًا كَذلِكَ، وحِرمَانًا فلا يَدخُلُ على خَمسَةٍ: الزَّوجَينِ، والأبوَينِ، والوَلَدِ.
(بابُ الحَجْبِ)
وهو لغةً: المنعُ، مأخوذٌ من الحجابِ، ومنه الحاجب؛ لأنَّه يمنعُ من أرادَ الدخولَ.
واصطلاحًا: هو المنعُ من الإرثِ بالكليَّةِ، أو مِن أوَفَرِ حَظَّيهِ.
والحجبُ ضربانِ:
حجبُ نُقصانٍ، كحجبِ الزوج من النِّصفِ إلى الرُّبعِ، والزوجةِ من الرَّبعِ إلى الثُمنِ، ونحوِه ممَّا تقدَّمَ.
وحجبُ حرمانٍ؛ وهو نوعانِ:
أحدُهما: بالموانع بالآتيةِ.
والثاني: حجبٌ بالشَّخصِ، وهو المرادُ هنا.
(اعلمْ أنَّ الحجبَ بالوصفِ) وهي الموانعُ السابقةُ (يتأتَّى دُخولُه على جميعِ الورثةِ. والحَجْبُ بالشَّخصِ نقصانًا كذلك) أي: يدخلُ على جميعِ الورثةِ. (وحِرمانًا) كذلك، تارةً يكونُ بالوصفِ، كالرِّقِّ، والكفرِ، فيمكنُ دخولُه على جميعِ الورتةِ، وتارةً يكونُ بالشَّخصِ، (فلا يدخلُ) الحجبُ (على خمسةٍ) من الورثةِ:(الزوجينِ، والأبوينِ، والولدِ) وضابطُهم: مَن أَدْلى إلى الميِّتِ بنفسِه غيرُ المولى.
وأنَّ الجَدَّ يَسقُطُ بالأبِ، وكُلَّ جَدِّ أبعَدَ بجَدٍّ أقرَبَ، وأنَّ الجَدَّةَ مُطلَقًا تَسقُطُ بالأُمِّ، وكُلَّ جدَّةٍ بُعدَى بجدَّةٍ قُربَى، وأنَّ كُلَّ ابنٍ أبعَدَ يَسقطُ بابنٍ أقرَبَ.
وتَسقطُ الإخوَةُ الأشِقَّاءُ باثنَينِ: بالابْنِ وإنْ نَزَلَ، وبالأبِ الأقرَبِ.
والإخوَةُ للأبِ يسقُطونَ بالأخِ الشَّقيقِ أيضًا. وبنُو الإخوَةِ يسقُطُونَ حتَّى بالجَدِّ
…
(وأنَّ الجَدَّ يسقطُ بالأبِ) لأنَّه يُدْلي به، (و) يسقطُ (كلُّ جَدٍّ أبعد بجدٍّ أقربَ) لإدلائِه به، (وأنَّ الجدَّةَ مطلقًا) أي: من جهةِ الأبِ، أو الأمِّ (تسقطُ بالأمِّ) لأنَّ الجداتِ يرثنَ بالولادةِ، فكانتِ الأمُّ أَوْلى منهنَّ؛ لمباشرتِها الولادةَ. (و) تسقطُ (كلُّ جَدَّةٍ بُعدَي بجدَّةٍ قُرْبى، وأنَّ كلَّ ابنٍ أبعدَ يسقُطُ بابنٍ أقربَ)، فيسقُطُ ولدُ الابنِ، ذكرًا كان أو أنثى، بالابنِ؛ لقُربهِ. وكذا كلُّ ولدِ ابنِ ابنٍ نازلٍ بابنِ ابنٍ أعلا منه.
(وتسقُطُ الإخوةُ الأشقاءُ باثنينِ: بالابنِ) وابنِه، (وإنَّ نزلَ، وبالأبِ الأقربِ) دونَ الأبعدِ وهو الجدُّ. حكَاهُ ابنُ المنذرِ إجماعًا.
(والإخوةُ للأبِ) ذكورًا، أو إناثًا (يسقطونَ بالأخ الشقيقِ) وبالابنِ وابنِه، وبالأبِ. (أيضًا): هو مصدرُ آضَ: إذا رجعَ. وهو المفعولُ المطلق، حُذِفَ عاملُه، كـ: أرجعُ إلى الإخبارِ بكذا رجُوعًا. أو حالٌ حُذِفَ عاملُها وصاحبُها كـ: أُخبِرُ بكذا، راجِعًا إلى الإخبارِ به. وإنَّما يُستعملُ مع شيئينِ بينهما توافقٌ. ويُغني كلٌّ منهما عن الآخرِ، فلا يجوزُ: جاءَ زيدٌ أيضًا، ومضى عمرٌو أيضًا.
(وبنُو الإخوة) أي: ابنُ الأخِ لأبوينِ، وابنُ الأخِ لأبِ (يسقُطُونَ حتى بالجدِّ
أبِي الأبِ وإنْ عَلَا.
والأعمَامُ يسقُطُونَ حتَّى بِبَني الإخوَةِ وإن نزلوا.
والأخُ للأمِّ يسقُطُ باثنَينِ: بفُروعِ المَيِّتِ مُطلَقًا وإن نزلوا، وبأُصُولِه الذُّكُورِ وإنْ عَلَوا.
وتسقُطُ بنَاتُ الابنِ ببنتَي الصُّلْبِ فأكثَرَ، ما لَمْ يكُنْ معَهُنَّ مَنْ يُعَصِّبُهُنَّ مِن وَلَدِ الابنِ.
وتَسقُطُ الأخواتُ للأبِ بالأُختَينِ الشَّقيقَتَينِ فأكَثَرَ، ما لَمْ يكُنْ معُهُنَّ أخوهُنَّ، فيُعصِّبُهنَّ.
أبي الأبِ) بلا خلافٍ؛ لأنَّه أقربُ، (وإن علا).
(والأعمامُ يسقُطُون حتى
(1)
ببني الإخوةِ، وإنْ نزلوا).
(والأخ للأمِّ يسقُطُ باثنينِ):
الأوَّلُ: (بفروعٍ الميِّتِ) بالولدِ، وبولدِ الابنِ (مطلقًا)، سواءٌ كان ذكرًا أو أنثى (وإن نزلوا).
(و) الثاني: (بأصولِه الذكورِ، وإن عَلَوا).
(وتسقُطُ بناتُ الابنِ ببنتَي الصُّلبِ فأكثرَ، ما لم يكنْ معهنَّ مَن يُعصِّبُهنَّ من ولدِ الابنِ).
(وتسقُطُ الأخواتُ للأبِ بالأختينِ الشقيقتينِ فأكثرَ، ما لم يكنْ معهنَّ أخوهُنَّ، فيُعصِّبُهنَّ).
(1)
سقطت: "حتى" من الأصل.
ومَنْ لا يَرثُ لا يَحْجُبُ مُطلَقًا، إلَّا الإخوَةُ مِنْ حَيثُ هُمْ، فَقَدْ لا يَرِثُونَ، ويَحجُبُونَ الأمَّ نُقصَانًا.
(ومَن لا يرثُ) لمانعٍ (لا يَحْجُبُ مطلقًا) نصًّا، لا حِرْمانًا ولا نُقْصانًا، بل وجودُه كعدِمه (إلَّا الإخوةُ من حيثُ هْم، فقَد لا يَرِثُون
(1)
) الواحدُ والأكثرُ، ذكرًا كان أو أنثى، من الأبوين أو من الأبِ، دونَ الإخوةِ من الأمِّ، فإنَّهم يسقُطُون بالجدِّ، (ويحجبونَ الأمَّ نقصانًا) لأنَّهم يحجبُونَ الأمَّ من الثُلثِ إلى السُّدُسِ، وإن كانوا محجوبين بالأبِ. وكلُّ مَن أَدْلَى بواسطةٍ، حجبتْه تلك الواسطةُ.
(1)
سقطت: "فقد لا يرثون" من الأصل.
بَابُ العَصَبَاتِ
اعلَم أنَّ النِّسَاءَ كُلَّهُنَّ صَاحِبَاتُ فَرضٍ، ولَيسَ فيهنَّ عَصَبَةٌ بنَفْسِهِ، إلَّا المُعتِقَةُ.
وأنَّ الرِّجَالَ كُلَّهُم عَصَبَاتٌ بأنفُسِهِم، إلَّا الزَّوجُ، وولَدُ الأُمِّ.
وأنَّ الأخَوَاتِ مَعَ البنَاتِ عَصَبَاتٌ.
وأنَّ البنَاتِ، وبَنَاتِ الابْنِ، والأخَواتِ الشَّقيقَات، والأخَوَاتِ للأبِ، كُلُّ واحِدَةٍ منهنَّ مَعَ أخِيهَا عَصَبَةٌ بِهِ، لهُ مِثْلا ما لَهَا.
وأنَّ حُكمَ العَاصِبِ أنْ يأخُذَ ما أبقَتِ الفُروضُ، ....
(بابُ العصباتٍ)
جمعُ عَصَبةٍ، وهو: جمعُ عاصبٍ، من العصبِ، وهو الشدُّ. ومنه: عِصابةُ الرأسٍ؛ لأنَّه يُعصَبُ بها، أي: يُشدُّ. والعَصَبُ: لأنَّه يشدُّ الأعضاءَ. وعِصابةُ القومِ؛ لاشتدادِ بعضِهم ببعضٍ. و: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هُود: 77] أي: شديدٌ. وتُسمَّى الأقاربُ: عَصَبَةً، لشَدَّةِ الأزْرِ.
واصطلاحًا: مَن يرثُ بلا تقديرِ.
(اعلمْ أن النِّساءَ كلَّهُنَّ صاحباتُ فرضٍ، وليس فيهنَّ عصبةٌ بنفسِه، إلا المُعتِقَةُ. وأنَّ الرجالَ كلَّهم عصباتٌ بأنفسهِم، إلا الزوجُ، وولدُ الأمِّ. وأنَّ الأخواتِ مع البناتِ عصباتٌ. وأنَّ البناتِ، وبناتِ الابنِ، والأخواتِ الشقيقاتِ، والأخواتِ للأبِ، كلُّ واحدةٍ منهنَّ مع أخيها عصَبَةٌ به، له مِثْلَا ما لها. وأنَّ حكمَ العاصبِ: أنْ يأخذَ ما أبقتِ الفروضُ) إن كان معه ذو فرضٍ،
وإنْ لَمْ يبقَ شَيءٌ سَقَطَ، وإذا انفَرَدَ أخَذَ جَميعَ المَالِ.
لكِنْ للجَدِّ والأبِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:
يَرِثَانِ بالتَّعصِيبِ فَقَط مَعَ عَدَم الفَرعِ الوَارِثِ، وبالفَرضِ فَقَط مَعَ ذُكُورِيَّتِهِ، وبالفَرضِ والتَّعصِيبِ مَعَ أنوثيَّتِهِ.
ولا تَتَمشَّى عَلَى قَواعِدِنَا "المُشرَّكَةُ" وهِيَ: زَوجٌ، وأُمٌّ، وإخوَةٌ لأُمٍّ، وإخوَةٌ أشِقَّاءُ.
واحدٌ أو أكثرَ، أخذَ العاصبُ ما فضلَ عنه؛ لحديثِ:"ألحقوا الفرائضَ بأهلِها، فما بقيَ فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ"
(1)
.
(وإنْ لم يبقَ شيءٌ) بأنِ استوعبتِ الفروضُ المالَ (سقطَ) العاصبُ؛ لمفهومِ الحديثِ المذكورِ.
(وإذا انفردَ، أخذَ جميعَ المالِ) كلَّه تعصيبًا؛ لقولِه تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النِّساء: 176]. وغيرُ الأخِ كالأخِ.
(لكنْ للجدِّ والأبِ ثلاثُ حالاتٍ: يرثانِ بالتعصيبِ فقط مع عدمِ الفرعِ الوارثِ، وبالفرضِ فقط مع ذُكورَّيتِه، وبالفرضِ والتعصيبِ مع أُنوثيتِهِ).
(ولا يتمشَّى على قواعدِنا المُشرَّكةُ)، بل تتمشَّى على
(2)
مذهبِ الإمامِ الشافعيِّ؛ لأنَّ زيدًا شرَّك بينَ الإخوةِ لأمٍّ والأشقاءِ أو لأبٍ في الثلثِ.
(وهي: زوجٌ، وأمٌّ، وإخوةٌ لأمٍّ، وإخوةٌ أشقاءُ) المسألةُ من ستةٍ، للزوجِ النِّصفُ ثلاثةٌ، وللأمِّ السُّدُسُ واحدٌ، وللإخوةِ من الأمِّ الثلثُ اثنانِ. وسقط
(1)
أخرجه البخاري (6732)، ومسلم (1615) من حديث ابن عباس.
(2)
سقطت: "بل تتمشى على" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سائرُهم؛ لاستغراقِ الفروضِ التركةَ.
وتُسمَّى هذه المسألةُ: المشرَّكةَ، والحماريَّةَ إذا كان فيها إخوةٌ لأبوينِ، ذكرٌ فأكثرُ، منفردًا أو مع إناثٍ؛ لأنَّه يُروى عن عمرَ أنَّه أسقطَ ولدَ الأبوينِ، فقال بعضُهم: يا أميرَ المؤمنين، هبْ أنَّ أبانا كان حمارًا، أليستْ أمُّنا واحدةً؟ فضرَّكَ بينهم
(1)
. ويُقالُ: إنَّ بعضَ الصحابةِ قال ذلك
(2)
.
وسقوطُ الأشقاءِ إذنْ، رُوي عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وأبيٍّ بنِ كعبٍ، وابنِ عباسٍ، وأبي موسى، رضي الله عنهم. وبه قال أبو حنيفةَ.
وعن عمرَ، وعثمانَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، أنهم شرَّكوا بين ولدِ الأبوينِ وولدِ الأمِّ في الثلثِ، فقسموه بينهم بالسَّويةِ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثى، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ
(3)
.
(1)
أخرجه الحاكم (4/ 337)، والبيهقي (6/ 256).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (20، 22، 27) عن عثمان وزيد بن ثابت.
(3)
انظر "كشاف القناع"(10/ 391).
فَصْل
وإذا اجتَمَعَ كُلُّ الرجَالِ، وَرِثَ منهم ثَلاثَةٌ: الابن، والأبُ، والزَّوجُ.
وإذا اجتمَعَ كلُّ النِّسَاءِ، وَرِثَ منهنَّ خَمسَةٌ: البنتُ، وبنتُ الابنِ، والأمُّ، والزَّوجَة، والأُختُ الشَّقيقَةُ.
وإذا اجتَمَعَ مُمكِنُ الجَمعِ مِنَ الصِّنفَينِ، وَرِثَ منهُم خَمسَةٌ: الأبوَانِ، والوَلَدَانِ، وأحَدُ الزَّوجَينِ.
(فصلٌ)
(وإذا اجتمعَ كلُّ الرجالِ، ورِثَ منهم ثلاثةٌ: الابنُ، والأبُ، والزوجُ) وباقيهم محجوبٌ بالابنِ والأبِ.
(وإذا اجتمعَ كلُّ النساءِ) فقط (ورِثَ منهنَّ خمسةٌ: البنتُ، وبنتُ الابنِ، والأمُّ، والزوجةُ، والأختُ الشقيقةُ) وتُحجبُ الجدَّتانِ بالأمِّ، والأختُ للأمِّ بالبنتِ، والأختُ للأبِ والمعتِقَةُ بالشقيقةِ؛ لأنَّها عصبةٌ مع البنتِ وبنتِ الابنِ، فتأخذُ ما فضُلَ عن الفروضِ.
(وإذا اجتمعَ مُمكِنُ الجمعِ من الصِّنفَينِ) أي: الذكورِ والإناثِ، (ورِثَ منهم خمسةٌ) فقط:(الأبوانِ) أي: الأبُ، والأمُّ، (والوَلَدَانِ) أي: الابنُ، والبنتُ، (وأحدُ الزوجينِ) أي: الزوجُ والزوجةُ.
فللأبوينِ السُّدُسانِ، ولأحدِ الزوجينِ الرُّبعُ أو الثمنُ، وللابنِ والبنتِ الباقي أثلاثًا. وأولادُ الابنِ محجوبونِ بالابنِ، والجدَّتانِ محجوبتانِ بالأمِّ، والجدُّ محجوبٌ بالأبِ، وباقيهم محجوب بالأبِ والابنِ.
ومَتَى كانَ العَاصِبُ عَمًّا، أو ابنَ عَمِّ، أو ابنَ أخٍ، انفَرَدَ بالإرثِ دونَ أخَوَاتِهِ.
ومتَى عُدِمَت العَصَبَاتُ مِنَ النَّسَبِ، وَرِثَ المَوْلَى المُعتِقُ، ولو أُنثَى، ثُمَّ عَصَبتُه الذُّكورُ، الأقرَبُ فالأقرَبُ، كالنَّسَبِ،
(ومتى كانَ العاصبُ عمًّا، أو) كان (ابنَ عمٍّ، أو) كان (ابنَ أخٍ) لأبوينِ، أو لأب، (انفردَ بالإرثِ دونَ أخواتِه) لأنَّ أخواتِ هؤلاءِ من ذوي الأرحَامِ، والعَصَبَةُ مقدَّمةٌ على ذوي الأرحامِ.
(ومتى عُدِمَتِ العَصَباتُ من النَّسبِ، ورِثَ المَولى المُعْتِقُ، ولو أنثى)؛ لحديث: "الولاءُ لمَن أعتقَ". متفقٌ عليه
(1)
. وحديثِ: "الولاءُ لُحمةٌ كلُحمةِ النسبِ"
(2)
. والنسبُ مورثٌ به، فكذا الولاءُ. وروى سعيدٌ
(3)
بسندِه: كان لبنتِ حمزةَ مولًى أعتقَته
(4)
فماتَ، وتركَ ابنتَه ومولاتَه، فأعطَىَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنتَه النصفَ، وأعطَى مولاتَه بنتَ حمزةَ النِّصفَ.
(ثمُّ عصبتُه) أي: المَوْلى المُعْتِقُ (الذكورُ) دونَ الإناثِ (الأقربُ فالأقربُ، كالنَّسبِ)؛ لحديثِ أحمدَ عن زيادِ بنِ أبي مريمَ: أنَّ امرأةً أعتقتْ عبدًا لها، ثمَّ تُوفيتْ وتركتْ أبنًا لها وأخاها، ثم تُوفيَ مولاها من بعدِها، فأتى أخو المرأةِ وابنُها
(1)
أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه ابن حبان (4950)، والحاكم (4/ 341) من حديث ابن عمر. وصححه الألباني في "الإرواء"(1668).
(3)
أخرجه سعيد ابن منصور (173)، 174) من حديث عبد الله بن شداد. وحسنه الألبانى في "الإرواء"(1696).
(4)
في الأصل: "أعتقه".
فإنْ لَمْ يَكُنْ، عَمِلْنَا بالرَّدِّ، فإنْ لَمْ يَكُنْ، وَرَّثنَا ذَوِي الأرحَامِ.
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ميراثِه، فقال عليه السلام:"ميراثُه لابنِ المرأةِ" فقال أخوها: يا رسولَ اللهِ، لو جرَّ جريرةً كانتْ عليَّ ويكونُ ميراثُه لهذا؟! قال:"نعمْ"
(1)
.
ولأنَّهم يُدلونَ بالمعتِقِ، والولاء
(2)
مُشبَّهٌ بالنسبِ، فأعطيَ حكمُه كذلك، ثم مولى المولى كذلك، أي: ثمَّ عصبتُه الأقربُ فالأقربُ كذلك، ثمَّ مولى مولى المولى كذلك، وإنْ بَعُدَ، ولا
(3)
شيءَ لموالي أبيه، وإنْ قربوا؛ لأنَّه عتيقٌ مباشرٌ، فلا ولاءَ عليه لموالي أبيه. ثمَّ بعدَ المولى وإنْ بَعُدَ
(4)
.
(فإنْ لم يكنْ) منهم أحدٌ (عَمِلْنا بالردِّ) على ذوي الفروضِ غيرِ الزوجينِ؛ لقولِه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفَال: 75] ولو لم يُرَدَّ إذنْ انتفتِ الأولويَّةُ؛ لجعلِ غيرِهم أَوْلى به منهم. ثمَّ الفروضُ إنَّما قُدِّرتْ للورثةِ حالةَ الاجتماعِ؛ لئلا يزدحموا، فيأخذُ القويّ ويُحرَمُ الضعيفُ، ولذلك فُرِضَ للإناثِ. وفُرِضَ للأبِ مع الولدِ، دون غيرِه من الذكورِ؛ لأنَّ الأبَ أضعفُ من الولد وأقوى من بقية الورثة، فاختصَّ في موضع الضعف
(5)
بالفرضِ، وفي موضعِ القوةِ بالتعصيبِ.
(فإنْ لم يكنْ) ذو فرضٍ يُردُّ عليه، (وَرَّثْنا ذوي الأرحامِ) فتُعطي ذوي الأرحامِ المالَ؛ للآيةِ المذكورةِ.
(1)
لم أجده عند أحمد. وأخرجه الدارمي (3009).
(2)
سقطت: "والولاء" من الأصل. وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 513).
(3)
سقطت: "ولا" من الأصل.
(4)
الجواب: فالردُّ. وا نظر "دقائق أولي النهى"(4/ 565)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 513).
(5)
سقطت: "من الولد وأقوى من بقية الورثة، فاختصَّ في موضع الضعف" من الأصل. وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 514).
بَابُ الرَّدِّ وذَوِي الأرحَامِ
حَيثُ لم تَستَغرِقِ الفروضُ التَّرِكَةَ، ولا عَاصِبَ، رُدَّ الفَاضِل عَلَى كلِّ ذِي فَرضٍ بِقَدْرِهِ، ما عَدَا الزَّوجَينِ، فَلَا يُرَدُّ عَليهِمَا مِنْ حَيث الزَّوجيَّة.
فإنْ لم يَكنْ إلَّا صَاحِبَ فَرضٍ، أخَذَ الكُلَّ فَرضًا وَرَدًّا.
(بابُ الردِّ وذوي الأرحامِ)
وقد اختُلِفَ في الردِّ بين أهلِ العلمِ، والقولُ به يُروى عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ مسعودٍ
(1)
رضيَ اللهُ تعالى عنهم. وبه قال إمامُنا، وأبو حنيفةَ وأصحابُه. وكذا الشافعي إنْ لم ينتظمْ بيتُ المالِ. فقال:
و (حيثُ لم تستغرقِ الفروضُ التركةَ، ولا عاصبَ) معهم (رُدَّ الفاضلُ) عن الفروضِ (على كلِّ ذي فرضِ) من الورثةِ (بقدرِه) أي: الفرضِ، كالغرماءِ يقتسمون مالَ المفلسِ بقدرِ ديونِهم.
(ما عدا الزوجينِ، فلا يُردُّ عليهما). نصًا، (من حيثُ الزوجيَّةُ) لا من حيثُ القرابةُ.
(فإنْ لم يكنْ إلا صاحبَ فرضٍ) كأمٍّ، أو بنتٍ، أو بنتِ ابنٍ، أو أختٍ، أو ولدِ أمٍّ، ونحوِهم، (أخذَ الكلَّ فرضًا وردًّا)؛ لأنَّ تقديرَ الفروضِ إنَّما شرعَ لمكانِ المزاحمةِ، ولا مُزَاحِمَ هنا.
(1)
أخرج هذه الآثار عبد الرزاق (19135، 19136)، وسعيد بن منصور (115، 118، 120).
وإنْ كَانَ جَمَاعَةً من جِنسٍ كالبَنَاتِ، فأعْطِهم بالسَّويَّةِ، وإن اختَلَفَ جنسُهُم، فَخُذْ عَدَدَ سِهَامِهِم مِنْ أصلِ سِتَّةٍ دَائِمًا. فجدَّةٌ وأخ لأم، تَصِحُّ مِن اثنَينِ، وأمٌ وأخٌ لأمٍّ، مِنْ ثلاثَةٍ،
(وإنْ كانَ) المردودُ عليه (جماعةً من جنسِ) واحدٍ (كالبناتِ)، أو بناتِ الابنِ، أو جداتٍ، أو أولادِ أمٍّ، أو أخواتٍ لغيرِها، (فأَعْطِهم بالسَّويَّةِ) كالعَصَبَةِ مِن البَنينَ ونحوِهم، كالإخوةِ والأعمامِ.
(وإنِ اختلفَ جنسُهُم) أي: محلُّهم من الميِّتِ، كبنتٍ وبنتِ ابنٍ، أو أمٍّ أو جَدَّةٍ، (فخذْ عددَ سهامِهم) أي: سهامِ المردودِ عليهم (من أصلِ ستةٍ دائمًا) لأنَّ الفروضَ كلَّها تُوجدُ في الستَّةِ إلا الرُّبعِ والثمنِ، وهما للزوجينِ، ولا يُردُّ عليهما. والسِّهامُ المأخوذةُ من أصلِ مسألتِهم هي أصلُ مسألتِهم، كما صارتِ السِّهامُ في المسألةِ العائلةِ هي المسألةَ التي يُضربُ فيها جزءُ السَّهمِ. فإنْ كان عددُ سِهامِهم سُدسينِ، كما مَّثلَ بها بقولِه:
(فجَدَّةٌ، وأخٌ لأمٍّ) فهي (تصحُّ من اثنينِ) أي: في مسألةِ الردِّ؛ لأنَّ فرضَ كلٍّ منهما السَّدسُ، والسَّدسانِ من الستَّةِ اثنانِ منها، فيُقسمُ المالُ بينهما نصفينِ فرضًا وردًّا، ولو كانتِ الجَدَّاتُ فيها ثلاثًا، فاضربْ عددَهنَّ في الاثنينِ، وتصحُّ من ستَّةٍ؛ للأخِ من الأمِّ ثلاثةٌ
(1)
، وللجَدَّاتِ ثلاثةٌ، لكلِّ واحدةٍ سهمٌ
(2)
.
(وأمٌّ، وأخٌ لأمٍّ) فالمسألةُ (من ثلاثةٍ) لأنَّ فرضَ الأمِّ الثلثُ، وهو اثنانِ من ستَّةٍ، وفرضُ الأخِ من الأمِّ السّدسُ واحدٌ، فيكونُ المالُ بينهما أثلاثُا؛ للأمِّ ثُلثاه،
(1)
سقطت: "ثلاثة" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 579)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 517).
وأمٌّ وبنتٌ، مِنْ أربَعَةٍ، وأمٌّ وبنتَانِ، مِنْ خَمسَةٍ، ولا تَزيدُ عَليهَا؛ لأنَّها لو زَادَتْ سُدُسًا آخَرَ لاستَغرَقَتِ الفُرُوضَ.
وإن كانَ هُناكَ أحَدُ الزَّوجَينِ، فاعْمَلْ مسألَةَ الرَّدِّ، ثمَّ مسألَةَ الزوجيَّةِ، ثمَّ تقْسِمُ ما فَضَلَ عَنْ فَرضِ الزَّوجيَّةِ عَلَى مسألةِ الرَّدِّ، فإن انقَسَمَ،
…
ولولدِها ثُلُثُه. ومع كونِ ولدِ الأمِّ ثلاثةً، تضربْ عددَهم في أصلِ المسألةِ وهو اثنانِ، تبلغُ ستةً؛ للأخ من الأمِّ النصفُ؛ ثلاثةٌ، ولكلِّ جَدَّةٍ سهمٌ.
(وأمٌّ وبنتٌ)، أو بنتُ ابنٍ (من أربعةٍ) للأمِّ السُّدسُ واحدٌ، وللبنتِ أو بنتِ الابنِ النصفُ ثلاثةٌ، فيُقسمُ المالُ بينهما أرباعًا، للأمِّ ربُعه، وللبنتِ أو بنتِ الابنِ ثلاثةُ أرباعِه.
(وأمٌّ وبنتانِ) أو بنتا ابن، أو أختانِ لغير أمٍّ (من خمسةٍ) للأمِّ السُّدسُ، وللأُخريتينِ الثلثانِ أربعةٌ، فالمالُ بينهنَّ على خمسةٍ؛ للأمِّ خمُسُه، وللأخريتينِ أربعةُ أخماسِه.
(ولا تزيدُ) مسائلُ الردِّ (عليها) أي: الخمسةِ (لأنَّها لو زادتْ سُدُسًا آخرَ لاستغرقتِ الفروض) المال، فلا ردَّ.
(وإنْ كان هناك) أي: مع الذين يُردُّ عليهم من أصحابِ الفروضِ (أحدُ الزَّوجينِ، فاعمَلْ مسألةَ الردِّ) كما تقدَّمَ. (ثمَّ مسألةَ الزَّوجيَّةِ) فإن كان من يُرَدُّ عليه شخصًا واحدًا، أخذَ الفاضلَ بعد فرضِ الزوجيَّةِ، وصحَّتْ من مسألةِ الزَّوجيَّةِ. وإنْ كان اثنينِ فأكثرَ، فأعطِ أحدَ الزوجينِ فرضَه من مسألتِه، (ثمَّ تقسِمُ ما فضلَ عن فرضِ الزَّوجيَّةِ على مسألةِ الردِّ).
(فإنْ انقسمَ): كزوجةٍ وأمٍّ وأخوينِ لأمٍّ، فللزوجةِ الرّبُعُ، واحدٌ من أربعةٍ،
صَحَّتْ مسألةُ الردِّ مِنْ مسألَةِ الزَّوجيَّةِ، وإلَّا فاضرِب مسألَةَ الرَّدِّ في مَسألَةِ الزوجيَّةِ. ثمَّ مَنْ له شَيءٌ مِنْ مَسألَةِ الزوجيَّةِ، أخذَه مَضرُوبًا في مَسألَةِ الردِّ، ومَنْ له شيءٌ مِنْ مسألَةِ الردِّ، أخذَهُ مضرُوبًا في الفَاضِلِ عَنْ مسألةِ الزوجيَّةِ. فزوجٌ وجدَّةٌ وأخٌ لأُمِّ مَثَلًا، فاضرِب مَسألةَ الردِّ، وهي اثنان، في مَسألَةِ الزَّوجِ وهِيَ اثنَانِ، فتَصِحُّ مِنْ أربَعَةٍ، وهَكَذَا.
مخرجِ الرُّبعِ، والباقي ثلاثةُ تنقسمُ على مسألةِ الردِّ، وهي ثلاثةٌ بين الأمِّ وولدَيها أثلاًثا؛ لأنَّ مسألةَ الردِّ من ثلاثةٍ، كما تقدَّمَ.
وكذا زوجةٌ، وأمُّ، وأخٌ لأمٍّ، للزوجةِ الرُّبعُ، والباقي للأمِّ وولدِها أثلاثًا، لها مِثلا مالِه، سهمانِ، وله سهمٌ. فـ (صحَّتْ مسألةُ الردِّ من مسألةِ الزَّوجَّيةِ).
(وإلَّا) ينقسمُ الباقي بعدَ فرضِ أحدِ الزوجينِ، على مسألةِ الردِّ، ولم يوافقْها (فاضربْ مسألةَ الردِّ في مسألةِ الزَّوجيَّةِ) فما حصلَ صحَّتْ منه المسألتانِ، ثم تقسمُه (ثمَّ مَن له شيءٌ من مسألةِ الزَّوجيَّةِ، أخذَه مضروبًا في مسألةِ الردِّ) لأنَّها التي ضُرِبتْ فيها. (ومَن له شيءٌ من مسألةِ الردِّ، أخذَه مضروبًا في الفاضلِ) عن فرضِ أحدِ الزوجينِ (عن مسألةِ الزوجيةِ) لأنَّه المستحقُّ لهم. وينحصرُ ذلك في خمسةِ أصولٍ:
أحدُها: ما ذكرَه بقولِه: (فزوجٌ، وجَدَّةٌ، وأخٌ لأمٍّ مَثَلًا) مسألةُ الزوجِ: من اثنينِ، مخرجِ النصفِ، له واحدٌ على اثنينِ. مسألةُ الردِّ: لا ينقسمُ ويباينُ (فاضربْ مسالةَ الردِّ، وهي اثنانِ، في مسألةِ الزَّوجِ، وهي اثنانِ) فاضربْ إحدَاهما في الأخرى، يكنِ الحاصلُ أربعةً (فتصحُّ من أربعةٍ) للزوجِ واحدٌ في اثنينِ باثنينِ، ولكلٍّ من الجَدِّةِ والأخِ لأمِّ واحدٌ في واحدٍ بواحدٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإنْ كان مكانَ الزوجِ زوجةٌ، فتكونُ الورثةُ: زوجةٌ، وجَدَّةٌ، وأخًا لأمِّ. مسألةُ الزوجةِ من أربعةٍ؛ لها واحدٌ، يبقى ثلاثةٌ، لا تنقسمُ على مسألةِ الردِّ، وهي اثنانِ وتباينُها، فاضربْ مسألةَ الردِّ اثنينِ في مسألةِ الزوجيةِ أربعةٍ، تكنْ ثمانيةً، للزوجةِ واحدٌ في اثنينِ باثنينِ، ولكل من الجَدَّةِ والأخِ لأمِّ واحدٌ في ثلاثةٍ بثلاثةٍ.
وإن كان مكانَ الجَدَّةِ أختٌ من الأبوينِ، فالورثةُ: زوجةٌ، وأختٌ لأبوين، وأخٌ لأمٍّ. مسألةُ الردِّ من أربعةٍ، للأختِ ثلاثةٌ، وللأخِ لأمٍّ واحدٌ، يفضلُ لهم عن فرضِ الزوجةِ ثلاثةٌ، تباينُ الأربعةَ، فإذا ضَربتَ أربعةً في أربعةٍ، انتقَلَت المسألةُ إلى ستَّةَ عَشَرَ، للزَّوجَةِ أربعَةٌ، وللأختِ تسعةٌ، وللأخِ ثلاثةٌ.
وإنْ كان مع الزوجةِ بنتٌ وبنتُ ابنٍ، فمسألةُ الزوجيةِ من ثمانيةٍ، ومسألةُ الردِّ من أربعةٍ، والفاضلُ عن الزوجةِ سبعةٌ لا تنقسمُ على الأربعةِ، وتباينُها، فإذا ضَربتَ أربعةً في ثمانيةٍ، انتقلتِ المسألةُ إلى اثنين وثلاثينَ، للزوجةِ أربعةٌ، وللبنتِ أحدٌ وعشرون، ولبنتِ الابنِ سبعةٌ.
وإنْ كان معهنَّ -أي: الزوجةِ والبنتِ وبنتِ الابنِ- جَدَّةٌ، صارتْ من أربعينَ؛ لأنَّ مسالةَ الردِّ من خمسةٍ، والباقي بعدَ فرضِ الزوجةِ، فاضربِ الخمسةَ في الثمانيةِ يحصلُ ما ذُكِرَ، للزوجةِ خمسةٌ، وللبنتِ أحدٌ وعشرون، ولبنتِ الابنِ سبعةٌ، وللجَدَّةِ سبعةٌ.
وإنْ كان مع أحدِ الزوجينِ واحدٌ منفردٌ ممن يُرَدُّ عليه من الورثةِ، أخذَ الفاضلَ عن الزوجِ أو الزوجةِ، كأنَّه عصبةٌ، ولا تنتقلُ المسألُة؛ لعدمِ المقتضي للنقلِ، كزوجةٍ وبنتٍ، للزوجةِ الثُّمنُ، واحدٌ من ثمانيةٍ، والباقي للبنتِ فرضًا وردًّا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإنْ وافقَ الباقي -بعدَ فرضِ الزوجيةِ- مسالةَ الردِّ بجزءٍ، كنصفٍ وربع وثمنٍ، فأرجعْ مسألةَ الردِّ إلى وفقِها، واعتبر الأدقَّ إن تعدَّدَ، ثمَّ اضربْ في مسألةِ الزوجيةِ، ثمَّ مَن له شيءٌ من مسألةِ الزوجيةِ، أخذَه مضروبًا في وَفْقِ مسألةِ الردِّ؛ لقيامِه مقامَها. ومَن له شيءٌ من مسألةِ الردِّ، أخذَه مضروبًا في وَفْقِ الفاضلِ عن أحدِ الزوجينِ من مسألةِ الزوجيَّة؛ لقيامِ وَفْقِه مقامَه، كأربعِ زوجاتٍ، وثلاث جَدَّاتٍ متحاذياتٍ، وثمانِ بناتٍ. فمسألةُ الزوجيةِ أصلُها ثمانيةٌ، للزوجاتِ واحدٌ، لا ينقسمُ عليهنَّ، ويباينُ، فاضربْ أربعةً في ثمانيةٍ، تصحُّ من اثنينِ وثلاثينَ، للزوجاتِ أربعةٌ، ويفضلُ ثمانيةٌ وعشرونَ. ومسألةُ الردِّ من ثلاثينَ؛ لأنَّ أصلَها خمسةٌ، للجَدَّاتِ واحدٌ، لا ينقسمُ عليهنَّ، ويباينُ. وسهامُ البناتِ أربعةٌ، توافقُ عددهنَّ -وهو ثمانيةٌ- بالربعِ، فرجعنَ إلى اثنين، ثم ضُربِ الاثنانِ في عددِ الجدَّاتِ؛ للتبايُنِ بين المثبتِينَ من عددِ الفريقينِ، فكانَ الحاصلُ ستَّةً، ثمَّ اضربْ الستَّةَ في أصلِ مسألةِ الردِّ، وهو خمسةٌ، تبلغُ ثلاثينَ؛ للجَدَّاتِ ستَّةٌ، لكلِّ واحدةٍ سهمانِ، وللبناتِ أربعةٌ وعشرون، لكلِّ واحدةٍ ثلاثةٌ، وبين الثلاثين التي صحَّتْ منها مسألةُ الردِّ، وبين الفاضلِ عن الزوجاتِ من مسألةِ الزوجيةِ، وهو ثمانيةٌ وعشرون، موافقةٌ بالأنصافِ، فأرجِعْ الثلاثين إلى نصفِها خمسةَ عشرَ، ثمَّ اضربْ الخمسةَ عشرَ في مسألةِ الزوجيةِ اثنينِ وثلاثين، تبلغُ أربعمائةٍ وثمانينَ، ومنها تصحّ، ثمَّ تقسِمُ. فكلُّ مَن له شيءٌ من مسألةِ الزوجيةِ، أخذَه مضروبًا في وَفْقِ مسألةِ الردِّ، وهو خمسةَ عشرَ، ومَن له شيءٌ من مسألةِ الردِّ أخذَه مضروبًا في وَفْقِ الفاضلِ عن مسألةِ الزوجيَّة، وهو أربعةَ عشرَ، فللزوجاتِ أربعةٌ في خمسةَ عشرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بستِّين، لكلِّ زوجةٍ خمسةَ عشرَ، وللجَدَّاتِ ستَّةٌ في أربعةَ عشرَ، نصفُ الثمانيةِ والعشرين، بأربعةٍ وثمانينَ، لكلِّ واحدةٍ ثمانيةٌ وعشرون، وللبناتِ أربعةٌ وعشرونَ في أربعةَ عشرَ بثلاثمائةٍ وستةٍ وثلاثينَ، لكلِّ بنتِ اثنانِ وأربعونَ.
وإن شئتَ فصحِّحْ مسألةَ الردِّ
(1)
وحدَها ابتداءً، ثمَّ زِدْ عليها لفرض الزوجيَّةِ: للنصفِ مثلًا، أي: مثلَ مسألةِ الردِّ؛ لأنَّها بقيةُ مالٍ ذهبَ نصفُه، ففي زوجٍ وجدَّةٍ وأخٍ لأمٍّ مسألةُ الردِّ من اثنينِ، فتزيدُ عليها اثنين للزوجِ تصيرُ أربعةً، ومنها تصحُّ.
وزِدْ للربعِ ثلثًا؛ لأنَّها بقيةُ مالٍ ذهبَ ربعُه، كزوجةٍ وأمٍّ وأخٍ لأمٍّ. مسألةُ الردِّ من ثلاثةٍ، فتزيدُ عليها للزوجةِ واحدًا، تصيرُ أربعةً، ومنها تصحُّ.
وزدْ للثُّمنِ سبعًا؛ لأنَّها بقيةُ مالٍ ذهبَ ثمنُه، ففي زوجةٍ وبنتٍ وبنتِ ابنٍ
وجَدَّةٍ. مسألةُ الردِّ من خمسةٍ، فتزيدُ عليها للزوجةِ خمسةَ أسباعٍ، وابسُطِ الخمسةَ وخمسةَ أسباعٍ، من مخرجِ كسرٍ؛ ليزولَ، فتضربَها في مخرجِ السُّبعِ، يحصلُ أربعونَ، ومنها تصحُّ
(2)
.
(1)
سقطت: "الرد" من الأصل.
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(4/ 582)، "كشاف القناع"(10/ 405).
فَصْلٌ في ذَوِي الأرحَامِ
وهُم كُلُّ قَرابَةٍ ليسَ بذِي فَرضٍ ولا عَصَبَةٍ.
وأصنافُهُم أحَدَ عَشَرَ:
ولدُ البنَاتِ لِصُلب أو لابنٍ، ووَلَدُ الأخَوَاتِ، وبنَاتُ الإخوَةِ، وبناتُ الأعمَامِ، وولَدُ وَلَدِ الأمِّ، والعَمُّ لأُمٍّ، والعَمَّاتُ، ....
(فصلٌ في ذوي الأرحامِ)
جمعُ رحِمٍ وهو القرابةُ، أي: ذوي
(1)
النَّسَبِ (وهم) أي: ذوو الأرحامِ هنا: (كلُّ قرابةٍ ليس بذي فرضٍ ولا عصبةٍ).
(و) عدَدُ (أصنافِهم) أَي: ذوي الأرحامِ (أحدَ عشر) صنفًا:
أحدُها: (ولدُ البناتِ لصُلبٍ أو لابنٍ).
(و) الثاني: (ولدُ الأخواتِ) لأبوينِ، أو لأبٍ.
(و) الثالثُ: (بناتُ الإخوةِ) لأبوينِ أو لأبٍ.
(و) الرابعُ: (بناتُ الأعمامِ) لأبوينِ، أو لأَبٍ، أو لأمٍّ.
(و) الخامسُ: (ولدُ ولدِ الأمِّ) ذكرًا كان أو أنثى.
(و) السادسُ: (العمُّ لأمٍّ)، سواءٌ كان عمَّ الميِّتِ، أو عمَّ أبيهِ أو جدِّهِ، وإنْ علا.
(و) السابعُ: (العمَّاتُ) لأبوينِ، أو لأبٍ، أو لأمِّ، سواءٌ عمَّاتُ الأبِ، أو عمَّاتُ أبيهِ، أو جدِّهِ.
(1)
سقطت: "ذوي" من الأصل.
والأخوَالُ، والخَالاتُ، وأبُو الأُمِّ، وكُلُّ جدَّةٍ أدلَتْ بأبٍ بينَ أُمَّينِ، ومَنْ أدلَى بِهم، ويورَّثُونَ بتَنزيلِهم مَنزِلَةَ من أدلَوا به.
وإنْ أدلَى جَماعَةٌ منهُم بوَارِثٍ، واستَوَت مَنزِلَتهُم مِنْهُ، فَنَصِيبُهُ لَهُم بالسَّوِيَّةِ؛ الذَّكَرُ كالأُنثَى.
(و) الثامنُ: (الأخوالُ، والخالاتُ) للميِّتِ، أو لأبويهِ، أو أجدادِه، أو جداته.
(و) التاسعُ: (أبو الأمِّ) وأبوه، وإن علا.
(و) العاشر: (كلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بأبٍ بين أمَّين
(1)
).
(و) الحادي عشر: (مَن أَدْلَى بهم) أي: بواحدٍ من صنفٍ ممَّنْ سبقَ، كعمَّةِ العمَّةِ أو العمِّ، وخالةِ العمَّةِ أو الخالِ، وأخي أب الأمِّ، وعمِّه وخالِه، ونحوِهم.
(ويُورَّثُونَ بتَنزيلِهم منزلةَ مَن أَدْلَوا به) فينزَّلُ كلٌّ منهم منزلةَ مَن أَدْلَى به من الورثةُ بدرجةِ أو درجاتٍ، حتى يصلَ إلى مَن يرثُ، فيأخذُ ميراثَه.
(وإنْ أَدْلَى جماعةٌ منهم بوارثَ) بفرضٍ أو تعصيبٍ، (واستوتْ منزلتُهم منه) بلا سبقٍ، كأولادِه، وكإخوَتِه المتفرِّقينَ الذين لا واسطَةَ بينَه وبينَهم. (فنصيبُهُ لهم بالسَّوِيَّةِ؛ الذكرُ كالأُنثى) لأنَّهم يَرِثونَ بالرَّحمِ المجرَّدَةِ، فاستوى ذكرُهم وأُنثاهم، كولدِ الأمِّ.
فبنتُ أختٍ، وابنٌ، وبنتٌ لأختٍ
(2)
أُخرى، لبنتِ الأختِ الأولى النصفُ؛ لأنَّه إرثُ أمِّها فرضًا ورَدًّا، ولبنتِ الأختِ الأخرى وأخيها النصفُ؛ لأنَّه إرثُ
(1)
في الأصل: "بذكر بين اثنين".
(2)
في الأصل: "الأخت".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أمِّها، حيثُ استوتِ الأختانِ في كونِهما لأبوينِ، أو لأبٍ أو لأمٍّ، بالسَّويَّةِ بين الأختِ وأخيها، فتصحُّ من أربعةٍ.
وإنِ اختلفتْ منزلتُهم ممَّنْ أَدْلَوا به، جعَلتَ المدلَى به كالميِّتِ؛ لتظهرَ جهةُ اختلافِ منازلِهم، وقَسَمتَ نصيبَه بينهم -أي: مَن أَدْلَوا به- على ذلك، أي
(1)
: على حسبِ منازلِهم منه، كثلاثِ خالاتٍ مفتَرِقاتٍ، واحدةٌ شقيقةٌ، والأخرى لأبٍ، والأخرى لأمِّ. وثلاثِ عمَّاتٍ كذلك -أي: مفتَرِقَات
(2)
، فالثلثُ الذي كان للأمِّ بين الخالاتِ على خمسةٍ؛ لأنَّهنَّ يَرثنَها كذلك فرضًا وردًّا، والثلثانِ اللذانِ كانا للأبِ تعصيبًا بين العمَّاتِ كذلك، أي: على خمسةٍ؛ لما تقدَّمَ. والخمسُة والخمسةُ
(3)
متماثلتان
(4)
، فاجتزئ بإحداهما واضربْها، أي: الخمسةَ، في ثلاثةٍ أصلِ المسألةِ، مخرجِ الثلثِ، تكنْ خمسةَ عشر، للخالاتِ منها خمسةٌ، للخالة من قِبَلِ الأبِ والأمِّ ثلاثةٌ، وللخالةِ من قبلِ الأبِ سهمٌ، وللخالةِ من قبلِ الأمِّ سهمٌ، كما يرَثْنَ الأمَّ لو ماتت
(5)
عنهنَّ، وللعمَّاتِ عشرةٌ؛ للعمَّةِ من قِبلِ الأبِ والأمِّ ستَّةٌ، وللعمَّةِ من قبل
(6)
الأبِ سهمانِ، وللعمَّةِ من قِبلِ الأمِّ سهمانِ.
وإن أسقط بعضُهم بعضًا، عُمِلَ به، فعمَّةٌ وابنةٌ أخٍ، المالُ للعمَّةِ؛ لأنَّها بمنزلةِ الأبِ، وبنتُ الأخِ بمنزلةِ الأخِ، والأبُ يُسقِطُ الأخوةَ.
(1)
سقطت: "أي" من الأصل.
(2)
في الأصل: "متفرقات".
(3)
سقطت: "والخمسة" من الأصل.
(4)
في الأصل: "متماثلات".
(5)
في الأصل: "كانت".
(6)
سقطت: "قبل" من الأصل.
ومَنْ لا وَارِثَ له، فمَالُهُ لبَيتِ المَالِ، ولَيسَ وَارِثًا، وإنَّمَا يَحفَظُ المَالَ الضَّائِعَ وغَيرَهُ، فَهو جِهَةٌ ومَصْلَحَةٌ.
ويَسقُطُ بعيدٌ
(1)
مِن وارثٍ بأقربَ، كبنتِ بنتِ بنتٍ، وبنتِ بنتِ بنتِ بنتٍ، المال للأولى.
وجهاتُ ذوي الأرحامِ ثلاثةٌ:
أبوَّةٌ: ويدخلُ فيها فروعُ الأبِ، من الأجدادِ والجَدَّاتِ السواقطِ، وبناتِ الإخوةِ والأخواتِ، وبناتِ الأعمامِ والعمَّاتِ، وإنْ عَلَوْنَ.
والثانيةُ: أُمومةٌ: ويدخلُ فيها فروع الأمِّ، من الأخوالِ والخالاتِ، وأعمَامِ الأمِّ وأعمامِ أبيها وجدِّها وأمِّها، وعمَّاتِ الأمِّ، وعمَّاتِ أبيها وأمِّها، وأخوالِ الأمِّ، وأخوالِ أبيها وأمِّها، وخالاتِ الأمِّ، وخالاتِ أبيها وأمِّها.
والثالثةُ: بنوَّةٌ: ويدخلُ فيها أولادُ البناتِ، وأولادُ بناتِ الابنِ.
ووجة الانحصارِ: أنَّ الواسطةَ بين الإنسانِ وسائرِ أقاربِه: أبوه، وأمُّه، وولدُه؛ لأنَّ طرَفَه الأعلى الأبوانِ؛ لأنَّه نشأَ منهما، وطرَفَه الأسفلَ ولدُه؛ لأنَّه مبدؤُه، ومنه نشأَ، فكلُّ قريبٍ إنَّما يُدلي بواحدٍ من هؤلاء.
(ومَن لا وارثَ له) معلومٌ (فمالُه لبيتِ المالِ) يحفظُه، كالمالِ الضائعِ، (وليسَ) بيتُ المالِ (وارثًا، وإنما يحفظُ المالَ الضَّائعَ وغيرَه) كأموالِ الفيءِ، (فهو جهةٌ ومصلحةٌ) قال في "الإنصاف"
(2)
: هل بيتُ المالِ وارث أم لا؟ فيه
(1)
في الأصل: "بقيةً".
(2)
"الإنصاف"(18/ 126).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
روايتانِ. والصحيحُ من المذهبِ والمشهورِ: أنَّه ليس بوارثٍ، وإنَّما يُحفظُ فيه المالُ الضائعُ. قالَه في "القاعدة" السابعةِ والتسعينَ. انتهى.
بَابُ أصُولِ المَسَائِلِ
وهِيَ سَبعَةٌ:
اثنَانِ، وثَلاثَةٌ، وأربَعَةٌ، وسِتَّةٌ، وثَمَانِيَةٌ، واثنَا عَشَرَ، وأربَعَةٌ وعِشرُونَ.
ولا يَعولُ مِنهَا إلَّا السِّتَّةُ، وضِعفُهَا، وضِعفُ ضِعفِهَا.
فالستَّةُ: تعولُ متَوالِيَةً إلى عَشَرَةٍ.
فتَعُول إلى سَبعَةٍ، كزَوج وأختٍ لِغَيرِ أمٍّ وجَدَّةٍ.
وإلى ثَمانِيَةٍ، كزَوجٍ وأمٍّ، وأختٍ لغَيرِ أمٍّ،
(بابُ أصولِ المسائلِ)
أي: المخارجِ التي تخرُجُ منها فروضُها. والمسائلُ جمعُ مسألةٍ، مصدرُ سألَ بمعنى: مسؤولةٌ.
(وهي) أي: أصولُ المسائلِ (سبعةٌ):
(اثنانِ، وثلاثةٌ، وأربعة، وستةٌ، وثمانية، واثنا عشرةَ، وأربعة وعشرون).
(ولا يعول منها إلا السِّتَّةُ، وضِعفُها): اثنا عشَرَ، (وضِعفُ ضِعفِها) أربعةٌ وعشرون.
(فالسَّتةُ: تعولُ متواليةً إلى عشرةٍ. فتعولُ إلى سبعةٍ، كزوجِ وأختٍ لغير أمٍّ
(1)
وجَدَّةٍ) للزوجِ النصفُ، وللأختِ لغيرِ أمِّ النصفُ، وللجَدَّةِ الَسُّدُس.
(و) تعولُ (إلى ثمانيةٍ، كزوجٍ وأمٍّ وأختٍ لغيرِ أمٍّ)، للزوجِ الحفُ ثلاثةٌ،
(1)
سقطت: "لغير أمٍّ" من الأصل.
وتسمَّى "المُبَاهَلَة".
وإلى تِسعَةٍ، كزَوجٍ ووَلَدَي أمٍّ، وأُختَين لِغَيرِهَا، [وتسمَّى "الغَرَّاءَ""والمَروَانِيَّةَ".
وإلى عَشَرَةٍ، كزَوجٍ وأمٍّ وأُختَينِ لأمٍّ وأُختَينِ لِغَيرِهَا]، وتسمَّى "أمَّ الفُرُوخِ".
وللأمِّ الثلثُ اثنانِ، وللأختِ النصفُ ثلاثةٌ، (وتُسمَّى المُبَاهَلَةَ)؛ لقولِ ابنِ عباسٍ فيها: من شاءَ باهلتُه
(1)
. والمباهلةُ: الملاعَنةُ. والتباهلُ: التلاعُنُ.
وهي أوَّلُ فريضةٍ عالَتْ، حدثتْ في زمنِ عمرَ، فجمعَ الصحابةَ للمشورةِ، فقال العباسُ: أرى
(2)
أن يُقسَمَ المالُ بينهم على قدرِ سِهامِهم، فأخذَ به عُمرُ، واتَّبعَه الناسُ على ذلك حتى خالفَهم ابنُ عباسٍ
(3)
.
(و) تحولُ (إلى تسعةٍ؛ كزوجٍ وَوَلَدَي أمٍّ وأختين لغيرها) أي: لغيرِ أمٍّ. للزوجِ النصفُ ثلاثةٌ، ولولدي أمٍّ الثلثُ اثنانِ، وللأختينِ الثلثانِ أربعةٌ. (وتُسمَّى الغرَّاءَ) لأنَّها حدثتْ بعدَ المباهَلَةِ، واشتَهَرَ بها العَوْلُ. (و) تسمَّى (المَرَوانيَّةَ) لحدوثِها زمنَ مرْوانَ.
(و) تعولُ (إلى عشرةٍ، كزوجٍ وأمٍّ وأختين لأمٍّ وأختين لغيرِها، وتُسمَّى أمَّ الفُروخِ).
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (35، 36)، والبيهقي (6/ 253).
(2)
في الأصل: "أي).
(3)
أخرجه البيهقي (6/ 253).
والاثنَا عَشَرَ: تعولُ أفرَادًا إلى سَبعَةَ عَشَرَ.
فتَعُولُ إلى ثَلاثَةَ عَشَرَ، كزَوجٍ وبنتَينِ وأُمٍّ.
وإلى خَمسَةَ عَشَرَ، كزَوجٍ وبنتَينِ وأبوَينِ.
وإلى سَبعَةَ عَشَرَ، كثَلاثِ زَوجَاتٍ، وجدَّتَينِ، وأربَعِ أخَوَاتٍ لأمٍّ، وثَمانِ أخَوَاتٍ لغَيرِهَا، وتُسمَّى "أمَّ الأرَامِلِ".
والأربَعةُ والعِشرُونَ: تعُولُ مرَّةً واحِدَةً إلى سَبعَةٍ وعِشرِينَ، كَزَوجَةٍ،
(والاثنا عَشَرَ: تعولُ أفرادًا) لا أشفاعًا (إلى سبعةَ عشرَ) على توالي الأفرادِ.
(فتعولُ إلى ثلاثةَ عشرَ؛ كزوجٍ وبنتين وأمٍّ). للزوجِ الرُّبعُ ثلاثةٌ، وللبنتينِ الثلثانِ ثمانيةٌ، وللأمِّ السُّدسُ اثنانِ.
(و) تعولُ (إلى خمسةَ عشرَ، كزوجٍ وبنتينِ وأبوينِ) للزوجِ الربعُ ثلاثةٌ، وللبنتينِ الثلثانِ ثمانيةٌ، ولكلٍّ من الأبوينِ السُّدسُ اثنانِ.
(و) تعولُ (إلى سبعةَ عشرَ؛ كثلاثِ زوجاتٍ وجَدَّتينِ وأربعِ أخواتِ لأمٍّ وثمانِ أخواتِ لغيرها)، للزوجاتِ الرُّبعُ ثلاثةٌ، لكلِّ واحدةٍ واحدٌ، وللجَدَّتين السُّدسُ اثنان
(1)
، لكلِّ واحدةٍ واحدٌ، وللأخواتِ لأمِّ الثلث أربعةٌ، ولكلِّ واحدةٍ واحدٌ، وللأخواتِ لأمٍّ الثلث أربعة، لكلِّ واحدةٍ واحدٌ، وللأخواتِ لغيرِها الثلثانِ ثمانيةٌ، لكلِّ واحدةٍ واحدٌ. (وتُسمَّى أمَّ الأراملِ) وأمَّ الفروجِ -بالجيم- لأنوثةِ الجميعِ.
(والأربعةُ والعشرون: تعولُ مرَّةً واحدةً إلى سبعةٍ وعشرين) فقط (كزوجةٍ
(1)
سقطت: "اثنان" من الأصل.
وبنتَينِ، وأبَوينِ، وتُسمَّى "المِنبَرَيَّةَ" و"البَخِيلَةَ" لِقِلَّةِ عَولِها.
وبنتينِ) أو بنتي ابنٍ فأكثرَ (وأبوينِ) أو جدِّ وجَدَّةٍ. للزوجةِ الثمنُ ثلاثةٌ، ولكلِّ من البنتينِ أو بنتي الابنِ فأكثرَ الثلثانِ ستَّةَ عشَرَ، ولكلِّ من الأبوينِ أو الجدِّ، أو الجدَّةِ السُّدسُ أربعةٌ (وتُسمَّى المِنْبِريَّةَ، والبخيلة؛ لقلَّةِ عولِها) لأنَّها لم تَعُلْ إلا مرَّةً واحدةً.
بابُ مِيَراثِ الحَمْلِ
مَنْ مَاتَ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُه، فطَلَبَ بَقيَّةُ وَرَثَتِهِ قَسْمَ التَّرِكَةِ، قُسِمَتْ ووُقِفَ له الأكثَرُ مِنْ إرثِ ذَكَرَينِ، أو أُنثَيَينِ، ودُفِعَ لِمَنْ لا يَحجُبُهُ الحملُ إرثُهُ كَامِلًا، ولِمَنْ يحجُبُهُ حَجْبَ نُقصَانٍ أقلُّ ميرَاثِهِ، ....
(بابُ ميراثِ الحملِ)
بفتحِ الحاءِ. والحملُ يرِثُ بلا نزاعٍ في الجملةِ، لكنْ هلْ يثبتُ له الملكُ بمجرَّدِ موتِ مورِّثِه -وجزمَ به في "الإقناع"- كما يدلُّ عليه نصُّه في النفقةِ على أمِّه من نصيبِه، ويتبيَّنُ ذلك بخروجِه حيًّا، أم لا يثبتُ له المِلكُ حتى ينفصلَ حيًّا؟. ويأتي فيه خلافٌ بين الأصحابِ في بابِ النفقاتِ.
(مَن ماتَ عن حملٍ يرِثُه) ومَع الحَملِ مَن يَرِثُ أيضًا (فطَلَبَ بقيَّةُ ورثتِه قسْمَ التركةِ) لم يُجبَروا
(1)
على الصَّبرِ (قُسِمتِ) التركةُ، (ووُقِفَ له) أي: الحملِ (الأكثرُ من إرثِ ذَكَرينِ، أو أُنثيينِ) لأنَّ ولادةَ الاثنينِ كثيرةٌ معتادةٌ، فلا يجوزُ قسمُ نصيبِهما كالواحدِ. وما زادَ عليهما نادرٌ، فلا يُوقفُ له شيءٌ.
(ودُفِعَ لمَن لا يحجُبُه الحملُ إرثُه كاملًا) كزَوجٍ أو زَوجَةٍ مع أمٍّ حاملٍ (ولمن يحجُبُه) الحملُ (حَجْبَ نُقصانٍ أقلُّ ميراثِه) فمَن ماتَ عن زوجة وابنٍ وحملٍ، دُفِعَ لزوجتِه الثمنُ، ووُقِفَ للحملِ نصيبُ ذكرينِ؛ لأنَّه أكثرُ من نصيب بنتينِ، فتصحُّ المسألةُ من أربعةٍ وعشرين؛ للزوجةِ ثلاثةٌ، ويُعطى للابنِ سبعةٌ، وتوقفُ
(1)
في الأصل: "يجيزوا".
ولا يُدفَعُ لِمَنْ يُسقِطُهُ شَيءٌ. فإذا وُلِدَ أخَذَ نَصيبَهُ، ورُدَّ ما بَقِيَ لمُستَحِقِّهِ.
ولا يَرِثُ إلَّا إنْ استهَلَّ صَارِخًا، أو عَطَسَ، أو تنفَّسَ، أو وُجِدَ منهُ ما يَدُلُّ على الحَياةِ، كالحَرَكَةِ الطَّويلَةِ ونحوِهَا.
أربعةَ عشرَ للوضعِ، ثمَّ لا يخفى الحكمُ.
(ولا يُدفعُ لمن يُسقِطُهُ) الحملُ (شيءٌ) من التركةِ، كمَن ماتَ عن زوجةٍ حاملٍ منه، وعن إخوةٍ أو أخواتٍ، فلا يُعطوْنَ شيئًا؛ لاحتمالِ كونِ الحملِ ذكرًا، وهو يُسقِطُ الإخوةَ والأخواتِ.
(فإذا وُلدَ) الحملُ (أخذَ نصيبَه) من الموقوفِ (ورُدَّ ما بقيَ لمُستَحِقِّه) وإنْ أعوزَ شيئًا؛ بأنْ ولدتْ أكثرَ من ذكرينِ، والموقوفُ إرثُهما، رجعَ على مَن هو في يدِه بباقي ميراثِه.
(ولا يرثُ إلا إنْ استهلَّ صارخًا) نصًّا؛ لحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إذا استهلَّ المولودُ صارخًا ورِثَ". رواه أحمدُ، وأبو داودَ
(1)
. ولابنِ ماجه
(2)
مرفوعًا مثلُه. والاستهلالُ: رفعُ الصَّوتِ بالبكاءِ
(3)
. فـ"صارخًا": حالٌ مؤكَّدةٌ.
(أو عطَسَ): بفتحِ الطاءِ في الماضي، وضمِّها أو كَسرِها في المُضارِعِ. (أو تنفَّسَ، أو وُجِدَ منه ما يدلُّ على الحياةِ، كالحركةِ الطويلةِ ونحوِها) كسُعالٍ؛ لدلالةِ هذه الأشياءِ على الحياةِ المستقرَّةِ، فيثبتُ له حكمُ الحيِّ، كالمستهلِّ؛ بخلافِ حركةٍ يسيرةٍ، كاختلاجٍ. قال الموفَّقُ: ولو عُلِمَ معها حياةٌ؛
(1)
لم أجده عند أحمد. وأخرجه أبو داودَ (2920)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2750) من حديث جابر.
(3)
سقطت: "بالبكاء" من الأصل.
ولو ظَهَرَ بَعضُهُ فاستهَلَّ، ثمَّ انفصَلَ ميتًا، لم يَرِثْ.
لأنَّه لا يعلمُ استقرارها؛ لاحتمالِ كونِها كحركةِ المذبوحِ.
(ولو ظهرَ بعضُه) أي: الجنينِ (فاستهلَّ) أي: صوَّتَ (ثمَّ انفصلَ ميتًا، لم يرثْ) وكان كما لو لم يستهلَّ.
بَابُ مِيَراثِ المَفقُودِ
مَنِ انقَطَعَ خَبرُهُ؛ لِغَيبَةٍ ظَاهِرُهَا السَّلامَةُ، كالأسر، والخُرُوجِ للتِّجَارَةِ، والسِّياحَةِ، وطَلَبِ العِلمِ، انتُظِرَ تتمَّةَ تِسعِينَ سَنَةً مُنذُ وُلِدَ، فإنْ فُقِدَ ابنَ تِسعِينَ، اجتَهَدَ الحَاكِمُ.
وإنْ كانَ ظَاهِرَهَا الهَلاكُ، كَمَنْ فُقِدَ مِنْ بَينِ أهلِهِ، أو في مَهْلَكَةٍ،
(بابُ ميراثِ المفقودِ)
مِن فَقدتُ الشيءَ، أفقِدُهُ فَقدًا، وفْقْدانًا، بكَسرِ الفاءِ وضَمِّها. والفَقدُ: أن تطلبَ الشيءَ، فلا تجدُه.
والمرادُ به هنا: مَن لا تُعلمُ له حياةٌ ولا موتٌ؛ لانقطاعِ خبرِه. وهو قسمانِ:
أحدُهما: (مَن انقطعَ خبرُه؛ لِغَيبَةٍ ظاهرُها السَّلامةُ) أي: بقاءُ حياتِه (كأَسرٍ
(1)
، والخروجِ للتجارةِ، والسِّياحةِ، وطلبِ العلمِ، انتُظِرَ تتمَّةَ تسعينَ سنةً منذُ وُلدَ) لأنَّ الغالبَ أنَّه لا يعيشُ أكثرَ من هذا.
(فـ) ــعلى الأوَّلِ: (إن فُقِدَ ابنَ تسعينَ) سنةً (اجتهدَ الحاكمُ) في تقديرِ مدَّةِ انتظارِه.
الثاني: مَن انقطعَ خبرُه لِغَيبةٍ ظاهرُها الهلاكُ. وقد ذكرَه بقولِه: (وإنْ كانَ ظاهرَها الهلاكُ، كمَن فُقِدَ من بينِ أهلِه، أو في مهلكةٍ). قال في "المبدع": مَهلكةٌ: بفتحِ الميم واللَّامِ، ويجوزُ كسرُها، حكاهما أبو السعاداتِ. ويجوزُ ضمُّ
(1)
في الأصل: "كالأسير".
كدَرْبِ الحِجَازِ، أو فُقِدَ بَينَ الصَّفَّينِ حَالَ الحَربِ، أو غَرِقَتْ سَفِينَةٌ، ونَجَا قَومٌ وغَرِقَ آخَرُونَ، انتُظِرَ تتمَّةَ أربَعِ سِنِينَ، مُنذُ فُقِدَ.
ثمَّ يُقسَمُ مالُهُ في الحَالَتَينِ. فإنْ قَدِمَ بعدَ القَسْمِ، أَخَذَ ما وَجَدَه بعَينِه، وَرَجَعَ بالبَاقِي.
فإنْ ماتَ مُوَرِّثُ هَذَا المفقُودِ في زَمَنِ انتِظَارِهِ، أخَذَ كُلُّ وَارِثٍ اليَقِينَ، ووُقِفَ لهُ البَاقِي.
الميمِ مع كسرِ اللَّام: اسمُ فاعلٍ من: أهلَكَتُ. وهي: أرضٌ يكثرُ فيها الهلاكُ
(1)
(كدَربِ الحجازِ، أو فُقِدَ بين الصَّفينِ حالَ الحربِ، أو غرِقتْ سفينةٌ، ونجا قومٌ وغرِقَ آخرونَ، انتُظِرَ تتمَّةَ أربعِ سنينَ منذُ فُقِدَ).
(ثمَّ يُقسَمُ مالُه) لأنَّها مدَّةٌ يتكرَّرُ فيها تردُّدُ المسافرين والتَّجارِ، فانقطاعُ خبرِه عن أهلِه مع غَيبتِه على هذا الوجهِ يُغَلِّبُ ظنَّ الهلاكِ، إذا لو كان باقيًا، لم ينقطعْ خبرُه إلى هذه الغايةِ، فلذلك حُكِمَ بموتِه في الظاهرِ
(2)
(في الحالتينِ): في مسألتي غَلَبَةِ السَّلامةِ بعدَ التسعينَ، وغَلَبَةِ الهلاكِ بعدَ الأربعِ سنينَ. فإنْ رجعَ بعدَ قسمٍ، أخذَ ما وَجَدَ، ورجعَ على مَن أتلَفَ شيئًا. وإليه أشارَ بقولِه:(فإنْ قدمَ بعدَ القسمِ أخذَ ما وجدَه بعينِه، ورجعَ بالبَاقي) لتبينِ عدمِ انتقالِ ملكِه عنه.
(فإن ماتَ مُورِّثُ هذا المفقُودِ في زمَنِ انتِظَارِه) أي: المدَّةِ التي قُلنا يُنتَظَرُ به فيها (أخذَ) من تركةِ الميِّتِ (كلُّ وارثٍ) غيرِ المفقودِ (اليقينَ
(3)
، ووُقِفَ له البَاقي) حتى
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 616).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 461)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 538).
(3)
سقطت: "اليقين" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يتبيَّنَ أمرُ المفقودِ، أو تنقضيَ مدَّةُ الانتظارِ. فاعملْ مسألةَ حياتِه، ثمَّ اعملْ مسألةَ موتِه، وانظرْ
(1)
بينهما بالنسبِ الأربعِ، ثمَّ اضربْ إحداهُما في الأخرى إنْ تباينتا، أو اضربْ وَفْقَها في الأخرى إنْ توافقَتا، واجتزئ بإحداهما بلا ضربٍ إنْ تماثلتا، واجتزئ بأكثرِهما عددًا إن تناسبتا؛ ليحصلَ أقلُّ عددٍ ينقسمُ على كلٍّ من المسألتين. ويأخذ وارثٌ منهما، لا ساقطٌ في إحداهما اليقينَ؛ لأنَّ ما زادَ عليه مشكوكٌ فيه.
فلو ماتَ أبو المفقودِ، وخلَّفَ ابنَه المفقودَ، وزوجةً، وأمًّا، وأخًا.
فمسألةُ حياتِه: من أربعةٍ وعشرين؛ للزوجةِ ثلاثةٌ، وللأمِّ أربعةٌ، وللابنِ المفقودِ سبعةَ عشرَ.
ومسألةُ موتِه: من اثني عشرَ؛ للزوجةِ ثلاثةٌ، وللأمِّ أربعةٌ، وللأخِ خمسةٌ، وهما متداخلانِ، فاجتزئ بالأربعةٍ وعشرينَ؛ للزوجةِ من مسألةِ الحياةِ ثلاثةٌ، ومن مسألةِ الموتِ ستَّةٌ، فأعْطِها الثلاثةَ، وللأمِّ من مسألةِ حياتِه أربعةٌ، ومن مسألةِ موتِه ثمانيةٌ، فأعطِها الأربعةَ، ولا شيء للأخِ من مسألةِ الحياةِ، فلا تعطه شيئًا.
فإنْ قَدِمَ المفقودُ، أخذَ نصيبَه، وإلا فحكمُه كبقيَّةِ مالهِ الذي لم يخلفْه مورِّثُه، فيُقضى منه دينُه في مدَّةِ تربُّصِه، وينفقُ منه على مَن تلزمُه نفقتُه؛ لأنَّه إنَّما يُحكمُ بموتِه عندَ انقضاءِ زمنِ انتظارِه. صحَّحه في "الإنصاف" وغيرُه.
وقيل: يُردُّ إلى ورثةِ الميِّتِ الذي ماتَ في مدَّةِ التربُّصِ. قطعَ به في "المغني"، و"الإقناع" وقدَّمه في "الرعايتين"
(2)
.
(1)
في الأصل: "وانتظر".
(2)
"دقائق أولي النهى"(4/ 618).
ومَنْ أشكَلَ نسَبُهُ، فكَالمَفقُودِ.
(ومَنْ أشكَلَ نسَبُه، فكالمفقودِ) إذا ماتَ أحدٌ من الواطئين لأمِّه، وُقِفَ لي نصيبُه منه على تقديرِ إلحاقِه به، وإن لم يُرْجَ زوالُ إشكالِه؛ بأنْ عُرِضَ على القافَةِ، فأشكلَ عليهم ونحو ذلك، لم يوقفْ له شيءٌ.
بَابُ مِيَراثِ الخُنثَى
وهُوَ مَنْ لَهُ شَكلُ الذَّكَرِ وفَرجِ المَرأةِ. ويُعتَبَرُ ببَولِهِ، فَبِسَبقِهِ مِنْ أحَدِهِمَا. فإنْ خَرَجَ مِنهُمَا مَعًا، اعتُبِرَ أكثَرُهُمَا، فإن استَوَيَا، فَمُشكِلٌ.
(بابُ ميراثِ الخنثى المُشْكِلِ)
والخُنثَى مِن خَنَثَ الطَّعامُ، إذا اشتَبَه، فلم يخلص طعمُه.
(وهو: مَن له شكلُ الذَّكَرِ) كالرِّجالِ (وفرجِ المرأةِ) أو ثُقبٍ في مكانِ الفرجِ يخرجُ منه البولُ. وكذا مَن لا آلةَ له، على ما يأتي آخرَ البابِ.
ولا يكونُ أبًا، ولا أمًّا، ولا جدًّا، ولا جَدَّةً، ولا زوجًا، ولا زوجةً.
(ويُعتبرُ) أمرُه في توريثِه مع إشكالِ كونِه ذكرًا أو أنثى (ببَولِه) من أحدِهما. فإنْ بالَ منهُما (فبسَبْقِه) أي: البولِ (من أحدِهما). قال ابنُ اللَّبَّانِ: رُوي عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن مولودٍ له قُبل وذكرٌ، من أينَ يُورَّثُ؟ قال:"من حيثُ يبولُ"
(1)
. ولأنَّ خروجَ البولِ أعمُّ العلاماتِ؛ لوجودِه من الصغيرِ والكبيرِ. وسائرُ العلاماتِ إنَّما تُوجدُ بعدَ الكبرِ.
(فإنْ خرجَ) البولُ (منهما) أي: من شكلِ الذكرِ وشكلِ الفرجِ (معًا) فلم يسبقْ أحدُهما الآخرَ، (اعتُبرَ أكثرُهما) قال ابنُ حمدانَ: قدْرًا وعددًا؛ لأنَّه
(2)
لا مزيةَ لأحدِ العلامَتَينِ، فاعتُبرَ بهما، كالسبقِ.
(فإنْ استويا) في قدرِ ما يخرجُ من كلِّ منهما من البولِ (فـ) هو (مُشكِلٌ) مِن
(1)
أخرجه البيهقي (6/ 261). قال الألباني: موضوع "الإرواء"(1710).
(2)
في الأصل: "إلا أنه".
فإنْ رُجِيَ كَشفُهُ بَعدَ كِبَرِهِ، أُعطِيَ وَمَنْ مَعَهُ اليَقِينَ، ووُقِفَ البَاقِي لتَظهَرَ ذُكُورَتُه بنَبَاتِ لِحيَتِهِ، أو إمنَاءٍ مِنْ ذَكَرِهِ، أو أُنوثَتُهُ بحَيضٍ، أو تَفَلُّكِ ثَديٍ، أو إمنَاءٍ مِنْ فَرجٍ.
فإنْ مَاتَ، أو بَلَغَ بلا أمَارَةٍ، واختَلَفَ إرثُه، أخَذَ نِصفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، ونِصفَ مِيرَاثِ أُنثَى.
أشكَلَ الأمرُ: إذا
(1)
التَبسَ؛ لعدمِ تمييزِه بشيءٍ ممَّا تقدَّمَ.
وحُكي عن عليٍّ والحسنِ: أنَّ أضلاعَه تُعدُّ، فإنْ كانتْ ستَّةَ عشرَ، فهو ذكرٌ، وإنْ كانت سبعةَ عشرَ، فهو أثنى.
قال ابنُ اللَّبَّانِ: ولو صحَّ هذا لما أَشكلَ حالُه، ولما احتيجَ إلى مُراعاةِ المَبَالِ.
(فإنْ رُجيَ كشفُهُ) أي: إشكالِه (بعدَ كِبرِه، أُعطِيَ) الخنثى (ومَن معه) من الورثةِ اليَقينَ) مَن التَّرِكَةِ
(2)
، وهو
(3)
ما يرثُه بكلِّ تقديرٍ (وَوُقِفَ الباقي) من التركةِ حتى يبلغَ (لتظهرَ ذكورتُه بنباتِ لحيتِه، أو إمناءٍ من ذكرِه). زادَ في "المغني": وكونِه منيَّ
(4)
رجلٍ (أو) لتظهرَ (أُنوثتُه بحيضٍ، أو تفلُّكِ ثديٍ) أي: استدارتِه، أو سقوطِه، (أو إمناءٍ من فرجٍ).
(فإنْ مماتَ) الخنثى قبلَ بلوغِه، (أو بلغَ بلا أمارَةٍ) أي: علامةٍ على ذكورته أو أنوثتِه (واختلَفَ إرثُه، أخذَ نصفَ ميراثِ ذكرٍ) إنْ ورلثَ بكونِه ذكرًا فقط، كولدِ أخٍ، أو عمِّ خُنثى، (ونصفَ ميراثِ أنثى) إنْ ورِثَ بكونِه أُنثى فقط، كولَدِ أبٍ
(1)
سقطت: "إذا".
(2)
في الأصل: "تركة".
(3)
في الأصل: "وهما".
(4)
في الأصل: "من".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خُنثى معَ زَوجٍ وأخب لأَبوينِ.
وإنْ وَرِثَ بهما مُتفَاضِلًا، أُعطيَ نصفَ ميرَاثِهما، فتَعمَلُ مسألةَ الذكوريَّةِ، ثمَّ مسألةَ الأنوثيةِ وتنظرُ بينهما بالنسبِ الأربعِ، وتُحَصِّلُ أقلَّ عددٍ ينقسمُ على كلٍّ منهما، وتضربُه في اثنين، عددَ حالي
(1)
الخنثى، ثمَّ مَن له شيءٌ من إحدى المسألتينِ فاضربْه في الأخرى، أو اضربْ وَفْقَها، أي: وَفْقَ إحداهما، في الأخرى إنْ اتَّفَقَتَا. واجتَزئ بإحداهما إنْ تماثلَتَا، واجتزئ بأكثَرِهما إنْ تدَاخَلتا، ثمَّ اضربْ الحاصلَ من ضربِ إحدى المسألتين في الأخرى، ومَن ضربَ وَفْقِها في الأخرى، أو إحداهما إنْ تماثلتا، أو أكثرُهما عندَ التداخلِ، في حالين، فما بلغَ منه، تصحُّ، ثمَّ تقسمُ. فمَن له شيءٌ من إحدى المسألتين، اضربْه في الأخرى إنْ تباينتا، أو اضربْه في وفقِها إن توافقتا، واجمعْ ما لَهُ فيهما إنْ تماثلتا، فما اجتمعَ فله.
فإذا كان ابنٌ وبنتٌ وولدُ خنثى مُشكِلٌ، وعمِلتَ بهذا الطريقِ، فمسألة ذكوريَّتِه من خمسة، عدد رؤوس الابنين والبنت.
ومسألةُ أنوثيتِه من أربعةٍ، عددِ رؤوسِ الابنِ والبنتينِ.
والخمسةُ والأربعةُ متباينتانِ، فاضربْ إحداهما في الأخرى؛ لتباينهما، تكنْ عشرينَ، ثمَّ اضربْ العشرينْ في الحالينِ، أي: في اثنينِ، عددِ حالِ الذكورةِ وحالِ الأنوثةِ، تكنْ أربعينَ، ومنها تصحُّ، للبنتِ سهمٌ من أربعةٍ في خمسةٍ بخمسةٍ، ولها سهمٌ من خمسةٍ في أربعةٍ بأربعةٍ، فأعطِها تسعةً، وللذكرِ سهمانِ من أربعةٍ في خمسةٍ بعشرةٍ، وله سهمانِ من خمسةٍ في أربعةٍ بثمانيةٍ، يجتمعُ له ثمانيةَ
(1)
في الأصل: "حال".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عشرَ، أعطِه إياها.
وللخُنثى من مسألةِ الأنوثةِ سهمٌ في خمسةٍ، وهي مسألةُ الذكوريَّةِ، وله سهمانِ من خمسةٍ في أربعةٍ، يجتمعُ له ثلاثةَ عشرَ، واجمعْ السِّهامَ تكنْ أربعينَ. هذا مثالُ التباينِ.
ومثالُ التوافق: زوجٌ، وأمٌّ، وولدُ أبٍ خنثى.
مسألةُ الذكوريَّةِ من ستةٍ؛ للزوجِ ثلاثةٌ، وللأمِّ اثنانِ، ولولدِ الأبِ الباقي.
ومسألةُ الأنوثيةِ من ستَّةٍ، وتعولُ إلى ثمانيةٍ؛ للزوجِ ثلاثةٌ، وللأمِّ سهمانِ، وللخنثى ثلاثةٌ.
وبينهما، أي: المسألتينِ موافقةٌ بالأنصافِ، فاضربْ ستَّةً في أربعةٍ، تكنْ أربعةً وعشرينَ، ثمَّ اضربْها في حالينِ، أي: اثنينِ، تكنْ ثمانيةً وأربعينَ، ثمَّ اقسفها على ما تقدَّمَ؛ للزوجِ من الستةِ ثلاثةٌ في أربعة، وله من الثمانيةِ ثلاثةٌ في ثلاثةٍ، فله أحدٌ وعشرون، وللأمِّ اثنانِ من ستَّةٍ في أربعةٍ، واثنانِ من ثمانيةٍ في ثلاثةٍ، أربعةَ عشرَ. وللخنثى واحدٌ من ستةٍ في أربعةٍ، وثلاثةٌ من ثمانيةٍ في ثلاثةٍ، ثلاثةَ عشرَ.
ومثالُ التماثُلِ: زوجةٌ، وولدٌ خُنثى، وعمُّ.
مسألةُ الذكوريَّةِ من
(1)
ثمانيةٍ؛ للزوجةِ واحدٌ، وللخُنثى الباقي سبعةٌ، ولا شيءَ للعمِّ.
(1)
سقطت: "من" من الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومسألةُ الأنوثيَّةِ
(1)
كذلك، من ثمانيةٍ؛ للزوجةِ واحدٌ
(2)
، وللخنثى أربعةٌ، وللعمِّ الباقي ثلاثةٌ. فاجتزئ بإحدَاهما؛ للتماثلِ، ثمَّ اضربْها في حالينِ، تكنْ ستَّةَ عشرَ؛ للزوجةِ اثنانِ، وللخُنثى أحدَ عشرَ، وللعمِّ ثلاثةٌ.
ومثالُ التناسبِ: أمُّ، وبنتٌ، وولدٌ خُنثى، وعمٌّ.
مسألةُ الذكوريَّةِ من ستَّةٍ، مخرجِ السُّدُسِ، للأمِّ واحدٌ، وللبنتِ والخنثى ما بقيَ على ثلاثةٍ، لا ينقسمُ ولا يوافقُ، فاضربْ ثلاثةً في ستَّةٍ، وتصحُّ من ثمانيةَ عشرَ؛ للأمِّ ثلاثةٌ، وللبنتِ خمسةٌ، وللخُنثى عشرةُ.
ومسألةُ الأنوثيَّةِ من ستةٍ، وتصحُّ منها، للأمِّ واحدٌ، وللبنتِ اثنانِ، وللخنثى اثنانِ، ويبقى للعمِّ واحدٌ، والستةُ داخلةٌ في الثمانيةِ عشرَ، فاجتزئ بالثمانيةِ عشرَ، ثمَّ اضربْها في حالينِ، تكنْ ستَّةً وثلاثينَ، ثمَّ اقسمْها، للأمِّ من
(3)
مسألةَ الذكوريَّةِ ثلاثةٌ، ومن مسألةِ الأنوثيَّةِ واحدٌ مضروب في ثلاثةٍ، وهي مخرجُ الثلثِ؛ لأنَّ نسبةَ الستَّةِ إلى الثمانيةِ عشرَ ثلثٌ، فلها ستَّةٌ.
وللبنتِ من مسألةِ الذكوريَّةِ خمسةٌ، ومن مسألةِ الأنوثيةِ اثنانِ في ثلاثةٍ بستَّةٍ، فلها أحدَ عشرَ، وللخنثى من مسألةِ الذكوريَّةِ عشرة، ومن مسألةِ الأنوثيةِ اثنانِ في ثلاثةٍ بستَّةٍ، فله ستَّةَ عشرَ.
وللعمِّ من مسألةِ الأنوثيةِ واحدٌ في ثلاثةٍ بثلاثةٍ.
(1)
في الأصل: "الأنوثة".
(2)
سقطت: "واحد" من الأصل.
(3)
في الأصل: "تكن".
ولك في العملِ طريقٌ آخرُ، وهو أنْ تنسبَ ما لِكُلِّ واحدٍ من الورثةِ من الخنثى ومَن معه إلى التركةِ على كلا التقديرين، ثمَّ خذْ له نصفَه، وابسط الكسورَ التي تجتمعُ معكَ من مخرجٍ يجمعُها، يحصلُ المطلوبُ.
ففي المثالِ الأخيرِ: للأمِّ من الذكوريَّةِ السُّدسُ، ومن الأنوثيَّةِ السُّدسُ أيضًا. ومجموعُهما ثلث فأعطِها نصفَه، وهو سُدسٌ.
وللبنتِ من مسألةِ الأنوثيَّةِ ثلثٌ، ومن الذكوريَّةِ سُدسٌ، وثلثا سدسٍ، يجتمعُ نصفٌ وثلثا سدسٍ، أَعطِها نصفَها رُبعًا وثلثَ سدسٍ.
وللخنثى ثلثانِ وتسعانِ في الحالينِ، ونصفُهما ثلثٌ وتسعٌ.
وللعمِّ من مسألةِ الأنوثةِ السُّدسُ، ولا شيءَ له من الذكوريَّةِ، فأعطِه نصفَه، ومخرجُ الكسورِ المتحصلةِ ستَّةٌ وتلاثونَ، وبسطُها منه ما تقدَّمَ في العملِ الأوَّلِ. واللهُ أعلم
(1)
.
(1)
انظر "كشاف القناع"(10/ 472).
بَابُ مِيَراثِ الغَرْقَى ونحوِهم
إذا عُلِمَ مَوتُ المُتوَارِثَين معًا، فلا إرْثَ، وكَذَا إنْ جُهِلَ الأسبَقُ، أوْ عُلِمَ ثُمَّ نُسِيَ، وادَّعَى ورَثَةُ كُل سَبْقَ الآخَرِ، ولا بيِّنَةَ، أو تعَارَضَتَا وتَحَالَفَا.
وإنْ لم يدَّعِ ورثَةُ كُلِّ سَبقَ الآخَرِ، وَرِثَ كُلُّ مَيِّتٍ صَاحِبَهُ، ....
(بابُ ميراثِ الغَرْقَى)
جمعُ غريقٍ. (ونحوِهم) أي: مَن خَفيَ حالُ مَوتِهم؛ بأنْ لم يُعلَمْ أيُّهم ماتَ أوَّلًا، كالهَدْمَى، ومَن وقعَ بهم طاعُونٌ، وأشكلَ أمرُهم.
(إذا عُلِمَ موتُ المتوارِثَينِ مَعًا) أي: في زَمَنٍ واحدٍ، (فلا إرثَ) لأحدِهما من الآخرِ. (وكذا إنْ جُهِلَ الأسبقُ) موتًا، يعني: لم يُعلَم هَل
(1)
سبقَ أحدُهما الآخرَ أو لا؟. (أو عُلِمَ) أسبقُهما موتًا (ثمَّ نُسيَ) أو جَهِلُوا عينَه (وادَّعَى ورثةُ كلٍّ سَبْقَ الآخرِ، ولا بيَّنةَ) لأحدِهما (أو
(2)
تعارضتا
(3)
وتحالفا) أي: حلفَ كلُّ منهما على ما أنكرَه من دعوى صاحبِه. ولم يتوارثا؛ لعدمِ وجودِ شرطِه، وهو تحقُّقُ
(4)
حياةِ الوارثِ بعدَ موتِ المُورِّثِ.
(وإنْ لم يدَّع ورثةُ كلٍّ) منهما (سبقَ) موتِ (الآخرِ، ورِثَ كلُّ ميِّتٍ صاحبَه) في قولِ عمرَ وعليٍّ
(5)
.
(1)
في الأصل: (حال).
(2)
سقطت: (أو) من الأصل.
(3)
في الأصل: (تعارضا).
(4)
في الأصل: "تحقيق".
(5)
أخرجه عنهما عبد الرزاق (10/ 295).
ثُمَّ يُقسَمُ ما وَرِثَه عَلَى الأحيَاءِ مِنْ ورَثَتِهِ.
قال الشعبيُّ: وقعَ الطاعونَ بالشامِ عامَ عَمَواسَ، فجعلَ أهلُ البيتِ يموتون عن آخرِهم، فكُتِبَ في ذلك إلى عمرَ، فأمرَ عمرُ: أنْ وَرِّثوا بعضَهم من بعضٍ
(1)
. قال أحمدُ: أذهبُ إلى قولِ عمرَ.
ورُويَ عن إياس المزنيِّ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن قومٍ وقعَ عليهم بيتٌ؟ فقال: "يرث بعضهم بعضًا"
(2)
.
فيُقدَّرُ أحدُهما ماتَ أوَّلًا، ويُورَّثُ الأخرُ منه، (ثمَّ يُقسَمُ ما ورِثَه على الأحياءِ من ورثتِه)، ثمَّ يُصنَعُ بالثاني كذلك، ثمَّ بالثالثِ كذلك، وهكذا حتى ينتهوا.
ففي أخَوَين أحدُهما مَوْلى زيدٍ، والآخرُ مَولَى عمرٍو، ماتا، وجُهِلَ أسبقُهما، أو عُلِمَ ثمَّ نُسيَ، أو جَهِلوا عينَه، ولم يدَّعِ ورثةُ واحدٍ سَبْقَ موتِ الآخرِ، يصيرُ مالُ كلِّ واحدٍ منهما لمولى
(3)
الآخرِ.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (232).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (10/ 297)، وسعيد بن منصور (234) موقوفًا على إياس المزني. وانظر "الإرواء"(1713).
(3)
في الأصل: "الموالي".
بَابُ مِيَراثِ أهلِ المِلَلِ
لا تَوَارُثَ بينَ مُختَلِفَينِ في الدِّينِ، إلَّا بالوَلَاءِ، فيَرِثُ به المُسلِمُ الكَافِرَ، والكافِرُ المُسلِمَ، وكَذا يَرِثُ الكَافِرُ، ولو مُرتَدًا، إذا أسلَمَ قبلَ قَسْمِ مِيرَاثِ مُورِّثِهِ المُسلِمِ.
والكفَّارُ مِلَلٌ شَتَّى، لا يتوارَثُونَ مَعَ اختِلافِهَا
(بابُ ميراثِ أهلِ المللِ)
جمعُ مِلَّةٍ، بكسرِ الميمِ، وهي: الدِّينُ والشريعةُ. ومن موانعِ الإرثِ: اختلافُ الدِّينِ.
(لا توارثَ بين مختَلِفَيْنِ في الدِّينِ) فلا يرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسملمَ (إلا بالولاءِ، فيرثُ به
(1)
المسلمُ) من (الكافرِ) به، (والكافرُ) من (المسلم) به؛ لحديثِ جابرٍ مرفوعًا:"لا يرثُ المسلمُ النصرانيَّ، إلا أنْ يكونَ عبدَه أو أَمتَه". رواه الدارقطنيُّ
(2)
. ولأنَّ ولاءَه له، وهو شعبةٌ من الرِّقِّ. فيرثُ به المسلمُ الكافرَ، والكافرُ من المسلمِ.
(وكذا يرثُ الكافرُ، ولو) كان الوارثُ (مرتدًّا) حين موتِ مورِّثِه (إذا أسلمَ قبلَ قسْمِ ميراثِ مُوَرِّيه المسلمِ) فيرثُ منه. نصًّا.
(والكفَّارُ مِللٌ شتَّى، لا يتوارثونَ مع اختلافِها) روي عن عليٍّ؛ لحديثِ: "لا
(1)
سقطت: "به" من الأصل.
(2)
أخرجه الدارقطني (4/ 74). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1715).
فإن اتَّفَقَتْ وَوُجِدَتِ الأسبَابُ، وَرِثَ بعضُهم بعضًا، ولو أنَّ أحدَهُمَا [ذِمِّيٌّ والآخَرَ حَربيٌّ، أو مُستَأْمَنٌ والآخَرَ] ذِميٌّ أو حَربيٌّ.
ومن حُكِمَ بكُفرِهِ من أهلِ البِدَعِ، والمُرتَدُّ، والزِّندِيقُ -وهو: المُنافِقُ- فمالُهم فَيءٌ،
يتوارثُ أهلُ ملَّتَينِ شتَّى"
(1)
. وهو مخصِّصٌ للعموماتِ.
وقال القاضي: الكفرُ ثلاثُ مللٍ: اليهوديةُ، والنصرانيةُ، ودينُ مَن عداهم؛ لأنَّ مَن عداهم يجمعُهم أنَّه لا كتابَ لهم.
ورُدُّ بافتراقِ حكمِهم، فإنَّ المجوسَ يُقرَّونَ بالجزيةِ، وغيرَهم لا يُقرُّ بها. وهم مختلفونَ في معبوداتِهم، ومعتقداتِهم، وآرائِهم، يَستَحِلُّ بعضُهم دِماءَ بعضٍ، ويكفِّر بعضهم بعضًا.
(فإنْ اتَّفَقَت وَوُجِدَت الأسبابُ، وَرِثَ بعضُهُم بَعضًا، ولو أنَّ أحدَهما ذميٌّ و الآخرَ حربيٌّ، أو مُستأمَنٌ، والآخرَ ذميٌّ، أو حربيُّ) حيثُ اتَّفقتْ أديانُهم. وإنْ اختلفتْ الدَّارُ، فيُبعَثُ مالُ ذميِّ لوارثِه الحربيِّ، حيثُ عُلِم.
(ومَن حُكِمَ بكفرِه من أهلِ البدعِ، والمرتدِّ، والزِّنديق، وهو المنافقُ) الذي يُظهرُ الإسلامَ ويُخفي الكفرَ (فمالهم فيءٌ) يُصرفُ للمصالحِ؛ لأنَّه لا يرثُه أقاربُه المسلمون؛ لأنَّ المسلمَ لا يرثُ الكافرَ، ولا أقاربُه الكفارُ من يهودٍ، أو نصارى، أو غيرِهم؛ لأنَّه يخالفُهم في حكمِهم. لا يُقرُّ على ردَّتِه، ولا تُؤكلُ ذبيحتُه، ولا تحلُّ مناكحتُه لو كان امرأةً.
(1)
أخرجه أبو داود (2911)، وابن ماجه (2731) من حديث عبد الله بن عمرو. وحسنه الألباني.
لا يُورَّثونَ، ولا يَرِثونَ.
ويَرِثُ المَجُوسِيُّ ونحوُه بجَمِيعِ قَرابَاتِه، فلو خلَّفَ أمَّه، وهي أُختُه مِن أَبيهِ، وَرِثَتِ الثُّلُثَ بِكونِها أمًّا، والنِّصفَ بكونِها أُختًا.
(لا يُورَّثونَ، ولا يَرثونَ) أحدًا أي: المحكومُ بكفرِهم ببدعةٍ، أو ردَّةٍ، أو زندقةٍ.
(ويَرِثُ المجوسيُّ ونحوُه) ممَّن يُحِلُّ نِكاحَ ذواتِ محارمِه (بجميعِ قراباتِه) إنْ أمكنَ، إذا أسلمَ، أو حاكمَ إلينا. وهو قولُ عمرَ
(1)
، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ
(2)
، وابنِ عباسٍ، وزيدٍ
(3)
، في الصحيحِ عنه. وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه.
(فلو خلَّفَ) مجوسيٌّ، أو نحوُه (أمّه، وهي أختُه من أبيهِ) بأن تزوَّجَ الأبُ بنتَه، فولدتْ له هذا الميِّتَ (ورِثتِ الثُلثَ بكونِها أمًّا، و) ورثتْ (النِّصفَ بكونِها أختًا) والباقي بعدَ الثُّلثِ والنصفِ للعمِّ؛ لحديثِ: "ألحقوا الفرائضَ بأهلِها"
(4)
.
وكذا حكمُ المسلمِ يطأُ ذاتَ رحمٍ مُحرَّمٍ منه
(5)
بشُبهةِ نِكاحٍ أو تَسَرٍّ. ويَثبُتُ النسب
(6)
.
ولا إرثَ بنكاحِ ذاتِ رحمٍ مُحَرَّمٍ، كأُمِّه، وبنتِه، وبنتِ أخيه.
(1)
لم أقف عليه عن عمر مسندًا. وقد ذكره في "المغني"(9/ 166).
(2)
أخرج عبد الرزاق (9906، 19336)، والبيهقي 6/ 260 عن الشعبي: أن عليًّا وابن مسعود قالا في المجوس: إذا أسلموا يرثون من القرابتين جميعًا.
(3)
لم أقف عليه عن ابن عباس وزيدٍ مسندًا. وقد ذكره في "المغني"(9/ 166).
(4)
أخرجه البخاري (6732)، ومسلم (1615) من حديث ابن عباس.
(5)
سقطت: "منه" من الأصل.
(6)
في الأصل: "أخيه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا إرثَ بعقدِ نكاح لا يُقرُّ عليه لو أسلمَ، كمطلَّقَتِه تلاثًا، وأمِّ زوجتِه، وأختِه من الرَضاعِ
(1)
.
وإذا ماتَ ذميٌّ، أو مستأمَنٌ، لا وارثَ له من أهلِ الذمَّةِ، كان مالُه فيئًا.
وكذا ما فضلَ من مالِه عن إرثِه، كمَن ليس له وارثٌ إلا أحدُ الزوجينِ، فباقي مالِه فيءٌ
(2)
.
(1)
"الروض المربع"(6/ 184).
(2)
"كشاف القناع"(10/ 490).
بَابُ مِيَراثِ المُطلَّقَةِ
يثبت الإرثُ لكُلِّ مِنَ الزَّوجَينِ في الطَّلاقِ الرَّجعِيِّ.
ولا يثبُتُ في البائِنِ، إلَّا لها إن اتُّهِمَ بقَصدِ حِرمَانِهَا؛ بأنْ طلَّقَها في مَرَضِ مَوتِهِ المخُوفِ ابتِدَاءً، أو سَألتهُ رَجْعِيًّا، فَطَلَّقَها بائِنًا، أو علَّقَ في مَرَضِهِ طلاقَهَا علَى ما لَا غِنَى لهَا عَنهُ، ....
(بابُ ميراثِ المُطلَّقةِ)
أي: بيانُ مَن يرثُ من المُطلَّقاتِ، ومَن لا يرثُ.
(يثبتُ الإرثُ لكلٍّ من الزَّوجَينِ في الطَّلاقِ الرَّجعيِّ) ما دامتْ في العِدَّةِ.
سواءٌ كان في المرضِ أو الصحَّةِ. وذلك لأنَّ الرجعيَّةَ زوجةٌ.
(ولا يثبُتُ) الميراثُ (في) الطلاق (البائنِ، إلَّا لها) أي: المطلَّقَةِ مِن مُطلِّقِها فقَط دونَه (إنِ اتُّهِمَ) أي: الزوجُ (بقَصدِ حِرمَانِها) الميراثَ (بأنْ طلَّقَها في مَرضِ مَوتِه المخُوفِ) ونحوِه مما تقدَّمَ في عطَايَا المريضِ (ابتداءً) بلا سؤالِها.
(أو سألتْهُ) طلاقًا (رجعيًّا، فطلَّقها) طلاقًا (بائنًا) أي: ثلاثًا.
(أو علَّق في مرضِه طلاقَها على ما لا غِنَى لها عنه) شرْعًا، كالصَّلاةِ المفروضةِ، والصَّومِ المفروضِ.
أو علَّقه على
(1)
ما لا بدَّ لها منه عقلًا، كأكلٍ، ونومٍ.
أو علَّقَه على مرضِه، أو على فعلٍ له؛ كـ: إنْ دخلتِ الدارَ، فأنتِ طالقٌ. ففعَلَه
(1)
سقطت: (على) من الأصل.
أو أقرَّ أنَّه طلَّقَهَا سَابِقًا في حَالِ صحَّتِه، أو وَكَّلَ في صِحَّتِه مَنْ يُبينُها متَى شَاءَ، فأبانَهَا في مَرضِ مَوتِه.
فتَرِثُ في الجَميعِ حَتَّى ولو انقَضَت [عِدَّتُهَا، ما لَمْ تتَزوَّجْ، أو تَرتَدَّ. فلو طلَّقَ المُتَّهمُ أربَعًا، وانقَضَتْ] عِدَّتُهنَّ، وتَزوَّجَ أربَعًا سِوَاهُنَّ، وَرِثَ الثَّمَانُ على السَّواءِ بشَرطِهِ.
ويَثبُتُ له إنْ فعَلَت بمَرضِ مَوتِهَا المَخُوفِ ما يَفسَخُ نِكَاحَهَا، ما دَامَتْ معتَدَّةً إن
…
فيه. أي: المرضِ المخوفِ.
أو علَّقَه على تركه، أي: تركِ فعلٍ له؛ بأنْ قال: إن لم أدخل الدارَ، فأنتِ طالقٌ ثلاثًا، فماتَ قبلَ أنْ يفعلَ ذلك، فإنَّها ترثُه.
(أو أقرَّ أنَّه طلَّقها سابقًا في حالِ صحَّتِه، أو وكَّلَ في صحَّتِه من يُبينُها متى شاءَ، فأبانَها في مرضِ موتِه) المخُوفِ.
(فترثُ في الجميعِ) أي: في جميعِ المسائلِ التي تقدَّمتْ (حتى ولو انقضتْ عدَّتُها) أي: المطلقةِ قبلَ موتِه، فترثُه (مما لمْ تتزوجْ) غيرَه، (أو ترتدَّ) فلا ترثُه.
(فلو طلَّقَ المُتَّهمُ أربعًا) كنَّ معه (وانقضتْ عِدَّتُهن) منه (وتزوَّجَ أربعًا سواهُنَّ)، ثمَّ ماتَ (ورِثَ) منه (الثمانُ) الأربعُ المطلقاتُ، والأربعُ المنكوحاتُ (على السواءِ بشرطِه) أي: ما لم تتزوج المطلقاتُ، أو يرتَدِدنَ.
(ويثبتُ) الإرثُ (له) أي: الزوجِ من زوجتِه (إنْ فعلتْ بمرضِ موتِها المُخوفِ ما يفسخُ نكاحَها) كإدخالِها ذكرَ أبي زوجِها، أو ابنِه، في فرجِها، وهو نائمٌ، أو إرضاعِها ضرَّتَها الصَّغيرة، لم يَسقُطْ ميراثُ زوجِها، (ما دامتْ معتدَّةً إنْ
اتُّهِمَت، وإلَّا سَقَطَ.
اتُّهِمَتْ) بقصدِ حرمانِه (وإلَّا) تُتَّهم الزوجةُ بقصدِ حرمانِه الإرثَ؛ بأن دبَّ زوجُها الصَّغيرُ، أو ضرَّتُها الصغيرةُ، فارتضعَ منها وهي نائمةٌ، (سقطَ) ميراثُه منها، كما
(1)
لو ماتتْ قبلَهُ.
(1)
سقطت: "منها، كما" من الأصل.
بَابُ الإقرَارِ بمُشَارِكٍ في المِيَراثِ
إذا أقَرَّ الوارِثُ بمَنْ يُشَارِكُه في الإرثِ، أو بمَنْ يحجُبُه، كأخٍ أقرَّ بابنٍ للميِّتِ، صَحَّ، وثَبَتَ الإرْثُ والحَجْبُ.
فإذا أقرَّ الورَثَةُ المُكلَّفُونَ بِشَخصٍ مَجهُولِ النَّسَبِ، وصَدَّقَ، أو كَانَ صَغيرًا أو مجنونًا، ثَبَتَ نسَبُهُ وإرثُه. لكِنْ يُعتَبرُ لثبُوتِ نَسَبِه مِنَ الميِّتِ إقرَارُ جَميعِ الوَرَثَةِ، حتَّى الزَّوجِ ووَلَدِ الأم،
…
(بابُ الإقرارِ بمُشَارِكٍ في الميراثِ)
أي: بيانُ العملِ إذا أقرَّ بعضُ الورثةِ.
(إذا أقرَّ الوارثُ بمَن يشاركُهُ في الإرثِ، أو بمن يحجُبُه، كأخٍ أقرَّ بابنٍ للميِّتِ، صحَّ) الإقرارُ (وثبتَ الإرثُ والحَجْبُ).
(فإذا أقرَّ الورثةُ) وهم -المُقِرُّون- (المُكلَّفون) لأنَّ إقرارَ غيرِ المكلَّفِ لا يُعَوَّلُ عليه (بشخصٍ مجهولِ النَّسبِ) وأمكَنَ كونُه مِن الميِّتِ، ولم يُنَازَعِ المقِرُّ في نَسبِ المقَرِّ به، فإنْ نُوزِعَ فيه، فليس إلحاقُه بأحدِهما أَوْلَى من الآخرِ (وصدَّقَ) مُقَرٌّ به مكلَّفٌ مُقِرًّا (أو كمان) المُقَرُّ به (صغيرًا أو مجنونًا)، ولو لم يصدِّقْه (ثبتَ نسبُه وإرثُه) فيقاسِمُهم.
(لكنْ يُعتبرُ لثبوتِ نسبِه من الميت
(1)
) شروطٌ أربعةٌ:
الأول: (إقرارُ جميعِ الورثةِ، حتى الزوجِ، وولدِ الأمِّ) أنَّه ولدُ الميِّتِ، أو
(1)
سقطت: "من الميت" من الأصل.
أو شَهَادَة عَدْلَينِ مِنَ الوَرَثَةِ، أو مِنْ غَيرِهِم.
فإنْ لَمْ يقِرَّ جَميعُهُمْ، ثبَتَ نسَبُهُ وإرثه مِمَّنْ أقرَّ بهِ، فيشَارِكُة فِيمَا بيَدِهِ،
أخوه، ونحوُه، أو شهدَا
(1)
أنَّه أقرَّ به في حياتِه، أو شهدا أنَّه وُلِدَ على فراشِه، ثبتَ نسبُه وإرثُه؛ لأنَّ ذلك حقٌّ شهِدَ به عدلان، كسائرِ الحقوقِ
(2)
: (أو شَهادَةُ
(3)
عَدلَينِ مِن الوَرثَةِ، أو مِن غَيرِهم).
وإنْ أقرَّ بعضُ الورثةِ بوارثٍ للميِّتِ، ولم ينازِعْ فيه منازِعٌ، وتصديقُ المُقَرُّ به إنْ كانَ مكلَّفًا، وإمكانُ كونِه من الميِّتِ
(4)
.
فإنْ كان الميِّتُ دونَ ابنِ عشرٍ، لم يصحَّ الإقرارُ بولدٍ له.
فإنْ فُقِدَ شيءٌ من الشروطِ الأربعةِ، فلا ثبوتَ للنسب.
وحيثُ ثبتَ نسبُه، فإنَّه يثبُتُ إرثُه، فيقاسمُهم، إن لم يَقُمْ به مانعٌ من موانعِ الإرثِ، نحوِ رِقٍّ.
(فإنْ لمْ يُقِرَّ جميعُهُم) بل أقرَّ
(5)
بعضُ الورثةِ به، ولم يشهدْ به عَدلانِ، مع إقرارِ بعضِ الورثةِ، (ثبتَ نسبُه وإرثُه ممَّنْ أقرَّ به) دونَ الميِّتِ وبقيةِ الورثةِ، (فيُشارِكه) المُقَرُّ به، ولزِمَ المقِرَّ أنْ يدفعَ (فيما بيدِه) عن ميراثِه، على مقتضى إقرارِه؛ لأنَّه مُقِرٌّ بأنَّ ذلك له. فلو جَحَدَ بعدَ إقرارِه، لم يُقبلْ جَحْدُه؛ لأنَّه رجوعٌ
(1)
أي: شهد العدلان.
(2)
"كشاف القناع"(10/ 505).
(3)
في الأصل: "وشهادة".
(4)
الجواب: ثبت نسبه وإرثه. وهذه هي الشروط الأربعة التي أشار إليها آنفًا.
(5)
في الأصل: "بلا رِقِّ".
أو يأخُذُ الكُلَّ إنْ أسقَطَهُ.
عن إقرارٍ بحَقٍّ عليه لغيرِه
(1)
.
(أو يأخذُ الكلَّ إنْ أسقطَه) المُقَرُّ به؛ لإقرارِه أنَّه له، فلزِمَه
(2)
دفعُه إليه. فلو أقرَّ أحدُ
(3)
ابنَيهِ بأخٍ مِثلِه، فلِلمُقَرِّ له ثلثُ ما بيدِه، أي: يدِ المُقِرِّ؛ لأنَّ إقرارَه تضمَّنَ أنَّه لا يستحقُّ أكثرَ من ثُلثِ التركةِ، وفي يدِه نصفُها، فيكونُ السُّدسُ الزائدُ للمُقَم به.
وإنْ أقرَّ بأختٍ، فلها خُمسُ ما بيدِه؛ لأنَّه لا يدَّعي أكثرَ من خُمُسَي المالِ، وذلك أربعةُ أخماسِ النصفِ الذي بيدِه، يَبقى خُمُسهُ، فيدفعُه لها.
وإنْ أقرَّ ابنُ ابنٍ بابنٍ، دفعَ له كلَّ ما بيدِه؛ لأنَّه يحجبُه.
وطريقُ العَملِ في مسائلِ هذا البابِ كلِّه: بضَربِ مسألةِ الإقرارِ في مسألةِ الإنكارِ إنْ تبايَنَتا، وتُراعَى الموافقَةُ إن كانتْ، فتَرُدُّ إحدَى المسأَلَتينِ إلى وَفْقِها، وتَضربهُ في الأخرى. وإن تدَاخَلتا، اكتفينا بالكُبرى، أو تماثَلَتا، اكتفينا بإحدَاهما؛ لأنَّ القصدَ أنْ تخرُجَ المسألتَانِ من عدَدٍ واحدٍ، ويُدفَعُ لمُقِرٍّ سهمُه من مسألةِ الإقرارِ مضروبًا في مسألةِ الإنكارِ أو وَفْقِها، ويُدفع
(4)
لمنكرٍ سهمُه من مسألةِ الإنكارِ مضروبًا في مسألةِ الإقرارِ أو وَفْقِها، ويُجمعُ ما حَصلَ للمُقرِّ والمنكِرِ مِن الجامِعَةِ، ويُدفَعُ لمقَرِّ بهِ ما فَضَلَ مِن الجامِعَة.
مثالُه: لو أقرَّ أحدُ ابنين بأخوينِ، فصدَّقَه أخوه في أحدِهما، ثبتَ نسبُه، أي: المتَّفقِ عليه، لإقرارِ جميعِ الورتةِ به، فصاروا ثلاثةً، ومسألةُ الإقرارِ من أربعةٍ،
(1)
"كشاف القناع "(10/ 506)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 561).
(2)
في الأصل: "فلزومُه".
(3)
سقطت: "أحد" من الأصل.
(4)
في الأصل "ويد".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والإنكارِ من ثلاثةٍ، وهما متباينتان، فتُضربُ مسألةُ الإقرارِ في مسألةِ الإنكارِ، تكونُ اثني عشرَ؛ للمنكرِ سهمٌ من مسألةِ الإنكارِ، وللمتَّفقِ عليه إنْ صدَّقَ المقِرَّ مثلُ سهمِه، ثلاثةٌ من اثني عشرَ، وإنْ أنكرَهُ، فله مثلُ سهمِ المنكرِ، أربعةٌ من اثني عشرَ، وللمختَلَفِ فيه ما فضَلَ من الاثني عشرَ، وهما سهمانِ حالَ التصديقِ من الثالثِ، وسهمٌ حالَ الإنكارِ منه. انتهى
(1)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(4/ 656).
بَابُ مِيَراثِ القَاتِلِ
لا إرثَ لِمَنْ قَتَلَ مُورِّثَه بغَيرِ حَقٍّ، أو شَارَكَ في قَتلِهِ، ولو خَطَأً.
فلا يرِثُ مَنْ سَقَى ولَدَهُ دَواءً فَمَاتَ، أو أدَّبَهُ، أو فَصَدَهُ، أو بَطَّ سِلعَتَهُ.
وتَلْزمُ الغُرَّةُ مَنْ شَرِبَتْ دَواءً، فأسقَطَت، ولا تَرِثُ مِنهَا شَيئًا.
وإنْ قَتلَهُ بحَقٍّ، وَرِثَهُ، كالقَتلِ قِصَاصًا، أو حَدًّا، أو دَفعًا عن نَفسِهِ.
(بابُ ميراثِ القاتلِ)
أي: بيانُ الحالِ التي يَرِثُ القاتلُ فيها، والحالِ التي لا يرثُ فيها.
(لا إرثَ لمن قتلَ مُوَرِّثَه بغيرِ حقٍّ) لحديثِ عمرَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ليسَ للقاتلِ شيءٌ". رواه مالكٌ في "الموطأ" وأحمدُ
(1)
(أو شاركَ في قتلِه) عمدًا كان القتل أو. شبهَ عمدٍ. (ولو) كان القَتل (خطأً).
(فلا يَرِثُ مَن سَقَى ولدَه دواءً) ولو يَسيرًا (فمَاتَ، أو أدَّبَه، أو فصَدَه)، أو حجَمَه، (أو بَطَّ سِلعَتَه
(2)
) لحاجته، فماتَ، لم يرثْهُ؛ لأنَّه قاتلٌ.
(وتلزمُ الغُرَّةُ مَن شَرِبَتْ دواءً، فأسقَطَتْ) جنينَها (ولا ترثُ منها) أي: من الغرَّةِ (شيئًا) لجنايتِها المضمونةِ.
(وإنْ قتلَهُ بحقٍّ، ورِثَه، كالقتلِ قِصَاصًا، أو) قتلَة (حدًّا، أو) قتلَة (دفعًا عن نفسِه) إن لم يندفعْ إلا به ..
(1)
أخرجه مالك (2/ 867)، وأحمد (1/ 423)(347). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1670)، وصححه من وجه آخر (1671).
(2)
السِّلعَةُ: خُراجّ كهيئة الغدَّة تتحرك بالتحريك. "المصباح المنير"(سلع).
وكذَا لو قَتَلَ البَاغِي العَادِلَ، كَعَكْسِهِ.
(وكذا لو قَتلَ الباغي العادلَ، كعَكسِه) بأن قتلَ العادلُ الباغيَ في الحربِ، ورِثَه؛ لأنَّه فعلٌ مأذونٌ فيه، فلم يمنعِ الميراثَ.
بَابُ مِيَراثِ المُعتَقِ بَعضُهُ
الرَّقيق مِنْ حَيثُ هو لا يَرِث وَلَا يُورَث. لكِنَّ المُبعَّضَ يَرِثُ ويُورَثُ، ويحجُبُ بقَدرِ ما فِيهِ مِنَ الحُريَّةِ.
(بابُ ميراثِ المُعتَقِ بعضُهُ)
وما يتعلَّق به. (الرقيقُ) الكامِلُ رِقُّه الذي لم يحصُلْ فيه شَيءٌ من أسبابِ العِتقِ ومُقَدِّماتِه (مِن حَيثُ هو) أي: الرَّقيقُ، ولو كانَ مُدَبَّرًا، أو مكاتبًا، أو أمَّ ولدٍ، ومَن عُلِّقَ عتقُه بصفةٍ ولم توجدْ. (لا يرثُ، ولا يُورَثُ) لأنَّ فيه نقصًا، منَعَ كونَه مَوروثًا، فمنعَ كونَه وارثًا، كالمرتدِّ.
وأجمعوا على أنَّ المملوكَ لا يُورَثُ؛ لأنَّه لا مالَ له، ولأنَّ السيِّدَ أحقُّ بمنافعِه واكتسابِه في حَياتِه، فكذا بعدَ مماتِه.
وأما المكاتَبُ؛ فلحديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه مرفوعًا:"المكاتَبُ عبدٌ ما بقيَ عليه درهمٌ". رواه أبو داودَ
(1)
. وظاهرُه: ولو مَلَكَ قدْرَ ما عليه فأكثرَ.
(لكنَّ المُبَعَّضَ يرِثُ ويُورَثُ ويَحجُبُ) ويُعَصِّبُ (بقَدرِ ما فيهِ مِن الحريَّةِ) أي: بقَدرِ جُزئِه الحرِّ. وهو قَولُ عَليٍّ، وابنِ مَسعُودٍ
(2)
.
وقال زيدُ بنُ ثابِتٍ: لا يَرِثُ ولا يُورَثُ
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3926). وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه عنهما عبد الرزاق (8/ 410، 411).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 394).
وإنْ حَصَلَ بينَهُ وبينَ سَيِّدِهِ مُهَايَأةٌ، فَكُلُّ تَرِكَتهِ لوارثه، وإلَّا فبينَهُ وبينَ سيِّدِهِ بالحِصَصِ.
وقال ابنُ عباسٍ: هو كالحرِّ في جميعِ أحكامِه، في توريِثه، والإرثِ منه، وغيرِهما
(1)
.
ولنا حديثُ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بسندِه إلى ابنِ عباس مرفوعًا، قال في العبدِ يَعتِقُ بعضُه:"يرِثُ ويُورَثُ على قدرِ ما عَتَقَ منه"
(2)
. ولأنَّه يجبُ أنْ يثبتَ لكلٍّ بعضُ حكمِه، كما لو كان الآخرُ مثلَه، وقياسًا لأحدِهما على الآخرِ.
(وإنْ حصلَ بينَه وبين سَيِّدِه مُهَايأةٌ، فكُلُّ تركتِه) أي: المبعَّضِ (لوارثِه) أي: المبعَّضِ؛ لأنَّه لم يبقَ لسَيِّدِه معَه حقٌّ، (وإلا): لم يكنْ مُهَايأةً، (فبينَه وبينَ سيِّدِه بالحصصِ).
وما كسَبَ المعتَقُ بعضُه يجزئِه الحرِّ؛ بأنْ كانَ هَايأَ سيِّدَه، فما كسبَه في نوبتِه، فهو له خاصَّةُ. أو ورِثَ المبعَّضُ بجزئِه الحرِّ شيئًا، فهو له خاصةً، أو كان قاسَمَ سيِّدَه في حياتِه كَسْبَه، فهو له خاصَّةً، لا حقَّ لمالكِ باقيه في شيءٍ منه.
وما ملكه
(3)
بجزئِه الحرِّ، أو ورِثَه، أو خصَّصَه مِن مقاسَمةِ سيِّدِه، فهو لورَثتِه.
فابنٌ نصفُه حرٌّ، ومعه أمٌّ وعمٌّ حرَّانِ، لو كان الابنُ كاملَ الحريَّةِ، كانَ للأمِّ السُّدُسُ، وله الباقي، وهو نصفٌ وثلثٌ، ولا شئَ للعمِّ. فله مع نصفِ حريتهِ، أي: الابنِ، نصفُ ما لَه لو كان حرًّا كلَّه، وهو ربعٌ وسدسٌ، وللأمِّ ربعٌ؛ لأنَّ الابنَ
(1)
ذكره في "المغني"(9/ 127).
(2)
لم أقف عليه في المسند. وأخرجه أبو داود (4582) بنحوه. وصححه الألباني في "الإرواء"(1726).
(3)
في الأصل: "ومالك".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحرِّ يحجبُها عن سدسٍ، فنصفُه الحرُّ يحجبُها عن نصفِ سدسٍ، فلها سُدسٌ ونصفُ سدسٍ، ومجموعُهما ربعٌ، والباقي، وهو ثلثٌ، للعمِّ تعصيبًا. وتصحُّ من اثني عشر؛ للأمِّ ثلاثةٌ، وللمبعَّضِ خمسةٌ، وللعمِّ أربعةٌ.
وكذا كلُّ عصبةٍ نصفُه حرٌّ مع ذي فرضٍ ينقصُ به نصيبهُ.
بَابُ الوَلَاءِ
مَنْ أعتَقَ رَقيقًا، أو بعضَهُ فَسَرَى إلى البَاقِي، أو عَتَقَ علَيهِ برَحِمٍ، أوْ فِعْلٍ، أو عِوَضٍ، أو كِتَابَةٍ، أو تَدْبِيرٍ، أو إيلادٍ، أو وَصِيَّةٍ، أو أعتَقَة في زَكَاتِه، أو نَذرِهِ، أو كفَّارَتِهِ، فلَهُ عَلَيهِ الوَلاءُ، ....
(بابُ الولاءِ)
بفَتحِ الواوِ والمدِّ. لغةً: المِلْكُ.
وشرعًا: ثبوتُ حكمٍ شرعيٍّ بعتقٍ، أو تَعاطِي سَبَبِه، كاستيلادٍ وتدبيرٍ.
(مَن أعتقَ رقيقًا، أو) أعتقَ (بعضَه، فسَرَى إلى الباقي، أو عَتَقَ عليه
(1)
) رقيقٌ (برحمٍ) كأبيهِ، وأخيهِ إذا ملكَه، (أو) عتقَ عليه بـ (فعلٍ) بأنْ مثَّل برقيقِه، فيَعتِقُ عليه، وله ولاؤُه.
(أو) يُعتِقُه بـ (عوضٍ) نحو: أنتَ حرُّ على أن تخدِمَني سنةً. وكما لو اشترَى العبدُ نفسَه من سيِّدِه بعِوضٍ حالٍّ، فإنَّه يَعتِقُ ويكونُ الولاءُ لسيِّدِه. نصَّ عليه.
(أو) عتَقَ عليه بـ (كتابةٍ، أو) عتقَ عليه بـ (تَدبيرٍ) بأن في دبَّرَه، فماتَ. وخرجَ من ثُلثِه.
(أو) عتَقَ عليه بـ (إيلادٍ) كأنْ أتتْ أمتُه منه بولدٍ، ثمَّ ماتَ أبو الولدِ (أو) أعتقَه بسببٍ (وصيَّةٍ) بأنْ وصَّى بعتقٍ عبدٍ، فأعتقَه الورثةُ، (أو أعتقَه في زكاتِه، أو) أعتقَه (في نذرِه، أو) أعتقَه في (كفارتِه، فله عليه الولاءُ) في جميعِ هذه الصورِ؛
(1)
سقطت: "عليه" من الأصل.
وعَلَى أولادِهِ، بشَرطِ كَونِهِم مِن زَوجَةٍ عَتيقَةٍ، أو أمَةٍ، وعلَى مَنْ لَهُ أو لَهُم عَلَيهِ الوَلاءُ.
وإنْ قَالَ: أعتِقْ عبدَكَ عَنِّي مجَّانًا، أو عَنِّي أو عَنْكَ وعَلَيَّ ثمنُهُ، فأعتَقَهُ، صَحَّ، وكَانَ وَلاؤُهُ للمُعتَقِ عَنهُ، ويَلزَمُ القَائِلَ ثَمنُه فِيمَا إذا التزمَ بهِ.
لحديثِ: "الولاءُ لمَن أعتقَ". متفقٌ عليه
(1)
.
(و) له أيضًا الولاءُ (على أولادِه) أي: العتيقِ (بشرطِ كونِهم من زوجةٍ عتيقةٍ) لمُعتِقِه، أو غيرِه، (أو) على أولادِه من (أمةٍ) للعَتيقِ. وإنْ كانوا من أمةِ الغَيرِ، فتَبَعٌ لأمِّهم حَيثُ لا شَرْطَ ولا غرورَ.
(و) له الولاءُ أيضًا (على مَن له) أي: العتيقِ ولاؤُهُ كعُتقائِه (أو لهم) أي: أولادِ العتيقِ، وإنْ سَفَلُوا، ولاؤه. (عليه الولاءُ)؛ لأنَّه وفي نعمَتِهم، وبسَببِه عَتَقُوا، ولأنَّهم فرعُه، والفَرعُ يَتبَعُ أصلَهُ، فأشبَهَ ما لو باشَرَ عِتقَهم، وسَواءٌ الحَربيُّ وغَيرُه؛ لأنَّ الولاءَ مُشَبَّهٌ بالنَّسَبِ، والنَّسبُ ثابِتٌ بينَ أهلِ الحَربِ، فكَذلِكَ الوَلاءُ
(2)
.
(وإن قال: أَعْتقْ عبدَكَ) أو أمتَك (عنِّي مَجَّانًا، أو) أعتقْ رَقيقَكَ (عنِّي، أو) أعتِق رَقيقَكَ (عنَكَ، وعليَّ ثمنُه، فأعتَقَهُ) ففَعلَ المقولُ له؛ بأنْ أعتقَه في المجلسِ، أو بعدَ الفُرقةِ (صحَّ) ذلك (وكان) العتيقُ (ولاؤهُ للمُعتَقِ عَنه) أي: للقائِلِ، ووقعَ الملكُ والعِتقُ معًا.
(ويلزمُ القائلَ ثمنُه) أي: العتيقِ (فيما إذا التزم به) أي: بالثمنِ؛ بأنْ قالَ:
(1)
تقدم تخريجه (3/ 107).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 569).
وإنْ قَالَ الكَافِرُ: أعتِقْ عبدَكَ المُسلِمَ عَنِّي، فأعتَقَهُ، صَحَّ، ووَلاؤُهُ للكَافِرِ.
أعتقْه وعَليَّ ثمنُه، فإنْ لئم يلتزمْه، فلا يلزمُه.
(وإنْ قالَ الكافرُ: أعتِقْ عبدَكَ المسلمَ عنِّي) وعَليَّ ثمنُه (فأَعتَقَه) عن الكافِرِ، (صحَّ) عِتقُه عنه، (وولاؤُه) أي: العَتيقِ (للكَافِرِ) ويَرِثُه به؛ لما تقدَّم.
فَصْلٌ
ولا يَرِثُ صَاحِبُ الوَلاءِ، إلَّا عِندَ عَدَمِ عَصَبَاتِ النَّسَبِ
، وبَعدَ أنْ يأخُذَ أصحَابُ الفُرُوضِ فُرُوضَهُم.
فبَعدَ ذَلِكَ يرَثُ المُعتِقُ، ولو أُنثَى، ثمَّ عَصَبتُهُ، الأقرَبُ فالأقرَب.
وحُكمُ الجَدِّ مَعَ الإخوَةِ فِي الوَلاءِ كَحُكمِهِ مَعَهُم في النَّسَبِ.
(فَصلٌ)
(ولا يَرِثُ صاحِبُ الوَلاءِ إلَّا عِندَ عَدَمِ عَصَبَاتِ النَّسَبِ) ثمَّ عَصَبتُهُ، الأقربُ فالأقربُ، على ما سَبَقَ. (وبَعدَ أن ياخُذَ أصحَابُ الفُروضِ فُروضَهم).
(فبَعدَ ذلك يَرِثُ المُعتِقُ، ولو أُنثَى) لأنَّ الوَلاءَ لمَن أعتَقَ، (ثم عصبَتُهُ) أي: المعتِقِ (الأقرَبُ فالأقرَبُ).
(وحُكمُ الجدِّ معَ الإخوَةِ) الذُّكُورِ إذا اجتَمعُوا (في الوَلاءِ كَحُكمِهِ مَعهُم في النَّسَبِ).
والحاصِلُ: أنَّهُم إن زَادُوا -الإخوَةُ- عن اثنَينِ، فلِلجَدِّ ثُلُثُ مالِه، أي: العَتيقِ؛ لأنَّه -أي: الثُّلُثَ- أحَظُّ للجَدِّ مِن المُقَاسَمَةِ، إن لم يَكُن للعَتيقِ ذو فَرضٍ. وإن نَقَصُوا -الإخوَةُ- عن اثنَينِ، قاسَمَهُم.
وكذا بقيَّةُ مَسائِلِه إذا كان معَهُم صاحِبُ فَرضٍ، على ما تقدَّم في مِيرَاثِ الجدِّ معَ الإخوَةِ
(1)
.
(1)
انظر "كشاف القناع"(10/ 538)، "فتح وهاب المآرب"(2/ 572).
والوَلاءُ لا يُبَاعُ، ولا يُوهَبُ، ولا يُوقَفُ، ولا يُوصَى به، ولا يُورَثُ، وإنَّمَا يَرِثُ به أقرَبُ عَصَبَاتِ المُعتِقِ يَومَ مَوتِ العَتيقِ، لكِنْ يتَأتَّى انتِقَالُه مِنْ جِهَةٍ إلى أُخرَى.
فلو تَزوَّجَ عَبدٌ بمُعتَقَةٍ، فوَلاءُ مَنْ تَلِدُهُ لِمَنْ أعتَقَهَا، فإنْ عَتَقَ الأبُ،
…
(والوَلاءُ لا يُبَاعُ، ولا يُوهَبُ، ولا يُوقَفُ، ولا يُوصَى به، ولا يُورَثُ) الولاءُ؛ لما تقدَّم. ولحديث: "الولاءُ لُحمَةٌ كلُحمَةِ النَّسَبِ، لا يُباعُ، ولا يُوهَبُ"
(1)
. رواهُ الخلال.
ولا يَصِحُّ أن يأذَنَ لعَتيقِهِ، فيُوالي مَن يَشاءُ. رُوي عن عُمَرَ، وابنِه، وعليٌّ، وابنِ عبَّاسٍ، وابنِ مَسعودٍ؛ ولأنَّهُ مَعنًى يُورَثُ به، فلم يَنتَقِلْ، كالقَرَابَةِ. ولا يجوزُ أن يُوالي غيرَ مَوَالِيه
(2)
، ولو بإذنِهم.
(وإنَّما يَرِثُ به أقرَبُ عَصَبَاتِ المُعتِقِ) الذي هو السَّيدُ (يومَ مَوتِ العَتيقِ) أي: لا يومَ مَوتِ السيِّدِ، (لكِنْ يتأتَّى انتقَالُه) أي: الوَلاءِ (مِن جِهَةٍ إلى أُخرَى).
مثالُه: (فلو تزوَّجَ عبدٌ بمُعتَقَةٍ) لغَيرِ سيِّدِهِ، فأولَدَهَا (فوَلاءُ مَن تَلِدُهُ) ذَكرًا أو أُنثَى أو خُنثَى، واحِدًا أو أكَثَر (لمَن أعتَقَهَا) أي: لموالي أُمِّه اقي هي زَوجَةُ العَبدِ، فيَعقِلُ عن أولادِ مُعتَقَةٍ، ويَرِثُهم إذا ماتُوا؛ لأنَّه سَببُ الإنعَامِ عَليهِم؛ لأنَّهُم صارُوا أحرَارًا بسَبَبِ عِتقِ أُمِّهم
(3)
.
(فإن عتَقَ الأبُ) أي: العَبدُ الذي هو
(4)
أبو أولادِ المُعتَقَةِ ....
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في الأصل: "متواليه".
(3)
"دقائق أولي النهى"(4/ 683)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 573).
(4)
سقطت: "هو" من الأصل.
انجَرَّ الوَلاءُ لِمَوَالِيهِ.
(أنجرَّ الوَلاءُ) أي: ولاءُ ولَدِ العَتيقَةِ مِنهُ عن مَوَالي الأُمِّ (لمَوالِيه) أي: مَوالي مُعْتِقِه، فيَصيرُ له الوَلاءُ على العَتيقِ وأولادِه؛ لأنَّ الأبَ لمَّا كانَ مملُوكًا لم يَكُن يَصلُحُ وارِثًا، ولا وَليًّا في نِكَاحٍ، فكَانَ ابنُهُ كوَلَدِ المُلاعَنَةِ، ينقَطِعُ نَسبُه عن أبيه، فتثبُتُ الوَلاءُ لمَوالي أُمِّهِ، ويَنتَسِبُ إليها، فإذا عَتَقَ الأَبُ، صلحَ الانتِسَابُ إليهِ، وعادَ وارِثًا ووَليًا، فعَادَت النِّسبَةُ إليه وِإلى مَوالِيه، وصارَ بمَنزِلَةِ ما لو استَلحَقَ المُلاعِنُ ولَدَهُ
(1)
.
(1)
"كشاف القناع"(10/ 544)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 574).
كِتَابُ العِتْقِ
وهو مِنْ أعظمِ القرَبِ، ....
(كتابُ العِتْقِ)
لُغَةً: الخُلوصُ، ومِنهُ: عِتَاقُ الخَيلِ والطَّيرِ، أي: خالِصُهَا. وسُمِّيَ البيتُ الحرَامُ عَتيقًا؛ لخُلُوصِه مِن أَيدِي الجَبابِرَةِ.
(وهو) شَرعًا: تَحريرُ الرَّقَبةِ وتخليصُها مِن الرِّقِّ، عَطفُ تَفسيرٍ. وخُصَّ به الرَّقَبةُ معَ وقُوعِه على جميعِ البَدَن؛ لأنَّ مِلكَ السيِّدِ لهُ، كالغِلِّ في رَقبَتِه المانِعِ لهُ من التصرُّفِ، فإذا عَتَقَ فكأَنَّ رَقَبتَهُ أُطلِقَت من ذلِك. يُقالُ: عَتَقَ العَبدُ، وأَعتَقتُهُ أنَا، فهو عَتيقٌ ومُعتَقٌ، وهُم عُتَقَاءُ، وأمَةٌ عَتيقٌ وعَتيقَةٌ.
والإجماعُ على صحَّتِه، وحُصُولِ القُربَةِ به؛ لقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النِّساء: 92]. وقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البَلَد: 13]. وحديثِ أبي هريرةَ مرفُوعًا: "من أعتَقَ رَقَبَةً مُؤمِنَةً، أعتَقَ اللهُ بكُلِّ إرْبٍ مِنهَا إربًا منه مِن النَّار، حتى إنَّه ليُعتِقُ اليدَ باليَدِ، والرِّجلَ بالرِّجلِ، والفَرجَ بالفَرجِ". متفق عليه
(1)
.
(وهو) أي: العِتقُ (مِن أعظَمِ القُرَبِ) لأنَّه تعَالى جعَلَهُ كفَّارَةً للقَتلِ وغَيرِه، وجعلَهُ عليه السلام فِكَاكًا لمُعتِقِهِ مِن النَّارِ، ولما فيه من تخليصِ الآدميِّ المعصومِ من ضَرَرِ الرقِّ، ومِلكِ نَفسِهِ ومَنافِعِه، وتَكميلِ أحكامِه، وتَمكينِه من التصرُّفِ في نفسِه ومنافِعِه على حسَبِ اختيارِه.
(1)
أخرجه البخاري (2517)، ومسلم (1509) بنحوه. واللفظ المذكور أخرجه أحمد (15/ 260)(9441).
فيُسَنُّ عِتْقُ رَقِيقٍ له كَسْبٌ.
ويُكرَهُ إنْ كَانَ لا قُوَّةَ له، ولا كَسْبَ، أو يُخَافُ مِنهُ الزِّنَى أوِ الفَسَادُ. ويَحرُمُ إنْ عُلِمَ ذلِكَ مِنهُ، وهكَذَا الكِتَابَةُ.
وأفضَلُهَا
(1)
أنفَسُهَا عندَ أهلِها وأغلاهَا ثمنًا. نصًا.
فظاهرِهُ: ولو كافِرَةً، وفاقًا لمالِكٍ، وخالَفَهُ أصحابُه، ولعلَّهُ مُرادُ أحمدَ، لكِنْ يُثابُ على عِتقِه. قاله في "الفروع"
(2)
.
وعِتقُ ذَكَرٍ أفضَلُ مِن عِتقِ أُنثَى، وتِعدَادٌ ولو مِن إناثٍ، أفضَلُ مِن واحِدٍ ولو ذَكَرًا.
(فيُسَنُّ عِتقُ رَقيقٍ له كَسْبٌ) لانتِفَاعِه بكَسبِه. قال في "الإقناع"
(3)
: وَدِينٌ. (ويُكرَهُ) العِتقُ (إنْ كانَ) العتيقُ (لا قُوَّةَ له، ولا كَسْبَ) لسُقوطِ نفقَتِه بإعتَاقِه، فيَصيرُ كَلًّا على النَّاسِ، ويَحتَاجُ إلى المسألَةِ. وكذَا كِتابَتُهُ (أو) كان (يُخَافُ منه الزِّنَى) إن أُعتِق، (أو) كان يُخافُ مِنه (الفَسَادُ) فيُكرَهُ عِتقُه. وكذا إن خِيفَ رِدَّتُه ولحوقُه بدارِ الحَربِ.
(ويَحرُمُ إن عُلِمَ ذِلكَ منه
(4)
) أي: الرُّجُوعُ إلى دارِ الحَربِ وتَركُ الإسلام، أو الفَسادُ، مِن قَطعِ طَريقٍ وسَرِقَةٍ أو الزِّنى.
(وهكَذا الكِتَابَةُ) لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النُّور: 33] ولانتِفَاعِهِ بمِلكِ كَسبِهِ بالعِتقِ.
(1)
أي: الرقاب للعتق.
(2)
"الفروع"(8/ 97).
(3)
"الإقناع"(3/ 253).
(4)
سقطت: "منه" من الأصل.
ويحصُلُ العِتقُ بالقَولِ:
وصَرِيحُه: لفَظُ العِتْقِ والحُرِّيَّةِ كَيفَ صُرِّفًا، غَيرَ أمرٍ ومُضَارِعِ واسْمِ فاعِلٍ.
(ويحصُلُ العِتقُ بالقَولِ) ويحصُلُ بالمِلكِ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وباستِيلادٍ إذا ماتَ السيِّدُ، وبالتَّمثيلِ، من جائِزِ التصرُّفِ. ولا يَحصُلُ
(1)
بمجرَّدِ نيَّةٍ
(2)
، كالطَّلاقِ.
ويَنقَسِمُ القَولُ إلى صَريحٍ، وكِنَايَةٍ:
(وصَريحُه: لَفظُ العِتقِ، و) لَفظُ (الحريَّةِ) لورُودِ الشَّرعِ بهِمَا، فوَجَبَ اعتبارُهُمَا (كيفَ صُرِّفَا) كقولِه لقِنِّهِ: أنتَ حُرٌّ، أو محرَّرٌ، أو حرَّرتُكَ، أو: أنتَ عَتيقٌ، أو مُعتَقٌ -بفتح التَّاءِ- أو أعتَقتُكَ. فيَعتِقُ ولم لم يَنوِهِ (غيرَ أمرٍ ومُضَارعٍ، واسمِ فاعِلٍ) كقَولِه لرَقيقِه: حَرِّرْهُ، أو: أَعتِقْهُ، أو: هذا مُحرِّرٌ، بكَسرِ الرَّاءَ، ومُعتِقٌ، بكَسرِ التَّاءِ. فلا يَعتِقُ بذلِكَ؛ لأنَّه طَلبٌ، أو وَعدٌ، أو خَبرٌ مِن غَيرِه، ولَيسَ واحِدٌ مِنها صالحًا للإنْشَاءِ، ولا إخبَارًا عن نَفسِه، فيُؤاخَذُ به.
وقِياسُ ما يأتي في الطَّلاقِ: لو قالَ له: أنتَ عاتِقٌ، عَتَقَ.
ولا يَصحُّ العِتقُ مِن نائمٍ، ومُغمًى عليه، ومُبَرْسَمٍ؛ لأنَّهم لا يَعقِلُونَ ما يَقولُونَ.
قال في "الفائق": قُلتُ: نيَّةُ قَصْدِ الَّلفظِ مُعتبَرَةٌ؛ تحرُّزًا مِن النَّائِمِ ونحوِه. ولا تُعتَبرُ نِيَّةُ النَّفَاذِ، ولا نِيَّةُ القُربَةِ، فيَقَعُ عِتقُ الهازِلِ.
ومعنى قَولِه: نِيَّة قَصدِ اللفظ. أي: إرادَةُ لَفظِه لمعنَاهُ، فلا عِتاقَ لحاكٍ، وفَقيهٍ
(1)
سقطت: "ولا يَحصُلُ" من الأصل.
(2)
سقطت: "نية" من الأصل. وانظر "كشاف القناع"(11/ 11)، "دقائق أولي النهى"(5/ 6).
وكنَايتُه مَعَ النيَّةِ سِتَّةَ عَشَرَ:
خَلَّيتُكَ، وأطلَقتُكَ، والحَقْ بأهلِكَ، واذهَبْ حَيثُ شِئْتَ، ولا سَبيلَ لي، أو لا سُلطَانَ، أو لا مِلكَ، أو لا رِقَّ، أو: لا خِدْمَةَ لي عَلَيكَ، ووهَبتُكَ للَّه، وأنتَ للَّهِ، ورَفَعْتُ يَدِي عَنكَ إلى اللَّهِ، وأنتَ مَولايَ، أو سَائِبَةٌ، ومَلَّكتُكَ نَفسَكَ، وفككتُ رقَبتَكَ وتزيدُ الأمَةُ بـ: أنتِ طَالِقٌ، أو حَرَامٌ.
ويَعتِقُ حَمْلٌ -لم يُستَثْنَ- بِعِتْقِ أمِّهِ،
…
يُكَرِّرُهُ، ونائِمٍ ونحوِه
(1)
.
(وكِنايَتُه) أي: العِتقِ التي يَقَعُ بها (مَعَ النيَّةِ) أي: نِيَّةِ العِتقِ (سِتَّةَ عَشَرَ):
الأوَّل: (خَلَّيتُكَ. و) الثاني: (أطلَقتُكَ. و) الثالِثُ: (الحَقْ بأهلِكَ. و) الرابعُ: (اذهَب حَيثُ شِئتَ. و (الخامِسُ: (لا سَبيلَ لي) عَليكَ. (و) السادِسُ: (لا سُلطَانَ) لي عليك. (و) السابِعُ: (لا مِلكَ) لي عَليكَ (و) الثامن: (لا رِقَّ) لي عليك (و) التاسع: (لا خِدمَةَ لي عَليكَ. و) العَاشِرُ: (وهَبتُكَ لله. و) الحادي عَشَرَ: (أنتَ لله. و) الثاني عشرَ: (رَفَعتُ يَدي عَنكَ إلى الله. و) الثالث عشرَ: (أنتَ مَولاي. و) الرابع عشر: (أنتَ سَائِبَة. و) الخامسَ عشَرَ: (ملَّكتُكَ نَفسَكَ. و) السادس عشَر: (فكَكتُ رَقَبتَكَ).
(وتَزيدُ الأمَةُ) مِن الكِنايَةِ (بـ) ـــقولِ السيِّدِ لأمَتِه: (أنتِ طالِقٌ، أو) أنتِ (حَرَامٌ) وفي "الانتصار": وكذا: اعتدِّي. وأنَّه يُحتَمَلُ مِثلُه في لَفظِ الظِّهَارِ
(2)
.
(ويَعتِقُ حملٌ لم يُستَثْنَ) أي: الحَملُ (بِعِتقِ أُمِّهِ) لأنَّه يتبَعُها في البيعِ والهِبَةِ،
(1)
كشاف القناع" (11/ 12).
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 8).
لا عَكسُهُ.
وإنْ قالَ لِمَن يُمكِنُ كَونُه أباهُ: أنت أبي. أو لِمَنْ يُمكِنُ كونُه ابنَهُ: أنَت ابنِي، عَتَقَ، لا إنْ لَمْ يُمكِنْ، إلَّا بالنيَّةِ.
فتَبِعَهَا في العِتقِ. وعُلِمَ منه: صحَّةُ استِثنَاءِ الحملِ في العِتق.
(لا عَكسُهُ) بأن قالَ: أعتَقتُ حملَكِ. عتَقَ حملُها وحدَه، ولم يَسْرِ العِتقُ إلى أُّمِّه؛ لأنَّ الأصلَ لا يَتبعُ الفَرعَ.
(و) مما يحصُلُ به العِتقُ: (إن قالَ) سيِّدٌ (لمَن يُمكِنُ كَونُهُ أَبَاهُ) من رقِيقِهِ؛ بأنْ كانَ السيِّدُ ابنَ عِشرينَ سنَةً مَثَلًا، والرَّقيقُ ابنَ ثَلاثِينَ سنَةً فأكثَرَ:(أنتَ أبي، أو) قالَ لرَقيقِهِ (لمَن يُمكِنُ كَونُهُ ابنَهُ: أنتَ ابني) فيـ (ـــعتق) بذلِكَ فِيهِما، وإنْ لم يَنوِهِ، يَعتَقُ (لا إنْ لم يُمكِن) لكِبَرِهِ، أو صِغَرِه: أنتَ ابني، أو أنتَ أَبي. فلا يَعتِقُ بها (إلَّا بالنيَّةِ) لأنَّ هذِهِ الألفَاظَ تحتَمِلُ العِتقَ وغَيرَهُ، فلا تُحمَلُ
(1)
عَليه إلَّا بالنيَّةِ.
(1)
في الأصل: "تحتمل".
فَصْلٌ
ويحصُلُ بالفِعْلِ:
فَمَنْ مثَّلَ برَقيقِهِ، فَجَذَعَ أنفَهُ، أو أُذُنَهُ، ونحوَهُما، أو خَرَقَ أو حَرَقَ عُضوًا مِنهُ، أو استَكرَهَهُ على الفَاحِشَةِ، أو وَطِئَ مَنْ لا يُوطَأُ مِثلُهَا لِصِغَرٍ، فأفضَاهَا،
(فَصل)
(ويحصُلُ) العِتقُ (بالفِعلِ).
(فمَن) ظَاهِرُه: ولو غَيرَ جَائزِ التصرُّفِ (مَثَّلَ) بتَشديدِ المثلَّثةِ. قال أبو السَّعادات: مَثَّلتُ
(1)
بالحيوانِ، أُمثِّلُ تمثيلًا
(2)
: إذا قَطَعتَ أطرَافَهُ، وبالعَبدِ، إذا جَذعتَ أنفَهُ، ونحوَه (برَقيقِه
(3)
، فجَذَع أنفَهُ، أو أُذُنَه، ونحوَهُما) كمَا لو خَصَاهُ. (أو خَرَقَ) عُضوًا منه، ككفِّهِ، بنَحوِ مِسَلَّةٍ
(4)
(أو حَرَقَ عُضوًا مِنهُ) بالنَّار
(5)
(أو استَكرَهَهُ) أي: القِنَّ سَيِّدُهُ (على الفَاحِشَةِ) بأن فَعلَها به مُكرَهًا؛ لأنَّه مِن المُثلَةِ (أو وَطِئَ) سيِّدٌ (مَن لا يُوطَأُ مِثلُها؛ لِصِغَرٍ، فأفضَاهَا) أي: خَرَقَ ما بَينَ سَبيلَيهَا، فتَعتِقُ عَليه.
(1)
في الأصل: "مثل".
(2)
في الأصل: "مثلًا".
(3)
سقطت: "برقيقه" من الأصل.
(4)
المِسَلّة: إبْرَةٌ كَبِيرَة.
(5)
في الأصل: "بالناري".
عَتَقَ في الجَميعِ.
ولا عِتقَ بخَدْشٍ، وضَرْبٍ، ولَعْنٍ.
ويحصُلُ بالمِلْكِ:
فَمَن مَلَكَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرمٍ مِنَ النَّسَبِ، عَتَقَ عَليهِ،
…
قال ابنُ حمدان: ولو مَثَّلَ بعَبدٍ مُشتَرَكٍ بيَنَهُ وبينَ غيرِه، عَتَقَ نَصيبُهُ، وسَرَى العِتقُ إلى باقيه، وضَمِنَ قِيمَةَ حِصَّةِ الشَّريكِ. ذكره ابنُ عقيل
(1)
.
(عَتَقَ في الجميع) أي: جَميعِ مسائِلِ التَّمثيلِ، بلا حُكمِ حاكِمٍ.
(ولا عِتقَ بخَدْشٍ، وضَرْبٍ، ولَعنٍ) لأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا في مَعنى المنصُوصِ عليه، ولا قِياسَ يَقتَضيه.
(ويحصُلُ) العِتقُ (بالمِلكِ).
(فمَن مَلَكَ) مِن جائِزِ المصرُّفِ وغَيرِهِ (لِذِي رَحِمٍ) أي: قَرَابَةٍ، (محرَمٍ مِن النَّسَبِ) وهو الذي لو قُدِّرَ أحدُهُما ذَكَرًا والآخَرُ أُنثَى، حَرُمَ نِكَاحُهُ عليه؛ للنَّسَبِ. بخِلافِ ولَدِ عَمِّه وخَالِه، ولو كانَ أَخَاهُ مِن رَضَاعٍ، فإنَّه لا يَعتِقُ عليه بالمِلكِ، وإن كانَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ لأنَّ تحريمَهُ بالرَّضَاعِ لا بالنَّسَبِ.
(عتَقَ عليه)؛ لحديث الحسَنِ، عن سمُرَة مرفوعًا:"مَن مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحرَمٍ، فهو حُرٌّ". رواه الخمسة
(2)
، وحسَّنهُ الترمذيُّ وقال: العَملُ على هذا عِندَ أهلِ العِلمِ.
(1)
" دقائق أولي النهى"(5/ 13).
(2)
أخرجه أحمد 33/ 38 (20167)، وأبو داود (3949)، والترمذي (1365)، وابن ماجه (2524)، والنسائي في الكبرى (4898). وصححه الألباني في "الإرواء"(1746).
ولَو حَمْلًا. وإنْ مَلَكَ بَعضَهُ، عَتَقَ البَعْضُ، والبَاقِي بالسِّرَايَةِ إنْ كانَ مُوسِرًا، ويَغْرَمُ حِصَّةَ شَريكِهِ.
وكَذَا حُكمُ كُلِّ مَنْ أعتَقَ حِصَّتَهُ مِنْ مُشتَرَكٍ، فلو ادَّعَى كُلٌّ مِنْ مُوسِرَيْنِ أنَّ شَريكَهُ أعتَقَ نَصيبَهُ، عَتَقَ؛ لاعتِرَافِ كُلٍّ بحُرِّيَّتِهِ، ويَحلِفُ كُلٌّ لِصَاحِبِهِ،
(ولو) كانَ المملوكُ (حَمْلًا) كمَا لو اشتَرَى زَوجَةَ ابنِهِ الأمَةَ، التي هيَ حامِلٌ من ابنِه.
(وإن مَلَكَ بعضَهُ) أي: بعضَ مَن يَعتِقُ عليه، كأَبيهِ، وابنِهِ، وأخيهِ، وعمِّهِ (عَتَقَ البَعضُ) أي: الجزءُ المملُوكُ، (والباقِي بالسِّرَايَةِ إنْ كَانَ مُوسِرًا) بقِيمَةِ باقِيه، عتَقَ عليهِ كُلُّه. (ويَغرَمُ حِصَّةَ شَريكِه) إن كانَ مُعسِرًا. فيُقوَّمُ كامِلًا لاعِتقَ فِيهِ، وتُؤخَذُ حِصَّةُ الشَّريكِ مِنها؛ لفِعلِه سَبَبَ العِتقِ اختِيارًا مِنهُ، وقَصدًا إليه، فسَرَى، ولَزِمَهُ الضَّمَانُ.
(وكذَا حُكمُ كُلِّ مَن أعتَقَ حِصَّتَه مِن) رَقيقٍ (مُشتَرَكٍ) بينَهُ وبينَ غَيرِهِ مِن عَبدٍ أو أمَةٍ، ولو كانَ الرَّقيقُ المشتَركُ أمَّ وَلَدٍ؛ بأنْ وَطِئَ اثنانِ أمَةً مُشتَركَةً بينَهُما في طُهرٍ واحِدٍ، وأتَت بوَلَدٍ، فألحَقَتهُ القَافَةُ بهِمَا، فتَصيرُ أمَّ ولَدِهِما
(1)
.
(فلو ادَّعَى كلٌّ مِن) شَريكَينِ (مُوسِرَينِ أنَّ شَريكَهُ أعتَقَ نَصيبَهُ) مِن رقيقٍ مُشتَرَكٍ بينَهُما (عَتَقَ) المشتَرَكُ، (لاعتِرَافِ كُلٍّ) مِن الشَّريكَينِ (بحُرِّيتِه) وصَارَ كُلٌّ مُدَّعيًا على شَريكِهِ بنَصيبِهِ مِن قِيمَتِه. فإن كانَ لأَحَدِهما بيِّنَةٌ، حُكِمَ له بها. (و) إن لم يَكُنْ لوَاحدٍ مِنهُما بيِّنَةٌ، فإنَّهُ (يَحلِفُ كُلٌّ) مِنهُما (لصَاحِبِه) فإنْ نَكَلَ أحدُهُما، قُضِيَ عليه للآخَرِ، وإن نَكَلَا جميعًا، تَسَاقَطَ حَقَّاهُمَا؛ لتَماثُلِهِما.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 583).
ووَلاؤُهُ لبيتِ المَالِ، ما لَمْ يَعتَرِفْ أحدُهُما بعتقِهِ، فيثبُتُ لَهُ، ويَضمَنُ حَقَّ شَريكِهِ.
(وولاؤهُ لبَيتِ المالِ) دونَهُمَا؛ لأنَّ أحَدَهُما لا يدَّعيه، أشبَهَ المالَ الضَّائِعَ، (ما لم يَعتَرِفْ أحَدُهُمَا بِعِتقِ) كُلِّـ (هِ)، أو جُزئِهِ (فيَثبُتُ له) ولاؤُهُ. (ويَضمَنُ حَقَّ شَريكِهِ) أي: قيمَةَ حصَّتِه؛ لاعتِرَافِه. وسَواءٌ كانَا عَدلَينِ، أو فَاسِقَينِ، مُسلِمَينِ أو كافِرَين؛ لتَساوِيهِما في الاعتِرَافِ والدَّعوى.
فَصْلٌ
ويَصِحُّ تَعلِيقُ العِتقِ بالصِّفَةِ، كـ: إنْ فَعَلتَ كَذَا فأنْتَ حُرٌّ.
ولهُ وَقْفُهُ، وكَذَا بيعُهُ ونحوُه، قَبْلَ وُجودِ الصِّفَةِ. فإنْ عَادَ لمِلكِهِ
…
(فَصلٌ)
(ويَصِحُّ تَعليقُ العِتقِ بالصِّفَةِ؛ كـ: إنْ فَعَلتَ كذَا، فأنتَ حُرٌّ) وكَقَولِه: إن أعطَيتَني ألفًا، فأنتَ حُرٌّ. وكذَا: إن دَخَلتَ الدَّارَ، أو جاءَ المطرُ، أو رأسُ الحَولِ ونحوِه.
ولا يَعتِقُ قَبلَ وجودِ الصِّفَةِ؛ لأنَّ العِتقَ مُعلَّقٌ بها، فوَجَبَ أن يتعلَّقَ بها، كالطَّلاقِ.
(ولَهُ وقفُهُ، وكذَا بَيعُهُ ونحوُه) مِن هِبَةٍ، وجَعَالَةٍ، وأُجرَةٍ في إجارَةٍ
(1)
(قَبلَ وجُودِ الصِّفَةِ) ثمَّ إنْ وُجِدَت وهِيَ في مِلكِ غَيرِ المعلِّقِ
(2)
، لم يَعتِق؛ لقولِه عليه السلام:"لا طلاقَ، ولا عِتَاقَ، ولا بيعَ فِيما لا يَملِكُ ابنُ آدمَ"
(3)
. ولأنَّه لا مِلكَ له عَليه، فلَم يَعتِق، كمالولم يتقدَّم له عليهِ مِلكٌ.
(فإن عادَ) المعلَّق
(4)
عِتقُهُ على صِفَةٍ (لمِلكِهِ) أي: مِلكِ المعلِّق للعِتق
(1)
"كشاف القناع"(11/ 34)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 585).
(2)
سقطت: "ثمَّ إنْ وُجِدَت وهِيَ في مِلكِ غَيرِ المعلِّقِ" من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهى"(5/ 22).
(3)
أخرجه أبو داود (2190) من حديث عمرو بن العاص. وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: "المعتق".
عَادَتْ، فمتَى وُجِدَتْ، عَتَقَ.
ولا يَبطُلُ إلَّا بمَوتِه، فقُولُه: إنْ دخَلتَ الدَّارَ بعدَ مَوتِي، فأنت حُرٌّ، لَغوٌ.
ويَصِحُّ: أنتَ حُرٌّ بعدَ مَوتِي بشَهرٍ، فلا يَملِكُ الوارِثُ بيعَهُ.
ويَصِحُّ قولُه: كُلُّ مملُوكٍ أملِكُهُ فَهوَ حُرٌّ. فكُلُّ مَنْ مَلَكَه، عَتَقَ.
(عادَت) الصِّفَةُ، فيَعتِقُ إن وُجِدَت في مِلكِه؛ لأنَّ التَّعليقَ والشَّرطَ وُجِدَا في مِلكِهِ، أشبَهَ ما لو لم يتَخلَّلْهُمَا
(1)
زوالُ مِلكٍ ولا وجُودُ صِفَةٍ حالَ زَوَالِهِ.
ولا يَعتِقُ قَبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ بكَمالِهَا، كالجُعْلِ في الجَعَالَةِ (فمَتى وُجِدَت) الصِّفَةُ التي عُلِّقَ العِتقُ عَليهَا كامِلَةً، والرَّقيقُ في مِلكِ السيِّدِ (عَتَقَ) أي: الرَّقيقُ.
(ولا يَبطُلُ) التَّعليقُ (إلَّا بمَوتِه) أي: المُعلِّقِ، لزَوالِ مِلكِهِ زَوالًا غَيرَ قابِلٍ للعَوْدِ. (فقَولُه) أي: السيِّدِ لرَقيقِهِ: (إنْ دَخَلتَ الدَّارَ بَعدَ مَوتي، فأَنتَ حُرٌّ، لَغوٌ) كقَولِه لعَبدِ غَيرِهِ: إن دَخَلتَ الدَّارَ فأَنتَ حُرٌّ. ولأنَّهُ إعتَاقٌ لهُ بعدَ استِقرَارِ مِلكِ غَيرِهِ عليه، فلَم يَعتِقُ به.
(ويَصِحُّ) قولُ مالِكِ رَقيقٍ له: (أنتَ حُرٌّ بعدَ موتي بشَهرٍ) كمَا لو وصَّى بإعتَاقِهِ، أو بأَنْ تُباعَ سِلعَتُهُ، ويُتَصدَّقَ بثَمَنِها. (فلا يَملِكُ الوارِثُ بَيعَه) أي: الرَّقيقِ المقولِ له ذلكَ قبلَ مُضيِّ الشَّهرِ.
(ويَصحُّ) التَّعليقُ بـ (ــقوله: كُلُّ مملُوكٍ أَملِكُهُ فهو حُرٌّ) فإذا مَلَكَهُ عَتَقَ؛ لأنَّهُ أضافَ العِتقَ إلى حالٍ يَملِكُ عِتقَه فيه، فأشبَهَ ما لو كانَ التَّعليقُ في مِلكِهِ (فَكُلُّ مَن مَلَكَهُ) مِن رَقيقٍ (عَتَقَ) كُلُّ رَقيقٍ مَلَكَهُ.
(1)
في الأصل: "يتحلهما".
و: أوَّلُ أو آخِرُ قِنٍّ أملِكهُ، أو: أوَّلُ أو آخِرُ مَنْ يَطلُعُ مِنْ رَقِيقِي حُرٌّ، فلَمْ يَملِكْ، أو يَطلُعُ إلَّا واحِدٌ، عَتَقَ. ولو مَلَكَ اثنَينِ مَعًا، أو طَلَعَا مَعًا، عَتَقَ واحِدٌ بقُرعَةٍ. ومِثلُه الطَّلاقُ.
(و: أوَّلُ) قِنٍّ أملِكُهُ حُرٌّ، (أو) قالَ:(آخِرُ قِنٍّ أَملِكُهُ) حُرٌّ (أو) قالَ: (أوَّلُ، أو) قالَ: (آخِرُ مَن يَطلُعُ مِن رَقِيقِي حُرٌّ، فلَم يَملِكْ) إلَّا واحِدًا، عَتَقَ (أو) لم (يطلُعْ إلَّا واحِدٌ، عَتَقَ) لأنَّه ليسَ مِن شَرطِ الأوَّلِ أن يَكونَ له ثَانٍ، ولا مِن شَرطِ الآخِرِ أن يَكونَ قَبلَهُ أوَّلٌ. ولذَلِك مِن أسمائِه تَعالى: الأَوَّلُ، والآخِرُ.
(ولو مَلَكَ اثنَينِ مَعًا، أو طَلَعَا معًا، عَتَقَ واحِدٌ) مِنهُما
(1)
(بقُرعَةٍ) لأنَّ أحدَهُمَا استَحَقَّ العِتقَ، ولم يُعلَم بِعَينِه، فوَجَبَ إخراجُهُ بقُرعَةٍ.
(ومِثلُهُ) أي: العِتقِ (الطَّلاقُ) كما لو قال لزَوجَاتِهِ: أوَّلُ امرَأَةٍ تَطلُعُ، فَهِي طَالِقٌ. فطَلَعَ الكُلُّ، فَطَلُقَ واحِدَةٌ مِن الزَّوجَاتِ بقُرعَةٍ؛ لما تقدَّم
(2)
.
(1)
في الأصل: "منهم".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 588).
فَصْلٌ
وإنْ قَالَ لِرَقِيقِهِ: أنتَ حُرٌّ وعليكَ ألفٌ، عَتَقَ في الحَالِ بِلَا شَيءٍ. و: عَلَى ألفٍ، أو: بألفٍ، لا يَعتِقُ حتَّى يَقبَلَ، ويلزَمُهُ الألفُ.
و: عَلَى أنْ تَخدُمَني سَنَةً، يَعتِقُ بلا قَبُولٍ، وتَلزَمُهُ الخِدمَةُ.
ويَصِحُّ أنْ يُعتِقَهُ ويَستَثنِيَ خِدمَتَهُ مدَّةَ حَياتِهِ، أو مُدَّةً مَعلُومَةً.
(فَصلٌ)
(وإنْ قالَ) السيِّدُ (لرَقيقِهِ: أنتَ حُرٌّ وعَلَيكَ أَلفٌ، عَتَقَ في الحَالِ بِلا شَيءٍ) عَليه؛ لأنَّه أعتَقَه بغَيرِ شَرطٍ، وجَعَلَ عَليه عِوَضًا لم يَقبَلْهُ، فعَتَقَ، ولم يَلزَمْهُ شَيءٌ.
(و) إنْ قالَ له: أنتَ حُرٌّ (عَلى أَلفٍ، أو): أنتَ حُرٌّ (بأَلفٍ) أو: أنت حُرٌّ على أَنْ تُعطِيَني أَلفًا. أو قالَ له: بِعتُكَ نَفسَكَ بأَلفٍ (لا يَعتِقُ حتَّى يَقبَلَ) لأنَّه أعتَقَهُ على عِوَضٍ، فلا يَعتِقُ بدُونِ قَبولِه. و"على" تُستَعمَلُ للشَّرطِ والعِوَضِ، كقَولِه تعالى:{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، وقال تعالى:{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] ونحوِهِ.
(ويَلزَمُهُ) أي: الرَّقيقَ (الأَلفُ) لأنَّه عَتَقَ على عِوَضٍ.
(و) إن قالَ لِرَقيقِهِ: أنتَ حُرٌّ (على أن تَخدُمَنِي سَنَة) ونحوَها، (يَعتِقُ) في الحالِ (بلا قَبُولِ) القِنِّ، (وتَلزَمُهُ الخِدمَةُ) لأنَّهُ في معنى العِتقِ.
(و) كذا (يَصحُّ أن يُعتِقَه ويَستَثنيَ خِدمَتَهُ مُدَّةَ حَياتِه، أو) استَثنى (مُدَّةً معلومَةً) فيَصِحُّ، كسَنَةٍ أو شَهرٍ.
ومَنْ قَالَ: رَقيقِي حُرٌّ، أوْ: زَوجَتي طَالِقٌ، ولهُ مُتَعَدِّدٌ، ولَمْ يَنوِ مُعيَّنًا، عَتَقَ وطَلُقَ الكُلُّ؛ لأنَّه مُفرَدٌ مُضَافٌ، فيَعُمُّ.
(ومَن قالَ: رَقيقِي حُرٌّ، أو) قالَ: (زَوجَتي طَالِقٌ، ولَه) رَقيقٌ، أو زَوجَاتٌ (مُتَعدِّدٌ، ولم يَنوِ مُعَيَّنًا) مِن عَبيدِهِ، أو زَوجَاتِه؛ بأنْ أطلَقَ (عَتَقَ) الكُلُّ مِن عَبيدِهِ، (وطَلُقَ الكُلُّ) مِن زَوجَاتِه. نصًا؛ (لأنَّه) أي: لفَظَ: عَبدِي، أو زَوجَتي (مُفرَدٌ مُضافٌ، فيَعُمُّ) العَبيدَ والزَّوجَاتِ.
بَابُ التَّدبِيِر
وهُوَ: تَعلِيقُ العِتقِ بالمَوتِ، كقَولِه لِرَقيقِه: إنْ مِتُّ، فأنتَ ما حُرٌّ بَعدَ مَوتِي.
ويُعتَبرُ: كَونه مِمَّنْ تَصِحُّ وصيَّتُهُ، وكونُهُ مِنَ الثُّلُثِ.
(بابُ التَّدبيرِ)
يُقالُ: دَابَرَ الرَّجُلُ يُدَابِرُ مُدَابَرَةً: إذا مَاتَ، فسُمِّيَ العِتقُ بعدَ الموتِ تَدبيرًا؛ لأنَّ الموتَ دُبُرُ الحياةِ.
وقالَ ابن عقيل: هو مُشتَقٌّ مِن إدبَارِهِ مِن الدُّنيا. ولا يُستَعمَلُ في شيءٍ بعدَ الموت
(1)
.
(وهو) أي: التَّدبيرُ شَرْعًا: (تَعليقُ العِتقِ بـ) ـــعدَ (المَوتِ) أي: مَوتِ المعلِّقِ. فلا تَصِحُّ الوصيَّةُ بالتَّدبيرِ.
(كقَولِه لرَقيقِه: إن مِتُّ، فأنتَ حُرٌّ بعدَ مَوتي) وأنتَ مُعتَقٌ، أو: عَتيقٌ بعدَ مَوتي. أو: حَرَّرتُكَ، أو: أعتَقتُكَ بعدَ موتي. أو: أنتَ مُدبَّرٌ، أو: دبَّرتُكَ، ونحوه.
(ويُعتَبَرُ كَونُهُ) أي: التَّدبيرِ (ممَّن تَصِحُّ وصيَّتُه) كرَشيدٍ -ولو محجُورًا عليه لِفَلَسٍ وسَفَهٍ - ومُمَيِّزٍ يَعقِلُه، (وكَونُهُ مِن الثُّلُثِ) بعدَ الدُّيُونِ ومُؤَنِ التَّجهيزِ يَومَ مَوتِ السيِّدِ.
(1)
"كشاف القناع"(11/ 52).
وصَرِيحُهُ وكِنَايَتُهُ كالعِتْقِ.
ويَصِحُّ: مُطلَقًا، كأنتَ مُدَبَّرٌ.
ومُقَيَّدًا، كإنْ مِتُّ فِي عَامِي، أو مَرَضِي هَذا، فأنتَ مُدبَّرٌ.
ومُعلَّقًا، كإذَا قَدِمَ زَيدٌ، فأنتَ مُدبَّرٌ.
ومُؤقَّتًا، كأنتَ مُدَبَّرٌ اليَومَ، أو سَنَةً.
ويَصِحُّ بَيعُ المُدَبَّرِ، وهِبَتُهُ. فإن عَادَ لِمِلكِهِ، عَادَ التَّدبِيرُ.
(وصَريحُه) أي: التَّدبيرِ (وكِنَايَتُهُ، كالعِتقِ) كمَا تقدَّم.
(ويَصِحُّ) التَّدبيرُ (مُطلَقًا) أي: غَيرَ مُقيَّدٍ، ولا مُعلَّقٍ، (كـ) ــــقولِه:(أنتَ مُدبَّرٌ).
(ومُقيَّدًا، كـ) ـــقولِه: (إنْ مِتُّ في عَامِي، أو) في (مَرَضِي هذا، فأنتَ مُدبَّرٌ) فإن ماتَ على الصِّفَةِ التي قالها، عَتَقَ، إنْ خَرَجَ مِن الثُّلُثِ.
(و) يَصحُّ (مُعَلَّقًا، كـ) ـــقولِه: (إذا قَدِمَ زَيدٌ، فأنتَ مُدبَّرٌ). أو: إن شَفَى اللهُ مَريضِي، فأنتَ حُرٌّ بَعدَ مَوتي، ونحوه. فإن وُجِدَ الشَّرطُ في حَياةِ سَيِّدِهِ، صارَ مُدبَّرًا، وإلَّا فَلا.
(و) يَصِحُّ (مُؤَقَّتًا؛ كـ) ــقولِه: (أنتَ مُدبَّرٌ اليَومَ، أو) أنتَ مُدبَّرٌ (سَنَةً) فيَكونُ مُدبَّرًا تِلكَ المدَّةِ، إنْ مَاتَ سَيِّدُهُ فيها، عَتَقَ، وإلَّا فلا.
(ويصحُّ بيعُ المدبَّرِ، وهِبَتُهُ) ووقفُهُ، ورَهنُهُ، ونحوه.
قال أبو إسحاقَ الجوزَجَانيُّ: صحَّت أحاديثُ بيعِ المدبَّرِ باستِقَامَةِ الطُّرُقِ
(1)
.
(فإن عادَ لمِلكِهِ) المدبَّرُ بعدَ بَيعِهِ، أو هِبَتِه ونحوِه، (عادَ التَّدبيرُ) لأنَّه عَلَّقَ
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 42).
ويَبطُلُ بثَلاثَةِ أشياءَ:
بِوَقفِهِ، وبِقَتلِهِ لِسَيِّدِهِ، وبإيلادِ الأمَةِ.
وَوَلَدُ المُدبَّرَةِ الذي يُولَدُ بعدَ التَّدبيرِ كَهِيَ ....
عِتقَهُ بصِفَةٍ، فإذا باعَهُ ونحوَهُ، ثمَّ عادَ إليه، عادَت الصِّفَةُ، كما لو قَالَ: أنتَ حُرٌّ إن دَخَلتَ الدَّارَ، فباعَهُ، ثمَّ عادَ إليهِ. فإذا باعَ السيِّدُ المدبَّرَ، تم عادَ إليهِ، ثمَّ ماتَ وهو في مِلكِه، عَتَقَ
(1)
.
(ويَبطُلُ) التَّدبيرُ (بثَلَاثَةِ أشيَاءَ):
الأوَّلُ: (بوَقفِه).
(و) الثاني: (بقَتلِهِ لسيِّدِه) لأنَّه استعجَلَ ما أُجِّلَ لهُ، فعُوقِبَ بنَقيضِ قَصدِهِ، كحِرمَانِ القَاتِلِ الميرَاثَ.
وأمَّا أُمُّ الوَلَدِ
(2)
فتَعتِقُ مطلقًا؛ لئلا يُفضِي إلى نَقلِ المِلكِ فيها، ولا سَبيلَ إليه.
وإنْ جَرَحَ رَقيقٌ سَيِّدَه فدبَّرَه، ثمَّ سَرَى الجرحُ إليهِ ومَاتَ، عَتَقَ.
(و) الثالِثُ: (بإيلادِ الأَمَةِ) أي: وِلادَتِهَا مِن سَيِّدِها ما تَصيرُ به أمَّ وَلَدٍ؛ لأنَّ مُقتَضَى التَّدبيرِ العِتقُ مِن الثُّلُثِ، والاستِيلادُ يجعلُ
(3)
العِتقَ مِن رَأسِ المالِ، وإنْ لم يَملِكْ غَيرَها، أو كانَ عليهِ دَينٌ، فيَبطُلُ به الأَضعَفُ، وهو التَّدبيرُ.
(ووَلَدُ المدبَّرَةِ الذي يُولَدُ بعدَ التَّدبيرِ كهِيَ) أي: المدبَّرَةِ، يَعتِقُ بمَوتِ السيِّدِ، سواءٌ كانَ ما ولَدَتْهُ بعدَ التدبيرِ مَوجُودًا حالَ التَّعليقِ، أو مَوجُودًا حالَ العِتقِ، أو كانَ حادِثًا بينَهُما، أي: بينَ التَّعليقِ والعِتقِ
(4)
.
(1)
كشاف القناع" (11/ 58)، وانظر "فتح وهاب المآرب" (2/ 593).
(2)
أي: إن قتلت سيدها.
(3)
سقطت: "يجعل" من الأصل.
(4)
"كشاف القناع"(1/ 591)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 594).
ولَهُ وَطْؤُهَا وإنْ لَمْ يَشتَرِطهُ، ووَطءُ بِنتِهَا إنْ جَازَ.
ولو أسلَمَ مُدَبَّرٌ أو قِنٌّ أو مُكاتَبٌ لِكَافِرٍ، أُلزِمَ بإزَالَةِ مِلكِهِ، فإنْ أبَى، بِيعَ عَلَيهِ.
(ولهُ) أي: السيِّدِ، (وَطؤُها، وإن لم يَشتَرِطْهُ) أي: وَطأَهَا حالَ تَدبيرِها
(1)
، سواءٌ كانَ يَطؤُهَا قبلَ تَدبيرِها، أوْ لا.
(و) للسيِّدِ (وَطءُ بِنتِهَا) أي: بِنتِ المدبَّرَةِ المملوكَةِ له (إنْ جازَ) أي: بأنْ لم يَكُن وَطِئَ أمَّهَا.
(ولو أسلَمَ مُدبَّرٌ أو قِنٌّ أو مُكاتَبٌ لِكافِرٍ، أُلزِمَ بإزالَةِ مِلكِه) عَنهُ، لئلا يَبقَى الكافِرُ مَالِكًا لمُسلِمٍ معَ إمكَانِ بَيعِه.
(فإن أبى) أن يُزيلَ مِلكَه عنه (بِيعَ) أي: باعَهُ الحاكِمُ (عَليه) ولا يَبقَى مِلكُه؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّساء: 141].
(1)
في الأصل: "التَّدبيرِ بها".
بَابُ الكِتَابَةِ
وهِيَ بَيعُ السَّيِّدِ رقِيقَهُ نَفسَهُ بمَالٍ في ذِمَّتِهِ، مُبَاحٍ، مَعلُومٍ، يَصِحُّ السَّلمُ فيهِ، مُنجَّمٍ نَجمَينِ فَصَاعِدًا، يُعلَمُ قَدرُ كُلِّ نَجمٍ ومُدَّتُهُ،
…
(بابُ الكِتَابَةِ)
اسمُ مَصدَرٍ بمعنَى المُكاتَبَةِ، مِن الكَتْبِ بمعنَى الجَمعِ؛ لأنَّها تَجمَعُ نُجُومًا، أو لأنَّ السيِّدَ يَكتُبُ بينَهُ وبينَ عبدِه كِتابًا بما اتَّفقَا عليه.
(وهي) شَرعًا: (بَيعُ السيِّدِ رَقيقَهُ) ذَكَرًا كانَ أو أُنثَى (نَفسَهُ) أي: الرَّقيقِ (بمَالٍ) فلا تَصحُّ على خِنزِيرٍ، ونحوه.
(في ذِمَّتِه) أي: الرَّقيقِ، لا مُعيَّنٍ.
(مُباحٍ) فلا تَصحُّ على آنيَةِ ذَهَبٍ أو فضَّةٍ، ونحوها.
(مَعلُومٍ) فلا تَصحُّ على مجهُولٍ؛ لأنَّها بيعٌ، ولا يَصِحُّ معَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ.
(يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ) فلا تَصحُّ بجَواهِرَ ونحوِه؛ لئلا يُفضِي إلى التَّنازُعِ.
(مُنجَّمِ نَجمَينِ فَصَاعِدًا) أي: أكثَرَ مِن نَجمَينِ (يُعلَمُ قَدرُ كُلِّ نَجمٍ) بما عُقِدَ عَليه مِن دَرَاهِمَ، أو دَنانيرَ، أو غيرِهما. (و) يُعلَمُ (مُدَّتُهُ) لأنَّ الكتَابَةَ مُشتقَّةٌ مِن الكَتْبِ، وهو الضَّمُّ، فوَجَبَ افتِقَارُهَا
(1)
إلى نَجمَينِ؛ ليُضَمَّ أحَدُهُما للآخَرِ.
واشتُرِطَ العِلمُ بما لِكُلٍّ مِن القَدْرِ والمدَّةِ؛ لئلا يؤدِّي جهلُه إلى التَّنازُعِ.
ولا يُشتَرَط تَساوي الأنجُمِ، فلو جُعِلَ نَجمٌ شَهرًا، وآخَرُ سَنَةً، أو جُعِلَ قَدرُ
(1)
في الأصل: "افتِقَارُهما".
ولا يُشتَرَطُ أجَلٌ لهُ وَقعٌ فِي القُدرَةِ عَلَى الكَسبِ.
فإن فُقِدَ شَيءٌ مِنْ هَذَا، ففَاسِدَةٌ.
والكِتَابَةُ في الصِّحَةِ والمَرَضِ مِنْ رَأسِ المَالِ.
ولا تَصِحُّ إلَّا بالقَولِ
…
أَحَدِهِمَا مائةً، والآخَرُ خمسينَ ونحوه، جازَ؛ لأنَّ القَصدَ العِلمُ بقَدرِ الأَجلِ وقِسطِه، وقد حصَلَ بذلك.
والنَّجمُ هُنَا: الوَقتُ، فإنَّ العَرَب كانَت لا تَعرِفُ الحِسابَ، وإنَّمَا تَعرِفُ الأوقاتِ بِطُلوعِ النُّجُومِ، قال بعضُهم:
إذا سُهيلٌ أوَّلَ الَّليلِ طَلَعْ
…
فابنُ الَّلبُونِ الحِقُّ والحِقُّ الجَذَعْ
(ولا يُشتَرَطُ) لكِتابَةٍ (أجَلٌ له وَقعٌ في القُدرَةِ على الكَسْبِ) فيه، فيَصحُّ توقيتُ النَّجمَينِ بسَاعَتَين. قال في "شرح المنتهى" للمصنِّف: في الأَصحِّ.
وفي "تصحيح الفروع": ظاهِرُ كلامِ كَثيرٍ من الأصحاب: الصحَّةُ، ولكِنْ العُرفُ والعَادَةُ. والمعنَى: أنَّه لا يَصِحُّ؛ قياسًا على السَّلَم، لكِنَّ السَّلمَ أضيَقُ. وجزَمَ بالثَّاني في "الإقناع"
(1)
.
(فإن فُقِدَ شَيءٌ مِن هَذَا، ففَاسِدَةٌ) وعادَ قِنًّا.
(والكِتَابَةُ في الصحَّةِ والمرَضِ مِنْ رَأسِ المالِ) لأنَّهَا مُعاوَضَةٌ، فَهيَ كالبَيعِ والإجارَةِ
(2)
.
(ولا تَصِحُّ) الكِتابَةُ (إلَّا بالقَولِ) بأنْ يَقولَ السيِّدُ لمن يُريدُ أن يُكاتِبَهُ: كاتَبتُكَ
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(5/ 49).
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 600).
مِن جَائِزِ التصرُّفِ، لكِنْ لَو كُوتِبَ المُمَيِّزُ، صَحَّ.
وَمتَى أدَّى المُكَاتَبُ مَا عَليهِ لِسَيِّدِهِ، أو أبرَأَهُ مِنهُ، عَتَقَ، وما فَضَلَ بيَدِهِ، فَلَهُ.
على كذَا. لأنَّها إمَّا بيعٌ، أو تَعليقٌ للعِتقِ على الأَدَاءِ، وكِلاهُمَا يُشتَرَطُ له القَولُ؛ إذ لا مَدخَلَ للمُعَاطَاةِ هُنا؛ لأنَّ المعاطَاةَ لا تكونُ فيهَا صَريحًا.
ولا تصحُّ إلَّا (مِن جائِزِ التصرُّفِ) لأنَّها عَقدُ مُعاوَضَةٍ، كالبَيعِ (لكِنْ لو كُوتِبَ المميِّزُ، صَحَّ) العقدُ؛ لأنَّه يَصحُّ تصرُّفُه وبَيعُهُ بإذنِ سيِّدِه، فصَحَّت كِتابَتُه، كالمُكلَّفِ. وإيجَابُ سيِّدِه الكتَابَةَ لهُ إذنٌ في قَبولِها، بخلافِ الطَّفلِ والمجنُونِ، لكِنْ يَعتِقَانِ بالتَّعليقِ، إنْ عُلِّقَ عِتقُهُما على الأداءِ صريحًا.
ولا تَصحُّ الكتابَةُ منه، بأنْ يُكاتِبَ مميِّزٌ رَقيقَهُ، إلَّا بإذنِ وَليِّه؛ لأنَّه تَصرُّفٌ في المالِ، كالبَيعِ
(1)
.
(ومتى أدَّى المكاتَبُ ما عَليه) مِن مالِ الكِتابَةِ (لسيِّدِه، أو أبرأَهُ) أي: المكَاتَبَ (منه) أي: مِن مالِ الكِتَابَةِ (عتَقَ) لأنَّه لم يَبْقَ عَليهِ شَيءٌ مِنها.
فإنْ أدَّى البَعضَ، أو أُبرِئَ مِنه، بَرِئَ منه، وهو على كِتابَتِه فيما بَقِي؛ للخَبَر
(2)
.
وإنْ كانَ الوَارِثُ مُعسِرًا، وأَبرَأَ مِن حَقِّه، عَتَقَ نَصيبُهُ فقط بلا سِرَايَةٍ.
(وما فَضَلَ بِيَدِه) أي: المكَاتَبِ بعدَ أداءِ ما عَلَيهِ مِن كِتابَتِه أو إبرَائِهِ مِنهُ (فلَهُ)
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 601).
(2)
يشير لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم" أخرجه أبو داود (3926)، وحسنه الألباني.
وإنْ أعتَقَهُ سَيدُهُ، وعَليهِ شَيءٌ مِنْ مَالِ الكِتَابَةِ، أو مَاتَ قَبلَ وفَائِهَا، كانَ جَميعُ مَا مَعهُ لِسَيِّدِهِ.
ولو أخَذَ السَّيِّدُ حَقَّهُ ظَاهِرًا، ثمَّ قَالَ: هو حُرٌّ، ثمَّ بَانَ العِوَضُ مُستَحَقًا، لَمْ يَعتِقْ.
أي: المكاتَبِ؛ لأنَّه كانَ له قَبلَ عِتقِه، فبَقِيَ على ما كانَ.
(وإنْ أعتَقَه سيِّدُه، وعليه شَيءٌ مِن مالِ الكِتابَةِ، أو ماتَ قبلَ وفَائِها) أي: مالِ الكِتابَةِ (كانَ جميعُ ما مَعَهُ لسيِّدِه).
(ولو أَخذَ السيِّدُ حقَّهُ ظاهِرًا، ثمَّ قالَ) السيِّدُ: (هو حُرٌّ، ثمَّ بانَ العِوَضُ) الذي دفَعَه (مُستَحَقًّا) أي: مَغصُوبًا أو مَسرُوقًا (لم يَعتِق) لفَسَادِ القَبضِ، وإنَّما قال: هُو حُرٌّ؛ اعتِمَادًا على صحَّةِ القَبضِ.
فَصْلٌ
ويَملِكُ المُكَاتَبُ كَسبَهُ، ونفعَهُ، وكُلَّ تَصرُّفٍ يُصلِحُ مَالَه، كالبَيع والشِّراء، والإجَارَةِ، والاستِدَانَةِ، والنَّفقَةِ علَى نَفسِهِ ومَملُوكِه.
لكِنَّ مِلكَهُ غَيرُ تَامٍّ، فلا يَملِكُ أنْ يُكفِّرَ بِمَالٍ، أو يُسَافِرَ لِجِهَادٍ، أو يَتزوَّجَ،
…
(فَصلٌ)
(ويَملكُ المُكاتَبُ كَسبَهُ، ونَفعَهُ، وكُلَّ تَصرُّفٍ يُصلِحُ مَالَهُ، كالبَيعِ، والشِّرَاءِ، والإجارَةِ، والاستِدَانَةِ)؛ لأنَّ الكتابةَ وُضِعَت لتَحصيلِ العِتقِ، ولا يحصُلُ العِتقُ إلا بأداءِ عِوَضِه، ولا يُمكِن الأداءُ إلا بالتكسُّبِ، وهذِهِ أَقوَى أسبابِه. وفي بَعضِ الآثارِ: أنَّ تِسعَةَ أعشارِ الرِّزقِ في التِّجارَةِ
(1)
.
(و) يَملِكُ المُكاتَبُ (النَّفقَةَ على نَفسِهِ) وزَوجَتِه (ومملُوكِهِ).
(لكِنَّ مِلكَهُ غيرُ تامٍّ، فلا يَملِكُ) المكاتَبُ (أن يُكفِّرَ بمالٍ) إلَّا بإذنِ سيِّدِه؛ لأنَّه في حُكمِ المعسر؛ لأنَّه لا يلزمُه زكاةٌ، ولا نفقةُ قريبٍ حرٍّ. ويُباحُ له أخذُ الزَّكاةِ لحاجَتِه.
(أو) أي: ولا أن (يُسافِرَ) المكاتَبُ (لجهادٍ)؛ لتَفويتِ حقِّ سيِّدِه، معَ عدَمِ وجوبِه عليه، إلا بإذنِ سيِّدِه.
(أو) أي: ولا أن (يتزوَّجَ) إلا بإذنِ سيِّدِه؛ لأنَّه عبدٌ، فيدخلُ في عُمومِ
(1)
أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث"(1/ 299) عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي يرفعه. قال الألباني في "الضعيفة"(3402): وهذا إسناد ضعيف لإرساله.
أو يتَسرَّى، أو يَتَبرَّعَ، أو يُقرِضَ، أو يُحَابِيَ، أو يَرهَنَ، أو يُضَارِبَ، أو يَبِيعَ مُؤجَّلًا، أو يُزَوِّجَ رَقيقَهُ، أو يَحُدَّة، أو يُعتِقَهُ، أو يُكَاتِبَهُ، إلَّا بإذنِ سَيِّدِهِ، والوَلاءُ للسَّيدِ.
حديث: "أيُّما عبدٍ نَكحَ بغَيرِ إذنِ مَوالِيه، فهو عَاهِرٌ"
(1)
؛ ولأنَّ على السيِّدِ ضَررًا، لاحتياجِهِ لأداءِ المهرِ والنفقَةِ من كسبِه، ورُبَّما عَجَزَ ورَقَّ، فيَرجِعُ ناقِصَ القِيمَةِ.
(أو) أي: ولا أن (يتَسرَّى) إلا بإذنِ سيِّدِه؛ لأن مِلكَه غَيرُ تامٍّ، وفيه ضَرَرٌ على السيِّدِ، وربَّما أحبَلَهَا، فتتلَفُ أو تَصيرُ أُمَّ ولَدٍ، فيَمتَنِعُ عليه بيعُها.
(أو) أي: ولا أن (يتبرَّعَ) إلا بإذن سيِّدِه؛ لتعلُّقِ حقِّ سيِّدِه بمالِه.
(أو) أي: ولا أن (يُقرِضَ) إلا بإذن سيِّدِه؛ لأنَّه قد لا يَرجِعُ إليه، فربَّمَا أفلَسَ المُقتَرِضُ، أو ماتَ ولم يَترُك شَيئًا، أو هرَبَ.
(أو) أي: ولا أن (يُحابيَ) إلا بإذن سيِّدِه؛ لأنَّ المحابَاةَ في معنى التبرُّعِ
(2)
.
(أو يَرهَنَ، أو يُضارِبَ، أو يَبيعَ مُؤجَّلًا، أو يُزوِّجَ رَقيقَهُ، أو يَحُدَّهُ، أو يُعتِقَهُ، أو يُكاتِبَهُ، إلا بإذنِ سيِّدِه) في الكُلِّ؛ لأنَّ حقَّ سيِّدِه لم يَنقَطع عنهُ، إذْ رُبَّما عَجَزَ فعادَ إليه كلُّ ما في مِلكِهِ.
فإن أَذِنَ له السيِّدُ في شيءٍ مِن ذلك، جازَ؛ لأنَّ المنعَ لحقِّ السيِّدِ، فإذا أَذِنَ، زالَ المانِعُ.
(والوَلاءُ) على من أعتَقَهُ المكاتَبُ أو كاتَبَهُ بإذنِ سيِّده، فأدَّى ما عَليه (للسيِّدِ) لأنَّ المكاتَبَ كَوكيلِه في ذلك.
(1)
أخرجه أبو داود (2078) من حديث جابر. وحسنه الألباني.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 59)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 604).
ووَلَدُ المُكاتَبَةِ إذا وَضَعَتْهُ بَعدَهَا، يَتبَعُهَا في العِتْقِ بالأدَاءِ، والإبرَاءِ، لا بإعتَاقِهَا، ولا إنْ مَاتَتْ.
ويَصِحُّ شَرطُ وَطءِ مُكاتَبَتِهِ. فإنْ وَطِئَها بلا شَرطٍ، عُزِّرَ، ولَزِمَهُ المَهرُ، ولو مُطَاوِعَةً، وتَصيرُ إنْ ولَدَتْ أُمَّ وَلَدٍ، ثمَّ إنْ
…
(ووَلَدُ المكاتَبةِ إذا وضَعَتْهُ بعدَها) أي: بعدَ الكِتابَةِ (يَتبَعُها) أي: أُمِّهِ المكاتَبَةِ (في العِتقِ بالأدَاء) أي: بأدَاءِ مالِ الكِتابَةِ لسيِّدِها، (و) عِتقِهَا (بالابرَاءِ).
و (لا) يَتبَعُها في العِتقِ (بإعتَاقِهَا) بدُونِ أداءٍ أو إبرَاءٍ، كغَيرِ المُكاتَبَةِ، و (لا) يَعتِقُ
(1)
ولَدُ مكاتَبَةٍ (إن ماتَت) قبلَ أداءِ مالِ كِتابَةٍ أو إبراءٍ مِنه؛ لبُطلانِ الكِتابَةِ بمَوتِهَا.
(ويَصحُّ) في عَقدِ كِتابَةٍ (شَرطُ وَطءِ مُكاتَبَتِهِ) نصًا؛ لبَقاءِ أصلِ المِلكِ، كراهِنٍ يَطأ
(2)
بِشَرطٍ. ذكَره في "عيون المسائل".
(فإن وَطِئَهَا) أي: مُكاتَبَتَهُ (بلا شَرطٍ، عُزِّرَ، ولَزِمَهُ المهرُ، ولو) كانَت الموطُوءَةُ مِن المكاتَبَةِ، أو بِنتِها، أو أَمَتِهَا (مُطَاوِعَةً) لأنَّ عدمَ مَنعِها مِن وَطئِه ليسَ إذنًا فيه، ولهذَا لو رَأى مالِكُ مالٍ مَن يُتلِفُه، فلَم يَمنَعْهُ، لم يَسقُط عَنهُ
(3)
ضَمانُهُ.
(وتَصيرُ) مُكاتَبَتُه، أو بِنتُها، أو أمَتُها، أو أَمةُ مُكاتَبِهِ (إنْ وَلَدَت) مِن سيِّدِها، سواءٌ شَرَطَ وَطءَ مُكاتَبَتِه أو لا، (أُمَّ وَلَدٍ) لأنَّها أَمَتُه ما بَقِيَ عليها دِرهَمٌ. (ثمَّ إن أدَّت) مُكاتَبَتُه التي أولَدَها (عَتَقَت) وكَسبُهَا لها. ولا تَنفَسِخُ كِتابَتُها باستِيلادِهَا
(1)
في الأصل: "بعتق".
(2)
في الأصل: "كذا من يطأ".
(3)
في الأصل: "منه".
أدَّتْ، عَتَقَتْ، وإلَّا فَبِمَوتِه.
ويَصِحُّ نَقلُ المِلكِ فِي المُكَاتَبِ. ولمُشتَرٍ جَهِلَ الكِتَابَةَ الرَّدُّ، أو الأرشُ، وهُو كالبَائِعِ في أنَّه إذا أدَّى ما عَلَيهِ يَعتِقُ، وله الوَلاءُ.
ويَصِحُّ وَقفُهُ، فإذا أدَّى، بَطَلَ الوَقفُ.
(وإلَّا فبِمَوتِه) أي: مَوتِ سَيِّدِها، عَتَقَت؛ لكَونِهَا أُمَّ وَلَدٍ.
(ويَصحُّ نَقلُ المِلكِ في المُكاتَبِ) ذَكَرًا كان أو أنثى. ويُقاسُ على البَيعِ: الهِبَةُ، والوصيَّةُ، ونحوُهما.
(ولمُشتَرٍ) مُكاتَبًا (جَهِلَ الكِتابَةَ الرَّدُّ، أو الأَرْشُ) لأنها عَيبٌ
(1)
في الرَّقيقِ؛ لنَقصِ قِيمَتِه بمِلكِهِ نَفعَهُ وكسبَه (وهو) أي: المشتَري إن أمسَكَ (كالبَائِعِ في أنَّهُ إذا أدَّى ما عَليهِ يَعتِقُ
(2)
) للُزُومِ الكتابَةِ، فلا تَنفَسِخُ بنَقلِ المِلكِ فيه (وله) أي: المشتَرِي (الوَلاءُ) على المُكاتَبِ إذا أدَّى إليه، وعَتَقَ؛ لعِتقِهِ عليهِ في مِلكِه.
(ويَصحُّ وَقفُهُ، فإذا أدَّى) ما عَليه مِن مالِ الكِتابَةِ (بَطَلَ الوَقفُ) لأنَّه عَتَقَ بمجرَّدِ الأداء
(3)
.
(1)
في الأصل: "عجيب".
(2)
سقطت: "يعتق" من الأصل.
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 609).
فَصْلٌ
والكِتَابَةُ عَقدٌ لازِمٌ مِنَ الطَّرَفَينِ، لا يَدخُلُهَا خِيَارٌ مُطلَقًا، ولا تَنفَسِخُ بِمَوتِ السَّيِّدِ وجُنُونِه، ولا بِحَجرٍ عَليهِ. ويَعتِقُ بالأدَاءِ إلى مَنْ يَقُومُ مقَامَة.
وإنْ حَلَّ نَجْمٌ فَلَمْ يُؤدِّهِ، فلِسيِّدِهِ الفَسْخُ ....
(فَصلٌ)
(والكِتابَةُ) الصَّحيحَةُ (عَقدٌ لازِمٌ مِن الطَّرفَينِ) لأنَّها بيعٌ، وهُو مِن العُقودِ الَّلازِمةِ (لا يَدخُلها خِيار مُطلقًا) أي: لا خِيارَ مَجلسٍ، ولا شَرطٍ، ولا غَيرهما؛ لأنَّ الخِيارَ شُرِعَ لدَفعِ الغَبنِ عن المالِ، والسيِّدُ دَخلَ على بَصيرَةٍ أنَّ الحَظَّ لعَبدِهِ، فلا مَعنى لثُبُوتِ الخِيارِ
(1)
.
(ولا تَنفَسِخُ) الكِتابَةُ (بمَوتِ السيِّدِ، و) لا تَنفَسِخُ بـ (جُنُونِه، ولا) تَنفسخُ (بحَجرٍ عليه).
(ويَعتِقُ) المُكاتَبُ (بالأَدَاءِ إلى) سيِّدِه معَ أهليَّتِه للقَبضِ، وبالأَدَاءِ إلى (مَنْ يَقومُ مَقامَهُ) مِن وَرَثَتِه إن مَاتَ؛ لأنَّه انتَقَلَ إليهم معَ بَقاءِ الكِتابَةِ، فهُو كالأَدَاءِ إلى مُوَرِّثِهم. وإلى مَن يَقومُ مَقامَهُ مِن غَيرِهم، كوليِّه إن جُنَّ أو حُجِرَ عليه، ووَكِيلِهِ؛ لقِيامِه مَقامَ السيِّدِ، أشبَهَ ما لو دُفِعَ إليه نَفسِه.
(وإنْ حَلَّ نجمٌ فلَم يُؤدِّه) المكاتَبُ لسيِّدِه، (فلسيِّدِهِ الفسخُ) أي: فَسخُ الكتابَةِ، كسائِرِ العُقودِ اللازمَةِ، ولأنَّ مالَ الكتابَةِ حقٌّ للسيدِ، فكانَ له الفسخُ
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 609).
ويَلزَمُ إنظَارُة ثَلاثًا لِبَيعِ عَرَضٍ، ولِمَالٍ غَائِبٍ دُونَ مَسَافَةِ قَصرٍ يَرجُو قُدُومَهُ.
ويَجِبُ على السيِّدِ أنْ يدفَعَ لِلمُكَاتَبِ رُبُعَ مَالِ الكِتَابَةِ. وللسَّيِّدِ الفَسخُ
بالعَجزِ عنه، كما لو أعسَرَ المشتَرِي ببعضِ ثمَنِ المبيعِ قبلَ قَبضِه
(1)
.
(ويلزَمُ) السيِّدَ (إنظارُهُ) أي: المكاتَبِ (ثَلاثًا) أي: ثلاثَ ليالٍ بأيَّامِها، (لبَيعٍ عَرضٍ
(2)
) يُوفيهِ مِن ثَمَنه (ولمالٍ غَائبٍ دُونَ مسافَةِ قَصرٍ يَرجو قُدومَه) ولِدَينٍ حالَ على مَليءٍ، أو قَبضِ مُودَعٍ.
(ويجبُ على السيِّدِ أن يدفعَ للمُكاتَبِ رُبعَ مالِ الكِتابَةِ) أمَّا وُجوبُ الإيتاءِ مِن غَيرِ تَقديرٍ" فلقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النُّور: 33] وظاهِرُ الأَمرِ الوجوبُ. وأمَّا كَونُهُ رُبُعَ مالِ الكِتابَةِ، فلما رَوى أبو بكرٍ بإسنادِه عن عليٍّ مرفوعًا في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النُّور: 33] قال: "ربعُ الكتابَةِ"
(3)
. ورُويَ مَوقوفًا عن عَليٍّ
(4)
. ولأنَّه مالٌ يَجِبُ إيتاؤُهُ بالشَّرعِ، مُواسَاةً، فكَان مُقدَّرًا كالزَّكاةِ. وحِكمَتُه: الرِّفقُ بالمكاتَبِ، وإعانَتُهُ.
وفارَقت الكتابَةُ في ذلك
(5)
سائرَ العُقُودِ؛ لأنَّ القَصدَ بها الرِّفقُ بالمُكاتَبِ، بخلافِ غَيرِه.
(وللسيِّدِ الفَسخُ) للكتَابَةِ ....
(1)
"كشاف القناع"(11/ 101)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 610).
(2)
في الأصل: "عوض".
(3)
أخرجه عبد الرزاق (15589)، والطبراني في "الأوسط"(3001)، والضياء في "المختارة" (576) مرفوعًا. وقال الألباني في "الإرواء" (1765): منكر.
(4)
أخرجه البيهقي (10/ 329) موقوفًا.
(5)
سقطت: "في ذلك" من الأصل.
بِعَجزِهِ عَنْ رُبُعِهَا. وللمُكَاتَبِ، ولو قَادِرًا على التَّكَسُّبِ، تَعجِيزُ نَفسِهِ.
ويَصِحُّ فَسخُ الكِتَابَةِ باتِّفاقِهِمَا.
(بعَجزِهِ) أي: المُكاتَبِ (عن رُبعِها) أي: الكتَابَةِ؛ لحديثِ الأثرَمِ عن عُمرَ، وابنِه، وعائشةَ، وزيدِ بن ثابتٍ، أنهم قالوا: المُكاتَبُ عَبدٌ
(1)
ما بَقِيَ عليه دِرهَمٌ
(2)
. ورُويَ أيضًا عن أُمِّ سَلَمَة
(3)
. ولأنَّ الكِتابَةَ عِوَضٌ عن المكاتَب، فلا يَعتِقُ قَبلَ أداءِ جَميعِها، ولأنَّه لو عَتَقَ بعضُهُ لسَرَى إلى باقِيه، كما لو باشَرَهُ بالعِتقِ.
(وللمُكاتَبِ -ولو قادِرًا على التكسُّبِ- تَعجيزُ نَفسِه) بتَركِ التكسُّبِ؛ لأنَّ مُعظمَ المقصودِ مِن الكِتابةِ تَخليصُه مِن الرِّقِّ، فإذا لم يُرِدْ ذلكَ، لم يُجبَر عليه.
(ويَصحُّ فَسخُ الكتابَةِ باتِّفاقِهِما) أي: السيِّدِ والمكاتَبِ؛ بأنْ يَتَقايَلا أحكَامَها، قِياسًا على البَيع.
قال في "الفروع"
(4)
ويتوجَّهُ: أن لا يجوزَ لحقِّ اللهِ تعالى.
(1)
في الأصل: "المكاتب عبد".
(2)
ذكره البخاري تعليقًا قبل حديث (2564) عن عائشة، وزيد، وابن عمر. وأخرجه البيهقي (324/ 10، 325) موصولًا عنهم جميعا.
(3)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 408).
(4)
"الفروع"(8/ 157).
فَصْلٌ
وإنْ اختَلَفَا في الكِتَابَةِ: فَقُولُ المُنكِرِ.
وفى قَدرِ عِوَضِهَا، أو جِنسِهِ،
…
(فَصلٌ)
(وإن اختَلَفَا) أي: السَّيدُ ورَقيقُه (في الكِتابَةِ) بأنْ قال العبدُ: كاتَبتَني على كذَا، فأنكَرَ سيِّدُه، أو بالعَكسِ، (فقَولُ المُنكِرِ) بيَمينِه؛ لأنَّ الأصلَ معَه.
وإن اتَّفَقَا على الكِتابَةِ (و) اختَلَفَا (في قَدرِ عِوَضِها) بأن؛ قال السيِّدُ: كاتَبتُكَ على ألفَين. وقال العبدُ: بل على أَلفٍ، فقَولُ سيِّد بيَمينِه، كما لو اختَلَفَا في أصلِ الكِتابَةِ.
وإنما قُدِّمَ قَولُ المنكِرِ في سائرِ المواضعِ؛ لأنَّ الأصلَ مَعَهُ، وهُنا الأصلُ معَ السيِّدِ، إذ الأصلُ مِلكُهُ للعَبدِ وكَسبِه، وإذا حَلَفَ السيِّدُ، ثبتَت الكِتابَةُ بما حَلَفَ عليه، كما لو اتَّفَقَا.
وسَواءٌ كانَ الاختِلافُ قَبلَ العِتقِ أو بعدَهُ، مِثلَ أن يَدفَعَ إلى سيِّدِه ألفَين، فيَعتِقُ، ثم يدَّعي المكاتَبُ أنَّ أحدَهُما عن الكتَابَةِ، والآخرَ وَديعَةٌ، ويَقولُ السيِّدُ: بل هما جميعًا مالُ الكِتابَةِ.
(أو) اختَلَفَا في (جِنسِه) أي: جِنسِ عِوَضِ الكتابَةِ؛ بأنْ قالَ السيِّدُ: كاتَبتُكَ على مائةِ دِرهَمٍ. فقال المكاتَبُ: بل على عشَرَةِ دنانيرَ. فقولُ السيِّدِ، لما تقدَّم
(1)
.
(1)
"كشاف القناع"(11/ 114)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 612).
أو أجَلِهَا، أو وَفَاءِ مَالِهَا: فَقُولُ السيِّدِ.
والكِتَابَةُ الفَاسِدَةُ:
كعَلَى خَمرٍ، أو خِنزِيرٍ، أو مَجهُولٍ، يُغلَّبُ فِيهَا حَكمُ الصِّفَةِ فِي أنَّه إذا أدَّى عَتَقَ، لا إنْ أُبرِئَ، ولِكُلِّ فَسْخُها.
(أو) اختَلَفَا في قَدرِ (أجَلِها) بأنْ قال السيِّدُ: كاتَبتُكَ على ألفَينِ إلى شَهرَينِ؛ كُلُّ شَهرٍ ألفٌ. وقال العبدُ: بل إلى سَنَتَينِ، كُلُّ سَنَةٍ ألفٌ.
(أو) اختَلَفَا في (وَفاءِ مالِهَا) بأنْ قالَ العبدُ: وفَّيتُكَ مالَ الكِتابَةِ. وأنكَرَ السيِّدُ، (فقولُ السيِّدِ) بيَمينِه في جميعِ ما تقدَّم.
(والكتابَةُ الفاسِدَةُ) كما إذا كان العِوَضُ فيها حَرَامًا: (كَعَلَى خمْرٍ، أو خِنزيرٍ، أو) -كانَ- (مجهول
(1)
) كثَوبٍ وحِمَارٍ (يُغَلَّبُ فِيها) أي: الكِتابَةِ الفَاسِدَةِ (حُكْمُ الصِّفَةِ في أنَّه) أي: المكاتَبَ (إذا أدَّى) ما كُوتِبَ عليه (عَتَقَ) لأنَّ مُقتَضَى عَقدِ الكِتابَةِ أنَّه مَتى أدَّى عَتَقَ، فيَصيرُ كالمصرَّحِ به
(2)
، فيَعتِقُ بوُجُودِهِ، كالكِتابَةِ الصحيحَةِ.
و (لا) يَعتِقُ بالكِتابَةِ الفاسِدَةِ (إن أُبرِئَ) مما كُوتِبَ عليه، أو أدَّاهُ لغَيرِ السيِّدِ؛ لأنَّ الصِّفَةَ لم تُوجد، والعَقدَ فاسِدٌ لا أثَرَ لهُ، فلم يَثبُت في الذمَّةِ شيءٌ تَقعُ البراءَةُ منه
(3)
.
(ولكُلٍّ) من سيِّدٍ ورَقيقٍ (فَسخُها) لأنَّها عقدٌ جائِزٌ؛ لأنَّ الفاسِدَ لا يَلزَمُ حُكمُه. وسواءٌ كانَ ثمَّ صِفَةٌ، أو لم تَكُن؛ لأنَّها مَبنيَّةٌ على المُعاوَضَةِ، وتابِعَةٌ لها.
(1)
مقتضى السياق: "مجهولًا".
(2)
سقطت: "به" من الأصل.
(3)
"كشاف القناع"(11/ 116)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 614).
وتَنفَسِخ بمَوتِ السيِّدِ، وجُنُونِه، والحَجرِ عَليهِ.
والمعاوَضَةُ هي المقصُودُ، فإذا بَطَلَت المعاوضةُ، بَطَلت الصفَةُ المبنيَّةُ عليها، بخلافِ الصِّفَةِ المجرَّدَةِ.
ويَملِكُ المكاتَبُ في الفاسِدَةِ التصرُّفَ في كَسبِه، وأَخْذَ الزَّكوَاتِ والصدقاتِ، كالصَّحيحَةِ.
وإذا كاتَبَ
(1)
عدَدًا كِتابَةً فاسِدَةً، فأدَّى إليه أحدُهُم، عتَقَ، كالصحيحة.
ولا يَلزَمُ السيِّدَ في الفاسدَةِ أدَاءُ رُبعِ الكِتابَةِ، ولا شيءٍ مِنها؛ لأنَّ العِتقَ هُنا بالصِّفَةِ، أشبَهَ ما لو قالَ: إذا أدَّيتَ إليَّ، فأنتَ حرٌّ.
(وتَنفَسِخُ بمَوتِ السيِّدِ، وجُنونِه، والحَجرِ عليه) لسَفَهٍ؛ لأنَّها عقدٌ جائزٌ من الطَّرفَين لايَؤولُ إلى اللُّزُومِ. وأيضًا فالمُغلَّبُ فيها حُكمُ المجرَّدَةِ، وهي تبطل بالمَوتِ.
ويَملكُ السيِّدُ أخذَ ما بِيَدِ المكاتَبِ في الفَاسِدَةِ.
(1)
في الأصل: "كانت".
بَابُ أحكامِ أمِّ الوَلَدِ
وهِيَ: مَنْ ولَدَتْ مِنَ المَالِكِ ما فِيهِ صُورَةٌ، ولو خَفِيَّةً.
وتَعتِقُ بِمَوتِه، وإنْ لم يَملِك غَيرَهَا.
(بابُ أحكامِ أُمِّ الوَلَدِ)
الأحكامُ: جمعُ حُكمٍ، وهو خِطابُ الله المفيدُ فائدَةً شرعيَّةً.
وأصلُ أُمِّ: أُمهَةٌ، ولذلِكَ جُمِعت على أُمَّهَاتٍ، باعتبارِ الأصلِ. وعلى أُمَّاتٍ، باعتبارِ الَّلفظ. والهاءُ في أُمَّهةٍ زائدَةٌ عند الجمهور.
وقيل: الأُمَّهاتُ للنَّاس، والأُمَّاتُ للبهائمِ.
ويجوزُ التَّسرِّي، وهو بالإجماع؛ لقولِه تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} واشتهر أنَّه صلى الله عليه وسلم أولَدَ ماريةَ القِبطيَّةَ
(1)
، وعَمِلَت الصحابةُ على ذلك، منهم: عمرُ، وعليٌّ.
(وهي) شرعًا: (مَن ولَدَت مِن المالِكِ) لها (ما فيه صُورَةٌ، ولو خَفيَّةً)، كالتَّخطيطِ، ولو بشهادَةِ امرأةٍ ثقةٍ.
(وتَعتِقُ) أمُّ ولَدٍ (بمَوتِه) أي: سيِّدِها، (وإن لم يَملِك غَيرَها) لحديثِ ابنِ عبَّاسٍ مَرفوعًا:"مَن وَطِئَ أَمَتَهُ فولَدَت، فَهيَ مُعتَقَةٌ عَن دُبُرٍ مِنهُ". رواه أحمدُ، وابنُ ماجه
(2)
. وعنه أيضًا قال: ذُكِرَت أُمُّ إبراهيمَ عِندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(1)
سيأتي حديث ابن عباس أنه قال ذكرت أمُّ إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقها ولدها".
(2)
أخرجه أحمدُ (5/ 100)(2937)، وابنُ ماجه (2515). وضعفه الألباني.
ومَنْ مَلَكَ حَامِلًا فَوطِئَها، حَرُمَ بيعُ ذلِكَ الولَدِ، ويَلْزمُهُ عِتقُهُ.
ومَنْ قالَ لأمتِهِ: أنتِ أمُّ ولَدِي، أو: يَدُكِ أمُّ ولَدِي، صَارَتْ أمَّ ولَدٍ. وكَذَا لو قَالَ لابنِهَا: أنتِ ابنِي، أو يَدُكَ ابنِي. ويَثبُتُ النَّسَبُ.
فإنْ ماتَ ولمْ يُبِّين: هلْ حَمَلَتْ به في مِلكِه أوغَيرِهِ؛ لم تَصِرْ أمَّ ولَدٍ إلَّا بقَرينَةٍ.
"أعتَقَهَا ولَدُها". رواهُ ابنُ ماجَه، والدَّارقُطني
(1)
.
ولأنَّ الاستِيلادَ إتلافٌ حَصَلَ بسَبَبِ حاجةٍ أصليَّةٍ، وهي الوطءُ، فكانَ من رأسِ المال، كالأَكلِ ونحوِه.
(ومَن مَلَكَ) أمَةً (حامِلًا) مِن غَيرِه، (فَوَطِئَها) قَبلَ وَضعِها (حرُمَ عليه بَيعُ ذلك الولَدِ) ولم يَصِحَّ (ويَلزَمُهُ عِتقُه) نصًا؛ لأنَّه قد شَرَكَ فيه؛ لأنَّ الماءَ يَزيدُ في الوَلَد. نقله صالح، وغيرُه.
قال العلامةُ الشيخُ تقيُّ الدين: ويُحكَمُ بإسلامِه، وأنَّه يَسرِي كالعِتقِ. أي: لو كانَت كافِرَةً.
(ومَن قالَ لأمَتِه: أنتِ أُمُّ ولَدِي، أو: يدُكِ أُمُّ وَلَدِي، صارَت أُمَّ وَلَدٍ) لأنَّ إقرَارَه بأنَّ جُزءًا مِنها مُستَولَدٌ، يُلزِمُهُ الإقرارَ باستيلادِها (وكذا لو قال لابنِها) أي: ابنِ أَمَتِه: أنتَ ابني. (أو) قال: (يَدُكَ ابني) فهو إقرارٌ بأنَّه ابنُه. (ويَثبُتُ النَّسبُ) ويَعتِقُ بذلِكَ.
(فإن ماتَ ولم يُبيِّن: هل حَمَلَت به في مِلكِهِ أو غَيرِه؟ لم تَصِرْ أُمَّ ولدٍ إلَّا بقَرينَةٍ) تدلُّ على ذلِكَ، أو يَقولُ: ولَدَتْهُ في مِلكِي
(2)
.
(1)
أخرجه ابنُ ماجَه (2516)، والدَّارقُطني (4/ 131)، وضعفه الألباني.
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(2/ 611).
ولا يَبطُلُ الإيلادُ بحَالٍ، ولو بِقَتلِهَا لِسَيِّدِهَا.
وولَدُهَا الحَادِثُ بعدَ إيلادِهَا كَهِيَ، لكِنْ لا يَعتِقُ بإعتَاقِهَا، أو مَوتِهَا قبلَ السيِّدِ، بل بِمَوتِهِ.
وإنْ ماتَ سَيِّدُهَا وهِيَ حَامِلٌ، فنَفَقَتُها مدَّةَ حَملِهَا مِنْ مَالِه، إنْ كَانَ،
(ولا يَبطُلُ الايلادُ بحَالٍ، ولو بِقَتلِها لِسيِّدِها) لأنَّ المقتَضِي لعِتقِها زَوالُ مِلكِ سَيِّدِها عنها، وقد زَالَ.
فإنْ قِيلَ: يَنبَغي أن لا تَعتِقُ كما لا يَرِثُ القَاتِلُ، وكالمدبَّرِ.
أُجيبَ: بأنَّها لو لم تَعتِق بذلك، لَزِمَ جوازُ نَقلِ المِلكِ فِيها، ولا سَبيلَ إليه، ولأنَّ الحريَّةَ لله، والاستيلادُ أقوَى من التَّدبير.
(ووَلَدُها الحادِثُ) من غيرِ سيِّدِها (بعدَ إيلادِها كَهِيَ) في العِتقِ بمَوتِ سيِّدِها، سَواءٌ عَتَقَت، أو ماتَت قَبلَه، أي: قبلَ العِتقِ، (لكِنْ لا يَعتِقُ بإعتَاقِها) أي: بإعتَاقِ السيِّدِ لأمِّ الوَلَدِ؛ لأنَّها عَتَقَت بغَيرِ السَّببِ الذي يَتبَعُها فِيه. ويَبقَى عتقُه موقوفًا على موتِ السيِّد. وكذا لو أعتَقَهُ.
(أو) أي: لا يَعتِقُ ولَدُها بـ (موتها قبلَ السيِّد) ويَبقَى عتقُه مَوقوفًا على موتِ سيِّدِها؛ لبقاءِ التبعيَّةِ، بخلافِ المكاتَبَةِ إذا ماتَت بَطَلَت التبعيَّةُ؛ لأنَّ سبَبَ العِتقِ في الكِتَابَةِ الأَدَاءُ، وقد تعذَّر بموتِها، والسَّبَبَ في أُمِّ الولَدِ مَوتُ السيِّد، ولا يتعذَّرُ بموتها (بل بمَوتِه) أي: مَوتِ السيَّد.
(وإن ماتَ سَيِّدُها وهي حامِلٌ) مِنهُ (فنفَقَتُها مُدَّةَ حملِها مِن مالِه) أي: مالِ حَملِها، وهو نَصيبُهُ الذي وُقِفَ لهُ لملكِهِ له (إنْ كانَ) له مالٌ
…
وإلَّا فَعَلَى وارِثِهِ.
وكُلَّمَا جَنَتْ أمُّ الولَدِ، لَزِمَ السيِّدَ فِدَاؤُهَا بالأقَلِّ مِنَ الأرْشِ، أو قِيمَتِهَا يَومَ الفِدَاءِ. وإن اجتَمَعَتْ أُرُوشٌ قَبلَ إعطَاءِ شَيءٍ مِنهَا، تعلَّقَ الجَميعُ بِرَقَبَتِهَا، ولمْ يَكُنْ على السيِّدِ إلَّا الأقَلُّ مِنْ أرشِ الجَمِيعِ أو قِيمَتِهَا، ....
(وإلَّا) يَكُن للحَملِ مالٌ، بأنْ لم يُخلِّف السيِّدُ ما يَرِثُ منه الحملُ (فـ) ـــنفقةُ الحملِ (على وارِثٍ) لقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 233].
(وكلَّمَا جَنَت أمُّ الوَلَدِ) على غيرِ سيِّدِها، تَعلَّقَ أَرشُ جِنَايَتِها برَقَبَتها، و (لَزِمَ السيِّدَ فِدَاؤُها بالأقلِّ مِن الأَرْشِ) أي: أَرشِ الجنايةِ (أو) مِن (قِيمَتِها يومَ الفِدَاءِ) فإن كانَت حينئذٍ مريضَة أو مُزَوَّجَةً ونحوَه، أُخِذَت قِيمَتُها بذلِكَ العَيبِ. قال في "الشرح": ويَنبغَي أن تَجِبَ قِيمَتُها مَعيبةً بِعَيبِ الاستِيلادِ؛ لأنَّ ذلك ينقصُها، فاعتُبرَ، كالمرضِ وغَيرِه من العيوب. انتهى.
أمَّا كونُه يَلزَمُه، فِدَاؤُها، فلأنَّها مملوكةٌ له يَملِكُ كَسبَها، أشبَهَت القِنَّ. وأمَّا كونُهُ يَلزمُه فِدَاؤُها كُلَّمَا جَنَت
(1)
، قال أبو بكر: ولو ألفَ مرَّةٍ، فلأنَّها أمتُهُ، فلَزِمَه فِدَاؤُها كأوَّلِ مَرَّةٍ
(2)
.
(وإنْ اجتَمَعَت أُرُوشٌ) بجِنَايَاتِهَا (قَبلَ إعطَاءِ شَيءٍ مِنها) أي: الأُرُوشِ (تعلَّقَ الجَميعُ) مِن الأُرُوشِ (بِرَقَبَتِها، ولم يَكُن على السيِّدِ) فيها كُلِّها (إلا
(3)
الأَقلُّ مِن أَرشِ الجَميعِ، أو) مِن (قِيمَتِها) يَشتَرِكُ فيها أربابُ الجِنايَاتِ ....
(1)
في الأصل: "أحنث".
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 91).
(3)
سقطت: "إلا" من الأصل.
ويَتَحَاصُّونَ بِقَدرِ حُقُوقِهِم.
وإنْ أسًت أمُّ وَلَدٍ لِكَافِرٍ، مُنِعَ مِنْ غِشْيَانِهَا، وحِيلَ بينَهُ وبينَهَا، وأُجبِرَ على نَفَقَتِهَا إن عُدِمَ كَسبُهَا. فإنْ أسلَمَ، حَلَّتْ له، وإنْ مَاتَ كافِرًا، عَتَقَتْ.
(و) إنْ لم يَفِ بأربَابِ الجِنَايَاتِ (يتحَاصُّونَ) فيه (بقَدرِ حُقُوقِهم) لأنَّ السيِّدَ لا يَلزَمُه أكثَرُ منه.
(وإن أسلَمَت أمُّ ولَدٍ لكَافِرٍ، مُنِعَ مِن غِشيَانِهَا) أي: وَطئِهَا والتلذُّذِ بها؛ لتَحريمِهَا عليه بإسلامِها. وحِيلَ بينَهُ وبينَها لئلا يَغشَاهَا. ولا تَعتِقُ بإسلامِهَا، بل يَبقَى مِلكُهُ عليها على ما كانَ قبلَ إسلامِها، (وأُجبِرَ) سيدُها (على نَفَقَتِها إن عُدِمَ كَسبُهَا) لوجُوبِها عليه؛ لأنَّه مالِكُها. ونَفَقَةُ المملُوكِ على سيِّدِه. فإن كانَ لها كسبٌ، فنَفَقَتُها فيه؛ لئلا يَبقَى له وِلايةٌ علَيها بأَخذِ كَسبِهَا، والإنفاقُ عليها مما شاءَت. وإن فضَلَ مِن كَسبِها شيءٌ عن نَفَقَتِها، فلسيِّدِها.
(فإن أسلَمَ) سيِّدُها (حلَّت له) لزَوالِ المانِعِ، وهو الكُفرُ. (وإن ماتَ) سَيِّدُها (كافرًا، عَتَقَت) بمَوتِه، كسائِرِ أُمَّهاتِ الأَولادِ؛ لعُمُومِ الأخبَارِ.
كِتابُ النِّكاحِ
يُسنُّ لِذِي شَهْوَةٍ لا يَخَافُ الزِّنَى،
…
(كِتَابُ النِّكَاحِ)
لُغَةً: الوَطءُ المُباحُ. قالهُ الأَزهريُّ. ويُطلَقُ على الضَّمِّ، ومنهُ قَولُهُم: تَناكَحَتِ الأشجَارُ. أي: انضمَّ بعضُها إلى بعضٍ، وقَولُهُ:
أيُّهَا المُنكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيلًا.
عَمْرَكَ اللهَ، كَيفَ يَجتَمِعانِ؟.
وقال الجوهريُّ: النِّكاحُ: الوَطءُ. وقد يَكُونُ العَقدَ.
قال ابنُ جِنِّي، عن أبي عليٍّ الفارسيِّ: فرَّقَت العربُ فَرْقًا لطيفًا يُعرَفُ به مَوضِعُ العَقدِ مِن الوَطءِ: فإذا قالوا: نَكَحَ فُلانَةَ، أو بِنتَ فُلانٍ. أرادُوا تَزويجَها، والعَقدَ عليها. وإذا قالوا: نَكَحَ امرَأتَه. لم يُريدُوا
(1)
إلَّا المجامَعَةَ؛ لأنَّ بذِكرِ امرأتِهِ وزَوجَتِه يُستَغنَى عن العَقدِ.
وشرعًا: عَقدُ التَّزويجِ، وهو حَقيقَة في عقدِ التَّزويجِ، مجازٌ في الوَطءِ
(2)
. (يُسَنُّ) النِّكاحُ (لِذِي شَهوَةٍ لا يَخَافُ الزِّنى
(3)
) مِن رَجُلٍ وامرَأةٍ؛ لحَديثِ ابنِ مَسعُودٍ مرفوعًا: "يا مَعشَرَ الشَّ
بَابِ
، مَن استَطاعَ مِنكُم الباءَةَ، فليتزوَّج، فإنَّه أغَضُّ للبَصَر وأحصَنُ للفَرجِ" -ومَعنى الباءَةِ بالمدِّ: مُؤَنُ النِّكَاحِ- "ومَن لم يَستَطِعْ،
(1)
في الأصل: "يريد".
(2)
انظر "كشاف القناع"(11/ 137).
(3)
في الأصل: "زنا".
ويَجِبُ عَلَى مَنْ يَخَافُه، ويُبَاحُ لِمَنْ لا شَهْوَةَ لَهُ، ويَحرُمُ بدَارِ الحَربِ لِغَيرِ ضَرُورَةٍ.
فعَلَيه بالصَّومِ، فإنَّه لهُ وِجَاءٌ" -بكَسرِ الوَاوِ، وفَتحِ الجيمِ: رَضُّ الخُصيَتَينِ. والمُرادُ: أنَّه كاسِرٌ لشَهوَتِهِ بإدَامَتِه -رواهُ الجماعَةُ
(1)
. وخاطَب به الشَّبَابَ؛ لأنَّهُم أغلَبُ شَهوَةً. (ويجبُ على مَن يخَافُه
(2)
).
(ويُباحُ) النِّكاحُ (لمَن لا شهوَةَ لهُ) أصلًا، كعِنِّينٍ، أو ذَهَبَت شَهوَتُه لعَارِضٍ، كمَرَضٍ وكِبَرٍ؛ لأنَّ المقصُودَ مِن النِّكاحِ التَّحصِينُ، والوَلَدُ، وتَكثيرُ النَّسلِ، وهو غيرُ مَوجُودٍ فيه، فلا يَنصَرِفُ الخِطابُ بهِ إليهِ، إلَّا أن يكونَ مُباحًا في حقِّهِ، كسَائِرِ المباحَاتِ؛ لعَدَمِ مَنعِ الشَّرعِ مِنهُ، فتَخَلِّيهِ لنَوَافِلِ العِبادَةٍ أفضَلُ في حقِّه؛ لمَنعِ مَن يَتزوَّجُها مِن التَّحصينِ بِغَيرِهِ وإضرَارِها بحَبسِهَا على نَفسِهِ، وتَعريضِ نَفسِهِ لوَاجِبَاتٍ وحُقُوقٍ لعلَّه لا يَقومُ بها، ويَشتَغِلُ عن العِلمِ
(3)
والعِبادَةِ بما لا فائدَةَ فيه.
(ويَحرُمُ) النِّكَاحُ (بدَارِ الحَربِ لِغَيرِ ضَرُورَةٍ) ولو مُسلِمَةً. نصًا. ولا يَطَأُ زَوجَتَه إن كانَت معَه. نصًا. قاله الزركشي
(4)
. والأسيرُ ليسَ له التَّزوُّجُ ما دامَ أَسيرًا.
وأمَّا إن كانَت ضَرُورَةً، فلَهُ التزوُّجُ والتَّسرِّي بدَارِ الحَربِ.
(1)
أخرجه أحمد (6/ 71)(3592)، والبخاري (1905)، ومسلم (1400)، وأبو داود (2046)، والترمذي (1081)، وابن ماجه (1845)، والنسائي (3209).
(2)
سقطت: (ويجبُ على مَن يخَافُه) من الأصل. ولعل شرح العبارة سقط معها أيضًا!.
(3)
في الأصل "العله".
(4)
"شرح الزركشي"(5/ 177).
ويُسَنُّ نِكَاحُ ذَاتِ الدِّينِ، الوَلُودِ، البِكْرِ، الحَسِيبَةِ، الأجنَبيَّةِ.
(ويُسنُّ) لمن أرادَ (نِكَاح
(1)
) تَخيُّرُ (ذَاتِ الدِّينِ) لحديثِ أبي هريرةَ مَرفُوعًا: "تُنكَحُ المرأةُ لأَربَعٍ: لمَالِهَا، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِينِهَا، فاظفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ". متفق عليه
(2)
.
(الوَلودِ)، لحديثِ أنسٍ مَرفوعًا: "تزوَّجُوا الوَدُودَ
(3)
الوَلُودَ، فإِنِّي مُكاثِرٌ بِكُم الأُمَمَ يومَ القِيامَةِ". رواهُ سَعيدٌ
(4)
.
(البِكرِ) لقوله عليه السلام لجابِرٍ: "فهلَّا بِكرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ" متفق عليه
(5)
.
(الحَسيبَةِ) أي: طَيِّبَةِ الأصلِ؛ لنَجَابَةِ ولَدِها، فإنَّه ربَّما أشبَهَ أهلَهَا ونَزَعَ إليهِم.
(الأَجنبيَّةِ) لأنَّ ولَدَها أنجَبُ، ولأنَّه لا يَأمَنُ الفِرَاقَ، فيُفضِي معَ القَرَابَةِ إلى قَطيعَةِ الرَّحِمِ.
ويُسنُّ أيضًا تَخَيُّرِ الجَميلَةِ، ولأنَّهُ أسكَنُ لنَفسِهِ، وأَغضُّ لبَصَرِه، وأكمَلُ لمودَّتِه، ولذلك شُرِعَ النَّظرُ قبلَ النِّكاحِ. وعن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ النِّساءِ خَيرٌ؟ قال:"التي تَسرُّهُ إذا نظَرَ، وتُطيعُهُ إذا أمَرَ، ولا تُخالِفُه في نَفسِها ولا في مالِهِ بمَا يَكرَهُ". رواه أحمد، والنسائي
(6)
.
(1)
مقتضى السياق: نكاحًا.
(2)
أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).
(3)
في الأصل "الولود".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 139)، وأحمد (21/ 191)(13569). وصححه الألباني في "الإرواء"(1784).
(5)
أخرجه البخاري (2309)، ومسلم (715).
(6)
أخرجه أحمد (15/ 360)(9587)، والنسائي في "الكبرى"(8961)، وحسنه=
ويَجِبُ غَضُّ البَصَرِ عَنْ كُلِّ ما حَرَّمَ اللَّهُ تعالَى، فلا يَنظُرُ إلَّا ما وَرَدَ الشَّرعُ بِجَوَازِهِ.
والنَّظَرُ ثمانِيةُ أقسَامِ:
الأوَّلُ: نظَرُ الرَّجُلِ الَّبَالِغِ -ولو مَجبُوبًا- للحُرَّةِ البَالِغَةِ الأجنبيَّةِ، لغير حاجَةٍ، فلا يَجُوزُ له نَظَرُ شيءٍ مِنهَا، حتَّى شَعرِهَا المُتَّصِلِ.
الثَّانِي: نَظَرُهُ لِمَنْ لا تُشتَهَى، ....
(ويَجِبُ غضُّ البَصرِ عن كُلِّ ما حرَّمَ اللهُ تعالى، فلا يَنظُرُ إلَّا ما وَرَدَ الشَّرعُ بجَوازِه).
(والنظر ثمانية أقسام):
(الأوَّلُ: نَظَرُ الرَّجُلِ البَالِغِ، ولو مَجبُوبًا) أي: مَقطُوعَ الذَّكَرِ. ويحرُمُ نَظَرُ الخَصيِّ، أي: مَقطُوعِ الخُصيَتَينِ، والممسُوحِ، أي: مَقطُوعِ الذَّكَرِ والخُصيَتَينِ
(1)
(للحُرَّةِ البالِغَةِ الأجنبيَّةِ) نَصًا.
قال الأثرمُ: استعظَمَ الإمامُ أحمدُ إدخالَ الخِصيَانِ على النِّساءِ؛ لأنَّ العُضوَ وإن تَعطَّلَ، أو عُدِمَ، فشَهوَةُ الرِّجَالِ لا تَزُولُ مِن قُلُوبهم، ولا يُؤمَنُ التمتُّعُ بالقُبلَةِ وغَيرِها.
(لغَيرِ حاجَةٍ. فلا يجوزُ له نظَرُ شيءٍ منها، حتَّى شَعرِهَا المتَّصِلِ). فأمَّا إذا كانَت حاجَةٌ داعيَةٌ للنَّظَرِ، فسيأتي في كلامِ المصنِّفِ مُفصَّلًا.
(الثاني) مِن الأقسامِ الثمانيةِ: (نَظَرُهُ) أي: الرَّجُلِ البَالِغِ (لمن لا تُشتَهَى،
= الألباني في "الإرواء"(1786).
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 105)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 8).
كعَجُوزٍ، وقَبيحَةٍ، فَيجُوزُ لِوجهِهَا خَاصَّةً.
الثَّالِثُ: نَظَرُه للشَّهَادَةِ عَلَيهَا، أو لِمُعَامَلَتِهَا، فَيجُوز لِوَجهِهَا، وكذا كفَّيهَا لِحَاجَةٍ.
الرَّابعُ: نَظَرُهُ لِحرَّةٍ بالِغَةٍ يَخطبُهَا، فَيجُوزُ للوَجهِ والرقَبةِ واليدِ والقَدَمِ.
كعَجُوزٍ، وقَبيحَة) المنظَرِ، ومَريضَةٍ، (فيَجُوزُ) النَّظَرُ (لوَجهِهَا خاصَّةً) دُونَ بَقيَّةِ أعضَائِهَا.
(الثَّالثُ) من الأقسَامِ: (نَظَرُهُ) أي: الرَّجُلِ البَالِغِ (للشَّهادَةِ عَلَيها، أو لمُعَامَلَتِهَا) في بَيعٍ وإجارَةٍ، وغَيرِهِمَا، (فيَجوزُ لوَجهِهَا) ليَعرِفَهَا بعَينِهَا؛ لتَجوزَ الشهادَةُ عَليها، أو يَرجِعَ عليها بالدَّرَكِ، أي: على البائعَةِ بالعُهدَةِ، وعلى المُشتَرِيَةِ بالثَّمَنِ
(1)
.
(وكذا) لمُعامِلٍ نَظَرٌ إلى (كفَّيهَا لحاجَةٍ) نقَلَ حرْبٌ ومحمَّدُ بنُ أبي حَربٍ، في البائِعِ ينظُرُ كفَّيهَا ووَجهَهَا: إن كانَت عَجوزًا رَجَوتُ، وإن كانَت شابَّةً تُشتَهَى أكرَهُ ذلِكَ.
(الرابع) مِن الأقسَامِ: (نَظَرُهُ) أي: الزَّوجِ (لحرَّةٍ بالِغَةٍ يخطُبُهَا) وغَلَبَ على ظنِّهِ إجابَتُهُ، نَظَرُ ما يَظهَرُ منها غالبًا.
(فيَجوزُ) النَّظَرُ (للوَجهِ، والرَّقَبَةِ، واليَدِ، والقَدَمِ) لحديث: "إذا خطَبَ أحدُكم المرأةَ، فقَدرَ أن يَرَى مِنها بَعضَ ما يَدعُوهُ إلى نِكاحِهَا، فليَفعَل". رواه أحمد، وأبو داود
(2)
. وحديثِ جابِرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطَبَ
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 9).
(2)
أخرجه أحمد (22/ 440)(14586)، وأبو داود (2082) من حديث جابر، وحسنه=
الخَامِسُ: نَظَرُهُ إلى ذَواتِ مَحَارِمِهِ، أو لِبِنْتِ تِسْعٍ، أو أمَةٍ لا يَملِكُهَا، أو يَملِكُ بعضَهَا، ....
أحدُكُم المرأةَ، فإن استَطاعَ أن يَنظُرَ مِنهَا إلى ما يَدعُوه إلى نِكَاحِهَا، فليَفعَل". قال: فخَطَبتُ جاريَةً من بَني سَلِمَة، فكُنتُ اتَخبَّأُ لها حتَّى رأيتُ مِنها بَعضَ ما دَعاني إلى نِكَاحِها". رواه أحمد وأبو داود
(1)
.
(الخامِسُ) مِن الأقسَامِ: (نَظَرُهُ) أي: الرَّجُلِ البالِغِ (إلى ذَوَاتِ مَحارِمِهِ) وهي: مَن تحرُمُ أبَدًا بنَسَبٍ، كأُمِّهِ وأُختِه، أو بِسَبَبٍ مُباحٍ، كرَضَاعٍ ومُصَاهَرَةٍ، كأُختِه مِن رَضَاعٍ، وزَوجَةِ أبيهِ وابنِهِ، وأُمِّ زَوجَتِهِ، بخِلافِ أُختِهَا ونحوِها؛ لأنَّ تحريمَها إلى أَمَدٍ، وبخِلافِ أُمِّ المزنيِّ بها، وبِنتِهَا، وأُمِّ الموطُوءَةِ بشُبهَةٍ، وبِنتِها؛ لأنَّ السبَبَ ليسَ مُباحًا
(2)
.
(أو) نَظَرُهُ (لبِنتِ تِسْعٍ) من رَجُلٍ، كمَحرَمٍ؛ لأنَّ عَورَتَهَا مُخَالِفَةٌ لعَورَةِ البالِغَةِ؛ بدليلِ قولِه صلى الله عليه وسلم:"لا يَقَبَلُ اللهُ صلاةَ حائضٍ إلَّا بخمارٍ"
(3)
. فَدلَّ
(4)
على
(5)
صحَّةِ صَلاةِ مَن لم تَحِضْ مَكشُوفَةَ الرَّأسِ.
(أو أمَةٍ لا يَملِكُهَا، أو يَملِكُ بَعضَهَا) فيَحرُمُ النَّظَرُ والاستِمتَاعُ؛ لأنَّ ما حَرَّمَ
= الألباني في "الإرواء"(1791).
(1)
تقدم تخريجه آنفًا.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 103)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 10).
(3)
أخرجه أحمد (43/ 29)(25834)، وأبو داود (641) من حديث عائشة. وصححه الألباني.
(4)
في الأصل: "يدل".
(5)
سقطت: "على" من الأصل.
أو كَانَ لا شَهوَةَ لَهُ، كعِنِّينٍ وَكَبيرٍ، أو كَانَ مُمَيِّزًا ولَهُ شَهوَةٌ، أو رَقِيقًا -غَيرَ مبعَّضٍ ومُشتَرَكٍ -ونَظَرَ لِسيِّدَتِهِ، فيجُوز للوَجهِ والرقَبَةِ واليَدِ والقَدَمِ والرأسِ والسَّاقِ.
السَّادِسُ: نَظَرُهُ للمُدَاوَاةِ، فيَجُوزُ للمَواضِعِ التِي يَحتَاجُ إليهَا.
الوَطءَ حرَّمَ دَواعِيَه.
(أو كانَ لا شَهوَةَ لهُ، كعِنِّينٍ وكَبيرٍ) ومُخَنَّثٍ، أي: شَديدِ التَّأنيثِ في الخِلقَةِ حتى يُشبِهَ المرأةَ في الِّلينِ والكَلامِ والنَّغمَةِ، والنَّظَرِ والعَقلِ. فإن كان كذلكَ، لم يكُنْ له في النِّسَاءِ إرْبٌ؛ لأنَّه لا تَقومُ لهُ آلَةٌ.
وعن مجاهد وقتادة: الذي لا إربَ له في النِساء
(1)
.
(أو كانَ مُمَيِّزًا، ولهُ شَهوَةٌ) لذِي رَحِمِ مَحرَمٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى فرَّقَ بينَ البالِغِ وغَيرِه بقَوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُو} [النُّور: 59] ولو لم يَكُن له النَّظَرُ لما كانَ بينَهُما فَرقٌ.
(أو رَقيقًا -غيرَ مُبعَّضٍ ومُشتَرَكٍ- ونَظَرَ لسيِّدَتِه).
(فيَجوزُ) نَظَرُ العَبدِ لسيِّدَتِه (للوَجهِ والرَّقَبَةِ واليَدِ والقَدَمِ والرَّأسِ والسَّاقِ).
وأمَّا المبعَّضُ والمُشتَرَكُ، فليسَ له النَّظرُ إلى ذلِكَ. وأفتَى الموفَّقُ في المُشتَرَكِ أنَّه كالعَبدِ.
(السَّادِسُ) مِن الأقسام: (نَظَرُهُ) أي: الرَّجُلِ البَالِغِ (للمُدَاوَاةِ).
(فيَجوزُ) للطَّبيبِ -وظاهِرُهُ: ولو ذِمِّيًا- أن يَنظُرَ (للمَوَاضِعِ التي يَحتَاجُ إليها)
(1)
أي: المراد بمن لا شهوة له.
السَّابِعُ: نَظَرُهُ لأمَتِهِ المُحرَّمَةِ، ولِحُرَّةِ مُمَيِّزَةٍ دُونَ تِسعٍ، ونَظَرُ المَرأةِ لِلمَرأةِ، وللرَّجُلِ الأجنَبيِّ، ونَظَرُ المُميِّزِ الذي لا شَهوَةَ له للمَرأةِ،
حتَّى فَرجِها وباطِنِه. وليَكُن ذلِكَ معَ حُضُورِ مَحرَمٍ أو زَوجٍ. ويُستَرُ مِنها ما عَدَا مَوضِعَ الحَاجَةِ.
ومِثلُ الطَّبيبِ: مَن يَلِي خِدمَةَ مَريضٍ أو مَريضَة، في وُضُوءٍ واستِنجَاءٍ وغَيرِهِما، وتخليصِهَا مِن الغَرَقِ والحَرَقِ ونَحوهِمَا.
وكذَا لو حَلَقَ عانَةَ مَن لا يُحسِنُ حَلقَ عَانَتِهِ. وظاهِرُهُ: ولو ذِميًّا. قالَهُ الشيخُ منصورٌ. وكذَا لمَعرِفَةِ بَكارَةٍ وثيوبَةٍ، وبُلُوغٍ
(1)
.
(السَّابعُ) مِن الأقسَام: (نَظَرُهُ) أي: الرَّجُلِ البالِغِ (لأَمَتِه المُحرَّمَةِ) أي: غَيرِ المُباحَةِ، وهي المُزَوَّجَةُ، لحَديثِ عَمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مَرفوعًا:"إذا زَوَّجَ أحدُكُم جارِيَتَه عَبدَهُ أو أَجيرَهُ، فلا يَنظُرْ إلى ما دُونَ السُّرَّةِ وفَوقَ الرُّكبَةِ، فإنَّه عَورَةٌ". رواهُ أبو داودَ
(2)
. ومَفهُومُه: إباحَةُ النَّظرِ إلى ما عَدَا ذلِكَ.
والمجوسيَّةُ والوَثَنيَّةُ في مَعنى المُزوَّجَةِ بجَامِعِ الحُرمَةِ.
(و) يَنظُرُ (لحُرَّةٍ مُمَيِّزَةٍ دُونَ تَسع) سِنين.
(و) يُباحُ (نَظرُ المرأةِ للمرأَةِ) ولو كافِرَةً معَ مُسلِمةٍ. (وللرَّجُلِ الأجنبيِّ) أي: غَيرِ الزَّوجِ والسيِّدِ.
(ونَظَرُ الممَيِّزِ) أي: الصَّبيِّ (الذي لا شَهوَةَ لهُ للمَرأَةِ) كامرَأةٍ معَ امرَأَةٍ، لقَولِهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى
(1)
"كشاف القناع"(11/ 161).
(2)
أخرجه أبو داود (4114). وحسنه الألباني.
ونَظَرَ الرَّلمجلِ للرَّجُلِ، ولو أمرَدَ، فَيَجُوزُ إلى ما عَدَا ما بَينَ السُّرَّةِ والرُّكبَةِ.
الثَّامِنُ: نظَرُهُ لِزَوجَتِهِ وأمتِهِ الفبَاحَةِ لَهُ،
بَعْضِ} [النُّور: 58]. وقولِه تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، فدلَّ على التَّفريقِ بينَ البالِغِ وغَيرِهِ.
(ونَظَرُ الرَّجُلِ للرَّجُلِ، ولو أمرَدَ) لكِنْ إن كانَ الأمرَدُ جميلًا يُخَافُ الفِتنَةُ بالنَّظَرِ إليه، لم يَجُزْ تَعمُّدُ النَّظَرِ إليه. ورَوَى الشعبيُّ قال: قَدِمَ وفدُ عَبدِ القَيس على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم غُلامٌ أمرَدُ، ظاهِرُ الوَضَاءَةِ، فأجلَسَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وراءَ ظَهرِهِ
(1)
. رواهُ أبو حَفصٍ.
(فيَجُوزُ) في جَميعِ ما تقدَّمَ أن يَنظُرَ (إلى ما عَدَا ما بَينَ السرَّةِ والرُّكبَةِ).
والخُنثَى المُشكِلُ في النَّظَرِ إليه كامرَأَةٍ. قال المنقِّحُ رحمه الله: ونَظَرُهُ إلى رَجُلٍ كنَظَرِ امرَأَةٍ إليه، وإلى امرَأةٍ كنَظَرِ رَجُلٍ إليها، تَغليبًا لجانِبِ الحَظْرِ.
(الثَّامِنُ) مِن الأقسَامِ: (نَظَرُهُ لزَوجَتِه وأَمَتِه المُباحَةِ لهُ) فَلِكُلِّ واحدٍ من الزَّوجَينِ نَظرُ جَميعِ بَدَنِ الآخَرِ، ولَمْسُهُ بلا كَرَاهةٍ، حتَّى الفَرْجِ، لما رَوى بهزُ بنُ حَكيمٍ، عن أبيهِ، عن جدِّهِ قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، عَوْرَاتُنا ما نَأتي مِنهَا وما نَذَر؟ قال:" احفَظ عَورَتَك إلَّا مِن زَوجَتِكَ، أو ما مَلَكَت يمينُك ". رواه الترمذي
(2)
، وقال: حديث حسن. ولأنَّ الفَرجَ مَحلُّ الاستمتَاعِ، فجازَ النَّظَرُ إليه، كبَقيَّةِ البَدَنِ.
(1)
أخرجه ابن شاهين في "الأفراد "، كما في "التلخيص الحبير" (3/ 148). وقال الألباني في "الإرواء" (1809): موضوع.
(2)
أخرجه الترمذي (2769). وحسنه الألباني.
ولو لِشَهوَةٍ، ونَظَرُ مَنْ دَونَ سَبعٍ، فيَجوزُ لِكُلٍّ نَظَرُ جَميعِ بَدَنِ الآخَرِ.
والسُّنَّةُ: لا يَنظُرُ كُلٌّ مِنهُما إلى فَرجِ الآخَرِ، قالت عائشةُ: ما رأيتُ فَرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَطُّ. رواه ابن ماجه
(1)
. وفي لفظٍ قَالَت: ما رَأيتُه مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا رآهُ مِنِّي
(2)
. وكذَا سَيِّدٌ معَ أَمَتِه المباحَةِ لهُ.
واحتَرَزَ بقَولِه: "المباحَة"، عن المُشتَرَكَةِ، والمُزوَّجَةِ، والوثنيَّةِ، ونحوِها ممَّن لا تَحِلُّ له
(3)
.
(ولو لِشَهوَةٍ) بأنْ يتلذَّذَ بالنَّظَرِ والمَسِّ.
(ونَظَرُ مَن دُونَ سَبعٍ) أي: لا يحرُمُ النَّظرُ إلى عَورَةِ الطِّفلِ والطِّفلَةِ قبلَ السَبعِ، ولا لمْسُهَا. نصًا.
ولا يَجِبُ سَترُها معَ أَمنِ الشَّهوَةِ؛ لأنَّ إبراهيمَ ابنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم غسَّلَهُ النِّسَاءُ
(4)
. ولا يَجِبُ الاستِتارُ مِنهُ في شَيءٍ من الأُمُورِ
(5)
.
(فيَجُوزُ لِكُلٍّ) مِن طِفلَةٍ وطِفلٍ (نَظَرُ جَميعِ بَدَنِ الآخَرِ) لأنَّه لاحُكمَ لعَورَتِهِما.
* * *
(1)
أخرجه ابن ماجه (262، 1922). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1812).
(2)
أخرجه أبو يعلى كما في "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 457، 458)، وعنه أبو الشيخ في "أخلاق النبي وآدابه" (740). وقال الزيلعي: ومن طريق أبى يعلى رواه ابن الجوزي في كتابه "الوفاء". انتهى. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1812).
(3)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 14).
(4)
قال الألباني في "الإرواء"(703): لم أقف عليه.
(5)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 15).
فصلٌ
ويَحرُمُ النَّظَرُ لِشَهوَةٍ، أو مَعَ خَوفِ ثَورَانِهَا إلى أحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا. ولَمْسٌ كنَظَرٍ، وأولَى.
ويحرُمُ التلذُّذُ بصَوتِ الأجنَبيَّةِ، ولو بقِرَاءَةٍ.
وتَحرُمُ خَلوَةُ رَجُلٍ غَيرِ مَحرَمٍ بالنِّسَاءِ، وعَكسُهُ.
(فَصلٌ)
(ويَحرُمُ النَّظَرُ لشَهوَةٍ، أو) أي: ويَحرُمُ نَظرٌ (معَ خَوفِ ثَوَرَانِها إلى أَحدٍ ممَّنْ ذَكَرنَا) مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وَخُنثَى، غَيرِ زَوجَتِه أو سُرِّيَتِه.
(ولَمْسٌ كنَظَرٍ، وأَولَى) لأنَّه أبلَغُ مِنهُ، فيَحرُمُ الَّلمسُ حيثُ يحرُمُ النَّظَرُ، ولَيسَ كُلُّ ما أُبيحَ نَظرُهُ لمُقتَضى شرعيٍّ يُباحُ لمسُه؛ لأنَّ الأصلَ المنعُ في النَّظَرِ والَّلمسِ، فحيثُ أُبيحَ النظرُ لدليل، بقيَ ما عدَاه على الأَصلِ إلَّا ما نصَّ عليه، أي: على جوازِ لمسِهِ.
(ويحرمُ التلذُّذُ بصَوتِ الأجنبيَّةِ) أي: سَماعِ صَوتِ المرأةِ غَيرِ زَوجَتِهِ وسُرِّيَتِهِ (ولو) كانَ (بِقِرَاءَةٍ) لأنَّه يَدعُو إلى الفِتنَةِ.
(ويحرمُ خَلوَةُ رَجُلٍ) واحِدٍ (غَيرِ مَحرَمٍ بالنِّسَاءِ) أي: بعَدَدٍ من النِّسَاءِ (وعَكسُهُ) بأنْ يَخلُوَ عددٌ مِن الرِّجالِ بامرأةٍ واحِدَةٍ.
قال في "الفروع": ولو بِحَيوانٍ يَشتَهِي المرأةَ، أو تَشتَهيهِ، كالقِردِ. ذَكَرَه ابنُ عقيلٍ وابنُ الجوزيِّ، وقال: الخَلوَةُ بأَمرَدَ، ومُضَاجَعَتُهُ، كامرَأةٍ، ولو لمَصلَحَةِ
ويَحرُمُ التَّصرِيحُ بِخِطبَةِ المُعتَدَّةِ البَائِنِ لا التَّعرِيضُ، إلَّا بخِطبَةِ الرَّجعِيَّةِ.
تَعليمٍ وتأديبٍ
(1)
.
(ويحرمُ التَّصريحُ) وهو: ما لا يَحتَمِلُ غَيرَ النِّكاحِ (بخِطبَةِ) بِكَسرِ الخاءِ (المُعتَدَّةِ البائِنِ) أو رَجعيَّةٍ -في عِدَّةِ حَياةٍ، أو وفاةٍ، أو تَفرِقَةِ إرضَاعٍ، أو الِّلعَانِ- إلَّا لزَوجٍ تَحِلُّ لهُ. قال في "المبدع": بالإجماعِ. وسَنَدُه: قولُه تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البَقَرَة: 235]، ولأنَّه لا يُؤمَنُ أن يَحمِلَهَا الحِرصُ على النِّكَاحِ على الإخبارِ بانقِضَاءِ عِدَّتِها قبلَ انقِضَائِها، والتَّعريضُ بخِلافِه
(2)
. ولِذَا قال: (لا) يحرُمُ (التَّعريضُ إلَّا بخِطبَةِ الرجعيَّةِ).
والتعريضُ
(3)
مِن الخاطِبِ: أن يقولَ: إنِّي في مِثلِكِ لَرَاغِبٌ، و: لا تفَوِّتِيني بنَفسِكِ، و: إذا انقَضَت عِدَّتُكِ فأعلِمِيني، وما أشبَهَ ذلكَ مما يدلُّ على رَغبَتِه فيها.
قال في "المنتهى"
(4)
: وهي في جَوابٍ، كَهُوَ، فِيمَا يَحِلُّ ويَحرُمُ. يعني: مَتى حَرُمَت الخِطبَةُ تَصريحًا أو تَعريضًا، حَرُمَت الإجابَةُ كذلِكَ، ومَتى جازَت الخطبةُ جازت
(5)
الإجابَةُ. فيَجوزُ للبائِنِ التَّعريضُ في عِدَّتِها دُونَ التصريحِ لغَيرِ مَن تَحِلُّ له إذَن، ويَحرُمُ على الرجعيَّةِ التعريضُ والتصريحُ في الجوابِ ما دَامَت في العِدَّةِ. ومِثلُهَا
(6)
مُستَبرَأةٌ عَتَقَت بمَوتِ سَيِّدِها.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 109).
(2)
"كشاف القناع"(11/ 174).
(3)
"والتعريض" ليست في الأصل، اقتضى السياق إضافتها.
(4)
"منتهى الإرادات"(4/ 55).
(5)
"الخطبةُ جازت" ليست في الأصل، اقتضى السياق إثباتها.
(6)
أي: ومثل المعتدة البائن.
وتحرُمُ خِطبَةٌ عَلى خِطبَةِ مُسلِمٍ أُجيبَ،
(وتحرُمُ خِطبَةٌ على خِطبَةِ مُسلِمِ أُجِيبَ) ولو تَعريضًا، إن عَلِمَ الثاني إجابَةَ الأوَّلِ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا:"لا يخطبُ الرجلُ على خِطبَةِ أخيهِ حتى يَنكِحَ، أو يَترُكَ". رواه البخاري، والنسائي
(1)
. ولما فِيهَا مِن الإفسَادِ على الأوَّلِ، وإيذَائِهِ، وإيقاعِ العَدَاوَةِ.
وإلَّا؛ بأن لم يَعلَم الثَّاني بإجابَةِ الأوَّلِ، جازَ؛ لأنَّه مَعذُورٌ بالجهل. أو تَرَكَ الأوَّلُ
(2)
الخِطبَةَ، وكذَا لو أخَّرَ العَقدَ، وطالَت المدَّةُ، وتضرَّرَت المخطُوبَةُ، أو أَذِنَ الثَّاني في الخِطبَةِ، جازَ؛ لحديث ابن عمر يرفَعُه:"لا يخطُبُ الرَّجلُ على خِطبَةِ الرَّجُلِ حتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه، أو يأذَنَ الخاطِبُ". رواه أحمدُ، والبخاريُّ، والنَّسائيُّ
(3)
.
أو يَسكُتُ الخاطِبُ الأوَّلُ عنه، أي: الثَّاني؛ بأنْ استَأذَنَهُ، فَسَكَتَ، جازَ للثَّاني أن يَخطبَ؛ لأنَّ سُكُوتَهُ عندَ استئذَانِهِ في مَعنى التَّركِ.
وكذا لو رُدَّ الأوَّلُ ولو بعدَ إجابَتِه، ويُكرَهُ رَدُّهُ بلا غَرَضٍ.
والتَّعويلُ في رَدٍّ وإجابَةٍ لخِطبَةٍ على وليٍّ مُجبِرٍ، وهو الأَبُ، ووصيه في النِّكاحِ، إن كانَت الزوجَةُ حُرَّةً بِكرًا. وكذَا سيِّدُ أَمَةٍ بِكرٍ أو ثيِّبٍ.
فلا أثَرَ لإجابَةِ المجبَرَةِ؛ لأنَّ وليَّهَا يملِكُ تَزويجَها بغيرِ اختيارِها، لكِنْ إنْ كَرِهَت مَن أجَابَهُ وَليُّهَا، وعَيَّنَت غيرَه، سَقَطَ حُكمُ إجابَةِ وَليِّها؛ لتَقديمِ اختيارِها عليه.
(1)
أخرجه البخاري (5144)، والنسائي (3241).
(2)
سقطت: "الأول" من الأصل.
(3)
أخرجه أحمدُ (10/ 464)(6417)، والبخاريُّ (5142)، والنَّسائيُّ (3243).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإلَّا تَكُنْ مُجبَرَةً، كحُرَّةٍ ثَيِّبٍ عاقِلَةٍ تمَّ لها تِسعُ سِنين، فالتَّعويلُ في رَدٍّ وإجابَةٍ عَليها، أي: المخطُوبَةِ، دُونَ وَليِّها؛ لأنها أحَقُّ بنَفسِها، فكانَ الأمرُ أَمرَهَا، وقد جاء عن عُروةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خطبَ عائشَةَ إلى أبي بَكرٍ. رواهُ البخاريُّ
(1)
مختصرًا مرسلًا. وعن أُمِّ سَلَمةَ: أنه لما ماتَ أبو سَلَمَةَ، أرسَلَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطِبُني. رواهُ مُسلِمٌ
(2)
مختصرًا.
فإن خَطَبَ كافِرٌ كِتابِيَّةٍ، لم تَحرُم خِطبَتُها على مُسلِمٍ. نصًا. قال
(3)
: لا يَخطبُ على خِطبَةِ أَخيهِ، ولا يُساوِمْ على سَومِ أخيه، إنَّما هو للمُسلِمِين، ولو خَطَبَ على خِطبَةِ يَهوديٍّ أو نصرانيٍّ، أو ساوَمَ على سَومِهم، لم يَكُنْ داخِلًا في ذلك؛ لأنهم ليسُوا بإخوَةٍ للمُسلم.
وفي تحريمِ خِطبَةِ مَن أَذِنَت لوليِّهَا في تَزويجِهَا مِن شَخصٍ مُعيَّنٍ مُسلِمٍ احتمالان: أحدُهما: تحرُمُ، كما لو خَطَبَ فأجابت. والثاني: لا تحرمُ؛ لأنَّه لم يَخطِبْها أحدٌ. وهُمَا للقاضي. قال شارحُ "المنتهى" التقيُّ الفُتُوحيُّ رحمه الله على هامِشِ نسخَتِه: الأظهَرُ: التَّحريمُ
(4)
.
قال في "الإقناع": وأشدُّ مِنهُ -أي
(5)
: تحريمِ الخِطبَةِ على الخطبة
(6)
-
(1)
أخرجه البخاري (5081).
(2)
أخرجه مسلم (918).
(3)
أي: الإمام أحمد.
(4)
انظر "دقائق أولي النهى"(5/ 114).
(5)
في الأصل: "في".
(6)
سقطت: "على الخطبة" من الأصل.
ويَصِحُّ العَقدُ.
تحريمًا: مَن فَرَضَ له وليُّ الأمرِ على الصَّدقَاتِ، أو غَيرِها -كالجَوالي
(1)
- ما يَستَحِقُّهُ، فيَجيءُ مَن يُزاحِمُهُ فيه، أو مَن يَنزِعْهُ عنه؛ لأنَّه أشدُّ إيذاءً لهُ مِن خِطبَتِهِ عَليهِ
(2)
.
قال ابنُ نَصرِ الله: لو أُجيبَ مَن تحرُمُ خِطبَتُه، كمَن خَطَبَ مُعتدَّةً صَريحًا، هل يحرُمُ الخِطبَةُ على خِطبَتِه؟ يحتملُ ألَّا يَحرُمُ؛ لأنَّ وُقوعَهَا في غيرِ محلِّها، كعَدَمِ وقُوعِها.
قال ابنُ نَصرِ الله: لو أجَابَهُ الوليُّ، ثمَّ زالَت ولايَتُه بمَوتٍ أو جُنُونٍ، فهل يسقُط حقّ الخاطِبِ من الإجابَةِ؟ لم أجِد مِن أصحابِنَا مَن ذكر ذلك. وأفادَ شَيخُ الإسلامِ: أنَّه يَسقُطُ. وكذَا لو
(3)
كانَت الإجابَةُ مِن المرأَةِ، ثم جنَت. وظاهِرُ كلامِ الأصحاب: أنَّ حقَّهُ لا يَسقُطُ.
وقال أيضًا: إذا أُجيبَ الخاطِبُ، ثمَّ لم يَعقِدْ حتى طالَت المدَّةُ، وتَضرَّرَت المرأةُ بذلِك، فالظاهِرُ: حقُّهُ يَسقُط
(4)
.
(ويَصحُّ العَقدُ) معَ خِطبَةٍ حَرُمَت، كخِطبَةِ المعتدَّةِ تَصريحًا، والرَّجعيَّةِ، ولو تعريضًا، أو على خِطبَةِ مُسلِمٍ أُجيبَ.
(1)
الجَالِيَةُ: أهل الذمة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه عن جزيرة العرب. ثم نقلت "الجَالِيَةُ" إلى الجزية التي أخذَتْ منهم، ثم استعملت في كلّ جزية تؤخذ، وإن لم يكن صاحبها جَلا عن وطنه. والجمع "الجَوَالي". "المصباح المنير"(1/ 106).
(2)
"كشاف القناع"(11/ 178).
(3)
سقطت: "لو" من الأصل.
(4)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 1062).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وسُنَّ عَقدُ النكاحِ مَساءَ يَومِ الجمعَةِ؛ لأنَّه يومٌ شَريفٌ ويومُ عِيدٍ، والبَركَةُ في النِّكاحِ مَطلُوبَةٌ، فاستُحِبَ له أشرفُ الأيامِ؛ طَلبًا للبركَةِ.
والإمسَاءُ به
(1)
: أن يكونَ من آخِرِ النَّهارِ. وروى أبو حَفص العُكبُريُّ مرفوعًا: "أَمسُوا بالإملاك، فإنه أعظمُ للبركةِ"
(2)
. ولأنَّ في آخرِ يَومِ الجُمُعةِ ساعَةَ الإجابَةِ، فاستحبَّ العقدُ فيها؛ لأنها أعظمُ للبَركَةِ، وأحرَى لإجابَةِ الدُّعَاءِ لهُما.
ويُسَنُّ أن يخطُبَ العَاقِدُ قَبلَهُ، أي: النِّكاحِ. وفي "الغُنية" للشيخ عبد القادر الجيلي رحمه الله: فإنْ أُخِّرَت، جازَ. وفي "الإنصاف": قلتُ: يَنبَغي أن يُقالَ: معَ النِّسيانِ
(3)
.
وأن تَكونَ بِخُطبَةِ عبدِ الله بنِ مَسعُودٍ، وهي: ما روَاهُ، قال: عَلَّمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التشهُّدَ في الصلاةِ، والتشهُّدَ في الحاجَةِ: إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونَستَعينُهُ، ونَستَغفِرُه ونَتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ مِن شُرُورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له. وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه. قال: ويَقرَأُ ثلاثَ آياتٍ
(4)
. ففسَّرهَا سُفيانُ الثوريُّ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عِمرَان: 102]. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النِّساء: 1]. {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلً
(1)
في الأصل: "والإصابة".
(2)
قال الألباني في "الإرواء"(1820): لم أقف على إسناده.
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 115).
(4)
في الأصل: "أيام".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سَدِيدًا} [الأحزَاب: 70] الآية. رواه الترمذيُّ
(1)
وصححه.
ورُوي أنَّ أحمدَ كانَ إذا حضَرَ
(2)
عقَدَ نِكاحٍ، ولم يُخطَب فيه بخُطبَةِ ابنِ مَسعودٍ، قامَ وتَرَكَهُم. وهذا على طريقِ المبالغَةِ في استحبابها، لا على إيجابها.
ويُجزِئُ عن هذِه الخُطبَةِ أن يتشهَّد، ويصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ويُسنُّ أن يقَالَ لمتزَوِّجٍ
(3)
: بارَكَ اللهُ لكمَا وعَلَيكُما، وجَمَعَ بَينَكُما في خَيرٍ وعافيةٍ.
ويُسَنُّ أن يقولَ الزَّوجُ إذا زُفَّت إليه المرأةُ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ خَيرَهَا وخيرَ ما جَبَلتَها عليه، وأعوذُ بكَ مِن شرِّها وشَرِّ ما جَبلتَها عليه؛ لما روَى عمرو بنُ شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا تزوَّج أحدُكُم امرأةً، أو اشتَرَى خادِمًا، فليَقُل: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ خَيرَهَا وخيرَ ما جبلتَها عليه، وأعوذُ بكَ مِن شرِّها وشرِّ ما جَبَلتَها عليه، وإذا اشتَرَى بَعيرًا أخَذَ بذروَةِ سَنامِه، وليَقُل مثلَ ذلك". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه
(4)
.
وعن أبي سَعيدٍ مَولَى أبي أُسَيدٍ: أنَّه تزوَّجَ، فحضرَهُ عبدُ الله بن مسعودٍ، وأبو ذَرٍّ، وحذيفَةُ، وغيرُهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إذا دخَلتَ على
(1)
أخرجه الترمذي (1105). وصححه الألباني.
(2)
سقطت: "حضر" من الأصل.
(3)
في الأصل: "يقول المتزوج".
(4)
أخرجه أبو داود (2160)، والنسائي (10093)، وابن ماجه (2252) من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص. وحسنه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أهلِكَ، فصَلِّ رَكعَتَين، ثم خُذ بِرَأسِ أهلِكَ، ثم قُل: اللهمَّ بارِك لي في أَهلِي، وبارِك لأهلِي فِيَّ، وارزُقني مِنهم. ثم شأنَكَ وشأنَ أهلِكَ. رواه صالح بن أحمد في "مسائله"، عن أبيه بإسناده
(1)
.
* * *
(1)
رواه صالح في "مسائله"(923). وأخرجه عبد الرزاق (6/ 191).
بَابُ رُكنَي النِّكَّاح وشُرُوطِهِ
رُكنَاهُ: الإيجَابُ والقَبولُ مُرَتَّبَينِ.
(بابُ رُكنَي النِّكاحِ وشُرُوطِه)
رُكنُ الشيءِ: جُزءُ ماهِيَّتِه، وهي لا تَتِمُّ بدُونِ جُزئِها، فكَذَا الشيءُ لا يَتِمُّ بدون
(1)
رُكنِه.
(رُكنَاهُ) أي: النِّكَاحِ:
أحدهما: (الإيجابُ): الَّلفظُ الصَّادِرُ مِن الوليِّ، أو مَن يَقومُ مقامَهُ، بلَفظِ إنكَاحٍ، أو بِلَفظِ تَزويجٍ، بأن يقولَ: أنكَحتُكَ فُلانَةَ، أو: زوَّجتُكَها. وقَولُ السيِّدِ لمَن يَملِكُها، أو يَملِكُ بعضَهَا وباقِيها حُرٌّ، وتأذَنَ هِيَ، ومُعتِقُ البقيَّةِ: أعتَقتكِ وجَعلتُ عِتقَكِ صَدَاقَكِ، ونحوِه.
وإن فَتَحَ وَليٌ تَاءَ "زوَّجتُكَ"، فقيلَ: يَصحُّ النِّكاحُ مُطلقًا، أي: عالمًا كانَ الوليُّ بالعَربيَّةِ أو جاهِلًا بها، قادِرًا على النُّطقِ بضَمِّ التَّاءِ، أو عاجِزًا عنه. وأفتَى به الموفَّقُ.
وقيلَ: لا يَصِحُّ إلَّا مِن جاهِلٍ بالعربيَّةِ، ومِن عاجِزٍ عن النُّطقِ بضَمِّ التَّاءِ. قال في "شرح المنتهى" للتَّقيِّ الفُتوحي: وهذا هو الظاهِرُ. انتهى. وقطَعَ به في "الإقناع". وفي "الرعاية": يَصِحُّ جَهلًا، أو عَجزًا، وإلَّا احتَمَلَ وَجهَين.
(و) الرُّكنُ الثاني: (القَبولُ) وهو الَّلفظُ الصادِرُ مِن الزَّوجِ، أو مَن يَقومُ مقامَه.
(1)
سقطت: "جزئها، فكذا الشيء لا يتم بدون" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 118).
ويَصِحُّ النِّكَاحُ هَزْلًا،
ولا يَصِحُّ قَبولٌ لمَن يُحسِنُ العربيَّةَ إلَّا بلَفظِ: قَبِلتُ تَزويجَها، أو: قَبِلتُ نِكاحَهَا، أو: قَبِلتُ هذا التَّزويجَ، أو: قَبِلتُ هذا النِّكاحَ، أو: تزوَّجتُها، أو: رضيتُ هذا النِّكاحَ، أو: قَبِلتُ، فقَط، أو: تزوَّجتُ، أو قال الخاطِبُ للوليِّ: أَزوَّجتَ؟ فقالَ الوليُّ: نَعَم. وقالَ الخاطِبُ للمتزوِّجِ: أَقَبِلتَ؟ فقالَ المتزوِّجُ: نعَم. انعَقَدَ النكاح؛ لأنَّ المعنى: نَعَم زوَّجتُ، نَعَم قَبِلتُ هذا النِّكاحَ؛ لأنَّ السُّؤالَ يكونُ مُضمَرًا في الجَوابِ، مُعادًا فيه، بدليل قولِه تعالى:{هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} أي
(1)
: وجَدْنَا ما وَعَدَنا رُّبنَا حقًّا. ولو قِيلَ لِفُلانٍ: عليكَ ألفُ دِرهَمٍ؟ فقَالَ: نَعَم، كانَ إقرَارًا صَريحًا لا يَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ، ولا يُرجَعُ فيه إلى تَفسيرِهِ.
وقال الشيخُ أيضًا: يَنعَقِدُ النكاحُ بما عَدَّه الناسُ نِكاحًا، بأيِّ لُغَةٍ ولَفظٍ كان، وإنَّ مِثلَ النِّكاحِ كُلُّ عَقدٍ. فيَنعَقِدُ البيعُ بما عدَّه الناسُ بَيعًا، بأيِّ لُغَةٍ ولَفظٍ كان، والإجارَةُ بما عدَّه النَّاسُ إجارَةً، بأيِّ لُغَةٍ ولَفظٍ كان، وهكذا
(2)
.
(ويَصحُّ النِّكاحُ هَزْلًا) وتَلجِئَةً، لحديث:"ثلاثٌ هَزلُهُنَّ جِدٌّ، وجِدُّهنَّ جِدٌّ: الطلاقُ، والنكاحُ، والرَّجعَةُ". رواه الترمذي
(3)
. وعن الحسَنِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن نكَحَ لاعِبًا، أو طلَّقَ لاعِبًا، أو أعتَقَ لاعِبًا، جازَ"
(4)
. وقال عمرُ:
(1)
سقطت: "أي" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(11/ 235).
(3)
أخرجه الترمذي (1184) من حديث أبي هريرة. وحسنه الألباني في "الإرواء"(1826).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 115)، والطبري في "تفسيره" (4923). قال الألباني: وهذا مرسل صحيح الإسناد إلى الحسن، وهو البصري. "الإرواء" تحت الحديث (1826).
وبِكُلِّ لِسَانٍ مِنْ عَاجِزٍ عَنْ عَربِيٍّ، لا بالكِتَابَةِ والإشَارَةِ، إلَّا مِنْ أخرَسَ.
أربَعٌ جائِزَات إذا تكلَّمَ بهنَّ: الطلاقُ، والعِتَاقُ، والنكاحُ، والنَّذرُ
(1)
.
(و) يَصحُّ الإيجابُ والقَبولُ (بكُلِّ لِسانٍ) أي: لُغَةٍ (مِن عاجِزٍ عن عَربيٍّ) بأيِّ لَفظٍ يُؤدِّي مَعنَاهُمَا الخاصِّ بِكُلِّ لِسانٍ؛ لأنَّ ذلكَ في لُغَتِه نَظيرُ الإنكَاحِ والتَّزويجِ، ولا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلَّا وُسعَهَا.
ولا يَصحَّانِ بما لا يُؤدِّي مَعنَاهُما الخاصِّ، كالعَربيِّ إذا عَدَلَ عن: أنكَحتُ
(2)
، أو: زَوَّجُت، إلى غَيرِهِمَا.
ولا يَلزَمُه، أي: العاجِزَ عَنهُمَا بالعربيَّةِ، تَعلُّمُ أركانِهِ بالعربيَّةِ؛ لأنَّه عَقدُ مُعاوَضَةٍ، كالبَيعِ، بخلافِ تَكبيرِ الصلاةِ، ولأنَّ القَصدَ هُنا المعنى دُونَ الَّلفظِ المُعجِزِ، بخِلافِ القِرَاءَةِ.
وإن أحسَنَ أحدُهُما العَربيَّةَ وحدَهُ، أتَى بِها، والآخَرُ بِلُغَتِه، وتَرجَمَ بَينَهُما ثِقَةٌ، إن لم يُحسِنْ أَحَدُهما
(3)
لِسانَ الآخَرِ.
ولا بدَّ مِن مَعرِفَةِ، الشَّاهِدَينِ لَفظَ العَاقِدَينِ.
ولا
(4)
يَصِحُّ قَبولٌ، و (لا) إيجابٌ (بالكِتَابَةِ والاشارَةِ) مَفهُومَةٍ (إلَّا مِن
أخرَسَ) فيَصحَّانِ مِنهُ بالإشارَةِ نَصًا، كبَيعِهِ وطلاقِهِ. وإذا صحَّا مِنهُ بالإشارَةِ،
فالكِتَابَةُ أولى؛ لأنَّها بمنزِلَةِ الصَّريحِ في الطلاقِ والإقرَارِ.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1610).
(2)
في الأصل: "نكحت".
(3)
سقطت: "العَربيَّةَ وحدَهُ، أتَى بِها، والآخَرُ بِلُغَتِه، وتَرجَمَ بَينَهُما ثِقَةٌ، إن لم يُحسِنْ أَحَدُهما" من الأصل، والمثبت من "دقائق أولي النهى"(5/ 120).
(4)
سقطت: "لا" من الأصل.
وشُروطُهُ خَمسَةٌ:
تعيينُ الزَّوجَينِ، فلا يَصِحُّ: زوَّجتُكَ بِنتِي، ولَهُ غَيرُها
(وشُروطُه) أي: النِّكاحِ (خمسَة):
أحَدُها: (تَعيينُ الزَّوجَينِ) في العَقدِ؛ لأنَّ النِّكاحَ عَقدُ مُعاوَضَةٍ، أشبَهَ البَيعَ.
(فلا يَصِحُّ) النِّكاحُ إن قالَ الوَليُّ: (زوَّجتُكَ بِنتي. ولهُ) بِنت (غَيرُهَا) حتى يُميِّزَهَا باسمِهَا، كفَاطِمَةَ، أو صِفَةٍ لا يُشارِكُهَا فيها غَيرُهَا مِن أخَوَاتِهَا، كالكُبرَى، أو الطَّويلَةِ، أو يُشيرُ إليهَا إن كانَت حاضِرَةً، كَهَذِه.
وإلَّا يَكُنْ له إلَّا بِنتٌ واحِدَةٌ، فيَصِحُّ النِّكاحُ بقَولِه: زوَّجتُكَ بِنتي. ولو سمَّاهَا بغيرِ اسمِها؛ لأنَّه لا تَعدَادَ هُنا، فلا التِبَاسَ.
وإن سمَّاها باسمِها؛ كأن قال: زوَّجتُكَ فاطِمَةَ، أو الطويلةَ، ولم يَقُل: بِنتي، لم يَصحَّ العقدُ؛ لاشتِرَاكِ هذا الاسمِ، أو هذِه الصِّفَةِ.
أو قالَ مَن له بِنتَانِ؛ عائِشَةُ وفاطِمَةُ: زوَّجتُكَ بِنتي عائشةَ، فقَبِلَ الزَّوجُ النكاحَ، ونَوَيَا، أي: الوليُّ والزَّوجُ، فاطِمَةَ، لم يَصحَّ؛ لأنَّهُما لم يتلفَّظَا بما يَصحُّ العقدُ بالشَّهادَةِ عليهِ، فأشبَهَ ما لو قالَ: زوَّجتُكَ بِنتي، فَقط، أو: عائشَةَ، فقَط، ولأنَّ اسمَ أختِها لا يُميِّزُها، بل يَصرفُ العَقدِ عَنها. وكذا لو أرادَ الوليُّ الكُبرَى، أو الزَّوجُ الصُّغرَى، كمَن سُمِّيَ له في العَقدِ غيرُ مَخطُوبَتِه، فَقَبِلَ يَظنُّهَا، أي: غَيرَ المخطوبَةِ، إيَّاهَا، أي: المخطُوبَةَ؛ لانصرِافِ القَبولِ إلى غيرِ مَن وُجِدَ الإيجابُ فِيهَا، فإن لم يَظُنَّها إيَّاهَا، صحَّ العقدُ.
وكذا: زَوَّجتُكَ حمْلَ هذِه المرأةِ، فلا يَصحُّ؛ لأنَّ الحملَ مَجهولٌ، ولا يتحقَّقُ كونُه أُنثَى، ولم يَثِبُت له حُكمُ الوجُودِ. وكذا: إن وضَعَت زَوجَتي ابنَةً، فقَد زوَّجتُكَهَا؛ لأنَّ النكاحَ لا يَصِحُّ تعليقُه.
ولا: قَبِلتُ نِكَاحَها لابنِي، ولهُ غَيرُهُ، حتَّى يُميَّزَ كُلٌّ مِنهُمَا باسمِهِ، أو صِفَتِهِ.
الثَّانِي: رِضَا زَوجٍ مُكلَّفٍ، ولَو رَقِيقًا، فيُجبِرُ الأبُ -لا الجَدُّ-[غَيرَ المكلَّفِ، فإنْ لَم يَكُنْ فَوصيُّهُ،
ولهذا قال: (حتى يُميَّزَ كُلٌّ مِنهُما) أي: مِن الزَّوجَينِ (باسمِه) كفَاطِمَةَ، أو عائشَةَ بِنتي، أو أحمدَ أو محمَّدَ ولَدي، (أو صِفَتِه) حتى لا يُشارِكَهَا فيها غَيرُهَا مِن أخَوَاتِهَا، كالكُبرَى، أو الطَّويلَةِ، أو السَّودَاءِ، أو الحمراءِ.
(الثاني) من شُروطِ النكاحِ: (رِضَا زَوجٍ) فلا يَصحُّ إن أُكرِهَ أحَدُهُما بغَيرِ حقِّ، كالمَبيعِ (مُكلَّفٍ) أي: بالِغٍ عاقِلٍ، (ولو) كانَ المكلَّفُ (رَقيقًا) نصًا. فليسَ لسيِّدِه إجبارُهُ؛ لأنَّه يملِكُ الطلاقَ، فلا يُجبَرُ على النكاحِ، كالحُرِّ، ولأنَّهُ خالِصُ حقِّه، ونَفعُهُ له، فلا يُجبَرُ عليه، أي: على النكاحِ، كالحُرِّ. والأَمرُ لإنكاحِهِ في قولِه تعالى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النُّور: 32] مُختَصٌّ بحالِ طَلَبِه، بدَليلِ عَطفِه على الأَيَامَى، وإنَّمَا يُزَوَّجْنَ عِندَ الطَّلَبِ، ولأنَّ مُقتَضَى الأمرِ الوجُوبُ، وإنَّمَا يجِبُ تَزويجُه إذا طَلَبه. وأمَّا الأَمَةُ، فالسيِّدُ يملِكُ مَنافِعَ بُضْعِهَا والاستمتاعَ بها، بخلافِ العَبدِ. والإجارةُ عقدٌ على مَنافِعِ بَدَنِه، وسيِّدُهُ يملِكُ استيفاءَهَا، بخلافِ النكاح.
(فيُجبِرُ الأَبُ -لا الجَدُّ) لعُمومِ الأحادِيثِ، ولأنَّه قاصِرٌ عن الأَبِ، فلم يَملِك الإجبَارَ- (غَيرَ المكلَّفِ) أي: البالِغِ. للأبِ تَزويجُ بَنيهِ الصِّغَارِ.
(فإنْ لم يَكُن) الأَبُ مَوجُودًا (فوَصيُّهُ) أي: الأَبِ في النِّكاحِ. قالَهُ الخِرَقيُّ، وجَزَمَ به الزركشيُّ. قال في "الفروع": وهو أظهَرُ، لقِيامِهِ مَقامَه
(1)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 125).
فإنْ لَم يَكُنْ فالحَاكِمُ لِحَاجَةٍ. ولا يَصِحُّ مِن غَيرِهِم أنْ يزوِّجَ] غيرَ المُكلَّفِ، ولو رَضِيَ.
ورِضَا زَوجَةٍ حُرَّةٍ عَاقِلَةٍ ثَيِّبٍ تَمَّ لهَا تِسعُ سِنينَ،
(فإنْ لم يَكُن) بأنْ عُدِمَ وَصيُّ الأَبِ، وثَمَّ حاجَةٌ إلى نِكَاحِهِمَا، (فالحَاكِمُ لحاجَةٍ) أي: وثمَّ حاجَةٌ إلى
(1)
النكاحِ وغَيرِهِ
(2)
، كما في "الإقناع"
(3)
، يُزوِّجُهُما؛ لأنَّه يَنظُرُ في مَصالِحِهِما بعدَ الأَبِ ووصيِّهِ.
ومَن يُخنَقُ في بعضِ
(4)
الأحيَانِ إذا بَلَغَ، لا يَصِحُّ تزويجُه إلَّا بإذنِه؛ لأنَّه مُمكِنٌ، ومَن أمكَنَ أن يتزوَّجَ لِنَفسِه، لم تثبُت وِلايَةُ تزويجه لغيره، كالعَاقِلِ. ومَن زَالَ عَقلُهُ ببِرْسَامٍ، أو مَرَضٍ يُرجَى زَوالُه، فكالعَاقِلِ.
(ولا يَصِحُّ) أي: تَزويجُ الصَّغيرِ والمجنُونِ (مِن غَيرِهِم) أي: بقيَّةِ الأَولِياءِ، وهُم مَن عَدَا الأبِ فوَصيِّهِ والحَاكِمِ؛ لأنَّه لا نَظَرَ لغَيرِ هؤلاءِ في مَالِهِمَا ومَصالِحِهِمَا المتعلِّقَةِ به.
(أن يُزَوِّجَ غَيرَ المكلَّفِ) أي: دُونَ البُلُوغِ (ولو رَضِيَ) أي: تَزويجَ صغيرَةٍ لها دُونَ تِسعِ سِنينَ بحَالٍ، أي: في حالٍ مِن الأحوَالِ. وليسَ لها إِذنٌ صَريحٌ.
(ورِضَا زَوجَةٍ حُرَّةٍ عاقِلَةٍ ثيِّبٍ تمَّ لها تِسعُ سِنينَ) فأكثَرُ، ولها إذنٌ صَحيحٌ
(5)
مُعتَبَرٌ، يُشتَرَطُ معَ ثُيوبَتِهَا، ويُسَنُّ معَ بَكارَتِهَا. نصًا؛ لحديثِ أبي هريرة مرفوعًا:
(1)
في الأصل: "أي".
(2)
أي: كخدمةٍ.
(3)
"الإقناع"(3/ 320).
(4)
سقطت: "بعض" من الأصل.
(5)
في الأصل: "صريح".
فيُجبِرُ الأبُ ثَيِّبًا دُونَ ذلِكَ، وبِكرًا، ولو بَالِغَةً.
ولِكُلِّ وليٍّ تَزويجُ يَتيمَةٍ
"لا تُنكحُ الأيِّمُ حتى تُستَأمَرَ، ولا تُنكَحُ البِكرُ حتى تُستَأذَنَ". قالوا: يا رَسولَ الله، وكيفَ إذنُها؟ قال:"أن تَسكُتَ". متفق عليه
(1)
.
وخُصَّ بِنتُ تِسعٍ، لحديثِ أحمدَ عن عائشَةَ قالت: إذا بلَغَت الجاريةُ تِسعَ سِنينَ فهي امرأَةٌ
(2)
. وروي عن ابن عمر مرفوعًا
(3)
. ومعناه: في حُكمِ المرأَةِ. ولأنَّها تَصلُحُ بذلك للنِّكاحِ، وتَحتاجُ إليه، أشبَهَت البالغةَ.
(فيُجبِرُ الأَبُ ثَيِّبًا دونَ ذلِكَ) أي: تِسعِ سِنينَ؛ لأنَّه لا إذنَ لها مُعتَبَرٌ.
(و) يُجبِرُ (بِكرًا، ولو) كانَت (بالِغَةً) أي: مُكلَّفَةً، لحديثِ ابنِ عبَّاس مرفوعًا:"الأَيِّمُ أحَقُّ بنَفسِها مِن وَليِّها، والبِكرُ تُستَأمَرُ، وإذنُها صُمَاتُها". رواه أبو داود
(4)
.
فقَسَّمَ النِّساءَ قِسمَينِ، وأثبَتَ الحقَّ لأَحَدِهِما، فدلَّ على نَفيِهِ عن الآخَرِ، وهِي البِكرُ، فيَكونُ وَليُّها أحَقَّ مِنها بها.
ودلَّ الحديثُ على أنَّ الاستِئمَارَ هُنَا، والاستِئذَانَ في الحديثِ السَّابِقِ مستحبٌّ غَيرُ واجِبٍ.
(ولِكُلِّ وَليٍّ) مِن أبٍ، ووصيِّه، وبقيَّةِ العَصَبَاتِ، والحاكِمِ (تَزويجُ يَتيمَةٍ
(1)
أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
(2)
لم أقف عليه في "المسند"، وأخرجه الترمذي عقب (1109)، والبيهقي (1/ 319) تعليقًا بدون إسناد، وانظر "الإرواء"(185، 1829).
(3)
أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 273)، وضعف إسناده الألباني في "الإرواء" تحت حديث (185).
(4)
أخرجه أبو داود (2098). وهو عند مسلم (1421).
بَلَغَتْ تِسعًا بِإذنِهَا، لا مَنْ دُونَهَا بِحَالٍ، إلَّا وصِيُّ أبِيهَا.
وإذِنُ الثَيِّبِ: الكَلامُ. وإذنُ البِكرِ: الصُّمَاتُ
بلَغَت تِسعًا) فأكثَرَ (بإذنها) نَصًا؛ لحديثِ أبي هريرةَ مَرفوعًا: "تُستَأمَرُ اليَتيمَةُ في نَفسِهَا، فإنْ سَكَتَت فهو إِذنُها، وإن أبَت لم تُكرَه". رواه أحمد
(1)
.
فدلَّ أنَّ اليتيمَةَ تُزوَّجُ بإذنِها، وأنَّ لها إذنًا صَحيحًا، وقد انتَفَى ذلِكَ فِيمَن لم تبلُغ تِسعًا بالاتِّفَاقِ، فوجَبَ حملُهُ على مَن بلَغَت تِسعًا؛ جمعًا بينَ الأخبَارِ. وإذنُهَا مُعتَبَرٌ.
(لا مَن دُونَهَا بحَالٍ) مِن الأحوَالِ؛ لأنَّه لا إِذنَ لها، وقد تقدَّم. وغَيرُ الأَبِ ووصيُّهُ لا إجبارَ لهُ.
(إلَّا وَصيُّ أَبيهَا) فإنَّ له الإجبَارَ، وكذا الأَبُ، وتقدَّم.
(وإذنُ الثيِّبِ) بوَطءٍ في قُبلٍ، ولو كانَ وَطؤُهَا زِنى، أو مَعَ عَوْدِ بَكارَةٍ بعدَ وَطئِهَا:(الكَلامُ)؛ لحديث: "الثيِّبُ تُعرِبُ عَن نَفسِهَا، والبِكرُ رِضَاهَا صَمتُهَا". رواهُ الأثرَمُ، وابن ماجه
(2)
.
(و) كذَا (إذنُ البِكرِ: الصُّمَاتُ) لحديثِ عائشةَ، قالَت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ البِكرَ تَستَحِيي. قال:"رِضَاهَا صُماتُها" متفق عليه
(3)
.
ولو ضَحِكَت، أو بَكَت، كانَ إذنًا؛ لحديثِ أبي هُريرةَ مرفوعًا:"تُستَأمَرُ اليتيمَةُ، فإن بَكَت أو سَكَتَت فهو رِضَاهَا، وإن أبَت فلا جَوازَ عَليها"
(4)
. ولأنَّها
(1)
أخرجه أحمد (12/ 496)(7527)، وأبو داود (2093). وحسنه الألباني في "الإرواء"(1834).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1872) من حديث عدي بن عدي الكندي عن أبيه. وصححه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (5137)، ومسلم (1420).
(4)
أخرجه أبو داود (2094) من حديث أبي هريرة. وقال الألباني: حسن، دون قوله: =
وشُرِطَ في استئذَانِهَا: تِسمِيَةُ الزَّوجِ لَهَا عَلَى وَجهٍ تَقَعُ به المَعرِفَةُ.
ويُجِبرُ السيِّدُ -ولو فاسِقًا- عَبدَهُ غَيرَ المُكلَّفِ، وأمتَهُ، ولو مُكلَّفَةً.
الثَّالِثُ: الوَليُّ.
غَيرُ ناطِقَةٍ بالامتِناعِ معَ سماعِ الاستِئذَانِ، فكانَ ذلكَ إذنًا مِنها، كالصُّمَاتِ، والبُكاءُ يدلُّ على فَرطِ الحَياءِ لا الكَرَاهَةِ، ولو كَرِهَت لامتَنَعَت، فإنَّها لا تَستَحِيي مِن الامتِنَاعِ.
(وشُرِطَ في استِئذَانِها: تَسميَةُ الزَّوجِ لها على وَجهٍ تقعُ به المعرِفَةُ) بأنْ يُذكَرَ لها نَسبُهُ ومَنصِبُهُ، ونحوُهُ مما يَتَّصِفُ به؛ لتَكونَ على بصيرَةٍ في إذنها في تَزويجِه. ولا تُعتَبرُ تَسميةُ المهرِ.
ومَن زَالَت بَكارَتُها بغَيرِ وَطءٍ، كإصبَعٍ، أو وَثبَةٍ، فكَبِكرٍ في الإذنِ، فإذنُهَا صُمَاتُها؛ لأنَّ حَياءَهَا لا يَزولُ بذلِك.
(ويُجبِرُ السيِّدُ -ولو فاسِقًا- عَبدَهُ غيرَ المكلَّفِ) أي: صَغيرًا أو مجنونًا (و) يُجبِرُ (أمتَهُ، ولو مُكلَّفَةً) أي: كبيرَةً أو صغيرَةً، بِكرًا أو ثيِّبًا، قِنًّا أو مُدبَّرَةً، أو أُمَّ ولَدٍ؛ لأنَّ مَنافِعَها مملوكَةٌ لهُ، والنِّكاحُ عقدٌ على منفَعَتِها، أشبَهَ عَقدَ الإجارَةِ، ولذَلك مَلَكَ الاستمتاعَ بها. وبهذا فارَقَت العَبدَ، ولأنَّه يَنتَفِعُ بما يحصُلُ لهُ من مَهرِهَا وولَدِها. ويَسقُطُ عنه نَفَقَتُها وكِسوَتُها، بخلافِ العَبدِ، وسواءٌ كانَت مُباحَةً له، أو محرَّمَةً عليه، كأُمِّه، أو أُختِه مِن رضاعٍ، أو مجوسيَّةٍ ونحوِها؛ لأنَّ مَنافِعَها لهُ، وإنَّمَا حرُمَت عليه لعارِضٍ.
(الثالِثُ) مِن شُروطِ النِّكاحِ: (الوليُّ) نصًّا.
="بكت" فإنه شاذٌّ "الإرواء"(1838).
وشُرِطَ فيهِ: ذُكُوريَّةٌ، وعَقْلٌ، وبُلُوغٌ، وحُرِّيَّةٌ، واتِّفَاقُ دِينٍ، وعَدَالَةٌ
(وشُرِطَ فيه) أي: في الوليِّ سَبعَةُ شُروطٍ:
أحدُها: (ذُكوريَّةٌ) لأنَّ المرأةَ لا يَثبُتُ لها وِلايَةٌ على نَفسِها، فعَلَى غَيرِها أولى.
والثَّاني: (عَقلٌ) فلا وِلايَةَ لمجنُونٍ مُطبِقٍ، فإنْ جُنَّ أحيَانًا، أو أُغمِيَ عليه، أو نقَصَ عقلُهُ بنَحوِ مَرَضٍ، أو أَحرَمَ، انتُظِر
(1)
. ولا يَنعَزِلُ وكيلٌ بِطَرَيانِ ذلِكَ.
(و) الثالِثُ: (بُلوغٌ) لأنَّ الوِلايَةَ يُعتبرُ لها كمالُ الحالِ؛ لأنَّها تَنفيذُ تصرُّفٍ في حقِّ غَيرِهِ، وغيرُ المكلَّفِ مُولّى عليه؛ لقُصورِ نَظَرِه، فلا تثبُتُ له وِلايَةٌ، كالمرأَةِ.
(و) الرابِعُ: (حُريَّةٌ) أي: كَمالُ حريَّةٍ
(2)
؛ لأنَّ العبدَ والمُبعَّضَ لا يَستَقِلَّانِ بالولايَةِ على أنفُسِهِمَا، فأولى على غيرِهما.
(و) الخامِسُ: (اتِّفاقُ دِين) الوليِّ والمولَّى عَلَيها، فلا وِلايَةَ لكافرٍ على مُسلمةٍ، وكذَا عكسُهُ، ولا نَصرانيٍّ على مجوسيَّةٍ، ونحوِه؛ لأنَّه لا تَوارُثَ بينهما بالنَّسبِ.
(و) السادِسُ: (عَدالَةٌ) نصًا؛ لقولِ ابنِ عباس: لا نِكاحَ إلَّا بشاهِدَي عَدْلٍ
(3)
، ووليٍّ مُرشِدٍ
(4)
.
قال أحمدُ: أصَحُّ شيءٍ في هذا: قَولُ ابنِ عبَّاسٍ. يَعني: وقد رَوي عن ابنِ
(1)
سقطت: "أو أحرم، انتظر" من الأصل.
(2)
في الأصل: "حرة".
(3)
في الأصل: " إلَّا بوليٍّ، وشاهِدَي عَدْلٍ".
(4)
أخرجه البيهقي (7/ 126).
ولو ظَاهِرَةً، ورُشدٌ، وهو معرفَةُ الكُفؤ ومصَالِحِ النِّكَاحِ.
والأحقُّ بتَزويجِ الحُرَّةِ أبوهَا وإنْ عَلَا،
عبَّاسٍ مَرفُوعًا: "لا نِكاحَ إلَّا بِوليٍّ وشاهِدَي عَدْلٍ، وأيُّمَا امرَأةٍ أنكَحَها وليٌّ مَسخُوطٌ عَليهِ، فنِكاحُها باطِلٌ"
(1)
. ورَوى البرقانيٌّ بإسنادِهِ عن جابرٍ مَرفوعًا: "لا نِكاحَ إلَّا بوليٍّ، وشاهِدَي عَدْلٍ"
(2)
. ولأنَّها ولايةٌ نظريَّةٌ، فلا يَستَبدُّ بها الفاسِقُ، كولايَةِ المال.
(ولو) كانَت العَدَالَةُ (ظاهِرَةً) فيَكفِي مستُورُ الحالِ، كوِلايَةِ المالِ، إلَّا في سُلطَانٍ، فلا يُشتَرَطُ في تزويجِه بالوِلايَةِ العامَّةِ العَدالَةُ؛ للحاجَةِ. ولا في سيِّدِ أَمَةٍ.
(و) السابِعُ: (رُشدٌ) وهو، أي: الرُّشدُ هُنَا: (مَعرِفَةُ الكُفؤ ومَصالِحِ النكاحِ) وليسَ هو حِفظَ المالِ، فإنَّ رُشدَ كُلِّ مَقامٍ بحَسَبِه.
وعُلِمَ مما سبَقَ: أنَّه لا يُشتَرَطُ كونُ الوليِّ بَصيرًا، ولا كَونُهُ مُتكلِّمًا إذا فُهِمَت إشارتُه؛ لقِيامِها مقامَ نُطقِه في جميعِ العُقودِ.
(والأحَقُّ بتزويجِ الحُرَّةِ) مِن أولياءٍ: (أبوهَا) لأنَّ الولدَ مَوهوبٌ لأَبيهِ، قال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبيَاء: 90] وإثباتُ وِلايَةِ الموهُوبِ له على الموهُوبِ أوْلى مِن العَكسِ، ولأنَّ الأبَ أكمَلُ نَظرًا، وأشدُّ شفقةً.
فأبُوهُ (وإن عَلا) أي: الجدُّ للأبِ، وإن عَلا، فيُقدَّمُ على الابنِ
(3)
وابنِه؛ لأنَّ له إيلادًا وتَعصيبًا، فقُدِّمَ عليهِمَا، كالأَبِ. فإن اجتَمَعَ أجدادٌ، فأولاهُم أقرَبُهُم، كالجَدِّ معَ الأَبِ.
(1)
أخرجه الدارقطني (3/ 121).
(2)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(5564). وانظر "الإرواء" تحت حديث (1839).
(3)
في الأصل: "الأَبِ".
فابنُهَا وإنْ نَزَلَ، فالأخُ الشَّقيقُ، فالأخُ للأبِ، ثمَّ الأقرَبُ فالأقرَبُ، كالإرْثِ،
(فابنُهَا) أي: الحرَّةِ. فابنُهُ (وإن نَزَلَ) يُقدَّمُ الأقربُ فالأقربُ؛ لحديثِ أُمِّ سلَمَةَ، فإنها لما انقَضَت عِدَّتُها أرسَلَ إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطِبُها، فقالَت: يا رسولَ الله، ليسَ أحَدٌ مِن أوليائي شاهِدًا. قال:"ليسَ مِن أوليائِكِ شاهِدٌ ولا غائِبٌ يَكرَهُ ذلِكَ" فقالت: قُمْ يا عُمر فزوِّج رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فزوَّجَه. رواه النَّسَائِيّ
(1)
.
قال الأثرمُ: قلتُ لأبي عبدِ الله: فحَديثُ عُمَرَ بن أبي سلَمَةَ حينَ زوَّجَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّهُ أمَّ سلمَةَ أليس
(2)
كانَ صَغيرًا؟. قال: ومَن يَقولُ كان صغيرًا؟ أليسَ فيه بَيانٌ.
ولأنَّه عَدلٌ مِن عَصَبَتِها، فثَبتَت له وِلايَةُ تَزويجِهَا، كأخيها.
(فالأخ الشَّقيقُ، فالأخ للأَبِ) لأنَّ وِلايَةَ النكاحِ حَقٌّ يُستَفادُ بالتَّعصيبِ، فقُدِّمَ فيه الأَخُ مِن الأَبَوَينِ، كالمِيرَاثِ، وكاستِحقَاقِ الميرَاثِ بالوَلاءِ.
فابنُ أَخٍ لأَبَوين، فابنُ أخٍ لأَبٍ، وإن سَفَلا.
(ثمَّ الأقربُ فالأقرَبُ) فعَمٌّ لأَبوَين، فعَمٌّ لأَبٍ، ثمَّ بَنوهُما (كالإرْثِ) أي: تَرتيبُ الوِلايَةِ بَعدَ الإخوَةِ على تَرتيبِ الميرَاثِ بالتَّعصيبِ، فأحقُّهم بالميرَاثِ أحَقُّهم بالوِلايَةِ، فلا يَلِي بَنو أبٍ أعلَى معَ بَني أبٍ أقرَبَ منه، وإن نَزَلت دَرَجتُهُم
(3)
. وأَوْلَى وَلَدِ كُلِّ أَبٍ أقرَبُهم إليه؛ لأنَّ مَبنَى الوِلايَةِ على الشَّفقَةِ والنَّظَرِ، ومَظِنَّتُها القرابَةُ، فأقرَبُهُم أشفَقُهُم.
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ (3254). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1846).
(2)
سقطت: "أليس" من الأصل.
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 132)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 30).
ثمَّ السُّلطَانُ أو نائِبُه فإنْ عُدِمَ الكُلُّ، زوَّجَهَا ذُو سلطَانٍ في مَكانِهَا، فإن تَعذَّرَ، وكَّلَت مَنْ يُزوِّجُهَا.
فلو زوَّجَ الحَاكِمُ،
ولا وِلايَةَ لغَيرِ العَصَبَاتِ، كأخٍ لأُمٍّ، وعَمٍّ لأُمٍّ، وبَنيه، والخَالِ، وأَبي الأُمِّ، ونَحوهِم. نصًا؛ لقولِ عليٍّ: إذا بلَغَ النِّساءُ نَصَّ الحقائِقِ، فالعَصَبَةُ أوْلى، يَعني: إذا أدرَكْنَ. رواه أبو عبيد في "الغريب"
(1)
. ولأنَّ مَن ليسَ مِن عَصَبَتِها شَبيهٌ بالأجنبيِّ منها.
(ثمَّ) عندَ عَدَمِ عَصبَةِ النَّسبِ والوَلاءِ يَلِي نِكاحَ حُرَّةٍ (السُّلطَانُ) وهو الإمامُ الأعظَمُ (أو نائِبُه) قال أحمدُ: والقَاضِي أحبُّ إليَّ مِن الأَميرِ في هذَا.
(فإن عُدِمَ الكُلُّ) أي: عَصَبَةُ النَّسبِ، والوَلاءُ، والسُّلطَانُ ونائِبُهُ، مِن المحلِّ الذي به الحُرَّةُ (زوَّجَهَا ذُو سُلطَانٍ في مَكانِها).
(فإن تعذَّرَ) ذوُ سُلطَانٍ في مَكانِهَا، (وَكَّلَت) عَدلًا في ذلكَ المكانِ (مَنْ يُزوِّجُها) قال أحمدُ في دِهقَانِ قَريَةٍ
(2)
: يُزوِّجُ مَن لا وليَّ لها إذا احتَاطَ لها في الكُفؤ والمَهرِ، إذا لم يَكُن في الرُّستَاقِ
(3)
قاضٍ. لأنَّ اشتِرَاطَ الوليِّ في هذِهِ الحالِ يمنَعُ النكاحَ بالكليَّةِ
(4)
.
(فلو زوَّجَ الحاكِمُ) معَ وُجودِ وَليِّهَا، لم يصحَّ.
(1)
"غريب الحديث"(3/ 456).
(2)
الدِّهقان: رئيس الإقليم. "القاموس المحيط": (دهقن).
(3)
الرُّستاق: معرب، ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم. "المصباح المنير":(الرُّستاق).
(4)
"دقائق أولي النهى"(5/ 133)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 31).
أو الوَليُّ الأبعَدُ بِلَا عُذرٍ للأقرَبِ، لم يَصِحَّ.
ومِنَ العُذرِ: غَيبَةُ الوَليِّ فَوقَ مَسَافَةِ قَصرٍ، أو تُجهَلَ المَسَافَةُ، أو يُجهَلَ مَكانُهُ مَعَ قُربِهِ، أو يَمنَعَ مَنْ بَلَغَتْ تِسْعًا كُفؤًا رَضِيَتهُ.
(أو) زَوَّجَ (الوليُّ الأبعَدُ بِلا عُذرٍ للأقرَبِ) إليها مِنهُ (لم يَصِحَّ) النِّكاحُ، إذ لا وِلايَةَ للحاكِمِ والأبعدِ معَ مَن هُو أحَقُّ مِنهُمَا، أشبَهَا الأجنبيَّ.
(ومِن العُذرِ: غَيبَةُ الوليِّ فوقَ مَسافَةِ قَصْرٍ) لأنَّ ما دُونَ ذلِكَ في حُكمِ الحاضِرِ.
(أو تُجهَلَ المسافَةُ) يعني: أقَريبٌ هو أم بَعيدٌ؟ فزوَّجَ الأبعَدُ، صحَّ.
(أو) كانَ (يجهَل مَكانُه): الأقرَبِ (مَعَ قُربِه) أي: دُونَ مَسافَةِ القَصرِ، فزوَّجَ الأبعدُ، صَحَّ؛ لتعذُّرِ مُراجَعتِه
(1)
.
(أو يَمنَعَ) الوليُّ الأقرَبُ (مَن بَلَغَت تِسعًا كُفؤًا رَضِيَتهُ) ورَغِبَ فِيها بما صَحَّ مَهرًا، ويُفسَّقُ الوليُّ بالعَضْلِ إن تكرَّرَ مِنهُ.
أو لم
(2)
يَكُن الأقرَبُ أهلًا؛ لكونِهِ طِفلًا، أو كافِرًا، أو فاسِقًا، أو عبدًا، زوَّجَ الأبعَدُ؛ لعَدَمِ ثبوتِ الوِلايَةِ للأقرَبِ معَ اتِّصافِهِ
(3)
بما ذُكِرَ، فوجوده كعدمه.
وأمَّا معَ عَضْلِ الأقرَبِ، وغَيبتِه الغَيبَةَ المذكُورَةَ، وتَعذُّرِ مُراجَعَتِه، فلتَعذُّرِ التَّزويجِ مِن جِهَتِه، أشبَهَ ما لو جُنَّ. فإن عَضَلُوا كُلُّهُم، زَوَّجَها الحاكِمُ
(4)
.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 32).
(2)
في الأصل: "ولم".
(3)
في الأصل: "إنفاقِهِ".
(4)
"دقائق أولي النهى"(5/ 136).
فَصْلٌ
وَوَكِيلُ الوَليِّ يقُومُ مَقَامَهُ، ولَه أن يُوَكِّلَ بِدُونِ إذنِهَا، لكِنْ لا بُدَّ مِنْ إذنِ غَيرِ المُجبَرَةِ للوَكِيلِ بعدَ تَوكِيلِهِ.
(فَصلٌ)
(ووَكيلُ الوليِّ) ممَّن تقدَّمَ (يَقومُ مَقامَهُ) غائِبًا وحاضِرًا، مُجبَرًا كان أو غَيرَه؛ لأنَّه عقدُ مُعاوضَةٍ، فجازَ التوكيلُ فيه، كالبَيعِ، وقِياسًا على تَوكيلِ الزَّوجِ؛ لأنَّه روي أنَّه عليه السلام وكَّلَ أبا رَافِعٍ في تَزويجِهِ مَيمونَةَ
(1)
، ووكَّل عمرَو بنَ أُميَّة الضَّمريِّ في تَزويجِه أُمَّ حَبيبَةَ
(2)
.
(وله) أي: الوليِّ غَيرِ المُجبِرِ (بِدُونِ إذنِها) أي: مَولِيَّتِه؛ لأنَّه إذنٌ مِن الوليِّ في التَّزويجِ، فلا يَفتَقِرُ إلى إذنِ المرأَةِ ولا الإشهادِ عَليه، كإذنِ الحاكِم، ولأنَّ الوليَّ ليسَ وَكيلًا للمرأَةِ، بدَليل أنها
(3)
لا تَملِكُ عَزلَه مِن الوِلايَةِ.
(لكِنْ لا بُدَّ مِن إذنِ غَيرِ المجبَرَةِ للوَكيلِ) لأنَّه نائِبٌ عن غَيرِ مُجبِرٍ، فيَثبُتُ لهُ ما يَثبُتُ لمَن يَنوبُ عنه (بعدَ تَوكِيلِهِ) لأنَّ الذي يُعتَبرُ إذنُها فِيه للوَكيلِ هو غَيرُ ما يُوكِّلُ فيه الموكَّلُ، فهي كالموكِّلِ في ذلك. ولا أثَرَ لإذنِها له قَبلَ أن يُوكِّلَه الوليُّ؛ لأنَّه أجنبيٌّ إذَنْ. وأمَّا بعدَهُ فكَوليٍّ
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي (841)، والنسائي في "الكبرى"(5402). وضعفه الألباني.
(2)
أخرجه الحاكم (4/ 22)، والبيهقي (7/ 139). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1850).
(3)
سقطت: "أنها" من الأصل.
(4)
في الأصل: "فولي".
ويُشتَرَطُ في وَكِيلِ الوليِّ ما يُشتَرطُ فِيهِ.
ويَصِحُّ توكيل الفَاسِقِ فِي القَبولِ.
ويَصِحُّ التَّوكِيل مطلَقًا، كـ: زَوِّجْ مَنْ شِئتَ، ويَتَقيَّدُ بالكُفؤ. ومقَيَّدًا، كـ: زوِّجّْ زَيدًا.
(ويُشتَرطُ في وَكيلِ الوَليِّ
(1)
ما يُشتَرطُ فِيه) أي: الوليِّ، مِن ذُكورَةٍ، وبلوغٍ، وعقلٍ، وعدالةٍ، ورُشدٍ، وغيرِها؛ لأنَّها وِلايَةٌ، فلا يَصحُّ أن يُباشِرَها غيرُ أهلِها، ولأنَّه إذا لم يَملِك تَزويجَ مَولِيَّتِه أصالَةً، فلأَن لا يَملِكُ تزويجَ مَوليَّةِ غَيرِه بالتَّوكيلِ أَولى.
(ويَصحُّ توكيلُ الفاسِقِ) ونحوِه، كيَهوديٍّ وكَّلَهُ مُسلِمٌ في قَبولِ نِكاحِ يَهوديَّةٍ له (في القَبول) أي: في قَبولِ النكاحِ؛ لأنَّه يَصحُّ قَبولُه لنَفسِه.
(ويَصحُّ التوكيلُ مُطلقًا، كـ: زوِّجْ مَنْ شِئتَ) نصًا. ورُوي أنَّ رَجُلًا مِن العَربِ تَركَ ابنتَه عندَ عمرَ، وقال: إذا وَجدْتَ كُفؤًا فزوِّجْه، ولو بِشِرَاكِ نَعلِه، فزوَّجَها غثمانَ بنَ عفَّان، فهي أُمُّ عَمرِو بنِ عُثمان
(2)
. واشتهرَ ذلِكَ ولم يُنكَر، ولأنَّه إذنٌ في النِّكاحِ، فجَازَ مُطلَقًا، كإذنِ المرأَةِ لوليِّها.
(ويَتقيَّدُ) الوَكيلُ المطلَقُ (بالكُفؤ) ظاهِرُهُ: وإن لم يُشتَرَط. وقالَ في "الترغيب": إن اشتُرِطَ. واقتَصرَ عليه في "المبدع" وغيرِه. ولعلَّ ما ذَكَرَ المصنفُ أوْلى؛ لأنَّ الإطلاقَ يُحمَلُ على ما لا نقيصةَ فيه.
(و) يَصحُّ (مُقيَّدًا، كـ: زَوِّج زَيدًا) أو زَوِّج هذا، فلا يُزوِّج غَيرَهُ.
(1)
سقطت: "الولي" من الأصل.
(2)
أخرجه ابن شبة في "أخبار المدينة"(3/ 983).
ويُشتَرَطُ قَولُ الوَليِّ أو وَكيلِهِ: زَوَّجتُ فَلانَةً فُلانًا، أو لِفُلانٍ، وقَولُ وَكيلِ الزَّوجِ: قَبِلتُهُ لِمُوكِّلِي فلانٍ، أو لِفُلانٍ.
وَوَصِيُّ الوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ بِمَنزِلَتِهِ، فيُجبِرُ مَنْ يُجبِرُهُ، مِنْ ذَكَرِ وأَنثى. وإن استَوَى وليَّانِ فأكثَرُ فِي دَرَجَةٍ، صَحَّ التَّزويجُ مِنْ كُلِّ واحِدٍ،
(ويُشتَرَطُ قَولُ الوليِّ) لوَكيلِ زَوجٍ (أو) قَولُ (وَكيلِه) أي: الوَليِّ لوَكيلِ زَوجٍ: (زَوَّجتُ فُلانَةً) بِنتَ فُلانٍ (فُلانًا) ويَصِفُه بما يتميَّزُ به (أو): زوَّجتُ فُلانَةً بنتَ فُلانٍ (لِفُلانٍ) ابنِ فُلانٍ. أو يَقولُ وَليٌّ أو وَكيلُه: زوَّجتُ مُوكِّلَكَ فُلانًا فُلانَةً بِنتَ فُلانٍ. ولا يَقولُ: زَوَّجتُكَهَا، ونحوَه
(1)
.
(و) يُشتَرَطُ (قَولُ وكيلِ الزَّوجِ: قَبِلتُه) أي: النِّكاحَ (لموكِّلي فُلانٍ، أو) قَبِلتُهُ (لفُلانٍ).
(ووَصيُّ الوليِّ) كأَبٍ وغَيرِه مِن الأولياءِ (في النِّكاحِ بمَنزِلَتِه) أي: الموصى؛ لقِيامِه مَقامَهُ (فيُجبِرُ) وَصيٌّ (مَن يُجبِرُهُ) مُوصٍ لو كانَ حيًا (مِن ذَكَرٍ وأُنثى)؛ لقِيامِه مقامَه، سواءٌ عيَّن لهُ الزَّوجُ أو لا؛ لأنَّ مَن مَلكَ التَّزويجَ، إذا عُيِّنَ لهُ الزَّوجُ، مَلَكَهُ مع الإطلاق.
ولا خِيارَ -لمَن زوَّجَه وصيٌّ صَغيرًا من ذكر وأنثى- بِبُلُوغٍ، لقِيامِ الوصيِّ مَقامَ الموصِي، فلم يَثبُت في تَزويجِه خِيارٌ، كالوكيل
(2)
.
(وإن استَوَى وليَّانِ فأكثَرُ) لامرَأَةٍ (في دَرَجَةٍ) كإخوَةٍ كلُّهم لأبوَين، أو لأبٍ، أو بَني إخوَةٍ كذلك، أو أعمامٍ، أو بَنيهِم كذلك (صَحَّ التزويجُ مِن كُلِّ واحِدٍ)
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 140)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 35).
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 140)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 36).
إنْ أذِنَتْ لَهُمْ، فَإِنْ أذنت لأَحَدِهِمْ تَعَيَّن، ولَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ غَيْرِه.
ومَنْ زوَّجَ -بِحَضْرَةِ شاهِدَيْنِ- عَبدَه الصَّغِيرَ بأَمَتِهِ، أو زوَّجَ ابْنَه بنَحْوِ بِنْتِ أخِيهِ،
مِنهُم؛ لوجُوبِ سَبَبِ الوِلايَةِ في كُلٍّ مِنهُم.
والأَولى تَقديمُ أفضَلِ المُستَويَينِ في الدَّرجَةِ عِلمًا ودِينًا ليُزوِّجَ. فإن استووا في الفَضلِ، فأَسنَّ؛ لأنَّه عليه السلام لمَّا تقدَّم إليه مُحيِّصَةُ وحُوَيِّصَةُ وعُبدُ الرحمن بنُ سَهلٍ -وكان أصغرَهم- فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"كبِّرْ، كَبِّرْ" أي: قَدِّم الأكبَرَ. فتقدَّم حُويِّصَةُ
(1)
. ولأنَّه أحوَطُ للعَقدِ في اجتِماعِ شرُوطِه، والنَّظَرِ في الحَظِّ.
وإن تَشَاحُّوا -الأولياءُ المستَوُونَ في الدَّرجَةِ- فطلَبَ كُلٌّ مِنهُم أن يُزوِّجَ، أُقرِعَ بَينَهُم؛ لتَساوِيهِم في الحقِّ، وتَعذُّرِ الجَمعِ بَينَهم. فإن سَبَقَ غَيرُ مَن قَرَعَ (إن أذِنَت لهم) أي: لكُلِّ واحِدٍ مِنهُم، صحَّ التزويجُ، لصُدُورِه من وَليٍّ كامِلِ الوِلايَةِ بإذنِ مَوليَّتِه، أشبَهَ ما لو انفَرَد بالوِلايَةِ. (فإنْ أَذِنَت لأَحَدِهم) أي: لوَاحِدٍ مِنهُم (تعيَّنَ) مَن أَذِنَت له، فيُزوِّجُها دونَ غَيرِه، إن لم يَكونُوا مُجبِرِين، كأَوصياءِ بِكْرٍ جَعَلَ أبوهَا لِكُلٍّ مِنهُم أن يَنفَرِدَ به، فأيُّهم عقَدَ، صَحَّ. ومَن أُلحِقَت بأكثَرَ مِن أبٍ، لم يَصحَّ تَزويجِهَا إلَّا مِنهُم، كالأَمَةِ المُشتَرَكَةِ.
(ولم يَصِحَّ نِكاحُ غَيرِه) أي: غَيرِ مَن أَذِنَت لهُ.
(ومَن زَوَّجَ -بحَضرَةِ شاهِدَينِ- عبدَهُ الصغيرَ بأمَتِه) صَغيرَةً كانَت أو كبيرَةً، صحَّ أن يتولَّى طَرَفي العَقدِ، بلا نزاع، ولأنَّه عقدٌ بحُكمِ المِلكِ لا بحُكمِ الإذن.
(أو زوَّجَ) شخصٌ (ابنَهُ) الصغيرَ، أو المجنونَ، أو السَّفيهَ (بنَحوِ بِنتِ أَخيه)
(1)
أخرجه البخاري (3173)، ومسلم (1669) من حديث سهل بن أبي حثمة.
أو وَكَّل الزَّوْجُ الوَلِيَّ أو عَكْسَه، أو وكَّلا واحِدًا صَحَّ أن يَتَوَلَّى طرفَيِ العَقْدِ، ويكفِي: زوَّجْتُ فلانًا فلانةً، أو: تَزوَّجتُها إنْ كانَ هو الزَّوْجُ.
صَحَّ أن يتولى طَرَفي العَقدِ.
(أو وَكَّلَ الزَّوجُ الوَليَّ) في قَبولِ نِكاحِ مَخطُوبَتِه، صحَّ أن يتولَّى طَرَفَي العَقدِ".
(أو عَكسُه) بأن وكَّلَ الوليُّ الزَّوجَ في إيجابِ النكاحِ لنَفسِه، فيجوزُ للزَّوج أن يتولَّى طَرَفَي العَقدِ.
(أو وكَّلا) أي: الزَّوجُ والوليُّ رَجُلًا (واحِدًا) بأنْ وكَّله الوليُّ في الإيجابِ، والزَّوجُ في القَبولِ. فلَهُ أن يتولَّى طَرَفَي العَقدِ لهما، و (صح) النكاح، و (أن يتولَّى طَرَفي العَقدِ) أي: عَقدِ النكاح في نحوِ ما تقدَّم من الصور. قال الشارحُ: ونَحوَ النِّكاحِ مِن العُقودِ، كما لو وكَّلَ البائعُ والمشتَري واحِدًا، أو المؤجِّرُ والمستأجِرُ واحِدًا، فإنه يصحُّ أن يتولَّى طَرَفي العَقد
(1)
.
(و) لا يُشتَرَطُ في تولِّي طَرَفي العَقدِ الجمعُ بينَ الإيجابِ والقَبولِ، بل (يَكفِي: زوَّجتُ فُلانًا) ويَنسِبُهُ بما يتميَّزُ به، وإن لم يَقُل: وقَبِلتُ له نِكاحَها. (فلانَةَ) بِنتَ فُلانٍ. (أو) يَقولُ (تَزوَّجتُها) أي: فلانَةَ بِنتَ فُلانٍ (إن كانَ هو الزَّوجُ) وإنْ لم يَقُل: وقَبِلتُ نِكاحَها لنَفسِي. أو كانَ وَكيله، أي: الزَّوجِ، فيقولُ: تزوَّجتُها لمُوكِّلِي فُلانٍ، أو لِفلانِ بنِ فلانٍ، وإن لم يَقُل: وقَبِلتُ لهُ نِكاحَها.
إلا بِنتَ عَمِّه، وعَتيقَتَه المجنونَتَين إذا أرادَ تَزوُّجَهُما
(2)
، فلا يتولَّى طَرَفي
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 38).
(2)
في الأصل: "تَزويجَهُما".
ومَن قالَ لأَمَتِه: أعْتَقْتُكِ وجَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَك؛ عَتَقَتْ، وصارَتْ زَوْجةً لَهُ، إن توفَّرَتْ شُرُوطُ النِّكَاحِ.
الرَّابِعُ: الشَّهادةُ فلا يَنْعَقِدُ إلَّا بشَهَادةِ ذَكَرَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ -ولَوْ رَقِيقيْنِ-
عقدِهِما. فيُشتَرَطُ لتزوُّجِهِ بهما وَليٌ غَيرُه إن كانَ، أو حَاكِمٌ إن لم يَكُن غَيرُه؛ لأنَّ الوليَّ اعتُبِرَ للنَّظَرِ للمَوليِّ عليه، والاحتياطِ لهُ، فلا يجوزُ له التصرُّفُ فيما هو مُولّى عليه؛ لمكانِ التُّهمَةِ، كالوَكيلِ في البيعِ لا يَبيعُ لنَفسِه، فيُزوِّجُه وَليٌّ غَيرُه، ولو أبعَدَ مِنهُ، إن وُجِدَ، وإلا فالحاكِمُ؛ لتنتَفِيَ التُّهمَةُ.
(ومَن قالَ لأَمَتِه) التي يَحلُّ له نِكاحُهَا إذًا، أي: وقتَ القَول: (أعتَقتُكِ وجَعَلتُ عِتقَكِ صَدَاقَكِ) أو قالَ: جعلتُ صَداقَ أَمَتي عِتقَهَا، أو قال: قد أعتَقتُهَا وجَعلت عِتقَها صَدَاقَها، أو قال: أعتَقتُها على أنَّ عِتقَها صَدَاقُها، أو قال: أعتَقتُكِ على أن أتزوَّجَكِ، وعِتقِي صَدَاقُكِ، أو: وعِتقُكِ صَدَاقًا. صحَّ، و (عَتَقَت، وصارَت زَوجَةً له، إن توفَّرَت شُروطُ النِّكاحِ) وتقدَّمَ الإشارةُ إليه.
(الرابع) من شروطِ النِّكاح: (الشهادةُ) على النكاحِ؛ احتياطًا
(1)
للنَّسَبِ خَوفَ الإنكَارِ؛ لحديث عائشةَ مَرفوعًا: "لا بُدَّ في النِّكاحِ مِن حُضُورِ أربعَةٍ: الوليُّ، والزَّوجُ، والشَّاهِدَان". رواهُ الدارقطني
(2)
.
(فلا يَنعَقِدُ النكاحُ إلَّا بشهادَةِ ذَكلرَينِ مُكلَّفَين) أي: عاقِلَين بالِغَين، (ولو) كانَا (رَقيقَين) كسائِرِ الشَّهادَاتِ.
(1)
"الرابع من شروط النكاح: الشهادةُ على النكاح؛ احتياطًا" ليست في الأصل، اقتضى السيلق إضافتها. وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 148).
(2)
أخرجه الدارقطني (3/ 224). وضعفه الألباني في "الإرواء"(1859).
مُتَكَلِّميْنِ، سَمِيعيْنِ، مُسْلِمَيْنِ، عَدْلَيْنِ -ولو ظاهرًا- مِنْ غَئرِ أصْلَيِ الزوجيْنِ وفَزعَيْهِمَا.
(متكلِّمَين) لأنَّ الأخرسَ لا يتمكَّنُ مِن أداءِ الشَّهادَةِ.
(سَميعَينِ) لأنَّ الأَصمَّ لا يَسمَعُ العقدَ فيشهدُ به.
(مُسلِمَين) لقوله عليه السلام: "لا نِكاحَ إلَّا بِوليٍّ، وشاهِدَي عَدْلٍ"
(1)
. رواه الخلال.
(عَدلَين) للخَبَر، (ولو ظاهِرًا) فلو بَانَا فَاسِقَيْنِ، فالعقدُ صحيحٌ، ولا يُنقَضُ. وكذا بانَ الوقي فاسِقًا؛ لأن شرطَ العدالَةِ ظاهِرًا، وهو أن لا يَكونَ ظاهِرَ الفِسقِ، وقد تحقَّق ذلِكَ.
ولو تابَ الشاهِدُ في مَجلِسِ
(2)
العَقدِ، فكَمستُورِ العَدالَةِ. قاله في "الترغيب"، فيكفي.
وكذا لو تابَ الوليُّ في المجلِس. قال الشيخ منصور في "شرحه" على "الإقناع" قُلتُ: بل يُكتَفَى بذلِكَ حيثُ اعتُبِرت العَدالَةُ مُطلَقًا؛ لأنَّ إصلاحَ العَمَلِ ليسَ شَرطًا فيها، كما يأتي
(3)
.
(مِن غَيرِ أَصلَيِّ الزَّوجَينِ وفَرعَيهِمَا) فلا تصحُّ شهادةُ أَبي الزَّوجَةِ أو جَدِّها، ولا ابنِها وابنِه فيه، وكذا أبو الزَّوجِ، وجَدُّه، وابنُه، وابنُ ابنِه وإن نزَل؛ للتُّهمَةِ، وكذا أبو الوليِّ، وابنُه.
(1)
تقدم تخريجه (3/ 227).
(2)
في الأصل: "المجلس".
(3)
"كشاف القناع"(11/ 305).
الخامِسُ: خُلُوُّ الزَّوْجيْنِ مِن الموانِعِ؛ بأنْ لا يَكونَ بِهِمَا، أو بأحدِهِمَا مَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ مِن نَسَبٍ أو سَبَبٍ.
والكَفَاءةُ لَيْسَتْ شرطًا لصِحَّةِ النِّكاحِ،
ولا يُشتَرَطُ كونُ الشاهدِيَن بَصيرَين.
ولو أقرَّ رَجلٌ وامرأةٌ أنهما نَكَحَا بوليٍّ وشاهِدَي عَدلٍ، قُبِلَ مِنهُما، وثَبَتَ النِّكاحُ بإقرَارِهِمَا.
(الخامِسُ) مِن شُروطِ النِّكاحِ: (خُلوُّ الزَّوجَين مِن الموانِعِ) الآتيَةِ في بابِ المحرَّماتِ (بأنْ لا يكونَ بهما) أي: بالزَّوجَينِ (أو بأحَدِهِما
(1)
ما يمنَعُ التزويجَ، مِن نَسَبٍ، أو سَبَبٍ) كرَضَاعٍ ومُصاهَرَةٍ، أو اختلافِ دِينٍ؛ بأنْ يَكونَ مُسلِمًا وهي مَجوسيَّةً، ونحوِهَ مما يأتي، أو كَونُها في عِدَّةٍ، ونحوِ ذلك
(2)
.
(والكفاءَةُ ليسَت شَرطًا لصحَّةِ النِّكاحِ) بل شَرطٌ للزُومِ النِّكاحِ، فيصحُّ النكاحُ معَ فَقدِ الكفاءَةِ. هذا المذهبُ عندَ أكثَرِ المتأخِّرين. قال في "المقنع" "والشرح": وهي أصحُّ، وهذا قَولُ أكثَرِ أهلِ العِلمِ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أمرَ فاطِمَةَ بِنتَ قَيسٍ أن تَنكِحَ أُسامَةَ بنَ زَيدٍ، فنَكِحَهَا بأَمرِه. متفق عليه
(3)
. ولِمَا رَوت عائشةُ أنَّ أبا حُذيفَةَ بنَ عُتبَةَ بنَ ربيعَةَ تبنَّى سالمًا
(4)
وأنكَحَهُ ابنَةَ أَخيهِ الوَليدِ بِن عُتبَةَ، وهو مَولًى لامرأةٍ مِن الأنصَارِ. رواه البخاري، والنسائي، وأبو داود
(5)
. ولأنَّ الكفَاءَةَ
(1)
سقطت: "أو بأحدهما" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(11/ 305)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 42).
(3)
أخرجه مسلم (1480). ولم أجده عند البخاري.
(4)
سقطت: "سالمًا" من الأصل.
(5)
أخرجه البخاري (4000)، والنسائي (3223)، وأبو داود (2061).
لكِنْ لِمَن زُوِّجَتْ بغَيْرِ كفْؤٍ أن تَفْسَخَ نِكاحَهَا -ولو مُتَراخِيًا- ما لَمْ تَرْضَ بقَوْلٍ أوْ فِعْلٍ، وكذا لأَوْلِيائِهَا ولو رَضِيَتْ، أو رَضِيَ بعْضُهُم، فلِمَنْ لَمْ يَرْضَ الفَسْخُ.
حقُّ لا يَخرُجُ عن المرأَةِ وأوليائِها، فإذا رَضُوا به، صحَّ؛ لأنَّه إسقاطٌ لحقِّهم، ولا حِجْرَ فيه عَليهِم.
(لكِنْ لمَن زُوِّجَت) امرَأة (بغَيرِ كُفؤ أن تَفسَخَ نِكاحَهَا) لمَن لم يَرضَ بالنِّكاحِ مِن المرأةِ والأولياءِ جَميعِهم، القَريبِ والبَعيدِ، حتى مَن يَحدُثُ مِنهُم بعدَ العقدِ؛ لتَساويهم في لُحُوقِ العَارِ بفَقدِ الكفَاءَةِ. (ولو) كان (مُترَاخيًا) أو فَورًا؛ لأول خِيارٌ لِنَقصٍ في المعقُودِ عليه، أشبَهَ خِيارَ العَيبِ، (ما لم تَرض) أي: الزَّوجَةُ (بقَولٍ أو فِعلٍ) كأنْ مَكَّنَته عالمَةً بأنَّه غَيرُ كُفؤ.
ويحرُمُ تَزويجُ امرأةٍ بِغَيرِ كُفؤ بلا رِضَاها، ويَفسُقُ به الوليُّ.
(وكذا لأولِيَائِها) الفسخُ لمَن لم يَرضَ بالنِّكاحِ منهم، فَورًا أو مُترَاخيًا.
فلو زَوَّجَ الأبُ بِنتَهُ بغَيرِ كُفؤ بِرَضاها، فلِلإخوَةِ الفَسخُ، نصًا؛ لأنَّ العارَ في تَزويجِ مَن ليسَ بِكُفؤ عَليهم أجمعين
(1)
.
(ولو رَضِيَت) المرأةُ (أو رَضِيَ بَعضُهُم) أي: بَعضُ الأَولياءِ، فلا يَثبتُ رضاهُم إلَّا بالقَولِ، بأنْ يَقولُوا: أسقَطْنَا الكفَاءَةَ، أو: رَضِينَا به غَيرَ كُفؤ، ونحوِه. وأمَّا سُكُوتُهم، فليسَ رِضًا
(2)
. (فلِمَن لم يَرض) مِن الأَولِياءِ (الفَسخُ) فَورًا أو مُتَرَاخِيًا.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 43).
(2)
"كشاف القناع"(11/ 311)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 44).
ولَوْ زَالَتِ الكفاءَةُ بَعْدَ العَقْدِ، فلَهَا فَقَطْ الفَسْخُ.
والكَفَاءةُ مُعْتَبَرة في خَمْسةِ أشياءٍ: الدِّيانةِ، والصِّناعَةِ،
(ولو زالَت الكفَاءَةُ بعدَ العَقدِ، فلَها) أي: الزَّوجَةِ (فقَط) دُونَ أولِيائِها، كعِتقِها تحتَ عَبدٍ، ولأنَّ حقَّ الأولياءِ في ابتِدَاءِ العَقدِ لا في استِدَامَتِه (الفَسخُ) فَورًا، أو مُتَرَاخيًا.
(والكَفاءَةُ) لُغَةً: المُماثَلَةُ والمساوَاةُ، ومِنهُ قُولُه صلى الله عليه وسلم:"المسلِمُونَ تَتكافأُ دِماؤُهُم"
(1)
أي: تتَسَاوَى. فَدَمُ الوَضيعِ مِنهُم، كدَمِ الرَّفيعِ.
وهي هُنا (معتبرة
(2)
في خَمسَةِ أشيَاءٍ:
أوَّلُها: (الدِّيانَةُ) فلا تُزَوَّجُ عَفيفَةٌ عن الزِّنى بِفاجِرٍ، أي: فاسِقٍ بقَولٍ أو فِعلٍ أو اعتِقَادٍ؛ لأنَّه مَردُودُ الشَّهادَةِ والرِّوَايَةِ، وذلِكَ نَقصٌ في إنسَانِيَّتِه، فلَيس كُفُؤًا لعَدلٍ؛ لقوله تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السَّجدَة: 18].
(و) الثاني: (الصِّنَاعَة) فلا يَكونُ صاحِبَ صِناعَةٍ دَنيئَةٍ، كالحجَّامِ، والحائِكِ، والكسَّاحِ
(3)
، والزبَّالِ. فلا تُزوَّجُ بِنتُ بزَّازٍ -أي: تاجِرٍ في البَزِّ، وهو القُماشُ- بحجَّامٍ؛ لأنَّ ذلِكَ نقصٌ في عُرفِ النَّاسِ، وفي حديثٍ:"العَرَبُ بَعضُهُم لبَعضٍ أكفَاءٌ، إلا حائِكًا، أو حجَّامًا"
(4)
قيل لأحمَدَ: وكيفَ تأخُذُ به
(1)
أخرجه أبو داود (2751) من حديث عبد الله بن عمرو، وابن ماجه (2683) من حديث ابن عباس، والنسائي (4746) من حديث علي. وانظر "الإرواء"(2208).
(2)
سقطت: "معتبرة" من الأصل.
(3)
الكسح: الكنس. والكساح، بفتح الكاف وتشديد السين من: كسح الكنيف، إذا نزحه وأخرج ما فيه. "معجم لغة الفقهاء"(1/ 381)، وانظر "لسان العرب"(كسح).
(4)
أخرجه البيهقي (7/ 134) من حديث ابن عمر. قال الألباني في "الإرواء"(1869): موضوع.
والميسرةِ، والحُرِّيَّةِ، والنَّسَبِ.
وأنتَ تُضعِّفُه؟ قال: العَملُ عليه، أي: أنَّه يُوافِقُ العُرف
(1)
.
(و) الثالثُ: (الميسَرَة) فلا تُزوَّجُ مُوسِرَةٌ بمُعسرٍ؛ لأنَّ عَليها ضَرَرًا في إعسَارِهِ؛ لإخلالِهِ بنَفَقَتِها ومؤنَةِ أولادِه، ولهذا مَلَكَت الفَسخَ بإعسارِهِ بالنَّفقَةِ، ولأنَّ العُسرَةَ نقصٌ في عُرفِ النَّاسِ، يتفاضَلُونَ بها
(2)
كتَفاضُلِهم في النَّسَبِ.
وإنَّما اعتُبِرَت الكفاءَةُ في الرَّجُلِ دُونَ المرأةِ؛ لأنَّ الولدَ يَشرُفُ بشَرَفِ أبيهِ لا أُمِّه، وقد تزوَّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصفيَّةَ بنتِ حُييِّ، وتَسرَّى بالإماءِ، ومَوالي بَني هاشِمٍ لا يُشارِكُونَهم في الكفَاءَةِ في النِّكاحِ. نصًا. وصحَّحه في "الإنصاف". ونَقل مُهنَّا: أنَّهم كُفُؤٌ لهم
(3)
.
(و) الرابعُ: (الحريَّة) فلا تُزوَّجُ حُرَّةٌ، ولو عَتيقَةً، بعَبدٍ، ولا بمبعَّضٍ. قاله الزركَشي؛ لأنَّه مَنقوصٌ بالرِّقِّ، ممنوعٌ من التصرُّفِ في كَسبِه غَيرُ مالِكٍ له، ولأنَّ مِلكَ السَّيدِ لهُ يُشبِهُ مِلكَ البَهيمَةِ، فلا يُساوِي الحرَّةَ لِذَلك.
(و) الخامِس: (النَّسب) فلا تُزوَّجُ عربيَّةٌ من ولَدِ إسماعيلَ بِعَجَميٍّ، ولا بِوَلَدِ زنى، لقولِ عُمرَ: لأمنعنَّ تزوُّجَ ذَواتِ الأحسَابِ إلَّا مِن الأكفَاءِ. رواه الدارقطني
(4)
. ولأنَّ العَرَب يَعتَدُّونَ بالكفَاءَةِ في النَّسَبِ، ويأنَفُونَ مِن نِكاحِ الموالي، ويَرونَ ذلِكَ نَقصًا وعارًا. والعَرَبُ مِن قُريشٍ وغَيرِهم لِبَعضٍ أكفَاءٌ، وسائِرُ
(1)
في الأصل: "العرب".
(2)
في الأصل: "فيه".
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 154).
(4)
أخرجه الدارقطني (3/ 298).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النَّاسِ بَعضُهم لبَعضٍ أكفَاءٌ. قاله في "الإقناع"
(1)
.
وقد نَظَمَ بعضُهم شُروطَ الكَفاءَةِ فقَال:
شُروطُ الكَفاءَةِ سِتَّةٌ قد قرِّرَت
…
يُنبئكَ عنَها بَيتُ شِعرٍ مُفرَدِ
نَسَبٌ ودِينٌ عِفَّةٌ حُريَّةٌ
…
فَقدُ العُيوبِ وفي اليَسَارِ تَردُّدِ
وأبناءُ زمَانِنَا تَرَكوا الخمسَةَ المتَّفَقَ عَليها، وتَبِعُوا السادِسَ المتردَّدَ فيه، وقد نظم بعضهم أيضا فقال:
قالُوا الكفَاءَةُ سِتَّةٌ فأَجَبتُهُم
…
قد كانَ ذلِكَ في الزَّمَانِ الأقدَمِ
أمَّا بَنوا هذا الزَّمانِ فإنَّهم
…
لا يَعرِفُونَ سِوَى يَسارِ الدِّرهَمِ
(2)
* * *
(1)
"الإقناع"(3/ 334).
(2)
انظر " فتح وهاب المآرب"(3/ 45).
بَابُ المُحَرَّماتِ في النَّكاحِ
تَحْرُمُ أبَدًا: الأُمُّ، والجَدَّةُ مِن كُلِّ جِهَةٍ، والبِنْتُ ولَوْ مِنْ زِنًى، وبنْتُ الوَلَدِ،
(بابُ المحرَّماتِ في النِّكاحِ)
شَرَعَ المصنِّفُ في بَيانِ مَوانِعِ النكاحِ، وهُنَّ ضَربان:
ضربٌ يحرُمُ على الأَبَدِ، وهُنَّ أقسامٌ خمسَةٌ:
قِسمٌ يَحرُمنَ بالنَّسَبِ، وهُنَّ سَبعٌ. وقد ذكَرَهم المصنِّفُ بقَوله:
(تحرُمُ أبَدًا: الأُمُّ، والجدَّةُ مِن كُلِّ جِهَةٍ) أي: سَواءٌ كانَت من جهةِ الأبِ، أو الأُمِّ، وإنْ عَلَت؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّساء: 23] والأُمُّ: كُلُّ مَن انتَسَبْتَ إليها بوِلادَةٍ، سواءٌ وقَعَ عليها اسمُ الأُمِّ حَقيقَةً، وهي التي وَلَدَتكَ، أو مجازًا، وهي التي وَلَدَتْ مَن ولَدَتْكَ وإن عَلَت، وارِثَةً كانت أو غَيرَ وارِثَةٍ. ذَكَرَ أبو هُريرَةَ هاجَرَ أُمَّ إسماعيلَ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"تلكَ أُمُّكُم يا بَني مَاءِ السَّماءِ"
(1)
. وفي الدُّعاءِ المأثُورِ: "الَّلهمَّ صلِّ على أَبينَا آدَمَ وأُمِّنَا حَوَّاءَ"
(2)
.
(والبِنتُ) مِن زَوجَةٍ أو سُرِّيَةٍ، (ولو مِن زِنًى) أو مِن شُبهَةٍ، أو مَنفيَّةً بِلِعَانٍ.
(و) تَحرُمُ (بِنتُ الوَلَدِ) وإن سَفَلَ، وارِثَاتٍ كُنَّ أو غَيرَ وَارِثَاتٍ؛ لقَوله تعالى:{وَبَنَاتُكُمْ} [النِّساء: 23].
(1)
لم أجده مرفوعًا، وقد أخرجه البخاري (3358)، ومسلم (2371، 154) موقوفًا على أبي هريرة. وانظر "إرواء الغليل"(1875).
(2)
لم أقف عليه.
والأُخْتُ مِن كلِّ جِهَةٍ، وبِنْتُ وَلَدِهَا، وبِنْتُ كلِّ أَخٍ، وبِنْتُ وَلَدِهَا، والعَمَّةُ، والخَالَةُ.
(والأُختُ مِن كُلِّ جِهَةٍ) أي: مِن الجِهاتِ الثَّلاثِ، (وبِنتُ ولَدِها) أي: ابنِ الأُختِ، ذَكرًا كانَ أو أُنثى، وإن نَزَلَت بِنتُ وَلَدِها مُطلقًا.
(وبِنتُ كُلِّ أَخٍ) شَقيقٍ، أو لأبٍ، أو لأمٍّ. وبِنتُ كُلِّ أُختٍ كذلِكَ، (وبِنتُ ولَدِهَا) وإن نَزَلنَ كُلُّهُنَّ؛ لقوله تعالى:{وَبَنَاتُ الْأَخِ} [النِّساء: 23].
(والعَمَّةُ) مِن كُلِّ جِهَةٍ (والخَالَةُ) مِن كُلِّ جِهَةٍ، وإن عَلَتَا، كعمَّةِ أَبيهِ، وعمَّةِ أُمِّه، وعَمَّةِ العَمِّ لأبٍ؛ لأنَّها عَمَّةُ أَبيهِ.
ولا تَحرُمُ عَمَّةُ العَمِّ لأُمِّ؛ بأنْ يَكونَ للعَمِّ -أَخي أَبيهِ لأُمِّهِ- عَمَّةٌ، فلا تحرُمُ على ابنِ أَخيهِ؛ لأنَّها أجنَبيَّةٌ مِنهُ.
وكَعمَّةِ الخَالَةِ لأبٍ، فتَحرُمُ؛ لأنَّها عَمَّةُ الأُمِّ.
ولا تَحرُمُ عَمَّةُ الخالَةِ لأُمِّ؛ لأنَّها أَجنَبيَّةٌ مِنهُ.
فتَحرُمُ كُلُّ نَسيبَةٍ، أي: قَريبَةٍ، سِوَى بِنتِ عَمٍّ، وبِنتِ عَمَّةٍ، وبِنتِ خَالٍ، وبِنتِ خالَةٍ، وإنْ نَزَلْنَ؛ لقَولِه تعالى:{وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب: 50] الآية
(1)
.
القِسمُ الثَّاني مِن المحرَّماتِ عَلى الأَبَدِ: المحرَّماتُ بالرَّضَاعِ، ولو كانَ الإرضَاعُ مُحرَّمًا، كمَن أَكرَهَ امرأةً على إرضَاعِ طِفلٍ، فأرضَعَتهُ، فتحرُمُ عَليه؛ لوجُودِ سببِ التحريمِ، وهو الرَّضاعُ.
ولا يُشتَرَطُ في سَببِ التَّحريمِ كَونُهُ مُباحًا؛ بدليلِ ثُبوتِ تحريمِ المصاهَرةِ بالزِّنى.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 156)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 48).
ويَحْرُمُ بالرَّضاعِ ما يَحْرُمُ بالنَّسَبِ، إلَّا أُمَّ أخِيه، وأُخْتَ ابنِه من الرَّضاعِ،
وكذا لو غَصَبَ لَبنَ امرأةٍ وسَقاهُ طِفلًا سَقيًا مُحرَّمًا.
(ويَحرُمُ بالرَّضَاعِ ما يَحرُمُ بالنَّسَبِ) فَكُلُّ
(1)
امرَأةٍ حَرُمَت بالنَّسَبِ، حَرُمَ مِثلُها من الرَّضاعِ؛ لما رَوى ابنُ عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ أُريدَ على ابنَةِ حَمزَةَ. فقال:"إنها لا تَحِلُّ لِيَ، إنَّها ابنَةُ أَخي مِن الرَّضاعَةِ، فإنَّه يحرُمُ مِن الرَّضاعِ ما يَحرُمُ مِن الرَّحِم" وفي لَفظٍ: "مِن النّسَب". متفق عليه
(2)
. وعن عَليٍّ مَرفُوعًا: "إنَّ اللهَ حرَّمَ مِن الرَّضَاعِ
(3)
ما حَرَّمَ مِن النَّسَبِ". رواه أحمد، والترمذي
(4)
، وصححه.
وضَابِطُ ذلِكَ: أنَّه يَحرُمُ على الشَّخصِ أَصلُهُ وإن عَلا، وفَرعُهُ وإنْ نَزَلَ، وفَرعُ أَصلِهِ الأَدنَى وإن نَزَلَ، وفَرعُ أُصولِه البَعيدِةِ فقط، أي: دُونَ فُروعِ فُروعِ أصولِه البَعيدَةِ
(5)
.
و (لا) تَحرُمُ على رَجُلٍ (أُمُّ أَخيه) مِن رَضاعٍ، (و) لا (أُختُ ابنِهِ مِن الرَّضاعِ) أي: فتَحِلُّ مُرضِعَتُهُ وبِنتُهَا لأَبي مُرتَضِعٍ وأَخيهِ مِن نَسَبٍ، وتَحِلُّ أُمُّ مُرتَضِعٍ، وأُختُه مِن نَسَبٍ لأَبيه وأَخيهِ مِن رَضاعٍ؛ لأنَّهُنَّ في مُقابَلَةِ مَن يَحرُمُ بالمصَاهَرَةِ، لا في مُقابَلَةِ مَن يَحرُمُ مِن النَّسَبِ. والشَّارِعُ إنَّما حرَّم مِن الرَّضاعِ ما حَرمَ مِن النَّسَبِ، لا
(1)
في الأصل: "فلكل".
(2)
أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1447).
(3)
سقطت: "ما يحرم من الرحم وفي لفظ من النسب متفق عليه وعن علي مرفوعًا إن الله حرم من الرضاع" من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهى"(5/ 157).
(4)
أخرجه أحمد (2/ 333)(1096)، والترمذي (1146). وصححه الألباني.
(5)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 49).
فتَحِلُّ كبِنْتِ عَمَّتِه وعَمِّه وبنتِ خالتِه وخالِه.
ويَحْرُمُ أبدًا بالمُصاهَرَةِ أرْبَعٌ: ثلاثٌ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ، زوجةُ أبِيه وإنْ علا، وزَوْجَةُ ابنِه وإنْ سَفَلَ، وأمُّ زوجتِه، فإنْ وَطِئَها حَرُمَتْ علَيْه أيضًا بِنْتُها، وبنتُ ابنِهَا.
وبغَيِرِ العَقْدِ لا حُرْمَةَ إلَّا بالوَطْءِ
ما يَحرُمُ بالمصاهَرَةِ.
(فتَحِلُّ، كَبِنتِ عَمَّتِه) مِن الرَّضاعِ، (و) تَحِلُّ بِنتُ (عَمِّه، و) تَحِلُّ (بِنتُ خَالَتِه) مِن الرَّضاعِ (و) تَحِلُّ بِنتُ (خالِه) مِن الرَّضاعِ.
القِسمُ الثَّالِثُ: المحرَّماتُ بالمصاهَرَةِ:
(ويَحرُمُ أبدًا بالمُصاهَرَةِ أَربَعٌ: ثَلاثٌ بمجرَّدِ العَقدِ):
إحداهن: (زَوجَةُ أَبيهِ وإن عَلا) أي: وزَوجَةُ أجدَادِهِ لأَبيهِ وأُمِّهِ، وإن عَلا الجدُّ، مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ.
(وزَوجَةُ ابنِهِ، وإن سَفَلَ) ولو مِن رَضَاعٍ، مِن بَنيهِ وبَني أولادِه وإن نَزَلُوا، من أولادِ البَنينَ أو البَناتِ، من نَسبٍ أو رَضاعٍ؛ لقولِه تعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النِّساء: 23] معَ ما تقدَّم مِن قَولِه عليه السلام: " يحرمُ مِن الرَّضاعِ ما يحرُمُ من النَّسب".
وحلائِلُهُم: زَوجَاتُهم. سُمِّيَت امرأةُ الرَّجُلِ حليلَةً؛ لأنَّها تَحُلُّ إزَارَ زَوجِها، وهي مُحلَّلَةٌ له.
(وأُمُّ زَوجَتِه، فإنْ وَطِئَها، حَرُمَت عَليه أيضًا بِنتُهَا، وبِنتُ ابنِها. وبِغَيرِ العَقدِ لا حُرمَةَ إلَّا بالوَطءِ) أي: فلا تَحرُمُ الرَّبيبَةُ إلَّا بالوَطءِ، دُونَ العَقدِ والخَلوَةِ
في قُبُلٍ أو دُبُرٍ، إنْ كانَ ابنَ عَشْرٍ في بِنْتٍ تِسْعٍ، وكانَا حَيَّيْنِ.
والمباشرةِ دُونَ الفَرجِ.
وأمَّا الأُمُّ فتَحرُمُ بمجرَّدِ العَقدِ. نصًا؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النِّساء: 23] والمَعقُودُ عَليها مِن نِسائِه، فتدخُلُ أُمُّها في عُمومِ الآيةِ. قال ابنُ عباس: أبْهِمُوا ما أبهَمَ القُرآنُ
(1)
. أي: عَمِّمُوا حُكمَها في كُلِّ حالٍ، ولا تُفَصِّلُوا بينَ المدخُولِ بها وغَيرِها. وعن عَمرو بن شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مَرفُوعًا:"من تزوَّج امرأةً فطلَّقَها قبلَ أن يَدخُلَ بها، فلا بأسَ أن يتزوَّجَ رَبيتتَه، ولا يَحِلُّ لهُ أن يتزوَّجَ أُمَّهَا"
(2)
. رواه أبو حفص.
(في قُبُلٍ أو دُبُرٍ) لأنَّه فرجٌ يتعلَّقُ به التحريمُ إذا وُجِدَ في الزَّوجَةِ والأَمَةِ، فكذَا في الزِّنى. ولأنَّ الوَطءَ يُسمَّى نِكاحًا.
(إنْ كانَ) الوَاطِيُّ (ابنَ عَشرٍ في بِنتِ تِسعِ) فلو أولَجَ ابنٌ دُونَ عَشرِ سِنينَ حشَفَتَهُ في فَرجِ امرَأةٍ، أو أولَجَ ابنُ عَشرٍ فأكثَرَ حَشفَتَهُ في فَرجِ بِنتٍ دُونَ تِسعٍ، لم يُؤثِّر في تَحريمِ المصاهَرَةِ، وكذا تَغييبُ بَعضِ الحَشَفَةِ، والَّلمْسُ، والقُبلَةُ، والمباشَرَةُ دُونَ الفَرجِ، فلا يُؤثِّرُ في تحريمِ المصاهَرَةِ. وجزَمَ به في "الإقناع"
(3)
.
(وكانَا) أي: الوَاطِئُ والموطُوءَةُ (حَيَّينِ) فلو أولَجَ ذَكَرَهُ في فَرجِ مَيِّتَةٍ، أو أدخَلَت امرأةٌ حشَفَةَ مَيِّتٍ في فَرجِها، لم يُؤثِّر في تحريمِ المصاهَرَةِ.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (1/ 234)(937) بنحوه.
(2)
أخرجه الترمذي (1117) بنحوه. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1879).
(3)
"الإقناع"(3/ 337)، وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 160).
ويَحْرُمُ بوَطْءِ الذَّكَرِ ما يَحْرُمُ بوَطْءِ الأُنْثَى.
ولا تَحْرُمُ أمُّ ولا بنتُ زَوْجَةِ أبِيهِ وابنِه.
(ويَحرُمُ بِوَطءِ الذَّكر
(1)
ما يَحرُمُ بِوَطءِ الأُنثَى) فلا يِحِلُّ لِكُلِّ مِن لائِطٍ ومَلُوطٍ بهِ أُمُّ الآخَرِ، ولا بِنتُه؛ لأنَّه وَطْءٌ في فَرجٍ، فنَشَرَ الحُرمَةَ، كوَطءِ المرأة.
وقال في "الشرح": الصحيحُ أنَّ هذا لا يَنشُرُ الحُرمَةَ، فإنَّ هؤلاء غَيرُ مَنصوصٍ عَليهِنَّ في التَّحريمِ، فيَدخُلنَ في عُمُومِ قَولِه تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّساء: 24] ولأنَّهُنَّ غَيرُ مَنصُوصٍ عَليهنَّ، ولا هُنَّ في مَعنَى المنصُوصِ عَليه، فوَجَبَ أن لا يَثبُتَ حُكمُ التَّحريمِ فِيهِنَّ، فإنَّ المنصوصَ عَليهنَّ في هذا حَلائِلُ الأبنَاءِ، ومَن نَكَحَهُنَّ الآبَاءُ، وأمَّهاتُ النِّساءِ، وبَناتُهُنَّ، وليسَ هؤلاءِ مِنهُنَّ، ولا في مَعنَاهُنَّ.
(ولا تَحرُمُ أُمُّ ولا بِنتُ زَوجَةِ أَبيهِ وابنِه) فلا يَحرُمنَ على الَّلائِطِ.
* * *
(1)
في الأصل: "ذكر".
فَصْلٌ
ويَحْرُمُ الجَمْعُ بيْنَ الأُخْتَيْنِ، وبَيْنَ المَرْأَةِ وعَمَّتِها أو خَالَتِها.
فمَنْ تزوَّج نَحْوَ أخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ أو عَقْدَيْنِ معًا، لَمْ يَصِحَّ، فإنْ جُهِلَ، فسَخَهُما حاكِمٌ،
(فَصلٌ)
الضَّربُ الثاني مِن المحرَّماتِ في النِّكاحِ: المُحرَّمَاتُ إلى أَمَدٍ، وهُنَّ نَوعَان: نَوعٌ مِنهُما يَحرُمُ لأَجلِ الجَمعِ:
(ويَحرُمُ الجَمعُ بَينَ الأُختَينِ) مِن نَسَبٍ، أو رَضَاعٍ، حُرَّتَينِ كانَتا أو أَمَتَينِ، أو حُرَّةً وأمَةً، وسَواءٌ قبلَ الدُّخُولِ وبَعدَه؛ لعُمومِ قولِه تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النِّساء: 23].
(و) يَحرُمُ الجَمعُ (بَينَ المَرأَةِ وعَمَّتِها، أو) بَينَ المرأَةِ و (خَالَتِها)، وإنْ عَلَتَا، مِن كُلِّ جِهَةٍ، مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ.
(فمَن تزوَّجَ نحوَ أُختَينِ) أو نَحوَهُمَا، كامرَأَةٍ وعمَّتِها أو خَالَتِها (في عَقدٍ) واحِدٍ، (أو) في (عَقدَينِ مَعًا) في وَقتِ واحِدٍ، (لم يَصِحَّ) أي: العَقدَانِ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ تَصحيحُهُما، ولا مزيَّةَ لأَحَدِهما على الأخرَى، فبَطَلَ فِيهِمَا.
(فإن جُهِلَ) أَسبَقُ العَقدَينِ (فَسَخَهُما) أي: فسَخَهُما (الحاكِمُ) لِبطْلانِ النِّكاحِ في إحدَاهُمَا، وتَحريمِهَا عليه.
وإن أحبَّ أن يُفارِقَ إحدَاهُمَا، ثمَّ يُجدِّدَ عَقدَ الأُخرَى ويُمسِكَها، فلا بأسَ.
ولإحْدَاهُما نِصْفُ مَهْرِهَا بقُرْعَةٍ، وإنْ وقَع العَقْدُ مُرَتَّبًا، صَحَّ الأوَّلُ فَقَطْ.
ومَنْ مَلَكَ أختيْنِ، أو نَحْوَهُمَا، صَحَّ، وله أن يَطَأَ
وسواءٌ فعَل ذلِكَ بقُرعَةٍ أو غيرِها
(1)
.
(ولإحْدَاهُما) أي: إحدَى مَن يَحرَمُ الجمعُ بَينَهُما، إذا عَقَدَ علَيهِما في زَمَنَين، وجُهِلَ أسبَقُهُما، وطَلَّقَهُما، أو فَسَخَ نِكاحَهُما قبلَ الدُّخُولِ، فلَها (نِصفُ مَهرِهَا بقُرعَةٍ) بينَ المرأَتَينِ، فيَأخُذَهُ مَن تخرُجُ لها القُرعَةُ، وله العقدُ على إحداهُما في الحالِ إذَنْ.
وإن أصابَ إحدَاهُما، أُقرِعَ بَينَهُما، فإن خَرَجَت للمُصابَةٍ، فلَها ما سُمِّيَ لها، ولا شَيءَ للأُخرَى. وإن وَقَعَت لغَيرِ المصابَةِ، فلها نِصفُ ما سُمِّي لها، وللمُصابَةِ مَهرُ مِثلِها بما استحلَّ مِن فَرجِها، ولهُ نِكاحُ المصابَةِ في الحالِ، لا الأُخرَى حتى تَنقَضيَ عِدَّةُ المصابَةِ.
وإن أصابَهُما، فلإِحدَاهُما المسمَّى، وللأُخرى مَهرُ المِثلِ يَقتَرِعَانِ عَليهِمَا. ولا يَنكِحُ إحدَاهُما حتَّى تَنقَضِيَ عِدَّةُ الأُخرَى.
(وإن وقَعَ العقدُ مُرتَّبًا، صحَّ) العقدُ (الأوَّلُ فَقط) وبَطَلَ المتأخِّرُ؛ لأنَّ الجمعَ حَصَلَ به.
(ومَن مَلَكَ أُختَين، أو نحوهما
(2)
) كامرَأةٍ وعَمَّتِهَا أو خَالَتِهَا، في عَقدٍ واحِدٍ (صحَّ) العَقدُ. قال في "شرح المقنع"
(3)
: ولا نَعلمُ خِلافًا في ذلك. (ولهُ أن يَطَأَ
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 54).
(2)
في الأصل: "ونحوهما".
(3)
"الشرح الكبير"(20/ 311).
أيَّهُمَا شاءَ، وتَحْرُمُ الأُخْرَى حتى يُحَرِّمَ المَوْطُوءةَ بإخْراجٍ عَنْ مِلْكِه، أو تَزْوِيجٍ بَعْدَ الاسْتِبْرَاءِ.
ومن وطِئَ امرأةً بشبهَة أو زِنًى، حَرُمَ في زَمَنِ عِدَّتِها نِكاحُ أُخْتِها، ووَطْؤُها إنْ كانَتْ زَوْجَةً أَو أَمَةً. وحَرُمَ أن يَزِيدَ على ثلاثٍ غَيْرِها بعَقْدٍ أو وَطْءٍ.
أيَّهُمَا شاءَ) مِنهُما؛ لأنَّ الأُخرَى لم تَصِرْ فِرَاشًا. (وتَحرُمُ) أي: بَوَطءِ إحدَاهُمَا (الأُخرَى) نصًا. ودَواعِي الوَطءِ كالوَطءِ؛ لعُمُومِ قولِه تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النِّساء: 23] فإنَّه يَعمُّ الوَطءَ والعَقدَ جَميعًا، كسائِرِ المذكُورَاتِ في الآيَةِ. يحرُمُ وطؤُهنَّ، والعَقدُ عَليهِنَّ، ولأنَّها امرأةٌ صارَت فِراشًا، فحَرُمَت أُختُها، كالزَّوجَةِ (حتَّى جُرِّمَ الموطُوءَةَ) مِنهُما (بإخرَاجٍ) لها أو بَعضِها (عن مِلكِهِ) ولو بِبَيعٍ للحَاجَةِ إلى التفريقِ، أو هِبَةٍ مَقبوضَةٍ لغَيرِ ولَدِه. (أو تَزويجٍ بَعدَ الاستِبرَاءِ) ليَعلَمَ أنها ليسَت حامِلًا منه.
(ومَن وَطِئَ امرَأةً بشُبهَةْ أو زِنى، حَرُمَ في زَمَنِ عِدَّتِهَا نِكاحُ أُختِها) أو عَمَّتِها، أو خالَتِها.
(و) حَرُمَ عليه (وَطؤُهَا إن كانَت زَوجَةً أو أمَةً له.
(وحَرُمَ) عليهِ (أن يَزيدَ على ثَلاثٍ غَيرِها) أي: الموطُوءَةِ بشُبةٍ أو زِنى (بِعَقدٍ) فإن كانَ معَهُ ثلاثُ زوجَات، لم يحلَّ له نكاحُ رابعةٍ حتى تَنقضيَ عدَّةُ الموطُوءَةِ بشُبهَةٍ أو زِنى.
(أو وَطءٍ) أي: لو كانَت معَهُ أربعُ زَوجاتٍ ووَطِئَ امرأةً بشُبهَةٍ، أو زِنى، لم يَحِلَّ لهُ أن يَطأَ منهُنَّ أكثَرَ مِن ثَلاثٍ حتَّى تَنقَضِيَ عِدَّةُ مَوطُوءَتِه بشُبهَةٍ أو زِنًى؛ لئلا يُجمَع ماؤُهُ في أكثَرَ مِن أربعِ نُسوَةٍ.
ولَيْسَ لِحُرِّ جَمْعُ أكْثَرَ من أرْبَعٍ، ولا لعَبْدٍ جَمْعُ أكْثَرَ مِن ثِنْتَيْنِ، ولِمَن نِصْفُه حُرٌّ فأكْثَرُ، جَمْعُ ثَلاثٍ.
ومَنْ طلَّق واحدةً من نِهايةِ جَمْعِه، حَرُمَ نِكَاحُهُ بَدَلَهَا، حتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وإنْ ماتَتْ فَلا.
(وليسَ لحرٍّ جمعُ أكثَرَ مِن أربَع) زَوجَاتٍ، (ولا لِعَبدٍ جَمعُ أكثرَ مِن ثِنتَين) أي: زَوجَتَين. (ولِمَن نِصفُه حُرٌّ فأكثَرُ، جَمعُ ثَلاث) زَوجاتٍ، ثِنتَينِ بِنِصفِه الحُرِّ، وواحِدَةٍ بِنصفِه الرَّقيقِ. فإن كانَ دُونَ نِصفِهِ حرٌّ، فلَهُ نِكاحُ ثِنتَينِ فقط.
(ومَن طَلَّقَ واحِدَةً مِن نِهايَةِ جَمعِه) كحُرٍّ طلَّقَ واحِدَةً مِن أربَعٍ، أو عَبدٍ طَلَّقَ
(1)
واحدَةً مِن ثِنتَينِ (حَرُمَ) عَليه (نِكاحُهُ بَدَلَها، حتى تَنقَضِيَ عِدَّتُها) نَصًا؛ لأنَّ المعتدَّةَ في حُكمِ الزَّوجَةِ؛ لأنَّ العِدَّةَ أثَرُ النِّكاحِ، وهو باقٍ، فلو جَازَ له أن يتزوَّجَ غَيرَها، لكَانَ جامِعًا بينَ أكثَر ممَّن يُباحُ له
(2)
.
(وإن ماتَت، فَلا) أي: واحِدَةٌ مِن نِهايَةِ جَمعِه، فلَهُ نِكاحُ غَيرِها في الحالِ. نصًا.
* * *
(1)
سقطت: "طلق" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 170)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 58).
فصلٌ
وتَحَرُمُ الزَّانيةُ علَى الزَّانِي وغَيْرِه، حتَّى تَتُوبَ، وتَنْقَضِي عِدَّتُهَا.
وتَحرُمُ: مُطَلَّقَته ثلاثًا، حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. والمُحْرِمَةُ، حتَّى تَحِلَّ مِن إحْرَامِهَا. والمُسْلِمةُ علَى الكافِرِ. والكافِرَةُ غَيْرُ الكِتابيَّةِ عَلى المُسْلِمِ.
(فَصل)
(وتَحرُمُ الزَّانِيةُ على الزَّاني وغَيرِه، حتَّى تَتوبَ) وتَوبتُها بأنْ تُرَاوَدَ على الزِّنى، فتَمتَنِعَ. نصًا. (وتَنقَضي عِدَّتُها) أي: الزَّانيَةِ.
(وتحرُمُ: مُطلَّقَتُه ثلاًثا، حتى تَنكِحَ زَوجًا غَيرَهُ) وتَنقَضي عِدَّتُها.
(و) تَحرُمُ (المُحرِمَةُ، حتَّى تَحلَّ مِن إحرَامِها) لحديث عُثمان مَرفُوعًا: "لا يَنكِحُ المحرِمُ، ولا يُنكِحُ، ولا يَخطِبُ. رواهُ الجماعَةُ إلَّا البخاري
(1)
.
(و) تَحرُمُ (المُسلِمَةُ على الكَافِرِ) لقولِه تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البَقَرَة: 221].
(و) تَحرُمُ (الكافِرَةُ غَيرُ الكِتابيَّةِ على المُسلِمِ) لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البَقَرَة: 221]{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} [المُمتَحنَة: 10]- إلَّا حَرَائِرَ نِسَاءِ أهِلِ الكِتابِ، ولو كُنَّ حَربيَّاتٍ، لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المَائدة: 5].
(1)
أخرجه أحمد (1/ 508)(462)، ومسلم (1409)، وأبو داود (1841)، والترمذي (840)، وابن ماجه (1966)، والنسائي (2842). وليس عند الترمذي:"ولا يخطب".
ولا يَحِلُّ لِحُرٍّ كامِلِ الحُرِّيَّةِ نِكَاحُ أَمَةٍ، ولَوْ مُبَعَّضَةً، إلَّا إنْ عَدمَ الطَّولَ، وخافَ العَنَتَ.
(ولا يَحِلُّ لِحُرٍّ) مُسلِمٍ (كامِلِ الحُريَّةِ نِكاحُ أَمَةٍ) مُسلِمَةٍ (ولو مُبعَّضَةً، إلَّا إنْ عَدِمَ الطَّولَ) أي: مَهرًا مِن مالٍ حاضِرٍ يَكفِي لِنكَاحِ حُرَّةٍ، ولو كانَت الحُرَّةُ كِتابيَّةً، فتَحِلُّ لهُ الأمَةُ حِينئذٍ؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النِّساء: 25]. إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} [النِّساء: 25] هذا إن لم تَجِبْ نَفَقَتُه على غَيرِهِ، فإن وجَبَت، لم يجُزْ له أن يتزوَّجَ أمَةً؛ لأنَّ
(1)
المُنفِقَ يَتحمَّلُ ذلِكَ عنهُ بِحُرَّةٍ تُعِفُّهُ.
وإن قَدِرَ على ثمَنِ أَمَةٍ، لم يتزوَّجْ أمَةً. قاله كثيرٌ مِن الأصحاب.
وظاهِرُ كلامِ الخِرَقي: عَدَمُ اشتِرَاطِه. وهو ظاهِرُ إطلاقِ القاضي في "تعليقه"، وطائِفَةٍ من الأصحاب. وقدمه في "الفروع". قاله في "الإنصاف".
وقدَّمَ الثاني في "التَّنقيح" وقطع به في "المنتهى"، وهو ظاهِرُ الآية
(2)
.
(وخافَ العَنَتَ) أي: عَنَتَ العُزوبَةٍ؛ لحاجَةِ مُتعَةٍ، أو خِدمَةِ امرَأَةٍ له؛ لكِبَرٍ، أو مَرَضْ، أو غَيرِهِما. نصًا.
وأدخَلَ القاضي وأبو الخطَّابِ في "خلافهما": الخَصيَّ والمجبُوبَ، إذا كانَ لهُ شَهوَةٌ يخافُ مَعَها التلذُّذَ بالمُباشَرَةِ حَرَامًا، وهو عادِم الطَّوْلَ.
والقَولُ قَولُهُ في خَشيَةِ العَنَتِ، وعَدَمِ الطَّولِ. والصَّبرُ عَنها معَ ذلِكَ خَيرٌ
(1)
في الأصل: "كأن".
(2)
"كشاف القناع"(11/ 353، 354).
ولا يَكُونُ وَلَدُ الأَمَةِ حُرًّا إلَّا باشتراطِ الحُرِّيَّةِ، أو الغُرُورِ.
وإنْ ملَكَ أحدُ الزوجيْنِ الآخرَ أو بَعْضَه، انفسَخَ النِّكاحُ.
ومَن جَمَع في عَقْدٍ بينَ مباحةٍ ومُحَرَّمةٍ، صَحَّ في المباحَةِ.
وأفضَلُ؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النِّساء: 25].
ولا يَبطُلُ نِكاحُهَا إن أيسَرَ.
(ولا يكونُ ولدُ الأمَةِ) مِن زَوجِها (حُرًا إلَّا باشتِرَاطِ) الزَّوجِ (الحُريَّة) لوَلَدِه، فيكونُ ولَدُه حُرًا. قاله في "الروضة"، وابنُ القيِّم، لقَوله صلى الله عليه وسلم:"المسلمونَ على شُروطِهم إلَّا شَرطًا، أحلَّ حرَامًا؛ أو حرَّمَ حَلالًا"
(1)
.
"تنبيه": في قولِه في "شرح المنتهى": "على مالِكِها" إيماءٌ إلى أنَّ نَاظِرَ الوَقفِ، ووَليَّ اليَتيمِ ونحوِه، ليس للزَّوجِ اشتِرَاطُ حُريَّةِ الوَلَدِ عليه؛ لأنَّه ليسَ بمالِكٍ. ذكره الشيخ منصور في "شرحه على الإقناع"
(2)
.
(أو الغُرُورِ) بأن غرَّهُ إنسانٌ فتزوَّج بها، فولَدُه حُرٌّ، وإن لم يَشتَرِط.
(وإنْ مَلَكَ أحدُ الزَّوجَين) الزَّوجَ (الآخَرَ، أو بعضَهُ) بِشِرَاءٍ، أو إرثٍ، أو هِبَةٍ ونحوِها، (انفَسَخَ النِّكاحُ) لتَنافِي أحكَامِ المِلكِ والنِّكاحِ، كما تقدَّم.
(ومَن جَمَعَ في عَقدٍ بينَ مُباحَةٍ ومُحرَّمَةٍ، صحَّ) النِّكاحُ (في المباحَةِ) وبَطَلَ فيمَن تحرُمُ. فلو تزوَّجَ أَيِّمًا ومُزوَّجَةً في عَقدٍ، صحَّ في الأَيِّمِ؛ لأنَّها محلُّ النِّكاحِ، وهَهُنا قد تَعيَّنَت التي بَطَلَ النِّكاحُ فيها. فعَلَى الصِّحةِ يَكونُ لها مِن المسمَّى لهُما بِقِسطِ مَهرِ مِثلِهَا مِنهُ في الأَصحِّ. وقيل: يَكونُ لها نِصفُ المُسمَّى.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
"كشاف القناع"(11/ 357).
ومَن حَرُمَ نِكَاحُهَا، حَرُمَ وَطْؤُهَا بالمِلْكِ، إلَّا الأَمَةَ الكتابيَّةَ.
(ومَن حَرُمَ نِكاحُها، حرُمَ وَطؤُها بالملك) أيمما: ملكِ اليَمين؛ لأنَّه إذا حرُمَ النكاحُ لِكونِه طَريقًا إلى الوَطءِ، فهو نَفسُهُ أولى بالتَّحريم (إلَّا الأمَةَ الكِتابيَّةَ) فيحرُمُ نِكاحُها لا وطؤُها بمِلكٍ؛ لقولِه تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّساء: 3] ولأنَّ نِكاحَ الأمَةِ الكتابيَّةِ، إنَّما حَرُمَ لجَعلِ إرقَاقِ الوَلَدِ وبقائِهِ معَ الكافِرَةِ، وهذا معدومٌ في مِلكِ اليَمين
(1)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 179)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 63).
باب الشُّرُوطِ في النِّكَاحِ
وهِي قِسْمانِ:
صَحِيح لازِمٌ للزَّوْجِ، فلَيْسَ لَهُ فَكُّهُ، كَزِيادةِ مَهْرٍ، أو نَقْدٍ مُعَيَّنٍ، أو لا يُخرِجَهَا مِن دَارِهَا أو بَلَدِهَا، أو لا يَتزوَّجَ عَلَيْهَا، أو لا يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وبينَ أَبَوَيْهَا أو أَوْلادِهَا، أو أنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا، أو يُطلِّقَ ضَرَّتَهَا.
فمتَى لم يَفِ بِمَا شرَطَ، كانَ لَهَا الفَسْخُ علَى التَّراخِي،
(بابُ الشُّرُوطِ في النِّكاحِ)
أي: ما يَشتَرِطُه أحدُ الزَّوجَين على الآخَرِ مما له فيه غَرَضٌ.
(وهي) أي: الشروطُ في النِّكاحِ (قِسمان):
أحدُهُما: (صَحيحٌ لازِمٌ للزَّوجِ، فليسَ له فَكُّهُ) وهو ما لا يُنافِي مُقتَضَى العَقدِ.
ويُسنُّ وفَاؤُهُ به. ومالَ الشيخُ تقيُّ الدِّينِ إلى وُجُوبِ الوَفَاءِ.
(كزِيادَةِ مَهرٍ) قَدرًا مُعيَّنًا. (أو نَقدٍ مُعيَّنٍ) فيتعيَّنُ، كثَمَنِ مَبيعٍ، (أو) اشتِرَاطِ أن (لا يُخرِجَهَا مِن دارِهَا أو بَلَدِها، أو لا يتزوَّجَ عَليها، أو لا يُفَرِّقَ بينَهَا وبينَ أبَوَيها، أو) لا يُفَرِّقَ بينَها وبينَ (أولادِهَا، أو أن تُرضِعَ وَلَدَهَا، أو) أنْ (يُطَلِّقَ ضرَّتَها) أوأن يَبيعَ أَمَتَهُ؛ لأنَّ لها قَصدًا صَحيحًا.
(فمَتى لم يَفِ) زَوجٌ لها (بما شَرَطَ، كان لها الفَسخُ على التَّراخِي) ما لم يُوجَد مِنهَا دَليلُ رِضًا.
ولا يَجِبُ الوَفاءُ به، أي: بالشَّرطِ الصَّحيحِ، بل يُسنُّ الوَفاءُ به.
ولا يَسْقُطُ إلَّا بِمَا يَدُلُّ علَى رِضَاهَا مِن قَوْلٍ، أو تَمْكِينٍ مَعَ العِلْمِ.
والقِسْمُ الفَاسِدُ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يُبْطِلُ النِّكَاحَ، وهُوَ:
أن يُزَوِّجَه وَلِيَّتَهُ بشَرْطِ أَنْ يُزَوِّجَه الآخَرُ وَلِيَّتَه، ولا مَهْرَ بَيْنَهُمَا.
(ولا يَسقُطُ) الخِيارُ (إلَّا بما يدلُّ على رِضَاهَا مِن قَولٍ أو تَمكينٍ) مِنهَا (معَ العِلمِ) بِفعِلِه ما اشتَرَطَت أن لا يَفعَلَهُ، دإنْ مَكَّنَته قبلَ العِلمِ، لم يَسقُط فَسخُها، لأنَّه لا يَدلُّ على رِضَاهَا بتَركِ الوَفاءِ، فلا أثَرَ لَهُ، كإسقَاطِ الشُّفعَةِ قبلَ البَيعِ.
(والقسم) الثاني من شُروطِ النِّكاحِ: (الفاسِدُ) وهو (نَوعان):
(نوعٌ) مِنهُمَا (يُبطِلُ النِّكاحَ) مِن أصلِه، (وهو) أي: نِكاحُ الشِّغَارِ -بكَسرِ الشين- وهو: (أن يُزوِّجَه وَليَّتَهُ) أي: بِنتَهُ، أو أُختَهُ، ونحوَهُما (بشَرطِ أن يُزوِّجَهُ الآخَرُ وَليَّتَهُ، ولا مَهرَ بَينَهُمَا).
سُمِّي به؛ لقُبْحِه، تَشبيهًا برَفعِ الكَلبِ رِجلَهُ ليَبولَ.
وقيل: هو الرَّفعُ، كأنَّ كُلَّ واحدٍ رَفَعَ رِجلَهُ للآخَرِ عمَّا يُريدُ.
وقيل: هو البُعدُ، كأنَّه بَعُدَ عن طريقِ الحقِّ.
وقال الشيخُ تقيُّ الدين: الأظهَرُ أنَّه مِن الخُلوِّ، يُقالَ: شَغَرَ المكانُ: إذا خَلا، ومكانٌ شاغِرٌ، أي: خالٍ. وشَغَرَ الكَلبُ: إذا رَفَعَ رِجلَه؛ لأنَّه أخلى ذلك المكانَ مِن رِجلِه.
وقد فسَّرَهُ الإمامُ بأنَّه فَرْجٌ بفَرجٍ، فالفُرُوجُ كما لا تُورَثُ ولا تُوهَبُ، فلئلا تُعاوَضَ بِبُضعٍ أولَى.
أو يَجْعَلَ بُضْعَ كُلِّ واحِدَةٍ مَعَ دَرَاهِمَ مَعْلُومةٍ مهرًا للأُخْرَى.
أو يَتَزوَّجَ بشَرْطِ أنَّه إذَا أحَلَّها، طَلَّقَها، أو يَنْوِيَه بقَلْبِه، أوْ يَتَّفِقَا عَلَيْه قَبْلَ العَقْدِ.
(أو يجعَلَ بُضعَ كُلِّ واحِدَةٍ معَ
(1)
دَراهِمَ مَعلومَةٍ مَهرًا للأُخرَى) فلا يَصِحُّ؛ لما تقدَّمَ.
فإن سُمِّيَ لهما مَهرٌ مُستقلٌّ غَيرَ حيلَةٍ، صحَّ النكاحُ، ولو كانَ المسمَّى دُونَ مَهرِ المِثلِ.
وإن سُمِّيَ لأحَدِهِما دُونَ الأُخرَى، صحَّ نِكاحُهَا. أي: مَن سُمِّي لها فقَط.
الثاني: نِكاحُ المُحلِّلِ: سُمِّي مُحلِّلًا؛ لقَصدِهِ
(2)
الحِلَّ في مَوضِعٍ لا يَحصُلُ فيه الحِلُّ (أو) أن (يَتزوَّجَ) المطلَّقَةَ ثَلاتًا (بشَرطِ أنَّه إذا أحَلَّهَا
(3)
) للأوَّلِ (طلَّقَهَا، أو يَنويَهُ) المحلِّلُ (بقَلبِه، أو يتَّفِقَا) أي: الزَّوجَانِ (عَلَيه) أي: على أنَّه نِكاحُ مُحَلِّلٍ (قَبلَ العَقدِ) ولم يُذكَر في العَقدِ، فلا يَصِحُّ إن لم يَرجِع عنه، ويَنوِيَ حالَ العَقدِ أنَّه نِكاحُ رَغبَةٍ -فإن حصَلَ ذلِكَ، صحَّ- لقَولِه عليه السلام:"لعَنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ لَهُ". رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي
(4)
، وقال: حديثٌ حسَنٌ صَحيحٌ، والعَملُ عليه عندَ أهلِ العِلمِ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عُمرُ، وابنُه، وعُثمَانُ، وهو قَولُ الفُقهاءِ من التابعين، وروي ذلك عن عليٍّ، وابنِ عبَّاسٍ.
(1)
في الأصل: "منهما".
(2)
في الأصل "لقصد".
(3)
في الأصل "حلها".
(4)
أبو داود (2076)، وابن ماجه (1935)، والترمذي (1119) من حديث عليٍّ. وصححه الألباني.
أو يَتزوَّجَهَا إلَى مُدَّةٍ، أو بشرطِ طَلاقِها في العَقْدِ بوَقْتِ كَذَا،
وقال ابنُ مسعودٍ: المحلِّلُ والمحلَّلُ له مَلعُونَانِ على لِسانِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
(1)
. وروى ابن ماجه
(2)
عن عُقبَةَ بنِ عامرٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أُخبِرْكُم بالتَّيسِ المستَعَارِ". قالوا: بلى يا رَسولَ الله. قال: "هو المحلِّلُ، لعَنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ له".
الثالِثُ: نِكاحُ المُتعَةِ: (أو) أنْ (يتزوَّجَها إلى مُدَّةٍ) مَعلُومَةٍ أو مجهُولَةٍ. (أو بشَرطِ
(3)
) الزَّوج (طَلاقَها في العَقدِ بوَقتِ كذا) كزوَّجتُكَ ابنَتي شهرًا، أو سَنَةً، أو إلى انقِضَاءِ الموسِمِ، أو إلى قُدُومِ الحاجِّ ونحوِه، فيَبطُلُ. نصًا؛ لحديث الربيعِ بنِ سَبْرَةَ أنه قال: أشهَدُ
(4)
على أبي أنه حدَّث أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهَى عَنهُ في حَجَّةِ الوَدَاعِ
(5)
. وفي لفظٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6)
حرَّمَ مُتعَةَ النِّساءِ. رواهُ أبو داود
(7)
. ولمسلم
(8)
عن سَبرَةَ: أَمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمُتعَةِ عامَ الفَتحِ، حينَ دَخَلنَا مكَّةَ، ثم لم نخرُج حتى نهانَا عنها.
وحُكي عن ابنِ عبَّاس الرُّجوعُ عن قولِه بجوَازِ المتعَةِ.
وأمَّا إذنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها، فقد ثَبَتَ نَسخُهُ. قال الشافعيُّ: لا أعلَمُ شيئًا أحلَّهُ اللهُ ثم حرَّمَه، ثم أحلَّه ثم حرَّمَهُ، إلا المُتعَةَ.
(1)
أخرجه الترمذي (1120).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1936)، وحسنه الألباني.
(3)
في الأصل: "يشترط".
(4)
في الأصل: "اشهدُوا".
(5)
أخرجه أبو داود (2072) قال الألباني: شاذ والمحفوظ: زمن الفتح.
(6)
سقطت: "نهى عنه في حجة الوداع. وفي لفط: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من الأصل.
(7)
أخرجه أبو داود (2073).
(8)
سقطت: "ولمسلم" من الأصل. والحديث أخرجه مسلم (1406).
أو يَنْوِيَه بقَلْبِهِ.
أو يَتزوَّجَ الغَرِيبُ بِنِيَّةِ طَلاقِهَا إذَا خَرَج.
أوْ يُعَلِّقَ نِكَاحَهَا، كـ: زَوَّجْتُكَ إذا جَاءَ رَأسُ الشَّهْرِ، أو: إنْ رَضِيَتْ أُمِّها، أو: إنْ وَضَعَتْ زَوْجَتِي ابنةً، فقَدْ زَوَّجْتُكَهَا.
الثانِي: لا يُبْطِلُه، كأنْ يَشْرِطَ أنْ لا مَهْرَ لَهَا، أو لا نَفَقةَ، أو أن يَقْسِمَ لَهَا أكْثَرَ مِن ضَرَّتِهَا، أو
(أو يَنوِيَهُ) أي: يَنوِيَ الزَّوجُ طلاقَها بوَقتٍ (بقَلبِه).
(أو يتزوَّجَ الغَريبُ بنيَّةِ طَلاقِها إذا خَرَجَ) ليَعودَ إلى وطَنِه؛ لأنَّه شبيهٌ بالمتعَةِ. (أو يُعَلِّقَ نِكاحَهَا) على شَرطٍ مُستَقبَلٍ، (كـ) ـــــــقَولِه:(زوَّجتُكَ) ابنَتي، أو نحوها (إذا جاءَ رَأسُ الشَّهرِ، أو: إن رَضِيَت أُمُّهَا، أو: إن وَضَعَت زَوجَتي ابنَةً فقد زوَّجتُكَها) لأنَّه عقدُ مُعاوضَةٍ، فلا يَصِحُّ تعليقُه على شرطٍ مستقبَلٍ، كالبَيعِ. ولأنَّهُ وقفٌ للنِّكاحِ على شَرطٍ، فلم يَجُزْ.
ويَصحُّ تَعليقُ نِكاحٍ على شَرطٍ ماضٍ، وعلى شرطٍ حاضرٍ.
فالماضي: كقَولِه: زوَّجتُكَ فلانةً إن كانَت بِنتي، أو: زوَّجتُكَها إن كُنتُ وُليُّها، أو: انقَضَت عِدَّتُها، وهما يَعلَمَان ذلِكَ، أي: أنَّها بِنتُه، وأنَّه وليُّها، وأنَّ عِدَّتَها انقَضَت.
والشرطُ الحاضِرِ: كقَولِه: زوَّجتُكَهَا إنْ شِئتَ. فقالَ: شِئتُ، وقَبِلتُ، ونحوَه، فيصحُّ النكاحُ؛ لأنَّه ليسَ بتَعليقٍ حقيقَةً، بل توكيدٌ وتقويةٌ.
النَّوعُ (الثاني) من الشروط الفاسدَةِ: وهو ما يَصحُّ معه النكاحُ، و (لا يُبطِلُه، كأَن يَشرِطَ أن لا مَهرَ لها، أو لا نفقَةَ لها، أو أنْ يَقسِمَ لها أكثَرَ مِن ضرَّتِها، أو) أن
أقلَّ، أو إنْ فارَقَها، رجَع علَيْهَا بِمَا أنْفَقَ، فيَصِحُّ النِّكَاحُ، دُونَ الشَّرْطِ.
يَقسِمَ لها (أقلَّ) مِن ضرَّتِها، (أو) شَرَطَ أنه (إن
(1)
فارَقَها، رَجَعَ عَليها بما أنفَقَ. فيَصحُّ النكاحُ، دُونَ الشَّرطِ) في هذِه الصُّورِ كُلِّها؛ لمنافاتِه مُقتَضَى العَقدِ. ومَن طلَّق بشَرطِ خِيارٍ، وقَعَ طلاقُه، ولَغَا الشَّرطُ
(2)
.
(1)
سقطت: "إن" من الأصل.
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 69).
فَصْلٌ
وإنْ شَرَطَها مسْلِمَةً، فبَانَتْ كِتابِيةً، أو شرَطَهَا بِكْرًا، أو جَمِيلةً، أو نَسيبَةً، أو شرَطَ نَفْيَ عَيْبٍ، فبانَتْ بِخَلافِه، فلَة الخِيَارُ، لا إنْ شرَطَهَا أدْنَى، فبانَتْ أعْلَى.
ومَنْ تَزوَّجَتْ رَجُلًا علَى أنَّه حرٌّ، فبانَ عبدًا، فلَهَا الخِيارُ
(فَصلٌ)
(وإن شَرَطَها) أي: الزَّوجَةَ (مُسلِمَةً، فبانَت كتابيَّةً) فلهُ الخيارُ؛ لفَواتِ شَرطِه.
(أو شَرَطَها بِكرًا) فبانَت ثيِّبًا، فلهُ الخيارُ.
(أو) شرَطَها (جميلَةً، أو نَسيبَةً) أي: ذاتَ نَسَبٍ، فبانَت بخلافِه، فلهُ الخِيارُ. (أو شَرَطَ) الزَّوجُ في العَقدِ (نَفيَ عَيبٍ) عن الزَّوجَةِ (فبانت بخلافه، فلَهُ) أي: الزَّوجِ (الخيارُ)؛ لأنَّه شرَطَ صفَةً مَقصُودَةً ففَاتَت، أشبَهَ ما لو شَرَطَها حُرَّةً فبانت أمَةً. ولا شيءَ عليه إن فَسَخَ قبلَ الدُّخُولِ، وبَعدَه يَرجِعُ بالمَهرِ على الغَارِّ. وكذا لو شَرَطَها حَسناءَ، فبانَت شَوهَاءَ، أو بَيضاءَ، فبانَت سَودَاءَ، أو طويلَةً، فبانَت قَصيرَةً، أو ذاتَ نَسَب، فبانَت دُونَه، لا إن ظَنَّ ذلكَ ولم يَشتَرِطْهُ.
(لا إنْ شَرَطَها أدنَى، فبانَت أعلَى) مِنها، أي: مِن الصِّفَةِ التي شَرَطَها، فلا خِيارَ لهُ.
(ومَن تزوَّجَت رَجُلًا على أنَّهُ حُرٌّ، فبانَ عَبدًا، فلَها الخِيارُ).
وإنْ شرَطَت فيه صِفَةً، فبَانَ أقَلَّ، فلا فَسْخَ لَهَا.
وتَمْلِكُ الفَسْخَ مَن عَتَقَتْ كُلُّها تَحْتَ رَقِيقٍ كلِّه، بغَيْرِ حُكْمِ الحاكِمِ،
(وإن شَرَطَت) زَوجَةٌ (فيه صِفَةً) ككَونِه نَسيبًا، أو عَفيفًا، أو جَميلًا، ونحوَه
(1)
(فبَانَ أقَلَّ) مما شَرَطَتْهُ (فلا فَسخَ لها) لأنَّه ليسَ بمُعتَبرٍ في صحَّةِ النكاح، أشبَهَ شَرطَها
(2)
طُولَهُ أو قِصَرَهُ.
(وتَملِكُ الفَسخَ مَن عَتَقَت كُلُّها تحتَ رَقيقٍ كُلِّه) حكاهُ ابنُ المنذر، وابنُ عبد البرِّ، وغَيرُهُما إجماعًا. لا إن كانَ حُرًا، وهو
(3)
قولُ ابنِ عُمرَ وابنِ عباسٍ
(4)
؛ لأنَّها كَافَأَتْ زوجَها في الكَمَالِ، فلم يَثبُت لها خِيارٌ، كما لو أسلَمَت الكِتابيَّةُ تحتَ مُسلمٍ.
وتَملِكُ الفسخَ بلا حاكِمٍ؛ لأنَّه فسخٌ مُجمَعٌ عليهِ، غَيرُ مُجتَهَدٍ فيه، فلم يَفتَقِر. (بغَيرِ حُكمِ الحاكِمِ) كالردِّ بالعَيبِ، بخلافَ خيارِ العَيبِ في النِّكاحِ.
فإذا قالَت: اختَرتُ نَفسي، أو قالَت: فسَختُ النِّكاحَ، انفَسَخَ.
وهو على التَّراخِي. فإن عَتَقَ زوجُهَا قبلَ فَسخِها، بطَلَ خِيارُها؛ لأنَّ الخِيارَ لدَفعِ الضرَرِ بالرقِّ، وقد زالَ بالعِتقِ، فسقَط الخيارُ، كالمبيعِ إذا زالَ عيبُه سريعًا.
أو رَضِيَت العتيقَةُ بالمُقَامِ معهُ رَقيقًا، فلا خيارَ لها؛ لأنَّ الحقَّ لها، وقد أسقَطَتْهُ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 195)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 71).
(2)
في الأصل: "شرطها".
(3)
سقطت: "هو" من الأصل.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (7/ 254) عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 505) عن ابن عباس.
فإنْ أمْكَنَتْه مِنْ وَطْئِهَا، أو مُباشَرَتِهَا، أو قُبلَتِهَا -ولَوْ جَهِلَتْ عِتْقَهَا أو مِلْكَ الفَسْخِ- بطَل خِيارُهَا.
(فإن أمكَنَتْهُ) أي: الرَّقيقَ العَتيقَةُ (مِن وَطئِها، أو) مِن (مُباشَرَتِها، أو قُبلَتِها - ولَو جَهِلَت عِتقَها، أو) جَهِلَت (مِلكَ الفَسخِ- بَطَلَ خِيارُها) لحديث الحَسنِ، عن عَمرِو بنِ أُميَّةَ قال: سمِعتُ رِجالًا يتحدَّثُونَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: "إذا عَتَقَت الأمَةُ، فهِيَ بالخِيارِ، ما لم يَطَأهَا إن شاءَت فارَقَت، فإنْ وَطِئَها فلا خِيارَ لها". رواه أحمد
(1)
. ولما تقدَّمَ في حديثِ أبي داودَ مِن قوله: "فإنْ قَرُبَكِ، فلا خِيارَ لَكِ"
(2)
. ورَوى مالكٌ عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمرَ: أنَّ لها الخِيارَ، ما لم يَمسَّهَا
(3)
.
ويَجوزُ لِزَوجِها وَطؤُها بعدَ عِتقُها، معَ عدَمِ عِلمِها به
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد (27/ 168)(16619) من حديث الفضل بن عمرو بن أمية عن أبيه. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(384).
(2)
أخرجه أبو داود (2236) من حديث عائشة. وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه مالك (2/ 562).
(4)
"دقائق أولي النهى"(5/ 197)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 72).
باب حُكْمِ العُيوبِ في النِّكَاحِ
وأقْسَامُها المُثْبِتَةُ لِلخِيارِ ثَلاثةٌ:
قِسْمٌ يَخْتَصُّ بالرَّجُلِ:
وهُوَ كَوْنُه قَدْ قُطِعَ ذَكَرُه، أو خُصْيَتَاه، أو أشَلَّ، فلها الفَسْخُ في الحالِ.
(بابُ حُكمِ العُيوبِ في النِّكاحِ)
أي: بيان ما يثبتُ به الخيارُ مِنها، وما لا خِيارَ به.
(وأقسَامُها المُثبِتَةُ للخِيارِ ثَلَاثةٌ):
منها: (قِسمٌ يختَصُّ بالرَّجُل)، وقد ذكَرَه بقَولِه:
(وهو) أي: القِسمُ المختصُّ بالرَّجُلِ ثلاثَةُ أشياء:
أحَدُها: (كونُه) أي: الرَّجُلِ (قَد قُطِعَ ذَكرُه) كُلُّهُ، (أو) قُطِعَ (خُصيتَاهُ، أو أشَلَّ) الذَّكَر، (فلَها الفَسخُ في الحالِ) ويُروَى ثُبوتُ الخيارِ لِكُلٍّ مِن الزَّوجَين -إذا وجَدَ بالآخَرِ عَيبًا في الجُملَةِ- عن عمرَ، وابنِه، وابنِ عبَّاسٍ.
وعن علي: لا تُرَدُّ الحرَّةُ بعَيب
(1)
. وعن ابنِ
(2)
مَسْعُودٍ: لا يُفسَخُ النِّكاحُ بعَيبٍ
(3)
.
ولنَا: أنَّ المرأةَ أحَدُ العِوَضَينِ في النِّكاحِ، فجازَ ردُّها بعَيبٍ، كالصَّدَاقِ.
(1)
سقطت: "عن عمرَ، وابنِه، وابنِ عبَّاسٍ. وعن عليٍّ: لا ترَدُّ الحرَّة بعيبٍ" من الأصل. والمثبت من "كشاف القناع"(11/ 397).
(2)
في الأصل: " أبي".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 487).
وإنْ كَانَ عِنِّينًا بإقْرَارِه، أو ببَيِّنَةٍ، أو طَلَبَتْ يَمِينَه، فنَكَل، ولم يَدَّعِ وطأً، أُجِّلَ سَنَةً هِلاليَّةً مُنذُ تَرَافُعِه إلى الحاكِمِ، فإنْ مَضَتْ ولم يَطَأْهَا، فلَهَا الفَسْخُ.
وقِسْمٌ يَختَصُّ بالأُنْثَى:
وهو كَوْنُ فَرْجِهَا مَشدودًا لا يَسْلُكُه ذَكَرٌ،
(وإن كانَ عِنِّينًا بإقرَارِه، أو) ثَبتَت عُنَّتُه (ببيِّنَةٍ) قال في "المبدع": فإن كانَ للمدَّعِي بيِّنَةٌ مِن أهلِ الخِبرَةِ والثِّقَةِ، عُمِلَ بها.
(أو) عُدِمَ الإقرارُ والبيِّنَةُ فـ (طَلَبَت يمينَهُ، فنَكَلَ) عن اليَمينِ (ولم يدَّعِ وَطأً) قَبلَ دَعوَاهَا (أُجِّلَ سنَةً هِلاليَّةً) ولو عَبدًا (مُنذُ تَرافُعِهِ إلى الحاكِمِ) فيَضرِبُ الحاكِمُ له المدَّةَ، ولا يَضرِبُها غَيرُهُ؛ فإنَّ العَجزَ قد يكونُ لِعُنَّتِه، وقد يَكونُ لمَرَضٍ، فضُرِبَ له
(1)
سَنَةٌ، لتَمُرَّ بِهِ الفُصولُ الأربَعَةُ، فإن كانَ مِن يَبَسٍ، زالَ في فصلِ الرُّطُوبَةِ، وبالعَكسِ، وإن كانَ مِن بُرودَةٍ، زالَ في فَصلِ الحَرارَةِ، وإن كان من احتِراقِ مزاجٍ، زالَ في فصل الاعتِدَالِ.
(فإن مَضَت) الفصولُ الأربعَةُ ولم يَزُلْ، عُلِمَ أنَّهُ
(2)
خِلقَةٌ (ولم يَطَأهَا، فلَها الفَسخُ) لما تقدَّم.
(وقِسمٌ) مِن الحُيُوبِ (يختصُّ بالأُنثَى) وهو القِسمُ الثاني مِن العُيوبِ المُثبِتَةٍ للخِيارِ:
(وهو كَونُ فَرجِهَا مَسدُودًا لا يَسلُكُهُ ذَكَرٌ) فإن كانَ ذلِكَ بأصلِ الخِلقَةِ، فهِيَ
(1)
سقطت: "له" من الأصل.
(2)
في الأصل: "منه".
أوْ بِهِ بَخَرٌ، أو قُرُوحٌ سَيَّالةٌ، أو كَوْنُهَا فَتْقاءَ بانْخِرَاقِ مَا بَيْنَ سَبِيلَيْها، أو كَوْنُهَا مُسْتَحاضَةً.
وقِسْمٌ مُشْتركٌ:
وهُوَ الجُنُون، ولَوْ أحْيَانًا،
رَتْقَاءُ -بالمدِّ- فالرَّتْقُ: تَلاحُمُ الشَّفرَينِ خِلقَةً. وإلَّا يَكُن ذلكَ بأصلِ الخِلقَةِ، فهي قَرْنَاءُ، وعَفْلاءُ.
وظاهِرُ كلامِ مَتنِ "المنتهى": أنَّ القَرَنَ والعَفَلَ في العُيوبِ شيءٌ واحدٌ، وقاله القاضي.
وقيلَ: القَرْنَاءُ: مَن نَبَتَ في فَرجِها لحمٌ زائدٌ، فسَدَّه. والعَفَلُ: ورَمٌ يكونُ في الُّلحمَةِ التي بينَ مَسلَكَي المرأة، فيَضيقُ مِنه فَرجُها، فلا يَنفُذُ فيه الذَّكَرُ. حكاه الأزهريُّ، فهما مُتغايِرَان.
وقِيلَ: القَرَنُ: عَظمٌ. والعَفَلُ: رَغوَةٌ فيه تَمنَعُ لذَّةَ الوَطءِ. ويَثبتُ به الخِيارُ على كِلا الأقوالِ
(1)
.
(أو بِه) أي: الفَرجِ (بَخَرٌ) أي: نتَنٌ يثورُ عِندَ الوَطءِ، (أو) بالفَرجِ (قُروحٌ سيَّالَةٌ).
(أو كَونُهَا فَتقَاءَ بانخِرَاقِ ما بَينَ سَبيلَيهَا، أو كَونُهَا مُستحاضَةً) فتثبُتُ للزَّوجِ الخيارُ بِكُلِّ مِن هذِه.
(وقِسمٌ مُشتَرَكٌ) بينَ الرجلِ والمرأةِ، وهو القِسمُ الثالِثُ من العيوب المُثبِتَةِ للخِيارِ.
(وهو الجُنونُ، ولو) كانَ يُخنَقُ (أحيانًا). وإن زالَ العَقلُ بمرَضٍ، كَإغمَاءٍ،
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 207).
والجُذَامُ، والبَرَصُ، وبَخَز الفَمِ، والبَاسُورُ، والناصُورُ، واستِطْلاقُ البَوْلِ أو الغائِطِ.
فيُفْسَخُ بكُلِّ عَيْبٍ تقدَّم، لا بِغيْرِه، كعَوَرٍ، وعَرَجٍ، وقَطْعِ يدٍ ورجلٍ، وعَمًى، وخَرَسٍ وطَرَشٍ.
لا خِيارَ به
(1)
. (والجُذَامُ، والبَرَصُ، وبَخَرُ الفَمِ) أي: نَتَنُهُ، (والبَاسُورُ، والنَّاصُورُ): دَاءَانِ بالمقعَدَةِ معروفَان. (واستِطلاقُ البَولِ، أو) استِطلاقُ (الغائِطِ).
(فيُفسَخُ بِكُلِّ عَيبِ تقدَّم) لما فيه مِن النَّفرَةِ، أو النَّقصِ، أو خَوفِ تَعدِّي أذاهُ، أو تَعدِّى نجاسَتِه. (لَا) يَنفَسِخُ (بـ) ــــــــعَيبٍ (غَيرِهِ، كعَوَرٍ، وعَرَجٍ، وقَطْعِ يَدٍ، و) قَطعِ (رِجلٍ، وعَمًى، وخَرَسٍ، وطَرَشٍ)، وقَرَعٍ لا رِيحَ لهُ، وكَونِ أحَدِهِمَا عَقيمًا، أو نَحيفًا جِدًا، وسِمَنٍ؛ لأنَّ ذلِكَ كُلَّه لا يَمنَعُ الاستمتَاعَ، ولا يُخشَى تَعدِّيه.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 77).
فَصْلٌ
ولا يَثْبُتُ الخِيارُ في عَيبٍ زالَ بَعْدَ العَقْدِ، ولا لعالِمٍ بِهِ وقْتَ العَقْدِ.
والفَسْخُ علَى التَّراخِي، لا يَسْقُطُ في الغنَّةِ إلَّا بِقَولِهَا: رَضِيتُ، أو باعترافِهَا بوَطْئِه في قُبُلِها، ويَسْقُطُ في غَيْرِ العُنَّةِ بالقَوْلِ، وبمَا يَدُلُّ على الرِّضَا مِن وَطْءٍ، أو تَمْكِينٍ مَعَ العِلْمِ.
ولا يَصِحُّ الفَسْخُ هُنَا -وفي خِيارِ الشَّرْطِ-
(فَصلٌ)
(ولا يَثبُتُ الخيارُ في عَيبِ زَالَ بعدَ العَقدِ)، لزَوالِ سَبَبِه، (ولا) خِيارَ (لعالِمٍ بِهِ) أي: العَيبِ (وَقتَ العَقدِ) لدُخُولِه على بَصيرَةٍ.
(والفَسخُ) في العَيبِ (على التَّراخِي) لأنَّه لِدَفعِ ضَرَرٍ متَحَقَّقٍ".
و (لا يَسقُطُ) الفَسخُ (في العُنَّةِ إلَّا بِقَولها) لعِنِّينٍ: (رَضيتُ) أو أَسقَطتُ
(1)
حَقِّي من الخِيارِ لعُنَّتِهِ ونحوِه؛ لأنَّ العِلمَ بعَدَمِ قُدرَتِه على الوَطءِ لا يَكونُ بِدُونِ التَّمكينِ، فلم يَكُن التَّمكينُ دَليلَ الرِّضَا، فلَم يِبقَ إلَّا القَولُ (أو باعتِرَافِهَا بِوَطئِهِ في قُبُلِهَا) لا في دُبُرِهَا؛ لأنَّه ليسَ مَحلَّ الوَطءِ
(2)
.
(ويَسقُطُ) خِيارٌ (في غَيرِ العُنَّةِ بالقَولِ) وبما يدلُّ على رِضَاهُ بالعَيبِ، (وبما يدلُّ على الرِّضَا مِن وَطءٍ، أو تَمكِينٍ، معَ العِلمِ) بالعَيبِ.
(ولا يَصِحُّ الفَسخُ هُنَا) أي: في عُيوبِ النِّكاحِ، (وفي خِيارِ الشَّرطِ)، وفي
(1)
في الأصل: "أسقط".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 80).
بلا حاكِمٍ.
فإنْ فُسِخَ قبلَ الدُّخولِ، فلا مَهْرَ، وبَعْدَ الدُّخولِ أو الخَلْوَةِ، يَستقِرُّ المسَمَّى، ويَرْجِعُ بِهِ علَى المغِرِّ.
خِيارِ العَيبِ (بلا) حُكمِ (حاكمِ) لأنَّه فَسخٌ مُجتَهَدٌ فيه، فافتَقَرَ إليهِ، كالفَسخِ لعُنَّةٍ، والإعسَارِ بالنَّفقَةِ، إلَّا الحُرَّةَ إذا غُرَّت بِعَبدٍ، ومَن عَتَقَت كُلُّها تحت رَقيقٍ كُلِّه، فتفسَخُ بلا حاكِمٍ. وتقدَّم.
(فإنْ فُسِخَ) النِّكاحُ (قبلَ الدُّخُولِ، فلا مَهرَ) لها، ولا مُتعَةَ، سواءٌ كانَ الفَسخُ مِن الرَّجلِ أو المرأةِ؛ لأنَّ الفسخَ إن كانَ مِنهَا، فقد جاءت الفُرقَةُ مِن قِبَلِها، وإن كانَ مِنهُ، فإنَّما فَسَخَ لعَيبِهَا الذي دلَّسَتْهُ عليه، فكأنَّه مِنها.
(وبَعدَ الدُّخُولِ أو الخَلوَةِ، يستَقِرُّ) المهرُ (المُسمَّى) في العَقد على الأصح.
(ويَرجِعُ) الزَّوجُ (به) أي: بالمَهرِ الذي وجَبَ عليه (على المُغِرِّ) إن وُجِدَ؛ لأنَّه غَرَّهُ، وهو قول مالك، عن عمر
(1)
.
والغَارُّ: مَن عَلِمَ العَيبَ وكَتَمَه، مِن زَوجَةٍ عاقِلَةٍ، ووَليٍّ، ووَكيلٍ. فأَيُّهم انفَرَدَ بالغَرَرِ، ضَمِنَ وحدَهُ.
فإن كانَ الوليُّ
(2)
عَلِمَ، غَرِمَ، وإن لم يَكُن عَلِمَ، فالتَّغريرُ من المرأة، فيرجعُ عليها بجَميعِ الصَّداقِ. قاله في "شرح المنتهى" للمصنف
(3)
.
ويُقبَلُ قَولُ وَليٍّ، ولو مَحرَمًا، وكذا وكيلُها، في عَدَمِ عِلمِه بالعَيبِ حيثُ لا
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 526).
(2)
سقطت: "الولي" من الأصل.
(3)
انظر "دقائق أولي النهى"(5/ 211) ولي.
وإنْ حَصَلَتِ الفُرْقة مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ بِمَوتٍ أوْ طَلاقٍ، فلا رُجُوعَ.
وليسَ لوَلِيٍّ صَغِيرٍ، أوْ مَجْنونٍ، أو رَقِيقٍ، تَزْوِيجُهُ بِمَعِيبٍ، فلَوْ فعَل، لَمْ يَصِحَّ إنْ عَلِمَ، وإلَّا صحَّ، ولَزِمَه الفَسْخُ إذا عَلِمَ.
بيِّنَةَ بِعلمِه؛ لأنَّ الأصلَ عَدمُه، فلا غُرمَ عليه؛ لأنَّ التغريرَ مِن غَيرِه. وكذَا هي، يُقبلُ قَولُها في عَدَمِ عِلمِها بعَيبِها إن احتَمَل. ذكَرَه الزركشي.
فلو وُجِدَ التَّغريرُ مِن زوجةٍ ووليٍّ، فالضَّمانُ على الوَليِّ؛ لأنَّه المباشِرُ. ومِن المرأةِ والوَكيلِ: الضَّمانُ بَينَهُما نِصفَين. قاله الموفَّق
(1)
.
(وإنْ حَصَلَت الفُرقَةُ مِن غَيرِ فَسخٍ بمَوتٍ أو طلاقٍ، فلا رُجُوعَ) بالصَّداقِ المستَقرِّ بالمَوتِ على أحَدٍ؛ لأنَّ سببَ الرجوعِ الفَسخُ، ولم يُوجَد.
(ولَيسَ لوليِّ صَغيرٍ) أو صَغيرَةٍ، (أو) وَفي (مجنُونٍ) أو مجنونَةٍ، (أو) وليِّ (رَقيقٍ) أو رَقيقَةٍ (تَزويجُه بمَعِيبٍ) مِن امرأةٍ أو رَجُلٍ.
(فلو فَعَلَ) وليُّ غَيرِ المكلَّفَ أو المكلَّفَةِ، أو مَحيِّدُ الأمَةِ، أو وَليُّ المكلَّفَةِ بلا رضاها، (لم يَصحّ) النكاحُ (إن عَلِمَ) العَيبَ؛ لأنَّه عقَدَ لهم عقدًا لا يجوزُ عقدُه، كما لو باعَ عَقَارًا لمَن في حِجرِهِ لغَيرِ مَصلحَةٍ.
(وإلَّا) يَعلَم الوليُّ أنَّه مَعيبٌ، (صَحَّ) العقدُ (ولَزِمَهُ الفَسخُ) للعَيبِ، كما لو اشتَرَى له مَعيبًا.
وفي "الإقناع" تبعًا "للمغني" وغيرِه: يجِبُ الفَسخُ على وليِّ المكلَّفِ والمكلَّفَةِ، وسيِّدِ الأمَةِ
(2)
.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(5/ 211).
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 213).
بَابُ نِكَاحِ الكُفَّارِ
يُقَرُّونَ علَى أنْكِحَةٍ مُحَرَّمَةٍ مَا دَامُوا مُعْتَقدينَ حِلَّها، ولَمْ يَرْتَفِعُوا إليْنَا. فإن أتَوْنَا قَبْلَ عَقْدِهِ، عَقَدْنَاهُ على حُكْمِنَا.
(بابُ نِكاحِ الكفَّارِ)
أي: بيانِ حُكمِه، وما يُقرُّونَ عَليه لو تَرافَعُوا إلينا، أو أسلَموا:
(يُقرُّونَ) أي: الكُفَّارُ (على أنكِحَةٍ محرَّمةٍ ما دامُوا مُعتَقِدِينَ حِلَّها) أي: إباحَتَها؛ لأنَّ ما لا يَعتَقِدُون حِلَّه ليس مِن دِينِهم، فلا يُقرُّونَ عليه، كالزِّنى
(1)
والسَّرِقَة (ولم يَرتَفِعُوا إلينا) لقَوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المَائدة: 42] الآية.
فدلَّ أنَّهم يُخَلَّون وأحكَامَهم إن لم يَجِيئوا إلينَا. ولأنَّه عليه السلام أخَذَ الجزيَةَ مِن مَجوسِ هَجَرَ
(2)
، ولم يَعتَرِضْهم
(3)
في أنكِحَتِهم معَ عِلمِه أنَّهم يَستَبيحُونَ نِكاحَ مَحَارِمِهِم.
(فإن أتَونَا قبلَ عَقدِه) أي: النِّكاحِ بَينَهم (عَقَدنَاهُ على حُكمِنا) بإيجابٍ، وقَبولٍ، ووَليٍّ، وشَاهِدَي عَدلٍ مِنَّا، كأنكِحَة المسلمين؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المَائدة: 42] ولأنَّه لا حاجةَ إلى عقدٍ يخالِفُ ذلك.
(1)
في الأصل: "كالرِّبا".
(2)
أخرجه البخاري (3157) من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(3)
في الأصل: "يَعتَرِضُوهم".
وإنْ أسْلَم الزَّوْجانِ معًا، أوْ أسْلَم زَوْجُ الكِتَابيَّةِ، فَهُمَا علَى نِكَاحِهِما.
وإنْ أسْلَمَتِ الكِتابيَّةُ تَحْتَ زَوْجِهَا الكافِرِ، أوْ أسْلَم أحَدُ الزَّوجيْنِ غَيرُ الكِتَابِيَّيْنِ، وَكَانَ قبلَ الدخولِ، انفَسَخَ النِّكاحُ، ولَهَا نِصْفُ المَهْرِ إنْ أسْلَمَ فَقَط، أو سبَقَها.
(وإن أسلَمَ الزَّوجانِ مَعًا) على نِكاحٍ، لم نَتعرَّض لكَيفيَّةِ العقدِ مِن وُجودِ صِيغَةٍ، أو وليٍّ، أو شهودٍ.
قال ابنُ عبد البرِّ: أجمعَ العلماءُ على أنَّ الزَّوجين إذا أسلَمَا معًا في حالٍ واحدَةٍ، أنَّ لهما المُقامَ على نِكاحِهِما، ما لم يَكُن بينَهُما نسبٌ أو رَضاعٌ. وقد أسلَمَ خلقٌ كثيرٌ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأسلَمَ نِساؤُهم، فأقِرُّوا على أنكِحَتِهم، ولم يَسأَلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن شروطِ النِّكاحِ ولا كَيفيَّتِه
(1)
.
(أو أسلَمَ زوجُ الكتابيَّةِ) أبَوَاها كِتابِيَّان (فهُما على نِكاحِهِما) لأنَّ نكاحَ الكِتابيَّةِ يجوزُ ابتداؤُه، فالاستِمرارُ أولى
(2)
.
(وإن أسلَمَت الكِتابيَّةُ تحتَ زَوجِها الكافِرِ) كتابئ أو غيرِه قبلَ دُخولٍ، انفَسَخَ النكاحُ؛ لأنَّه لا يجوزُ لكافِرٍ ابتِداءُ نِكاحِ مُسلِمَةٍ.
(أو أسلَمَ أحدُ الزَّوجينِ غَيرُ الكِتابيَّينِ، وكانَ قبلَ الدُّخولِ، انفَسَخَ نكاحهُما)؛ لأنَّ اختلافَ الاينِ سَببٌ للعَدَاوَةِ والبَغضَاءِ، ومقصودُ النكاحِ الاتِّفاقُ والائتِلافُ.
(ولها) أي: الزَّوجَةِ (نِصفُ المهرِ إنْ أسلَمَ) الزَّوجُ (فقَط) أي: دُونَها؛ لمجيءِ الفُرقَةِ مِن قِبَلِه بإسلامِه، كما لو طلَّقها (أو سَبَقَها) بالإسلامِ قبلَ الدُّخولِ،
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 215).
(2)
"كشاف القناع"(11/ 425)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 85).
وإنْ كانَ بعدَ الدُّخُولِ، وُقِفَ الأمرُ إلَى انقِضَاءِ العِدَّةِ، فإنْ أسْلَم المُتخلِّفُ قَئلَ انقِضائِهَا، فَعَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإلَّا تبيَّنا فَسْخَهُ مُنذُ أسْلَمَ الأوَّل،
فلَها نِصفُ المهرِ؛ لأنَّ الفُرقَةَ حصَلَت مِن جِهَتِه، أشبَهَ ما لو طلَّقَها.
(وإن كانَ بعدَ الدُّخُولِ، وقفَ الأمرُ إلى انقِضاءِ العِدَّةِ) لحديث مالك في "الموطأ" عن ابنِ شِهابٍ قال: كانَ بينَ إسلامِ صَفوانَ بن أميَّةَ وامرأتِه ينتِ الوَليدِ بن المغيرَةِ نحوٌ من شَهرٍ، أسلَمَت يومَ الفَتحِ، وبَقِي صفوانُ حتَّى شَهِدَ حُنينًا والطائِفَ وهو كافِرٌ، ثم أسلَم، فلم يُفرِّق النبيَّ صلى الله عليه وسلم بينَهُما. واستقرَّت عِندَهُ امرأتُه، بذلِكَ النكاحِ. قال ابن عبد البرِّ: شُهرَةُ هذا الحديثِ أقوَى من إسنادِه.
وقال ابنُ شُبرُمَةَ: كان الناسُ
(1)
على عَهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلِمُ الرَّجلُ قبلَ المرأَةِ، والمرأة قبلَ الرَّجلِ، فأيُّهُما أسلَمَ قبلَ انقِضاءِ العدَّةِ، فهِي امرَأتُه، فإن أسلَمَ بعدَ العِدَّةِ، فلا نِكاحَ بَينَهُما.
وهذا بخِلافِ ما قبلَ الدُّخولِ، فإنَّه لا عِدَّةَ لها، فتتعجَّل البَينُونَة
(2)
، كالمطلَّقَةِ
(3)
.
(فإن أسلَمَ المتخلِّفُ قَبلَ انقِضائِها) أي: العدَّةِ، (فعَلَى نِكاحِهما)؛ لما سَبَقَ.
(وإلَّا) يُسلِم الثاني قَبلَ انقِضَاءِ العدَّةِ (تَبيَّنَّا فَسخَه) أي: النِّكاحِ (مُنذُ أسلَمَ الأوَّلُ) مِنهُما، لاختِلافِ الدِّينِ، ولا تحتَاجُ لعدَّةٍ ثانيةٍ.
(1)
سقطت: "الناس" من الأصل.
(2)
في الأصل: "البينو".
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 220).
ويَجِبُ المَهْرُ بكُلِّ حَالٍ.
(ويَجبُ المهرُ بكُلِّ حالٍ) لاستِقرَارِه بالدُّخُولِ. وسواءٌ كانَ بدارِ الإسلامِ، أو بدَارِ الحَربِ. ولأنَّ أُمَّ حَكيمٍ أسلَمَت بمكَّةَ، وزَوجُها عِكرِمةُ قد هَرَبَ إلى اليَمَن، ثم أسلَمَ
(1)
، وأُقِرَّ على النِّكاحِ، معَ اختِلافِ الدِّينِ والدَّارِ.
فلو تزوَّجَ مُسلِمٌ بدارِ الإسلامِ كِتابيَّةً بدارِ الحَربِ، صحَّ؛ لعموم قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المَائدة: 5] وسواءٌ كانَت هي التي أسلَمَت، أو هو الذي أسلَم؛ لأنَّ المهرَ استقرَّ بالدُّخولِ فلم يَسقُط بشيء. وتقدَّمَ حكمُ ما إذا كانَ صحيحًا أو فاسِدًا.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (7/ 169) عن معمر، عن الزهري.
فَصْلٌ
وإنْ أسْلَم الكَافِرُ وتَحْتَه أَكْثَرُ مِن أرْبَعٍ فأسْلَمْنَ، أو لا، وَكُنَّ كِتابيَّاتٍ، اختارَ مِنهُنَّ أربعًا، إنْ كانَ مُكَلَّفًا، وإلَّا فحتَّى يُكَلَّفَ.
(فَصلٌ)
(وإنْ أسلَمَ الكافِرُ وتحتَهُ أكثَرُ مِن أربَع) نِسوَةٍ (فأسلَمنَ، أوْ لا) أو مَعَهُ، أو في العِدَّةِ، إن كانَ بعدَ الدُّخُولِ بهِنَّ، (وكنَّ كِتابيَّاتٍ)، أو كانَ بَعضُهُنَّ كتابيَّاتٍ، وبَعضُهنَّ غَيرَهُنَّ، فأسلَمنَ في عِدَّتهنَّ، لم يَكُن لهُ إمساكُهُنَّ كُلَّهُنَّ، بغَيرِ خلاف
(1)
.
(اختَارَ مِنهُنَّ أربَعًا) لأنَّ الاختيارَ استدَامَةٌ للنِّكاحِ، وتَعيينٌ للمَنكُوحَةِ، فصحَّ مِن المُحرِمِ
(2)
، بخلافِ ابتداءِ النكاحِ، والاعتِبارُ في الاختِيارِ بوَقتِ ثُبُوتِه، فلِذَلكَ صحَّ أن يَختَارَ مِن الميِّتَاتِ؛ لأنَّهنَّ كُنَّ أحياءً وَقتَه. (إنْ كانَ) الزَّوجُ (مُكلَّفًا، وإلَّا) يَكُن الزَّوجُ مُكلَّفًا، (فحتَّى يُكلَّفَ) فيَختَارَ مِنهُنَّ؛ لأنَّ غيرَ المكلَّفِ لا حُكمَ لقَولِه. ولا يَختَارُ عنهُ وَليُّهُ،؛ لأنَّه حقٌّ يتعلَّقُ بالشَّهوَةِ، فلا يَقومُ غيرُهُ مقامَه. وسواءٌ تزوَّجَهُنَّ في عقدٍ أو عُقودٍ، وسَواءٌ اختارَ الأوَائِلَ أو الأواخِر
(3)
. نصًا.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 222)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 88).
(2)
في الأصل: "المحرمة". وقال ذلك لأن أصل العبارة في "المنتهى": " اختار ولو كان محرما أربعًا ولو من ميتات".
(3)
في الأصل: "الآخر".
فإنْ لَمْ يَخْتَرْ، أُجْبِرَ بِحَبْسٍ، ثُمَّ تَعْزيرٍ، وعَلَئيْه نَفَقتهُنَّ إلى أنْ يَختارَ.
ويَكْفي في الاخْتِيارِ: أمسَكْتُ هؤلاءِ، وتَرَكْتُ هؤلاءِ؛ ويَحصُلُ الاخْتِيارُ بالوَطْءِ، فإن وَطِئَ الكُلَّ، تعيَّن الأُوَلُ، ويَحصُلُ بالطلاقِ، فمَن طلَّقها، فهِي مُخْتارةٌ.
وإنْ أسْلَم الحرُّ وتَحْتَه إمَاءٌ، فأسْلَمْنَ في العِدَّةِ، اختارَ ما يُعفُّهُ، إنْ جازَ لَه نِكاحُهُنَّ وَقْتَ اجْتِمَاعِ إسْلامِه بإسْلامِهِنَّ،
(فإنْ لم يَختَرْ) مَن أسلَمَ وتحتَه أكثَرُ مِن أربَعٍ (أُجبِرَ) على الاختيارِ (بحَبسٍ، ثم تعزيرٍ) إن أصَرَّ على الحَبسِ؛ ليَختارَ؛ لأنَّه حقٌّ عليه، فأُجبِرَ على الخُروجِ مِنهُ إذا امتَنعَ كسَائِرِ الحُقُوقِ.
(و) جبُ (عَليهِ نَفقَتُهُنَّ) جميعًا (إلى أن يختَارَ) مِنهنَّ أربَعًا؛ لوجُوبِ نفقَةِ زوجَاتِهِ عليه.
(ويَكفِي في الاختِيارِ) قولُه: (أمسَكتُ هؤلاءِ، وتَرَكتُ هؤلاء).
(ويحصُلُ الاختيارُ بالوَطءِ، فإن وَفىَ الكُلَّ) قَبلَ الاختيارِ بالقَولِ، (تعيَّنَ الأُوَلُ) أي
(1)
: الأَربَعُ المَوطُوآتُ مِنهنَّ أوَّلًا للإمسَاكِ، وما بعدَهُنَّ للتَّرك.
(ويحصُلُ بالطَّلاقِ، فمَن طلَّقَها، فهي مُختَارَةٌ).
(وإن أسلَمَ الحرُّ وتحتَهُ إماءٌ) أكثَرُ مِن أربَعٍ (فأسلَمنَ في العِدَّةِ) إن دخَلَ أو خَلا بهِنَّ، أسلَمنَ قَبلَهُ أو بعدَهُ (اختَارَ ما يُعِفُّهُ، إن جازَ له نِكاحُهُنَّ) بأنْ كانَ عادِمَ الطَّولِ، خائِفَ العَنَتِ (وَقتَ اجتِماعِ إسلامِهِ بإسلامِهِنَّ) تَنزيلًا له مَنزِلَةَ ابتداءِ العَقدِ،
(1)
في الأصل: "في".
وإن لم يَجُزْ لَه، فسَد نِكَاحُهُنَّ.
وإِن ارْتَدَّ أحَد الزَّوْجَيْنِ، أو هُمَا معًا، قَبْلَ الدُّخولِ، انفَسَخَ النِّكَاحُ، ولَهَا نِصْفُ المَهْرِ إنْ سَبَقَهَا، وبَعْدَ الدُّخولِ، تَقِفُ الفرْقَة على انْقِضَاءِ العِدَّةِ.
فيَختارُ مِنهُنَّ واحدَةً إن كانَت تُعِفُّهُ، فإن لم تُعِفُّه اختَارَ مَن يُعِفُّهُ مِنهُنَّ إلى أربَعٍ.
(وإن لم يَجُز لهُ) نِكاحُهُ وقتَ اجتِماعِ إسلامِه بإسلامِهنَّ
(1)
(فسَدَ نِكاحُهُنَّ) لأنَّهم لو كانُوا جميعًا مُسلِمين، لم يحُز ابتداءُ نكاحُ واحدةٍ منهنَّ، فكَذَا استدامتُه.
(وإن ارتدَّ أحدُ الزَّوجينِ، أو هُما) أي: الزَّوجانِ (معًا، قَبلَ الدُّخولِ، انفَسخَ النِّكاحُ) في قولِ عامَّةِ أهل العلم؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [المُمتَحنَة: 10]. ولأنَّ الارتِدَادَ اختِلافُ دينٍ وقَعَ قبلَ الدُّخُولِ، فأوجَبَ فسخَ النِّكاحِ، كإسلامِهَا تحتَ كافِرٍ.
(ولها) أي: الزَّوجَةِ (نِصفُ المهرِ إن سبَقَها) بالردَّةِ، أو ارتدَّ الزَّوجُ وحدَهُ دُونَهَا؛ لمجيءِ الفُرقَةِ مِن قِبَلِه، أشبَهَ الطَّلاقَ.
فإن سبَقَت هي بالردَّةِ، أو ارتدَّت وحدَها قَبلَ الدُّخُولِ، فلا مهرَ لها؛ لمجيءِ الفُرقَةِ مِن قِبَلِها، كما لو أرضَعَت مَن يَنفَسِخُ به نِكاحُها.
(وبعدَ الدُّخولِ، تَقِفُ الفُرقَةُ) بردَّةٍ (على انقِضَاءِ العدَّةِ) لأنَّ الردَّةَ اختلافُ دينٍ بعد الإصابَةِ، فلا يُوجِبُ فسخَهُ في الحالِ، كإسلامِ كافِرَةٍ تحتَ كافرٍ.
فإن تابَ مَن ارتدَّ قبلَ انقضائِها، فعلَى نكاحِهِما، وإلا تبيَّنا فسخَه منذُ ارتدَّ أحدُهُما.
(1)
في الأصل: "بإسلامِهنَّ يجز له".
كتابُ الصَّدَاقِ
تُسَنُّ تَسْمِيتُه في العَقْدِ.
(كِتابُ الصَّداقِ)
بفَتحِ الصَّادِ وكَسرِهَا. ويُقال
(1)
: صَدُقَةٌ، وصُدْقَةٌ، وصَدْقَةٌ، بسكونِ الدَّالِ فيهما معَ ضمِّ الصَّادِ وفَتحِها.
ولهُ أسماءٌ: الصَّدَاقُ، والصَّدُقَةُ، والمهرُ، والنِّحلَةُ، والفَريضَةُ، والأَجرُ، والعَلائِقُ، والعَقرُ، والحِبَاءُ، وقد نَظَمَها ابنُ أبي الفَتحِ
(2)
، فقال:
صَدَاقٌ ومَهرٌ نِحلَةٌ وفَريضَةٌ
…
حِبَاءٌ وأجرٌ ثمَّ عَقْرٌ عَلائِقُ
والتَّاسِعُ: الصَّدُقَةُ، بفَتحِ الصادِ معَ ضمِّ الدَّالِ على المشهورِ، يُقالُ: أصدَقتُ المرأةَ، ومَهَرتُهَا، ولا يُقال: أمهَرتُها. قاله في "المغني"
(3)
.
والصَّداقُ: هو العِوَضُ المُسمَّى في عَقدِ النكاحِ، والمسمَّى بعدَه لمَن لم يُسَمَّ لها فيه.
(تُسَنُّ تَسميتُهُ) أي: الصَّداقِ (في العَقدِ) لأنَّ تسميَتَه أقطَعُ للنِّزَاعِ. وليسَت شرطًا؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البَقَرَة: 236]. وروي أنَّه
(4)
عليه السلام زوَّجَ رجُلًا امرأةً، ولم يُسَمِّ
(1)
في الأصل "يقا".
(2)
"المطلع" ص (342).
(3)
"المغني"(10/ 98).
(4)
في الأصل: "عليه".
ويَصِحُّ بأقلِّ مُتَموَّلٍ.
فإنْ لَمْ يُسَمِّ، أو سَمَّىَ فاسدًا، صَحَّ العَقْدُ، ووجبَ مَهْرُ المِثْلِ.
لها مَهرًا
(1)
.
(ويَصِحُّ) أي: المهرُ (بأقَلِّ مُتموَّلٍ) لحديث: "التَمْس ولو خاتمًا مِن حَديدٍ"
(2)
. وحديثِ "لو أنَّ رَجلًا أعطَى امرأةً صَدَاقًا مِلءَ يَدِهِ طَعَامًا، كانَت له حَلالًا". رواه أبو داود بمعناه
(3)
.
وعن عامِر بنِ ربيعَةَ، أنَّ امرأةً من فَزارَةَ تزوَّجَت على نَعلَين، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أرَضيتِ من ممالِكِ ونَفسِكِ بنَعلَين"؟ قالَت: نعَم. فأجازَهُ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذيُّ
(4)
وصححه.
واشتَرَطَ الخرقيُّ: أنْ يَكونَ له نِصفٌ يُتموَّلُ، فلا يجوزُ على فِلسٍ ونحوِه.
وتَبِعَه عليه جمعٌ، وصاحِبُ "الإقناع". فيَصحُّ النِّكاحُ على عَينٍ، ودَينٍ حَالٍّ ومؤجَّلٍ
(5)
.
(فإنْ لم يُسَمِّ، أو سمَّى فاسِدًا، صَحَّ العَقدُ) أي: النِّكاحُ (ووَجَبَ) للمرَأةِ (مَهرُ المِثْلِ).
(1)
أخرجه أبو داود (2117) من حديث عقبة بن عامر. وصححه الألباني في "الإرواء"(1924). وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 94).
(2)
أخرجه البخاري (5135)، ومسلم (1425) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(3)
أخرجه أبو داود (2110) من حديث جابر. وضعفه الألباني.
(4)
أخرجه أحمد (24/ 450)(15679)، وابن ماجه (1888)، والترمذيُّ (1113). وضعفه الألباني.
(5)
"دقائق أولي النهى"(5/ 235).
وإنْ أصْدَقَها تَعْلِيمَ شَيْءٍ مِن القُرآنِ، لم يَصِحَّ، وتَعْليمَ مُعَيَّنٍ مِن فِقْهٍ، أوْ حَدِيثٍ، أو شِعْرٍ مُباحٍ، أو صَنْعةٍ، صَحَّ.
ويُشْترَطُ عِلْمُ الصدَّاق، فلَوْ أصْدَقَها دارًا، أو دَابَّةً،
(وإن أصدَقَها تَعليمَ شيءٍ مِن القُرآن) ولو كانَ ما أصدَقَها تَعليمَهُ مِن القُرآنِ مُعيَّنًا، (لم يَصِحَّ) لأنَّ الفُروجَ لا تُستباحُ إلَّا بالأموالِ؛ لقولِه تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النِّساء: 24]. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النِّساء: 25] والطول: المال. وما رُويَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم زوَّجَ رجُلًا على سُورَةٍ مِن القرآن، ثم قالَ:"لا تَكونُ لأحدٍ بعدَكَ مَهرًا"
(1)
. رواه النَّجَّادُ.
ولأنَّ تعليمَ القرآنِ لا يَقعُ إلَّا قُربَةً لفَاعِلِه، فلم يَصحَّ أن يَقعَ صَدَاقًا، كالصَّومِ والصَّلاةِ
(2)
.
(و) كأَنْ يُصدِقَها (تَعليمَ مُعيَّنٍ مِن فِقهٍ، أو حَديثٍ) إن كانَت مُسلِمَةً، ويُعيِّنُ الذي يَتزوَّجُها عليه، هل هو كُلُّهُ، أو باب منه، أو مَسائِلُ مِن بابٍ، وفِقهُ أيِّ مَذهَبٍ، وأَيِّ كِتاب مِنهُ، وأنَّ التَّعليمَ تَفهيمُهُ إيَّاهَا
(3)
، أو تَحفيظُه؟ (أو شِعرٍ مُباحٍ) أو أدَبٍ، من نحوٍ، وصَرفٍ، ومَعانٍ، وبيانٍ، وبديعٍ، ونحوِه. (أو) يُصدِقُها تَعليمَهَا (صنعَة) كخِياطَةٍ، أو كتابَةٍ، (صَحَّ) مَهرًا.
(ويُشتَرَطُ عِلمُ الصَّدَاقِ) كالثَّمَن، (فلو أصدَقَها دارًا) مُطلَقَةً، (أو دابَّةً)
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (642) من حديث أبي معاوية. وقال الألباني في "الإرواء"(1929): منكر.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 238)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 95).
(3)
في الأصل: "أيامًا".
أو ثَوْبًا مُطْلقًا، أو ردَّ عبدِها أين كَانَ، أو خِدْمَتَها مدَّةً فيما شاءَتْ، أو مَا يُثْمِرُ شَجَرُه، أو حَمْلَ أَمَتِه أو دَابَّتِه، لم يَصِحَّ.
ولا يَضُرُّ جَهْلٌ يَسيرٌ، فلَوْ أصْدَقَها عبدًا مِنْ عَبِيدِه، أو دَابَّةً مِن دَوابِّه، أوْ
قَمِيصًا مِن قُمْصَانِه، صَحَّ، وَلَهَا أَحَدُهُم بقُرعَةٍ.
وإنْ أصْدَقَها عِتْقَ قِنِّه، صَحَّ،
مُطلَقَةً، (أو ثَوبًا مُطلَقًا، أو رَدَّ عَبدِهَا أينَ كان، أو) أصدَقَها (خِدمَتَها) أي: أن يَخدِمَها (مدَّةً شاءَت، أو) أصدَقَها مَعدُومًا بنَحوِ (ما يثمِرُ شَجَرُهُ) في هذا العام، أو مُطلَقًا، (أو) أصدَقَها (حَمْلَ أَمَتِه، أو) أصدَقَهَا حملَ (دابَّتِهِ) وكما لو نَكَحَهَا على أن يَحُجَّ بها، أو على طَيرٍ في هَواءٍ، أو سَمَكٍ في ماءٍ، أو حشَرَاتٍ، أو لا يُتموَّلُ عادَةً، كحَبةِ حِنطَةٍ، وقِشَرَةِ جَوزَةٍ (لم يصح
(1)
).
(ولا يَضرُّ جَهل يَسيرٌ) في صَدَاقٍ (فلَو أصدَقَها عَبدًا مِن عَبيدِه) صَحَّ. (أو) أصدَقَها (دابَّةً مِن دوابِّه) بشَرطِ تَعيينِ نَوعِهَا، كفَرَسٍ من خيلِه، أو جمَلٍ من جمالِه، أو بَغلٍ من بِغالِه، أو حِمارٍ من حَميرِه
(2)
، أو بقرَةٍ مِن بَقرهِ، ونحوه، صحَّ. (أو) أصدَقَها (قميصًا من قُمصَانِه، صَحَّ. ولها أَحَدُهُم بقُرعَةٍ) نصًا؛ لأنَّ الجهالَةَ فيه يَسيرَةٌ.
(و) يمكِنُ التَّعيينُ فيهِ بالقُرعَةِ، بخلافِ ما إذا أصدَقَهَا عَبدًا مطلقًا؛ فإن الجهالة تكتْر فلا يصح.
(وإن أصدَقَها عِتقَ قِنِّهِ، صحَّ) قال في "الإنصاف"
(3)
: لو أصدَقَها عِتقَ أَمَتِه،
(1)
سقطت: (لم يصح) من الأصل.
(2)
في الأصل: "حمره".
(3)
"الإنصاف"(21/ 122).
لا طَلاقَ زَوْجَتِه.
وإنْ أصْدَقَهَا خَمْرًا أو خِنْزِيرًا، أوْ مالًا مَغْضوبًا يَعْلَمَانِه، لَمْ يَصِحَّ، وإنْ لَمْ يَعْلَمَاه صَحَّ، ولَهَا قِيمتُه يَوْمَ العَقْدِ. وعَصِيرًا، فبانَ خَمْرًا، صَحَّ، ولَهَا مِثْلُ العَصِيرِ.
صحَّ، بلا نِزاعٍ.
(لا طلاقَ زَوجَتِه) أي: لا يَصحُّ أن يُصدِقَها طلاقَ زَوجَتِه.
(وإن أصدَقها خمرًا، أو خِنزيرًا، أو مالًا مغصُوبًا يَعلَمَانِه) إذ العِبرَةُ بِعلمِهِما.
(لم يَصِحَّ، وإن لم يَعلَمَاهُ، صَحَّ) النِّكاحُ. نصًا؛ لأنَّه عقدٌ لا يَفسُدُ بجهالَةِ العِوَضِ، فلا يَفسُدُ بتَحريمِه، كالخُلعِ، ولأنَّ فسادَ العِوَضِ لا يزيدُ على عدَمِه، ولو عُدِمَ كانَ النكاحُ صَحيحًا، فكذا إذا فسَدَ.
(ولها قِيمَتُه يومَ العَقدِ) لأنَّ فَسادَ العِوَضِ يَقتَضي رَدَّ عِوَضِه، وقد فاتَ ذلك؛ لصحَّةِ النكاحِ، فيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِه، وهو مَهرُ المِثلِ، ولأنَّ ما يُضمَنُ بالعَقدِ الفاسِدِ، اعتُبِرَت قِيمَتُه بالِغَةً ما بَلَغَت، كالمبيع، كمَن اشتَرَى شيئًا بثَمَنٍ فاسِدٍ، فقَبَضَ المبيعَ وتَلِفَ في يَدِه
(1)
.
(و) إن
(2)
أصدَقَها (عَصيرًا، فبانَ خمرًا، صحَّ، ولها مِثلُ العَصيرِ) لأنَّه مِثليٌّ، فالمِثلُ أقرَبُ إليهِ مِن القِيمَةِ، ولهذا يُضمَنُ به في الإتلاف.
(1)
"كشاف القناع"(11/ 463).
(2)
"إن" ليست في الأصل، اقتضى السياق إضافتها.
فَصْلٌ
وللأَبِ تَزْوِيجُ بِنْتِه مُطْلَقًا، بدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وإنْ كَرِهَتْ. ولا يَلْزَمُ أحدًا تَتِمَّتُه.
(فَصلٌ)
(وللأَبِ تَزويجُ بِنتِه مُطلَقًا) أي: بِكرًا أو ثيِّبًا، كبيرةً أو صغيرَةً
(1)
(بدُون صَدَاقِ مِثلِهَا، وإن كَرِهَت) نصًا؛ لأنَّ عُمرَ خَطَبَ الناسَ، فقالَ: لا تُغَالُوا في صداقِ النِّساءِ، فما أصدَقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا مِن نسائِه ولا بناتِه أكثَرَ مِن اثنَتي عَشرةَ أوقيَّةً
(2)
. وكانَ ذلك بمَحضَرٍ من الصحابَةِ، ولم يُنكَر، فكانَ اتِّفاقًا مِنهُم على أنْ يُزوَّجَ بذلكَ، وإن كانَ دُونَ صداقِ مِثلِهَا. ولأنَّه ليسَ المقصودُ من النِّكاحِ العِوَضَ، وإنَّما المقصودُ السَّكَنُ والازدِوَاجُ، ووَضعُ المرأةِ في
(3)
منصبٍ
(4)
عندَ مَن يَكفيهَا ويَصونُها. والظاهِرُ مِن الأَبِ معَ تمامِ شَفقَتِه وحُسنِ نَظَرِهِ أن لا ينقُصُها مِن الصَّداقِ إلَّا لتَحصيلِ المعاني المقصُودَةِ، فلا يُمنَع مِنه، بخِلافِ عُقودِ المُعاوَضَاتِ، فإنَّ المقصودَ منها العِوضُ.
(ولا يَلزَم أحدًا) إذا زوَّجَ الأبُ بدُونِ مَهرِ المثل (تَتمَّتُهُ) لا الزَّوجُ ولا الأَبُ؛ لصحَّةِ التسميَةِ.
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 100).
(2)
أخرجه أبو داود (2106)، والترمذي (1114)، وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "من".
(4)
تكررت: "منصب" في الأصل.
وإنْ فعَل ذلكَ غيرُ الأَبِ بإذْنِهَا مَعَ رُشْدِهَا، صَحَّ. وبُدُونِ إذْنِهَا، يَلْزَمُ الزَّوْجَ تَتِمَّتُه.
فإنْ قدَّرَتْ لِوَلِّيها مَبْلغًا، فزوَّجَها بدُونِه، ضَمِنَ.
وإنْ زوَّج ابنَه، فقِيلَ لَهُ: ابنُكَ فَقِيرٌ، مِن أينَ يُؤخَذُ الصَّدَاقُ؟ فقال: عندِي، لَزِمَه.
وليسَ للأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ بِنْتِه الرَّشِيدَةِ، ولَوْ بِكْرًا، إلَّا بإذْنِهَا.
(وإن فَعَلَ ذلِكَ غَيرُ الأَبِ) بأن زوَّجَها غَيرُ الأَبِ بِدُونِ مَهرِ مِثلِها (بإذنِهَا معَ رُشدِها، صَحَّ) ذلك، ولا اعْتِرَاضَ؛ لأنَّ الحقَّ لها وقَد أسقَطَتهُ.
(وبِدُونِ إذنِهَا، يَلزَمُ الزَّوجَ تتمَّتُه) أي: مَهرُ المِثلِ؛ لفَسادِ التسميَةِ إذَنْ؛ لأنَّها غَيرُ مأذُونٍ فيهَا، فوجَبَ على الزَّوجِ مهرُ المِثلِ، كما لو تَزوَّجَهَا بمحرَّمٍ، وعلى الوليِّ ضَمانُه؛ لأنَّه المفرِّطُ، كما لو باعَ مالَهَا بِدُونِ قِيمَتِه.
(فإنْ قدَّرَت لوليِّهَا مَبلَغًا، فزوَّجَها بدُونِه، ضَمِنَ) لأنَّه مُفرِّطٌ، كما لو باعَ مالَهَا بدُونِ ثَمنِ مِثلِه.
(وإن زوَّجَ ابنَهُ، فقيلَ لهُ: ابنُكَ فَقيرٌ، مِن أَينَ يؤخَذُ الصَّداقُ؟. فقالَ: عِندِي، لَزِمَهُ) المهرُ عَنهُ؛ لأنَّه صارَ ضامنًا بذلك.
(وليسَ للأبِ قَبضُ صدَاقِ بِنتِهِ الرشيدَةِ، ولو بِكرًا، إلَّا بإذنها) لأنَّها المتصرِّفَةُ في مالِهَا، فاعتُبِرَ إذنُها في قَبضِه، كثَمَنِ مَبيعِهَا.
والحاصِلُ: أنَّ قبضَ الصداقِ إنَّما يكونُ للمرأةِ إن كانَت مكلَّفةً رشيدةً، وإلَّا فلِوَليِّها في مالِها.
فإنْ أقْبَضَه الزَّوْج لأَبِيها، لم يَبْرَأْ، ورجَعَتْ علَيْه، ورجَعَ هُو عَلَى أَبِيها. وإنْ كانَتْ غيرَ رَشِيدةٍ، سَلَّمَه إلَى وَلِيِّها في مالِهَا.
وإنْ تزوَّج العَثدُ بإذْنِ سَيِّدِه، صَحَّ، وعلَى سَيِّدِه المَهْرُ، والنَّفَقَةُ، والكِسْوةُ، والمَسْكَنُ. وإنْ تزوَّج بلا إذْنِه، لَمْ يَصِحَّ،
(فإن أقبَضَهُ الزَّوجُ لأَبيها، لم يَبرَأ) الزَّوجُ (ورَجَعَت عليه) أي: على الزَّوجِ (ورجعَ هو على أبيها. وإن كانَت غَيرَ رشيدةٍ، سلَّمَه إلى وَليِّها) أي: الزَّوجُ (في مالِهَا).
(وإن تزوَّجَ العبدُ بإذنِ سيِّدِه، صحَّ) قال في "الشرح"
(1)
: بغَيرِ خِلافٍ نَعلَمُه (وعلى سَيِّدِهِ المهرُ، والنفقةُ، والكِسوَةُ، والمسكَنُ) سواءٌ ضَمِنَ ذلك أو لم يَضمَنْهُ، وسواءٌ كانَ العبدُ مأذُونًا له في التجارَةِ أو لا. نصًا؛ لأنَّ ذلكَ حقٌّ تعلَّقَ بعَقدٍ بإذنِ سيِّدِه، فتعلَّقَ بذمَّةِ السيِّد، كثَمَنِ ما اشتَرَاهُ بإذنِه.
فإنْ باعَهُ سيِّدُه أو أعتَقَه، لم يسقُط الصَّداقُ عنهُ، كأَرشِ جِنايَتِه.
(وإن تزوَّجَ) العبدُ (بلا إذنِه) أي: السيِّدِ (لم يَصحَّ) النكاحُ، فهو باطلٌ.
نصًا؛ لما روى جابرٌ مرفوعًا: "أيما عبدٍ تزوَّج بغَيرِ إذنِ سيِّدِه، فهو عاهِرٌ". رواه أحمدُ، وأبو داودُ، والترمذي
(2)
وحسَّنَه. والعُهْرُ دَليلُ بُطلانِ النكاحِ؛ إذ لا يكونُ عاهِرًا معَ صِحَّتِه.
(1)
"الشرح الكبير"(21/ 151).
(2)
أخرجه أحمدُ (23/ 279)(15031)، وأبو داودُ (2078)، والترمذي (1111)، وحسنه الألباني.
فلَوْ وَطِئَ، وجا في رَقَبَتِه مَهْرُ المِثْلِ.
(فلَو وَطِئَ، وجَبَ في رَقَبَتِه) أي: العَبدِ، في نِكاحٍ لم يأذَن فيهِ سَيِّدُه (مَهرُ المِثلِ) لأنَّه قِيمَةُ البُضعِ الذي أتلَفَ بغَيرِ حقٍّ، أشبَهَ أرشَ الجِنايَةِ.
فَصْلٌ
وتَمْلِكُ الزَّوْجةُ بالعَقْدِ جَمِيعَ المُسَمَّى، ولَهَا نَماؤُه إنْ كانَ مُعَيَّنًا، ولَهَا التصرُّف فِيهِ.
(فَصلٌ)
(وتَملكُ الزوجةُ) حرَّة، وسَيِّدُ أمَةٍ (بالعَقدِ جميعَ) مهرِهَا (المسمَّى) حالًّا كان أو مُؤجَّلًا؛ لقوله عليه السلام:"إن أعطَيتَهَا إزارَكَ، جَلَسْتَ ولا إزارَ لَكَ"
(1)
. فيدلُّ على أن الصداقَ كُلَّه للمرَأةِ، ولا يَبقَى للرَّجُلِ فيه شيءٌ، ولأنَّه عقدٌ يَملِكُ به العِوَضَ، فتَملِكُ بِهِ المُعوَّضَ كامِلًا، كالبَيعِ. وسقوطُ نِصفِه بالطَّلاقِ لا يَمنَعُ وجوبَ جميعِه بالعَقدِ، ألا ترَى أنها لو ارتدَّت سقَطَ جميعُه، وإن كانَت ملَكَت نِصفَه.
(ولها) أي: الزوجَةِ (نماؤُهُ) أي: المهرِ (إن كانَ مُعيَّنًا) كعَبدٍ معيَّني، ودارٍ مُعيَّنةٍ، من حينِ العَقدِ
(2)
، فكَسبُ العبدِ ومنفعَةُ الدَّارِ لها؛ لأنَّهُ نماءُ مِلكِها. ولحديث:"الخراجُ بالضَّمانِ"
(3)
.
(ولها التصرُّفُ فيه) أي: المهرِ المعيَّنِ، ببيعٍ ونحوِه؛ لأنَّه مِلكُها، إلَّا نحوَ مَكيلٍ قَبلَ قَبضِه.
(1)
أخرجه البخاري (5135)، ومسلم (1425) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(2)
في الأصل: "عقد".
(3)
أخرجه أبو داود (3508)، والترمذي (1285، 1286) من حديث عائشة. وحسنه الألباني. في "الإرواء"(1315).
وضَمَانُه ونَقْصُه عَلَيها، إنْ لَمْ يَمْنَعْهَا قبضَه.
وإِنْ أقْبَضَهَا الصَّدَاقَ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبلَ الدُّخُولِ، رَجَع علَيهَا بنِصْفِه، إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإنْ كَانَ قَدْ زَادَ زِيَادة مُنْفَصلةً، فالزِّيَادةُ لَهَا.
(وضَمانُهُ ونَقصُهُ عَليها) أي: المَهرِ، إن تَلِفَ بغَيرِ فِعلِها، أو تعيَّبَ كذلك (إن لم يَمنَعْهَا قَبضَهُ) فإن منَعَها قبضَه، فعَليهِ الضمانُ؛ لأنَّه كالغاصِبِ.
(وإن أقبَضَها الصداقَ، ثم طلَّقَ قبلَ الدُّخولِ، رجَعَ عليها بنِصفِه) قهرًا، كمِيرَاثٍ، ولو صَيدًا وهو مُحرِمٌ.
فما يحدُثُ من نمائِه بعدَ طلاقِها، فهو بَينَهُما؛ لقولِه تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البَقَرَة:237] أي: لكُم أو لهنَّ، فاقتَضَى أن النِّصفَ لها والنِّصفَ لَهُ بمجرَّدِ الطلاقِ (إن كانَ باقيًا) في مِلكِها
(1)
بِصِفَتِه حِينَ عَقدٍ؛ بأن لم يَزِدْ ولم يَنقُص.
(وإن كانَ) الصَّداقُ (قد زادَ زِيادَةً مُنفَصِلَةً) كحَملِ بهائِمَ عِندَها، ووِلادَتِهَا، (فالزِّيادَةُ لها) أي: للزَّوجَةِ؛ لأنها نماءُ مِلكِها، ولو كانت الزيادَةُ وَلَدَ أمَةٍ؛ لأنَّ الولَدَ زِيادَةٌ مُنفَصِلَةٌ، ولا تَفريقَ هُنا؛ لبَقاءِ مِلكِ الزَّوجَةِ في النِّصفِ.
وإن كانَت الزيادَةُ في الصداقِ مُتَّصِلَةً، كسِمَنٍ، وتَعَلمِ صَنعَةٍ -وهي غَيرُ محجورٍ عَليها- خُيِّرَت
(2)
بينَ دَفعِ نِصفِه زَائِدًا -ويَلزَمُهُ قَبولُه؛ لأنَّها دفَعَت إليه حقَّه وزِيادَةً لا تتميَّز ولا تَضرُّه- وبَينَ دَفعِ نِصفِ قِيمَتِه يومَ العَقدِ إنْ كانَ الصداقُ مُتَميزًا، كعَبدٍ وبَعيرٍ مُعيَّنَينِ؛ لدُخولِ المتميِّزِ في ضَمانِها بمجرَّدِ العَقدِ، فتُعتَبرُ صِفتُهُ وقتَه. وإنَّما صِيرَ إلى نِصفِ القِيمَةِ؛ لأنَّ الزيادةَ لها. ولا يَلزَمُها بذلُهَا، ولا
(1)
في الأصل: "ملكه".
(2)
في الأصل: "خير".
وإنْ كانَ تَالِفًا، رجَعَ في المِثْلي بنِصْفِ مِثْلِه، وفي المتَقَوَّمِ بنِصْفِ قِيمَتِه يَوْمَ العَقْدِ.
والذِي بيَدِه عُقْدَة النِّكاحِ: الزَّوْجُ. فإذَا طلَّقَ قَبلَ الدُّخُولِ، فأيُّ الزوجيْنِ عَفَا لصاحِبِه عمَّا وجَبَ لَهُ مِن المَهْرِ -وهُوَ جائِزُ التَّصرُّفِ- بَرِئَ مِنْهُ صاحِبُه.
وإنْ وَهَبَتْة صَدَاقَهَا قَبْلَ الفُرْقَةِ، ثُمَّ حَصَل ما يُنَصِّفه، كطَلاقٍ، رجَع عَلَيْها ببَدَلِ نِصْفِه،
يُمكِنُها دفعُ الأصلِ بدُونِ زِيادَتِه.
(وإن كانَ) الصداقُ (تالِفًا) بعدَ قَبضِهِ، كمَوتِهِ واحتِرَاقِه (رجَعَ) زوجٌ (في) الصَّدَاقِ (المثليِّ بِنِصفِ مِثلِه، وفي) الصَّدَاقِ (المتقَوَّمِ بِنصفِ قِيمَتِه) إن كانَ مُتميِّزًا (يومَ العَقدِ) ورجَعَ في غيرِ المتميِّزِ إذا كانَ مُتقوَّمًا بنِصفِ قِيمَتِه يومَ فُرقَةٍ على أدنى
(1)
صِفَةٍ مِن عَقدٍ إلى قَبضٍ.
(والذي بيَدِه عُقدَةُ النِّكاحِ) في قولِه تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البَقَرَة: 237]: الزَّوجُ، لا وَليُّ الصَّغير.
(فإذا طلَّقَ قَبلَ الدُّخُولِ، فأيُّ الزَّوجَينِ عَفَا لصَاحِبه) أي: الزَّوجِ الآخَرِ (عَمَّا وجَبَ) أي: استقرَّ (لهُ) بالطَّلاقِ (مِنَ المَهْرِ -وهو جائِزُ التصرُّفِ) بأنْ كانَ مُكلَّفًا رَشيدًا (بَرِئَ مِنهُ صاحِبُه) لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النِّساء:4].
(وإنْ وَهَبَتْهُ صداقَها قبلَ الفُرقَةِ، ثمَّ حصَلَ ما يُنَصِّفُهُ، كطلاقٍ) قبلَ الدُّخُولِ (رجَعَ عليها) الزَّوجُ (ببدَلِ نِصفِه) أي: الصَّداقِ.
(1)
في الأصل: "أني".
وإنْ حصَل ما يُسْقِطُه، رجَعَ ببَدَلِ جَمِيِعه.
(وإن حصَلَ ما يُسقِطُه) وهي ما إذا ارتَدَّت بعدَ أن أسقَطَت عنهُ صداقَها، (رجَعَ) الزَّوجُ (بِبَدَلِ جَميعِه) لأنَّ عَوْدَ نِصفِ الصَّدَاقِ أو كُلِّهِ إلى الزَّوجِ بالطلاقِ أو الردَّةِ، وهما غَيرُ الجِهَةِ المُستَحَقِّ بها الصَّدَاقُ أوَّلًا، فأشبَهَ ما لو أَبرَأَ إنسانٌ آخَرَ من دَينٍ، ثمَّ ثبَتَ له
(1)
عليهِ مِثلُهُ مِن وَجهٍ آخَرَ، فلا يَتَساقَطانِ بِذلِكَ.
(1)
سقطت: "له" من الأصل.
فَصْلٌ فِيمَا يُسقِطُ الصدَاقَ ويُنصِّفُهُ ويُقرِّرُهُ
يَسْقُطُ كلُّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ
- حتَّى المُتْعَةُ-: بفُرْقَةِ اللِّعانِ، وبفَسْخِه لعَيْبِها، وبفُرْقَةٍ من قِبَلِهَا، كفَسْخِهَا لعَيْبِه، وإسلامِهَا تحتَ كافِرٍ، وَرِدَّتِها تَحْتَ مُسْلِمٍ، ورَضاعِهَا مَنْ يَنْفَسِخ بِه نِكَاحُهَا.
ويَتنصَّفُ: بالفُرْقَةِ مِن قِبَلِ الزَّوْجِ، كطَلاقِه، وخُلعه، وإسلامِه،
(فَصلٌ فيما يُسقِطُ الصَّداقَ ويُنصِّفُهُ ويُقرِّرُهُ)
(يَسقُطُ) الصَّداقُ (كُلُّهُ قبلَ الدُّخُولِ -حتَّى المتعَةُ- بفُرقَةِ اللعَانِ) قبلَ دُخولٍ؛ لأنَّ الفَسخَ مِن قِبَلِها؛ لأنَّه إنَّما يَكونُ إذا تمَّ لِعانُها.
(و) يَسقُطُ (بِفَسخِه) أي: الزَّوجِ النِّكاحَ (لعَيبِها) كَكَونِهَا رَتقَاءَ
(1)
، أو بَرصَاءَ، ونحوَه، قبلَ دُخولٍ، لتَلَفِ المُعَوَّضِ قبلَ تَسليمِه، فسَقَطَ العِوَضُ كُلُّه، كتَلَفِ مَبيعٍ بنَحوِ كَيلٍ قَبلَ تَسليمِه.
(و) يَسقُطُ الصداق (بفُرقَةٍ مِن قِبَلِها، كفَسخِهَا) أي: الزَّوجَةِ (لعَيبِهِ) وإعسَارِهِ، أو عَدَمِ وفائِه بشَرطٍ شَرَطَتْهُ عليه في النكاح. (وإسلامِها تحتَ كافِرٍ) قَبلَ دُخولٍ (ورِدَّتِهَا تحتَ مُسلِمِ، ورَضَاعِهَا مَن يَنفَسِخُ بِهِ نِكَاحُها) كزَوجَةٍ لهُ صُغرَى قبل دخولٍ.
(ويتنصَّفُ) صداقُها (بالفُرقَةِ مِن قِبَلِ الزَّوجِ، كطلاقِهِ) الزوجَةَ قبلَ الدُّخولِ (وخُلْعِه) ولو بِسُؤالِهَا، وكذا لو علَّقَ طلاقَها على فِعلِهَا شَيئًا، ففَعَلَته. (وإسلامِهِ)
(1)
الرتقاء، يقال: امرأة رتقاء، بينة الرتق: لا يستطاع جماعها. "القاموس المحيط": (رتق).
ورِدَّتِه، وبمِلْكِ أحدِهِمَا الآخَرَ، أوْ قِبَلِ أجْنَبِيٍّ، كرَضَاع ونَحْوِه.
ويُقرِّرُه كاملًا:
مَوْتُ أحدِهِمَا، ووَطْؤُهَا، ولَفسُه لَهَا، ونَظَرُه إلى فَرْجِهَا لشَهْوَةٍ، وتَقْبِيلُها ولَوْ بِحَضْرةِ النَّاسِ،
أي: الزَّوجِ، إن لم تَكُن كِتابيَّةً (ورِدَّتِه، وبمِلكِ أَحَدِهِمَا الآخرَ) أي: شراءِ كُلٍّ مِنهُمَا الآخَرَ قبلَ الدُّخولِ.
(أو) أي: ويَتنصَّفُ بِكُلِّ فُرقَةٍ مِن (قِبَلِ أجنبيٍّ، كرَضَاع) أُمِّهِ، أو أُختِه، أو زَوجَةِ أبيه أو ابنِه، رضَاعًا مُحَرِّمًا (ونحوِه) كوَطءِ أبي الزَّوجِ أو ابنِه الزوجَةَ. وكذا لو طَلَّق حاكِمٌ على مُولي ونحوِه قبلَ دُخولٍ؛ لأنَّه لا فِعلَ للزَّوجَةِ في ذلك، فيسقُطُ به صدَاقُها.
(ويُقرِّرُه) أي: المهرَ (كامِلًا: مَوتُ أحَدِهِما) أي: الزَّوجين.
(و) يُقرِّرُه كامِلًا (وَطؤُها) أي: وَطءُ الزَّوجِ زوجَتَه في فَرجٍ، ولو دُبُرًا (ولَمْسُهُ) أي: الزَّوجِ (لها) أي: للزَّوجَةِ. (ونَظَرُهُ إلى فَرجِها لشَهوَةٍ) فيهِمَا (وتَقبيلُهَا ولو بحَضرَةِ النَّاسِ) لأنَّ ذلكَ نَوعُ استِمتَاعٍ، فأوجَبَ المهرَ، كالوطء، ولأنَّه نالَ مِنها شيئًا لا يُباحُ لغَيرِه، ولمفهومِ قولِه تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البَقَرَة: 237] الآية. وحَقيقَةُ المَسِّ: التِقَاءُ البَشْرَتَين.
ولا يُقرِّرُ الصداقَ النَّظَرُ إليها دُونَ فَرجِها؛ لأنَّه ليسَ منصوصًا عليه، ولا في معنى المنصوصِ عليه.
ولا يُقرِّرُه أيضًا تَحَمُّلُهَا ماءَ الزَّوجِ، أي: مَنِيَّهُ، مِن غَيرِ خلوةٍ منهُ بها، ولا وطءٍ.
وبِطَلاقِهَا في مَرَضٍ تَرِثُ فِيه، وبِخَلْوَتِه بِهَا عَنْ مُمَيِّزٍ، إنْ كانَ يَطأ مِثْلُه، ويُوطأ مِثْلُهَا.
ويَثبُت بتَحَمُّلِها ماءَهُ النَّسبُ
(1)
.
(و) يُقَرِّرُه (بِطلاقِها) أي: الزَّوجَةِ (في مَرضٍ تَرِثُ فِيه) يعني: أنَّ الزوجَ إذا مَرِضَ مَرضَ الموتِ المخوفَ، وطلَّقَ زوجَتَه فِرارًا، ثم ماتَ فيه، تقَرَّرَ عليه الصداقُ كامِلًا بالمَوتِ؛ لوُجُوبِ عِدَّةِ الوفاةِ عليها في هذِه الحالَةِ، فوجَبَ كمالُ المهرِ، ما لم تتزوَّج أو ترتدَّ عن الإسلام؛ لأنها لا تَرِثُه إذَنْ.
(و) يُقرِّرُه كاملًا (بخَلوَتِه بها) وإن لم يَطَأْهَا (عن مُمَيِّزٍ) وبالِغٍ مُطلَقًا، أي: مُسلِمًا كان أو كافرًا، ذكَرًا أو أُنثى، أعمَى أو بَصيرًا، عاقِلًا أو مجنونًا (إنْ كَانَ
(2)
) الزَّوجُ (يَطَأ مِثلُه) كابنِ عَشرٍ فأكثَرَ (و) كانَت الزوجَةُ (يُوطَأ مِثلُها) كبِنتِ تِسعٍ فأكثَرَ. فإن كانَ أحَدُهُما دونَ ذلك، لم يتقرَّر المهرُ.
(1)
في الأصل: "النَّسبُ، وما قبض بسبب".
(2)
في الأصل: "وكان".
فَصْلٌ
وإذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ الصَّدَاقِ، أوْ جِنْسِه، أوْ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ: فقَوْلُ الزَّوْجِ، أوْ وَارِثِه. وفي القَبْضِ، أو تَسْمِيةِ المَهْرِ:
(فَصلٌ)
(وإذا اختلَفَا) أي: الزَّوجَانِ، أو اختَلَفَ ورثَتُهُما، أو أحدُهُما وورَثُةُ الآخر، أو اختَلَفَ زوجٌ ووليُّ نحوِ صغيرَةٍ، أو وَليُّ زَوجِ نَحوِ صَغيرٍ معَ زوجَةٍ رشيدَةٍ، أو معَ وَليِّ يَخرِها، أو معَ وَارِثِها
(1)
(في قَدرِ الصَّداقِ) بأنْ قالَ: تَزوَّجتُكِ على عِشرين، فتقولُ: بل على ثَلاثِين.
(أو) في (جِنسِه) بأن قالَ: على فِضَّةٍ، فتقولُ: على ذَهَبٍ.
أو في عَينِهِ؛ بأن قالَ: على هذا العَبدِ، فتقولُ: بل على هذِه الأمَةِ.
أو في صِفَتِهِ؛ بأن قالَ: على عَبدٍ زِنجِيٍّ، فقَالَت: بل أبيَض.
(أو) في (ما يَستَقِرُّ به) الصداقُ؛ بأن ادَّعَت وَطئًا، أو خَلوَةً، فأنكَرَ (فقَولُ الزَّوجِ) بِيَمينِه (أو وارِثِه) أو وَلِيِّهِ بيَمينِه؛ لأنَّه مُنكِرٌ، والقَولُ قَولُه بيَمينِه؛ لحَديث:"البيِّنَةُ على المدَّعِي، واليَمينُ على مَن أنكَرَ"
(2)
.
(وفي القَبضِ) أي: قَبضِ الصَّداقِ (أو تَسمِيَةِ المهْرِ) أي: مَهرِ المِثلِ؛ بأن
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 268)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 113).
(2)
أخرجه الترمذي (1341) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وصححه الألباني في "الإرواء"(1938). وأخرجه البخاري (2514) من حديث ابن عباس بلفظ: قضى أن اليمين على المدعى عليه.
فقَوْلُهَا، أو وَارِثِها.
وإنْ تَزَوَّجَها بعَقْدَيْنِ على صَدَاقيْنِ، سِرًّا وعَلانِيةً، أُخِذَ بالزَّائِدِ.
وهَدِيَّةُ الزَّوْجِ ليسَتْ مِن المَهْرِ، فمَا قَبْلَ العَقْدِ، إنْ وَعَدُوه ولَمْ يَفُوا، رجَعَ بِهَا.
قالَ: لم أُسَمِّ لَكِ مَهرًا. وقالَت: بل سمَّيتَ لي قَدرَ مَهرِ المِثلِ (فقَولُهَا) بيَمينِها، لحديث:"واليَمينُ على مَن أنكَرَ". أو قَولُ وَلِيِّها إن كانَت مَحجُورًا عليها، (أو) قَولُ (وارِثِها) إن كانَت ماتَت. بيَمينٍ؛ لأنَّه الظاهِرُ.
وإن أنكَرَ أن يكونَ لها عليه صَداقٌ، فقولُهَا، قبلَ دُخولٍ وبَعدَه، فيما يُوافِقُ مهرَ مِثلِها، سواءٌ قال: لا تَستَحِقُّ عليَّ شيئًا، أو: وفيتُها، أو: أبرَأَتني، أو غَير ذلك.
وإن دفَعَ إليها ألفًا، أو عَرْضًا. وقال: دَفعتُه صَدَاقًا. وقالَت: بل هِبَةً، فقَولُه بيَمينِه، ولها رَدُّ ما لَيسَ مِن جِنسِ صَدَاقِها، وطَلَبُه بصَدَاقِها.
(وإن تزوَّجَها بعَقدَينِ على صَداقَينِ، سرًّا وعلانِيَةً) بأن عقَدَاهُ سِرًا بصَداقٍ وعلانيَةً بآخَرَ (أُخِذَ بالزَّائِدِ) أي: بالصَّداقِ الزائِدِ مُطلَقًا، أي: سواءٌ كانَ الزائِدُ صدَاقَ السرِّ أو العَلانِيَةِ
(1)
. والغَالِبُ: أن يَكونَ صدَاقَ العلانِيَةِ؛ لأنَّه إن كانَ السرُّ أكثَرَ، فقَد وجَبَ بالعَقدِ، ولم يُسقِطْهُ العلانِيَةُ، وإن كانَ العلانيةُ أكثرَ، فقد بذَلَ لها الزائدَ، فلَزِمَه، كما لو زادَها في صَدَاقِها
(2)
.
(وهَديَّةُ الزَّوجِ ليسَت مِن المَهْرِ) نصًا، (فما قَبلَ العَقدِ، إن وَعَدُوهُ) بأن يُزَوِّجُوهُ (ولم يَفُوا) بأن زوَّجُوها غيرَه، (رَجَعَ بها) قالَهُ الشيخُ تقيُّ الدِّين.
(1)
في الأصل: "علانية".
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 269)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 115).
وتُرَدُّ الهَدِيَّةُ في كلِّ فُرْقَةٍ مُسْقِطَةٍ للمَهْرِ، وتَثْبُتُ كُلُّها مَعَ مُقَرِّرٍ لَهُ أو لنِصْفِه.
فإن كان الإعرَاضُ مِنهُ، أو ماتَت، فلا رُجُوعَ لَهُ.
وما قُبِضَ بِسَبَبِ النكاحِ، أي: قَبَضَهُ بَعضُ أقارِبها، كالذي يُسمُّونَهُ مَيكَلَةً، فحُكمُه كمَهرٍ فيما يُقرِّرُه، ويُنَصِّفُه، ويُسقِطُه.
(وتُرَدُّ الهديَّةُ) على زَوجٍ (في كُلِّ فُرقَةٍ مُسقِطَةٍ للمَهرِ) كفَسخٍ لعَيبٍ ونحوِه. وتُرَدُّ في فُرقَةٍ قَهريَّةٍ، كفَسخٍ مِن قِبَلِها؛ لفَقدِ كفَاءَةٍ ونحوِه، قبلَ الدُّخُولِ؛ لدَلالَةِ الحالِ على أنَّه وَهَبَ بشَرطِ الثَّوابِ.
(وتَثبُتُ) الهديةُ (كلُّها معَ) أمرٍ (مُقَرِّرٍ له) أي: المَهرِ، كوَطء، وخلوة (أو) مُقَرِّرٍ (لنِصفِه) كطَلاقٍ ونحوِه؛ لأنَّه المُفَوِّتُ على نفسِه.
فَصْلٌ
ولِمَنْ زُوِّجَتْ بِلا مَهْرٍ، أو بِمَهْرٍ فاسِدٍ، فَرْضُ مَهْرِ مِثْلِهَا عِنْدَ الحاكِمِ، فإنْ تَراضَيَا فِيمَا بينَهُمَا -ولَوْ على قَلِيلٍ- صَحَّ، ولَزَم.
فإنْ حصَلَتْ لَهَا فُرْقَةٌ مُنَصِّفَةٌ للصَّدَاقِ قَبلَ فَرْضِه،
(فَصلٌ)
(ولِمَن زُوِّجَت بلا مَهْرٍ، أو) زُوِّجَت (بمَهرٍ فاسِدٍ)، كأنْ تزوَّجَها
(1)
على نحوِ خَمرٍ أو خِنزيرٍ (فُرِضَ) لها (مَهرُ مِثلِهَا عندَ الحاكمِ) لأنَّ الزِّيادَةَ عليه مَيلٌ على الزَّوجِ، والنَّقصَ عنه مَيلٌ على الزَّوجَةِ، والميلُ حَرامٌ، ولأنَّه إنَّما يُفرَضُ بَدَلُ البُضعِ فيُقدَّرُ بقَدرِه، كقِيمَةِ المتقوَّمِ أُتلِفَ. ويُعتَبَرُ مَعرِفَةُ
(2)
مَهرِ المِثلِ؛ ليُتواصَّلَ إلى فَرضِه.
(فإن تَرَاضَيا) أي: الزَّوجانِ الجائِزَا التصرُّفِ (فيمَا بَينهُما، ولو عَلى) شيءٍ (قليلٍ، صَحَ، ولَزِم) فَرضُه، ولها ما تَرَاضَيا عليه، قليلًا كان أو كثيرًا، عالِمَين كانَا أو جاهِلَين؛ لأنَّه إن فَرَضَ لها كثيرًا، فقَد بذَلَ لها مِن مالِهِ فَوقَ ما يلزمُه، وإن فرَضَ لها يسيرًا، فقَد رضِيَت بدون ما وجَبَ لها.
وإن كان الزَّوجُ مَحجورًا عليه لحَظِّهِ، فلَيس لوليه بَذلُ أكثَرَ من مَهرِ مِثلِها، وإن كانَت كذلِك، فليس لوليِّها الرِّضَا بأقلَّ مِن مَهرِ مِثلِها.
(فإن حصَلَت لها فُرقَةٌ مُنَصِّفَةٌ للصَّدَاقِ قَبلَ فَرضِه) أي: المهرِ.
(1)
في الأصل "زوَّجَها".
(2)
سقطت: "معرفة" من الأصل.
أو تَراضِيهما، وجَبَت لَهَا المُتْعَةُ، على المُوسِرِ قَدَرُه، وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه. فأعْلاهَا خادِمٌ، وأَدْنَاها كِسْوَةٌ تُجْزِيهَا في صَلاتِهَا، إذَا كانَ مُعْسِرًا.
(أو تَراضِيهِمَا) أي: الزَّوجَين (وجَبَت لها) الزَوجَةِ (المُتعَةُ) نصًا. وهو قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباس
(1)
؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البَقَرَة: 236] والأمرُ يَقتَضِي الوجوبَ، وأداءُ الواجِبِ مِن الإحسانِ، فلا تَعارُضَ.
وكُلُّ فُرقَةٍ يتنصَّفُ بها المسمَّى، تُوجبُ المتعَةَ إذا كانَت مُفوضَةً.
وكُلّ فُرقَةٍ تُسقِطُ المسمَّى، كاختِلافِ دِينٍ، وفَسخٍ لِرَضاعٍ مِن قِبَلِها، لا تَجِبُ به مُتعَةٌ؛ لقِيامِها مَقامَ نِصفِ المسمَّى، فتَسقُطُ
(2)
في كُلِّ مَوضِعٍ يَسقُطُ فيه
(3)
.
(على المُوسِرِ قَدَرُهُ، وعلى المُقتِرِ) أي: المُعسِرِ (قَدَرُه) نصًا. اعتبارًا بحالِ الزَّوجِ؛ للآية.
(فأعلاها) أي: المتعَةِ: (خادِمٌ) إذا كان الزوجُ مُوسِرًا. والخادِمُ: الرَّقيقُ، ذكرًا كان أو أُنثى.
(وأدنَاها) إذا كانَ الزَّوجُ فُقيرًا: (كسوَةٌ تُجزِيهَا) أي: الزَّوجَةِ (في صلاِتها) وهي: في رعٌ وخِمَارٌ، أو ثَوبٌ تُصلِّي فيه، بحَيثُ يَستُرُ ما يجِبُ سترُهُ (إذا كان مُعسِرًا) لأنَّ المتعَةَ مُعتبَرَةٌ بحالِ الزَّوجِ في يَسارِه وإعسارِه. وقُيِّدَت بما يُجزِئُهَا في صلاتِها؛ لأنَّ ذلك أقلُّ الكِسوَةِ.
(1)
أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (4/ 140).
(2)
أي: المتعة.
(3)
أي: يسقط فيه نصفُ المسمَّى.
فَصْلٌ
ولا مَهْرَ في النِّكاحِ الفاسِدِ، إلَّا بالخَلوةِ، أو الوَطْءِ. فإنْ حصَل أحَدُهُمَا، استَقرَّ المُسَمَّى إنْ كانَ، وإلَّا فمَهْرُ المِثْلِ. ولا مَهْرَ في النِّكاحِ الباطِلِ، إلَّا بالوَطْءِ في القُبُلِ.
وكَذَا المَوْطُوءةُ بشُبْهَةٍ، والمُكْرَهَةُ على الزِّنَى، لا المُطَاوِعَةُ،
(فَصلٌ)
(ولا مَهرَ) للزَّوجة (في النكاح الفاسد)؛ لأنَّ العقدَ الفاسِدَ وجُودُهُ كعَدَمِه، ولم يَستَوفِ المعقودَ عليه، أشبَهَ البيعَ الفاسِدَ، والإجارةَ الفاسدِةَ إذا لم يتسلَّم.
(إلَّا بالخَلوَةِ، أو الوَطءِ، فإن حصَلَ أحدُهُما) أي: الخلوةُ، أو الوَطءُ (استقرَّ) عليهِ المهرُ (المسمَّى) نصًا؛ لما في بعضِ ألفاظِ حديثِ عائشةَ مِن قولِه:"ولها الذي أعطَاهَا بما أصابَ مِنها"
(1)
. قال القاضي: حدَّثناه أبو بكر البُرقَانيُّ، وأبو محمد الخلالُ بإسنادِهِما. ولاتِّفاقِهِما على أنَّه المهرُ. واستقرارُه بالخَلوَةِ؛ بقِياسِهِ على النِّكاحِ الصَّحيح. (إن كانَ) سمَّى لها مَهرًا، (وإلَّا فمَهرُ المِثلِ).
(ولا مَهرَ في النِّكاحِ الباطِلِ) إجماعًا، كنِكاحِ خَامسَةٍ، أو مُعتدَّةٍ (إلَّا بالوَطءِ في القُبُلِ) فيَجِبُ مهرُ المِثلِ.
(وكذا الموطُوءَةُ بشُبهَةٍ) إن لم تَكُن حُرَّةً عالِمَةً مُطاوِعَةً فِيهِمَا (والمكرَهَةُ على الزِّنى) إن كانَ الوَطءُ في قُبُلٍ. ولا مَهرَ للمَزنيِّ بها (لا المُطاوِعَةُ) على
(1)
أخرجه أحمد (40/ 243)(24205)، وأبو داود (2083)، وابن ماجه (1879). وصححه الألباني في "الإرواء"(1943).
ما لَمْ تَكُنْ أَمَةً.
ويَتعَدَّدُ المَهْرُ بتعدُّدِ الشُّبْهَةِ، والإكْرَاهِ.
وعلَى مَنْ أَزالَ بَكَارةَ أجْنَبِيَّةٍ بلا وَطْءٍ، أرْشُ البَكَارَةِ، وانْ أزَالَهَا الزَّوْجُ، ثُمَّ طلَّق قَبلَ الدُّخولِ، لم يَكُنْ علَيه إلا نِصْفُ المُسَمَّى
الزِّنى، (ما لم تَكُن) المُطاوِعَةُ (أمَةً)، فيَجِبُ لسيِّدِها مَهرُ مِثلِها على زَانٍ بها، ولو مُطاوِعَةً؛ لأنَّها لا تَملِكُ بُضعَها، فلا يَسقُطُ حقُّ سَيِّدها بمُطاوَعَتِها
(1)
.
(ويتعدَّدُ المهرُ بتَعدُّدِ الشُّبهَةِ) كأنْ وَطِئَها ظانًّا أنَّها زوجَتُه خديجَةٌ، ثم وَطِئَها ظانًّا أنَّها زوجَتُه زَينَبُ، ثم وطِئَها ظانًّا أنَّها سُرِّيَتُه، فيَجِبُ لها ثَلاثةُ مُهورٍ. فإن اتَّحَدَت الشُّبهَةُ وتعدُّدَ الوَطءُ، فمَهرٌ واحِدٌ.
(و) يتعدَّدُ المهرُ بتَعَدُّدِ (الإكرَاهِ) على زِنًا. وإن اتَّحَدَ الإكرَاهُ وتعدّد
(2)
الوَطءُ، فمَهرٌ واحِدٌ.
(وعلى مَن أزالَ بَكَارَةَ أجنبيَّةٍ) أي: غَيرِ زَوجَةٍ وأمَةٍ (بلا وَطءٍ، أَرشُ البَكَارَةِ) لا مَهرُ مثلها؛ لأنَّه لم يَطَأْهَا، وهو إتلافُ جُزءٍ لم يَرِد الضَّرعُ بتَقديرِ عِوَضِه، فرُجِعَ فيه
(3)
إلى أَرشِه، كسائِرِ المُتلَفَاتِ.
وأَرشُ البَكارَةِ: ما بَينَ مَهرِ البِكرِ والثيِّبِ.
(وإن أزالَها) أي: البَكَارَةَ (الزَّوجُ، ثم طلَّق قبلَ الدُّخُولِ، لم يَكُن عليه إلَّا نِصفُ المسمَّى) مَهرًا؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 280)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 123).
(2)
سقطت: "وتعدد" من الأصل.
(3)
سقطت: "فيه" من الأصل.
إنْ كانَ، وإلَّا فالمُتْعَة.
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البَقَرَة: 237] وهذه مُطلَّقَةٌ قبلَ المَسيسِ والخلوَةِ، فلم يَكُن لها
(1)
سِوَى نِصفِ الصَّدَاقِ المسمَّى، ولأنَّه أتلَفَ ما يَستَحِقُّ إتلافَهُ بالعَقدِ، فلا يَضمَنُه بغَيرِه، كما لو أتلَف عُذرَةَ أمَتِه.
(إن كان) سَمَّى لها، (وإلَّا): وإن لم يَكُن سَمَّى لها، لم يَكُن عَليه، (فـ) يَلزَمُه (المتعَة) وهي واجِبَةٌ على كُلِّ زَوجٍ، حُرٍّ وعَبدٍ، ومُسلِمٍ وذِمِّي، لكُلِّ زَوجَةٍ، مُفَوِّضَةِ بُضعٍ أو مَهرٍ، حُرَّةٍ أو أمَةٍ، مُسلِمَةٍ أو ذميَّةٍ، طُلِّقَت قبلَ الدُّخولِ، وقبلَ أن يُفرَضً لها مهرٌ؛ لما تقدَّم من الآية
(2)
. ولأنَّ ما يَجِبُ مِن الفَرضِ يَستَوِي فيه المسلِمُ والكافِرُ، والحرُّ والعَبدُ.
وإن وهَبَ الزَّوجُ للمفوِّضَةِ شَيئًا، ثم طلَّقها قبلَ فَرضِ الصَّداق، فلها المُتعَةُ. نصًا؛ لأنَّ المُتعَةَ إنما تجِبُ بالطَّلاقِ، فلا يَصِحُّ قضاؤُهَا قبلَه، ولأنَّها واجِبَةٌ، فلا تَنقَضِي بالهِبَةِ، كالمُسمَّى.
وتُستحَبُّ المُتعَةُ لكُلِّ مُطلَّقَةٍ غَيرِ المُفوِّضَةِ التي لم يُفرَض لها؛ لقولِه تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 241]. الآية، ولم تَجِب؛ لأنَّه تعالى قَسَّمَ المطلَّقَاتِ قِسمَين، وأوجَبَ
(3)
المُتعَةَ لغَيرِ المفروضِ لهنَّ، ونِصفَ المُسمَّى للمَفرُوضِ لهنَّ، وذلكَ يدلُّ على اختِصاصِ كُلِّ قِسمٍ بحُكمِه.
ولا مُتعَةَ للمُتوفَّى عنها؛ لأنَّ النصَّ لم يتناوَلها، وإنما تناوَلَ المطلَّقاتِ.
(1)
سقطت: "لها" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(11/ 507)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 124).
(3)
في الأصل: "واجب".
ولا يَصِحُّ تَزْوِيجُ مَنْ نِكَاحُهَا فاسِدٌ، قَبْلَ الفُرْقَةِ، فإنْ أَباها الزَّوْجُ، فَسَخَه الحاكِمُ.
(ولا يَصِحُّ تَزويجُ مَن نِكاحُهَا فاسِدٌ) كالنِّكاحِ بلا وَليٍّ (قَبلَ الفُرقَةِ) مِن طَلاقٍ أو فَسخٍ؛ لأنَّه نِكاحٌ يَسوغُ فيه الاجتِهَادُ، فاحتاجَ إلى إيقَاعِ فُرقَةٍ، كالصَّحيحِ المختَلَفِ فيه. ولأنَّ
(1)
تَزويجَهَا بلا فُرقَةٍ يُفضِي إلى تَسليطِ زَوجَينِ عَليها، كُلُّ واحدٍ يَعتَقِدُ صِحَّةَ نِكاحِه وفَسادَ نِكاحِ الآخَرِ، بخلافِ النكاحِ الباطِل.
(فإن أبَاهَا) أي: الفُرقَةَ (الزَّوجُ، فَسَخَهُ الحاكِمُ) نصًا؛ لقِيامِه مَقامَ المُمتَنِع، مما وجَبَ عليه. فإن تزوَّجَت بآخَرَ قبلَ التَّفريقِ، لم يَصِحَّ النِّكاحُ الثَّاني، ولم يَجُزْ تَزويجُها لثالِثٍ حتَّى يُطلِّقَ الأوَّلان، أو يُفسَخَ نِكاحُهما.
ومن اعترَفَ لامرأةٍ أنَّ هذا ابنُه مِنهَا، لَزِمَه مهرُ مِثلِها؛ لأنَّه الظاهِرُ. قاله في "الترغيب"
(2)
.
(1)
في الأصل: "ولا".
(2)
انظر "دقائق أولي النهى"(15/ 283).
بَابُ الوَلِيمةِ وآدابِ الأَكْلِ
وَلَيمَة العُرْسِ
(بابُ الوَليمَةِ وآدَابِ الأكلِ)
(وَليمَةُ العُرسِ): اجتِمَاعٌ لِطَعامِ عُرْسٍ. وأصلُ الوليمَةِ: تَمامُ الشَّيءِ واجتِمَاعُه، ثمَّ نُقِلَت لِطَعامِ العُرْسِ خاصَّةً؛ لاجتِمَاعِ الرَّجلِ والمرأةِ. قاله الأزهري
(1)
. قال ابنُ الأعرابيِّ: يُقالُ: أولَمَ الرَّجُلُ: إذا اجتَمَعَ عَقلُه وخُلُقُهُ.
قال بعضُ أصحابِنَا وغَيرُهم: تَقَعُ على كُلِّ طَعامٍ، لسُرُورٍ حادِثٍ.
قال الشيخُ: وتُستَحبُّ بالدُّخُولِ. وقال ابنُ الجوزيِّ: بالعَقدِ. وقد اقتَصَرَ عليه في "الفروع"، و"المبدع".
قال في "الإنصاف": الأولى أن يُقالَ: وقتُ الاستحبابِ مُوسَّعٌ مِن عَقدِ النِّكاحِ إلى انتِهَاءِ أيَّامِ العُرسِ، لصحَّةِ الأخبَارِ في هذا وهذا، وكَمالُ السُّرورِ بعدَ الدُّخولِ
(2)
.
ومِن هُنا تعلَم أنَّ الوليمَةَ اسمٌ لطعَامِ العُرسِ، لا للاجتِماعِ له.
قال الحجاوي في "حاشيته": الوليمَةُ: هي طَعامُ العُرسِ، قالَهُ أهلُ اللغةِ والفُقهاءُ، وهو صريحٌ في الأحادِيث الصحيحَةِ. وأمَّا الاجتماعُ نَفسُهُ على طعامِ العُرسِ، فليسَ هو الوليمَةَ، خِلافًا لما قالَه في "التنقيح"، وهو غَريبٌ لا يُعوَّلُ
(1)
في الأصل: "الأهري".
(2)
"كشاف القناع"(12/ 5).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عليه، بل هو غَيرُ صحيحٍ. انتهى
(1)
.
قال العلامة الشيخُ مَرعيٌّ -عمُّ والدِنَا رحمه الله مُصنِّفُ هذا الكِتابِ:
عَدُّ الولائِمِ سبعَةَ عشَرَ اسمًا، في أربَعَةِ أبياتٍ، نَظَمَها العلامة السيدُ محمد بنُ مُوسَى بن محمد الحُسينيُّ الشريفُ الجمَّازيُّ المالِكيُّ، رحمه الله تعالى:
عَن العُربِ أسماءُ الولائِمِ قد أَتَت
…
وأنوَاعُها بالعَدِّ جاءَ مُسطَّرًا
وَليمَةُ إعذَارٌ عَقيقَةُ تُحفَةٌ
…
نَقيعَةُ خُرْسٌ والعَتيرَةُ والقِرَى
وضِيمَةُ مُشدَاخٌ حِذَاقٌ وَكِيرَةٌ
…
ومَأدُبَةٌ جَفَلَى ونَقَرَى كمَا تَرَى
ودَعوَةُ إملاكٍ فقُل شُنْدَخِيَّةٌ
…
جمَعتُ لكَ الدَّعواتِ نظمًا مُحرَّرَا
قوله: "وليمة": أي: وَليمَةُ عُرسٍ، وهي: طعَامُ عُرسٍ؛ لاجتِمَاعِ الرَّجلِ والمرأة.
قوله: "إعذار": اسمٌ لطعَامِ خِتَانٍ.
قوله: "عقيقة": اسمٌ لذَبحٍ لمولُودٍ.
قوله: "تحفة": اسمٌ لطَعامِ قادِمٍ.
قوله: "نقيعة": اسمٌ لطعامِ غائِب مِن السَّفَرِ، طويلًا أو قَصيرًا.
قوله: "خرس": اسمٌ لطعَامِ وِلادَةٍ. ويُقالُ: بالصَّادِ، أي: لِخلاصِهَا وسَلامَتِها مِن الطَّلْقِ.
قوله: "وعتيرة": مُقتَضَى كلامِهم أنها ليسَت مِن أسماءِ الطَّعامِ، بل هي الذَّبيحَةُ تُذبَحُ أوَّلَ يَومٍ في رَجَبٍ
(2)
.
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 1119)،
(2)
وهي من البدع المحدثة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: "والقِرى": اسمٌ لطعامِ الضِّيفَانِ، وليسَ ذلِكَ من الدَّعَوَاتِ.
قوله: "وضيمة": اسمٌ لطَعامٍ، وهي طَعامُ المَأتَمِ، أصلُهُ: اجتِمَاعُ الرِّجالِ والنِّساءِ.
قوله: "مُشدَاخ": اسمٌ لطعامٍ مأكُولٍ في خَتمَةِ القَارِئ.
قوله: "حِذَاق: اسمٌ لطعامٍ عندَ حِذَاقِ صَبيٍّ، ويَومُ حِذَاقِه: يَومُ خَتمِهِ القُرآنِ. قاله في "القاموس".
قولُه: "وكيرَة": اسمٌ لدَعوَةِ بِنَاءٍ. قال النووي: كُلُّ مَسكَنٍ مُتجدِّدٌ. مِن الوَكرِ، وهو: المأَوَى والمستَقَرُّ.
قوله: "ومَأدُبَة": بضم الدال، اسمٌ لكُلِّ دَعوَةٍ بسَبَب أو غَيرِه.
قوله: "جَفَلَى": وهي الدَّعوَةُ العامَّةُ، بفَتحِ الجيمِ والفَاءِ، والقَصر.
قوله: "والنَّقَرَى": بفَتحِ النُّونِ والقَاف، وهي أن يَخُصَّ قَومًا بالدَّعوَةِ دُونَ قَومٍ.
قوله: "شُنْدَخِيَّةٌ": ويُقالُ: شُندَخٌ، بضمٍّ الشينِ، وسكونِ النونِ، وفتحِ الدَّالِ المهملَة، وبالخاءِ المعجمة: اسمٌ لطَعَامِ إملاكٍ، وهو العَقدُ، مأخوذٌ مِن قولِهم: فَرَسٌ مُشَندَخٌ، أي: يَتقدّمُ غَيرَه؛ سُميَ بذلك لأنّه يتقدَّمُ الدُّخولَ.
وللإخَاءِ والتَّسرِّي، ذكَرَهُما بعضُ الشافعيَّةِ. وفي "المنتهى": ولم يخصُّوهَا -أي: الدَّعوَةَ- لإخاء وتَسرٍّ باسمٍ.
والفُرعَةُ والفُرُعُ: ذبحُ أولِ وَلَدِ النَّاقَةِ
(1)
.
(1)
انظر "كشاف القناع"(12/ 7).
سُنَّةٌ مُؤكَّدَةٌ.
والإجابةُ إلَيها في المرَّةِ الأُولَى:
وهي (سُنَّةٌ مُؤكدَةٌ) لأنَّه عليه السلام فعَلَها وأَمَرَ بها، فقالَ لعَبدِ الرحمن بنِ عوفٍ حينَ قال لهُ: تَزوَّجتُ: "أولِم ولَو بِشَاةٍ"
(1)
. وقال أنس: ما أولم رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم على امرأةَ مِن نِسائه ما أولم على زَينَبَ، جعلَ يَبعَثُني فأدعُو له الناسَ، فأُطعِمُهم لحمًا وخُبزًا حتى شَبِعُوا
(2)
. متفقٌ علَيهما.
قال جمعٌ: ويُستحبُّ أن لا تنقصَ عن شاةٍ؛ لحديثِ عبد الرحمن بنِ عَوفٍ. وكانَ وَليمُتُه عليه السلام على صَفيَّةَ حَيسًا، كما في خبرِ أنسٍ المتَّفقِ عليه
(3)
.
وإن نَكَحَ أكثرَ مِن واحِدَةٍ في عَمدٍ أو عُقُودٍ أجزَأتْهُ وليمَةٌ واحِدَةٌ، إن نَوَاهَا للكُلِّ.
(والإجابَةُ إليها) أي: الوَليمَةِ (في المرَّةِ الأُولى) بأنْ يَدعُوهُ في اليَومِ الأوَّلِ؛ لحَديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "شرُّ الطَّعامِ طَعَامُ الوَليمَةِ يُمنَعُها من يأتِيها، ويُدَعى إليها مَن يأبَاهَا، ومَن يُجِبْ الدَّعوةَ فقَد عَصَى اللهَ ورسولَه" رواه مسلم
(4)
. وعن ابنِ عُمرَ مَرفُوعًا: "أجيبوا هذِه الدَّعوَةَ إذا دُعيتُم إليها "مُتفق عليه"
(5)
. وفي لَفظٍ له: "مَن دُعيَ فَلَم يُجِبْ، فقَد عصَى اللهَ ورسولَه" رواه أبو داود، والترمذي، وابن
(1)
أخرجه البخاري (2049)، ومسلم (1427) من حديث أنس.
(2)
أخرجه البخاري (5171)، ومسلم (1428).
(3)
أخرجه البخاري (2235)، ومسلم (1365).
(4)
أخرجه مسلم (1432).
(5)
أخرجه البخاري (5179)، ومسلم (1429).
واجِبَةٌ، إنْ كانَ لا عُذْرَ، ولا مُنْكَرَ. وفي الثَّانيةِ: سُنَّةٌ، وفي الثَّالِثةِ: مَكْرُوهةٌ.
ماجه
(1)
.
(واجِبَةٌ) بالدَّعوَةِ، ولو عَبدًا بإذنِ سَيِّدِه، أو مُكاتَبًا لم تَضرَّ بِكَسبِه (إنْ كانَ لا عُذرَ) فإنْ
(2)
كانَ المدعوُّ مَريضًا، أو مُمَرِّضًا، أو مَشغُولًا بحِفظِ مالٍ، أو في شِدَّةِ حرِّ أو بَردٍ، أو مَطَرٍ يَبُلُّ الثيابَ، أو وَحَلٍ، أو كانَ أجيرًا لم يأذَنهُ مُستَأجِرُة، لم تَلزَمهُ الإجابَةُ.
(ولا مُنكَرَ) كالزَّمرِ، والخَمرِ، والعُودِ، والطَّبلِ، والجَنْكِ
(3)
، والرَّبَابِ، وآنيةِ ذهَبٍ أو فِضَّةٍ، أو فُرُشٍ مُحرَّمَةٍ. وأمكَنَهُ إزالَةُ المنكرِ، لَزِمَه الحُضورُ والإنكَارُ. وإن لم يَقدِرْ على إزالَةِ المُنكَرِ، لم يحضُر، وحَرُمَت الإجابَةُ؛ لقوله عليه السلام:"من كانَ يُؤمِن باللهِ واليومِ الآخِر، فلا يَجلِس على مائِدةٍ يُدارُ عليها الخَمرُ". رواه أحمد
(4)
من حديث عمر، والترمذيُّ
(5)
من حديث جابر.
(وفي) الدَّعوَةِ (الثَّانيَةِ: سُنَّةٌ) كأنْ دُعِيَ في اليَومِ الثاني.
(وفي) المرَّةِ (الثالِثَةِ) بأنْ دعاهُ في اليَومِ الثالث: (مَكرُوهَةٌ) إجابَتُهُ؛ لحديث: "الوليمَةُ أوَّلَ يَومٍ حَقٌّ، والثاني مَعروفٌ، والثالِثُ رِياءٌ وسُمعَةٌ". رواه أبو داود، وابن ماجه، وغيرِهما
(6)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3741) من حديث ابن عمر. وضعفه الألباني. ولم أجده عند الترمذي وابن ماجه.
(2)
في الأصل: "بأن".
(3)
الجَنْك: الطنبورُ، وهو آلَةٌ مِن آلاتِ الطَّرَب. "المعجم الوسيط"(1/ 140).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 277)(125).
(5)
أخرجه الترمذي (2801)، وحسنه الألباني.
(6)
أخرجه أبو داود (3745)، وابن ماجه (1915)، والنسائي في الكبرى (6596)، وعند =
وإنَّمَا تَجِبُ إذَا كانَ الدَّاعِي مُسلِمًا يَحْرُمُ هَجْرُه، وكَشبُه طَيبٌ. فإنْ كانَ في مالِه حَرَامٌ، كُرِهَ إجابَتُه، ومُعامَلتُه، وقَبُولُ هَدِيَّتِه، وتَقْوَى الكراهَةُ وتَضْعُفُ بِحَسَبِ كَثْرةِ الحَرَامِ وقِلَّتِه.
وإنْ دَعَاهُ اثنانِ فأكْثَرْ، وجَبَ علَيه إجَابةُ الكُلِّ، إنْ أمْكَنَه الجَمْعُ، وإلَّا
(وإنَّما تَجِبُ إذا كانَ الدَّاعِي مُسلِمًا يحرُمُ هجرُهُ) احتُرِزَ بِه عن المُسلِمِ الذي يَجِبُ هجرُه، كالرَّافِضي، أو يُسَنُّ هجرهُ، كمُتجَاهِير بمَعصيَةٍ، فلا تَجِبُ إجابَتُه.
ومَنعَ ابنُ الجوزيِّ من إجابَةِ ظالمٍ، وفاسقٍ، ومُبتَدِعٍ.
(وكَسبُهُ طَيِّبٌ) أي: حلالٌ، (فإن كانَ في مالِهِ حَرامٌ، كُرِهَ إجابَتُهُ) كأكلِهِ مِنهُ (ومُعامَلَتُهُ، وقَبولُ هَديَّتِه) وهِيَبِه، وصَدَقَتِه.
وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ عن الذي يُعامِل بالرِّبَا: أيؤكلُ عِندَهُ؟ قال: لا.
وفي "آداب الرِّعايَةِ الكبرى": ولا يأكل مُختَلِطًا بحرَامٍ بلا ضَرورَه. وقِيلَ: إن زادَ الحَرامُ على الثُّلُثِ، حرُمَ الأَكلُ، وإلَّا فَلا؛ إقامَةً للأكثَرِ إقامَةَ الكُلِّ. قطَعَ به ابنُ الجوزيِّ في "المنهاج"
(1)
.
(و) علَى القَولِ الأوَّلِ (تَقوَى الكَراهَةُ، وتَضعُف) بحَسَبِ كثرَةِ الحرَامِ وقِلَّتِه)، وإن لم يَعلَم أنَّ في المالِ حَرَامًا، فالأصلُ الإباحَةُ
(2)
، فتَجِبُ الإجابَةُ.
(وإن دَعَاهُ اثنانِ فأكثَرُ، وجَبَ عليه إجابَةُ الكُلِّ، إن أمكَنَهُ الجمعُ، والَّا)
= أبي داود والنسائي من حديث رجل يقال له معروف، وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1950).
(1)
"كشاف القناع"(12/ 12)، وانظر " فتح وهاب المآرب"(3/ 129).
(2)
في الأصل: "الإجابَةُ".
أجابَ الأسْبَقَ قَوْلًا، فالأدْيَنَ، فالأقْرَبَ رَجمًا، فجِوَارًا، ثُمّ يُقرِعُ.
ولا يُقْصَدُ بالإجَابةِ نَفْسُ الأكْلِ، بلْ يَنْوِي الاقْتِداءَ بالسُّنَّةِ، وإكْرَامَ أَخِيه المُؤْمِنِ، ولئلّا يُظَنَّ بِه التَّكَبُّرُ.
يُمكِن (أجابَ
(1)
الأسبَقَ قَولًا) لوجُوبِ إجابَتِه بدُعائِه، فلا يَسقُطُ بدُعاءِ مَن بعدَهُ، ولم تَجِب إجابَتُه؛ لأنها غَيرُ مُمكِنَةٍ معَ إجابَةِ الأوَّلِ.
فإن لم يتعارَضَا؛ بأنْ اختَلَفَ الوقتُ، بحيثُ يُمكِنُ الجَمعُ، أجابَ الكُلَّ بِشَرطِه.
فإن لم يَكُن سَبقٌ، حيثُ لم يُمكِن الجَمعُ
(2)
، (فالأَدينَ) مِن الدَّاعِيَينِ؛ لأنَّه الأكرمُ عندَ الله.
فإن استَوَوا في الدِّينِ، (فالأقرَبَ رَحِمًا) لما في تَقديمِه مِن صِلَتِه.
فإن استَوَوا في القَرابَةِ وعَدَمِها (فـ) ــالأَقرَب (جِوَارًا)؛ لحديثِ أبي داود مَرفوعًا: "إذا اجتَمَعَ داعِيانِ، أَجِب أقرَبَهُما بابًا، فإن أقرَبَهُما بابًا أقرَبُهُما جِوارًا"
(3)
. ولأنَّه مِن بابِ البِرِّ، فقُدِّم بهذِه المعاني.
(ثم) إن استَوَوا في ذلِكَ (يُقرعُ) بينَهُم، فيقدِّمُ مَن خَرَجَت له القُرعَةُ؛ لأنَّها تُميِّزُ المستحقَّ عندَ استواءِ الحُقُوقِ.
(ولا يُقصَدُ بالإجابَةِ نَفسُ الأكَلِ، بل يَنوِي الاقتداءَ بالسُّنَةِ، وإكرامَ أخيهِ المؤمِنِ، ولئلا يُظَنُّ به التَّكبُّرُ) بعَدَمِ أكلِهِ مِنهُ.
(1)
في الأصل: "إجابة".
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 290)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 131).
(3)
أخرجه أبو داود (3756) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1951).
ويُسْتَحَبُّ أكْلُه ولَوْ صائِمًا -لا صومًا واجبًا-
(ويُستَحبُّ أكلُهُ) مِنهُ (ولو) كانَ المدعوُّ (صائِمًا) تَطوُّعًا. وفي تَركِ الأكلِ كَسرُ قَلبِ الدَّاعِي، استُحِبَّ أن يُفطِرَ؛ لأنَّ في أكلِهِ إدخَالَ السرُورِ على قلبِ أخيهِ المسلِم. وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان في دعوةٍ ومعَهُ جماعَةٌ، فاعتَزَلَ رجلٌ مِن القَومِ ناحيةً، فقال: إني صائِمٌ. فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "دعاكُم أخوكُم وتكلَّفَ لكُم! كُلْ يَومًا، تمَّ صُم يَومًا مكانَه إن شِئتَ"
(1)
.
(لا) إن كانَ (صَومًا واجِبًا) فلا يُفطِر؛ لقَوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. ولأنَّ الفِطرَ مُحرَّمٌ، والأكلَ غَيرُ واجِبٍ. وقد رَوى أبو هريرَة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعِيَ أحدُكُم فَليُجِبْ، فإن كان صائِمًا فليَدْع، وإن كان
(2)
مفطرًا فليطعم". رواه أبو داود
(3)
. وفي رواية: "فليُصَلِّ". يعني: يدعُو.
ودُعِيَ ابنُ عمرَ إلى وليمَةٍ، فحضَرَ ومدَّ يدَه، وقال: بِسمِ الله، ثم قَبَضَ يدَهُ وقالَ: كُلُوا فإنِّي صائِمٌ
(4)
.
وسُنَّ الإخبَارُ بِصيامِه، كما فَعلَ ابنُ عمرَ؛ ليَعلَموا عُذرَهُ فتزولَ عنهُ التُّهمَةُ في تَركِ الأكلِ. وعن عبد الله قال: إذا عُرِضَ على أحدِكُم طعامٌ وهو صائمٌ، فليَقُل: إني صائِمٌ
(5)
.
(1)
أخرجه البيهقي (4/ 279) من حديث أبي سعيد الخدري. وحسنه الألباني في "الإرواء"(1952).
(2)
سقطت: "كان" من الأصل.
(3)
أخرجه أبو داود (2460)، وصححه الألباني.
(4)
أخرجه البيهقي (7/ 263).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 200).
ويَنْوِي بأكْلِه وشُريه التَّقَوِّيَ علَى الطَّاعَةِ.
ويَحْرُمُ الأكْلُ بلا إذْنٍ صَرِيح، أو قَرِينةٍ، ولَوْ مِن بَيتِ قَرِيبِهِ أو صَدِيقِه. والدُّعاءُ إلى الوَلِيمةِ، وتَقْديمُ الطًّعَامِ: إذْنٌ في الأكْلِ.
ويُقَدِّمُ ما حضَرَ مِن الطَّعَامِ مِن غيرِ تَكَلُّفٍ.
وإن كان مُفطِرًا، فالأَولَى له الأكلُ؛ لأنَّه أبلَغُ في إكرامِ الدَّاعِي، وجَبرِ قَلبِه، وإدخالِ السُّرُورِ عَليهِ.
(ويَنوي بأكلِهِ وشُربِه التَّقوِّيَ على الطَّاعَةِ. ويحرُمُ الأكلُ بلا إذنٍ صَريحٍ، أو قَرينَةٍ) تدلُّ على الإذن، كتَقديمِ الطَّعامِ إليه، والدُّعاءِ، ونحوِه، حتى (ولو) كان (مِن بَيتِ قَريبِهِ أو صَديقِه) ولو لم يُحرِزْهُ عنهُ.
(والدُّعاءُ إلى الوَليمَةِ، وتَقديمُ الطَّعامٍ، إذْنٌ في الأكَلِ) لما روَى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دُعِيَ أحدُكُم إلى طعامٍ، فجاءَ معَ الرَّسولِ، فذلِكَ إذْنٌ". رواه أحمد، وأبو داود
(1)
. وقال عبدُ الله بنُ مسعودٍ: إذا دُعيتَ، فقَد أُذِنَ لكَ. رواه الإمام أحمد بإسناده
(2)
.
لا في الدُّخُولِ. قال في "الفروع"
(3)
: وليسَ الدُّعَاءُ إذنًا في الدُّخُولِ، في ظاهِرِ كلامِهِم، خلافًا "للمغني". وفي "الغنية"- للشيخ عبد القادِر الجيلي رضي الله تعالى عنه-: لا يحتاجُ بعد تقديمِ الطعامِ إذنًا، إذا جرَت المعادَةُ في ذلك البلَدِ بالأكلِ بذلِكَ، فيكونُ العُرفُ إذنًا.
(ويُقدِّمُ ما حضَرَ مِن الطعامِ مِن غيرِ تكلُّفٍ).
(1)
أخرجه أحمد (16/ 520)(10894)، وأبو داود (5190)، وصححه الألباني.
(2)
لم أقف عليه عند أحمد. وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 255).
(3)
"الفروع"(8/ 368).
ولا يُشْرَعُ تَقْبِيل الخُبزِ. وتُكْرَهُ إهَانتُه، ومَسْحُ يَدَيْه بِهِ، ووَضْعُه تَحْتَ القصْعَةِ.
(ولا يُشرَعُ تَقبيلُ الخُبْزِ) أي: ليسَ من السنَّةِ تقبيلُه، ولا تقبيلُ الجمادَاتِ، إلَّا ما استثنَاهُ الشَّرعُ، كتَقبيلِ الحجَرِ الأسوَدِ.
(وتُكرَة إهانَتُه) أي: الخُبزِ. ويُكرَهُ أن يأكُلَ ما انتَفَخَ مِن الخُبزِ ووَجهَهُ، ويَترُكَ الباقِي منه؛ لأنَّه كِبرٌ
(1)
. (ومَسحُ يَدَيهِ بِه) لأنَّ فيه إهانَةً (ووَضعُهُ تَحتَ القَصعَةِ) وهو مِن الإهانَةِ أيضًا، فهو مَكرُوهٌ.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(12/ 57)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 134).
فَصلٌ
ويُستَحَبُّ غَسْلُ اليَدَيْنِ قَبلَ الطعَامِ وبَعْدَهُ.
وتُسَنُّ: التسميةُ جَهْرًا علَى الطَّعامِ والشَّرَابِ
، وأنْ يَجْلِسَ علَى رِجْلِه اليُسْرَى ويَنْصِبَ اليُمْنَى، أو يَتربَّعَ، ويأكلَ بيمينِه بثلاثِ أصابِعَ
(فَصلٌ)
في آدَابِ الأكلِ والشُّربِ وما يتعلَّقُ بِهِمَا
(ويُستَحَبُّ غَسلُ اليَدَينِ قَبلَ الطَّعامِ) مُتقدِّمًا به رَبُّهُ
(1)
، (و) غَسلُهُما (بعدَه) متأخِّرًا بِهِ رَبَّه.
(وتُسنُّ: التسميَةُ جَهرًا) ليُنبِّهَ غَيرَه عَليها (على الطَّعامِ والشَّرابِ)؛ لحديث عائشةَ مرفوعًا: "إذا أكلَ أحدُكُم فليَذكُر اسمَ اللهِ، فإن نَسِيَ أن يَذكُرَ اسمَ اللهِ في أوَّلِه، فليَقُل: بسم اللهِ أولَهُ وآخِرَه"
(2)
. وقِيسَ عليهِ: الشُّربُ.
(وأن يَجلِسَ على رِجلِه اليُسرَى، ويَنصِبَ اليُمنَى، أو يتربَّعَ).
(و) يُستحبُّ أن (يأكُلَ بيَمينِه بثَلاثِ أصابعَ)، ويُكرَهُ بما دُونَها، وبما فَوقَها، ما لم تَكُن حاجَةٌ. "إقناع"
(3)
. ولا يَمسَح يدَهُ حتى يَلعَقَها، لما روَى الخلالُ، عن كَعبِ بن مالك، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأكلُ بثلاثِ أصابِعَ، ولا يَمسَحُ يدَه
(1)
أي: متقدما بالغسل ربُّ الطعام على الضيف.
(2)
أخرجه أبو داود (3767)، وصححه الألباني.
(3)
"الإقناع"(3/ 408).
مِمَّا يَلِيهِ، ويُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ، ويُطِيلَ المَضْغَ، ويَمسَحَ الصَّحْفَةَ، ويَأكُلَ مَا تَناثَرَ، ويَغُضَ طَرْفَه عن جَلِيسِه، ويُؤثِرَ المُحْتاجَ، ويَأكُلَ مع الزَّوْجةِ والمَمْلُوكِ والوَلَدِ، ولو طِفْلًا، ويلعَقَ أصابِعَه، ويُخلِّلَ أسْنَانَه،
حتى يَلعَقَها
(1)
. ولم يُصحِّح أحمدُ حديثَ أكلِهِ عليه السلام بكَفِّهِ كُلِّهَا
(2)
.
(مما يَليه)؛ لحديث عُمرَ بنِ أبي سَلَمَةَ قال: كُنتُ يَتيمًا في حِجرِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكانَت يَدي تَطيشُ في الصَّحفَةِ، فقال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا غُلامُ، سَمِّ اللهَ، وكُلْ بيَمينِكَ، وكُلْ مما يَليكَ". متفق عليه
(3)
. ولمُسلِمٍ
(4)
عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: "إذا أكَلَ أحدُكُم، فليأكُلْ بيَمينِهِ، فإنَّ الشَّيطانَ يأكُلُ بشِمَالِه".
ويُكرَهُ أكلُهُ
(5)
مما يَلِي غَيرَه، إن لم يَكُن أنواعًا، أو فاكِهَةً.
(ويُصَغِّرُ الُّقلمَةَ، ويُطيلُ المضغَ، ويَمسَحُ الصَّحفَةَ) التي أكلَ فيها.
(ويَأكُلُ ما تَنَاثَرَ) مِنهُ. وأكلُهُ
(6)
عِندَ حُضُورِ رَبِّ الطعامِ وإذنِه.
(ويَغضُّ طَرفَهُ عن جَليسِه) لئلا يَستَحِي.
(ويُؤثِرُ المحتَاجَ، ويأكُلُ معَ الزَّوجَةِ والمملُوكِ والوَلَدِ، ولو طِفلًا، ويَلعَقُ أصابِعَه، ويُخلِّلُ أسنانَه) من طعامٍ. قال في "المستوعب": رُويَ عن ابنِ عمرَ:
(1)
أخرجه أبو داود (3848)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 134) بنحوه، عن الزهري مرسلًا.
(3)
أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
(4)
أخرجه مسلم (2020).
(5)
سقطت: "ويُكرَهُ أكلُهُ" من الأصل.
(6)
أي: ويستحب أكله.
ويُلْقِي مَا أخْرَجَه الخِلالُ، ويُكْرَة أنْ يَبتَلِعَهُ، فإنْ قَلَعَهُ بلِسَانِه لَم يُكْرَهْ.
ويُكْرَهُ: نَفْخ الطَّعَامِ، وكَوْنه حَارًّا، وأكْلُهُ بأقَلَّ أوْ أكْثَرَ مِنْ ثَلاثِ أصابِعَ،
ترك الخِلالِ يُوهِنُ الأسنَانَ
(1)
. وذكَرَه بعضُهم مَرفوعًا. ورُوي: تخلَّلُوا مِن الطعامِ، فإنَّه ليسَ شيءٌ أشدَّ على المَلَكِ الذي على العَبدِ أن يَجِدَ مِن أحَدِكم ريحَ الطَّعامِ
(2)
.
(ويُلقِي ما أخرَجَهُ الخِلالُ، ويُكرَهُ أن يَبتَلِعَه، فإن قَلَعَه بلِسانِه، لم يُكرَه).
(ويُكرَهُ: نَفخُ الطَّعام) ليَبرُدَ. زادَ في "الرعاية""والآداب" وغيرهما: والشَّرابِ. وفي "المستوعب": النَّفخُ في الطَّعامِ والشَّرابِ والكِتَابِ مَنهيٌّ عنه
(3)
.
(و) كُرهَ أكلُه حالَ
(4)
(كَونِه) أي: الطَّعامِ (حارًا) وفي "الإنصاف": قُلت: عندَ عدَمِ الحاجَةِ
(5)
. لأنَّه لا بركَةَ فيه.
(و) يُكرَهُ (أكلُه بأقَلَّ) لأَنَّه كِبْرٌ (أو أكثَرَ) لأنَّه شَرَهٌ
(6)
(مِن ثَلاثِ أصابعَ)؛ لحَديثِ كعبِ بنِ مالك، وتقدَّم. ما لم تَكُن حاجَةٌ.
(1)
أخرجه الطبراني (13065) بلفظ: إن فضل الطعام الذي يبقى بين الأضراس يوهن الأضراس. وصححه الألباني في "الإرواء"(1974).
(2)
أخرجه الطبراني (4061) من حديث أبي أيوب. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1975).
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 297).
(4)
"حال" ليست في الأصل، اقتضى السياق إضافتها.
(5)
"الإنصاف"(21/ 366).
(6)
في الأصل: "شرب".
أو بشِمالِه، ومِن أعْلَى الصَّحْفَةِ أو وَسَطِهَا، ونَفْضُ يَدِه في القَصْعَةِ، وتَقْدِيمُ رَأْسِه إلَيْهَا عِنْدَ وَضْعِ اللُّقْمَةِ في فَمِهِ، وكَلامُه بِمَا يُستَقْذَرُ، وأكْلُه مُتَّكِئًا أوْ مُضْطَجِعًا، وأكْلُه كَثِيرًا بِحَيثُ يُؤْذِيهِ، أوْ قَلِيلًا بِحَيثُ يَضُرُّهُ.
قال مهنا: سألت
(1)
أبا
(2)
عَبدِ الله عن الأكلِ بالأصابِعِ كُلِّهَا؟. فذَهَب إلى ثَلاثِ أصابِعَ، فذَكَرَ مسألةَ الحديثِ الذي يُروَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ يأكُلُ بكفِّهِ كُلِّها
(3)
. فلم يُصحِّحُه، ولم يرَ إلَّا ثلاثَ أصابِعَ.
ولا بأسَ بالأكلِ بالمِلعَقَةِ، وإن كان بِدعَةً؛ لأنَّها تَعتَريها الأحكامُ الخَمسَةُ.
(أو) أن يَأكُلَ (بِشِمَالِه) فيُكرَهُ.
(و) يُكرَهُ (مِن أعلَى الصَّحفَةِ، أو وَسَطِهَا).
(و) كُرِهَ (نفضُ يَدِه في القَصعَةِ).
(و) كُرِهَ (تَقديمُ رأسِهِ إليها عندَ وضعِ اللُّقمَةِ في فَمِه).
(و) كُرِهَ (كلامُهُ بما يُستَقذَر).
(و) كُرِهَ (أكلُه مُتَكِئًا، أو مُضطَجِعًا) وفي "الغنية": أو على الطريق.
(و) كُرِهَ (أكلُهُ كَثيرًا، بحيثُ يُؤذِيهِ) فإن لم يُؤذِهِ، جازَ. وكَرِهَ الشيخُ تقيُّ الدِّينِ أكلَه حتَّى يُتخَمَ، وحرَّمَهُ أيضًا. وحرَّمَ الإسرافَ، وهو مُجاوَزَةُ الحدِّ.
(أو) أي: ويُكرَهُ (قَليلًا، بحيثُ يَضُرُّه) لحديث: "لا ضررَ ولا ضِرارَ"
(4)
.
(1)
في الأصل: "نهانا" وانظر "كشاف القناع"(12/ 38).
(2)
سقطت: "أبا" من الأصل.
(3)
تقدم تخريجه آنفًا.
(4)
أخرجه ابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس. وقد روي عن جماعة من الصحابة =
ويَأكُلُ ويَشْرَبُ مَعَ أبْناءِ الدُّنْيَا بالأَدَب والمُرُوءَةِ، ومع الفُقَراءِ بالإيثَارِ، ومَعَ العُلَمَاءِ بِالتَّعلُّم، ومَعَ الإخوَانِ بالانبِسَاطِ، وبالحَدِيثِ الطَّيِّبِ، والحِكَاياتِ التي تَلِيقُ بالحَالِ.
ومَا جَرَتْ به المعادَةُ مِنْ إِطعامِ السَّائِلِ، ونَحْوِ الهرِّ، ففي جَوَازِه وَجْهَانِ.
(ويأكُلُ ويَشربُ معَ أبناءِ الدُّنيا بالأَدَبِ والمروءَةِ، ومعَ الفُقراءِ بالإيثَارِ، ومعَ العُلمَاءِ بالتعلُّمِ، ومعَ الإخوَانِ بالانبِسَاطِ، وبالحَديثِ الطيِّبِ، والحِكايَاتِ التي تَليقُ بالحَالِ).
(وما جَرَت به العادَةُ مِن إطعامِ السائِلِ، ونحوِ الهِرِّ، ففِي جَوازِهِ وجهَان). قال في "الآداب الكبرى": الَّلحمُ سيدُ الأدمِ. والخُبزُ أفضلُ القُوتِ. واختَلَفَ الناسُ أيُّهُما أفضَلُ؟ ويتوجَّهُ: أنَّ اللَّحمَ أفضَلُ؛ لأنَّه طعامُ أهلِ الجنَّةِ؛ ولأنَّه أشبَهُ بجَوهَرِ البَدَنِ
(1)
؛ ولقَوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61].
* * *
= مرفوعًا، وأخرجه مالك (2/ 218) مرسلًا. وانظر "الإرواء"(896)، و"الصحيحة"(250).
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 399).
فَصلٌ
وسُنَّ: أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ إِذَا فَرَغَ
، ويَقولَ: الحَمْدُ للَّهِ الذِي أطْعَمَنِي هَذَا الطَّعامَ، ورَزَقَنِيهِ مِن غَيْرِ حَوْلٍ منِّي ولا قوَّةٍ. ويَدْعُو لصاحِبِ الطَّعَامِ، ويُفَضِلَ منه شيئًا، لا سِيَّمَا إنْ كانَ مِمَّن يُتَبَرَّكُ بفضْلَتِه.
(فَصلٌ)
(وسُنَّ أن يَحمَدَ اللهَ إذا فَرَغَ) مِن طعامِه أو شرابِه؛ لحَديثِ: "إنَّ اللهَ ليَرضَى مِن العَبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ، أو يشربَ الشَّربَةَ، فيَحمدَه عليها" رواه مسلم
(1)
.
(ويَقول: الحمدُ للهِ الذي أطعَمَني هذا الطَّعامَ، ورَزَقَنيه
(2)
مِن غَيرِ حَولٍ مِنِّي ولا قُوَّةٍ) وعن مُعاذِ بن أنسٍ الجُهنيِّ مرفوعًا: "مَن أكلَ طَعَامًا، فقالَ: الحمدُ لله الذي أطعَمَني هذا ورَزَقَنِيهِ مِن غَيرِ حَولٍ مِنِّي ولا قُوَّةٍ، غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنبه". رواهُ ابنُ ماجه
(3)
.
(و) يُسنُّ أن (يَدعُوَ لصاحِبِ الطَّعامِ) بما أحَبَّ (ويُفضِلَ مِنهُ) أي: مِن الطَّعامِ (شيئًا) ولو قَليلًا، (لا سِيَّمَا إن كانَ ممَّن يُتبَرَّكُ بِفَضلَتِه
(4)
).
(1)
تأخرت: "فيحمده عليها. رواه مسلم" في الأصل فوضعت بعد قوله في المتن: "من غير حول مني ولا قوة". والحديث أخرجه مسلم (2734/ 89) من حديث أنس. وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 295).
(2)
في الأصل: "ورزقني".
(3)
أخرجه ابن ماجه (3285). وحسنه الألباني في "الإرواء"(1989).
(4)
التبرك بالآثار إنما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم ببعض، ولم يفعله التابعون مع الصحابة. قال ابن رجب رحمه الله في =
ويُسَنُّ إعْلانُ النِّكَاحِ، والضَّربُ فِيهِ بدُفٍّ -لا حِلَقَ فِيهِ ولا صُنُوجَ-
(ويُسنُّ إعلانُ النِّكاحِ) أي: إظهَارُهُ. (والضَّربُ فيهِ بِدُفٍّ -لا حِلَقَ فِيهِ ولا صُنُوجَ) لحديث: "أعلِنُوا النِّكاحَ" وفي لفظٍ "أظهروا النكاح"
(1)
. وكان يُحِبُّ أن يُضرَبَ عليهِ بالدّفِّ. وفي لَفظٍ: "واضرِبُوا عليه
(2)
بالغِربَالِ". رواه
(3)
ابن ماجه
(4)
.
وظاهِرُهُ: سَواءٌ كان الضَّارِبُ رَجُلًا أو امرَأةٌ.
وقال الموفَّقُ: ضربُ الدُّفِّ مخصوصٌ بالنِّساءِ. وفي "الرعاية": ويُكرَهُ للرِّجَالِ مُطلقًا.
وقال أحمدُ: لا بأسَ بالغَزَلِ في العُرْسِ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للأنصارِ: "أتينَاكُم أتينَاكُم، فحَيُّونَا نُحيِّيكُم، ولولا الذَّهبُ الأحمَر، لما حلَّت بوادِيكم، ولولا الحبَّةُ السوداءُ ما سُرَّتْ عَذاريكُم"
(5)
-لا علَى ما يَصنَعُ اليَومَ النَّاسُ- ومِن غَيرِ هذا الوجه: "ولولا الحِنطَةُ الحَمراء ما سُرَّت عذارِيكم".
= "الحِكم الجديرة بالإذاعة"(ص 24): فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل التبرك بوضوئه، وفضلاته، وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه. وفي الجملة: فهذه الأشياء فتنة للمعظِّم والمعظَّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة.
(1)
أخرجه ابن ماجه (1895) من حديث عائشة بلفظ: "أعلنوا". أما اللفظ الثاني فهو عند البيهقي (7/ 290). والحديث ضعفه الألباني في "الإرواء"(1993).
(2)
سقطت: "عليه" من الأصل.
(3)
في الأصل: "رواهما" وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 301).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1895) من حديث عائشة، وهو شطر من الحديث السابق.
(5)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(3/ 315)، من حديث عائشة. وحسنه الألباني في "الإرواء"(1995).
للنِّساءِ، ويُكْرَهُ للرِّجالِ. ولا بَأْسَ بالغَزَلِ في العُرسِ.
وضَربُ الدُّفِّ في الخِتانِ، وقُدُومِ الغائِبِ، كالعُرسِ.
وتحرُمُ كُلُّ مَلهَاةٍ سوى الدُّفِّ، كمِزمَارٍ، وطُنبورٍ، ورَبَابٍ، وجَنْكٍ. وقال في "المستوعب" و"الترغيب": سواءٌ استُعمِلَت لحُزْنٍ أو سُرورٍ
(1)
. (للنِّساءِ).
(ويُكرهُ) الضَّربُ بالدُّفِّ (للرِّجالِ) مُطلقًا. قاله في "الرعاية". وقال الموفَّق: ضَربُ الدُّفِّ مخصوصٌ بالنِّساءِ. قال في "الفروع": وظاهِرُ نُصوصِه وكلامِ الأصحابِ: التَّسويَةُ
(2)
.
(ولا بأسَ بالغَزَلِ في العُرسِ) لما تقدَّم، لقوله عليه السلام:"أتيناكم" .. وتقدَّمَ.
(وضَربُ الدُّفِّ في الخِتانِ، وقُدومِ الغَائِبِ) والوِلادَةِ (كالعُرسِ) لما فيه من السُّرورِ.
* * *
(1)
دقائق أولي النهى" (5/ 301).
(2)
"كشاف القناع"(12/ 63).
بابُ عِشْرَةِ النِّساءِ
يَلْزُم كُلًّا مِن الزَّوْجَينِ مُعاشَرَةُ الآخَرِ بالمَعْرُوفِ، مِن الصُّحْبةِ الجَمِيلةِ، وكَفِّ الأَذَى، وأنْ لا يَمْطُلَهُ بِحَقِّهِ. وحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيها أعْظَمُ مِن حقِّها علَيْهِ.
(بابُ عِشرَةِ النِّساءِ)
أصلُها: الاجتِماعُ، ويُقالُ لِكُلِّ جماعَةٍ: عِشرَةٌ ومَعشَرٌ.
وهي هُنا: ما يَكونُ بينَ الزَّوجَينِ مِن الأُلفَةِ والانضِمَامِ.
(يَلزَمُ كُلًّا مِن الزَّوجَينِ مُعاشَرَةُ الآخَرِ بالمعرُوفِ، مِن الصُّحبَةِ الجَميلةِ، وكَفِّ الأذى، وأن لا يَمْطُلَهُ بحقِّه. وحقُّ الزَّوجِ عليها أعظَمُ مِن حَقِّها عَليه) لقولِه تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. قال ابن
(1)
زيدٍ: تتَّقونَ اللهَ فيهنَّ، كما عليهنَّ أن يَتقينَ اللهَ فيكُم.
وقال ابنُ عباس: إنِّي لأُحبُّ أن أتزيَّنَ للمرأَةِ، كما أُحبُّ أن تتزيَنَ لي؛ لقوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]
(2)
.
ويُستحبُّ لكُل مِنهُما تَحسينُ الخُلُقِ لصَاحِبه، والرِّفقُ به، واحتِمالُ أذاه. وفي الحديث:"استَوصُوا بالنِّساءِ خَيرًا، فإنهنَّ عَوَانٍ عِندَكُم، أخذتمُوهُنَّ بأمانَةِ اللهِ، واستَحلَلتُم فُروجَهُنَّ بكلِمَةِ الله". رواهُ مُسلِم
(3)
.
(1)
في الأصل: "أبو".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 196).
(3)
أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر.
ولْيَكُنْ غَيُورًا مِن غَيرِ إفْرَاطٍ.
وإذَا تَمَّ العَقْدُ، وجَبَ على المَرْأَةِ أنْ تُسلِّمَ نَفْسَها لبَيْتِ زَوْجِهَا، إذَا طَلَبَها، وهِيَ حُرَّةٌ يُمْكِنُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا، كبِنْتِ تِشعٍ،
وحَقُّ الزَّوجِ أعظَمُ مِن حقِّها عليه؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. وحديث: "لو كنتُ آمِرًا أحَدًا أن يَسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ النِّساءِ أن يَسجُدنَ لأزواجِهنَّ، لما جعَلَ الله لهُم عليهنَّ من الحقِّ". رواه أبو داود
(1)
.
ويَنبَغِي إمساكُها معَ كراهَتِه لها؛ لقوله تعالى: {كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] قال ابنُ الجوزيِّ وغيرُه: قال ابنُ عبَّاس: رُبَّما رُزِقَ مِنها ولَدًا، فجَعَلَ اللهُ فيه خَيرًا كثيرًا
(2)
.
(وليكُن غَيورًا مِن غَيرِ إفراطٍ) لئلَّا تُرمَى
(3)
بالشرِّ مِن أجلِه.
(وإذا تمَّ العقدُ، وجَبَ على المرأةِ أن تُسلِّم) أي: الزَوجَةُ (نَفسَها لبَيتِ زوجِها، إذا طلَبَها) كما يجِبُ تَسليمُها الصَّداقَ إن طلبَتهُ (وهي حُرَّةٌ يُمكِنُ الاستمتَاعُ بها) أي: الزَّوجَةِ، وإلَّا لم يلزَم تسليمُها إليه، وإن قال: أحضُنُها وأُربِّيها؛ لأنَّها ليسَت محلًا للاستمتاعِ، ولا يؤمَن أن يُواقِعَها فيُفضيَها. (كبنتِ تِسعِ) قال الإمامُ أحمدُ: فإن أتَى عليها تِسعُ سِنينَ، دُفِعَت إليهِ. وذَهَب في ذلك إلىَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بنَى بعَائِشةَ وهي بِنتُ تِسعِ سِنينَ
(4)
.
لكِنْ قال القَاضي: ليسَ هذا عِندي على طَريقَةِ التَّحديدِ، وإنَّما ذَكَرَه؛ لأنَّ
(1)
أخرجه أبو داود (1240) من حديث قيس بن سعد. وصححه الألباني.
(2)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(8/ 123).
(3)
في الأصل: "ترى".
(4)
أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422) من حديث عائشة.
إنْ لَمْ تَشْتَرِطْ دَارَهَا.
ولا يَجِبُ عَلَيها التَّسلِيمُ إِنْ طَلَبَها وهِي مُحْرِمَةٌ، أو مَرِيضةٌ، أو صَغِيرةٌ، أوْ حائِضٌ، ولو قالَ: لا أَطَأُ.
الغَالِبَ أن ابنةَ تسعٍ يُتمَكَّنُ من الاستمتاعِ بها.
فيَلزمُ تَسليمُ بِنتِ تسع (إن لم تَشتَرِط دارَهَا) أو دارَ أبوَيها، أو أحدِهِما، أو بَلدَهَا -إذا طلَبَها، فإنَّ الحقَّ له، فلا يجبُ بدونِ طلبِه.
قال في "المبدع"
(1)
: فإن شَرَطَته، لزِمَ الوفاءُ به، ويجبُ عَليها تَسليمُ نَفسِها في دارِها.
قال الشيخُ تقيُّ الدين
(2)
: إنَّه لو قيلَ إذا اشتَرطَت دارَها، لم يَكُن عليهِ أُجرَةُ تِلكَ الدَّارِ، لكَانَ مُتوجِّهًا. وإلَّا فلَها الفَسخُ إذا نَقَلَها.
(ولا يَجبُ عَليها) أي: على الزوجَةِ، أو وَليِّها (التَّسليمُ) ابتداءً (إن طلَبَها وهِي) أي: الزّوجَةُ (مُحرِمَة) بحجٍّ أو عُمرةٍ (أو مَريضَةٌ) لا يمكِنُ استمتاعٌ بها (أو صَغيرَةٌ، أو حائِضٌ، ولو قالَ: لا أَطأُ) لأنَّ هذِه الأعذارُ تمنعُ الاستمتاعَ بها، ويُرجَى زوالُها، أشبَهَ ما لو طلَبَ تسليمَها في نهارِ رمضانَ.
* * *
(1)
المبدع" (7/ 192).
(2)
"الفتاوى الكبرى"(5/ 480).
فَصلٌ
وللزَّوْجِ أنْ يَستَمتِعَ بزَوْجَتِه كُلَّ وقْتٍ، علَى أيِّ صِفَةٍ كانَتْ، مَا لَمْ يَضُرَّهَا، أوْ يُشغِلهَا عَنِ الفَرَائِضِ.
(فَصلٌ)
(وللزَّوجِ أن يَستمتِعَ بزَوجَتِه كُلَّ وَقتٍ، على أيِّ صِفةٍ كانَت، ما لم يَضُرَّها، أو يُشغِلَها عن الفرائِضِ) فليسَ له الاستمتاعُ بها إذَن؛ لأنَّ ذلك ليسَ من المعاشَرَةِ بالمعرُوفِ. وحيثُ لم يُشغِلها عن ذلِكَ، ولم يُضرَّها، فلهُ الاستمتاعُ، ولو علَى تنّورٍ أو ظَهرِ قَتَبٍ
(1)
ونحوِه، كما رواهُ أحمدُ وغيرُه
(2)
.
وظاهِرُهُ: أنه لا يُقدَّرُ بِشيءٍ سِوَى ذلكَ.
فإن زادَ الزوجُ عليهَا في الجِماعِ، صُولِحَ على شيءٍ منه. قال القاضي: لأنَّه غيرُ مُقدَّرٍ، فرُجِعَ إلى الاجتهادِ بحُكمِ الحاكِمِ.
قال الشيخ تقيُّ الدِّين: فإن تنازَعَا فيَنبَغي أن يَفرِضَهُ الحاكِمُ، كالنَّفقَةِ، وكوَطئِهِ إذا زادَ.
قال في "الإنصاف": ظاهِرُ كلامِ أكثَرِ الأصحابِ خِلافُ ذلك، وأنَّ ظاهِرَ كلامِهِم: ما لم يَشغَلْها عن الفرائِضِ، أو يَضرَّها.
وجعلَ عبدُ الله بن الزبير لرَجُلٍ أربعًا باللَّيلِ، وأربعًا بالنَّهارِ. وصالَحَ أنَسٌ رجلًا
(1)
القتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير. "القاموس المحيط": (قتب).
(2)
أخرجه أحمد (32/ 145)(19403)، وابن ماجه (1853) من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وصححه الألباني.
ولا يَجوزُ لَهَا أنْ تَتطوَّعَ بصلاةٍ أوْ صَوْمٍ -وهو حاضِرٌ - إلَّا بِإذْنِه.
ولَهُ الاسْتِمنَاءُ بيَدِهَا، والسَّفَرُ بلا إذْنِهَا.
ويَحْرُمُ وَطْؤُهَا في الدُّبُرِ، ونَحْوِ الحَيْضِ،
استَعدَى على امرأتِه على ستَّةٍ
(1)
.
ولا يُكرَهُ الجماعُ في لَيلَةٍ من الليالي، ولا يَومٍ من الأيام
(2)
.
(ولا يجوزُ لها) أي: للمرأةِ (أن تتَطوَّعَ بصلاةٍ أو صَومِ- وهو) أي: الزَّوجُ (حاضِرٌ- إلَّا بإذنِه) لقولِه عليه الصلاة والسلام: "لا يحلُّ للمَرأةِ أن تصومَ وزَوجُهَا شاهِدٌ إلَّا بإذنِه، ولا تأذَنَ في بيتِهِ إلَّا بإذنِه، وما أنفَقَت من نفقَةٍ بغيرِ إذنِه فإنَّه يُرَدُّ إليه شَطرُه". رواه البخاري
(3)
.
(ولهُ الاستمناءُ بيَدِها، و) لهُ (السَّفرُ) حيثُ شاءَ (بلا إذنِهَا) أي: الزَّوجَةِ، ولو عَبدًا معَ سيِّدِه وبِدُونِه، بخلافِ سفَرِها بلا إذنِه؛ لأنَّه لا وِلايَةَ لها عليه.
(ويحرُمُ وَطؤُهَا في الدُّبُرِ، ونحوِ الحَيضِ) لقَولِه عليه السلام: "إنَّ اللهَ لا يَستَحِي مِن الحقِّ، لا تأتُوا النِّساءَ في أعجازِهِنَّ"
(4)
. وعن أبي هريرةَ وابنِ عباسٍ مرفوعًا: "لا ينظرُ اللهُ إلى رجُلٍ جامَعَ امرأتَه في دُبُرِها"
(5)
. رواهُما ابن ماجَه. وعن أبي هريرة مرفوعًا: "من أتَى حائِضًا، أو امرأَةً في دُبُرِها، أو أتى عرَّافًا فصدَّقَه،
(1)
أخرجه الطبراني (1/ 246).
(2)
"كشاف القناع"(12/ 76).
(3)
أخرجه البخاري (5195) من حديث أبي هريرة.
(4)
أخرجه ابن ماجه (1924) من حديث خزيمة بن ثابت. وصححه الألباني.
(5)
أخرجه ابن ماجه (1923) من حديث أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (1165) من حديث ابن عباس. والحديث صححه الألباني.
وعَزْلُه عَنْهَا بلا إذْنِهَا.
فقد كفَرَ بما أُنزِلَ على محمَّد"
(1)
. رواه الأثرم.
وامَّا
(2)
قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
فروى جابرٌ قال: كان اليهودُ يقولُونَ: إذا جامعَ الرجلُ امرأتَه في فرجِها من ورائِها، جاءَ الولدُ أحوَل. فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] مِن بينِ يَديهَا ومِن خَلفِها، غيرَ أن لا يأتِيَها إلَّا في المأتَى. متفق عليه
(3)
. وفي روايةٍ: ائتهَا مُقبِلَةً ومُدبِرَةً، إذا كانَ ذلكَ في الفَرجِ
(4)
.
فإن فعَلَ في الدُّبُرِ، عُزِّرَ. وإنْ تَطاوَعَا -الزَّوجَانِ- على الوَطءِ في الدُّبُرِ، فُرِّقَ بينَهُما. قال الشيخُ: كما يُفرَّقُ بينَ الرَّجُلِ
(5)
الفاجِرِ وبينَ مَن يَفجُرُ بِهِ مِن رَقيقِه
(6)
.
(و) يحرُمُ (عزلُهُ عنها بلا إذنِهَا) أي: الزَّوجَةِ.
ومَعنى العَزلِ: أن يَنزِعَ إذا قَرُبَ الإنزالُ، فيُنزِلَ خارِجًا عن الفَرجِ.
ووَجهُ المذهَبِ: ما رُوي عن عمر
(7)
قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعزَلَ عن
(1)
أخرجه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2006).
(2)
سقطت: "أما" من الأصل.
(3)
أخرجه البخاري (4528)، ومسلم (1435).
(4)
أخرجه الطحاوي (3/ 41) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الألباني: وإسناده صحيح على شرط الشيخين. "الإرواء" تحت الحديث (2001).
(5)
في الأصل: "الرجل بين".
(6)
"كشاف القناع"(12/ 81).
(7)
في الأصل: "عن ابن عمر".
ويُكْرَهُ أَنْ يُقبِّلَهَا أوْ يُباشِرَهَا عِنْدَ النَّاسِ، أو يُكْثِرَ الكَلامَ حالَ الجِمَاعِ، أو يُحدِّثَا بِمَا جرَى بَينَهُمَا.
الحُرَّةِ إلَّا بإذنِهَا. رواهُ أحمدُ، وابنُ ماجه
(1)
. ولأنَّ لها في الولَدِ حَقًا، وعليها في العَزلِ ضَررٌ، فلم يجُز إلَّا بإذنِها.
وقاسوا على ذلك: سيِّدَ الأمَةِ.
إلَّا بدَارِ الحَربِ، فيُسنُّ عزلُهُ مُطلَقًا، أي: سَواءٌ كانَت زوجتُه حرَّةً، أو أمةً، أو كانَت لهُ سُرِّيَّةٌ؛ خَشيَةَ استيلاءِ العدوِّ على الحامِلِ، أو استرقَاقِ ولَدِها. وهذا إن جازَ ابتداءُ النِّكاحِ، وإلَّا وجَبَ العَزلُ، كما تقدَّم في أوَّلِ النكاحِ عن "الفصول"، وأطلَقَ في "الإقناع" وجوبَه
(2)
.
(ويُكرَهُ أن يُقبِّلَها) أي: زوجَتَه، أو سُرِّيَّته، (أو يُباشِرَهَما عندَ النَّاسِ)؛ لأنَّه دَناءَةٌ.
(أو يُكثِرَ الكلامَ حالَ الجِمَاعِ) لقوله عليه السلام: "لا تُكثِرُوا الكلامَ عندَ مُجامَعَةِ النساءِ، فإنَّ منهُ يكونُ الخَرَسُ والفَأفَاءُ"
(3)
. رواه أبو حفص. ولأنَّه يُكرهُ الكلامُ حالَ البَولِ، وحالُ الجماعِ في مَعناهُ.
(أو يُحدِّثَا
(4)
بما جَرَى بَينهُما) ولو لضرَّتِهَا. وحرَّمَهُ في "الغنية"؛ لأنَّه مِن
(1)
أخرجه أحمدُ (1/ 339)(212)، وابنُ ماجه (1928)، وضعفه الألباني.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 310).
(3)
أخرجه ابن عساكر (5/ 700) من حديث قبيصة بن ذؤيب. وقال الألباني في "الإرواء"(2008): منكر.
(4)
في الأصل: "حدثا".
ويُسَنُّ أنْ يُلاعِبَهَا قَبلَ الجِمَاعِ، وأنْ يُغَطِّي رَأْسَه،
السرِّ، وإفشاءُ السرِّ حرامٌ
(1)
. وروى الحسنُ قال: جلَسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الرِّجالِ والنساء، فأقبَلَ على الرجالِ
(2)
، فقالَ:"لعلَّ أحدَكُم يُحدِّثُ بما يَصنَعُ بأهلِه إذا خَلا؟ " ثمَّ أقبلَ على النِّساءِ، فقالَ:"لعلَّ إحداكُنَّ تُحدِّثُ النِّساءَ بما يصنَعُ بها زوجُها؟ ": قال: فقالَت امرأةٌ: إنَّهم يَفعلُونَ، وإنَّا لنَفعَل. فقالَ: "لا تفعَلوا، فإنَّما
(3)
مَثَلُ ذلِكُم، كمَثَلِ شيطانٍ لَقِيَ شيطانَةً، فجامَعَها والنَّاسُ ينظرُون"
(4)
. وروى أبو داودَ عن أبي هريرةَ مرفوعًا مِثلَهُ بمعنَاهُ
(5)
.
(ويُسنُّ أن يُلاعِبَهَا قبلَ الجماعِ) لتَنهَضَ شهوتُها، فتَنالَ مِن لذَّةِ الجِماعِ مِثلَ ما ينالُهُ. وروَى عُمرُ بنُ عبد العزيز، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يُواقِعُها إلَّا وقَد أتاهَا مِن الشَّهوَةِ مِثلُ ما نالَه
(6)
، لا يَسبِقُها بالفَراغِ"
(7)
.
(و) يُسنُّ (أن يُغطِّيَ رَأسَه) عندَ الجِماعِ، وأن يُغطِّيَها عندَ الخَلاءِ؛ لحديث عائشةَ قالَت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا دخلَ الخلاءَ غطَّى رأسَه، وإذا أتى أهلَهُ غطَّى رأسَه"
(8)
.
(1)
"الإقناع"(3/ 425).
(2)
سقطت: "والنساء، فأقبل على الرجال" من الأصل.
(3)
في الأصل: "فإن".
(4)
لم أقف عليه عن الحسن.
(5)
أخرجه أبو داود (2174)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2011).
(6)
في الأصل: "ما تناله".
(7)
لم أقف عليه.
(8)
أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 2465)، والبيهقي (1/ 96). وقال: هذا الحديث أحد ما أنكر على محمد بن يونس الكديمي. وبنحوه قال ابن عدي.
وأنْ لا يَستَقْبِلَ القِبلةَ، وأنْ يَقولَ عندَ الوَطْءِ: بسمِ اللَّهِ، اللُّهمَّ جَنِّبنَا الشَّيْطانَ، وجَنِّبِ الشَّيطانَ مَا رَزَقْتَنَا، وأن تتَّخذَ المَرْأَةُ خِرْقَةً تُناوِلُهَا للزَّوْجِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِن الجِمَاعِ.
(وأن لا يَستَقبِلَ القِبلَةَ) عندَ الجماع؛ لأنَّ عمرو بن حَزمِ
(1)
وعطاء كَرِهَا ذلك. قاله في "الشرح"
(2)
.
(و) يُسنُّ (أن يقولَ عندَ الوَطءِ: بسمِ الله، اللهمَّ جنِّبنَا الشيطانَ، وجنِّب الشيطانَ ما رزقتَنا) لقولِه تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] قال عطاء: هو التسميةُ عندَ الجِماعِ. وروى ابنُ عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنَّ أحدَكُم إذا أتَى أهلَهُ قال: بسمِ اللهِ، اللهمَّ جنِّبنَا الشيطانَ، وجنِّب الشيطانَ ما رزقتَنا، فوُلِدَ بينَهُما ولدٌ، لم يضرَّهُ الشيطانُ". متفق عليه
(3)
.
(و) يُستحبُّ (أن تتَّخِذَ المرأةُ خِرقَةً تُناولُهَا للزَّوجِ بعدَ فراغِهِ من الجِماعِ) ليتمسَّح بها. وهو مروىٌّ عن عائشةَ
(4)
.
* * *
(1)
في الأصل: "عمر وابن عمر".
(2)
"الشرح الكبير"(21/ 415).
(3)
أخرجه البخاري (141)، ومسلم (1434).
(4)
أخرج البيهقي (2/ 411) عن عائشة قالت: ينبغي للمرأة إذا كانت عاقلة أن تتخذ خرقة فإذا جامعها زوجها ناولته فيمسح عنه ثم تمسح عنها.
فَصْلٌ
ولَيْسَ عَلَيْهَا خِدْمَةُ زَوْجِهَا في عَجْنٍ، وخَبْزٍ، وطَبْخٍ، ونَحْوِه، لكِنْ الأَوْلَى: فِعْلُ مَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ.
ولَهُ أنْ يُلْزِمَهَا بِغَسْلِ نَجَاسَةٍ عَلَيْهَا، وبالغُسْلِ مِن الحَيْضِ والنِّفَاسِ والجَنَابةِ،
(فَصلٌ)
(وليسَ عليهَا خِدمَةُ زَوجِهَا في عَجنٍ، وخَبزٍ، وطَبخٍ، ونحوِه) ككَنسِ الدَّارِ، ومَلءِ الماءِ مِن البئرِ، وطَحنٍ. نصًا؛ لأَنَّ المعقودَ عليهَ مَنفَعَةُ البُضعِ، فلا يَملِكُ غيرَه من منافِعِها (لكنْ الأَولى) لها، أي: الزَّوجَةِ (فِعلُ ما جَرَت به العادَةُ) بقيامِها بِهِ؛ لأنَّه العادَةُ، ولا يَصلُحُ الحالُ إلَّا بهِ، ولا تَنتَظِم المعيشَةُ بدُونِه.
وأوجَبَ الشيخُ تقيُّ الدِّين المعروفَ مِن مِثلِها لمثلِه، وِفاقًا للمالكيَّةِ. وقالَه أبو بَكرِ بنُ أبي شيبةَ، وأبو إسحاقَ الجوزجانيُّ
(1)
، واحتجَّا بقضيَّةِ عليٍّ وفاطمةَ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضَى على بِنتِه فاطمَةَ بخدمَةِ البَيتِ، وعَليٍّ ما كانَ خارِجًا مِن البيتِ مِن عَملٍ
(2)
. رواهُ الجوزجانيُّ من طُرُقٍ.
(وله) أي: الزَّوجِ (أن يُلزِمَها) أي: الزَّوجَةَ (بغَسلِ نجاسَةٍ عَليها، و) يُلزِمَها (بالغُسلِ مِن الحيضِ والنِّفاسِ والجنابَةِ) - إن كانَت مُكلَّفَةً. وظَاهِرُهُ: ولو ذميَّةً، خِلافًا "للإقناع"- واجتِنابِ المحرَّماتِ، وكذا إزالَةُ وسَخٍ ودَرَنٍ. ويَستَوي في
(1)
في الأصل: "وأبو إسحاق والجوزجاني".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 10) عن ضمرة بن حبيب مرسلا.
وبأَخْذِ مَا يُعافُ مِن ظُفْرٍ وشَعْرٍ.
ويَحْرُمُ عَلَيْهَا الخُرُوجُ بِلا إذْنِه، ولَوْ لِمَوْتِ أَبِيها،
ذلكَ المسلمةُ والذميَّةُ؛ لاستوائِهِما في حُصولِ النُّفرَةِ ممَّن ذلِكَ حالُها.
(و) يُلزِمُها (بأخذِ ما يُعافُ مِن ظُفْرٍ، و) مِن (شَعْرٍ) وظاهِرُهُ: ولو طالا قَليلًا، بحيثُ تَعافُه النفسُ.
وفي مَنعِهَا مِن أكل ما لَهُ رائِحَةٌ كريهَةٌ، كثومٍ وبصلٍ، وجهان: أحدُهُما: له المنعُ؛ لأنَّه يَمنعُ القُبلَةَ وكمالَ الاستمتاعِ بها. والثاني: ليسَ له ذلِكَ؛ لأنَّه لا يمنعُ الوَطءَ.
وجزمَ بالأوَّلِ في "المنور"، وصحَّحه في "النظم"، "وتصحيح المحرر"، وقدَّمه ابنُ رُزَين في "شرحه"
(1)
، وهو معنى ما في "الإقناع"
(2)
.
قال الشيخ منصور في "شرحه على الإقناع"
(3)
: قلتُ: وكذا تناولُ التِّتن، إذا تأذَّى به؛ لأنَّه في معنى ذلك.
(ويحرُمُ عليها) أي: على الزَّوجَةِ (الخروجُ بلا إذنِه) أي: الزَّوجِ؛ لأنَّ حقَّ الزوجِ واجِبٌ، فلا يجوزُ تركُهُ بما ليسَ بواجِبٍ (ولو لموتِ أبيهَا) لحديثِ أنسٍ أنَّ رجُلًا سافرَ ومَنعَ زوجتَهُ الخروجَ، فمرِضَ أبوها، فاستأذَنت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حضورِ جَنازَتِه، فقال لها:"اتَّقي اللهَ، ولا تُخالِفي زوجَكِ"، فأوحَى اللهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أني قد غفرتُ لها بطاعَتِها زوجَها"
(4)
. رواهُ ابن بطَّة في "أحكام النساء".
(1)
انظر "الإنصاف"(21/ 399).
(2)
"الإقناع"(3/ 422، 423).
(3)
"كشاف القناع"(12/ 84).
(4)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(7648)، وفيه:"إن الله غفر لأبيها بطاعتها لزوجها". وضعفه الألباني في "الإرواء"(2014).
لكِنْ لَهَا أن تَخْرُجَ لقَضَاءِ حَوائِجِهَا؛ حَيْث لَمْ يَقُمْ بِهَا.
ولا يَمْلِكُ مَنْعَهَا مِن كَلامِ أَبَوَيْهَا، ولا مَنْعَهُمَا مِن زِيارَتِهَا، مَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُمَا الضَّرَرَ.
ولا يَلزَمُهَا طاعَةُ أبَوَيْهَا، بلْ طَاعَةُ زَوْجِهَا أحَقُّ.
(لكِنْ لها) أي: الزَّوجَةِ (أن تخرُجَ لقَضَاءِ حوائِجِهَا، حيثُ لم يَقُمْ بها) أي: بحوائِجِها، فلا بُدَّ لها مِن الخروجِ؛ للضرورَةِ. فلا تَسقُط نفقَتُها به.
(ولا يَملِكُ) أي: الزَّوجُ (منعَها) أي: الزَّوجَةِ (من كلامِ أبَوَيهَا، ولا مَنعَهُمَا من زيارَتِها) لأنَّه لا طاعَةَ لمخلوقٍ في معصيَةِ الخالِقِ (ما لم يَخَفْ مِنهُما الضَّررَ) بسَبَبِ زِيارَتِهِما، فلهُ منعُهُما إذَنْ من زيارَتِها؛ دفعًا للضَّرر.
(ولا يلزَمُها) أي: الزوجَةَ (طاعَةُ أبوَيهَا) في فِرَاقِه، ولا في زِيارَةٍ، (بل طاعَةُ زوجِها أحَقُّ) لوجُويها عليها.
* * *
فَصْلٌ
ويَلْزَمُه أنْ يَبِيتَ عِنْدَ الحُرَّةِ بطَلَبِهَا لَيْلَةً مِن أرْبَعٍ، والأَمَةِ ليلَةً مِنْ سَبْعٍ، وأنْ يَطَأَها في كلِّ ثلْثِ سَنَةٍ مَرَّةً إنْ قدَرَ، فإنْ أبَى، فرَّق الحاكِمُ بَيْنَهُمَا إنْ طَلَبَتْ.
(فصلٌ) في القَسْمِ
(ويلزَمُهُ أن يبيتَ عندَ الحرَّةِ بطلَبها ليلَةً من أربَعِ) ليالٍ؛ لأنَّ أكثَرَ ما يُمكِنُ أن يجمعَ معَها ثلاثا مِثلها، وهذا قضاءُ كعبِ بنِ سُور
(1)
عِندَ عمرَ بنِ الخطاب
(2)
، واشتهرَ ولم يُنكَر
(3)
. (والأَمَةِ لَيلَةً مِن سَبعٍ) لأنَّ أكثَرَ ما يَجمعُ معَها ثلاثُ حَرائرٍ، وهي على النِّصفِ.
(وأن يَطأهَا في كُلِّ ثُلُثِ) - أي: أربَعَةِ أشهُرٍ - (سَنَةٍ مرَّة) بطَلَبِ الزوجَةِ، حُرَّةً كانَت أو أمَةً، مُسلِمَةً أو ذميَّةً؛ لأن الله تعالى قدَّرَ ذلكَ بأربعَةِ أشهُرٍ في حقِّ المُوْلِى، فكذَلِكَ
(4)
في غيرِه؛ لأنَّ اليمينَ لا تُوجِبُ ما حَلَفَ عليه، فدلَّ أنَّ الوَطءَ واجِبٌ بدُونِها (إن قَدِرَ) على الوَطءِ. نصًا.
(فإنْ أبى) الوَطءَ (فرَّقَ الحاكمُ بينهُما) فجعله أحمدُ كالمُوْلي (إن طَلَبَت) التفريقَ.
(1)
في الأصل: "سوار".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة - كما في "الاستيعاب"(3/ 1318) -. وصححه الألباني في "الإرواء"(2016).
(3)
"الروض المربع"(6/ 435)، وانظر " فتح وهاب المآرب"(3/ 156).
(4)
في الأصل: "فلذَلِكَ" وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 311).
وإنْ سَافَرَ فَوْقَ نِصْفِ سَنَةٍ في غَيْرِ أمْرٍ واجِبٍ، أوْ طَلَبِ رِزْقٍ يَحْتاجُ إلَيْه، وطلَبَتْ قُدُومَه، لَزِمَه.
ويَجِبُ علَيه التَّسوِيةُ بينَ زَوْجَاتِه في المَبِيتِ،
(وإن سافَرَ) الزوجُ (فوقَ نِصفِ سَنَةٍ في غيرِ أمرٍ واجِبٍ) كحجِّ وغَزوٍ واجِبَين، (أو طَلَبِ رِزقٍ يَحتَاجُ إليه) نَصًا (وطَلَبَت) الزوجَةُ (قُدومَه، لَزِمَه) القُدُومُ.
فإنْ أبى شيئًا من ذلِكَ الواجِبِ عليهِ، مِن المبيتِ، والوَطءِ، والقدومِ من سَفرٍ، بلا عُذرٍ لأحَدِهِما في الجَميعِ، فرَّقَ الحاكمُ بينَهما، بطَلَبها، ولو قَبلَ الدُّخولِ. نصًا. قال في روايَةِ ابنِ منصُورٍ: في رجُلٍ تزوَّجَ امرأةً ولم يدخُل بها، يقولُ: غَدًا أدخُلُ بها، غدًا أدخُلُ بها، إلى شَهرٍ: هل يُجبَر على الدُّخُول؟ قال: أذهَبُ إلى أربَعَةِ أشهُرٍ، إن دخَلَ بها، وإلا فرِّقَ بينَهُما. فجعلَه كالمُولي.
ولا يَصحُّ الفسخُ هُنا إلا بحُكمِ حاكِمٍ؛ لأنَّه مُختَلَفٌ فيه.
(ويجِبُ عليه التَّسوَيةُ بينَ زوجاتِه في المَبيتِ) لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وزِيادَةُ إحداهُنَّ في القَسمِ مَيلٌ. ولا مَعرُوفَ معَ المَيلِ. وقال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] الآية. لأنَّ العَدلَ أن لا يَقَعَ مَيلٌ البتَّةَ، وهو مُتعذِّرٌ.
وعن أبي هريرةَ مرفوعًا: "من كانَ له امرأتَانِ، فمالَ إلى إحدَاهُما، جاءَ يومَ القِيامَةِ، وشِقُّهُ مائِلٌ". وعن عائشةَ قالَت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقسِمُ بينَنَا فيَعدِلُ، ثم يقولُ:"اللهمَّ هذا قَسمِي فيما أملِكُ، فلا تلُمني فيما لا أملِك". رواهما أبو داود
(1)
.
(1)
أخرجه الأول أبو داود (2133)، وصححه الألباني. والثاني أخرجه أبو داود أيضا=
ويَكُونُ لَيلةً ولَيْلةً، إلَّا أنْ يَرْضَيْنَ بأكْثَرَ.
ويَحْرُمُ دُخُولُه في نَوْبَةِ واحِدَةٍ إلى غَيْرِهَا إلَّا لضرورةٍ، وفي نَهَارِهَا إلَّا لِحاجَةٍ، وإنْ لَبِثَ أو جامَعَ، لَزِمَه القَضَاءُ.
وإنْ طَلَّق واحِدَةً وَقْتَ نَوْبَتِهَا،
(ويَكونُ) القَسْمُ (ليلَةً وليلَةً) لأنَّ في قَسمِهِ لَيلَتَين فأكثَرَ تأخِيرًا لحقِّ مَن لها اللَّيلَةُ الثانيةُ للَّتي قَبلَها.
(إلَّا أن يَرضَينَ بـ) القَسم (أكثَرَ) مِن ليلَةٍ وليلَةٍ؛ لأنَّ الحقَّ لا يعدُوهُنَّ.
وإن كانَت نِساؤُهُ بمَحَالَّ مُتباعِدَاتٍ، قسَمَ بحَسَبِ ما يُمكِنُه، معَ التَّساوِي بينهنَّ، إلا برِضَاهنَّ.
(ويحرُمُ) على الزَّوجِ (دخُولُه في نَوبَةِ واحدَةٍ إلى غَيرِها إلَّا لضرورَةٍ) قال في "المغني" و"الشرح": كدَفْعِ نفقةٍ، وعيادَةٍ، وسُؤالٍ عن أمرٍ يَحتاجُ إلى معرفَتِه، أو زيارَتِها لبُعدِ عهدٍ بها
(1)
، أو تُوصِي إليه
(2)
.
(و) يحرُمُ أن يدخُلَ إليها (في نَهارِهَا) أي: نهارِ لَيلَةِ غيرِها (إلَّا لحاجَةٍ) كعِيادَةٍ، أو سؤالٍ عن أمر يَحتاجُ إليه، أو دَفع نَفقَةٍ، أو زيارَةٍ لبُعدِ عهدٍ بها.
(وإن لَبِثَ أو جامَعَ، لزِمَه القَضاءُ) مِثلَ ذلِكَ مِن حقِّ الأُخرَى؛ لأنَّ التسويَةَ واجبَةٌ، ولا تحصلُ إلَّا بذلك.
(وإن طلَّق) زوجُ اثنَتَين فأكثَرَ، أي: تَزوَّجَها (واحِدَةً وقتَ نَوبَتِها) أي:
= (2134)، وضعفه الألباني.
(1)
انظر "كشاف القناع"(12/ 113)، "فتح وهاب المآرب"(3/ 158، 159).
(2)
أي: فيما إذا كانت منزولًا بها فيريد أن توصي إليه. وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 322).
أثِمَ، ويَقْضِيَهَا متَى نَكِحَهَا.
ولا يَجِبُ أنْ يَسوِّي بينهُنَّ في الوَطْءِ ودَوَاعِيهِ، ولا في النَّفَقَةِ والكُسوةِ؛ حيث قامَ بالواجِبِ، وإنْ أمْكَنَه ذَلِكَ، كَانَ حَسَنًا.
قَسمِها (أَثِمَ) لأنَّه وسيلةٌ إلى إبطالِ حقِّها من القَسمِ. ولعلَّه إذا لم يَكُن بسُؤالِها (ويَقضيها مَتى نَكِحَها) وجوبًا؛ لقُدرَته عليه.
(ولا يجبُ) عليه (أن يُسوِّيَ بينهنَّ) أي: بينَ الزَّوجاتِ، بل يُسنُّ تَسويَةُ زوجٍ في وَطءٍ بينَ زوجاتِه؛ لأنَّه أبلَغُ في العَدلِ بينهنَّ. ورُوي: أنَّه عليه السلام كان يُسوِّي بينَ زوجاتِه في القُبلَةِ، ويقول:"اللهمَّ هذا قَسمي فيما أملِكُ، فلا تَلُمني فيما لا أملِكُ"
(1)
. (في الوَطءِ ودَواعِيه) لأنَّ ذلك طريقُهُ الشهوَةُ والمَيلُ، ولا سبيلَ إلى التسويةِ بينهنَّ في ذلك
(2)
.
(ولا) تجبُ التسويةُ (في النَّفقَةِ والكسوَةِ) والشَّهوَاتِ (حيثُ قامَ بالوَاجِبِ) عليه من نفقةٍ وكسوَةٍ، (وإن أمكَنَه ذلك، كان حَسَنًا) لأنَّه أبلغُ في العدلِ بينهنَّ.
* * *
(1)
تقدم تخريجه (3/ 337).
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 326).
فَصْلٌ
وَإذَا تَزَوَّجَ بِكْرًا أَقَامَ عِنْدَهَا سَبعًا، وثَيِّبًا ثلاثًا، ثُمَّ يعود إلى القَسمِ بينَهُنَّ.
ولَه تَأْدِيبُهُنَّ علَى تَركِ الفَرَائِضِ.
(فَصلٌ)
(وإذا تزوَّجَ بِكرًا) ومَعَهُ غيرُها، (أقامَ عندَها سَبعًا) ولو كانَت أمةً وضَرائِرُها حرائر
(1)
، ثم دارَ لقَسمٍ.
(و) إن تزوَّجَ (ثيبًا) ومعَة غيرُها، أقامَ عِندَها (ثلًالا) ولو أمَةً، ثم دارَ لِقَسمٍ؛ لحديثِ أبي قِلابَةَ، عن أنسٍ قال: مِن السنَّةِ إذا تزوَّجَ البِكرَ على الثيِّبِ أقامَ عندَها سَبعًا، وقَسَمَ، وإذا تزوَّج الثيِّبَ أقامَ عندَها ثلاثًا، ثم قَسَمَ. قال أبو قلابة: لو شِئتُ لقُلتُ: إن أنسًا رفَعَه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. رواه الشيخان
(2)
.
(ثمَّ يعودُ إلى القَسمِ بينهنَّ) بالتَّرتيبِ. وتَصيرُ الجديدَةُ آخرَهُنَّ نوبَةً.
(ولهُ تأدِيبُهُنَّ على تَركِ الفَرائِضِ) كالصَّلاةِ والصومِ الواجِبَين. نصًا.
قال عليٌّ
(3)
رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قال: علِّمُوهُم وأدِّبُوهم
(4)
. وروَى الخلالُ بإسنادِه عن جابِرٍ قال: قال
(1)
سقطت: "حرائر" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (5214)، ومسلم (1461).
(3)
سقطت: "علي" من الأصل.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 49).
ومَنْ عَصَتْهُ، وَعَظَهَا، فإنْ أصَرَّتْ، هَجَرَهَا في المَضْجَعِ مَا شاءَ، وفي الكَلامِ ثلاثةَ أَيَّامٍ فَقَطْ،
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رحِمَ اللهُ عبدًا عَلَّقَ في بَيتِه سوطًا
(1)
يُؤدِّبُ به أهلَه"
(2)
.
فإن لم تُصَلِّ، فقالَ أحمدُ: أخشَى أن لا يَحِلَّ للرَّجُلِ أن يقيمَ معَ امرأةٍ لا تُصلِّي، ولا تَغتَسِل مِن الجنابَةِ، ولا تتعلَّمُ القُرآن.
ولا يؤدِّبها في حادِثٍ مُتعلِّقٍ بحقِّ اللهِ تعالى، كسِحَاقٍ
(3)
.
(ومَن عصَتهُ، وعَظَها) بأن يَذكُرَ لها ما أوجَبَ اللهُ عليها من الحقِّ، وما يَلحَقُها مِن الإثمِ بالمخالَفَةِ، وما يَسقُطُ بذلك مِن الكسوَةِ والنفقةِ. ويباحُ لهُ هجرُها وضربُها؛ لقوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34].
(فإن أصرَّت، هجَرَها في المضجَعِ ما شاءَ)؛ لقولِه تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]. وقال ابنُ عباسٍ: لا تُضاجعْها في فِراشِكَ
(4)
. وقد هجَرَ النبي صلى الله عليه وسلم نساءَه، فلم يدخُل عليهنَّ شهرًا. متفق عليه
(5)
.
(و) هجَرَهَا (في الكلامِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فقَط) لا فَوقَها؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثَةِ أيَّامٍ"
(6)
. والهَجرُ ضِدُّ الوَصْلِ،
(1)
في الأصل: "صوتًا".
(2)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(4/ 1642). وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6851).
(3)
"كشاف القناع"(12/ 130).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 943).
(5)
أخرجه البخاري (1910)، ومسلم (1085) من حديث أم سلمة.
(6)
أخرجه البخاري (6077)، ومسلم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري، وأخرجه=
فإنْ أصَرَّتْ، ضَرَبَهَا ضَرْبًا غَيرَ شَدِيدٍ بعَشرةِ أسْوَاطٍ، لا فَوْقَهَا؛ ويُمْنَعُ مِن ذلكَ، إنْ كانَ مانعًا لِحَقِّهَا.
والتهاجُرُ: التقاطُعُ.
(فإن أصرَّت) معَ هَجرِها في المَضجَعِ والكلامِ على ما هِي عليه: (ضَرَبَها ضَربًا غيرَ شديدٍ) لحديث: "لا يَجلِدُ أحدُكُم امرأتَه جلدَ العَبدِ، ثم يُضاجِعَها في آخرِ اليوم"
(1)
. (بعَشرَةِ أسواطٍ، لا فوقَها) لحديث: "لا يُجلَدُ أحدٌ
(2)
فوقَ عشَرَةِ أسواطٍ إلَّا في حدٍّ من حُدودِ اللهِ تعالى". متفق عليه
(3)
.
(ويُمنَعُ مِن ذلك) أي: من هذِه الأشياءِ (إن كانَ مانِعًا لحَقِّها) لأنَّه يكونُ ظالمًا بِطَلَبه حقَّه معَ مَنعِه حقَّهَا.
ويَنبَغي للمرأةِ أن لا تُغضِبَ زوجَها؛ لما روى أحمد بسنَدِه عن الحُصين بن المِحصَنِ: أنَّ عمَّةً لهُ أتَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "ذاتُ زَوجٍ أنتِ"؟ قالت: نعَم. فقال: "انظُري أينَ أنتِ مِنهُ؟، فإنَّما هو جنَّتُكِ ونارُكِ"
(4)
. قال في "الفروع": إسنادُهُ جيِّد.
ويَنبَغي للزَّوجِ مُدَارَاتُها. ونقَلَ ابنُ منصور: حُسنُ
(5)
الخُلُقِ أن لا تَغضَب، ولا
= مسلم (2562/ 27) من حديث أبي هريرة، بلفظ: لا هجرة بعد ثلاث.
(1)
أخرجه البخاري (5204)، ومسلم (1708) من حديث عبد الله بن زمعة.
(2)
في الأصل: "أحدكم".
(3)
أخرجه البخاري (6848)، ومسلم (1708) من حديث أبي بردة الأنصاري.
(4)
أخرجه أحمد (31/ 341)(19003)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2612).
(5)
في الأصل: "عن".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَحتَدَّ. وحدَّثَ رجلٌ أحمدَ: ما قيلَ: العافيةُ عَشرَةُ أجزاءٍ؛ تِسعَة منها في التَّغافُلِ. فقال أحمد: العافيةُ عشرَةُ أجزاءٍ، كُلّهَا في التغافُلِ
(1)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(12/ 127).
كِتابُ الخُلْعِ
وشُرُوطُه سَبْعةٌ:
الأوّلُ: أنْ يَقَعَ مِن زَوْجٍ يَصِحُّ طَلاقُهُ.
الثَّانِي: أن يَكونَ علَى عِوَضٍ -ولَوْ مَجْهولًا-
(كِتابُ الخُلْعِ)
بضَمِّ الخاءِ المعجمَةِ وسكونِ اللامِ. سُمِّيَ فِراقُ الزوجَةِ خُلعًا؛ لأنَّ المرأةَ تَخلَعُ نفسَها من الزوجِ، كما تَخلَعُ اللِّباسَ، قال اللهُ تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
وهو شَرعًا: فِراقُ امرأتِه بِعِوَضٍ يأخُذُه الزوجُ، بألفَاظٍ مخصوصَةٍ.
(وشُروطُه) أي: الخُلعِ (سَبعَةٌ):
الشرطُ (الأوَّلُ: أن يَقعَ مِن زوجٍ يصحُّ طلاقُه) مُسلِمًا كان أو ذِميًا، بالغًا أو مميِّزًا يَعقِلُهُ، رشيدًا أو سَفيهًا، حُرًا أو عبدًا؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ مِنهُم زوجٌ يصحُّ طلاقُه، فصحَّ خُلعُهُ، ولأنَّه إذا ملَكَ الطلاقَ بغَيرِ عِوَضٍ، فبالعِوَضِ أولى.
وظاهِرُه: لا يَصِحُّ مِن غيرِ الزَّوجِ أو وكيلِه.
قال في "الاختيارات": والتحقيقُ أنَّه يصِحُّ ممَّن يصحُّ طلاقُه بالمِلكِ، أو الوكالَةِ، أو الوِلايَةِ، كالحاكِمِ في الشِّقَاقِ، وكذا لو فعَلَة الحاكِمُ في الإيلاءِ، أو العُنَّةِ، أو الإعسارِ، وغيرِها من المواضِع التي يَملِكُ الحاكِمُ فيها الفُرقَةَ
(1)
.
الشرط (الثاني: أن يكونَ على عِوَضٍ) فلا يَصحّ بلا عِوضٍ، (ولو مجهُولًا)
(1)
"كشاف القناع"(12/ 136).
مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ مِنْ أجنَبِيٍّ وزَوْجَةٍ، لكِنْ لَوْ عَضَلَهَا ظُلْمًا
لأنَّهُ فَسخٌ، ولا يَملِكُ الزوجُ فسخَ النكاحِ بلا مُقتَضٍ، بخلافِه على عِوَضٍ، فيَصيرُ مُعاوَضَةً، فلا يَجتَمِعُ له العِوَضُ والمعوَّضُ.
ولو قالَت: يعني عَبدَكَ فُلانًا، واخلَعني بكذا، ففَعَلَ، صحَّ، وكانَ بيعًا وخُلعًا بعِوَضٍ واحدٍ؛ لأنَّهما عقدانِ يَصِحُّ إفرادُ كُلَّ منهُما بعوضٍ، فصحَّ جمعُهما، كبَيعِ ثَوبَين.
ويَصِحّ الخُلعُ بالمجهولِ، كالوصيَّةِ. ولأنَّه إسقاطٌ لحَقِّه مِن البُضعِ، وليسَ تَمليكُ شَيءٍ. والإسقاطُ تدخُلُه المسامَحَةُ، ولهذا جازَ بلا عِوَضٍ، بخلافِ النكاح. وأبيحَ لها افتداءُ نَفسِها لحاجَتِها إليه، فوجب ما رَضِيَت ببَذْلِه دونَ ما لم تَرضَهُ.
(ممَّن) أي: كُلِّ مَن (يَصِحُّ تبرُّعُه) وهو المكلَّفُ غيرُ المحجورِ عليه، بخلافِ المحجورِ عَليه؛ لأنَّه بَذلُ مالِه في مُقابَلَةِ ما لَيسَ بمالٍ ولا منفعَةٍ، أشبَهَ التبرُّعَ.
وسواءٌ كانَ بذلُه (مِن أجنبيٍّ)، أي: ويصحّ الخلعُ مِن الأجنبيِّ الجائِزِ التصرُّفِ؛ بأن يَسألَ الزوجَ أن يخلَعَ زوجَتَه بعِوَضٍ بذَلَهُ لهُ، ولو بِغَيرِ إذنِها. (وزَوجَةٍ) بأن تقولَ المرأةُ: اخلَعني على كذا. أو يقولَ الأجنبيُّ: اخلَع زوجَتَكَ على أَلفٍ، أو يَقولَ: طلِّقها على ألفٍ، أو: بألفٍ عليَّ، أو: على سِلعَتي هذِه، فيُجيبُه الزَّوجُ، فيَصحُّ الخلعُ. ويَلزَمُ الأجنبيَّ وحدَهُ العِوضُ؛ لأنَّه التزمَهُ بالعَقدِ دونَ الزوجَةِ".
(لكِنْ لو عضَلَها ظُلمًا) أي: ضَرَبَها، أو ضيَّقَ عليها، أو منَعَها حقَّهَا، مِن نفقَةٍ
لتَخْتَلِعَ، لَمْ يَصِحَّ.
الثالِثُ: أنْ يَقَعَ مُنَجَّزًا.
الراجُ: أنْ يَقَعَ الخُلْعُ عَلَى جَمِيعِ الزَّوْجَةِ.
الخامِسُ: أنْ لا يَقَعَ حِملَةً لإسْقَاطِ يَمِينِ الطَّلاقِ.
وكِسوَةٍ، أو قَسْمٍ ونحوِه، كما لو أنقَصَها شيئًا مِن ذلك (لتَختَلِعَ، لم يَصِحَّ) الخلعُ، وهو باطِلٌ، والعِوَضُ مَردُودٌ، والزوجيَّةُ بحالِها؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ولأنَّ ما تَفتَدِي به نفسَها معَ ذلِكَ، عِوَضٌ أُكرِهَت على بذلِه بغَيرِ حقِّ، فلم يستحِقَّ أخذُه مِنها، للنَّهي عنهُ، والنهيُ يقتضي الفسادَ.
الشرطُ (الثالِثُ) من شُروطِ الخُلعِ: (أن يقَعَ مُنجَّزًا) فلا يَصِحُّ مُعلَّقًا، كـ: إن قَدِمَ زَيدٌ، أو: الحجُّ.
الشرط (الرابع
(1)
) من شروطِ الخُلعِ: (أن يقعَ الخلعُ على جميعِ الزوجَةِ) فمَن خُولِعَ جُزءٌ مِنها، مُشاعًا كانَ كنِصفِها أو رُبعِها أو ثُلثها، أو مُعينًا كيَدِها أو رجلِها، لم يَصحَّ الخلعُ؛ لأنَّه فَسخٌ.
الشرطُ (الخامِسُ) من شُروطِ الخُلعِ: (أن لا يَقعَ حِيلَةً لإِسقَاطِ يمينِ الطلاق) ولا يَصحُّ، أي: لا يَقعُ الخلعُ لذلك؛ لأنَّ الحيلَ خِدَاعٌ لا تُحِلُّ ما حرَّم اللهُ.
قال تقيُّ الدين: خُلعُ الحِيلَةِ لا يَصحُّ، على الأصحِّ، كما لا يَصِحُّ نِكاحُ المحلِّلِ؛ لأنَّه ليسَ المقصودُ مِنهُ الفُرقَةَ، وإنَّما يُقصَدُ منه بَقاءُ المرأةِ معَ زوجِها،
(1)
في الأصل: "الشرط".
السادِسُ: أنْ لا يَقَعَ بلَفْظِ الطَّلاقِ، بَلْ بصِيغَتِه المَوْضُوعَةِ لَهُ.
الساجُ: أنْ لا يَنْوِي بِهِ الطَّلاقَ.
فمتَى توفَّرتِ الشُّرُوطُ،
كما في نكاحِ المحلِّلِ. والعَنْدُ لا يُقصَدُ بهِ
(1)
نفيضُ مقصودِه.
قال المنقِّحُ: وغالِبُ الناسِ واقِعٌ في ذلك
(2)
.
الشرطُ (السادِسُ) مِن شروطِ الخُلعِ: (أن لا يَقعَ بلَفظِ الطَّلاقِ، بل بصِيغَتِه الموضُوعَةِ له) كـ: فَسختُ، و: خَلَعتُ، و: فادَيتُ، ولم يَنوِ بِه طَلاقًا، فيكونُ فسخًا لا ينقصُ به عَددُ الطلاقِ، ولو لم يَنوِ بِهِ خُلعًا.
الشرطُ (السابعُ) مِن شُروطِ الخُلعِ: (أن لا يَنوي به الطلاقَ)، فإن نَوَى به طلاقًا وقَعَ رَجعيًا بلَفظِ خُلعٍ؛ لأنَّه طلاقٌ لا عِوَضَ فيه، فكان رجعيًا كغَيرِه، ولأنَّه يَصلُحُ كِنايَةً عن الطَّلاقِ. فإن لم ينوِ بهِ طَلاقًا، لم يَكُن شيئًا؛ لأنَّ الخُلعَ إن كانَ فَسخًا، فالزَّوجُ لا يَملِكُ فسخَ النكاحِ إلَّا بعَيبِها.
وكذلِكَ لو قال: فَسَختُ النكاحَ، ولم ينوِ بهِ الطلاقَ، لم يَقع شيءٌ، بخلافِ ما إذا دخَلَهُ العِوَضُ، فإنَّه مُعاوَضَةٌ، ولا يَجتَمِعُ العِوَضُ والمعوَّضُ
(3)
.
فإن وقَعَ الخُلعُ بلَفظِ الخُلعِ، أو الفَسخِ، أو الفِدَاءِ؛ بأن قالَ: فَسَختُ، أو: خَلَعتُ، أو: فادَيتُ، ولم يَنوه طَلاقًا، كانَ فَسخًا
(4)
.
(فمتَى توفَّرَت الشُّروطُ) المتقدِّمَةُ
(1)
سقطت: "به" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 359).
(3)
"كشاف القناع"(12/ 147).
(4)
"الروض المربع"(6/ 465).
كَانَ فَسْخًا بَائِنًا، لا يَنْقُصُ به عَدَدُ الطَّلاقِ.
وصِيغَتُهُ الصَّرِيحةُ -لا تَحْتاجُ إلَى نِيَّةٍ- وهِي: خَلَعْتُ، وفَسَخْتُ، وفادَيْتُ. والكِنَايةُ: بارَيْتُكِ، وأبْرَأْتك، وأَبَنْتُك.
(كان فَسخًا بائِنًا
(1)
لا ينقصُ به عددُ الطلاقِ). ورُوي كَونُه فَسخًا لا ينقصُ به عددُ الطلاقِ عن ابنِ عبَّاس
(2)
.
ورُوي عن عُثمانَ، وعَليٍّ، وابنِ مَسعُودٍ
(3)
: أنَّه طلقَةٌ بائِنَةٌ بكلِّ حالٍ، لكِنْ ضعَّفَ أحمدُ الحديثَ عَنهُم فيه، وقال: ليسَ لنَا في البابِ شيءٌ أصحَّ مِن حديث ابنِ عبَّاسٍ أنه فَسخٌ.
واحتجَّ ابنُ عباسٍ بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. فذَكَرَ تَطليقَتَين والخُلعَ، وتَطليقَةً بعدَهُما، فلو كانَ الخُلعُ طلاقًا لكَانَ رابِعًا، ولأنَّ الخُلعَ فُرقَةٌ خَلَت في صَريحِ الطلاقِ ونيَّتِه، فكانت فَسخًا، كسائرِ الفُسُوخِ.
وأمَّا كونُ: فَسَختُ، صَريحًا فيه، فلأنها حقيقيَّةٌ فيه. وأمَّا: خَلَعتُ، فلِثُبوتِ العُرفِ به. وأمَّا: فادَيتُ، فلقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
(وصِيغَتُهُ الصريحَةُ، لا تحتَاجُ إلى نيَّةٍ، وهي) أي: الصيغَةُ: (خَلَعتُ، وفَسَختُ، وفادَيتُ. والكِنايَةُ: بارَيتُكِ، وأبرَأتُكِ، وأبَنتُكِ).
(1)
سقطت: "بائنًا" من الأصل.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 118).
(3)
أخرجه عنهم ابن أبي شيبة (4/ 117، 118).
فَمَعَ سُؤالِ الخُلْعِ وبَذْلِ العِوَضِ، يَصِحُّ بلا نِيَّةٍ، وإلَّا فلا بُدَّ مِنهَا.
ويَصِحُّ بكلِّ لغةٍ من أهْلِهَا، كالطَّلاقِ.
(فمَعَ سُؤالِ الخُلعِ، وبَذلِ العِوَضِ، يَصِحُّ) الخُلعُ (بلا نيَّةٍ) للخُلعِ؛ لأنَّ دِلالَةَ الحالِ، مِن سُؤالِ الخُلعِ، وبَذلِ العِوَضِ، صارِفَةٌ إليه، فأغنَت عن النيَّةِ فيه (وإلَّا فلا بُدَّ مِنها) يعني: وإن لم تَكُن دِلالَةُ حالٍ، فلا بُدَّ في الكِنايَاتِ من نيَّةِ الخُلعِ ممَّن أتَى بالكِنايَةِ مِن الزَّوجَين، كالطلاقِ بالكِنايَةِ.
(ويَصحُّ) الخلعُ، (بِكُلِّ لُغَةٍ من أهلِها) أي: تِلكَ اللُّغَةِ، (كالطَّلاق) وإن تخالَعَا هازِلَينِ فلَغوٌ، ما لم يَكُن بلَفظِ طلاقٍ أو نيَّتِه.
* * *
كِتابُ الطَّلاقِ
يُباحُ: لسُوءِ عِشْرةِ الزَّوْجَةِ. ويُسَنُّ إنْ تَرَكَتِ الصَّلاةَ ونَحْوَهَا.
(كِتابُ الطَّلاقِ)
وأجمَعوا على جَوازِه؛ لقولِه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وقولِه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقولِه عليه السلام: "إنما الطلاقُ لمن أخذَ بالسَّاق".
والمعنى يدلُّ عليه؛ لأنَّ الحالَ ربَّما فَسدَ بينَ الزَّوجَين، فيؤدِّي إلى ضررٍ عظيم، فبقاؤُهُ إذَنْ مَفسدَةٌ محضَةٌ، فشُرِعَ ما يُزيلُ النكاحَ؛ لتزولَ المفسدَةُ الحاصِلَةُ منه.
وهو مصدَر: طَلُقَت المرأةُ -بفتحِ اللامِ وضمِّها- أي: بانَت من زوجِها، فهي طالِقٌ. وطلَّقَها زوجُها، فهي مُطلَّقَةٌ. وأصلُه: التَّخليَةُ. يقالُ: طَلُقَت الناقةُ: إذا سُرِّحَت حيثُ شاءَت. وحُبِس فلانٌ في السِّجنِ طَلْقًا: بغَيرِ قَيدٍ.
وشرعًا: حَلُّ قيدِ النكاحِ، أو بَعضِه، إذا طَلَّقَها طلقَةً رجعيَّةً.
(يُباحُ) الطلاقُ (لسُوءِ عِشرَةِ الزَّوجَةِ) ولِسُوءِ خُلُقِها. وكذا يُباحُ للتَّضرُّرِ بها من غيرِ حصولِ الغَرضِ بها.
(ويُسنُّ) الطلاقُ (إن تَركَت الصلاةَ) وعِفَّةً (ونحوَها)، كتَفريطِها في حُقوقِ اللهِ تعالى إذا لم يُمكِنْه إجبارُها عليها، ولأنَّ فيه نَقصًا لدِينِه، ولا يأمَن مِن إفسادِ فِراشِه، وإلحاقِهَا به
(1)
ولَدًا مِن غَيرِه إذا لم تَكُن عفيفَةً. ولهُ عضلُها إذَنْ والتضييقُ
(1)
سقطت: "به" من الأصل.
ويُكْرَهُ:
مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ. ويَحْرُمُ: في الحَيضِ ونحوِه، ويَجِبُ: على المُولي بَعْدَ التربُّصِ، قيلَ: وعلَى مَن يَعْلَمُ بفُجُورِ زَوْجَتِه.
ويَقَعُ طلاقُ المُمَيِّزِ -إنْ عَقَلَ الطَّلاقَ-
عليها؛ لتَفتَدِيَ منه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
(ويُكرَهُ) الطلاقُ (مِن غَيرِ حاجَةٍ) لإزالَتِه النكاحَ المشتَمِلَ على المصالِحِ المندوبِ إليها، ولحديث:"أبغَضُ الحلالِ إلى اللهِ الطلاقُ"
(1)
.
(ويحرُمُ) الطلاقُ (في الحَيضِ ونحوِه) كنِفاسٍ، وطُهرٍ وَطِئَ فيه.
(ويَجِبُ) الطلاقُ (على المُولي بعدَ التربُّصِ. قيلَ: وعلَى مَن يَعلَمُ بفُجُورِ زوجَتِه
(2)
) قال أحمدُ: لا يَنبَغِي له إمسَاكُها، وذلِكَ لأنَّ فيهِ نَقصًا لِدِينه، ولا يأمَنُ إفسادَهَا فراشَه، وإلحاقَهَا به ولَدًا مِن غَيرِه.
(ويَقعُ طلاقُ المميِّزِ -إن عقَلَ) المميِّزُ (الطلاقَ) فيصحُّ طلاقُه، كالبالِغِ؛ لعُمومِ الخبرِ، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الطلاقُ لمَن أخَذَ بالسَّاقِ"
(3)
. وقولُه: "كُلُّ الطلاقِ جائزٌ إلَّا طلاقَ المعتُوهِ، والمغلُوبِ على عَقلِه"
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018) من حديث ابن عمر. وضعفه الألباني في "الإرواء"(2040).
(2)
سقطت: "قيلَ: وعلَى مَن يَعلَمُ بفُجُورِ زوجَتِه" من الأصل.
(3)
أخرجه ابن ماجه (2081)، والدارقطني 4/ 37 من حديث ابن عباس، وحسنه الألباني في "الإرواء"(2041).
(4)
أخرجه الترمذي (1191) من حديث أبي هريرة. قال الألباني: ضعيف جدا والصحيح موقوف.
وطَلاقُ السَّكْرَانِ بِمَائِعٍ.
ولا يَقَعُ مِمَّنْ نَامَ، أوْ زَالَ عَقْلُه بِجُنُونٍ أو إغْمَاءٍ،
ومَعنَى كَونِ المميِّزِ يَعقِلُه: أن يعلَمَ أنَّ زوجَتَه تَبينُ مِنهُ، وتَحرُمُ عليه، إذا طلَّقها.
(و) يقعُ (طلاقُ السَّكرَانِ بمائِعٍ) من نحوِ خَمرٍ؛ بأن يكونَ مُختَارًا عالمًا بهِ.
وقولُه: "مائع" أخرَجَ بذلِكَ الَحشيشَةَ، والبَنجَ، خلافًا لما قالَه في "شرح المنتهى" للمصنِّف، تبعًا للشيخ تقي الدِّين حيثُ ألحَقَ الحشيشَةَ بالشَّرابِ المُسكِرِ، حتَّى في وُجُوبِ الحَدِّ.
وأمَّا البَنجُ، فلا يَقع به طَلاقٌ، كما مشَى عليه في "المنتهى".
ويُفرِّقُ بينَها وبينَ البَنْجِ بأنَّها تُشتَهَى وتُطلَبُ، فهي كالخَمرِ، بخلافِ البَنجِ، فالحُكمُ عِندَه مَنوطٌ باشتِهاءِ النَّفسِ وطَلَبِها. وجزَم في "المنتهى""وشرحه" بما قاله الشيخُ من حيثُ وقوعُ الطلاقِ بالحَشيشَةِ
(1)
.
وقال جماعَةٌ من الأصحابِ: لا تَصحُّ عِبادَةُ السكرَانِ أربعينَ يومًا حتَّى يَتوبَ.
(ولا يَقَعُ) الطلاقُ (ممَّن نامَ، أو زالَ عقلُه بجنونٍ أو إغماءٍ) أو بِرسَامٍ
(2)
، أو نَشَافٍ، ولو بِضَربِه نَفسَه؛ لحديث:"رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن الصبيِّ حتَّى يحتَلِمَ، وعن النائمِ حتَّى يَستيقِظَ، وعن المجنونِ حتَّى يفيقَ"
(3)
. ولأنَّ الطلاقَ قولٌ
(4)
يُزيلُ المِلكَ، فاعتُبِرَ له العَقلُ، كالبَيعِ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(12/ 186)، "دقائق أولي النهى"(5/ 336).
(2)
البرسام: ورمٌ حارٌّ يعرضُ للحِجابِ الذي بينَ الكَبدِ والأمعَاءِ، ثم يتصلُ بالدِّماغِ. "فتح وهاب المآرب"(3/ 173).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
سقطت: "قول" من الأصل.
ولا مِمَّنْ أكْرَهَهُ قادِرٌ -ظُلْمًا- بعُقُوبةٍ، أو تَهْديدٍ لَه، أو لوَلَدِه.
(ولا) يَقَعُ طلاقٌ (ممَّن أكرَهَه) على الطلاقِ (قادِرٌ) على ما هدَّدَهُ به بسَلطَنَةٍ، أو تَغلُّبٍ، كلِصٍّ وقاطِعِ طريقٍ، بقَتلٍ، أو قَطعِ طَرَفٍ، أو ضَربٍ كثيرٍ.
قال الموفَّقُ والشارِحُ: فإن كانَ يَسيرًا في حقِّ مَن لا يُبالي به
(1)
، فلَيسَ بإِكرَاهٍ. وإن كانَ في
(2)
ذَوي المُروءةِ على وجهٍ يكونُ إخرَاقًا لصَاحِبِه، وغَضًّا
(3)
له وشُهرَةً، فهو كالضَّربِ الكَثيرِ في حقِّ غَيرِه.
(ظُلمًا، بعقُوبَةٍ) كضَربٍ، وخَنقٍ، وعَصرِ ساقٍ، وحَبسٍ، والْغَطِّ في الماءِ معَ الوَعيدِ، (أو تهديدٍ لهُ، أو لوَلَدِه) فطلَّقَ تبعًا لقَولِ مُكرِهِه، لم يقَع طلاقُه. رواهُ سعيدٌ، وأبو عبيدٍ، عن عثمانَ، وهو قولُ جماعةٍ من الصحابَةِ
(4)
.
قال ابنُ عباسٍ فيمَن يُلزِمُهُ اللُّصوصُ، فطلَّق: ليسَ بشيءٍ. ذكرَه البخاري
(5)
، ولقوله عليه السلام:"إنَّ اللهَ وضَعَ عن أمَّتي الخَطأَ والنِّسيانَ، وما استُكرِهُوا عليه". رواهُ ابن ماجَه، والدارقطني
(6)
. قال عبدُ الحقِّ: إسنادُهُ مُتَّصل صحيحٌ.
وعن عائشةَ قالَت: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا طلاقَ ولا عَتَاقَ في
(1)
في الأصل: "مَن لا شأن به".
(2)
في الأصل: "من".
(3)
في الأصل: "وغيظًا".
(4)
منهم: عمر، وعلي، والزبير، وابن عباس، وابن عمرو. انظر "مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 82).
(5)
ذكره البخاري معلقًا قبل الحديث (6940).
(6)
تقدم تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
غِلاقٍ". رواهُ أبو داود، وهذا لفظُه، وأحمدُ، وابنُ ماجَه
(1)
، ولفظُهما:"في إغلاق". قال المنذري: هو المحفوظُ. والإغلاقُ: الإكرَاهُ؛ لأنَّ المكرَهَ مُغْلقٌ
(2)
عَليه في أَمرِه، مُضيَّقٌ عليه في تَصرُّفِه، كما يُغلَقُ البابُ على الإنسانِ.
وخرَج بقوله: "ظلمًا" ما لو أُكرِهَ بحقٍّ، كإكرَاهِ الحاكِمِ المُوليَ على الطَّلاقِ بعد التربُّصِ، إذا لم يَفيء، وإكراهِ الحاكمِ رَجُلَين زوَّجهُما وليَّانِ، ولم يُعلَم السابِقُ مِنهُما؛ لأنَّه قول حُمِل عليه بحقٍّ، فصحَّ، كإسلامِ المرتدِّ.
* * *
(1)
أخرجه أحمد 43/ 378 (2636)، وأبو داود (2193)، وابن ماجه (2046). وحسنه الألباني في "الإرواء"(2047).
(2)
في الأصل: "منغلق".
فَصْلٌ
ومَن صَحَّ طَلاقُهُ، صَحَّ أنْ يُوكِّلَ غَيْرَه فيه، وأنْ يَتوكَّلَ عَنْ غَيْرِه.
وللوَكِيلِ أنْ يُطلِّقَ متَى شَاءَ، ما لَمْ يَحُدَّ له حدًّا. ويَمْلِكُ طَلْقَةً، مَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أكْثَرَ.
وإنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، كانَ لَهَا ذلكَ متَى شاءَتْ، وتَمْلِكُ الثلاثَ إنْ قالَ: طَلاقُك، أوْ أَمْرُكِ بيَدِكِ، أوْ: وكَّلْتُكِ في طَلاقِكِ.
(فَصلٌ)
(ومَن صحَّ طلاقُه) مِن بالغٍ ومميِّزٍ يَعقِلُه (صحَّ أن يوكِّلَ غيرَه فيه) لأنَّ مَن صحَّ تصرُّفُه في شيءٍ تجوزُ فيه الوكالَةُ بنفسِهِ، صحَّ توكيلُه وتوكُّلُه فيهِ. ولأنَّ الطلاقَ إزالَةُ مِلكٍ، فصحَّ التوكيلُ والتوكُّلُ فيه، كالعِتقِ، (وأن يتوكَّلَ عن غَيرِه) لأنَّ من صحَّ طلاقُهُ، صحَّ توكيلُه.
(وللوَكيلِ) الذي يُعيِّن لهُ وَقتًا (أن يُطلِّقَ متَى شاءَ) كالوَكيلِ في البيعِ (ما لم يَحُدَّ له حدًا) فإن حدَّ له حدًا، فعلَى ما أُذِنَ لهُ؛ لأنَّ الأمرَ إلى الموكِّلِ في ذلك.
(ويَملِكُ طَلقَةً) لأنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَتناوَلُ أقلَّ ما يقعُ عليه الاسمُ (ما لم يَجعَل له أكثَرَ) مِن طلقَةٍ واحدَةٍ، بلَفظِه، أو نيَّتِه، ويُقبلُ قولُه في نيَّتِه.
(وإن قالَ) الزوجُ (لها: طلِّقي نفسَكِ، كان لها ذلكَ) أي: طلاقُ نفسِها (متَى شاءَت) ولو كانَ مُترَاخِيًا. (وتملِكُ) زوجَةٌ (الثلاثَ) أي: أنْ تُطلِّقَ نفسَها ثلاثًا (إن قالَ) لها زوجُها: (طلاقُكِ، أو: أمرُكِ بِيَدِك) لأنَّه مُفردٌ مضافٌ فيَعمُّ (أو: وكَّلتُكِ في طلاقِكِ) أو في الطلاقِ.
ويَبطُل التَّوكِيل بالرُّجُوعِ، وبِالوَطْءِ.
(ويَبطلُ التوكيلُ بالرُّجوعِ) عن الوكالَةِ (و) يَبطُلُ التوكيلُ (بالوَطءِ) أيضًا.
* * *
بابُ سُنَّةِ الطلاقِ وبِدْعَتِه
السُّنَّةُ لِمَنْ أرَادَ طَلاقَ زَوْجَتِه أنْ يُطلِّقَهَا واحِدَةً، في طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ. فإنْ طَلَّقَهَا ثلاثًا - ولَوْ بكَلِمَاتٍ - فحَرَامٌ، وفي الحَيْضِ، أو في طُهْرٍ وَطئ فِيهِ، ولو بواحدةٍ، فبِدْعِيٌ حَرَامٌ، وَيَقَعُ.
(بابُ سُنَّةِ الطلاقِ وبِدعَتِه)
أي: إيقاعِ الطلاقِ على وَجهٍ مشروع، وإيقاعِه على وجهٍ مَنهيٍّ عنه.
(السنَّةُ لمن أرادَ طلاقَ زوجَتِه: أن يطلِّقَها واحدَةً، في طُهرِ لم يَطأهَا فيه) أي: الطُّهرِ.
(فإن طلَّقَها ثلاثًا - ولو بِكَلِماتٍ) في طُهرٍ لم يَطأهَا فيه (فحَرامٌ) نصًا.
(وفي الحَيضِ، أو) طلاقُها (في طُهرٍ وَطئَ فيه) ولو أنَّه طلَّقَها في آخرِه، ولم يَظهَر لها حملٌ، (ولو بِواحِدَةٍ) أي: ولو بطلقَةٍ واحدَةٍ، (فبِدعيٌّ حرامٌ) ويَقَعُ الطلاقُ. نصًا؛ لحديثِ ابن عمر. قال نافعٌ: وكانَ عبدُ الله طلَّقَها تطليقَةً، فحُسبَت مِن طلاقِه، وراجَعَهَا، كما أمَرَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ولأنَّه طَلاقٌ مِن مكلَّفٍ في محلِّ الطلاقِ، فوَقَعَ، كطلاقِ الحامِلِ. ولأنَّه ليسَ بقُربَةٍ، فيُعتَبرُ لوقُوعِه مُوإفَقةُ السنَّةِ، بل هو إزالَةُ عِصمَةٍ، وقَطعُ مِلكٍ، فإيقاعُهُ في زمَنِ البدعَةِ أولى؛ تغليظًا عليه، وعقوبةً له.
(ويَقَعُ) نصًا طلاقُ البدعَةِ، قال ابنُ المنذرِ، وابنُ عبدِ البرِّ: لم يُخالِف في ذلكَ إلَّا أهلُ البِدَعِ والضلالِ.
ولا سُنَّةَ ولا بِدْعَةَ لِمَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا، ولا لِصَغِيرةٍ، وآيِسَةٍ، وحامِلٍ. ويُباحُ الطَّلاقُ والخُلْعُ بسُؤالِهَا زَمَنَ البِدْعَةِ.
لأنَّه عليه السلام أمَرَ عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ بالمراجعَةِ
(1)
، وهي لا تكونُ إلَّا بعدَ وقوعِ الطلاقِ. وفي لفظِ الدارقُطني
(2)
: قال: قُلتُ: يا رسولَ الله، أرأَيتَ لو أنِّي طلَّقتُها ثَلاثًا؟ قال:"كانَت تبينُ مِنكَ، وتكونُ معصيةً".
وإذا طلَّقَها زمَنَ بِدعَةٍ طلاقًا رجعيًا، تُسَنُّ مُراجَعَتُها؛ لحديثِ ابنِ عمر المتقدِّم.
(ولا سُنَّةَ ولا بِدعَةَ) مُطلقًا. أي: لا في زَمَنٍ، ولا عَدَدٍ (لمَن لم يُدخَل بِهَا) لأنَّها لا عِدَّةَ لها، فتتضرَّر بتَطويِلهَا.
(ولا) سُنَّةَ ولا بِدعَةَ (لصَغيرَةٍ) أي: زَوجَةٍ صغيرَةٍ (وآيِسَةٍ) لأنَّها لا تعتدُّ بالأقرَاءِ، فلا تختَلِفُ عِدَّتُها (وحامِلٍ).
فإذا قالَ لإحداهُنَّ: أنتِ طالِقٌ للسنَّةِ طلقَةً، وللبدعَةِ طَلقَةً، وقَعَتا في الحالِ، إلَّا أن يُريدَ - في غَيرِ الآيسَةِ - إذا صارَت مِن أهلِ ذلك
(3)
، أي: السنَّةِ والبدعَةِ.
وإن قالَ
(4)
لمَن لها سُنَّةٌ وبدعَةٌ، فواحِدَةٌ في الحالِ، والأُخرَى في ضِدِّ حالِهَا إذَن.
(ويُباحُ الطلاقُ والخُلعُ بسؤالها) أي: الزَّوجَةِ ذلكَ على عِوَضٍ (زمَنَ البِدعَةِ) لأنَّ المنعَ مِنهُ لحقِّ المرأةِ، فإذا رَضِيَت بإسقَاطِ حقِّها زالَ المنعُ.
(1)
أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) من حديث ابن عمر.
(2)
أخرجه الدارقطني (4/ 31) قال الألباني: منكر. "الإرواء"(2054).
(3)
"الروض المربع"(6/ 498).
(4)
أي: قال: أنتِ طالِقٌ للسنَّةِ طلقَةً، وللبدعَةِ طَلقَةً، لمن لها سُنَّةٌ وبدعَةٌ، وهي: المدخولُ بها غيرُ الحامِلِ ذاتِ الحَيضِ.
بَابُ صَرِيحِ الطَّلاقِ وكِنَايتِه
صريحُه لا يَحتاجُ إلَى نِيَّةٍ، وهُو: لَفْظُ الطَّلاقِ،
(بابُ صريحِ الطلاقِ وكنايَتِه)
لا يَقعُ الطلاقُ بغيرِ لفظٍ، فلو نواهُ بقلبهِ مِن غيرِ لفظٍ، لم يَقَعْ، خلافًا لابنِ سِيرينَ والزهريِّ. ورُدَّ بقولِه عليه السلام:"إنَّ اللهَ تجاوَزَ عن أمَّتي عمَّا حدَّثَت به أنفُسَها، ما لم تعمَل أو تتكلَّم به". متفق عليه
(1)
. ولأنَّه إزالةُ مِلكٍ، فلَم يحصُل بمجرَّدِ النيَّةِ، كالعِتقِ.
وانقَسَم اللَّفظُ إلى صَريحٍ وكنايَةٍ؛ لأنَّه لإزالَةِ مِلكِ النكاحِ، فكانَ له صريحٌ وكنايَةٌ، كالعِتقِ، والجامِعُ بينَهُما الإزالَةُ.
(صَريحُه) أي: الطلاقِ (لا يَحتَاجُ إلى نيَّةٍ) لأنَّ سَائِرَ الصَّرائِحِ لا تَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ، فكذا صَريحُ الطلاقِ.
والصَّريحُ: ما لا يَحتَمِلُ غيرَه مِن كُلِّ شيءٍ وُضِعَ له اللَّفظُ، من طلاقٍ، وعِتقٍ، وظِهارٍ، وغيرها.
فلَفظُ "الطلاق" صريحٌ فيه؛ لأنَّه لا يَحتَمِلُ غيرَه في الحقيقَةِ العُرفيَّةِ، وإنْ قَبِلَ التأويلَ، على ما يأتي في بابِه، فاندَفَع ما أوردَه ابنُ قندس في "حواشيه" على "المحرر"
(2)
.
(وهو) أي: الصريحُ: (لَفظُ الطلاقِ) أي: المَصدَرُ، فيقَعُ بقَوله: أنتِ
(1)
أخرجه البخاري (5269)، ومسلم (127) بنحوه من حديث أبي هريرة.
(2)
"كشاف القناع"(12/ 211).
ومَا تَصرَّفَ مِنْه، غَيْرَ أمْرٍ، ومُضارِعٍ، ومُطلِّقَةٍ؛ اسمِ فاعِلٍ.
فإذَا قَالَ لزَوْجَتِه: أنتِ طالِقٌ، طَلُقَتْ، هَازِلًا كانَ أو لاعِبًا، أوْ لَمْ يَنْوِ، حتَّى ولَوْ قِيلَ لَهُ: أطَلَّقْتَ امْرَأتَكَ؟ فقالَ: نَعَم؛
الطلاقُ
(1)
، ونحوِه (وما تصرَّفَ منه) أي: الطَّلاقِ، كـ: طَالِق، ومُطلَّقَة، وطلَّقتُكِ (غيرَ أمرٍ) كـ: اطلُقي (و) غَيرَ (مُضارعٍ) كـ: تَطلُقِين (و) غَيرَ (مُطَلِّقَةٍ؛ اسمِ فاعِلٍ) أي: بكَسرِ الَّلامِ. فلَفظُ الإطلاقِ، وما تصرَّف منه، نحو: أطلقتُكِ. ليسَ بصريحٍ.
(فإذا قال لزوجَتِه: أنتِ طالِقٌ، طلُقَت، هازِلًا كانَ أو لاعِبًا) قال ابنُ المنذر: أجمَع كلُّ مَن أحفَظُ عنهُ مِن أهلِ العِلمِ: أنَّ هَزلَ الطَّلاقِ وجِدَّهُ سَواءٌ.
فيقَعُ ظاهِرًا أو باطنًا، لحديثِ أبي هريرة مرفوعًا:"ثلاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وهَزلُهُنَّ جِدٌّ: النكاخُ، والطَّلاقُ، والرَّجعَةُ". رواهُ الخمسةُ إلَّا النسائيَّ
(2)
. وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ.
(أو لم يَنو) أي: الطلاقَ؛ لأنَّ إيجادَ هذا اللَّفظِ من العَاقِلِ
(3)
دليلُ إرادَتِه، والنيَّةُ لا تُشتَرَطُ للصَّريحِ؛ لعَدَم احتمالِ غيرِه
(4)
.
(حتى ولو قِيلَ له: أطلَّقتَ امرأتَكَ؟ فقالَ: نَعَم) أو قِيلَ له: امرأتُكَ طالِقٌ؟
(1)
في الأصل: "طالِقٌ".
(2)
أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039). ولم أجده في مسند أحمد، ولم يرقم له الحافظ في "أطراف المسند". والحديث حسنه الألباني في "الإرواء"(1826، 2061).
(3)
في الأصل: "بالعاقل".
(4)
"دقائق أولي النهى"(5/ 383)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 181).
يُريدُ الكَذِبَ بذَلِكَ.
ومَنْ قَالَ: حَلَفْتُ بالطَّلاقِ، وأرَادَ الكَذِبَ، ثُمَّ فعَلَ مَا حَلَفَ علَيْه، وقَعَ الطَّلاقُ حُكْمًا، وَدُيِّنَ.
وإنْ قالَ: عَلَيَّ الطَّلاقُ، أوْ: يَلْزَمُني الطَّلاقُ، فصَرِيحٌ، مُنَجَّزًا، أوْ مُعلَّقًا، أوْ مَحْلُوفًا بِهِ.
وإنْ قالَ: عَلَيَّ الحَرَامُ. إنْ نَوَى امْرَأتَه، فظِهَارٌ،
فقال: نعَم (يُريدُ الكَذِبَ بذلِكَ) طلُقَت، وإن لم يَنوِ الطلاقَ؛ لأنَّ "نعم" صريحٌ في الجَوابِ، والجوابُ الصريحُ بلَفظِ الصريحِ صَريحٌ، إذ لو قِيلَ له: ألِزَيدٍ عَليكَ ألفٌ؟ فقالَ: نعَم. كان إقرارًا.
(ومَن قال: حلَفتُ بالطلاقِ) لا أفعَلُ كذا، أو لا فَعَلتُه، (وأرادَ الكذبَ) بأن لم يكُن حلَفَ بالطَّلاقِ، (ثم فعَلَ ما حلَفَ عليه، وقَعَ الطلاقُ حُكمًا) مُؤاخَذَةً له كإقرارِهِ؛ لأنَّه يتعلَّقُ به حقُّ آدميٍّ مُعيَّنٍ، فلم يُقبَل رجوعُه عنهُ، كإقرارِه لهُ بمالٍ، ثم يقولُ: كذَبتُ (ودُيِّن) فيما بينَه وبَينَ اللهِ.
(ومَن قالَ: عَليَّ الطلاقُ، أو: يلزَمُني الطلاقُ، فصريحٌ، مُنجَّزًا) كـ: أنتِ طالِقٌ، (أو مُعلَّقًا
(1)
) بشَرطٍ، كـ: أنتِ الطلاقُ إن دَخَلتِ الدَّارَ (أو مَحلُوفًا بِه) كـ: أنتِ الطلاقُ لأقومنَّ
(2)
).
(وإن قالَ: عَليَّ الحرامُ. إن نَوَى امرأتَهُ، فظِهَارٌ) قال ابنُ عباس: في الحرَامِ
(1)
تأخرت: "أو معلقًا" بعد "إن دخلت الدار".
(2)
تأخرت: "كـ: أنتِ الطلاقُ لأقومنَّ" بعد قوله: "فظهار".
وإلَّا فلَغْوٌ.
ومَنْ طلَّق زَوْجَتَه، ثُمَّ قال عَقِبَه لضَرَّتِهَا: شَرَّكْتُكِ، أَوْ: أَنتِ شَرِيكَتُهَا، أوْ: مِثلُهَا، وقَعَ عَلَيْهِمَا.
وإنْ قالَ: عليَّ الطَّلاقُ، أوْ امْرَأتِي طالِقٌ، ومَعَه أكْثَرُ مِن امْرَأَةٍ، فإنْ نَوَى مُعَيَّنةً، انصرَف إلَيْهَا، وإنْ نَوَى واحدةً مُبْهَمَةً، أُخْرِجَتْ بقُرْعَةٍ، وإنْ لَمْ يَنْوِ شيئًا، طَلُقَ الكلُّ.
تَحريرُ رقَبَةٍ، فإن لم يَجِد فَصيامُ شَهرينِ مُتتابِعَين، فإن لم يَستَطِع فإطعَامُ سِتِّينَ مِسكينًا
(1)
(وإلَّا): لم يَنوِ امرأتَهُ (فلَغوٌ) لا يَصحُّ أن يكونَ ظِهارًا
(2)
.
(ومَن طلَّق زوجَته) أو ظاهَرَ مِن
(3)
زوجَتِه (ثمَّ قالَ عَقِبَه لضرَّتِها: شَرَّكتُكِ) معَها، أو: أشركتُكِ مَعَها (أو: أنتِ شَريكَتُها) أي: فيما أوقَعتُ عليهَا مِن طلاقٍ أو ظِهارٍ (أو) قالَ لضرَّتِها: أنتِ (مِثلُها) أو قال لضرَّتِهَا: أنتِ كَهِيَ (وقَعَ) الطلاقُ والظِّهارُ (عليهِما) أي: الضَّرتَين.
(وإن قالَ: عَليَّ الطلاقُ، أو: امرأتي طالِقٌ، ومعَهُ أكثرُ مِن امرأةٍ، فإن نَوَى مُعيَّنَةً) مِن زوجاتِه (انصرَفَ إليها، وإن نَوَى واحدَةً مُبهمَةً) أي: غَيرَ مُعيَّنَةٍ، (أُخرِجَت بقُرعَةٍ) لأنَّها وُضِعَت لإخراجِ المجهُولِ.
(وإنْ لم يَنوِ شَيئًا) لا مُعيَّنَةً مِن زوجاتِه، ولا مُبهَمَةً، (طَلُقَ الكُلُّ) أي: جميعًا.
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ (3420).
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 393)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 183).
(3)
سقطت: "من" من الأصل.
ومَنْ طلَّق في قَلْبِهِ، لَمْ يَقَعْ، فإنْ تَلَفَّظَ بِهِ أو حَرَّكَ لِسَانَهُ، وقَع [ولَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ.
ومَنْ كتَبَ صَرِيحَ طَلاقِ زَوْجَتِه، وقَعَ]. فلوْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ إلَّا تَجْويدَ خَطِّى، أوْ غَمَّ
(ومَن طلَّق في قَلبِه، لم يَقَع) طلاقُه، (فإن تلفَّظَ به، أو حرَّكَ لسانَه، وقَعَ) طلاقُه (ولو لم يَسمَعْهُ) في ظاهِرِ نصِّه. قال
(1)
في روايةِ ابنِ هانئ: إذا طلَّقَ في نفسِه، لا يَلزَمه، ما لم يَلفِظ، أو يُحرِّك به
(2)
لِسانَهُ. بخلافِ قِراءَةٍ في صلاةٍ وذِكرٍ يَجِبُ
(3)
فِيها، فلا يُجزِئُه إن لم يُسمِع بهِ نَفسَه. قال في "الفروع": ويتوجَّهُ: كقِراءَةٍ في صلاةٍ. يعني: أنَّه لا يَقعُ طلاقُه إذا حرَّكَ به لسانَه، إلا إذا تلفَّظَ به، بحيثُ يُسمِعُ نفسَه إن لم يَكُن مانِعٌ
(4)
.
(ومَن كتَبَ صريحَ طلاقِ زَوجَتِه، وقَعَ) وإن لم يَنوِه؛ لأنَّ الكتابَة
(5)
صريحَةٌ فيه، أي: الطَّلاقِ؛ لأنَّها حروفٌ يُفهَمُ مِنها المعنى، فإذا أتَى فيها بالطَّلاقِ، وفُهِمَ منها، وقَعَ كالَّلفظِ، ولِقِيامِ الكتابَةِ مقامَ قَولِ الكاتِب؛ لأنَّه عليه السلام أُمِرَ بتَبليغِ الرسالَةِ، وكانَ في حقِّ البَعضِ بالقَولِ، وفي حقِّ آخَرينَ بالكِتابَةِ إلى مُلوكِ الأطرَافِ.
(فلو قالَ) كاتِبُ الطلاقِ: (لم أُرِدْ إلَّا تجويدَ خَطِّي، أو) لم أُرِد إلَّا (غَمَّ
(1)
سقطت: "قال" من الأصل.
(2)
سقطت: "به" من الأصل.
(3)
في الأصل: "بحسب".
(4)
"دقائق أولي النهى"(5/ 400).
(5)
في الأصل: "الكناية".
أهْلِي، قُبِلَ حُكْمًا.
ويَقَعُ بإشَارَةِ الأخْرَسِ.
أهلي، قُبِلَ) مِنهُ (حُكمًا) لأنَّه أعلَمُ بنيَّتِه، وقد نَوى مُحتَملًا غَيرَ الطلاق، أشبهَ ما لو نَوى باللَّفظِ غَيرَ الإيقاعِ، وإذا أرادَ غمَّ أهلِه بتَوهّمِ الطلاقِ دُونَ حَقيقَتِه، لا يكونُ ناويًا الطلاقَ.
(ويقعُ) الطلاقُ (بإشارَةٍ) مفهومَةٍ مِن (الأخرَسِ) لقِيامِها مقامَ نُطقِه، فلو لم يفهَمْها إلَّا بعضُ النَّاسِ، فهي كنايَةٌ بالنسبَةِ إليه.
وتأويلُ الأخرَسِ معَ صَريحِ إشَارَةٍ مَفهومَةٍ، كتأويلِ غَيرِ أخرَس معَ نُطقٍ بصَريحِ طلاقٍ.
وعُلِمَ مما تقدم: أنَّ الطلاقَ لا يَقعُ إلَّا بلَفظٍ، أو كتابَةٍ، أو إشارَةِ أخرَس.
* * *
فَصْلٌ
وكِنَايَتُهُ لا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الطَّلاقِ.
وهِي قسمانِ:
ظَاهِرَةٌ، وخَفِيةٌ:
فالظَّاهِرَةُ:
يَقَعُ بِهَا الثَّلاثُ.
والخَفِيَّةُ:
يَقَعُ بِهَا واحِدَةٌ، مَا لَمْ يَنْوِ أكْثَرَ.
(فَصلٌ)
(وكنايَتُه) أي: الطَّلاق (لا بُدَّ فِيها مِن نيَّةِ الطلاقِ) لأنَّ الكنايَةَ لمَّا قَصرَت رُتبَتُها عن الصَّريحِ، وقفَ عملُها على نيَّةِ الطلاق؛ تقويةً لها، ولأنَّها لفظٌ يَحتَمِلُ غيرَ معنى الطلاقِ، فلا يتعيَّنُ لهُ بدُونِ النيَّةِ، فيُشتَرطُ أن تكونَ النيَّةُ مُقارنةً للَفظِ الكنايَةِ، فلو تلفَّظَ بالكِنايَةِ غيرَ ناوٍ للطلاقِ، ثم نوَى بها الطلاقَ بعدَ ذلك، لم يقَع.
قال في "الشرح": فإن وُجِدَت في أوَّلِه، وعَزَبَت عنهُ في سائِرِه، وقَعَ، خلافًا لبَعضِ الشافعيَّةِ
(1)
.
(وهي) أي: الكِنايَةُ (قِسمَان: ظاهِرَةٌ، وخفيَّةٌ):
فأمَّا الظاهِرَةُ، وهِي: الألفَاظُ الموضوعَةُ للبينُونَةِ؛ لأنَّ مَعنى
(2)
الطلاقِ فيها أظهَرُ. (فالظَّاهِرَةُ يقَعُ بها) الطلاقُ (الثلاثُ).
(والخفيَّةُ) وهي: الألفَاظُ الموضوعَةُ لطَلقَةٍ واحدَةٍ، ما لم يَنوِ أكثَرَ. ولهذا قالَ:(يقَعُ بها واحِدَةٌ، ما لم يَنوِ أكثَرَ).
(1)
"كشاف القناع"(12/ 222)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 186).
(2)
سقطت: "معنى" من الأصل.
فالظَّاهِرَةُ:
أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وبَرِيَّةٌ، وبائِنٌ، وبَتَّةٌ، وَبَتلةٌ، وأنتِ حُرَّةٌ، وأنتِ الحَرجُ، وحَبْلُكِ علَى غارِبِكِ، وتَزَوَّجِي مِن شِئْتِ، وحَلَلْتِ للأزْوَاجِ، ولا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ، أو لا سُلْطَانَ، وأعْتَقْتُكِ، وغَطِّي شَعْرَكِ، وتَقَنَّعِي.
والخَفِيَّةُ:
اخْرُجِي، واذهبِي، وذُوقِي، وتَجَرَّعِي، وخَلَّيْتُك، وأنتِ مُخَلَّاةٌ، وأنتِ واحِدَةٌ، ولَسْتِ لِي بامْرَأةٍ، واعْتَدِّي، واسْتَبْرِئْي، واعتزلِي، والحَقي بأهْلِكِ، ولا حاجَةَ لِي فيكِ، وما بَقِيَ شيءٌ، وأغْنَاكِ اللَّهُ، وإنَّ اللَّهَ قَدْ طَلَّقَكِ، واللَّهُ قد أرَاحَكِ منِّي، وجرَى القَلَمُ.
(فـ)(الكِنايَةُ (الظاهِرَةُ) خمسَةَ عشَرَ: (أنتِ خَليَّةٌ، و): أنتِ (بريَّةٌ، و): أنتِ (بائِنٌ، و): أنتِ (بتَّةٌ، و): أنتِ (بَتلَةٌ، و: أنتِ حُرَّةٌ، و: أنتِ الحَرَجُ، و: حبلُكِ على غارِبِكِ، و: تزوَّجِي مَن شِئتِ، و: حلَلتِ للأزوَاجِ، و: لا سبيلَ لي عَليكِ، أو: لا سُلطَانَ) لي عَليكِ، (و: أعتَقتُكِ، و: غطِّي شعرَكِ، و: تقنَّعِي).
(و) الكِنايَةُ (الخفيَّةُ) عِشرُون: (اخرُجي، و: اذهبي، و: ذُوقِي، و: تجرَّعي، و: خلَّيتُكِ، و: أنتِ مُخلَّاةٌ، و: أنتِ واحِدَةٌ، و: لَستِ لي بامرَأةٍ، و: اعتدِّي) وإن لم تَكُنْ مدخُولًا بها؛ لأنَّها مَحلُّ العِدَّةِ في الجملَةِ (و: استَبرِئِي، و: اعتَزِلي، و: ألحَقِي بأهلِكِ، و: لا حاجَةَ لي فِيكِ، و: ما بَقِي شيءٌ، و: أغنَاكِ اللهُ، و: إنَّ اللهَ قد طلَّقَكِ و: اللهُ قد أراحَكِ مِنِّي، و: جرَى القَلَمُ).
قال ابنُ عقيلٍ: وكذا: فَرَّقَ اللهُ بَيني وبَينَكِ في الدنيا والآخرَةِ.
ولا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ في حالِ الخُصُومةِ، أو الغَضَبِ، أو إذَا سَأَلَتْهُ طَلاقَهَا. فلَوْ قالَ في هذِهِ الحالةِ: لَمْ أُرِدْ الطَّلاقَ، ذيِّنَ، ولم يُقْبَلْ حُكْمًا.
قال الشيخُ تقيُّ الدين: ونَظيرُهُ في البَراءَةِ: أبرَأَكِ اللهُ. ونَظيرُه أيضًا: إنَّ اللهَ قد باعَكِ، أو: أقالَكِ، ونحوه.
(ولا تُشتَرَطُ) لِكِنَايَةٍ (النيَّةُ في حالِ الخُصومَةِ، أو) في حالِ (الغَضَبِ، أو إذا سأَلتْهُ طلاقَها) أي: الزَّوجَةُ؛ اكتفاءً بدلالَةِ الحال، (فلو قالَ في هذِه الحالَةِ) أي: في حالِ الخُصومَةِ، أو الغَضَبِ:(لم أُرِد الطلاقَ) بالكِنايَةِ (دُيِّنَ) فيما بينَهُ وبينَ اللهِ، فإن صَدَقَ لم يَقَع عليه شيءٌ (ولم يُقبَل) مِنهُ ذلِكَ (حُكمًا) لتأثيرِ دلالةِ الحالِ في الحُكمِ، كما يُحمَلُ الكلامُ الواحِدُ على المدحِ تارةً والذمِّ أُخرى بالقَرائِنِ.
* * *
بَابُ ما يَخْتلِفُ بِه عَددُ الطَّلاقِ
يَمْلِكُ الحُرُّ والمُبعَّضُ ثلاثَ طَلْقاتٍ، والعَبْدُ طَلْقَتَيْنِ.
ويَقَعُ الطَّلاقُ بَائِنًا في أرْبَعِ مسائِلَ:
إذَا كَانَ علَى عِوَضٍ، أوْ قَبلَ الدُّخُولِ، أوْ في نِكَاحٍ فاسِدٍ، أوْ بالثَّلاثِ.
ويَقَعُ ثلاثًا إِذَا قَالَ: أنتِ طَالِقٌ بلا رَجْعةٍ، أو: البَتَّةَ، أوْ بَائِنًا.
وإنْ قَالَ: أنتِ الطلاقُ، أو: أنتِ طالِقٌ، وَقَعَ واحِدَةً، وإنْ نوَى ثلاثًا، وقَع مَا نَوَاهُ.
(بَابُ ما يَختَلِفُ به عددُ الطلاقِ)، وما يتعلَّقُ به.
ويُعتبرُ عددُه بالرِّجالِ، حُريَّةً ورِقًّا:
(يَملِكُ الحُرُّ) ثلاثَ طَلَقَاتٍ (و) يَملِكُ (المبعَّضُ ثلاثَ طلَقَاتٍ، و) يَملِكُ (العَبدُ طَلقَتَينِ) ولو كانَ مُدبَّرًا، أو مُكاتَبًا، ولو كانَ الحُرُّ والمبعَّضُ زَوجَي أَمَةٍ.
(ويَقعُ الطلاقُ بائنًا في أربَعِ مسائِلَ:
إذا كانَ على عِوَضٍ، أو قبلَ الدُّخُولِ، أو في نِكاحٍ فاسدٍ، أو بالثَّلاثِ) وتقدَّم. (ويَقعُ) أيضًا (ثَلاًثا إذا قالَ: أنتِ طالِقٌ بلا رَجعَةٍ) يَقعُ الثلاثُ؛ لوَصفِه الطلاقَ بما يقتَضِي الإبانَةَ، (أو): طالِقٌ (البتَّةَ) فيقَعُ الثلاثُ (أو): طالِقٌ (بائِنًا) فيقَعُ الثلاثُ.
(وإن قال) لزَوجَتِه: (أنتِ الطلاقُ، أو: أنتِ طالِقٌ، وقَعَ واحِدَةً) لأنَّ أهلَ العُرفِ لا يَعتَقِدُونَه ثلاثًا، ولا يَعلَمُون أنَّ "أل" فيهِ للاستِغرَاقِ، ويُنكِرُ أحدُهُم أن يكونَ طلَّقَ ثلاثًا. (وإن نَوَى ثَلَاثًا، وقَعَ ما نَوَاه).
ويَقَعُ ثلاثًا إذَا قَالَ: أنتِ طالِقٌ كلَّ الطَّلاقِ، أوْ: أكْثَرَه، أو: جميعَه، أوْ: عَدَدَ الحَصَى، ونَحْوَه، أو قال لَهَا: يا مِائةَ طَالِقٍ.
وإنْ قالَ: أنتِ طالِقٌ أشدَّ الطلاقِ، أوْ: أغْلَظَه، أو: أطْوَلَه، أو: مِلْءَ الدّنْيَا، أو: مِثْلَ الجَبَلِ، أو: عَلَى سائِرِ المذاهِبِ، وقَع واحِدَةً، ما لَمْ يَنْوِ أكْثَرَ.
(ويقعُ) الطلاقُ (ثلاثًا إذا قالَ: أنتِ طالِقٌ كُلَّ الطَّلاقِ، أو: أكثَرَه، أو: جميعَه، أو: عدَدَ الحَصَى، ونحوَه) كعَدَدِ القَطْرِ، أو: عدَدَ الرَّملِ، أو: عددَ الريحِ، أو: عددَ التراب، أو: عددَ النجومِ، أو: عددَ الجبالِ، فثلاثٌ. ولو نَوَى واحدةً؛ لأنَّ هذا اللَّفظَ يَقتَضِي عدَدًا، والطلاقُ له أقَلّ وأكثَرُ، فأقلُّه واحِدَةٌ، وأكثَرُهُ ثلاثٌ.
وكذا: أنتِ طالِقٌ عددَ الماءِ. أو: الزَّيتِ، ونحوِه مِن أسماءِ الأجناسِ؛ لتعدُّدِ أنواعِه وقَطَرَاتِه، أشبَهَ الحَصَى.
(أو قال لها) أي: لزَوجَته: (يا مائَةَ طالِقٍ) فثَلاثٌ، ولو نَوى واحدِةً؛ لأنَّه لا يَحتَمِلُه لفظُه.
(وإن قالَ) لزوجَتِه: (أنتِ طالِقٌ أشدَّ الطلاقِ، أو: أغلَظَه، أو: أطولَه، أو: مِلءَ الدُّنيا، أو: مِثلَ الجَبلِ، أو: على سائِرِ المذاهِبِ، وقَعَ واحدَةً، ما لم يَنوِ أكثَرَ) لأنَّ هذا الوصفَ لا يَقتَضِي عدَدًا. وتكونُ رَجعيَّةً في مدخُولٍ بها إن لم تكُن مُكمِّلَةً لعَدَدِ الطلاق. فإن نوَى أكثرَ، وقَع ما نواهُ.
* * *
فَصْلٌ
والطلاقُ لا يُبَعَّضُ، بَلْ جُزْءُ الطَّلْقَةِ كَهِيَ.
وإن طلَّقَ بعضَ زَوْجَتِهِ، طَلُقَتْ كُلُّها.
وإنْ طلَّقَ منها جُزْءًا لا يَنْفَصِلُ، كيَدِهَا، وأُذُنِهَا، وأَنْفِها، طَلُقَت.
وإنْ طلَّقَ جُزءًا يَنفصِلُ، كشَعْرِهَا، وظُفْرِهَا، وسِنِّهَا، لَمْ تَطْلُق.
(فَصلٌ)
(والطلاقُ، لا يُبَعَّضُ
(1)
، بل جُزءُ الطَّلقَةِ كَهِيَ) لأنَّ مبناهُ على السِّرايَةِ، كالعِتقِ، فلا يتبعَّض.
(فإن طلَّقَ بعضَ زوجَتِه) كأن قالَ لزوجَتِه: أنتِ طالقٌ نِصفَ طلقَةٍ، فواحِدَةٌ. أو قال: أنتِ طالِقٌ ثُلُثَ طَلقَةٍ، فواحِدَةٌ. أو: أنتِ طالِقٌ سدُسَ طلقَةٍ، فواحِدَةٌ؛ لأنَّ ذِكرَ ما لا يتبعَّض الطلاقِ ذِكرٌ لجميعِه، كـ: أنتِ نِصفُ طالِقٍ. وكذا: أنتِ طالِقٌ جُزءَ طلقَةٍ، (طُقَت كُلُّها) أي: طلقَةً واحدَةً؛ لأنَّ الطلاقَ لا يتبعَّضُ، كما تقدَّم.
(وإن طلَّقَ منها جُزءًا لا يَنفَصلُ، كيَدِها، وأُذُنها، وأنفِها، طَلُقَت) لأنَّه أضافَ الطلاقَ إلى جُزءٍ ثابِتٍ استباحَه بعَقدِ النكاحِ، فأشبَهَ الجزءَ الشائِعَ، بخلافِ: زوَّجتُكَ نِصفَ بِنتي، أو يَدَها، فإنه لا يصحُّ النكاحُ.
(وإن طلَّقَ جُزءًا يَنفَصِلُ، كشَعرِها، وظُفْرِها، وسِنِّها) ورِيقِها، ودَمعِها، ولَبَنِها، ورُوحِها، وحَملِها، وبَصَرِها، (لم تَطلُق) وعِتقٌ في ذلِكَ كطَلاقٍ.
(1)
في الأصل: "لا يتبعَّضُ".
فَصْلٌ
وإذَا قَالَ: أنتِ طالِقٌ، لا بَلْ أنتِ طالِقٌ، فواحِدَةٌ.
وإنْ قَالَ: أنتِ طَالِقٌ، طَالِقٌ، طَالِقٌ، فواحِدَةٌ، مَا لَمْ يَنْوِ أكْثَرَ.
و: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، وقَع تنْتَانِ، إلَّا أنْ يَنْوِيَ تَأكِيدًا متصلًا، أو إفْهَامًا.
و: أنتِ طَالِقٌ فَطالِقٌ، أوْ: ثُمَّ طالِقٌ، فَثِنْتَانِ
(فَصل)
(وإذا قالَ: أنتِ طالِقٌ، لا بَل أنتِ طالِقٌ، فواحِدَة) أي: طلقَةٌ واحِدَةٌ.
(وإن قال: أنتِ طالِقٌ، طالِقٌ، طالِق، فواحِدَةٌ، ما لم يَنوِ أكثَرَ. و: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، وقَعَ ثِنتَانِ، إلَّا أن يَنوِيَ) بتِكرَارِه (تأكيدًا مُتَّصِلًا، أو إفهامًا) لأنَّه يُشتَرَط في
(1)
اعتبارِ التأكيدِ والإفهامِ أن يَكونَ مُتَّصلًا، فلو قالَ: أنتِ طالِقٌ، تم مضَى زمَنٌ طويلٌ، أي: زمَنٌ يُمكِنُه الكلامُ فيهِ، ثم أعادَ ذلِكَ للمَدخُولِ بها (طلُقَت طلقَةً ثانيَةً، ولم ينفَعْهُ نيَّةُ التأكيدِ والإفهامِ؛ لأنَّ التأكيدَ تابعٌ للكلامِ، فشَرطُه: أن يكونَ مُتَّصلًا، كسائِرِ التوابعِ، من العَطفِ والصفَةِ والبَدَلِ. والإفهامُ نوعٌ من التأكيدِ اللَّفظي
(2)
.
(و) إن قال لها: (أنتِ طالقٌ فطالِقٌ، أو) قال: أنتِ طالِقٌ (ثمَّ طالِقٌ، فثِنتَان)
(1)
سقطت: "في" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(12/ 258).
في المَدْخُولِ بها، وتَبِينُ غَيْرُهَا بالأُولَى.
و: أنتِ طالِقٌ، وطالِقٌ، وطالِقٌ، فَثَلاثٌ معًا، ولَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا.
يقعَان عليه؛ لأنَّ حروفَ العطفِ تَقتَضي المغايرَةَ، و"ثم" من حروفِ العَطفِ
(1)
(في المدخُولِ بها، وتَبينُ غَيرُهَا) أي: غَيرُ المدخولِ بها (بـ) الطَّلقَةِ (الأُولى) ولا يلزَمُها ما بعدَها؛ لأنها تصيرُ بالبَينُونَةِ كأجنبيَّةٍ.
(و) إن قال لها: (أنتِ طالقٌ، وطالِقٌ، وطالِقٌ، فثلاثٌ مَعًا، ولو) كانَت (غَيرَ مدخُولٍ بها) وإن عطَفَ بالواو، أو الفَاءِ، أو ثمَّ، لم يُقبَل مِنهُ إرادَةُ التأكيدِ، لأنَّه يقتَضِي المغايرَةَ المانِعَةَ من التأكيدِ، كما تقدَّم.
* * *
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 196).
فَصْلٌ
ويَصِحُّ الاسْتِثْناءُ في النِّصْفِ فأقَلَّ، مِن مُطلَّقاتٍ، وطَلْقاتٍ.
فلَوْ قالَ: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً، طَلُقَت ثِنْتَيْنِ، و: أنتِ طَالِقٌ أربعًا إلَّا ثِنْتَيْنِ، يَقَعُ ثنْتانِ، و: نِسَائي الأرْبَعُ طوالِقُ إلا ثِنْتينِ، طَلُقَ ثنْتَان.
(فصلٌ) في الاستثناءِ في الطلاقِ
وهو
(1)
لغَةً: مِن الثَّني، وهو الرَّجُوعُ، يقالُ: ثَنَى رأسَ البَعيرِ: إذا عطَفَهُ إلى ورائِه، فكأنَّ المستَثني رجَعَ في قولِه إلى ما قَبلَه.
واصطِلاحًا: إخراجُ بعضِ الجُملَةِ بلَفظ: "إلا" أو ما قامَ مَقامَها، كغَيرِ، وسِوَى، ولَيسَ، وعَدَا، وخَلا، وحاشَا، مِن متكلِّمِ واحِدٍ. وشُرِطَ فيه اتِّصالٌ مُعتَادٌ.
(ويَصحُّ الاستثناءُ في النِّصفِ فأقلَّ) نَصًا. وأمَّا استثناءُ أكثَرَ مِن النصفِ، فلا يَصحُّ.
(مِن مُطلَّقَاتٍ): كزَوجَتَايَ طالِقَتَانِ، إلَّا فُلانَةً، أو: زوجاتُه الأربعُ طوالِقُ، إلَّا فُلانَةً وفُلانةً.
(و) مِن (طَلْقَاتٍ. فلو قال: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا إلا) طلقَةً (واحِدَةً، طلُقَت ثِنتَينِ، و) إن قال: (أنتِ طالِقٌ أربعًا إلا ثِنتَينِ، يقعُ ثِنتَان) لصحَّةِ استثناءِ النِّصفِ (و) إن قال: (نِسائي الأربَعُ طوالِقُ إلَّا ثِنتَينِ، طلُقَ ثِنتَانِ) لصحَّةِ استثناءِ النِّصفِ.
(1)
في الأصل: "ويَصحُّ".
وشُرِطَ في الاسْتثْناءِ اتصالٌ مُعْتادٌ لَفْظًا أوْ حُكْمًا، كانْقِطَاعِه بعُطَاسٍ ونَحْوِه.
(وشُرِطَ في الاستِثناءِ اتِّصالٌ مُعتَاد لَفظًا أو حُكمًا) لأنَّ الاتصالَ يجعلُ الَّلفظَ جُملَةً واحِدَةً، فلا يقعُ الطلاقُ قبلَ تمامِها، بخلافِ غَيرِ المتَّصلِ، فإنَّه لفظٌ يَقتَضي رفعَ ما وقَعَ بالأوَّلِ، والطلاقُ إذا وقَعَ لا يُمكِنُ رفعُه.
والاتصالُ لَفظًا: أن يأتيَ به مُتواليًا، وحُكمًا:(كانقِطاعِهِ بعُطَاسٍ ونحوِه) بتنفُّسٍ، وسُعالٍ.
قال العلامةُ الطُّوفي: فلا يُبطِلُه الفصلُ اليسيرُ عُرفًا، ولا ما عرَضَ مِن سُعالٍ ونحوِه، ولا طولُ كلامٍ مُتَّصلٍ بعضُه ببَعض
(1)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(12/ 268).
فَصْلٌ في طَلاقِ الزَّمَنِ
إذَا قَالَ: أنتِ طَالِقٌ أمْسِ، أو: قَبْلَ أن أتزوَّجَكِ، ونَوَى وُقُوعَه إذَن، وَقَع، وإلَّا فَلا.
و: أنتِ طَالِقٌ اليومَ إذَا جاءَ غَدٌ، فلَغْوٌ.
و: أنتِ طالِقٌ غَدًا، أو يَوْمَ كذَا، وقَعَ بأوَّلِهِمَا، ولا يُقْبَلُ حُكْمًا إنْ قالَ: أرَدْتُ آخِرَهُمَا.
(فَصلٌ في طَلاقِ الزَّمَنِ)
أي: تَقييدِ الطَّلاقِ بالزَّمَنِ الماضي والمستَقبلِ.
(إذا قال) لامرأتِه: (أنتِ طالقٌ أمْسِ، أو) قال لها: أنتِ طالِقٌ (قبلَ أن أتزوَّجَكِ، ونَوَى) بذلِكَ (وقوعَه) أي: الطلاقِ (إذَنْ، وقَعَ) في الحالِ؛ لإقرارِه على نَفسِه بما هو أغلَظُ في حقِّه (وإلَّا) يَنوِ وقوعَه في الحالِ (فلا) يَقعُ، على الأصحِّ.
(و: أنتِ طالِقٌ اليومَ إذا جاءَ غدٌ، فلَغوٌ) لا يقعُ به طلاقٌ.
(و) إن قالَ: (أنتِ طالقٌ غَدًا، أو): أنتِ طالقٌ (يومَ كذَا، وقَعَ بأوَّلهِما) أي: طُلُوعِ فَجرِهِما؛ لأنَّه جعلَ الغدَ أو يومَ كذَا ظَرفًا للطَّلاقِ، فكلُّ جزءٍ منهُما صالحٌ للوقوعِ فيه، فإذا وُجِدَ ما يكونُ ظرفًا لهُ منهُما، وقَعَ، كـ: أنتِ طالِقٌ إذا دخَلتِ الدَّارَ، حيثُ تطلُقُ بدخولِ أوَّلِ جُزءٍ منها. والغَدُ هو
(1)
اليومُ الذي يَلي يومَكَ أو ليلتَكَ.
ولا يُديَّنُ (ولا يُقبَلُ) مِنهُ (حُكمًا إن قالَ: أردتُ آخِرَهُما) أي: الغَدِ، أو يَومِ
(1)
سقطت: "هو" من الأصل.
و: أنتِ طالِقٌ في غَدٍ، أو: فِي رَجَبَ، يَقَعُ بأوَّلِهِما، فإنْ قالَ: أَرَدْتُ آخِرَهُمَا، قُبِلَ حُكْمًا.
و: أنتِ طَالِقٌ كلَّ يَومٍ، فواحِدَةٌ. و: أنتِ طالِقٌ في كُلِّ يومٍ، فَتَطْلُقُ في كلِّ يومٍ وَاحِدَةً.
و: أنتِ طالِقٌ إذَا مَضَى شَهْرٌ، فبِمُضِيِّ ثلاثينَ يومًا، و: إذَا مَضَى الشَّهْرُ، فبِمُضِيِّه. وكذلكَ: إذَا مَضَتْ سَنَةٌ، أو: السَّنَةُ.
كذا؛ لأن لفظَهُ لا يحتَمِلُه.
(و) إن قال: (أنتِ طالقٌ في غدٍ، أو في رجَبٍ) مَثلًا (يقعُ بأوَّلهِما) لما تقدَّم. وأوَّلُ الشهرِ غُروبُ الشمسِ مِن آخِرِ الشهرِ الذي قبلَه
(1)
.
(فإن قالَ: أردتُ آخِرَهُما، قُبلَ) مِنهُ (حُكمًا) لأنَّ آخِرَ هذِه الأوقاتِ وأوسَطَها مِنها كأوَّلِها، فإرادَتُه لِذَلكَ لا تُخالِفُ ظاهِرَ لفظِه، إذا لم يأتِ بما يدلُّ على استغراقِ الزَّمنِ للطلاقِ؛ لِصِدقِ قولِ القائِلِ: صُمتُ في رجَبٍ، حيثُ لم يَستوعِبه، بخلافِ: صُمتُ رَجَبَ.
(و) إن قال: (أنتِ طالقٌ كُلَّ يَومٍ، فواحِدَةٌ) فيقعُ واحِدَةً.
(و) إن قال: (أنتِ طالقٌ في كلِّ يومِ، فتطلُقُ في كلِّ يومِ واحدَةً) فيقعُ ثلاثٌ، في كلِّ يَومٍ طلقَةٌ، إن كانَت مدخُولًا بها، وإلَّا بانَت بالأُولى، فلا يلحَقُها ما بعدَها.
(و) إن قال: (أنتِ طالقٌ إذا مضَى شهرٌ، فبِمُضيِّ ثلاِثينَ يَومًا، و: إذا مضَى الشهرُ، فبمُضيِّه) أي: الشهرِ، فتطلُق بانسلاخِه.
(وكذلك) أي: مِثلَ ذلكَ إن قال: (إذا مَضت سَنَةٌ) فأنتِ طالقٌ، فبِمُضيِّ اثني
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 429) وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 201).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عشرَ شهرًا تطلُقُ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] أي: شهورِ السنةُ. وتُعتبرُ الشهورُ بالأهلَّةِ، تامَّةً كانَت أو ناقِصَةً.
(أو) إن قالَ: إذا مضت (السنةُ) فأنتِ طالقٌ، فبانسلاخِ ذِي الحجَّةِ من السنَةِ المعلَّقِ فيها تطلُقُ؛ لأنَّه عرَّفها بلامِ التعريفِ العهديَّةِ، كقولِه تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، والسنةُ المعرَّفَةُ آخرُها ذُو الحجَّةِ.
* * *
بَابُ تَعْلِيقِ الطَّلاقِ
إذَا علَّق الطلاقَ علَى وُجُودِ فِعْلٍ مُسْتحيلٍ، كـ: إنْ صَعَدْتِ السَّماءَ فأنتِ طالِقٌ، لم تَطْلُقْ.
وإنْ عَلَّقَه علَى عَدَمِ وُجُودِه، كـ: إنْ لَمْ تَصْعَدِي فأنتِ طالِقٌ، طَلُقَتْ في الحَالِ.
وإنْ عَلَّقَه على غَيْرِ المُسْتَحِيلِ، لم تَطْلُقْ إلَّا بالإياسِ مِمَّا عَلَّقَ عَلَيْه الطَّلاقَ، مَا لَمْ يَكنْ هُناكَ نِيَّةٌ، أوْ قَرِينةٌ تَدُلُّ علَى الفَوْرِ، أو يُقَيَّدُ بزَمَنٍ، فيُعْمَلُ بذلكَ.
(بابُ تعليقِ الطلاقِ) بالشروطِ
أي: تَرتيبِه على شيءٍ حاصلٍ، أو غَيرِ حاصِلٍ بـ "إنْ" وأخواتِها.
ولا يَصحُّ التعليقُ إلَّا مِن زَوجٍ يَعقِل الطلاقَ.
(إذا علَّقَ الطلاقَ على وجودِ فعلِ مُستحيلِ) لذاتِه، أو عاديِّ؛ بأن قال: إن طِرْتِ. أو (كـ: إنْ صَعَدتِ السماءَ فَأنتِ طالِق، لم تطلُق).
(وإن علَّقَه على عَدَمِ وجودِه) أي: المستحيلِ (كـ: إنْ لم تصعَدي فأنتِ طالقٌ، طلُقَت في الحالِ).
(وإن علَّقَه) أي: الطلاقَ (على غَيرِ المستحيلِ، لم تطلُق إلَّا بالإياسِ مما علَّقَ عليه الطلاقَ، ما لم يَكُن هُناكَ نيَّةٌ، أو قرينَةٌ تدلُّ على الفَورِ، أو يُقيَّدُ بزَمَنٍ، فيُعمَلُ بذلِكَ) على الأصحِّ.
فَصْلٌ
وَيصِحُّ التعليقُ مَعَ تقدُّمِ الشَّرطِ وَتأخُّرِهِ، كـ: إن قُمتِ فَأَنتِ طالقٌ، أو: أنتِ طالقٌ إن قُمتِ.
ويُشترطُ لصحَّةِ التعليقِ: أَنْ ينويَهُ قبلَ فَراغِ التَلفُّظِ بالطلاقِ، وأَنْ يَكُونَ متَّصلًا لَفظًا أَو حُكمًا، فَلا يَضُرُّ لَو عَطَسَ وَنَحَوُهُ، أَو قَطَعَهُ بِكَلامٍ مُنتَظِمٍ، كـ: أنتِ طالقٌ - يا زَانية - إنْ قُمتِ، ويَضُرُّ إِنْ قَطَعَهُ بِسُكوت، أو كلامٍ غَيرِ مُنتَظِمٍ، كقَولِه: سُبحَانَ اللَّهِ، وتَطلُقُ في الحَالِ.
(فَصلٌ)
(ويَصحُّ التعليقُ معَ تقدُّمِ الشَّرطِ وتأخُّرِه، كـ: إن قُمتِ فأنتِ طالقٌ، أو: أنتِ طالقٌ إنْ قُمتِ).
(ويُشتَرَطُ لصحَّةِ التعليقِ: أن يَنوِيَهُ قبلَ فراغِ التلفُّظِ بالطَّلاقِ، وأن يَكونَ متَّصِلًا لفظًا وحُكمًا، فلا يضرُّ لو عطَسَ ونحوُهُ) كسُعَالٍ (أو قَطَعَهُ بكلامٍ مُنتَظِم، كـ: أنتِ طالِقٌ - يا زانِيَة - إن قُمتِ) لم يَضُرَّ ذلكَ الفَصلُ؛ لأنَّه لا يُعَدُّ فَصلًا عُرفًا.
(ويَضرُّ إن قطَعَه بسكُوتٍ، أو كلامٍ غيرِ مُنتَظِمِ، كقَولِه: سُبحانَ اللهِ) و: أستَغفِرُ اللهَ (وتَطلُقُ في الحالِ) بل يكونُ مُنجَّزًا.
* * *
فصلٌ في مسائِلَ مُتفَرِّقَةٍ
إذَا قالَ: إنْ خَرَجْتِ بغيرِ إذْنِي، فأنْتِ طالِقٌ، فأَذِنَ لَهَا ولَمْ تَعْلَمْ، أوْ عَلِمَتْ وخَرَجَتْ، ثُمَّ خَرَجَتْ ثانيًا بلا إذْنِه، طَلُقَت، ما لَمْ يَأْذَنْ لَهَا في الخُرُوجِ كُلَّمَا شَاءَتْ.
و: إنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إذْنِ فلانٍ، فأنتِ طالقٌ، فماتَ، وخَرَجَتْ، لم تَطلُق.
و: إنْ خَرَجْتِ إلَى غَيْرِ الحَمَّامِ، فأنتِ طالِقٌ، فخَرَجَتْ لَه، ثُمَّ بدَا لَهَا غيرُه، طَلُقَتْ.
(فَصلٌ في مسائِلَ مُتفرِّقَةٍ) مِن تَعليقِ الطلاقِ بالشُّرُوطِ
(إذا قالَ: إن خَرَجتِ بغَيرِ إذني، فأنتِ طالِقٌ، فأَذِنَ لها) في الخُروجِ (ولم تَعلَم) بإذنِه، فخَرَتَ، طلُقَت؛ لأنَّ الإذنَ هو الإعلامُ، ولم يُعلِمْها. (أو) أذِنَ لها و (علِمَت) بإذنِه (وخرَجَت، ثم خرَجَت ثانيًا بلا إذنِه، طلُقَت) لخروجِها بلا إذنه، (ما لم يأذَن لها في الخُروجِ كُلَّمَا شاءَت) نصًا؛ لأنَّ خُروجَها بإذنِه، ما لم يُجَدِّد حَلِفًا، أو ينهَاهَا.
(و) إن قال: (إن خرَجتِ بغَيرِ إذنِ فُلانٍ، فأنتِ طالِقٌ، فمَاتَ) فلانٌ، (وخَرَجَت، لم تطلُق).
(و) إن قالَ: (إن خَرَجتِ إلى غَيرِ الحمَّامِ) بلا إذني (فأنتِ طالِقٌ، فخَرَجَت لهُ) أي: للحمَّامِ (ثمَّ بدَا لها غيرُه) كالمسجِدِ، أو دَارِ أهلِها (طلُقَت) لأنَّه يصدُقُ عليها أنَّها خرَجَت لغَيرِ الحمَّامِ.
و: زوجَتي طَالِقٌ، أوْ: عَبْدِي حرٌّ، إنْ شاءَ اللَّة، أوْ: إلَّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ، لَمْ تَنْفَعْا المَشِيئة شيئًا، ووَقَعَ. وإنْ قالَ: إنْ شاءَ فلانٌ، فتَعِليقٌ، لَمْ يَقَعْ إلَّا أَن يَشاءَ، وإنْ قالَ: إلَّا أنْ يَشاءَ، فمَوْقوفٌ، فإنْ أبَى المَشِيئةَ، أو جنَّ، أو مَاتَ، وقَعَ الطلاق إذَنْ.
و: أنتِ طالِقٌ إنْ رأَيْتِ الهلالَ عِيَانًا، فرَأَتْه في أوَّلِ أو ثانِي أو ثالثِ ليلةٍ، وقَعَ، وبَعْدَهَا لَمْ يَقَعْ.
و: أنتِ طالِقٌ إنْ فعَلْتِ كذَا، أو: فَعَلْت أنَا كذَا، ففَعَلَتْه، أو فعَلَه مُكْرَهًا،
(و: زَوجَتي طالِق، أو: عَبدِي حُرٌّ، إن شاءَ اللهُ، أو: إلَّا أن يَشاءَ اللهُ، لم تَنفَعْهُ المشيئَةَ شَيئًا، ووَقَعَ) الطلاقُ.
(وإن قالَ): أنتِ طالِقٌ (إنْ شاءَ فُلانٌ، فتَعليقٌ، لم يَقَع إلَّا أن يَشاءَ) فُلانٌ.
(وإن قالَ: إلَّا أنْ يَشاءَ) فُلانٌ (فمَوقُوف، فإن أبى) فُلانٌ (المشيئَةَ، أو جُنَّ، أو مماتَ) فلانٌ (وقَعَ الطلاقُ إذَنْ) لأنَّه أوقَعَ الطلاقَ، وعلَّقَ رفعَهُ بشَرطٍ لم
(1)
يُوجَد.
(و: أنتِ طالِقٌ إن رأيتِ الهِلالَ عِيَانًا) أي: بالعَينِ (فرَأَتهُ في أوَّلِ) ليلَةٍ (أو ثاني) ليلَةٍ (أو ثالِثِ ليلَةٍ، وقَعَ) الطلاقُ، وهو هِلالٌ إلى الثَّالِثَةِ (وبعدَها) أي: بعدَ الليلَةِ الثالِثَةِ يُقمِرُ، أي
(2)
: يَصيرُ قَمَرًا، فإن لم تَرَهُ حتى أقمَر (لم يَقَع) الطلاقُ.
(و: أنتِ طالِقٌ إن فعَلتِ كذا، أو: فَعَلْتُ أنَا كذَا، ففَعَلَتهُ، أو فَعَلَهُ) حالَ كَونِه (مُكرَهًا) لم يحنَث. نصَّ عليه، واختارَهُ الأكثرُ؛ لعَدَم إضافَةِ الفِعلِ إليه.
(1)
في الأصل: "ولم".
(2)
سقطت: "أي" من الأصل.
أو مَجْنُونًا، أوْ مُغْمًى علَيْه، أو نائمًا، لَمْ يَقَعْ. وإنْ فَعَلَتْه أو فعَلَه ناسيًا، أو جَاهِلًا، وَقَعَ. وعكسُه مِثْلُه، كـ: إِنْ لَمْ تَفْعَلِي كَذَا، أو: إنْ لم أفعَلْ كذَاً، فلَمْ تَفْعَلْه، أو لَمْ يَفْعَلْة هُوَ.
(أو) فعَلَهُ حالَ كَونِه (مجنُونًا، أو) فعلَه حالَ كونِه (مُغمًى عليه، أو) حالَ كونِه (نائمًا، لم يقع) الطلاقُ؛ لكَونِه مُغطَّى على عَقلِه في هذِه الأحوالِ
(1)
.
(وإن فَعَلَته) أي: المرأةُ (أو فعَلَهُ ناسِيًا) لِحَلِفِه
(2)
(أو) كونُه (جاهِلًا) وجودَ الحِنْثِ بفعلِه، أو جاهِلًا أنَّه الفعلُ المحلوفُ عَليه، كمَن حلَفَ لا يَدخُلُ دارَ زَيدٍ، ثم دَخَلَ دارَ زيدٍ جاهِلًا أنها دَارُ زيدٍ (وقَعَ) الطلاقُ.
(وعَكسُهُ مِثلُه) كذلِكَ (كـ: إن لم تَفعَلي كلذَا، أو: إن لم أفعَل كذَا، فلَم تَفعَلْهُ، أو لم يَفعَلْهُ هو) وقَعَ الطلاقُ.
* * *
(1)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 210).
(2)
في الأصل: "بحلفه".
فَصْلٌ
وَلا يَقَعُ الطَّلاقُ بالشَّكِّ فِيهِ
، أو فِيمَا عُلِّىَ علَيْه. فَمَن حَلَفَ لا يَأكُلُ تَمْرةً مَثَلاً، فاشْتَبَهَتْ بغَيْرِهَا، وأكَلَ الجَمِيعَ إلَّا واحِدَةً، لَمْ يَحْنَثْ.
ومَنْ شَكَّ في عَدَدِ ما طَلَّقَ، بنَى على اليَقِينِ، وهُوَ الأقَلُّ.
ومَن أوْقَعَ بزَوْجَتِه كَلِمةً، وشَكَّ هل هِي طلاقٌ، أو ظِهَارٌ، لَمْ يَلْزَمْه شَيءٌ.
(فَصلٌ)
(ولا يَقعُ الطلاقُ بالشَّكِّ فيه) الشَّكّ عِندَ الأصوليِّين: التردُّدُ بينَ أمرَين لا تَرجُّحَ لأحدِهِما على الآخَرِ. وهو هُنا مُطلَقُ التردُّدِ بينَ وجودِ المشكُوكِ فيه، من طلاقٍ، أو عَدَدِهِ، أو شَرطِهِ، أو عدَمِه
(1)
. فيدخُلُ فيه الظنُّ والوَهمُ. (أو) شَكٍّ (فيمَا عُلِّقَ عليه) الطلاقُ.
(فمَن حلَفَ: لا يأكُلُ تمرةً مَثلًا)، أو رُمَّانَةً، أو جَوزَةً، (فاشتَبَهَت بغَيرِها) من ذلك النوعِ (وأكَلَ الجميعَ) أي: جميعَ ذلك النوعِ (إلَّا واحِدَةً) مِنهُم، (لم يَحنَثْ) لأنَّه لا يتحقَّقُ حِنثُهُ حتَّى يأكُلَ التَّمرَ كُلَّه؛ لأنَّه إذا بَقِيَت منهُ واحدَةٌ، احتُمِلَ أنَّها المحلوفُ عَليها. ويَقينُ النكاحِ ثابتٌ، فلا يزولُ بالشكِّ.
(ومَن شكَّ في عدَدِ ما طلَّق) بأنْ عَلِمَ أنَّه طلَّق، ولم يَدرِ عدَدَه، (بنَى على اليَقينِ، وهو الأقلُّ).
(ومَن أوقَعَ بزوجَتِه
(2)
كلِمَةً، وشَكَّ هل هي طَلاقٌ، أو ظِهارٌ، لم يَلزَمه شيءٌ) لأنَّ الأصلَ عدمُهُمَا، ولم يتيقَّن أحدَهُما.
(1)
في الأصل: "وعدمه".
(2)
سقطت: "بزوجته" من الأصل.
بَابُ الرَّجْعَةِ
وهِي: إِعادَةُ زَوْجَتِه المُطَلَّقَةِ إلَى ما كانَتْ عَلَيْهِ بغَيرِ عَقْدٍ.
مِنْ شَرْطِهَا: أنْ يَكُونَ الطَّلاقُ غيرَ بائِنٍ، وأنْ تَكونَ في العِدَّةِ.
(بابُ الرَّجعَةِ)
الرَّجعَةُ
(1)
، بالفَتحِ: فِعلُ المرتَجِعِ مرَّةً واحِدَةً، فلِهَذا اتَّفَقَ الناسُ على فَتحِها.
(وهي
(2)
) شَرعًا: (إعادَةُ زَوجَتِه المُطلَّقَةِ إلى ما كانَت عليه) قبلَ الطلاقِ (بغَيرِ عقدٍ) أي: نِكاحٍ. وأجمعوا عليها؛ لقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، أي: رجعَةً. قالَهُ الشافعيُّ والعُلماءُ
(3)
.
(مِن شَرطِها) أي: الرَّجعَةِ: (أن يَكونَ الطلاقُ غيرَ بائِنٍ، وأن تكونَ في العدَّةِ
(4)
) أي: المطلَّقَةُ.
وللرَّجعَةِ شُروطٌ أربعَةٌ:
الشرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ دَخَلَ أو خَلا بها؛ لأنَّ غَيرَها لا عِدَّةَ عليها، فلا تُمكِنُ رجعَتُها.
الثاني: أن يَكونَ النكاحُ صَحيحًا؛ لأنَّ مَن
(5)
نِكاحُهَا فاسِدٌ تَبينُ بالطلاقِ، فلا يمكِنُ رجعَتُها؛ ولأنَّ الرَّجعَةَ إعادَةٌ إلى النكاحِ، فإذا لم تَحِلَّ بالنكاحِ لعَدَمِ صحَّتِه،
(1)
في الأصل: "أي الرجعة".
(2)
سقطت: "هي" من الأصل.
(3)
انظر "كشاف القناع"(12/ 408).
(4)
في الأصل: "عدتها".
(5)
في الأصل: "لا من".
وتَصِحّ الرَّجْعَة بَعْدَ انقطاعِ دمِ الحَيْضَةِ الثالِثَةِ، حيث لَمْ تَغْتَسِلْ، وتَصِحُّ قَبْلَ وَضْعِ وَلَدٍ فتأخِّرٍ.
وألْفَاظُهَا:
رَاجَعْتهَا، ورَجَعْتها، وارْتَجَعْتها، وأمْسَكْتها،
وجَبَ أن لا تحلَّ بالرَّجعَةِ إليه.
الثالِثُ: أنْ يُطَلِّقَ دونَ ما يَملِكُهُ مِن عددِ الطلاقِ، وهو الثلاثُ للحُم، والاثنتَانِ للعَبدِ؛ لأنَّ مَن استَوفى عدَدَ طلاقِه لا تَحلُّ له مُطلَّقَتُه حتَّى تَنكِحَ زوجًا غيرَهُ، فلا تُمكِنُ رجعَتُها لذلِكَ.
الرابعُ: أن يَكونَ الطلاقُ بغَيرِ عِوَضٍ؛ لأنَّ العِوَضَ في الطلاقِ إنَّما جُعِلَ لتَفتَدِي المرأةُ نفسَها مِن الزوجِ، ولا يحصُل ذلك معَ ثُبوتِ الرجعَةِ.
فإذا وُجِدَت هذه الشروطُ، كانَ له رجعَتُها ما دامَت في العِدَّةِ؛ للإجماع، ودليلُهُ ما سبَقَ.
(وتصحُّ الرجعةُ بعدَ انقطاعِ دَمِ الحيضَةِ الثالِثَةِ، حيثُ لم تَغتَسِل) نصًا. أي:
متَى اغتَسَلَت رجعيَّةٌ مِن حيضةٍ ثالثَةٍ ولم يرتَجِعْها، بانَت، ولم يَحصُل إلَّا بنكاحٍ جَديدٍ إجماعًا؛ لمفهومِ قوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، أي: العدَّةِ
(1)
.
(وتَصحُّ) الرجعَةُ (قبلَ وَضعِ ولَدٍ مُتأخِّرٍ) إن كانَت حامِلًا بعددٍ، وقبل خروج بقيَّةِ ولَدٍ؛ لبقاءِ العِدَّةِ.
(وألفَاظُها) أي: الرجعَةِ: (راجَعتُها، و: رَجَعْتُها، و: ارتَجَعتُها، و: أمسكتُها،
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 510)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 215).
ورَدَدْتُهَا، ونَحْوُه.
ولا تُشْتَرَط هذِهِ الألفاظُ، بلْ تَحْصُلُ رَجَعْتَها بوَطْئِها، لابـ: نكحتهَا، وتَزوَّجْتُها.
ومتَى اغتَسَلَتْ مِن الحَيْضَةِ الثالثةِ ولَمْ يَرْتَجِعْهَا، بانَتْ، ولَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بعَقْدٍ جَدِيدٍ، وتَعُودُ علَى ما بَقِيَ مِن طَلاقِهَا.
و: ردَدتُها، ونحوُه) كـ: أعدتُها؛ لورودِ السنَّةِ بلَفظِ الرجعَةِ في حديثِ ابن عمَر، واشتُهِرَ هذا الاسمُ فيها عُرفًا، فتُسمَّى رجعَةً، والمرأةُ رجعيَّةً. وورَدَ الكتابُ بلَفظِ الردِّ في قولِه تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وبلفظِ الإمساكِ في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} البقرة:231] وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] وألحِقَ به ما هُو بمعناه.
(ومتَى اغتسلَت مِن الحيضَةِ الثالثَةِ ولم يَرتَجِعْها، بانَت، ولم تَحِلَّ لهُ إلَّا بعَقدٍ جديدٍ، وتَعودُ على ما بَقِيَ مِن طلاقِها).
وليسَ مِن شَرطِهَا الإشهادُ عَليها. وعن الإمامِ: يُشتَرطُ الإشهادُ. قال في "الإقناع": لكِن يُستحبُّ الإشهادُ عليهَا احتياطًا
(1)
.
ولا تَفتَقِرُ الرجعةُ إلى وَليَّ، ولا صَداقٍ، ولا رِضَا المرأةِ، ولا عِلمِها، ولا إذنِ سيِّدِها، إن كانَت أمَةً.
والرجعيَّةُ زَوجَةٌ يملِكُ الزوجُ مِنها ما يَملِكُه ممَّن لم يُطلِّقْها، فيَصِحّ إن تُلاعَن، وأن تُطلَّقَ، ويلحَقُها ظِهارُه وإيلاؤُه، ويَرِثُ أحدُهما صاحبَه، إجماعًا. ويَصِحُّ
(1)
انظر "كشاف القناع"(12/ 411).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خُلعُها؛ لأنَّها زوجَةٌ يَصحُّ طلاقُها، ونِكاحُها باقٍ، فلا تأمَنُ رَجعَتَه، لكِنْ لا قَسْمَ لها. صرَّحَ به الموفَّقُ وغيرُه.
ولهُ السفرُ بها، والخلوةُ بها، ووَطؤُها، وتَحصُلُ به رجعَتُها، ولو لم يَنوِها. أي: الرجعَةَ بالوَطءِ.
* * *
فَصْلٌ
وإذَا طلَّق الحُرُّ ثَلاثًا، أو طلَّق العبدُ ثِنْتيْنِ، لم تَحِلَّ لَهُ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه، نِكَاحًا صَحِيحًا، ويَطَأُهَا في قُبُلِها مع الانْتِشَارِ، ولَوْ مَجْنُونًا، أو نَائِمًا، أو مُغْمًى عَلَيْه، وأدْخَلَتْ ذَكَرَه في فَرْجِهَا، أوْ لَمْ يَبْلُغْ عشرًا، أو لم يُنْزِلْ.
ويَكْفي تَغْيِيبُ الحَشفَةِ، أوْ قَدْرِهَا مِن مَجْبُوبٍ.
ويَحْصُلُ التَّحْليلُ بذلكَ ما لَمْ يَكُنْ وَطِئَها في حالِ
(فَصلٌ)
(وإذا طلَّقَ الحرُّ ثَلاثًا، أو طلَّقَ العبدُ ثِنتَين) ولو عَتَقَ قَبلَ انقَضاءِ عِدَّتِها (لم تَحِلَّ لهُ حتَّى تنكِحَ زوجًا غيرَه، نكاحًا صحيحًا، ويَطأُهَا في قُبُلِها) لأنَّ الوَطءَ المعتبَرَ شَرعًا لا يكونُ في غَيرِه (مع الانتِشَارِ) لحديثِ العُسيلَةِ
(1)
؛ لأنَّها لا تَكونُ إلَّا معَ الانتِشَارِ. (ولو) كانَ الزوجُ الواطِيُّ (مجنُونًا، أو) كانَ (نائِمًا، أو) كانَ (مُغمًى عليه، وأدخَلَت ذكرَه في فَرجِها) معَ انتشارِه؛ لوجُودِ حَقيقَةِ الوَطءِ مِن زَوجٍ (أو) كانَ (لم يَبلُغ عَشرًا) لعُمُوم: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، (أو) كانَ (لم يُنزِل) لما تقدَّم أنَّ العُسيلَةَ هي الجِمَاعُ.
(ويَكفِي) في حِلِّهَا (تَغييبُ الحشفَةِ، أو) تَغييبُ (قَدرِهَا) أي: الحشفَةِ (مِن مَجبُوب) الحشفَةِ؛ لأنَّه جماعٌ يُوجِبُ الغُسلَ ويُفسِدُ الحجَّ، أشبهَ تَغييبَ الذَّكَرِ.
(ويَحصُلُ التَّحليلُ بذلِكَ) أي: مما ذُكِرَ (ما لم يَكُن وَطِئَها في حالِ
(1)
أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433) من حديث عائشة.
الحَيضِ أو النِّفَاسِ، أو الإحْرَامِ، أوْ في صَوْمِ الفَرْضِ.
فلَوْ طَلَّقَها الثانِي، وادَّعَتْ أنَّه وَطِئَها، وكذَّبها، فالقولُ قولُه في تَنْصِيفِ المَهْرِ، وقولُهَا في إبَاحَتِهَا للأوَّلِ.
الحَيضِ، أو النِّفاسِ، أو الإحرَامِ، أو) وطِئَها (في صَومِ الفَرضِ) أو في دُبُرٍ، أو نِكاحٍ باطِلٍ، أو فاسِدٍ، أو رِدَّةٍ؛ لأنَّ التحريمَ في هذِه الصُّوَرِ لمعنًى فِيها لحقِّ اللهِ تعالى، ولأنَّ النكاحَ الفاسِدَ لا أثَرَ له في الشَّرعِ في الحِلِّ، فلا يدخُلُ في قولِه تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
(فلو طلَّقَها) الزوجُ (الثاني، وادَّعَت أنَّه وَطِئَها، وكذَّبَها، فالقَولُ قَولُه في تَنصيفِ المَهر
(1)
. و) يُقبَلُ (قَولُها في إباحَتِها للأوَّلِ) إلَّا إنْ قالَ الأوَّلُ: أنا أعلَمُ أنَّه ما أصابَها، فلا تحلُّ لهُ، مؤاخذَةً له بإقرارِهِ. فإن عادَ فأكذَبَ نفسَه، وقال: قَد عَلِمتُ صِدقَها، دُيِّنَ فِيمَا بَينه وبينَ اللهِ؛ لأنَّه إذا عَلِمَ حِلَّها، لم تحزم بكَذِبِه، ولأنَّه قد يَعلَمُ في المستقبَلِ ما لم يَعلَمْه في الماضِي. وإن قالَ: ما أعلَمُ أنَّه أصابَها، لم تحرُم عليهِ بذلك؛ لأنَّ المعتبَرَ في حِلِّها لهُ خبرٌ يَغلِبُ على ظنِّه صِدقُها، لا حقيقَةُ العِلم
(2)
.
* * *
(1)
في الأصل: "مهر".
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 518).
كتابُ الإيلاءِ
وهُوَ حَرَامٌ كَالظِّهَارِ.
ويَصِحُّ مِنْ زَوْجٍ يَصِحّ طَلاقُهُ، سِوَى عاجِزٍ عَن الوَطْءِ، إمَّا لِمَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه، أوْ لِجَبٍّ كَامِلٍ، أوْ شَلَلٍ.
فإذَا حَلَف الزَّوْجُ باللَّهِ تعالَى، أوْ بصِفَةٍ مِن صِفَاتِهِ، أنَّه لا يَطَأ زَوْجَتَه أَبَدًا، أوْ مُدَّةً تَزِيدُ علَى أرْبَعَةِ أشْهُرٍ،
(كِتابُ الايلاءِ)
بالمَدِّ، لُغَةً: الحَلِفُ (وهُو) أي: الإيلاءُ (حَرَامٌ) لأنَّه يَمينٌ على تَركِ واجِبٍ (كالظِّهارِ) لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2].
(ويَصِحُّ مِن زوجٍ يَصِحُّ طلاقُه) مِن مُسلِمٍ وكافِرٍ، وحُرٍّ وقِنٍّ، وبالِغٍ ومميِّزٍ، وغَضبانَ، وسكرَانَ، ومَريضٍ (سِوَى عاجِزٍ عن الوَطءِ، إمَّا لمرَضٍ لا يُرجَى بُرؤُهُ، أو لِجَبٍّ كامِلٍ) أي: كُلِّهِ (أو شَلَلٍ).
(فإذا حلَفَ الزوجُ باللهِ تعالى، أو بِصِفَةٍ مِن صفاتِه) كالرَّحمن، والرَّحيم:(أنَّه لا يَطأ زوجَتَه أبدًا، أو مُدَّةً تزيدُ على أربَعَةِ أشهُرٍ) مُصرِّحًا بها، أو يَنويها؛ بأنْ يحلِفَ أن لا يَطأَهَا، ويَنوي فوقَ أربعَةِ أشهرٍ. وسَواء حلَفَ في حالِ الرِّضَا أو غيرِه، والزوجَةُ مَدخول بها أو لا. نصًا.
والأصلُ فيه: قولُه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]
صارَ مُؤلِيًا.
ويُؤجِّلُ لَهُ الحاكِمُ - إنْ سَأَلَتْ زَوْجَتُه ذلكَ - أربعةَ أشْهُرٍ مِن حينِ يَمِينِه، ثُمَّ يُخَيَّرُ بَعْدَهَا بينَ أنْ يُكفِّرَ ويطأَ، أو يُطلِّقَ. فإنِ امْتَنَعَ مِن ذلكَ، طلَّقَ علَثه الحَاكِمُ.
226] الآية. وكانَ أُبيُّ بنُ كعبٍ
(1)
وابنُ عباس
(2)
يَقرءانِ: "يُقسِمُونَ" مَكانَ: "يُؤلُون".
قال ابنُ عبَّاس: كانَ أهلُ الجاهليَّةِ، إذا طلَبَ الرجلُ مِن امرألَه شَيئًا، فأبَت أن تُعطِيَه، حلَفَ أن لا يَقَرَبَها السَّنَةَ والسَّنتَين والثلاثَ، فيدعُها لا أيِّمًا ولا ذاتَ بَعل، فلمَّا كان الإسلامُ جعلَ اللهُ ذلكَ للمسلمين أربعهً أشهُرٍ، ونزلَتَ هذه الآيةُ.
وقال سعيدُ بنُ المسيب: كانَ الإسلامُ ضِرارًا لأهلِ الجاهليَّةِ حتَّى نزلَت هذه الآيِةُ.
(صارَ مُؤلِيًا. ويؤجِّلُ له الحاكمُ
(3)
) أي: حُكمَ الإيلاءِ (إن سألَت زوجَتُه ذلِكَ) وهُو (أربعَة أشهُرٍ مِن حينِ) أي: وقتِ (يمينِه) للآيةِ. فلا تَفتَقِرُ إلى ضَربِ حاكِمٍ، كالعدَّةِ.
(ثمَّ يُخيَّرُ بعدَها) أي: بعدَ مُدَّةِ الإيلاءِ (بينَ أن يُكفِّرَ) وهي: رقبَةٌ يُعتِقُها، أو إطعامُ ستِّينَ مِسكينًا، أو صِيامُ شَهريِنِ مُتتابِعَين. (ويَطأَ) في القُبلِ، (أو يُطلِّقَ. فإن امتَنَعَ مِن ذلك، طلَّق عليه الحاكمُ) إزالَةً لضَرَرِها.
(1)
أخرجه عنه ابن أبي داود في "المصاحف" ص (165).
(2)
أخرجه عنه عبد الرزاق (6/ 454).
(3)
في الأصل: "الحكم".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإن أبى مُولٍ أن يَفِيءَ، وأن يُطلِّقَ، طلَّقَ الحاكِمُ عليهِ طلقَةً أو ثلاثًا، أو فَسَخَ؛ لأن الطلاقَ تدخُله النيابَةُ، وقد تعيَّنَ مُستَحقُّه، فقَامَ الحاكمُ فيه مَقامَ الممتَنِعِ، كأداءِ الدَّينِ.
وإن قالَ حاكِمٌ: فرَّقتُ بينَكُما، ولم يَنوِ طَلاقًا، فهو فَسخٌ لا ينقصُ به عددُ الطلاقِ؛ لأنها فُرقَةٌ ليسَت بلَفظِ الطلاقِ، ولا نيَّتِه، أشبَهَ قولَه: فسَختُ النكاحَ.
ولا تَحلُّ لهُ إلَّا بعقدٍ جديدٍ. قاله في "شرح الإقناع"
(1)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع "(12/ 464).
كتابُ الظِّهَارِ
وهُوَ: أن يُشَبِّهَ امْرَأَتَه - أوْ عُضْوًا مِنْهَا - بِمَنْ يَحْرُمُ
(كتابُ الظِّهارِ)
مُشتقٌّ مِن الظَّهرِ، وخُصَّ به مِن بينِ سائِر الأعضاءِ؛ لأنَّه مَوضِعُ الركوبِ، ولهذا سُمِّي المركوبُ ظَهرًا، والمرأةُ مَركوبَةٌ إذا غُشِيَت.
فقَولُه لامرأتِه: أنتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي. معناه: أنَّه شبَّهَ امرأتَهُ بظَهرِ أُمِّهِ في التَّحريمِ، كأنَّه يُشيرُ إلى أنَّ رُكوبَها للوَطءِ حَرامٌ، كرُكُوبِ أُمِّه لَهُ.
والأصلُ فيه: الكتابُ، والسنَّةُ، والإجماعُ.
أمَّا الكِتابُ: فقولُه سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآيات.
وأمَّا السُّنَّةُ: فمَا رَوى أبو داودَ بإسنادِه عن خُويلَةَ بنتِ مالِكِ بنِ ثَعلبَةَ حينَ ظاهَرَ مِنهَا ابنُ عمِّها أوسُ بنُ الصَّامِتِ، فجاءَت تَشكُوه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتجادِلُه فيه، ويقولُ:"اتَّقِ اللهَ، فإنَّه ابنُ عَمِّكِ" فما بَرِحَت حتَّى نزَلَ القُرآنُ. رواهُ أبو داودَ
(1)
، وصحَّحه ابنُ حبانَ والحاكِمُ.
(وهو) محرَّمٌ إجماعًا.
والظِّهارُ: (أنْ يُشبِّهَ) زوجٌ (امرأتَه، أو) يُشبِّهَ (عُضوًا مِنها) أي: امرأتِه، كيَدِها، وظَهرِها (بمَن يحرُمُ
(2)
عليهِ) كأُمِّه، وأُختِه مِن نَسَبٍ أو رضَاعٍ،
(1)
أخرجه أبو داود (2214)، وحسنه الألباني.
(2)
في الأصل: "حرم".
عَلَيْه مِن رَجُلٍ، أو امْرَأةٍ، أو بعُضْوٍ مِنْهُ.
فمَن قالَ لزوجتِه: أنتِ، أو: يَدُكِ عَلَيَّ كظَهْرِ، أو يَدِ أُمِّي، أو: كظَهْرِ، أو يَدِ زيدٍ، أو: أنتِ عليَّ كفلانَةَ الأجنبيةِ، أو أنتِ عليَّ حَرَامٌ، أو قالَ: الحِلُّ عليَّ حَرَامٌ، أو: ما أحَلَّ اللَّهُ لِي، صارَ مُظاهِرًا.
وإنْ قالَ: أنتِ عليَّ كأُمِّي، أو: مِثْلَ أُمِّي، وأطْلَق، فظِهَارٌ. وإنْ نوَى: في الكَرَامةِ ونحوِهَا، فلا.
وحَماتِه، وزوجَةِ ابنِه، ولو كانَ تحريمُها إلى أمَدٍ، كأُختِ زَوجَتِه، وخالَتِها. أو يُشبِّهها بعُضوٍ مِنها.
(مِن رَجُلٍ، أو امرَأَةٍ) كظَهرِ أبي، أو أخِي، أو أُمِّي، أو أُختي، (أو بِعُضوٍ مِنهُ) كذلك.
(فمَن قالَ لزوجَتِه: أنتِ، أو: يَدُكِ عليَّ كظَهرِ، أو: يَدِ أُمِّي، أو): أنتِ (كظَهرِ) زَيدٍ، (أو: يَدِ زَيدٍ، أو: أنتِ عَلىَّ كفُلانَةَ الأجنبيَّةِ، أو: أنتِ عَلىَّ حرَامٌ، أو قال: الحِلُّ عَلىَّ حَرامٌ، أو: ما أحلَّ اللهُ لي) حرَامٌ، (صارَ مُظاهِرًا) ولو نَوى طلاقًا، أو يمينًا.
(وإن قالَ: أنتِ عليَّ كأمَّي، أو: مِثلَ أُمِّي، وأطلَقَ) صارَ مُظاهِرًا؛ لأنَّه الظاهِرُ مِن اللَّفظِ؛ لأنَّه شبَّه امرأتَه بأُمِّه، أشبَهَ ما لو شبَّهَها بعُضوٍ مِن أعضائِها.
وسَواءٌ نوَى به الظِّهارَ، أو أطلَقَ
(1)
(فظِهارٌ).
(وإن نَوَى) به: (في الكرَامَةِ، ونحوِهَا) كالمحبَّةِ، (فلا) ظِهَارَ؛ لأنَّ هذا
(1)
"كشاف القناع"(12/ 472)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 228).
و: أنتِ أُمِّي، أو: مِثْلُ أُمِّي، أو: عليَّ الظِّهارُ، أو: يَلْزَمُني، ليسَ بظِهَارٍ، إلَّا مَعَ نِيَّةٍ، أو قَرِينةٍ.
و: أنتِ عليَّ كالميْيْتَةِ، أوْ: الدَّمِ، أوْ: الخِنْزِيرِ، يَقَغ ما نَوَاه من طَلاقٍ، وظِهارٍ، ويَمِينٍ، فإنْ لَمْ يَنْوِ شيئًا، فظِهارٌ.
اللفظ
(1)
ظاهِرٌ في الكَرامَةِ، فتعيَّنَ حملُه عليهِ عِندَ الإطلاقِ، ولأنَّه ليسَ بصَريحٍ فيهِ، لكَونِه غَيرَ اللفظِ المستعمَلِ فيه، كما لو قال: أنتِ كَبيرَةٌ مِثلَ أُمِّي
(2)
.
(و: أنتِ أُمِّي، أو: مِثلَ أُمِّي، أو: عَلىَّ الظِّهارُ، أو: يلزَمُني) الظِّهارُ، (ليَسَ بِظِهارٍ) أي: لا يَلزَمُه ظهارٌ (إلَّا معَ نيَّةٍ، أو قرينَةٍ
(3)
)؛ لأنَّ احتمالَ هذِه الصُّورِ لغَيرِ الظِّهارِ أكثَرُ من احتمالِ الصُّورِ التي قَبلَهَا لهُ. وكثرَةُ الاحتمالاتِ تُوجِبُ اشتراطَ النيَّةِ في المحتَمل الأقلِّ؛ ليتعيَّنَ له؛ لأنَّه يصيرُ كِنايَةً فيه، والقَرينَةُ تقومُ مَقامَ النيَّةِ.
(و) إن قالَ: (أنتِ عَلىَّ كالمَيتَةٍ، أو: الدَّمِ، أو: الخِنزيرِ. يقَعُ ما نَواهُ مِن طلاق، وظِهارٍ، ويمينٍ. فإن لم يَنوِ شَيئًا، فظِهارٌ) وكذَا لو قالَ: أنتِ عَلىَّ كظَهرِ فُلانَةٍ الأجنبيَّةِ، أو: كظَهرِ أبي، أو أختي.
وإن قالَ: أنتِ أُمِّي، أو: كأُمِّي، فليسَ بِظِهَارٍ إلَّا معَ نيَّةٍ أو قرينَةٍ.
وإن قالَ: شعرُكِ، أو سمعُكِ ونحوه كظَهرِ أُمِّي، فليسَ بظِهار
(4)
.
(1)
سقطت: "اللفظ" من الأصل.
(2)
"كشاف القناع"(12/ 473).
(3)
في الأصل: "معَ قرينة، أو نية".
(4)
في الأصل: "زَوجٌ، فليسَ بظِهار" وانظر "الروض المربع"(7/ 6، 7).
فَصْلٌ
ويَصِحُّ الظِّهارُ مِن كلِّ مَن يَصِحُّ طَلاقُه، مُنَجَّزًا، أو مُعَلَّقًا، أو مَحْلُوفًا به.
فإنْ نجَّزَه لأجنبيَّةٍ، أو عَلَّقَه بتَزْوِيجِهَا،
(فَصلٌ)
(ويَصحُّ الظِّهارُ مِن كُلِّ مَن يَصحُّ طلاقُه) مُسلِمًا كانَ أو كافِرًا، حُرًا أو عَبدًا، كَبيرًا أو مميزًا يَعقِلُه؛ لأنَّه تحريمٌ كالطَّلاقِ فجَرَى مجرَاهُ، وصحَّ ممَّن يصحُّ مِنهُ.
(مُنجَّزًا) أي: حالًّا (ومُعلَّقًا) كـ: إن قُمتِ فأنتِ عَلىَّ كظَهرِ أُمِّي. (ومَحلُوفًا به) أي: الظِّهارِ.
(فإنْ نجَّزَه) أي: الظَّهارَ (لأجنبيَّةٍ) بأنْ قال لها: أنتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، صحَّ ظِهارُهُ. رواهُ أحمدُ
(1)
عن عمرَ. وكاليَمينِ باللهِ تعالى. والآيَةُ خرَجَت مخرَجَ الغَالِبِ.
والفَرقُ بينَهُ وبينَ الطَّلاقِ: أنَّ الطلاقَ حَلُّ قَيدِ النكاحِ، ولا يُمكِنُ حَلُّه قبلَ عَقدِه. والظِّهارُ: تحريمُ الوَطءِ، فيجوزُ تقديمُه على العَقدِ.
(أو علَّقَه بتَزويجِها)، بأن قالَ لها: إن تزوَّجتُكِ فأنتِ عَلىَّ كظَهرِ أُمِّي. أو قال: النِّساءُ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، أو: كُلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها فَهيَ عليَّ كظَهرِ أمِّي. ذكَرَهُ
(1)
أخرجه أحمد في مسائله (3/ 1113) برواية ابنه عبد الله. وهو عند مالك (2/ 559)، والبيهقي (7/ 383)، وغيرهما.
أو قالَ لَهَا: أنتِ عليَّ حَرَامٌ، ونَوَى: أبدًا، صحَّ ظِهَارًا، لا إنْ أطْلَقَ، أو نَوَى إذَن.
ويَصِحُّ الظِّهارُ مُؤقتًا، كـ: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي شَهْرَ رَمَضانَ، فإنْ وَطِئَها فِيهِ، فمُظاهِرٌ، وإلَّا فلا.
وإذَا صَحَّ الظِّهارُ، حَرُمَ على المظاهِرِ الوَطْءُ ودَوَاعِيه قَبْلَ التَّكفيرِ، فإنْ وَطِئَ ثَبَتَت الكَفَّارةُ في ذِمَّتِه،
في "الشرح". (أو قالَ لها: أنتِ عليَّ حرامٌ، ونَوى: أبدًا، صحَّ) ذلِكَ (ظِهَارًا) لأنَّه ظِهارٌ في الزَّوجَةِ، فكذا الأجنبيَّةُ. فإن تزوَّجَها، لم يَطَأها حتَّى يُكفِّرَ
(1)
.
و (لا) يَكونُ قولُه لأجنبيَّةٍ: أنتِ عَلىَّ حرامٌ، ظِهَارًا (إن أطلَقَ) فلَم يَنوِ أبَدًا، (أو نَوَى) أنَّها حرامٌ عليه (إذَنْ) لأنَّه صادِقٌ في حُرمَتِها عليه قَبلَ عقدِ التزويجِ. ويُقبَلُ مِنهُ دَعوَى ذلكَ حُكما؛ لأنَّه الظاهِرُ
(ويَصحُّ الظهارُ مُؤقَّتًا، كـ: أنتِ عَلىَّ كظَهرِ أُمِّي شهرَ رَمضَان. فإن وَطئها
(2)
فيه) أي: رمَضانَ (فمُظاهِرٌ) أي: كغَيرِه (وإلَّا) يَطَأَ فيهِ (فلا) ظِهارَ.
(وإذا صحَّ الظهارُ، حرُمَ على المظاهِرِ الوطءُ ودواعِيه) أي: دَواعِي الوَطءِ (قَيل التَّكفيرِ) لقولِه تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقوله:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجَادلة: 4].
وقوله: (فإن وَطئَ، ثبَتَت الكفَارَة
(3)
) أي: تَستِقِرُّ كفارةُ الظهار (في ذمَّتِه)
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 542).
(2)
في الأصل: "وَطئ".
(3)
سقطت: "الكفارة" من الأصل.
ولَوْ مَجْنونًا، ثُمَّ لا يَطَأُ حتَّى يُكفِّرَ، وإنْ ماتَ أحدُهُمَا قبلَ الوَطْءِ، فلا كَفَّارةَ.
أي: المظاهِرِ (ولو) كانَ الواطِئُ (مجنُونًا) بأن ظاهَرَ ثُمَّ جُنَّ.
(ثمَّ) إن وَطِئَ قبلَ أن يُكفِّرَ (لا يَطأ) بَعدُ (حتى يُكَّفِرَ) للخَبرِ، ولبَقاءِ التحريم، وتُجزِئُهُ كفَّارَةٌ واحِدَةٌ، ولو كرَّرَ الوَطءَ؛ للخَبرِ. ولأنَّهُ وُجِدَ العَوْدُ والظِّهارُ، فدخَلَ في عموم:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجَادلة: 3]. الآيتين.
(وإن ماتَ أحدُهُما) أي: الزَّوجَينِ بعدَ ظِهارٍ (قَبلَ الوَطءِ، فلا كفَّارَةَ) أي: سقَطَت كفَّارَةُ الظِّهارِ، وسواءٌ ماتَ عَقِبَ ظهارِه، أو تَراخَى عنه؛ لأنَّه لم يُوجَد الحِنْثُ، ويَرِثُها وترثُه، كما بعدَ التكفيرِ.
* * *
فَصْلٌ
والكَفَّارهُ علَى التَّرتيبِ: عِتْقُ رَقَبةٍ مُؤمنةٍ، سالِمَةٍ مِن العُيُوبِ المضرَّةِ في العَمَلِ،
(فَصلٌ) في كفَّارَةِ الظِّهارِ، وما بِمَعنَاهَا
(والكفَّارةُ) أي: كفَّارةُ الظِّهارِ (على التَّرتيبِ) وهي:
(عِتقُ رقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ) حكاهُ ابنُ المنذرِ إجماعًا في كفَّارَةِ القَتلِ؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وما عَدَا كفَّارَةَ القَتلِ، فبِالقِياسِ عَليها
(1)
.
وأن تَكونَ (سالمِةً مِن العُيوبِ المضرَّةِ في العَمَل) ضَررًا بيِّنًا؛ لأنَّ المقصودَ تمليكُ الرقبَةِ منافِعَها، وتَمكينُها من التصرُّفِ لنَفسِها، ولا يحصُلُ هذا معَ ما يَضرُّ بالعَملِ ضررًا بيِّنًا، كالعَمَى، وقَطعِ اليَدينِ أو أحدِهِما، أو قَطعِ الرِّجلَين أو أحدِهِما، أو أَشلَّ شيءٍ مِن ذلِكَ؛ لأنَّ اليدَ آلةُ البَطشِ، والرِّجلَ آلةُ المشيِ، فلا يتهيَّأُ له كثيرٌ من العملِ، مع تلَفِ إحداهُما، أو شللِها
(2)
- أو قَطعِ سَبَّابَةٍ، أو أصبعٍ وسطَى، أو إبهامٍ مِن يدٍ أو رِجلٍ. تَبعَ فيه "التنقيح"، وخالف صاحب "الإقناع"
(3)
.
(1)
"كشاف القناع"(12/ 491).
(2)
في الأصل: "أشلهما" وانظر "كشاف القناع"(12/ 492)، "دقائق أولي النهى"(5/ 550).
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 550).
ولا يُجْزِئ عِتْقُ الأخْرَسِ الأصَمِّ، ولا الجَنِينِ.
فإنْ لَمْ يَجِدْ، فصِيامُ شهريْنِ متَتابعيْنِ،
"تنبيه": تَبِعَ المصنِّفُ - أي: صاحِبُ "المنتهى" رحمه الله المنقِّحَ في التَّسويَةِ بينَ اليَدِ والرِّجلِ فيما تقدَّم.
قال الحجَّاوي في "الحاشية": ولم نَرَ مَن قالَهُ غيرَه فيمَا اطَّلَعنا عليه من كلامِ الأصحاب، وظاهِرُ كلامِهِم خِلافُه. ولأنَّ ذلكَ لا يَضرُّ بعَملِ الرِّجلِ، وهو المَشىُ، وقد صرَّحُوا أنَّ العَرَجَ اليَسيرَ لا يَضرُّ، فكيفَ يضرُّ قَطعُ إبهامِها أو غَيرِها، بل لو قُطِعَت أصابعُ الرِّجلِ كُلُّها، أَجزَأَ. قطَعَ به في "الرعاية الكبرى".
والمنقِّحُ فَهِمَ ما قالَهُ مِن كلامِ "الفروع": "وقيل: فيهنَّ مِن يَدٍ"، ففَهِمَ أنَّ المقدَّم أنَّ حُكمَ القَطعِ مِن الرِّجلِ حُكمُ القَطعِ من اليَدِ، كما صرَّح به في "الإنصاف". نتهى.
وبهذا تعلَم أنَّ قولَه: "من يَدٍ" احترازٌ عمَّا لو كانَ مَن يَدَينِ، لا عمَّا إذا كانَ مِن رِجلٍ. انتهى. ذكرَهُ العلامةُ الشيخُ منصور البهوتي في "حاشيته" على "المنتهى"
(1)
.
(ولا يُجزئُ عِتقُ الأخرَسِ الأَصمِّ) ولو فُهِمَت إشارتُه؛ لأنَّه ناقِصٌ حاسَّتَين، تنقصُ بنَقصِهما قِيمَتُه نقصًا كثيرًا.
(ولا) يُجزِئُ عِتقُ (الجنين) وإن وُلِدَ حيًّا؛ لأنَّه لم تثبُت له أحكامُ الدُّنيا
(2)
.
(فإن لم يجِد) رقبَة (فصيامُ شهرينِ مُتتابِعَين) أي: تتابُعُ صَومِ الشَّهرَين؛ بأنْ
(1)
"إرشاد أولي النهى"(1/ 1204).
(2)
"كشاف القناع"(12/ 494)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 234).
ويَلْزَمُه تَبْيِيتُ النِّيَّةِ مِن اللَّيْلِ.
فإنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ لكِبَرٍ، أوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه، أطْعَمَ سِتِّينَ مسكينًا مُسْلِمًا، لكلِّ مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ، أوْ نِصْفُ صاعٍ مِن
لا يُفرِّقَ الصومَ؛ للآية.
(ويَلزَمُه تَبييتُ النيَّةِ) لصومِ كُلِّ يَومٍ، كما تقدَّمَ في الصَّومِ (مِن الليل) ويَلزَمُهُ تَعيينُها.
(فإن لم يَستَطِع الصَّومَ لِكِبَرٍ، أو مَرَضٍ لا يُرجَى بُرؤُه) اعتبارًا بوَقتِ الوجوبِ، أو يخافُ زِيادَتَه، أو تطاوُلَه، أو لم يَستَطِع صومًا لشَبَقٍ. قال في "الإقناع": أو لضَعفٍ عن مَعيشَته
(1)
، (أطعَمَ سِتِّينَ مِسكينًا)؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، ولمَّا أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوسَ بنَ الصامِتِ بالصَّومِ، قالت امرأتُه: يا رسولَ الله، إنه شيخٌ كبيرٌ ما بِه من صِيامٍ. قال:" فيُطعِمُ سِتِّينَ مِسكينًا"
(2)
. ولمَّا أمرَ سَلمَةَ بنَ صخرٍ بالصِّيامِ قال: وهَل أصَبتُ ما أصَبتُ إلَّا مِن الصِّيام؟. قال: "فأطعِم"
(3)
. فنقَلَه إليه لمَّا أخبَرَه أنَّ به مِن الشَّبَقِ والشَّهوَةِ ما يمنعُه مِن الصَّومِ، وقِيسَ عَليهِمَا مَن في مَعنَاهُما.
ويُشتَرَطُ أن يكونَ المسكينُ (مُسلِمًا) حُرًا، كالزَّكاةِ.
(لِكُلِّ مِسكينٍ مُدُّ بُرٍّ) وهو نِصفُ قَدَحٍ بكَيلِ بلدِنا مِصرَ (أو نِصفُ صاعٍ من
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 557)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 235).
(2)
أخرجه أبو داود (2214) من حديث خولة بنت مالك. وحسنه الألباني في "الإرواء"(2087، 2095).
(3)
أخرجه أبو داود (2213)، وحسنه الألباني.
غَيْرِه، ولا يُجْزِئُ الخُبْزُ، ولا غيرُ مَا يُجْزِئُ في الفطرة.
ولا يُجْزِئُ العِتْقُ والصَّوْمُ والإطعامُ، إلا بالنِّيَّةِ.
غَيرِه) وهو التَّمرُ، والشعيرُ، والزَّبيبُ، والأَقِطُ. وذلِكَ قَدَحٌ بِكَيلِ مِصرَ
(1)
.
(ولا يُجزِئُ الخُبزُ) لخُروجِه عن الكَيلِ والادِّخَارِ، أشبَهَ الهريسَةَ. (ولا غيرُ ما يُجزِئُ في الفِطرَةِ
(2)
) ولو كانَ ذلِكَ قُوتَ بلَدِه؛ لأنَّ الكفَّارَةَ وجَبَت طُهرَةٌ للمُكفَّرِ عَنهُ، كما أنَّ الفِطرَةَ طُهرَةٌ للصائِمِ، فاستَوَيا في الحُكمِ.
قال العلامةُ الشيخ منصور
(3)
: قُلتُ: فإن عُدِمَتِ الأصنافُ الخمسةُ، أجزَأَ عنها ما يُقتاتُ مِن حبٍّ وثَمَرٍ، على قياسِ ما تقدَّم في الفِطرَةِ.
ولا يُجزِئُ في كفَّارَةٍ أن يُغدِّي المساكينَ، أو يُعشِّيَهم، ولا تجزئهُ القيمةُ عن الواجِبِ؛ لظاهِر قولِه تعالى:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
(ولا يُجزئُ) في كفَّارةِ (العِتق والصَّوم والإطعَام، إلَّا بالنيَّةِ) بأن يَنويَه عن جِهَةِ الكفَّارَةِ؛ لحديث: "وإنما لِكلِّ امرئٍ ما نَوى"
(4)
. ولأنَّه يختَلفُ وجهُه، فيقَع
(5)
تبرُّعًا ونَذرًا وكفَّارَةً، فلا يَصرِفُه إلى الكفَّارَةِ إلَّا النيَّةُ. ولا يَكفِي فيه التقرُّبُ إلى الله فقَط دُونَ نيَّةِ الكفَّارةِ، لتنوُّعِ التقرُّبِ إلى واجبٍ ومندوبٍ. ومحلُّ النيَّةِ في الصَّومِ: الليلُ. وفي العِتقِ والإطعامِ: معَه، أو قبلَهُ بيَسيرٍ.
(1)
العبارة في الأصل: "مُدُّ بُرِّ أو نصف وذلِكَ قَدَحٌ بِكَيلِ مِصرَ، وهو نِصفُ قَدَحٍ بكَيلِ بلدنا مصر. صاع من غيره. وهو التمر، والشعير، والزبيب، والأقط" والتضويب من "دقائق أولي النهى"(5/ 551).
(2)
في الأصل: "فطرة".
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 559).
(4)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر. وتقدم تخريجه.
(5)
في الأصل: "فيقطع".
كتابُ اللِّعانِ
إذَا رمَى الرلمجل زَوْجَتَه بالزِّنَى، فعلَيْهِ حَدُّ القَذفِ، أو التَّغريرُ، إلَّا أنْ يُقِيمَ البَيِّنَةَ، أو يُلاعِنَ.
وصِفَةُ اللِّعانِ:
أنْ يَقولَ الزَّوْجُ أرْبَعَ مَرَّاتٍ: أشْهَدُ باللَّهِ إنِّي لِمَن الصَّادقينَ فيمَا رَمَيْتُها بِهِ مِن الزِّنَى -ويُشيرُ إلَيْها - ثُمَّ يَزيدُ في الخامِسَةِ: و {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور: 7].
(كتابُ اللِّعانِ)
من الَّلعن، وهو: الطَّردُ والإبعَادُ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ من الزوجين يَلعَنُ نفسَه في الخامِسَة إن كان كاذِبًا. وقيل: لأنَّه
(1)
لا يَنفكُّ أحدُهما عن أن يكونَ كاذِبًا، فتحصُل اللعنةُ عليه.
وهو شَرعًا: شهاداتٌ مُؤكَّدَاتٌ بأيمانٍ من الجانِبَين، مَقرونَةٌ بلَعنٍ وغضَبٍ.
(إذا رمَى الرجُلُ زوجَته بالزِّنَى) في قُبلٍ أو دُبُرٍ (فعَليه حَدُّ القَذفِ) إن كانَت محصنَة (أو التَّعزيرُ) إن لم تَكُن كذلك (إلَّا أن يُقيمَ البيِّنَةَ، أو يُلاعِنَ) فيسقُطُ الحدُّ أو التعزيرُ.
(وصِفةُ اللِّعانِ: أن يقولَ الزوجُ أربعَ مرَّاتٍ: أشهَدُ باللهِ إنِّي لمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رَميتُها بهِ من الزِّنَى، ويُشيرُ إليها) معَ حُضُورِها (ثمَّ يَزيدُ في الخامِسَة: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور: 7].
(1)
سقطت: "لأنَّه" من الأصل.
ثُمَّ تَقولُ الزَّوْجةُ أربعًا: أشْهَدُ باللَّهِ إنَّه لِمَن الكاذِبينَ فيمَا رماني بِهِ مِن الزِّنَى، ثمَّ تَزِيذ في الخامِسَةِ:{أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9].
(ثمَّ تَقولُ الزَّوجَةُ أربعًا: أشهدُ باللهِ إنَّه لمِن الكاذِبين فيما رماني بهِ من الزِّنَى، ثم تَزيدُ في الخامِسَةِ: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [لنُّور: 9]).
ولا يُشتَرَطُ أن تقولَ: فيما رَماني به من الزِّنى؛ لظاهِرِ الآية.
فإن نقَصَ لَفظٌ من ذلك، أي: مِن الجُملِ الخمس، أو ما يختلُّ به المعنى، ولو أتيَا بالأكثَرِ من ذلكَ، وحكَمَ به حاكِمٌ، لم يصحَّ.
أو بدأَتْ به، أو قدَّمَت الغضبَ، أو أبدلَته باللَّعنَةِ، أو السَّخَطِ، لم يَصحَّ.
أو قدَّمَ اللَّعنَةَ قبلَ الخامسةِ، أو أبدلَها بالغَضَبِ، أو الإبعادِ، أو أبدَلَ أحدُهما لفظَ: أشهدُ، بأُقسِمُ، أو أحلِفُ، لم يصحَّ؛ لمخالفَةِ النَّص.
أو أتَى زوجٌ باللِّعانِ قبلَ إلقائِه عليه، أو بلا حضورِ حاكمٍ أو نائبِه، لم يصحَّ.
أو لاعَن بغَيرِ العربيَّةِ مَن يُحسِنُها، لم يصحَّ. ولا يلزمُ مَن لا يُحصِنُ العربيَّةَ تعلُّمُها إن عجَزَ عنه.
أو علَّقَ اللِّعانَ بشَرطٍ، أو عُدِمَت موالاةُ الكَلِمَاتِ، لم يَصحَّ اللِّعانُ؛ لمخالَفَةِ النَّص.
ويَصحُّ مِن أخرَسَ، وممَّن اعتُقِلَ لسانُه، أو أُيِسَ مِن نُطقِه إقرارٌ
(1)
بزنى، بكتابة
(2)
، أو إشارَةٍ مَفهومَةٍ.
(1)
سقطت: "إقرار" من الأصل.
(2)
في الأصل: "أو بكتابة".
وسُنَّ تَلاعُنُهُما قِيامًا بحَضْرَةِ جَمَاعةٍ، وأنْ لا يَنْقُصُوا عن أربَعَةٍ، وأنْ يَأمُرَ الحاكِمُ مَن يَضَعُ يَدَه على فَمِ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ عِندَ الخامِسَةِ، ويَقولُ: اتَّقِ اللَّهَ، فإنَّها المُوجِبَةُ، وعذابَ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرَةِ.
(وسُنَّ تلاعُنُهُما قِيامًا بحَضرَةِ جماعَةٍ) لأنَّ ابنَ عبَّاسٍ، وابنَ عُمر، وسَهلًا، حضَرُوه معَ حداثَةِ سِنِّهم، فدلَّ على أنه
(1)
حضره جمعٌ كثيرٌ؛ لأنَّ الصبيانَ إنَّما يحضُرُونَ المجالِسَ تَبَعًا للرِّجالِ، ولذَلك قال سَهلٌ: فتلاعَنَا وأنا معَ الناسِ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(و) سُنَّ (أن لا يَنقُصُوا) أي: الحاضِرُونَ عن أربعَةِ رِجالٍ؛ لأنَّ الزوجةَ ربَّما أقرَّت فشَهِدُوا عليها. وسُنَّ أن يتلاعَنا بوَقتٍ ومكانٍ مُعظَّمَين، كبَعدَ العَصرِ يومَ الجُمعَةِ، وبين الرُّكنِ والمقامِ بمكَّةَ، وبَيتِ المقدِسِ عندَّ الصخرَةِ، وعندَ مِنبَرِ باقي المساجد، وبينَ الأذانِ والإقامةِ؛ لأنَّ الدعاءَ بينَهُما لا يُردُّ.
(و) سُنَّ (أن يأمُرَ الحاكمُ مَن يضَعُ يدَه على فمِ الزَّوجِ والزَّوجَةِ عِندَ الخامِسَةِ، ويقولُ: اتَّقِ اللهَ، فإنَّها المُوجِبَةُ، وعذابُ الدُّنيا أهونُ مِن عذابِ الآخِرَةِ) لحديثِ ابنِ عباس
(3)
، رواهُ الجوزجاني.
وكونُ الخامِسَةِ هي المُوجِبَةَ للَّعنَةِ أو الغَضَبِ على مَن كذَبَ مِنهُما؛ لالتِزَامِه ذلك فِيها.
وكَونُ عَذابِ الدُّنيا أهونَ؛ لأنَّه ينقَطِع، وعذابُ الآخرةِ دائمٌ.
والسرُّ في ذلك التخويف؛ ليتوبَ الكاذِبُ مِنهُما ويرتَدِعَ.
(1)
سقطت: "حضره" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (5259)، ومسلم (1492).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(8/ 2534)، وانظر "الإرواء"(2101).
فَصْلٌ
وشُرُوطُ اللِّعانِ ثلاثةٌ:
كَوْنُه بينَ زَوْجَيْنِ مُكَلَّفيْنِ
.
الثانِي: أنْ يَتقدَّمَه قَذْفُها بالزِّنَى.
الثالث: أنْ تُكذِّبَه، ويَستمِرَّ تَكْذِيبُهَا إلَى انقضاءِ اللِّعانِ.
ويَثْبُتُ بتمامِ تَلاعُنِهِما أربعةُ أحْكَامٍ:
الأوَّلُ: سُقُوطُ الحَدِّ، أو التَّعْزيرِ.
(فَصلٌ)
(وشُروطُ اللِّعانِ ثلَاثةٌ):
أحدُها: (كونُه بينَ زَوجَينِ مُكلَّفَين) ولو كانَا قِنَّين، أو أحدُهما، أو كانَا فاسِقَين، أو أحدُهُما، أو ذِميَّين أو أحدُهما؛ لعُمومِ قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النّور: 6]. فلا لِعانَ بقَذفِ أمَتِه، ولا تعزيرَ. وأمَّا اعتبارُ التكليفِ، فلأنَّ قَذفَ غَيرِ المكلَّفِ لا يُوجِبُ حدًّا، واللِّعانُ إنَّما وجبَ لإسقاطِ الحدِّ.
الشرطُ (الثاني: أن يتقدَّمَه قذفُها) أي: قذفُ الزوج الزوجةَ (بالزِّنى)، ولو في دُبُرٍ؛ لأنَّه قذفٌ يجبُ به الحدُّ، وسواءٌ الأعمَى والبصيرُ. نصًا؛ لعُمومِ الآية. وهو أن يقولَ لها: زنَيتِ، أو: يا زَانِيَةُ، أو: رأيتُكِ تَزنين، أو: زنَا فرجُكِ.
الشرطُ (الثالِثُ: أن يُكذِّبَه، ويَستمرَّ تَكذِيبُهَا إلى انقِضاءِ اللِّعانِ).
(ويَثبتُ بتَمامِ تلاعُنِهِما أربعَةُ أحكامٍ):
الحُكمُ (الأوَّلُ: سُقوطُ الحدِّ) عنهَا وعَنهُ، إن كانت الزوجةُ مُحصنَةً (أو التعزيرِ)
الثانِي: الفُرْقَة، ولَوْ بِلا فِعْلِ حاكِمٍ.
الثالثُ: التَّحْرِيمُ المُؤبَّدُ.
الر اجُ: انتفاغ الوَلَدِ، ويُعْتَبَرُ لنَفْيِه ذِكْرُه صَرِيحًا، كـ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَد زَنَتْ، وما هَذَا وَلَدِي.
إن لم تَكُن مُحصنَةً.
الحُكمُ (الثاني): تَثبتُ (الفُرقَةُ) بينَ المتلاعِنَينِ بتَحريمٍ مُؤبَّدٍ (ولو بلا فِعلِ حاكلمِ) لأنَّه مَعنًى يقتَضِي التحريمَ المؤبَّدَ، فلَم يَقِف على حُكمِ حاكبم، كالرَّضَاعِ، ولأنَّها لو وقفَت على تَفريقِ الحاكِمِ، لفَاتَ تركُ التفريقِ إذ لم يَرضَيا به، كالتفريقِ للعَيبِ والإعسارِ. وتفريقُه صلى الله عليه وسلم بمعنَى: إعلامِهِمَا بحصُولِ الفرقَةِ
(1)
.
الحكم (الثالِثُ: التحريمُ المؤبَّدُ) لقولِ عمر: المتلاعِنَانِ يُفرَّقُ بينهُما، ولا يجتَمِعان أبدًا. رواه سعيد
(2)
.
ولأنَّ اللعان معنًى يَقتَضِي التحريمَ المؤبَّدَ، فلم يتوقَّف على حُكمِ حاكمٍ، كالرَّضَاعِ.
ولو أكذَبَ نفسَهُ، أو كانَت أمَةً فاشتَراهَا بعدَه، فلا تحلُّ لهُ؛ لأنَّه تحريمٌ مُؤبَّدٌ.
الحكمُ (الرابعُ: انتفاءُ الولَدِ) مِن الملاعِن، (ويُعتَبرُ لنَفيهِ ذِكرُهُ صريحًا) في اللِّعان (كـ) غولِه:(أشهَدُ باللهِ لقَد زَنَت، وما هذَا وَلَدِي) ويُتمِّمُ اللِّعانَ. وتَعكِسُ
(1)
"كشاف القناع"(12/ 541)، وانظر " فتح وهاب المآرب"(3/ 245).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (1561)، وإسناده منقطع. وصححه الألباني في "الإرواء"(2105) بشاهد له.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هيَ فتقولُ: أشهدُ باللهِ لقَد كذَب، وهذا الولَدُ ولَدُه، وتُتمِّمُ؛ لأنَّها أحدُ الزَّوجَينِ، فكانَ ذِكرُ الولدِ منها شَرطًا في اللِّعانِ، كالزَّوجِ.
والتَّوأمَانِ المنفيَّانِ بلِعانٍ أَخَوَان لأُمٍّ فقَط؛ لانتِفاءِ النسبِ من جهةِ الأبِ، كتَوأَمي الزِّنَى.
* * *
فَصْلٌ فيمَا يُلْحَقُ مِنَ النَّسَبِ
إذَا أتَتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ بوَلَدٍ بَعْدَ نِصْفِ سَنَةٍ منذُ أمْكَنَ اجتماعُه بِهَا، ولَوْ مَعَ غيبةٍ فَوْقَ أربعِ سِنينَ، حتَّى ولَوْ كانَ ابنَ عشرٍ، لَحِقَه نَسَبُه،
(فَصلٌ فِيمَا يُلحَقُ مِن النَّسبِ)، وما لا يُلحَقُ مِنهُ
(إذا أتَت زَوجَةُ الرجُلِ بوَلَدٍ بعدَ نصفِ سنَّةٍ) أي: ستَّةِ أشهُرٍ (مُنذُ أمكَن اجتماعُه بها، ولو معَ غَيبَةٍ فوقَ أربَعِ سِنينَ) ولو عِشرين سنَةً. قال في "الفروع" و"المبدع": ولعلَّ المرادَ: ويخفَى سَيرُهُ
(1)
(حتى ولو كانَ) الزوجُ (ابنَ عشرِ) سِنينَ، (لحِقَهُ نَسبُه) لحديث:"الولَدُ للفِراشِ"
(2)
. ولإمكانِ كونِه مِنهُ.
وقدَّروهُ بعَشرِ سِنينَ؛ لحديث: "واضرِبوهُم عليها لعَشرٍ، وفرِّقُوا بينَهم في المضاجِع"
(3)
. ولأنَّ العَشر
(4)
يمكِنُ فيها البلوغُ، فأُلحِقَ به الولَدُ، كالبالِغِ المتيقَّنِ، وقد رُوِي أن
(5)
عمرَو بنَ العاصِ وابنَه لم يكُن بينَهُما إلَّا اثنَا عشَرَ عامًا
(6)
.
وأَمرُهُ عليه السلام بالتَّفريقِ بينَهُما في المضاجِعِ دليلُ إمكانِ الوَطءِ، وهو سبَبُ الولادَةِ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 577).
(2)
أخرجه البخاري (6749)، ومسلم (1457/ 36) من حديث عائشة.
(3)
أخرجه أحمد (11/ 369)(6756)، وأبو داود (495) من حديث عبد اللَّه بن عمرو. وصححه الألباني في "الإرواء"(247).
(4)
في الأصل: "ولا العشر".
(5)
سقط: "أن" من الأصل.
(6)
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 5) عن الشعبي.
ومَعَ هذا لا يُحْكَمُ ببُلُوغِه، ولا يَلْزَمُه كلُّ المَهْرِ، ولا تَثْبُتُ به عِدَّةٌ، ولا رَجْعَةٌ.
وإنْ أتَتْ بِهِ لدُونِ نِصْفِ سَنَةٍ مُنْذُ تَزوَّجَها، أو عُلِمَ أنَّه لم يَجْتَمِعْ بها، كما لو تَزوَّجَها بحضرةِ جَماعةٍ، ثُمَّ أبانَهَا في المَجْلِسِ، أو ماتَ، لَمْ يَلْحَقْهُ.
(ومعَ هذا) أي: لحُوقِ الولَدِ بابنِ عشرٍ (لا يُحكَم ببلُوغِه) لاستِدعاءِ الحُكمِ ببلُوغِه يَقينًا؛ لتَرتِيبِ الأحكامِ عليه، مِن التكالِيفِ، ووجوبِ الغَرَامَاتِ، فلا يُحكَم به معَ الشكِّ وإلحاقِ الولَدِ به لحفظِ النَّسبِ؛ احتياطًا.
(ولا يَلزَمُه كُلُّ المهرِ) أي بإلحاقِ ابنٍ، إن لم يَثبُت الدخولُ أو الخلوةُ ونحوُه؛ لأنَّ الأصلَ براءتُه منه.
(ولا تَثبُت به عِدَّو، ولا رجعَة) لعدَمِ تبوتِ مُوجِبهِمَا.
(وإن أتَت به لدُونِ نِصفِ سَنَةٍ مُنذُ تزوَّجَها) وعاشَ، لم يلحَقْهُ؛ للعِلمِ بأنَّها كانَت حامِلًا به قبلَ التزوُّجِ، فإن ماتَ أو ولدَتهُ مَيِّتًا، لحِقَه بالإمكان.
(أو عُلِم أنه) أي: الزّوجَ الم يَجتَمِع بها، كما لو تزوَّجَها بحضرَةِ جماعَةٍ)، أو حاكِمٍ (ثمَّ أبانَها في المجلِسِ، أو ماتَ) الزوجُ بالمجلِسِ (لم يَلحَقْهُ) للعِلمِ بأنَّه ليسَ منه.
* * *
فَصْلٌ
ومَن ثَبَتَ، أوْ أقَرَّ أنَّه وَطِئَ أمَتَه في الفَرْجِ -أو دُونَه- ثُمَّ وَلَدَتْ لنِصْفِ سَنَةٍ، لَحِقَه.
ومَن أعْتَقَ أوْ بَاعَ مَن أقَرَّ بوَطْئِهَا، فوَلَدَتْ لدُونِ نِصْفِ سَنَةٍ، لَحِقَه، والبَيْعُ باطِلٌ، ولنِصْفِ سَنَةٍ فأكْثَرَ، لَحِقَ المُشتَرِي.
(فَصلٌ)
(ومَن ثَبَتَ، أو أقرَّ أنَّه وَطِىَ أمَتَه في الفَرجِ -أو دونَه- ثمَّ ولَدَت لنِصفِ سنَةٍ) فأكثرَ (لَحِقَهُ) نسبُ ما ولدَتهُ؛ لأنها صارَت فِراشًا له بوَطئِه. ولأنَّ سعدًا نازَعَ عَبدَ بنَ زَمْعَةَ في ابنِ وليدَةِ زَمعَةَ، فقالَ: هو أَخِي وابنُ وليدَةِ أبي، وُلِدَ على فراشِه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هو لك يا عَبدَ بنَ زَمْعَةَ، الولدُ للفِرَاشِ، وللعَاهِرِ الحَجَرُ". متفق عليه
(1)
. فيلحَقُه.
(ومَن أعتَقَ) أمةً أقرَّ بِوَطئِها، (أو باعَ مَن أقَرَّ بِوَطئِهَا، فولَدَت لدُونِ نِصفِ سنَةٍ) مُنذُ أعتقَها، أو باعَهَا (لَحِقَه) أي: المُعتِقَ أو البائِعَ، ما ولدَته؛ لأنَّ أقلَّ مُدَّةِ الحملِ نِصفُ سنَةٍ، فما ولَدَتهُ لدُونِها وعاشَ، عُلِمَ أنَّها كانَت حاملًا به قبلَ العِتقِ أو البَيعِ، حينَ كانَت فِرَاشًا له (والبَيعُ باطِلٌ) لأنَّها أُمُّ ولَدٍ، والعِتقُ صحيحٌ.
(ولنِصفِ سَنَةٍ فأكثَرَ) مِن بيعٍ، لم يَلحَق بائِعًا، و (لحِقَ المشتَرِي) ولم يَلحَق بائِعًا؛ لأنَّه ولَدُ أمَةِ المشتَرِي، فلا تُقبَل دَعوَى غَيرِه لهُ بدُونِ إقرارِه.
(1)
أخرجه البخاري (6749)، ومسلم (1457) من حديث عائشة. وتقدم قريبًا.
ويَتْبَعُ الوَلَدُ أبَاه في النَّسَبِ، وأُمَّه في الحُرِّيَّةِ، وكَذَا في الرِّقِّ، إلَّا مَعَ شَرْطٍ، أو غُرُورٍ.
ويَتْبَعُ في الدِّينِ: خَيْرَهُمَا، وفي النَّجاسةِ، وتَحْريمِ النِّكاحِ، والذَّكَّاةِ، والأكْلِ: أخْبَثَهُمَا.
(ويَتبَعُ الولدُ أباهُ في النَّسَبِ) إجماعًا، لقوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزَاب: 5](وأمّهُ في الحريَّةِ) فولَدُ حُرَّةٍ حُرٌّ، وإن كانَ مِن رَقيقٍ، وولَدُ أمَةٍ، ولو مِن حُرٍّ، قِنٌّ لمالِكِ أمِّه.
(وكذَا في الرِّقِّ) أي: ويتبَعُ أمَّه في الرقِّ (إلَّا معَ شرطٍ) إلَّا إن اشترَطَ الزوجُ حريَّةَ الولَدِ.
(أو غُرورٍ) أي: غُرَّ بها، بأن تزوَّجَ بامرأةً شَرطَهَا أو ظنَّها حرَّةً، فتبيَّنَت أمَةً، فولَدُها حرٌّ، ولو كانَ أبوه
(1)
رقيقًا، ويَفدِيه.
(ويَتبَعُ في الدِّينِ خَيرَهُمَا) أي: أبوَيهِ دِينًا، فولَدُ مُسلِمٍ مِن كتابيَّةٍ مُسلِمٌ، ووَلَدُ كتابيِّ مِن مجوسيَّهٍ كِتابيٌّ، لكِن لا تَحلُّ ذبيحتُه، ولا لِمُسلمٍ نِكاحُهُ لو كانَ أُنثَى.
(وفي) تبعيَّةِ (النجاسَةِ، وتحريمِ النكاحِ، و الذَّكاةِ، والأَكلِ أخبثَهُمَا) أي: الأبوَينِ. فالبَغلُ مِن الحِمارِ الأهليِّ، محرَّمٌ نجِسٌ، تبَعًا للحِمَارِ، دُود أطيَبِهِما، وهو الفرس. وما تولَّد مِن هِرٍّ وشاةٍ، مُحرَّمُ الأكلِ؛ تغليبًا لجانِب الحَظْرِ.
* * *
(1)
سقطت: "أبوه" من الأصل.
كِتْابُ العِدَّةِ
وهِي: تَربُّصُ مَن فارَقَتْ زَوْجَهَا بوَفَاةٍ أو حَيَاةٍ.
فالمُفارَقَةُ بالوَفَاةِ تَعْتَدُّ مُطْلَقًا.
(كِتابُ العِدَّةِ)
بكَسرِ العَينِ المهملَة، مأخوذَةٌ
(1)
من العَددِ؛ لأنَّ أزمِنةَ العِدَّة محصورَةٌ مُقدَّرةٌ بعَدَد الأزمانِ والأحوالِ، كالحِيَضِ، والأشهُرِ.
(وهي) شَرعًا: (تربُّصُ مَن فارَقت زوجَها بوفاةٍ، أو حياةٍ) وأجمَعوا على وجويها؛ للكتابِ والسنَّةِ في الجملَةِ.
والقَصدُ مِنها: استِبرَاءُ رحِمِ المرأةِ من الحَملِ، لئلا يَطَأهَا غيرُ المفارِقِ لها قَبلَ العِلم، فيحصُلُ الاشتباهُ، وتضيعُ الأنسابُ.
والعِدَّةُ إمَّا لمعنًى مَحضٍ، كالحامِل. أو تَعبُّدٍ محضٍ، كالمتوفَّى عنها زوجُها قبلَ الدُّخُولِ، أو لهُمَا.
والمعنَى أغلَبُ، كالموطُوءَةِ التي يمكِنُ حَبلُها ممَّن يولَدُ لمثلِه، أو لَهُمَا.
والتعبَّدُ أغلَبُ، كعِدَّةِ الوفاةِ في المدخُولِ بها الممكنِ حملُها، إذا مضت مُدَّةُ أقرائِها في أثناءِ الشُّهور
(2)
.
(فالمُفارَقَةُ بالوفَاةِ تَعتدُّ مُطلَقًا) قبلَ الدخولِ أو بعدَه، وُطِئَ مِثلُها أو لا.
(1)
في الأصل: "مأخوذ".
(2)
في الأصل: "الشهر".
فإنْ كانَتْ حامِلًا من المَيِّتِ، فعِدَّتُهَا: حتَّى تَضَعَ كلَّ الحَمْلِ.
وإنْ لَمْ تَكُنْ حامِلًا، فإنْ كانَتْ حُرَّةً فعِدَّتُهَا: أرْبَعةُ أشْهُرٍ وعَشرُ لَيَالٍ بأيَّامِهَا. وعِدَّةُ الأَمَةِ: نِصْفُها.
والمُفارَقَة في الحَيَاةِ لا تَعْتَدُّ، إلَّا إنْ خَلا بِهَا، أوْ وَطِئَهَا، وكَانَ مِمَّن يَطَأُ مِثْلُه ويُوطَأُ مِثْلُهَا، وهُو: ابنُ عَشْرٍ، وبِنْتُ تِسْعٍ.
(فإن كانَت) الزوجةُ (حامِلًا مِن الميِّتِ، فعِدَّتُها: حتَّى تضَعَ كُلَّ الحَملِ) إن كان الحملُ ولَدًا واحِدًا، أو وَضعِ الأخيرِ مِن عدَدٍ إن كانَت حامِلًا بعَدَدٍ.
(فإن كانَت حُرَّةً، فعدَّتُها: أربعَةُ أشهُرٍ وعَشرُ لَيالٍ بأيَّامِها. وعِدَّةُ الأمَةِ: نِصفُها) أي: شَهرانِ وخَمسَةُ أيَّامٍ بليالِيها؛ لأنَّ الصحابَةَ أجمعُوا على أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ على النِّصفِ من عِدَّةِ الحرَّةِ. قاله في "المبدع"
(1)
.
(والمفارَقَةُ في الحيَاةِ) ولو بطَلقَةٍ ثالثَةٍ (لا تَعتدُّ) المفارَقَةُ في الحيَاةِ (إلَّا إن خَلَا بها) وهي مُطاوِعَةٌ غَيرُ مُكرَهَةٍ، ولو لم يمسَّها، معَ علمِه بها، ولو كانَت الخلوةُ في نكاحٍ فاسِدٍ، فعَليها العدَّةُ، وسواءٌ كان بهِمَا أو بأحدِهِما مانِعٌ مِن الوَطء، حِسِّيٌ أو شَرعيٌّ، كإحرَامٍ، وصيامٍ، وحيضٍ، ونفاسٍ، ومرضٍ، وجَبٍّ، وعُنَّةٍ، ورَتْقٍ، وظِهارٍ، وإيلاءٍ، لما روَى أحمدُ والأثرم عن زُرارَةَ بنِ أبي أوفَى، قال: قضَى الخلفاءُ الراشِدُونَ أنَّ مَن أغلَقَ بابًا، أو أرخَى سِترًا، فقَد وجَبَ المهرُ، ووجبَت العِدَّةُ
(2)
.
(أو وَطِئَها، وكانَ ممَّن يَطَأُ مِثلُه ويُوطَأُ مِثلُها، وهو: ابنُ عشرٍ، وبِنتُ تِسعٍ).
(1)
"المبدع"(8/ 113).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (6/ 288).
وعِدَّتُها إنْ كانَتْ حاملًا: بوَضْعِ الحَمْلِ.
وإنْ لَمْ تَكُنْ حامِلًا، فإنْ كانَتْ تَحِيضُ، فعِدَّتُهَا: ثلاثُ حِيَضٍ إنْ كانَتْ حُرَّةً، وحَيضَتانِ إنْ كانَتْ أَمَةً.
وإنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ، بأنْ كانَتْ صَغِيرةً، أو بالِغَةً ولَمْ تَرَ حَيْضًا ولا نِفاسًا، أو كانَتْ آيِسَةً، وهِي مَنْ بَلَغَتْ خَمْسِينَ سَنَةً، فعِدَّتُهَا: ثَلاثةُ أشْهُرٍ إنْ كانَتْ حُرَّةً، وشَهْرَانِ إنْ كانَتْ أَمَةً.
ومَن كَانَتْ تَحِيضُ، ثُمَّ ارتَفَع حَيْضُهَا قَبلَ أنْ تَبْلُغَ سِنَّ الإياسِ، ولم تَعْلَمْ مَا رَفَعَه، فتتربَّصُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ آيِسَةٍ.
(وعِدَّتُها إن كانَت حامِلًا: بوَضعِ الحَملِ).
(وإن لم تَكُن حامِلًا، فإن كانَت تحيضُ، فعِدَّتُها: ثلاثُ حِيَضٍ إن كانَت حُرَّةً، وحَيضَتانِ إن كانَت أمَةً. وإن لم تَكُن تحيضُ؛ بأنْ كانَت صغيرَةً، أو بالِغَةً ولم تَرَ حَيضًا ولا نِفَاسًا، أو كانَت آيِسَةً، وهي مَن بلَغَت خمسينَ سنَةً، فعِدَّتُها: ثلَاثةُ أشهُرٍ إن كانَت حُرَّةً، وشَهرانِ إن كانَت أمَةً).
(ومَن كانَت تحيضُ، ثم ارتَفَع حيضُها قبلَ أن تبلُغَ سِنَّ الإياسِ
(1)
) وهو خمسونَ سنَةً (ولم تَعلَم ما رَفَعَهُ، فتتربَّصُ) غالِبَ مُدَّةِ الحملِ، وهو (تِسعَة أشهُرٍ) ليُعلَمَ براءَةُ رَحِمِها (ثم تعتدُّ) بعدَ ذلك (عِدَّةَ آيسَةٍ) على ما فُصِّلَ آنِفًا في
(2)
الحرَّةِ والأمَةِ. قال الشافعيُّ: هذا قضَاءُ عُمرَ بينَ المهاجرين والأنصار، لا يُنكِرُ مِنهُم مُنكِرٌ عَلِمنَاهُ.
(1)
في الأصل: "اليأس".
(2)
سقطت: "في" من الأصل.
وإنْ عَلِمَتْ ما رَفَعَه مِن مَرَضٍ، ورَضَاعٍ، ونَحْوِه، فلا تَزَالُ مُتربِّصَةً حتَّى يَعودَ الحَيْضُ، فتَعْتَدُّ بِهِ، أو تَصِيرَ آيِسَةً، فتَعْتَدُّ عِدَّةَ آيِسَةٍ.
ولأنَّ الغرضَ بالعِدَّةِ مَعرِفَةُ براءةِ رَحِمِها، وهي تحصُلُ بذلِكَ، فاكتُفِي به، وإنَّما وجَبَت العدَّةُ بعد التسعَةِ أشهُرْ؛ لأنَّ عدَّةَ الشهورِ إنَّما تجِبُ بعدَ العِلمِ ببراءَةِ الرَّحِمِ من الحَملِ، إمَّا بالصِّغَرِ أو الإياس. وهُنا لمَّا احتمَلَ انقطاعُ الحيضِ للحَملِ أو الإياسِ، اعتُبِرَت البراءةُ مِن الحملِ بمُضيِّ مُدَّتِه، فتعيَّن كونُ الانقطاعِ للإياسِ، فوجَبَت عدَّتُه عندَ تَعيينِه، ولم يُعتبر ما مَضَى، كما لا يُعتَبرُ ما مَضَى مِن الحيضِ قبلَ الإياسِ؛ لأنَّ الإياسَ طَرَأَ عليه.
ولا تَنقَضي العِدَّةُ بعَودِ الحيضِ بعدَ المدَّةِ؛ لانقِضاءِ عدَّتِها، كالصَّغيرَةِ تعتدُّ بثلاثَةِ أشهُرٍ، ثم تحيضُ.
(وإن عَلِمَت) مُعتدَّة انقطَعَ حيضُها (ما رَفعَهُ مِن مرضٍ، ورَضاعِ
(1)
، ونحوِه، فلا تزالُ مُتربِّصَةً حتى يَعودَ الحيضُ، فتعتدُّ به) وإن طالَ الزمنُ؛ لعَدَمِ إياسِها من الحَيضِ، فتناوَلَها عمومُ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البَقَرَة: 228] وكما لو كانَت ممَّن بينَ حيضِها مدَّة طويلةٌ.
(أو) حتى (تَصيرَ آيسَةٍ) أي: تبلغَ سِنَّ الإياسِ (فتعتدُّ عدَّةَ آيِسَةٍ) نصًا، لقوله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطَّلاق: 4]. الآية.
* * *
(1)
في الأصل: "أو رضاع".
فَصْلٌ
وإنْ وَطِئَ الأجنبِيُّ بشُبْهَةٍ، أو نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أوْ زِنًى، مَن هِيَ في عِدَّتِهَا، أتَمَّتْ عِدَّةَ الأوَّلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ للثانِي.
وإنْ وَطِئَهَا عَمْدًا مَن أبَانَهَا، فكالأجنبِيِّ،
(فَصلٌ)
(وإن وَطِئَ الأجنبيُّ بشُبهَةٍ، أو نِكاحِ فاسدٍ، أو زِنًى، مَن هِيَ في عِدَّتِها، أتمَّت عِدَّةَ الأوَّلِ) سواءٌ كانَت عِدَّتُه مِن نكاحٍ صحيحٍ أو فاسدٍ، أو وَطءِ شُبهَةٍ أو زنى
(1)
، ما لم تَحمِل من الثاني، فتَنقَضِي عِدَّتُها مِنهُ بوَضعِ الحَملِ، ثمَّ تُتَمِّم عِدَّةَ الأوَّلِ.
ولا يُحسَبُ مِن العدَّةِ مُقامُها عندَ الثاني بعدَ وَطئِه؛ لانقِطاعِها بِوَطئِه.
(ثمَّ تعتدُّ للثَّاني) لخَبرِ مالِكٍ
(2)
، عن عليٍّ: أنَّه قضَى في التي تتزوَّجُ في عدَّتِها، أنَّه يُفرَّقُ بَينَهُما، ولها الصداقُ بما استحلَّ مِن فَرجِها، وتُكمِلُ ما أفسَدَت من عدَّةِ الأوَّلِ، وتعتدُّ مِن الآخَرِ.
ولأنَّهُما حقَّانِ اجتَمَعَا لرَجُلَينِ، فلم يتدَاخَلا، وقُدِّم أسبَقهُما، كما لو تَساوَيا في مُباحٍ غيرِ ذلكَ.
(وإنْ وَطِئَها عَمدًا) بلا شُبهَةٍ (مَن أبانَها، فكَالأجنبيِّ) تُتِمّ العدَّةَ الأُولى، ثمَّ تَبتَدئ العدَّةَ الثانيةَ للزِّنى؛ لأنَّهما عِدَّتانِ مِن وَطئَين يلحقُ النَّسبُ في أحدِهِما دونَ
(1)
سقطت: "أو زنى" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(5/ 603).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 465).
وبشُبْهَةٍ، اسْتَأْنَفَتْ العِدَّةَ مِن أوَّلِهَا. وتَتعَدَّدُ العِدَّة بتَعدُّدِ الوَاطِئِ بالشُّبْهَةِ، لا بالزِّنَى.
ويَحْرُمُ علَى زَوْجِ المَوْطُوءةِ بشُبْهَةٍ أو زِنًى أنْ يَطَأَهَا في الفَرْجِ ما دَامَتْ في العِدَّةِ.
الآخَرِ، فلَم يتداخَلا، كمَا لو كانَا مِن رجُلَين.
(و) إن وَطِئَها مُبينُها في عِدَّتِها مِنهُ (بِشُبهَةٍ، استأنَفَت العدَّةَ مِن أوَّلها) لأنَّهُما عدَّتانِ مِن واحِدٍ لِوَطئَينِ يلحقُ النسبُ فيهما لُحُوقًا واحِدًا، فتدَاخَلا، كما لو طلَّق الرجعيَّةَ في عدَّتِها.
(وتتَعدَّدُ العدَّةُ بتعدُّدِ الواطئِ بالشُّبهَةِ) لحديثِ عُمرَ، ولأنَّهُما حقَّانِ مقصُودانِ لآدميين، فلم يتداخَلا، كالدَّينَينِ. فإن تعدَّدَ الوطءُ من واحدٍ، فعِدَّة واحدَةٌ.
و (لا) تتعدَّدُ العدَّةُ بتعدُّدِ واطِئ (بالزِّنى) قال في "شرحه": في الأصحِّ. وفي "التنقيح": وهو أظهَرُ. وهذا اختيارُ ابنِ حمدَان؛ لعَدَمِ لحوقِ النَّسبِ فيه، فبَقِي القَصدُ: العِلمُ ببرَاءَةِ الرَّحِمِ. وعليه: فعِدَّتُها مِن آخِرِ وطءٍ.
وقدَّمَ في "المبدع" و "التنقيح"، وهو مُقتَضى "المقنع": تتعدَّدُ بتَعدُّدِ زَانٍ، وجَزمَ به في "الإقناع"
(1)
.
(ويحرُمُ على زوجِ الموطُوءَةِ بشُبهَةٍ، أو زِنًى أن يَطأَهَا في الفَرجِ ما دامَت في العِدَّةِ)؛ لأنَّ تحريمَها لعَارضٍ يَختَصُّ به الفرجُ، فأُبيحَ الاستمتاعُ مِنها بما دُونَ الفَرجِ، كالحَيضِ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(5/ 607).
فَصْلٌ
ويَجِبُ الإحْدَادُ علَى المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ مَا دَامَتْ في العِدَّةِ
(فَصلٌ)
(ويَجبُ الإِحدادُ) وهو المَنعُ؛ إذ المرأةُ تمنعُ نفسَها ممَّا كانَت تتهيَّأُ به لزَوجِها مِن تطيُّبٍ وتزيُّنن.
يُقالُ
(1)
: أحدَّت
(2)
المرأةُ إحدَادًا، فهي مُحِدَّة
(3)
. وحَدَّت تُحِد، بالضمِّ والكَسرِ، فهي حادَّةٌ.
ويُسمَّى الحديدُ حديدًا للامتِناعِ به، أو لامتِناعِه على مَن يُحاوِله.
(على المتوفَّى عَنها زوجُها بنِكاحٍ صحيحٍ) لحديث: "لا يحلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن تُحِدَّ على مَيتٍ فوقَ ثلاثِ لَيالٍ، إلَّا على زَوجٍ، أربعَةَ أشهُرٍ وعَشرًا". متفق عليه
(4)
.
وأمَّا الفاسِدُ، فلَيسَت زوجَةً فيه شَرعًا، فلا يَلزَمُها الإحدادُ.
(ما دَامَت في العِدَّةِ) لعُمومِ الأحادِيثِ.
(1)
سقطت: "يقال" من الأصل.
(2)
في الأصل: "احتدت" وانظر "كشاف القناع"(13/ 45).
(3)
في الأصل: "مُحتدة".
(4)
أخرجه البخاري (1281)، ومسلم (1486) من حديث أم حبيبة.
ويَجوزُ للبائِنِ.
والإحْدَادُ: تَرْكُ الزِّينةِ والطِّيبِ، كالزَّعْفَرَانِ، وَلُبْسِ الحُلِيِّ -ولَوْ خَاتَمًا- ولُبْسِ المُلَوَّنِ مِن الثِّيابِ كالأحْمَرِ والأصْفَرِ والأخْضَرِ، والتَّحْسِينِ بالحِنَّاءِ والإسْفِيداجِ، والاكْتِحَالِ بالأسْوَدِ، والادِّهانِ بالمُطَيَّبِ،
(ويجوز) الإحدادُ (للبائِنِ) ولا يُسنُّ لها. قاله في "الرعاية"
(1)
.
(والإحدَادُ): (تَركُ الزينَةِ).
(و) تَركُ (الطِّيبِ، كالزَّعفَرَانِ).
(و) تَركُ (لُبسِ الحُليِّ، ولو خاتمًا) لقَوله عليه السلام: "ولا الحُليَّ"
(2)
.
ولأنَّ الحُليَّ يَزيدُ حُسنَها، ويَدعُو إلى نِكاحِهَا
(3)
.
(و) تَرك (لُبسِ المُلوَّنِ مِن الثِّيابِ، كالأحمَرِ والأصفَر والأخضَرِ) ولو لم يَكُن حريرًا.
(و) تَركُ (التَّحسينِ بالحِنَّاء والاسفيدَاجِ
(4)
).
(و) تَركُ (الاكتِحَالِ بالأَسوَدِ) بلا حاجَةٍ إليه، فإن كانَ لها حاجَةٌ إليه، جازَ، ولها الاكتِحالُ بنَحوِ تُوتِيَاءَ
(5)
.
(و) تَركُ (الادِّهَانِ بالمُطيَّبِ) كدُهنِ الوَردِ، والبَانِ.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 609).
(2)
أخرجه أحمد 44/ 205 (26581)، وأبو داود (2304) من حديث أم سلمة. وصححه الألباني في "الإرواء"(2129).
(3)
في الأصل "حسنها"، وانظر "دقائق أولي النهي"(5/ 609).
(4)
يُعمل مِن الرصاص، إذا دُهِن به الوجهُ يَربُو ويبرُق. قاله في "كشاف القناع"(13/ 47).
(5)
التوتياء بالمد: كحل، وهو معرب. "المصباح المنير". (توت).
وتَحْميرِ الوَجْهِ وحَفِّه. ولَهَا لُبسُ الأبْيَضِ، ولَوْ حَرِيرًا.
وتَجِبُ عِدَّةُ الوَفَاةِ في المَنْزِلِ الَّذِي ماتَ زَوْجُهَا فِيهِ،
(و) تركُ (تحميرِ الوَجهِ، و) تَركُ (حَفِّهِ) ونحوِه، كنَقشٍ وتَخطيطٍ.
لحديثِ أمِّ عطيَّةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُحِدُّ المرأةُ فَوقَ ثلاثٍ إلَّا على زوجٍ، فإنَّها تُحِدُّ عليه أربَعَةَ أشهُرٍ وعَشرًا، ولا تَلبَسُ ثوبًا مَصبوغًا
(1)
إلا ثَوبَ عَصْبٍ، ولا تَكتَحِلُ، ولا تَمَسُّ طِيبًا". متفق عليه
(2)
. والعَصْبُ -بفَتحِ العين وإسكانِ الصادِ المهمَلتَين-: نوعٌ مِن البُرُودِ يُصبَغُ غزلُه، تم يُنسَج. قاله القاضي. وقال في "الشرح": الصحيحُ أنَّه نَبتٌ يُصبَغُ به الثيابُ
(3)
.
(ولها لُبسُ الأبيَضِ، ولو حَريرًا) لأنَّ حُسنَهُ مِن أصلِ خِلقَتِه، فلا يلزَمُ تَغييرُهُ، كالمَرأةِ حَسنَاءَ الخِلقَةِ، لا يَلزَمُها تغييرُ نَفسِها في عدَّةِ الوفاةِ وتَشويهُها.
ولا تُمنَعُ من مُلوَّنٍ لدَفعِ وَسَخٍ، ككُحليِّ ونحوه
(4)
، كأخضَرَ غَيرِ صافٍ؛ لأنَّه في مَعنى ثَوبِ العَصْبِ، وهو مُستثنًى في الخَبرِ.
ولا تُمنَعُ مِن نِقابٍ، ولا تُمنَعُ مِن أخذِ ظُفرٍ، ولا مِن أخذِ عانةٍ، ونَتفِ إبِطٍ.
ولها تَزيُّنٌ في نحوِ فُرُشٍ؛ لأنَّ الإحدادَ في البَدَنِ فقط.
ولا تُمنَعُ مِن تَنظيفٍ وغَسلٍ وامتِشَاطٍ ودُخولِ حمَّامٍ.
(وتجبُ عِدَّةُ الوفاةِ في المنزلِ الذي ماتَ زوجُها فيه) ولو مُؤجَّرًا أو مُعارًا.
(1)
في الأصل: "مَغصوبًا".
(2)
أخرجه البخاري (313)، ومسلم (938).
(3)
"كشاف القناع"(13/ 45).
(4)
سقطت: "ونحوه" من الأصل.
مَا لَمْ يَتعذَّرْ.
وتَنْقَضِي العِدَّةُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ حَيْثُ كانَتْ.
روي عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ مسعودٍ، وأُمِّ سلمَةَ
(1)
؛ لحديث فُرَيعَةَ، وفيه:"امكُثي في بَيتِكِ الذي أتَاكِ فيهِ نَعيُ زَوجِكِ حتَّى يَبلُغَ الكتابُ أجلَهُ" فاعتدَّت فيه أربعَةَ أشهُرٍ وعَشرًا. رواه الخمسة
(2)
، وصححه الترمذي.
(ما لم يتعذَّر) كخَوفٍ على نَفسِها، أو تَحويلِ مالِكِه لها، أو طَلبِه فَوقَ أُجرَتِه، أو لا تجدُ مِن مالِها ما تَكتَرِي به، فيَجوزُ حِينَئذٍ تحوُّلُها إلى حيثُ شاءَت؛ لسُقوطِ الواجِبِ للعُذرِ، ولم يَرِد الشرعُ بالاعتِدَادِ في مُعيَّنٍ غَيرِه، فاستَوَى في ذلكَ القريبُ والبعيدُ.
(وتَنقَضي العدَّةُ) للوفَاةِ (بمُضيِّ الزَّمانِ) الذي يَنقَضِي به العدَّةُ (حيثُ كانَت) لأنَّ المكانَ ليسَ شَرطًا لصحَّةِ الاعتِدَادِ.
ولا تخرُجُ مُعتدَّةٌ لوفاةٍ إلَّا نهارًا؛ لأنَّ الليلَ مَظِنَّةُ الفَسادِ، ولا تخرُجُ نهارًا إلَّا لحاجَتِها مِن بَيعٍ وشراءٍ ونحوِهما.
ولو كانَ لها من يَقومُ بمصالِحِها، فلا تَخرُجُ لحاجَةِ غَيرِها، ولا لِعيادَةٍ وزيارَةٍ ونحوِهما.
* * *
(1)
أخرج ذلك عنهم ابن أبي شيبة (4/ 155)، وعبد الرزاق (7/ 33).
(2)
أخرجه أحمد (45/ 28)(27087)، وأبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (3532)، وابن ماجه (2031)، وصححه الألباني.
بابُ اسْتِبْرَاءِ الإمَاءِ
وهُو واجِبٌ في ثَلاثةِ مَواضِعَ:
أحَدُهَما: إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ، ولَوْ طِفْلًا، أَمَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا، حتَّى ولَوْ مَلَكَهَا مِن أُنْثَى، أوْ كانَ بائِعُها قَدِ اسْتَبْرَأَهَا، أو بَاعَ أوْ وَهَبَ أَمَتَه، ثُمَّ عادَتْ إلَيْه بفَسْخٍ أوْ غَيْرِه.
وحَيْثُ انتَقَلَ المِلْكُ، لَمْ يَحِلَّ اسْتِمْتَاعُه بِهَا -ولَوْ بالقُبْلَةِ- حتَّى يَسْتَبْرِئَهَا.
(بابُ استِبرَاءِ الإمَاءِ)
الاستِبراءُ مِن البَراءَةِ، أي: التَّمييزِ والانقِطاعِ. يُقالُ: بَرِئَ اللَّحمُ مِن العَظمِ، إذا قُطِعَ عنه وفُصِلَ.
(وهو) أي: الاستبرَاءُ: قَصدُ عِلمِ بَراءَةِ رَحِمِ مِلكِ يَمينٍ.
(واجِبٌ في ثلَاثةِ مواضِعَ) فقَط بالاستقراء:
(أحدُها: إذ ا مَلَكَ الرجُلُ، ولو) كانَ (طِفلًا) بإرثٍ أو شراءٍ، ونحوِه (أمَةً يُوطآُ مِثلُها) بِكرًا كانَت أو ثيبًا (حتَّى ولو مَلَكَها مِن أُنثَى، أو كانَ بائِعُها قد استَبرَأَها، أو باعَ) أمَتَهُ، (أو وَهَبَ أمتَه، ثم عادَت) الأمةُ (إليه بفَسخ) الخِيارِ، أو عيبٍ، أو إقالَةٍ (أو غَيرِهِ) أي: غَيرِ الفَسخِ، كما لو عادَت إليهِ ببَيعٍ أو هِبَةٍ ونحوِها.
(وحيثُ انتقَلَ المِلكُ، لم يَحِلَّ استِمتَاعُه بها -ولو بالقُبلَةِ- حتَّى يَستَبرِئَهَا) لأنَّه تَجديدُ مِلكٍ، سواءٌ كان المُشتَري لها ونحوُه رَجُلًا أو امرأةً. إن افتَرَق البائِعُ
الثانِي: إذَا مَلَكَ أَمَةً ووَطِئَهَا، ثُمَّ أرَادَ أنْ يُزَوِّجَهَا أوْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الاسْتِبرَاءِ، فيَحْرُمُ، فلَوْ خالَفَ، صَحَّ البَيعُ دُونَ النِّكاحِ، وإنْ لَمْ يَطَأْ، جَازَ.
الثالِثُ: إذا أعْتَقَ أَمَتَه، أوْ أَمَّ وَلَدِه، أوْ مَاتَ عَنْهَا، لَزِمَهَا اسْتِبرَاءُ نَفْسِهَا إنْ لَثم تُسْتَبْرَأْ قَبْلُ.
والمشتَري. وإن لم
(1)
يَفتَرِقا، فلا يَجِبُ الاستبراءُ.
الموضِعُ (الثاني: إذا مَلَكَ أمَةً وَوَطِئَها، ثمَّ أرادَ أن يُزوِّجَها أو يَبيعَها قبلَ الاستِبرَاءِ، فيحرُمُ) التزويجُ والبيعُ.
(فلو خالَف) فزوَّجَها أو باعَها قبلَ استِبرَائِها (صَحَّ البيعُ) لأنَّ الأصلَ عدمُ الحَملِ (دُونَ النِّكاحِ) فلا يصحُّ، كتَزويجِ المعتدَّةِ.
(وإن لم يَطأ) سيِّدٌ أمتَه (جازَ) أي: البَيعُ والنكاحُ قبلَ الاستبراءِ، لعدَمِ وجوبه.
الموضِعُ (الثالِثُ: إذا أعتَقَ أمتَه، أو) أعتَقَ (أُمَّ ولَدِه، أو ماتَ عَنها) أي: عَن أُمِّ الولَدِ والسُّرِّيَةِ سَيِّدُها (لزِمَها استبراءُ نَفسِها) لأنَّها فِراشٌ لسيِّدِها، وقد فارَقَها بالمَوت أو العِتقِ، فلم يجُز أن تَنتَقِلَ إلى فِراشِ غيرِه بلا استِبرَاءٍ (إن لم تُستَبرَأْ قَبلُ) فلا يَلزمُها استبراءٌ، لحُصولِ العلمِ ببراءَةِ الرَّحِمِ.
* * *
(1)
في الأصل: "أو لم" وانظر "كشاف القناع"(13/ 65).
فَصْلٌ
واسْتِبْرَاءُ الحامِلِ بوَضْعِ الحَمْلِ، ومَن تَحِيضُ بِحَيضَةٍ، والآيِسَةِ، والصَّغِيرةِ، والبَالِغَةِ الَّتي لَمْ تَرَ حَيضًا بشَهْرٍ، والمُرْتَفِعِ حَيْضُهَا ولَمْ تَعلم ما رَفَعَهُ بعَشرةِ أشْهُرٍ، والعالِمَةِ مَا رَفَعَهُ بِخَمْسِينَ سَنَةً وشَهْرٍ.
ولا يَكونُ الاسْتِبْرَاءُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِ الأَمَةِ كلِّهَا،
(فَصلٌ)
(واستِبرَاءُ الحامِلِ: بِوَضعِ الحَملِ) أي: كُلِّ الحَملِ (و) استبراءُ (مَن تَحيضُ: بحَيضَةٍ) تامَّةٍ؛ لحديث: "لا تُوطَأُ حامِلٌ حتَّى تَضَعَ، ولا غيرُ حامِلٍ حتَّى تحيضَ حَيضَةً"
(1)
.
(و) استِبرَاءُ (الآيِسَةِ، والصَّغيرَةِ، والبالِغَةِ التي لم تَرَ حيضًا: بشَهرٍ) لإقامَتِه مقامَ حَيضَةٍ، ولذلِكَ اختَلَفَت الشهورُ باختِلافِ الحِيَضِ.
(والمُرتَفِعِ حَيضُها ولم تَعلَم ما رفَعَه): فـ (بعَشْرَةِ أشهُرٍ) تِسعَةٌ للحَملِ، وشهرٌ للاستِبرَاءِ؛ لما تقدَّم في العدَّةِ.
(والعَالِمَةِ ما رفَعَهُ) أي: الحَيضَ، مِن مَرَضٍ أو رَضاعٍ، أو غَيرِه:(بخَمسينَ سنَةً وشَهرٍ) وتقدَّمَ في العِدَّةِ.
(ولا يكونُ الاستِبرَاءُ إلَّا بعدَ تمامِ مِلكِ الأمَةِ كُلِّهَا) أي: جَميعِها. فلو ملَكَ
(1)
أخرجه أحمد (18/ 140)(11596)، وأبو داود (2157) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الألباني في "الإرواء"(187، 2138).
ولَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا.
وإنْ مَلَكَهَا حَائِضًا، لَئم يَكْتَفِ بتِلْكَ الحَيْضَةِ. وإنْ مَلَكَ مَن تَلْزَمُهَا عِدَّةٌ، اكْتُفيَ بِهَا.
وإنْ ادَّعَتِ الأَمَةُ المَوْرُوثَةُ تَحْرِيمَهَا علَى الوَارِثِ بِوَطْءِ مَورِّثِه، أوِ ادَّعَتِ المُشْتَرَاةُ أنَّ لَهَا زَوْجًا، صُدِّقَتْ.
بعضَها، ثمَّ ملَكَ باقِيها، لم يُحتَسَب الاستِبرَاءُ إلا مِن حَينِ مَلَكَ باقيها؛ لأنَّه وقتُ حُصُولِها كُلِّها في مِلكِه. (ولو لم يَقبِضها) وجَبَ الاستبراءُ، وإن لم يَقبِضها؛ لأنَّه تجديدٌ.
(وإن مَلَكَها) أي: الأَمَةَ (حائِضًا، لم يَكتَفِ بتِلكَ الحَيضَةِ) لأنَّ الحيضَةَ التي مَلَكَها فيها لا يحُتسَبُ لها بِهَا.
(وإن مَلَكَ مَن تلزَمُها عِدَّة، اكتُفِيَ بها) اكتِفاءً بالعدَّةِ؛ لأنَّ بَراءَتَها تُعلَمُ بها.
(وإن ادَّعَت الأمَةُ الموروثَةُ تحريمَهَا على الوارِثِ بوَطءٍ مُوَرِّثِه) كأَبيهِ وابنِه، صُدِّقَت.
قال العلامة الشيخُ مرعيٌّ في "غاية المنتهى": ولعلَّهُ: ما لم تَكُن مكَّنَتهُ قبلُ
(1)
.
(أو ادَّعَت المُشتَرَاةُ أنَّ لها زَوجًا، صُدِّقَت) فِيه؛ لأنَّه لا يُعرَفُ إلَّا مِنها. فهَل إذا قُلنَا بتَصديقِهَا هُنا، فهل هو باليَمينِ أو لا؛ لم نَرَ فيه نَقلًا.
* * *
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(5/ 626)، "مطالب أولي النهى"(5/ 595).
كتابُ الرَّضَاعِ
يُكْرَهُ اسْتِرْضَاعُ الفاجِرَةِ، والكَافِرَةِ، وسَيِّئةِ الخُلُقِ، والجَذْمَاءِ، والبَرْصَاءِ.
وَإذَا أرْضَعَتِ المَرْأَةُ طِفْلًا بلَبَنِ حَمْلٍ لاحِقٍ بالوَاطِئِ، صارَ ذلكَ الطِّفْلُ وَلَدَهُمَا، وأَوْلادُهُ وإنْ سَفَلُوا، أوْلادَ وَلَدِهِمَا، وأوْلادُ كُل مِنْهُمَا مِن الآخَرِ، أوْ غَيرِه، إخْوَتَه وأخَوَاتَه،
(كتابُ الرَّضَاعِ)
بفَتحِ الرَّاءِ، وقد تُكسَرُ، وهو لُغَةً: مَصُّ اللَّبَنِ مِن الثَّدْي.
وشَرعًا: مَصُّ مَن دُونَ الحَولَينِ لبَنًا ثَابَ عن حَملٍ، أو شُربُه، أو سَعُوطُه، أو أكلُهُ بَعدَ أن جُبِّنَ.
(يُكرَهُ استرضَاعُ الفاجِرَةِ، والكافِرَةِ، وسَيِّئَةِ الخُلُقِ، والجَذمَاءِ، والبَرْصَاءِ) والزِّنجيَّةِ. وفي "المحرر": والبَهيمَةِ. وفي "الترغيب": وعَمياءَ. فإنه يقالُ: الرَّضاعُ يُغيِّرُ الطِّبَاعَ
(1)
.
(وإذا أرضَعَت المرأةُ طِفلًا) ذكَرًا أو أُنثَى، في الحَولَينِ (بلَبَنِ حَمْلٍ لاحِقٍ بالوَاطِئِ) نَسبُهُ (صارَ ذلِكَ الطِّفلُ ولَدَهُما) أي: المُرضِعَةِ والواطِئِ (وأولادُهُ وإن سَفَلُوا، أولادَ ولَدِهِما) وهو الطِّفلُ (وأولادُ كُلٍّ مِنهُما) أي: المرضِعَةِ والواطِئِ (مِن الآخَرِ، أو) مِن (غَيرِه) كأنْ تَزوَّجَت المرضِعَةُ بغَيرِه، فصارَ لها مِنه أولادٌ، أو تزوَّجَ الواطِئُ بغَيرِها، وصارَ له مِنها أولادٌ، فالذّكُورُ مِنهُم يَصيرُونَ (إخوَتَه، و) البَناتُ (أخواتِه) ويَصيرُ آباؤُهُما، أي: المرضِعَةِ والواطِئِ، أجدادَ الطِّفلِ،
(1)
"كشاف القناع"(13/ 110).
وقِسْ عَلَى ذَلِكَ.
وتَحْرِيمُ الرَّضَاعِ في النِّكاحِ وثُبُوتِ المَحرميَّةِ، كالنَّسَبِ، بشَرْطِ أنْ يَرْتَضِعَ خَمْسَ رَضَعاتٍ
وأُمَّهاتُهُمَا جدَّاتِه، وصارَ إخوَتُهُما وأخَوَاتُهُما، أي: إخوَةُ المرضِعَةِ وأخواتُهَا، وإخوَةُ الوَاطِئِ وأخواتُهُ، أعمَامَهُ وعمَّاتِه وأخوَالَهُ وخالاته (وقِس على ذلِكَ).
ولا تَنتَشِرُ الحرمَةُ إلى مَن بدَرجَةِ مُرتَضِعٍ أو فوقَه، مِن أخٍ وأُختٍ مِن نَسَبٍ، وأَبٍ وأُمٍّ، وعَمِّ وعمَّةٍ، وخالٍ وخالَةٍ، مِن نَسَب، بَيانٌ لمَن فَوقَه.
فتَحِلُّ مُرضِعَةٌ لأَبي مُرتَضِعٍ، وأَخيهِ مِن نَسَب، إجماعًا. وتَحلُّ أُمُّهُ وأختُهُ من نَسَبٍ لأَبيهِ وأخيهِ مِن رضاعٍ، إجماعًا.
(وتَحريمُ الرَّضاعِ في النِّكاحِ، و) في (ثُبُوتِ المحرميَّةِ) وفي إباحَةِ النَّظَر
(1)
، وإباحَةِ الخَلوَةِ، لا في وجُوبِ نفَقَةٍ، وإرثٍ، وعِتقٍ، وردِّ شهادَةٍ، ونحوِها (كالنَّسَبِ) لقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} النِّساء: 23] وحديثِ عائِشَةَ مرفوعًا: "يَحرُمُ مِن الرَّضاعَةِ ما يحرُمُ مِن الوِلادَةِ ". رواه الجماعة
(2)
. ولفظُ ابنِ ماجَه: "مِن النَّسَبِ".
وأجمَعوا على أنَّ الرَّضاعَ مُحرِّمٌ في الجُملَةِ (بِشرَطِ: أن يَرتَضِعَ) الطِّفلُ (خَمسَ رَضَعَاتٍ) فأكثَرَ؛ لحديث عائِشةَ قالَت: أُنزِلَ في القُرآنِ: عَشرُ رَضَعَاتٍ مَعلومَاتٍ يُحرِّمنَ، فنُسِخَ مِن ذلك خمسُ رضعَاتٍ، وصارَ إلى خمسِ رَضَعَاتٍ
(1)
سقطت: "النظر" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (5239)، ومسلم (1444)، وأبو داود (2055)، والترمذي (1147)، والنسائي (3300)، وابن ماجه (1937).
في العامَيْنِ، فلَو ارتَضَعَ بَقِيةَ الخَمْسِ بعدَ العاميْنِ بلَحْظةٍ، لَمْ تَثْبُتِ الحُرْمَةُ.
ومَتَى امتَصَّ الثَّدْيَ ثُمَّ قَطَعَه، ولَوْ قَهْرًا،
معلومَاتٍ يُحرَّمنَ، فتُوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والأمرُ على ذلِكَ. رواه مسلم
(1)
. والآيَةُ فَسَّرَتهَا السُّنةُ، وبيَّنَت الرضاعَةَ المحرِّمَةَ.
وهذا الخبرُ يُخصِّصُ عُمومَ حديثِ: "يحرُمُ مِن الرَّضاعِ ما يحرُمُ مِن النَّسَب"
(2)
.
الشرطُ الثاني: أن يَكونَ (في العَامَينِ، فلو ارتَضَعَ بقيَّةَ الخَمسِ بعدَ العامَينِ بلَحظَةٍ، لم تثبُت الحُرمَةُ) لقَولِه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البَقَرَة: 233] فدلَّ على أنَّه لا حُكمَ للرَّضاعَةِ بعدَهُما، ولحديث عائشةَ مرفوعًا:"فإنما الرَّضاعَةُ مِن المجاعَةِ". متفق عليه
(3)
. قال في " شرح المحرر": يَعني في حالِ الحاجَةِ إلى الغِذَاءِ واللَّبَن
(4)
.
وعن أمِّ سلمةَ مرفوعًا: "لا يُحرِّمُ مِن الرَّضاعِ إلَّا ما فَتَقَ الأمعَاءَ، وكان قبلَ الفِطَامِ". رواه الترمذي
(5)
، وقال: حسن صحيح.
(ومَتى امتصَّ الثَّديَ ثمَّ قَطَعَه) أي: المَصَّ، (ولو قهرًا)، أو قَطَعَه لتنفُّسٍ، أو قطَعَه لمُلْهٍ، أو كانَ قَطْعُه له لانتِقَالٍ مِن ثَديٍ إلى ثَدي آخَرَ، أو مِن مُرضِعَةٍ إلى مُرضِعَةٍ أُخرى، فذلِكَ رَضعَةٌ تُحسَبُ مِن الخَمس؛ لأَنَّها مَرَّةٌ مِن الرضاع.
(1)
أخرجه مسلم (1452).
(2)
تقدم تخريجه آنفًا.
(3)
أخرجه البخاري (2647)، ومسلم (1455).
(4)
"دقائق أولي النهى"(5/ 631).
(5)
أخرجه الترمذي (1152)، وصححه الألباني.
ثُمَّ امْتَصَّ ثانيًا، فرَضْعَةٌ ثَانِيَةٌ.
والسَّعوطُ في الأنْفِ، والوَجُورُ في الفَمِ، وأكْلُ ما جبِّنَ، أو خلِطَ بالمَاءِ وصِفَاتُه باقِيَةٌ، كالرَّضَاعِ في الحُرْمَةِ.
وإنْ شُكَّ في الرَّضَاعِ، أوْ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ، بُنِيَ عَلَى اليَقِينِ.
وإنْ شَهِدَتْ بِهِ مَرْضْيَّةٌ، ثَبَتَ التَّحْريمُ.
(ثم امتَصَّ ثانِيًا، فرَضعَةٌ ثانيةٌ) لأنَّ المَصَّةَ الأُولى زالَ حُكمُها بتَركِ الارتِضَاعِ، فإذا عادَ وامتَصَّ فَهيَ غَيرُ الأُولى.
(والسَّعوطُ في الأَنفِ، والوَجُورُ في الفَمِ) كرضاعٍ في تحريمٍ.
(وأكلُ ما جُبِّنَ، أو خُلِطَ بالمَاءِ وصِفاتُهُ) أي: لونُهُ وطعمُهُ وريحُهُ، (باقِيَة، كالرَّضَاعِ في الحُرمَةِ
(1)
) فيُحرِّمُ كالخَالِصِ؛ لأنَّ الحُكمَ للأغلَبِ، ولِبَقاءِ اسمِه ومعنَاهُ. فإن غَلَبَه ما خالَطَهُ، لم يَثبُت به تحريمٌ؛ لأنَّه لا يُنبِتُ اللَّحمَ ولا يَنشُرُ العَظمَ.
(وإن شُكَّ في الرَّضاعِ، أو) شُكَّ في (عدَدِ الرَّضعَاتِ، بُني على اليَقينِ) لأنَّ الأصلَ بقاءُ الحِلِّ. وكذا لو شُكَّ في وقوعِه في العَامِين.
(وإن شَهِدَت به) أي: الرَّضاعِ المُحرِّمِ (مَرضيَّة
(2)
، ثبَتَ) بشَهادَتِهَا (التَّحريمُ) مُتبرِّعَةً، أو بأُجرَةٍ، لحديث عُقبةَ بنِ الحارِث قال: تزوَّجتُ أُمَّ يَحيى بِنتَ أبي إهابٍ، فجاءَت أمةٌ
(3)
سَوداءُ، فقالَت: قد أرضَعتُكُمَا. فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
في الأصل: "في الحُرمَةِ، أي: لونه وطعمه وريحه".
(2)
في الأصل: "مرضعة ".
(3)
في الأصل: "امرأة ".
ومَن حَرُمَتْ عَلَيْه بِنْتُ امْرَأةٍ، كأُمِّه، وجَدَّتِه، وأُخْتِه، إذَا أرْضَعَتْ طِفْلةً، حَرَّمَتْها علَيْه أَبَدًا.
ومَن حَرُمَتْ عَلَيْه بِنْتُ رَجُلٍ، كأَبِيه، وجَدِّه، وأخِيهِ، وابْنِه، إذَا أرْضَعَتْ زَوْجَتُه بلَبَنِه طِفْلَةً، حَرَّمَتَهَا عَلَيْهِ أبدًا.
فذَكَرتُ ذلِكَ له، فقال:"وكيف، وقد زعَمَت ذلك". متفق عليه
(1)
. وفي لفظٍ للنسائي
(2)
: قال: فأتيتُه مِن قِبَل وجهِه، فقُلتُ: إنَّها كاذِبةٌ. فقالَ: "كيفَ وقَد زعَمَت أنَّها قد أرضَعَتكُما؟ خلِّ سَبيلَهَا".
وقال الشعبيُّ: كانَت القُضاةُ يُفرِّقُون بينَ الرَّجلِ والمرأةِ بشهادَةِ امرأةٍ واحدَةٍ في الرَّضاعِ، وكالولادَةِ
(3)
.
(ومَن حَرُمَت عليه بِنتُ امرأَةٍ) مِن نَسبٍ، ومِثلُهَا مِن رَضاع، (كأُمِّه، وجَدَّتِه، وأُختِه) وينتِ أَخيهِ، وينتِ أُختِه (إذا أرضَعَت طِفلَةً) رَضَاعًا مُحرِّمًا (حرَّمَتها عليه أبَدًا) لحديثِ:"يحرُمُ مِن الرَّضاعِ ما يحزمُ مِن الوِلادَةِ"
(4)
.
(ومَن حَرُمَت عليه بِنتُ رَجُلٍ، كأبيهِ، وجدِّه، وأخيهِ، وابنِهِ، إذا أرضَعَت زوجَتُه) أو أمَتُه، ولو مَوطُوءَةً بشُبهَةٍ (بلَبَنِه طِفلَةً) رَضَاعًا مُحرْمًا (حرَّمَتها عليه أبدًا).
ومن قالَ لزَوجَتِه: أنتِ أُختي لِرَضاعٍ، بطَلَ النكاحُ حُكمًا؛ لأنَّه أقرَّ بما يُوجِبُ
(1)
أخرجه البخاري (2659، 5104)، ولم أقف عليه عند مسلم.
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (3330).
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 644).
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فسخَ النكاحِ بينَهُما، فلَزِمَه ذلك.
فإن كانَ إقرارُه قبلَ الدُّخُولِ، وصدَّقَته أنَّها أُختُه، فلا مَهرَ لها؛ لأنَّهُما اتَّفقَا على أنَّ النكاحَ باطِلٌ مِن أصلِه. وإن كذَّبَته في قولِه: إنَّها أختُه، قَبلَ الدُّخولِ، فلها نِصفُ المهر؛ لأنَّ قولَهُ غيرُ مقبولٍ عليها في إسقَاطِ حقِّها.
ويَجبُ المهرُ كُلُّه إذا كانَ إقرارُهُ بعدَ الدُّخُولِ، ولو صدَّقَته، ما لم تَكُن مكَّنَته مِن نفسِها مُطاوِعَةً.
وإن قالَت هي ذلِك، أي: قالت: زوجُهَا أخوها مِن الرَّضاع، وأكذَبَها، فهي زوجتُه حُكمًا؛ لأنَّ قولَها لا يُقبلُ عليه في فسخِ النكاحِ؛ لأنَّه حقّهُ، وأما باطِنًا فإن كانَت صادِقَةً، فلا نِكاحَ، وإلا فهيَ زوجتُه أيضًا
(1)
.
* * *
(1)
"الروض المربع"(7/ 103، 104).
كِتَابُ النَّفَقاتِ
يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مَا لا غِنَى لِزَوْجَتِه عَنه
(كِتابُ النَّفَقاتِ)
وهي لُغةً: الدَّراهِمُ ونحوُها، مأخُوذَة مِن النَّافِقَاءِ
(1)
: مَوضِع يجعَلُه اليَربوعُ في مُؤخَّرِ الجُحرِ رَقيقًا؛ يُعِدُّهُ للخُروجِ، إذا أُتيَ مِن
بابِ
الجُحرِ دفَعَهُ وخرَجَ مِنه. ومِنهُ سُمِّيَ النِّفاقُ؛ للخُروجِ من الإيمانِ، أو خُروجِ الإيمانِ من القَلبِ.
وشَرعًا: كِفَايَةُ مَن يَمُونُه خُبزًا وأُدَمًا، وكُسوَةً ومَسكَنًا، وتَوابِعَها، كماءِ شُربٍ وطَهارَةٍ، وإعفافِ مَن يَجِبُ إعفافُه ممَّن تَجبُ نفَقتُه.
والقَصدُ هُنا: بيانُ ما يَجِبُ على الإنسانِ مِن النَّفقَةِ بالنِّكاحِ والقَرابَةِ والمِلكِ، وما يَتعلَّقُ بذلِكَ.
وقَد بدَأَ بالأَوَّلِ، فقَالَ:(يَجِبُ على الزَّوجِ ما لا غِنَى لزَوجَتِه عَنهُ) لقَولِه تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطَّلاق: 7] الآية. وهي في سياقِ أحكامِ الزوجاتِ، فأوجَبَ النفقةَ على المُوسِعِ، وعلى مَن قُدِرَ عليه رِزقُه، أي: ضُيِّقَ، بقَدرِ ما يجبُ
(2)
، ولحديثِ جابرٍ مَرفوعًا:"اتَّقوا اللهَ في النِّساءِ، فإنَّهن عَوانٌ عِندَكُم، أخذتُمُوهُنَّ بأمانَةِ اللهِ، واستَحلَلتُم فُروجَهُنَّ بكِتابِ اللهِ، ولهُنَّ عليكُم رِزقُهُنَّ وكِسوَتُهنَّ بالمعروفِ". رواه مسلم، وأبو داود
(3)
.
(1)
في الأصل: "النَّافقة".
(2)
في الأصل: "ما يجدُ".
(3)
أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905).
مِن مَأكَلٍ ومَشْرَبٍ ومَلْبَسٍ ومَسْكَنٍ بالمَعْرُوفِ، ويعتبرُ الحاكِمُ ذلكَ إنْ تَنازَعَا بِحالِهِمَا.
وعَلَيْه مُؤنةُ نَظَافَتِهَا مِن دُهْنٍ وسِدْرٍ، وثَمَنِ ماءِ الشُّربِ، والطَّهارةِ مِن الحَدَثِ والخَبَثِ،
وأجمَعوا على وجوبِ نفقَةِ الزوجَةِ على الزوجِ إذا كانَا بالِغَين، ولم تَكُن ناشِزًا. ذكَرَه
(1)
ابنُ المنذِرِ، وغَيرُه.
ولأنَّ الزوجةَ محبوسَةٌ لحقِّ الزوجِ، فيمنَعها ذلك عن
(2)
التصرُّفِ والكَسبِ، فتَجِبُ نفقَتُها عليه.
(مِن مأكِلٍ، ومَشرَبٍ، ومَلبَسٍ، ومَسكَنٍ
(3)
، بالمعروف) بيانٌ لما لا غِنَى عَنه.
(ويَعتَبرُ الحاكِمُ) تقديرَ (ذلكَ إن تَنازَعَا) أي: الزَّوجانِ، في قَدرِه وصِفَتِه؛ لأنَّ النَّفقةَ والكِسوَةَ للزَّوجَةِ، فكانَ النَّظرُ يَقتَضِي أن يُعتَبرَ ذلكَ بحالِهِما، كالمَهرِ. لكِن قالَ تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]. الآية. فأمَرَ الموسِرَ بالسَّعةِ في النفقَةِ، ورَدَّ الفقيرَ إلى استِطاعَتِه، فاعتُبِرَ حالُ الزَّوجينِ في ذلك؛ رعايَةً لِكِلا الجِنسَينِ، ولاختلافِ حالِ الزوجَينِ، رُجِعَ فيه إلى اجتِهادِ الحاكِم.
(وعليه مُؤنَةُ نظافَتِها مِن دُهنٍ وسِدرٍ، وثمَنِ ماءِ الشُّربِ والطهارَةِ مِن الحَدَثِ) أي: حدثٍ أكبرَ أو أصغَرَ. (والخَبَثِ) أي: ونجاسَةٍ على الثوبِ، أو
(1)
في الأصل "ذكر". وانظر "دقائق أولي النهي"(5/ 649).
(2)
في الأصل: "من".
(3)
في الأصل: "وسُكنَى".
وغَسْلِ الثِّيابِ.
وعَلَيْه لَهَا خادِمٌ، إنْ كانَتْ مِمَّن يُخْدَمُ مِثْلُهَا، وتَلْزَمُه مُؤنِسَةٌ لِحاجةٍ.
البدَنِ. (وغَسلِ الثِّيابِ) وكذا المِشطُ، وأُجرَةُ القَيِّمَةِ، وتَبيضُ الدَّسْتِ وقتَ الحاجةِ إليه؛ لأنَّ ذلكَ يُرادُ للتَّنظيفِ.
وفي "الرعاية": يَلزَمهُ ما يَقطَعُ صُنَانَها ورائِحَةً كريهَةً
(1)
.
(وعليه لها خادِمٌ، إن كلانَت ممَّن يُخدَمُ مِثلُها) لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّساء: 19] ومِن المعروفِ إقامةُ الخادِمِ لها إذَنْ. ولأنَّ ذلك من حاجَتِها كالنفقة.
ولا يَلزَمُه أكثَرُ مِن واحِدٍ؛ لأنَّ المستحَقَّ عليه خِدمَتُها في نَفسِها، وذلك حاصِلٌ بالواحِدِ.
(وتَلزَمُه مُؤنِسَة لحاجَةٍ) كخَوفِ مَكانِها، وعَدوٍّ تخافُ على نَفسِها مِنهُ. ويَكتَفي بتَونيسِهِ هُو لها.
* * *
(1)
"المبدع"(8/ 189).
فَصْلٌ
والواجِبُ عَلَيْه دَفْعُ الطَّعَامِ في أوَّلِ كُلِّ يَوْمٍ
، ويَجوزُ دَفْعُ عِوَضِه إنْ تَرَاضَيَا، ولا يَمْلِكُ الحاكِمُ أن يَفْرِضَ عِوَضَ القُوتِ دَرَاهِمَ -مَثَلًا- إلَّا بتَراضِيهِمَا، وفَرْضُه لَيْسَ بلازِمٍ.
(فَصلٌ)
(والواجِبُ عليه) أي: الزوجِ (دفعُ الطعامِ) من خُبزٍ وأُدمٍ ونحوِه، لزَوجَةٍ وخادِمِها وكُلِّ مَن وجَبَت نفقَتُه (في أوَّلِ كُلِّ يَومٍ) أي: عندَ طلوعِ شمسِه؛ لأنَّه أوَّلُ وَقتِ الحاجَةِ إليه، فلا يجوزُ تأخيرُه عنه.
(ويجوزُ دفعُ عِوَضِه) كدَراهِمَ عَن نَفقَةٍ وكِسوَةٍ؛ لأنَّ الحقَّ لا يَعدُوهُما.
ولِكُلٍّ مِنهُما الرّجوعُ بعدَ التَّراضِي
(1)
في المستقبَلِ (إن تَراضَيا) ولا يُجبَرُ مَن أَبَى منهما ذلِكَ؛ لعَدَمِ وجوبه عليه.
(ولا يَملِكُ الحاكِمُ أن يَفرِضَ عِوَضَ القُوتِ دَراهِمَ -مثلًا- إلَّا بتراضِيهِمَا
(2)
) أي: الزَّوجَينِ، فلا يُجبر مَن امتَنعَ مِنهُما.
قال في "الهدي": أمَّا فرضُ الدَّراهِمِ، فلا أصلَ له في كتابٍ، ولا سنَّةٍ، ولا نصَّ عليه أحدٌ مِن الأئمَّةِ؛ لأنَّها مُعاوضَةٌ بغَيرِ الرِّضَا عن غَيرِ مستقرٍّ
(3)
.
(وفَرضُهُ ليسَ بلازِمٍ) أي: لا يَلزمُ. وفي "الفروع": وهذا مُتَّجِة معَ عَدَمِ
(1)
في الأصل: "التَّراخِي".
(2)
في الأصل: "دَراهِمَ إلَّا باتِّفاقِهِمَا ".
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 655)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 283).
ويَجِبُ لَهَا الكِسْوَةُ في أوَّلِ كُلِّ عامٍ، وتَمْلِكُهَا بالقَبْضِ، فَلا بَدَلَ لِمَا سُرِقَ، أوْ بَلِيَ.
وإنْ انْقَضَى العَامُ والكِسْوَةُ باقِيَةٌ، فعلَيْه كِسْوَةٌ للعامِ الجَدِيدِ،
الشِّقاقِ، وعَدَمِ الحاجَةِ. فأمَّا معَ الشِّقاقِ والحاجَةِ، كالغَائِبِ مَثلًا، فيتوجَّهُ الفَرضُ، للحاجَةِ إليه، على ما لا يَخفَى، قطعًا للنِّزاعِ. انتهى
(1)
.
(ويَجِبُ لها) أي: للزوجَةِ (الكِسوَةُ في أوَّلِ كُلِّ عام) مِن زمَنِ الوجُوبِ مرَّةً؛ لأنَّه العادَةُ.
وقالَ الحَلوَانيُّ وابنُه وابنُ حمدَانَ: في أوَّلِ الصَّيفِ كِسوَةٌ، وفي أوَّلِ الشِّتاءِ كِسوَةٌ. ولعلَّهُ مُرادُ " الواضح" بقَولِه: كُلَّ نِصفِ سنَةٍ
(2)
.
(وتَملِكُها بالقَبضِ) أي: واجبَ نَفقَةٍ وكِسوَةٍ. كمَا يَملِكُ رَبُّ الدَّينِ دَينَهُ بقَبضِه. (فَلا بَدَلَ) على الزَّوجِ (لمَا سُرِقَ) مِن ذلِكَ (أو بَلِيَ) مِنهُ، كالدَّينِ يَفيهِ، فيَضبعُ مِن قابِضِه.
وتَملِكُ التصرُّفَ فيه، أي: ما قبَضَتهُ مِن واجِبِ نفَقَتِها وكِسوَتِها على زوجِها، على وجهٍ لا يضرُّ بها، ولا يُنهِكُ بدنَها، مِن بيعٍ وهِبَةٍ ونحوِه، كسائِرِ مالِها. فإنْ ضرَّ ذلك ببَدَنِها، أو نَقصَ في استمتاعِه بها، لم تَملِكْهُ، بل تُمنَعُ مِنهُ؛ لتَفويتِ حقِّ زوجِها به.
(وإن انقَضَى العامُ والكِسوَةُ) التي قَبَضَتها مِنهُ (باقيَةٌ، فعَليهِ كِسوَةٌ للعَامِ الجَديدِ) اعتبارًا بمضيِّ الزَّمانِ دونَ حقيقةِ الحاجَةِ، كما أنَّها لو بَلِيَت قبلَ ذلك، لم
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 655)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 283).
(2)
"كشاف القناع"(13/ 130).
وإنْ مَاتَ أوْ مَاتَتْ أوْ بَانَتْ قَبْلَ انْقِضَائِه، رَجَعَ عَلَيْهَا بقِسْطِ مَا بَقِيَ.
وإنْ أَكَلَتْ مَعَه عادَةً، أو كَسَاهَا بلا إذْنٍ، سَقَطَتْ.
يَلزَمْهُ بدلُها.
ولو أهدَى إليها كِسوَةً، لم تَسقُط كِسوَتُها. وكذا لو أهدَى إليها ما أكلَتهُ وبَقِي قُوتُها إلى الغَدِ، لم يَسقُط قُوتُها فيه.
(وإن ماتَ) الزوجُ قبلَ مُضيِّ العَامِ (أو ماتَت) قبلَ مُضيِّهِ، (أو بانَت قبلَ انقِضائِهِ، رجَعَ علَيها بقِسطِ ما بَقَي) مِن العامِ؛ لتبيُّنِ عدمِ استحقاقِها له.
(وإن أكلَت) زوجتُه (معَهُ) أي: زوجِها (عادَةً، أو كسَاها بلا إذنٍ) مِنها، أو مِن وَليِّها، وكان ذلك بقَدرِ الواجِبِ عليه (سقَطَت) نفقَتُها وكِسوَتُها؛ عمَلًا بالعُرفِ.
وظاهِرُهُ: ولو بَعدَ فَرضِ نحوِ دراهِمَ عن نفَقَتِها، فإن ادَّعَت تبرُّعَه بذلك، حلَفَ.
* * *
فَصْلٌ
والرَّجْعِيَّةُ مُطْلَقًا، والبائِنُ والناشِزُ الحامِلُ، والمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا، كالزَّوْجَةِ في النَّفَقَةِ، والكِسْوَةِ، والمَسْكَنِ
.
ولا شَئءَ لغَيْرِ الحامِلِ مِنْهُنَّ، ولا لِمَنْ سَافَرَتْ لِحاجَتِهَا، أو لِنُزْهَةٍ، أو زِيارةٍ، ولَوْ بإذْنِ الزَّوْج.
وإنِ ادَّعَى نُشُوزَهَا، أوْ أَنَّهَا أخَذَتْ نَفَقَتَها، وأنْكَرَتْ، فقَوْلُهَا بيَمِينِهَا.
(فَصلٌ)
(والرجعيَّةُ مُطلقًا، والبائِنُ، والنَّاشِزُ الحامِلُ، والمتوفَّى عنها زوجُها حامِلًا، كالزَّوجَةِ في النَّفقَةِ، والكِسوَةِ، والمسكَنِ).
(ولا شَيءَ) من النفقَةِ والكِسوَةِ والمسكَنِ (لغيرِ الحامِلِ مِنهُنَّ) أي: المطلَّقَاتِ، لقوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلاق: 6] وفي بعضِ أخبارِ فاطِمَةَ بنتِ قَيسٍ: "لا نَفقَةَ لكِ، إلَّا أن تكوني حامِلًا"
(1)
. ولأنَّ الحَملَ ولَدُ المُبينِ، فيلزَمُه الإنفاقُ عليه، ولا يُمكِنُه ذلِكَ إلَّا بإنفاقٍ عليها، فوجَبَ كأجرَةِ الرَّضاعِ.
(ولا) نفقَةَ (لمَن سافَرَت لحاجَتِها) ولو بإذنِه (أو) سافَرَت (لنُزهَةٍ) ولو بإذنِه (أو) سافَرَت لـ (زيارَةٍ، ولو بإذنِ الزَّوجِ) في الجَميعِ.
(وإن ادَّعَى نُشوزهَا، أو أنَّها أخذَت نفقَتَها، وأنكَرَت، فقَولُها بيَمينِها) لأنَّها
(1)
أخرجه أبو داود (2290)، وصححه الألباني.
ومتَى أعْسَرَ بنَفَقَةِ المُعْسِرِ، أوْ كِسْوَتِه، أوْ مَسْكَنِه، أوْ صَارَ لا يَجِدُ النَّفَقَةَ إلَّا يومًا دُونَ يَوْمٍ، أوْ غَابَ المُوسِرُ وتَعذَّرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةُ بالاسْتِدَانَةِ وغَيْرِهَا،
مُنكِرَةٌ، والأصلُ عدَمُ ذلِكَ. لكِن لو كانَت بدَارِ أبيها مَثلًا، وادَّعَت أنَّها خرَجَت بإذنِه، فقَولُه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُه.
"فائدة": وإن أعطَاها شَيئًا زائِدًا عمَّا يجبُ عليهِ، كمُصَاغٍ وقلائِدَ على وَجهِ التَّمليكِ، مَلَكَتهُ، فلا رجُوعَ به إن طلَّق أو ماتَ، وإن لم يَكُن على وجهِ التمليكِ، بل لتتجمَّلَ به فقَط، فلهُ الرجوعُ فيه، طلَّقَها أو لا.
(ومتى أعسَرَ) زوجٌ (بنفقَةِ المُعسِرِ)، فلم يَجِد القُوتَ، (أو) أعسَرَ بـ (كِسوَيه، أو مسكَنِه
(1)
، أو صارَ) الزَّوجُ (لا يجِدُ النفقَةَ) لزوجَتِه (إلَّا يومًا دُونَ يومٍ) خُيِّرَت الزوجَةُ؛ للحُوقِ الضَّررِ الغالِبِ بذلك بها، إذ البَدنُ لا يقومُ بدون كِفايَتِه. وسواءٌ كانَت حرَّةً بالغةً رشيدةً، أو رقيقَةً، أو صغيرةً، أو سفيهةً، دونَ سيِّدِها ووليِّها، فلا خِيرَةَ له، ولو كانَت مجنونَةً، لاختِصاصِ الضررِ بها بين فسخِ نِكاحِ المُعسِر، وبينَ مُقامٍ معَه مع
(2)
مَنعِ نَفسِها، بأن لا تُمكِّنَه مِن الاستمتَاعِ بها، لأنَّه لم يُسلِّم إليها عِوَضَه
(3)
.
(أو غابَ المُوسِرُ) عن زوجَتِه (وتعذَّرَت عليها النفقَةُ) بأن لم يَترُك لها نفقَةً، ولم تَقدِر له على مالٍ، ولم يُمكِنْها تحصيلُ نَفَقَتِها (بالاستِدانَةِ) أي: اقتِراضٍ أو نحوِه عليه (و) لا (غَيرِهما) لتعذّرِ الإنفاقِ عليها مِن مالِه، كحالِ الإعسارِ، بل
(1)
سقطت: "أو مسكنه" من الأصل.
(2)
سقطت: "مع" من الأصل.
(3)
"دقائق أولي النهى"(5/ 668)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 288).
فلَهَا الفَسْخُ فَوْرًا ومُتَراخِيًا، ولا يَصِحُّ بلا حَاكِمٍ، فيَفْسَخ بِطَلَبِهَا، أوْ تَفْسَخُ بِأمْرِهِ.
وإنِ امْتَنَعَ المُوسِرُ مِنَ النَّفَقَةِ أو الكِسْوَةِ، وقَدَرَتْ عَلَى مَالِه، فلَهَا الأخْذُ مِنْهُ بلا إذْنِه بقَدْرِ كِفَايَتهَا وكِفَايَةِ وَلَدِهَا
أولى
(1)
، ولأنَّ في الصبرِ ضَرَرًا أمكَنَ إزالتُه بالفَسخِ، فوَجَبت إزالتُه، دفعًا للضَّرَر.
(فلها الفَسخُ فَورًا ومُتَرَاخِيًا) لأنَّه خيارٌ لدَفعِ ضَررٍ، أشبَهَ خِيارَ العَيبِ في المبيع
(2)
.
(ولا يَصحُّ) الفسخ في ذلِكَ كُلِّه (بلا حَاكِمِ، فيَفسَخُ) الحاكِمُ (بطَلَبِها، أو تَفسَخُ بأمرِه) أي: الحاكِمِ؛ للاختِلافِ فيه، كالفَسخِ للعُنَّةِ، وتَوقُّفُه على طلَبِها، لأنَّه لحقِّهَا.
فإن فرَّق بينَهُما، فهو فسخٌ لا رجعَةَ فيه، كتَفريقِه للعُنَّةِ.
(وإن امتنَعَ) الزوجُ (الموسِرُ) الظاهِرُ: أنه
(3)
لا مفهومَ له
(4)
، بل كذلِكَ لو مَنَعَ المتوسِّطُ أو الفقيرُ ما وجَب عليه أو بعضَه، وقَدرَت له على مالٍ، أخذَت كفايتَها وكفايَةَ ولَدِها. فلو أسقَط لفظَةَ "مُوسِر" لكانَ أشملَ. والله أعلم.
(من النفقَةِ أو الكِسوَةِ، وقَدَرَت على) أخذِ ذلِكَ مِن (مالِه)، ولو مِن غيرِ جنسِ الواجِبِ، (فلَها الأخذُ منه) أي: مِن الزَّوجِ (بلا إذنِه بقَدرِ كفايَتِها وكفايَةِ ولَدِها) وخادِمِها بالمعروفِ، لقولِه عليه السلام لهند بنتِ عُتبةَ حين قالت له: إنَّ أبا
(1)
في الأصل: "بلا ولي".
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 668)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 289).
(3)
سقطت: "أنه" من الأصل.
(4)
سقطت: "له" من الأصل.
الصَّغِيرِ.
سُفيانَ رجلٌ شحيحٌ، وليس يُعطيني مِن النفقةِ ما يكفيني وولَدي؟:" خُذي ما يَكفيكِ وولَدَكِ بالمعروف"
(1)
.
فرخَّصَ لها عليه السلام أخذَ تمامِ الكِفايَةِ بغَيرِ عِلمِه؛ لأنَّه مَوضِعُ حاجَةٍ؛ إذ لا غِنى
(2)
عن النَّفقَةِ ولا قَوامَ إلَّا بها. وتتجدَّدُ بتجدُّدِ
(3)
الزَّمنِ شيئًا فشيئًا، فتشقُّ المرافَعةُ بها إلى الحاكِمِ والمطالبةُ في كلِّ يومٍ.
بقَدرِ كِفايَتِها وكِفايَةِ ولدِها (الصغيرِ). وإن لم تَقدِر على أخذِ كِفايَتِها وكفايَةِ ولَدِها مِن مالِه، أجبَرَهُ الحاكِمُ إذا رَفعَت أمرَها إليه على كِفايَتِها وكفايَةِ ولدِها ونحوِه بالمعروف؛ لأن ذلك واجِبٌ عليه.
فإن أبى الزوجُ ذلكَ، حبسَه الحاكِمُ.
فإن صبَرَ على الحَبسِ، وقدَرَ الحاكِمُ على مالِه، أنفق
(4)
منه عليها وعَلى مَن وجَبَت له النفقَةُ؛ لأنَّها حقٌّ واجبٌ عليه.
فإن لم يَقدِر الحاكمُ له على مالٍ يأخُذُه، أو لم يَقدِر الحاكمُ على النفقَةِ من مالِ الغائِبِ، ولم يجد الحاكمُ إلَّا عُروضًا أو عَقارًا، باعَه وأنفَقَ منه، فيدفَعُ الحاكِمُ إليها نفقَةَ يومٍ بيومٍ.
فإن تعذَّر ذلك عليها، بأن لم يَكُن نقدٌ ولا عَرْضٌ ولا عَقارٌ، فلها الفَسخُ؛ لتعذّرِ الإنفاقِ عليها من مالِه، كحال الإعسَارِ، بل هذا أولى بالفَسخ.
(1)
أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714) من حديث عائشة.
(2)
في الأصل: "لا خفاء".
(3)
سقطت: "بتجدد" من الأصل.
(4)
في الأصل: "أنقص".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو فَسخَ الحاكِمُ نِكاحَ الزوجةِ؛ لفَقدٍ مالٍ -لِزوجِها الغائِبِ- يُنفِقُ منه، ثمَّ تبيَّن له مالٌ. قال ابنُ نصر اللهِ في "حواشي القواعد الفقهية": الظاهِرُ: صحَّةُ الفَسخِ وعَدمُ نقضِه؛ لأنَّ نفقَتَها إنَّما تتعلَّق بما يُقدَرُ عليه من مالِ زوجِها. وأمَّا ما كانَ غائبًا عنها لا عِلمَ لها به، فلا تُكلَّفُ الصَّبرَ لاحتماله. ولا تُشبِهُ مسألةَ المتيمِّمِ إذا نَسِيَ الماءَ في رحلِه؛ لأنَّ الماءَ في قبضَةِ يدِه، ونسيانُه لا يخلُو من تقصيرٍ وتفريطٍ؛ بخلافِ هذه. قال: ولم أجِد في المسألةِ نقلًا
(1)
.
"تنبيه": ومَن أمكَنَه أخذُ دَينِه الذي يَصيرُ بأخذِه مُوسِرًا، فهُو مُوسِرٌ، كما لو كانَ بيَدِه.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(13/ 150)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 290).
بابُ نَفَقَةِ الأقارِبِ والمَمَالِيكِ
يَجِبُ علَى القَرِيبِ نَفَقة أقَارِبِهِ وكِسْوتُهُم وسُكْنَاهُمْ بالمَعْرُوفِ
(بابُ نفقَةِ الأقارِبِ والمماليكِ) مِن الآدميِّين والبهائِمِ
المرادُ بالأقارِبِ: مَن يَرِثُه بفَرضٍ أو تعصيبٍ. فيدخُلُ فيهم: العتيقُ.
(يجبُ على القَريبِ نفقَةُ أقارِبِه وكِسوَتُهم وسُكنَاهُم بالمعرُوفِ).
وأجمَعوا على وجوبِ نفقةِ الوالِدَين والمولُودَينِ؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 233]، وقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسرَاء: 23] ومن الإحسانِ: الإنفاقُ عليهِما عندَ حاجتِهِما. وحديثِ هِند: "خُذي ما يَكفيكِ وولدَك بالمعروفِ". متفق عليه
(1)
.
وعن عائشةَ مرفوعًا: "إنَّ أطيبَ ما أكلَ الرجلُ مِن كَسبِه، وإنَّ ولدَه مِن كسبِه". رواه أبو داود
(2)
. ولأنَّ ولَدَ الإنسانِ بَعضُهُ، وهو بَعضُ والِدِه
(3)
، فكما يجبُ عليه أن يُنفِقَ على نفسِه وأهلِه، فكذلِك على بَعضِه وأهلِه.،
وقوله: "بالمعروف"، لقولِه تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} إلى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 233] فأوجَبَ على الأبِ نفقَةَ الرَّضاعِ، ثم أوجَبَ على الوَارِثِ مِثلَ ما أوجَبَه على الأبِ، ولحديث:"مَن أبَرُّ؟ قال: "أمَّكَ، وأبَاك، وأُختَكَ، وأخَاك". وفي لفظٍ: "ومَولاكَ الذي هو
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
أخرجه أبو داود (3528)، وصححه الألباني.
(3)
في الأصل: "ولده".
بثَلاثةِ شُرُوطٍ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونُوا فُقَراءَ لا مَالَ لَهُمْ ولا كَسْبَ.
الثانِي: أنْ يَكونَ المُنْفِقُ غَنِيًّا، إمَّا بِمالِه أوْ كَسْبِه، وأنْ يَفْضُلَ عَنْ قُوتِ نَفْسِهِ وزَوْجَتِه ورَقِيقِه، يَوْمَه ولَيْلَتَه.
أدنَاكَ، حقًّا واجبًا، ورحِمًا موصولًا". رواهُ أبو داود
(1)
. فألزَمَهُ البرَّ والصِّلَةَ، والنَّفقةُ مِن الصِّلةِ، وقد جعلَها حقًّا واجِبًا.
(بثَلاثَةِ شُروطٍ):
الشرطُ (الأوَّلُ: أن يَكونُوا فُقرَاءَ لا مالَ لهم ولا كَسْبَ) لأنَّ النفقَةَ إنَّما تَجِبُ على سبيلِ المواساةِ، والغَنيُّ يَملِكُهُ، والقادِرُ بالتكسُّبِ مُستَغنٍ عَنها.
وشرطُهُ: الحريَّةُ، فمتَى كانَ أحدُهُما رَقيقًا، فلا نفَقَةَ.
فإن كانُوا
(2)
مُوسِرينَ بمالٍ أو كسبٍ يَكفيهِم، فلا نفقَةَ لهم؛ لفَقدِ شَرطِه، فإن لم يَكفِهم ذلِكَ، وجبَ إكمالُها
(3)
.
الشَّرطُ (الثاني: أن يَكونَ المنفِقُ غَنيًّا، إمَّا بمالِه أو كَسبِه، وأن يَفضُلَ عن قُوتِ نَفسِه) أي: المنفِقِ (و) قُوتِ (زوجَتِه، و) قُوتِ (رقيقِه، يَومَهُ وليلَتَهُ) وكِسوَةٍ وسُكنى لهم، من حاصِلٍ بِيَدِه، أو مُتحصَّلٍ مِن صناعَةٍ وتجارَةٍ، أو أُجرَةِ عقَار، أو ريعِ وقفٍ، ونحوِه. فإن لم يَفضُل عندَه عمَّن ذُكِرَ شيءٌ، فلا شيءَ عليه؛ لحديث جابرٍ مرفوعًا: "إذا كانَ أحدُكم فقيرًا، فليبدَأ بنَفسِه، فإن كان فضلٌ،
(1)
أخرجه أبو داود (5140) من حديث كليب بن منفعة عن جده. وضعَّفه الألباني.
(2)
أي: المنفق عليهم.
(3)
"كشاف القناع"(13/ 155)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 292).
الثالِثُ: أنْ يَكونَ وَارثًا لَهُمْ بفَرْضٍ أوْ تَعصِيبٍ، إلَّا الأُصُولَ والفُرُوعَ، فتَجِبُ لَهُم وعَلَيْهِم مطلقًا.
وإذَا كانَ للفَقِيرِ وَرَثَةٌ دُونَ الأبِ، فنَفَقَتُه علَى قَدْرِ إرْثِهِم،
فعَلَى عِيالِه، فإن كان فضلٌ، فعَلَى قرابَتِه"
(1)
. وفي لفظٍ: "ابدَأ بنَفسِكَ، ثمَّ بمَن تَعولُ"
(2)
. حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّ وجوبَ النفقَةِ على سَبيلِ المواساةِ، وهي لا تجِبُ معَ الحاجَةِ.
الشرطُ (الثالِثُ: أن يكونَ وارِثًا لهم بفَرضٍ أو تعصيبٍ، إلَّا الأصولَ والفُروعَ، فتَجِبُ لهم وعَليهم مُطلقًا).
(وإذا كَانَ للفَقيرِ ورثَة دونَ الأَبِ، فنفقَتُه على قَدرِ إرثِهم مِنهُ) أي: المنفَقِ عليه؛ لأنَّه تعالى رتَّبَ النفقَةَ على الإرث؛ بقولِه تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 233].
والأبُ الغَنيُّ ينفَرِدُ بها، أي: بنفقَةِ ولدِه.
فمَن لهُ جدٌّ وأخٌ لغيرِ أُم: النفقَةُ بينهُما سواءٌ؛ لأنَّهما يرِثَانِه كذلِكَ تَعصيبًا.
أو لهُ أُمُّ أُم، وأُمُّ أبٍ: فالنفقةُ عليهِ بينَهُما سواءٌ؛ لأنَّهما يَرِثَانِه كذلِكَ فَرضًا ورَدًّا.
ومَن لهُ أُمٌّ وجدٌّ: النفقَةُ عَليهِمَا أثلاثًا. أو لهُ ابنٌ وبنتٌ: النفقَةُ عليهِما أثلاثًا،
(1)
أخرجه مسلم (997)، وأبو داود (3957)، واللفظ له.
(2)
هو مركب من حديثين، الأول: أخرجه مسلم (997) من حديث جابر، بلفظ:"ابدأ بنفسك". والثاني: أخرجه البخاري (1426، 5355)، ومسلم (1042/ 106) من حديث أبي هريرة، بلفظ:"وابدأ بمن تعول". وانظر الإرواء (833، 834، 836).
ولا يَلْزَمُ المُوسِرَ مِنْهُم مَعَ فَقْرِ الآخَرِ سِوَى قَدْرِ إرْثِه.
ومَن قَدَرَ علَى الكَسْبِ، أجْبِرَ لِنَفَقَةِ مَن تَجِبُ عَلَيْه مِن قَرِيبٍ وزَوْجَةٍ.
ومَن لَمْ يَجِدْ مَا يَكْفي الجَمِيعَ، بَدَأ بنَفْسِه، فزَوْجَتِه،
كإرثِهِما له.
ومن له أُمٌّ وبنتٌ: النفقةُ عليهِما أرباعًا، ربعُها على الأُمِّ، وباقِيها على البِنتِ؛ لأنَّهما يرِثَانِه كذلِكَ فَرضًا ورَدًّا.
أو لهُ جدّةٌ وبِنتٌ: فنفقتُه عليهِما أربَاعًا، كإرثِهِما له كذلِكَ فَرضًا ورَدًّا.
ومَن له جدَّةٌ وعاصِبٌ غَيرُ أبٍ، كابنِ، وأخٍ، وعمٍّ: فنفقَتُه عليهما أسدَاسًا، سدُسُها على الجدَّةِ، وباقِيها على العَاصِبِ؛ لأنَّهما يَرِثانِه كذلِكَ. وأمَّا الأبُ فينفَرِدُ بها، وتقدَّم.
وعلَى هذا العَملِ حِسابُها؛ لأنَّها تابِعةٌ للإرثِ.
(و) مَن له ورثَةٌ بَعضهُم مُوسِرٌ، وبعضُهم مُعسِرٌ، كأخوَينِ أحدُهُما مُوسِرٌ، والآخرُ مُعسِرٌ، (لا يَلزَمُ الموسِرَ مِنهُم معَ فقرِ الآخَرِ سِوَى قَدرِ إرثِه) فقَط؛ لأنَّه إنَّما يجِبُ عليه معَ يَسارِ الآخَرِ ذلِكَ القَدرُ، فلا يتحمَّلُ عن غيرِه إذا لم يجِد الغَيرُ ما يجِبُ عليه، إذا لم يَكُن مِن عَمودَيِ النَّسَبِ.
(ومَن قدَرَ على الكَسبِ، أُجبِرَ) على التكَسُّبِ
(1)
؛ (لـ) يُؤدِّيَ (نفقَةَ مَن تَجِبُ عليه مِن قَريبٍ وزوجَةٍ).
(ومَن لم يَجِد ما يَكفِي الجَميعَ، بدَأ بنَفسِه، فزَوجَتِه) لأنَّ نفقتَها مُعاوضَةٌ؛ فقُدِّمَت على ما وَجَب مُواسَاةً، ولذلكَ تجبُ معَ يَسارِهِما وإعسارِهِما، بخلَافِ
(1)
في الأصل: "الكَسبِ".
فرَقِيقِه، فوَلَدِه، فأَبِيه، فأُمِّه، فوَلَدِ ابْنِه، فجَدِّه، فأخِيهِ، ثُمَّ الأقْرَبِ فالأقْرَبِ.
ولِمُسْتَحِقِّ النَّفَقَةِ أنْ يَأخُذَ مِن مالِ مَن تَجِبُ عَلَيْه بِلا إذْنِه، إنْ امْتَنَعَ.
وحَثثُ امتَنَع مِنْهَا زَوْجٌ أوْ قَرِيبٌ، وأنْفَقَ أجْنَبِيٌّ بنِيَّةِ الرُّجُوعِ، رَجَعَ.
وَلا نَفَقَةَ مَعَ اخْتِلافِ الدِّينِ،
نفقَةِ القَريبِ، (فـ) ـنفقَةِ (رقيقِه) لوجُوبها معَ اليَسارِ والإعسارِ، كنفقَةِ الزَّوجَةِ، (فـ) ـنفقَةِ (ولَدِه، فـ) ـنَفقَةِ (أبيهِ، فـ) ـنَفقَةِ (أُمِّهِ، فـ) ـنفقَةِ (ولَدِ ابنهِ، فـ) ـنفقَةِ (جدِّه، فـ) ـنفَقةِ (أخيهِ، ثمَّ) نفقَةِ (الأقربِ فالأقرَبِ).
لحديثِ طارِق المحاربي: "ابدَأ بمَن تعولُ: أمَّكَ وأباكَ، وأُختَكَ وأَخاكَ، ثم أدنَاك
(1)
أدنَاكَ"
(2)
أي: الأدنَى فالأدنَى. ولأنَّ النفقَةَ صِلة وبرٌّ، ومَن قَرُبَ أولى بالبرِّ ممَّن بَعُدَ.
(ولمُستَحِقِّ النفقَةِ أن يأخُذَ مِن مالِ مَن تجبُ) النفقَةُ (عليه بلا إذنِه، إن امتَنَع) مِن دَفعِها.
(وحيثُ امتنَعَ منها) أي: مِن النفقَةِ (زوجٌ أو قريبٌ، وأنفَقَ أجنبيٌّ بنيَّةِ الرجوعِ) لأنَّ الامتناعَ قد يكونُ لضَعفِ مَن وجبَت لهُ، وقوَّةِ مَن وجَبَت
(3)
عليه، فلو لم يملِك المُنفِقُ الرجوعَ، لضاعَ الضعيفُ (رجع) عليهِ مُنفِق على زَوجَةٍ أو قَريبٍ؛ لأنَّه قامَ عنهُ بواجِبٍ، كقَضاءِ دَينِه.
(ولا نَفقَةَ معَ اختلافِ الدِّينِ) بقَرابَةٍ، ولو مِن عَمُودَي نَسَبٍ؛ لأنَّهُما لا
(1)
سقطت: "أدناك" من الأصل.
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (2532)، وصححه الألباني.
(3)
سقطت: "وقوَّةِ مَن وجَبَت" من الأصل. والمثبت من "دقائق أولي النهى"(5/ 680).
إلَّا بِالوَلاءِ.
يتَوَارَثان، فلم يتناوَلْهُ قولُه تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 233]. وكما لو كانَ أحدُهُما رقيقًا (إلَّا بالوَلاءِ) فتجِبُ للعَتيقِ على مُعتِقِه بشَرطِه، وإن بايَنَهُ في دِينِه؛ لأنَّه لا يَرِثُه معَ ذلك، فدخلَ في عمومِ قولِه تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 233]. فإن مات
(1)
مَولاهُ، فالنَّفقَةُ على وارِثِه من عصبَةِ مَولاه. أو بإلحاقِ القافَةِ به. ذكرَهُ في "الإقناع"، وخالَفَه المصنِّفُ في "غاية المنتهى".
* * *
(1)
سقطت: "مات" من الأصل.
فَصْلٌ
وعَلَى السِّيِّدِ نَفَقَةُ مَمْلُوكِهِ، وكِسْوتُه، ومَسْكَنُه، وتَزْوِيجُه إنْ طَلَبَ. ولَهُ أن يُسافِرَ بعبدِه المُزَوَّجِ، وأنْ يَسْتَخْدِمَه نَهارًا.
(فَصلٌ)
(وعَلى السيِّدِ نفقَةُ مملوكِه، وكِسوَتُه، ومَسكنُه) بالمعروفِ، ولو كانَ رقيقُهُ آبِقًا، أو مَريضًا، أو انقَطَعَ كسبُه.
وتَلزمُه كِسوَتُه مُطلقًا، غنيًّا كانَ المالِكُ أو فَقيرًا أو مُتوسِّطًا، من غالِبِ الكِسوَةِ لأمثالِه مِن العَبيدِ بذَلِكَ البلدِ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا:"للمملُوكِ طعامُه وكِسوَتُه بالمعروفِ، ولا يُكلَّف مِن العَملِ ما لا يُطيقُ". رواه الشافعي في "مسنده"
(1)
.
وأجمَعوا على أنَّ نفقَةَ المملوكِ على سيِّدِه. ولأنَّه لابدَّ له مِن نفقَةٍ، ومَنافِعُه لسيِّدِه، وهو أحقُّ الناسِ به، فوجبَت عليه نفقَتُه، كبَهيمَتِه.
(وتَزويجُه) أي: الرَّقيقِ، وجوبًا، ذكَرًا كان أو أُنثَى (إن طَلَبَ) لقولِه تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النُّور: 32] ولدُعاءِ الحاجةِ إلى النِّكاحِ غالبًا، وكالمحجُورِ عليه لسَفَهٍ، ولأنَّه يُخافُ مِن تَركِ إعفافِه الوقوعُ في المحظُورِ.
(وله) أي: السيِّدِ (أن يُسافِرَ بعبدِه المزوَّجِ، وأن يَستَخدِمَه نهارًا).
(1)
أخرجه الشافعي بالمعروف في "مسنده" ص (305). وأخرجه مسلم (1662) دون قوله "بالمعروف".
وعلَيْه إعْفَافُ أَمَتِه، إمَّا بِوَطْئِهَا، أوْ تَزْوِيجِهَا، أوْ بَيْعِهَا.
ويَحْرُمُ أنْ يَضرِبَهُ علَى وَجْهِهِ، أوْ يَشْتِمَ أبَوَيْه، ولَوْ كَافِرَيْنِ، أوْ يُكَلِّفَه مَن العَمَلِ مَا لا يُطِيقُ.
(وعَليه إعفافُ أمَتِه) خوفًا عليها مِن المحظُورِ (إمَّا بِوَطئِها، أو تَزويجِها، أو بَيعِها).
(ويَحرمُ أن يَضرِبَه على وجهِه، أو يَشتِمَ أبوَيه) أي: أبوَي الرقيقِ (ولو) كانَا (كافِرَين) قال أحمدُ: لا يُعوِّدُ لِسانَه الخَنَا والرَّدَى، ولا يَدخُلُ الجنَّةَ سيءُ المَلَكَةِ، وهو الذي يُسيءُ إلى ممالِيكِه.
(أو يُكلِّفَه مِن العَملِ ما لا يُطيقُ) لحديث أبي ذرٍّ مرفوعًا: " إخوانُكُم خَوَلُكم، جعَلَهم اللهُ تحتَ أيديكُم، فمَن كانَ أخوهُ تحتَ يدِه، فليُطعِمْهُ مما يأكُل، وليُلْبِسهُ مما يَلبَس، ولا تُكلِّفُوهُم ما يَغلِبُهم، فإن كلَّفتُمُوهُم، فأعينُوهُم عليه". متفق عليه
(1)
.
وفي روايَةِ ابنِ سَعدٍ عن زيدِ بنِ الخطَّابِ: "أرقَّاءَكُم أرقَّاءَكُم، فأطعِمُوهُم مما تأكُلُون، واكسُوهُم مما تلبَسُمون، وإن جاءوا بذَنبٍ لا تُريدُونَ أن تَغفِرُوهُ فَبيعُوا -عِبادَ اللهِ- ولا تُعذِّبُوهم". رواهُ الإمامُ أحمد في " مسنده"
(2)
. وفي رواية عند
(3)
الإمام أحمدَ في "مسنده"
(4)
: "أرَّقاؤُكم إخوانُكُم فأحسِنُوا إليهم، استَعينُوهم
(1)
أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).
(2)
أخرجه ابن سعد (2/ 185)، وأحمد (26/ 334)(16409)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(740).
(3)
في الأصل: "راوه عن".
(4)
أخرجه أحمد (34/ 187)(20581) من حديث سلام بن عمرو عن رجل من أصحاب=
ويَجِبُ أنْ يُرِيحَه وَقْتَ القَيْلُولَةِ، ووَقْتَ النَّوْمِ والصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ.
وتُسَنُّ مُدَاوَاتُهُ إنْ مَرِضَ، وأنْ يُطْعِمَهُ مِن طَعَامِهِ.
ولَهُ تَقْيِيدُهُ إنْ خَافَ عَلَيْه، وتَأْدِيبُه.
على ما غلبكُم، وأعينُوهُم على ما غلبَهُم".
(ويجِبُ أن يُريحَه وقتَ القَيلُولَةِ، ووَقتَ النَّومِ، و) وَقتَ (الصلاةِ المفروضَةِ) لأنَّ العادَةَ جاريَةٌ بذلكَ.
ويُستحبُّ أن يُسوِّيَ بينَ عَبيدِه في الكِسوَةِ والطعامِ.
(وتُسنُّ مُداوَاتُه إن مَرِضَ) قطَعَ به في "التنقيح" وغيرِه.
وقالَ في "الإنصاف": قلتُ: المذهَب: أنَّ تَركَ الدَّواءِ أفضَلُ
(1)
.
(وأنْ يُطعِمَه مِن طعامِه) أي: ويُسنُّ أن يطعِمَه مِن طعامِه، وإلباسُهُم مِن لباسِه؛ لحديث أبي ذرٍّ.
وأن يُسوِّيَ بينَ عبيدِه الذُّكورِ في الكِسوَةِ، وبين إمائِهِ إن كُنَّ للخدمَةِ أو الاستمتاعِ. وإن اختلَفنَ، فلا بأسَ بتفضيلِ مَن هي للاستِمتَاعِ في الكِسوَةِ؛ لأنَّه العُرفُ.
(وله) أي: لسيِّدِه (تقييدُهُ إن خافَ عليه) إباقًا. نصًا. وقال: يُباعُ أحبُّ إليَّ. (و) يُسنُّ (تأديبُهُ) إذا أذنَبَ. ويُسنُّ العفوُ عنه أوَّلًا، ويكونُ مرَّةً، أو مرَّتين. نصًا.
قال ابن الجوزي في "السرِّ المصون": وأمَّا المملوكُ، فلا يَنبَغي أن تَسكنَ إليه
=النبي صلى الله عليه وسلم. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1641).
(1)
"كشاف القناع"(13/ 173).
ولا يَصِحُّ نَفْلُه إنْ أَبَقَ.
وللإنْسَانِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِه ووَلَدِه ولَوْ مُكَلَّفًا، بضَرْبٍ غَيْرِ مُبْرِحٍ.
بحالٍ، بل كُنْ منه على حذَرٍ، ولا تُدخِل الدَّارَ مِنهم مُراهِقًا، ولا خادِمًا، فإنَّهُم رجالٌ معَ النِّساءِ، ونِساءٌ معَ الرِّجالِ، وربَّمَا امتدَّت
(1)
عينُ المرأةِ إلى غُلامٍ مُحتَقَرٍ. انتهى
(2)
.
(ولا يَصحُّ نفلُه إن أبقَ): إباقُ العبدِ كبيرةٌ، ويحرمُ إفسادُهُ على سيِّدِه، وإفسادُ المرأةِ على زوجِها.
قال الشيخ تقيُّ الدين: ولو لم تُلائِمُ أخلاقُ العبدِ أخلاقَ
(3)
سَيِّدِه، لَزِمَهُ إخراجُه عن مِلكِه، ولا يُعذِّبُ خَلقَ الله
(4)
، وتقدَّم.
(وللإنسانِ تأدِيبُ زَوجَتِه وولَدِه، ولو مُكلَّفًا، بضَربٍ غَيرِ مُبرِحٍ) إن أذنَبوا. ويُسنُّ العفوُ عنهُ
(5)
مرَّةً أو مرَّتَين.
ولا يجوزُ بلا ذَنبٍ، ولا أن يُضرَبوا ضَربًا مُبرِحًا؛ لحديث:"لا يُجلَدُ فَوقَ عشرَةِ أسواطٍ إلَّا في حدٍّ مِن حدودِ الله". رواهُ الجماعَةُ
(6)
إلا النسائيُّ.
(1)
سقطت: "امتدت" من الأصل.
(2)
انظر "كشاف القناع"(13/ 179).
(3)
سقطت: "أخلاق" من الأصل.
(4)
"كشاف القناع"(13/ 174).
(5)
سقطت: " عنه " من الأصل.
(6)
أخرجه البخاري (6848)، ومسلم (1708)، وأبو داود (4491)، والترمذي (1463)، وابن ماجه (2601) من حديث أبي بردة الأنصاري.
ولا يَلْزَمُهُ بَيْعُ رَقِيقِه مَعَ قِيامِه بِحُقُوقِه.
(ولا يلزَمُه) أي: السيِّدَ (بيعُ رَقيقِهِ معَ قيامِهِ
(1)
بحقُوقِه) لأنَّ المِلكَ للسيِّدِ،
والحقَّ لَهُ، كما لا يُجبَرُ على طلاقِ زوجتِه معَ قيامِه بما يجِبُ لها. فإن لم يَقُم بحقِّه، وطلَبَ بيعَه، لزِمَه إجابَتُه.
* * *
(1)
في الأصل: "القيامِ".
فَصْلٌ
وعلَى مَالِكِ البَهِيمَةِ إطْعَامُهَا وسَقْيُهَا، فإنْ امتَنَعَ أُجْبِرَ، فإنْ أبَى أوْ عَجَزَ، أُجْبِرَ على بَيْعِهَا، أوْ إجَارَتِهَا، أوْ ذَبْحِهَا إنْ كَانَتْ تؤكَلُ.
(فَصلٌ) في نَفقَةِ البهائِمِ
(وعلَى مالِكِ البَهيمَةِ إطعامُهَا) بعَلَفِها، أو إقامَةُ مَن يرعاهَا (و) عليه (سَقيُها) لحديثِ ابنِ عمرَ: عُذِّبَت امرأةٌ في هزَةٍ، حبَسَتها حتَّى ماتَت جُوعًا، فلا هي
(1)
أطعَمَتها، ولا هِيَ أرسَلَتها تأكُلُ مِن خَشَاشِ الأرض". متفق عليه
(2)
. والخَشاشُ؛ بالخاء المعجمة، قال في "الصحاح"
(3)
: الخِشَاشُ، بالكَسرِ: الحَشَرَاتُ، وقد تُفتَح.
(فإن امتَنَع) عن نَفَقَتها (أُجبِرَ، فإن أبَى أو عَجَزَ، أُجبِرَ على بَيعِها، أو إجارَتِها، أو ذَبحِها، إن كانَت تُؤكَلُ) إزالَةً لضَرَرِها وظُلمِها، ولأنَّها تتلَفُ إذا تُرِكَت بلا نَفقَةٍ، وإضاعَةُ المالِ مَنهيٌّ عنها.
فإن أبي فِعلَ شَيءٍ مِن ذلِكَ، فعَلَ الحاكِمُ الأصلَحَ مِن الثَّلاثَةِ، أو اقتَرَضَ عليهِ ما يُنفِقُه على بهيمَةٍ
(4)
، لقِيامِه مَقامَه في أداءِ ما وَجَب عليه
(5)
عندَ امتِناعِه مِنهُ،
(1)
سقطت: "هي" من الأصل.
(2)
أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242).
(3)
"الصحاح": (خشش).
(4)
في الأصل: "بهيمته".
(5)
سقطت: "عليه" من الأصل.
ويَحْرُمُ: لَعْنُهَا، وتَحْمِيلُهَا مُشِقًّا، وحَلْبُهَا ما يَضُرُّ وَلَدَهَا، وضَرْبُهَا في وَجْهِهَا ووَسْمُهَا فِيهِ،
كقَضاءِ دَينه.
(ويحرُمُ لعنُها) أي: البَهيمَةِ؛ لحَديثِ عِمرَانَ
(1)
: أنَّه صلى الله عليه وسلم كانَ في سَفَرٍ، فلَعَنَت امرأةٌ ناقَةً، فقال:"خُذُوا ما عَليها، ودَعُوها مَكانَها مَلعُونَةً" فكأنِّي أراهَا الآنَ تَمشِي في النَّاسِ ما تعرَّضَ لها أحدٌ
(2)
. وحديثِ أبي بَرزَةَ: "لا تُصاحِبنا ناقَةٌ عليهَا لعنَةٌ"
(3)
. رواهما أحمدُ ومسلمٌ.
(و) يحرمُ (تحميلُها مُشِقًّا) لأنَّه تعذيبٌ لها.
(و) يحرمُ (حَلبُها ما يَضُرُّ ولَدَها
(4)
) لأنَّه لبنُهُ مخلوقٌ لهُ، أشبَهَ ولدَ الأمَةِ.
(و) يحرمُ (ضربُها في وجهِها، و) يحرُمُ (وسمُهَا فيه) أي: في الوَجهِ؛ لأنَّه عليه السلام لعَنَ مَن وسَمَ أو ضرَبَ الوَجهَ، ونهى عنه
(5)
. ذكَرهُ في "الفروع". وهو في الآدمي أشَدُّ. قال ابنُ عقيلٍ: لا يجوزُ الوَسمُ إلَّا لمُداوَاةٍ. وقالَ: يحرُمُ لقَصدِ
(6)
المُثلَةِ
(7)
.
ويجوزُ وسمُ البهيمةِ في غَيرِ الوَجهِ لغَرَضٍ صحيحٍ.
(1)
في الأصل: (عُمرَ).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 1033)(19870)، ومسلم (2595).
(3)
أخرجه أحمد (11/ 33)(19766)، ومسلم (2596).
(4)
في الأصل: "بولَدِها".
(5)
أخرجه مسلم (2116، 2117) من حديث جابر بن عبد الله.
(6)
سقطت: "لقصد" من الأصل.
(7)
"دقائق أولي النهى"(5/ 691).
وذَبْحُهَا إنْ كَانَتْ لا تُؤكَلُ. ويَجوزُ اسْتِعْمَالُهَا في غَيْرِ ما خُلِقَتْ لَهُ.
ويُكرُهُ خَصيُ غَيرِ غَنمٍ ودُيوكٍ. قاله في "الإقناع"
(1)
.
(و) يحرُمُ (ذبحُها إن كانَت لا تُؤكَل. ويجوزُ استعمالُها في غَيرِ ما خُلِقَت لهُ) كبَقرٍ لحَملٍ ورُكُوبٍ، وكإبلٍ وحُمُرٍ لحَرثٍ ونحوِه.
ويُكرَهُ جَزُّ مَعرَفَةٍ، وجَزُّ ناصِيَةٍ، وجزّ ذَنَبٍ، وتعليقُ جَرَسٍ أو وتَرٍ، للخَبرِ.
ويُكرَهُ له إطعامُهُ فوقَ طاقَتِه، وإكراهُهُ على الأكلِ ما اتَّخَذه الناسُ عادَةً، لأجلِ التَّسمينِ. قاله في "الغنية".
ويُكرَهُ نَزوُ حِمارٍ على فَرَسٍ، كالخِصَاءِ.
وتُستحبُّ النفقَةُ على مالِه غيرِ الحيوانِ. وفي "الفروع": يتوجَّهُ: وجُوبُه؛ لئلا يضيعَ
(2)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(13/ 183).
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 692).
بابُ الحَضَانَةِ
وهِي: حِفْظُ الطَّفْلِ غَالِبًا عمَّا يَضُرُّه، والقِيامُ بِمَصَالِحِه، كغَسْلِ رَأْسِه وثِيَابِه، ودَهنه وتَكْحِيلِه، ورَبْطِه في المَهْدِ ونَحْوِه، وتَحْرِيكِه لِينامَ.
والأحْقُّ بِهَا الأُمُّ،
(بابُ الحضانَةِ)
مُشتقَّةٌ مِن الحِضْنِ، وهو الجَنبُ؛ لضَمِّ المربِّي والكافِلِ الطِّفلَ ونحوَه إلى حِضنِه.
(وهي) أي: الحضانَةُ: (حِفظُ الطِّفلِ غَالبًا) والمجنُونِ، والمعتُوهِ وهو المختلُّ العَقلِ (عمَّا يضرُّهُ، والقِيامُ بمصالِحِه، كغَسلِ رأسِه، وثيابِه، ودَهنِه، وتَكحِيلِه، ورَبطِه في المَهدِ ونحوِه) أي: نحوِ ما ذُكِرَ مما يتعلَّقُ بمصالِحه (وتَحريكِهِ ليَنامَ).
(والأحَقُّ بها الامّ) مع أهليَّتِها، وحُضُورِها، وقبولِهَا. قال في "المبدع": لا نعلمُ فيهِ خِلافًا؛ لما روَى عمرو بنُ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ امرأةً قالت: يا رسولَ الله، إنَّ ابني هذا كانَ بَطني لهُ وِعَاءً، وثَديي له سِقاءً، وحِجرِي له حِواءً، وإنَّ أباهُ طلَّقَني، وأرادَ أن يَنزِعَه مِنِّي. فقال لها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أنتِ أحقُّ به، ما لمَ تَنكِحِي". رواهُ أحمد، وأبو داودَ
(1)
، ولفظُهُ له.
ولأنَّها أشفَقُ، والأبُ لا يَلِي حضانَتَه بنَفسِه، وإنَّما يدفَعُه إلى امرأتِه أو غيرِها مِن النساء، وأُمُّهُ أولى ممَّن يدفَعُه إليها.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 310)(6707)، وأبو داودَ (2276)، وحسنه الألباني.
ولَؤ بأُجْرَةِ مِثْلِهَا مَعَ وُجُودِ مُتَبَرِّعَةٍ، ثُمَّ أُمَّهاتُهَا القُرْبَى فالقُرْبَى، ثُمَّ الأَبُ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ، ثُمَّ الجَدُّ، ثُمَّ أُمَّهاتُه، ثُمَّ الأخْتُ لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأُمٍّ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ الخَالَةُ لأبويْنِ، ثُمَّ لأُم ثُمَّ لأبٍ، ثُمَّ العَمَّاتُ كَذلِكَ،
(ولو بأُجرَةِ مِثلِها) حيثُ كانَت أهلًا (معَ وُجودِ مُتبرِّعَةٍ).
(ثمَّ) إن لم تَكُنْ أُمٌّ، أو لم تَكُن أهلًا للحضَانَةِ، ف (أُمَّهاتُهَا، القُربَى فالقُربَى) لأنَّهنَّ نساءٌ لهنَّ وِلادَةٌ مُتحقِّقَةٌ، أشبَهنَ الأُمَّ.
(ثمَّ) بعدهُنَّ (الأبُ
(1)
) لأنَّه أصلٌ وأحقُّ بولايَةِ المالِ.
(ثمَّ أُمَّهاتُهُ) كذلِكَ، أي: القُربَى فالقُربَى؛ لإدلائِهِنَّ بعَصبَةٍ قريبَةٍ.
(ثمَّ الجدُّ) لأبٍ؛ لأنَّه في مَعنَى الأَبِ كذلِكَ: الأقربُ فالأقرَبُ مِن الأجدَادِ.
(ثمَّ أمّهاتُه) أي: الجَدِّ كذلِكَ: القُربى فالقُربى؛ لإدلائِهنِّ بعَصبَةٍ.
(ثمَّ الأخُتُ لأَبوَينِ)؛ لمشارَكَتِها له في النَّسبِ، وقوَّةِ قَرابَتِها.
(ثمَّ) أختٌ (لأُمٍّ، ثمَّ) أختٌ (لأَبِ، ثمَّ الخالَةُ لأَبوَين، ثمَّ) خالَةٌ (لأم، ثمَّ) الخالَةُ (لأبٍ) لإدلاءِ الخالاتِ بالأمِّ.
(ثمَّ العمَّاتُ كذَلِكَ) لأنهنَّ نِساءٌ مِن أهلِ الحضانَةِ، فقُدِّمْنَ على مَن
(2)
بدرجَتِهنَّ مِن الرِّجالِ، كتقديمِ الأُمِّ على الأَبِ، والجدَّةِ على الجدِّ، والأُختِ على الأَخ.
ولا حضانَةَ لعمَّاتِ الأُمِ معَ عمَّاتِ الأَبِ؛ لأنَّهُنَّ يُدلِينَ بأَبِي الأُمِّ وهو مِن ذَوي الأرحَامِ، وعمَّاتُ الأبِ يُدلِينَ بالأَبِ وهو عَصبَةٌ.
(1)
في الأصل: "أب".
(2)
سقطت: "من" من الأصل.
ثُمَّ خَالاتُ أُمِّهِ، ثُمَّ خَالاتُ أبِيه، ثُمَّ عَمَّاتُ أَبِيه ثمَّ بَنَاتُ إخْوَتِه وأخواتِه، ثُمَّ بَنَات أعْمَامِهِ وعَمَّاتِهِ، ثُمَّ لبَاقِي العَصَبَةِ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ.
ولا حَضَانَةَ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ، ولا لفَاسِقٍ، ولا لكافِرٍ على مُسْلِمٍ، ولا لِمُتَزَوِّجَةٍ بِأجْنَبِيٍّ.
(ثمَّ خالاتُ أُمِّه) لأَبوين، ثمَّ لأُمٍّ، ثمَّ لأَبٍ، (ثمَّ خالاتُ أَبيه) كذلِكَ (ثمَّ عمَّاتُ أَبيهِ) كذلِك.
(ثمَّ بناتُ إخوَته وأخواتِه، ثمَّ بَناتُ أعمَامِه وعمَّاتِه) على التَّفصيلِ المتقدِّمِ، فتُقدَّمُ مَن لأَبوَينِ، ثمَّ لأُمٍّ، ثمَّ لأبٍ.
(ثمَّ) الحضانَةُ (لبَاقِي العَصبَةِ) أي: عصبَةِ المحضُونِ (الأقرَبُ فالأقرَبُ) فيقُدَّمُ الإخوَةُ الأشقَّاءُ، ثمَّ لأَبٍ، ثمَّ بنوهُم كذلِكَ، ثمَّ الأعمامُ، ثمَّ بَنوهُم كذلِكَ، ثمَّ أعمامُ أبٍ، ثمَّ بنوهُم كذلِكَ، ثمَّ أعمامُ جَدٍّ، ثم بنوهُم كذلِكَ، وهكذا.
(ولا حضَانَةَ لمَن فيه رِقٌّ)، وإن قَلَّ؛ لأنَّها وِلايَةٌ كوِلايَةِ النكاحِ.
(ولا) حضَانَةَ (لفاسِقٍ) ظاهِرًا؛ لأنَّه لا وُثُوقَ به في أداءِ واجِبِ الحضانَةِ، ولا حظَّ للمحضُونِ في حضانَتِه؛ لأنَّه ربَّما نَشَأَ على أحوالِه.
(ولا) حضَانَةَ (لكافِرٍ على مُسلمٍ).
ولا) حضَانَةَ (لمتزوِّجَةٍ بأجنبيٍّ) مِن محضونٍ، مِن زمَنِ عقدٍ، لقولِه عليه السلام:"أنتِ أحقُّ بِه، ما لم تَنكِحِي"
(1)
. ولأنَّ الزوجَ يملِكُ مَنافِعَها بمجرَّدِ العقدِ، ويَستحِقُّ منعَها مِن الحضانَةِ، أشبَه ما لو دَخَلَ بها.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
ومتَى زَالَ المَانِعُ، أوْ أسْقَطَ الأحَقُّ حَقَّه، ثُمَّ عادَ، عادَ الحَقُّ لَهُ.
وإنْ أرَادَ أحَدُ الأبَوَيْنِ السَّفَرَ -ويَرْجِعَ- فالمُقِيمُ أحَقُّ بالحَضَانَةِ، وإنْ كَانَ للسُّكْنَى وهُو مَسافَة قَصْرٍ، فالأَبُ أحَقُّ، ودُونَهَا فالأُمُّ أحَقُّ.
فإن تزوَّجت بقَريبِ محضُونِها، ولو غَيرَ محرَمٍ له، لم تَسقُط حضانَتُها.
ولو رضيَ زوجٌ بحضانَةِ ولَدِها مِن غَيرِه، لم تَستحِق الحضانَةَ بذلِكَ، بخلافِ رَضاعٍ.
(ومَتى زالَ المانِعُ) من رِقٍّ، أو فِسقٍ، أو كُفرٍ، أو تزوُّجٍ بأجنبيٍّ (أو أسقَطَ الأحقُّ حقَّه، ثمَّ عادَ، عادَ الحقُّ لهُ) في الحضانَةِ.
(وإن أرادَ أحَدُ الأبويَن) لمحضُونٍ (السَّفرَ، ويرجِعَ
(1)
) لحاجَةٍ ويَعودُ، بَعُدَ البلَدُ الذي أرادَه أوْ لا (فالمُقيمُ) مِن أبَويهِ (أحقُّ بالحضانَةِ) إزالَةً لضَررِ السَّفرِ. وهذا إن لم يَقصِد المسافِرُ به مُضارَّةَ الآخَرِ، وإلَّا فالأُمُّ أحَقُّ، كما ذكرَه في "الهدي"، وقوَّاهُ غيرُه
(2)
.
(وإن) أرادَ أحدُ أبوَيهِ نَقلَهُ إلى بَلَدٍ، و (كانَ للسُّكنَى، وهو) أي: البلَدُ المنقولُ إليها (مَسافَةُ قَصرٍ) فأكثَرُ، وكان الطريقُ آمِنًا (فالأبُ أحقُّ) لأنَّه الذي يَقومُ بتَأدِيبِهِ، وتخريجِه، وحفظِ نَسبِه، فإذا لم يَكُن ببلَدِ أبيه، ضاعَ. ومتى اجتمَعَ الأبوانِ، عادَت الحضانَةُ لأُمِّ.
(و) إن كانَت المسافَةُ (دُونَها) أي: دُونَ مسافَةِ القَصرِ (فالأُمُّ أحقُّ) فتَبقَى
(3)
على حضَانَتِها؛ لأنَّها أتمُّ شفقَةً.
(1)
سقطت: "ويرجع" من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(5/ 697).
(3)
في الأصل: "فتَبنى".
فَصْلٌ
وإذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَبْعَ سِنينَ عَاقِلًا، خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فإنِ اخْتَارَ أَبَاه، كانَ عِنْدَه ليلًا ونَهَارًا، ولا يُمْنَعُ مِن زِيارَةِ أُمِّهِ، ولا هِي مِنْ زِيارَتِه، وإنْ اخْتَارَ أُمَّهُ، كَانَ عِنْدَهَا ليلًا، وعِنْدَ أَبِيهِ نَهَارًا؛
(فَصْلٌ)
(وإذا بلغَ الصَّبِيُّ) المحضونُ (سبعَ سِنينَ) كامِلةً (عاقلًا، خُيِّرَ بينَ أبوَيه) لحديثِ أبي هريرةَ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ غُلامًا بينَ أبيهِ وأُمِّه. رواه سعيدٌ والشافعيُّ
(1)
. وقَضَى بذلِكَ عُمرُ وعليٌّ
(2)
.
(فإن اختَارَ أباه، كانَ عندَه ليلًا ونهارًا) ليَحفَظَهُ ويُعلِّمَه ويُؤدِّبَهُ (ولا يُمنَعُ مِن زيارَةِ أُمِّهِ) لأنَّ فيه إغراءً له بالعُقُوقِ
(3)
وقَطيعَةِ الرَّحمِ، فيزُورُها على العادَةِ، كيَومٍ في الأُسبُوعِ.
ولا تُمنَعُ من تَمريضِه؛ لأنَّ النساءَ أعرَفُ بذلِكَ. (ولا) تُمنَعُ (هي مِن زِيارَتِه).
(وإن اختارَ أُمَّهُ، كانَ عِندَها ليلًا) لأنَّه وقتُ السَّكَنِ، وانحيازِ الرِّجالِ إلى المساكِنِ، (وعندَ أبيه نَهارًا) لأنَّه وقتُ التصرُّف في الحوائِج، وعَملِ الصنائِعِ
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (2275)، والشافعي (205). وصححه الألباني في "الإرواء"(2192).
(2)
أخرجه عنهما سعيد بن منصور (2277، 2279).
(3)
في الأصل: "بالعقول".
ليُؤدِّبَه ويُعلِّمَه.
وإذَا بَلَغَتِ الأُنْثَى سَثعًا، كانَتْ عِنْدَ أَبِيهَا وُجُوبًا إلَى أنْ تَتزوَّجَ. ويَمْنَعُهَا -ومَن يَقُومُ مَقَامَة- مِن الانْفِرَادِ.
ولا تُمْنَعُ الأُمّ مِن زِيارَتِهَا، ولا هِي مِن زِيَارَةِ أُمِّهَا، إنْ لَمْ يُخَفِ الفَسَادُ.
والمَجْنُونُ، ولَوْ أُنْثَى، عِنْدَ أمِّهِ مُطْلَقًا.
ولا يُتْرَكُ المحْضُونُ بيَدِ مَن لا يَصُونُهُ ويُصْلِحُه.
(ليؤدِّبَه ويُعلِّمَه) لئلا يَضيعَ.
(وإذا بَلَغَت الأُنثَى سَبعًا) فأكثَرَ (كانَت عِندَ أبيهَا وجُوبًا إلى أن تتزوَّجَ) لأنَّه أحفَظُ لها، وأحقُّ بولايَتِها، ويُؤمَنُ عليها مِن دُخولِ النِّساء؛ لأنَّها مُعرَّضَةٌ للآفَاتِ لا يُؤمَنُ عليها الخَديعَةُ.
(ويَمنَعُها) أبوهَا أن تَنفَرِدَ (ومَن يَقومُ مَقامَهُ، مِن الانفِرَادِ) بنَفسِها؛ خشيَةً عليها.
(ولا تمنَعُ الأُمُّ مِن زيارَتِها) على العادَةِ؛ لما سبقَ.
(ولا) تُمنَعُ (هي مِن زيارَةِ أُمِّها) إن رَضِيَت الأُمّ؛ لأنَّه من الصِّلَةِ والبرِّ (إن لم يُخَفِ الفَسادُ) عَليها.
(والمجنونُ) والمعتوهُ (ولو أُنثَى، عندَ أُمِّه مُطلَقًا) صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لحاجتِه إلى مَن يَخدمُه ويَقومُ بأمرِه، والنِّساءُ أعرَفُ بذلِكَ، وأمُّهُ أشفَقُ عليه مِن غَيرِها، فإن عُدِمَت أُمُّه، فأمَّهَاتُها القُربى فالقُربى، على ما تقدَّم.
(ولا يُترَكُ المحضُونُ بيَدِ مَن لا يَصونُهُ ويُصلِحُهُ) لأنَّ وجودَ ذلِكَ كعَدَمِه، فتَنتَقِلُ إلى مَن يَليهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا حضانَةَ ولا رضَاعَةَ لأُمِّ جَذمَاءَ، أو بَرصَاءَ، كما أفتَى به المجدُ وبعضُهُم
(1)
.
"تتمَّةٌ": قال في "المبدع": لم أقِف في الخُنثَى المُشكِلِ بعدَ البُلوغِ على نَقلٍ، والذي يَنبَغِي أن يكونَ كالبِنتِ البِكرِ، حتَّى يجيء
(2)
في جَوازِ استِقلالِه وانفرَادِه عن أبويَه الخِلافُ
(3)
.
(1)
"دقائق أولي النهى"(5/ 701)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 311).
(2)
سقطت: "يجيء" من الأصل.
(3)
انظر "كشاف القناع"(13/ 202).
كِتَابُ الجِنَايَاتِ
وهِى:
(كِتابُ الجِنَايَاتِ)
(وهي) لغَةً: كُلُّ فِعلٍ وقعَ على وَجهِ التَّعدِّي، سواءٌ كانَ في النَّفسِ، أو المالِ، أو العِرضِ.
قال أبو السَّعادَاتِ: الجِنايَةُ: الجُرمُ والذَّنبُ، وما يَفعَلُه الإنسانُ ممَّا يُوجِبُ عليه القِصاصَ، أو العِقابَ في الدُّنيا والآخِرَةِ. انتهى
(1)
.
وجُمِعَت وإن كانَت مصدَرًا باعتِبَارِ أنواعِها على: جِنايَاتٍ، وجَنايَا، كعَطايَا. والفاعِلُ: جَانٍ. والجمعُ: جُناةٌ، كقَاضٍ وقُضاةٍ.
والقَتلُ يقَعُ على ثلاثَةِ أضرُبٍ:
واجِبٌ: كقَتلِ المُحارِبِ، والزَّانِي المُحصَنِ، والمُرتَدِّ.
ومُباحٌ: كالقَتلِ قِصَاصًا.
ومَحظُورٌ: وهو القَتلُ عَمدًا بغَيرِ حقٍّ. وهو مِن الكبائِرِ.
وتوبَةُ القَاتِلِ مَقبولَةٌ، وأمرُهُ إلى اللهِ، إن شاءَ عذَّبَهُ، وإن شاءَ غفَرَ له.
ولا يَسقُطُ حقُّ المقتولِ في الآخِرَةِ بمجرَّدِ التوبَةِ. قال الشيخُ تقي الدين: فعَلي هذا: يأخذُ المقتُولُ مِن حسناتِ القاتِلِ بقَدرِ مَظلَمَتِه. فإن اقتُصَّ مِن القَاتِلِ، أو عُفِي عنه، ففِي مُطالَبَتِه في الآخرَةِ وجهَان.
(1)
"النهاية في غريب الحديث"(1/ 192)(جنى).
التَّعَدِّي علَى البَدَنِ بِمَا يوجِبُ قِصَاصًا، أو مَالًا.
والقَتْلُ ثَلَاثةُ أقْسَامِ:
أحَدُهَا: العَمْدُ العُدْوَانُ، ويَخْتَصُّ يهِ القِصَاصُ، أو الدِّيَة، فالوَليُّ مخَيَّرٌ،
قال العلَّامةُ ابنُ القيِّم: والتَّحقيقُ في المسألة: أنَّ القَتلَ يتعلَّقُ به ثلاثَةُ حقوقٍ: حقٌّ للهِ، وحقٌّ للمقتُولِ، وحقٌّ للوليِّ.
فإن أسلَمَ القاتِلُ نفسَه طَوعًا واختيارًا إلى الوليِّ، ندَمًا على ما فعَلَ، وخوفًا من الله، وتَوبةً نصُوحًا، سقَطَ حقُّ اللهِ بالتوبَةِ، وحقُّ الأولياءِ بالاستيفَاءِ، أو الصُّلحِ، أو العَفوِ. وبَقِيَ حقُّ المقتولِ، يُعوِّضُه اللهُ عنهُ يومَ القيامَةِ عن عبدِهِ التائِبِ المحسِنِ، ويُصلِحُ بينَهُ وبينَهُ، فلا يُضيِّعُ حقَّ هذا، ولا يُعطِّلُ توبةَ هذا
(1)
.
وشَرعًا: هي (التعدِّي على البَدَنِ بما يُوجِبُ قِصَاصًا، أو) يُوجِبُ (مالًا) وتُسمَّى الجنايَةُ على المالِ: غَصْبًا، وسَرِقَةً، وخِيانَةً، وإتلافًا، ونَهبًا.
وأجمَعُوا على تحريمِ القَتلِ بغيرِ حقٍّ؛ لقولِه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] الآية. وحديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "لا يحلُّ دَمُ امرئٍ مُسلِمٍ يَشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رسولُ اللهِ، إلَّا بإحدَى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتاركُ لدِينه المُفارِقُ للجماعَةِ". متفق عليه
(2)
.
(والقَتلُ ثَلاثَةُ أقسامٍ):
(أحدُها: العَمدُ العُدوانُ، ويختصُّ به القِصاصُ، أو الدِّيَةُ، فالوليُّ مُخيَّرٌ،
(1)
"إرشاد أولي النهى" ص (1251).
(2)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).
وعَفْوُه مجانًا أفْضَلُ.
وهُوَ: أنْ يَقْصِدَ الجَانِي مَن يَعْلَمَهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، فيَقْتُلُه بِمَا يَغلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُه بِهِ.
فلَوْ تَعَمَّدَ جَمَاعةٌ قَتْلَ وَاحِدٍ، قُتِلُوا جَمِيعًا، إنْ صَلُحَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ للقَتْلِ،
وعفوُهُ مجَّانًا أفضَلُ).
(وهُو) أي: القتل عَمدًا: (أن يَقصِدَ الجاني مَن يعلَمَهُ آدميًا مَعصُومًا، فيقتُلُهُ بما) أي: بشَيءٍ (يغلِبُ على الظنِّ موتُهُ به).
(فلو تعمَّدَ جماعَةٌ قتلَ واحدٍ، قُتِلُوا جميعًا، إن صَلُحَ فِعلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُم للقَتلِ) به، لو انفرَدَ؛ قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]؛ لأنَّه إذا عَلِمَ أنَّه متى قَتَلَ
(1)
قُتِلَ به، انكفَّ به
(2)
. فلو لم يُشَرَع القِصاصُ في الجماعَةِ بالواحِدِ لبَطلَت الحكمَةُ في مَشروعيَّةِ القِصاصِ.
ولإجماعِ الصحابَةِ، فروى سعيدُ بن المسيِّب: أنَّ عمرَ قتَلَ سبعَةً من أهلِ صنعَاءَ، قتَلُوا رجُلًا
(3)
. وعن عليٍّ وابنِ عباسٍ
(4)
مَعناه، ولم يُعرَف لهم في عصرِهم مُخالِفٌ، فكانَ كالإجماع. ولأنَّها عقوبَةٌ تجبُ للواحِدِ على الواحِدِ، فوجبَت على الجماعَةِ، كحدِّ القَذفِ.
(1)
سقطت: "قتل" من الأصل.
(2)
سقطت: (انكف) من الأصل.
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 871)، وعبد الرزاق (9/ 476).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 477، 479) عنهما.
وإنْ جَرَحَ وَاحِدٌ جُرْحًا وآخَرُ مِائةً، فسَوَاءٌ.
ومَنْ قَطَعَ أوْ بَطَّ سِلعَةً خَطِرَةً مِن مُكَلَّفٍ بِلا إذْنِه، أو مِن غَيرِ مُكَلَّفٍ بِلا
والفرقُ بينَ قتلِ الجماعَةِ والدِّيَةِ: أنَّ الدَّمَ لا يتبعَّضُ، بخلافِ الدِّيَةِ.
وإنْ لم
(1)
يَصلُح فِعلُ كُلِّ واحِدٍ مِن الجماعَةِ للقَتلِ، كما لو ضَرَبَه كُلُّ واحدٍ مِنهُم بحَجَرٍ صغيرٍ فماتَ، فلا قِصاصَ عَليهِم؛ لأنَّه لم
(2)
يحصُلُ مِن
(3)
واحِدٍ مِنهُم ما يُوجِبُ القَوَدَ، ما لم يتواطَؤوا على ذلكَ الفِعلِ؛ ليقتُلُوهُ به، فعلَيهِم القِصاصُ؛ لئلا يُتَّخَذَ ذريعَةً إلى دَرءِ القِصاصِ.
وإن عفَا عنهم الولِيُّ، سقَطَ القَوَدُ، ووجَبَت ديةٌ واحدَةٌ.
(وإن جرَحَ، واحِدٌ) شَخصًا (جُرحًا) وجَرَحَهُ (آخرُ ممائَةً) وماتَ، (فـ) ــهُما (سَواءٌ) في القِصاصِ والدِّيةِ.
وكذا لو أوضَحَهُ أحدُهُما، وشجَّهُ الآخَرُ آمَّةً
(4)
، أو جَرَحَهُ أحدُهما جائِفَةً، والآخرُ غَيرَ جائِفَةٍ.
ولا يَجبُ علَيهِم معَ عفوٍ عن قَوَدٍ أكثَرُ مِن ديَةٍ.
(ومَن قَطَعَ) سِلعَةً خَطِرَةً مِن آدميِّ مُكلَّفٍ بلا إذنِه، فماتَ.
(أو بَطَّ) أي: شَرَطَ (سِلعَةً) بكَسرِ السين. وهي: غُدَّةٌ تظهَرُ بينَ الجِلدِ واللَّحْمِ، إذا غُمِزَت باليَدِ تحرَّكَت (خَطِرَةً) ليخرجَ ما فيها مِن مادَّةٍ (مِن مُكلَّفٍ بلا إذنِه، أو مِن غيرِ مكلَّف) مِن صغيرٍ، أو مجنونٍ (بلا
(1)
في الأصل. "وإلا لم".
(2)
سقطت: "لم" من الأصل.
(3)
في الأصل: "بين".
(4)
في الأصل: "لهة".
إذْنِ وَلِيِّه، فمَاتَ، فعَلَيْهِ القَوَدُ.
الثانِي: شِبْهُ العَمْدِ.
وهُو: أنْ يَقْصِدَهُ بِجِنايَةٍ لا تَقْتُلُ غَالِبًا، ولَمْ يَجْرَحْه بِهَا، فإنْ جَرَحَه ولَوْ جُرْحًا صَغِيرًا، قُتِلَ بِهِ.
إذْنِ وليِّهِ، فماتَ، فعَلَيه القَوَدُ)؛ لتعدِّيه بجُرحِه بلا إذنِ وليِّه.
القِسمُ (الثاني: شِبهُ العَمدِ) ويُقالُ: خَطَأُ العَمدِ، وعمدُ الخَطَأ.
(وهو: أن يَقصدَه بجِنايَةٍ لا تَقتُلُ غالِبًا، ولم يَجرَحْهُ بها) أي: الجِنايَةِ، كمَن ضرَبَ شَخصًا بسَوطٍ، أو عَصَا، أو حَجَرٍ صَغيرٍ، أو يَلكِزَه بيَدِه، أو يُلقِيَه في ماءٍ قليلٍ، أو سحَرَه بما لا يَقتُلُ غالبًا، فمات، أو صاحَ بعاقِلٍ اغتَفَلَه، أو بصغيرٍ أو معتوهٍ على خوِ سطحٍ، فسمقَطَ فماتَ، أو ذهَبَ عقلُه ونحوُه.
ففيه الكفَّارَةُ في مالٍ جانٍ، لقولِه تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] والخَطأ موجودٌ في هذِه الصورِ؛ لأنَّه لم يقصِد قتلَه بفعلِه ذلِكَ.
وفيه الدِّيَةُ على عاقِلَتِه؛ لقولِه تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وحديثِ أبي هريرةَ: اقتتلَت امرأتَانِ من هُذيلٍ، فرَمَت إحداهُما الأخرَى بحجَرٍ فقتَلَتها وما في بطنِها، فقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ دِيَةَ جَنينِها عَبدٌ أو وليدَةٌ، وقضَى بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها. متفق عليه
(1)
.
فإن صاحَ بمكلَّفٍ لم يَغتَفِلْهُ، فلا شيءَ عليه، ماتَ أو ذهَبَ عقلُه.
(فإن جَرَحَه، ولو جُرْحًا صغيرًا، قُتِلَ به).
(1)
أخرجه البخاري (6910)، ومسلم (1681).
الثالِثُ: الخَطَأُ.
وهو: أنْ يَفْعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ مِن دَقٍّ، أوْ رَمْيِ صَيْدٍ ونَحْوِهِ، أوْ يَظُنُّهُ مُبَاحَ الدَّمِ، فيَبِينُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا.
فَفي القِسْمَيْنِ الأخِيريْنِ الكَفَّارَةُ علَى القاتِلِ، والدِّيَةُ علَى عاقِلَتِه.
ومَن قَالَ لإنْسَانٍ: اقتُلْنِي، أو: اجْرَحْني، فقتَلَه، أوْ جَرَحَه، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيءٌ، وكَذَا لَوْ دَفَعَ لغَيْرِ مُكَلَّفٍ آلَةَ قَتْلٍ وَلَمْ يَأمُرْهُ بِهِ.
القسم (الثالث: الخَطأ).
وهو: أن يَفعَلَ ما يجوزُ له فِعلُه) كقَطعِ لحمٍ، أو (مِن دَقٍّ، أو رَميِ صَيدٍ) فيَقتُلُ إنسانًا، ونحوَه كبهيمَةِ، ولو محترمَةً، فيُصيبُ آدميًا معصُومًا لم يَقصِدْهُ، (أو يظنُّهُ مُباحَ الدَّمِ) كحربيٍّ، ومرتَدِّ. (فيَبينُ) ما ظنَّه صَيدًا (آدميًا مَعصُومًا).
(ففِي القِسمَينِ الأَخِيرَينِ) وهو شِبهُ العَمدِ، والخَطأ:(الكفَّارَةُ على القَاتِلِ، والدِّيَةُ على عاقِلَتِه) كسائِرِ أنواعِ الخَطأ.
(ومَن قالَ لإِنسانٍ: اقتُلني) ففعَل، فهَدَرٌ. (أو) قالَ لهُ:(اجرَحْني. فقَتَلَه، أو جرَحَه، لم يَلزَمهُ شيءٌ) نصًا؛ لإذنِه في الجنايَةِ عليه، فسَقطَ حقُّه مِنها، كما لو أمرَه بإلقاءِ متاعِه في البَحرِ، ففعَلَ.
(وكذا لو دفَعَ لغَيرِ مُكلَّفٍ) كصَغيرٍ ومجنونٍ (آلَةَ قَتلٍ) كسَيفٍ وسكِّينٍ، (ولم يأمُرْه) الدَّافِعُ (به) أي: القَتلِ، فقتَلَ بالآلَةِ، لم يَلزَم الدَّافِعَ للآلَةِ شيءٌ؛ لأنَّه لم يأمُر بالقَتلِ، ولم يُباشِرْهُ. فإن أمرَهُ بالقَتلِ فقَتَل، قُتِلَ الآمِرُ.
* * *
بابُ شُرُوطِ القَصَاصِ في النَّفْسِ
وهِي أرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَما: تَكْلِيفُ القاتِلِ.
فلا قِصَاص عَلَى صَغِيرٍ ومَجْنونٍ، بَلْ الكفَّارَةُ في مالِهِمَا، والدِّيَة عَلَى عَاقِلَتِهِمَا.
الثانِي: عِصْمَةُ المَقْتُولِ.
(بابُ شُروطِ)، وجُوبِ (القِصاصِ في النَّفسِ)
أي: القَوَدِ (وهي أربعَةٌ) بالاستِقرَاءِ:
(أحدُهَا: تَكْليفُ القَاتِلِ) بأن يكونَ بالِغًا، عاقِلًا، قاصِدًا؛ لأنَّ القِصاصَ عُقوبَةٌ مُغلَّظَةٌ، فلا تجِبُ على غَيرِ مُكلَّفٍ، كصَغيرٍ ومجنونٍ ومَعتُوهٍ؛ لأنَّهم ليسَ لهم قَصدٌ صَحيحٌ، كقَاتِلٍ خَطأً.
وإن قال جَانٍ: كُنتُ حينَ الجنايَةِ صَغيرًا. وقال وَفي الجِنايَةِ: بل مُكلَّفًا. وأامَا بيِّنَتَينِ، تعَارَضَتَا. وتقدَّمَ أنَّ القولَ قَولُ الصَّغيرِ حيثُ أمكَنَ، ولا بيِّنَةَ.
(فلا قِصاصَ على صَغيرٍ ومجنُونٍ، بل الكفَّارَةُ في مالِهِمَا، والدِّيَةُ على عاقِلَتِهِما)؛ لأنَّ التكليفَ مِن شُروطِه، وهو مَعدومٌ، ولأنَّه لا قَصدَ لهم صَحيح.
(الثَّاني) مِن شُروطِ القِصَاصِ: (عِصمَةُ المقتُولِ).
فلا كَفَّارَةَ ولا دِيَةَ علَى قاتِلِ حَرْبِيٍّ، أوْ مُؤتَدٍّ، أوْ زَانٍ مُحْصَنٍ، ولَوْ أنَّه مِثْلُه.
الثَّالِثُ: المُكَافَأَةُ بأنْ لا يَفْضُلَ القاتِلُ المَقْتُولَ حالَ الجِنَايَةِ بالإسْلامِ، أو الحُرِّيَّةِ، أوْ المِلْكِ.
فلا يُقْتَلُ المُسْلِمُ ولَوْ عَبْدًا بِالكَافِرِ، ولَؤ حُرًّا، ولا الحُرُّ ولَوْ ذِمِّيًّا بالعَبْدِ ولَوْ مُسْلِمًا، ولا المُكَاتِبُ بعَبْدِه ولَوْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ.
(فلا كفَّارَةَ، ولا دِيَةَ على قاتِلِ حَربيٍّ) لأنَّه مُباحُ الدَّمِ على الإطلاقِ (أو مُرتدٍّ) قَبلَ تَوبَةٍ؛ لأنَّة مُباحُ الدَّمِ، أشبَهَ الحربيَّ، (أو) القاتلِ لـ (ــزانٍ
(1)
مُحصَنٍ)، ولو قَبلَ ثُبوتِه عندَ حاكِمٍ. فلا قَودَ ولا دِيَةَ على القاتِل (ولو أنَّه) أي: القاتِلَ: (مِثلُه) أي: المَقتُولِ في عَدَمِ العِصمَةِ؛ بأنْ قَتلَ حربيٌّ حَربيًا، أو مرتدٌّ
(2)
مُرتَّدًا، أو زَانٍ مُحصَنٍ زانيًا مُحصَنًا، وعَكسُه
(3)
.
(الثالِثُ) مِن شُروطِ القِصَاصِ: (المكافَأَةُ؛ بأنْ لا يَفضُلَ القاتِلُ المقتُولَ حالَ الجِنايَةِ) -لأنَّه وَقتُ انعِقادِ السَّبَبِ- (بالإِسلامِ، أو الحريَّةِ
(4)
، أو المِلكِ).
(فلا يُقتَلُ المسلِمُ ولو عَبدًا، بالكافِرِ ولو حُرًا، ولا الحُرُّ ولو ذميًّا، بالعَبد ولو مُسلِمًا، ولا المكَاتِبُ بعَبدِه) لأنَّه مالِكُ رَقَبَتِه، أشبَه الحُرَّ (ولو كانَ) عبدُ المكاتَبِ (ذا رَحِمٍ مَحرَمٍ له) لأنَّه مِلكُه، فلا يُقتَلُ بهِ كغَيرِه مِن عَبيدِه. ويُقتَلُ مكاتِبٌ بقِنّ غَيرِه.
(1)
في الأصل: "القاتل زان".
(2)
سقطت: "مرتدٌّ" من الأصل.
(3)
"دقائق أولي النهى"(6/ 26).
(4)
في الأصل: "الإسلام والحرية".
ويُقْتَلُ الحُرُّ المُسْلِمُ ولَوْ ذَكَرًا بالحُرِّ المُسْلِمِ ولَوْ أُنْثَى، والرَّقِيقُ كَذَلِكَ، وبمَنْ هُو أعْلَى مِنْهُ، والذِّمِّيُّ كَذلِكَ.
الرابِعُ: أنْ يَكونَ المَقْتُولُ لَيْسَ بوَلَدٍ للقاتِلِ.
فلا يُقْتَلُ الأَبُ وإنْ عَلا، ولا الأُمُّ وإن عَلَتْ بالوَلَدِ،
(ويُقتَلُ الحرُّ المسلِمُ ولو ذكَرًا، بالحُرِّ المسلِمِ ولو أُنثى، والرَّقيقُ كذلِكَ) فيُقتَلُ العَبدُ بالعَبدِ المسلِمِ، والذِّمِّيُّ بالذميِّ؛ لحصُولِ المُكافَأَةِ بَينَهُما.
(و) يُقْتَلُ العبدُ (بمَن هو أعلَى مِنهُ، والذمّيُّ كذلِكَ) أي: يُقتَلُ بمَن هو أعلَى منه.
(الرابِعُ) مِن شُروطِ القِصاصِ: (أن يَكونَ المقتولُ ليسَ بولَدٍ) وإن سَفَلَ (للقاتِلِ).
(فلا يُقتَلُ الأبُ وإن عَلا) كالجَدِّ (ولا الأم وإنْ عَلَتْ) كالجدَّةِ (بالوَلَد) ووَلَدِ البِنتِ وإن سَفَلا؛ لحديثِ عُمرَ وابنِ عبَّاسٍ مرفُوعًا: "لا يُقتَلُ والِدٌ بولَدِه". رواهُما ابنُ ماجَه
(1)
. وروى النسائيُّ
(2)
حديثَ عُمرَ. وقال ابنُ عبد البرّ: هو حديثٌ مشهورٌ عند أهلِ العلمِ بالحجازِ والعِراقِ، مُستفيضٌ عندَهُم
(3)
، يُستَغنى بشُهرَتِه وقَبولِه والعَملِ به عن الإسنَادِ، حتى يَكونَ الإسنادُ في مِثلِه مع شُهرَتِه تكلّفًا
(4)
.
ولأنَّهُ سببُ إيجادِه، فلا يَنبَغي أن يُسلَّط بِصَبَبِه على إعدَامِه.
(ولا ولَدِ الولَدِ وإن سَفَلَ).
(1)
أخرجه ابن ماجه (2661، 2662)، وصححه الألباني.
(2)
لم أقف عليه عند النَّسَائِيّ.
(3)
في الأصل: "عنهم".
(4)
"دقائق أولي النهى"(6/ 33).
ولا وَلَدِ الوَلَدِ وإنْ سَفَلَ.
ويُورَثُ القِصَاصُ علَى قَدْرِ المِيراثِ، فمَتَى وَرِثَ القاتِلُ أوْ وَلَدُه شَيْئًا مِن القَصَاصِ، فلا قِصَاصَ.
(ويُورَثُ القِصاصُ على قَدرِ الميراثِ، فمتَى وَرِثَ القاتِلُ) القِصَاصَ (أو ولدُهُ شيئًا مِن القِصَاصِ) وإن قَلَّ (فلا قِصَاصَ) لأنَّه لو لم يَسقُط لوجَبَ
(1)
للولَدِ على الوالِدِ، وهو ممنوعٌ.
* * *
(1)
في الأصل: "الوجوب".
بابُ شُرُوطِ اسْتِيفاءِ القِصَاصِ
وهِي ثَلاثَةٌ:
أحَدُهَا: تَكْلِيفُ المُسْتَحِقِّ.
فإنْ كانَ صَغِيرًا أو مَجْنُونًا، حُبِسَ الجانِي إلى تَكْلِيفِه، فإنِ احْتَاجَ لنَفَقَةٍ، فلِوَلِيِّ المَجْنُونِ فَقَطْ العَفْوُ إلَى الدِّيَّةِ.
الثاني: اتِّفاقُ المُسْتَحِقِّينَ عَلَى اسْتِيفَائِه.
(بابُ شُروطِ استيفَاءِ القِصَاصِ) في النَّفسِ وما دُونَها
(وهي
(1)
) أي: شُروطُ القِصاصِ (ثَلاثَةٌ):
(أحدُهَا) أي: الشُّروطِ: (تكليفُ المُستحقِّ
(2)
) لأنَّ غيرَ المكلَّفِ ليسَ أهلًا للاستيفَاءِ، ولا تَدخُلُ النيابَةُ فيه.
(فإن كانَ) المستحقُّ (صَغيرًا أو مجنونًا، حُبِسَ الجاني إلى تَكليفِه) أي: تَكليفِ المستحقِّ، أو إلى إفاقَةِ مجنونٍ يستحقُّهُ.
(فإن احتَاجَ) الصغيرُ والمجنونُ النفقَةٍ، فلِوليِّ المجنونِ فقَط) أي: لا وليَّ صَغيرٍ (العَفوُ إلى الدِّيَةِ) لأنَّ الجنُونَ لا حدَّ له ينتَهي إليه عادَةً، بخلافِ الصغيرِ.
الشرطُ (الثاني: اتِّفاقُ المستحقِّينَ) أي: المشتَركِينَ
(3)
في القِصاصِ (على استيفَائِه) فليسَ لبَعضِهم استيفَاؤُهُ بدُونِ إذنِ الباقِينَ؛ لأنَّه يَكونُ مُستَوفيًا لحقِّ غيرِه
(1)
في الأصل: "وهو".
(2)
في الأصل: "مُستحقٍّ".
(3)
في الأصل: "المشركين".
فلا يَنْفَرِدُ بِهِ بِعْضُهم، ويُنْتَظَرُ قُدُومُ الغائِبِ، وتَكْلِيفُ غَيْرِ المُكَلَّفِ.
ومَن ماتَ مِن المُسْتَحِقِّينَ، فوَارِثُه كَهُوَ. وإنْ عَفَا بَعْضُهُم -ولَوْ زَوْجًا أوْ زَوجَةً- أوْ أقَرَّ بعَفْوِ شَرِيكِه، سَقَطَ القِصَاصَ.
الثالِثُ: أنْ يؤمنَ في اسْتِيفائِهِ تَعَدِّيه إلَى الغَيْرِ.
بلا إذنِه، ولا وِلايَةَ له عليهِ، أشبَهَ الدَّينَ.
(فلا يَنفَرِدُ بهِ بعضُهم) أي: بعمق المستحقِّينَ، كما لا يَنفَرِدُ بعضُهم بالدِّيَةِ لو وجَبَت
(1)
.
(ويُنتَظَرُ قُدومُ الغائِبِ) أي: وارِثٍ غائِبٍ (وتَكليفُ غَيرِ المكلَّفِ) إذا كانَ وارِثٌ صَغيرًا، وإفاقَةُ وارثٍ مجنونٍ؛ لأنَّهم شَركاءُ في القِصاصِ.
(ومَن ماتَ من المستحقِّينَ، فوارِثُه) أي
(2)
: الميِّتِ (كهُوَ) لِقيامِهِ مَقامَهُ، لأنَّه حقٌّ للميِّتِ، فانتقَلَ إلى وارِثِه، كسائرِ حُقوقِه.
(وإن عفَا بعضُهُم) أي: مُستحقِّي القِصاصِ (ولو) كانَ العَافي (زَوجًا، أو زوجَةً، أو أقرَّ بعَفوِ شَريكِه، سقَطَ القِصاصُ) أي: القَوَدُ.
أمَّا السقُوطُ بعَفوِ البَعضِ، فلأنَّه لا يتبعَّضُ، وأَحدُ الزَّوجَينِ مِن جُملَةِ الورَثَةِ. وإذا أسقَطَ بعضُهم حقَّه، سرَى إلى الباقِي، كالعِتقِ.
الشَّرطُ (الثالِثُ) مِن شُروطِ استيفاءِ القِصاصِ: (أنْ يُؤمَنَ في استيفائِه) أي: القِصاصِ (تعدِّيه إلى الغَيرِ) أي: غيرِ الجاني.
(1)
"دقائق أولي النهى"(6/ 39)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 328).
(2)
سقطت: "أي" من الأصل.
فلَوْ لَزِمَ القِصَاصُ حَامِلًا، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ إنْ وُجِدَ مَن يُرْضِعُه قُتِلَتْ، وإلَّا فَلا، حتَّى تُرْضِعَه حَوْلَيْنِ.
(فلو لَزِم القِصاصُ حامِلًا، لم تُقتَل حتَّى تضَع) حملَها، وحتَّى تَسقِيَه اللِّبَأ
(1)
؛ لأنَّ تركَه يضُرُّ الولَدَ، وفي الغالِبِ لا يَعيشُ إلَّا بهِ. ولابنِ ماجَه
(2)
عن مُعاذِ بن جبَلٍ، وأبي عُبيدَةَ بنِ الجرَّاحِ، وعُبادَةَ بنِ الصامِتِ، وشدَّاد بنِ أوسٍ مرفوعًا: "إذا قَتَلَتِ المرأةُ عَمدًا، لم تُقتَل حتَّى تضَعَ ما في بطنِها إن كانَت حامِلًا
(3)
، وحتَّى تُكفِّلَ ولدَها".
(ثمَّ إن وُجِدَ مَن يُرضِعَهُ) أي: ولدَها بعدَ سَقيِها لهُ اللِّبأَ
(4)
، أُعطِيَ لمَن يُرضِعُهُ (قُتِلَت) أي: أُقيدَ مِنها؛ لقِيامِ غَيرِها مَقامَها في إرضاعِه وتَربيَتِه، فلا عُذرَ.
وفي "الإقناع"
(5)
: إن وَجَدَ مُرضِعَاتٍ غَيرَ رَواتِبَ، أو شاةً يُسقَى مِن لَبَنِها، جازَ قَتلُها. ويُستحبُّ لوليِّ المقتُولِ تأخيرُهُ إلى الفِطام.
(وإلَّا) يُوجَدُ مَن يُرضِعُه (فلا) يُقادُ مِنها (حتَّى تُرضِعَه حَولَينِ) ولأول إذا أُخِّرَ الاستيفَاءُ لحِفظِه وهو حَملٌ، فلأَن يُؤخَّرَ لحفظِه بعدَ وضعِه أولى.
وتُحدُّ حامِلٌ بجَلدٍ لقَذفٍ أو شُربٍ أو غَيرهِمَا بمجرَّدِ وضعِ حَملٍ. وفي "المغني": وسَقي اللِّبأ. وفي "المستوعب" وغَيرِه: ويَفرُغُ نِفاسُها
(6)
.
(1)
في الأصل: "اللبن".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2694). وضعفه الألباني في "الإرواء"(2225).
(3)
سقطت: "إن كانت حاملا" من الأصل.
(4)
في الأصل: "اللَّبن".
(5)
"الإقناع"(4/ 114).
(6)
"دقائق أولي النهى"(6/ 43).
فَصْلٌ
ويَحْرُمُ اسْتِيفاءُ القِصَاصِ بِلا حَضْرةِ سُلْطانٍ أوْ نَائِبِه، ويَقَعُ المَوْقِعَ.
ويَحْرُئم قَتْل الجانِي بغَيْرِ السَّيْفِ، وقَطْعُ طَرَفِه بغَيْرِ السِّكِّينِ؛ لئلَّا يَحِيفَ.
وإنْ بَطَشَ ولِيُّ المَقْتُولِ بالجَانِي فظَنَّ أنَّه قتَلَه، فلَمْ يَكُنْ، ودَاوَاه أهْلُه حتَّى بَرِئَ، فإنْ شَاءَ الوَلِيُّ دَفَعَ دِيَةَ فِعْلِهِ وقَتَلَة، وإلَّا تَرَكَه.
(فَصْلٌ)
(ويحرُمُ استيفَاءُ القِصاصِ بلا حَضرَةِ سُلطانٍ
(1)
، أو نائِبِه) لافتقَارِه إلى اجتِهادٍ (ويَقعُ) فِعلُه (الموقِعَ) لأنَّه استَوفَى حقَّه.
(ويحرُمُ قَتلُ الجاني بغَيرِ السَّيفِ) لحديث: "لا قَوَدَ إلَّا بالسَّيفِ". رواه ابن ماجه
(2)
. ولحديث: "إذا قتلتُم فأحسِنُوا القِتلَةَ"
(3)
.
(و) يحرُمُ (قَطعُ طَرَفِه بغَيرِ السِّكيِّنِ؛ لئلَّا يَحيفَ) في الاستيفَاءِ.
(وإن بَطَشَ ولِيُّ المقتُولِ بالجَاني فظنَّ أنَّه قتَلَه، فلَم يَكُن، ودَاوَاهُ) أي: الجاني (أهلُه حتَّى بَرِئَ، فإن شاءَ الولِيُّ دفَعَ ديةَ فِعلِه) الذي فَعَله به (وقَتَلَه، وإلَّا
(4)
) يَدفَع إليهِ دِيةَ فِعلِه (ترَكَه) فلا يتعرَّضُ لهُ.
(1)
في الأصل: "السّلطانِ".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2667) من حديث النعمان بن بشير، و (2668) من حديث أبي بكرة. وضعفه الألباني في "الإرواء"(2229).
(3)
أخرجه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس.
(4)
تكررت: "وإلا" في الأصل.
بَابُ شُرُوطِ القِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفسِ
مَنْ أخذَ بغَيْرِه في النَّفْسِ، أُخِذَ به فِيمَا دُونَهَا، ومَن لا فلا.
(بابُ شُروطِ القِصاصِ فيما دُونَ النَّفسِ) مِن جِراحٍ أو أطرَافٍ
(1)
(مَن أُخِذَ بغَيرِه في النَّفسِ، أُخِذَ به فيمَا دُونَها) لقَوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. ولحديثِ أنَسِ بنِ النَّضْرِ، وفيه:"كِتابُ اللهِ القِصاصُ". رواهُ البخاريُّ وغَيرُه
(2)
.
ولأنَّ حُرمَةَ النَّفسِ أقوَى مِن حُرمَةِ الطَّرَفِ، بدليلِ وجُوبِ الكفَّارَةِ في النَّفسِ دُونَ الطَّرَفِ، وإذا جرَى القِصاصُ في النَّفسِ معَ تأكُّدِ حُرمَتِها، فجريانُه في الطَّرَفِ أولى، لكِن بالشروطِ المتقدِّمَة.
(ومَن لا) يُؤخذُ بغَيرِه في نَفسٍ
(3)
، فلا يُؤخَذُ به فيمَا دُونَها، كالأبوَينِ معَ ولَدِهِما، والحُرِّ معَ العَبدِ، والمُسلِمِ معَ الكافِرِ، فلا يُقتَصُّ لهُ في طَرَفٍ ولا جِرَاحٍ؛ لعدَمِ المكافَأَةِ. وكذا قاطِعُ حربيٍّ، أو مُرتَدٍّ، أو زانٍ مُحصَنٍ، فلا قَطعَ عليه، ولو أنَّه مِثلُه.
ويُقطَعُ حُرٌّ مُسلِمٌ أو ذِمِيٌّ وعَبدٌ بمثلِه، وذكرٌ بأُنثَى وخُنثَى، وعَكسُه، وناقِصٌ بكامِلٍ، كالعَبدِ بالحرِّ، والكافِرِ بالمسلِم.
(1)
في الأصل: "طرف".
(2)
أخرجه البخاري (2703)، ومسلم (1675).
(3)
في الأصل: "النفس".
وشُرُوطُه أرْبَعَة:
أَحَدُهَما: العَمْدُ العُدْوانُ، فلا قَصِاصَ في غَيْرِهِ.
الثَّالي: إمْكَانُ الاسْتِيفاءِ بِلا حَيْفٍ، بأنْ يَكونَ القَطْعُ مِن مَفصِلٍ، أوْ يَنْتَهِي إلَى حدٍّ، كمارنِ الأنْفِ، وهُو مَا لانَ مِنْهُ.
فلا قَصِاصَ في جَائِفَةٍ، ولا في قَطْعِ القَصَبةِ، أوْ قَطْعِ بَعْضِ سَاعِدٍ أوْ عَضُدٍ أو سَاقٍ، أو وَرِكٍ.
(وشُروطُه) أي: القِصاصِ فيما دُونَ النَّفسِ (أربعَة):
(أحدُهَا: العَمدُ العُدوانُ، فلا قِصاصَ في غَيرِه) كالخَطأ، إجماعًا؛ لأنَّه لا يوجِب القِصاصَ في النَّفسِ، وهي الأَصلُ، ففِيمَا دُونَها أولى، ولا في شِبهِ العَمدِ، خلافًا لأبي بكرٍ، وابنِ أبي مُوسى.
الشرطُ (الثاني: إمكانُ الاستِيفَاءِ) أي: استيفَاءِ القِصَاصِ فيما دُونَ النَّفسِ (بلا حَيفٍ؛ بأن يَكونَ القَطعُ مِن مَفصِلٍ، أو يَنتَهي إلى حَدٍّ، كمارِنِ الأَنفِ، وهو ما لانَ مِنه)، أي: الأنفِ، دُونَ القَصَبَةِ.
(فلا قِصَاصَ في جائِفَةٍ) أي: جُزحٍ واصِل إلى باطِنِ الجَوفِ.
(ولا) قِصاصَ في (قَطعِ القَصَبَةِ) أي: قصبَةِ أنفٍ (أو قَطعِ بَعضِ ساعِدٍ، أو) قَطعِ بَعضِ (عَضُدٍ، أو) قَطعِ بَعضٍ (سَاقٍ، أو) قَطعِ بَعضِ (وَرْكٍ) لأنَّه لا يُمكِنُ الاستيفاءُ مِنها بلا حَيفٍ، بل ربَّما أخِذَ أكثرُ مِن الفَائِتِ، أو يَسرِي إلى غضوٍ آخرَ، أو إلى النَّفسِ، فيُمنَعُ مِنهُ.
(1)
انظر "دقائق أولي النهى"(6/ 59).
فإنْ خَالَفَ فاقْتَصَّ بقَدْرِ حَقِّهِ ولَمْ يسر، وَقَعَ المَوْقِعَ، ولَمْ يَلْزَمْه شَيءٌ.
الثالِثُ: المَسَاواةُ في الاسْمِ، فلا تُقْطَعُ اليَدُ بالرِّجْلِ، وعَكْسُه، وفي المَوضِعِ: فلا تُقْطَعُ اليَمِينُ بالشِّمَالِ، وعَكْسُه.
الرابِعُ: مُراعَاةُ الصِّحَّةِ والكَمَالِ.
فلا تُؤخَذُ كامِلَةُ الأصابِعِ والأظفارِ بنَاقِصَتِهَا،
وإن قَطَعَ يدَهُ مِن الكُوعِ، فتآكَلَت إلى نِصفِ الذِّراعِ، فلا قَوَدَ؛ اعتبارًا بالاستِقرَارِ. قاله القاضي وغيرُه. وقدَّمه في "الرعايتين"، وصحَّحه الناظِمُ، وجزمَ به في "الإقناع"
(1)
.
(فإن خالَفَ فاقتصَّ بقَدرِ حقِّهِ ولم يَسرِ، وقَعَ الموقِعَ، ولم يَلزَمْهُ شيءٌ) لاستيفائِهِ حقَّه بلا حَيفٍ.
الشرطُ (الثالِثُ: المساوَاةُ في الاسمِ) كالعَينِ بالعَينِ، والأنفِ بالأَنْفِ، والأُذُنِ بالأُذُنِ، والسنِّ بالسنِّ؛ للآية. (فلا تُقطَعُ اليدُ بالرِّجلِ، وعَكسُه) فلا تُقطَعُ الرِّجلُ باليَدِ.
(و) المساواةُ (في الموضِعِ). (فلا تُقطَعُ اليَمينُ بالشِّمَالِ، وعَكسُه) أي
(2)
: الشِّمالُ باليَمينِ.
الشرطُ (الرابِعُ: مُراعَاةُ الصحَّةِ والكَمالِ).
(فلا تؤخَذُ) يَدٌ أو رِجْلٌ (كامِلَةُ الأصابعِ والأظفَارِ، بناقِصَتِها) رَضِي الجاني بذلِكَ أوْ لا.
(1)
في الأصل: "لا".
(2)
في الأصل: "وكموضحة".
ولا عَيْنٌ صَحِيحَةٌ بقَائِمَةٍ، ولا لِسَانٌ نَاطِقٌ بأخْرَسَ، ولا صَحِيحٌ بأَشَلَّ، مِن يدٍ ورِجْلٍ وأُصْبُعٍ وذكرٍ، ولا ذَكَرُ فَحْلٍ بِذَكَرِ خَصِيٍّ، ويُؤخَذُ مَارِنٌ صَحِيحٌ بِمَارِنٍ أشَلَّ، وأُذُنٌ صَحِيحةٌ بأُذُنٍ شَلَّاءَ.
(ولا عَينٌ صَحيحَةٌ بقائِمَةٍ. ولا) يؤخَذُ (لِسان ناطِقٌ بأخرَسَ. ولا) يُؤخَذُ (صَحيحٌ بأَشلَّ، مِن يَدٍ ورِجلٍ وأُصبُعٍ وذَكَرِ).
(ولا) يُؤخَذُ (ذَكَرُ فَحْلٍ بذَكرِ خَصيٍّ) أَو ذَكرِ عِنِّينٍ؛ لأنَّه لا مَنفعَةَ فِيهِما.
(ويُؤخَذُ مارِنٌ صحيحٌ بمارِنٍ أشلَّ) لأنَّ العلَّةَ في الدِّماغِ، والأنفُ صحيحٌ.
(و) يُؤخَذُ (أُذُنٌ صحيحةٌ بأُذُنٍ شلَّاءَ) لأنَّ العُضوَ صحيحٌ، ومقصودُهُ الجَمالُ لا السَّمعُ، وذهابُ السمعِ لنَقصٍ في الرَّأسِ؛ لأنَّه محلُّه، وليصرَ بنَقصٍ في الأُذُنِ.
* * *
فَصْلٌ
ويُشْتَرطُ لِجَوازِ القِصَاصِ في الجُرُوحِ انْتِهَاؤُهَا إلَى عَظْمٍ، كَجَرحِ العَضُدِ والسَّاعِدِ والفَخِذِ والسَّاقِ والقَدَمِ، وكالمُوضِحَةِ، والهَاشِمَةِ، والمنقِّلةِ، والمَأْمُومةِ.
وسِرَايَةُ القِصَاصِ هَدَرٌ، وسِرَاية الجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ،
(فَصلٌ)
(ويُشتَرَطُ لجَوازِ القِصاصِ في الجُروحِ انتِهاؤُها إلى عَظمٍ، كجَرحِ العَضُدِ، والسَّاعِدِ، والفَخِذِ، والسَّاقِ، والقَدَمِ، وكالمُوضِحَةِ
(1)
) في رأسٍ ووَجهٍ (والهاشِمَةِ، والمُنَقِّلَةِ، والمأمُومَةِ).
(وسِرَايَةُ القِصاصِ، هَدَرٌ) أي: غَيرُ مَضمُونَةٍ؛ لقولِ عمرَ وعليٍّ: مَن ماتَ مِن حَدٍّ أو قِصاصٍ، لا دِيَةَ له، الحقُّ قَتلَهُ. رواهُ سعيدٌ
(2)
بمعناه. ولأنَّه قَطْعٌ بحقٍّ، فكمَا أنَّه غيرُ مَضمُونٍ، فكذَا سِرَايَتُه، كقَطعِ السَّارِقِ.
(وسِرايَةُ الجِنايَةِ مَضمُونَةِ) في النَّفسِ فما دُونها، فلو قَطَعَ إصبَعًا، فتآكَلَت أُخرَى، أو اليَدُ، وسقَطَت مِن مَفصِلٍ، فالقَوَدُ فيما سقَطَت، وفيما شُلَّ الأَرشُ؛ لعدَمِ إمكانِ القِصاصِ في الشَّلَلِ. وإن سَرَت في النَّفسِ، فالقَوَدُ
(3)
أو الدِّيَةُ
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (2934) عن عمر. وأخرجه عبد الرزاق (18004 - 18006)، والبيهقي (8/ 68) عن عمر وعلي.
(2)
في الأصل: "في القود".
(3)
"دقائق أولي النهى"(6/ 72)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 341).
مَا لَمْ يَقْتَصَّ رَبُّهَا قَبْلَ بُرْئِه فهَدَرٌ أيضًا.
كامِلَةٌ
(1)
(ما لم يَقتَصَّ ربُّهَا قَبلَ بُرئِهِ، فهَدَرٌ أيضًا) لما روَى عَمرو بنُ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رجُلًا طعَنَ رجُلًا بقَرنٍ في رُكبَتِه، فجاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: أقِدني، فقالَ:"حتى تَبرَأَ". ثم جاءَ إليه، فقالَ: أَقِدني. فأقادَهُ، ثمَّ جاءَ إليهِ فقال: يا رسولَ اللهِ، عَرِجْتُ. فقالَ:"قد نَهيتُكَ فعَصَيتَني، فأبعدَكَ اللهُ، وبَطَلَ عَرَجُكَ". ثم نهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَصَّ مِن جُرحٍ حتى يَبرَأَ صاحِبُه. رواهُ أحمدُ، والدَّارَقُطني
(2)
. ولأنَّه باقتِصَاصِه قَبلَ الاندِمَالِ رَضِيَ بِتَركِ ما يَزيدُ عَليهِ بالسِّرايَةِ، فبَطَلَ حقُّهُ مِنهُ.
(1)
أحمدُ (11/ 606)(7034)، والدُّارَقُطني (3/ 88). وصححه الألباني في "الإرواء"(2237).
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (4853)، ومالك (2/ 849).
كِتابُ الدِّيَاتِ
مَنْ أتْلَفَ إنْسَانًا، أوْ جُزْءًا مِنْهُ، بِمُباشَرَةٍ أو سَبَبٍ، إنْ كَانَ عَمْدًا، فالدِّيَةُ فِي مَالِهِ،
(كِتابُ الدِّيَاتِ)
جمعُ دِيَةٍ، وهي مصدرٌ، مُخفَّفَةٌ، وأصلُهَا: وَدْيٌ، والهاءُ بدَلٌ مِن الوَاوِ، كالعِدَةِ مِن الوَعْدِ، والزِّنَةِ مِن الوَزنِ، يُقالُ: وَدَيتُ القَتيلَ أديهِ دِيَةً: إذا أعطَيتَ دَيَتَه.
وشَرعًا: المالُ المؤدَّى إلى مَجنيٍّ عَليهِ، أو وَليِّهِ بسَببِ جِنايَةٍ.
وأجمعُوا على وجوبِ الدِّيَةِ في الجملَةِ؛ لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]. وحديثِ النَّسائيِّ، ومالكٍ في "الموطأ"
(1)
: أنَّه عليه السلام كتَبَ إلى عَمرِو بنِ حَزمٍ كِتابًا إلى أهلِ اليَمَنِ، فيه الفَرائِضُ، والسُّنَنُ، والدِّياتُ. وقال فيه:"وفي النَّفسِ مائةٌ مِن الإبِلِ". قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: وهو كِتابٌ مَشهورٌ عندَ أهلِ السِّيَرِ، وهو مَعروفٌ عندَ أهلِ العِلمِ معرفةً يُستَغني بها
(2)
عن الإسنادِ؛ لأنَّه أشبَهَ المتواتِرَ في مَجيئِهِ في أحاديثَ كثيرَةٍ
(3)
.
(مَن أتلَفَ إنسَانًا) مُسلِمًا أو ذِميًّا، ذكَرًا أو أُنثى، (أو) أتلَفَ (جُزءًا مِنهُ، بمُبَاشَرَةٍ) لإتلافِه، (أو سَبَبٍ) كشَهادَةٍ عليه، أو إكراهٍ على قَتلِه، أو حَفرِ بِئرٍ تَعدِّيًا
(4)
(إن كانَ عَمدًا، فالدِّيَةُ في مالِهِ) أي: الجَاني.
(1)
(2)
سقطت: "بها" من الأصل.
(3)
"دقائق أولي النهى"(6/ 75).
(4)
في الأصل: "متعديا".
وإنْ كَانَ غيرَ عَمْدٍ، فعَلَى عاقِلَتِه.
ومَن حفَرَ -تَعَدِّيًّا- بِئْرًا قَصِيرةً، فعَمَّقَهَا آخَرُ، فضَمَانُ تَالِفٍ بَيْنَهُمَا، وإِنْ وَضَعَ ثالِثٌ سِكِّينًا، فأَثْلاثًا.
وإنْ وَضَعَ وَاحِدٌ حَجَرًا -تَعَدِّيًّا-
(وإن كانَ غَيرَ عَمدٍ) أي: غَيرَ العَمدِ، وهو الخَطأُ وشِبهُ العَمدِ، (فعَلَى عاقِلَتِه) مُؤجَّلَةً ثلاثَ سِنين، كما سيأتي، لحديث أبي هريرةَ: اقتَتَلَت امرأتَانِ مِن هُذيلٍ، فرَمَت إحداهُما الأُخرَى بحَجَرٍ، فقَتَلَتهَا وما في بطنِها، فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بديَةِ المرأَةِ على عاقِلَتها. متفق عليه
(1)
.
والحِكمَةُ في ذلِك: أنَّ جِنايَاتِ الخَطأ تَكثُرُ، ودِيةُ الآدميِّ كثيرَةٌ، فإيجابُها على الجاني في مالِه يُجحِفُ به، فاقتَضَت الحِكمَةُ إيجابَها على العاقِلَةِ على سبيلِ المواساةِ للقاتِلِ، والإعانَةِ له
(2)
تخفيفًا؛ لأنَّه مَعذورٌ
(3)
.
(ومَن حفَرَ -تَعدِّيًا- بِئرًا) كفِي طَريقٍ ضيِّقٍ (قَصيرَةً) وكانَت ذِراعًا. (فعمَّقَها آخَرُ) تَعدِّيًا، (فضمانُ تالِفٍ) بسُقوطِهِ فيها (بَينَهُما) لحصُولِ السَّببِ منهُما. (وإن وضَعَ ثالِث سِكِّينًا) أو نحوَها، فوقَعَ فيها شخصٌ على السِّكِّين فماتَ، (فـ) ــعلَى عواقِلِ الثلاثةِ الدِّيَةُ (أثلاثًا) نصًا؛ لأنَّهم تسبَّبُوا في قَتلِه.
(وإن وضَعَ واحِدٌ حَجَرًا) أو نحوه
(4)
ككيسٍ فيه دَراهِمُ (تَعدِّيًا) أي: الحافِرُ
(1)
أخرجه البخاري (6910)، ومسلم (1681).
(2)
سقطت: "له" من الأصل.
(3)
في الأصل: "مغرور" وانظر "كشاف القناع"(13/ 329).
(4)
سقطت: "نحوه" من الأصل.
فعَثَرَ فِيهِ إنْسَانٌ، فوَقَعَ في البِئْرِ، فالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الحَجَرِ، كَالدَّافِعِ.
وإِنْ تَجَاذَبَ حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ حَبْلًا، فانْقَطَعَ، فَسَقَطَا مَيِّتَيْنِ، فعَلَى عاقِلَةِ كلٍّ دِيَةُ الآخَرِ، وإنْ اصْطَدَمَا فَكَذَلكَ.
ومَنْ أرْكَبَ صَغِيريْنِ لا وِلايَةَ لَهُ علَى واحِدٍ مِنْهُمَا، فاصْطَدَمَا فماتَا، فَدِيَّتُهُمَا مِن مَالِه.
وَمَنْ أرْسَلَ صَغِيرًا لِحَاجَةٍ، فأَتْلَفَ
وواضِعُ الحَجَرِ (فعثَرَ فيه إنسانٌ، فوقَعَ في البئرِ، فالضَّمانُ على واضِعِ الحَجَرِ) ونحوِه دُونَ الحافِرِ؛ لأنَّ الحجَرَ أو نحوَه (كالدَّافِعِ) ولأنَّ الحافِرَ لم يَقصِد بذلِكَ القَتلَ لمُعيَّنٍ
(1)
عادَةً، بخلافِ المكرَه.
(وإن تجاذَبَ حُرَّانِ مُكلَّفَانِ حَبلًا) أو نحوَه كثَوبٍ، (فانقَطَعَ) الحبلُ ونحوُهُ (فسَقَطَا مَيِّتَينِ، فعَلَى عاقِلَةِ كُلٍّ) مِنهُمَا (دِيَةُ الآخَرِ) سواءٌ انكبَّا، أو استَلقَيا، أو انكبَّ أحدُهما واستَلقَى
(2)
الآخرُ، لتَسبُّبِ كُلِّ مِنهُما في قَتلِ الآخَرِ.
(وإن اصطَدَمَا فكذلِكَ) على عاقِلَةِ كُلِّ مِنهما دِيةُ الآخَرِ.
(ومَن أركَبَ صَغيرَينِ لا وِلايَةَ لهُ على واحِدٍ مِنهُما، فاصطَدَما، فمَاتَا، فدِيَتُهُما) وما تَلِفَ لهما
(3)
(مِن مالِه) أي: المُركِبِ لَهُما، لتعدِّيه بذلِكَ، فهو سببٌ للقتل.
(ومَن أرسَلَ صَغيرًا لحاجَةٍ) ولا ولايَةَ لهُ عليه (فأتلَفَ) الصغيرُ في إرسالِه
(1)
في الأصل: "المعين" وانظر: "دقائق أولي النهى"(6/ 78).
(2)
في الأصل: "أو استلقى".
(3)
سقطت: "لهما" من الأصل. وانظر "دقائق أولي النهى"(6/ 83).
نَفْسًا أوْ مَالًا، فالضَّمَانُ عَلَى مُرْسِلِهِ.
ومَنْ أَلْقَى حَجَرًا، أوْ عِدْلًا مَمْلُوءًا بسَفِينةٍ، فغَرِقَتْ، ضَمِنَ جَمِيعَ مَا فِيهَا. ومَن اضطُرَّ، إلَى طَعَامِ غَيْرِ مُضطَرٍّ، أوْ شَرَابِهِ، فَمَنَعَه حتَّى مَاتَ، أو أَخَذَ طَعَامَ غَيْرِه أوْ شَرَابَه وهُوَ عَاجِزٌ، أوْ أَخَذَ دَابَّتَه، أوْ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِن سَبُعٍ ونَحْوِهِ، فأهْلَكَه، ضَمِنَه.
(نَفسًا أو مالًا، فالضَّمانُ على مُرسِلِه).
(ومَن ألقَى حَجَرًا، أو عِدلًا مملُوءًا بسَفينَةٍ، فغَرِقَت) السفينةُ بذلكَ (ضَمِنَ جميعَ ما فِيهَا) لحصُولِ التَّلَفِ بسَببِ فِعلِه، كما لو خَرَقَها.
(ومَن اضطُرَّ إلى طَعامِ غَيرِ مُضطرٍّ، أو) إلى (شَرابِه، فمَنَعَهُ) ربُّهُ (حتَّى ماتَ) المضطَرّ، ضمِنَهُ ربُّ الطعامِ والشرابِ. نصًا.
(أو أخَذَ طعامَ غَيرِه، أو) أخذَ (شَرابَهُ) أي: الغَيرِ (وهو) أي: المأخوذُ طعامُهُ، أو شَرابُهُ (عاجِزٌ) عن دَفعِه (أو أخَذَ دابَّتَه، أو) أخذَ مِنه (ما يَدفَعُ به عن نَفسِه) صائِلًا عليه (مِن سَبُعِ ونَحوِه
(1)
) كنَمِرٍ وحيَّةٍ (فأهلَكَهُ) الصائِلُ عليه (ضَمِنَهُ) الآخِذُ، لصَيرُورَتِه سَبَبًا لهلاكِه.
قال في "المغني": وظاهِرُ كلامِ أحمدَ: أنَّ الدِّيةَ في مالِهِ؛ لأنَّه تعمَّدَ هذا الفِعلَ الذي يَقتُلُ مِثلُه غالبًا.
وقال القاضِي: تكونُ على عاقِلَتِه؛ لأنَّه لا يُوجِبُ قصَاصًا، فهو شِبهُ عَمدٍ
(2)
.
(1)
في الأصل: "أو نحوه".
(2)
"دقائق أولي النهى"(6/ 89).
وإنْ مَاتَتْ حَامِلٌ أوْ حَمْلُهَا مِن رِيحِ طَعَامٍ، ضَمِنَ رَبُّهُ، إنْ عَلِمَ ذلكَ مِن عَادَتِهَا.
(وإن ماتَت حامِل، أو حَملُهَا مِن رِيحِ طَعامٍ) ونحوِه ككِبرِيتٍ وعَظمٍ (ضَمِنَ ربُّهُ، إن عَلِمَ ذلِكَ) أي: أنَّها تموتُ أو يموتُ حملُها
(1)
مِن رِيحِ ذلِكَ (مِن عادَتِها) أي: بحَسَبِ العَادَةِ. وأنَّ الحامِلَ هُناكَ، لتسبُّبِه فيه، وإلَّا فلا إثمَ، ولا ضمانَ
(2)
.
* * *
(1)
سقطت: (حملها) من الأصل.
(2)
"دقائق أولي النهى"(6/ 92).
فَصْلٌ
وإنْ تَلِفَ وَاقِعٌ علَى نَائِمٍ غَيْرِ مُتَعَدٍّ بِنَوْمِهِ، فهَدَرٌ، وإنْ تَلِفَ النائِمُ، فغَيْرُ هَدَرٍ. وإنْ سَلَّمَ بَالِغٌ عَاقِلٌ نَفْسَهُ أوْ وَلَدَه إلَى سابِحٍ حَاذِقٍ لِيُعَلِّمَه، فغَرِقَ، أوْ أَمَرَ مُكَلَّفًا يَنْزِلُ بِئْرًا، أو يَصعَدُ شَجَرةً، فهَلَكَ، أوْ تَلِفَ أَجِيرٌ لِحَفْرِ بِئْرٍ، أو بِناءِ حَائِطٍ بِهَدْمٍ ونَحْوِهِ، أو أمْكَنَه إنْجَاءُ نَفْسٍ مِنْ هَلَكَةٍ، فلَمْ يَفْعَلْ، أوْ أدَّبَ وَلَدَه، أو زَوْجَتَهُ في نُشُوزٍ، أو أدَّبَ سُلْطَانٌ رَعِيَّتَه، ولَمْ يُسْرِفْ، فهَدَرٌ في الجَمِيعِ
(فَصْلٌ)
(إن تَلِفَ واقِعٌ على نائِمٍ غَيرِ مُتعَدٍّ بنَومِه، فهَدَرٌ)
أي: فلا ضَمانَ.
(وإن تَلِفَ النائِمُ، فغَيرُ هَدَرٍ) أي: فَعليهِ الضمانُ.
(وإن سَلَّمَ بالِغ عاقِلٌ نفسَهُ، أو) سلَّمَ (ولدَهُ إلى سابِحِ حاذِقٍ، ليُعلِّمَه) السِّباحَةَ، (فغَرِقَ) لم يَضمَنْهُ المعلِّمُ، حيثُ لم يُفرِّط، لفِعلِهَ ما أُذِنَ فيه.
(أو أمَرَ مُكلَّفًا) أو غيرَ مُكلَّفٍ (يَنزِلُ بِئرًا، أو يَصعَدُ شجَرَةً، فهلَكَ) به، أي: نُزولِ البِئرِ، أو صُعودِ الشَّجَرَةِ، لم يَضمَنْه.
(أو تَلِفَ أَجيرٌ لحَفرِ بِئرٍ، أو بِناءِ حائِطٍ بهَدْمٍ ونحوِه، أو أمكَنَهُ إنجاءُ نَفسٍ مِن هلَكَةٍ، فلم يَفعَل، أو أدَّبَ ولدَه، أو) أدَّبَ (زوجَتَهُ في نُشُوزٍ، أو أدَّبَ سُلطَانٌ رعيَّتَه، ولم يُسرِف) أي: يَزِدْ على الضَّربِ المعتَادِ فِيهِ، لا في عَدَدٍ ولا شِدَّةٍ، فتَلِفَ المؤدَّبُ بذَلِكَ (فهَدَرٌ في الجميعِ) لفِعلِه ما لَهُ فِعلُهُ شَرعًا بلا تَعدٍّ، أشبَهَ سِرَايَةَ
وإنْ أسْرَفَ، أوْ زَادَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ المَقْصُودُ، أوْ ضَرَبَ مَن لا عَقْلَ لَهُ مِن صَبِيٍّ، أوْ غَيْرِهِ، ضَمِنَ.
ومَنْ نَامَ عَلَى سَقْفٍ فَهَوَى بِهِ، لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ.
القَوَدِ والحَدِّ.
(وإنْ أسرَفَ) المؤدِّبُ (أو زَادَ على ما يحصُلُ بهِ المقصُودُ) فتَلِفَ بسبَبِه، ضَمِنَه، لتعدِّيه بالإسرَافِ.
(أو ضَرَبَ مَن لا عَقْلَ لهُ مِن صَبيٍّ) لم يُميِّز (أو غَيرِه) مِن مجنُونٍ ومَعتُوهٍ، فتَلِفَ، (ضَمِنَ) لأنَّ الشرعَ لم يأذَن في تَأدِيبِ مَن لا عَقلَ لَهُ؛ لأنَّه لا فائِدَةَ في تأدِيبِه.
(ومَن نامَ على سَقفٍ، فهوَى به) أي: سَقَطَ (لم يَضمَن ما تَلِفَ بسُقُوطِه) لأنَّه ليسَ مِن فِعلِه، بخلافِ مُكثِه وانتِقالِه، لتَلَفِه بِسَبَبِه.
* * *
فَصْلٌ فِي مَقَادِيرِ دِياتِ النَّفْسِ
دِيَةُ الحُرِّ المُسْلِمِ -طِفْلًا كَانَ أوْ كَبِيرًا- مِائةُ بَعِيرٍ، أوْ مِائتَا بَقَرةٍ، أوْ ألفَا شَاةٍ، أوْ ألْفُ مِثْقالِ ذَهَبٍ، أو اثَنَا عشرَ ألْفَ دِرْهَمِ فِضَّةٍ.
ودِيَةُ الحُرَّةِ المُسْلِمَةِ علَى النِّصْفِ مِن ذَلِكَ.
ودِيَةُ الكِتَابِيِّ الحُرِّ كَدِيَةِ الحُرَّةِ المُسْلِمَةِ،
(فَصلٌ في مَقادِيرِ دِياتِ النَّفسِ)
المقَادِيرُ: جمعُ مِقدَار، وهو مَبلغ الشيءِ، وقَدرُهُ.
(دِيَةُ الحُرِّ المُسلِمِ -طِفلًا كان أو كبيرًا- مائةُ بَعيرٍ، أو مائتَا بقَرَةٍ، أو ألفَا شَاةٍ، أو ألفُ مِثقَالِ ذَهَبِ، أو اثنَا عَشَرَ ألفَ دِرهَمِ فِضَّةٍ) قال القاضي: لا يختَلِفُ المذهَبُ أنَّ أصُولَ الدِّيَةِ: الإبلُ، والذَّهَبُ، والوَرِقُ، والبَقرُ، والغَنَمُ.
فهذِهِ الخمسَةُ أُصولُ الدِّيَةِ، فإذا أحضَرَ مَن عَليهِ دِيَةٌ أحدَها، لَزِمَ
(1)
وَليَّ جِنايَةٍ قَبولُه، سَواءٌ كانَ مِن أهلِ ذلِكَ النَّوعِ، أو لم يَكن، لإجزَاءِ كُلٍّ مِنها
(2)
، فالخِيَرَةُ إلى مَن وَجَبَت عليه، كخِصَالِ الكفَّارَةِ
(3)
.
(ودِيةُ الحرَّةِ المسلِمَةِ على النِّصفِ مِن ذلِكَ).
(ودِيَةُ الكتابيِّ) سَواءٌ كانَ ذِميًّا أو مُستَأمَنًا أو مُعاهَدًا، يَهوديًا أو نَصرانيًا، ومَن تديَّنَ بالتَّورَاةِ والإنجيلِ (الحُرِّ كَدِيَةِ الحُرَّةِ المسلِمَةِ) وهي نِصفُ دِيَةِ الحُرِّ
(1)
في الأصل: "ألزم".
(2)
في الأصل: "منهما".
(3)
"دقائق أولي النهى"(6/ 94).
ودِيَةُ الكِتابِيَّةِ عَلَى النِّصْفِ.
ودِيَةُ المَجُوسِيِّ الحُرِّ ثَمانمائِةِ دِرْهَمٍ، والمَجُوسيَّةِ عَلَى النِّصْفِ.
ويستوي الذَّكَرُ والأُنْثَى فِيمَا يوجِبُ دونَ ثُلثِ الدِّيَةِ،
المسلِم؛ لحَديثِ عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مَرفُوعًا:"دَيَةُ المعاهَدِ نِصف دِيَةِ المسلِم"
(1)
. وفي لفظٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قضَى بأنَّ عَقْلَ أهلِ الكِتابِ نِصفُ عَقلِ المسلِمين". رواه أحمد
(2)
.
(ودِيَةُ الكتابيَّةِ على النِّصفِ) مِن دِيَةِ الكتابيِّ الحُرِّ.
(ودِيَةُ المجوسيِّ الحُرِّ) ذِميِّ، أو مُعاهَدٍ، أو مُستَأمَنٍ (ثمانُمائةِ دِرهَمٍ. والمجوسيَّةِ على النِّصفِ) وهو أربعُمائةِ دِرهمٍ.
(ويَستَوي الذَّكرُ والأُنثَى فيما يُوجِبُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ) لحديثِ عَمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مرفوعًا:"عَقْلُ المرأةِ مِثلُ عَقلِ الرَّجُلِ حتَّى يَبلُغَ الثلُثَ مِن دِيَتِها ". رواهُ النسائيُّ
(3)
.
وقال ربيعَةُ: قُلتُ لسعيدِ بنِ المسيّبِ: كَم في إصبَعِ المرأةِ؟ قال: عَشرٌ. قلتُ: ففي إصبَعَين؟ قال: عِشرون. قُلت: ففِي ثلاثِ أصابِعَ؟ قال: ثلاثُون. قُلتُ: ففِي أربَعٍ؟ قال: عِشرُون. قال: فقُلتُ: لمَّا عَظُمَت مُصيبتُها قَلَّ عَقلُها؟. قال: هكَذا السّنَّةُ يابنَ أخِي. رواهُ سعيدٌ في "سننه"
(4)
. ولأنَّهُما يَستَويانِ في الجَنينِ، فكذلِكَ باقِي ما دُونَ الثُّلُث.
(1)
أخرجه أبو داود (4583)، وحسنه الألباني.
(2)
أخرجه أحمد 11/ 326 (6716). وحسنه الألباني في الإرواء (2251).
(3)
أخرجه النَّسَائِيّ (4805)، وضعفه الألباني.
(4)
لم أقف عليه في "سننه". وأخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 860).
فلَوْ قَطَعَ ثَلاثَ أَصابِعَ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، لَزِمَه تَلاثونَ بَعِيرًا، فلَوْ قَطَعَ رابِعَةً قَبْلَ بُرْءٍ، رُدَّتْ إلَى عِشْرينَ.
وتُغَلَّظُ دِيَةُ قَتْلِ الخَطَأِ في كُلٍّ مِن حَرَمِ مَكَّةَ، وإحْرَامٍ، وشَهْرٍ حَرَامٍ، بالثُّلُثِ، فمَعَ اجْتِمَاعِ الثَّلاثَةِ، يَجِبُ دِيَتَانِ.
وأمَّا ما يُوجِبُ الثُّلثَ فما فَوقَ، فهي فِيهِ على النصفِ مِن الذَّكر، لقَوله في الحديث:"حتَّى يبلُغَ الثُّلثَ" و"حتى" للغَايَةِ، فيجِبُ أن يكونَ ما بعدَها مُخالِفًا لما قَبلَها، ولأنَّ الثلُثَ في حدِّ الكَثرَةِ، لحديث:"والثُّلُثُ كَثيرٌ"
(1)
. ولذلِكَ حمَلَته العاقِلَةُ. وسَواءٌ في ذلِكَ المسلِمَةُ والكِتابيَّةُ والمجوسيَّةُ وغيرُهُما. وإليه أشارَ بقَوله: (فلو قَطَعَ ثلاثَ أصاجَ حُرَّةٍ مُسلِمَةٍ، لَزِمَهُ ثلاثونَ بَعيرًا، فلو قطَعَ رابِعَةً قبلَ بُرءٍ، رُدَّت إلى عِشرين).
(وتُغلَّظُ دِيةُ قتلِ الخَطأ) وقَعَ (في كُلٍّ مِن حَرَمِ مكَّةَ، وإحرَامِ، وشَهرٍ حرَامٍ، بالثُّلُثِ) من الدِّيةِ. نصًا. وهو مِن المفرَدَاتِ، لما رَوَى ابنُ أبيَ نَجيحٍ أنّ امرأةً وُطِئَت في الطَّوافِ، فقضَى عُثمانُ فيها بستَّةِ آلافٍ، وألفَينِ تَغليظًا للحَرَمِ
(2)
. وعن ابنِ عبَّاسٍ في رجُلٍ قُتِلَ في الشَّهرِ الحرامِ، وفي البلَدِ الحرامِ: دِيَتُه: اثنا عشرَ ألفًا، وللشَّهرِ الحرامِ: أربَعةَ آلافٍ، وللبَلدِ الحرَامِ: أربعةَ آلافٍ
(3)
. وهذا في مَظِنَّةِ الشُّهرَةِ، ولم يُنكَر (فمَعَ اجتِماعِ الثلاثَةِ، يجِبُ دِيَتَان).
(1)
أخرجه البخاري (2742)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 298) عن بن أبي نجيح عن أبيه قال: أوطأ رجلٌ امرأةً فرَسًا في الموسمِ، فكسَرَ ضِلعًا من أضلاعِها، فماتَت، فقَضى عثمانُ فيها بثمانيةِ آلافِ دِرهمٍ؛ لأنها كانت في الحرَمِ.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 421).
وإنْ قَتَلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا عَمْدًا، أُضعِفَتْ دِيَتُهُ.
وَدِيَةُ الرَّقِيقِ قِيمَتهُ، قُلَّتُ أوْ كَثُرَتْ.
قال في "الشرح": وظاهِرُ كلامِ الخرقيِّ: أنَّ الدِّيةَ لا تُغلَّظُ بشَيءٍ من ذلِكَ، وهو ظاهِرُ الآيةِ والأخبارِ.
وعُلِمَ منه: أنَّه لا تَغليظَ
(1)
في القَتلِ عَمدًا، ولا في قَطعِ طَرَفٍ. ولعلَّ المرادَ بالخَطَأ هُنا: ما يَعمُّ شِبهَ العَمدِ
(2)
.
(وإن قَتلَ مُسلِمٌ كَافِرًا عَمْدًا) -لا خَطأً ونحوَه- ذميًّا أو مُعاهَدًا، (أُضعِفَت دِيَتُه) أي: الكافِرِ على المُسلِمِ؛ لإزالَةِ القَوَدِ. قضَى به عُثمانُ رضى الله تعالى عنه. رواهُ عنه أحمدُ
(3)
.
فظاهِرُه: لا أضعَافَ في جِرَاحَةٍ. وفي "الوجيز": يُضعَّفُ. ولم يتعرَّض له في "الإنصاف"
(4)
.
(ودِيةُ الرَّقيقِ) ذَكَرًا أو أُنثَى أو خُنثَى، صَغيرًا أو كبيرًا، ولو مُدبَّرًا، أو أُمَّ ولَدٍ، أو مُكاتَبًا (قِيمَتُه
(5)
) عَمدًا كانَ القَتلُ أو خَطأً، مِن حُرٍّ أو غَيرِه (قَلَّتْ، أو كَثُرَت) ولو كانَت قِيمَتُه فوقَ دِيَةِ الحُرِّ؛ لأنَّه ماذ مُتقوَّمٌ، فضمِنَ بكَمالِ قِيمَتِه. وضَمانُ الحُرِّ ليسَ بضَمانِ مالٍ، ولذلِكَ لم يختَلِف باختِلافِ صِفاتِه التي تَزيدُ بها قِيمَتُه لو كانَ قنًا، وإنَّما يُضمَن بما قدَّرَه الشَّرعُ. وضَمانُ القِنِّ ضَمانُ مالٍ، يزيدُ بزيادَةِ
(1)
في الأصل: "لا تغلظ".
(2)
"دقائق أولي النهى"(6/ 99، 100).
(3)
لم أقف عليه عند أحمد. وأخرجه عبد الرزاق (10/ 96).
(4)
"دقائق أولي النهى"(6/ 100).
(5)
في الأصل: "بقيمته".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الماليَّةِ، وينقُصُ بنُقصَانِها.
وفي جِراحَةِ القِنِّ، إن قُدِّرَ مِن حُرٍّ، بِقِسطِهِ مِن قِيمَتِه، ففِي لِسانِه قِيمَتُه كاملَةً، وفي يدِه نِصفُها، وفي مُوضِحَتِه نِصفُ عُشرِ قِيمَتِه، سواءٌ نقَصَ بجنايته أقَلُّ أو أكثَرُ مِنه، وإلَّا يَكُن فيه مُقدَّرٌ مِن الحُرِّ، كالعُصْعُصِ، وخَرَزَةِ الصُّلْبِ، فعلَى جَانٍ ما نقَصَه بجِنايَيه بعدَ بُرئِها؛ لأنَّ الأرشَ جَبرٌ لما فاتَهُ بالجِنايَةِ، وقد انجَبَرَ بذلك، فلا يُزادُ عليه، كغَيرِه من الحيوانَاتِ.
وفي مُنصَّفٍ
(1)
، أي: مَن نِصفُهُ حرٌّ، ونِصفُهُ رقيقٌ، إذا قُتِلَ، نِصفُ دِيَةِ حُرٍّ، ونِصفُ قِيمَتِه، وكذَا جِراحُهُ مِن طرَفٍ وغَيرِه.
(1)
في الأصل: "نصف".
فَصْلٌ
ومَنْ جَنَى عَلَى حَامِلٍ فأَلْقَتْ جَنِينًا حُرًّا مُسْلِمًا، ذَكَرًا كَانَ أوْ أُنْثَى، فَدِيَتُهُ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ، وهِي خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ.
والغُرَّةُ: هِي عَبدٌ أَوْ أَمَةٌ
(فَصلٌ)
(ومَن جَنى على حامِلِ، فألقَت جَنينًا) والجَنينُ: الولَدُ الذي
(1)
في البَطنِ. مِن الإجنَان، وهو السَّتْرُ؛ لأنَّهَ أجنَّهُ بَطنُ أُمِّه، أي: سَتَرَه، قال تعالى:{وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32](حُرًّا مُسلِمًا، ذكَرًا أو أُنثَى، فدِيَتُهُ غُرَّةٌ قِيمَتُها) أي: الغُرَّةِ (عُشرُ ديَةِ أُمِّه).
(وهي) أي: الغُرَّةُ: (خمسٌ مِن الإبِلِ) وذلِكَ نِصف عُشرِ الدِّيةِ، رُوِيَ ذلك عن عمرَ وزَيدٍ؛ ولأنَّه أقلّ ما قدَّرَه الشَّرعُ في الجِنايَةِ.
(والغُرَّةُ: هي
(2)
عبدٌ أو أمَةٌ) بدَلٌ مِن "غُرَّة"، وأصلُها: الخِيارُ. سُمِّيَ بها العَبدُ والأمَةُ؛ لأنَّها مِن أنفَسِ الأموَالِ.
ووَجهُ وجُوبِ الغُرَّةِ في الجَنين: حديثُ أبي هريرةَ قال: اقتَتَلَت امرأتانِ مِن هُذيلٍ، فرَمت إحداهُما الأخرى بحجَرٍ، فقتَلَتْها، وما في بَطنِها، فاختَصمُوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَضَى: أنَّ دِيةَ جَنينِها عبدٌ أو أمَةٌ، وقضَى بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، ووَرِثَها ولدُها ومَن مَعَهُ. متفق عليه
(3)
.
(1)
سقطت: "الذي" من الأصل.
(2)
سقطت: "هي" من الأصل.
(3)
تقدم تخريجه (3/ 468).
وتَتَعَدَّدُ الغُرَّةُ بتَعدُّدِ الجَنينِ.
ودِيَة الجَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ.
وَدِيَةُ الجَنِينِ المَحْكُومِ بكُفْرِه غُرَّةٌ قِيمتهَا عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ.
وإِنْ ألْقَتِ الْجَنِينَ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِه، وفوَ نِصْفُ سَنَةٍ فَصَاعِدًا، ففِيهِ مَا في الحَيِّ، فإنْ كانَ حرًّا، ففِيهِ دِيَةٌ كامِلَةٌ، وإنْ كَانَ رَقِيقًا، فقَيمَتُه.
وَإنْ اخْتَلَفَا في خُرُوجِه حَيًّا أوْ مَيِّتًا، فقَوْلُ الجَانِي.
(وتَتعدَّدُ الغُرَّةُ بتَعدُّدِ الجَنينِ).
(ودِيَةُ الجَنينِ الرَّقيقِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه) نَقدًا (ودِيَةُ الجَنينِ المحكُومِ بكُفرِه غُرَّة قِيمَتُها عُشرُ دِيةِ أُمِّه) قياسًا على جَنينِ الحرَّةِ المسلمَةِ.
(وإن ألقَت الجنينَ حيًّا لوَقتٍ يَعيشُ لمثلِه، وهو نِصفُ سَنَةٍ فصاعِدًا، ففِيهِ ما في الحيِّ، فإن كانَ حُرًا، ففِيهِ دِيةٌ كاملةٌ، وإن كانَ رقيقًا، فقِيمَتُه).
(وإن اختَلَفَا) أي: الجاني ووَارِثُ الجَنينِ (في خُرُوجِه) أي: الجَنينِ (حيًّا أو ميِّتًا) بأنْ قالَ الجاني: سقَطَ مَيِّتًا، ففِيه الغُرَّةُ. وقال الوَارِثُ: بل حيًا ثمَّ ماتَ. ففِيهِ الدِّيةُ. ولا بَيِّنَةَ لواحِدٍ مِنهُما (فقَولُ الجاني) بيَمِينِه؛ لأنَّه مُنكِرٌ لما زادَ على الغُرَّةِ، والأصلُ براءَتُه مِنهُ. وإن أقامَا بيِّنتَينِ بذلِكَ، قُدِّمَت بيِّنَةُ الأُمِّ.
وإن ثَبَتَت حياتُه، وقالَت: لوَقتٍ يَعيشُ لمثلِه
(1)
، وأنكَرَ جانٍ، فقولُها.
وإن ادَّعَت امرأةٌ على آخَرَ أنَّه ضرَبَها، فألقَت جنينَها، فأنكَرَ الضَّربَ، فقَولُهُ بيَمينِه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُه.
(1)
أي: وقالَت أمه: ولدْتُهُ لوَقتٍ يَعيشُ لمثلِه.
ويَجِبُ في جَنِينِ الدَّابَّةِ ما نقَصَ مِن قِيمَةِ أُمِّهِ.
وإن أقرَّ بالضَّربِ، أو قامَت به بيِّنَةٌ وأنكَرَ أن تكونَ أسقَطَت، فقولُه بيَمينِه: أنَّه لا يَعلَمُ أنَّها أسقَطَت، لا
(1)
على البَتِّ؛ لأنَّها
(2)
على فِعلِ الغَيرِ.
وإن ثَبَتَ الإسقاطُ والضَّربُ، وادَّعَى إسقاطَها مِن غَيرِ الضَّربِ، فإن كانَت أسقَطَت عَقِبَ الضَّربِ؛ فقولُها بيَمينِها؛ إحالَةً للحُكمِ على ما يَصلُحُ أن يكونَ سبَبًا له.
وكذا لو أسقَطَت بعدَ أيَّامٍ، وكانَت مُتألِّمَةً إلى الإسقَاطِ، وإلَّا فقَولُه بيَمينِه.
(ويجبُ في جَنينِ الدَّابَّةِ ما نَقَصَ مِن قِيمَة أُمِّه) نصًا، كقَطعِ بعضِ أجزائِها. قال في "القواعد": وقِياسُهُ: جنينُ الصَّيدِ في الحرمِ والإحرام
(3)
.
* * *
(1)
في الأصل: "إلا".
(2)
أي: اليمين.
(3)
"دقائق أولي النهى"(6/ 107).
فَصْلٌ في دِيَةِ الأعْضَاءِ
مَن أتْلَفَ مَا في الإنْسَانِ مِنْهُ وَاحِدٌ، كالأنْفِ، واللِّسَانِ، والذَّكَرِ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
ومَن أتْلَفَ مَا في الإنسانِ مِنْة شَيْئَانِ، كَاليَدَيْنِ، والرِّجْلَيْنِ، والعَيْنَيْنِ، والأذُنَينِ، والحاجِبَيْنِ، والثَّدْيَينِ، والخِصْيَتَيْنِ، ففِيهِ الدِّيَة، وفي أحَدِهِمَا نِصْفُهَا.
وفي الأجْفَانِ الأرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وفي أحَدِهَا رُبْعُهَا.
(فَصْلٌ في دِيَةِ الأعضَاءِ)
(مَن أتلَفَ ما في الإنسَانِ مِنهُ) شَيءٌ (واحِدٌ، كالأَنفِ) ولو مِن أخشَمٍ، أو معَ عِوَجِه (واللِّسانِ، والذَّكَرِ) ولو لصَغيرٍ أو شيخٍ فانٍ (ففِيهِ دِيَةٌ كاملةٌ) لحديث عمرِو بنِ حزمٍ مرفوعًا: "وفي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وفي الأَنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ، وفي اللِّسانِ الدِّيةُ". رواهُ أحمدُ، والنسائي
(1)
، ولفظُه له. ولأنَّ في إتلافِه إذهَابَ مَنفَعَةِ الجِنسِ.
(ومَن أتلَفَ ما في الإنسانِ مِنهُ شَيئانِ، كاليَدَين، والرِّجلَينِ، والعَينينِ، والأذنَينِ، والحاجِبَينِ، والثَّديَينِ، والخِصيَتَينِ، ففيهِ الدِّيةُ) كاملَةً (وفي أحدِهِما نِصفُها) أي: نِصفُ الدِّيةِ.
(وفي الأجفَانِ الأربعَةِ الدِّيةُ، وفي أحَدِها) أي: الأجفَانِ (رُبْعُها) أي: رُبعُ الدِّيَةِ.
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ (4853). وضعفه الألباني في "الإرواء"(2267)، ولم أجده في المسند.
وفي أصابِعِ اليَدَيْنِ الدِّيَةُ، وفي أحدِهَا عُشْرُهَا: وفي الأنْملةِ إنْ كانَتْ مِن إبْهَامٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وإنْ كانَتْ مِن غَيْرِه، فثُلُثُ عُشْرِهَا وَكَذَا أصابِعُ الرِّجْلَيْنِ.
(وفي أصابعِ اليَدَينِ) والرِّجلَينِ (الدِّيَةُ) كاملَةً (وفي أحَدِها) أي: أحَدِ الأصابع (عُشرُهَا) أي: عُشرُ الدِّيَةِ.
(وفي الأُنمُلَةِ) ولو معَ ظُفرٍ (إن كانَت مِن إبهام) يَدٍ أو رِجلٍ (نِصفُ عُشرِ الدِّيةِ) لأنَّ في الإبهامِ مَفصِلَين
(1)
، ففِي كُلِّ مَفصِلٍ نِصفُ عَقلِ الإبهامِ.
(وإن كانَت مِن غَيرِه) أي: الإبهامِ (فثُلُثُ عُشرِهَا) أي: الدِّيَةِ؛ لأنَّ فيه
(2)
ثلاثَةَ مَفاصِلَ، فتُوزَّعُ دِيتُه علَيها.
(وكذا أصابعُ الرِّجلَينِ): الدِّيَةُ. وفي إصبَعٍ عُشرُ الدِّيَةِ، لحديثِ الترمذيِّ
(3)
، وصحَّحه، عن ابنِ عباس مرفوعًا: "دِيةُ
(4)
أصابعِ اليَدَينِ والرِّجلَين: عَشرٌ مِن الإبِلِ لِكُلِّ إصبَعٍ". وفي البخاريِّ
(5)
عنه مَرفوعًا، قال:"هذِه وهذِهِ سَواءٌ". يعني: الخِنصَرَ والإبهَامَ.
وفي ظُفُرٍ لم يَعُد، أو عادَ أسوَدَ، خُمُسُ ديةِ إصبَعٍ. نصًا، روي عن ابنِ عباسٍ
(6)
. ذكَرَه ابنُ المنذِرِ، ولم يُعرَف له مخالِفٌ مِن الصحابَةِ.
(1)
في الأصل: "الفصلين".
(2)
سقطت: "فيه" من الأصل.
(3)
أخرجه الترمذي (1391)، وصححه الألباني.
(4)
سقطت: "دية" من الأصل.
(5)
أخرجه البخاري (6895).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 393).
وفي السِّنِّ خَمْسٌ مِن الإبِلِ، وفي إذْهَابِ نَفْعِ عُضْوٍ مِن الأعْضَاءِ دِيَتُه كامِلَةً.
(وفي السنِّ خَمْسٌ مِن الإبِلِ) روي عن عمرَ وابنِ عباسٍ. وفي حديثِ عمرِو بنِ حَزمٍ مرفوعًا: "وفي السنِّ خمسٌ مِن الإبِلِ". رواهُ النسائيُّ
(1)
. وعن عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه مرفوعًا: "في الأسنَانِ
(2)
خمسٌ خَمسٌ". رواه أبو داود
(3)
.
وهو عامٌّ، فيدخُلُ فيه النَّابُ والضِّرسُ، ويؤيِّدُه حديثُ ابنِ عباسٍ مرفوعًا:"الأصابِعُ سَواءٌ، والأسنَانُ سَواءٌ، والثَّنيَّةُ والضِّرسُ سَواءٌ، هذِه وهذِه سَواءٌ". رواه أبو داود
(4)
.
ففي جميعِ الأسنَانِ مائةٌ وسِتُّونَ بَعيرًا؛ لأنَّها
(5)
اثنَانِ وثلاثُونَ، أربَعُ ثَنايَا، وأربَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وأربَعَةُ أنيَابٍ، وعِشرُونَ ضِرسًا، في كُلِّ جانِبٍ عشَرَةٌ، خمسةٌ مِن فَوقَ، وخمسةٌ من تَحتَ.
(وفي إذهَابِ نَفعِ عُضوٍ مِن الأعضَاءِ دِيَتُهُ كامِلَةً) لصَيرُورَتِه كالمعدُومِ، كما لو قطَعَه، كشَلَلٍ مِن يَدٍ، أو رجلٍ، وإصبَعٍ وذَكَرٍ، ولِسانٍ.
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ (4853). وصححه الألباني في "الإرواء"(2275)، وانظر الصحيحة (1997).
(2)
في الأصل: "السنن".
(3)
أخرجه أبو داود (4563) قال الألباني: حسن صحيح.
(4)
أخرجه أبو داود (4559)، وصححه الألباني.
(5)
في الأصل: "لأنهما".
فَصْلٌ في دِيَةِ المَنَافِعِ
تَجِب الدِّيَة كامِلَةً في إذْهَابِ كُلِّ مِن سَمْعٍ، وبَصَرٍ، وشَمِّ، وذَوْقٍ، وكَلامٍ، وعَقْلٍ، وحدبٍ، ومَنْفَعَةِ مَشْيٍ، ونِكَاحٍ، وأكْلٍ، وصَوْتٍ، وبَطْشٍ.
وإنْ أفْزَعَ إنْسانًا، أوْ ضَرَبَه، فأحْدَثَ بغَائِطٍ أوْ بَوْلٍ أو رِيحٍ،
(فَصْلٌ في دِيَةِ المنافِعِ)
مِن سَمعٍ، وبَصَرٍ، وشَمٍّ، ومَشي، ونِكاحٍ، وغيرِ ذلك.
(تجِبُ الدِّيةُ كامِلةً في إذهَابِ كُلٍّ مِن سمعِ، وبَصرٍ، وشَمٍّ، وذَوقٍ، وكلامٍ، وعَقلٍ، وحَدبِ، ومَنفَعَةِ مشيٍ
(1)
، ونِكاحٍ، وأَكلٍ، وصَوتٍ، وبَطشٍ) لحديث:"في السمع الدَية"
(2)
. ولقَضاءِ عُمرَ رضي الله عنه في رجُلٍ ضرَبَ رَجُلًا، فذهَبَ سمعُهُ وبصرُه ونِكاحُهُ وعَقلُه، بأربَعِ دِيَاتٍ، والرَّجُلُ حَيٌّ
(3)
.
وفي ذَهابِ بَعضِ ذلِك إذا عُلِمَ بِقَدرِه، فَفِي بعضِ الكلامِ بِحِسَابِه، ويُقسَمُ على ثمانِيَةٍ وعِشرينَ حَرفًا. وإن لم يُعلَم قَدرُ الذَّاهِبِ، فحُكُومَةٌ
(4)
.
(وإن
(5)
أفزَعَ إنسانًا، أو ضَرَبَه، فأحدَثَ بغائِطٍ أو بَولٍ أو رِيحٍ) لأنَّ كُلَّا
(1)
سقطت: "مشى" من الأصل.
(2)
أخرجه البيهقي (8/ 86) من حديث معاذ بن جبل. وضعفه الألباني في "الإرواء"(2278).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (18183)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(2279).
(4)
"الروض المربع"(7/ 263).
(5)
في الأصل: "وإذا".
ولم يَدُمْ، فعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وإنْ دَامَ، فعَلَيْهِ الدِّيَةُ.
وإنْ جَنَى عَلَئه، فأذْهَبَ سَمْعَه، وبَصَرَه، وعَقْلَه، وشَمَّه، وذَوْقَه، وكَلامَه، ونِكَاحَهُ، فعَلَيْه سَبْعُ دِيَاتٍ، وأرْشُ تِك الجِنَايَةِ، وإنْ مَاتَ مِن الجِنَايَةِ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
مِنهُما مَنفَعَةٌ كبيرةٌ ليسَ في البدَنِ مِثلُها، أشبَهَ السَّمعَ والبَصرَ (ولم يَدُمْ، فعَليهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وإن دَامَ، فعَليهِ الدِّيَةُ) كاملَةً.
(وإنْ جَنَى عليهِ، فأذهَبَ سمعَه، وبصَرَه، وعقلَهُ، وشمَّه، وذَوقَهُ. و) تجبُ كامِلَةً في إذهَابِ (كلامِهِ. و) تجِبُ كامِلَةً في مَنفَعَةِ (نِكاحِه) كأَنْ كَسَرَ صُلبَه، فذهَبَ نِكاحُه (فعَليه سَبعُ دِياتٍ) كامِلَةً (وأَرْشُ تِلكَ الجنايَةِ).
(وإن ماتَ مِن الجِنايَةِ، فعَليهِ دِيَةٌ واحِدَةٌ) كامِلَةً.
* * *
فَصْلٌ في دِيَةِ
الشَّجَّةِ
والجَائِفَةِ
الشَّجَّةُ: اسْمٌ لِجُرْحِ الرَّأْسِ والوَجْهِ.
وهِيَ خَمْسَةٌ:
أَحَدُهَما: المُوضِحَةُ: الَّتِي تُوضِحُ العَظْمَ وتُبْرِزُهُ، وفَيهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ؛ خَمْسَة أبْعِرَةٍ،
(فَصلٌ في دِيَةِ الشَّجَّةِ والجَائِفَةِ)
أي: بَيانُ ما يجِبُ فيهما. وأصلُ الشَّجِّ: القَطعُ، ومنهُ: شَجَجتُ المفازَةَ
(1)
، أي: قَطَعتُها.
(الشَّجَّةُ) واحِدَةُ الشِّجَاجِ: (اسمٌ لجُرحِ الرَّأسِ والوَجهِ) فقَط. سمِّيَت بذلِكَ، لقَطعِها الجِلدَ. وفي غَيرِهما يُسمَّى: جُرْحًا لا شجَّةً.
(وهي) أي: الشجَّةُ باعتبارِ أسمائِها المنقُولَةِ عن العَرَبِ (خمسَةٌ) بالاستِقرَاءِ:
(أحدُهَا: المُوضِحَةُ: التي تُوضِحُ العَظمَ وتُبرِزُهُ) ولو بقَدرِ رأسِ إبرَةٍ. فلا يُشتَرطُ وضُوحُه للنَّاظِرِ. والوَضَحُ: البياضُ. سمِّيَت بذلِك؛ لأنَّها أبدَت بياضَ العَظمِ.
(وفِيها نِصفُ عُشرِ الدِّيَةِ) أي: دِيَةِ الحُرِّ المسلِمِ (خمسَةُ أبعِرَةٍ) لما في حديثِ عَمرِو بنِ حزمٍ: "وفي الموضِحَةِ خمسٌ مِن الإبِلِ"
(2)
. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه مرفوعًا:"في المواضِحِ خمسٌ خمسٌ". رواهُ
(1)
في الأصل: "المسافة".
(2)
أخرجه النَّسَائِيّ (8543). وصححه الألباني في "الإرواء"(2284).
فإنْ كَانَ بَعْضُهَا في الرَّأْسِ وبَعْضُهَا في الوَجْهِ، فمُوضِحَتَانِ.
الثالي: الهاشِمَةُ: الَّتي تُوضِحُ العَظْمَ وتَهْشُمُه، وفِيهَا عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ.
الثَّالِثُ: المُنَقِّلَة: الَّتي تُوضِحُ وتَهشُمُ وتَنْقُلُ العَظْمَ، وفِيهَا خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا.
الخمسةُ
(1)
. وسواءٌ كانَت في الرَّأسِ أو الوَجهِ؛ لعُمُومِ الأحادِيثِ. ورُوي عن أبي بكرٍ وعُمرَ
(2)
.
(فإن كانَ بعضُها في الرَّأسِ، وبعضُها في الوَجهِ، فمُوضِحَتَانِ) لأنَّه أوضَحَه في عُضوَينِ، فلِكُلٍّ حُكمُ نَفسِه.
(الثاني: الهاشِمَةُ) وهي: (التي تُوضِحُ العَظمَ) أي: تُبرِزُه (وتَهشُمُه) أي: تَكسُرُه.
(وفيها عَشَرةُ أبعِرَةٍ) رُوي ذلكَ عن زَيدِ بنِ ثابِتٍ
(3)
. ومِثلُ ذلكَ لا يُقالُ بالرَّأي، فيكونُ تَوقيفًا.
(الثالِثُ: المُنَقِّلَةُ: التي تُوضِحُ) العظم (وتهشُمُ) العَظمَ (وتَنقُلُ العَظمَ) بتَكسيرِهَا.
(وفيها خمسَةَ عَشَرَ بَعيرًا) ياجماعِ اُهلِ العلمِ، حكاه ابنُ المنذر
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 386)(6772)، وأبو داود (4566)، والترمذي (1310)، والنسائي (4852)، وابن ماجه (2655) قال الألباني: حسن صحيح.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 353).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 307).
(4)
انظر "كشاف القناع"(13/ 432).
الرَّابِعُ: المَأْمُومَةُ: الَّتي تَصِلُ إلَى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ، وفَيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ.
الخَامِسُ: الدَّامِغَةُ: الَّتي تَخْرِقُ الجِلْدَةَ، وفِيهَا الثُّلُثُ أيضًا.
(الرابعُ: المأمُومَةُ) وتُسمَّى الَامَّةَ، بالمدِّ. قال ابنُ عبدِ البرِّ: أهلُ العراقِ يقولونَ لها: الآمَّةُ. وأهلُ الحجازِ: المأمُومَةُ.
وهي: (التي تَصِلُ إلى جِلدَةِ الدِّماغِ) ويُقالُ لها: أُمُّ الدِّمَاغِ. قال النَّضرُ بنُ إسماعيلَ: أُمُّ الرَّأسِ: الخَريطَةُ التي فِيهَا الدِّماغُ، سمِّيَت بذلِكَ؛ لأنَّها تَحوطُ الدِّماغَ وتجمَعُه
(1)
.
(وفيها ثُلُثُ الدِّيَةِ) لقولِه صلى الله عليه وسلم في كِتابِ عَمرِو بنِ حَزمٍ: "في المأمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ"
(2)
. وعن ابنِ عُمرَ
(3)
مَرفُوعًا مِثلُ ذلِكَ.
(الخامِسُ: الدَّامِغَةُ) وهي: (التي تَخرِقُ الجِلدَةَ).
(وفيها الثُّلُثُ) أي: ثُلُثُ الدِّيَةِ (أيضًا) لأنَّها أبلَغُ مِن المأمُومَةِ، ولا يَسلَمُ صاحِبَها في الغَالِبِ.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(13/ 432).
(2)
تقدم تخريجه (3/ 504).
(3)
لم أقف عليه عن ابن عمر. وأخرجه أبو داود (4564) عن ابن عمرو. وحسنه الألباني. وانظر "الإرواء"(2290).
فَصْلٌ
وفي الجائِفَةِ: ثُلُثُ الدِّيَةِ، وهِي: كُلُّ مَا يَصِلُ إلَى الجَوْفِ، كبَطْنٍ، وظَهْرٍ، وصَدْرٍ، وحَلْقٍ. وإنْ جَرَحَ جَانبًا، فخَرَجَ مِن الآخَرِ، فجائِفَتَانِ.
ومَنْ وَطِئَ زَوْجَةً صَغِيرةً لا يُوطَأُ مِثْلُهَا، فخَرَقَ مَا بَيْنَ مَخْرَجِ بَوْلٍ ومَنيٍّ،
(فَصلٌ)
(وفي الجائِفَةِ: ثُلُثُ الدِّيَةِ) لقولِه عليه السلام في كتابِ عَمرِو بنِ حزمٍ: "وفي الجائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ"
(1)
. ولحديثِ عَمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه
(2)
. وسواءٌ كانَت عَمدًا أو خَطأً.
(وهي) أي: الجائِفَةُ: (كُلُّ ما يَصِلُ إلى الجَوفِ، كبَطنٍ، وظَهرٍ، وصَدرٍ، وحَلقٍ) قال في "الفروع": وحَلقٍ، ومثانَةٍ، وبينَ خُصيَتَينِ ودُبُرٍ.
وفي "الرعاية": وهِيَ: ما وَصَلَ جَوفًا فيه قُوَّة مُحيلَةٌ للغِذَاءِ مِن ظهرٍ أو بَطنٍ، وإن لم تَخرِق الأمعَاءَ، أو صَدرٍ، أو نَحرٍ، أو دِماغٍ، وإن لم تَخرِق الخريطَةَ، أو مثانَةٍ، أو ما بَينَ وِعَاءِ الخُصيَتَين والدُّبُرِ
(3)
.
(وإنْ جَرَحَ جانِبًا، فخرج
(4)
مِن الآخَرِ، فجَائِفَتَان) فعَليهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ؛ لكُلِّ جائِفَةٍ الثُّلُثُ.
(ومَن وَطِئَ زوجَةً صغيرةً لا يُوطَأُ مِثلُها، فخَرَقَ ما بينَ مَخرَجِ بَولٍ ومَنيٍّ،
(1)
تقدم تخريجه (3/ 504).
(2)
تقدم تخريجه (3/ 505).
(3)
"كشاف القناع"(13/ 433).
(4)
في الأصل: "فجرح".
أوْ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ، فعَلَيْه الدِّيَةُ إنْ لَمْ يَسْتَمْسِكِ البَوْلُ، وإلَّا فجَائِفَةٌ.
وإنْ كانَتْ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا لِمِثْلِهِ، أوْ أَجْنَبِيَّةً كبيرةً مطاوعةً، ولا شُبْهَةَ، فوَقَعَ ذلكَ، فهَدَرٌ.
أو ما بَينَ السَّبيلَينِ، فعَليهِ الدِّيَةُ) كامِلَةً (إنْ لم يَستَمسِكِ البَولُ، وإلَّا) بأنْ استَمسَكَ البَولُ (فجائِفَةٌ) فعلَيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ.
(وإن كانَت ممَّن يُوطَأُ مِثلُهَا لمثلِه) بأنْ كانَا ابنَ عَشرٍ وبِنتَ تِسعٍ، (أو) كانَت (أجنبيَّةً كبيرةً مُطاوِعَةً) محتَمِلَةً للوَطءِ (ولا شُبهَةَ) وهي حُرَّةٌ مكلَّفَةٌ (فوقَعَ ذلِكَ) أي: ما سَبَقَ (فهَدَرٌ) لأنَّه ضَررٌ حصلَ مِن فِعلٍ مأذُونٍ فيه، فلم يَضمَنْهُ، كأَرشِ بَكارَتِها.
* * *
بابُ العَاقِلَةِ
وهِي: ذُكُورُ عَصَبَةِ الجَانِي نَسَبًا ووَلاءً.
ولا تَحْمِلُ العاقِلَةُ عَمْدًا، ولا عَبْدًا، ولا إقرارًا، ولا ما دُونَ ثُلُثِ دِيَةِ ذَكَرٍ مُسْلِمٍ،
(بابُ العَاقِلَةِ)
جمعُ عاقِلٍ، يُقالُ: عَقَلْتُ فُلانًا: إذا أدَّيتَ دِيَتَهُ. و: عَقَلتُ عن فُلانٍ: إذا غَرَمتَ عنهُ دِيَتَهُ. وأصلُهُ مِن عُقُلِ الإبِلِ، وهي الحِبالُ التي تُثنَى بها أيدِيها إلى رُكَبِها
(1)
. وقيلَ: مِن العَقْلِ، وهو المَنعُ؛ لأنَّهُم يمنَعُونَ عن القَاتِلِ. وقيلَ: لأنَّهم يتحمَّلُونَ العَقلَ، وهو الدِّيَةُ، سُمِّيَت بذلِكَ؛ لأنَّها تَعقِلُ لِسانَ وَليِّ المقتُولِ.
(وهي): العاقلَةُ: (ذُكورُ عَصبَةِ الجَاني نَسَبًا ووَلاءً) حتَّى عَمودَي نَسَبِه، وحتَّى مَن بَعُدَ، كابنِ ابنِ عَمِّ جدِّ جانٍ.
وليسَ مِنهُم الإخوَةُ لأُمٍّ، ولا سائِرُ ذَوي الأرحامِ.
(ولا تَحمِلُ العاقِلَةُ عَمدًا) محضًا وجَبَ به قَودٌ.
(ولا عَبدًا) لأنَّه أسوَأُ حالًا مِن الفَقيرِ.
(ولا إقرارًا) أي: بأنْ يُقرَّ جَانٍ على نَفسِه بجِنَايَةٍ، خطَأً أو شِبهَ عَمدٍ.
(ولا) تَحمِلُ العاقِلَةُ (ما دُونَ ثُلُثِ دِيَةِ ذَكَرٍ) حرٍّ (مُسلِمِ) كثَلاثِ أصابِعَ، وأَرْشِ مُوضِحَةٍ؛ لقَضاءِ عُمَرَ أنَّها لا تَحمِلُ شَيئًا حتَّى يبلُغَ عَقلَ المأمُومَةِ. ولأنَّ
(1)
في الأصل: "ركبتها".
ولا قِيمَةَ مُتْلِفٍ.
وتَحْمِلُ الخَطَأَ، وشِبْهَ العَمْدِ، مُؤجَّلًا في ثَلاثِ سِنينَ.
وابتداءُ حَوْلِ القَتْلِ: مِن الزُّهُوقِ، والجُرْحِ: مِن البُرْءِ.
ويُبْدَأُ بالأقْرَبِ فَالأقْرَبِ، كَالإرْثِ، ولا يُعتَبَرُ أنْ يَكُونُوا وَارِثِينَ لِمَنْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، بَلْ مَتَى كَانُوا يَرِثُونَ لَوْلا الحَجبُ، عَقَلُوا.
ولا عَقْلَ عَلَى فَقِيرٍ،
الأصلَ
(1)
الضَّمانُ على الجاني؛ لأنَّه المتلِفُ، خُولِفَ في ثُلُثِ الديَةِ فأكثَرَ؛ لإجحَافِه بالجاني؛ لكَثرَتِه، فبَقِي ما عدَاهُ على الأَصل.
(ولا) تَحمِلُ العاقِلَةُ (قِيمَةَ مُتلِفٍ) مِن عَبدٍ ودابَّةٍ، وغيرِ ذلك
(2)
.
(وتَحمِلُ) العاقِلَةُ (الخَطأَ، وشِبهَ العَمدِ، مُؤجَّلًا في ثَلاثِ سِنين) لما رُوي عن عمَرَ وعليٍّ: أنَّهُما قَضيَا بالدِّيَةِ على العاقِلَةِ في ثلاثِ سِنينَ
(3)
. ولا مُخالِفَ لهُما في عَصرِهِما.
(وابتِدَاءُ حَولِ القَتلِ مِن الزُّهُوقِ) أي: زُهُوقِ الرُّوحِ (و) ابتِدَاءُ حَولٍ في (الجُرْحِ: مِن البُرءِ
(4)
) لأنَّهُ وقتُ الاستِقرَار.
(ويبدَأُ) الحاكِمُ (بالأقرَبِ فالأقرَبِ، كالإرثِ، ولا يُعتَبرُ أن يَكونُوا وارِثِينَ لمَن يَعقِلُونَ عَنهُ، بل مَتى كانُوا يَرِثُونَ لولا الحَجبُ، عَقَلُوا).
(ولا عَقْلَ على فَقيرٍ) لأنَّ حَمْلَ العاقِلَةِ مُواسَاةٌ، فلا يَلزَمُ الفقيرَ، كالزَّكاةِ،
(1)
في الأصل: "أصل".
(2)
انظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 379).
(3)
أخرجه البيهقي (8/ 109، 110).
(4)
في الأصل: "برء".
وصَبِيٍّ، ومَجْنُونٍ، وامْرَأةٍ، ولَوْ مُعْتَقَةً.
ومَن لا عَاقِلَةَ لَهُ، أوْ لَهُ وعَجَزَتْ، فلا دِيَةَ عَلَيْه، وتَكُونُ في بَيْتِ المَالِ، كدِيَةِ مَنْ مَاتَ في زَحْمَةٍ، كجُمُعةٍ وطَوَافٍ، فإنْ تَعَذَّرَ الأخْذُ مِنْهُ، سَقَطَتْ.
ولأنَّه وجَبَ على العاقِلَةِ تخفيفًا عن القاتِلِ
(1)
، فلا يجوزُ التثقيلُ على الفَقيرِ؛ لأنَّه كُلفَةٌ ومشقَّةٌ، والدِّينُ يُسرٌ لا عُسرٌ.
(وصَبيٍّ، ومَجنُونٍ، وامرَأةٍ) لأنهما ليسَا مِن أهلِ النُّصرَةِ والمعاضَدَةِ (ولو مُعتَقَةً) ولا خُنثَى مُشكِلٍ.
(ومَن لا عاقِلَةَ لهُ، أو لَهُ) عاقِلَةٌ (وعَجَزَت) عن جميعِ ما وجَبَ بجِنايَته خَطأً (فلا دِيةَ عَليهِ، وتَكونُ في بيتِ المالِ) حَالًّا (كدِيَةِ مَن ماتَ في زَحمَةٍ، كجُمُعَةٍ، وطَوافٍ) وغيرِ ذلكَ.
(فإن تعذَّرَ الأخذُ مِنهُ) أي: مِن بَيتِ المالِ إذَنْ (سَقَطَت) أي: الدِّيَةُ.
* * *
(1)
سقطت: "تخفيفًا عن القاتِلِ" من الأصل.
بابُ كَفَّارَةِ القَتْلِ
لا كَفَّارَةَ في العَمْدِ. وتَجِبُ فِيمَا دُونَه في مَالِ القَاتِلِ لنَفْسٍ محَرَّمَةٍ، ولَوْ جَنِينًا.
ويُكَفِّرُ الرَّقِيقُ بالصَّوْمِ، والكافِرُ بالعِتْقِ،
(بابُ كفَّارَةِ القَتلِ)
سُمِّيَت بذلِكَ مِن الكَفْرِ، بفتحِ الكَافِ، أي: السَّترِ؛ لأنَّها تَستُرُ الذنبَ وتُغطِّيه.
وأجمَعُوا على وجوبِها في الجُملَةِ؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّساء: 92] الآية.
(لا كفَّارَةَ في العَمدِ) أي: في القَتلِ العَمدِ المحضِ.
(وتَجِبُ) الكفَّارَةُ (فيما دُونَهُ) أي: دُونَ العمدِ؛ بأن قَتلَ خَطأً أو شِبهَ عَمدٍ. وأُلحِقَ بالخَطأ شِبهُ العَمدِ؛ لأنَّه في مَعناهُ، بخلافِ العَمدِ المَحضِ.
(في مالِ القَاتِلِ لنَفسِ مُحرَّمَةٍ، ولو) نَفسِهِ، أو شارَكَ فِيهَا، أو قِنِّهِ، أو مُستَأمَنٍ، أو مُعاهَدٍ، أو
(1)
كانَ المقتولُ (جَنينًا) بأنْ ضرَبَ بَطنَ حامِلٍ، فألقَت جَنينًا مَيِّتًا، أو حيًّا ثمَّ ماتَ؛ لأنَّه نفسٌ محرَّمَةٌ، ولا كفَّارَةَ بإلقاءِ مُضغَةٍ لم تُصوَّر.
(ويُكفِّرُ الرَّقيقُ بالصَّومِ) لأنَّهُ لا مالَ لهُ يُعتِقُ مِنهُ، ولو مُكاتَبًا. (والكافِرُ بالعِتقِ) هذا الذي يَصِحُّ مِنهُ.
(1)
سقطت: "أو" من الأصل.
وغَيْرُهُمَا يُكَفِّرُ بعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤمنةٍ، فإنْ لَمْ يَجِدْ فصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتتابِعَيْنِ، ولا إطْعَامَ هنا.
وَتتعدَّدُ الكَفَّارَةُ بتعدُّدِ المَقْتُولِ.
ولا كَفَّارَةَ عَلَى مَن قَتَلَ مَن يُباحُ قَتْلُه، كزَانٍ مُحْصنٍ، ومُرْتَدِّ، وحَرْبِيٍّ، وبَاغٍ، وقِصَاصٍ، ودَفْعًا عن نَفْسِه.
(وغَيرُهُما) أي: الرَّقيقِ والكافِرِ (يُكفِّرُ بعتقِ رَقبَةٍ مُؤمِنَةٍ، فإن لم يَجِد فصِيامُ شَهرينِ مُتتابِعَين، ولا إطعَامَ هُنا) أي: في كفَّارَةِ القَتلِ.
(وتتعدَّدُ الكفَّارَةُ بتعدُّدِ المقتُولِ) كتعدُّدِ الدِّيَةِ بذلِكَ؛ لقِيامِ كُلِّ قَتيلٍ بنَفسِهِ، وعدَمِ تَعلُّقِه بغَيرِه.
(ولا كفَّارَةَ على مَن قَتلَ مَن يُباحُ قَتلُهُ، كزَانٍ مُحصَنٍ، ومُرتدٍّ، وحَربيٍّ، وبَاغْ، و) كالقَتلِ (قِصَاصـ) ـاً، أو حَدًّا، (و) قَتلِهُ (دَفعًا عَن نَفسِه) لصَولِه عليه؛ لأنَّه مأذُونٌ له فيه شَرعًا.
ولا كفَّارَةَ في قَطعِ طَرَفٍ كأنفٍ ويَدٍ.
"فائدَةٌ": قال في "شرح الإقناع"
(1)
: وأكبرُ الذُّنوبِ: الشِّركُ باللهِ، ثمَّ القَتلُ، ثمُّ الزِّنى؛ للخَبَرِ
(2)
. والله أعلم.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(13/ 460).
(2)
يشير إلى حديث ابن مسعود، قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عندَ الله؟ قال: "أن تجعلَ للهِ ندًا وهو خلقَكَ". قُلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قالَ: "وأن تَقتُلَ ولدَكَ تخافُ أن يطعَمَ معَكَ". قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "أن تُزانيَ حليلَةَ جارِك". أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86).
كتابُ الحُدُودِ
لا حدَّ إلَّا علَى مُكَلَّفٍ مُلْتَزِمٍ، عَالِمٍ بالتَّحريمِ.
وتَحْرُمُ الشَّفَاعةُ وقَبُولُهَا في حدِّ اللَّهِ تعالَى بَعْدَ أنْ يُبْلُغَ الإمامَ.
(كِتابُ الحُدُودِ)
وهي: جَمعُ حَدٍّ. وهو لُغةً: المنعُ. وحُدودُ اللهِ: محارِمُه. وحُدُودُه أيضًا: ما حدَّة وقدَّرَهُ، كالموارِيثِ، وتزويجِ الأربَعِ؛ لقوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وما حدَّه الشرعُ لا تجوزُ فيهِ زِيادَةٌ ولا نُقصانٌ.
وعُرفًا: عُقوبَةٌ مقدَّرَةٌ شرعًا في مَعصيَةٍ مِن زِنًى، وقَذفٍ، وشُربٍ، وقَطعِ طَريقٍ، وسَرِقَةٍ؛ لتَمنَعَ تِلكَ العقوبَةُ مِن الوُقوعِ في مِثلِها.
(لا حَدَّ إلَّا على مُكلَّفٍ) لحديث: "رُفِعَ القلمُ عن ثلاثَةٍ". رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
وحسَّنه.
(مُلتَزِمٍ) أحكامَنا، مِن مُسلِمٍ وذِميٍّ، بخلافِ حربيٍّ، ومُستأمَنٍ.
(عالمٍ بالتَّحريمِ) لقَولِ عُمرَ وعُثمانَ وعَليٍّ: لا حدَّ إلَّا على مَن عَلِمَه
(2)
. فلا حدَّ على مَن جَهِلَه، كمَن جَهِلَ تحريمَ الزِّنى.
(وتحرُمُ الشفاعَةُ) في حُدُودِ اللهِ تعالى، (و) يحرُمُ (قَبولُها) أي: الشَّفاعَةِ (في حَدِّ
(3)
اللهِ تعالى بَعدَ أن يَبلُغَ الإمامُ) لقولِه عليه السلام: "فهلَّا قَبلَ أن تَأتِيَني
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انظر مصنف عبد الرزاق (7/ 402، 404)(13642 - 13645)، والبيهقي (8/ 241). وانظر "الإرواء"(2314).
(3)
في الأصل: "حدود".
وتَجِبُ إقامَةُ الحَدِّ، ولَوْ كَانَ مِن يُقِيمُه شَرِيكًا في المَعْصِيَةِ.
ولا يُقِيمُهُ إلَّا الإمَامُ أوْ نَائِبُهُ، والسَّيِّدُ علَى رَقِيقِه.
وتَحْرُمُ إقامتُه في المَسْجِدِ.
بِه"
(1)
. ولأنَّ الشفاعةَ فيه طلبُ فِعلٍ محرَّمٍ على مَن طُلِبَ مِنهُ.
(وتَجِبُ إقامَةُ الحدِّ، ولو كانَ مَن يُقيمُه شَريكًا في المعصيَةِ) أو عَونًا لمن يُقيمُه عَليهِ في تلكَ المعصيَةِ؛ لوجُوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكر.
(ولا يُقيمُه إلَّا
(2)
الإمامُ أو نائِبُه) سواءٌ كانَ الحدُّ للهِ تعالى، كحدِّ زِنًى، أو لَادميٍّ، كحدِّ قَذفٍ.
(و) يُقيمُهُ (السيِّدُ على رَقيقِه) بشُروطٍ؛ لقوله عليه السلام: "أقيمُوا الحُدُودَ على ما مَلكَت أيمانُكُم"
(3)
. ولأنَّ السيِّدَ يَملِكُ تأديبَ رقيقِه وضربَه على الذَّنبِ، وهذا مِن جِنسِه.
وعُلِمَ منه: أنه ليسَ لمُكاتَبٍ ولا شَريكٍ في قِنٍّ إقامَتُة عليه؛ لقُصُورِ وِلايَتِه، ولا لِغَيرِ مُكلَّفٍ؛ لأنَّه مُولًّى عليه.
(وتحرُمُ إقامتُهُ) أي: الحَدِّ (في المسجدِ) لحديثِ حَكيمِ بنِ حِزَامٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يُستَقَادَ بالمسجِدِ، وأن تُنشَدَ الأشعَارُ بالمسجد
(4)
، وأن تُقامَ فيه
(1)
أخرجه أحمد 24/ 15 (15303)، وابن ماجه (2595) من حديث صفوان بن أمية. وصححه الألباني في "الإرواء"(2317).
(2)
سقطت: "إلا" من الأصل.
(3)
أخرجه أبو داود (4473)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(2325).
(4)
سقطت: "بالمسجد" من الأصل.
وأَشَدُّه: جَلْدُ الزِّنَى، فالقَذْفُ، فالشُّرْبُ، فالتَعْزيرُ.
ويُضْرَبُ الرَّجُل قَائِمًا بالسَّوْطِ. ويَجِبُ اتِّقاءُ الوَجْهِ والرَّأْسِ والفَرْجِ والمَقْتَلِ.
الحُدُودُ"
(1)
. ولأنَّه لا يُؤمَنُ مِن حُدُوثِ ما يُلوِّثُ المسجِدَ. فإن أُقيمَ بهِ، لم يُعَدْ؛ لحصولِ المقصُودِ مِن الزَّجرِ.
(وأشدُّهُ: جَلدُ الزِّنَى، فـ) جَلدُ (القَذفِ، فـ) جَلدُ (الشُّربِ) أي: شُربِ الخَمرِ، (فـ) جَلدُ (التَّعزيرِ) لأنَّ اللهَ تعالى خَصَّ الزِّنى بمزيدِ التأكيدِ بقَولِه:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]. ولأنَّ ما دُونَه أخَفُّ منهُ عَدَدًا، فلا يجوزُ أن يزيدَ في إيلامِه ووجَعِه؛ لأنَّ ما كانَ أخَفَّ في عدَدِهِ كانَ أخفَّ في صِفَتِه.
وحدُّ القَذفِ حَقُّ آدميٍّ، وحَدُّ الشُّربِ محضُ حَقِّ اللهِ، والتعزيرُ لا يُبلَغُ به الحدَّ
(2)
.
(ويُضرَبُ الرَّجُلُ قائِمًا) ليُعطَى كُلُّ عُضوٍ حَظَّه مِن الضَّربِ (بالسَّوطِ). قال في "الرعاية" مِن عِندِه: حَجمُ السَّوطِ بينَ القَضيبِ والعَصَا.
(ويَجبُ اتِّقاءُ الوَجهِ، و) اتِّقاءُ (الرَّأسِ، و) اتِّقَاءُ (الفَرجِ، و) اتِّقاءُ (المقتَلِ) كفُؤادٍ، وخُصيَتَينِ؛ لئلا يُؤدِّيَ ضَربُه في شيءٍ مِن هذِه المواضِعِ إلى قَتلِه، وإذهَابِ مَنفعَتِه، والقَصدُ أدَبُهُ فقَط.
(1)
أخرجه أحمد (24/ 344)(15579)، وأبو داود (4490). وحسنه الألباني في "الإرواء"(2327).
(2)
انظر "كشاف القناع"(14/ 20)، "دقائق أولي النهى"(6/ 171)، "فتح وهاب المآرب"(3/ 389).
وتُضْرَبُ المَرْأَةُ جالِسَةً، وتُشَدُّ عَلَيْها ثيابُهَا، وتُمْسَكُ يَدَاهَا.
ويَحْرُمُ بَعْدَ الحدِّ حَبْسٌ، وإِيذَاءٌ بكَلامٍ.
والحدُّ كَفَّارةٌ لِذلكَ الذَّنْبِ.
ومَن أتَى حدًّا، سَتَرَ نَفْسَه، ولَمْ يُسَنَّ أنْ يقِرَّ به عِنْدَ الحاكِمِ.
وإنْ اجتَمَعت حُدُودٌ للَّهِ تعالَى مِن جِنْسٍ،
(وتُضرَبُ المرأةُ جالسَةً)، لقولِ عليِّ: تُضربُ المرأةُ جالسَةً، والرَّجُلُ قائِمًا
(1)
.
(وتُشدُّ عَلَيها ثَيابُها، وتُمسَكُ يدَاهَا) لئلا تَنكَشِفَ، ولأنَّ المرأةَ عورةٌ، وفِعلُ ذلكَ أستَرُ لها.
(ويَحرُمُ بعدَ الحدِّ حَبسُ) مَحدُودٍ (وإيذَاؤُهُ بكلامٍ) كالتَّعييرِ؛ لنَسخِهِ بمشرُوعيَّةِ الحدِّ، كنَسخِ حَبسِ المرأةِ.
(والحدُّ كفَّارَةٌ لذلِكَ الذَّنبِ) الذي أوجَبَهُ. نصًا؛ للخَبَر
(2)
.
(ومَن أتَى حَدًا، سَتَرَ نفسَه) استِحبَابًا. (ولم يُسنَّ أنْ يُقِرَّ بهِ عندَ الحاكِمِ) لحديث: "إنَّ اللهَ سِتِّيرٌ يُحِبُ مِن عبادِه السِّتْرَ"
(3)
.
(وإن اجتَمَعَت حُدُودٌ للهِ تعالى مِن جِنسٍ) واحِدٍ؛ بأنْ زَنى مِرَارًا، أو سَرَقَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق (7/ 375)، البيهقي (8/ 327).
(2)
يشير إلى حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له". أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709).
(3)
أخرجه أبو داود (4012)، والنسائي (406، 407) من حديث يعلى بنحوه. وصححه الألباني في "الإرواء"(2335).
تَداخَلَتْ، ومِنْ أجناسٍ، فَلا.
مِرارًا، أو شَرِبَ الخمرَ مِرارًا، (تَدَاخَلَت) فلا يُحَدُّ سِوَى مَرَّةٍ. حكاهُ ابنُ المنذِرِ إجماعًا.
(ومِن أجنَاسٍ) كأن زَنَى، وسرَقَ، وشَرِبَ الخمر، (فلا) تَتدَاخَلُ، بل تُستَوفَي جميعًا. قال في "المبدع": بغَيرِ خِلافٍ عَلِمنَاهُ؛ لأنَّ التَّداخُلَ إنَّمَا هو في الجِنسِ الواحِدِ
(1)
.
* * *
(1)
"كشاف القناع"(14/ 30).
بابُ حَدِّ الزِّنَى
الزِّنَى: هو فِعْلُ الفَاحِشَةِ في قُبُلٍ أوْ دُبُرٍ.
(بَابُ حَدِّ الزِّنَى)
يُمَدُّ ويُقصَرُ، فالقَصرُ لأهلِ الحِجَازِ، والمدُّ عِندَ تَميمٍ.
(الزِّنى: هو فِعلُ الفَاحِشَةِ في قُبُلٍ أو) في (دُبُرٍ) وهو مِن أكبَرِ الكبائرِ.
وأجمَعُوا على تحريمِه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. وحديثِ: "اجتَنبوا السَّبعَ الموبقَاتِ"
(1)
.
وكانَ حدُّ الزِّنَى في صَدرِ الإسلامِ: الحَبسَ للنِّساءِ، والأذَى في الكلامِ للرِّجَالِ؛ لقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الَايتين. ثمَّ نُسِخَ بحديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِت مَرفوعًا: "خُذُوا عنِّي، قد جعَلَ اللهُ لهنَّ سَبيلًا، البِكرُ بالبِكرِ جَلدُ مائةٍ وتَغريبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بالثيِّبِ جَلدُ مائةٍ والرَّجمُ". رواهُ مُسلم
(2)
.
وأجازَ أصحابُنَا نَسخَ الكِتابِ بالسنَّةِ. ومَن مَنعَ ذلكَ قال: ليسَ هذا نسخًا؛ إنَّما هو تَفسيرٌ للقُرآنِ وتَبيينٌ لهُ؛ لأنَّ ما كانَ مَشرُوطًا بشَرطٍ، وزَالَ الشَّرطُ، لا يكونُ نَسخًا، وهاهُنا شَرَطَ اللهُ لحَبسهنَّ
(3)
، أن لا يجعلَ لهنَّ سَبيلًا، فبيَّنَت السنَّةُ
(1)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (1690).
(3)
في الأصل: "بحبسهن".
فإذَا زنَى المُحْصَنُ، وَجَبَ رَجْمُهُ حتَّى يَموتَ.
والمُحْصَنُ: هُوَ مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَه في قُبُلِهَا بنِكاحٍ صَحِيحٍ، وهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ.
وإنْ زَنَى الحُرُّ غَيْرُ المُحْصَنِ، جُلِدَ مِائةَ جَلْدةٍ،
السَّبيلَ
(1)
.
(فإذا زَنَى المُحصَنُ) المكلَّفُ (وجَبَ رجمُهُ) بحجارَةٍ متوسِّطَةٍ كالكَفِّ، فلا يَنبَغي أن يُثخَنَ بصَخرَةٍ كَبيرَةٍ، ولا أن يُطوَّلَ عليه بحصاةٍ خفيفةٍ، ويُتَّقَى الوَجهُ (حتَّى يموتَ) لحديثِ عُمرَ، قال: إنَّ اللهَ تعالى بعَثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقِّ، وأنزلَ عليه الكتابَ، وكانَ فيما أَنزلَ عليه آيَةُ الرَّجمِ، فقرَأتُها، وعَقلتُها، ووعَيتُها، ورجَمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورجَمْنَا بعدَه، فأخشَى إن طالَ بالنَّاسِ زمانٌ، يقولُ قائلٌ: ما نجِدُ الرَّجمَ في كتابِ الله، فيَضلُّ بتَركِ فَريضَةٍ أنزلَها اللهُ تعالى، فالرَّجمُ حقٌّ على مَن زَنى إذا أُحصِنَ مِن الرجالِ والنِّساءِ، إذا قامَت به البيِّنَةُ، أو كانَ الحَبَلُ، أو الاعتِرَافُ. وقد قرأتُها:"الشيخُ والشيخَةُ إذا زَنَيَا فارجمُوهُما البتَّةَ؛ نكالًا مِن اللهِ، واللهُ عزيزٌ حكيم". متفق عليه
(2)
.
(والمُحصَنُ: هو مَن وَطئَ زوجَتَه في قُبُلِها بنِكاحٍ صحيحٍ) لا باطِلٍ، ولا فاسِدٍ، (وهما) أي: الزَّوجَانِ (حُرَّانِ مُكلَّفانِ) فلا إحصَانَ مع صِغَرِ أحدِهما، أو جُنُونِه، أو رِقِّهِ.
(وإن زَنَى الحرُّ غَيرُ المُحصَنِ، جُلِدَ مائةَ جَلدَةٍ) بلا خلافٍ؛ للخَبر
(3)
،
(1)
"دقائق أولى النهى"(6/ 181).
(2)
أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691) من حديث ابن عباس.
(3)
يشير إلى خبر العسيف. أخرجه البخاري (2314، 2315)، ومسلم (1697، 1698) =
وغُرِّبَ عامًا إلَى مَسَافةِ قَصْرٍ.
وإنْ زَنَى الرَّقِيقُ، جُلِدَ خَمْسينَ، ولا يُغرَّبُ.
(وغُرِّبَ عَامًا) ولو أُنثَى، مُسلِمًا كانَ أو كافِرًا؛ لعُمُومِ الخَبرِ. ولأنَّه حَدٌّ ترتَّبُ على الزِّنى، فوجَبَ على الكافِرِ، كالقَوَدِ.
وروَى الترمذيُّ
(1)
عن ابني عُمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضرَبَ وغرَّبَ، وأنَّ أبا بَكرٍ ضرَبَ وغرَّبَ
(2)
، وأنَّ عُمَرَ ضرَبَ وغرَّبَ.
ويكونُ تَغريبُ أُنثَى بمَحرَمٍ باذِلٍ نَفسَهُ معَها وجُوبًا. وعَلَيها أُجرَتُه، فإنْ تعذَّرَت أُجرَتُه مِنها؛ لعَدَمٍ أو امتِناعٍ، فمِن بيتِ المالِ.
فإن أبى المَحرَمُ السَّفرَ معَها، أو تعذَّر؛ بأنْ لم يَكُن لها محرَمٌ، فَوَحدَها، تُغرَّبُ إلى مَسافَةِ قَصرٍ؛ للحاجَةِ.
(إلى مَسافَةِ قَصرٍ)؛ لأنَّ ما دُونَ ذلكَ في حُكمِ الحَضَرِ.
(وإن زَنى الرَّقيقُ، جُلِدَ خمسينَ جَلدَةً)؛ لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. والعذابُ المذكورُ في القرآنِ مائةُ جلدَةٍ، فينصَرِفُ التنصيفُ إليه دونَ غيرِه، والرَّجمُ لا يتأتَّى تنصيفُه.
(ولا يُغرَّبُ) قِنٌّ زَنَى؛ لأنَّه عقوبَةٌ لسيِّدِه دُونَه؛ إذ العبدُ لا ضرَرَ عليه في تغريبِه؛ لأنَّه غَريبٌ في موضِعِه، ويترفَّهُ فيه بتَركِ الخِدمَةِ، ويتضرَّرُ سيِّدُه بذلك.
ويُجلَدُ ويُغرَّبُ مُبعَّضٌ زَنى، بحِسَابِهِ، فالمتنصَّفُ
(3)
يُجلَدُ خمسًا وسبعينَ
= من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
(1)
أخرجه الترمذي (1438). وصححه الألباني في "الإرواء"(2344).
(2)
سقطت: "وأنَّ أبا بكر ضرب وغرب" من الأصل.
(3)
في الأصل: "كالمنصف".
وإنْ زَنَى الذِّمِّيُ بِمُسْلِمَةٍ، قُتِلَ. وإنْ زَنَى الحَرْبِيُّ، فلا شَيْءَ عَلَيْه. وإنْ زَنَى المُحْصَنُ بغَيْرِ المُحْصَنِ، فلكُلِّ حَدُّه.
لأنَّه في الحريَّةِ خَمسينَ، وفي الرقِّ خَمسًا وعِشرين، فجُملَتُه خمسٌ وسبعونَ جلدَةً -ويُغرَّبُ نِصفَ عامٍ. نصًا. ويُحسَبُ زمنُ التَّغريبِ عليه مِن نَصيبِه الحُرِّ.
ومَن ثُلُثُه حُرٌّ، لَزِمَه ثُلُثَا حَدِّ الحُرِّ: سِتٌّ وسِتُّونَ جَلدَةً، ويَسقُطُ الكَسرُ؛ لأنَّ الحدَّ مَتى دارَ بينَ الوُجوبِ والإسقَاطِ، سقَطَ. ويُغرَّبُ ثُلُثَي عامٍ.
والمُدبَّرُ، والمكاتَبُ، وأُمُّ الولَدِ، والمعلَّقُ عِتقُهُ بصِفَةٍ، كالقِنِّ في الحدِّ.
(وإنْ زَنى الذِّميُ بمُسلِمَةٍ) أو أصابَها باسمِ نِكاحٍ، (قُتِلَ) لانتِقَاضِ عَهدِه.
والأصلُ في ذلكَ: ما رُوي عن عمرَ: أنَّه رُفِعَ إليه رجلٌ أرادَ استكرَاهَ امرأةٍ مُسلِمَةٍ على الزِّنَى، فقالَ: ما علَى هذا صالَحنَاكُم، فأمَرَ بهِ فَصُلِبَ في بيتِ المقدِسِ
(1)
.
(وإن زَنَى الحربيُّ، فلا شَيءَ عَليه) لعدَمِ التِزامِه لأحكامِنَا
(2)
.
(وإن زَنَىَ المُحصَنُ بغَيرِ المُحصَنِ، فلِكُلٍّ) مِن المُحصَنِ والبِكرِ (حَدُّه) لحديث أبي هريرة، وزيدِ بن خالدٍ، في رجُلَين اختَصَما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانَ ابنُ أحدِهِمَا عَسيفًا عندَ الآخَرِ، فزَنى بامرَأتِه، فجَلَدَ ابنَهُ مائةً، وغرَّبَه عامًا، وأمَرَ أُنيسًا الأسلميَّ يأتي امرأةَ الآخَرِ: فإن اعتَرَفَت فارجُمها، فاعتَرَفَت فرجمَهَا. متفق عليه
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 432)، والبيهقي (9/ 201). وحسنه الألباني في "الإرواء"(1278).
(2)
"كشاف القناع"(14/ 42)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 397).
(3)
تقدم تخريجه قريبا.
ومَن زَنَى ببَهِيمَةٍ، عُزِّرَ.
وشَرْطُ وُجُوبِ الحَدِّ ثَلاثةٌ:
أَحَدُهما: تَغْيِيبُ الحَشَفةِ أوْ قَدْرِهَا في فَرْجٍ
(ومَن زَنَى ببَهيمَةٍ، عُزِّرَ) روي عن ابنِ عبَّاسٍ؛ لأنَّه لا نصَّ فيه يَصِحُّ، ولا يَصحُّ قِياسُه على فَرجِ الآدميِّ؛ لأنَّه لا حُرمَةَ لهُ، والنُّفُوسُ تعافُه.
وقُتِلَت البهيمَةُ المأتيَّةُ، مأكولَةً كانَت أوْ لا؛ لئلا يُعيَّرَ بها؛ لحديثِ ابن عباسٍ مرفوعًا:"مَن وقَعَ على بهيمَةٍ، فاقتُلُوه، واقتُلوا البهيمَةَ". رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ
(1)
، وضعَّفَهُ الطحاويُّ.
وصحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ: مَن أتَى بهيمَةً، فلا حدَّ عَليهِ
(2)
.
لكِنْ لا تُقتَلُ إلَّا بالشَّهادَةِ على فِعلِه بها، إن لم تَكُن مِلكَه؛ لأنَّه لا يُقبَلُ إقرارُهُ على مِلكِ غَيرِه. ويَكفي إقرارُهِ إن مَلَكَها؛ مُؤاخَذَةً له بإقرارِه على نفسِه.
ويحرُمُ أكلُها، أي: المأتيَّةِ، ولو مأكُولَةً؛ لأنَّها حيوانٌ وجبَ قتلُه لحقِّ الله تعالى، أشبَهَ سائِرَ المقتُولاتِ. فيضمَنُها الآتي لها بقِيمَتِها؛ لإتلافِها بسَبَبِه، كما لو جَرَحَها، فماتَت.
(وشَرْطُ وُجُوب الحدِّ) أي: حَدِّ الزِّنَى (ثلَاثَةٌ):
(أحَدُها) أي: أَحدُ الشُّروطِ الثلاثَةِ: (تَغيِيبُ الحَشَفَةِ) أي: الأصليَّةِ، ولو مِن خَصىٍّ (أو) تَغييبُ (قَدرِها) أي: الحَشفَةِ (في فَرجٍ) أصليٍّ، مِن آدميٍّ حىٍّ،
(1)
أخرجه أحمد (4/ 242)(2420)، وأبو داود (4464)، والترمذي (1455). وانظر "الإرواء"(2348).
(2)
أخرجه أبو داود (4465).
أو دُبُرٍ لآدَمِيٍّ حَيٍّ.
الثانِي: انتِفَاءُ الشُّبْهَةِ.
(أو دُبُرٍ لآدميٍّ حَيٍّ) لذَكَرٍ أو أُنثَى؛ لحديث ابنِ مَسعُودٍ: أنَّ رجُلًا جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي وجَدتُ امرأةً في البُستَانِ، فأصَبتُ مِنها كُلَّ شيءٍ، غيرَ أنِّي لم أنكِحْهَا، فافعَل بي ما شِئتَ. فقرأ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. رواه النَّسَائِيّ
(1)
.
فلا حَدَّ بتَغييبِ بعضِ الحَشفَةِ، ولا بتَغييبِ ذَكرِ خُنثَى مُشكِلٍ، ولا بالتَّغييبِ في فَرجِه، ولا بالقُبلَةِ والمباشَرةِ دُونَ الفَرجِ، ولا بإتيانِ المرأةِ المرأةَ، ويُعزَّرُ في ذلك كُلِّه.
وأمَّا
(2)
الرجلُ المذكورُ في حديثِ ابنِ مسعودٍ، فقَد جاءَ تائبًا، كما يدلُّ عليه ظاهِرُ الحالِ، على أنَّ للإمامِ تَركَ التَّعزيرِ إذا رآهُ، كما في "المغني"، و "الشرح"
(3)
.
الشرطُ (الثاني: انتِفَاءُ الشُّبهَةِ) لحديثِ: "ادرَؤُوا الحدُودَ بالشُّبُهاتِ ما استطَعتُم"
(4)
.
فلا يُحدُّ بِوَطءِ أمَةٍ لهُ فِيها شِرْكٌ، أو مُحرَّمَةً برَضاعٍ، أو لولَدِه فِيها شِركٌ، أو
(1)
أخرجه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(7323)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2353).
(2)
سقطت: "وأما" من الأصل.
(3)
"دقائق أولي النهى"(6/ 188).
(4)
أخرجه ابن عساكر (23/ 347)، (60/ 36)، وأخرجه الترمذي (1424) بلفظ:"ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". وضعفه الألباني في "الإرواء"(2316، 2355). ولكن صح ذلك موقوفًا على بعض الصحابة، كما ذكر في "الإرواء".
الثالِثُ: ثُبُوتُه؛ إمَّا بإقْرَارٍ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، ويَستمِرُّ علَى إقْرَارِه،
وطِئ امرأةً في مَنزِلِه ظَنَّها زوجَتَه، أو ظنَّها سُريَّتَه، فلا حدَّ، أو وَطِئَ امرأةً في نكاحٍ باطلٍ اعتَقدَ صِحَّتَه، أو وطِئَ امرأةً في نكاحٍ مُختَلَفٍ فيه، كمُتعَةٍ، أو بلا وليٍّ، أو وَطِئَ أمةً
(1)
في مِلكٍ
(2)
مُختَلَفٍ فيهِ بعدَ قَبضِه، كشِرَاءِ فُضُولي، ولو قَبلَ الإجازَةِ، ونحوِ ما ذُكِرَ، كجَهلِ تَحريمِ الزِّنَى مِن قَريبِ عَهدٍ بالإسلام، أو ناشئٍ ببادِيَةٍ بعيدَةٍ
(3)
.
الشرطُ (الثالِثُ: ثُبُوتُه) أي: الزِّنَى. وله صُورَتَانِ:
(إمَّا بإقرارٍ أربَعَ مرَّاتٍ) لحديثِ ماعِز بنِ مالكٍ: أنَّه
(4)
اعتَرَفَ عندَ النبي صلى الله عليه وسلم الأُولى، والثَّانيَةَ، والثالِثَةَ، وردَّهُ. فقِيلَ: إنَّكَ إن اعتَرَفتَ عِندَهُ الرَّابِعَةَ، رجمَكَ، فاعتَرَفَ الرَّابِعَةَ، فحَبَسَه، ثمَّ سأَلَ عنهُ؟ فقالُوا: لا نَعلَمُ إلَّا خَيرًا، فأَمَرَ بهِ، فرُجِمَ. رُويَ مِن طُرُقٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، وجابِرٍ، وبُريدَةَ، وأبي بَكرِ الصّديق
(5)
.
(ويَستَمِرُّ على إقرَارِه) حتَّى يتمَّ الحدُّ. فإن رجَعَ عن إقرَارِه، أو هرَبَ، كُفَّ عَنه؛ لقِصَّةِ ماعِزٍ. وتقدَّم.
الصُّورَةُ الثانيَةُ: (أو بِشَهادَةِ أربَعَةِ رِجالٍ عُدُولٍ) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
(1)
في الأصل: "امرأةً".
(2)
سقطت: "ملك" من الأصل.
(3)
"الروض المربع"(7/ 321، 322).
(4)
سقطت: "أنه" من الأصل.
(5)
أخرجه البخاري (6824)، ومسلم (1693) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري (6820)، من حديث جابر. وأخرجه مسلم (1695) من حديث بريدة. وأخرجه أحمد (1/ 214)(41) من حديث أبي بكر.
أوْ بِشَهَادَةِ أرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ. فإنْ كَانَ أَحَدُهُم غَيْرَ عَدْلٍ، حُدُّوا للقَذْفِ.
وإنْ شَهِدَ أربعةٌ بزِنَاهُ بفُلانةٍ، فشَهِدَ أربعةٌ آخُرُونَ: أنَّ الشُّهودَ هُمُ الزُّنَاةُ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]. الآية. ولحديثِ سَعدِ بنِ عُبادَةَ، قال: أرأَيتَ لو وَجَدتُ معَ امرأتي
(1)
رجُلًا، أَمهِلهُ حتَّى آتِي بأربَعَةِ شُهدَاء؟. فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"نعَم". رواهُ مالِكٌ
(2)
.
فلا تُقبَلُ فيه شَهادَةُ النِّساءِ، ولا فاسِقٍ، ولا مَستُورًا.
أحرَارًا كانُوا
(3)
أو عَبيدًا، يَصِفُون الزِّنَى، فيقُولُونَ: رأينَاهُ غَيَّبَ ذكَرَهُ في فرجِها، أو غَيَّبَ حشفَتَهُ، أو قَدرَها إن كانَ مَقطُوعَها، في فَرجِها، كالمِيلِ في المِكحَلَةِ، أو الرِّشَاءِ في البِئرِ.
ويُشتَرَطُ أن يَجِيءَ الأربعَةُ للشهادَةِ في مجلِسٍ واحدٍ، سواءٌ جاؤُوا مُتفرِّقِينَ أو مُجتَمِعين، وسَواءٌ صدَّقَهُم المشهودُ عَليهِ أو لا.
فإن شَهِدُوا في مَجلِسَينِ فأكثَرَ، ولم يُكمِل بَعضُهم الشهادَةَ، أو قامَ بهِ مانِعٌ، حُدُّوا للقَذفِ.
(فإن كانَ أحدُهُم غَيرَ عَدلٍ، حُدُّوا للقَذفِ) لعَدَم كمالِ شَهادَتِهم، كمَا لو لم يَكمُل العَددُ.
(وإن شَهِدَ أربعَةٌ بزِنَاهُ بفُلانَةٍ، فشَهِدَ أربعةٌ آخَرُونَ: أنَّ الشُّهودَ همُ الزُّناةُ بها) دُونَ المشهودِ عَليه، (صُدِّقُوا، وحُدَّ) الأربَعَةُ (الأوَّلُونَ) الشاهِدُونَ به (فقَط)
(1)
في الأصل: "أتي".
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 737)، وأخرجه مسلم (1498).
(3)
أي: الشهود.
بِهَا، صُدِّقُوا، وحُدَّ الأوَّلُونَ فَقَطْ للقَذْفِ والزِّنَى.
وإنْ حَمَلَتْ مَن لا زَوْجَ لَهَا ولا سَيِّدَ، لَمْ يَلْزَمْهَا شَيءٌ.
دُونَ المشهودِ عليهِ؛ لقَدحِ الآخَرينَ في شَهادَتِهم عليه؛ (للقَذفِ والزِّنَى) لأنَّهم شَهِدُوا بزِنًى لم يَثبُت، فهُم قَذَفَةٌ، وثَبَتَ عليهم الزِّنَى بشهادَةِ الآخَرِين.
وإذا كَمُلَت الشهادةُ بحدٍّ، ثمَّ ماتَ الشهودُ أو غابُوا، لم يَمنَع ذلِكَ إقامَةَ الحدِّ، كسَائِرِ الحقُوقِ، واحتِمَالُ رُجُوعِهم ليسَ شُبهَةً يُدرأُ بها الحَدُّ؛ لبُعدِه.
(وإن حَمَلَت مَن لا زَوجَ لها، ولا سَيِّدَ، لم يَلزَمها شَيءٌ) أي: لم تُحَدَّ بذلِكَ بمجرَّدِ الحملِ، ولا يَجِبُ أن تُسألَ؛ لأنَّ في سؤالِها عن ذلِكَ إشاعَةَ الفاحِشَةِ، وذلِكَ مَنهيٌّ عنه.
وإن سُئِلَت، وادَّعَت أنَّها أُكرِهَت، أو وُطِئَت بشُبهَةٍ، أو لم تَعتَرِف بالزِّنَى أربَعًا، لم تُحَدَّ؛ لأنَّ الحدَّ يُدرَأُ بالشُّبهَةِ، وهي متحقِّقَةٌ.
* * *
بابُ حَدِّ القَذْفِ
مَن قَذَفَ غَيْرَه بالزِّنَى، حُدَّ للقَذْفِ ثمانِينَ إنْ كانَ حُرًّا، وأرْبَعِينَ إنْ كَانَ رَقِيقًا.
وإنَّمَا يَجِبُ بشُرُوطٍ تِسْعَةٍ:
أرْبَعةٌ منها في القاذِفِ
، وهُوَ: أنْ يَكُونَ بالِغًا، عاقلًا، مُختَارًا، لَيْسَ بوالِدٍ للمَقْذُوفِ، وإنْ عَلا.
وخَمْسَةٌ في المَقْذُوفِ
(بابُ حَدِّ القَذفِ)
وهو لُغةً: الرَّميُ بقُوَّةٍ، ثمَّ غلَبَ على الرَّمي بزِنًى، أو لِواطٍ، أو شَهادَةٍ بأحَدِهِما، ولم تَكمُلِ البيِّنَةُ.
(مَن قذَفَ غيرَهُ بالزِّنَى، حُدَّ للقَذفِ ثَمانِينَ إنْ كانَ) القاذِفُ (حُرًّا) لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
(وأربَعينَ) جلدَةً (إن كانَ رَقيقًا). وحُدَّ قاذِفٌ مُبعَّضٌ بحِسَابِه.
مِثالُ ذلِكَ: فمَن نِصفُهُ حُرٌّ، ونِصفُه رقيقٌ، يُجلَدُ سِتِّينَ؛ لأنَّه حدٌّ يتبعَّضُ، فكانَ على القِنِّ فيه نِصفُ ما على الحُرِّ، والمُبعَّضُ بحِسَابِه، كجَلدِ الزِّنَى.
(وإنَّما يجِبُ حدُّ القذفِ بشُروطٍ تِسعَةٍ):
(أربعَةٌ مِنها في القَاذِفِ، وهو: أن يَكونَ بالِغًا، عاقِلًا، مُختَارًا، ليسَ بوالِدٍ للمقذُوفِ، وإن علا) كالجَدِّ.
(وخمسَةٌ في المقذُوفِ):
وهُو: كُونُه حُرًّا، مُسْلِمًا، عَاقِلًا، عَفِيفًا عَن الزِّنَى، يُوطَأُ وَيَطَأُ مِثْلُه.
لكِنْ لا يُحَدُّ قَاذِفُ غَيْرِ البَالِغِ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لأنَّ الحَقَّ في حَدِّ القَذْفِ للَادَمِيِّ، فَلا يُقامُ بِلا طَلَبِهِ.
ومَنْ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، عُزِّرَ.
ويَثْبُتُ الحَدُّ هُنَا، وفي الشُّرْبِ، والتَّعزيرِ بأَحَدِ أمرَيْنِ: إمَّا بإقْرَارِه مَرَّةً، أو شَهادَةِ عَدْلَيْنِ.
الأوَّلُ: (وهو: كونُهُ حُرًا). الثاني: (مُسلِمًا). الشرطُ الثالِثُ: كونه (عاقِلًا). الشرطُ الرابعُ: (كونُه عَفيفًا عن الزِّنَى). الشرطُ الخامِسُ: (يُوطَأُ ويَطَأُ مِثلُه) وهو ابنُ عَشرٍ وبنتُ تِسعٍ.
(لكِنْ لا يُحدُّ قاذِفُ غَيرِ البالِغِ حتَّى يَبلُغَ) ويُطالِبَ به بعدَ بُلوغِه؛ إذ لا أثَرَ لطَلبِه قبلَ بُلوغِه؛ لعدَمِ اعتبارِ كلامِه. ولا طلَبَ لوليِّهِ عنه؛ لأنَّ الغرضَ منه التشفِّي، فلا يَقومُ غيرُه مقامَه فيه، كالقَوَدِ؛ (لأنَّ الحقَّ في حَدِّ القَذفِ للآدميِّ، فلا يُقامُ) حدُّ القذفِ (بلا طَلَبِه) أي: المقذوف.
(ومَن قذَفَ غيرَ مُحصَنٍ) ولو قِنَّه (عُزِّرَ) رَدعًا لهُ عن أعراضِ المعصُومِينَ وكَفًّا له عن إيذائِهم.
(ويَثبُتُ الحدُّ هُنا) أي: في القَذفِ (وفي الشُّربِ، والتَّعزيرِ بأحَدِ أمرَين: إمَّا بإقرَارِه مرَّةً، أو شَهادَةِ عَدلَين).
* * *
فَصْلٌ
ويَسقُطُ حَدُّ القَذْفِ بأرْبعةٍ:
بعَفْوِ المَقْذُوفِ، أوْ بتَصْدِيقِه، أو بإقَامَةِ البَيِّنَةِ، أوْ باللِّعانِ.
والقَذْفُ حَرَامٌ، وواجِبٌ، ومُبَاحٌ.
فيَحْرُمُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
ويَجِبُ عَلَى مَنْ يَرَى زَوْجَتَه تَزْنِي، ثُمَّ تَلِدُ وَلَدًا يَقْوَى في ظَنِّه أنَّه مِن الزَّانِي؛ لشَبَهِهِ بِهِ.
ويُباحُ إذَا رَآهَا تَزْنِي، وَلَمْ تَلِدْ مَا يَلْزَمُهُ نَفْيُهُ، وفِرَاقُهَا أوْلَى.
(فَصلٌ)
(ويَسقُطُ حدُّ القذفِ بأربعَةٍ):
الأوَّلُ: (بعَفوِ المقذوفِ).
الثاني: (أو بتَصديقِه) أي: المقذُوفِ.
الثالث: (أو بإقامَةِ البيِّنَةِ).
الرابع: (أو بالِّلعَانِ).
(والقَذفُ حَرامٌ، وواجِبٌ، ومُباحٌ. فيحرُمُ فيما تقدَّمَ. ويَجبُ على مَن يَرَى زوجَتَه تَزني، ثم تَلِدُ ولدًا يَقوَى في ظنِّه أنَّه مِن الزَّاني؛ لشَبَهِه به. ويُباحُ إذا رَآها تَزني، ولم تَلِد ما يَلزَمُه نفيُه، وفِراقُها أولى)؛ لأنَّه أسلَمُ لِعِرضِهِ.
* * *
فَصْلٌ
وصَرِيحُ القَذْفِ: يَا منيوكَةُ، يَا منيوكُ، يَا زَانِي، يا عاهِرُ، يَا لُوطِيُّ. و: لَسْتَ وَلَدَ فُلانٍ، فقَذْفٌ لأمِّهِ.
وكنايَتُه:
زَنَتْ يَدَاكَ، أوْ رِجْلاكَ، أو يَدُكَ، أوْ رِجْلُكَ، أو بَدَنُكَ، يَا مُخَنَّثُ، يَا قَحْبَةُ، يا فاجِرَةُ، يا خَبِيثَةُ.
(فَصلٌ) في صَريحِ القَذفِ وكنايَتِه
فقال: (وصَريحُ القَذفِ: يا مَنيوكَةُ، يا مَنيوكُ، يا زَاني، يا عاهِرُ، يا لُوطيُّ) وأصلُ العُهرِ: إتيانُ الرَّجُلِ المرأةَ لَيلًا؛ للفُجُورِ بها، ثمَّ غلَبَ على الزِّنَى، سواءٌ جاءَها أو جاءَتهُ، ليلًا أو نهارًا.
(ولَستَ ولَدَ فُلانٍ) الذي يُنسَبُ إليه (فَقذفٌ لأُمِّه) أي: المقُولِ لهُ؛ لإثباتِه الزِّنَى لأُمِّه؛ لأنَّه لا يخلُو إمَّا أن يَكونَ لأبيهِ أو غَيرِه، فإذا نفَاهُ عن أبيهِ، فقد أثبَتَه لغَيرِه، والغَيرُ لا يُمكِنُ إحبالُهُ لها في زَوجَيَّةِ أبيهِ إلَّا بزِنًى، فكانَ قَذفًا لها.
(وكِنايَتُه) والتَّعريضُ بِه: (زَنَت يَدَاكَ، أو: رِجلاكَ، أو: يَدُكَ، أو: رِجلُك، أو: بَدنُكَ) لأنَّ زِنَى هذِه الأعضَاءِ لا يُوجِبُ الحدَّ؛ لحديثِ: "العينانِ تَزنيانِ، وزِنَاهُمَا النَّظَرُ، واليَدَانِ تَزنِيانِ، وزِناهُمَا البَطْشُ، والرِّجلانِ تَزنِيانِ، وزِناهُمَا المشيُ، ويُصدِّقُ ذلِكَ الفَرجُ أو يُكذِّبُه"
(1)
.
(يا مُخنَّثُ، يا قَحبَةُ، يا فاجِرَةُ، يا خَبيثَةُ).
(1)
أخرجه مسلم (2657) من حديث أبي هريرة.
أوْ يَقُولُ لِزَوْجَةِ شَخْصٍ: قَدْ فَضَحْتِ زَوْجَكِ، وغَطَّيْتِ رَأْسَه، وجَعَلْتِ لَهُ قُرُونًا، وعَلَّقْتِ علَيْه أَوْلادًا مِن غَيْرِهِ، وأفْسَدْتِ فِرَاشَه.
فإنْ أرادَ بِهَذِه الألْفَاظِ حَقِيقةَ الزِّنَى، حُدَّ، وإلَّا عُزِّرَ.
ومَن قَذَفَ أهْلَ بَلْدَةٍ، أوْ جَمَاعَةً لا يُتَصَوَّرُ الزِّنَى مِنْهُمْ عَادَةً، عُزِّرَ، ولا حَدَّ.
وإنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ الزِّنَى مِنْهُمْ عَادَةً، وقَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ، فلكُلِّ واحِدٍ حَدٌّ، وإنْ كَانَ إجْمَالًا، فحَدٌّ واحِدٌ.
(أو يقُولُ لزَوجَةِ شَخصٍ: قد فَضَحتِ زَوجَكِ، و: غطَّيتِ رأسَه، و: جعَلتِ له قُرونًا، و: علَّقتِ عليه أولادًا مِن غَيرِه) له (و: أفسَدتِ فِراشَهُ).
(فإن أرادَ بهذِه الألفاظِ حقيقَةَ الزِّنَى، حُدَّ) حَدَّ القَذفِ، (وإلَّا عُزِّرَ)؛ لارتِكابِه مَعصيَةً لا حدَّ فيها ولا كفَّارَةَ.
(ومَن قذَفَ أهلَ بلدَةٍ؛ أو جماعَةً لا يُتصوَّرُ الزِّنى مِنهُم عادَةً، عُزِّرَ، ولا حَدَّ) عليه؛ لأنَّهُم لا عارَ عليهِم بذلِكَ؛ للقَطعِ بكَذِبِ القَاذِفِ.
(وإن كانَ يُتصوَّرُ الزِّنَى مِنهُم عادَةً، وقَذَفَ كُلَّ واحِدٍ بكَلِمَةٍ، فلِكُلِّ واحدٍ حَدٌّ) لتعدُّدِ القَذفِ، وتَعدُّدِ مَحلِّه، كمَا لو قذَفَ كُلًّا مِنهُم مِن غَيرِ أن يَقذِفَ الَاخَرَ.
(وإن كانَ إجمالًا) أي: جماعَةً، (فـ) علَيه (حَدٌّ واحِدٌ) إذا طالَبُوه، ولو مُتفرِّقَين، أو طالَبَ واحِدٌ مِنهُم، فيُحدُّ لمَن طَلَبَ، ثم لا حَدَّ بعدَه؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية. فلَم يُفرِّق بينَ مَن قذَفَ واحِدًا أو جماعةً، ولأنَّ الحدَّ إنَّما وجَبَ بإدخالِ المعرَّةِ
(1)
.
(1)
"كشاف القناع"(14/ 91)، وانظر "فتح وهاب المآرب"(3/ 411).
بَابُ حَدِّ المُسْكِرِ
مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا مَائعًا، أوْ اسْتَعَطَ بِهِ، أو احْتَقَنَ بِهِ، أو أكَلَ عَجِينًا مَلْتُوتًا بِهِ، ولَو لَمْ يَسْكَرْ، حُدَّ ثَمانِينَ إنْ كَانَ حُرًّا،
(بَابُ حَدِّ المُسكِر)
السُّكرُ: اختِلاطُ العَقلِ. قال الجوهريُّ: السَّكرَانُ خِلافُ الصَّاحِي، والجَمعُ: سَكْرَى، وسُكَارَى، بضمِّ السينِ وفَتحِها. وهو محرَّمٌ بالإجماع
(1)
.
(مَن شَرِبَ مُسكِرًا مائِعًا) سواءٌ كانَ مِن العِنَبِ، أو الشَّعيرِ، أو غَيرِهما؛ لحديث: "كُلُّ مُسكِرٍ خمرٌ
(2)
، وكُلُّ خَمرٍ حَرامٌ". رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ
(3)
. وعن ابن عُمَرَ مَرفوعًا: "ما أسكَرَ كَثيرُه، فقَليلُهُ حَرامٌ". رواه أحمدُ، وابنُ ماجه
(4)
. والخَمرُ: ما خامَرَ العَقلَ.
(أو استَعَطَ بِه) أي: بمُسكِرٍ، (أو احتَقَنَ به
(5)
، أو أكَلَ عَجينًا مَلتُوتًا بِه) أي: المُسكِرِ، لا إن خُبِزَ فأكلَه، (ولو
(6)
لم يَسْكَر) الشَّارِبُ، (حُدَّ ثَمانِينَ إن كانَ حُرًّا) لما روى أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن شَرِب الخَمرَ فاجلِدُوه". رواه
(1)
"كشاف القناع"(14/ 91).
(2)
في الأصل: "حَرامٌ".
(3)
أخرجه أحمد 8/ 445 (4830)، وأبو داود (3679) من حديث ابن عمر. وهو عندَ مسلم (2003) بهذا اللفظ.
(4)
أخرجه أحمد (9/ 464)(5648)، وابن ماجه (3392)، وصححه الألباني.
(5)
سقطت: "به" من الأصل.
(6)
في الأصل: "أو".
وأربعينَ إنْ كَانَ رَقِيقًا، بشَرْطِ كَوْنِهِ مُسْلِمًا، مُكَلَّفًا، مُختَارًا، عالِمًا أنَّ كثيرَهُ يُسْكِرْ.
ومَنْ تَشَبَّه بشُرَّابِ الخَمْرِ في مَجْلِسِه وآنِيَتِه، حَرُمَ، وعُزِّرَ.
أحمد، وأبو داودَ، والنسائيُّ
(1)
. (وأربَعينَ إن كانَ رَقيقًا) عَبدًا كانَ أو أمَةً.
(بشَرطِ كَونِهِ: مُسلِمًا، مُكلَّفًا
(2)
) لا صَغيرًا ومَجنُونًا (مُختَارًا) لشُربه. فإن أُكرِهَ عليه، لم يُحَدَّ (عالمًا أنَّ كَثيرَهُ يُسكِرُ) ويُصدَّقُ إن قالَ: لم أعلَم أنَّ كثيرَهُ يُسكِرُ.
(ومَن تَشبَّهَ بشُرَّابِ الخَمرِ في مَجلِسِه وآنِيَتِه، حرُمَ، وعُزِّرَ) فاعِلُه، وإن كانَ المشروبُ مُباحًا في نَفسِه. فلَو اجتَمعَ جماعَةٌ، وزَيَّنُوا مجلِسًا، وأحضَرُوا آلاتِ الشَّرَابِ، وأقدَاحَه، وصَبُّوا فيها السَّكَنجَبين
(3)
بينَهُم، ونَصَبُوا ساقِيًا يَدورُ عَليهم ويَسقِيهم، فيأخُذُونَ من السَّاقِي ويَشرَبُون، ويَحيِّي بعضُهُم بَعضًا بكلِمَاتِهم المعتَادَةِ بينَهم، حَرُمَ ذلكَ، وإن كانَ المشروبُ مُباحًا في نَفسِه؛ لأنَّ في ذلكَ تَشبيهًا بأهلِ الفَسادِ.
قال الغزاليُّ في "الإحياء" في كتابِ السَّماعِ، ومَعناهُ قَولُ "الرعاية": ومَن
(1)
أخرجه أحمد (10/ 333)(6197)، والنسائي (5661) من حديث ابن عمر، وأبو داود (4485) من حديث قبيصة بن ذؤيب، والترمذي (1444) من حديث معاوية، وانظر "علل الترمذي"(420)، و "علل الدارقطني"(10/ 91)، و "الصحيحة"(1360).
(2)
في الأصل: "أو مكلفًا".
(3)
السكنجبين: ليس هو من كلام العرب، وهو معروف مركب من السكر والخل ونحوه. "المطلع"(ص 246). وانظر "المعجم الوسيط".
ويَحْرُمُ العَصِيرُ إذَا أَتَى عَلَيْه ثَلاثَةُ أيَّامٍ، ولَمْ يُطْبَخْ.
تشبَّه بالشُّرَّابِ في مجلسِه وآنيَتِه، وحاضَرَ مَن حاضَرَه بمحاضِرِ الشَّرَابِ، حَرُمَ، وعُزِّرَ
(1)
.
(ويحرُمُ العَصيرُ) مِن عِنَبٍ، أو تَمرٍ، أو زمَّانٍ، أو غَيرِه (إذا أتَى عَليهِ ثَلَاثةُ أيَّامٍ) بليالِيهِنَّ، وإن لم يَغْلِ، نصًا؛ لحديث:"اشرَبُوا العصيرَ ثلاثًا، ما لم يَغْلِ"
(2)
. رواه الشالنجي.
وعن ابنِ عُمرَ في العَصيرِ: اشرَبهُ ما لم يَأخُذْهُ شَيطانُه. قِيلَ: وفي كَم يأخُذْهُ شيطانُه؟ قال: في
(3)
ثَلاثٍ. حكاة أحمدُ وغيرُه
(4)
. ولحصُولِ الشدَّةِ في الثَّلاثِ غالبًا، وهي خَفيَّةٌ تحتاجُ لضَابِطٍ، والثَّلاثُ تصلُحُ لذلِكَ، فوجَب اعتبارُها بها.
(ولم يُطبَخ) فإن طُبخَ العصيرُ قبلَ غَلَيَانِه وإتيانِ ثلاثَةِ أيَّامٍ بليالِيهِنَّ، حَلَّ، إن
(5)
ذَهَبَ بطَبخِهِ ثُلُثَاهُ فأكثَرُ نصًا. وذَكَرَهُ أبو بَكرٍ إجماعَ المسلِمين؛ لأنَّ أبا مُوسَى كانَ يَشرَبُ مِن الطِّلاءِ ما ذَهَبَ ثُلُثاهُ
(6)
وبَقِيَ ثُلُثٌ. رواهُ النسائيُّ
(7)
. ولذَهابِ أكثَرِ رُطُوبَتِه، فلا يكادُ يَغلِي، فلا تحصُلُ فيه الشدَّةُ، بل يصيرُ كالرُّبِّ
(8)
. وهذا هوُ الذي يأتي من جبلِ الخَليلِ، يُقالُ له: الدِّبسَ.
(1)
"كشاف القناع"(14/ 108).
(2)
قال الألباني في "الإرواء"(2386): لم أقف على إسناده مرفوعًا.
(3)
سقطت: "في" من الأصل.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 217).
(5)
سقطت: "إن" من الأصل.
(6)
سقطت: "فأكثر نصا وذكره أبو بكر إجماع المسلمين لأن أبا موسى كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه" من الأصل. والتصويب من "دقائق أولي النهى"(6/ 221).
(7)
أخرجه النَّسَائِيّ (5721).
(8)
والرُّبُّ، بالضمّ: سُلافَةُ خُثارَةِ كلّ ثَمَرَةٍ بعدَ اعْتِصارِها. "القاموس المحيط": (1/ 112).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ووَضعُ زَبيبٍ في خَردَلٍ كعَصيرٍ، فيحرُمُ إن غَلَى، أو أتَى عليهِ ثلاثَةُ أيامِ بليالِيهِنَّ. وإن صُبَّ على الزَّبيبِ والخَردَلِ خَلٌّ، أُكِلَ، ولو بَعدَ ثلاثٍ؛ لأنَّ الخلَّ يمنَعُ غَليانَه.
ويُكرَهُ الخَليطَانِ كنَبيذِ تَمرٍ معَ زَبيبٍ، أو بُسْرٍ معَ تمرٍ، أو رُطَبٍ. وكذا نبيذٌ مُذنِّبٌ، أي: نِصفُهُ بُسْرٌ ونِصفُهُ رُطَبٌ؛ لحديثِ جابرٍ مرفوعًا: نهى أن يُنبَذَ التَّمرُ والزَّبيبُ جميعًا، ونهى أن يُنبَذَ الرُّطَبُ والبُسرُ جميعًا. رواهُ الجماعةُ
(1)
إلَّا الترمذي.
وعن أبي سَعيدٍ قال: نهانَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نخلِطَ بُسرًا بتَمرٍ، أو زَبيبًا بتَمرٍ، أو زَبيبًا ببُسرٍ. وقال:"مَن شَرِبَه مِنكُم فليَشرَبْهُ زَبيبًا فَردًا، أو تمرًا فَردًا، أو بُسرًا فردًا". رواهُ مُسلمٌ، والنَّسائي
(2)
.
قال أحمدُ في الرَّجُلِ يَنقَعُ الزَّبيبَ والتَّمرَ الهِنديَّ
(3)
والعُنَّابَ ونحوَه للدواء؟: أكرَهُهُ؛ لأنَّه ينبذُ، ولكِنْ يطبَخُه ويَشرَبُه
(4)
.
ما لم يَغْلِ، أو تَأتِ عليه ثلاثَةُ أيَّامٍ بلياليهِنَّ، فيحرُمُ لما سبَق.
(1)
أخرجه البخاري (5601)، ومسلم (1986)، وأبو داود (3703)، والنسائي (5556)، وابن ماجه (3395).
(2)
أخرجه مسلم (1987)، والنسائي (5568).
(3)
في الأصل: "هندي".
(4)
"كشاف القناع"(14/ 106).
بَابُ التَّعْزِيرِ
يَجِبُ في كلِّ مَعْصيةٍ لا حَدَّ فِيهَا ولَّا كَفَّارَةَ.
وهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالَى، لا يَحْتاجُ في إقامَتِه إلَى مُطالَبَةٍ، إلَّا إذا شَتَمَ الوَلَدُ وَالِدَه، فلا يُعَزَّرُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ وَالِدِهِ. ولا يُعَزَّرُ الوَالِدُ بِحُقُوقِ وَلَدِهِ.
(بابُ التَّعزيرِ)
وهو لُغةً: المنعُ، ومِنهُ التعزيرُ بمَعنى النُّصرَةِ، كقولِه تعالى:{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] لمنعِ الناصِرِ المُعادِيَ والمعانِدَ لمَن يَنصُرُه.
واصطلاحًا: التأديبُ؛ لأنَّه يَمنَعُ مما لا يجوزُ فِعلُه.
(يَجِبُ) التَّعزيرُ على كُلِّ مُكلَّفٍ. نصَّ عليه في سَبِّ صحابيٍّ، وكَحَدٍّ، وكَحَقِّ آدميٍّ طلَبَه
(1)
.
(في كُلِّ مَعصيَةٍ لا حَدَّ فِيها، ولا كفَّارَةَ) كمُباشَرةٍ دُونَ الفَرجِ، وإتيانِ امرأةٍ لامرأةٍ، وسرقَةٍ لا قَطعَ فيها؛ لفَقدِ حِرزٍ، ونَقصِ نِصابٍ، وكَجِنايَةٍ لا قَوَدَ فِيها، كصَفْعٍ، ووَكْزٍ، وهو الدَّفعُ والضَّربُ بجُمعِ الكفِّ.
وقوله: "لا حدَّ فيها" أخرَجَ ما أوجَبَ الحدَّ، مِن الزِّنَى، والقَذفِ، والسرقةِ، ونحوِها.
وقوله: "ولا كفَّارَةَ" خرجَ به الظِّهارُ، والإيلاءُ، وشِبهُ العَمدِ.
(وهُو مِن حُقوقِ اللهِ تعالى، ولا يَحتاجُ في إقامَتِه إلى مُطالَبةٍ، إلَّا إذا شَتَمَ الولَدُ والِدَه، فلا يُعزَّرُ
(2)
إلَّا بمُطالَبَةِ والِدِه. ولا يُعزَّرُ الوالدُ بحُقُوقِ ولَدِه).
(1)
في الأصل: "عليه".
(2)
في الأصل: "تعزير".
ولا يُزَادُ في جَلْدِ التَّعْزِيرِ عَلَى عَشَرةِ أسْوَاطٍ، إلَّا إذَا وَطِئَ أَمَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، فيُعزَّرُ بِمِائَةِ سَوْطٍ إلَّا سَوْطًا، وإذا شَرِبَ مُسْكِرًا نَهَارَ رَمَضانَ، فيُعَزَّرُ بعِشْرِينَ
(ولا يُزادُ في جَلدِ التَّعزيرِ على عَشَرَةِ أسواطٍ) نصًا؛ لحديثِ أبي بُردَةَ مرفوعًا: "لا يُجلَدُ أحدٌ فوقَ عشَرَةِ أسواطٍ إلَّا في حدٍّ مِن حُدودِ الله". متفق عليه
(1)
.
وللحَاكِمِ نَقصُه عن العَشَرَةِ؛ لأنَّه عليه السلام قدَّر أكثَرَه ولم يُقدِّر أقلَّه، فيُرجَعُ فيه إلى اجتِهادِ الحاكمِ بحَسَبِ حالِ الشَّخصِ.
ويَكونُ التعزيزُ أيضًا بالحَبسِ، والصَّفعِ، والتَّوبيخِ، والعَزلِ عن الوِلايَةِ، وإقامتِه من المجلِسِ، حسبَمَا يراهُ الحاكمُ، ويَصلُبُه حيًا.
ولا يُمنَعُ مِن أكلٍ، ووضوءٍ، ويُصلِّي بالإيماءِ، ولا يُعيدُ.
وفي "الفنون": للسُّلطانِ سُلوكُ السياسَةِ، وهو الحزمُ عِندَنا. ولا تَقِفُ السياسةُ على ما نطقَ به الشرعُ
(2)
.
(إلَّا إذا وَطِئَ أمةً له فيها شِرْكٌ، فيُعزَّرُ بمائةِ سَوطٍ إلَّا سَوطًا) نصًا. لينقُصَ عن حدِّ الزِّنى.
(وإذا شَرِبَ مُسكِرًا في نَهارِ رَمضانَ، فيُعزَّرُ بعِشرين) سَوطًا؛ لما روى أحمدُ: أنَّ عليًّا أُتِيَ بالنَّجاشيِّ قَد شَرِبَ خمرًا في رَمضانَ، فجلَدَه ثمانِينَ الحدَّ، وعِشرينَ سَوطًا؛ لفِطرِه في رَمضانَ
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (6848)، ومسلم (1708).
(2)
"دقائق أولي النهى"(6/ 228).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 231).
مَعَ الحَدِّ.
ولا بَأْسَ بتَسْويدِ وَجْهِ مَن يَستحِقُّ التَّعْزِيرَ والمُنَادَاةِ عَلَيْه بِذَنْبِه. ويَحْرُمُ حَلْقُ لِحْيَتِه، وأَخْذُ مَالِهِ.
(ولا بأسَ بتَسويدِ وجهِ مَن يَستحقُّ التعزيرَ، والمُنادَاةِ عَليهِ بذَنبِه) ويُطافُ بهِ معَ ضَربه. قال أحمدُ في شاهِدِ الزُّورِ: فيهِ عن عمرَ: يُضرَبُ ظهرُه، ويُحلَقُ رأسُه، ويُسخَّمُ وجهُهُ، ويُطافُ بِهِ، ويُطالُ حَبسُهُ
(1)
.
(ويحرمُ حلقُ لِحيَتِه، وأخذُ مالِه) وقَطعُ طَرَفٍ، وجَرحٍ؛ لأنَّهُ مُثلَةٌ.
* * *
(1)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 326).
فَصْل
وَمِنَ الألْفَاظِ المُوجِبَةِ للتَّعْزيرِ قَوْلُه لِغَيْرِهِ: يَا كَافِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا شَقِيُّ، يا كَلْبُ، يا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يا رَافِضِيُّ، يا خَبِيثُ، يَا كَذَّابُ، يا خَائِنُ، يا قَرْنَانُ، يَا قَوَّادُ، يا دَيُّوثُ، يا عِلَقُ.
ويُعَزَّرُ مَن قَالَ لذِمِّيٍّ: يا حَاجُّ، أوْ لَعَنَه بغَيْرِ مُوجِبٍ.
(فَصلٌ)
(ومِن الألفَاظِ الموجِبَةِ للتَّعزيرِ: قولُه لِغَيرِه: يا كافِرُ، يا فاسِقُ، يا فاجِرُ، يا شقيُّ، يا كَلبُ، يا حِمارُ، يا تَيسُ، يا رَافِضيُّ، يا خَبيثُ، يا كَذَّابُ، يا خائِنُ، يا قَرنَانُ، يا قوَّادُ، يا ديُّوثُ، يا عِلَقُ).
(ويُعزَّرُ مَن قال لذميٍّ: يا حَاجُّ. أو لعَنَهُ بغَيرِ مُوجِبٍ).
ومَن عُرِفَ بأذَى النَّاسِ -حتَّى بعَينِه- حُبِسَ حتَّى يموتَ، أو يتوبَ، ونفَقَتُه من بَيتِ المالِ؛ ليدفعَ ضَرَرُهُ.
* * *
بابُ القَطْعِ في السَّرِقَةِ
ويَجِبُ بثَمانِيَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَما: السَّرِقَة، وهِيَ: أخْذ مَالِ الغَيْرِ مِن مَالِكِهِ أوْ نَائِبِه، علَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ.
فلا قَطْعَ عَلَى مُنْتَهِبٍ، ومُخْتَطِفٍ، وخَائِنٍ
(بابُ القَطعِ في السَّرِقَةِ)
وهو ثابتٌ بالإجماعِ؛ لقولِه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وقولِه عليه السلام في حديث عائشةَ: "تُقطَعُ اليدُ في رُبعِ دِينارٍ فصاعِدًا"
(1)
.
(ويَجِبُ القَطعُ بثمانِيَةِ شُروطٍ):
(أحدُها: السَّرِقَةُ) لأنَّه تعالى أوجَبَ القَطعَ على السارقِ، فإذا لم تُوجَدِ السرقةُ، لم يكُن الفاعِلُ سارِقًا.
(وهي) أي: السَّرقَةُ: (أخذُ مالِ الغَيرِ من مالكِهِ أو نائِبِه) أي: المالِكِ، (على وجهِ الاختِفَاء).
(فلا قَطعَ على مُنتَهِبِ، ومُختَطِفٍ، وخائنٍ) يؤتمَنُ على شيءٍ، فيُخفيهِ أو بعضَه، أو يجحَدُه. من الَتخوُّنِ، وهو: التَّنقيصُ؛ لحديث: "ليسَ على الخائنِ، والمختَلِسِ قَطعٌ". رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684).
(2)
أخرجه أبو داود (4392)، والترمذي (1448) من حديث جابر. وصححه الألباني.
في وَدِيعةٍ، لكنْ يُقْطَعُ جَاحِدُ العَارِيَّةِ.
الثَّانى: كَوْنُ السَّارِقِ مُكَلَّفًا، مُخْتارًا، عَالِمًا بِأَنَّ مَا سَرَقَهُ يُساوِي نِصَابًا.
الثَّالِثُ: كَوْنُ المَسْرُوقِ مَالًا.
لكِنْ لا قَطْعَ بسَرِقَةِ المَاءِ، ولا بإنَاءٍ فِيهِ خَمْرٌ أوْ مَاءٌ، ولا بسَرِقَةِ مُصْحَفٍ،
(في وَديعَةٍ) ولا غَيرِها مِن الأمانَاتِ (لكِنْ يُقطَعُ جاحِدُ العاريَّةِ) لما رَوَت عائشةُ: أنَّ امرأةً كانَت تستعيرُ المتاعَ وتجحَدُه، فأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَطعِ يَدِها. رواه مسلمٌ
(1)
.
(الثاني) مِن شُروطِ القَطعِ في السرقَةِ: (كونُ السارِقِ مُكلَّفًا) لأنَّ غيرَ المكلَّفِ مرفوعٌ عنه القَلمُ (مختارًا) لأنَّ المُكرَهَ مَعذورٌ (عالمًا بأنَّ ما سَرَقَه يُساوي نِصَابًا) وتَحريمِه.
(الثَّالِثُ) مِن شُروطِ القَطعِ في السرقةِ: (كَونُ المسروقِ مَالًا) لأنَّ غيرَ المالِ ليسَ لهُ حُرمَةُ المالِ، ولا يُساوِيه، فلا يُلحَقُ به.
وشَرطُ المالِ: أن يكونَ مُحتَرَمًا؛ لأنَّ غيرَ المحتَرَمِ، كمالِ الحربيِّ، تجوزُ سَرِقَتُه؛ لأنَّه غَيرُ مُحتَرَمٍ.
(لكِنْ لا قَطعَ بسَرِقَةِ الماءِ) لأنَّه لا يُتمَوَّلُ عادَةً.
(ولا) قَطعَ (باناءٍ فيهِ خَمرٌ أوماءٌ) لاتِّصالِهَا بما لا قَطعَ فيه.
(ولا) قَطعَ (بسَرِقَةِ مُصحَفٍ) لأنَّ المقصودَ مِنهُ كلامُ اللهِ تعالى، وهو لا يجوزُ أخذُ العِوَضِ عَنهُ.
(1)
أخرجه مسلم (1688).
ولا بِمَا عَلَيْه مِن حُلْيٍّ، ولا بكُتُبِ بِدَعٍ وتَصَاوِيرَ، ولا بِآلَةِ لَهْو، ولا بصَلِيبٍ، أوْ صَنَمٍ.
الرَّابعُ: كَوْنُ المَسْرُوقِ نِصَابًا، وهُوَ: ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ، أوْ رُبُعُ في ينارٍ، ....
(ولا) قَطعَ (بـ) سَرِقَةِ (ما عليه) أي: المُصحَفِ (مِن حُليٍّ) لأنَّه تابعٌ لما لا قَطعَ فَيه.
(ولا) قَطعَ (بِكُتُبِ بِدَعٍ وتَصاويرَ) لأنَّها واجِبَةُ الإتلافِ، ومِثلُها سائِرُ الكُتُبِ المحرَّمَةِ.
(ولا بـ) سَرِقَةِ (آلَةِ لَهْوٍ) كمِزمَارٍ وطَبلِ غَيرِ حَرب؛ لأنَّه معصيةٌ، كالخَمرِ، ومِثلُه: نَرْدٌ - ويقالُ له: الطَّاوِلَةَ
(1)
- وشِطرَنجٌ، ومنقَلةٌ. ولأنَّ للسارِق حقًا في أخذِها لكَسرِها، أي: مأمُورٌ بكَسرِها، ولو كانَ عليهِ حِليَةٌ تبلغُ نِصابًا؛ لأنها تابِعَةٌ لما لا قَطعَ فيه.
(ولا) يُقطَعُ (بـ) سَرِقَةِ (صَليبِ) نَقدٍ (أو صَنَمِ) نَقدٍ، ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، تبعًا للصِّناعَةِ المحرَّمَةِ المجمعِ على تحريمِها، بخلافِ صِناعَةِ الآنيَةِ، والأوتَارِ التي بالطُّنبُورِ.
الشرطُ (الرابع: كونُ المسرُوقِ نِصابًا، وهو) أي: النِّصابُ المسرُوقُ: (ثلَاثَةُ دَرَاهِمَ) خالِصَةٍ، أو ثلاثَةُ دراهِمَ تَخلُصُ مِن فِضَّةٍ مغشُوشةٍ بنَحو نُحاسٍ (أو رَبعُ دِينَارٍ) أي: مِثقَالُ ذَهب. ويَكفِي الوَزنُ مِن الفِضَّةِ الخالصَةِ، أو التِّبرِ الخالِص.
فلا قَطعَ بسرقة ما دُونَ ذلك؛ لحديث: "لا تُقطَعُ اليدُ إلَّا في رُبعِ دِينارٍ
(1)
في الأصل: "الطاويلة".
أو مَا يُساوِي أحَدَهُمَا، وتُعتَبَرُ القِيمَةُ حَالَ الإخْرَاجِ.
الخامِسُ: إخْرَاجُهُ مِنْ حِرْزٍ، فَلَوْ سَرَقَ مِن غَيْرِ حِرْزٍ،
فصاعِدًا". رواهُ أحمدُ، ومسلم، والنسائي، وابنُ ماجه
(1)
. وكانَ رُبعُ الدِّينارِ يَومئذٍ: ثَلاثَةَ دَراهِمَ، والدِّينارُ: اثنَي عَشَرَ دِرهمًا. رواهُ أحمَدُ
(2)
.
ويُكمَّلُ أحَدُهُما بالآخَرِ، فلو سَرَقَ دِرهمًا ونِصفَ دِرهَمٍ مِن خالِصِ الفضَّةِ، وثَمَنَ دِينارٍ مِن خالِصِ الذَّهَبِ، قُطِعَ؛ لأنَّه سرَقَ نِصابًا.
(أو) سَرَقَ (مما يُساوِي) قِيمَةَ (أَحَدِهما) أي: نِصابِ الذَّهَبِ أو الفضَّةِ، من غَيرِهِما، كثَوبٍ ونحوِه يُساوِي ذلِكَ.
(وتُعتبَرُ القِيمَةُ) أي: قِيمَةُ مَسروقٍ
(3)
ليسَ ذَهبًا ولا فِضَّةً (حالَ الإخراجِ) من الحِرزِ
(4)
، اعتبارًا بوَقتِ السرقَةِ؛ لأنَّه وقتُ الوجُوبِ؛ لوُجُوبِ السَّببِ فيه، لا ما حدَثَ بعدُ.
فلو نَقَصت قيمَةُ مَسروقٍ بعدَ إخراجِه، قُطِعَ؛ لوجودِ النَّقصِ بعدَ السَّرِقَةِ، كما لو نَقَصَت قِيمَتُه باستعمالِه.
الشرطُ (الخامِسُ: إخراجُه) أي: النِّصابِ (مِن حِرزٍ) لحديثِ عَمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رَجلًا مِن مُزينَةَ سألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الثِّمَارِ؟
(1)
أخرجه أحمدُ (41/ 248)(24725)، ومسلم (1684)، والنسائي (4939)، وابنُ ماجه (2585) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه أحمد (41/ 60)(24515) من حديث عائشة.
(3)
في الأصل: "المسروق".
(4)
في الأصل: "الأحرز".
فَلا قَطْعَ.
وحِرْز كُلِّ مَالٍ: مَا حُفِظَ فِيه عادَةً، فنَعْلٌ برِجْلٍ، وعِمَامَةٌ علَى رَأسٍ، حِرْزٌ. ويُخْتَلَفُ الحِرْزُ بالبُلْدَانِ، وبالسَّلاطِينِ.
فقالَ: "ما أُخِذَ في أكمَامِه
(1)
واحتُمِلَ، ففيهِ قِيمَتُه ومِثلُهُ معَه، وما كانَ في الجَرينِ، ففيهِ القَطعُ إذا بلَغَ ثمنَ المِجَنِّ". رواه أبو داود، وابن ماجه
(2)
. وهو مُخصِّصٌ للآيَةِ.
(فلو سَرَقَ مِن غيرِ حِرزٍ، فلا قَطعَ) بأن وجَدَ حِرزًا مَهتوكًا، أو بابًا مفتُوحًا، فأخَذَ منه نِصابًا، فلا قَطعَ؛ لفَواتِ شَرطِه، كما لو أتلَفَه داخِلَ الحِرزِ بأكلٍ أو غيرِه، وعليه ضمانُه.
(وحِرزُ كُلِّ مالٍ: ما حُفِظَ فيه) ذلِكَ المالُ (عادَةً) لأنَّ معنى الحِرزِ: الحِفظُ. ومِنهُ: احتَرِزْ مِن كذَا. ولم يَرِدْ مِن الشرعِ بيانُه، ولا لهُ عُرفٌ لُغَويٌّ يتقرَّر بهٍ، كالقَبض، والتفرُّقِ في البَيعِ.
(فنَعْلٌ بِرِجْلٍ) ومِثلُهُ خُفٌّ ونحوُه، (وعِمامَةٌ على رأسٍ، حِرْزٌ) خَبرٌ؛ لأنَّه هكَذا يُحرَزُ عادَةً.
(ويَختَلِفُ الحِرزُ بالبُلدَانِ) كِبَرًا وصغرًا؛ لخَفَاءِ السَّارِقِ بالبلَدِ الكبيرِ؛ لسَعَةِ أقطارِه أكثَرَ مِنهُ في البلدِ الصغيرِ. (والسَّلاطينِ) مِن عدلٍ وقوَّةٍ، وجَورٍ وضَعفٍ، فإنَّ السّلطانَ العادِلَ يُقيمُ الحُدودَ، فتَقِلُّ السُّرَّاق؛ خوفًا من الرَّفعِ إليه، فيَقطَعَ، فلا يحتاج الإنسان إلى زيادَةِ حِرزٍ.
(1)
في الأصل: "ما أُخِذَ من غير أكمامه".
(2)
أخرجه أبو داود (4390)، وابن ماجه (2596)، وحسنه الألباني.
ولَو اشْتَرَكَ جَمَاعةٌ في هَتْكِ الحِرْزِ، وإخْرَاجِ النِّصَابِ، قُطِعُوا جَمِيعًا.
وإنْ هَتَكَ الحِرْزَ أحَدُهُمَا، ودَخَلَ الآخَرُ فأخْرَجَ المَالَ، فلا قَطْعَ عَلَيهِمَا، ولَوْ تَوَاطَآ.
السَّادِسُ: انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ.
فلا قَطْعَ بسَرِقَتِه مِن مَالِ فُرُوعِهِ،
وإن كانَ جائِرًا يُشارِكُ مَن التَجَأَ إليه مِن الدُّعَّارِ
(1)
، ويَذبُّ عَنهُم، قَوِيَت صولتُهم، فيَحتاجُ أربابُ الأموالِ لزِيادَةِ التحفُّظِ. وكذا الحالُ معَ قُوَّتِه وضعفِه.
(ولو اشتَرَكَ جماعةٌ في هَتكِ الحِرزِ، وإخراجِ النِّصابِ، قُطِعُوا جميعًا) لوجُودِ سببِ القَطعِ مِنهُم -كالقَتلِ- واشتِرَاكِهِم في هَتكِ الحِرزِ، وإخراجِ النِّصابِ.
(وإن هَتَكَ الحِرزَ أحدُهُما، ودخَلَ الآخرُ، فأخرَجَ المالَ، فلا قَطعَ عَليهِما) أي: على واحِدٍ مِنهُما؛ لأنَّ الأوَّلَ لم يَسرِق، والثاني لم يَهتِك (ولو تواطآ) على ذلِكَ؛ لأنَّه لا فِعلَ لأحدِهِما فيمَا فعلَه الآخرُ، فلم يبقَ إلا القَصدُ. والقصدُ إذا لم يُقارِنهُ الفِعلُ، لا يترتَّبُ عليه حكمٌ.
الشرطُ (السادِسُ: انتِفاءُ الشُّبهَةِ).
(فلا قَطعَ بسَرِقَتِه مِن مالِ فُرُوعِه) كولَدِه، وإن سفَلَ؛ لحديث:"أنتَ ومالُكَ لأبيكَ"
(2)
.
(1)
في الأصل: "الدعارة".
(2)
أخرجه أحمد (11/ 503)(6902) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد ورد عن جماعة من الصحابة مرفوعًا. وقد صححه الألباني في "الإرواء"(838).
وأُصُولِه، وزَوْجِهِ، ولا بسَرِقَتِه مِن مَالٍ لَهُ فِيهِ شِرْكٌ، أوْ لأَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ.
السَّابع: ثُبُوتُهَا، إمَّا بشَهادَةِ عَدْلَيْنِ، ويَصِفَانِهَا، ولا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى، أوْ بِإقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ،
(وأصُولِه) كوَالِدِه، وإن عَلا، فلأنَّ بَينَهُم قرابَةً تَمنَعُ مِن قُبولِ شَهادةِ بَعضِهم لبَعضٍ، ولأنَّ النفقةَ تجِبُ لأحدِهم على الآخَرِ، حِفظًا له، فلا يجوزُ إتلافُه.
(و) لا قَطعَ بسَرِقَةٍ مِن مالِ (زَوجِه) أي: زَوجِ السَّارِقِ.
(ولا) قطعَ (بسَرِقَتِه مِن مالٍ لهُ فيه شِرْكٌ) كالمالِ المشتَركِ بينَهُ وبينَ شَريكِهِ (أو لأحَدٍ ممَّن ذُكرَ) أي: مِن عَمُودَي نَسبِه وإن عَلا، وابنِه وإن سَفَلَ.
ولا بِسَرقَةِ مُسلمٍ مِن بيتِ المالِ.
الشَّرطُ (السَّابعُ) مِن شُروطِ السَّرقَةِ: (ثُبُوتُها) أي: السَّرقَةِ:
(إمَّا بشَهادَةِ عَدلَين) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. والأصلُ عُمُومُه.
(ويَصِفَانِهَا) أي: السرقِةَ في شَهادَتِهما
(1)
، وإلَّا لم يُقطَع؛ لأنَّه حدٌّ، فيُدَرأُ بالشُّبهَةِ، كالزِّنى.
(ولا تُسمَعُ) شهادَتُهُما (قَبلَ الدَّعوَى) من مالِكِ مَسروقٍ، أو مَن يَقومُ مقامَه.
(أو بإقرارٍ مرَّتَين) أي: بإقرارِ السارقِ مَرَّتَين؛ لأنَّه يتضمَّنُ إتلافًا، فاعتُبِرَ تِكرَارُ الإقرارِ فِيهِ، كالزِّنَى.
أو يُقالُ: الإقرارُ أَحَدُ حُجَّتَي القَطعِ، فاعتُبِرَ فيه التِّكرَارُ، كالشَّهادَةِ.
واحتجَّ أحمدُ في روايَةِ مُهنَّا بما حكاه عن القَاسِم بنِ عبد الرحمن، عن عليٍّ:
(1)
لم تتضح: "في شهادتهما" في الأصل بسبب تلف الورقة.
ولا يَرْجِعُ حتَّى يُقطَعَ.
الثَّامِنُ: مُطالَبَةُ المَسْرُوقِ مِنْهُ بِمَالِهِ.
ولا قَطْعَ عَامَ مَجَاعَةِ غَلاءٍ.
فمَتَى تَوفَّرَتِ الشُّرُوطُ، قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمْنَى مِن مَفْصِلِ كَفِّهِ، وغُمِسَتْ وُجُوباً في زَيْتٍ مَغْلِيٍّ
لا تُقطَعُ يدُ السارِقِ حتَّى يشهدَ على نفسِهِ مَرَّتَين
(1)
. (ولا يَرجِعُ حتَّى يُقطَعَ) فإن رجعَ، تُرِكَ ولم يُقطَع.
الشَّرطُ (الثامِنُ) من شُروطِ السرقَةِ: (مُطالَبَةُ المسروقِ مِنهُ بمالِه) أو يُطالِبُ بهِ وَكيلُه؛ لأنَّ المالَ يُباحُ بالبَذلِ والإباحَةِ، فيحتَملُ أن يكونَ مالِكُه أباحَه إيَّاهُ. أو وقَفَهُ على جماعةِ المسلمين، أو على طائفَةٍ منهم، فإذا طالَبَ ربُّ
(2)
المالِ بهِ، زال هذا الاحتمالُ، وانتفَتِ الشبهَةُ.
(ولا قَطعَ عامَ مَجاعَةِ غَلاءٍ) إن لم يجِد سارِقٌ ما يَشتَرِيه، أو ما يَشتَرِي بهِ. نصًا.
(فمَتَى توفَّرَت الشروطُ) السابِقَةُ (قُطِعَت يدُهُ اليُمنَى من مَفصِلِ كفِّه) قال في "المبدع"
(3)
: بلا خِلافٍ (وغُمِسَت وجوبًا في زَيتٍ مَغلىٍّ) لتَنسدَّ أفواهُ العُروقِ، فيَنقَطِعَ الدَّمُ
(4)
، إذ لو تُرِكَ بلا حَسمٍ، وهو الغَمسُ، لنَزَفَ الدمُ، فأدَّى إلى مَوتِه.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (10/ 191).
(2)
سقطت: "رب" من الأصل.
(3)
سقطت: "في المبدع" بسبب تلف الورقة. وانظر "كشاف القناع"(14/ 169).
(4)
سقطت: "فيَنقَطِعَ الدَّمُ" من الأصل بسبب تلف الورقة.
وسُنَّ تَعْلِيقُهَا في عُنُقِه ثَلاثَةَ أيامٍ، إنْ رَآه الإمَامُ.
فإنْ عَادَ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرَى مِن مَفْصِلِ كَعْبِهِ بتَرْكِ عَقِبِهِ.
(وسُنَّ تَعليقُهَا في عُنُقِه ثلَاثةَ أيَّامِ، إن رآهُ الإمامُ) أي: أدَّاهُ إليه اجتهادُه؛ لتتَّعِظَ السرَّاقُ به؛ لما رَوى فَضالَةُ بنُ عُبيدَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتي بِسارِقٍ، فقُطِعَت يدُه، ثمَّ أمَرَ بهِ فَعلِّقَت في عنقه
(1)
. رواه أبو داودَ، وابن ماجه
(2)
. وفعَلَهُ عليٌّ
(3)
.
(فإن عادَ
(4)
) فسَرَقَ (قُطِعَت رِجلُه اليُسرَى مِن مَفصِلِ كعبِه بتَركِ عَقبِه).
أمَّا قطعُ الرِّجلِ؛ فلحديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا في السارق: "إن سرَقَ، فاقطَعُوا يدَه، ثمَّ إن سرَقَ، فاقطَعُوا رِجلَه"
(5)
. ولأنَّه قولُ أبي بَكرٍ وعُمرَ، ولا مُخالِفَ لهُما مِن الصحابَةِ.
وأمَّا كَونُها اليُسرَى فقياسًا على المحارَبَةِ، ولأنّه أرفَقُ به، ولأنَّ المشيَ على الرِّجلِ اليُمنَى أسهَلُ وأمكَنُ له من اليسرى.
وأمَّا كونُه مِن مَفصِلِ كَعبِه وتَركُ عَقبِه؛ فلِما رَوي عن عليِّ أنَّه كان يقطعُ من شَطرِ القَدَمِ، ويتركُ له عَقِبَها يَمشي عَليها
(6)
.
(فإن عادَ) فسَرَقَ (لم يُقطَع، وحُبِسَ حتَّى يموتَ، أو يتوبَ) ويحرُمُ أن
(1)
في الأصل: "يده".
(2)
أخرجه أبو داود (4411)، وابن ماجه (2587)، وضعفه الألباني.
(3)
أخرجه عبد الرزاق (10/ 191).
(4)
سقطت: "فإن عاد" من الأصل بسبب تلف كعب الصفحة، وهكذا الكلمات في أواخر الأسطر إلى نهاية المخطوط. وقد اعتمدت في إثبات النقص متن "الدليل" أو "دقائق أولي النهى".
(5)
أخرجه الدارقطني (3/ 181)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2434).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (10/ 185).
فإنْ عَادَ، لَمْ يُقْطَعْ، وحُبِسَ حتَّى يَموتَ، أوْ يَتوبَ.
ويَجْتَمِعُ القَطْعُ والضَّمَانُ، فيَرُدُّ مَا أخَذَ لِمَالِكِهِ، ويُعِيدُ ما خَرِبَ مِن الحِرْزِ. وعَلَيْه أُجْرَةُ القَاطِعِ، وثَمَن الزَّيْتِ.
يُقطَعَ.
وحِكمَةُ حَبسِه: كفُّهُ عن السرِقَةِ، وتعزيرُهُ.
فلو سَرَقَ شخصٌ ويَمينُهُ، أي: يُمنى يَديه ذَاهِبَةٌ، أو رِجلُهُ اليُسرَى ذاهِبَةٌ، قُطِعَ البَاقِي مِنهُمَا.
(ويَجتَمِعُ) على سارِقٍ (القَطعُ والضَّمانُ) أي: ضمانُ ما سرَقَهُ. نصًا؛ لأنَّهُما حقَّانِ لمستَحقَّين، فجازَ اجتماعهُما، كالدِّيَةِ والكفَّارَةِ في قتلِ الخطأ.
(فيرُدُّ ما أخذَ
(1)
لمالِكِه) إن كانَ باقيًا؛ لأنَّه عينُ مالِه. وإن تَلِفَ مَسروقٌ، فعَلَى سارِقهِ مِثلُ مِثليٍّ، وقِيمَةُ غيرِه، كمغصُوبٍ.
(ويُعيدُ ما خَرِبَ مِن الحِرزِ) لتعدِّيه. والقياسُ: يَضمَنُ أرشَ نَقصِه.
(وعَليه) أي: السَّارِقِ (أُجرَةُ القَاطِعِ) يدَهُ، أو رِجلَه؛ لأنَّ القطعَ حقٌّ وجَبَ عليه الخروجُ مِنه، فكانَت مؤنتُه عليه، كسائرِ الحُقُوقِ.
(و) عَليه (ثمنُ الزَّيتِ) حفظًا لنَفسِه؛ إذ لا يُؤمَنُ عليها التلفُ بدُونِه.
* * *
(1)
في الأصل: "ما أخذه".
بَاُب حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وهُم: المُكَلَّفُونَ المُلْتَزِمُونَ، الذينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فيَأخُذُونَ أمْوَالَهُم مُجَاهَرَةً.
ويُعْتَبَرُ: ثُبُوتُه بِبَيِّنةٍ، أوْ إقْرَارٍ مَرَّتينِ، والحِرْزُ، والنِّصَابُ.
(بابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّريقِ)
والأصلُ فيه: قولُه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الآية. قال ابنُ عبَّاسٍ وأكثرُ المفسِّرين: نزلَت في قُطَّاعِ الطَّريقِ مِن المسلِمين
(1)
.
(وهُم المكلَّفُون) مِن مُسلِمٍ وذميٍّ (المُلتَزِمُون الذين يَخرُجُونَ على النَّاسِ فيأخُذُونَ أموالَهم مجاهَرَةً) لا خِفيَةً.
فإن أخذُوا المالَ مُختَفينَ، فهم سُرَّاقٌ، كما تقدَّم الكلامُ في ذلِكَ.
وإن خَطَفُوهُ وهرَبُوا، فمُنتَهِبُونَ لا قَطعَ عليهمِ.
(ويُعتَبرُ) لوجُوبِ الحدِّ على المحارِبِ ثلاثَةُ شُروطٍ:
الأوَّلُ: (ثُبوتُه) أي: قَطعِ الطَّريقِ (ببيِّنَةٍ، أو إقرارٍ مرَّتَين) كسَرِقَةٍ. ذكَرهُ القاضي وغيرُه.
(و) الشَّرطُ الثاني: (الحِرزُ) بأن يأخُذَهُ مِن يدِ مُستحقِّه، وهو بالقَافِلَةِ، فلو وجدَهُ مطرُوحًا، أو أخذَهُ مِن سارِقِه أو غاصِبِه، أو مُنفَرِدًا عن قافِلَةٍ، لم يكُن مُحارِبًا.
(و) الثالِثُ: (النِّصابُ) الذي يُقطَعُ به السارِقُ.
(1)
لم أقف عليه عن ابن عباس ولا غيره. وانظر "الإرواء"(2440).
ولَهُمْ أرْبَعَةُ أحْكَامِ
.
إنْ قَتَلُوا ولَمْ يَأخُذُواَ مَالًا، تَحَتَّمَ قَتْلُهُم جَمِيعًا.
وَإنْ قَتَلُوا وَأخَذُوا مَالًا، تَحَتَّمَ قَتْلُهُم وَصَلْبُهُمْ حَتَّى يَشْتَهِرُوا.
وإنْ أَخَذُوا مَالًا ولم يَقْتُلُوا، قُطِّعَتْ أَيْدِيهِم وأرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ، حَتْمًا في آنٍ واحِدٍ.
(ولهم) أي: قطَّاعِ الطَّريقِ (أربعَةُ أحكامٍ):
(إن قَتَلُوا، ولم يأخُذُوا مالًا، تحتَّمَ قَتلُهم جميعًا).
(وإن قَتلُوا وأخذُوا مالًا، تحتَّمَ قتلُهم وصَلبُهُم حتَّى يَشتَهِرُوا) ليرتَدِعَ غَيرُهم، ثم يُنزَلُوا ويُغسَّلُوا ويُكفَّنُوا ويُصلَّى عليهِم ويُدفَنُوا. ذكرَه في "الإقناع"
(1)
.
(وإن أخذُوا مالًا) من حرزٍ لا شبهَةَ لهُ فِيهِ، بخلافِ نَحوِ أبٍ وسيِّدٍ، ما يُقطَعُ السارِقُ في مِثلِهِ؛ لقوله:"لا قَطعَ إلَّا في رُبعِ دِينَارٍ"، ولم يُفصِّل، ولأنَّها جنايَةٌ تَعلَّقَت بها عُقوبَةٌ في حَقِّ غيرِ المحارِبِ، فلا تُغلَّظُ في المُحارِبِ
(2)
بأكثَرَ مِن وجهٍ واحِدٍ، كالقَتلِ. (ولم يَقتُلُوا، قُطِّعَت أيدِيهِم وأرجُلِهم مِن خِلافٍ، حتمًا في آنٍ واحِدٍ) فلا يُنتظَرُ بقَطعِ إحداهُما
(3)
اندِمَالُ الأخرَى؛ لأنَّه تعالى أمرَ بقَطعِهِمَا بلا تعرُّضٍ لتأخيرٍ، والأمرُ للفَورِ، فتُقطَعُ يُمنَى يَدَيه وتحسم، ثم رِجلُه اليُسرَى وتُحسَمُ.
(1)
انظر "كشاف القناع"(14/ 184).
(2)
في الأصل: "المحاربة" والتصويب من "كشاف القناع"(14/ 187).
(3)
في الأصل: "أحدهما".
وَإِنْ أَخافُوا النَّاسَ ولَمْ يَأخُذُوا مَالًا، نُفُوا مِن الأرْضِ، فَلا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ إلَى بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ.
وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ القُدْرةِ عَلَيْهِ، سَقَطَتْ عَنْهُ حُقُوقُ اللَّهِ، وَأُخِذَ بِحُقُوقِ الآدَمِيِّينَ.
(وإن أخافُوا النَّاسَ ولم يأخُذُوا مالًا، نُفُوا مِن الأرضِ، فلا يُترَكُونَ يأوُون إلى بلَدٍ حتَّى تظهَرَ تَوبَتُهُم) عن قَطعِ الطَريقِ.
(ومَن تابَ مِنهُم قَبلَ القُدرَةِ عليهِ، سقَطَت عنهُ حقوقُ اللهِ) مِن صَلبٍ، وقَطعِ يَدٍ ورِجلٍ، ونَفيِ، وتحتُّمِ قَتلٍ؛ لقولِه تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34].
(وأُخِذَ) مَن تابَ مِنهُم قبلَ القُدرَةِ عليهِ، مِن قُطَّاعِ الطَّريقِ، والخوارج، والبغاة، والمرتدين (بحقُوق الآدميِّينَ) مِن الأنفُسِ، والأموالِ، والجِرَاحِ -إلَّا أن يُعفَى لهم عَنها- لأنَّها حُقوقٌ عَليهِم، لم يُعفَ عَنها، فلم تَسقُط، كغَيرِ المحارِبِين
(1)
، ويدلُّ عليه قولُه تعالى:{أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فإنَّه يُشعِرُ بسقُوطِ حقِّه دونَ حقِّ غيرِهِ، المبنيِّ على المشاحَّةِ.
* * *
(1)
سقطت: "المحاربين" من الأصل. والمثبت من "كشاف القناع"(14/ 189).
فَصْلٌ
ومَن أُريدَ بأَذًى في نَفْسِهِ، أوْ مَالِهِ، أَوْ حَرِيمِهِ، فله دَفْعُهُ بالأسْهَلِ فَالأَسْهَلِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالقَتْلِ، قَتَلَهُ ولا شَيْءَ عَلَيْهِ.
ويَجِبُ أنْ يَدْفَعَ عَنْ حَرِيمِهِ وحَرِيمِ غَيْرِهِ، وَكَذَا -في غَيْرِ الفِتْنَةِ- عَنْ نَفْسِهِ ونَفْسِ غَيْرِهِ وَمَالِه، لا مَالِ نَفْسِهِ. وَلا يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ عَن الضَّيَاعِ والهَلاكِ.
(فَصلٌ)
(ومَن أُريدَ بأَذَى) أي: قُصِدَ بأَذَى (في نَفسِه، أو مالِه) ولو قَلَّ (أو حَريمِهِ) كأُمِّه، وأختِه، أو زوجَتِه، ونحوهِنَّ، لزنًى أو قَتلٍ (فلَهُ دفعُهُ بالأسهَلِ فالأسهَلِ) بما يَظُنُّ اندفاعَهُ بهِ؛ لئلا يُؤدِّيَ إلى تَلَفِه.
(فإنْ لم يَندَفِع إلَّا بالقَتلِ، قَتَلَهُ) أي: قتَلَ الصَّائلَ (ولا شيءَ عَليهِ) لظاهِرِ الخَبرِ. (ويجِبُ أن يدفَعَ عن حَريمِه) أي: حُرمَتِه، إذا أُريدَت. نصًا. فمَن رَأى معَ امرأتِه أو بِنتِه ونَحوِهَا رجُلًا يَزني بها، أو مَعَ ولَدِه ونحوِه رجُلًا يلوطُ بهِ، وجبَ عليه قَتلُه، إن لم يَندَفِع بدُونِه؛ لأنَّهُ يُؤدِّي بهِ حَقَّ اللهِ تعالى، مِن الكَفِّ عن الفاحِشَةِ، وحقَّ نفسِه بالمَنعِ عَن أهلِه، فلا يَسَعُه إضاعَةُ الحقَّينِ.
(وحريمِ غيرِهِ. وكذَا -في غَيرِ الفِتنَةِ- عن نفسِهِ ونَفسِ غَيرِه) فإن كانَ في فِتنَةٍ لم يجِب الدَّفعُ عن نَفسِه ولا نَفسِ غيره (ومالِه، لا مالِ نَفسِه) يَعني: أنَّه لا يجِبُ على إنسانٍ دَفعُ من أرادَ مالَهُ.
(ولا يَلزَمُهُ حِفظُه) أي: ولا يلزَمُ ربَّ المالِ حِفظُ المالِ (عن الضَّياعِ والهَلاكِ) قال في "الفُروع": ولهُ بذلُه لمَن أرادَه مِنهُ ظُلمًا. وذكر القاضِي أنَّهُ أفضَلُ.
بابُ قِتَالِ البُغَاةِ
وهُمُ: الخارِجُونَ علَى الإمَامِ بتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، ولَهُمْ شَوْكَةٌ. فَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِن ذَلِكَ، فَقُطَّاعُ طَرِيقٍ.
وَنصْبُ الإِمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
ويُعْتَبَرُ: كَوْنُهُ قُرَشِيًّا، بَالِغًا، عَاقلًا، سَمِيعًا، بصيرًا، نَاطِقًا، حُرَّا، ذَكَرًا، عَدْلًا، عَالِمًا، ذا بَصِيرةٍ، كَافِيًا ابتداءً ودَوَامًا. ولا يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ.
(بابُ قِتالِ البُغَاةِ)
المرادٌ هُنا: الظَّلَمَةُ الخارِجُونَ عن طاعَةِ الإمامِ، المُعتَدُونَ عليه بالجَورِ والظُّلمِ والعُدُولِ عن الحقِّ.
(وهُم: الخارِجُونَ على الإمَامِ) ولو غَيرَ عدلٍ (بتأويلٍ سائِغٍ، ولهُم شَوكَةٌ) ومَنَعَةٌ، ولو لم يَكُن فِيهم شَخصٌ مُطاعٌ.
(فإن اختَلَّ شَرطٌ مِن ذلِكَ) بأن لم يَكُن خُروجُهُم بتَأويلٍ، أو بتَأويلٍ غَيرِ سائغٍ، أو كانُوا جمعًا يَسيرًا لا شَوكَةَ لهُم، كالعَشَرَةِ، (فقطَّاعُ طَريقٍ) يعني: فحكمُهُم حُكمُ قُطَّاعِ الطَّريقِ.
(ونَصبُ الإمامِ فَرضُ كِفايَةٍ) لحاجَةِ النَّاسِ لذَلِكَ.
(ويُعتَبرُ: كونُهُ قُرشيًا) أي: مِن قُريشٍ. وشرطُهُ أن يَكونَ (بالِغًا، عاقلًا، سميعًا، بصيرًا، ناطقًا، حُرًا، ذَكَرًا، عدلًا، عالمًا ذا بَصيرَةٍ، كافيًا ابتداءً ودَومًا) أيضًا.
(ولا يَنعَزِلُ) الإمامُ (بفسقه) لما في ذلِكَ من المفسدة.
وَتَلْزَمُهُ مُرَاسَلَةُ البُغَاةِ، وَإزَالَةُ شُبَهِهِمْ، وَمَا يَدَّعُونَهُ مِن المَظَالِمِ. فَإنْ رَجَعُوا، وَإلَّا لَزِمَهُ قِتَالُهُم، ويَجِبُ علَى رَعِيَّتِه مَعُونَتُهُ.
وإذَا تَرَكَ البُغَاةُ القِتَالَ، حَرُمَ قَتْلُهُم، وقَتْلُ مُدْبِرِهِم وَجَرِيحِهِم. ولا يُغْنَمُ مَالُهُم، ولا تُسبَى ذَرَارِيهِم، وَيَجِبُ رَدُّ ذَلكَ إلَيهِمْ.
ولا يَضْمَنُ البُغْاةُ مَا أتْلَفُوهُ حَالَ الحَرْبِ.
وَهُم في شَهَادَتِهِم، وَإمْضَاءِ حُكْمِ حَاكِمِهِم، كَأَهْلِ العَدْلِ.
(وتَلزَمُه مُراسَلَةُ البُغاةِ) لأنَّها طَريقٌ إلى الصُّلحِ، ورجوعِهم إلى الحقِّ، (وإزالَةُ شُبَهِهِم)؛ لأنَّ في كَشفِ شبَهِهم رجوعٌ إلى الحقِّ.
(و) يلزمُه أيضًا إزالَةُ (ما يدَّعُونَه مِن المظَالِم) لأنَّه وسيلةٌ إلى الصُّلحِ المأمُورِ به؛ لقَولِه تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحُجرَات: 9].
(فإن رجَعُوا وإلَّا لزِمَهُ قِتالُهم، ويجبُ على رعيَّتِه مَعونَتُه)
(1)
.
* * *
(1)
هذا آخر ما وجدته في الأصل المخطوط من الكتاب، والظاهر أن المؤلف توقف قلمه عند هذا القدر من الكتاب ولم يكمله؛ بدليل أن نقل ابن عوض عنه في "فتح وهاب المآرب" توقف هاهنا فلم ينقل عنه بعد ذلك حرفا واحدًا. والله أعلم.
بَابُ حُكْمِ المُرْتَدِّ
وهُو مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إسْلامِهِ.
ويَحْصُلُ الكُفْرُ بأَحَدِ أرْبَعَةِ أُمُورٍ:
بالقَوْلِ:
كَسَبِّ اللَّهِ تَعالَى أوْ رَسُولِهِ أوْ مَلائِكَتِهِ، أو ادَّعَى النُّبُوَّةَ، أوْ الشَّركَةَ لَهُ تَعالَى.
وبالفِعْلِ:
كالسُّجُودِ للصَّنَمِ وَنَحْوِهِ، وَكَإلقَاءِ المُصْحَفِ في قَاذُورَةِ.
وبالاعْتِقَادِ:
كاعْتِقَادِ الشَّرِيكِ لَهُ تَعالَى، أوْ أَنَّ الزِّنَى أوْ الخَمْرَ حَلالٌ، أوْ أنَّ الخُبْزَ حَرَامٌ، ونَحْوِ ذلكَ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا.
وبِالشَّكِّ في شَئٍ مِن ذَلِكَ
.
فَمَن ارْتَدَّ - وهُوَ مُكَلَّفٌ - مُخْتَارًا، استُتِيبَ ثَلاثَةَ أيَّامٍ وُجُوبًا. فإنْ تابَ، فلا شَئٍ عَلَيْهِ، وَلا يَحبِطُ عَمَلُه، وإنْ أصَرَّ، قُتِلَ بالسَّيفِ، ولا يَقْتُلُهُ إلَّا الإمَامُ أوْ نَائِبُهُ، فَإنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمَا بِلا إذْنٍ أَسَاءَ وعُزِّرَ، ولا ضَمَانَ ولَوْ كَانَ قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِ.
ويَصِحُّ إسلامُ المُمَيِّزِ، وَرِدَّتُهُ، لكِنْ لا يُقْتَلُ حتَّى يُستَتَابَ - بَعْدَ بُلُوغِهِ - ثَلاثَةَ أيَامٍ.
فَصْلٌ
وَتَوْبَةُ المُرتَدِّ، وكُلِّ كَافِرٍ، إِتْيَانُهُ بالشَّهادتَيْنِ، مَعَ رُجُوعِهِ عَمَّا كَفَرَ بِهِ،
ولا يُغْنِي قَوْلُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَنْ كَلِمَةِ التَّوحِيدِ، وَقَولُه: أَنَا مُسْلِمٌ، تَوْبَةً.
وإنْ كتَبَ كَافِرٌ الشَّهادَتَيْنِ، صَارَ مُسلِمًا، وَإِنْ قَالَ: أسْلَمْتُ، أَوْ: أَنَا مُسلِمٌ، أَوْ: أنا مُؤمِنٌ، صَارَ مُسلِمًا.
ولا يُقْبَلُ في الدُّنْيَا - بِحَسَبِ الظَّاهِرِ - تَوْبَةُ زِنْدِيقٍ، وَهُو المُنافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الإسْلامَ، ويُخْفي الكُفْرَ، ولا مَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، أو سَبَّ اللَّهَ تَعالَى، أوْ رَسُولَه، أوْ مَلَكًا لَهُ. وكذَا مَن قَذَفَ نَبِيًّا، أَوْ أُمَّهُ.
ويُقْتَلُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ كَافِرًا فأسْلَمَ.
* * *
كِتَابُ الأطعِمَةِ
يُبَاحُ كُلُّ طَعَامٍ طَاهِرٍ، لا مَضَرَّةَ فِيهِ، حَتَّى المِسْكُ وَنَحْوُهُ.
ويَحْرُمُ النَّجِسُ كالمَيْتَةِ، والدَّمُ، ولَحْمُ الخِنْزِيرِ، والبَوْلُ والرَّوَثُ، ولَوْ طَاهِرَيْنِ.
ويَحْرُمُ مِن حَيَوَانِ البَرِّ الحُمُرُ الأهْلِيَّةُ، وَمَا يفْتَرِسُ بنَابِهِ، كأَسَدٍ، ونَمِرٍ، وذِئْبٍ، وفَهْدٍ، وكَلْبٍ، وَقِرْدٍ، ودُبٍّ، ونَمْسٍ، وابْنِ آوَى، وابنِ عِرْسٍ، وسِنَّوْرٍ، ولَوْ بَرِيًّا، وثَعْلَبٍ، وسِنْجَابٍ، وسَمُّورٍ.
ويَحْرُمُ مِن الطَّيْرِ مَا يَصِيدُ بِمِخْلَبِهِ، كعُقَابٍ، وبَازٍ، وصَقْرٍ، وباشِقٍ، وشاهِينٍ، وحِدَأةٍ، وبُومَةٍ. ومَا يَأكُلُ الجِيفَ، كنَسْرٍ، ورَخَمٍ، وقَاقٍ، وغُرَابٍ، وخُفَّاشٍ، وفَأْرٍ، وزُنْبُورٍ، ونَحْلٍ، وذُ
بَابٍ
، وهُدْهُدٍ، وخُطَّافٍ، وقُنْفُذٍ، ونِيصٍ، وحَيَّةٍ، وحَشَراتٍ.
ويُؤكَلُ مَا تولَّدَ مِن مَأْكُولٍ طَاهِرٍ، كذُبَابِ البَاقِلَاءِ، ودُودِ الخَلِّ، والجُبْنِ، تَبَعًا لا انفرادًا.
فَصْلٌ
وَيُباحُ ما عدَا هَذَا
، كبَهِيمَةِ الأنْعَامِ، والخَيْلِ، وباقِي الوَحْشِ، كضَبُعٍ، وزَرَافَةٍ، وأرْنَبٍ، ووبرٍ، ويَرْبُوعٍ، وبَقَرِ وَحْشٍ، وحُمُرِه، وضَبٍّ، وظِبَاءٍ، وباقِي الطَّيْرِ، كنَعَامٍ، ودَجَاجٍ، وطَاوُوسٍ وبَبَّغَاءٍ، وزَاغٍ، وغُرَابِ زَرْعٍ.
ويحلُّ كُلُّ مَا في البَحْرِ غَيْرَ ضِفْدَعٍ، وحَيَّةٍ، وتِمْساحٍ.
وتَحْرُمُ الجَلَّالَةُ - وهِي الَّتي أكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةُ - وَلَبَنُهَا، وبَيضُهَا، حَتَّى تُحْبَسَ ثَلاثًا، وتُطْعَمَ الطَّاهِرَ.
ويُكْرَهُ أكْلُ تُرَابٍ، وفَحْمٍ، وطِينٍ، وأُذُنِ قَلْبٍ، وبَصَلٍ، وثُوْمٍ، ونَحْوِهِمَا، مَا لَمْ يُنْضَج بطَبخٍ.
فَصْلٌ
ومَن اضطُرَّ، جَازَ لَهُ أنْ يَأكُلَ مِن المُحَرَّمِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ فَقَطْ، ومَن لَمْ يَجِدْ إلَّا آدَمِيًّا مُبَاحَ الدَّمِ، كحَرْبِيٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ، فَلَهُ قَتْلُهُ وأَكْلُهُ.
ومَن اضطُرَّ إلَى نَفْعِ مَالِ الغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ عَينِهِ، وَجَبَ عَلَى رَبِّبه بَذْلُه مَجَّانًا.
وَمَنْ مَرَّ بِثَمَرَةِ بُسْتَانٍ لا حَائِطَ عَلَيهِ، وَلا نَاظِرَ، فَلَهُ - مِن غَيْرِ أَنْ يَصْعَدَ على شَجَرِه، أو يَرمِيَه بِحَجَرٍ - أنْ يَأكُلَ، ولا يَحْمِلُ. وكذلك البَاقِلَاءُ والحِمُّصُ.
وتَجِبُ ضِيافَةُ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ في القُرَى دُونَ الأمْصَارِ يَوْمًا ولَيْلَةً، وتُسْتَحَبُّ ثَلاثًا.
* * *
بابُ الذَّكَاةِ
وهِي: ذَبْحُ أوْ نَحْرُ الحَيَوانِ المَقْدُورِ عَلَيْهِ.
وشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: كَوْنُ الفَاعِلِ عَاقِلًا، مُمَيِّزًا، قاصِدًا للذَّكَاةِ.
فيَحِلُّ ذَبْحُ الأنْثَى، والقِنِّ، والجُنُبِ، والكِتَابِيِّ، لا المُرْتَدِّ والمَجُوسِيِّ، والوَثَنِيِّ، والدُّرْزِيِّ، والنُّصَيْرِيِّ.
الثانِي: الآلَةُ.
فيَحِلُّ الذَّبْحُ بكُلِّ مُحَدَّدٍ مِن حَجَرٍ، وقَصَبٍ، وخَشَبٍ، وعَظْمٍ، غَيْرَ السِّنِّ والظُّفُرِ.
الثَّالِثُ: قَطْعُ الحُلْقُومِ، والمَرِيءِ.
ويَكْفي قَطْعُ البَعْضِ مِنْهُمَا، فَلَوْ قَطَعَ رَأْسَهُ، حَلَّ.
وَيَحِلُّ ذَبْحُ مَا أَصَابَهُ سَبَبُ المَوْتِ، مِن مُنْخَنِقَةٍ، ومَرِيضَةٍ، وأَكِيلَةِ سَبُعٍ، ومَا صِيدَ بشَبَكَةٍ، أوْ فَخٍّ، أوْ أنْقَذَهُ مِن مَهْلَكَةٍ، إنْ ذَكَّاهُ وفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، كتَحْرِيكِ يَدِهِ أوْ رِجْلِهِ، أَوْ طَرَفِ عَيْنِهِ.
وَمَا قُطِعَ حُلْقُومُه، أوْ أبِينَتْ حِشْوَتُهُ، فوجُودُ حَياتِهِ كَعَدَمِهَا، لكِنْ لَوْ قَطَعَ الذَّابِحُ الحُلْقُومَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ قَطْعِ المَرِيءِ، لَمْ يَضُرَّ إنْ عَادَ فتَمَّ الذَّكَاةَ عَلَى الفَوْرِ.
وَمَا عَجَزَ عَنْ ذَبْحِهِ، كوَاقِعٍ في بِئْرٍ، أوْ مُتوحِّشٍ، فذَكَاتُه بِجَرْحِهِ في أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ.
الرَّابِعُ: قَوْلُ: بِسْمِ اللَّهِ - لا يُجْزِئُ غَيرُهَا - عِنْدَ حَرَكَةِ يَدِهِ بِالذَّبْحِ. وتُجْزِئُ بغَيْرِ العَربيَّةِ، ولَوْ أحْسَنَهَا. ويُسَنُّ التَّكْبِيرُ.
وتَسْقُطُ التَّسْمِيَةُ سَهْوًا، لا جَهْلًا.
ومَن ذَكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعالَى اسْمَ غَيرِه، لَمْ تَحِلَّ.
فَصْلٌ
وتَحْصُلُ ذَكَاةُ الجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ. وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، لَمْ يُبَحْ إلَّا بِذَبْحِهِ.
وَيُكْرَهُ الذَّبْحُ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، وسَلْخُ الحَيَوَانِ، أوْ كَسْرُ عُنُقِه قَبلَ زُهُوقِ نَفْسِهِ.
وَسُنَّ تَوجِيهُهُ للقِبلَةِ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ، والإسْرَاعُ في الذَّبْحِ.
وَمَا ذُبِحَ فَغَرِقَ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ عُلُوٍّ، أوْ وَطِئَ عَلَيهِ شَئٌ يَقْتُلُه مِثْلُهُ، لَمْ يَحِلَّ.
* * *
كتابُ الصَّيْدِ
يُبَاحُ لِقَاصِدِهِ، وَيُكْرَهُ لَهْوًا. وَهُوَ أفْضَلُ مَأْكُولٍ.
فَمَنْ أدْرَكَ صَيْدًا مَجْرُوحًا مُتَحَرِّكًا فَوْقَ حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ، وَاتَّسَعَ الوَقْتُ لتَذْكِيَتِه، لَمْ يُبَحْ إلَّا بِهَا.
وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ، بَلْ مَاتَ في الحَالِ، حَلَّ بأرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أحدُهَا: كَوْنُ الصَّائِدِ أهْلًا للذَّكَاةِ حَالَ إِرْسَالِ الآلَةِ.
وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْبَتَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فقَتَلَهُ، لَمْ يَحِلَّ.
الثَّانِي: الآلَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ:
مَا لَهُ حَدٌّ يَجْرَحُ، كَسَيْفٍ، وسِكِّينٍ، وسَهْمٍ. الثَّانِي: جَارِحَةٌ مُعَلَّمَةٌ، كَكَلْبٍ غَيرِ أسْوَدَ، وفَهْدٍ، وبَازٍ، وصَقْرٍ، وعُقَابٍ، وشَاهِينٍ.
فتَعْلِيمُ الكَلْبِ والفَهْدِ بثَلاثَةِ أُمُورٍ:
بِأَنْ يَستَرْسِلَ إذَا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِرَ إذَا زُجِرَ، وَإذَا أمْسَكَ لَمْ يَأكُلْ.
وَتَعْلِيمُ الطَّيْرِ بِأَمْرَيْنِ:
بِأَنْ يُسْتَرْسِلَ إِذَا أرْسِلَ، ويَرْجِعَ إِذَا دُعِيَ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَجْرَحَ الصَّيدَ، فَلَوْ قَتَلَهُ بصَدْمٍ، أوْ خَنْقٍ، لَمْ يُبَحْ.
الثَّالِثُ: قَصْدُ الفِعْلِ، وَهُوَ: أنْ يُرسِلَ الآلَةَ لِقَصْدِ الصَّيْدِ.
فَلَوْ سَمَّى وَأَرْسَلَهَا، لا لِقَصْدِ الصَّيدِ، أَوْ لقَصْدِهِ ولَمْ يَرَهُ، أَوْ اسْتَرسَلَ
الجَارِحُ بنَفْسِهِ فقَتَلَ صَيْدًا، لَمْ يَحِلَّ.
الرَّابِعُ: قَوْلُ: بِسْمِ اللَّهِ، عِنْدَ إرْسَالِ جَارِحِهِ، أوْ رَمْيِ سَلاحِهِ، ولا تَسْقُطُ هُنَا سَهْوًا.
وَمَا رُمِيَ مِن صَيْدٍ فَوَقَعَ في مَاءٍ، أوْ تَرَدَّى مِنْ عُلُوٍّ، أوْ وَطِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وكُلٌّ مِن ذَلِكَ يَقْتُلُ مِثْلُهُ، لَمْ يَحِلَّ. ومِثْلُه لَوْ رَمَاهُ بِمُحَدَّدٍ فِيهِ سُمٌّ.
وإِنْ رَمَاهُ بِالهَوَاءِ، أوْ عَلَى شَجَرةٍ، أوْ حَائِطٍ، فسَقَطَ مَيِّتًا، حَلَّ.
* * *
كتابُ الأَيمَانِ
لا تَنْعَقِدُ اليَمِينُ إِلَّا باللَّهِ تَعالَى، أوْ اسْمٍ مِنْ أسْمَائِهِ، أوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، كعِزَّةِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ وأَمَانَتِهِ.
وَإِنْ قَالَ: يَمِينًا باللَّهِ، أَوْ قَسَمًا، أَوْ: شَهَادَةً، انْعَقَدَتْ.
وتَنْعَقِدُ بالقُرْآنِ، وبالمُصْحَفِ، وبالتَّوْرَاةِ، ونَحْوِهَا مِن الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ. ومَنْ حَلَفَ بِمَخْلُوقٍ، كالأولياءِ والأَنْبِياءِ عليهم السلام، أَوْ بالكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا، حَرُمَ، ولا كَفَّارَةَ.
فَصْلٌ
وَشُرُوطُ وُجُوبِ الكَفَّارَةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءٍ:
أَحَدُهَا: كَوْنُ الحَالِفِ مُكَلَّفًا.
الثَّانِي: كَوْنُهُ مُخْتَارًا.
الثَّالِثُ: كَوْنُهُ قَاصِدًا لليَمِين، فَلا تَنْعَقِدُ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ بِلا قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ: لا وَاللَّهِ، وَبَلَى واللَّهِ، في عُرْضِ حَدِيثِهِ.
الرَّابعُ: كَوْنُهَا عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقبَل، فَلا كَفَّارَةَ عَلَى مَاضٍ، بَلْ إنْ تَعَمَّدَ الكَذِبَ فَحَرَامٌ، وإلَّا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ.
الخَامِسُ: الحِنْثُ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَإنْ كَانَ عَيَّنَ وَقْتًا، تَعَيَّنَ، وإلَّا لم يَحْنَثْ حَتَّى يَيَأْسَ مِنْ فِعْلِهِ بتَلَفِ المَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أوْ مَوْتِ الحَالِفِ.
ومَن حَلَفَ باللَّهِ: لا يَفْعَلُ كَذَا، أوْ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ: إنْ أَرادَ اللَّهُ، أَوْ: إلَّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَاتَّصَلَ لَفْظًا، أوْ حُكْمًا، لَمْ يَحْنَثْ، فَعَلَ أوْ تَرَكَ، بِشَرطِ أنْ يَقْصِدَ الاسْتِثْنَاءَ قَبلَ تَمَامِ المُسْتَثْنَى مِنْة.
فَصْلٌ
ومَن قالَ: طعامِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أوْ: إنْ أكَلْتُ كَذَا فَحَرَامٌ، أوْ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فحَرَامٌ، لَمْ يَحْرُمْ، وعَلَيْه إنْ فَعَلَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
ومَنْ قَالَ: هُو يَهودِيٌّ، أوْ نَصْرَانِيٌّ، أو يَعْبُدُ الصَّلِيبَ، أوْ الشَّرقَ، إنْ فَعَلَ كَذَا، أوْ: هُو بَرِيءٌ مِن الإسْلامِ، أوْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أوْ: هُوَ كَافِرٌ باللَّهِ تَعَالَى إنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا، فَقَد ارْتَكَبَ محَرَّمًا، وعَلَيْهِ كَفَّارة يَمِينٍ إنْ فَعَلَ مَا نَفَاهُ، أَوْ تَرَكَ مَا أثْبَتَهُ.
وَمَنْ أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بأنَّه حَلَفَ باللَّهِ، وَلَمْ يَكنْ حَلَفَ، فَكَذِبَةٌ لا كَفَّارَةَ فِيهَا.
فَصْلٌ
وكَفَّارَةُ اليَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ: إطْعَامُ عَشرَةِ مَساكِينِ، أوْ كِسْوَتُهُمْ، أوْ تَحْريرُ رَقَبةٍ مؤمِنَةٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ، صَامَ ثَلاثَةَ أيَّامٍ مُتتابِعَةً وُجُوبًا، إنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يَصِحُّ أنْ يُكَفِّرَ الرَّقِيقُ بغَيْرِ الصَّوْمِ، وعَكْسُهُ الكَافِرُ.
وإخْرَاجُ الكفَّارَةِ قَبْلَ الحِنْثِ وبَعْدَه سَوَاءٌ.
وَمَن حَنِثَ، وَلَوْ فِي ألْفِ يَمِينٍ باللَّهِ تَعالَى، ولَم يُكفِّرْ، فكفَّارَةٌ واحِدَةٌ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بابُ جَامِعِ الأيْمَانِ
يُرْجَعُ في الأَيْمَانِ إلَى نِيَّةِ الحَالِفِ.
فَمَنْ دُعِيَ لِغَدَاءٍ، فَحَلَفَ لا يَتَغَدَّى، لم يَحْنثْ بِغَدَاءِ غَيْرِهِ، إنْ قَصَدَه.
أوْ حَلَفَ: لا يَدخُلُ دَارَ فُلانٍ، وَقَالَ: نَوَيْتُ اليَوْمَ، قُبِلَ حُكْمًا، فلا يَحْنثُ بالدُّخُولِ في غَيْرِهِ.
و: لا عُدْتُ رَأَيْتُكِ تَدْخُلِينَ دَارَ فُلانٍ - يَنْوِي مَنْعَهَا - فَدَخَلَتْهَا، حَنِثَ ولَوْ لَمْ يَرَهَا.
فَصْلٌ
فَإنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، رُجِعَ إلَى سَبَبِ اليَمِينِ وَ
مَا هَيَّجَهَا.
فَمَنْ حَلَفَ: لَيَقْضِيَنَّ زَيدًا حَقَّه غَدًا، فَقَضَاه قَبْلَه، أوْ: لا يَبِيعُ كَذَا إلَّا بِمائةٍ، فبَاعَهُ بأكْثَرَ، أوْ: لا يَدْخُلُ بَلَدَ كَذَا؛ لظُلْمٍ فِيهَا، فَزَالَ وَدَخَلَهَا، أوْ: لا يُكَلِّمُ زَيْدًا؛ لشُرْبهِ الخَمْرَ، فكَلَّمَهُ وَقَدَ تَرَكَهُ، لَمْ يَحْنثْ في الجَمِيعِ.
فَصْلٌ
فَإنْ عُدِمَ النِّيَةُ والسَّبَبُ، رُجِعَ إلَى التَّعْيِينِ
.
فَمَنْ حَلَفَ: لا يَدخُلُ دَارَ فُلانٍ هَذِه، فَدَخَلَهَا وقَدْ بَاعَهَا، أَوْ وَهِيَ فَضَاءٌ، أوْ: لا كَلَّمْتُ هَذَا الصَّبِيَّ، فَصَارَ شَيْخًا وكَلَّمَهُ، أوْ: لا أكَلْتُ هَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرُّطَبَ، فَصَارَ تَمْرًا، ثُمَّ أكَلَه، حَنِثَ في الجَمِيعِ
فَصْلٌ
فإنْ عُدِمَ النِّيَّةُ والسَّبَبُ والتَّعْيِينُ، رُجِعَ إلَى مَا تَناوَلَه الاسْمُ، وهُو ثَلاثَةٌ: شَرْعِيٌّ، فعُرْفِيٌّ، فلُغَويٌّ
.
فاليَمِينُ المُطْلَقَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الشَّرْعِيِّ، وَتَتناوَلُ الصَّحِيحَ مِنْهُ.
فمَنْ حَلَفَ: لا يَنْكِحُ، أوْ: لا يَبِيعُ، أوْ: لا يَشْتَرِي، فعَقَدَ عَقْدًا فاسِدًا، لَمْ يَحْنثْ.
لكِنْ لَوْ قَيَّدَ يَمِينَه بِممْتَنِع الصِّحَّةِ، كحَلِفِه: لا يَبِيعُ الخَمْرَ، ثُمَّ بَاعَه، حنِثَ بصُورَةِ ذَلكَ.
فَصْلٌ
فَإنْ عُدِمَ الشَّرْعِيُّ، فَالأيْمَانُ مَبْنَاهَا عَلَى العُرْفِ
.
فَمَنْ حَلَفَ: لا يَطَأُ امْرَأتَهُ، حَنِثَ بِجِمَاعِهَا.
أوْ: لا يَطَأُ، أوْ لا يَضَعُ قَدَمَه في دَارِ فُلانٍ، حَنِثَ بدُخُولِهَا رَاكِبًا، أوْ مَاشِيًا، حَافِيًا، أوْ مُنْتَعِلًا.
و: لا يَدخُلُ بَيْتًا، حَنِثَ بدُخُولِ المَسْجِدِ والحَمَّامِ، وبَيْتِ الشَّعْرِ.
و: لا يَضْرِبُ فُلانةً، فخَنَقَها، أوْ نَتَفَ شَعْرَهَا، أوْ عَضَّهَا: حَنِثَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ
فإنْ عُدِمَ العُرْفُ، رُجِعَ إلَى اللُّغَةِ
.
فمَن حَلَفَ: لا يَأكُلُ لَحْمًا، حَنِثَ بكُلِّ لَحْمٍ، حَتَّى بالمُحَرَّمِ، كَالمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ لا بِمَا لا يُسَمَّى لَحْمًا، كالشَّحْمِ ونَحْوِه.
و: لا يَأكُلُ لَبَنًا، فأكَلَه، ولَوْ مِن لَبَنِ آدَمِيَّةٍ، حَنِثَ.
و: لا يَأكُلُ رَأْسًا ولا بَيْضًا، حَنِثَ بكُلِّ رَأْسٍ وبَيْضٍ، حتَّى برَأْسِ الجَرَادِ وبَيضِهِ.
و: لا يَأكُلُ فَاكِهَةً، حَنِثَ بكُلِّ مَا يُتَفَكَّه بِه، حتَّى بالبِطِّيخِ، لا القِثَّاءِ والخِيارِ والزَّيْتُونِ والزُّعْزورِ الأحْمَرِ.
و: لا يَتَغَدَّى، فأكْلَ بَعْدَ الزَّوالِ، أوْ: لا يَتَعَشَّى فأَكَلَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، أو: لا يَتَسَحَّرُ، فَأَكَلَ قَبْلَهُ، لَمْ يَحْنَثْ.
و: لا يَأكُلْ مِن هَذِه الشَّجَرَةِ، حَنِثَ بأَكْلِ ثَمَرتِهَا فَقَطْ.
و: لا يَأكُلْ مِن هَذِه البَقَرَةِ، حَنِثَ بأكْلِ كُلِّ شَئٍ مِنْهَا، لا مِن لَبَنِهَا وَوَلَدِهَا.
و: لا يَشْرَبُ مِن هَذَا النَّهْرِ، أو البِئْرِ، فاغْتَرَفَ بإِنَاءٍ وشَرِبَ، حَنِثَ، لا إنْ حَلَف: لا يَشْرَبُ مِن هَذَا الإنَاءِ، فاغْتَرَفَ مِنْهُ وشَرِبَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ
ومن حَلَفَ: لا يَدخل دَارَ فُلانٍ، أو: لا يَرْكَبُ دَابَّتَه، حَنِثَ بِمَا جَعَلَه لعَبدِه، أوْ آجَرَه، أو اسْتَأْجَرَهُ، لا بِمَا اسْتَعَارَه.
و: لا يُكَلِّمُ إنْسَانًا، حَنِثَ بكَلامِ كلِّ إنْسَانٍ، حتَّى بقَوْلِ: اسْكُتْ.
و: لا كلَّمْتُ فُلانًا، فكَاتَبَه أو رَاسَلَه، حَنِثَ.
و: لا بَدَأْتُ فُلانًا بكَلامٍ، فتَكَلَّمَا مَعًا، لم يَحْنَثْ.
و: لا ملْكَ لَهُ، لَمْ يَحْنَثْ بدَيْنٍ.
و: لا مَالَ لَهُ، أو: لا يَمْلِكُ مالًا، حَنِثَ بالدَّيْنِ.
و: ليَضْرِبَنَّ فُلانًا بِمِائةٍ، فَجَمَعَها وضَرَبَه بِهَا ضَربةً واحِدَةً، بَرَّ، لا إنْ حَلَفَ ليَضْرِبَنَّه مِائةً.
وَمَن حَلَفَ: لا يَسْكُنُ هَذِه الدَّارَ، أوْ لَيَخْرُجَنَّ، أوْ: لَيَرْحَلَنَّ مِنْهَا، لَزِمَه الخُروجُ بنَفْسِهِ وأهْلِهِ ومَتَاعِهِ المَقْصُودِ.
فإن أقامَ فَوقَ زَمَنٍ يُمكِنُهُ الخُرُوجُ فِيهِ عَادَةً ولَمْ يَخْرُجْ، حَنِثَ.
فإنْ لَمْ يَجِدْ مَسكَنًا، أوْ أبَتْ زَوْجَتُه الخُرُوجَ مَعَهُ، ولا يُمْكِنُه إجْبَارُهَا، فخرَجَ وحْدَه، لَمْ يَحْنَثْ.
وكذَا البَلَدُ، إلَّا أنَّه يَبَرُّ بِخُرُوجِهِ وحْدَه إذَا حَلَفَ ليَخْرُجَنَّ مِنْهُ، ولا يَحْنثُ في الجَمِيعِ بالعَوْدِ، مَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ أوْ سَبَبٌ.
والسَّفَرُ القَصِيرُ سَفَرٌ يَبَرُّ بِهِ مَن حَلَفَ: لَيُسافِرَنَّ، ويَحْنَثُ بِهِ مَن حَلَفَ: لا يُسافِرُ. وَكَذا النَّوْمُ اليَسِيرُ.
وَمَنْ حَلَفَ: لا يَسْتَخْدِمُ فلانًا، فَخَدَمَه وَهُو سَاكِتٌ، حَنِثَ.
و: لا يَبَات، أوْ: لا يَأكل ببَلَدِ كَذَا، فبَاتَ أوْ أكَلَ خَارِجَ بُنْيَانِهِ، لَمْ يَحْنَثْ.
وفِعْل الوَكِيل كالمُوَكِّل، فمَن حَلَفَ: لا يَفْعَلُ كَذَا، فوكَّل فِيهِ مَن يَفْعَلُهُ، حَنِثَ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بابُ النَّذْرِ
وَهُو مَكْرُوهٌ، لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، ولا يَرُدُّ قَضَاءً.
ولا يَصِحُّ إلَّا بِالقَوْلِ مِن مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ.
وأَنْواعُهُ المُنْعَقِدَةُ سِتَّةٌ، أَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ:
أَحَدُهَا: النَّذْرُ المُطْلَقُ، كقَوْلِه: للَّهِ عَلَىَّ نَذْرٌ، فيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَذَا إنْ قَالَ: عَلَىَّ نَذْرٌ إنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ يَفْعَلُه.
الثَّانِي: نَذْرُ لَجَاجٍ وغَضَبٍ، كـ: إنْ كَلَّمْتُكَ، أوْ: إنْ لَمْ أعْطِكَ، أوْ: إنْ كَانَ هَذَا كَذَا، فعَلَىَّ الحَجُّ، أو: العِتْقُ، أوْ: صَوْمُ سَنَةٍ، أو: مَالِى صَدَقةٌ، فيُخَيَّرُ بَيْنَ الفِعْلِ، أوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ.
الثَّالِثُ: نَذْرُ مُبَاحٍ: للَّهِ عَلَىَّ أنْ ألبَسَ ثَوْبِي، أوْ: أرْكَبَ دَابَّتي، فيُخَيَّرُ أيضًا.
الرَّابِعُ: نَذْرُ مَكْرُوهٍ، كطَلاقٍ وَنَحْوِهِ، فَيُسَنُّ أنْ يُكَفِّرَ ولا يَفْعَلَهُ.
الخَامِسُ: نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، كشُرْبِ الخَمْرِ، وصَوْمِ يَوْمِ العِيدِ، وَنَحْوِهِ، فيَحْرُمُ الوَفَاءُ، ويُكَفِّرُ، ويَقْضِي الصَّوْمَ.
السَّادِسُ: نَذْرُ تَبَرّرٍ، كصَلاةٍ وصِيَامٍ، ولَوْ وَاجِبَيْنِ، وَاعْتِكَافٍ وصَدَقَةٍ، وحَجٍّ وعُمْرَةٍ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ، أوْ يَعلِّقَ ذَلكَ بشَرْطِ حُصُولِ نِعْمَةٍ، أوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، كـ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أو سَلِمَ مالِى، فعلَىَّ كذَا، فهَذَا يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ
وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، لَزِمَهُ صَوْمُهُ مُتتابِعًا.
فَإنْ أفْطَرَ لغَيرِ عُذْرٍ، حَرُمَ، ولَزِمَهُ اسْتِئْنافُ الصَّوْمِ مَعَ كَفَّارةِ يَمِينٍ؛ لِفَوَاتِ المَحِلِّ، ولعُذْرٍ، بَنَى ويُكَفِّرُ؛ لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ.
ولَوْ نَذَرَ شَهْرًا مُطْلَقًا، أوْ صَوْمًا مُتَتابِعًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِزَمَنٍ، لَزِمَهُ التَّتَابُعُ.
فَإنْ أفْطَرَ لِغَيرِ عُذْرٍ، لَزِمَة اسْتِئْنافُهُ بِلا كَفَّارَةٍ، ولعُذْرٍ، خُيِّرَ بَيْنَ اسْتِئنافِهِ ولا شَئَ عَلَيْهِ، وبَيْنَ البِنَاءِ وَيُكَفِّرُ.
وَلِمَنْ نَذَرَ صَلاةً جَالِسًا أنْ يُصَلِّيَهَا قَائِمًا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كتَابُ القَضَاءِ
وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. فَيَجِبُ عَلَى الإمَامِ أَنْ يَنْصِبَ بِكُلِّ إقْلِيمٍ قَاضِيًا، وَيَخْتَارُ لِذَلكَ أفْضَلَ مَن يَجِدُ عِلْمًا وَوَرَعًا، وَيَأْمُرُهُ بالتَّقْوَى وتَحَرِّي العَدْلِ.
وَتَصِحّ وِلايَةُ القَضَاءِ وَالإمَارَةِ مُنَجَّزَةً وَمُعَلَّقَةً.
وشُرِطَ لصِحَّةِ التَّوْلِيَةِ كَوْنُهَا مِنْ إِمَامٍ أوْ نَائِبِهِ فِيهِ، وَأَنْ يُعَيِّنَ لَهُ مَا يُوَلِّيهِ فِيهِ الحُكْمَ مِنْ عَمَلٍ وَبَلَدٍ.
وَألْفَاظُ التَّوْلِيَةِ الصَّرِيحةِ سَبْعَةٌ:
ولَّيْتُكَ الحُكْمَ، أوْ قَلَّدْتُكَهُ، وفَوَّضْتُ، أوْ رَدَدْتُ، أوْ جَعَلْتُ إلَيْكَ الحُكْمَ، واستَخْلَفْتُكَ، واسْتَنَبْتُكَ في الحُكْمِ.
وَالكِنَايَةُ نَحْوُ: اعتَمَدْتُ، أوْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ، ووكَّلْتُ، أوْ أسْنَدْتُ إلَيْكَ، لا تَنْعَقِدُ بِهَا إلَّا بقَرِينةٍ نَحْوَ: فاحْكُمْ، أوْ فتَوَلَّ مَاعَوَّلْتُ عَلَيْكَ فِيهِ.
فَصْلٌ
وتُفِيدُ وِلايَةُ الحُكْمِ العَامَةُ:
فَصْلَ الخُصُومَاتِ، وأخْذَ الحَقِّ، ودَفْعَهُ للمُسْتَحِقِّ، والنَّظَرَ في مَالَ اليَتِيمِ والمَجْنُونِ والسَّفِيهِ وَالغَائِبِ، والحَجْرَ لِسَفَهٍ وفَلَسٍ، والنَّظَرَ في الأوْقَافِ؛ لتَجْرِي علَى شَرْطِهَا، وتَزْوِيجَ مَن لا وَلِيَّ لَهَا.
وَلا يَسْتَفِيدُ الاحْتِسَابَ عَلَى البَاعَةِ، ولا إلْزَامَهُم بالشَّرْعِ.
ولا يَنْفُذُ حُكْمُهُ في غَيرِ مَحَلِّ عَمَلِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فصل
ويُشْتَرَطُ في القاضِي عَشْرُ خِصَالٍ:
كَوْنُهُ بَالِغًا، عَاقِلًا، ذَ كَرًا، حُرًّا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُتَكَلِّمًا، مُجْتَهِدًا، وَلَوْ في مَذْهَبِ إمَامِهِ؛ للضَّرُورَةِ.
فلَوْ حَكَّمَ اثْنَانِ فَأكْثَرُ بَينَهُمَا شخصًا صالِحًا للقَضاءِ، نفَذَ حُكْمُهُ في كُلِّ مَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ مَن وَلَّاهُ الإمَامُ أوْ نَائِبُهُ، ويَرْفَعُ الخِلافَ، فَلا يَحِلُّ لأَحَدٍ نَقْضُه حَيْثُ أصَابَ الحَقَّ.
فَصْلٌ
وَيُسَنُّ كَوْنُ الحَاكِم: قَوِيًّا بلا عُنْفٍ، لَيِّنًا بلا ضَعْفٍ، حَلِيمًا، مُتَأنِّيًا، مُتَفَطِّنًا، عَفِيفًا، بَصِيرًا بأحكَامِ الحُكَّامِ قَبْلَهُ.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ العَدْلُ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ في لَحْظِهِ، ولَفْظِهِ، ومَجْلِسِهِ، والدُّخُولِ عَلَيْهِ، إلَّا المُسْلِمَ مَعَ الكَافِرِ، فيُقَدَّمُ دُخُولًا ويُرْفَعُ جُلُوسًا.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَأَنْ يُسَارَّ أَحَدَ الخَصْمَينِ، أَوْ يُضِيفَهُ، أوْ يَقُومَ لَهُ دُونَ الآخَرِ.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الحُكْمُ وَهُو غَضْبَانٌ كَثِيرًا، أوْ حَاقِنٌ، أوْ في شِدَّةِ جُوعٍ، أوْ عَطَشٍ، أو هَمٍّ، أو مَلَلٍ، أوْ كَسَلٍ، أو نُعَاسٍ، أو بَردٍ مُؤلِمٍ، أو حَرٍّ مُزْعِجٍ.
فإنْ خَالَفَ وحَكَمَ، صَحَّ إنْ أصَابَ الحَقَّ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويَحْرُمُ عَلَيهِ أنْ يَحْكُمَ بِالجَهْلِ، أَوْ وَهُو مُترَدِّدٌ، فَإنْ خَالَفَ وَحَكَمَ، يَصِحَّ، وَلَوْ أَصَابَ الحَقَّ.
ويُوصِي الوُكَلاءَ والأعْوَانَ بِبَابِهِ بِالرِّفْقِ بِالخُصُومِ، وَقِلَّةِ الطَّمَعِ، وَيَجْتَهِدُ أنْ يَكُونُوا شيوخًا أو كُهُولًا، مِن أهْلِ الدِّينِ والعِفَّةِ والصِّيَانَةِ.
وَيُباحُ لَهُ أنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا يَكْتُبُ الوَقَائِعَ، ويُشْتَرَطُ: كَوْنُهُ مُسْلِمًا، مُكَلَّفًا، عَدْلًا، ويُسَنُّ: كَوْنُهُ حَافِظًا عَالِمًا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ طَرِيقِ الحُكْمِ وَصِفَتِهُ
إذَا حَضَرَ إلَى الحَاكِمِ خَصْمَانِ، فَلَهُ أنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَبْتَدِئَا، ولَهُ أَنْ يَقُولَ: أَيُّكُمَا المُدَّعِي؟.
فإذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا، اشْتُرِطَ: كَوْنُ الدَّعْوَى مَعْلُومَةً، وَكَوْنُهَا مُنْفَكَّةً عَمَّا يُكَذِّبُهَا.
ثُمَّ إنْ كَانتْ بِدَيْنٍ، اشْتُرِطَ كَوْنُهُ حَالًّا.
وَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنٍ، اشْتُرِطَ حُضُورُهَا لِمَجْلِسِ الحُكْمِ؛ لِتُعَيَّنَ بِالإشَارَةِ، فَإنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَن البَلَدِ، وَصَفَهَا كَصِفَاتِ السَّلَمِ.
فإذَا أَتَمَّ المُدَّعِي دَعْوَاهُ، فَإنْ أَقَرَّ خَصْمُهُ بِمَا ادَّعَاهُ، أوْ اعْتَرَفَ بِسَبَبِ الحقِّ ثُمَّ ادَّعَى البَرَاءَةَ، لَمْ يُلْتَفَتْ لِقَوْلِهِ، بَلْ يَحْلِفُ المُدَّعِي عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ، وَيُلْزِمُهُ بِالحَقِّ، إلَّا أنْ يُقِيمَ بيِّنَةً بِبَرَاءَتِهِ.
وإِنْ أنْكَرَ الخَصْمُ ابْتِدَاءً، بِأَنْ قَالَ لِمُدَّعٍ قَرْضًا أوْ ثَمَنًا: مَا أقْرَضَنِي، أوْ: مَا بَاعَنِي، أوْ: لا يَسْتَحِقُّ عَلَىَّ شَيْئًا مِمَّا ادَّعَاهُ، أوْ: لا حَقَّ لَهُ عَلَيَّ، صَحَّ الجَوَابُ.
فيَقُولُ الحاكِمُ للمُدَّعِي: هَلْ لكَ بَيِّنةٌ؟ فإنْ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: إنْ شِئْتَ فَأَحْضِرْهَا، فإذَا أحْضَرَهَا وشَهِدَتْ، سَمِعَهَا. وحَرُمَ تَرْدِيدُهَا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ
ويُعْتَبَرُ في البَينَةِ، العَدَالَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا
.
ولِلحَاكِمِ أنْ يَعْمَلَ بعلمِهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ في مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وفي عَدالةِ البَيِّنةِ وفِسْقِهَا. فَإِن ارْتَابَ مِنْهَا، فلا بُدَّ مِن المُزَكِّينَ لَهَا.
فَإنْ طَلَبَ المُدَّعِي مِن الحَاكِمِ أَنْ يَحْبِسَ غَريمَه حتّى يَأتِيَ بِمَنْ يُزَكِّي بيِّنَتَه، أَجَابَه لِمَا سَأَلَ، وَانْتَظَرَهُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ.
فَإنْ أَتَى بِالمُزَكِّينَ، اعْتُبِرَ مَعْرِفتُهم لِمَن يُزَكُّونَه بِالصُّحْبَةِ وَالمُعامَلَةِ.
فَإِن ادَّعَى الغَرِيمُ فِسْقَ المُزَكِّينَ، أوْ فِسْقَ البَيِّنَةِ المُزَكَّاةِ، وَأقَامَ بِذَلكَ بَيِّنَةً، سُمِعَتْ، وبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ.
ولا يُقْبَلُ مِن النِّسَاءِ تَعْدِيلٌ ولا تَجْرِيحٌ.
وحَيثُ ظَهَرَ فِسْقُ بَيِّنَةِ المُدَّعِي، أوْ قَالَ ابْتَداءً: لَيسَ لِي بَيِّنةٌ، قَالَ لَهُ الحاكِمُ: لَيسَ لَكَ عَلَى غَرِيمِكَ إلَّا اليَمِينُ، فَيَحْلِفُ الغَرِيمُ عَلَى صِفَةِ جَوَابِهِ في الدَّعْوَى، ويُخَلِّي سَبِيلَهُ، ويَحْرُمُ تَحْلِيفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وإنْ كَانَ للمُدَّعِي بَيِّنةٌ، فَلَه أَنْ يُقِيمَهَا بعدَ ذَلكَ.
وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الغَرِيمُ، قَالَ لَهُ الحاكِمُ: إنْ لَمْ تَحْلِفْ، وإلَّا حَكَمْتُ عَلَيْكَ بالنُّكُولِ. ويُسَنُّ تَكْرَارُهُ ثَلاثًا، فَإنْ لَمْ يَحْلِفْ، حَكَمَ عَلَيْهِ بالنُّكُولِ، وَلَزِمَهُ الحَقُّ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فصل
وحُكْمُ الحَاكِمِ يَرْفَعُ الخِلافَ
، لَكِنْ لا يُزِيلُ الشَّئَ عَنْ صِفَتِهِ بَاطِنًا، فَمَتَى حَكَمَ لَهُ ببيِّنةِ زورٍ بِزَوْجِيَّةِ امْرَأةٍ، وَوَطِئَ مَعَ العِلْمِ، فكَالزِّنَى.
وإنْ بَاعَ حَنْبَلِيٌّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ، فحَكَمَ بِصِحَّتِهِ شَافِعِيٌّ، نَفَذَ.
وَمَنْ قَلَّدَ في صِحَّةِ نِكَاحٍ، صَحَّ، وَلَمْ يُفارِقْ بتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ، كالحُكْمِ بِذَلكَ.
فَصْلٌ
وتَصِحُّ الدَّعْوَى بِحُقُوقِ الآدَمِيِّينَ عَلَى المَيِّتِ
، وَعَلَى غَيْرِ المُكَلَّفِ، وَعَلَى الغَائِبِ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَكَذَا دُونَهَا إذَا كَانَ مُسْتَتِرًا، بشَرْطِ البَيِّنةِ في الكُلِّ.
ويَصِحُّ أنْ يَكْتُبَ القَاضِي الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ الحَقُّ إلَى قاضٍ آخَرَ - مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ - بصُورَةِ الدَّعْوَى الوَاقِعَةِ عَلَى الغَائِبِ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْرَأَ ذَلكَ عَلَى عَدْلَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ لَهُمَا، وَيَقُولُ فِيهِ: وَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي، وَإِنَّكَ تَأخُذُ الحَقَّ للمُستَحِقِّ، فَيَلْزَمُ القَاضِي - الوَاصِلَ إِلَيْه ذَلِكَ - العَمَلُ بِهِ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ القِسْمَةِ
وَهِيَ نَوْعَانِ:
قِشمَةُ تَرَاضٍ، وَقِسْمَةُ إِجْبَارٍ.
فلا قِسْمَةَ في مُشْتَرَكٍ إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ، حَيْثَ كَانَ في القِسْمَةِ ضَرَرٌ يُنْقِصُ القِيمَةَ، كحَمَّامٍ، وَدُورٍ صِغَارٍ، وشَجَرٍ مُفْرَدٍ، وحَيَوَانٍ.
وَحَيْثُ تَرَاضَيَا، صَحَّتْ، وَكَانَتْ بَيْعًا يَثْبُتُ فِيهَا مَا يَثْبُتُ مِن الأحْكَامِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ إلَى البَيْعِ في ذَلكَ، أوْ إلَى بَيْعِ عَبْدٍ أوْ بَهِيمَةٍ أوْ سَيْفٍ، وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا، أُجْبِرَ إِنْ امْتَنَعَ، فَإِنْ أبَى بِيعَ عَلَيْهِمَا وقُسِّمَ الثَّمَنُ.
ولا إجْبَارَ في قِسمَةِ المَنَافِعِ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهَا بِالزَّمَنِ، كَهَذَا شَهْرًا والآخَرُ مِثْلُهُ، أَوْ بِالمَكَانِ، كَهَذَا في بَيْتٍ وَالآخَرُ في بَيْتٍ، صَحَّ جَائِزًا، ولكُلٍّ الرُّجُوعُ.
فَصْلٌ
النَّوْعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ إجْبَارٍ، وَهِيَ: مَا لا ضَرَرَ فِيهَا، وَلا رَدَّ عِوَضٍ
.
وَتَتَأَتَّى في كُلِّ مَكِيلٍ، وَمَوْزُونٍ، وَفي دارٍ كَبِيرةٍ، وَأَرْضٍ وَاسِعَةٍ، ويَدْخُلُ الشَّجَرُ تَبَعًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ بَيْعًا، فيُجبِرُ الحَاكِمُ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا امْتَنَعَ.
وَيَصِحُّ أَنْ يَتَقَاسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَأَنْ يَنْصِبَا قَاسِمًا بَيْنَهُمَا.
وَيُشْتَرَط: إسْلامُهُ، وَعَدَالَتُهُ، وَتَكْلِيفُهُ، ومَعْرِفَتُه بِالقِسْمَةِ. وَأُجْرَتُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أمْلاكِهِمَا.
وَإنْ تَقَاسَمَا بِالقُرْعَةِ، جَازَ، وَلَزِمَتِ القِسْمَةُ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ القُرْعَةِ، وَلَوْ فِيمَا فِيهِ رَدٌّ، أَوْ ضَرَرٌ.
وَإنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ بِلا قُرْعَةٍ وَتَرَاضَيَا، لَزِمَتْ بِالتَّفْرُّقِ.
وَإِنْ خَرَجَ في نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عَيْبٌ جَهِلَهُ، خُيِّرَ بَينِ فَسْخٍ، أَوْ إِمْسَاكٍ وَيَأْخُذُ الأَرْشَ. وَإِنْ غُبِنَ غَبنًا فَاحِشًا، بَطَلَتْ.
وَإِنِ ادَّعَى كُلٌّ أنَّ هَذَا مِن سَهْمِهِ، تَحَالَفَا وَنُقِضَتْ.
وَإنْ حَصَلَتِ الطَّرِيقُ في حِصَّةِ أَحَدِهِمَا، وَلا مَنْفَذَ للآخَرِ، بَطَلَتْ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ الدَّعَاوَى وَالبَيِّناتِ
لا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا مِن جَائِزِ التَّصَرُّفِ.
وإذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا، لَمْ تَخْلُ مِن أَرْبَعَةِ أحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لا تَكُونَ بِيَدِ أَحَدٍ، وَلا ثَمَّ ظَاهِرٌ، وَلا بيِّنَةٌ، فَيَتَحالَفَانِ وَيَتَناصَفَاهَا، وَإِنْ وُجِدَ ظَاهِرٌ لأحَدِهِمَا، عُمِلَ بِهِ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، فَهِي لَهُ بِيَمِينِهِ، فَإنْ لَمْ يَحْلِفْ، قضِيَ عَلَيهِ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ أَقَامَ بيِّنَةً.
الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِيَدَيْهِمَا، كَشَىْءٍ كلٌّ مُمْسِكٌ لِبَعْضِهِ، فَيَتَحَالَفَانِ، ويَتنَاصَفَاهُ.
فَإِنْ قَوِيَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا، كَحَيَوانٍ، وَاحِدٌ سَائِقُهُ، وَآخَرُ رَاكِبُهُ، أَوْ قَمِيصٍ، وَاحِدٌ آخِذٌ بِكُمِّهِ، وَآخَرُ لابِسُهُ، فللثَّانِي بِيَمِينِهِ.
وَإِنْ تنَازَعَ صَانِعَانِ في آلَةِ دُكَّانِهِمَا، فَآلَةُ كُلِّ صَنْعَةٍ لِصَانِعِهَا. وَمَتَى كَانَ لأَحَدِهِمَا بَيِّنةٌ، فَالعَينُ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ لكُل مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، وَتَساوَتَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا، فَيَتَحالَفَانِ وَيَتناصَفَانِ مَا بِأَيْدِيهِمَا، وَيَقْتَرِعَانِ فِيمَا عَدَاهُ، فَمَن خَرَجَتْ لَهُ القُرْعَةُ، فَهُو لَهُ بِيَمِينِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ العَينُ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، فَهُوَ دَاخِلٌ، وَالآخَرَ خَارِجٌ، وَبَيِّنَةُ الخارِجِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنةِ الدَّاخِلِ.
ممنْ لَوْ أَقَامَ الخَارِجُ بيِّنَةً أنَّها مِلْكُهُ، وَالدَّاخِلُ بيِّنَةً أنَّه اشْتَرَاهَا مِنْهُ، قُدِّمَتِ بيِّنَتُه هُنَا؛ لِمَا مَعَهَا مِن زِيَادَةِ العِلْمِ.
أوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بيِّنَةً أنَّه اشْتَرَاهَا مِن فُلانٍ، وَأَقَامَ الآخَرُ بَيِّنَةً كَذلِكَ، عُمِلَ بِأَسْبَقِهِمَا تَارِيخًا.
الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ بِيَدِ ثَالِثٍ، فَإِنْ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ، حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا وأخذها، فَإِنْ نَكَلَ أَخَذَاهَا مِنْهُ مَعَ بَدَلِهَا، وَاقْتَرَعَا عَلَيْهِمَا.
وَإنْ أَقَرَّ بِهَا لَهمَا، اقْتَسَمَاهَا، وحَلَفَ لكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا، وَحَلَفَ كلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ عَلَى النِّصْفِ المَحْكُومِ لَهُ بِهِ.
وَإنْ قَالَ: هِي لأَحَدِهِمَا وَأَجْهَلُهُ، فصَدَّقَاهُ، لَمْ يَحْلِفْ، وإلَّا حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ، حَلَفَ وَأَخَذَهَا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
تَحَمُّل الشَّهَادَةِ في حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ عَيْنٍ. وَمَتَى تَحَمَّلَهَا، وَجَبَتْ كِتَابَتُهَا.
وَيَحْرُمُ أَخْذُ أُجْرَةٍ وَجُعْلٍ عَلَيْهَا، لَكِنْ إِنْ عَجَزَ عَن المَشْيِ، أَوْ تَأَذَّى بِهِ، فَلَهُ أَخْذُ أجْرَةِ مَرْكُوبٍ.
ويَحْرُمُ كَتْمُ الشَّهَادَةِ، وَلا ضَمَانَ.
وَيَجِبُ الإشْهَادُ في عَقْدِ النِّكَاحِ خَاصَةً، وَيُسَنُّ في كُلِّ عَقْدٍ سِوَاهُ.
ويَحْرُمُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا بِمَا يَعْلَمُهُ برُؤْيَةٍ أَوْ سَمَاعٍ.
وَمَن رَأَى شَيئًا بِيَدِ إنْسَانٍ يَتَصرَّفُ فِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً كتَصَرُّفِ المُلَّاكِ مِنْ نَقْضٍ وبِنَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَإِعَارَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالملْكِ، والوَرَعُ أنْ يَشْهَدَ بِاليَدِ والتصرُّفِ.
فَصْلٌ
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ وَاحِدَةً وَنَسِيَا عَيْنَهَا، لَمْ تُقْبَلْ.
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّه أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ، وَالآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِألفَينِ، كَمُلَت بِأَلْفٍ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الألْفِ الآخَرِ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّهُ.
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ عَلَيْهِ ألْفًا، وَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ بَعْضَهُ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أقْرَضَهُ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ نِصْفَهُ، صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا.
وَلا يَحِلّ لِمَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِاقْتِضَاءِ الحَقِّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ.
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ في جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّه طَلَّقَ، أَوْ أَعْتَقَ، أَوْ شَهِدَا عَلَى خَطِيبٍ أَنَّه قَالَ، أَوْ فَعَلَ عَلَى المِنْبَرِ في الخُطْبَةِ شَيْئًا، وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَحَدٌ غَيرُهُمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ شُرُوطِ مَن تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وهِي سِتَّةٌ:
أحَدُهَا: البُلُوغُ، فَلا شَهَادَةَ لِصَغِيرٍ، وَلَوْ اتَّصَفَ بالعَدَالَةِ.
الثَّانِي: العَقْلُ، فَلا شَهَادَةَ لِمَعْتُوهٍ وَمَجْنُونٍ.
الثَّالِثُ: النُّطْقُ، فَلا شَهَادَةَ لأَخْرَسَ، إلَّا إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ.
الرَّابِعُ: الحِفْظُ، فَلا شَهَادَةَ لِمُغَفَّلٍ، وَمَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ غَلَطٍ وَسَهْوٍ.
الخَامِسُ: الإسْلامُ، فَلا شَهَادَةَ لكَافِرٍ، وَلَوْ عَلَى مِثْلِهِ.
السَّادِسُ: العَدَالَةُ، وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ:
الصَّلاحُ في الدِّينِ وَهُوَ: أَدَاءُ الفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ المُحَرَّمِ؛ بِأَنْ لا يَأْتِي كَبِيرةً، وَلا يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرةٍ.
الثَّانِي: اسْتِعْمَالُ المُرُوءَةِ بِفِعْلِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُه، وَتَرْكِ مَا يُدَنِّسُهُ ويُشِينُهُ.
فَلا شَهَادَةَ لِمُتَمَسْخِرٍ، وَرَقَّاصٍ، ومُشَعْبِذٍ، وَلاعِب بشَطْرَنْجٍ، وَنَحْوِهِ. ولا لِمَن يَمُدُّ رِجْلَيْه بِحَضْرَةِ النَّاسِ، أوْ يَكْشِفُ مِنْ بَدَنِهِ مَا جَرَتِ العَادَةُ بِتَغْطِيَتِهِ.
وَلا لِمَنْ يَحْكِي المُضْحِكَاتِ، وَلا لِمَنْ يَأكُلُ بِالسُّوقِ، وَيُغْتَفَرُ اليَسِيرُ كَاللُّقْمَةِ وَالتُّفَاحَةِ.
فَصْلٌ
وَمَتَى وُجِدَ الشَّرْطُ؛ بِأَنْ بَلَغَ الصَّغِيرُ، وعَقَلَ المَجْنُونُ، وأسْلَمَ الكَافِرُ، وَتَابَ الفاسِقُ، قُبِلَتِ الشَّهَادَة
بِمُجَرَّدِ ذَلكَ.
وَلا تُشْتَرَطُ الحُرِّيَّةُ، فتُقْبَلُ شَهَادَةُ العَبْدِ وَالأَمَةِ في كُلِّ مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الحُرِّ وَالحُرَّةِ.
ولا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الصِّنَاعَةِ غَيْرَ دَنِيئَةٍ.
وَلا كَوْنُهُ بَصِيرًا، فتُقْبَلُ شَهَادَةُ الأَعْمَى بِمَا سَمِعَهُ، حَيْثُ تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَبِمَا رَآه قَبْلَ عَمَاهُ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بابُ مَوَانِع الشَّهَادَةِ
وَهِيَ سِتَّة:
أَحَدُهَا: كَوْنُ الشَّاهِدِ أَوْ بَعْضِهُ مِلْكًا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ زَوْجًا لَهُ، وَلَوْ في المَاضِي.
أَوْ كَانَ مِن فُرُوعِهِ وَإِنْ سَفَلُوا مِن وَلَدِ البَنِينَ والبَنَاتِ، أَوْ مِن أُصُولِهِ، وَإِنْ عَلَوْا.
وَتُقْبَلُ لِبَاقِي أَقَارِبِهِ، كَأَخِيهِ.
وَكُلُّ مَن لاتُقْبَلُ لَهُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ.
الثَّاني: كَوْنُهُ يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا لِنَفْسِهِ.
فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِرَقِيقِهِ وَمُكَاتَبِهِ، ولا لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، وَلا لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُو شَرِيكٌ فِيهِ، ولا لِمُسْتَأْجِرِهِ فِيمَا اسْتَأْجَرَهُ فِيهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَ بِهَا ضَرَرًا عَنْ نَفْسِهِ.
فَلا تُقْبَلُ شَهَادَةُ العَاقِلَةِ بِجَرْحِ شُهُودِ قَتْلِ الخَطَأِ.
وَلا شَهَادَةُ الغُرَمَاءِ بِجَرْحِ شُهُودِ دَيْنٍ عَلَى مُفْلِسٍ.
ولا شَهَادَةُ الضَّامِنِ لِمَن ضَمِنَه بقَضَاءِ الحَقِّ، أوْ الإِبْرَاءِ مِنْهُ.
وَكُلُّ مَن لا تُقْبَلُ شَهَادَتُه لَهُ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُه بِجَرْحِ شَاهِدٍ عَلَيْهِ.
الرَّابعُ: العَدَاوَةُ لِغَئرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَحِهِ بِمُساءَتِه، أَوْ غَمِّهِ لِفَرَحِهِ، وَطَلَبِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَهُ الشَّرَّ.
فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ إلَّا في عَقْدِ النِّكَاحِ.
الخَامِسُ: العَصَبِيَّةُ، فَلا شَهَادَةَ لِمَنْ عُرِفَ بِهَا، كتَعَصُّبِ جَمَاعَةٍ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَإنْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ العَدَاوَةِ.
السَّادِسُ: أنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ يَتُوبُ وَيُعِيدُهَا.
أَوْ يَشْهَدَ لِمُوَرِّثِه بِجُرْحٍ قَبْلَ بُرْئِهِ، ثُمَّ يَبْرَأُ وَيُعِيدُهَا.
أَوْ تُرَدَّ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ، أَوْ عَدَاوَةٍ، أوْ مُلْكٍ، أوْ زَوْجَيَّةٍ، ثُمَّ يَزُولُ ذَلكَ وَتُعَادُ.
فَلا تُقْبَلُ في الجَمِيعِ، بِخَلافِ مَا لَوْ شَهِدَ وَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، أَوْ أخْرَسُ، ثُمَّ زَالَ ذَلكَ وَأَعَادُوهَا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بابُ أقْسَام المَشْهُودِ بِهِ
وَهُو سِتَّةٌ:
أَحَدُهَا: الزِّنَى، فلابُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ في فَرْجِهَا، أَوْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا.
الثَّانِي: إِذَا ادَّعَى مَن عُرِفَ بِغِنًى أَنَّه فَقِيرٌ، لِيَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، فلابُدَّ مِن ثَلاثَةِ رِجَالٍ.
الثَّالِثُ: القَوَدُ، والإعْسَارُ، وَمَا يُوجِبُ الحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ، فلا بُدَّ مِن رَجُلَيْنِ. ومِثْلُه النِّكَاحُ، والرَّجْعَةُ، وَالخُلْعُ، والطَّلاقُ، والنَّسَبُ، وَالوَلاءُ، والتَّوْكِيلُ في غَيْرِ المَالِ.
الرَّابعُ: المَالُ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ المَالُ، كَالقَرْضِ، وَالرَّهْنِ، وَالوَدِيعَةِ، وَالعِتْقِ، والتَّدْبِيرِ، وَالوَقْفِ، وَالبَيعِ، وجِنَايَةِ الخَطَأِ، فيَكْفي فِيهِ رَجُلانِ، أَوْ رَجُلٌ وامْرَأتَانِ، أوْ رَجُلٌ وَيَمِينٌ، لا امْرَأَتانِ وَيَمِينٌ.
وَلَؤ كَانَ لِجَماعَةٍ حَقٌّ بِشَاهِدٍ، فَأَقَامُوهُ، فَمَنْ حَلَف أَخَذَ نَصِيبَهُ، وَلا يُشارِكُهُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ.
الخَامِسُ: دَاءُ دابَّةٍ، ومُوضِحَةٍ، وَنَحْوِهِمَا، فَيُقْبَلُ قَوْلُ طَبِيبٍ وَبَيْطَارٍ وَاحِدٍ، لِعَدَمِ غَيْرِهِ في مَعْرِفَتِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ اثْنَانِ، قُدِّمَ قَوْلُ المُثْبِتِ.
السَّادِسُ: مَا لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا، كَعُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ الثِّيَابِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَالرَّضَاعِ، وَالبَكَارَةِ، والثُّيوبَةِ، والحَيْضِ، وَكَذَا جِرَاحَةٌ وَغَيْرُهَا في حَمَّامٍ وَعُرْسٍ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، فَيَكْفي فِيهِ امْرَأَةٌ عَدْلٌ، وَالأحْوَطُ اثْنَتَانِ.
فَصْلٌ
فَلَوْ شَهِدَ بِقَتْلِ العَمْدِ رَجَلٌ وَامْرَأَتَانِ، لَمْ يَثْبُتْ شيْءٌ، وَإنْ شَهِدُوا بِسَرِقَةٍ، ثَبَتَ المَالُ دُونَ القَطْعِ
.
وَمَنْ حَلَفَ بالطَّلاقِ أَنَّه مَا سَرَقَ، أَوْ مَا غَصَبَ وَنَحْوَهُ، فَثَبَتَ فِعْلُهُ بِرَجُلٍ وَامْرَأتَينِ، أوْ رَجُلٍ وَيَمِينٍ، ثَبَتَ المَالُ، وَلَمْ تَطْلُقْ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَصِفَةُ أَدَائِهَا
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدْ يَا فُلانُ عَلَى شَهَادَتِي: أنِّي أشْهَدُ أنَّ فُلانَ بنَ فُلانٍ أشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ شَهِدْتُ عَلَيْهِ، أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا.
وَيَصِحُّ أنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَينِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ علَى مِثْلِهِمْ، وَامْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ المَرأَةُ.
وَشُرُوطُهَا أَرْبَعَة:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ في حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ.
الثَّانِي: تَعَذُّرُ شُهُودِ الأَصْلِ بِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ غَيبَةٍ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَيَدُومُ تَعَذُّرُهُم إلَى صُدُورِ الحُكْمِ.
فَمَتَى أمْكَنَتْ شَهَادَةُ الأصْلِ، وَقَفَ الحُكْمُ عَلَى سمَاعِهَا.
الثَّالِثُ: دَوَامُ عَدَالَةِ الأصْلِ وَالفَزعِ إلَى صُدُورِ الحُكْمِ.
فَمَتَى حَدَثَ مِن أَحَدِهِمْ قَبْلَهُ مَا يَمْنَعُهُ، وُقِفَ.
الرَّابعُ: ثُبُوتُ عَدَالَةِ الجَمِيعِ.
وَيَصِحُّ مِن الفَرعِ أَنْ يُعَدِّلَ الأصْلَ، لا تَعْديلُ شَاهِدٍ لِرَفِيقِهِ.
وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الأَصْلِ بَعْدَ الحُكْمِ بِشَهَادَةِ الفَرعِ: مَا أشْهَدْنَاهُمْ بِشَىْءٍ، لَمْ يَضْمَنِ الفَرِيقَانِ شَيْئًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ
وَلا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إِلَّا بـ: أَشْهَدُ، أوْ: شَهِدْتُ.
فَلا يَكْفِي: أَنَا شَاهِدٌ، وَلا: أعْلَمُ، أَوْ: أُحِقُّ، وَلا: أشْهَدُ بِمَا وَضَعْتُ بِهِ خَطِّى.
لَكِنْ لَوْ قَالَ مَن تَقَدَّمَهُ غَيرُه بِالشَّهَادَةِ: بِذَلِكَ أَشْهَدُ، أَوْ كَذَلِكَ، صَحَّ.
وإذَا رَجَعَ شُهُودُ المَالِ، أَوْ العِتْقِ بَعْدَ حُكْمِ الحَاكِمِ، لَمْ يُنْقَضْ، وَيَضْمَنُونَ.
وَإذَا عَلِمَ الحَاكِمُ بِشَاهِدِ زُورٍ بإقرَارِهِ، أوْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ يَقِينًا، عَزَّرَهُ - وَلَوْ تَابَ - بِمَا يَرَاهُ، مَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا، وَطِيفَ بِهِ في المَوَاضِعِ الَّتِي يُشْتَهَرُ فِيهَا، فَيُقَالُ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ شَاهِدُ زُورٍ، فَاجْتَنِبُوهُ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بابُ اليَمِين في الدَّعَاوَى
البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَن أَنْكَرَ.
وَلا يَمِينَ عَلَى مُنْكِرٍ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالحَدِّ، وَلَوْ قَذْفًا، والتَّعْزِيرِ، وَالعِبَادَةِ، وَإخْرَاجِ الصَّدَقَةِ وَالكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ، وَلا عَلَى شَاهِدٍ أَنْكَرَ شَهَادَتَهُ، وَحَاكِمٍ أَنْكَرَ حُكمَهُ.
وَيُحلَّفُ المُنْكِرُ في كلِّ حَقٍّ آدمِيٍّ يُقْصَدُ مِنْهُ المَالُ، كالدُّيُونِ، والجِنَايَاتِ، والإتْلافَاتِ.
فَإِنْ نَكَلَ عَن اليَمِينِ قَضَى عَلَيهِ بِالحَقِّ.
وَإذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ أوْ نَفْيِ دَيْنٍ عَلَيهِ، حَلَفَ عَلَى البَتِّ.
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ دَعْوَى عَلَى غَيرِهِ، كَمورِّثِه، وَرَقِيقِهِ، وَمُوَلِّيهِ، حَلَفَ عَلَى نَفْيِ العِلْمِ.
وَمَن أَقَامَ شَاهِدًا بِمَا ادَّعَاهُ، حَلَفَ مَعَهُ عَلَى البَتِّ.
وَمَنْ تَوَجَّه عَلَيهِ حَلِفٌ لِجَمَاعَةٍ، حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا، مَا لَمْ يَرْضُوا بِوَاحِدَةٍ.
فَصْلٌ
وَلِلحَاكِمِ تَغْلِيظُ اليَمِينِ فِيمَا لَهُ خَطَرٌ، كَجِنَايَةٍ لا توجِبُ قَوَدًا، وَعِتْقٍ، وَمَالٍ كَثِيرٍ قَدْرَ نِصَابِ الزَّكَاةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَتَغْلِيظُ يَمِينِ المُسْلِمِ أَنْ يَقُولَ: واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلَّا هُوَ، عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، الرَّحْمَن الرَّحِيمِ، الطَّالِبِ الغالِبِ الضارِّ النَّافِعِ، الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفي الصُّدُورُ.
وَيَقُولَ اليَهُودِيُّ: واللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَفَلَقَ لَهُ البَحْرَ، وَنَجَّاهُ مِن فِرْعَونَ وَمَلائِهِ.
وَيَقُولَ النَّصْرَانِيُّ: وَاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الإنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَجَعَلَهُ يُحْيِي المَوْتَى، وَيُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ.
وَمَنْ أَبَى التَّغْلِيظَ، لَمْ يَكُنْ نَاكِلًا.
وَإِنْ رَأَى الحَاكِمُ تَرْكَ التَّغْلِيظِ فَتَرَكَهُ، كَانَ مُصِيبًا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كِتابُ الإقْرَارِ
لا يَصِحُّ الإقْرَارُ إلَّا مِن مُكَلَّفٍ مُخْتارٍ، وَلَوْ هَازِلًا، بِلَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ، لا بِإشَارَةٍ إلَّا مِن أخْرَسَ.
لَكِنْ لَوْ أَقَرَّ صَغِيرٌ أَوْ قِنٌّ أُذِنَ لَهُمَا في تِجَارَةٍ، في قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُمَا فِيهِ، صَحَّ.
وَمَنْ أُكْرِهَ لِيُقِرَّ بِدِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِدِينَارٍ، أَوْ لِيُقِرَّ لِزَيْدٍ فَأَقَرَّ لِعَمْرٍو، صَحَّ وَلَزِمَهُ.
وَلَيسَ الإقْرَارُ بِإِنْشَاءِ تَمْلِيكٍ، فيَصِحُّ حَتَّى مَعَ إِضَافَةِ الملْكِ لِنَفْسِهِ، كَقَولِهِ: كِتَابِي هَذَا لِزَيْدٍ.
وَيَصِحُّ إِقْرَارُ المَرِيضِ بِمَالٍ لِغَيْرِ وَارِثٍ، وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وَبأَخْذِ دَيْنٍ مِنْ غَيرِ وَارِثٍ، لا إِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
والاعْتِبَارُ بِكَوْنِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ وَارِثًا أَوْ لا، حَالَةَ الإقْرَارِ، لا المَوْتِ، عَكْسَ الوَصِيَّةِ. وَإِنْ كَذَّبَ المقَرّ لَهُ المُقِرَّ، بَطَلَ الإقْرَارُ، وَكَانَ لِلْمُقِرِّ أَنْ يَتصرَّفَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ بِمَا شَاءَ.
فَصْلٌ
والإقْرَارُ لِقِنِّ غَيْرِهِ إِقْرَارٌ لِسَيِّدِهِ
. وَلِمَسجِدٍ، أوْ مَقْبَرَةٍ، أَوْ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ، يَصِحُّ وَلَوْ أَطْلَقَ. وَلِدَارٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، لا، إلَّا إِنْ عَيَّنَ السَّبَبَ، وَلِحَمْلٍ فَوُلِدَ مَيِّتًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ، بَطَلَ، وَحَيًّا فأكثَرَ، فَلَهُ بالسَّوِيَّةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِزَوْجِيَّةِ الآخَرِ، فَسَكَتَ، أَوْ جَحَدَهُ ثمَّ صَدَّقَهُ، صَحَّ ووَرِثَه، لا إنْ بَقِيَ عَلَى تَكْذِيبِهِ حَتَّى مَاتَ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
باب ما يحصل به الإقرار وما يغيره
مَن ادُّعِيَ عَلَيه بِأَلْفٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ صَدَقْتَ، أَوْ: أَنَا مُقِرٌّ، أَوْ: خُذْهَا، أَوْ: اتَّزِنْهَا، أَوِ اقْبِضْهَا، فَقَدْ أَقَرَّ، لا إنْ قَالَ: أَنَا أُقِرُّ، أَوْ: لا أُنْكِرُ، أَوْ: خُذْ، أَو: اتَّزِنْ، أَوْ: افْتَحْ كُمَّكَ.
وَ: بَلَى، في جَوَابِ: أَلَيسَ لي عَلَيْكَ كَذَا؟ إقْرَارٌ، لا: نَعَمْ، إلَّا مِنْ عَامِّيٍّ.
وإنْ قَالَ: اقْضِ دَيْنِي عَلَيْكَ أَلْفًا، أَوْ: هَلْ لِي، أوْ لِي عَلَيْكَ ألْفٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ قَالَ: أَمْهِلْني يَوْمًا، أوْ حَتَّى أفْتَحَ الصَّنْدُوقَ، أَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ألْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أوْ: إلَّا أنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أوْ زَيْدٌ، فَقَدْ أَقَرَّ.
وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرطٍ، لَمْ يَصِحَّ، سَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرطَ، كـ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ، فَلَهُ عَلَىَّ دِينَارٌ. أوْ أَخَّرَهُ، كـ: لَهُ عَلَىَّ دِينَارٌ، إنْ شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ: قَدِمَ الحَاجُّ، إِلَّا إِذَا قَالَ: إِذَا جَاءَ وَقْتُ كَذَا، فَلَهُ عَلَىَّ دِينَارٌ، فَيَلْزَمُهُ في الحَالِ. فَإِنْ فَسَّرَهُ بِأَجَلٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، قُبِلَ بِيَمِينِهِ.
وَمَن ادُّعِيَ عَلَيهِ بِدِينَارٍ، فَقَالَ: إِنْ شَهِدَ بِهِ زَيدٌ، فَهُوَ صَادِقٌ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَصْلٌ: فِيمَا إِذَا وَصَلَ بِالإقْرَارِ مَا يُغَيِّرُهُ
إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِن ثمَنِ خَمْرٍ ألْفٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالَ: ألْفٌ مِن ثمَنِ خَمْرٍ، لَزِمَهُ.
وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ فَأَقَلَّ، فَيَلْزَمُهُ عَشَرةٌ فِي: لَهُ عَلَىَّ عَشَرَةٌ، إِلَّا سِتَّةً. وَخَمْسَةً فِي: لَيسَ لَكَ عَلَىَّ عَشَرَةٌ، إلَّا خَمْسَةٌ، بِشَرْطِ أَنْ لا يَسْكُتَ مَا يُمْكِنُه الكَلامُ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِن الجِنْسِ وَالنَّوْعِ، فَـ: لَهُ عَلَىَّ هؤلاءِ العَبِيدُ العَشَرَةُ إلَّا وَاحِدًا، صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ، وَ: لَهُ عَلَىَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا، تَلْزَمُهُ المِائَةُ، وَ: لَهُ هَذِه الدَّارُ، إِلَّا هَذَا البَيْتَ، قُبِلَ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَهَا، لا إنْ قَالَ: إلَّا ثُلُثَيهَا وَنَحْوُهُ. وَ: لَهُ الدَّارُ ثلُثَاهَا، أَوْ عَارِيَةً، أَوْ هِبَةً، عُمِلَ بِالثَّانِي.
فَصْلٌ
وَمَنْ بَاعَ، أَوْ وَهَبَ، أَوْ أعْتَقَ عَبْدًا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيرِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَيَغْرَمُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَإنْ قَالَ: غَصَبتُ هَذَا العَبْدَ مِن زَيْدٍ، لا بَلْ مِنْ عَمْرٍو أَوْ: مِلْكُهُ لِعَمْرٍو وَغَصَبتُهُ مِن زَيْدٍ، فَهُوَ لِزَيْدٍ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِعَمْرٍو. وَ: غَصَبتُهُ مِنْ زَيْدٍ وَمِلْكُهُ لِعَمْرٍو، فَهُوَ لِزَيْدٍ، وَلا يَغْرَمُ لِعَمْرٍو شَيئًا.
وَمَنْ خلَّف ابْنينِ وَمِائتيْنِ، فَادَّعَى شَخْصٌ مِائَةَ دِينَارٍ عَلَى المَيِّتِ، فَصَدَّقَه أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الآخَرُ، لَزِمَ المُقِرَّ نِصْفُهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَيَشْهَدُ، وَيَحْلِفُ مَعَهُ المُدَّعِي، فيأخذُها، وَتَكُونُ البَاقِيَةُ بَيْنِ الابْنَيْنِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بابُ الإقْرَارِ بِالمُجْمَلِ
إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ شَيءٌ وَشَيءٌ، أَوْ كَذَا وَكَذَا. قِيلَ لَهُ: فَسِّرْ. فَإِنْ أبَى، حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّفْسِيرِ، لَمْ يُؤاخَذْ وَارِثُه بِشَيءٍ.
وَ: لَهُ عَلَىَّ مَالٌ عَظِيمٌ، أَوْ: خَطِيرٌ، أَوْ: كَثِيرٌ، أَوْ: جَلِيلٌ، أَوْ نَفِيسٌ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ. وَ: لَهُ دَرَاهِمُ كَثِيرةٌ، قُبِلَ بِثَلاثَةٍ. وَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمٌ، بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ، لَزِمَه دِرْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ، بِالْجَرِّ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ بَعْضُ دِرْهَمٍ، وَيُفَسِّرُه. وَ: لَهُ عَلَيَّ ألْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ: أَلْفٌ وَدِينَارٌ، أَوْ: ألْفٌ وَثَوْبٌ، أَوْ أَلْفٌ إلَّا دِينارًا، كَانَ المُبْهَمُ مِنْ جِنْسِ المُعَيَّنِ.
فَصْلٌ
إذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ، لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ
، وَ: مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، لَزِمَهُ: تِسعَةٌ.
وَ: لَهُ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ وَبَعْدَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ ثَلاثَةٌ. وَكَذَا: دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ، فَإِنْ أرَادَ التَّأكِيدَ: فَعَلَى مَا أَرَادَ. و: لَهُ دِرْهَمٌ، بِلْ دِينَارٌ لَزِمَاهُ.
و: لَهُ دِرْهَمٌ في دِينَارٍ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ. فَإِنْ قَالَ: أرَدتُ العَطْفَ، أَوْ مَعْنَى مَعَ، لَزِمَاهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و: لَهُ دِرْهَمٌ في عَشَرةٍ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ، مَا لَمْ يُخَالِفْهُ عُرفٌ، فَيَلْزَمُهُ مُقْتَضَاهُ، أَوْ يُرِدِ الحِسَابَ وَلَوْ جَاهِلًا بِهِ، فَيَلْزَمُهُ عَشَرةٌ، أَوْ يُرِدِ الجَمِيعَ، فَيَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ.
وَ: لَهُ تَمْرٌ في جِرَابٍ، أوْ سِكِّينٌ في قِرَابٍ، أَوْ ثَوْبٌ في مِنْدِيلٍ، لَيْسَ إقْرَارًا بِالثَّانِي.
وَ: لَهُ خَاتَمٌ فِيهِ فَصٌّ، أَوْ سَيفٌ بِقِرَابٍ إقْرَارٌ بِهِمَا.
وَإقْرَارُهُ بشَجَرةٍ، لَيسَ إقْرَارًا بِأَرْضِهَا، فَلا يَمْلِكُ غَزسَ مَكَانِهَا لَوْ ذَهَبَتْ، ولا أجْرَةَ مَا بَقِيَتْ.
وَ: لَهُ عَلَىَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ، يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا وَيُعَيِّنُهُ.
* * *
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خَاتِمَةٌ
إِذَا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا فَسَادَهُ، والآخَرُ صِحَّتَهُ، فَقَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ بيَمِينِهِ.
وَإِنِ ادَّعَيَا شَيْئًا بِيَدِ غَيْرِهِمَا شَرِكَةً بَينَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَأَقَرَّ لأَحَدِهِمَا بنِصْفِهِ، فَالمُقَرُّ بِهِ بَيْنَهُمَا.
وَمَنْ قَالَ بِمَرَضِ مَوْتِه: هَذَا الألْفُ لُقَطَةٌ فَتَصدَّقُوا بِهِ، وَلا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، لَزِمَ الوَرَثَةَ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ، وَلَوْ كَذَّبُوهُ.
وَيُحْكَمُ بِإسْلامِ مَنْ أَقَرَّ - وَلَوْ مُمَيِّزًا، أَوْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ - بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللَّهِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْني مِمَّنْ أَقَرَّ بهَا مُخْلِصًا في حَيَاتِهِ، وَعِنْدَ مَمَاتِهِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَاجْعَلِ اللُّهُمَّ هَذَا مُخْلَصًا لِوَجْهِكَ الكَرِيمِ، وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ لَدَيْكَ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَصَلِّ وسَلِّم عَلَى أشْرَفِ العَالَمِ سَيِّدِ بَني آدَمَ، وَعَلَى سَائِرِ إِخْوَانِهِ مِن النَّبِيِّينَ والمُرسَلِينَ، وآلِ كُلٍّ وصَحْبِه أجْمَعِينَ، وَعَلَى أهْلِ طَاعَتِكَ أجْمَعِينَ، مِنْ أهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الأَرَضِينَ، كُلَّمَا ذَكَرَه الذَّاكِرُونَ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ الغَافِلُونَ.
الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لَهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.
فَلَه الحَمْدُ حَتَّى يَرضَى وَلَهُ الحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وفي جَمِيعِ الأحْوَالِ.
* * *