الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71].
[أما بعد]: فهذا شرح "صحيح الامام مسلم بن الحجاج" رحمه الله تعالى، أبدأ فيه، فأقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده، ولم يجعل له عِوجًا، وأسند بيانه إليه صلى الله عليه وسلم، ورفع عنّا بذلك حَرَجًا، فقال سبحانه وتعالى في محكم تنزيله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فكانت سنَّته بيانًا أبلجا
(1)
، فأعظم بذلك تشريعًا أنهجا، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي جعل للمتقين مخلصًا ومخرجًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وواضعًا عنهم كلّ إصر كان أثقل ظهر الأولين
(1)
"أبلج، وكذا أنهج، وأبهج" بَعْدَهُ كلها أفعال ماضية، وليست من أفعل التفضيل، حتى يقال: يلزم منع صرفها، فـ "أبلج" رباعيًّا كبلج ثلاثيًّا بمعنى أضاء، وأشرق، و"أنهج" رباعيًّا بمعنى وضح، وأوضح، كنهج من باب منع ثلاثيًّا، وأبهج بمعنى أفرح وسرَّ، كبَهَج، من باب منع ثلاثيًّا، راجع "القاموس المحيط" في باب الجيم.
مُحْرِجا، صلّى الله عليه وعلى آله، وصحبه، وسلّم تسليمًا أبْهَجَا.
[أما بعد]: فلمّا يسّر الله تعالى لي بفضله شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى، شرحًا مطوّلًا مستوعبًا لمقاصدها، ومحتويًا على فوائدها، ويسّر الله تعالى طبعه، ونشره بين أهل العلم، أحببتُ أن أتطفّل بإلحاق ذلك بشرح "صحيحه" كاملًا، شرحًا يستوفي مقاصده، ويحوي فوائده، ويستوعب مباحثه، ويزيل ملتبساته، ويفتح مقفلاته، ويبيّن ما تضمّنه من أنواع العلوم، وأسرار الفهوم، ويوضّح ما وقع فيه من المشكلات الإسناديّة، أو المتنيّة، وغير ذلك من المطالب التي هي من أهمّ المهمّات لطلّاب العلم، ولا سيّما طلّاب الحديث، مستمدًّا ذلك من فيض فضل الملك الوهّاب، ومقتبسًا من كلام أولي الألباب، من جهابذة أهل الحديث، ممن أسهموا في خدمة هذا الفنّ في القديم والحديث، وأخصّ منهم شُرّاحه الحفّاظ الأئمة الأخيار: القاضي عياضًا، وابن الصلاح، والقرطبي، والنوويّ. وحَذَام
(1)
المحدثين في المتأخرين، أحمد بن محمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلاني، في كتابه العديم النظير في بابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، فقد قلت فيه: لولا فتح الباري، ثم "فتح الباري"
(2)
ما قضيت أوطاري.
وكذا كتب الأئمة الحفّاظ: ابن المنذر، والبيهقيّ، والبغويّ، والخطابئ، والمنذريّ، والذهبيّ، وابن حزم، وابن دقيق العيد، وابن المُلَقّن، وابن تيميّة، وابن القيّم، والعينيّ، وابن قُدامة، والصنعانيّ، والشوكانيّ، وابن الأثير، والفيّوميّ، وابن منظور، والمجد الفيروزآباديّ، وغيرهم ممن يمرّ عليك حين أعزو الكلام إليه، رحمهم الله تعالى أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، وأدخلنا مدخلهم الكريم آمين.
فسيكون الشرح - إن شاء الله تعالى - بحوله وقوته قرّة أعين محبي السّنَّة، يزيل عنهم كلّ غبَش وسِنَة.
(1)
هذا إشارة إلى البيت المشهور الجاري مجرى المثل [من الوافر]:
إذا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدّقُوهَا
…
فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
(2)
فتح الباري الأول معناه: فتح الله تعالى عليّ بارئ الخلق، ومعنى "فتح الباري" الثاني كتاب الحافظ ابن حجر شرح البخاري.
فيا طلّاب علم الحديث أهلًا بكم في رِحَاب كتاب نفيس، رائق الحديث لكل جليس، ولكل من استوحش ببعده عن فنّ الحديث أنيس
(1)
.
ولا أريد أن أُطيل بوصفه البيان، بل أكتفي بِلَمْحَةِ البنان، فإن الذَّكِيَّ يَفْهَمُ بأدنى إشارة، ما لا يَفهَمه الغبيّ بألف عبارة، والبليدُ لا يفيده التطويل، ولو تُلِيَت عليه التوراة والإنجيل، والمشاهدة أعلى من الشهادة، وأقوى الوسائل في الإفادة.
يَا ابْنَ الْكِرَامِ أَلَا تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا
…
قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
(وسمَّيتُهُ: "البحرَ المحيط الثَّجَّاج في شرح صحيح الامام مسلم بن الحجاج"، رحمه الله تعالى).
واللهَ تعالى الكريمَ أسألُ القَبولَ، والإخلاصَ، وأن ينفعني به، وكلَّ مَن تلقّاه بقلب سليم يومَ وقوعِ القصاص، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ الدعوات، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].
وقبلَ أن أَشْرَعَ في المقصود - بعون الملك المعبود - ينبغي أن اقدّم تنبيهين مهمّين:
[التنبيه الأول]: في بيان منهجي في شرح هذا الكتاب:
(اعلم): أن منهجي الذي سلكته في هذا الشرح كما يلي:
(1)
- ترقيم أبواب الكتاب، وأحاديثه، وقد جعلت له رقمين:
الأول: رقمي الذي اتخذته رقمًا مفصّلًا لأحاديث الكتاب كلها، وصورته هكذا [1].
والثاني: رقم محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، وجعلته بعد رقمي، وصورته هكذا (1)، وإذا لم يرقم له؛ لكونه يراه مكرّرًا، فأكتب له هكذا (
…
) إشارةً إلى أنه اعتبره مكرّرًا.
(واعلم): أن ترقيم محمد فؤاد، وإن كان غير معتبر في الحقيقة، كما
(1)
عطف على "نفيس"، ويتعلق به قوله:"لكل من" الخ.
أسلفته في شرح المقدّمة، لكن اعتمد عليه الناس؛ لاعتماد أصحاب المعاجم والمفهرسات، والبرامج الحديثة عليه، وشهرته بينهم، وقد كنت قديمًا أعرضت عنه، وزهدت فيه؛ لعدم كونه ترقيمًا صحيحًا؛ إذ ترك ترقيم المكرّرات، ويجعل أحيانًا رقمين فأكثر لحديث واحد، وربّما يعكس، لكنّي اضطررت أخيرًا أن أُدخله؛ لما ذكرتُ من اعتماد الناس عليه، وجعلت الإحالات التي في التخريج مبنيّة عليه، فإذا أحلت حديثًا يأتي، أو مضى بالرقم، فالمراد به رقمه، لا رقمي الذي التزمته لجميع أحاديث الكتاب، وهذا من باب التيسير على الناس؛ لئلا يدخل التشويش عليهم لو غيّرت الأرقام المألوفة لهم، فليُتفطَّن لذلك، فإنه مهمّ جدًّا.
(2)
- كتابة نصّ العنوان: الكتاب، أو الباب، وقد سبق أن تراجم الأبواب ليست من وضع المصنف رحمه الله تعالى، وإنما هي من وضع الشرّاح، وأنا أتوخى أليق الترجمة بالحديث، فأضعه، هذا بالنسبة للأبواب، وأما أسماء الكتب، كـ"كتاب الإيمان"، و"كتاب الطهارة"، ونحو ذلك، فإنها من وضعه، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في مقدّمة شرح المقدّمة، ثم أشرح ما وضعه المصنّف من أسماء الكُتُب، على ما يليق بها، وأما أسماء الأبواب فلا أتعرّض لها؛ لعدم كونها من وضع المصنف، فتنبّه.
(3)
- كتابة نصّ الحديث سندًا ومتنًا.
(4)
- ذكر تراجم رجال السند، مسلسلًا بالأرقام، وأذكر له عنوانًا بقولي:"رجال هذا الإسناد: خمسة"، أو ستة، أو نحو ذلك.
(5)
- إن كان المترجم لم يَسْبِقْ له ذكرٌ، توسّعت في ترجمته بذكر ما قاله علماء الجرح والتعديل، حتى يُعْرَف حقَّ المعرفة بما له وما عليه، وإن تقدّمت ترجمته ذكرتُ ما يُعْرَف به من نسبه، وطبقته، ومرتبته في العدالة، والضعف، ووفاته، ومن أخرج له مع المصنّف من أصحاب الأصول، ثم أُحيله على المحلّ الذي سبقت ترجمته المطوّلة فيه برقم الباب والحديث.
(6)
- أعتمد في الترجمة أوّلًا على عبارة "تقريب التهذيب" حتى تكون كالْفَذْلَكَة لما يأتي، ثم أذكر بعدها ما يكون كالتفصيل لها من الكتب الأخرى، وغالبًا أنقله من "تهذيب التهذيب"، وإذا كان صحابيًّا فمن "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقليلًا من "لسان الميزان"، و"تعجيل المنفعة"، و"هدي الساري
مقدّمة فتح الباري"، وكلها للحافظ أبي الفضل ابن حجر المتوفّى سنة (852 هـ) رحمه الله تعالى، ومن "تهذيب الكمال" للحافظ أبي الحجّاج المزّيّ المتوفّى سنة (742 هـ) رحمه الله تعالى، و"الخلاصة" للحافظ الخزرجيّ المتوفّى سنة (923 هـ) رحمه الله تعالى، و"سير أعلام النبلاء"، و"تذكر الحفّاظ"، و"ميزان الاعتدال"، وكلها للحافظ الذهبيّ المتوفّى سنة (748 هـ) رحمه الله تعالى، و"التاريخ الكبير" للإمام البخاريّ المتوفّى سنة (256 هـ) رحمه الله تعالى، و"الجرح والتعديل" للإمام ابن أبي حاتم المتوفّى سنة (327 هـ) رحمه الله تعالى، و"الثقات" للإمام ابن حبّان البستيّ المتوفّى سنة (354 هـ) رحمه الله تعالى، وغيرها مما كتبه المحقّقون الأعلام رحمهم الله تعالى.
(7)
- ذكر لطائف الإسناد.
(8)
- أكتب الطبقات بين القوسين هكذا [1]، ورقم الباب والحديث هكذا 1/ 1، فالرقم الذي قبل الخطّ المائل للباب، والذي بعده للحديث.
فأقول مثلًا: زُهير بن حرب - شيخ المصنّف في أول "كتاب الإيمان" - النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10] 1/ 4 فرقم العشرة للطبقة، ورقم الواحد الذي قبل الخط المائل للباب، ورقم الأربعة الذي بعده للحديث، فمعناه أن زهيرًا من الطبقة العاشرة، وقد تقدّمت ترجمته كاملةً في الحديث الرابع، من الباب الأول، وهكذا.
(9)
- ثم أَدْخُلُ في شرح الحديث مبتدءً بذكر الصحابيّ، أو مَن دونه حسب ارتباط الكلام، وأكتب له عنوانًا بلفظ:"شرحُ الحديث"، ثم أقول: "عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
"، فأذكر ما يتطلّبه ذلك الحديث من شرح غريبه، وبيان صرفه، وإعرابه، وإيضاح ما يُستشكل من جُمَله، وذلك ببيان أقوال اللغويين، والنحويين، والبيانيين، والفقهاء المعتبرين، وغير ذلك.
(10)
- ثم أذكر المسائل التي تتعلّق بذلك الحديث، فأكتب عنوانًا:"مسائل تتعلّق بهذا الحديث"، فأقول مثلًا:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وإن كان مما انفرد به المصنّف أقول: انفرد به المصنّف، وأريد به انفراده عن البخاريّ، لا عن بقية أصحاب الأصول، فليُتنبّه لهذا.
و (المسألة الثانية) في تخريجه، ويشمل ذلك بيان مواضع ذكر المصنّف له، وتخريجه من الكتب الستّة، و"مسند أحمد"، و"مسند عبد بن حُميد"، و"مسند الحميديّ"، و"مسند البزّار"، و"مسند أبي يعلى"، و"مسند أبي عوانة"، وهو مستخرج على هذا الكتاب، و"مستخرج أبي نعيم" على هذا الكتاب أيضًا، و"معاجم الطبرانيّ الثلاثة"، و"الإيمان" لابن منده، و"صحيح ابن خزيمة"، و"صحيح ابن حبّان"، و"مستدرك الحاكم"، وكتب الطحاويّ، والبيهقيّ، والبغويّ، وغيرها من المصنّفات الحديثيّة حسبما تيسّر.
و (المسألة الثالثة) في فوائده، وأُشير في الفائدة الأولى إلى وجه المطابقة لذكر الحديث في ذلك الباب.
و (المسألة الرابعة) في اختلاف أهل العلم في حكم كذا، إذا كان هناك اختلاف بينهم في مسألةٍ ما من الحديث، وهلُمّ جرًّا بحسب كثرة متعلّقات الحديث وقلّتها، وهكذا كلّ حديث إلى أن ينتهي الباب، أو الكتاب.
(11)
- العناية بإتمام إحالات المصنّف بقوله: "مثل حديث فلان"، أو "مثله"، أو "نحوه"، أو غير ذلك، فأذكره من الكتب التي أخرجته، بسنده ومتنه، كالكتب التي تقدّم ذكرها آنفًا، وغيرها من الكتب التي تعتني بإخراج الحديث بإسناده.
وهذا البحث مهمّ جدًّا، فإن إحالات المصنّف رحمه الله في هذا الكتاب كثيرة، ولم يَقُم أحد من الشرّاح فيما وصل إليّ بهذا المهمّ، مع شدّة الحاجة إليه، فأنا - إن شاء الله تعالى - سأبذل جهدي في إتمام ذلك، كسائر الأمور التي ذكرتها، أسأل الله تعالى العظيم رب العرش العظيم أن يوفّقني لذلك.
اللهمّ لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، سهّل لي بمنّك وكرمك إتمام هذا الشرح على الوجه المطلوب، إنك جواد كريم، رؤوف رحيم، آمين آمين آمين.
* * *
[التنبيه الثاني]: في ذكر أسانيدي إلى الإمام مسلم رحمه الله في هذا الكتاب:
(اعلم): أنه قد سبق أن ذكرت الإسناد إلى الإمام مسلم رحمه الله في شرح المقدِّمة، لكنّي أحببت إعادته هنا في أول هذا الشرح ليسهل لمن أراده؛ إذ
ربّما يَشُقّ على بعض الناس مراجعة شرح المقدّمة، ولا سيّما مع اختلاف اسم الكتابين، فأقول:
(أما بعد): فإنّي أروي صحيح الإمام الحافظ الحجة الناقد البصير أبي الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيريّ النيسابوريّ (204 - 261 هـ) رحمه الله تعالى قراءةً لبعضه، وسماعًا لبعضه، وإجازةً لكلّه عن مشايخ كثيرين:
(1)
- فمنهم: والدي العلّامة الجليل، والدرّاكة النبيل الشيخ علي بن آدم بن موسى المتوفّى يوم الخميس (12/ 9/ 1412 هـ) وله نَيفٌ وثمانون سنة رحمه الله تعالى، والشيخ عبد الباسط بن محمد بن حسن النحويّ البورنيّ المناسيّ، والشيخ المقرئ المحدّث حياة بن علي، والشيخ محمد زين بن محمد ياسين الداني قراءة عليه لمعظمه، وإجازةً عن الباقين رحمهم الله تعالى أربعتهم عن العلّامة المقرئ المحدث الشيخ كبير أحمد بن عبد الرحمن الْعدّيّ، الحسنيّ أبًا، العَقِيليّ أُمًّا، الدوّويّ بلدًا، المتوفّى سنة (1390 هـ) عن العلّامة عبد الجليل بن يحيى الدُّلّتّيّ، عن والده يحيى بن بشير الدُّلّتّيّ، عن والده بشير الدّلّتّيّ، عن المفتي داود بن أبي بكر الدّوّويّ، عن السيد سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن صفيّ الدين أحمد بن محمد مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد النخليّ المكيّ، عن محمد بن علاء الدين البابليّ، عن أبي النجا سالم بن محمد السنهوريّ، عن نجم الدين محمد بن محمد بن أحمد الغيطيّ، عن القاضي زكريا بن محمد الأنصاريّ، عن أبي نعيم رضوان بن محمد العقبيّ، عن أبي الطاهر محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد القاهريّ، سماعًا لجميعه بقراءة الحافظ أحمد بن عليّ الشهير بابن حجر العسقلانيّ في أربعة مجالس، سوى مجلس الختم، عن أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي الحنبليّ المقدسيّ، سماعًا لجميعه عليه، عن أبي العباس أحمد بن عبد الدائم النابلسيّ، سماعًا لجميعه عن محمد بن عليّ بن محمد بن حسن بن صدقة الحرّانيّ، عن فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الْفُرَاويّ، عن أبي الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسيّ النيسابوريّ، عن أبي أحمد محمد بن عيسى بن محمد الْجُلُوديّ النيسابوري، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه
الزاهد النيسابوريّ، قال: أخبرنا به سوى ثلاثة أفوات معلومة، فبالإجازة، أو الوجادة مؤلّفه الحافظ الحجة أبو الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى.
(2)
- (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلّامة محمد زين ابن الشيخ محمد ياسين الدانيّ المتوفّى سنة (1395 هـ) المتقدّم ذكره قراءة له مع شرح الإمام النوويّ إلى "كتاب الحدود"، وإجازة لباقيه، عن شيخه المحدث الكبير الشيخ محمد سراج بن محمد سعيد الأنّي، وهو يروي النصف الأول منه سماعًا عن العلّامة محمد السَّمَلّوطيّ، عن الشيخ محمد عليش، عن العلّامة الأمير الصغير، عن والده العلّامة الأمير الكبير، عن الشهابين الملّويّ، والجوهريّ
…
ويروي النصف الثاني منه مع بعض الأفوات، فبالإجازة، عن الشيخ محمد الحلبي الشافعيّ، عن برهان الدين إبراهيم السقّا الأزهريّ، عن وليّ الله ثُعَيلب، عن الشهابين المذكورين، كلاهما عن علّامة الحجاز عبد الله بن سالم البصريّ، عن العلّامة شمس الدين محمد بن علاء الدين البابليّ، عن أبي النجا سالم بن محمد السنهوريّ، عن الحافظ نجم الدين الغيطيّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي العسقلانيّ، عن الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقيّ، عن أبي الحسن بن علي الخبّاز، والحافظ علاء الدين ابن العطار، عن شارحه الإمام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النوويّ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطيّ، عن الإمام ذي الْكُنى: أبي بكر، وأبي القاسم، وأبي الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الْفُرَاويّ، عن جدّه فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل الْفُرَاويّ بالسند المتقدّم.
(3)
- (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلامة محمد زين الدانيّ عن شيخه محمد سراج الأنيّ، عن يوسف بن إسماعيل البيروتيّ، عن شيخه محمود حمزة أفندي، عن شيخه سعيد الحلبيّ، عن الشيخ شاكر العقاديّ، عبد الرحمن بن محمد بن زين العابدين الكزبري الدمشقي الشامي، عن الشيخ المسند أبي المواهب محمد الحنبليّ، عن والده المحدث عبد الباقي البعليّ، عن المسند الشهاب أحمد المقريّ، عن القاضي أحمد عن عبد العزيز بن فَهْد المكيّ، عن الشيخ تقي الدين الهاشميّ، عن المعمر أبي إسحاق إبراهيم بن صديق
الحريري، عن يونس بن إبراهيم الدبوسيّ، عن علي بن الحسين بن الْمُقَيَّر، عن الحافظ أبي الفضل محمد بن ناصر الفارسي السلاقي، عن الحافظ أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الأصبهانيّ، عن الحافظ أبي بكر محمد النيسابوريّ عن الإمام مكي بن عَبدان التميميّ، عن الإمام مسلم رحمه الله تعالى.
قال الشيخ عبد الباقي الحنبلي في ثبته: وهذا السند من العوالي؛ لأنه ليس بيننا وبين مسلم إلا أحد عشر شيخًا، انتهى.
(4)
- (ح) وأرويه أيضًا عن شيضي محمد زين بسنده المذكور إلى الشيخ عبد الرحمن بن زين العابدين الكزبريّ، عن ابن عقيلة، عن الحسن العجيميّ، عن أبي الوفاء العجليّ، عن الإمام يحيى بن مكرم الطبريّ، عن جده محب الدين محمد الطبريّ، قال: أخبرنا الشيخ زين الدين، أبو بكر بن الحسين المراغي المدنيّ، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن الأنجب بن أبي السعادات الحمامي، قال: أخبرنا أبو الفرج مسعود بن الحسين الثقفيّ، عن الحافظ أبي القاسم عبد الرحمن بن منده، عن الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله الجوزقيّ، عن مكيّ بن عبدان التميمي، عن مؤلفه مسلم بن الحجاج.
(5)
- (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي محمد زين بسنده السابق إلى الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن الشيخ المعمر، محمد بن سنة، عن الشريف محمد أبي عبد الله الواولتي، عن الشيخ أحمد بن محمد العجلي، عن يحيى بن مكرم الطبري، بالسند المتقدم.
(6)
- (ح) وأرويه عن شيخي محمد زين بسنده المذكور آنفًا إلى الشريف أبي عبد الله محمد الواولتي، عن الشيخ محمد بن خليل بن أركماش الحنفي، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، قال: أخبرنا بجميع "صحيح مسلم" إجازةً الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن محمد النيسابوريّ، مشافهة بالمسجد الحرام، عن أبي الفضل، سليمان بن حمزة المقدسيّ، عن أبي الحسن علي بن الحسين بن علي بن المقير، عن الحافظ أبي الفضل محمد بن ناصر السلاميّ، عن الحافظ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، عن الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا بن الحسن الجوزقيّ، عن أبي الحسن مكي بن عبدان النيسابوريّ، عن الإمام مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: هذا السند في غاية العلو، وهو جميعه بالإجازات انتهى.
(7)
- (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ المحدث المتقن محمد بن عبد الله الصوماليّ رحمه الله تعالى إجازة عن الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان المدرس بالحرم المكيّ، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف السورتيّ، عن محمد بن الطيب المكيّ، عن الشيخ حسين بن محسن الأنصاريّ اليمنيّ، عن الشيخ ناصر الحازميّ، عن العلّامة محمد بن عليّ الشوكانيّ، عن عبد القادر الكوكبانيّ، عن محمد حياة السنديّ، عن سالم بن عبد الله البصريّ، عن أبيه الشيخ عبد الله بن سالم البصريّ بالسند المتقدّم في سندي مشايخي الأربعة.
(8)
- (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي، عن شيخه عبد الحقّ بن عبد الواحد عن أبي سعيد حسين بن عبد الرحيم، وغيره، عن السيد نذير حسين، عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن محمد بن محمد بن سنة المغربيّ، عن محمد بن عبد الله الوولاتي، عن البدر القرافي، عن الحافظ السيوطيّ، عن العلم البلقينيّ، عن والده السراج البلقيني، عن الحافظ أبي الحجاج المزيّ، عن الإمام النوويّ بسنده المتقدّم.
(9)
- (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلّامة المحدث الشهير محمد بن رافع بن بصيري إجازة، عن شيخه محمد بن محمد أمين خير الباكستاني ثم المكي، عن محمد يحيى الكاندهلوي، عن الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي، عن عبد الغني المجدديّ، عن محمد إسحاق، عن جده عبد العزيز، عن أبيه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكوراني المدنيّ، عن والده البرهان إبراهيم بن حسن الكردي المدني، عن الشيخ سلطان بن أحمد المزاحي، عن شهاب الدين أحمد بن خليل السبكي، عن النجم الغيطيّ، عن زين الدين زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، عن الصلاح ابن أبي عمر المقدسيّ، عن فخر الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي المعروف بابن البخاريّ، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد الطوسيّ، عن فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي بسنده المتقدّم.
(10)
- (ح) وأرويه أيضًا قراءة لأول حديث منه، وإجازة لباقيه عن المسند الكبير الشيخ محمد ياسين بن محمد عيسى رحمه الله تعالى، عن الشيخ علي بن عبد الله البنجري، عن زين الدين بن بدوي الصومباري، عن المعمر الكياهي نووي بن عمر البنتنيّ، عن محمد بن كنان الفلمباني، عن عبد الصمد بن عبد الرحمن الفلمباني، عن الشيخ عاقب بن حسن الدين، عن أبيه حسن الدين بن جعفر الفلمباني، عن الإمام عيد بن عليّ النمرسيّ المصري، ثم المكيّ، عن الحافظ المحقق عبد الله بن سالم البصري المكيّ بالسند المذكور آنفًا.
(11)
- (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمنيّ، عن شيخه محمد بن يحيى دوم الأهدل، عن محمد بن عبد الرحمن الأهدل، عن محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، عن عمه شرف الإسلام الحسن بن عبد الباري الأهدل، عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل، عن عماد الدين السيد يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن يوسف بن محمد البطاح، عن الطاهر بن حسين الأهدل، عن وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني، عن زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الشرجي، عن سليمان بن إبراهيم العلويّ، عن برهان الدين إبراهيم بن عمر العلويّ، عن محدث الشام أبي الحجاج يوسف بن الزكيّ عبد الرحمن الشهير بالحافظ المزيّ، عن شارحه الإمام النوويّ بسنده المذكور.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ولي أسانيد متعدّدة إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى غير هذه، ويكفي هنا ما ذكرته اختصارًا.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ساق إسناده الماضي ما نصّه: "وهذا الإسناد الذي حصل لنا، ولأهل زماننا ممن يشاركنا فيه، في نهاية العلوّ - بحمد الله تعالى - فبيننا وبين مسلم ستة، وفي روايتنا لطيفة، وهي: أن إسناده مسلسل بالنيسابوريين وبالمعمرين، انتهى.
(وبهذا السند الذي ذكرناه) إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى قال في أول كتابه:
(قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيّ رحمه الله بِعَوْنِ اللهِ نَبْتَدِئُ وَإِيَّاهُ نَسْتَكْفِي، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلا بِاللهِ جل جلاله.
(قَالَ) الظاهر أنه من كلام المصنّف رحمه الله نفسِه، ويحتمل أن يكون ملحقًا من كلام بعض الرواة عنه (أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ) نسبة إلى بني قشير رحمه الله جملة دعائية معترضة بين القول ومقوله، وهو قوله:(بِعَوْنِ اللهِ) بفتح، فسكون اسم من استعانه، وبه، ومثله الْمَعَانة - بفتح الميم -، والْمَعْوَنة - بفتح الميم، - وسكون العين، وفتح الواو -، والْمَعُونة - بفتح الميم، وضم العين -، والْمَعُون - بفتح، فضم - قاله في "القاموس".
وذكر أبو حيّان في "شرح التسهيل" أن "العون" مصدر، وصوّبه عبد الحكيم في "حواشي المطوّل"، قاله في "التاج"، والجارّ والمجرور متعلّق بـ (نَبْتَدِي) قُدّم عليه لإفادة الحصر والاختصاص، و"نبتدي" مهموز، خُفّف بقلب همزته ياءً، وقدّم المفعول في قوله:(وَإِيَّاهُ نَسْتَكْفِي) للحصر أيضًا، يقال: استكفيته الشيءَ، فكفانيه، أي طلبت منه الكفاية (وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بالله، جل جلاله.
(1)(كِتَاب الإِيمَان)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: (اعلم): أنه جرى للمصنفين في ابتداء مصنّفاتهم به اختيارات، ولكلٍّ وِجهة هو مولّيها، وأنسب ما يُوَجّهُ به بداية الإمام مسلم رحمه الله بـ"كتاب الإيمان" أن يقال: رأى الإيمانَ شرطًا في الأعمال؛ لأنها بدونه هَبَاءً مَنْثُورًا كما قال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، فرأى تقديمه أحقّ من غيره.
[فإن قلت]: كيف يصدق أنه ابتدأ بـ "كتاب الإيمان"، وقد كتب مقدمَةً ضمّنها مسائل عديدةً، من مباحث علم الجرح والتعديل، وغير ذلك من العرائس النفاس؟
[أجيب]: بأن المعتبر في البداية إنما هو المقصود بالوضع أولًا لذات، والمقصود بالذات إنما هو "كتاب الإيمان" فما بعده، وأما ما قدّمه من المسائل، فإنها مقصودة بالعرض؛ لأنها من الوسائل إلى المقصود. والله تعالى أعلم.
وقال الأبيّ رحمه الله تعالى: الفصل بين أنواع المسائل بالترجمة بالكتاب الغرضُ منه التسهيل على الناظر، وتنشيط الطالب، أما التسهيل فلأن من أراد مسألةً قصدها في كتابها، وأما التنشيط فلأن المتعلّم إذا ختم كتابًا ربّما اعتقد أنه كافٍ في ذلك النوع، فينشط إلى قراءة غيره، بخلاف ما لو كان التصنيف كلّه جملة واحدةً، وقد فصلوا بها بين مسائل النوع الواحد، وهو أيضًا للتنشيط، قال: ثُمَّ لتعرف أن الأَوْلى بالقارئ أن يُصرّح بقراءة الترجمة، فيقول:"كتاب كذا"، أما أوّلًا فلأنها جزء من التصنيف الذي أخذ في قراءته، ويتأكّد ذلك في مُريد الرواية، وأما ثانيًا فلأنها تفتقر إلى البيان، كغيرها من مسائل ذلك التصنيف. على أني لم أر من تعرَّض لبيان كلّ الترجمة، وإنما نجدهم
يتكلّمون على الجزء الثاني فقط، فيقولون في "كتاب الطهارة" مثلًا: الطهارة لغةً كذا، واشتقاقها من كذا، وهي في العرف كذا، وقد رأيت أن أتكلّم على كلّها تكميلًا للفائدة، فتكلّم بما سيأتي قريبًا
(1)
.
قال الجامع: قوله: "ثم لتعرف أن الأولى بالقارئ أن يصرّح بقراءة الترجمة .. " إلخ، ثم علّله بقوله:"فلأنها جزء من التصنيف .. " إلخ، فيه أن هذا إنما يتأتّى في مثل "صحيح البخاريّ"، وليس في "صحيح مسلم" إلا في أسماء الكتب، كـ"كتاب الإيمان"، و"كتاب الصلاة"، و"كتاب الزكاة"، ونحو ذلك؛ لأنها التي من وضع المصنّف رحمه الله، وأما بقيّة الأبواب فإنها من وضع من بعده من الشرّاح وغيرهم، كما سبق بيان ذلك وتحقيقه في شرح المقدّمة، فليست تلك الأبواب جزءًا من تصنيف مسلم رحمه الله، فليُتنبه لذلك، والله تعالى أعلم.
ثم الكلام على هذه الترجمة يأتي في مسائل:
(المسألة الأولى): في قوله: "كتابُ"
وفيه بحثان:
(البحث الأول): في تصريفه، ومعناه لغةً واصطلاحًا.
فأما لغة: فهو مصدرٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله: كَتَبَ كَتْبًا من باب قتل، وكِتْبَةً بالكسر، وكِتَابًا والاسم الكِتَابَةُ؛ لأنها صِنَاعةٌ كالنِّجارة، والْعِطَارَة، وكَتَبْتُ السِّقَاءَ كَتْبًا: خَرَزتُهُ، وكَتَبْتُ البغلةَ كَتْبًا: خَرَزتُ حَيَاهَا بِحَلْقَةِ حديد، أو صفر؛ ليمتنع الوُثُوبُ عليها، وتُطْلَقُ الْكِتْبَةُ، والكِتَابُ على المكتوب، ويُطلق الكتاب على الْمُنَزَّل، وعلى ما يكتبه الشخص ويُرسله، قال أبو عَمْرو: سمعتُ أعرابيًّا يمانيًّا يقول فلان لَغُوبٌ جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول: جاءته كتابي، فقال: أليس بصحيفة، قلتُ: ما اللَّغُوبُ؟ قال الأحمق، وكَتَبَ: حَكَمَ، وقَضَى، وأوجب، ومنه كتب الله الصيامَ: أي أوجبه، وكتب القاضي بالنفقةِ: قَضى انتهى
(2)
.
وقال بعضهم: واعلم أن الكتاب لغةً معناه الضمّ والجمع، يقال: كتبتُ
(1)
"شرح الأبيّ" 1/ 48.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 524.
كَتْبًا وكِتَابةً وكِتَابًا، ومنه قولهم: تكَتّبت بنو فلان: إذا اجتمعوا، وكتب: إذا خطّ بالقلم؛ لما فيه من اجتماع الكلمات والحروف.
قال أبو حيّان: ولا يصحّ أن يكون مشتقًّا من الْكَتْبِ؛ لأن المصدر لا يُشتقّ من المصدر. وأجيب بأن المزيد يُشتقّ من المجرّد.
وأما اصطلاحًا: فهو اسم لجملة مختصّة من العلم، ويُعبّر عنها بالباب،
وبالفصل أيضًا، فإن جُمِع بين الثلاثة قيل: الكتاب اسم لجملة مختصّة من العلم مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالبًا
(1)
، والباب اسم لجملة مختصّة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالبًا، والفصل اسم لجملة مختصة من الباب مشتملة على مسائل غالبًا.
والباب لغةً: ما يُتوصّل منه إلى غيره، والفصل لغة: الحاجز بين الشيئين.
(البحث الثاني): في إعرابه.
(1)
ذكر بعضهم أن التراجم خمسة: الكتاب، والباب، والفصل، والفرع، والمسألة، وكلّ له معنى لغوي، ومعنى اصطلاحيّ، فالباب فرجة يُتوصّل بها من داخل إلى خارج، وبالعكس، والفصل الحاجز بين الشيئين، والفرع ما بُني على غيره، والأصل عكسه، والمسألة لغة: السؤال، وعرفًا: مطلوب خبريّ يُبرهن عليه في العلم، أي يقام عليه البرهان، أي الدليل، أي شأنها ذلك، وهي تُطلق على مجموع الموضوع والمحمول والحكم، وعلى الحكم فقط، من حيث إنه يُسأل عنه، أما من حيث إنه يُطلب بالدليل فمطلب، ومن حيث إنه يُبحث عنه فمبحثٌ، ومن حيث إنه يُدّعَى فَمُدَّعًى، ومن حيث إنه يُستخرج بالحجة فنتيجة.
وقال في "شرح التنقيح": الباب اصطلاحًا اسم لجملة مختصّة من العلم، وقد يُعبّر عنها بالكتاب والفصل، فإن جَمَعْتَ الثلاثةَ قلتَ: الكتاب اسم لجملة مختصّة من العلم مشتملة على أبواب وفصول، والباب اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على فصول، والفصل اسم لجملة مختصّة من أبواب العلم مشتملة على مسائل، فالكتاب كالجنس الجامع لأبواب جامعة لفصول جامعة لمسائل، فالأبواب أنواعه، والفصول أصنافه، والمسائل أشخاصه، انتهى. فالثلاثة كالفقير والمسكين إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت. ذكره في "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" على مقدمة أبي شجاع في الفقه الشافعيّ 1/ 65.
يحتمل أن يكون "كتاب" خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره:"هذا كتاب الإيمان"، أو مبتدأً خبره محذوف، أي "كتاب الإيمان هذا محلّ بحثه"، أو فاعلًا لفعل مقدّر، أي ثبتَ كتابُ، أو نائبَ فاعل لفعل محذوف، أي يُذكر كتاب، أو منصوبًا بفعل مقدّر، أي اقرأ كتابَ، أو مجرورًا بحرف جرّ محذوف - مع بقاء عمله على قلّة، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:
إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ
…
أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصابِعُ
أي إلى كليب، والتقدير هنا انظر في كتاب الإيمان. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: الإضافة في "كتاب الإيمان" يحتمل أن تكون بمعنى اللام، أي كتاب موضوع لشرح الإيمان، واللام للاختصاص، أي مختصّ بالإيمان من بقيّة أنواع علوم الحديث، وأن تكون بمعنى "من"، أي كتاب من الإيمان، كقولهم: خاتم فضّة، أي من فضّة، أو بمعنى "في"، أي كتاب موضوع في شرح الإيمان
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: كتاب الإيمان مركّبٌ إضافيّ، والمركب الإضافيّ قيل: إن حدّه لقبًا متوقّف على معرفة جزأيه؛ لأن العِلْمَ بالمركَّب بعد العلم بجزأيه، وقيل: لا يتوقّف؛ لأن التسمية به سَلَبت كلًّا من جزأيه عن معناه الإفراديّ، وصَيَّرت الجميع اسمًا لشيء آخر، ورُجّح الأول بأنه أتمّ فائدةً، وعليه اختُلف، فقيل: الأولى البداءة ببيان المضاف؛ لأنه الأسبق في الذكر، وقيل: بالمضاف إليه؛ لأنه أسبق في المعنى؛ إذ لا يُعلم المضاف من حيث هو مضاف حتى يُعلم ما أُضيف إليه، وهو أحسن؛ لأن المعاني أقدم من الألفاظ، وعليه فـ "الإيمان" لغة التصديق بأيّ شيء كان، وهو في الشرع التصديق بشيء خاصّ على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
و"كتاب" مصدر في الأصل، جُعل اسمًا لكل مكتوب، كالرهن اسمٌ لكلّ مرهون، ثم يتخضص بالإضافة، فيقال:"كتاب الإيمان"، "كتاب الصلاة"، فالإضافة فيه للبيان، مثلها في "خاتم حديد"، ثم إذا خُصّص بإضافته إلى
(1)
راجع: "حاشية تحفة الحبيب على شرح الخطيب" في الفقه الشافعي، فقد ذكر نحو هذا البحث عند قوله:"كتاب الطهارة".
حقيقة، فالأصل أن لا تختلط بمسائل تلك الحقيقة مسائل غيرها، كمسائل الإيمان لا يُذكر فيها مسائل الصلاة مثلًا، وإلا لم تكن للإضافة فائدة.
وأما حدّه لقبًا فـ "كتاب الإيمان" ترجمة جُعلت اسمًا لجملة الأحاديث المتضمّنة أحكام المضاف إليه منها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في تعريف الإيمان لغة، وشرعًا.
قال في "الفتح" 1/ 67 - 68: الإيمان لغة التصديق
(1)
، وشرعًا تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربّه عز وجل، وهذا القدر متّفق عليه، ثم وقع الاختلاف، هل يُشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبِّرِ عما في القلب، إذ التصديق من أفعال القلوب؟ أو من جهة العمل بما صدّق به من ذلك، كفعل المأمورات، وترك المنهيّات، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. والإيمان - فيما قيل - مشتقّ من الأمن، وفيه نظرٌ؛ لتباين مدلولي الأمن والتصديق، إلا إن لوحظ فيه معنى مجازيّ، فيقال: أمنه: إذا صدّقه: أي أمنه التكذيب. انتهى.
وقال في "القاموس": وآمن به إيمانًا: صدّقه، والإيمان: الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة. انتهى. وقال المرتضى في "شرحه": والإيمان: التصديق، وهو الذي جزم به الزمخشريّ في "الأساس"، واتّفق عليه أهل العلم من اللغويين، وغيرهم. وقال السعد: إنه حقيقة، وظاهر كلامه في "الكشاف" أن حقيقة آمن به آمنه التكذيب؛ لأن أمن ثلاثيًّا متعدّ لواحد بنفسه، فإذا نُقل لباب الإفعال تعدّى لاثنين، فالتصديق عليه معنى مجازيّ للإيمان، وهو خلاف كلامه في "الأساس"، ثم إن آمن يتعدّى لواحد بنفسه، وبالحرف، ولاثنين بالهمزة، على ما في "الكشّاف"، و"المصباح"، وغيرهما، وقيل: إنه بالهمزة يتعدّى لواحد، كما نقله عبد الحكيم في "حاشية القاضي"، وقال في "حاشية
(1)
الصواب في تفسير الإيمان لغةً ما سيأتي عن "القاموس" من أنه الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة، وأما تفسيره بالتصديق المجرّد، فإنه مذهب المبتدعة، فتنبه.
المطوّل": "أمِنَ" يتعدّى، ولا يتعدّى. وقال بعض المحقّقين: الإيمان يتعدّى بنفسه، كصَدّق، وباللام باعتبار معنى الإذعان، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، إشارةً إلى أن التصديق لا يُعتبر بدون اعتراف. وقد يكون الإيمان بمعنى الثقة، يتعدّى بالباء، بلا تضمين. قاله البيضاويّ. انتهى "تاج العروس" 9/ 125.
وقال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله تعالى: آمن إنما يقال على وجهين:
[أحدهما]: متعدٍّ بنفسه، يقال: آمنته: أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله: مؤمن.
[والثاني]: غير متعدّ، ومعناه صار ذا أمن.
والإيمان يُستعمل تارةً اسمًا للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك: {الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
…
} الآية [المائدة: 69]، ويوصف به كلّ من دخل في شريعته، مُقرًّا بالله، وبنبوّته، قيل: وعلى هذا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].
وتارة يُستعمل على سبيل المدح، ويراد به إذعان النفس للحقّ على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء: تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح، وعلى هذا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الآية [الحديد: 19]. ويقال لكلّ واحد من الاعتقاد، والقول الصدق، والعلم الصالح: إيمان، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم، وجُعل الحياء، وإماطة الأذى من الإيمان. قال تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] قيل: معناه: بمصدّق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، فذلك مذكور على سبيل الذمّ لهم، وأنه قد حصل لهم الأمن بما لا يقع به الأمن، إذ ليس من شأن القلب - ما لم يكن مطبوعًا عليه - أن يطمئنّ إلى الباطل، وإنما ذلك كقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، وهذا كما يقال: إيمانه الكفر، وتحيّته الضرب، ونحو ذلك. وجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أصل الإيمان ستة أشياء في خبر جبريل، حيث سأله، فقال: ما الإيمان؟ والخبر معروف. انتهى "مفردات ألفاظ القرآن" ص 91 - 92.
وقال ابن منظور رحمه الله تعالى: وحَدّ الزَّجّاج الإيمانَ، فقال: الإيمان: إظهار الخضوع، والقبول للشريعة، ولما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، واعتقاده، وتصديقه بالقلب
(2)
، فمن كان على هذه الصفة، فهو مؤمنٌ مسلمٌ، غير مُرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، وفي التنزيل العزيز:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]: أي بمصدّق، فالإيمان: التصديق. وقال في "التهذيب": وأما الإيمان، فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمنٌ، واتّفق أهل العلم من اللغويين، وغيرهم أن الإيمان: معناه التصديق، قال الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]، قال: وهذا موضع يحتاج إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم، وأين يستويان، والإسلام: إظهار الخضوع، والقبول لما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه يُحْقَن الدم، فمان كان مع ذلك الإظهارِ اعتقادٌ، وتصديقٌ بالقلب، فذلك الإيمانُ الذي يقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ، وهو المؤمن بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، غير مرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجبٌ عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، فهو المؤمن، وهو المسلم حقًّا، كما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، أي: أولئك الذين قالوا إنا مؤمنون، فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة، واستسلم لدفع المكروه، فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدّق، فذلك الذي يقول: أسلمت؛ لأن الإيمان لا بدّ من أن يكون صاحبه صِدِّيقًا؛ لأن قولك: آمنت بالله، أو قال قائل: آمنت بكذا وكذا، فمعناه: صدّقت، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان، فقال:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، أي: لم تُصدّقوا، إنما أسلمتم تعوّذًا من القتل، فالمؤمن مُبْطِنٌ من التصديق مثل ما يُظهر، والمسلم التامّ الإسلام،
(1)
هذا هو الحق في تفسير الإيمان لغةً، وأما تفسيره بالتصديق فقط فإنه مذهب المبتدعة، فتنبه.
(2)
أي مع العمل، فتنبه.
مظهر للطاعة، مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوّذًا غير مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين، وقال الله تعالى حكايةً عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]: لم يختلف أهل التفسير أن معناه: ما أنت بمصدّق لنا، والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه، كما صدّق بلسانه، فقد أذى الأمانة، وهو مؤمنٌ، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه، فهو غير مؤذ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافقٌ، ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول، دون التصديق بالقلب، فإنه لا يخلو من وجهين:
[أحدهما]: أن يكون منافقًا يَنضَح عن المنافقين، تأييدًا لهم، أو يكون جاهلًا، لا يعلم ما يقول، وما يُقال له، أخرجه الجهل، واللَّجَاج إلى عناد الحقّ، وترك قبول الصواب، أعاذنا الله من هذه الصفة، وجعلنا ممن علم، فاستعمل ما علم، أو جهل فتعلَّم ممن علم، وسلّمنا من آفات أهل الزيغ، والبدع بمنّه وكرمه.
وفي قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15] ما يُبيّن لك أن المؤمن هو المتضمّن لهذه الصفة، وأن من لم يتضمّن هذه الصفة، فليس بمؤمن؛ لأن "إنما" في كلام العرب تجيء لتثبيت شيء، ونفي ما خالفه، ولا قوّة إلا بالله. انتهى "لسان العرب" 13/ 23 - 24، وهو تحقيق نفيس، بيّن فيه حقيقة الإيمان عند المحققين من أهل اللغة وغيرهم، فلا تغتر بتفسير القاصرين له بأنه مجرد التصديق، فإنه خطر عظيم؛ لأنه يؤدي إلى مذهب المرجئة الضالة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص.
قال في "الفتح": والكلام هنا في مقامين:
[أحدهما]: كونه قولًا وعملًا.
[والثاني]: كونه يزيد وينقص، فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان، ومن نفاه، إنما هو
بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله
(1)
، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص، كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد، ونطق فقط، والكرّاميّة قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله، وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى.
أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقرّ أُجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر، إلا إن اقترن به فعلٌ يدل على كفره، كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر، كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان، فبالنظر إلى إقراره، ومن نَفَى عنه الإيمان، فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر، فبالنظر إلى أنه فَعَل فعل الكافر، ومن نَفَى عنه، فبالنظر إلى حقيقته، وأثبتت المعتزلة الواسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمن، ولا كافر.
[وأما المقام الثاني]: فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين، وقالوا: متى قَبِل ذلك كان شكًّا، قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار، أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصدِّيق أقوى من إيمان غيره، بحيث لا تعتريه الشبهة، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقينًا، وإخلاصًا، وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة، بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف، صَرّح به عبد الرزاق في "مصنفه" عن سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وابن جريج، ومعمر، وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم، وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في "كتاب السنّة" عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وغيرهم من الأئمة، ورَوى بسنده الصحيح عن البخاري،
(1)
الحقّ أن جنس العمل من شروط صحة وحقيقة الإيمان، فليُتَنَبَّهْ.
قال: لقيت أكثر من ألف رجل، من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدًا منهم، يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد، عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكلّ من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض، ووكيع عن أهل السنّة والجماعة. وقال الحاكم في "مناقب الشافعي": حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، أخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من "الحلية" من وجه آخر" عن الربيع، وزاد: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} الآية [المدثّر: 31]. انتهى "فتح" 1/ 68 - 69.
وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: قد نقل أبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه" عن المزني، صاحب الشافعي، الجزم بأنهما - أي الإيمان والإسلام - عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك منه، وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل من القولين أدلة متعارضة.
وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلة للقولين، وتباينا في ذلك، والحق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا. انتهى كلامه ملخصًا.
ومقتضاه أن الإسلام لا يُطلق على الاعتقاد والعمل معًا، بخلاف الإيمان، فإنه يطلق عليهما معًا، ويَرُدّ عليه قوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معًا؛ لأن العامِل غير المعتقد، ليس بذي دين مرضيّ، وبهذا استدل المزني، وأبو محمد البغوي، فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام هنا اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإسلام، بل ذاك تفصيل لجملةٍ كُلُّها شيء واحد، وجِمَاعُها الدين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"أتاكم يعلمكم دينكم"، وقال سبحانه وتعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول، إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه.
قال الحافظ: والذي يظهر من مجموع الأدلة، أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر، بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلمًا كاملًا، إلا إذا اعتقد
(1)
، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنًا كاملًا، إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام، أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معًا، فهو على سبيل المجاز. ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معًا في مقام السؤال، حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يردا معًا، أو لم يكونا في مقام سؤال، أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز بحسب ما يظهر من القرائن، وقد حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنّة والجماعة، قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أُفْرِدَ أحدهما دخل الآخر فيه، وعلى ذلك يُحمَل ما حكاه محمد بن نصر، وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر، أنهم سووا بينهما، على ما في حديث عبد القيس، وما حكاه اللالكائي، وابن السمعانيّ عن أهل السنّة، أنهم فرقوا بينهما على ما في حديث جبريل. والله تعالى وليّ التوفيق. انتهى "فتح" 1/ 157 - 158 بتصرّف يسير.
وقال الإمام النوويّ رحمه الله تعالى: في "شرحه" لهذا الكتاب: أهم ما يُذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام، وعمومهما وخصوصهما، وأن الإيمان يزيد وينقص، أم لا؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا، وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين، القول في كل ما ذكرناه، وأنا أقتصر على نقل أطراف، من متفرقات كلامهم، يحصل منها مقصود ما ذكرته، مع زيادات كثيرة.
قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله في كتابه "معالم السنن": ما أكثر ما يَغلَط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري، فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية يعني قوله سبحانه وتعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 14]. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
(1)
التعبير بـ "كاملًا" فيه شيء؛ لأن من عمل بلا اعتقاد ليس له إيمان أصلًا، فليتُنَبَّه.
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، قال الخطابي: وقد تكلم في هذا الباب رجلان، من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين، ورد الآخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتابًا يبلغ عدد أوراقه المئين.
قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا، ولا يُطلَق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنًا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنًا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا، وإذا حملت الأمر على هذا، استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها.
وأصل الإيمان: التصديق، وأصل الإسلام: الاستسلام، والانقياد، فقد يكون المرء مستسلمًا في الظاهر، غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقًا في الباطن، غير منقاد في الظاهر.
وقال الخطابي أيضًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة": في هذا الحديث، بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنًى ذي شُعَب وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية، لهذا شُعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها، وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الحياء شعبة من الإيمان"، وفيه إثبات التفاضل في الإيمان، وتباين المؤمنين في درجاته. هذا آخر كلام الخطابيّ.
وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله، في حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام، وجوابه، قال: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، هي كلها شيء واحد، وجِمَاعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"، والتصديق والعمل، يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعًا، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فأخبر سبحانه وتعالى، أن الدين
الذي رضيه، ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا، إلا بانضمام التصديق إلى العمل. هذا كلام البغوي.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميميّ الأصبهانيّ الشافعيّ رحمه الله في كتابه "التحرير في شرح صحيح مسلم": الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عُنِي به ذلك، فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق ليس شيئًا يتجزًا، حتى يتصور كماله مرة، ونقصه أخرى، والإيمان في لسان الشرع، هو التصديق بالقلب، والعمل بالأركان، وإذا فُسر بهذا، تطرق إليه الزيادة والنقص، وهو مذهب أهل السنّة، قال: فالخلاف في هذا على التحقيق، إنما هو أن المصدّق بقلبه، إذا لم يَجمَع إلى تصديقه العملَ بموجَب الإيمان، هل يُسمى مؤمنًا مطلقًا، أم لا؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به، قال رسول صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"، لأنه لم يعمل بموجب الإيمان، فيستحق هذا الإطلاق. هذا آخر كلام صاحب "التحرير".
وقال الإمام أبو الحسن عليّ بن خَلَف بن بطال المالكيّ المغربيّ، في "شرح صحيح البخاري": مذهب جماعة أهل السنة، من سلف الأمة وخلفها، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه، ما أورده البخاريّ من الآيات - يعني قوله عز وجل:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقوله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقوله تعالى:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقوله تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، وقوله تعالى:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124]، وقوله تعالى:{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]، وقوله تعالى:{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، قال:[فإن قيل]: الإيمان في اللغة التصديق، [فالجواب]: أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فكلما ازداد المؤَمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر، نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان، كمالًا، هذا توسط القول في الإيمان، وأما التصديق
بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا ينقص، ولذلك توقف مالك رحمه الله في بعض الروايات، عن القول بالنقصان، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إذا نقص صار شكًّا، وخرج عن اسم الإيمان، وقال بعضهم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان؛ خشية أن يُتَأَوَّل عليه موافقة الخوارج، الذين يُكَفّرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان، مثل قول جماعة أهل السنّة، قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا، وأصحابنا: سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر، والأوزاعيّ، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود، وحذيفة، والنخعيّ، والحسن البصريّ، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك.
فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح، والولاية من المؤمنين، هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع، أنه لو أقرّ وعمل على غير علم منه ومعرفة بربِّه، لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل، وجحد بلسانه وكذب ما عُرف من التوحيد، لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقرّ بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم يعمل بالفرائض، لا يسمى مؤمنًا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنًا بالتصديق، فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى، لقوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنقال: 2 - 4]، فأخبرنا سبحانه وتعالى: أن المؤمن من كانت هذه صفته.
وقال ابن بطال رحمه الله في "باب من قال الإيمان هو العمل": [فإن قيل]: قد قَدّمتم أن الإيمان هو التصديق، [قيل]: التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدِّق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمنًا مطلقًا، هذا مذهب جماعة أهل السنّة أن الإيمان قول وعمل، قال أبو عبيد: وهو قول مالكٍ، والثوريّ، والأوزاعيّ، ومن بعدهم، من أرباب العلم والسنّة، الذين كانوا مصابيح الهدى، وأئمة الدين، من أهل الحجاز، والعراق، والشام، وغيرهم.
قال ابن بطال: وهذا المعنى أراد البخاري رحمه الله في "كتاب الإيمان"، وعليه بوّب أبوابه كلها، فقال:"باب أمور الإيمان"، و"بابٌ الصلاةُ من الإيمان"، و"بابٌ الزكاةُ من الإيمان"، و"بابٌ الجهادُ من الإيمان"، وسائر أبوابه، وإنما أراد الردّ على المرجئة في قولهم: إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيينُ غلطهم، وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم للكتاب والسنّة، ومذاهب الأئمة. ثم قال ابن بطال في باب آخر: قال المهلب: الإسلام على الحَقيقة هو الإيمان، الذي هو عقد القلب، المصدق لإقرار اللسان، الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره. وقالت الكرامية وبعض المرجئة: الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، ومن أقوى ما يُرَدّ به عليهم إجماعُ الأمة على إكفار المنافقين، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال الله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، إلى قوله تعالى:{وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 84 - 85]، هذا آخر كلام ابن بطال.
وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان أصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام، وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يُشعر بانحلال قيد انقياده، أو اختلاله، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فُسر به الإسلام في هذا الحديث، وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن، الذي هو أصل الإيمان، ومقويات، ومتمِّمات، وحافظات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس، بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق، على من ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة؛ لأن اسم الشيء مطلقًا، يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرًا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسرق السارق حين
يسرق، وهو مؤمن"، واسم الإسلام يتناول أيضًا ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قال: فخرج مما ذكرناه، وحققنا أن الإيمان والإسلام، يجتمعان، ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا، قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنّة الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غَلِط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح.
فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف، وأئمة الخلف، فهي متظاهرة، متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف، والمحدثين، وجماعة من المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكًّا وكفرًا، قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته، وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة، وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء، وان كان ظاهرًا حسنًا، فالأظهر
(1)
- والله أعلم - أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين، أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشُّبَه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نَيِّرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة، ومن قاربهم، ونحوهم، فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في "صحيحه": قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل، والله أعلم.
(1)
هذا هو الحقُّ الأبلج، والصواب الأبهج، وأما قولهم: إن التصديق لا يزيد ولا ينقص، فمما لا يُلْتَفَتُ إليه، فتبصر، ولا تكن أسير التقليد، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وأما إطلاق اسم الايمان على الأعمال، فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنّة، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أجمعوا على أن المراد صلاتكم، وأما الأحاديث، فستمر بك في هذا الكتاب، منها جُمَلٌ مستكثرات، والله أعلم.
واتفق أهل السنّة من المحدثين، والفقهاء، والمتكلمين، على أن المؤمن الذي يُحكَم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام، اعتقادًا جازمًا، خاليًا من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما، لم يكن من أهل القبلة أصلًا، إلا إذا عجز عن النطق؛ لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لغير ذلك، فإنه يكون مؤمنًا، أما إذا أتى بالشهادتين، فلا يشترط معهما، أن يقول: وأنا بريء من كل دين، خالف الإسلام، إلا إذا كان من الكفار، الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم بالعرب، فإنه لا يُحكم بإسلامه، إلا بأن يتبرأ، ومن أصحابنا يعني أصحابَ الشافعي رحمه الله مَن شرط أن يتبرأ مطلقًا، وليس بشيء، أما إذا اقتصر على قوله: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا، ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلمًا، ومن أصحابنا من قال: يكون مسلمًا، ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جُعل مرتدًا، ويُحتَجُّ لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وهذا محمول عند الجماهير على قول الشهادتين، واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى، لارتباطهما، وشهرتهما. والله أعلم.
أما إذا أقر بوجوب الصلاة، أو الصوم، أو غيرهما من أركان الإسلام، وهو على خلاف ملته التي كان عليها، فهل يجعل بذلك مسلمًا، فيه وجهان لأصحابنا، فمن جعله مسلمًا، قال: كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلمًا أما إذا أقرّ بالشهادتين بالعجمية، وهو يحسن العربية، فهل يُجعل بذلك مسلمًا فيه وجهان لأصحابنا، الصحيح منهما أنه يصير مسلمًا؛ لوجود الإقرار، وهذا الوجه هو الحق ولا يظهر للآخر وجه، وقد بينت ذلك مستقصى في "شرح المهذب"، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله 1/ 144 - 149. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الرابعة):
قد حقّق هذا الموضوع شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى تحقيقًا بالغًا، أحببت إيراده؛ تأكيدًا، وتفصيلًا لما سبق من كلام الأئمة الذين نقلنا نصوصهم في المسائل السابقة، قال رحمه الله تعالى:
[اعلم]: أن الإيمان والإسلام يجتمع فيهما الدين كلّه، وقد كَثُر كلام الناس في حقيقة الإيمان والإسلام، ونزاعهم، واضطرابهم، وقد صُنّفت في ذلك مجلّدات، والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف، ونحن نذكر ما يُستفاد من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع ما يُستفاد من كلام الله تعالى، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك في ضمن ما يُستفاد من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يبيّن أن ردّ موارد النزاع إلى الله تعالى وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم خير وأحسن تأويلًا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة.
فنقول: قد فرق النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمّى الإسلام، ومسمّى الإيمان، ومسمّى الإحسان، فقال:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا"، وقال:"الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". والفرق مذكور في حديث عمر رضي الله عنه الذي انفرد به مسلم، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي اتّفق البخاريّ ومسلم عليه، وكلاهما فيه أن جبريل جاءه في صورة إنسان أعرابيّ فسأله، وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه جاءه في صورة أعرابيّ. وكذلك فسّر الإسلام في حديث ابن عمر المشهور، قال:"بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان".
وحديث جبريل يبيِّن أن الإسلام المبنيّ على خمس هو الإسلام نفسه، ليس المبنيّ غير المبنيّ عليه، بل جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن، وكلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مؤمن محسنًا، ولا كلّ مسلم مؤمنًا، كما سيأتي بيانه - إن
شاء الله تعالى - في سائر الأحاديث، كالحديث الذي رواه حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"أسلِم تسلم"، قال: وما الإسلام؟ قال: "أن تُسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك، ويدك"، قال: فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان"، قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت"، قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة"، قال: وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء"، قال: فأيّ الهجرة أفضل؟ قال: "الجهاد"، قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تجاهد"، أو "تقاتل الكفّار إذا لقيتهم، ولا تغلُل، ولا تجبُن"، ثم قال رسول الله:"عملان هما أفضل الأعمال، إلا من عمل بمثلهما" - قالها ثلاثًا - "حجة مبرورة، أو عمرة"، رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزيّ.
ولهذا يذكر هذه المراتب الأربعة، فيقول:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه، ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيّئات، والمجاهد من جاهد نفسه"، وهذا مرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو، وفَضَالة بن عُبيد، وغيرهما رضي الله عنهما بإسناد جيّد، وهو في "السنن"، وبعضه في "الصحيحين". وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن أَمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم"، ومعلوم أن من كان مأمونًا على الدماء والأموال كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده، ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه، وكذلك في حديث عُبيد بن عُمير، عن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه وفي حديث عبد الله بن عُبيد بن عُمير أيضًا، عن أبيه، عن جدّه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: "إطعام الطعام، وطيب الكلام"، قيل: فما الإيمان؟ قال: "السماحة، والصبر"، قيل: فمن أفضل المسلمين إسلامًا؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"، قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانًا؟ قال: أحسنهم خُلُقًا، قيل: فما أفضل الهجرة؟ قال: "من هجر ما حرّم الله عليه"، قال: أيّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت"، قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد مقل"، قال: أيّ الجهاد أفضل؟ قال: "أن تجاهد بمالك، ونفسك، فيُعقرُ جوادك، ويُراق
دمك"، قال: أيّ الساعات أفضل؟ قال: "جوف الليل الغابر".
ومعلوم أن هذا كله مراتب، بعضها فوق بعض، وإلا فالمهاجر لا بدّ أن يكون مؤمنًا، وكذا المجاهد، ولهذا قال:"الإيمان السماحة والصبر"، وقال في الإسلام:"إطعام الطعام، وطيب الكلام"، والأول مستلزم للثاني، فإن من كان خلقه السماحة، فعل هذا بخلاف الأول، فإن الإنسان قد يفعل ذلك تخلّقًا، ولا يكون في خلقه سماحة وصبرٌ، وكذلك قال:"أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال:"أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، ومعلومٌ أن هذا يتضمّن الأول، فمن كان حسن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصريّ: ما حسن الخلق؟ قال: بذل الندى، وكفّ الأذى، وطلاقة الوجه، فكفّ الأذى جزء من حسن الخلق، وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وقوله لوفد عبد القيس:"آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدّوا خمس ما غنمتم".
ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانًا بالله بدون إيمان القلب؛ لِمَا قد أخبر في غير موضع أنه لا بدّ من إيمان القلب، فعُلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وفي "المسند" عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الإسلام علانية، والإيمان في القلب "
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب"، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعًا، بخلاف العكس.
وقال سفيان بن عيينة: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الإخلاص". فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان
(1)
ضعيف. انظر: "ضعيف الجامع الصغير"، للشيخ الألباني رحمه الله تعالى ص 336.
صلح الجسد بالإسلام، وهو من الإيمان، يدل على ذلك أنه قال في حديث جبريل عليه السلام:"هذا جبريل جاءكم يُعلّمكم دينكم"، فجعل الدين هو الإسلام، والإيمان، والإحسان"، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم، ثم مؤمن، ثم محسنٌ، كما قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [فاطر: 32]، والمقتصد، والسابق كلاهما يدخل الجنّة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرّضٌ للوعيد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وأما الاحسان: فهو أعمّ من جههّ نفسه، وأخصّ من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعمّ من جهة نفسه، وأخصّ من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخصّ من المؤمنين، والمؤمنون أخصّ من المسلمين، وهذا كما يقال: في الرسالة والنبوّة، فالنبوّة داخلة في الرسالة، والرسالة أعمّ من جهة نفسها، وأخصّ من جهة أهلها، فكلّ رسول نبيّ، وليس كل نبيّ رسولًا، فالأنبياء أعمّ، والنبوّة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوّة، وغيرها، بخلاف النبوّة، فإنها لا تتناول الرسالة. والنبيّ صلى الله عليه وسلم فسّر الإسلام، والإيمان بما أجاب به، كما يجاب عن الحدود بالحدّ، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا وكذا، كما في الحديث الصحيح لَمّا قيل: ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يَكره"، وفي الحديث الآخر:"الكبر بطر الحقّ، وغمط الناس"، وبطر الحقّ: جحده، ودفعه، و"غمط الناس": احتقارهم، وازدراؤهم.
وسنذكر - إن شاء الله تعالى - سبب تنوّع أجوبته، وأنها كفها حقّ. ولكن المقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلام على خمس"، كقوله: الإسلام هو الخمس، كما ذكر في حديث جبرائيل عليه السلام، فإن الأمر مركّبٌ من أجزاء تكون الهيئة الاجتماعيّة فيه مبنيّة على تلك الأجزاء، ومركّبةً منها، فالإسلام مبنيّ على هذه الأركان - وسنبيّن إن شاء الله - اختصاص هذه الخفس بكونها هي الإسلام، وعليها بُني الإسلام، ولم خُضت بذلك، دون غيرها من الواجبات.
وقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسّر به الإسلام هنا،
لكنه لم يذكر فيه الحجّ، وهو متّفقٌ عليه، فقال:"آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدّوا خمس ما غنمتم، أو خمسًا من المغنم". وقد رُوي في بعض طرقه: "الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله"، لكن الأول أشهر، وفي رواية أبي سعيد رضي الله عنه:"آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا".
وقد فَسَّر في حديث شعب الإيمان الإيمان بهذا وبغيره، فقال:"الإيمان بضع وستّون، أو بضع وسبعون شعبةً، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". وقد ثبت عنه من وجوه متعدّدة أنه قال "الحياءُ شعبة من الإيمان " من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حصين رضي الله عنهما وقال أيضًا:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين"، وقال:"لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، وقال:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". وقال: "من رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وقال: "ما بعث الله من نبيّ إلا كان في أمته قوم يهتدون بهديه، ويستنّون بسنّته، ثم إنه يخلُف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل"، وهذا من أفراد مسلم. وكذلك في أفراد مسلم قوله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أو لا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"، وقال في الحديث المتّفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاريّ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، وهو مؤمن".
فيقال: اسم الإيمان تارةً يُذكر مفردًا، غير مقرون باسم الإسلام، ولا باسم العمل الصالح، ولا غيرهما، وتارة يُذكر مقرونًا، إما بالإسلام، كقوله في حديث جبرائيل:"ما الإسلام، وما الإيمان؟ "، وكقوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الأحزاب: 35]، وقوله عز وجل:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]، وقوله عز وجل:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35 - 36]. وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح، وذلك في مواضع من القرآن، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [الكهف: 107]، وإما مقرونًا بالذين أوتوا العلم، كقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} الآية [لروم: 56]، وقوله:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} الآية [المجادلة: 11]، وحيث ذكر الذين آمنوا، فقد دخل فيهم الذين أوتوا العليم، فإنهم خيارهم، قال تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الآية [آل عمران: 7]، وقال:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [النساء: 162].
ويذكر أيضًا لفظ المؤمنين، مقرونًا بالذين هادوا، والنصارى، والصابئين، ثم يقول:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فالمؤمنون في ابتداء الخطاب غير الثلاثة، والإيمان الآخر عمّهم، كما عمّهم في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 7]، وسنبسط هذا إن شاء الله.
فالمقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما في الباطن والظاهر من الإيمان، وأما العموم بالنسبة إلى الملل، فتلك مسألة أخرى، فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، وجعل الإيمان ما في القلب، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد، عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الإسلام علانيةٌ، والإيمان في القلب"
(1)
.
(1)
تقدم أنه حديث ضعيف.
وإذا ذكر اسم الإيمان مجرّدًا دخل فيه الإسلام، والأعمال الصالحة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشعب:"الإيمان بضع وسبعون شعبةً، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وكذلك سائر الأحاديث التي يُجعل فيها أعمال البرّ من الإيمان.
ثم إن نَفَى الإيمان عند عدمها دلّ على أنها واجبة، وإن ذَكر فضل إيمان صاحبها، ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبّة، فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينفي اسم مُسمّى أمر، أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله:"لا صلاة إلا بأمّ القرآن"، وقوله:"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، ونحو ذلك.
فأما إذا كان الفعل مستحبًّا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحبّ، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان، والصلاة، والزكاة، والحجّ؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البرّ مثل ما فعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر، ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحبّ يجوز نفيها لجاز أن تُنْفَى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. فمن قال: إن المنفيّ هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يُذمّ تاركه، ويتعرّض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحبّ، فهذا لم يقع قط في كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقع، فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئًا، لم يجز أن يقال: ما فعله، لا حقيقة، ولا مجازًا، فإذا قال للأعرابيّ المسيء في صلاته:"ارجع، فصلّ، فإنك لم تصلّ"، وقال لمن صلّى خلف الصفّ، وقد أمره بالإعادة:"لا صلاة لفذّ خلف الصفّ"، كان لترك واجب، وكذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، يبيّن أن الجهاد واجب، وترك الارتياب واجب، والجهاد، وإن كان فرضًا على الكفاية، فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء، فعليهم كلّهم اعتقاد وجوبه، والعزم على فعله، إذا تعيّن، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من مات، ولم يغز، ولم يُحدّث نفسه بغزو، مات على شعبة نفاق"، رواه مسلم، فأخبر أنه من لم يهمّ به كان على شعبة نفاق.
وأيضًا فالجهاد جنس تحته أنواع متعدّدة، ولا بدّ أن يجب على المؤمن نوع من أنواعه، وكذلك قوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} والآية [الأنفال: 2 - 4]، هذا كله واجب، فإن التوكّل على الله واجبٌ من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وحبّ الله ورسوله واجب، وقد أمر الله بالتوكّل عليه في غير آية، أعظم مما أمر بالوضوء، والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكّل على غير الله، قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} [التغابن: 13]، وقال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]، وقال تعالى:{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس: 84].
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنقال: 2]، فيقال: من أحوال القلب، وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمنًا، لزم ذلك بغير قصد منه، ولا تعمّد له، وإذا لم يوجد دلّ على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب، وهذا كقوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، فأخبر أنك لا تجد مؤمنًا يوادّ المحادّين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان تنافي موادّته، كما ينفي أحد الضدّين الآخر، فإذا وُجد الإيمان انتفى ضدّه، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلًا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب.
ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ
كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة: 79 - 81]، فذكر جملة شرطيّة تقتضي أنه إذا وُجد الشرط وُجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، فدلّ على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء، ويُضادّه، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودلّ ذلك على أن من اتّخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب، من الإيمان بالله والنبيّ، وما أنزل إليه.
ومثله قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} الآية [المائدة: 51]، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متولّيهم لا يكون مؤمنًا، وأخبر هنا أن متولّيهم هو منهم، فالقرآن يصدّق بعضه بعضًا، قال الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية [الزمر: 23]، وكذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} الآية [النور: 62] دليلٌ على أن الذهاب المذكور بدون استئذانه لا يجوز، وأنه يجب أن لا يذهب حتى يستأذن، فمن ذهب، ولم يستأذن، كان قد ترك بعض ما يجب عليه من الإيمان، فلهذا نفى عنه الإيمان، فإن حرف "إنما" تدلّ على إثبات المذكور، ونفي غيره، ومن الأصوليين من يقول:"إنّ" للإثبات، و"ما" للنفي، فإذا جُمع بينهما دلّت على النفي والإثبات، وليس كذلك عند أهل العربيّة، ومن يتكلّم بعلم، فإن "ما" هذه هي الكافّة التي تدخل على "إن" وأخواتها، فتكفّها عن العمل؛ لأنها إنما تعمل إذا اختصّت بالجمل الاسميّة، فلما كُفّت بطل عملها، واختصاصها، فصار يليها الجمل الفعليّة والاسميّة، فتغيّر معناها وعملها جميعًا بانضمام "ما" إليها، وكذلك "كأنما"، وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 - 51].
[فإن قيل]: إذا كان المؤمن حقًّا هو الفاعل للواجبات، التارك للمحرّمات، فقد قال:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4]، ولم يذكر إلا
خمسة أشياء، وكذلك قال في الآية الأخرى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، وكذلك قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النور: 62].
[قيل]: عن هذا جوابان:
[أحدهما]: أن يكون ما ذُكر مستلزمًا لما تُرك، فإنه ذَكَر وَجَلَ قلوبهم إذا ذُكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تُليت عليهم آياته، مع التوكّل عليه، وأقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع، فكان هذا مستلزمًا للباقي، فإن وجَلَ القلبِ عند ذكر الله يقتضي خشيته، والخوف منه، وقد فسّروا "وجلت" بفَرِقَت، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:"إذا ذُكر الله فرِقَت قلوبهم"، وهذا صحيح، فإن الوجل في اللغة هو الخوف، يقال؛ حمرة الْخَجَل، وصُفْرة الوجل، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله هو الرجل يزني، ويسرق، ويخاف أن يُعاقب؟ قال:"لا يا ابنة الصّدّيق، هو الرجل يصلّي، ويصوم، ويتصدّق، وَيَخاف أن لا يُقبل منه" وقال السّدّيّ في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35]: هو الرجل يريد أن يظلم، أو يهمّ بمعصية، فينزع عنه، وهذا كقوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41]، وقوله:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، قال مجاهد: وغيره من المفسّرين: هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر مقامه بين يدي الله، فيتركها خوفًا من الله.
وإذا كان وجل القلب من ذكره يتضمّن خشيته، ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كلّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله. ويدلّ على ذلك قوله تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} [الأعراف: 154]، فأخبر أن الهدى والرحمة للذين
يرهبون الله. قال مجاهد، وإبراهيم: هو الرجل يريد أن يذنب الذنب، فيذكر مقام الله، فيدع الذنب. رواه ابن أبي الدنيا عن ابن الجعد، عن شعبة، عن منصور، عنهما في قوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، وهؤلاء هم أهل الفلاح المذكورون في قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5]، وهم المؤمنون، وهم المتّقون المذكورون في قوله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1 - 2]، كما قال في آية البرّ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهؤلاء هم المتبعون للكتاب، كما في قوله تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وإذا لم يضلّ، فهو متّبع مهتد، وإذا لم يشقَ، فهو مرحوم، وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصّدّيقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين، فإن أهل الرحمة ليسوا مغضوبًا عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالّين، فتبيّن أن أهل رهبة الله يكونون متّقين لله، مستحقّين للجنة بلا عذاب، وهؤلاء هم الذين أتوا بالإيمان الواجب.
ومما يدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الآية [فاطر: 28]، والمعنى لا يخشاه إلا عالم، فقد أخبر الله أن كلّ من خشي الله فهو عالم، كما قال في الآية الأخرى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} والآية [الزمر: 9].
والخشية أبدًا متضمّنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قُنوطًا، كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا، فأهل الخوف لله، والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله. وقد رُوي عن أبي حيّان التيميّ أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله، فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي يعلم أمره ونهيه، وفي "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بحدوده". وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب والسنّة، لم يكونوا مستحقّين للذّمّ، وذلك لا يكون إلا
مع فعل الواجبات. ويدلّ عليه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم: 13 - 14]، وقوله:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، فوعد بنصر الدنيا، وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدَّوا الواجب، فدلّ على أن الخوف يستلزم فعل الواجب، ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله. ويدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} الآية [النساء: 17]. قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقالوا لي: كلُّ من عصى الله فهو جاهلٌ، وكلّ من تاب قبل الموت، فقد تاب من قريب، وكذلك قال سائر المفسّرين، قال مجاهد: كلّ عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن، وقتادة، وعطاء، والسدّيّ، وغيرهم: إنما سُمُّوا جُهّالًا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميّزين. وقال الزّجّاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءًا، وإنما يحتمل أمرين:
[أحدهما]: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه.
[والثاني]: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسمّوا جُهّالًا؛ لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة، فقد جعل الزجّاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة. وقد يقال: هما متلازمان.
والمقصود هنا أن كلّ عاص لله، فهو جاهل، وكلّ خائف منه فهو عالمٌ مطيع لله، وإنما يكون جاهلًا لنقص خوفه من الله؛ إذ لو تمّ خوفه من الله لم يَعصِ، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار به جهلًا، وذلك لأن تصوّر المخوف يوجب الهرب منه، وتصوّر المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دلّ على أنه لم يتصوّره تصوّرًا تامًّا، ولكن قد يتصوّر الخبر عنه، وتصوّر الخبر، وتصديقه، وحفظ حروفه غير تصوّر المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصوّر محبوبًا له، ولا مكروهًا، فإن الإنسان يصدّق بما هو مخوف على غيره، ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هربًا، ولا طلبًا، وكذلك إذا أُخبِر بما هو محبوبٌ له، ومكروه، ولم يكذّب
المخبر، بل عرفه صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصوّر ما أُخبر به، فهذا لا يتحرّك للهرب، ولا للطلب.
وفي الكلام المعروف عن الحسن البصريّ، ويُروى مرسلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"العلم علمان: فعلم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده". وقد أخرجا في "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعريّ صلى الله عليه وسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجّة طعمها طيّب وريحها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيّبٌ ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّبٌ وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة، طعمها مرّ ولا ريح لها". وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن، يحفظه، ويتصوّر معانيه، وقد يصدّق أنه كلام الله، وأن الرسول حقّ، ولا يكون مؤمنًا، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس، وفرعون، وغيرهما، لكن من كان كذلك، لم يكن حصل له من العلم التامّ، والمعرفة التامّة، فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه، لا محالة، ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدّم.
وكذلك لفظ "العقل"، وإن كان في الأصل مصدر عقل يعقل عقلًا - من باب ضرب - وكثير من النظّار جعله من جنس العلوم، فلا بدّ أن يُعتبر مع ذلك أنه علم يُعمل بموجبه، فلا يسمّى عاقلًا إلا من عرف الخير فطلبه، والشرّ فتركه، ولهذا قال أصحاب النار:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وقال عن المنافقين:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]، ومن فعل ما يعلم أنه يضرّه، فمثل هذا ما له عقلٌ، فكما أن الخوف من الله يستلزم العلم به، فالعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته، فالخائف من الله ممتثلٌ لأوامره، مجتنب لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أوّلًا.
ويدلّ على ذلك أيضًا قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)} [الأعلى: 9 - 12]، فأخبر أن من يخشاه يتذكّر، والتذكّر هنا مستلزم لعبادته، قال الله تعالى: {هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} [غافر: 13]، وقال:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 8]، [قال الجامع عفا الله عنه]: ولهذا قالوا في قوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى: 10]: سيتّعظ بالقرآن من يخشى الله، وفي قوله:{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]: إنما يتّعظ من يرجع إلى الطاعة، وهذا لأن التذكّر التامّ يستلزم التأثّر بما تذكّره، فإن تذكّر محبوبًا طلبه، وإن تذكّر مرهوبًا هرب منه. ومنه قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وقال سبحانه الله:{اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6]، فأثبت لهم الإنذار من وجه، ونفاه عنهم من وجه، فالإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم، والتخويف، فمن علّمته فتعلّم، فقد تمّ تعليمه، وآخر يقول: علّمته فلم يتعلّم، وكذلك من خوّفته فخاف، فهذا هو الذي تمّ تخويفه، وأما من خُوّف فما خاف، فلم يتمّ تخويفه، وكذلك من هديته فاهتدى، تمّ هداه، ومنه قوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، ومن هديته فلم يهتد، كما قال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصّلت: 17]، فلم يتمّ هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته، فما انقطع. فالمؤثّر التامّ يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًّا، والفعل إذا صادف محلًّا قابلًا تمّ، وإلا لم يتمّ، والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه، ولهذا يُسمّى هذا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة، يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كلّه إنما يحصل مع صحّة الفطرة، وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يُحسّ الإنسان باللذيذ، فلا يجد له لذّة، بل يؤلمه، وكذلك يلتذّ بالمؤلم لفساد فطرته، والفساد يتناول القوّة العلميّة، والقوّة العمليّة جميعًا، كالممرور الذي يجد العسل مُرًّا، فإنه فسد نفس إحساسه، حتى كان يُحسّ به على خلاف ما هو عليه للمرّة التي مازجته، وكذلك من فسد باطنه، قال تعالى:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]. وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}
الآية [الصفّ: 5]، وقال {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال في الآية الأخرى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 88]، و"الغلف" جمع أغلف، وهو ذو الغلاف الذي في غلاف، مثل الأقلف، كأنهم جَعلوا المانع خلقة: أي خُلقت القلوب وعليها أغطية، فقال الله تعالى:{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155]، وقال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} [محمد: 16].
وكذلك قالوا: {يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]، قال:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]: أي لأفهمهم ما سمعوه، ثم قال:{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]: أي ولو لأفهم مع هذه الحال التي هم عليها {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فقد فسدت فطرتهم، فلم يفهموا، ولو فهموا لم يعملوا، فنفى عنهم صحّة القوّة العلميّة، وصحّة القوّة العمليّة. وقال:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]، وقال:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، وقال عن المنافقين:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 18].
ومن الناس من يقول: لَمّا لم ينتفعوا بالسمع والبصر، والنطق جعلوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، أو لما أعرضوا عن السمع والبصر والنطق، صاروا كالصمّ العمي البكم، وليس كذلك، بل نفس قلوبهم عميت، وصُمّت، وبكمت، كما قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46]. والقلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وإذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد سائر الجسد، فيبقى يسمع بالأذن الصوت، كما تسمع البهائم، والمعنى: لا يفقه، وإن فقه بعض الفقه لم يفقه فقهًا تامًّا، فإن الفقه التامّ يستلزم تأثيره في القلب محبّة المحبوب، وبغض المكروه، فمتى لم يحصل هذا
لم يكن التصوّر حاصلًا، فجاز نفيه، لأن ما لم يتمّ ينفى، كقوله صلى الله عليه وسلم للذي أساء في صلاته:"صلّ، فإنك لم تصلّ"، فنَفْيُ الإيمان حيث نُفي من هذا الباب.
وقد جمع الله تعالى بين وصفهم بوجَل القلب إذا ذُكر الله، وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته، قال الضحّاك: زادتهم يقينًا، وقال الربيع بن أنس: خشيةً، وعن ابن عبّاس تصديقًا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16].
والخشوع يتضمّن معنيين:
[أحدهما]: التواضع والذلّ.
[والثاني]: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمّن عبوديّته لله، وطمأنينته أيضًا، ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمّن هذا وهذا، التواضع والسكون. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 2]: قال: مخبتون أذِلّاءُ. وعن الحسن وقتادة: خائفون. وعن مقاتل: متواضعون. وعن عليّ رضي الله عنه: الخشوع في القلب، وأن تُلِين للمرء للمسلم كنفك، ولا تلتفت يمينًا وشمالًا. وقال مجاهد: غضّ البصر، وخفض الجناح. وكان الرجال من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن، أن يشدّ بصره، أو أن يُحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا.
وعن عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون، وحبّ حسن الهيئة في الصلاة. وعن ابن سيرين وغيره: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء، وينظرون يمينًا وشمالًا حتى نزلت هذه الآية:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، فجعلوا بعد ذلك أبصارهم حيث يسجدون، وما رؤي أحد منهم بعد ذلك ينظر إلا إلى الأرض. وعن عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك، وأنت في الصلاة. وأبصر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة،
فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"
(1)
.
وخشوع الجسد تبع لخشوع القلب، إذا لم يكن الرجل مرائيًا يُظهر ما ليس في قلبه، كما روي:"تعوّذوا من خشوع النفاق"، وهو أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب خاليًا لاهيًا، فهو سبحانه استبطأ المؤمنين بقوله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، فدعاهم إلى خشوع القلب لذكره، وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وهؤلاء هم الذين {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
وكذلك في الآية الأخرى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 23]، والذين يخشون ربّهم هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم.
[فإن قيل]: فخشوع القلب لذكر الله، وما نزل من الحقّ واجبٌ.
[قيل]: نعم، لكن الناس فيه على قسمين: مقتصدٌ، وسابقٌ، فالسابقون يختصّون بالمستحبّات، والمقتصدون الأبرار هم عموم المؤمنين المستحقّين للجنة، ومن لم يكن من هؤلاء، ولا هؤلاء، فهو ظالم لنفسه، وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع".
وقد ذمّ الله قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع، فقال تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} الآية [البقرة: 74]. قال الزجّاج: قست في اللغة: غلُظت، ويبست، وعسيت، فقسوة القلب: ذهاب اللين والرحمة، والخشوع منه، والقاسي، والعاسي: الشديد الصلابة. وقال ابن قُتيبة: قست، وعست، وعتت: أي يبست، وقوّة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قويًّا من غير عنف، وليِّنًا من غير ضعف. وفي الأثر: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبّها إلى الله أصلبها، وأرقّها،
(1)
هذا موضوع مرفوعًا، وإنما هو من قول ابن المسيّب، وهو أيضًا ضعيف. انظر:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 1/ 143 - 144 رقم الحديث 110.
وأصفاها"، وهذا كاليد، فإنها قويّة، ليّنة، بخلاف ما يقسو من العقب، فإنه يابس، لا لين فيه، وإن كان فيه قوّة، وهو سبحانه ذكر وَجَلَ القلب من ذكره، ثم ذكر زيادة الإيمان عند تلاوة كتابه علمًا وعملًا.
ثم لا بدّ من التوكّل على الله تعالى فيما لا يقدر عليه، ومن طاعته فيما يقدر عليه، وأصل ذلك الصلاة، والزكاة، فمن قام بهذه الخمس، كما أُمر لزم أن يأتي بسائر الواجبات.
بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أُمِرَ، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما روي عن ابن مسعود، وابن عبّاس رضي الله عنهم:"إن في الصلاة منتهًى ومُزدجرًا عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعدًا"، وقوله:"لم يزدد إلا بُعدًا" إذا كان ما ترك من الواجب منها أعظم مما فعله، أبعده ترك الواجب الأكثر من الله أكثر مما قرّبه فعل الواجب الأقلّ، وهذا كما في "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا". وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142].
وفي "السنن" عن عمّار رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يُكتب له منه إلا نصفها، إلا ثلثها"، حتى قال:"إلا عشرها"، وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قال:"ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها"، وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء، لكن يؤمر بأن يأتي من التطوّعات بما يَجْبُرُ نقص فرضه، ومعلوم أن من حافظ على الصلوات بخشوعها الباطن، وأعمالها الظاهرة، وكان يخشى الله الخشية التي أمره بها، فإنه يأتي بالواجبات، ولا يأتي كبيرة، ومن أتى الكبائر، مثل الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، وغير ذلك، فلا بدّ أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي يُنزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن". فإن المتّقين كما وصفهم الله تعالى
بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان تذكّروا، فيُبصرون.
قال سعيد بن جُبير: هو الرجل يغضب الغضبة، فيذّكر الله، فيكظم الغيظ. وقال ليث، عن مجاهد: هو الرجل يهمّ بالذنب، فيذكر الله، فيدعه، والشهوة، والغضب مبدأ السيّئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف: 202]: أي هاخوان الشياطين تُمدّهم الشياطين في الغيّ، ثم لا يقصرون. قال ابن عبّاس: لا الإنس تقصر عن السيّئات، ولا الشياطين تُمسك عنهم، فإذا لم يبصر بقي قلبه في غيّ، والشيطان يمدّه في غيّه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف، يخرج من قلبه، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينيه، فلا يرى شيئًا، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب، لا يُبصر الحقّ، وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر.
وهكذا جاء في الآثار، قال أحمد بن حنبل في "كتاب الإيمان": حدّثنا يحيى، عن أشعث، عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يُنزع منه الإيمان، فإن تاب أُعيد إليه". وقال: حدّثنا يحيى، عن عوف، قال: قال الحسن: "يُجانبه الإيمان ما دام كذلك، فإن راجع راجعه الإيمان".
وقال أحمد: حدّثنا معاوية، عن أبي إسحاق، عن الأوزاعيّ، قال: وقد قلت للزهريّ حين ذكر هذا الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"، فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنًا، فما هو؛ قال: فأنكر ذلك، وكره مسألتي عنه. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوّجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يردّه ردّه، وإن شاء أن يمنعه منعه". وقال أبو داود السجستانيّ: حدّثنا عبد الوهّاب بن نَجْدة، حدّثنا بقيّة بن الوليد، حدّثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي، أنه أخبره، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول:"إنما الإيمان كثوب أحدكم، يلبسه مرّةً، ويقلعه أخرى"، وكذلك رواه بإسناده عن عمر رضي الله عنه. وروي عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وفي حديث أبي
هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان، فكان كالظلّة، فإذا انقطع رجع إليه الإيمان". انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" 7/ 5 - 33. وهو تحقيق نفيس جدًّا، لا تجده في كتاب غيره، فاغتنمه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمنٌ.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: اختلف العلماء من السلف وغيرهم، في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن، فقال طائفة: لا يقول: أنا مؤمن، مقتصرًا عليه، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وحَكَى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين، وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق، وأنه لا يقول: إن شاء الله، وهذا هو المختار، وقول أهل التحقيق، وذهب الأوزاعيّ، وغيره إلى جواز الأمرين، والكل صحيح باعتبارات مختلفة، فمن أطلق نظر إلى الحال، وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال، ومن قال: إن شاء الله، فقالوا فيه: هو إما للتبرك، وإما لاعتبار العاقبة، وما قدر الله تعالى، فلا يدري أيثبت على الإيمان، أم يُصرَف عنه، والقول بالتخيير حسن صحيح، نظرًا إلى مأخذ القولين الأولين، ورفعًا لحقيقة الخلاف.
وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: يقال: هو كافر، ولا يقول: إن شاء الله، ومنهم من قال: هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله نظرًا إلى الخاتمة، وأنها مجهولة، وهذا القول اختاره بعض المحققين، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ.
وقال الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع":
وَجَازَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي مُؤْمِنُ
…
إِنْ شَاءَ رَبّي خَشْيَةً أَنْ يُفْتَنُ
بَلْ هُوَ أَوْلَى عِنْدَ جُلِّ السَّلَفِ
…
وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِهَذَا الْحَنَفِي
يعني أن قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى جائز
…
؛ خشية أن يُفتن، لا شكًّا في الإيمان، وهذا مذهب جل السلف، فقد حُكي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، ومنصور، ومغيرة، والأعمش، وليث بن أبي سُليم، وعطاء بن السائب، وعمارة بن القعقاع،
والعلاء بن المسيّب، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الله بن شُبْرُمة، والثوريّ، وابن عُيينة، وقال: إنه توكيد للإيمان، وحمزة الزيات، وعلقمة، وحماد بن زيد، والنضر بن شُميل، ويزيد بن زُريع، ويحيى بن سعيد القطّان، والنخعيّ، وطاوس، وأبي الْبَخْتَريّ سعيد بن فَيروز، ويزيد بن أبي زياد، وعلي بن خليفة، ومعمر، وجرير بن عبد الحميد، وابن المبارك، والأوزاعيّ، ومالك، وابن مهديّ، والشافعيّ، وأبي ثور، وآخرين، واختاره أبو منصور الماتريديّ، بل بلغ بقوم من السلف أن قالوا: إنه أولي، وعابوا على من قال: إني مؤمن. أخرج ذلك ابن أبي شيبة في "كتاب الإيمان". ومنع من ذلك أبو حنيفة، وطائفة، وقالوا: هو شكّ، والشكّ في الإيمان كفر.
وأجيب عن ذلك بأوجه:
[أحدها]: أنه لا يقال شكًّا، بل خوفًا من سوء الخاتمة؛ لأن الأعمال معتبرة بخواتمها، كما أن الصائم لا يحكم له بالصوم إلَّا في آخر النهار.
[الثانية]: أنه للتبرّك، وإن لم يكن شكٌّ، كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية [الفتح: 27].
[الثالثة]: أن المشيئة راجعة إلى الإيمان، فقد يُخلُّ ببعضه، فيستثني لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، راجع ما كتبته على "الكوكب الساطع" ص 601 - 602.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: الاستثناء في الإيمان سنّة عند أصحابنا، وأكثر أهل السنّة، وقالت المرجئة والمعتزلة: لا يجوز الاستثناء فيه، بل هو شكّ، والاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، أو إن كنت تريد الإيمان الذي يَعصم دمي فنعم، وإن كنت تريد:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] فالله أعلم.
ثم هنا ثلاثة أقوال: إما أن يقال: الاستثناء واجبٌ، فلا يجوز القطع، وهذا قول القاضي في "عيون المسائل" وغيره، وإما أن يقال: هو مستحب، ويجوز القطع باعتبار آخر. وإما أن يقال: كلاهما جائز
…
باعتبار. وإنما ذكر أن الاستثناء سنّة بمعنى أنه جائز
…
، ردًّا على من نهى عنه. فإذا قلنا: هو واجب،
فمأخذ القاضي أنه لو جاز القطع على أنّا مؤمنون، لكان ذلك قطعًا على أنّا في الجنّة؛ لأن الله تعالى وعد المؤمنين الجَنَّة، ولا يجوز القطع على الوعد بالجنة؛ لأن من شرط ذلك الموافاة بالإيمان، ولا يعلم ذلك إلَّا الله، وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة، ولا يعلم ذلك، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: هلَّا وكَل الأولى كما وكَل الآخرة، يريد بذلك ما استدل به من رأى رجلًا قال عنده: إني مؤمن، فقيل لابن مسعود رضي الله عنه: هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فسلوه أفي الجنّة هو، أو في النار؟ فسألوه، فقال: الله أعلم، فقال عبد الله: فهلَّا وكلت الأولى كما وكلت الثانية.
قال ابن تيمية: ويُستدلّ أيضًا على وجوب الاستثناء بقول عمر رضي الله عنه: من قال: إنه مؤمن، فهو كافر، ومن زعم أنه في الجَنَّة، فهو في النار، ومن زعم أنه عالم، فهو جاهل، ولما استدل المنازع بأن الاستثناء إنما يحتاج إليه لمستقبل يشكّ في وقوعه قال: الجواب: أن هنا مستقبلًا يُشكّ في وقوعه، وهو الموافاة بالإيمان، والإيمان مرتبط بعضه ببعض، فهو كالعبادة الواحدة.
قال: فحقيقة هذا القول أن الإيمان اسم للعبادة من أول الدخول فيه إلى أن يموت عليه، فإذا انتقض تبيّن بطلان أولها، كالحدث في آخر الصلاة، والوطء في آخر الحجّ، والأكل في آخر النهار، وقول مؤمن عند الإطلاق يقتضي فعل الإيمان كله، كقول مصلّ، وصائم، وحاجّ، فهذا مأخذ القاضي، وقد ذكر بعد هذا في "المعتمد" مسألة الموافاة، وهي متّصلة بها، وهو أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرًا، وبالعكس، هل يتعلّق رضا الله، وسخطه، ومحبّته، وبغضه بما هو عليه، أو بما يوافي به، والمسألة متعلّقة بالرضا والسخط، هل هو قديم، أو محدث؟
[والمأخذ الثاني]: أن الاسم عند الإطلاق يقتضي الكمال، وهذا غير معلوم للمتكلّم، كما قال أبو العالية
(1)
: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
(1)
هكذا في "مجموع الفتاوى"، والذي في "صحيح البخاريّ":"وقال ابن أبي مليكة، أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل". انتهى.
كلهم يخاف النفاق غلى نفسه، لا يقول: إن إيماني كإيمان جبريل، فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه، وهذا معنى قول ابن المنزل: إن المرجئة تقول: إن حسناتها مقبولة، وأنا لا أشهد بذلك، وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء، وهذا المأخذ الثاني للقاضي، فإن المنازع احتجّ بأنه لما لم يجز الاستثناء في الإسلام، فكذلك في الإيمان. قال: والجواب: أن الإسلام مجرّد الشهادتين، وقد أتى بهما، والإيمان أقوال، وأعمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون بابًا"، وهو لا يتحقّق كلّ ذلك منه.
[والمأخذ الثالث]: أن ذلك تزكية للنفس، وقد قال الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النجم: 32]، وهذا يصح للاستحباب، وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز
…
، وإن كان مدحًا، وقد يصلح للإيجاب.
قال الأثرم في "السنة": حدثنا أحمد بن حنبل، سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدًا من أصحابنا، ولا بلغني إلَّا على الاستثناء، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، يسأل عن الاستثناء في الإيمان، ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أَعيبه
(1)
فاستثنى مخافة واحتياطًا، ليس كما يقولن على الشكّ، إنما يستثني للعمل، قال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية [الفتح: 27]: أي إن هذا الاستثناء لغير شكّ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وإنا إن شاء الله بكم لاحقون": أي لم يكن يشكّ في هذا، وقد استثني، وذكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نبعث إن شاء الله" من القبر، وذكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إني والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله"، قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأسًا أن لا يُستثني، فقال: إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله: إن قومًا تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجّب منهم، وذكر كلامًا طويلًا تركته. فكلام أحمد يدلّ على أن الاستثناء لأجل العمل، وهذا المأخذ الثاني، وأنه لغير شكّ في الأصل، وهو يُشبه الثالث، ويقتضي أن يجوز ترك الاستثناء، وأما جواز إطلاق القول باني مؤمن، فيصحّ إذا عنَى أصل الإيمان، دون كماله، والدخول فيه،
(1)
كتب في "هامش مجموع الفتاوى": ما نصّه: سقط في الأصل مقدار نصف سطر.
دون تمامه، كما يقول: أنا حاجّ، وصائمٌ لمن شرع في ذلك، وكما يُطلقه في قوله: آمنت بالله ورسله، وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة، وعلى هذا يخرّج ما رُوي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وما رُوي في حديث الحارث الذي قال: أنا مؤمنٌ حقًّا، وفي حديث الوفد الذين قالوا:"نحن المؤمنون"، وإن كان في الإسنادين نظر. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى"مجموع الفتاوى" 7/ 666 - 669.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح هو ما عليه جلّ السلف رحمهم الله تعالى من أنه يجوز أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ خوفًا من العاقبة، وتبرّكًا بذكر المشيئة، لا شكًّا في أصل الإيمان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة):
[اعلم]: أن مذهب أهل الحق، أنه لا يُكَفَّر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يُعلم من دين الإسلام ضرورة، حُكم بردته وكفره، إلَّا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه، فيُعَرَّف ذلك، فإن استمر حُكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا، أو الخمر، أو القتل، أو غير ذلك من المحرمات التي يُعلم تحريمها ضرورة، ذكره النووي في "شرحه"
(1)
.
وقال الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع":
وَلَا نَرَى تَكْفِيرَ أهْلِ الْقِبْلَةِ
…
وَلَا الْخُرُوجَ أَيْ عَلَى الأَئِمَّةِ
وقلت في "شرحي" عليه: أشار به إلى ما قاله الشافعيّ، وأبو حنيفة، والأشعريّ: لا نكفّر أحدًا من أهل القبلة بذنب أجرمه، وروى البيهقيّ بسند صحيح أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما سُئل، هل كنتم تسمّون من الذنوب كفرًا، أو شركًا، أو نفاقًا؟ قال: معاذ الله، لكنّا نقول: مؤمنون مذنبون.
وقال الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" 15/ 88 -
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 144 - 150.
في ترجمة أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى ما نصّه: رأيت للأشعريّ كلمة أعجبتني، وهي ثابتةٌ، رواها البيهقيّ، سمعت أبا حازم العبدريّ، سمعت زاهر بن أحمد السرخسيّ يقول: لَمّا قرب أجل أبي الحسن الأشعريّ في داري ببغداد، دعاني، فأتيته، فقال: اشهَدْ عليّ أني لا أكفّر أحدًا من أهل القبلة؛ لأن الكلّ يُشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قال الذهبيّ: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيميّة في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفّر أحدًا من الأمة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يُحافظ على الوضوء إلَّا مؤمن"
(1)
. فمن لازم الصلوات بوضوء، فهومسلم. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة من عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب هو الحقّ، فينبغي التنبّه له، وعدم التسرّع إلى القول بتكفير أحد منهم إلَّا ببيّنة واضحة، لا يُقبل معها التأويل، هذا على الجملة، وأما من حيث التفصيل، فمن قامت بَيِّنَةٌ واضحة على أنه ارتكب ما يخرجه من الإسلام، فلا يُتَوَقَّفُ في تكفيره، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب.
هذه جُمَلٌ من المسائل المتعلقة بالإيمان، قدمتها في صدر الكتاب، تمهيدًا لكونها مما يكثر الاحتياج إليها، ولكثرة تكرارها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها في موضع واحد، ليسهل فهمها، ويقرب إدراكها، ويتيسّر الإحالة عليها، إذا مرّ في الأبواب الآتية ما يتعلّق بها. والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، ومنه التوفيق والعصمة.
(1)
حديث صحيح. أخرجه أحمد، والدارميّ، والحاكم، وابن حبّان.
(1) بَابُ بَيَانِ الإِيمَان، وَالإِسْلَام، وَالإِحْسَان، وَوُجُوبِ الإِيمَانِ بِإِثْبَاتِ قَدَرِ اللهِ سبحانه وتعالى، وَبَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّبَرِّي مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَر، وَإِغْلَاظِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[101]
(8)
(1)
- (حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ كهْمَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ.
(ح)
…
وَحَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَهَذَا حَدِيثُهُ، حَدَّثنا أَبِي، حَدَّثنا كَهْمَسٌ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيٌّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ، حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْن، فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَر، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِه، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِه، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَن، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أَنُفٌ، قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ، مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بَالْقَدَر، ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَاب، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْر، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَر، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْه، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْه، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَام، فَقَالَ
(1)
قد سبق أن الرقم الذي صورته هكذا [1] هو رقمي الذي التزمته من أول المقدمة، وأما الرقم الذي صورته هكذا (1) فهو رقم محمد عبد الباقي رحمه الله. فتنبّه.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَان، قَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلَائِكَتِه، وَكتُبِه، وَرُسُلِه، وَالْيَوْمِ الْآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَان، قَالَ:"أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَة، قَالَ:"مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ:"فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ، رِعَاءَ الشَّاء، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ"، قَالَ: ثمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت، أكثر عنه المصنّف [10](ت 234) وهو ابن (74) سنة (خ م د س ق) 1/ 3.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقة حافظ، رجّح ابن معين أخاه المثنّى عليه [10](ت 237)(خ م د س) 4/ 6.
3 -
(أبوه) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسَّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة، متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) 3/ 6.
4 -
(وَكِيعٌ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ، عابدٌ، من كبار 91، (ت 196)(ع) 1/ 1.
5 -
(كَهْمَسٌ) - بفتح الكاف، وإسكان الهاء، وفتح الميم، وبالسين المهملة - وهو كهمس بن الحسن، أبو الحسن التميميّ البصريّ، ثقة [5].
رَوَى عن أبي الطفيل، وعبد الله بن بُريدة، وعبد الله بن شقيق، وأبي السَّلِيل، ضُرَيب بن نُقَير، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، وسَيّار بن منظور، وأبي نَضْرة العبديّ، وغيرهم.
(1)
بفتح المعجمة، وإسكان المثناة تحتُ، وبعدها مثلثة.
وروى عنه ابنه عَوْن، والقطان، وابن المبارك، ووكيع، ومعتمر بن سليمان، وسفيان بن حبيب، ويوسف بن يعقوب السَّدُوسيّ، ومعاذ بن معاذ، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: ثقة وزيادة، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين، وأبو داود
(1)
: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال الساجيّ: صدوقٌ يَهِمُ، ونَقَلَ أن ابن معين ضَعَّفه، وتبِعه الأزديّ في نقل ذلك. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وأربعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم (9) و (860) و (1069) و (1173) و (1209) و (1384) و (1954) و (3385) و (3612).
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصَيب الأسلميُّ أبو سهل المروزيّ، قاضي مَرْوَ، أخو سليمان، وكانا توأمين، ثقة [3].
روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن مُغَفَّل، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعائشة، ويحيى بن يعمر وجماعة.
وروى عنه بشير بن المهاجر، وسهل بن بشير، وحسين بن واقد المروزيّ، وداود بن أبي الفُرَات، وسعيد الْجُرَيريّ، وكهمس بن الحسن، ومالك بن مغول، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: أما سليمان فليس في نفسي منه شيء، وأما عبد الله ثم سكت، ثم قال: كان وكيع يقول: كانوا لسليمان أَحْمَدَ منهم لعبد الله، وقال في رواية أخرى عن وكيع: كان سليمان أصحهما حديثًا. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: عبد الله بن بُريدة الذي رَوَى عنه حسين بن واقد ما أنكرهما! وأبو المنيب أيضًا. وقال ابن معين، والعجليّ، وأبو حاتم: ثقة. وقال أبو تُمَيلة، عن رُمَيح الطائي، عن عبد الله بن بريدة: وُلدتُ لثلاث خَلَوْن من
(1)
بالرفع عطف على: ابنُ أبي خيثمة.
خلافة عمر رضي الله عنه. وقال أحمد بن سَيّار المروزي: مات بقرية من قرى مَرْوَ، وكان بينه وبين موت أخيه سليمان عشر سنين، وتُوُفِّي عبدُ الله في ولاية أسد بن عبد الله على القضاء. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قال أبو زرعة: لم يَسمع من عُمَر. وقال الدارقطنيّ في "كتاب النِّكَاح" من "السنن": لم يسمع من عائشة. وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، كوفيّ، نزل البصرة. وقال أبو القاسم البغويّ: حدثني محمد بن علي الْجُوزجانيّ قال: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: سمع عبد الله من أبيه شيئًا؟ قال: ما أدري، عامة ما يُرْوَى عن بُريدة عنه، وضعَّف حديثه. وقال إبراهيم العربي: عبد الله أَتَمُّ من سليمان، ولم يسمعا من أبيهما، وفيما رَوَى عبد الله عن أبيه أحاديث منكرة، وسليمان أصحُّ حديثًا، ويُتَعَجَّب من الحاكم مع هذا القول في ابن بريدة، كيف يزعُم أن سند حديثه من رواية حسين بن واقد عنه، عن أبيه، أصح الأسانيد لأهل مَرْوَ.
وقال ابن حبان: وُلد عبد الله سنة (15)، وهو وأخوه سليمان تَوْأَم، ومات سليمان، وهو على القضاء بمرو سنة (100)، ووَلي أخوه بعده القضاء إلى أن مات سنة خمس وعشرة ومائة، فعلى هذا يكون عُمْرُ عبد الله مائة سنة، وقد قيل: إنهما ماتا في يوم واحد، وليس بشيء.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
7 -
(يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ) - بفتح التحتانيّة، والميم، بينهما مهملة ساكنة - أبو سليمان، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو عَديّ الْقَيْسِيُّ الْجَدَليّ البصريّ، ثم المروزيّ قاضيها، ثقة، فصيحٌ، يرسل [3].
رَوَى عن عثمان، وعلي، وعمار، وأبي ذر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد، وعائشة، وسليمان بن صُرَد، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبي الأسود الديليّ، وجماعة.
وروى عنه يحيى بن عَقِيل، وسليمان التيمي، وعبد الله بن بُريدة، وقتادة، وعكرمة، وعطاء الخرساني، والرُّكَين بن الرَّبِيع، وعُمر بن عطاء بن أبي الْخُوَار، وعبد الله بن كليب السدوسيّ، والأزرق بن قيس، وإسحاق بن سُويد، وغيرهم.
قال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع من عائشة؟ قال: لا. وقال الحسين بن الوليد، عن هارون بن موسى: أَوَّلُ من نَقَّطَ المصاحف يحيى بن يعمر. وقال قيس بن الربيع، عن عبد الملك بن عُمير: فصحاء الناس ثلاثة: موسى بن طلحة، ويحيى بن يعمر، وقبيصة بن جابر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فصحاء أهل زمانه، وأكثرهم علمًا باللغة، مع الورع الشديد، وكان على قضاء مرو، ولّاه قتيبة بن مسلم. وقال الدارقطني: لم يَلْقَ عَمّارًا، إلَّا أنه صحيح الحديث عمن لقيه. وقال أبو داود: بينه وبين عمار رجل. وقال ابن سعد: كان نحويًّا، صاحب علم بالعربية والقرآن، وَليَ القضاء بمرو، وكان يقضي باليمين والشاهد، وكان ثقة. وقال الحاكم أبو عبد الله في "تاريخ نيسابور": يحيى بن يعمر فقيهٌ أديبٌ نحويٌّ مُبَرِّزٌ، تابعيٌّ، وأكثر روايته عن التابعين، وأخذ النحو عن أبي الأسود الدِّيليّ، نفاه الحجاج إلى مرو، فقبله قُتيبة بن مسلم، وقد قضى في أكبر مُدُن خراسان، وكان إذا انتقل من بلد استَخْلَف على القضاء بها. وقال أبو الحسن علي بن الأثير الجزريّ في "الكامل": مات سنة تسع وعشرين ومائة، كذا قال، وفيه نظر، وقال غيره: مات في حدود العشرين، وقال أبو الفرج بن الجوزي: مات سنة تسع وثمانين، وقيل: إن قتيبة عزله لَمّا بلغه أنه يشرب الْمُنَصَّف.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (9) و (93) و (138) و (859) و (1181) و (1674) و (4790) و (4894).
8 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب بن نُفَيل بن عبد الْعُزّى بن رِيَاح بن قُرْط بن رَزَاح بن عديّ بن كعب بن لُؤيّ بن غالب القرشيّ الْعَدَويّ، أبو عبد الرَّحمن المكيّ، ثم المدنيّ الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أسلم قديمًا، وهو صغير، وهاجر مع أبيه، واستُصغِر في أُحُد، ثم شَهِد الخندق، وبيعة الرضوان والمشاهد بعدها.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعمه زيد، وأخته حفصة، وأبي بكر، وعثمان، وعلي، وسعيد، وبلال، وزيد بن ثابت، وصُهَيب، وابن مسعود، وعائشة، ورافع بن خَدِيج رضي الله عنهم، وغيرهم.
ورَوَى عنه أولاده: بلال، وحمزة، وزيد، وسالم، وعبد الله، وعبيد الله، وعمر، وابن ابنه أبو بكر بن عبيد الله، وابن ابنه الآخر محمد بن زيد، وابن ابنه الآخر عبد الله بن واقد، وابن أخيه حفص بن عاصم بن عمر، وابن أخيه الآخر عبد الله بن عبيد الله بن عمر، ومولاه نافع، وأسلم، مولى عمر، وزيد، وخالد ابنا أسلم، وعروة بن الزبير، وموسى بن طلحة، وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن، وعامر بن سعد، وحميد بن عبد الرَّحمن بن عوف، وسعيد بن المسيب، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومصعب بن سعد، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وأنس بن سيرين، وبُسْر بن سعيد، وبكر بن عبد الله المزني، وثابت البناني، وجَبَلَة بن سُحَيم، وحرملة مولى أسامة بن زيد، والحكم بن ميناء، وحكيم بن أبي حُرّة، وحميد بن عبد الرَّحمن الْحِمَيريّ، وأبو صالح السمان، وزاذان أبو عمر، وخلق كثير.
قالت حفصة رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عبد الله رجلٌ صالحٌ". وقال ابن مسعود: إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا لَعَبدَ الله بن عمر. وقال جابر: ما منا أحد أدرك الدنيا إلَّا مالت به، ومال بها إلَّا ابن عمر. وقال ابن المسيب: مات يوم مات، وما في الأرض أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منه، وقال الزهريّ: لا نَعْدِل برأيه أحدًا. وقال مالك: أفتى الناس ستين سنة. وقال ابن يونس: شَهِدَ فتح مصر. وقال أبو نعيم الحافظ: أُعطي ابن عمر القوة في الجهاد، والعبادة، والْبِضَاع، والمعرفة بالآخرة، والإيثار لها، وكان من التمسك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بالسبيل المتين، وما مات حتى أَعْتَق ألف إنسان أو أزيد، وتُوُفّي بعد الحج. وعن عبد الله بن دينار قال: خرجت مع ابن عمر إلى مكة، فعرّسنا، فانحدر علينا راعٍ من جبل، فقال له ابن عمر: أراع؟ قال: نعم، قال: بعني شاةً من الغنم، قال: إني مملوك، قال: قل لسيّدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله عز وجل؟ قال ابن عمر: فأين الله؟ ثم بكي، ثم اشتراه بعدُ، فأعتقه، وفي رواية: فأعتقه، واشترى له الغنم. وعن عاصم بن محمد عن أبيه قال: أعطى عبد الله بن جعفر بن عمر بنافع عشرة آلاف، فدخل على صفيّة امرأته فحدّثها، قالت: فما تنتظر؟ قال: فهلّا ما هو
خير من ذلك، هو حرّ لوجه الله، فكان يُخيَّل إليَّ أنه كان ينوي قول الله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وعن عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه أن ابن عمر كاتب غُلامًا له بأربعين ألفًا، فخرج إلى الكوفة، فكان يعمل على حمر له، حتى أبي خمسة عشر ألفًا، فجاءه إنسان، فقال: أمجنون أنت؟ أنت هاهنا تُعذّب نفسك، وابت عمر يشتري الرقيق يمينًا وشمالًا، ثم يُعتقهم، ارجع إليه، فقل: عجزتُ، فجاء إليه بصحيفة، فقال: يا أبا عبد الرَّحمن قد عجزتُ وهذه صحيفتي، فامحها، فقال: لا، ولكن امحها أنت إن شئت، فمحاها، ففاضت عينا عبد الله، وقال: اذهب فأنت حرّ، قال: أصلحك الله أحسن إلى ابنيّ، قال: هما حرّان، قال: أصلحك الله أحسن إلى أُمَّي ولَدَيَّ، قال: هما حرّتان
(1)
.
وعن نافع قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت: هذا مجنون. وعن مالك عمن حدَّثه أن ابن عمر كان لتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وحاله، ويهتمَّ به حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك. وعن عبد الله بن عمر، عن نافع أن ابن عمر كان يتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ مكان صلى فيه، حتى إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة، فإن ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصبّ، في أصلها الماء لكيلا تيبس
(2)
. وعن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، أو زاد
(3)
. وعن مجاهد قال: قال ابن عمر: لقد أعطيت من الجماع شيئًا ما أعلم أحدًا أعطيه إلَّا أن يكون وسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سالم عن ابن عمر قال: إني لأظن قُسم لي منه ما لم يُقسم لأحد إلَّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان ابن عمر يُفطر أول شيء على الوطء.
ورُوِي عن ابن المسيب أنه شَهِدَ بدرًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا خطأ وغلطٌ؛ لأنه ثبت في "صحيح البخاري"، أنه قال: عُرِضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وأنا ابن
(1)
"سير أعلام النبلاء" 3/ 216 - 218.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 3/ 213.
(3)
إسناده صحيح. "سير أعلام النبلاء" 3/ 218 - 219 ـ
أربع عشرة سنة، فلم يُجِزني، وعُرضتُ يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنةً، فأجازني. وقال ابن منده: شَهِدها، وشَهِد أحدًا من غير إجازة. وذَكَر الزبير أن عبد الملك لَمّا أرسل إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شَقّ عليه ذلك، فأَمَر رجلًا معه حَرْبةٌ، يقال: إنها كانت مسمومةً، فلما دفع الناسُ من عرفة لَصِقَ ذلك الرجل به، فأمَرّ الحربة على قدمه، فمَرِضَ منها أيامًا، ثم مات رضي الله عنه.
وقال الزبير: هاجر وهو ابن عشر سنين، ومات سنة ثلاث وسبعين، وكذا أرّخه غير واحد. وقال ابن سعد: مات سنة (74)، قال ابن زَبْر: وهو أثبت. وقال رجاء بن حَيْوة: أتانا نَعْيُ ابن عمر، ونحن في مجلس ابن مُحَيريز، فقال ابن محيريز: والله إن كنت أَعُدُّ بقاء ابن عمر أمانًا لأهل الأرض. ومناقبه وفضائله كثيرةٌ جدًّا.
أخرج له الجماعة، وله في "مسند بَقِيّ بن مَخْلَد" من الأحاديث (2630) حديثًا بالمكرّر، اتفق الشيخان على (168) حديثًا، وانفرد البخاريّ بـ (81) ومسلم بـ (31) حديثًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر الحافظ الذهبيّ في "سير أعلام النبلاء" 3/ 238، وهذا مخالف لما ثبت في برنامج الحديث، فقد أثبت للبخاريّ (79) حديثًا، وللمصنّف (566) حديثًا، فبينهما بون عظيم، والذي يظهر أن ما في البرنامج أقرب إلى الصواب، فليُحرّر، والله أعلم.
9 -
(عمر بن الخطاب) بن نُفَيْلٍ القرشيّ العدويّ، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، استُشْهِد رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (23 هـ)(ع) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 2/ 9.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، غير شيخه زُهير، في أخرج به الترمذيّ، وعبيدِ الله بنِ معاذ، في أخرج له الترمذيّ، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المراوزة.
4 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وكلاهما من صيغ الاتّصال، على الراجح في "عن" من غير المدلّس بالشرط الذي سبق بيانه في شرح المقدّمة، وهو أن يكون الْمُعَنْعِنُ لقي المعنعن عنه، وسمع منه على القول الذي رجحته هناك، أو عاصره مع إمكان اللقيّ على ما هو مذهب المصنّف، وقد استوفيت تحقيق ذلك في محلّه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
5 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: كهمس، عن عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر.
6 -
(ومنها): أن جملةَ من اسمه كَهْمَس في الكتب الستّة اثنان فقط، هذا عند الجماعة، وكهمس بن المنهال السدوسيّ البصريّ اللؤلؤيّ صدوقٌ رُمي بالقدر من الطبقة التاسعة، عند البخاريّ فقط.
7 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيٍّ، والابن عن أبيه: عبد بن عمر عن أبيه له.
8 -
(ومنها): أن كهمسًا، وابن بُريدة، ويحيى بن يعمر هذا أول محلّ ذكرهم من هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لكهمس تسعة أحاديث فقط، ولابن بُريدة (18) حديثًا، وليحيى ثمانية أحاديث فقط، وقد ذكرتها آنفًا.
9 -
(ومنها): أن الإمام مسلمًا رحمه الله سلك في هذا الكتاب طريقةً في الإتقان، والاحتياط، والتدقيق، والتحقيق، مع الاختصار البليغ، والإيجاز التامّ، في نهايةٍ من الحسن، مُصَرِّحةٍ بغزارة علومه، ودقة نظره وحذقه، وذلك يظهر في الإسناد تارةً، وفي المتن تارةً، وفيهما تارةً، فينبغي للناظر في كتابه أن ينتبه لهذا، فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق، تَقَرُّ بآحاد أفرادها عينه، وينشرح لها صدره، وتُنَشِّطه للاشتغال بهذا العلم.
قال النوويّ رحمه الله بعد ذكره ما سبق: ولا يُعْرَف أحدٌ شارك مسلمًا في هذه النفائس التي يشير إليها، من دقائق علم الإسناد، وكتاب البخاريّ وإن كان أصحّ وأجلّ، وأكثر فوائدَ في الإحكام والمعاني، فكتاب مسلم يَمتاز بزوائدَ من صَنْعَة الإسناد، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما يَنشرح له صدرك، ويزداد به
الكتاب، ومصنِّفُهُ في قلبك جلالةً - إن شاء الله تعالى -، انتهى
(1)
.
قال: فإذا تقرر ما قلته، ففي هذه الأحرف التي ذكرها من الإسناد أنواع مما ذكرته.
فمن ذلك أنه قال أوّلًا: "حدثني أبو خيثمة"، ثم قال في الطريق الآخر:"وحدثنا عبيد الله بن معاذ"، ففرّق بين "حدثني"، و"حدثنا"، وهذا تنبيه على القاعدة المعروفة عند أهل الصَّنْعَة، وهي أنه يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ:"حدثني"، وفيما سمعه مع كيره من لفظ الشيخ:"حدثنا"، وفيما قرأه وحده على الشيخ:"أخبرني"، وفيما قرئ بحضرته في جماعة على الشيخ:"أخبرنا"، وهذا اصطلاح معروف عندهم، وهو مستحب عندهم، ولو تركه، وأبدل حرفًا من ذلك بآخر صَحّ السماع، ولكن ترك الأَولى. والله أعلم.
وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة المصطلح" بقوله:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
وَحَيْثُ شكَّ فِي سَمَاعٍ أَوْ عَدَدْ
…
أَوْ مَا يَقُولُ الشَّيْخُ وَحِّدْ فِي الأَسَدْ
10 -
(ومنها): قوله: في الطريق الأول: "حدثنا وكيع، عن كهمس، عن عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر"، ثم في الطريق الثاني أعاد الرواية "عن كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى"، فقد يقال: هذا تطويل لا يليق بإتقان مسلم، واختصاره، فكان ينبغي له أن يَقِفَ بالطريق الأول على وكيع، ويجتمعُ معاذ ووكيعٌ في الرواية عن كهمس، عن ابن بريدة.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا الاعتراض فاسد، لا يَصْدُر إلَّا من شديد الجهالة بهذا الفن، فإن مسلمًا رحمه الله يسلك الاختصار، لكن بحيث لا يَحصُل فيه خلل، ولا يفوت به مقصود، وهذا الموضع يحصل في الاختصار فيه خلل، ويفوت به مقصود.
وذلك لأن وكيعًا قال: "عن كهمس"، ومعاذًا قال:"حدثنا كهمس"، وقد عُلِم بما قدمناه في "باب المعنعن" أن العلماء اختلفوا في الاحتجاج بالمعنعن،
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 151.
ولم يختلفوا في المتصل بـ "حدثنا"، فأتى مسلم رحمه الله بالروايتين كما سُمِعَتَا؛ لِيُعْرَف المتفق عليه من المختلف فيه، وليكون راويًا باللفظ الذي سمعه، ولهذا نظائر في مسلم ستراها مع التنبيه عليها - إن شاء الله تعالى - وإن كان هذا ظاهرًا لمن له أدنى اعتناء بهذا الفن، إلَّا أني أُنَبِّه عليه لغيرهم، ولبعضهم ممن قد يَغْفُلُ، وكلهم من جهة أخرى، وهو أن يُسقِطُ عنهم النظرَ، وتحريرَ العبارة عن المقصود.
وهنا أيضًا مقصود آخر، وهو أن في رواية وكيع قال:"عن عبد الله بن بريدة"، وفي رواية معاذ قال:"عن ابن بريدة"، فلو أتى بأحد اللفظين حَصَل خللٌ، فإنه إن قال:"ابن بريدة" لم نَدْرِ ما اسمه؟ وهل هو عبد الله هذا أو أخوه سليمان بن بريدة"؟ وإن قال: "عبد الله بن بريدة" كان كاذبًا على معاذ، فإنه ليس في روايته "عبد الله"، والله أعلم.
وأما قوله في الرواية الأولى: "عن يحيى بن يعمر" فلا يظهر لذكره أوّلًا فائدة، وعادة مسلم وغيره في مثل هذا أن لا يذكروا "يحيى بن يعمر"؛ لأن الطريقين اجتمعتا في "ابن بريدة"، ولفظهما عنه بصيغة واحدة.
قال النووي: إلَّا أني رأيت في بعض النسخ في الطريق الأولى: "عن يحيى"، فحسبُ، وليس فيها "ابن يعمر"، فإن صحّ هذا فهو مزيل للإنكار الذي ذكرناه، فإنه يكون فيه فائدةٌ، كما قرّرناه في "ابن بريدة". انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
11 -
(ومنها): قوله: "حدثنا عبيدُ الله بن معاذ، وهذا حديثه"، فهذه عادة لمسلم رحمه الله، قد أكثر منها، وقد استعملها غيره قليلًا، وهي مُصَرِّحةٌ بما سبق من بيان شدَّة تحرِّي مسلم رحمه الله، وورعه، واحتياطه، ومقصودُهُ أن الراويين اتفقا في المعنى، واختلفا في بعض الألفاظ، وهذا الذي أورده هنا هو لفظ عبيد الله عن أبيه، وأما أبو خيثمة عن وكيع، فقد رواه بمعناه. والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): كتابة: (ح) بعد يحيى بن يعمر في الرواية الأولي، فهي حاء التحويل، من إسناد إلى إسناد آخر، فيقرؤها القارئ إذا انتهى إليها كما كُتبت، فيقول:" (ح) قال: وحدثنا عبيد الله بن معاذ .. " إلخ، وهذا هو
المختار كما أسلفنا بحثه في مقدّمة شرح "المقدّمة"، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حديث قال:
وَكَتَبُوا (ح) عِنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ
…
فَقِيلَ مَنْ "صَحَّ" وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ
مِنَ الْحَدِيثِ أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ
…
أَوْ حَائِلٍ وَقَوْلُهَا لَفْظًا أَسَدّ
[تنبيه]: نختم به اللطائف الإسناديّة؛ اعتذارًا عن التطويل في بيان هذه الفوائد الإسناديّة، وكذا ما سيأتي في فوائد الحديث، ومذاهب العلماء، ونحو ذلك، مما ستراه مطوّلًا - إن شاء الله تعالى - بما ختم به الإمام النوويّ رحمه الله بعد ذكره الفوائد الإسناديّة هنا، قال رحمه الله تعالى: ما نصّه:
فهذا ما حضرني في الحال في التنبيه على دقائق هذا الإسناد، وهو تنبيه على ما سواه، وأرجو أن يُتَفَطَّن به لما عداه، ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يَسْأَم من شيء من ذلك، يجده مبسوطًا واضحًا، فإني إنما أقصد بذلك - إن شاء الله الكريم - الإيضاح، والتيسير، والنصيحة لمطالعه، وإعانته، وإغنائه من مراجعة غيره في بيانه، وهذا مقصود الشروح، فمن استطال شيئًا من هذا، وشبهه فهو بعيد من الإتقان، مباعد للفلاح في هذا الشأن، فَلْيُعَزِّ نفسَهُ؛ لسوء حاله، وليرجع عما ارتكبه من قبيح فِعاله، ولا ينبغي لطالب التحقيق، والتنقيح، والإتقان، والتدقيق، أن يلتفت إلى كراهة، أو سآمة ذوي البطالة، وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يَفْرَح بما يَجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه هايضاحه وتقريره، وفّقنا الله الكريم لمعالي الأمور، وجَنَّبَنَا بفضله جميع أنواع الشرور، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الْحُبُور والسرور. والله تعالى أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى
(1)
.
فيا أيها الأخ الحبيب، والطالب اللبيب عليك أن تجعل نصيحة هذا الإمام المحقّق نُصب عينيك، كلما استشعرت بشيء من التكرار والتطويل في هذا الشرح؛ لتظفر بكنوز المعلوم الحديثيّة، من الفوائد الإسناديّة،
(1)
"شرح مسلم" 1/ 152 - 153.
والمتنيّة، وغيرها، فإن ذلك هو المقصود الأعظم من قراءة كتب الحديث، زادني الله تعالى وإياك الحرص على التحقيق، والغوص في علم الحديث، فإنه البحر الْخِضَمّ العميق، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيهٌ آخر]: حديث عمر رضي الله عنه هذا لم يخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فذكر في "الفتح" سبب ذلك، فقال: إنما لم يخرجه؛ للاختلاف فيه على بعض رواته، فمشهوره رواية كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، رواه عن كهمس جماعة من الحفاظ، وتابعه مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي، عن يحيى بن يعمو، وكذا رواه عثمان بن غياث، عن عبد الله بن بريدة، لكنه قال: عن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرَّحمن معًا، عن ابن عمر، عن عمر، زاد فيه حميدًا وحميدٌ له في الرواية المشهورة ذكرٌ، لا رواية، وأخرج مسلم هذه الطرق، ولم يسق منها إلَّا متن الطريق الأولى، وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير، سنشير إلى بعضه، فأما رواية مطر، فأخرجها أبو عوانة في "صحيحه" وغيره، وأما رواية سليمان التيمي، فأخرجها ابن خزيمة في "صحيحه" وغيره، وأما رواية عثمان بن غياث، فأخرجها أحمد في "مسنده"، وقد خالفهم سليمان بن بريدة، أخو عبد الله، فرواه عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله من مسند ابن عمر، لا من روايته عن أبيه، أخرجه أحمد أيضًا، وكذا رواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، وكذا رُوِي من طريق عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني.
وفي الباب: عن أنس، أخرجه البزار، والبخاري في "خلق أفعال العباد"، وإسناده حسن، وعن جرير البجلي، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، وفي إسناده خالد بن يزيد، وهو العمري، ولا يصلح للصحيح، وعن ابن عباس، وأبي عامر الأشعري، أخرجهما أحمد، وإسنادهما حسن، وفي كلّ من هذه الطرق فوائد، سنذكرها - إن شاء الله تعالى - في أثناء الكلام على حديث الباب - يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي - قال: وإنما جمعت طرقها هنا،
وعزوتها إلى مخرِّجيها؛ لتسهيل الحوالة عليها، فرارًا من التكرار، المباين لطريق الاختصار" .. انتهى كلام صاحب "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا - بعون الله تعالى - سألخّص ما ذكره صاحب "الفتح" وغيره من اختلاف هذه الطُرق، وما احتوت عليه من الفوائد في شرح هذا الحديث - إن شاء الله تعالى - والله تعالى وليُّ التوفيق، ومنه العون والعصمة، وعليه التكلان.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) هو: عبد الله المذكور في السند الماضي (عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ) - بفتح الميم، ويقال: بضمها، وهو غير مصروف؛ لوزن الفعل، أنه (قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ) وفي بعض النسخ: "بالقدر" بالموحدة، والمراد أَوَّلُ من قال بنفي القدر، فابتدع، وخالف الصواب الذي عليه أهل الحق، و"القدر" - بفتح الدال، وإسكانها لغتان مشهورتان، وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي، وقالهما غيره
(2)
.
يقال: قَدَرْتُ الشيءَ مخفّفَ الدال، أَقْدِره، وأَقْدُرُه، من بابيّ ضرب، ونصر، قَدْرًا بسكون الدال، وقَدَرًا بفتحتين: إذا أحطتَ بمقداره، ويقال فيه: قدّرت أُقدّر تقديرًا مشدّد الدال للمبالغة، فإذا قلنا: إن الله تعالى قدر الأشياء، فمعناه أنه تعالى عَلِمَ مقاديرها، وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجد على نحو ما سبق في علمه فلا مُحْدَثَ في العالم العلويّ والسفليّ إلَّا وهو صادر عن علمه تعالى، وقدرته، وإرادته. هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين، والذي دلّت عليه البراهين، وقد حكى أرباب المقالات عن طوائف من القدريّة إنكار كون الباري سبحانه وتعالى عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قالوا: لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها، وهو عبثٌ، وهو على الله تعالى محال، وهذا هو الذي
(1)
راجع "الفتح" 1/ 158 - 159.
(2)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 153 - 154.
أنكرهُ عليهم ابن عمر رضي الله عنهما وتبرّأ منهم، وسيأتي تمام البحث فيه في "المسألة الخامسة" - إن شاء الله تعالى -.
(بِالْبَصْرَةِ) - بفتح الباء الموحّدة، وضمها، وكسرها ثلاث لغات، حكاها الأزهري، والمشهور الفتح، ويقال لها: الْبُصَيرة بالتصغير، قال صاحب "المطالع": ويقال لها: تَدْمُر، ويقال لها: المؤتفكة؛ لأنَّها ائْتُفِكَت بأهلها في أَوّل الدهر، والنسب إليها بَصْريّ - بفتح الباء، وكسرها، وجهان مشهوران، قال السمعانيّ: يقال: البصرة قُبَّةُ الإسلام، وخزانة العرب، بناها عُتْبة بن غَزْوَان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناها سنة سبع عشرة من الهجرة، وسَكَنها الناس سنة ثماني عشرة، ولم يُعْبَد الصنم قط على أرضها، هكذا كان يقول لي أبو الفضل، عبد الوهاب بن أحمد بن معاوية الواعظ بالبصرة، قال أصحابنا: والبصرة داخلة في أرض سواد العراق، وليس لها حكمه
(1)
. انتهى كلام السمعانيّ.
(مَعْبَدٌ) - بفتح الميم -، وسكون العين المهملة، وفتح الموحّدة - (الْجُهَنِيُّ) - بضمّ الجيم: نسبة إلى جُهَينة؛ لأن القاعدة أنه إذا نُسب إلى فُعَيْلَة مصغّرًا، وإلى فَعِيلَة مكبِّرًا تُحذف ياؤه، وتفتح اللام، كما قال في "الخلاصة":
وَفَعَلِيٌّ فِي فَعِيلَةَ الْتُزِمْ
…
وَفَعَلِيٌّ فِي فُعَيْلَةَ حُتِمْ
قال السَّمْعاني في "كتاب الأنساب": "الْجُهَنِيُّ" - بضم الجيم، وفتح الهاء -: نسبة إلى جُهَينة، وهي قبيلةٌ من قُضَاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قُضَاعة، نزلت الكوفة، وبها محلة تنسب إليهم، وبعضهم نزل البصرة، قال: وممن نزل جهينة، فنُسب إليهم مَعبْدَ بن خالد الْجُهَنيّ، كان يجالس الحسن البصري، وهو أول من تكلم في البصرة بالقدر، فسلك أهل البصرة يعده مسلكه، لَمّا رأوا عَمْرو بن عُبَيد ينتحله، قتله الحجاج بن يوسف صَبْرًا" وقيل: إنه معبد بن عبد الله بن عُويمر. انتهى كلام السمعانيّ
(2)
.
وفي "تهذيب التهذيب": "معبد" الْجُهَنِيّ البصريّ، يقال: إنه ابن عبد الله بن
(1)
"الأنساب" 1/ 379.
(2)
"الأنساب" 2/ 166 - 167.
عُكَيم، ويقال: ابن عبد الله بن عُوَيمِر، ويقال: ابن خالد، رَوَى مرسلًا عن حذيفة بن اليمان، وعمر، وعثمان، وغيرهم، وروى عنه الحسن، وقتادة، ومالك بن دينار، ومعاوية بن قرة، وعوف الأعرابي، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا في الحديث، وكان أول من تكلم في القدر بالبصرة، وكان رأسًا في القدر، قَدِمَ المدينة فأفسد بها أُناسًا. وذكره أبو زرعة الرازي في أسامي الضعفاء، ومن تُكُلِّم فيهم. وقال الدارقطني: حديثه صالح، ومذهبه رديء. وقال محمد بن شعيب بن شابور عن الأوزاعي: أول من نَطَقَ في القدر رجل من أهل العراق، يقال له: سُوسن، كان نصرانيًّا، فأسلم، ثم تنصّر، فأخذ عنه معبد الجهنيّ، وأخذ غَيْلان عن معبد. وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار، عن أبيه، وعمه: كان الحسن يقول: إياكم ومعبدًا فإنه ضالٌّ مُضلّ، وجاء مثل ذلك عن الحسن من وجوه. وقال أبو سعيد مولى بني هاشم: حدثنا ربيعة بن كلثوم بن جَبْر عن أبيه قال: قال أصحاب مسلم بن يسار: كان مسلم يقعُد إلى هذه السارية، فقال: إن معبدًا يقول بقول النصارى. وقال ابن عيينة: قال عمرو بن دينار: قال لنا طاوس: احذروا معبدًا. وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، عن جعفر - يعني ابن سليمان - حدثنا مالك بن دينار قال: لقيت معبدًا الجهني بمكة بعد ابن الأشعث، وهو جريح، وقد قاتل الحجاج في المواطن كلها، فقال: لقيت الفقهاء والناسَ، لم أر مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه. وقال ضمرة بن ربيعة، عن صدقة بن يزيد: قتله الحجاج. وقال خليفة بن خياط: مات بعد الثمانين وقبل التسعين. وقال إبراهيم بن هشام الغساني: حدثني أبي عن أبيه قال: كان معبدٌ أولَ من تكلم في القدر، فقتله عبد الملك، وأَرَّخ سعيد بن عُفير قتله في سنة ثمانين، رَوى له ابن ماجة حديث معاوية:"إياكم والتمادح". وقال العجلي: تابعي ثقةٌ كان لا يُتَّهَم بالكذب. وقال الجوزجاني: كان رأس القدرية. انتهى
(1)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 116 - 117.
وفي رواية ابن منده في "الإيمان": من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة فيه زَهْوٌ، وكان يَتَوَثَّب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفَرّض الفرائض، وقَصَّ على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زَعَم أن الْعِلْم أُنُفٌ، من شاء عَمِل خيرًا، ومن شاء عمل شرًّا، قال: فلقيت أبا الأسود الدِّيليَّ، فذكرت ذلك له، فقال: كَذَبَ ما رأينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا يُثْبِت القدر، ثم إنِّي حججت أنا وحميد بن عبد الرَّحمن الحميري
…
الحديث.
(فَانْطَلَقْتُ) أي ذهبتُ (أَنَا) ضمير منفصلٌ أتى به ليعطف على الضمير المتّصل ما بعده، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بالرفع عطفًا على الضمير المتّصل، وحميد هذا تابعيّ بصريّ، ثقة، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" عند قوله: "وأسند حميد بن عبد الرَّحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث
…
" إلخ (الْحِمْيَرِيُّ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم: نسبة إلى حِمْيَر، من أصول القبائل باليمن
(1)
(حَاجَّيْنِ) منصوب على الحال (أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ) الظاهر أن "أو" للشكّ من الراوي، ووقع في بعض النسخ بالواو التي للجمع، فيكونان قارنين
(2)
.
(فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا) بكسر القاف، من باب رَضِي، "ولو" هنا بمعنى "ليت"، نحو قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} [الحجر: 2]، ونحو قول امرئ القيس [من الطويل]:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا
…
عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُشِرُّونَ
(3)
مَقْتَلِي
(أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ) أي ذلك الأحد (عَمَّا يَقُولُ
(1)
"لبّ اللباب" 1/ 259.
(2)
"شرح الأبيّ" 1/ 52.
(3)
من أشرّ الشيءَ: إذا أظهره، ويروى:"لَوْ يُسِرُّون" بالسين المهملة، وهو أجود. أفاده في "اللسان" 4/ 402.
هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ) إشارة إلى معبد وأصحابه، أي عما يتكلَّمون به من نفي القدر (فَوُفِّقَ لَنَا) - بضم الواو، وكسر الفاء المشددة - قال صاحب"التحرير": معناه: جُعِل وَفْقًا لنا، وهو من الموافقة التي هي كالالتحام، يقال: أتانا لِتَيْفَاق الهلال، ومِيفَاقه: أي حين أَهَلَّ، لا قبله، ولا بعده، وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام، وفي "مسند أبي يعلى الموصلي": "فوافق لنا، بزيادة ألف والموافقة: المصادفة. قاله النوويّ
(1)
.
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنهما، فـ "عَبد الله" بالرفع على أنه تائب فاعل "وُفِّقَ"(دَاخِلًا الْمَسْجِدَ) منصوب على الحال من "عبد الله"، والمراد بالمسجد المسجد النبويّ، فقد بيّنته رواية ابن منده في "كتاب الإيمان"، ولفظه من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن يحيى بن يعمر، وفيه: "فلما قضينا حجنا قلنا: نأتي المدينة، فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسألهم عن القدر، قال: فلما أتيت المدينة
…
" الحديث.
(فَاكتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاجبِي) أي صِرْنا في كنفيه، يعني بجانبيه ناحيتيه؛ لأن كنفا الطائر: جناحاه، وأراد بصاحبه حميد بن عبد الرَّحمن، ثم فسر الاكتناف بقوله:(أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِه، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ) فيه تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم، وهو أنهم يكتنفونه، وَيحُفُّون به. قاله النوويّ.
وقال القرطبيُّ رحمه الله: وإنما جاءاه كذلك تأدّبًا واحترامًا؛ إذ لو قاما أمامه لمنعاه المشي، ولو صارا له من جانب واحد لكلَّفاه الميل إليهما، وكانت هذه الهيئة أحسن ما أمكنهما. انتهى
(2)
.
ويحتمل - كما قال بعضهم - أنه لكراهة السلف المشي خلف الرجل؛ لما فيه من الشهرة، أو لكونه أمكن للسؤال. والله تعالى أعلم.
(فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي) أي حميد بن عبد الرَّحمن (سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ) معناه: أنه يسكت، ويُفَوِّضه إليَّ لإقدامي، وجرأتي، وبَسْطَةِ لساني، فقد صرَّح في رواية ابن منده بذلك، ولفظه: قال: قلت: تسأله أم أسأله؟ قال: لا، بل
(1)
"شرح النووي" 1/ 155.
(2)
"المفهم" 1/ 134.
تسأله؛ لأني كنت أبسط لسانًا منه، وفي رواية:"فقدّمني حميد للمنطق، وكنت أجرأ على المنطق منه".
قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما قال هذا منه اعتذارًا عن توهَّم اعتراض يُنسب إليه فيه قلَّة المبالاة بصاحبه، واستئثاره عليه بالمسابقة إلى الكلام، فبيّن وجه اعتذاره عن ذلك، وذلك أنه عَلِم من صاحبه أنه يَكِلُ الكلام إليه، فإما لكونه أحسن منه سؤالًا، وأبلغ بيانًا، وإما لحياء يَلحَق صاحبه يمنعه من السؤال، وإما إيثارًا له
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الصواب؛ لكونه صرّح به في كلامه السابق عند ابن منده، والله تعالى أعلم.
(فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ) أَي فشا مذهبهم وانتشر، وهو من الظهور الذي يضادّ الخفاء (يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ) هو بتقديم القاف على الفاء، ومعناه: يطلبونه، ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل: معناه يجمعونه، ورواه بعض شيوخ المغارية من طريق ابن ماهان:"يتَفَقَّرُونَ"، بتقديم الفاء، وهو صحيح أيضًا، ومعناه يبحثون عن غامضه، ويستخرجون خَفِيَّه، ورُويَ في غير مسلم:"يَتَقَفَّوْن" بتقديم القاف، وحذف الراء، وهو صحيح أيضًا، ومعناه أيضًا: يتتبعون، قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: "يَتَقَعَّرُون" بالعين، وفَسَّره بأنهم يطلبون قعره، أي غامضه، وخَفِيَّه، ومنه تَقَعَّرَ في كلامه: إذا جاء بالغريب مثه، وفي رواية أبي يعلى الموصليّ:"يَتَفَقَّهُون" بالهاء بدل الراء، وهو ظاهرٌ. قاله النوويّ رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذه اللفظة - يعني "يَتَقَفَّرُونَ" - بتقديم القاف، وتأخير الفاء، أي يتَّبعون، ويجمعون، يقال: اقتفر أثَرَهُ: أي تتبّعه، ورواها أبو العلاء بن ماهان بتقديم الفاء، وتأخيرِ القاف
(3)
، أي إنهم يُخرجون غامضه،
(1)
"المفهم" 1/ 134.
(2)
"شرح المسلم" 1/ 155 - 156.
(3)
قيل: رواية ابن ماهان أشبه بسياق الحديث؛ لأن تفقَّر بتقديم الفاء بمعنى بحث، وبحث أخصّ من طلب، وهذه الطائفة كانت من الذكاء، وصحَّة القريحة بمنزلةٍ؛ =
ويبحثون عن أسراره، ومنه قول عمر بن الخطاب - وذكر امرأ القيس - فقال: افتقر عن معانٍ عُورٍ أصَحَّ بَصَرٍ، بَصَرًا، أي فتح عن معانٍ غامضةٍ مُبصرًا
(1)
، ورُوي في غير كتاب مسلم "يتقفّون" بواو مكان الراء، من قفوتُ أثره، أي تتبعته، وهو من القفاء، وكلّها واضح. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: وفي حديث الْقَدَر "قبلنا ناسٌ يتفقّرون العلم"، هكذا جاء في رواية بتقديم الفاء على القاف، والمشهور العكس، قال بعض المتأخّرين: هي عندي أصحّ الروايات، وأليقها بالمعني، يعني أنهم يستخرجون غامضه، ويَفتحون مُغْلَقَه، وأصله من فَقَرْتُ البئرَ: إذا حفرتها لاستخراج مائها، فلما كان القدريّة بهذه الصفة من البحث والتتبّع لاستخراج المعاني الغامضة بدقائق التأويلات وَصَفَهم بذلك. انتهى كلامه
(3)
.
ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج": "ويتفقّدون العلم" بالدال المهملة بدل الراء
(4)
.
= لأن معنى "وذكر من شأنهم" وعظّم أمرهم في العلم، بحيث يُكترث بقولهم، وإذا كانوا كذلك فالأشبه أن يُعبّر عنهم بما معناه يبحثون، لا يطلبون. اهـ "شرح الأبي" 1/ 54.
(1)
أثر عمر رضي الله عنه هذا ذكره ابن الأثير هكذا في "النهاية" 3/ 464 ولم يَعْزُهُ إلى من أخرجه، فالله تعالى أعلم.
وقال في "شرح الأبي" 1/ 54: وقول عمر ذلك قاله للعباس حين سأله عن الشعراء، فقال: امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عن عين الشعر، فافتقر عن معان عُور أصحّ بصر، فخسف من الخسيف، وهي البئر تُحفر في الحجارة، فيخرج منها الماء الكثير، قال ابن رشيق: ومعنى عُور بضم العين يريد أنه يمانيّ النسب، نزاريّ الولد، واليمن ليس لها فصاحة نزار، ومع ذلك فقد ابتكر معاني عُورًا فتح عنها أصحّ بصر، قيل: ولم يسبق الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء استحسنها الشعراء، فتبعوه فيها، فلهذا كان أول من لطف المعاني، فاستوقف على الطلول، وشبّه النساء بالظباء، والمهار البيض، وشبّه الخيل بالعقبان، وفرق في القصيد الواحد بين السب والمدح، وغير ذلك من محاسنه. انتهى.
(2)
"المفهم" 1/ 135.
(3)
"النهاية" 3/ 464.
(4)
"المستخرج" 1/ 99.
(وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ) أي عظّم أمرهم في الذكاء، والجدّ في طلب العلم، وإنما ذكر له ذلك من أوصافهم تنبيهًا له على الاعتناء بمقالتهم، والبحث عنها ليوضح أمرها، فإن كلامهم قد وقع من القلوب بالموقع الذي لا يزيله إلَّا إيضاحٌ بالغ، وبرهانٌ واضح، ولَمّا فَهِمَ ابنُ عمر رضي الله عنهما ذلك أفتى بإبطال مذهبهم وفساده، وحكم بكفرهم، وتبرّأ منهم، واستدلّ على ذلك بالدليل القاطع عنده. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وحكم بكفرهم"، سيأتي تحقيق القول في كفرهم في المسألة الثامنة - إن شاء الله تعالى -.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "وذكر من شأنهم" هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر، والظاهر أنه من ابن بُرَيدة الراوي عن يحيى بن يعمر، يعني وذكرَ ابنُ يعمر من حال هؤلاء، ووصفهم بالفضيلة في العلم، والاجتهاد في تحصيله، والاعتناء به. انتهى.
وقال السنوسيّ رحمه الله: فيكون من حذف المفعول تعظيمًا له بالإبهام، أي ذكر من شأنهم في البحث عن العلم، واستخراج غوامضه شيئًا عظيمًا، أو بالتعميم؛ لتذهب النفس فيه كلّ مذهب ممكنٍ.
ويحتمل أن يكون الغرض في حذفه ضدّ ما أشير إليه، وذلك صون اللسان عن ذكره، ويكون المعنى: وذكر من شأنهم في نفي القدر والابتداع في العقائد ما يجب صون اللسان عن ذكره، وعلى كلّ ففائدة وصفهم بالاجتهاد في العلم، والتوسّع فيه الموجب لهم القدوة، وتقليد الغير المبالغةُ في استدعاء ابن عمر رضي الله عنهما الاستفراغ الوسع في النظر فيما يزعمون؛ لأن أقوال الأغبياء قد يَهْتَبِلُ العلماءُ بشأنها، ويكتفون في ردّها بأدنى نظر، فجواب ابن عمر رضي الله عنهما بعد تلك الأوصاف من أثبت شيء، وأحقه. وقد يكون الغرض في ذكر ما وصفهم به من العلم، وكونهم مع ذلك يزعمون ما يزعمون إظهارَ التشكِّي، والتلهّف بما نال المسلمين من مصيبتهم، إلَّا أن هذا إنما يحسُن إذا كان ابن عمر قد أحسّ ببدعتهم، وسوء نظرهم، وإنما سأل ابن عمر رضي الله عنهما ليتحقّق العلم من معدنه،
(1)
"المفهم" 1/ 135.
ويرسخ ما كان في رويّته، وهذا هو الظاهر؛ إذ يبعُد أن يخفى أمر أقوالهم على مثل يحيى بن يعمر، ويدلّ عليه قوله:"ويزعمون" على ما يأتي في معنى الزعم، ومن هنا يصحّ أن يكون الغرض من ذكر أوصافهم مجموعَ الأمرين، والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنوسيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
(وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ) بضم العين من باب نصر، وفي الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، وضمّها لأسد، وكسرها لبعض قيس، ويُطلق بمعنى القول، ومنه زعمت الحنفية كذا، وزعم سيبويه كذا، أي قال، وعليه قوله عز وجل:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: 92] أي كّما أخبرت، ويُطلق على الظنّ، يقال: في زعمي كذا، وأكئر ما يُطلق على الباطل، أو على ما فيه ارتياب، وقال ابن الْقُوطيّة: زعم زعمًا، قال خبرًا لا يُدرى أحقّ هو أو باطلٌ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تفسير ابن القُوطية هو المناسب هنا، وقد سبق البحث عن معنى الزعم في شرح المقدمة مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(أَنْ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي أنه (لَا قَدَرَ) بفتح
(1)
"شرح السنوسيّ" 1/ 54 - 55.
(2)
راجع "المصباح المنير" 2/ 253.
وقال الأبيّ في "شرحه" 1/ 55: الزعم بالضم اسم، ويالفتح مصدر زعم: إذا قال قولًا حقّا، أو كذبًا، أو قولًا غير موثوق به، فمن الأول حديث "زَعَمَ جبريل"، ومن الثاني قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التغابن: 7]، ومن الثالث بيت الأعشى:
وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ
…
كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ
فقال الممدوح: وما هو إلَّا الزعم، وَأَبَى أن يُثيبه، والحديث من الثاني، وأما حديث الترمذيّ:"بئس مطيَّة الرجل زعموا"، فجعله ابن عطية من الثاني، واختُلف في قول سيبويه: زعم الخليل، فجعله النووي من الأول وجعله ابن عطيّة من الثالث. انتهى.
قال الجامع: جعل ابن عطية قول سيبويه من الثالث فيه نظر لا يخفي، فالصواب قول النوويّ. والله تعالى أعلم.
الدال، وسكونها، كما تقدَّم بيانه (وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ) بضم الهمزة، والنون: أي مستّأنفٌ"، لم يَسبِق به قَدَرٌ، ولا علمٌ من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، كما قدَّمنا حكايته عن مذهبهم الباطل، وهذا القولُ قولُ غُلَائِهِمْ، وليس قول جميع القدريّة، وكذّبَ قائله، وضَلَّ، وافترى - عافانا الله، وسائر المسلمين - قاله النووىّ
(1)
.
وقال القرطبيّ: أي مستأنفٌ، ومعناه عندهم أنه لم تسبق به سابقةُ علم الله، ولا مشيئته، وإنما أفعال الإنسان موجودة بعلم الإنسان، واختياره كما تقدَّم من مذهبهم، وأُنُفُ كلّ شيء: أوّله، ومنه أنف الوجه؛ لأنه أوّل الأعضاء في الشخوص، وأنفُ السيل: أوله، كما قال امرؤ القيس:
قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي فِي أَنْفِهِ
…
لَاحِقُ الأَيْطَلِ مَحْبُوكٌ مُمَرّ
ورَوْضٌ أُنُفٌ: لم يُرْعَ قبلُ، وكذلك كأسٌ أُنُفٌ: لم يُشرَب قبلُ، ومنه قوله تعالى:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، أي هذه الساعة المستأنفة. انتهى
(2)
.
(قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ) أي الذين ذكرت أوصافهم (فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ) أي من عقيدتهم الخبيثة، وعند أبي عوانة في "المستخرج":(فقال عبد الله: أبلغوهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء" (وأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي) قاله تبرؤًا من أهل البدع والمعاصي، كما أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} [يونس: 41]، (وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) كناية عن الحلف باسم الله تعالى، فإنه هو الذي كان يحلف به حيث أمر به في قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمُت"، متفق عليه، وإنما لم يتلفّظ به إجلالًا لأسماء الله تعالى عن أن تُتَّخَذ عُرْضَةً لكثرة الإيمان بها. والله تعالى أعلم.
(لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ) منصوب على أنه اسم (أنَّ) مؤخَّرًا، والجار والمجرور خيرها (ذَهَبًا) منصوب على التمييز، أي من ذهب، قال نفطويه:
(1)
"شرح مسلم" 1/ 156.
(2)
"المفهم" 1/ 135 - 136.
سُمّي الذهب ذهبًا؛ لأنه يذهب، ولا يبقى
(1)
(فَأَنْفَقَهُ) أي في سبيل الله تعالى، أي طاعته، كما جاء في رواية أخرى (مَا) نافية (قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا صريحٌ في أنه كفّرهم بذلك القول المحكيّ عنهم؛ لأنه حَكَمَ عليهم بما حكم الله به على الكفّار في الآية المتقدّمة، وقد قلنا: إن تكفير هذه الطائفة مقطوعٌ به؛ لأنهم أنكروا معلومًا ضروريًّا من الشرع. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما ظاهر في تكفيره القدرية، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأُوَلِ الذين نَفَوا تَقَدُّمَ علمِ الله تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين يُنكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة.
وقال غيره: ويجوز أنه لَمْ يُرِد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة، فيكون من قبيل كفران النعم، إلَّا أن قوله:"ما قبل الله منه" ظاهرٌ في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر، إلَّا أنه يجوز أن يقال في مسلم: لا يُقْبَل عمله؛ لمعصيته، وإن كان صحيحًا، كما أن الصلاة في الدار المغصوية صحيحة، غير مُحْوِجة إلى القضاء عند جماهير العلماء، بل بإجماع السلف، وهي غير مقبولة، فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا - انتهى كلام النوويّ
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: دعواه إجماع العلماء في صحة الصلاة في الدار المغصوبة غير صحيحة، فإن الإمام أحمد رحمه الله يقول بعدم صحَّتها، وهو الصواب، كما حقّقته في نظمي في أصول الفقه، وشرحه، فراجعه تستفد علومًا جمّة، والله تعالى ولي التوفيق.
ثم إن الخلاف في تكفير القدريّة سيأتي تفصيله، وترجيح الراجح منه في المسألة الثامنة - إن شاء الله تعالى -.
(ثُمَّ قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، فـ "عمر" بالرفع بدل من "أبي"، وقوله:(قَالَ) تفسير لـ "حدّثني"(بَيْنَمَا) هي "بين" الظرفيّة
(1)
"شرح مسلم للنووي" 1/ 156 - 157.
(2)
"المفهم" 1/ 136.
(3)
"شرح مسلم" 1/ 156.
زيدت عليها "ما"، لتكفّها عن عملها الخفضَ لِمَا دخلت عليه، ومثلها "بينا" زيدت عليها الألف، في بعدهما مرفوع بالابتداء في اللغة المشهورة، ومنهم من يخفضه، كقول الشاعر:
بَيْنَا تَعَانِقِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ
…
يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ
رُوي بخفض "تعانقه" ورفعه، وعلى هذا فـ "ما"، والألف ليستا للكفّ.
ويكثر اقتران جوابهما بـ "إذ"، و"إذا" الفجائِيَّتَيْن، كما في هذا الحديث، حيث قال:"إذ طلع"، وتقول: بينما زيد جالسٌ إذ دخل عليه عمرو، وإذا دخل عليه عمرو، ومنه قوله [من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
وقد يجيء بدونهما، فتقول: بينا زيد جالسٌ، دخل عليه عمرو
(1)
.
وقال صاحب "النهاية": "بينا" هي "بين" فأُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، يقال:"بينا"، و"بينما" وهما ظرفا زمان، بمعنى المفاجأة، ومُضافان إلى جملة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتمّ به المعنى، كما يستدعي "إذا"، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه "إذ"، و"إذا"، وقد جاء في الجواب كثيرًا، وفي "اللباب": قال الأصمعيّ: لا يُستفصح إلَّا طرحهما في جواب "بينا"، و"بينما"، وأنشد:
فَبَيْنَا نَرْقُبُهُ أَتَانَا
…
مُعَلَّقَ وَفْضَةٍ وَزِنَادَ رَاعِ
لأن الظاهر أن العامل في "بينا" هو الجواب، كما في "إذا" الزمانيّة على الصحيح، ويلزم تقدّم ما في حلة المضاف إليه على المضاف، قال شارحه:"بينا"، و"بينما" ظرفان متضمّنان لمعنى الشرط، فلذلك اقتضيا جوابًا، والقياس أن لا يكون "إذا" في جوابه، فعلى هذا يكون "أتانا" عاملًا في "بينا"، مع أنه مضاف إليه، لا يتقدّم على المضاف، وفيه نظر، انتهى كلامه.
قال الطيبيّ: فيقال: لا ريب أن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا أفصح من الشاعر، وقد أتيا بـ "إذ" في الحديث، فحينئذ يكون العامل معنى المفاجأة في "إذ"، كما قرّر صاحب "الكشّاف" في قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
(1)
راجع "لسان العرب" 13/ 66.
إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] أن العاملَ في "إذا" المفاجأة، تقديره: وقتَ ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار، فمعنى الحديث: وقتَ حضورنا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجأنا وقع طلوع ذلك الرجل، فحينئذ "بينا" ظرف لهذا المقدَّر، و"إذا" مفعول به بمعنى الوقت، فلا يلزم إذًا تقدَّم معمول المضاف إليه على المضاف، وقد ساعد هذا القول صاحب "اللباب" بعد ذلك بقوله: والعامل فيهما الجواب إذا كان مجرَّدًا من كلمتي المفاجأة، وإلا فمعنى المفاجأة المتضمّنة هما إياه، وقوله:"هما": أي "إِذْ"، و"إِذا"، و"إياه" أي ذلك المعنى، ويدلُّ على تضمّنهما معنى الشرط التصريح بالفاء في الجواب في قوله صلى الله عليه وسلم: "بينا يضحكهم، فطعنه النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث، رواه أبو داود عن أُسيد بن حُضير
(1)
. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى
(2)
.
(ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا من الأيام، فـ "ذات" مقحمة، وقيل: هي من إضافة الشيء لنفسه، على رأي من يُجيز ذلك.
وقال السنوسيّ رحمه الله تعالى: "ذات" صلة للتوكيد، ترفع احتمال أن يراد باليوم مطلق الزمان، فهي مع اليوم بمنزلة رأيت عين زيد، وهو ظرف، والعامل فيه معنى الاستقرار الذي في الخبر. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: "ذات يوم" ظرف لمعنى الاستقرار في الخبر، و"ذات" يجوز أن تكون صلة، قال صاحب "النهاية": في الحديث: "يَطلُع عليكم رجل من ذي يمن على وجهه مسحة من ذي ملك"، كذا أورده عمر الزاهد، وقال:"ذي" هنا صلةٌ، وأن تكون غيرَ صلةٍ، وفي "المغرب":"ذو" بمعنى الصاحب، تقول للمرأة: امرأة ذات مال، ثم أجروها مُجرى
(1)
هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"(5224) بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن أُسيد بن حُضير رجل من الأنصار قال: بينما هو يحدث القوم، وكان فيه مِزاح، بينا يُضْحِكهم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني، فقال:"اصطبر"، قال: إن عليك قميصًا، وليس عليّ قميصٌ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه، وجعل يُقَبِّل كشْحَهُ، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 421.
(3)
"شرح الأبيّ" 1/ 59.
الأسماء التامَّة المستقلّة بأنفسها، فقالوا: ذات قديمة أو مُحدثةٌ، ثم استعملوها استعمال النفس والشيء، فعلى هذا قوله: إ ذات يوم" يفيد من التوكيد ما لا يفيده لو لَمْ يُذكَر؛ لئلا يُتوفم التجوّز إلى مطلق الزمان، نحو قولك: رأيت نفس زيد، وقولك: رأيت زيدًا. انتهى
(1)
.
(إِذْ طَلَعَ) قال الأبيّ: لَمْ يقل: دخل؛ إشعارًا بعظم الرجل؛ لأنه استعارة من طلعت الشمس، وفي ضمن كلامه أنهم تعجّبوا من سورة إتيانه الموهمة أنه جنيّ، أو ملكٌ؛ لأنه لو كان بشرًا لكان إما من المدينة، أو قربها، والأول منتفٍ؛ إذ لَمْ يعرفه منهم أحدٌ، والثاني كذلك؛ إذ ليس عليه أثر سَفَرٍ ونحوه. انتهى
(2)
(عَلَيْنَا رَجُلٌ) أي ملك، في صورة رجل، و"إذ": هي الفجائيّة: أي فاجأنا طلوع رجل، و"طلع علينا" من باب منع، ونصر: أي أتانا، ومثله "اطّلع"، أفاده في "القاموس". (شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَاب، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ) بفتح العين المهملة، وسكونها، زاد في رواية ابن حبّان:"سواد اللحية"(لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ) ببناء الفعل للمفعول، وفي "مستخرج أبي نعيم":"لا نَرَى عليه أثرَ سفر، ولا يعرفه منا أحد".
قال النوويّ رحمه الله في "شرحه" لهذا الكتاب: ضبطناه بالياء المثنَّاة، من تحتُ المضمومة، وكذلك ضبطناه في "الجمع بين الصحيحين"، وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العُذْريّ بالنون المفتوحة، وكذا هو في "مسند أبي يعلى الموصلى"، وكلاهما صحيح. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هكذا مشهور رواية هذا اللفظ "يُرى" مبنيًّا لما لَمْ يُسمّ فاعله بالياء باثنتين من تحتها، "ولا يعرفه" بالياء أيضًا، وقد رواه أيو حازم العذريّ:"لا نَرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه" بالنون فيهما، مبنيًّا للفاعل، ونون الجماعة، وكلاهما واضحُ المعنى. انتهى.
ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ في "التفسير": "إذ أتاه رجل يمشي"، وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذز عند النسائيّ: "وإنا لجلوس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه، إذ أقبل رجل، أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 422.
(2)
المصدر السابق.
ريحًا، كأن ثيابه لَمْ يمسها دنس، حتى سلّم في طرَف البساط، فقال: السلام عليكم يا محمد".
(وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ) يعني أنهم تعجّبوا من كيفيّة إتيانه، ووقع في خاطرهم أنه إما ملكٌ، أو جنّيّ؛ لأنه لو كان بشرًا إما أن يكون من المدينة، أو غريبًا، ولم يكن من المدينة؛ لأنهم لَمْ يعرفوه، ولم يكن إتيانه من بعيد؛ لأنه لَمْ يكن عليه أثر السفر، من الغبار وغيره.
(حَتَّى جَلَسَ) غاية لمحذوف، أي دنا حتى جلس .. إلخ، وقال الطيبيّ: متعلّق بمحذوف، تقديره: استأذن، وأتى حتى جلس .. إلخ.
(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ـ) قيل: إنما لَمْ يقل: بين يديه؛ لأن له دالّةَ الشيخ
(1)
؛ إذ لَمْ يأت متعلِّمًا، وإنما أتى معلّمًا (فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ) يقال: أسند: إذا اتّكأ على شيء، وأوصل، وإنما جلس هكذا؛ ليتعلّم الحاضرون جلوس السائل عند المسئول؛ لأن الجلوس على المركبة أقرب إلى التواضع والأدب، واتّصال ركبة السائل بركبة المسئول يكون أبلغ في استماع كلّ واحد من السائل والمسئول كلام صاحبه، وأبلغ في حضور القلب، والزم للجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة دليل على شدّة حاجة السائل إلى السؤال، وتعلّق قلبه، واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عَرَف المسئول هذا الحرص والاحتياج من السائل يُلزم نفسه جوابه، ويبالغ في تفهيمه الجواب أكثر وأتمّ مما سأل السائل
(2)
.
(إِلَى رُكْبَتَيْهِ) أي إلى ركبتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه"، وابن منده في "الإيمان": "بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، إذ جاء رجل ليس عليه سَحْنَاءُ السفر
(3)
، وليس من أهل البلد، فتَخَطّى حتى وَرَكَ
(4)
بين
(1)
قال في "اللسان" 11/ 248: الذالّة: المِنة، يقال: دَلّ يَدِلُّ - من باب ضرب -: إذا منّ بعطائه، قال: وفلانٌ يُدل بصحبته إدلالًا ودَلالًا ودالّةً: أي يجترئ عليك، كما تُدلّ الشابّة على الشيخ الكبير بجمالها. انتهى.
(2)
راجع "الكاشف" 2/ 422.
(3)
أي: هيئة السفر، وأثره.
(4)
يقال: وَرَكَ يَرِكُ وَرَكًا، من باب وَعَد، وتورَّك، وتوارك: إذا اعتمد على وَرَكِه. أفاده في "القاموس" ص 860.
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجلس الرجل في الصلاة، ثم وَضَع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد
…
"الحديث.
(وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) قال النوويّ: معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس على هيئة المتعلّم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح أن معناه أنه وضع كفيه على فخذي النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لما وقع من التصريح به في رواية ابن حبان وابن منده المذكورة، وكذا وقع التصريح به في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله تعالى عنهما عند النسائيّ: قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يَدرِي أيهم هو؟ حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دُكّانًا من طين، كان يجلس عليه، وإنا لجلوس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه، إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لَمْ يَمَسَّها دَنَسٌ، حتى سلم في طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قال: أَدْنُو يا محمد؟ قال: ادْنُهْ، فما زال يقول: أدنو؟ مرارًا ويقول له: ادن، حتى وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذا في حديث ابن عبّاس، وأبي عامر الأشعري رضي الله عنهم:"ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. قال في "الفتح": فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله: "على فخذيه" يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيمي؟ لهذه الرواية، ورجحه الطيبي بحثًا؛ لأنه نَسَقُ الكلام، خلافًا لما جزم به النووي، ووافقه التوربشتي؛ لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم، بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرًا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم منَبِّه للإصغاء إليه. انتهى.
وعبارة الطيبي: قال الشيخ التوربشتيّ: الضمير في الكلمتين راجع إلى جبريل عليه السلام، فلو ذهب مؤوّل إلى أن الثاني يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنكَر عليه؛ لما يدلّ عليه نَسق الكلام من قوله:"وأسند ركبتيه إلى ركبتيه"، غير أنا نذهب إلى الوجه الأول؛ لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوي الأدب، وذهب محيي السنة إلى الوجه الثاني في كتابه المُسَمَّى
بـ "الكفاية"، وكذا إسماعيل بن الفضل التيميّ في كتابه المسمَّى بـ "الترغيب والترهيب".
قال الطيبيّ: وأقول: لعل هذا الوجه أرجح؛ لأن الأصل في إسناد الركبة إلى الركبة أن يكون الاعتماد والاتّكاء عليه، فإذا لا يبعُدُ وضع جبريل عليه السلام يديه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست كهيئة التلميذ، وكذا نداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، بل هما من هيئة الشيخ إذا اهتمّ بشأن التعليم، وأراد مزيد إصغاء المتعلّم وإفهامه، فكيف لا؟ وقد شَهِد الله تعالى به في قوله عز وجل:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 5]، وكفى يه شاهدًا، وينصره أيضًا أمران:
[أحدهما]: قوله: "جلس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فلو كان جلوسه جلوس المتعلّم لقيل: بين يديه، فضلًا أن يقال: عنده، فكيف بقوله:"جلس إليه"؛ لأنه متضمّن معنى الميل والإسناد، كأنه قيل: مال إليه حالة جلوسه، وأسند إليه، فيكون عطف قوله:"وأسند ركبتيه" على قوله: "جلس إليه" للبيان والتفسير، كعطف قوله تعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} - إلى قوله -: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} على قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]؛ لما يُعلم من المعطوف كون قلوبهم أقسى من الحجارة.
[وثانيهما]: قوله: "صدَقتَ"، وإنما يقال هذا إذا طابق قول المسئول عنه قول السائل؛ لأنه إذا عرف أن المسئول عنه أصاب المخبر، وطبَّق المفصل صوّبه، ولهذا السرّ قالوا:"فَعَجِبْنَا من قوله: صدقت".
وأيضًا في إيثار "إذ طلع علينا" على "إذ دخل" إشارة إلى عظمته وعلوّه، قال الراغب الأصبهانيّ: طلع علينا فلان مستعار من طلعت الشمس
(1)
، وقال في "الكشّاف": في قوله عز وجل: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78]: ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب
(2)
، فحينئذ يتعلّق قوله:"حتى" بمحذوف يدلّ عليه "طلع"، أي دنا منه حتى جلس إليه.
(1)
راجع: "المفردات" للراغب، مادة "طلع".
(2)
راجع: "الكشاف" تفسير سورة مريم ص 78.
وإذا تقرَّر هذا فصورة هذه الحالة كصورة المعيد
(1)
إذا امتحنه الشيخ عند حضور الطلبة، والمستفيدين منه؛ ليزيدوا طمأنينةً وثقةً في أنه يُعيد الدرس، ويُلقي إليهم المسألة كما سمعه من الشيخ بلا زيادة ولا نقصان، وفيه مسحة من قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 - 5]، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:"ذاك جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم".
وأما سرّ إسناد ركبتيه إلى ركبتيه، ففيه إشارة إلى سابقة بينهما، وشدَّة إخلاص واتِّحاد كما بين المتحابّين، ولله دَرُّ القائل [من الطويل]:
أَخٌ طَاهِرُ الأَخلَاقِ حُلْوٌ كَأَنَّهُ
…
جَنَا النَّحْلِ مَمْزُوجٌ بِمَاءِ غَمَامِ
يَزِيدُ عَلَى الأَيَّامِ صَفْوَ مَوَدَّةٍ
…
وَشِدَّةَ إِخْلَاصٍ وَرَعْيَ ذِمَامِ
انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى.
قال الجامع: والمحاصل أن كون الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم متعيّن؛ لتصريح الرواية المذكورة، فلا مجال لتفسيره بفخذ جبريل عليه السلام، وأما الذين رجحوا كونه لجبريل عليه السلام فلعدم اطلاعهم على الرواية المصرّحة بالأول، فتنبَّه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وقال في "الفتح": فيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع، والصَّفْح عما يبدو من جفاء المسائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغه في تعمية أمره؛ ليقوي الظن بأنه من جُفَاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس، حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد وجاء ماشيًا، ليس عليه أثر سفر.
[فإن قيل]: كيف عَرَف عمر رضي الله عنه أنه لَمْ يعرفه أحد منهم.
[أجيب]: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين. وهذا الثاني - كما قال الحافظ - أولي، فقد جاء ذلك في رواية عثمان بن غياث، فإن فيها:"فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا".
(1)
وهو الذي يتولَّى إعادة الدرس نيابةً عن الشيخ للطلبة.
وأفاد مسلم، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي من رواية عمارة بن القعقاع، سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني، فهابوا أن يسألوه، قال: فجاء رجل
…
"، ووقع في رواية ابن منده، من طريق يزيد بن زريع، عن كهمس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ جاءه رجل، فكأن أمره لهم بسؤاله، وقع في خطبته، وظاهره أن مجيء الرجل، كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسًا، وعبر عنه الراوي بالخطبة. انتهى "فتح" 1/ 159 - 160.
(وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ) قيل: كيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟
أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغةً في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الثالث هو الصواب، فقد ثبت في رواية حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ المتقدّم عند النسائيّ قوله: "حتى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام
…
"، قال في "الفتح": ونحوه في رواية عطاء، عن ابن عمر، لكن قال: "السلام عليك يا رسول الله"، وفي رواية مطر الوراق: "فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: ادن"، ولم يذكر السلام.
فاختلفت الروايات، هل قال له: يا محمد، أو يا رسول الله، وهل سلم، أو لا؟ فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه.
وقال القرطبي. بناء على أنه لَمْ يسلم، وقال: يا محمد: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب.
قال الحافظ: ويجمع بين الروايتين، بأنه بدأ أولًا بندائه باسمه، لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأقرب أن يحمل على تصرّف الرواة، فيقال: إنه قال: يا محمد، فعبر بعض الرواة بقوله: يا رسول الله؛ لأن هذا أقرب إلى التعمية المذكورة. والله تعالى أعلم.
ووقع عند القرطبي: أنه قال: "السلام عليكم يا محمد"، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام، ثم يخصص من يريد تخصيصه. انتهى.
قال الحافظ: والذي وقفت عليه من الروايات، إنما فيه الإفراد، وهو قوله:"السلام عليك يا محمد". انتهى.
(أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ) قال الطيبيّ رحمه الله: الإسلام: الانقياد، والطاعة عن الطوع والرغبة من غير اعتراض، يقال: سلّم، وأسلم، واستسلم: إذا خضع، وأذعن، ولذلك أجاب عنه بالأركان الخمسة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: الإسلام في اللغة: هو الاستسلام، والانقياد، ومنه قوله تعالى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]: أي انقدنا، وهو في الشرع: الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعيّة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه عنه:"الإسلام علانية، والإيمان في القلب"، ذكره ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 11/ 11
(2)
. انتهى
(3)
.
وإنما بدأ بالإسلام؛ لأنه يتعلّق بالأمر الظاهر، وثَنّى بالإيمان؛ لأنه يتعلّق بالأمر الباطن، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا:"فقال: يا رسول الله، ما الإيمان"، فبدأ بالإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهر مِصْدَاقَ الدعوى، وثَلّث بالإحسان؛ لأنه مُتَعَلِّق بهما.
ورجح الطيبي الأول؛ لما فيه من الترقّي، ولا شك أن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنَّى بالإحسان، وثَلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، والله تعالى أعلم. قاله الحافظ رحمه الله، وهو حسن.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْإِسْلَامُ) أعاده، ووضعه موضع ضميره؛ لإرادة
(1)
"الكاشف" 2/ 424.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وزاد:"ثم يشير إلى صدره، ويقول: التقوى ههنا، التقوى ههنا". وفي سنده علي بن مسعدة، ضعفه البخاريّ وغيره، ووثقه آخرون، وضعف بعضهم هذا الحديث بسببه، وعندي أنه حسن الحديث. انظر ترجمته في:"تهذيب التهذيب" 3/ 192 .. والله تعالى أعلم.
(3)
"المفهم" 1/ 139.
الإيضاح (أَنْ) هي المصدريّة الناصبة للمضارع، والجملة في تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هو شهادة أن لا إله إلَّا الله (تَشْهَدَ أَنْ) مخفّفة من الثقيلة، يدلّ عليه عطف قوله:"وأن محمدًا"، والتقدير: أنه، والضمير للشأن (لَا إِلَهَ)"لا" هي النافية للجنس على سبيل التنصحص على نفي كلّ فرد من أفراده، وقوله:(إِلَّا اللهُ) قيل: خبر "لا"، وقيل: الأحسن أن الخبر محذوف، أي لا معبود بحقّ إلَّا الله (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا". قال النووي في "شرحه": يحتمل أن يكون المراد بالعبادة، معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها؛ لإدخالها في الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا، فيدخل فيه جميع الوظائف، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها، من عطف الخاص على العام.
قال الحافظ: أما الاحتمال الأول فبعيد؛ لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبّر في حديث عمر رضي الله عنه هنا بقوله:"أن تشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله"، فدل على أن المراد بالعبادة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولَمّا عبر الراوي بالعبادة، احتاج أن يوضحها بقوله:"ولا تشرك به شيئًا"، ولم يحتج إليها في رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك.
[فإن قيل]: السؤال عامّ؛ لأنه سأل عن ماهية الإسلام، والجواب خاصّ؟ لقوله:"أن تشهد"، وكذا قال في الإيمان:"أن تؤمن"، وفي الإحسان "أن تعبد".
[والجواب]: أن ذلك لنكتة الفرق بين المصدر، وبين "أن" والفعل؛ لأن "أن تفعل" تدل على الاستقبال، والمصدر لا يدلُّ على زمان، على أن بعض الرواة أورده هنا بصيغة المصدر، ففي رواية عثمان بن غياث قال:"شهادة أن لا إله إلَّا الله"، وكذا في حديث أنس، وليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم، وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره:"يعلم الناس دينهم".
(وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) زاد في حديث أبي هريرة الآتي: "المكتوبة": أي
المفروضة، وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن في العبارة، فإنه عبر في الزكاة بالمفروضة، ولاتباع قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: والصلاة في اللغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]: أي ادع، وقال الأعشى [من البسيط]:
عَلَيْكِ مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي
…
نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
وقيل: إنها مأخوذة من الصَّلَا، والصلا: عِرْقٌ عند أصل الذَّنْب، ومنه قيل للفرس الثاني في الْحَلْبَة: مصَلٍّ؛ لأن رأسه عند صَلا السابق، قال الشاعر [من المتقارب]:
فَصَلَّى أَبُوهُ لَهُ سَابِقُ
…
بِأَنْ قِيلَ فَاتَ الْعِذَارُ الْعِذَارَا
(1)
والأول أولى وأشهر، وهي في الشرع: أفعال مخصوصةٌ، بشروط مخصوصة، الدعاء جزء منها. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: إقامة الصلاة: تعديل أركانها وإدامتها، والصلاة فَعَلَةٌ، من صَلّى: بمعنى دعا، أو حرّك الصّلَوين
(2)
؛ لأن المصلّي يُحرّكهما في ركوعه وسجوده، كالزكاة من زَكَى: بمعنى نما، أو طهر، فإن المال يزيد بأداء الزكاة، ويطهر به، وكالصوم، من صام: إذا أمسك، والحجّ، من حجّ: إذا قصد البيت. انتهى
(3)
.
(وَتُؤْتِي) أي تعطي (الزَّكَاةَ) وعبّر بالإيتاء إشارةً إلى أنه لا بدّ من التمليك، زاد في رواية أبي هريرة رضي الله عنه الآتية:"المفروضة". قال القرطبيّ: الزكاة لغة: هي النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع والمالُ، وسُمّي أخذ جزء من مال المسلم الحر زكاةً؛ لأنَّها إنما تؤخذ من الأموال النامية، أو لأنَّها قد نمت، وبلغت النصاب، أو لأنَّها تنمي المال بالبركة، وحسنات مؤديها بالتكثير. انتهى.
(1)
"العذار": هو ما سال على خدّ الفرس من اللجام.
(2)
الصلوين: مثنى صَلا، وهما ما يكون عن يمين الذّنَب وشماله.
(3)
"الكاشف" 2/ 424.
(وَتَصُومَ رَمَضَانَ) الصوم: هو الإمساك مطلقًا، ومنه قوله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} الآية [مريم: 26]: أي إمساكًا عن الكلام، وقال الشاعر [من البسيط]:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ
…
تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا
أي ممسكة عن الحركة. وهو في الشرع: إمساك جميع أجزاء اليوم عن أشياء مخصوصة، بشرط مخصوص. قاله القرطبيّ.
وقوله: "رمضان" أي الشهر المسمّى بهذا الاسم، وهو من رَمِضَ: إذا احترق من الرمضاء، وسمّي به لارتماضهم من حرّ الجوع، أو من حرارة الزمان الذي وقع فيه، أو لأنه تحترق به الذنوب، وتمحى به العيوب، أو لأنه تزول معه حرارة الشهوات.
وفيه جواز ذكره من غير إضافة اسم "شهر" إليه، وهو الصحيح، وما ورد من ذلك؛ لا يصحّ، وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الصيام" - إن شاء الله تعالى -.
(وَتَحُجَّ الْبَيْتَ) أي الحرام، فـ "أل" للعهد، أو هو اسم جنس، غَلَب على الكعبة، وصار علمًا لها، فاللام فيه جزء، كـ "النجم"، قال في "الخلاصة":
وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ
…
مُضَافٌ أوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَـ "الْعَقَبَهْ"
والحجّ: لغة القصد، أو القصد المتكرّر مطلقًا، أو إلى معظّم، قال الشاعر [من الطويل]:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً
…
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وهو في الشرع: القصد إلى بيت الله المعظّم في وقت مخصوص؛ لفعل عبادة مخصوصة، والحجّ بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وقُرئ بهما:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97] أآل عمران: 97]. وسيأتي بيان كلّ ذلك مستوفى في مَحَلِّهِ من هذا الشرح - إن شاء الله تعالى -.
وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه" من طريق سليمان التيميّ، عن يحيى بن يعمر: "وتحج، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتُتِمّ الوضوء
…
" الحديث.
(إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ) أي إلى البيت، أو إلى الحج، أي إن أمكن لك
الموصول إليه، والاستطاعة: هي القوّة على الشيء، والتمكّن منه، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} [الكهف: 97]. قاله القرطبيّ.
[فإن قلت]: كيف خَصّ الأخير بقيد الاستطاعة، دون سائرها، مع أن الاستطاعة التي يتمكن بها المكلّف من فعل الطاعة مشروطة في الكلّ؟
[أجيب]: بأن الْمَعْنِيّ بالاستطاعة هنا الزادُ والراحلةُ، وكانت طائفة من الناس لا يُعِدُّونَهُمَا له، فيكونون كَلًّا على الناس، فنهوا عن ذلك، فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يَحُجّون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قَدِمُوا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. وعند ابن أبي حاتم بلفظ، "يقولون: نحجّ بيت الله، أفلا يُطعمنا".
وقال بعضهم: لعل الحكمة في هذا أن يكون حُجَّةً على الأغنياء التاركين للحج، وقد أعطاهم الله تعالى مالًا وقدرةً.
وإيراد الأفعال المضارعيّة؛ لإفادة الاستمرار التجدّديّ لكل من الأركان المخمسة، ففي التوحيد المطلوب الاستمرار الدائم مدة الحياة، وفي الصلاة دون ذلك، وفي الصوم والزكاة دونها، وقدّم الصوم لتعلّقه بجميع المكلّفين، وأخّر الحجّ؛ لأنه لا يجب في العمر إلَّا مرّة واحدة.
(سَبِيِلًا") تمييز عن نسبة الاستطاعة، فأخر عن الجارّ؛ ليكون أوقع، وهي الطريق الذي فيه سهولة، وتُستعمل في كلّ ما يُتوصّل به إلى شيء، وتنكيره لإفادة العموم؛ إذ النكرة في الإثبات قد تفيد العموم، كما في قوله تعالى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14]
(1)
.
[تنبيه]: قد اختلف الرواة في ذكر الحجِّ هنا، فمنهم من ذكره، كرواية كهمس هذه، ومنهم من أسقطه، إما غفلة، أو نسيانًا.
قال في "الفتح": [فإن قيل]: لِمَ لَمْ يذكر الحج؟ - يعني عند بعض الرواة - أجاب بعضهم باحتمال أنه لَمْ يكن فُرِض. وهو مردود بما رواه ابن
(1)
راجع: "المرقاة" 1/ 114.
منده في "كتاب الإيمان" بإسناده الذي على شرط مسلم، من طريق سليمان التيمي، في حديث عمر رضي الله عنه أوله - أن رجلًا في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله، وآخر عمره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل، دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الإحكام، لتقرير أمور الدين التي بَلَّغها متفوقة، في مجلس واحد؛ لتنضيط. ويُستنبط منه جواز سؤال العالم، ما لا يجهله السائل؛ ليعلمه السامع.
وأما الحج فقد ذُكِر لكن بعض الرواة إما ذَهِل عنه، وإما نسيه، والدليل على ذلك اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كهمس:"وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا"، وكذا في حديث أنس، وفي رواية عطاء الخراساني لَمْ يذكر الصوم، وفي حديث أبي عامر ذَكَر الصلاة، والزكاة فحسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس مزيدًا على الشهادتين، وذَكَر سليمان التيمي في روايته الجميع، وزاد بعد قوله:"وتحج": "وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتُتَمِّم الوضوء"، وقال مطر الوراق في روايته:"وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة"، قال: فذكر عُرَى الإسلام، فتبين ما قلناه: إن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) الرجل السائل (صَدَقْتَ) زاد في رواية ابن حبان قبله: "قال: فإذا فعلت هذا فأنا مسلم؟ " قال: "نعم"، وكذا في بقيّة الأسئلة (قَالَ) أي عمر رضي الله عنه، ففي رواية أبي عوانة في "المستخرج": فقال عمر
…
" (فَعَجِبْنَا لَهُ) وفي رواية النسائي بلفظ "إليه" بدل "له" (يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ عند النسائي: "فلما سمعنا قول الرجل: صدقت أنكرناه"، وفي رواية مطر الوراق: "انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه"، وفي حديث أنس: "انظروا وهو يسأله، وهو يصدقه، كأنه أعلم منه"، وفي رواية سليمان بن بريدة قال القوم: "ما رأينا رجلًا مثل هذا، كأنه يُعَلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت".
(1)
1/ 163 - 164.
قال القرطبي: إنما عَجِبوا من ذلك؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا يُعرَف إلَّا من جهته، وليس هذا السائل ممن عُرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف، محقّق مصدّق؛ فتعجبوا من ذلك، تعجب المستبعد لأن يكون أحد يعرف تلك الأمور المسئول عنها من غير جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
[فإن قلت]: قدّم في هذه الرواية السؤال والجواب عن الإسلام، على السؤال والجواب عن الإيمان، وإن كان هو مقدّمًا في الاعتبار، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] إذ عليه يؤسّس قاعدة الإسلام.
[أجيب]: بأن المقام يقتضي تقديم الإسلام؛ لأنه رأس الأمر، وعموده، وبه تظهر شعائر الدين، وهو دليل على التصديق، وأَمَارة عليه، وما جاء جبريل عليه السلام إلَّا ليُعلّم الناس الشريعة، فينبغي أن يبدأ بما هو الأهمّ، فالأهمّ، ويترقّى من الأدنى إلى الأعلى، فإن الإسلام مقدّم على الإيمان، وهو على الإخلاص الذي هو معنى الإحسان
(2)
. والله تعالى أعلم.
(قَالَ) الرجل (فَأَخْبِرْنِي عَنِ الايمَانِ) قال الطيبيّ: الإيمان: إفعالٌ من الأمن، وهو طمأنينة النفس عن إزالة خوف وشكّ، يقال: آمنه: إذا صدّقه، وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ) الإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه لا يجوز عليه العدم، وأنه تعالى موصوفٌ بصفات الجلال والكمال، من العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، والرضا، والمحبّة، وغيرها، وأنه منزّه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات، وعن صفات الأجسام، والمتحيّزات، وأنه واحد، صمد، فردٌ، خالق جميع المخلوقات، متصرّف فيها بما يشاء من التصرّفات، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء.
(1)
"المفهم" 1/ 151.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 425.
(3)
"الكاشف" 2/ 424.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في "العقيدة الواسطيّة" حينما يصف اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يُحرّفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلحدون في أسمائه، وآياته، ولا يكيّفون، ولا يمثّلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى لا سميّ له، ولا كفء له، ولا ندّ له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه أعلم بنفسه، وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه، ثم رسله صادقون، مصدّقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182]، فسبّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو قد جمع فيما وصف، وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنّة والجماعة عمّا جاء به المرسلون، فإنّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين. انتهى كلامه مختصرًا.
وقال في "الفتح": قوله: "قال: الإيمان: أن تؤمن بالله
…
" إلخ: دل الجواب أنه عَلِم أنه ساله عن متعلقات الإيمان، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق. وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله: "أن تؤمن بالله"، مُضَمَّن معنى أن تعترف به، ولهذا عدَّاه بالباء: أي أن تصدق، معترفًا بكذا.
قال الحافظ: والتصديق أيضًا يُعَدَّى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين. وقال الكرماني: ليس هو تعريفًا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي.
قال الحافظ: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان؛ للاعتناء بشأنه، تفخيمًا لأمره، ومنه قوله تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] في جواب {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]: يعني أن قوله: "أن تؤمن" ينحل
منه الإيمان، فكأنه قال: الإيمان الشرعي: تصديق مخصوص، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق، والإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، مُنَزَّهٌ عن صفات النقص. انتهى كلامه، وهو نفيسٌ. والله تعالى أعلم.
(وَمَلَائِكَتِهِ) قال ابن الأثير: جمع مَلأَكٍ في الأصل، ثم حُذفت همزته؛ لكثرة الاستعمال، فقيل: مَلَكٌ، وقد تحذف الهاء، فيقال: ملائك، وقيل: أصله مَأْلَكٌ بتقديم الهمزة، من الألوكة، وهي الرسالة، ثم قدّمت الهمزة، وجُمع. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: أَلَكَ بين القوم أَلْكًا، من باب ضَرَبَ، وأُلُوكًا أيضًا: تَرَسَّل، واسم الرسالة مَأْلُكٌ بضم اللام، ومَأْلُكةٌ أيضًا بالهاء، ولامها تُضمّ وتُفتح، والملائكة مشتقّة من لفظ الأُلُوكة، وقيل: من الْمَأْلَك، الواحد مَلَكٌ، وأصله مَلأَكٌ، ووزنه مَفْعَلٌ، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسَقَطت، فوزنه مَعَلٌ، فإن الفاء هي الهمزة، وقد سقطت، وقيل: مأخوذ من لأَكَ: إذا أرسل، فملأَكٌ مَفْعَل، فنُقلت الحركة، وسَقَطت الهمزة، وهي عينٌ، فوزنه مَفَلٌ، وقيل فيه غيرُ ذلك. انتهى
(2)
.
ومعنى الإيمان بالملائكة: هو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء: 26، 27]، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، و {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]، وأنهم سفراء الله بينه وبين رسله، والمتصرّفون كما أذن لهم في خَلْقه.
وقَدَّم الملائكة على الكتب والرسل، نظرًا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه مُتَمَسَّك لمن فَضَّل الملك على الرسول. قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة تفضيل الملك على البشر، أو العكس طويلة الذيل، قليلة النيل، قد استوفيت بحثها في "شرح النسائي"، وسيأتي هنا أيضًا في المحل المناسب له - إن شاء الله تعالى -.
(1)
"النهاية" 4/ 359.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 18 - 19.
(وَكُتُبِهِ) معنى الإيمان بكتب الله تعالى: التصديق بأنه كلام الله تعالى، وأن ما تضمّنته حقّ وصدق.
[تنبيه]: زاد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد قوله: "وكتابه": قولَهُ: "ولقائه": قال في "الفتح": كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة؛ لأنَّها داخلة في الإيمان بالبعث، والحقّ أنَّها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيامُ من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدل على هذا رواية مطر الوراق، فإن فيها:"وبالموت، وبالبعث بعد الموت"، كذا في حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابي.
وتعقبه النووي بأنّ أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بمَ يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟
وأجيب: بأن المراد الإيمانُ بأن ذلك حقّ في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية؛ لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، إِذْ جُعِلت من قواعد الإيمان. انتهى
(1)
.
(وَرُسُلِهِ) ووقع في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ عند النسائيّ "وملائكته، والكتاب، والنبيين"، وكل من السياقين في القرآن، في البقرة، والتعبير "بالنبيين" يشمل "الرسل"، من غير عكس.
ومعنى الإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، وأن الله تعالى أيّدهم بالمعجزات الدّالّة على صدقهم، وأنهم بلّغوا عن الله تعالى رسالاته، وبيّنوا للمكلّفين ما أمرهم الله تعالى ببيانه، وأنه يجب احترامهم، وألا يُفرَّق بين أحد منهم. قاله القرطبيّ.
وقال في "الفتح": ودَلّ الإجمال في الملائكة، والكتب، والرسل على الاكتفاء بذلك، في الإيمان بهم، من غير تفصيل، إلَّا من ثبت تسميته، فيجب الإيمان به على التعيين، وهذا الترتيب مطابق للآية: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 161.
مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]، ومناسبة الترتيب المذكور، وإن كانت الواو لا تُرَتِّب، بل المراد من التقديم، أن الخير، والرحمة من الله، ومن أعظم رحمته، أن أنزل كتبه إلى عباده، والمتلقِّي لذلك منهم الأنبياء، والواسطة بين الله وبينهم الملائكة. انتهى.
(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يوم القيامة، سُمِّي به؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد الإيمان به، وبما فيه من البعث والحساب، ودخول أهل الجنّة الجنّةَ، وأهل النار النارَ إلى غير ذلك، مما ورد النصّ القاطع به. قاله الطيبيّ
(1)
.
وقال القرطبيّ: معنى الإيمان باليوم الآخر: هو: التصديق بيوم القيامة، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت، والنشر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه، وجزائه للمحسنين، والمسيئين، إلى غير ذلك، مما صحّ نصّه، وثبت نقله. انتهى
(2)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "وتؤمن بالبعث"، زاد عند البخاريّ في "التفسير":"الآخر".
قال في "الفتح": فأما البعث الآخر، فقيل: ذُكر "الآخر" تأكيدًا، كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والْعَلَقَة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث من بطون القبور، إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر، فقيل له: ذلك؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة. انتهى.
(وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ) - بفتحتين، أو بفتح، فسكون -: القضاء، والحكم، ومعنى الإيمان بالقدر أنه تعالى علم مقادير الأشياء، وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا مُحْدَث في العالم العلويّ والسفليّ إلَّا وهو صادرٌ عن علمه تعالى، وقدرته وإرادته، وهذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان
(1)
"الكاشف" 2/ 426.
(2)
"المفهم" 1/ 145.
السلف من الصحابة، وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم، كما سيأتي تمام البحث فيه في المسائل - إن شاء الله تعالى -.
ولما كثر من ينكر القدر من الكفّار، ولهذا كثر تكراره في القرآن، وتنويهًا بذكره، ليحصل الاهتمام بشأنه أكّده بقوله (خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) بالجرّ بدلٌ من "القدر"، وفي رواية:"بالقدر كُلِّهِ خيره وشره"، وزاد في رواية:"حُلْوه، ومرّه"، وزاد في أخرى "من الله".
[تنبيه]: ظاهر السياق يقتضي أن الإيمان، لا يُطلق إلَّا على من صَدَّق بجميع ما ذُكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا اختلاف أن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم المراد به الإيمان بوجوده، وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك. والله تعالى أعلم
(1)
.
(قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ، قَالَ) الرجل أيضًا (فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ) قال في "الفتح": هو مصدر أحسن يُحسن إحسانًا، ولتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا: إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان: إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد؛ لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلًا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسانُ العبادة: الإخلاص فيها، والخشوع وفراغ البال حالَ التلبس بها، ومراقبة المعبود.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الإحسان هو مصدر أحسن يُحسن إحسانًا، ويقال على معنيين:
[أحدهما]: متعدّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، وفي كذا: إذا حسّنته، وكمّلته، وهو منقول بالهمزة من حسُن الشيءُ.
[وثانيهما]: متعدّ بحرف جرّ، كقولك: أحسنت إلى كذا: أي أوصلت إليه ما ينتفع به، وهو في هذا الحديث بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها،
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 163.
ومراقبته، واستحضار عظمته، وجلاله حالةَ الشروع، وحالة الاستمرار فيها.
وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين:
[أحدهما]: غالب عليه مشاهدة الحقّ، فكأنه يراه، ولعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله:"وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة"
(1)
، رواه أحمد، والنسائيّ.
[وثانيهما]: لا ينتمي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أن الحقّ سبحانه وتعالى مطّلع عليه، ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 218 - 219]، وبقوله تعالى:{وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]، وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى وخشيته، ولذلك فسّر الإحسان في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله:"أن تخشى الله كأنك تراه"، فعبّر عن المسبب باسم السبب توسّعًا، والألف واللام اللذان في "الإحسان" المسئول عنه للعهد، وهو الذي قال الله تعالى فيه:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [يونس: 26]، وقوله:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقوله:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
ولَمّا تكرّر الإحسان في القرآن، وترتّب عليه هذا الثواب العظيم، سأل عنه جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجابه ببيانه؛ ليعمل الناس عليه، فيحصل لهم هذا الحظّ العظيم. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وقال الخطّابيّ: إنما أراد بالإحسان ها هنا الإخلاص، وهو شرط في صحّة الإيمان والإسلام معًا، وذلك أن من تلفّظ بالكلمة، وجاء بالعمل من غير نيّة الإخلاص لم يكن مُحسنًا، ولا كان إيمانه صحيحًا، قال صلى الله عليه وسلم:"أن تعبُد الله كأنك تراه"، أي في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم، ومجانبة الشرك الخفيّ،
(1)
كان في نسخة القرطبيّ: "وجعلت قرة عيني في عبادة ربي"، والذي في مسند أحمد 3/ 128 و 199 و 285، و"سنن النسائي" 7/ 62 بلفظ:"وجعلت قرة عيني في الصلاة"، فليُتنبّه.
(2)
"المفهم" 1/ 143 - 144.
والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على نعت الهيبة والتعظيم، حتى كأنه ينظر إلى الله تعالى خوفًا منه، وحياءً، وخُضُوعًا له.
وقال الراغب الأصبهانيّ: الإحسان يقال: على وجهين:
[أحدهما]: الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان.
[والثاني]: إحسان في فعله، وذلك إذا عَلِمَ علمًا حسنًا، أو عَمِلَ عملًا حسنًا، وعلى هذا قوله عز وجل:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، والإحسان أعم من الإنعام، قال تعالى:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، فالإحسان فوق العدل، وذاك أن العدل هو أن يُعطي ما عليه، ويأخذ أقلّ مما له
(1)
، والإحسان أن يُعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقلّ مما له، فالإحسان زائد على العدل، فتحرّي العدل واجبٌ، وتحرّي الإحسان ندبٌ وتطوّع، وعلى هذا قوله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، وقوله عز وجل:{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، ولذلك عظّم الله تعالى ثواب المحسنين، فقال تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل: 30]. انتهى
(2)
.
قال الطيبيّ: يجوز أن يُحمل الإحسان - يعني في هذا الحديث - على الإنعام، وذلك أن العامل المرائي يُبطل عمله، ويُحبطه، فيظلم نفسه، فقيل له: أحسِن إلى نفسك، ولا تشرك بالله، واعبُد الله كأنك تراه، وإلا فتهلك، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر: 10]، فإنها واردة في المرائي.
ويجوز أن يحمل على المعنى الثاني - يعني الإحسان في الفعل - وعليه قوله تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ
(1)
هكذا النسخة، ولعله "ويأخذ ما له"، فليتأمّل، والله تعالى أعلم.
(2)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 236 - 237.
إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]، أي المجيدين المتقنين في تعبير الرؤيا، كأنه سأل جبريلَ عليه السلام عما يُنبئ عن الإخلاص، كما قال الله تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112]. انتهى
(1)
. وسنعود لتكميل بحث الإحسان في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ)"أن" مصدريّة، والجملة في تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هو عبادة الله تعالى (كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)، قال في "الفتح": أشار في الجواب إلى حالتين، أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله:"كأنك تراه": أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مُطّلِع عليه، يَرَى كل ما يعمل، وفو قوله:"فإنه يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله، وخشيته، وقد عبر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بقوله:"أن تخشى الله كأنك تراه"، وكذا في حديث أنس رضي الله عنه.
وقال النووي: معناه إنك إنما تراعي الآداب المذكورة، إذا كنت تراه ويراك؛ لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائمًا يراك، فأحسن عبادته، وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه، فاستمر على إحسان العبادة، فإنه يراك، قال: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم، من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين؛ ليكون ذلك مانعًا من التلبس بشيء من النقائص؛ احترامًا واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعًا عليه، في سره وعلانيته، انتهى. وقد سبق إلى أصل هذا القاضي عياض وغيره. انتهى.
وقال الطيبيّ: وأما تقدير الشرط والجزاء، فهو أن يقال: إن لم تعبد الله كأنك تراه، فاعبده كأنه يراك، وتحرير المعنى إن لم تكن تراه كذلك، أي مثل تلك الرؤية المعنويّة، فكن بحيث إنه يراك، وهو من جوامع الكلم، أي كن متيقّظًا، لا ساهيًا غافلًا، مجدًّا في مواقف العبوديّة، مخلصًا في نيّتك، آخذًا
(1)
"الكاشف" 2/ 430.
أُهبة الْحَذَر، فإن من عَلِم أن له حافظًا رقيبًا، شاهدًا بحركاته وسكناته، لا سيّما ربّه، ومالك أمره، فلا يُسيء الأدب طرفة عين، ولا فَلْتة خاطر، هذا هو معنى الإجادة في الإيمان والإسلام، وقيل: التقدير: فإن لم تكن تراه، فلا تغفل، فإنه يراك. انتهى المقصود منه
(1)
.
(قَالَ) الرجل السائل (فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ) أي متى تقوم الساعة؟ وقد صرّح به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللام للعهد، والمراد يوم القيامة. قاله في "الفتح" 1/ 165.
وقال القرطبيّ: الساعة: هي في أصل الوضع: مقدارٌ من الزمان، غير معيّن، ولا محدود؛ لقوله تعالى:{مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، وفي عرف الشرع: عبارة عن يوم القيامة، وفي عرف المعدّلين
(2)
: جزء من أربعة وعشرين جزءًا من أوقات الليل والنهار. قاله في "المفهم" 1/ 147.
وقال الطيبيّ: سميت ساعة لوقوعها بغتةً، أو لسرعة حسابها، أو على العكس؛ لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق، وعَنَى بالعكس أنها سُمّيت بها بناءً على عكس ما هي عليه من الطول تلميحًا، كما سُمّيت المهلكة مفازة. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم "مَا الْمسئول عَنْهَا" قال المظهر: "ما" نافيةٌ، يعني لست أنا أعلم منك يا جبريل بعلم القيامة، الضمير راجع إلى "الساعة"، فلا بُدّ من تقدير مضاف في السؤال والجواب، كـ"وقتٍ" ونحوه؛ إذ وجود الساعة ومجيؤها مقطوع به، وإنما يُسأل عن وقتها، كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)} [النازعات: 42 - 43]، أي: في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم؟ يعني ما أنت من ذكراها لهم وبتبيين وقتها في شيء.
وزاد في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله عنهما عند النسائيّ: "قال: فنكّس،
(1)
"الكاشف" 2/ 430.
(2)
"المعدّلون": هم المشتغلون بالحساب، وتقدير الزمن. انتهى من هامش "المفهم" 1/ 147.
(3)
"الكاشف" 2/ 431.
فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يجبه شيئًا، ورفع رأسه، فقال: ما المسئول
…
" (بِأَعْلَمَ) هذا وإن كان مشعرًا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعدُ: "في خمس لا يعلمها إلا الله"، ونظير هذا قوله عند النسائيّ في حقّ جبريل عليه السلام: "ما كنت بأعلم به من رجل منكم"، فإن المراد أيضًا التساوي في عدم العلم به، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فقال: "سبحان الله، خمس من الغيب، لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية".
وقال الطيبيّ: [فإن قلت]: لفظة "أعلم" مشعرةٌ بوقوع الاشتراك في العلم، وأحدهما أزيد من الآخر، وهما متساويان في انتفاء العلم منهما.
[فالجواب]: أنه صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون صالحًا لأن يُسأل عنه على سبيل الكناية؛ لما عُرف أن المسئول في الجملة ينبغي أن يكون أعلم من السائل، فهو من باب قوله تعالى:{وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه العلم بالمسئول عنه بوجه خاصّ.
تلخيصه أنّا متساويان في أنّا نعلم أن للساعة مجيئًا في وقت ما من الأوقات، وذلك هو العلم المشترك بيننا، ولا مزيد للمسئول على هذا العلم حتى يتعيّن عنده المسئول عنه، وهو الوقت المتعيّن الذي يتحقّق فيه مجيء الساعة. انتهى
(1)
.
(مِنَ السَّائِلِ) إنما عدل عن قوله: لست بأعلم بها منك، إلى لفظٍ يُشعر بالتعميم؛ تعريضًا للسامعين: أي أن كل مسئول، وكل سائل، فهو كذلك.
والحاصل أن أصل الكلام أن يقال: لست بأعلم بها منك، لكن عُدِل عنه إلى ما عليه؛ لإفادة التعميم، وذلك أن الأجوبة الثلاثة على خطاب جبريل عليه السلام كانت تعريضًا للسامعين على طريقة الخطاب العامّ، نحو قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، ولو أُجري على ذلك الأسلوب لقيل: لستُ بأعلم منك، ولم يُفد فائدة العموم؛ لأن المعنى كلُّ مسئول عنه وسائلٍ أيًّا ما كان فهو داخلٌ في هذا العموم.
(1)
"الكاشف" 2/ 431 - 432.
وزاد في رواية أبي نعيم في "المستخرج": "فقال له: صدقت".
[فائدة]: هذا السؤال والجواب، وقع بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهم الصلاة والسلام، لكن كان عيسى سائلًا، وجبريل مسؤولًا، قال الحميدي، في "نوادره": حدثنا سفيان، حدثنا مالك بن مِغْول، عن إسماعيل بن رجاء، عن الشعبي، قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل، عن الساعة؟ قال: فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسئول أعنها بأعلم من السائل". ذكره في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) الرجل السائل ("فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتهَا) وفي نسخة "عن أماراتها" بالجمع، ولأبي نعيم:"ثم قال: يا محمد، فأخبرني عن أمارتها"، و"الْأَمارَةُ"، و"الأَمَارُ" بفتح الهمزة، وبالهاء، وحذفها: هي العلامة وزنًا ومعنى.
وفي حديث أبي هريرة: "عن أشراطها"، وهو - بفتح الهمزة - جمع شَرَطَ - بفتحتين - كقَلَم وأَقْلام: هي الأمارات، والعلامات، ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] وبها سُمّي الشُّرَط؛ لأنهم يُعلّمون أنفسهم بعلامات يُعرفون بها.
وقال القرطبي: علامات الساعة على قسمين: ما يكون من نوع المعتاد، أو غيره، والمذكور هنا الأول، وأما الغير: مثل طلوع الشمس من مغربها، فتلك مقارنة لها، أو مضايقة، والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك
(2)
.
[تنبيه]: هكذا في حديث عمر رضي الله عنه أن السائل قال له صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني عن أمارتها"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"وسأحدّثك عن أشراطها"، وعند البخاري في "التفسير":"ولكن سأحدثك"، وفي بعض الروايات:"ولكن لها علامات، تعرف بها".
ويجمع بين هذه الاختلافات بأنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بقوله: "وسأخبرك"، فقال له السائل:"فأخبرني"، ويدل على ذلك روايةٌ عند البخاري بلفظ:"ولكن إن شئت، نبأتك عن أشراطها، قال: أجل"، ونحوه في حديث ابن عباس، وزاد:"فحدثني".
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 166.
(2)
"الفتح" 1/ 166.
ويُستفاد من اختلاف الروايات: أن التحديث، والإخبار، والإنباء، بمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحًا
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا) هو في تأويل المصدر خبر لمحذوف، أي هي: أي الأمارات ولادة الأمة ربتها.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الأمة هنا: هي الجارية المستولدة، وربّها سيّدها، وقد سُمّي بعلًا في الرواية الأخرى، كما سمّاه الله تعالى بعلًا في قوله تعالى:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} [الصّافّات: 125]، في قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وحُكي عنه أنه قال: لم أَدْرِ ما البعل؟ حتى قلت لأعرابيّ: لمن هذه الناقة؟ فقال: أنا بعلها، وقد سُمي الزوج بعلًا، ويُجمع على بُعُولة، كما قال تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. و"ربّتها": تأنيث ربّ. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "الربّ" يُطلق في اللغة على المالك، والسيّد، والمدبّر، والمربّي، والقيّم، والمنعم، ولا يُطلق غير مضاف إلا على الله تعالى، وإذا أُطلق على غيره أُضيف، فيقال: ربُّ كذا، وقد جاء في الشعر مطلقًا على غير الله تعالى، وليس بالكثير، وأراد به في هذا الحديث المولى، والسيّد، يعني أن الأمةَ تَلِد لسيّدها ولدًا فيكون لها كالمولى؛ لأنه في الحسب كأبيه، أراد أن السبي يكثر، والنعمة تظهر في الناس، فتكثُر السراري. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أن تلد الأمة ربتها": "الربّ" مشترك بين المالك، والمربّي، قال صاحب "الأساس": ربُّ الدار، وربّ العبد، وربّى ولده تربيةً، وقال الجوهريّ: ربّ كلّ شيء: مالكه، وقال في "الكشّاف": الربّ المالك، ومنه قول صفوان لأبي سفيان:"لأن يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبّ إليّ من أن يَرُبّني رجل من هوازن" هذا هو المعنى في الحديث.
[فإن قيل]: كيف أُطلق الربّ على غير الله تعالى، وقد نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن
(1)
"الفتح" 1/ 166.
(2)
"المفهم" 1/ 148.
(3)
"النهاية" 2/ 179.
ذلك في قوله: "لا يَقُلْ أحدكم أطعم ربّك، وضّئ ربّك، واسق ربّك، ولا يقُل أحدكم: ربّي، وليقُل: سيّدي ومولاي"
(1)
.
[والجواب]: أن هذا من باب التشديد والمبالغة، قال في "الفتح": يُجمَع بينهما بأن اللفظ هنا خرج على سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وقال التوربشتيّ: فسَّرَ هذا القول كثير من العلماء على أن السبي يكثر بعد اتّساع رُقعة الإسلام، فيستولد الناس إماءهم، فيكون الولد كالسيّد لأمه؛ لأن ملك الأمة راجع في التقدير إلى الولد، وذَكَره بلفظ التأنيث، وأراد به النسمة؛ ليشمل الذكور والإناث، أو كَرِه أن يقول: ربّها؛ تعظيمًا لجلال ربّ العباد، أو أراد البنت، وإذا كانت هكذا، فالابن أولى.
وقال القاضي ناصر الدين: وتأنيث "ربتها"، وإضافتها إما لأجل أنه سبب عتقها، أو لأنه وَلَد ربّها، أو مولاها بعد الأب، وذلك إشارة إلى قوّة الإسلام؛ لأن كثرة السبي والتسرّي دليل على استعلاء الدين، واستيلاء المسلمين، وهي من الأمارات؛ لأن قوّته، وبلوغ أمره غايته منذر بالترجع، والانحطاط المؤذن بأن القيامة ستقوم.
وقال الطيبيّ: وأقول - والعلم عند الله -: الكلام فيه صعب، بل هو مقام دحضٌ، قلما تثبت فيه الأقدام الراسية في البيان، وكان قلما يلتفت الخاطر إلى معرفته، وما تكلّم فيه العلماء لم يكن يشفي العليل إلى أن تصدّيتُ لأمر هذا
(1)
رواه الشيخان في "صحيحيهما"، ولفظ البخاريّ: من طريق معمر، عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئ ربك، اسْقِ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل: أحدكم عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي".
ولفظ مسلم: "لا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، فتاتي، غلامي".
(2)
راجع "الفتح" 1/ 167 - 168.
الخطب الجليل، فالواجب أوّلًا تعيين المقام؛ لأن بيده زمام حكم الكلام، ولا ارتياب أن أمارات الساعة وأشراطها من عظائم الشؤون، وجلائل الخطوب، فيجب حينئذ تأويل القرينتين، أعني قوله:"أن تلد الأمة ربتها"، وقوله:"وأن ترى الْحُفاة الْعُراةَ - إلى قوله -: يتطاولون في البنيان" بما ينبئ عن ذلك النبإ العظيم من تغيير الزمان، وانقلاب أحوال الناس، بحيث لم يُشاهَد قبله، ولم يُرَ مثلُهُ، وكيف ولفظة "تَرَى" تنبئ عن ذلك؛ لأنها من الخطاب العامّ على الاستغراق، كقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، يعني بلغ الخطب في العظم والفخامة بحيث لا يختصّ برؤية راءٍ واحدٍ، بل كلّ من يتأتّى منه الرؤية فهو مخاطبٌ به.
فإذا تقرّر بيان اقتضاء المقام، فنَثْنِي العِنَانَ إلى بيان الأساليب التي يُستعان بها على تطبيق القرينتين على ما يقتضيه المقام، من المطابقة المعنويّة، والكناية الزبديّة، والإدماج المسمّى بإشارة النصّ.
فنقول: القرينة الثانية دلّت بالكناية الزبديّة التي لا يُنظر فيها إلى مفردات التركيب، لا حقيقةً، ولا مجازًا، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع على أن الأذلّة من الناس ينقلبون أعزّةً، ملوك الأرض، فينبغي أن تُؤَوَّل القرينة السابقة بما يقابلها؛ ليطابقا في أن يصير الأعزّة أذلّةً، ومعلوم أن الأمّ مربّيةٌ للولد، ومدبّرةُ أمره، فإذا صار الولد ربًّا، ومالكًا لها، لا سيّما إذا كانت بنتًا ينقلب الأمر، هذا هو الْمَعْنِيّ بالتشديد والمبالغة الموعود بهما، ثم وضع الأمة، ووصفها بالولادة موضع الأمّ إشعارٌ بمعنى الاسترقاق والاستيلاء، وأن أولئك الضَّعَفَةَ الأذلّةَ الذين فُهِموا من القرينة الثانية هم الذين يتعدّون، ويتسلّطون، ويفتحون البلاد، ويسترقّون كرائم النساء، وَشَرَائِفَهُنَّ، وَيسْتَوْلدوهنَّ، فتلد الأمة ربّتها.
فالحاصل أن قوله: "أن تَلِدَ الأمة ربتها" دلَّ بعبارته على المقصود، وبإشارته على معنى آخر، وهو كثرة المستولدات، وإنما وصف النساء بالشرف والكرامة؛ ليفيد المعنى المقصود، وكان الواقع كذلك، ألا ترى إلى الملكة حُرَقة بنت النعمان حين سُبيت، وأُحضرت بين يدي سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه كيف أنشدت [من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا
…
تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصرَّفُ
وإلى قول أبي الطيّب [من الطويل]:
تَبَكَّى عَلَيْهِنَّ الْبَطَارِيقُ فِي الدُّجَى
…
وَهُنَّ لَدَيْنَا مُلْقَيَاتٌ كَوَاسِدُ
وفي معناه أنشد [من الطويل]:
إِذَا ذَلَّ فِي الدُّنْيَا الأَعَزُّ وَاكْتَسَى
(1)
…
أَعِزَّتُهَا ذُلًّا وَسَادَ مَسُودُهَا
هُنَاكَ فَلَا جَادَتْ سَمَاءٌ بِضَوْئِهَا
…
وَلَا أَشْرَقَتْ أَرْضٌ وَلَا اخْضَرَّ عُودُهَا
قال: وفي القرينتين إيذان بنصرة المؤمنين، وفتحهم البلاد مشارقها ومغاربها، كما ورد:"إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها"، رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه. انتهى كلام الطيبيّ
(2)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بلفظ: "إذا ولدت الأمة ربها"، بالتذكير، قال في "الفتح": وزاد في رواية محمد بن بشر: "يعني السراري"، وفي رواية عمارة بن القعقاع:"إذا رأيت المرأة تلد ربها"، ونحوه لأبي فَرْوَة، وفي رواية عثمان بن غياث:"الإماء أربابهن" بلفظ الجمع، والمراد بالرب: المالك، أو السيد.
وقال أيضًا: "التعبير بـ"إذا" للإشعار بتحقق الوقوع، ووقعت هذه الجملة بيانًا للأشراط، نظرًا إلى المعنى، والتقدير: ولادةُ الأمة، وتطاوُلُ الرُّعَاة.
[فإن قيل]: الأشراط جمع، وأقله ثلاثة على الأصح، والمذكور هنا اثنان، أجاب الكرماني بأنه قد تستقرض القلة للكثرة، وبالعكس، أو لأن الفرق بالقلة والكثرة، إنما هو في النكرات، لا في المعارف، أو لفقد جمع الكثرة للفظ "الشرط".
قيل: وفي جميع هذه الأجوبة نظر لا يخفى، ولو أُجيب بأن هذا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع اثنان، لَمَا بَعُدَ عن الصواب، والجواب
(1)
فيه انكسار في الوزن، ولعل الصواب "الْأَعِزَّة"، فليحرّر.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 433 - 434.
المرضيّ أن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها؛ لأنه في حديث عمر هنا، وفي حديث أبي هريرة الآتي ذكر الولادة، والتطاول، وفي رواية محمد بن بشر عن أبي حيان التي أخرج مسلم إسنادها، وساق ابن خزيمة في "صحيحه"، ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" لفظها، ذكر الثلاثة، وكذا في "مستخرج الإسماعيلي"، من طريق ابن علية، وكذا ذكرها عُمارة بن القعقاع، ووقع مثل ذلك في حديث عمر رضي الله عنه، في رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة، ووافقه عطاء الخراساني، وكذا ذُكِرت في حديث ابن عباس، وأبي عامر رضي الله عنهم
(1)
.
وسيأتي اختلاف العلماء في معنى "أن تلد الأمة ربتها" في المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى.
(تنبيهٌ): قال النوويّ رحمه الله تعالى: ليس في هذا الحديث دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهنّ، وقد استدَلَّ إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أُنكِر عليهما، فإنه ليس كلُّ ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون مُحَرَّمًا أو مذمومًا، فإن تطاول الرِّعاء في البنيان، وفُشُوَّ المال، وكون خمسين امرأة لهن قَيِّمٌ واحد ليس بحرام بلا شكّ، وإنما هذه علامات، والعلامة لا يُشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشرّ، والمباح والمحرم، والواجب غيره. انتهى
(2)
.
وعبارة القاضي عياض رحمه الله: قال الخطابيّ: قد يَحتجّ بهذا الحديث من يرى بيع أمهات الأولاد، ويحتجّ بأنهنّ لم يُبعنَ بعد موت السيّد؛ لأنهنّ يصرن في التقدير ملكًا لأولادهنّ، فيُعتقن.
قال القاضي: ولا حجّة له في هذا؛ إذ ليس في الحديث شيء يدلّ عليه، بل قد نُوزع في استدلاله.
وقال أبو زيد المروزيّ: وهو ردّ على من يرى بيعهنّ لإنكار النبي صلى الله عليه وسلم أن
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 166 - 167.
(2)
"شرح النووي على صحيح مسلم" 1/ 159.
تلد الأمة من يملكها، وجعله ذلك من أشراط الساعة، ومعناه عنده أن يبيع أمه آخر الزمان.
وليس ما قال بشيء؛ لأن كلّ ما أُخبر عنه أنه من أشراط الساعة لا تُحَرِّمه الشريعة، ألا ترى أن تطاول الرِّعاء في البنيان ليس بحرام، ولا أن يكون اللُّكَع أسعد الناس بالدنيا ليس مما يُحرّمها عليه، ولا فشُوّ المال جملة مما يُحرّمه، ولا أن يكون لجماعة النساء القيّم الواحد مما يُحرّم ذلك.
وليس في الكلام دليل على إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما زَعَم، ولا فيه غيرُ إخبارٍ عن حال تكون. وأما قوله: إن معناه أن يبيع الولد أمه آخر الزمان، فليس فيه دليلٌ على منع بيعها قبل ملك ابنها؛ إذ من يُجوّز بيعها من أهل الظاهر يوافق الجماعة في أنها لا تباع ما دامت حاملًا، ولا إذا تصير ملكًا لابنها بميراث، أو غيره. انتهى
(1)
.
(وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ) بالضمّ: جمع حاف، وهو الذي لا يلبس في رجله نعلًا أو غيرها (الْعُرَاةَ) بالضمّ أيضًا جمع عار: وهو الذي لا يلبس على جسده ثوبًا (الْعَالَةَ) بتخفيف اللام: جمع عائل، وهو الفقير، والْعَيلة: الفقر، يقال: عال الرجل يَعِيل عَيْلةً: إذا افتقر، وأعال يُعيل: إذا كثُر عياله (رِعَاءَ الشَّاءِ) بالكسر: جمع راع، وأصل الرعي: الحفظ، و"الشاء": جمع شاة، وهو من الجمع الذي يفرّق بينه وبين واحده بالهاء، وهو كثير فيما كان خِلْقةً لله تعالى، كشجرة وشجر، وثمرة وثمر، وإنما خصّ رعاء الشاء بالذكر؛ لأنهم أضعف أهل البادية. قاله القرطبيّ
(2)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "إذا رأيت الرِّعَاء البهم"، وعند البخاريّ:"وإذا تطاول رعاة الإبل البهم".
وزاد في رواية ابن حبّان: "قال: ما العالة الحفاة العراة؟ قال: الْعُرَيب".
(يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ") أي يتفاخرون في طول بيوتهم، ورفعتها، من تَطَاوَلَ الرجل إذا تكبّر، يعني من علامات القيامة أن ترى أهل البادية ممن ليس لهم لباسٌ، ولا نعلٌ، بل كانوا رعاء الإبل والشاء يتوطّنون البلاد، ويتّخذون العقار، ويبنون الدور والقصور المرتفعة. قاله المظهر.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 107 - 109.
(2)
"المفهم" 1/ 150.
وقال في "المرقاة": أي يتفاضلون في ارتفاعه، وكثرته، ويتفاخرون في حسنه وزينته، وهو مفعول ثانٍ إن جَعَلْتَ الرؤيةَ فعلَ البصيرة، أو حال إن جَعَلْتَها فعلَ الباصرة، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الفاقة تبسط لهم الدنيا مِلْكًا أو مُلْكًا، فيتوطنون البلاد، ويبنون القصور المرتفعة ويتباهون فيها، فهو إشارة إلى تغلب الأراذل، وتذلّل الأشراف، وتولي الرئاسة من لا يستحقّها، وتعاطي السياسة من لا يُحْسِنُهَا، كما أن قوله:"أن تلد الأمة ربتها" إشارة إلى عكس ذلك.
وقيل: كلاهما إشارة إلى اتساع دين الإسلام، فيتناسب المتعاطفان في الكلام، ولعلّ تخصيصهما لجلالة خطبهما، ونباهة شأنهما، وقرب وقوعهما.
ويحتمل أن تكون الأولى إيماء إلى كثرة الظلم، والفسق، والجهل، وبلوغها مبلغ العليا، والثانية إلى غلبة محبة الدنيا، ونسيان منازل العقبى، ويقال: تطاول الرجل: إذا تكبّر، فلا يرد ما ذكره ابن حجر
(1)
من قوله: التفاعل فيه بين أفراد الْعُراة الموصوفين بما ذُكر، لا بينهم وبين غيرهم مما كان عزيزًا فَذَلَّ، خلافًا لمن وَهِمَ فيه، وقال: المعنى أن أهل البادية العارين عن القيام بالديانة يسكنون البلاد، ويتّخذون القصور الرفيعة، ويتكبّرون على العباد والزُّهّاد.
وحاصل الكلام أن انقلاب الدنيا من النظام يؤذن بأن لا يتناسب فيها المقام، فلا عيش إلا عيش الآخرة عند العقلاء الكرام، كما أنشدت الملكة الْحُرَقَة بنت النعمان بن المنذر لَمّا سُبيت، وأُحضرت عند سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه[من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا
…
تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصرَّفُ
فهنيئًا لمن جَعَل الدنيا كساعة، واشتغل فيها بالطاعة، قيامًا بأمر الحبيب، فإن كلّ ما هو آتٍ قَريب، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
(1)
يعني ابن حجر الهيتميّ الفقيه الشافعيّ، شارح المشكاة، لا الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، فتنبّه.
مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} [الأنبياء: 1 - 2]. انتهى
(1)
.
(قَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (ثُمَّ انْطَلَقَ) أي الرجل السائل (فَلَبِثْتُ) بكسر الباء الموحّدة: أي مكثتُ، يقال: لبِث بالمكان لَبَثًا، من باب تَعِبَ، وجاء في المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثة بالفتح: المرّة، وبالكسر: الهيئة، والنوع، والاسم: اللُّبْث بالضمّ، واللَّبَاث. قاله في "المصباح".
وقال النوويّ في "شرحه": قوله: "فَلَبثَ مليًّا" هكذا ضبطناه "لَبِثَ" آخرُهُ ثاءٌ مثلّثةٌ، من غير تاء، وفي كثير من الأَصول المحقّقة "لَبِثْتُ" بزيادة تاء المتكلّم، وكلاهما صحيح. انتهى
(2)
.
(مليًّا) بتشديد الياء: أي وقتًا طويلًا، وفي رواية النسائيّ:"فلبِثتُ ثلاثًا"، وفي رواية أبي داود، والترمذيّ أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي "شرح السنّة" للبغويّ:"بعد ثالثة"، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذا:"ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُدُّوا عليّ الرجلَ، فأخذوا ليردّوه، فلم يروا شيئًا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل"
…
الحديث.
فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمرَ رضي الله عنه بعد ثلاث، إذ لم يكن حاضرًا وقت إخبار الباقين. والله تعالى أعلم
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجمع هو الأحسن، وسيأتي وجه آخر في الجمع في "عبارة الفتح" قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا عُمَرُ أَتَدْرِي) أي أتعلم (مَنِ السَّائِلُ؟ ")، ولأبي نعيم في "المستخرج":"ثم ذهب، فقال عمر: ولَبِثَ مليًّا، ثم لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عمر هل تُخبروني عن السائل؟ "، (قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ
(1)
"المرقاة" 1/ 130.
(2)
"شرح النووي" 1/ 159 - 160.
(3)
"شرح مسلم" 1/ 160.
جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّهُ) أي السائل (جِبْرِيلُ) ولأبي نعيم: "ذلك جبريل عليه السلام" (أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ) وفي رواية النسائيّ: "ليعلّمكم أمر دينكم": أي قواعد دينكم، أو كلّيّات دينكم. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "هذا جبريل جاء ليعلّم الناس دينهم".
وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا، إذ لم تسألوا"، وفي رواية للنسائيّ:"والذي بعث محمدًا بالحق، ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل"، وفي حديث أبي عامر:"ثم وَلَّى، فلما لم نرَ طريقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، هذا جبريل، جاء ليعلم الناس دينهم، والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط، إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة"، وفي رواية سليمان التيمي:"ثم نَهَض، فوَلَّى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بالرجل، فطلبناه كُلَّ مَطْلَبٍ، فلم نَقْدِر عليه، فقال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل، أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده، ما شُبِّه عليّ منذ أتاني، قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى وَلَّى"، قال ابن حبان تفرد سليمان التيمي بقوله:"خذوا عنه".
قال الحافظ: وهو من الثقات الأثبات، وفي قوله:"جاء ليعلم الناس دينهم": إشارة إلى هذه الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح.
وإسناد التعليم إلى جبريل مجازيّ؛ لأنه كان السبب في الجواب، فلذلك أمر بالأخذ عنه.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: واتفقت هذه الروايات - يعني روايات أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ - على أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر الصحابة رضي الله عنهم بشأنه، بعد أن التمسوه، فلم يجدوه، وأما ما وقع عند مسلم، وغيره، من حديث عُمَر رضي الله عنه في رواية كهمس - يعني هذا الرواية -:"قال: ثم انطلق، فلبثت مليًّا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل إلخ".
فقد جَمَع بين الروايتين بعضُ الشراح بأن قوله: "فلبثت مليًّا": أي زمانًا بعد انصرافه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بذلك، بعد مضيّ وقت، ولكنه في ذلك المجلس، لكن يَعْكُرُ على هذا الجمع قوله في رواية النسائي، والترمذي:
"فلبثت ثلاثًا"، لكن ادَّعَى بعضهم فيها التصحيف، وأن "مليًّا" صُغّرت ميمها، فأشبهت "ثلاثًا"، لأنها تكتب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن في رواية أبي عوانة: فلبثنا ليالي، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ثلاث"، ولابن حبان: "بعد ثالثة"، ولابن منده: "بعد ثلاثة أيام".
وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر رضي الله عنه، لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل، أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عَرَض له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر، إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله:"فلقيني"، وقوله:"فقال لي: يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن
(1)
.
[تنبيه]: دلت الروايات التي تقدّم ذكرها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما عَرَف أنه جبريل، إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل، حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع في رواية النسائي، من طريق أبي فروة، في آخر الحديث:"وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي"، فإن قوله:"نزل في صورة دحية الكلبي"، وَهَمٌ؛ لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: ما يعرفه منا أحد، وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في "كتاب الإيمان" له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي، فقال في آخره:"فإنه جبريل، جاء ليعلمكم دينكم"، فَحَسْبُ، وهذه الرواية هي المحفوظة؛ لموافقتها باقي الروايات. قاله في "الفتح"
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد مسلم، وقد تقدّم سبب عدم إخراج البخاريّ له، فلا تغفل.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 170.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 170 - 171.
أخرجه (المصنّف) رحمه الله تعالى هنا في "الإيمان"(1/ 101) عن أبي خيثمة زهير بن حرب، عن وكيع - (ح) وعن عبيد الله بن معاذ العنبريّ، عن أبيه - كلاهما عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، حدثني أبي عمر بن الخطاب، فذكره.
و (1/ 102) عن محمد بن عُبيد الْغُبَريّ، وأبي كامل الْجَحْدريّ، وأحمد بن عبدة - ثلاثتهم عن حماد بن زيد، عن مطر الورّاق، عبد الله بن بُريدة به، و (1/ 103) عن حجاج بن الشاعر، عن يونس بن محمد، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن يحيى بن يعمر به.
و (1/ 104) عن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد القطّان، عن عثمان بن غياث، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، وحُميد بن عبد الرحمن كلاهما عن ابن عمر به.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(1/ 27) عن وكيع - وفي (1/ 51)(367) عن محمد بن جعفر، ويزيد بن هارون - و (1/ 52)(368) عن عبد الله بن يزيد - و (أبو داود) في "سننه"(4695) عن عُبيد الله بن معاذ، عن أبيه - و (ابن ماجه)(63) عن عليّ بن محمد، عن وكيع - و (الترمذيّ) في "جامعه"(2610) عن أبي عمّار الحسين بن حُريث الْخُزاعيّ، عن وكيع - (ح) وعن أحمد بن محمد، عن ابن المبارك - (ح) وعن محمد بن المثنّى، عن معاذ بن معاذ - و (النسائيّ) في "سننه"(8/ 97) عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شُميل - و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2504) عن أبي موسى محمد بن المثنّى، عن حسين بن الحسن - ثمانيتهم (وكيع، ومحمد بن جعفر، ويزيد، وعبد الله بن يزيد، ومعاذ، وعبد الله بن المبارك، والنضر، وحسين) عن كهمس بن الحسن -.
و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(26) عن أبي النعمان، عن حمّاد بن زيد، عن مطر الورّاق - كلاهما (كهمس، ومطر) عن عبد الله بن بريدة به.
و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(74 و 75 و 76 و 77 و 78 و 79 و 80 و 81 و 82 و 83 و 84).
و (ابن خزيمة)(3065) قال: عن أبي يعقوب يوسف بن واضح الهاشميّ، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن يحيى بن يعمر به،
وفيه:
…
قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحجّ البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وأن تُتمّ الوضوء، وتصوم رمضان، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، قال: صدقت
…
" الحديث.
وأخرجه (أحمد)(1/ 27)(184) و (المصنّف)(1/ 103) عن محمد بن حاتم - و (أبو داود)(4696) عن مسدّد، ثلاثهم (أحمد، ومحمد، ومسدّد) عن يحيى بن سعيد القطّان، عن عثمان بن غياث، قال: حدّثني عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، فذكره.
وزاد فيه: "سأل رجلٌ من جهينة، أو مزينة، فقال: يا رسول الله، فيم نعمل، أفي شيء قد خلا أو مضى، أو في شيء يُستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا، أو مضى، فقال رجل، أو بعض القوم: يا رسول الله، فيم نعمل؟ قال: أهل الجنّة ييسّرون لعمل أهل الجنّة، وأهل النار ييسّرون لعمل أهل النار"
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
وأخرجه أبو داود (4697) عن محمود بن خالد، عن الفِرْيابيّ، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بُريد، عن ابن يعمر، بهذا الحديث يزيد وينقص، فذكره بعضهم في مسند عمر رضي الله عنه، وليس كذلك فإن رواية سليمان بن بريدة من مسند ابن عمر، لا من مسند عمر رضي الله عنهما، ودونك نصّه في "مسند الإمام أحمد" رحمه الله تعالى:
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن ابن يعمر قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إنا نسافر في الآفاق، فنَلْقَى قومًا يقولون: لا قدر، فقال ابن عمر: إذا لقيتموهم فأخبروهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء، وأنهم منه برآء، ثلاثًا، ثم أنشأ يحدث بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل، فذكر من هيئته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادنه"، فدنا، فقال:"ادنه"، فدنا، فقال:"ادنه"، فدنا حتى كاد ركبتاه تمسان ركبتيه، فقال: يا رسول الله أخبرني ما الإيمان؟ أو عن الإيمان؟ قال: "تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر"، قال سفيان: أراه قال: "خيره وشره"، قال: فما الإسلام؟ قال: "إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، وغسل من الجنابة"، كل ذلك قال: صدقت صدقت، قال القوم: ما رأينا رجلًا أشد توقيرًا =
(المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): ما ساقه المصنّف رحمه الله تعالى من أجله، وهو بيان شرح الإسلام، والإيمان، والإحسان، وغير ذلك، ولذا يَصْلُح، أن يقال هذا الحديث أُمُّ السنة؛ لما تضمنه من جُمَل علم السنة، كما سُمّيت الفاتحة أم الكتاب؛ لِمَا تضمّنته من جُمل معاني القرآن. قاله القرطبيّ، وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي، كتابيه "المصابيح"، و"شرح السنة"؛ اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالًا.
وقال القاضي عياض: قد اشتمل هذا الحديث، على جميع وظائف
= لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا، كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله أخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله، أو تعبده كأنك تراه، فإن لا تراه فإنه يراك"، كل ذلك نقول: ما رأينا رجلًا أشد توقيرًا لرسول الله من هذا، فيقول: صدقت صدقت، قال: أخبرني عن الساعة، قال:"ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل"، قال: فقال: صدقت، قال ذلك مرارًا، ما رأينا رجلًا أشد توقيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا، ثم ولَّى، قال سفيان: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوه"، فلم يجدوه، قال:"هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم، ما أتاني في صورة إلا عرفته، غير هذه الصورة".
حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن ابن يعمر قال: سألت ابن عمر، أو سأله رجل، إنا نسير في هذه الأرض، فنلقى قومًا يقولون: لا قدر، فقال ابن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء، وهم منه برآء، قالها ثلاث مرات، ثم أنشأ يحدثنا، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله أدنو؟ فقال: "ادنه"، فدنا رَتْوَةً، ثم قال: يا رسول الله أدنو؟ فقال: "ادنه"، فدنا رَتْوَة، ثم قال: يا رسول الله أدنو؟ فقال: "ادنه"، فدنا رتوة، حتى كادت أن تمس ركبتاه ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟
…
، فذكر معناه. انتهى.
فهذا صريح، بأن رواية سفيان من مسند ابن عمر، لا من مسند عمر رضي الله عنهما، هذا هو الصواب في هذه الرواية.
لكن الذي يظهر لي أن كونه من مسند عمر رضي الله عنه، هو الأرجح؛ لأَنَّ رواته أوثق، وأكثر، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.
العبادات، الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، ابتداءً، وحالًا، ومآلًا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه. قال: وعلى هذا الحديث، وأقسامه الثلاثة، ألّفنا كتابنا الذي سمّيناه بـ"المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان"، إذ لا يشذّ شيء من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات عن أقسامه الثلاثة. انتهى.
2 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: في جملة هذا الحديث إنكار صدر هذه الأمة مقالة أهل القدر، وأنها محدثةٌ وبدعة، كما جاء في الحديث: أول من تكلم به معبد بالبصرة.
3 -
(ومنها): أن فيه فَزَعَ السلف في الأمور الطارئة عليهم في الدين إلى ما عند أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ هم الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، ولمَا عندهم عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك من علم وأثر، ولهذا نَقَل مالك رحمه الله في "جامعه" من قول الصحابة رضي الله عنهم في هذا ما نَقَل.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على استحباب تحسين الثياب والهيئة، والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك، فإن جبريل عليه السلام أتى معلّمًا للناس، كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون تعليمه بحاله ومقاله.
5 -
(ومنها): ابتداء الداخل بالسلام على جميع من دخل عليه، وإقباله على رأس القوم، فإنه قال: السلام عليكم، فعمّ، ثم قال: يا محمد، فخصّ
(1)
.
6 -
(ومنها): أن فيه أن المَلَكَ يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله عليه وسلم، فيراه، ويتكلم بحضرته، وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أنه كان يسمع كلام الملائكة.
7 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الله تعالى مكّن الملائكة من أن يتمثّلوا فيما شاؤوا من صُور بني آدم، كما نصّ الله عز وجل على ذلك في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وقد كان جبريل عليه السلام يتمثّل للنبيّ صلى الله عليه وسلم في
(1)
"المفهم" 1/ 138 - 139.
صورة دحية بن خليفة الكلبيّ رضي الله عنه، وقد كان لجبريل صورة خاصّة، خُلق عليها، لم يره النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها غير مرّتين، كما صحّ الحديث بذلك
(1)
.
8 -
(ومنها): جواز الاستئذان في القرب من الإمام مرارًا، وإن كان الإمام في موضع مأذون في دخوله.
9 -
(ومنها): ترك الاكتفاء بالاستئذان مرّة، أو مرّتين على جهة التعظيم، والاحترام.
10 -
(ومنها): جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع من المسجد، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لضرورة التعليم، أو غيره؛ لما يأتي في حديث الباب التالي:"فبنينا له دكّانًا من طين، كان يجلس عليه".
11 -
(ومنها): أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجةً إلى مسألة، لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها؛ ليحصل الجواب للجميع.
12 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل، ويُدنيه منه؛ ليتمكّن من سؤاله، غير هائب، ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله.
13 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا سئل عما لا يعلم، أن يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته، بل يكون ذلك دليلًا على مزيد ورعه. قاله النوويّ رحمه الله تعالى.
14 -
(ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى: مقصود هذا السؤال كَفُّ السامعين عن السؤال، عن وقت الساعة؛ لأنهم قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في كثير من الآيات، والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذُكر هنا، حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة، ليتعلمها السامعون، ويعملوا بها، ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته، مما لا يمكن.
15 -
(ومنها): ما قاله ابن الْمُنَيِّر رحمه الله تعالى: في قوله: "يعلمكم دينكم"، دلالة على أن السؤال الحسن، يُسَمَّى علمًا وتعليمًا؛ لأن جبريل عليه السلام
(1)
"المفهم" 1/ 152.
لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم معلمًا، وقد اشتهر قولهم:"حُسنُ السؤال نصف العلم"، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الفائدة فيه انْبَنَتْ على السؤال والجواب معًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في إتمام البحث المتعلّق بتفسير الإحسان.
قال في "الفتح": دل سياق الحديث، على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فذاك لدليل آخر، وقد صرح مسلم في روايته، من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:"واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لربه يَقَظَةً ببصره مسألة اختُلف فيها، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في محلّه، مع ترجيح القول بعدمها؛ لقوة أدلته. والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح البخاريّ": وأما الإحسان ففسّره بنفوذ البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان، ومراتبه، ولتفاوت المؤمنون، والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتًا كثيرًا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان، وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ههنا بقوله:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قيل: المراد أن نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربّه كأنه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه، وشقّ عليه انتقل إلى مقام آخر، وهو أن يعبد الله على أن الله يراه، ويطلع على سرّه وعلانيته، ولا يخفى عليه شيء من أمره. وقد وصّى النبيّ صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه، منهم ابن عمر، وأبو ذرّ رضي الله عنهم، ووصّى معاذًا رضي الله عنه أن يستحيي من الله كما يستحي من رجل ذي هيبة من أهله.
قال بعض السلف: من عمل لله على المشاهدة، فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص، فهذان مقامان:
[أحدهما]: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه، واطّلاعه عليه، فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله تعالى، فيراقبه في حركاته،
وسكناته، وسرّه، وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان.
[والثاني]: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنه يرى الله، ويُشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين، وحديث حارثة رضي الله عنه هو من هذا المعنى
(1)
، فإنه قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوَوْن فيها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"عرفت، فالزم، عبدٌ نوّر الله الإيمانَ في قلبه". وهو حديث مرسلٌ، وقد روي مسندًا بإسناد ضعيف.
وكذلك قول ابن عمر لعروة لَمّا خطب إليه ابنته في الطواف، فلم يَرُدّ عليه، ثم لقيه، فاعتذر إليه، وقال كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض: يقول الله: ما أنا مطّلع على أحبابي إذا جنّهم الليل، جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومَثَلتُ نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلّموني على حضوري.
وبهذا فُسّر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، ومثله قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].
قال أبيّ بن كعب وغيره من السلف: مثل نوره في قلب المؤمن. فمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان، وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان، فعرف ربّه، وأَنِس به في خلوته، وتنعّم بذكره ومناجاته ودعائه، حتى ربما استوحش من خلقه، كما قال بعضهم: عجبت للخليقة كيف أَنَسَتْ بسواك؟ بل عجبتُ للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك. وقيل لآخر: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش، وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟ وقيل
(1)
لكن الحديث ضعيف، كما سيأتي قريبًا.
لآخر: أما تستوحش وحدك؟ قال: ويستوحش مع الله أحد؟ وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقول: من لم تقرّ عينه بك، فلا قرّت عينه، ومن لم يأنس بك، فلا أَنِس. وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله جليسه. وقال معروف لرجل: توكّل على الله حتى يكون جليسك، وأنيسك، وموضع شكواك. وقال ذو النون: علامة المحبّين لله أن لا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا معه، ثم قال: إذا سكن القلبَ حبُّ الله أنس بالله؛ لأن الله أجلّ في صدور العارفين أن يُحبّوا غيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه" إشارةٌ إلى أن العابد يتخيّل ذلك في عبادته، لا أنه يراه حقيقة ببصره، ولا بقلبه.
وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانًا، كما تراه الأبصار في الآخرة، كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفيّة، فهو زعم باطلٌ، فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة، كأبي ذرّ، وابن عباس، وغيرهما، ورُوي عن عائشة أيضًا أنه حصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم مرّتين.
وروي في ذلك أحاديث مرفوعة أيضًا، وكذا قال جماعة من التابعين: إنه رآه بقلبه، منهم الحسن، وأبو العالية، ومجاهد، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وإبراهيم التيميّ، فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم، لم يكن في تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك مزيّة، له، لا سيما وإنما قالوا: إنها حصلت له مرّتين؛ فإن هؤلاء الصوفيّة يزعمون أن رؤية القلب تصير حالًا، ومقامًا دائمًا، أو غالبًا لهم، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء، ويتفرّع على ذلك أنواع من الضلالات، والمحالات، والجهالات، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فهذه المقامات الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان، يشملها اسم الدين، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار، وإن دخلها بذنوبه، ومن استقام على الإحسان إلى الموت، وصل إلى الله عز وجل، قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقد فسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله، أخرجه مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه. انتهى كلام
الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى وهو بحث نفيس
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أن تلد الأمة ربتها".
قال الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": وقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا، في معنى ذلك، قال ابن التين: اختلف فيه على سبعة أوجه: فذكرها، لكنها متداخلة، وقد لخصتها بلا تداخل، فإذا هي أربعة أقوال:
[الأول]: قال الخطابي: معناه اتساع الإسلام، واستيلاد أهله على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية، واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها؛ لأنه ولد سيدها. قال النووي، وغيره: إنه قول الأكثرين.
قال الحافظ: لكن في كونه المرادَ نظرٌ؛ لأن استيلاد الإماء كان موجودًا، حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، واتخاذهم سراريّ، وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع، مما سيقع قرب قيام الساعة، وقد فسره وكيع في رواية ابن ماجه، بأخصّ من الأول، قال: أن تلد العجم العرب، ووجهه بعضهم بأن الإماء يلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيد رعيته، وهذا لإبراهيم الحربي، وقَرَّبَهُ بأن الرؤساء في الصدر الأول، كانوا يستنكفون غالِبًا من وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر، ولا سيما في أثناء دولة بني العباس، ولكن رواية:"ربتها" بتاء التأنيث، قد لا تساعد على ذلك، ووجهه بعضهم بأن إطلاق ربتها على ولدها مجاز؛ لأنه لما كان سببًا في عتقها بموت أبيه، أطلق عليه ذلك، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر، فقد يُسبَى الولد أولًا، وهو صغير، ثم يُعتَق، ويكبر، ويصير رئيسًا، بل ملكًا، ثم تُسبى أمه فيما بعدُ، فيشتريها عارفًا بها، أو وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها، أو يتخذها موطوءة، أو يُعتقها ويتزوجها، وقد جاء في بعض الروايات:"أن تلد الأمة بَعْلها"، وهي عند مسلم، فتُحمل على هذه الصورة، وقيل: المراد بالبعل المالك، وهو أولى؛ لتتفق الروايات.
(1)
"شرح البخاري" 1/ 211 - 215.
[الثاني]: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول الْمُلّاك المستولدة، حتى يشتريها ولدها، ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية.
[فإن قيل]: هذه المسألة مختلف فيها، فلا يصلح الحمل عليها؛ لأنه لا جهل، ولا استهانة عند القائل بالجواز.
[قلنا]: يصلح أن يحمل على صورة اتفاقية، كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع.
[الثالث]: وهو من نمط الذي قبله، قال النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يُتصور في غيرهن، بأن تلد الأمة حُرًّا من غير سيدها، بوطء شمبهة، أو رقيقًا بنكاح، أو زنًا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعًا صحيحًا، وتدور في الأيدي، حتى يشتريها ابنها، أو ابنتها، ولا يُعَكِّرُ على هذا تفسير محمد بن بشر، بأن المراد السراري، لأنه تخصيص بغير دليل.
[الرابع]: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه، معاملة السيد أمته، من الإهانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأُطلق عليه ربها مجازًا لذلك، أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة.
قال الحافظ: وهذا أَوْجَهُ الأَوْجُه عندي؛ لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال، مستغربةً.
ومُحَصَّله الإشارة إلى أن الساعة، يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير الْمُرَبَّى مُرَبّيًا، والسافل عالِيًا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى:"أن تصير الْحُفَاة ملوكَ الأرض". انتهى "فتح" 1/ 167 - 168 وهو تحقيق نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في تكميل ما سبق من مباحث القدر.
قال الإمام النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": (واعلم): أن مذهب أهل الحقّ إثباتَ القدر، ومعناه أن الله تبارك وتعالى قَدّرَ الأشياء في القِدَم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قَدَّرَها سبحانه وتعالى، وأنكرت القدرية هذا،
وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يُقَدِّرها، ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مُسْتَأنفَةُ العلم، أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها، وكَذَبُوا على الله نسبحانه وتعالى وجلّ عن أقوالهم الباطلة عُلُوًّا كبيرًا، وسُمِّيت هذه الفرقة قدرية، لإنكارهم القدر.
قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يَبْقَ أحدٌ من أهل القبلة عليه، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من الله، والشر من غيره، تعالى الله عن قولهم.
وقد حَكَى أبو محمد بن قتيبة في كتابه "غريب الحديث"، وأبو المعالي، إمام الحرمين في كتابه "الإرشاد" في أصول الدين أن بعض القدرية قال: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية؛ لاعتقادكم إثبات القدر، قال ابن قتيبة، والإمام: هذا تمويهٌ من هؤلاء الجهلة، ومباهتة، وتواقُحٌ، فإن أهل الحق يُفَوِّضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويُضِيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومُدَّعِي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن يُنسَب إليه، ممن يعتقده لغيره وينفه عن نفسه.
قال الإمام: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة"، شَبَّهَهم بهم؛ لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة، كما قَسَّمَت المجوس، فصرفت الخير إلى "يزدان"، والشر إلى "أهرمن"، ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية، هذا كلام الإمام، وابن قتيبة.
وحديث: "القدريةُ مجوسُ هذه الأمة"، رواه أبو حازم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود في "سننه"، والحاكم، أبو عبد الله في "المستدرك على الصحيحين"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، إن صحّ سماع أبي حازم، من ابن عمر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أبو حازم لم يسمع من ابن عمر رضي الله عنهما، قال ولده ليحيى بن صالح: من حدّثك أن أبي سمع من أحد الصحابة، غير سهل بن سعد رضي الله عنه فقد كذب، قاله في "التهذيب"
(1)
.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 71.
وعليه فالحديث منقطع، لكن أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي لا يردان الحوض، ولا يدخلون الجنة: القدريّة، والمرجئة"، وفي لفظ:"القدريّة، والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مَرِضُوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم".
وقد حسّنه الشيخ الألباني رحمه الله، وأحسن في ذلك، راجع:"السلسلة الصحيحة" 6/ 563 - 564 رقم (2748).
والحاصل أن الحديث صحيح لغيره، والله تعالى أعلم.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسًا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين: النورِ والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشرّ من فعل الظلمة، فصاروا ثُنَوِيّةً، وكذلك القدرية يُضيفون الخير إلى الله تعالى، والشرّ إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعًا، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقًا وإيجادًا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلًا واكتسابًا. والله أعلم.
وقال الخطابيّ رحمه الله أيضًا: وقد يَحسبَ كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبدَ وقهره على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدّم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها، خيرِها وشرّها، قال: والقدر اسم لِمَا صَدَرَ مُقَدَّرًا عن فعل القادر، يقال: قَدَرتُ الشيءَ، وقَدَّرته بالتخفيف والتثقيل، بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]: أي خلقهنّ.
قال النوويّ رحمه الله: وقد تظاهرت الأدلة القطعيات، من الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وأهل الْحَلِّ والْعَقْد، من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه، ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد، كتابُ الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقيّ رحمه الله تعالى، وقد قَرَّر أئمتنا من المتكلمين ذلك أحسن تقرير، بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح صحيح مسلم" للنوويّ 1/ 154 - 155.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وقد روي عن مالك رحمه الله أنه فسّر مذهب القدريّة بنحو ذلك
(1)
، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة، وهو الذي أنكره ابن عمر رضي الله عنهما، ولا شكّ في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جَحْدُ معلوم من الشرع ضرورةً، ولذلك تبرّأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تُقبل منهم أعمالهم، ولا نفقاتهم، وأنهم كما قال الله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 54].
وهذا مذهب طائفة منهم تُسمّى السُّكبيّة
(2)
، وقد تُرك اليوم، فلا يُعرف من يُنسب إليه من المتأخّرين، من أهل البدع المشهورين.
والقدريّة اليوم مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، ومعنى القدر عند القائلين به اليوم أن أفعال العباد مقدورةٌ لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أَخفّ من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سَلَّم القدريُّ العلمَ خُصِم - يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم -، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل لِلَّه، تعالى الله عن ذلك. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ أيضًا: والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدّم ذكره، وحاصله هو ما دلّ عليه قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافّات: 96]، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]، وقوله:
(1)
يعني ما سبق من أنه تعالى عَلِمَ مقادير الأشياء، وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجد على نحو ما سبق في علمه، فلا مُحْدَثَ في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادر عن علمه تعالى، وقدرته، وإرادته.
(2)
هذه الفرقة هكذا ذكرها القرطبيّ بهذا الاسم في "المفهم" 1/ 132، ولكن لم يذكرها أصحاب كتب النحل والملل بهذا الاسم، ولا يُدرى من هي؟ والله تعالى أعلم. راجع: هامش "المفهم" 1/ 132.
(3)
راجع: "المفهم" 1/ 132 - 133 مع "الفتح" 1/ 162 - 163.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس". رواه مسلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في "العقيدة الواسطيّة": وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشرّه، والإيمان بالقدر على درجتين، كلّ درجة تتضمّن شيئين:
فالدرجة الأولى بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفّت الأقلام، وطُويت الصحف، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22]، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه وتعالى يكون في مواضع جملة وتفصيلًا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ، أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غُلاة القدريّة قديمًا، ومنكروه اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات، وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه ما لا يُريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات، والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره، ولا ربّ سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه وتعالى يحبّ المتّقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات، ولا يُحبّ الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبّ الفساد، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر، والبرّ، والفاجر، والمصلّي، والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وقدرَتهم، وإرادَتَهم، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28 - 29].
وهذه الدرجة من القدَر يُكَذّب بها عامّة القدريّة الذين سمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته، واختياره، ويخرجون عن أفعال الله، وأحكامه حكمها، ومصالحها. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو نفيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة):
(اعلم): أن هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ، ودليلٌ عميمٌ، يقطع دابر أهل الأهواء المضلّة، وأرباب السَّفَه والذِّلّة من المعتزلة، والمتكلّمين الذين هم أذناب الفلاسفة الْجَهَلَة، أرباب الغواية السَّفَلَة، الذين لا يرون المؤمن مؤمنًا إلا الذي آمن بالقواعد التي أسّسوها، ودسّوها بين أهل الإسلام، وأوهموا أنها المعنيّة بنصوص الكتاب والسنّة، وأن من لم يسلك سبيلها فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا، وهذا زور وبهتان، وكذب وافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قام المحقّقون من المتقدّمين والمتأخرين من أهل السنة بتفنيد آرائهم الزائفة، ودحض حُجَجِهِمْ الكاسفة، وألقموهم الحجر الْجُلْمُود، ونَبَزُوهم بأنهم أهل الضلال والجحود، وأنا أذكر - بعون الله تعالى - خلاصة أقوالهم، ولباب أَفْهَامِهِمْ التي دلّ عليها الكتاب وصحاح السنّة، وعرفها وحققها العقلاء، وإن جحدها ونبذها الجهلاء - اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، آمين -.
قال العلامة القرطبيّ رحمه الله تعالى: مذهب السلف وأئمة الفتوى من الخلف، أن من صدّق بهذه الأمور تصديقًا جزمًا، لا ريب فيه ولا تردّد، ولا توقّف، كان مؤمنًا حقيقة، وسواء كان ذلك عن براهين ناصعة، أو عن
اعتقادات جازمة، على هذا انقرضت الأعصار الكريمة، وبهذا صرّحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة، حتى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة، فقالوا: إنه لا يصحّ الإيمان الشرعيّ إلا بعد الإحاطة بالبراهين العقليّة والسَّمْعِيَة، وحصول العلم بنتائجها ومطالبها، ومن لم يحصُل إيمانه كذلك فليس بمؤمن، ولا يجزئ إيمانه بغير ذلك، وتبعهم على ذلك جماعة من متكلّمي أصحابنا، كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفرايينيّ، وأبي المعالي في أول قوليه، والأول هو الصحيح؛ إذ المطلوب من المكلّفين ما يقال عليه: إيمان، كقوله تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الفتح: 13]، والإيمان هو التصديق لغةً وشرعًا، فمن صدّق بذلك كلّه، ولم يجوّز نقيض شيء من ذلك، فقد عمل بمقتضى ما أمره الله تعالى به على نحو ما أمره الله تعالى، ومن كان كذلك، فقد تَفَصَّى عن عهدة الخطاب؛ إذ قد عمل بمقتضى السنّة والكتاب؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده حكموا بصحّة إيمان كلّ من آمن وصدّق بما ذكرناه، ولم يفرّقوا بين من آمن عن برهان، أو غيره؛ ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر، ولا سألوهم عن أدلّة تصديقهم، ولا أرجأوا إيمانهم حتى ينظروا، وتحاشوا عن إطلاق الكفر على أحد منهم، بل سمَّوهم المؤمنين، والمسلمين، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام؛ ولأن البراهين التي حرّرها المتكلّمون، ورتّبها الجدليّون، إنما أحدثها المتأخّرون، ولم يَخُض في شيء تلك الأساليب السلف الماضون، فمن المحال والْهَذَيَان أن يُشترط في صحّة الإيمان ما لم يكن معروفًا ولا معمولًا به لأهل ذلك الزمان؟ وهم من هم؟ فهمًا عن الله تعالى، وأخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغًا لشريعته، وبيانًا لسنّته وطريقته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى، وهو نفيسٌ جدًّا
(1)
.
وقد ذكر الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح" عند شرح حديث بَعْثِ معاذ رضي الله عنه إلى اليمن، فقال عند قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله، فإذا عرفوا ذلك
…
" الحديث، ما نصّه: وقد تمسك به من قال: أول واجبٍ المعرفةُ، كإمام الحرمين، واستَدَلّ بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من
(1)
"المفهم" 1/ 145 - 146.
المأمورات على قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار، إلا بعد معرفة الآمر والناهي.
واعتُرِض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب، فيجب، فيكون أول واجبٍ النظرُ، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك.
وتُعُقّب بأن النظر ذو أجزاء، يترتب بعضًا على بعض، فيكون أول واجب جزأ من النظر، وهو محكيّ عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايينيّ: أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال، بأن من قال: أول واجب المعرفة، أراد طلبًا وتكليفًا، ومن قال: النظر، أو القصد أراد امتثالًا؛ لأنه يُسَلّم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة.
قال: وقد ذكرتُ في "كتاب الإيمان" من أعرض عن هذا من أصله، وتَمَسَّكَ بقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وحديث: "كلُّ مولود يولد على الفطرة
…
"، فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يُهَوّدانه، وينصرانه".
وقد وافق أبو جعفر السمناني، وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا، وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري، من مسائل المعتزلة، وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. انتهى.
قال: وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه: إن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب، وتباينت بين مُفَرِّط، ومُفْرِط، ومتوسط:
فالطرف الأول: قول من قال: يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى، ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري، وجماعة من الحنابلة، والظاهرية، ومنهم من بالغ، فَحَرَّم النظر في الأدلة، واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار، من ذم الكلام كما سيأتي بيانه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا المذهب هو الحقّ الذي كان عليه السلف الصالح، كما سبق في كلام القرطبيّ، ويأتي أيضًا، فليس فيه تفريط، كما يدلّ عليه كلام العلائيّ هذا، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، ونسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.
قال: والطرف الثاني: قول من وقَفَ صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة، من علم الكلام، ونُسب ذلك لأبي إسحاق الإسفرايينيّ، وقال الغزالي: أسرفت طائفة، فكَفَّروا عوامّ المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية، بالأدلة التي حرّروها، فهو كافر، فضيّقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر ابن السمعانيّ، وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تكلف العوامّ اعتقاد الأصول بدلائلها؛ لأن في ذلك من المشقة أشدّ من المشقة في تعلم الفروع الفقهية.
قال: وأما المذهب المتوسط، فذكره، وسأذكره مُلَخَّصًا بعد هذا.
وقال القرطبي في "المفهم" في شرح حديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"، وهو في أوائل "كتاب العلم" من "صحيح مسلم": هذا الشخص الذي يبغضه الله، هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشُّبَه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية، ينشأ بسببها على الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يَعجِز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالًا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة، لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها، لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعًا من المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ ولا الأطفال، لَمَّا بحثوا عن تَحَيُّز الجواهر، والأكوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عنه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم بحثٌ واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها في نفسها، وهل هي
الذات أو غيرها؟ وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟ وعلى الثاني، هل ينقسم بالنوع، أو الوصف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور، مع كونه حادثًا؟ ثم إذا انعدم المأمور، فهل يبقى ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلًا، هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة، التي لم يأمر الشارع بالبحث عنها، وسكت عنها الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ومن توقف في هذا، فليعلم أنه إذا كان حُجِب عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء، أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزه عن الشبيه، مقدس عن النظير، متصف بصفات الكمال.
ثم متى ثبت النقل أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه، وما لم يتعرّضوا له، سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه، وهذه طريقة السلف، وما سواها مَهَاوٍ وتَلَف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين، ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من جعل دينه غَرَضًا للخصومات، أكثر الشغل، والدين قد فُرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تُمَكِّنْ زائغَ القلب من أُذُنك، فإنك لا تدري ما يَعلق من ذلك. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لأن يُبتلَى العبد بكلّ ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام، وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمّى، أو غير المسمّى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يُضربُوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن
عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضِيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلّمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئسما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خَرَّجَهُ الترمذيّ:"ما ضلّ قوم بعد هُدًى كانوا عليه إلا أوتوا الْجَدَل"، وقال: إنه صحيح
(1)
.
قال: وقد رجع كثير من أئمة المتكلّمين عن الكلام، بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لَمّا لطف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه، فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي إمام الحرمين (ت 478 هـ)، فقد حَكَى عنه الثقات أنه قال: لقد خلّيت أهل الإسلام وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء، نَهَى عنه أهل العلم رغبةً في طلب الحق، وهربًا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحقّ، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الْجُوَينيّ.
وفي رواية عنه أنه قال عند موته: لقد خُضتُ البحر الخِضَمّ، وخلّيتُ أهل الإسلام وعلومهم، ودخلتُ فيما نَهَوْني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالوليل لابن الجوينيّ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: عقيدة عجائز نيسابور.
وقال لأصحابه عند موته: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغتُ، ما تشاغلت به
(2)
.
وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسيّ خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم مني؟ قالوا: لا، قال: فتَتَّهِموني؟ قالوا:
(1)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: حسن. انظر: "صحيح الجامع الصغير" 2/ 984.
(2)
راجع: "مجموع الفتاوى" 4/ 73.
لا، قال: فإني أوصيكم، أفتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحقّ معهم.
وقال أبو الوفاء ابن عَقِيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عُدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب.
وهذا الشهرستاني، صاحب "نهاية الإقدام في علم الكلام" وَصَفَ حاله فيما وصل إليه من علم الكلام، وما ناله، فتمثّل بما قاله [من الطويل]:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَصَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارعٍ سِنَّ نَادِمِ
ثم قال: عليكم بدين العجائز، فإنه أسنى الجوائز.
ولقد أجاد الإمام الصنعانيّ محمد بن إسماعيل صاحب "سبل السلام" رحمه الله حيث ردّ عليه فقال [من الطويل]:
لَعَلَّكَ أَهْمَلْتَ الطَّوَافَ بِمَعْهَدِ الرْ
…
رَسُولِ وَمَنْ وَالَاهُ مِنْ كُلِّ عَالِم
فَمَا حَارَ مَنْ يَهْدِي بِهَدْيِ مُحَمَّدِ
…
وَلَسْتَ تَرَاهُ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: لو قال: وَوَاللهِ أَهْمَلْتَ إلخ، لكان أولى من "لعلّك" كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
وهذا أبو حامد الغزاليّ مع فَرْط ذكائه وتألّهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسُلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوّف، ينتهي في هذه المسائل إلى الوَقْف والْحَيْرة، ويُحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنّف "إلجام العوامّ عن علم الكلام"
(2)
.
وقال الفخر الرازيّ في كتابه الذي صنّفه في أقسام اللَّذَّات، وقد ذكر أنواعها وأن أشرفها لذّة العلم والمعرفة، وأشرف العلوم العلم الإلهي لشرف معلومه، وشدّة الحاجة إليه، وأنه على ثلاثة أقسام: العلم بالذات، وعليه عُقْدَةٌ، وهي أن الوجود هل هو الماهيّة، أو زائد عليها، والعلم بالصفات، وعليه عُقْدَةٌ، وهي أن الصفات هل هي أمور وجوديّة زائدة على ذات
(1)
"ديوان الصنعاني" ص 345.
(2)
راجع: "مجموع الفتاوى" 4/ 72.
الموصوف، أم ليست بزائدة على الذات؟ والعلم بالأفعال، وعليه عُقْدَةٌ، وهي هل الفعل مقارن للفاعل، أو متراخٍ عنه؟ ثم قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب؟ ثم أنشد [من الطويل]:
نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكْثَرُ سَعْي الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا
…
رِجَالٌ فَمَاتُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ
لقد تأملتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتها تَشْفِي عَلِيلًا، ولا ترْوي غَليلًا، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، واقرأ في النفي قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، و {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، ثم قال: ومَنْ جرّب مثل تجربتي عَرَف مثل معرفتي.
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله بعد نقل كلام الرازيّ هذا ما نصّه: فليتأمّل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من الْعِبَر، فإنه لم يأت في المتأخّرين من حصّل من العلوم العقليّة ما حصّله، ووقف على نهاية أقدام العقلاء، وغايات مباحث الفضلاء، وضرب بعضها ببعض، ومَخَضَها أشدّ الْمَخْض، فما رآها تشفي علّة داء الجهالة، ولا تروي غُلّة ظمإ الشوق والطلب، وأنها لم تَحُلّ عنه عُقْدة واحدة من هذه العُقَد الثلاث التي عقدها أرباب المعقولات على قافية القلب، فلم يستيقظ لمعرفة ذات الله ولا صفاته ولا أفعاله، وصدق والله، فإنه شاكّ في ذات ربّ العالمين هل له ماهيّة غير الوجود المطلق يختصّ بها أم ماهيّته نفس وجوده الواجب؟ ومات ولم تنحلّ له عقدتها، وشاكّ في صفاته، هل هي أمور وجوديّة، أم نِسَبٌ إضافيّة عدميّة؟ ومات ولم تنحلّ له عقدتها، وشاكّ في أفعاله، هل هي مقارنة له أزلًا وأبدًا لم تزل معه أم الفعل متأخّر عنه تأخّرًا لا نهاية لأمده، فصار فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا؟ ومات ولم تنحلّ له عقدتها، فننظر في كتبه الكلاميّة قول المتكلّمين، وفي كتبه الفلسفيّة قول الفلاسفة، وفي كتبه التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقوال هؤلاء بهؤلاء،
وهؤلاء بهؤلاء، ويجلس بينهم حائرًا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وكذلك أفضل أهل زمانه ابن أبي الحديد
(1)
، فإنه مع بحثه ونظره وتصدّيه للردّ على الرازيّ حتى يقول في قصيدة له [من الطويل]:
وَحَقِّكَ لَوْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ قُلْتُ لِلْـ
…
لَذِينَ بِهَا قَدْ كُنْتُ مِمَّنْ أُحِبُّهُ
وَأَفْنَيْتُ عُمْرِي فِي فُنُونٍ دَقِيقَةٍ
…
وَمَا بُغْيَتِي إِلَّا رِضَاهُ وَقُرْبُهُ
أَمَا قُلْتُمُ مَنْ كَانَ فِينَا مُجَاهِدًا
…
سَيُكْرَمُ مَثْوَاهُ وَيَعْذُبُ شُرْبُهُ
أَمَا رَدَّ شَكَّ ابْنِ الْخَطِيبِ وَزَيْفَهُ
…
وَتَمْوِيهَهُ فِي الدِّينِ إِذْ حَلَّ خَطْبُهُ
يعترف بأن المعقولات لم تُعطه إلا حَيْرةً، وأنه لم يَصِل منها إلى يقين، ولا علم حيث يقول [من المديد]:
فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ
…
ضَاعَ دَهْرِي وَانْقَضَى عُمُرِي
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا
…
رَبحَتْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ
قَاتَلَ اللهُ الأُولَى زَعَمُوا
…
أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَرِ
كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا
…
خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَرِ
وقال بعض الطالبين من المتأخّرين، وقد سافر في طلب ربه على هذه الطريق فلم يزدد إلا حيرةً وبُعْدًا من مطلبه حتى قيّض الله له من أخذ بيده، وسلك به على الطريق التي سلك عليها الرسل وأتباعهم، فجعل يَهْتِف بصوته لأصحابه هلمّوا فهذه والله الطريق، وهذه أعلام مكة والمدينة، وهذه آثار القوم لم تنسخها الرياح، ولم تُزلها الأهوية، ثم قال [من الطويل]:
وَكُنْتُ وَصَحْبِي فِي ظَلَامِ مِنَ الدُّجَى
…
نَسِيرُ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ وَلَا نَدْرِي
وَكُنَّا حَيَارَى فِي الْقِفَارِ وَلَمْ يَكُنْ
…
دَلِيلٌ لَنَا نَرْجُوا الْخَلَاصَ مِنَ القَفْرِ
ظِمَاءُ إِلَى وِرْدٍ يَبُلُّ غَلِيلَنَا
…
وَقَدْ قَطَعَ الأعْنَاقَ مِنَّا لَظَى الْحَرِّ
(1)
هو عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائنيّ، أبو حامد المعروف بابن أبي الحديد، وُلد سنة (586 هـ) في المدائن، وهو من غلاة الشيعة، وأعيان المعتزلة، كاتب شاعر، له كتب، منها:"شرح نهج البلاغة"، و"السبع العلويات"، و"شرح الآيات البينات" للفخر الرازيّ، توفي ببغداد سنة (656 هـ). راجع "البداية والنهاية" 13/ 190، و"فوات الوفيات" 1/ 248 - 250، و"الأعلام" 3/ 289.
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَبَدَّى لِنَاظِرِي
…
سَنَا بَارِقٍ يَبْدُو كَخَيْطٍ مِنَ الْفَجْرِ
فَقُلْتُ لِصحْبِي هَلْ تَرَوْنَ الَّذِي أَرَى
…
فَقَالُوا اتَّئِدْ ذَاكَ السَّرَابُ الَّذِي يَجْرِي
فَخَلَّفْتُهُمْ خَلْفِي وَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ
…
فَأَوْرَدَنِي عَيْنَ الْحَيَاةِ لَدَى الْبَحْرِ
فَنَادَيْتُ أَصْحَابِي فَمَا سَمِعُوا النِّدَا
…
وَلَوْ سَمِعُوهُ مَا اسْتَجَابُوا إِلَى الْحَشْرِ
فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سيرهم بما أفادتهم الأدلّة العقليّة من ضدّ اليقين، ومن الحيرة والشّكّ، فمن الذي شكا من القرآن والسنّة، والأدلّة اللفظيّة هذه الشكاية؟ ومن الذي ذكر أنها حيّرته ولم تهده؟ أو ليس بها هَدَى الله أنبياءه ورسله وخِيرةَ خلقه؟ قال تعالى لأكمل خلقه وأوفرهم عقلًا:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} الآية [سبأ: 50].
فهذا أكمل الخلق عقلًا صلوات الله وسلامه عليه يُخبر أن اهتداءه بالأدلة اللفظيّة التي أوحاها الله إليه، وهؤلاء المتهوّكون المتحيّرون يقولون: إنها لا تفيد يقينًا ولا علمًا، ولا هدى، وهذا موضع المثَل المشهور:"رمتني بدائها وانسلّت". انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
، وهو شافٍ كافٍ لمن أراد الهدى والرشاد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال القرطبي رحمه الله: ولو لم يكن في الكلام شيء يُذمُّ به إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذمّ، وجديرًا بالذكر:
[إحداهما]: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله: ركبت البحر.
[والثانية]: قول جماعة منهم إنّ من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرّقوها، والأبحاث التي حرّروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر، فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين، من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره أبيه وأسلافه، حتى لقد أُورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال: لا تُشَنِّع علي بكثرة أهل النار. قال: وقد رَدّ بعض من لم يقل بهاتين المسألتين من المتكلّمين على من قال بهما، بطريق من النظر
(1)
"الصواعق المرسلة" 1/ 165 - 170.
والاستدلال؛ بناء منهم على أن هاتين المسألتين نظريّتان، وهذا خطأ فاحشٌ، فالكلّ يُخَطِّئون: الطائفة الأولى بأصل القول بالمسألتين، والثانية بتسليم أن فسادها ليس بضروريّ، ومن شكّ في تكفير من قال: إن الشكّ في الله تعالى واجب، وأن معظم الصحابة والمسلمين كفّار، فهو كافر شرعًا، أو مُختلّ العقل وضعًا، إذ كلّ واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعيّة الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعيّة، وإن لم يكن كذلك، فلا ضروريّ يُصار إليه في الشرعيّات، ولا العقليّات، عصمنا الله تعالى من بِدَع المبتدعين، وسلك بنا طرُق السلف الماضين.
وإنما طوّلت في هذه المسألة الأنفاس لما قد شاعَ من هذه البدع في الناس، ولأنه قد اغترّ كثير من الجهال بزخرف تلك الأقوال، وقد بذلت ما وجب عليّ من النصيحة، والله تعالى يتولّى إصلاح القلوب الجريحة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ
(1)
.
وقال الآمدي في "أبكار الأفكار": ذهب أبو هاشم من المعتزلة، إلى أن من لا يعرف الله بالدليل، فهو كافر؛ لأن ضد المعرفة النكرةُ، والنكرة كفرٌ، قال: وأصحابنا مجمعون على خلافه، وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقًا، لكن عن غير دليل، فمنهم من قال: إن صاحبه مؤمن عاصٍ بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق، وإن لم يكن عن دليل، وسماه علمًا، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق، وجوب النظر، وقال غيره: من منع التقليد، وأوجب الاستدلال، لم يرد التعمق في طرق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين، من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته أنه يحصل في الذهن، مقدمات ضرورية، تتألف تألفًا صحيحًا، وتنتج العلم، لكنه لو سُئل كيف حصل له ذلك: ما اهتدى للتعبير به، وقيل: الأصل في هذا كله المنع من التقليد، في أصول الدين، وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك، بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة، حتى حصل له القطع
(1)
"المفهم" 6/ 690 - 694، ببعض تغيير من "الفتح".
بها، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، كان مقطوعًا عنده بصدقه، فإذا اعتقده لم يكن مقلدًا؛ لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة، وهذا مستند السلف قاطبة، في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك، وفوّضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قال من قال: إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يُذعن فيسلم، أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن، فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان، فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة، وإلا فطريق السلف أسهل من هذا، كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص، حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك، والله المستعان.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رَدّ من لم يُثبِتِ النبوّة لا يكون بما سلكه المتكلّمون من النظر، وإنما يكون بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتدى به في ذلك أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، من إقامة الحجة على من لم يُثبت نبوته صلى الله عليه وسلم، فليس هذا النفي جديدًا في الأمة، وإنما هو من أول ما جاء الإسلام، فقد قال الله تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} الآية [الرعد: 43]، وقال تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} الآية [الفرقان: 41]، إلى غير ذلك من الآيات، فالطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم في إقناع هؤلاء ونحوهم، وإلزامهم الحجج القاهرة لهم، هو الطريق الصحيح، وأما طريق المتكلمين، فضلالٌ مبين، فتنبّه لهذا هداني الله وإياك إلى الصراط المستقيم.
واحتج بعض من أوجب الاستدلال، باتفاقهم على ذم التقليد، وذكروا الآيات، والأحاديث الواردة في ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال، لا يدري أيّ الأمرين هو الهدى؟ وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل، فهو دعوى لا يُعْمَل بها، وبأن العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه، من ضرورة، أو استدلال، وكل ما لم يكن علمًا فهو جهل، ومن لم يكن عالمًا فهو ضالّ.
والجواب عن الأول أن المذموم من التقليد أخذ قول الغير بغير حجة،
وهذا ليس منه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أوجب اتباعه في كل ما يقول، وليس العمل فيما أمر به، أو نهى عنه داخلًا تحت التقليد المذموم اتفاقًا، وأما من دونه، ممن اتبعه في قول قاله، واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به، فهو المقلّد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون ممدوحًا.
وأما احتجاجهم بأن أحدًا لا يدري قبل الاستدلال، أيّ الأمرين هو الهدى، فليس بمسلم، بل من الناس من تطمئن نفسه، وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة، ومنهم من يتوقف على الاستدلال، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار؛ لقوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، ويجب على كل من استرشده أن يرشده، ويبرهن له الحق، وعلى هذا مضى السلف الصالح، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده.
وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل، توفيقًا من الله وتيسيرًا، فهم الذين قال الله في حقهم:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 7]، وقال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الآية [الأنعام: 125]، وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم، ولا لرؤسائهم، لأنهم لو كَفَر آباؤهم، أو رؤساؤهم لم يتابعوهم، بل يجدون النفرة عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعة، وأما الآيات والأحاديث، فإنما وردت في حق الكفار، الذين اتبعوا من نُهُوا عن اتباعه، وتركوا اتباع من أُمِروا باتباعه، وإنما كلفهم الله الإتيان ببرهان على دعواهم، بخلاف المؤمنين، فلم يَرِد قط أنه أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان، وكل من خالف الله ورسوله، فلا برهان له أصلًا، وإنما كلف الإتيان بالبرهان، تبكيتًا وتعجيزًا، وأما من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقد اتبع الحق الذي أمر به، وقامت البراهين على صحته، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان، أم لا.
وقول من قال منهم: إن الله ذكر الاستدلال، وأمر به مُسَلَّم، لكن هو فعل حسن مندوب لكل من أطاقه، وواجب على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق، كما تقدم تقريره. وبالله التوفيق.
وقال غيره: قول من قال: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم،
ليس بمستقيم؛ لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف، هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع المجازات، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف، والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له، والخضوع لأمره، والتسليم لمراده، وليس من سلك طريق الخلف واثقًا بأن الذي يتأوله هو المراد، ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم في العلم، فزادوا في التعريف: عن ضرورة، أو استدلال، وتعريف العلم انتهى عند قوله:"عليه"، فإن أبوا إلا الزيادة، فليزدادوا:"عن تيسير الله له ذلك، وخلقه ذلك المعتقد في قلبه"، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع، فلا دلالة فيه، وبالله التوفيق.
وقال أبو المظفر بن السمعاني رحمه الله: تعقب بعض أهل الكلام قول من قال: إن السلف من الصحابة والتابعين، لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد، بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث، وقد قبل الفقهاء ذلك، واستحسنوه، فَدَوَّنوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام، بأنه يتضمن الردّ على الملحدين، وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ، ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت صدقه، إلا بأدلة العقل.
وأجاب: أما أوّلًا، فإن الشارع والسلف الصالح نَهَوا عن الابتداع، وأَمَرُوا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نَهَوْا عن علم الكلام، وعدُّوه ذريعة للشك والارتياب، وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها، إلا من ترك النص الصحيح، وقدم عليه القياس، وأما من اتبع النص، وقاس عليه، فلا يحفظ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك؛ لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي، وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم، فمن ثَمَّ تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك، بخلاف علم الكلام.
وأما ثانيًا: فإن الدين كمل؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فإذا كان أكمله وأتمه، وتلقاه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقده من تلقى عنهم، واطمأنت به نفوسهم، فأيُّ حاجة بهم إلى تحكيم العقول،
والرجوع إلى قضاياها، وجعلها أصلًا، والنصوص الصحيحة الصريحة تُعرَض عليها، فتارة يُعْمَلُ بمضمونها، وتارة تحرف عن مواضعها؛ لتوافق العقول، وإذا كان الدين قد كَمُل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانًا في المعنى، مثل زيادة أصبع في اليد، فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك.
وقد توسط بعض المتكلمين، فقال: لا يكفي التقليد، بل لا بد من دليل ينشرح به الصدر، وتحصل به الطمأنينة العلمية، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية، بل يكفي في حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه. انتهى.
والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص، كافٍ في هذا القدر.
وقال بعضهم: المطلوب من كل أحد التصديق الجزميّ، الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى، والإيمان برسله، وبما جاؤوا به، كيفما حصل، وبأي طريق إليه يوصل، ولو كان عن تقليد محض، إذا سلم من التزلزل.
وقال القرطبي رحمه الله: هذا الذي عليه أئمة الفتوى، ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة، وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب، ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام، من غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل مّا، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعًا من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب، بأن نبيًّا سيبعث، وينتصر على من خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم، بادروا إلى الإسلام، وصدّقوه في كل شيء قاله ودعاهم إليه، من الصلاة، والزكاة، وغيرهما، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه، من رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم، فلا يزالون يزدادون إيمانًا ويقينًا.
وقال أبو المظفر ابن السمعاني أيضًا ما مُلَخَّصه: إن العقل لا يوجب شيئًا، ولا يحرم شيئًا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم، ما وجب على أحد شيء؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وغير ذلك من الآيات، فمن زعم أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما
كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول، ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالًا، ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك، حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات؛ لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب، والأحاديث الصحيحة، التي تواترت، ولو بالطريق المعنويّ، ولو كان كما يقول أولئك، لبطلت السمعيات، التي لا مجال للعقل فيها، أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته، على وفق مراد الله سبحانه وتعالى. انتهى.
ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود، عن ابن عباس، أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنْشُدُك الله، آلله أرسلك أنّ نشهد أن لا إله إلا الله، وأن ندع اللَّات والعزَّى، قال: نعم، فأسلم، وأصله في "الصحيحين" في قصة ضمام بن ثعلبة، وفي حديث عمرو بن عَبَسَةَ عند مسلم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنت؟ قال: "نبي الله"، قلت: آلله أرسلك؟ قال: "نعم"، قلت: بأي شيء؟ قال: "أوحد الله لا أشرك به شيئًا
…
" الحديث، وفي حديث أسامة بن زيد، في قصة قتله الذي قال: لا إله إلا الله، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث المقداد في معناه، وكلاهما في "الصحيح"، وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى، وغيرهما من الملوك، يدعوهم إلى التوحيد، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي، الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين، على أن يؤمنوا بالله وحده، ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قَبِلَ منه، سواء كان إذعانه عن تقدم نظر، أم لا، ومن توقف منهم، نَبَّهَه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يُذعِن أو يستمرّ على عناده.
وقال البيهقي في "كتاب الاعتقاد": سلك بعض أئمتنا في إثبات الصانع، وحدوث العالم طريق الاستدلال، بمعجزات الرسالة، فإنها أصل في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الوجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصة النجاشي، وقول جعفر بن أبي طالب له: بعث الله إلينا رسولًا، نعرف صدقه، فدعانا إلى الله، وتلا علينا تنزيلًا من الله، لا يشبهه
شيء، فصدقناه، وعرفنا أن الذي جاء به الحق
…
الحديث بطوله، وقد أخرجه ابن خزيمة في "كتاب الزكاة" من "صحيحه" من رواية ابن إسحاق، وحاله معروفة، وحديثه في درجة الحسن.
قال البيهقي: فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي، فآمنوا بما جاء به، من إثبات الصانع، ووحدانيته، وحدوث العالم، وغير ذلك، مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وغيره، واكتفاء غالب من أسلم بمثل ذلك مشهور في الأخبار، فوجب تصديقه في كل شيء ثبت عنه بطريق السمع، ولا يكون ذلك تقليدًا، بل هو اتباع. والله أعلم.
وقد استدل من اشترط النظر بالآيات، والأحاديث الواردة في ذلك، ولا حجة فيها؛ لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر، بالطرق الكلامية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر، جعله شرطًا.
واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم، إذ لو أفاده لكان العلم حاصلًا، لمن قلد في قدم العالم، ولمن قلد في حدوثه، وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين، وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما تقليده صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر به عن ربه، فلا يتناقض أصلًا.
واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب، من غير نظر، بأن ذلك كان لضرورة المبادئ، وأما بعد تقرر الإسلام، وشهرته، فيجب العمل بالأدلة، ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار.
والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام، ينكرون التقليد، وهم أول داعٍ إليه، حتى استقر في الأذهان، أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها، فهو مبتدع، ولو لم يفهمها، ولم يعرف مأحذها، وهذا هو محض التقليد، فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام، في معرفة الله تعالى، والقولِ بإيمان من قلدهم، وكفى بهذا ضلالًا، وما مَثَلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سَفرًا، فوقعوا في فلاة، ليس فيها ما يقوم به البدن، من المأكول والمشروب، ورأوا فيها طرقًا شتى، فانقسموا قسمين: فقسم وجدوا من قال لهم: أنا عارف بهذه الطرق، وطريق النجاة منها
واحدة، فاتبعوني فيها، تنجوا، فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة، فأقاموا، إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة، فعملوا بها فنجوا، وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليس نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة، إن لم تكن أولى منها.
قال الحافظ: ونَقَلْتُ من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي: يمكن أن يُفَصَّل، فيقال: من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلًا، وحصل له اليقين التام بالمطلوب، إما بنشأته على ذلك، أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفى منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة، لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه، وتكفي الأدلة المجملة، التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قال فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجمع لا حاجة لنا إليه أصلًا؛ لأن إيجاب النظر على أيّ أحد قولٌ بلا دليلٌ، فتنبّه.
قال: وأما من غلا، فقال: لا يكفي إيمان المقلد، فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضًا، فقال: لا يجوز النظر في الأدلة؛ لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر. انتهى ملخصًا
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لما يلزم منه من أن أكابر السلف إلخ": هذا هو الواقع، فلم يُنقل من الصحابة، فمن بعدهم أنهم استعملوا شيئًا من أدلة المتكلّمين، فمن ادّعى ذلك فقد افترى عليهم، بل السلف الذين حدث في عصرهم علم الكلام، كالشافعيّ، وأحمد، وغيرهما قد أنكروه، وحرّموه، ونفّروا الناس عنه، فأين السلف الذين تعلّموا علم الكلام، فكانوا من أهل النظر، حاشا وكلّا، ثم حاشا وكلّا.
والحاصل أن الحقّ الذي لا محيد عنه، ولا يجوز لأحد أن يخالفه، أن الإيمان هو معرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق النقل، لا عن طريق
(1)
راجع: "فتح" 14/ 296 - 303.
علم الكلام، فمن أبي هذا فهو ضالٌّ مضلّ، اللهمّ أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].
هذا ما أردت نقله من كلام المحققين، وإنما أطلت في النقول؛ لما رأيت من انهماك كثير ممن ينتسب إلى العلم بتصويب آراء الخلف المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى ليهدي الناس إلى ربهم بأقوم طريق وأحسنه، وأبينه وأسهله وأيسره، وما ذاك إلا لبعدهم عما كان عليه السلف من التحذير عن بدع المتكلمين، وحثّهم الناس بالتمسّك بهدي الكتاب والسنة الذي بهما الكفاية في هداية الخلق أجمعين، رزقنا الله تعالى التمسّك بهما، والاكتفاء بهديهما، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في حكم القدريّة، ونحوهم من أهل الأهواء.
قد حقّق شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى هذا الموضوع تحقيقًا بالغًا أحببت إيراده هنا لكونه مستوعبًا شرح مذاهبهم، وحكم أهل العلم في كلّ طائفة منهم:
سئل رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة" ما الفِرَق؟ وما معتقد كلّ فرقة من هذه الصنوف؟
فأجاب رحمه الله تعالى:
الحمد لله، الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد، كسنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، ولفظه:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدةً، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدةً، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدة"، وفي لفظ:"على ثلاث وسبعين ملّةً"، وفي رواية: قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي رواية قال:"هي الجماعة، يد الله على الجماعة".
ولهذا وَصَفَ الفرقةَ الناجيةَ بأنها أهل السنّة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم.
وأما الفِرَقُ الباقية، فإنهم أهل الشذوذ، والتفرّق، والبدع، والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية فضلًا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلّة، وشعار هذه الفِرَق مفارقة الكتاب والسنّة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة.
وأما تعيين هذه الفِرَق، فقد صنّف الناس فيهم مصنّفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة
(1)
هي إحدى الثنتين والسبعين لا بدّ له من دليل، فإن الله حرّم القول بلا علم عمومًا، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصًا، فقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168 - 169]، وقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وأيضًا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظنّ والهوى، فيجعل طائفته، والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنّة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحقّ والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدع والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين، وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرّق.
وبهذا يتبيّن أن أحقّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث
(1)
كتب في الهامش: ما نصّه: كلمة لم تظهر.
والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعها، تصديقًا، وعملًا، وحبًّا، وموالاة لمن والاها، ومعاداةً لمن عاداها، الذين يروون
(1)
المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم، وجُمَلِ كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون ما بُعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدون عليه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردّونه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويُفسّرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل الفرق والاختلاف، فما كان معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان مخالفًا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظنّ، وما تَهوَى الأنفس، فإن اتّباع الظنّ جهل، واتّباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم، وجماعُ الشرّ الجهل والظلم، قال الله تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] إلى آخر السورة، وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى أنه لا بدّ لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبتن له من الحقّ ما كان جاهلًا به، ويرجع عن عمل كان ظالمًا فيه، وأدناه ظلمه لنفسه، كما قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9]، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1].
ومما ينبغي أيضًا أن يُعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.
ومن يكون قد ردّ على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه فيكون محمودًا فيما ردّه من الباطل، وقاله من الحقّ، لكن يكون قد جاوز
(1)
هكذا النسخة، ولعله "يردّون" بالدال، فليحرر.
العدل في ردّه بحيث جحد بعض الحقّ، وقال بعض الباطل، فيكون قد ردّ بدعةً كبيرة ببدعة أخفّ منها، وردّ باطلًا بباطل أخفّ منه
(1)
، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون عليه كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة، بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر، وفسّق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلاف.
ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون، وقد صحّ الحديث في الخوارج عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه، خرّجها مسلم في "صحيحه"، وخرّج البخاريّ منها غير وجه، وقد قاتلهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفّين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال.
فالخوارج لَمّا فأرقوا جماعة المسلمين، وكفّروهم، واستحلّوا قتالهم جاءت السنّة بما جاء فيهم، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يَمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".
وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى قسمة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد اعدِل، فإنك لم تعدل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل"، فقال له بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا
(1)
كان في النسخة: "وردّ بالبالطل باطلًا بباطل أخف منه"، وهو غلط، فتنبّه.
المنافق، فقال: "إنه يخرُج من ضِئضئ هذا أقوامٌ يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم
…
" الحديث.
فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظنّ والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه.
وأما تعيين الفِرَق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلّم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدريّة، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهميّة؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهميّة.
وهذا الذي قاله اتّبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهميّة كفّار، فلا يدخلون في الاثنين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يُبطنون الكفر، ويُظهرون الإسلام، وهم الزنادقة.
وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهميّة داخلون في الاثنين والسبعين فرقةً، وجعلوا أصول البدعٍ خمسةً، فعلى قول هؤلاء يكون كلّ طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة.
وهذا ينبني على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع، فمن أخرج الجهميّة منهم لم يُكفّرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفسّاق والعُصاة، ويجعل قوله:"هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآية [النساء: 10].
ومن أدخلهم فيهم، فهم على قولين:
منهم من يكفّرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلّمين، وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضِّلَة، ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفّر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حَكَى في تكفير جميع أهل البدع من هؤلاء
وغيرهم خلافًا عنه، أو في مذهبه حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة.
ومنهم من لم يكفّر أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفّرون أحدًا بذنب، فكذلك لا يكفّرون أحدًا ببدعة. والمأثور عن السلف، والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهميّة المحضة الذين يُنكرون الصفات، وحقيقة قولهم: إن الله لا يتكلم، ولا يُرَى، ولا يباين الخلق، ولا له علم، ولا قدرة، ولا سمغ، ولا بصرٌ، ولا حياةٌ، بل القرآن مخلوقٌ، وأهل الجنّة لا يرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات.
وأما الخوارج، والروافض، ففي تكفيرهم نزاعٌ وتردّد عن أحمد وغيرهم.
وأما القدريّة الذين يَنفُون الكتابة والعلم، فكفّروهم، ولم يكفّروا من أثبت العلم، ولم يُثبت خلق الأفعال.
وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:
[أحدهما]: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا، فإن الله منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكافرٌ به مظهر الكفر، ومنافقٌ مستخف بالكفر، ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفّار، وبضع عشرة آيةً في المنافقين، وقد ذكر الله الكفّار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى:{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وقوله:{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15]، وعطفهم على الكفّار ليميّزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شرّ من الكفّار، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وكما قال:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 84]، وكما قال:{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 53 - 54].
وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر هذا في الروافض والجهميّة، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا، وكذلك التجهّم، فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنيّة المتفلسفة، وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.
[والأصل الثاني]: أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا
(1)
لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يُحكم بكفره، بجحد شيء مما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنه أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومقالات الجهميّة هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الربّ تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتُغلّظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه:
[أحدهما]: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنّة والإجماع كثيرة جدًّا مشهورة، وإنما يردّونها بالتحريف.
[الثاني]: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يَعلَم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله.
[الثالث]: أنهم يخالفون ما اتّفقت عليه الملل كلّها، وأهل الفطر السليمة كلها، لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب:"وهذا"، فليحرّر.
يظنّ أن الحقّ معهم؛ لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفّارًا قطعًا، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.
وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهميّة والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبغض، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان"، وحينئذٍ فتتفاضل ولاية الله، وتتبعّض بحسب ذلك.
وإذا عُرف أصل البدع، فأصل قول الخوارج أنهم يكفّرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرون اتّباع الكتاب دون السنّة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترةً، ويكقرون من خالفهم، ويستحلّون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلّونه من الكافر الأصليّ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم:"يقتلون أهل الإسلام، ويدَعُون أهل الأوثان"، ولهذا كفّروا عثمان وعليًّا وشيعتهما، وكفّروا أهل صفّين الطائفتين في نحو ذلك من المقالات الخبيثة.
وأصل قول الرافضة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نصّ على عليّ نصًّا قاطعًا للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النصّ، وكفروا با لإمام المعصوم، واتّبعوا أهواءهم، وبدّلوا الدين، وغيّروا الشريعة، وظلموا، واعتدوا، بل كفروا إلا نفرًا قليلًا، إما بضعه عشر، أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين، وقد يقولون: بل آمنوا، ثم كفروا، وأكثرهم يكفّر من خالف قولهم، ويُسمّون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفّارًا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تُظهَر فيها أقوالهم دار رِدّة أسوأ حالًا من مدائن المشركين والنصارى، ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ومعاداتهم ومحاربتهم، كما عُرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين.
ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنة وأمثالهم،
ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنّة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السنيّ إلا الرافضيّ، فإذا قال أحدهم: أنا سنّيّ، فإنما معناه لست رافضيّا، ولا ريب أنهم شرّ من الخوارج، لكن الخوارج كان لهم في مبدئ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم الكفّار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيليّة ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب، والخوارج مَرَقُوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام.
وأما القدريّة المحضة، فهم خير من هؤلاء بكثير، وأقرب إلى الكتاب والسنّة، لكن المعتزلة وغيرهم من القدريّة هم جهميّة أيضًا، وقد يكفّرون من خالفهم، ويستحلّون دماء المسلمين، فيقربون من أولئك.
وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلّظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدُّون إلا من أهل السنّة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلّظة.
ولَمّا كان قد نُسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متَّبَعون تكلّم أئمة السنة المشاهير في ذمّ المرجئة المفضّلة تنفيرًا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوريّ: مَن قدّم عليًّا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وما أدري يصعد له إلى الله عمل مع ذلك، ونحو هذا القول، قاله لما نُسب إلى تقديم عليّ بعضُ أئمة الكوفيين، وكذلك قول أيوب السختيانيّ: من قدّم عليًّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين، وقد روي أنه رجع عن ذلك، وكذلك قول الثوريّ ومالك والشافعيّ وغيرهم في ذمّ المرجئة لما نُسب إلى الإرجاء بعض المشهورين.
وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جارٍ على كلام من تقدّم من أئمة الهدى، ليس له قولٌ ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبيّنها، وذبّ عنها، وبيّن حال مخالفيها، وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لَمّا أُظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]، فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك
قُرنت باسمه الإمامة في السنة ما شُهر به، وصار متبوعًا لمن بعده، كما كان تابعًا لمن قبله.
وإلا فالسنّة هي ما تلقَّاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقّاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم، وعليها أصبر. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام شيخ الإسلام هذا تحقيق نفيس، وبحث أنيس، فتمسّك به، فإنك لا تجده مجموعًا محقّقًا في كلام غيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل الذي سبق في أول الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[102]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاق، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: لَمَّا تَكَلَّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي شَأْنِ الْقَدَر، أنكَرْنَا ذَلِكَ، قَالَ: فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَجَّةً
…
وَسَاقُوا الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِه، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ).
رجال هذا الاسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) - بضم الغين المعجمة، وتخفيف الموحّدة المفتوحة - هو: محمد بن عُبيد بن حِسَاب - بكسر الحاء المهملة، وتخفيف السين المهملة - الْبصريّ، ثقة [10](ت 238)(م د س) 2/ 4.
2 -
(أَبُو كَامِلِ الْجَحْدَرِيُّ) هو: فضيل بن حسين بن طلحة، أبو كامل البصريّ، ثقة حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) 5/ 56.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [10].
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 3/ 345 - 358.
رَوَى عن حماد بن زيد، ويزيد بن زُريع، وفضيل بن عياض، وابن عيينة، وغيرهم.
وروى عنه الجماعة إلا البخاري، ورَوَى عنه في غير "الجامع"، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال: ثقة، وابن خزيمة، وأبو القاسم البغوي، وعِدّة. وقال النسائي: ثقة. وفي موضع آخر: لا بأس به. وتكلم فيه ابن خراش، فلم يَلتَفِت إليه أحد للمذهب. وذكر ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في رمضان سنة (245).
وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.
4 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) بن درهم الأزديّ الْجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبتٌ فقيةٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) 3/ 26.
5 -
(مَطَرٌ الْوَرَّاقُ) هو: مَطَر - بفتحتين - ابن طهمان الورّاق، أبو رجاء الخراسانيّ السُّلَميّ، مولى عليّ، سكن البصرة، صدوقٌ، كثير الخطإ، وحديثه عن عطاء ضعيفٌ [6].
رَوَى عن أنس، يقال مرسل، وروى عن عكرمة، وعطاء، وحميد بن هلال، وزَهْدَم الجرمي، وبكر بن عبد الله الْمُزَنِيّ، ورجاء بن حيوة، ومعاوية بن قُرّة، وغيرهم.
ورَوَى عنه إبراهيم بن طهمان، وأبو هلال الراسبي، والحمادان ومعمر، وهشام الدستوائيّ، وهمام، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وحسين بن واقد، وغيرهم.
قال أبو طالب، عن أحمد: كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عطاء، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن مطر الورَّاق؟ فقال: كان يحيى بن سعيد يُشَبِّه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ، قال: فسألت أبي؟ فقال: ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة، وقال: مطر في عطاء ضعيف، قال عبد الله: وقلت ليحيى بن معين: مطر؟ فقال ضعيف في حديث عطاء، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: صالح، وقال أبو زرعة: صالح، وروايته عن أنس مرسلة، لم يسمع منه، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: سمع من حفصة؟ فقال: هو أكبر من حفصة، وقال أيضًا: سألت أبي عنه فقال: هو
صالح الحديث، أحب إليّ من سليمان بن موسى، وكان أكبر أصحاب قتادة، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن سعد: كان فيه ضعفٌ في الحديث، وقال العجليّ: بصريّ صدوق، وقال مرةً: لا بأس به، قيل له: تابعيّ؟ قال: لا، وقال أبو بكر البزار، ليس به بأس، رأى أنسًا، وحَدَّث عنه بغير حديث، ولا نعلم سمع منه شيئًا، ولا نعلم أحدًا ترك حديثه، وقال الآجري عن أبي داود: ليس هو عندي بحجة، ولا يُقطَع به في حديث إذا اخْتُلِفَ، وقال الساجيّ: صدوق يَهِمُ، ولَمّا ذكره ابن حبان، قال: ربما أخطأ، وكان مُعْجَبًا برأيِهِ.
وقال ابن حبان في "الثقات": مات قبل الطاعون سنة خمس وعشرين ومائة، ويقال: إنه مات سنة تسع، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة تسع، وذكره البخاري في "باب التجارة في البحر" من "الجامع"، فقال: وقال خليفة: لا بأس به، قال الحافظ: وقع في روايته اختلافٌ، هل هو مطرٌ، أو مطرِّفٌ؟ لكن ذُكِر في موضع آخر من "التوحيد" في أواخر الكتاب، فقال: وقال مطر الوراق: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]، قال: هل من طالب علم، فيعانَ عليه، وقد بينت مَن وَصَلَ الموضعين في "تغليق التعليق"، وذكره الحاكم فيمن أخرج لهم مسلم في المتابعات، دون الأصول.
وقال الحافظ أيضًا: وقرأت في "تذكرة ابن حمدون" أن المنصور قتله، فعلى هذا يكون تأخرت وفاته إلى قرب الأربعين ومائة.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف في المتابعات، والأربعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَسَاقُوا الْحَدِيثَ) الضمير لشيوخه الثلاثة: محمد بن عبيد، وأبي كامل، وأحمد بن عبدة.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ) يعني أن حديثهم موافق لمعنى حديثه، لا للفظه، فإن فيه مخالفةً، كما يشير إليه قوله:"وفيه بعض زيادة إلخ".
وقوله: (وَإِسْنَادِهِ) أي إسناد كهمس، وهو عن عبد الله بن بُريدة إلخ، وهذا من باب الإيضاح، وإلا فقد كان يكفيه عن هذا سوقه إسنادهم، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفِيهِ) أي في حديثهم (بَعْضُ زِيادَةٍ) أي على حديث كهمس (وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ) أي إسقاط بعض جُمَل من حديث كهمس، فالأحرف المراد بها هنا الجمل.
[تنبيه]: قد ذكر الإمام ابن منده رحمه الله في "كتاب الإيمان" ما قاله المصنّف هنا، ولفظه:
وروى هذا الحديث مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، فزاد فيه وقدّم وأخّر بعض الحديث، ثم أخرجه من طريق سليمان بن حرب، ومسدد عن حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: لَمّا تكلم معبد الجهني بما تكلم فيه بالبصرة من القدر، حججت أنا وحميد بن عبد الرحمن، فلما قضينا حجنا قلت: لو مِلْنا إلى المدينة، فَلَقِينا مَن بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناهم عما جاء به معبد الجهني، فذهبنا ونحن نؤم عبد الله بن عمر، وأبا سعيد الخدري، فلما دخلنا إذا نحن بابن عمر قاعدٌ، فاكتنفناه، فقدّمني حميد للمنطق، وكنت أجرأ على المنطق منه، فقلت: أبا عبد الرحمن إن قومًا نشؤوا قِبَلنا بالعراق، قرأوا القرآن، وتفقهوا في الإسلام، يقولون: لا قدر، قال: فأبلغهم أن عبد الله بن عمر بريء منهم، وأنهم منه براء، والله لو أن لأحدهم جبالُ الأرض ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.
أخبرني عمر رضي الله عنه أن آدم وموسى عليه السلام اختصما إلى الله عز وجل في ذلك، فقال له موسى: أنت آدم الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة، فقال له: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدته قدَّره عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال فحج آدم موسى عليه السلام.
قال: وحدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ دخل عليه رجل، هيأته هيئة مسافر، وثيابه ثياب مقيم، أو ثيابه ثياب مقيم، وهيأته هيئة مسافر، فقال: يا رسول الله، أدنو منك؟ فقال:"نعم"، قال: فأقبل حتى وضع يديه على ركبتيه، فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "تُسلم وجهك - يعني لله عز وجل وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان"، وذكر عُرَى الإسلام، قال: فإذا فعلتُ ذلك فأنا مسلم؟ قال: "نعم"، قال: صدقت،
قال: قلنا: انظروا كيف يسأله؟ وانظروا كيف يصدقه؟ قال: يا رسول الله فما الإحسان؟ قال: "أن تخشى الله كأنك تراه، فإلا تكن تراه فإنه يراك"، قال: صدقت، قال: قلنا: انظروا كيف يسأله؟ وكيف يصدقه؟ قال: يا رسول الله فما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر كله"، قال: صدقت، قال: قلنا: انظروا كيف يسأله؟ وانظروا كيف يصدقه؟
قال: وحدثني شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، أنه قال: يا رسول الله، فمتى الساعة؟ قال:"ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، قال: صدقت صدقت صدقت، ثم ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليّ بالرجل"، فنُظِرَ، فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"جبريل جاء يعلم الناس دينهم".
قال ابن منده: أخرجه مسلم بن الحجاج، عن أبي كامل الجحدري، ثنا محمد بن محمد بن يوسف
(1)
، ثنا محمد بن نصر
(2)
، ثنا أبو كامل، وقال: نحو حديث كهمس، وألفاظها متقاربة، وهذا خلاف حديث كهمس، واختلف أصحاب حماد عليه في اللفظ، وجعل آخر الحديث، عن شهر بن حوشب، وَتَرْكُهُ أولى، وإن كان مطر محله الصدق. انتهى كلام ابن منده رحمه الله تعالى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار الحافظ ابن منده رحمه الله إلى أن رواية مطر هذه غير صحيحة؛ لمخالفته كهمسًا، وهو وإن كان محلّه الصدق، إلا أن كهمسًا أوثق منه، فتقدّم روايته، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام مسلم رحمه الله، حيث ساق السند متابعة في أصل الرواية، وأشار إلى الخلاف المذكور، وأن الصحيح رواية كهمس.
والحاصل أن مطرًا تابع كهمسًا في أصل الرواية، إلا أنه خالفه بزيادة
(1)
هو الفقيه الطوسيّ، كان زاهدًا ورعًا ثقة، تُوفّي سنة (344 هـ). انظر:"سير أعلام النبلاء" 10/ 121.
(2)
هو الحافظ الحجة الفقيه المروزيّ المتوفى في المحرّم سنة (294 هـ).
(3)
"الإيمان" لابن منده 1/ 143 - 144.
قصّة آدم وموسى عليهما السلام، ونقص آخر الحديث، وهو السؤال عن الساعة، فجعله عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فيكون معنى قول مسلم رحمه الله تعالى:"وفيه بعض زيادة، ونقصان أحرف" أنه غير مصيب في الزيادة والنقص. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل الذي سبق في أوائل الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[103]
(
…
) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةً، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، قَالَا: لَقِينَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيه، فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، كَنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زِيَادَةٍ، وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، أبو عبد الله الْقَطِيعيُّ المعروف بالسَّمِين، مَرْوزيُّ الأصل، سكن بغدَاد، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10].
رَوَى عن وكيع، وابن عيينة، وابن علية، وبهز بن أسد، ويحيى القطان، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعمرو بن شَبَّة، وغيرهم.
قال أحمد بن محمد الجعفي: سمعت ابن معين يقول: محمد بن حاتم بن ميمون كذَّاب. وقال عمرو بن عليّ: ليس بشيء. وقال عبد الله بن علي بن المديني: قلت لأبي: شيءٌ رواه ابن حاتم، عن ابن مهدي، عن شعبة، عن سالم، عن قَبِيصة بن هُلْب، عن أبيه، مرفوعًا:"لا يأتي أحدكم بشاة لها يَعار"، قال: هذا كَذِبٌ، إنما رَوَى هذا أبو داود. قال ابن قانع: صدوق. وقال ابن عديّ، والدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: استَخْرَج كتابًا في التفسير، كَتَبَهُ الناس، وكان يَنْزِل قَطِيْعَة الربيع. قال
موسى بن هارون، وغير واحد: مات في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ومائتين. وقال ابن قانع: قيل: إنه مات في أول سنة (236)، وقال ابن حبان: مات سنة (235)، أو (236).
[تنبيه]: ذكر في "تهذيب التهذيب" نقلًا عن "الزهرة" أن مسلمًا رَوَى عنه ثلاثمائة حديث. انتهى.
لكن الذي في برنامج الحديث أنه روى عنه (214) حديثًا، والظاهر أن ما في البرنامج هو الصواب؛ لأنه أوضح الأحاديث كلها مسلسلة بأرقامها. والله تعالى أعلم.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الثقة الثبت الْجِهْبِذ الناقد البصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 389.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ) بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الياء، آخره ثاءٌ مثلّثةٌ - الراسبيّ، ويقال: الزهرانيّ البصريّ، ثقة، رُمي بالإرجاء [6].
رَوَى عن أبي عثمان النَّهْدي، وأبي الشعثاء، جابر بن زيد، وأبي السَّلِيل ضُرَيب بن نُقَير، وعبد الله بن بريدة، وأبي نَعَامة الحنفي، وأبي نَضْرة العبدي، وغيرهم.
ورَوى عنه شعبة، والقطان، ووكيع، وخالد بن الحارث، وابن المبارك، وغيرهم.
قال البخاري، عن علي بن المديني: له نحو عشرة أحاديث. وقال أحمد: ثقة، كان يَرَى الإرجاء. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة وقال أبو حاتم: صدوق. وقال علي بن المديني: سمعت يحيى - يعني القطان - يقول: عند عثمان بن غِيَاث كُتُبٌ عن عكرمة، فلم يُصَحِّحها لنا. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يُضَعِّف حديثه في التفسير. وقال العجلي: بصري ثقة. وذكره الآجري، عن أبي داود في مُرْجئة أهل البصرة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الحافظ: وقال البخاري في "الحج" من "صحيحه": قال أبو كامل: ثنا أبو معشر البراء، ثنا عثمان بن غِيَاث، ثنا عكرمة، عن ابن عباس في صفة الحج، وقد رواه الإسماعيلي، عن القاسم بن زكريا، عن أبي كامل، فسماه
عثمان بن سعيد، وكذا رواه أبو نعيم، عن أبي أحمد الحافظ، عن القاسم، ورواه مسلم بن الحجاج في "الجامع" عن أبي كامل، كما علقه البخاريّ، فالله أعلم
(1)
.
روى له البخاريُّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (9) و (4416) حديث: "افْتَحْ، وبشره بالجنة
…
"، و (4875) حديث: "ألا أدلّك على كلمة من كنوز الجنة
…
".
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: "عن يحيى بن يعمر، وحُميد بن عبد الرحمن"، هذه الرواية صريحة في أن عبد الله بن بريدة يروي عن يحيى وحميد كليهما، وقد تابع شيخ المصنّف مسدّد بن مسرهد عند ابن منده 1/ 138، وتابع يحيى القطان أبو معشر البراء عنده أيضًا 1/ 139.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": وحميدٌ له في الرواية المشهورة ذكرٌ، لا رواية. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ)، أي ذكرت أنا وحميد بن عبد الرحمن لابن عمر القدر، أي سألناه عن حكم الإيمان به (وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ) أي وذكرنا ما يقول القدريّة، معبد وأصحابه من نفي القدر.
وقوله: (فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الضمير لشيخه محمد بن حاتم، أي رواه على وجهه (كَنَحْوِ حَدِيثِهمْ) الضمير لمشايخه الخمسة المتقدّمين في الأسانيد السابقة (عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه) أي عن مسنده، لا عند مسند ابنه عبد الله، كما جعله من مسنده سليمان بن بريدة، كما بيّنّاه سابقًا.
وقوله: (وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زِيَادَةٍ، وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا)، أشار به إلى أن رواية محمد بن حاتم، وإن كانت موافقة في المعنى لروايات المشايخ الآخرين، إلا أن فيها مخالفة في اللفظ، حيث يزيد بعض الألفاظ، وينقص بعضًا.
[تنبيه]: رواية عثمان بن غياث التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى ساقها الحافظ ابن منده رحمه الله تعالى في كتاب "الإيمان"، من طريق مسدد بن مسرهد، ثنا يحيى بن القطان، ثنا عثمان بن غياث، عن عبد الله بن بريدة، عن
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 75 - 76.
(2)
"الفتح" 1/ 142.
يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن قال: لقينا عبد الله بن عمر، فذكرنا له شأن القدر، وما يقولون فيه، فقال: إذا رجعتم إليهم، فقولوا لهم: إن ابن عمر منكم بريء، وأنتم منه براء، ثلاث مرات، ثم قال: أخبرني عمر بن الخطاب، أنهم بينما هم جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاء رجل حسن الوجه، حسن الشعر، عليه ثياب بياض فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا، ولا هذا صاحب سفر، ثم قال: يا رسول الله أسألك؟ قال: "نعم"، قال: فوضع ركبتيه عند ركبتيه، ويديه على فخذيه، فقال: ما الإسلام؟ فقال: "الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، قال:"فما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته، والجنة والنار، والبعث بعد الموت، والقدر كله"، قال: فما الإحسان؟ قال: "تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال: فمتى الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، قال: فما أشراطها؟ قال: "إذا العُرَاةُ الحُفَاةُ العَالَةُ رِعَاءُ الشاء تطاولوا في البنيان، وولدت الإماء أربابها"، ثم قال: "عليَّ بالرجل"، فطلبوه، فلم يروا شيئًا، فلبث يومًا، أو ثلاثًا ثم قال: "يا ابن الخطاب أتدري من السائل عن كذا وكذا؟ "، قال: الله ورسوله أعلم، قال: "ذاك جبريل عليه السلام جاء يعلمكم دينكم".
قال: وسأله رجل من جهينة، أو مزينة، فقال: يا رسول الله فيم العمل؟ في أمر قد خلا، أو مضى، أو شيء مستأنف؟ قال:"في شيء قد خلا، أو مضى"، فقال رجل، أو بعض القوم: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: "إن أهل الجنة ميسَّرون لعمل الجنة، وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الزيادة في هذه الرواية هي قوله: "وسأله رجل من جهينة إلخ".
وأما النقص فقد ترك من أوله قوله: "كان أول من قال في القدر بالبصرة إلى قوله: "فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ".
[قاعدةٌ مهمّةٌ]: في الفرق بين قولهم عند إحالة المتون: "نحوه"، أو
(1)
"الإيمان" لابن منده 1/ 138 - 139.
"مثله"، أو "بنحوه"، أو "بمثله"، كما فعله الإمام مسلم رحمه الله تعالى هنا، بل قد أكثر منه في هذا الكتاب.
قال في "التقريب"، مع "شرحه التدريب": ولو روى حديثًا بإسناد له، ثم أتبعه بإسناد آخر، وحذف متنه، وأحاله على المتن الأول، وقال في آخره:"مثله"، فأراد السامع لذلك منه رواية المتن الأول بالإسناد الثاني فقط، فالأظهر منعه، وهو قول شعبة، وأجازه سفيان الثوري، وابن معين، إذا كان الراوي مُتَحَفِّظًا ضابطًا مُمَيِّزًا بين الألفاظ، ومَنَعَاه إن لم يكن كذلك، وكان جماعة من العلماء إذا رَوَى أحدهم مثل هذا ذكر الإسناد، ثم قال: مثل حديث قبله، مَتْنُهُ كذا، واختار الخطيب هذا، وأما إذا قال:"نحوه"، فأجازه الثوري أيضًا كـ "مثله"، ومنعه شعبة، وابن معين.
قال الخطيب: فَرْقُ ابنِ معين بين "مثله"، و"نحوه" يصح على منع الرواية بالمعنى، فأما على جوازها فلا فرق.
قال الحاكم: يلزم الحديثيّ من الضبط والإتقان أن يُفَرِّق بين "مثله" و"نحوه"، فلا يحل أن يقول:"مثله" إلا إذا عَلِم أنهما اتّفقا في اللفظ، ويحل أن يقول:"نحوه" إذا كان بمعناه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله لحاكم من أن "مثله" لما اتَّفَقَ في اللفظ محل نظر؛ لأني وجدتُ كثيرًا فيما يقوله فيه مسلم: "مثله" مَرْوِيًّا بالمعنى، بل وجدت حديثًا قال فيه مسلم:"مثله" قال فيه البخاري: "نحوه"، فالظاهر أن هذه القاعدة التي ذكرها الحاكم ليست متفقًا عليها على أنه يحتمل أن يقع الاختلاف بعد مسلم رحمه الله تعالى، فليُتَنَبَّهُ لهذه الدقيقة، فإني لم أر من تكلم عليها، والله تعالى أعلم.
وأما إذا ذكر الإسناد، وبعض المتن، ثم قال:"وذكر الحديث"، ولم يتمه، أو قال:"بطوله"، أو "الحديث"، وأضمر "وذَكَرَ"، فأراد السامع روايته عنه بكماله، فهو أولى بالمنع من مسألة "مثله"، و"نحوه" السابقة؛ لأنه إذا مُنِعَ هناك مع أنه قد ساق فيها جميع المتن قبل ذلك بإسناد آخر، فَلأَنْ يُمْنَع هنا، ولم يَسُق إلا بعض الحديث من باب أولى، وبذلك جزم قوم، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وأجازه الإسماعيلي، إذا عَرَف المحدث والسامع ذلك
الحديث، قال: والاحتياط أن يَقتصِر على المذكور، ثم يقول: قال: وذكر الحديث، وهو هكذا، أو وتمامُهُ كذا، ويسوقه بكماله، وفَصل ابنُ كثير، فقال: إن كان سمع الحديث المشار إليه قبل ذلك على الشيخ في ذلك المجلس أو غيره جاز، وإلا فلا، وإذا جُوِّز إطلاقُهُ فالتحقيق أنه بطريق الإجازة القوية الأكيدة من جهات عَدِيدة فيما لم يذكره الشيخ، فجاز لهذا، مع كونِ أوله سماعًا إدراجُ الباقي عليه، ولا يفتقر إلى إفراده بالإجازة. انتهى
(1)
.
وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَلَوْ رَوَى بِسَنَدٍ مَتْنًا وَقَدْ
…
جَدَّدَ إِسْنَادًا وَمَتْنٌ لَمْ يُعَدْ
بَلْ قَال فِيهِ "نَحْوَهُ" أَوْ "مِثْلَهُ"
…
لَا تَرْوِ بِالثَّانِي حَدِيثًا قَبْلَهُ
وَقِيلَ جَازَ إِنْ يَكُنْ مَنْ يَرْوِهِ
…
ذَا مَيْزَةٍ وَقِيلَ لَا فِي "نَحْوِه"
الْحَاكِمُ اخْصُصْ "نَحْوَهُ" بِالْمَعْنَى
…
وَ"مِثْلَهُ" بِاللَّفْظِ فَرْقٌ سُنَّا
وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ خَبَرِ
…
قَبْلُ وَمْتْنُهُ كَذَا فَلْيَذْكُرِ
وَإِنْ بِبَعْضِهِ أَتَى وَقَوْلِهِ
…
"وَذَكَرَ الْحَدِيثَ" أَوْ "بِطُولِهِ"
فَلَا تُتِمَّهُ وَقِيلَ جَازَا
…
إِنْ يَعْرِفَا وَقِيلَ إِنْ أَجَازَا
وَقُلْ عَلَى الأَوَّلِ "قَال وَذَكَرْ
…
حَدِيثَهُ وَهْوَ كَذَا" وَائْتِ الْخَبَرْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل الذي سبق في أوائل الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[104]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيِثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقة حافظ [11](ت 259)(م د) 4/ 40.
(1)
"تدريب الراوي" 2/ 119 - 121.
2 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن مسلم البغداديّ، أبو محمد الحافظ الْمُؤَدِّبُ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9].
رَوَى عن داود بن أبي الْفُرَات، وسفيان بن عبد الرحمن، ونافع بن عُمَر الْجُمَحيّ، وفُليح والحمادين، وحرب بن ميمون، والليث بن سعد، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه إبراهيم، وأحمد، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وعبد الله الْمُسْنَديّ، وأبو خيثمة، وحجاج بن الشاعر، ومجاهد بن موسى، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثقة.
وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أحمد بن الخليل الْبُرْجُلانيُّ: ثنا يونس بن محمد الصدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في صفر سنة سبع ومائتين، وكذا قال أبو حسان الزياديّ، وقال خليفة، وابن سعد، ومطين، وغيرهما: مات سنة ثمان.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
[تنبيه]: يونس بن محمد هذا هو الْمُؤَدِّب غير يونس الصدوق، فالمؤدّب ثقة ثبت، كما مرّ آنفًا، وأما الصدوق، فكذّاب، وإنما قيل له: الصدوق على سبيل التهكّم، وقد غلِطَ من وحّدهما، وقد نبّه على ذلك في "تهذيب التهذيب" في باب الألقاب آخر الكتاب، فراجعه
(1)
. والله تعالى أعلم.
3 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، قيل: يُلقَّب بالطُّفيل، ثقة، من كبار [91].
رَوَى عن أبيه، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبيد الله بن عمر العمريّ، وكهمس بن الحسن، وأيوب، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وغيرهم.
وروى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وابن المبارك، وهو من أقرانه، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، وعبد الله بن جعفر الرَّقّيّ، وبونس بن محمد الْمُؤَدِّب، وغيرهم.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 639.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال عمر بن عليّ، عن معاذ بن معاذ: سمعت قُرَّة بن خالد يقول: ما معتمرٌ عندنا دون سليمان التيميّ. وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وعن يحيى بن سعيد القطان: قال: إذا حدّثكم المعتمر بشيء، فاعرِضُوه، فإنه سيء الحفظ. وقال الآجري عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: ما كان أحفظ مُعَتمر بن سليمان، قَلَّما كُنّا نسأله عن شيء إلا عنده فيه شيء. وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ يُخطئ من حفظه، وإذا حَدّث من كتابه فهو ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، وُلد سنة مائة، ومات سنة سبع وثمانين ومائة، وفيها أرّخه غير واحد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مولده سنة ست، أو سبع، ومات سنة سبع، أو ثمان وثمانين ومائة.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (83) حديثًا.
4 -
(أبوه) سليمان بن طَرْخَان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نَزَل في بني تَيْم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)(ع) 3/ 9.
والباقون تقدموا قريبًا.
وقوله: "بنحو حديثهم"، أي ذكر حجاج بن الشاعر الحديث كحديث المشايخ الستة الماضين، فالضمير لمشايخه المذكورين في الأسانيد السابقة.
[تنبيه]: هذه الرواية أخرجها ابن منده في "كتاب الإيمان"، ولفظه من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة فيه زَهْوٌ، وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقَصَّ على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زَعَم أن العلم أُنُف، من شاء عَمِل خيرًا، ومن شاء عمل شرًّا، قال: فلقيت أبا الأسود الدِّيليَّ، فذكرت ذلك له، فقال: كَذَبَ ما رأينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يُثْبِت القدر، إني حججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري، فلما قضينا حجنا قال: قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر، قال: فلما أتيت المدينة لقينا إنسانًا من الأنصار، فلم نسأله، قلنا: حتى نلقى ابن عمر وأبا سعيد الخدري، قال: فلقينا
ابن عمر كفه عن كفه
(1)
قال: فقمت عن يمينه، وقام عن شماله، قال: قلت: تسأله أم أسأله؟ قال: لا، بل تسأله؛ لأني كنت أبسط لسانًا منه، قال: قلنا: يا أبا عبد الرحمن إن ناسًا عندنا بالعراق قد قرؤوا القرآن، وفرضوا الفرائض، وقَصُّوا على الناس يزعمون أن العمل أُنُفٌ، من شاء عمل خيرًا، ومن شاء عمل شرًّا، قال: فإذا لقيتم أولئك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، ابن عمر منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل مثل أُحد ما تُقُبِّلَ منه حتى يؤمن بالقدر، ولقد حدثني عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن موسى لقي آدم عليه السلام، فقال: يا آدم أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحدٌ من ذريتك النار، قال: فقال: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، تلومني فيما قد كان كُتِب عليّ قبل أن أُخْلَق، فاحتجا إلى الله عز وجل، فحج آدم موسى عليهم السلام، فاحتجّا إلى الله عز وجل، فحجَّ آدم موسى عليهم السلام، فاحتجّا إلى الله عز وجل، فحجَّ آدم موسى عليهم السلام"
(2)
.
لقد حدثني عمر أن رجلًا في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: "نعم" قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته، فقال: ما الإسلام؟ قال: "تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: "نعم"، قال: صدقت، قال: فجعل الناس يتعجبون منه، ويقولون انظروا يسأله ثم يصدقه، قال: فما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك"، قال: فإذا فعلت ذلك، فقد أحسنت؟ قال:"نعم"، قال صدقت، قال: فجعل الناس يتعجبون، ويقولون: انظروا إليه، يسأله ويصدقه، قال: فما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والنبيين، والكتاب، والجنة والنار، والبعث بعد الموت، والقدر كله"، قال: فإذا فعلت ذلك، فقد آمنت؟ قال:"نعم"، قال: صدقت، قال: فجعل القوم يتعجبون، يقولون: انظروا كيف يسأله؟ ثم يصدقه، قال: فمتى الساعة؟ قال: "ما
(1)
هكذا النسخة، ولا يظهر لها معنى، فليُحرّر.
(2)
هكذا النص مكرر ثلاث مرات، فتنبَّه.
المسئول أعلم بها من السائل"، قال: فما أعلامها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة الصم البكم ملوكًا، يتطاولون في البنيان"، ثم انصرف، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بعد ذلك، فقال: أتدري من الرجل الذي أتاكم؟ قال: فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم". انتهى
(1)
.
وأخرج ابن حبّان في "صحيحه"، وابن منده أيضًا واللفظ له من طريق آخر عن يونس بن محمد، عن المعتمر، عن أبيه، عن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن إنّ قومًا يزعمون أن ليس قدرٌ، قال: هل عندنا منهم أحدٌ؟ قلت: لا، قال: فأبلغهم عني إذا لقيتهم، أن ابن عمر بريء إلى الله عز وجل منكم، وأنتم منه براء، سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، إذا جاء رجل ليس عليه سَحْنَاءُ السفر
(2)
، وليس من أهل البلد، فتَخَطّى حتى وَرَكَ
(3)
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجلس الرجل في الصلاة، ثم وَضَع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، ما الإسلام؟ قال:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتُتِمّ الوضوء، وتصوم رمضان"، قال: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: "نعم"، قال: صدقت، قال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وتؤمن بالجنة والنار، والميزان، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: فإذ فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: "نعم"، قال: صدقت، قال: يا محمد ما الإحسان؟ قال: "أن تعمل لله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك"، قال: فإذا فعلت هذا فأنا محسن؟ قال: "نعم"، قال: صدقت، قال: فمتى الساعة؟ قال: "سبحان الله ما المسئول بأعلم من السائل"، قال:"إن شئت أنبأتك بأشراطها"، قال: أجل، قال:"إذا رأيت العالة الحفاة العراة يتطاولون في البناء، وكانوا ملوكًا"، قالوا: ما العالة الحفاة
(1)
"كتاب الإيمان" 1/ 143 - 144.
(2)
أي هيئة السفر، وأثره.
(3)
يقال: وَرَكَ يَرِكُ وَرْكًا، من باب وَعَد، وتورَّك، وتوارك: إذا اعتمد على وَرَكِه. أفاده في "القاموس" ص 860.
العراة؟ قال: الْعُرَيب"، وإذا رأيت الأمة تلد ربتها، فذلك من أشراط الساعة" قال: صدقت.
ثم نَهَضَ فوَلَّى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليَّ بالرجل"، فطلبناه، فلم نقدر عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم، فخذوا عنه"، فوالذي نفسي بيده ما شُبِّهَ عليّ منذ أتاني قبل مَرّتي هذه، وما عرفته حتى وَلَّى".
قال ابن حبّان بعد إخراجه: تفرّد سليمان بقوله: "خذوا عنه"، وبقوله: تعتمر، وتغتسل، وتُتمّ الوضوء" انتهى
(1)
.
وقال ابن منده: هكذا حدث به يونس بن محمد المؤدب بلفظين مختلفين، وفي كل واحد من الخبرين ألفاظ ليست في الآخر، من الزيادات، وعلى هذا رَوَى عنه حجاج الشاعر، كما رواه ابن المنادي، فأما الخبر الأول فوافقه محمد بن أبي يعقوب الكرماني، وهو أحد الثقات، ممن رَوَى عنه محمد بن إسماعيل البخاري في "الجامع"، واعتمده، ووثقه، وأما الخبر الثاني فرواه يوسف بن واضح الهاشمي البصري وغيره، عن المعتمر بن سليمان، من نحو رواية يونس بن محمد، وذكر فيه الزيادات التي ذكرها يونس في الخبر الأخير. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل الذي سبق في أوائل الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[105]
(9) - (وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاس، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا الْإِيمَان؟ قَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ بالله، وَمَلَائِكَتِه، وَكِتَابِه، وَلِقَائِه، وَرُسُلِه، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا
(1)
راجع: "الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" 1/ 399.
(2)
راجع: "كتاب الإيمان"، لابن منده 1/ 143 - 147.
الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ الله وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةَ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأعْلَمَ مِنْ السَّائِل، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْعُرَاةُ الْحُفَاةُ رُؤُوسُ النَّاس، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَان، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]، قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ"، فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ)، هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، الواسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) 1/ 1.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور أول الباب.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسَم المعروف بابن عُليّة الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقة حافظٌ [8](ت 193)(ع) 1/ 3.
4 -
(أَبُو حَيَّانَ) - بمهملة، وتحتانيّة - يحيى بن سعيد بن حيّان التيميّ، من تَيْمِ الرَّبَاب، الكوفيّ، ثقة عابدٌ [6].
رَوَى عن أبيه، وعمه يزيد بن حيان، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، والشعبي، والضحاك ابن المنذر، وعباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، وغيرهم.
ورَوَى عنه أيوب السختياني، ومات قبله، والأعمش، وهو من أقرانه، وشعبة، والثوري، ووهيب، وابن علية، وهشيم، وابن المبارك، ويحيى القطان، وابن فضيل، وغيرهم.
قال الْخُرَييّ: كان أبو حيان عند سفيان الثوري - يعني كان يُعَظِّمه، ويُوَثِّقُه، وقال محمد بن عمران الأخنسي، عن محمد بن فُضيل: ثنا أبو حيان التيميّ، وكان صدوقًا، وقال ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: ثقةٌ صالحٌ مُبَرِّزٌ، صاحب سنة. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وكان من المتهجدين، مات سنة خمس وأربعين ومائة.
وقال مسلم: كوفيّ، من خيار الناس. وقال النسائيّ: ثقة ثبت. وقال الفلاس: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة مأمون.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
5 -
(أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِير) بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِمٌ، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عمرو، قاله النسائيّ، وقيل: جرير، قاله الواقدي، ثقة [3].
رَأى عليًّا، وروى عن جده، وأبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثابت بن قيس النخعي، وخَرَشة بن الْحُرّ، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، وأرسل عن عمر بن الخطاب، وأبي ذر.
وروى عنه عمه إبراهيم بن جرير، وحفيداه: جرير، ويحيى ابنا أيوب بن أبي زرعة، وابن عمه جرير بن زيد، وإبراهيم النخعي، وأبو حيان التيمي، وأبو التياح، وغيرهم.
قال الواقديّ: كان لجرير ابن يقال له: عَمرو، وبه كان يُكنى، هلك في إمارة عثمان، فوَلَد عمرو ابنًا سماه جريرًا باسم أبيه، وغَلَبَ عليه أبو زرعة، رَأَى عليًّا، وكان انقطاعه إلى أبي هريرة، وسمع من جده أحاديث، وكان من علماء التابعين، قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن خراش: صدوق ثقة. وقال جرير، عن عُمارة بن القعقاع: قال لي إبراهيم: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة، فإني سألته عن حديثٍ، ثم سألته عنه بعد ذلك بسنة، أو سنتين، فما أخرم منه حرفًا. وقال البخاري في "تاريخه": هَرِمٌ أبو زرعة سمع ثابتَ بن قيس، وعنه الحسن بن عبيد الله، وقال في "الأوسط": قال لي علي بن عبد الله: هرم أبو زرعة هذا ليس هو عمرو بن جرير، إنما أبو زرعة آخر، قال بعضهم: إنه غَلابي. وقال ابن عساكر: فرَّق ابن المديني بين أبي
زرعة بن عمرو بن جرير، وبين هرم أبي زرعة صاحب أبي قيس. وذكر ابن حبان في "الثقات" أبا زرعة بن عمرو بن جرير، فيمن اسمه هَرِم، ثم قال: ويقال: اسمه كنيته.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 1/ 3، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير شيخه زهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وابن عليّة، فبصريّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكنى.
5 -
(ومنها): أن فيه قول المصنّف: "قال زهير: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم"، إشارة إلى الاختلاف الواقع بين شيخيه: أبي بكر، وزهير في روايتهما عن ابن عليّة، فأبو بكر لم يصرّح بالتحديث، ولم يسمّه باسمه، وإنما ذكره بكنيته "ابن عليّة"، وهي أمه، وكان يَكره النسبة إليها، إلا أنه لاشتهاره يذكرونه بها، كما قال في "ألفيّة الحديث":
وَذِكْرُهُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِبِ
وأما شيخه زهير فقد صرّح بالتحديث، وسمّاه باسمه، ونسبه إلى أبيه، وهذا من احتياطات المصنّف رحمه الله، حيث يراعي اختلاف ألفاظ شيوخه في صيغ الأداء، ونحوها، وهذا هو الذي امتاز به عن غيره، حتى عن البخاريّ رحمه الله تعالى، كما أشار إلى ذلك من قال، وأحسن في المقال [من الطويل]:
تَشَاجَرَ قَوْمٌ فِي الْبُخَارِي وَمُسْلِمٍ
…
لأَيِّهِمَا فِي الْفَضْلِ كَانَ التَّقَدُّمُ
فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ الْبُخَارِيُّ صِحَّةً
…
كَمَا قَالَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَيَّانَ) يحيى بن سعيد التيميّ، وسيأتي بَعْدُ من رواية جرير بن عبد الحميد، عن عُمَارة بن القعقاع، ورواه بو داود، والنسائي من حديث جرير أيضًا عن أبي فَرْوَة ثلاثتهم عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، زاد أبو فروة:"وعن أبي ذرّ" أيضًا، وساق حديثه عنهما جميعًا، وفيه فوائد زوائد، سنشير إليها - إن شاء الله تعالى - قال الحافظ رحمه الله: ولم أر هذا الحديث من رواية أبي هريرة إلا عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير هذا عنه. انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ) البجليّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "(يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ) أي: ظاهرًا لهم بالبَرَاز، وهو الفضاء من الأرض، ومنه قوله عز وجل:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47]، وقوله:{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21]، وقوله:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} [الشعراء: 91]، وقوله:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ} [البقرة: 250]، ومنه المبارزة في القتال، والبروز لصلاة العيد، والاستسقاء.
يعني أنه كان غير محتجب عنهم، ولا ملتبس بغيره، وقد وقع في رواية أبي فَرْوة التي أشرنا إليها بيانُ ذلك، فإن أوله:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب، فلا يدري أَيُّهُم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دُكّانًا من طين، كان يجلس عليه". انتهى.
واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك؛ لضرورة تعليم، ونحوه.
(فَأَتَاهُ رَجُلٌ) أي: ملكٌ في صورة رجل، وفي رواية للبخاريّ:"إذ أتاه رجل يمشي"، ولأبي فَرْوة:"فإنا لجلوس عنده، إذ أقبل رجلٌ أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يمسها دنس"، وقد سبق تمام البحث في هذا في شرح الحديث الماضي.
(فَقَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ)، ووقع في رواية أبي فروة المذكورة: "حتى
(1)
"الفتح" 1/ 141.
سَلَّم من طَرَف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام
…
" الحديث، فدلّ على أن هذه الرواية فيها اختصار من الراوي، وليس كما ظنّ بعضهم أنه إنما ترك السلام مبالغة في التعمية، فتنبه.
وأما قوله: "يا رسول الله"، وفي رواية:"يا محمد"، فالظاهر أنه من تصرّفات الرواة، فإنه ناداه باسمه تعميةً، وعبّر الراوي بـ "يا رسول الله" تعظيمًا، وجمع الحافظ بأنه بدأ أوّلًا بندائه باسمه للتعمية، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله، والذي سَبَقَ أشبه، والله تعالى أعلم. (مَما الإِيمَانُ؟)، قيل: قَدَّمَ السؤال عن الإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهِر مِصْدَاق الدعوى، وثَلَّث بالإحسان؛ لأنه متعلق بهما، وفي رواية عمارة بن القعقاع التالية بدأ بالإسلام؛ لأنه بالأمر الظاهر، وثَنَّى بالإيمان؛ لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبيّ؛ لما فيه من التَّرَقِّي.
ولا شك أن القصة واحدةٌ، اختَلَف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنّى بالإحسان، وثلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحدٌ، والتقديم والتأخير وقع من الرواة. قاله الحافظ، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ) وفي رواية البخاريّ: "قال: الإيمان أن تؤمن بالله"، قال في "الفتح": دلَّ الجواب أنه علم أنه سأله عن متعلِّقاته، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق، وقال الطيبيّ: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله:"أن تؤمن بالله" مُضَمَّنٌ معنى أن تَعترف به، ولهذا عداه بالباء، أي: أن تُصَدِّق معترفًا بكذا.
وتعقّبه الحافظ بأن التصديق أيضًا يعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين، وقال الكرمانيّ: ليس هو تعريفًا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود الإيمان الشرعيّ، ومن الحدّ الإيمان اللغوي.
قال الحافظ: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ "الإيمان"؛ للاعتناء بشأنه؛ تفخيمًا لأمره، ومنه قوله تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] في جواب {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، يعني أن قوله: "أن تؤمن يَنْحَلّ منه الإيمانُ، فكأنه قال: الإيمان الشرعيّ تصديقٌ مخصوصٌ، وإلا لكان الجواب الإيمان التصديق.
والإيمان بالله هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، مُنَزّه عن صفات النقص (ومَلَائِكَتِهِ) أي: أن تصدّق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقَدَّم الملائكةَ على الكتب والرسل؛ نظرًا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول (وَكِتَابِهِ) مفرد مضافٌ، فيعمّ، وفي رواية البخاريّ:"وكتبه" بالجمع، أي: تُصدّق بأنه كلام الله تعالى، وأن ما تضمّنه حقّ (وَلقَائِهِ) كذا وقع هنا وفي الرواية التالية بين الكتاب والرسل، وكذا هو عند البخاريّ، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنه مكررٌ؛ لأنه داخلٌ في الإيمان بالبعث، والحقّ أنه غير مكرر، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدل على هذا رواية مطر الوراق المتقدّمة، فإن فيها:"وبالموت، وبالبعث بعد الموت"، كذا في حديث أنس رضي الله عنه عند البزّار وغيره، وابن عباس وعيهما عند أحمد، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابي.
وتعقّبه النووي بأن أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان.
وأجيب بأن المراد بالإيمان بأن ذلك حقّ في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، إذ جعلت من قواعد الإيمان.
(وَرُسُلِهِ) ووقع في حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم: "والملائكة، والكتاب، والنبيين"، وكل من السياقين في القرآن، في البقرة، والتعبير بـ "النبيين" يشمل الرسل من غير عكس، والإيمان بالرسل التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى.
(وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ) إنما أعاد لفظ "وتؤمن" هنا للإشارة إلى أنه نوع آخر مما يُؤُمَن به؛ لأن البعث سيوجد بعدُ وما ذُكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره؛ لكثرة من كان ينكره من الكفار، ولهذا كَثُر تكراره في القرآن
(1)
.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 145.
وقوله: (الْآخِرِ") بكسر الخاء، قيل: هو تأكيدٌ، كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعقلة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر، فقيل له ذلك؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه، من الحساب، والميزان، والجنة والنار، وقد وقع التصريح بذكر الأربعة بعد ذكر البعث في رواية سليمان التيمي المتقدّمة، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا.
زاد في الرواية التالية: "قال: صدقت"، وفي رواية النسائيّ:"قال: فإذا فعلت ذلك، فقد آمنتُ؟ قال: نعم، قال: صدقتَ".
[تنبيهٌ]: ظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يُطْلَق إلا على من صَدَّق بجميع ما ذُكر، ولا يخالف هذا ما ثبت عند الفقهاء من اكتفائهم بإطلاق الإيمان على من آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المراد بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بوجوده، وبما جاء به عن ربه عز وجل، فيدخل جميع ما ذُكر تحت ذلك. والله تعالى أعلم
(1)
.
(قَالَ) الرجل السائل (يَا رَسُولَ الله، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ) أي: توحّده بلسانك على وجه يُعتدُّ به، فشَمِل الشهادتين، فيوافق هذا الحديث حديث عمر رضي الله عنه السابق، وكذا حديث: "بُني الإسلام على خمس
…
" الآتي، وجملة (وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) للتأكيد (وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ) أي: المفروضة (وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ)، زاد في رواية النسائيّ: "وتَحُجّ البيت".
قال النوويّ في "شرحه": أما تقييد الصلاة بالمكتوبة، فلقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقد جاء في أحاديث وصفها بالمكتوبة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، و"أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل"، و"خمس صلوات كتبهن الله".
(1)
راجع المصدر السابق.
وأما تقييد الزكاة بالمفروضة، وهي المقدَّرة، فقيل: احترازٌ من الزكاة المعجلة قبل الحول، فإنها زكاة، وليست مفروضة، وقيل: إنما فَرّق بين الصلاة والزكاة في التقييد؛ لكراهة تكرير اللفظ الواحد، ويحتمل أن يكون تقييد الزكاة بالمفروضة، للاحتراز عن صدقة التطوع، فإنها زكاة لغوية.
وأما معنى إقامة الصلاة، فقيل: فيه قولان:
[أحدهما]: أنه إدامتها، والمحافظة عليها.
[والثاني]: إتمامها على وجهها، قال أبو عليّ الفارسيّ: والأول أشبه.
قال النوويّ: وقد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في الصفوف، فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة"، ومعناه - والله أعلم - من إقامتها المأمور بها في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، وهذا يرجح القول الثاني، والله أعلم انتهى
(1)
.
(وَتَصُومَ رَمَضَانَ") زاد في الرواية التالية: "قال: صدقت"، وفي رواية النسائيّ:"قال: إذا فعلت ذلك، فقد أسلمتُ؟ قال: نعم، قال: صدقتَ، فلما سمعنا قول الرجل: صدقتَ، أنكرناه".
وقوله: "تصوم رمضان"، فيه حجة لمذهب الجماهير، وهو المختار الصواب، أنه لا كراهة في قول "رمضان" من غير تقييد بالشهر، خلافًا لمن كرهه، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في "كتاب الصيام" - إن شاء الله تعالى - بدلائله، وشواهده.
(قَالَ) الرَّجُلُ (يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية النسائيّ: "قال: يا محمد"(مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ)، هكذا الرواية بإثبات ألف "تراه"، وكان حقّه أن تُحذف للجازم، كما قال في "الخلاصة":
وَأَيُّ فِعْلٍ آخِرٌ مِنْهُ أَلِفْ
…
أَوْ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ فَمُعْتَلًّا عُرِفْ
فَالأَلِفَ انْوِ فِيهِ غَيْرَ الْجَزْمِ
…
وَأَبْدِ نَصْبَ مَا كـ "يَدْعُو""يَرْمِي"
وَالرَّفْعَ فِيهِمَا انْوِ وَاحْذِفْ جَازِمَا
…
ثَلَاثَهُنَّ تَقْضِ حُكْمًا لَازِمَا
وقال أبو البقاء الْعُكبريّ في "إملائه": كذا وقع في هذه الرواية "تراه"
(1)
"شرح النووي" 1/ 163.
بالألف، والوجه حذفها، لأن "إن" لا تحتمل هنا من وجه "إن" المكسورة إلا الشرطيّة، وهي جازمة، وعلى هذا يمكن تأويل هذه الرواية على أنه أُشبع فتحة الراء، فنشأت الألف، وليست من نفس الكلمة، ويجوز أن يكون جعل الألف في الرفع عليها حركة مقدّرة، فلما دخل الجازم حذف تلك الحركة، فبقيت الألف ساذَجَةً من الحركة، كما يكون الحرف الصحيح ساكنًا في الجزم، وعلى هذين الوجهين حُمل قوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] بإثبات الياء على قراءة ابن كثير، وكذا قول الشاعر [من الرجز]:
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ
…
وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ
فأثبت الألف في "ترضاها". انتهى
(1)
.
وقال السيوطيّ في "العقود" بعد كلام أبي البقاء: وقال ابن هشام في "تذكرته": جاء في باب الجوازم إهمال "إن" حملًا على "إذا"، نحو قراءة طلحة:{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ} [مريم: 26] حكاه في "المحتسب"، ومن هذا الحديثُ، وقال ابن مالك في "توضيحه" في حديث البخاريّ في قوله أبي جهل - لعنه الله - لصفوان:"متى يراك الناس قد تخلّفت، وأنت سيّد أهل الوادي تخلّفوا معك": تضمّن هذا الكلام ثبوت ألف "يراك" بعد: متى "الشرطيّة، وكان حقّها أن تُحذف، فيقال: متى يَرَكَ"، كما في قوله تعالى:{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ} [الكهف: 39].
وفي ثبوتها أربعة أوجه:
[إِحداها]: أن يكون مضارع راء بمعنى رأى، كقول الشاعر [من الطويل]:
إِذَا رَاءَنِي أَبْدَى بَشاشَةَ وَاصِلٍ
…
وَيَأْلَفُ شَنْأَنِي إِذَا كُنْتُ غَائِبًا
ومضارعه يراءُ، فجُزم، فصار يَرَأ، ثم أبدلت همزته ألفًا، فثبتت في موضع الجزم، كما ثبتت الهمزة التي هي بدل منها، ومثله (أم ينبا) في وقف حمزة وهشام.
[الثاني]: "أن تكون "متى" شُبّهت بـ "إذا"، فأُهملت، كما شُبّهت "إذا" بـ "متى"، فأُعملت، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ وفاطمة رضي الله عنهما: "إذا أخذتما
(1)
"إتحاف الحثيث بإعراب ما يُشكل من الحديث" ص 191 - 192.
مضاجعكما، تكبّرا أربعًا وثلاثين، وتسبّحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدا ثلاثًا وثلاثين"، رواه البخاريّ.
وهو في النثر نادرٌ، وفي الشعر كثيرٌ، وفي تشبيه "متى" بـ "إذا"، وإهمالها قول عائشة رضي الله عنها:"إن أبا بكر رجلٌ أسِيفٌ، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمِعُ الناس"، رواه البخاريّ.
ونظير حمل "متى" على "إذا"، وحمل "إذا" على "متى"، حملهم "إن" على "لو" في رفع الفعل بعدها، وحملهم "لو" على "إن" في الجزم بها.
فمن رَفعِ الفعل بعد "إن" حملًا على "لو" قراءة طلحة: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26] بسكون الياء، وتخفيف النون، فأثبت نون الرفع في فعل الشرط بعد "إن" مؤكّدة بـ "ما"؛ حملًا لها على "لو".
ومن الجزم بـ "لو" حملًا لها على "إن" قول الشاعر [من الخفيف]:
لَوْ تَعِدْ حِيْنَ فَرَّ قَوْمُكَ بِي
…
كُنْتَ فِي الأَمْنِ فِي أَعَزِّ مَكَانْ
ومثله قوله:
لَوْ يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ
…
لَاحِقُ الآطَال نَهْدٌ ذُو خُصَلْ
ومثله قول الآخر [من البسيط]:
تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ
…
إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا
[الوجه الثالث]: أن يكون أُجري المعتلّ مُجرى الصحيح، فأثبتت الألف، واكتُفِي بتقدير حذف الضمّة التي كان ثبوتها منويًّا في الرفع، ونظيره قول الشاعر [من الطويل]:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ
…
كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا
ومثله قول الآخر [من الرجز]:
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ
…
وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ
ومن هذا على الأظهر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا"، وجُعل الكلام خبرًا بمعنى النهي. انتهى كلام ابن مالك رحمه الله تعالى
(1)
.
(1)
راجع: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 17 - 20.
(فَإِنَّهُ يَرَاكَ) تقدّم تحقيق هذه الجملة في شرح الحديث الماضي (قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية النسائيّ: "يا محمد"(مَتَى السَّاعَةُ؟)، أي: متى تقوم القيامة؟ زاد عند النسائيّ: "قال: فنَكَسَ، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يُجبه شيئًا، ورفع رأسه، فقال: ما المسئول عنها
…
" (قَالَ: "مَا الْمسئول عَنْهَا بِأَعْلَمَ) الباء زائدة لتأكيد النفي (مِنْ السَّائِلِ) إنما عَدَل عن قوله: "لست بأعلم بها منك" إلى لفظ يشعر بالتعميم تعريضًا للسامعين، يعني أن كل مسئول وكل سائل عن وقت الساعة سواء، فكلهم غير عالمين بها على الحقيقة، وهذا وإن كان مشعرًا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعدُ:"خمسٌ لا يعلمها إلا الله"، وسيأتي نظير هذا التركيب ما وقع عند النسائيّ في أواخر هذا الحديث، من قوله:"ما كنت بأعلم به من رجل منكم"، فإن المراد أيضًا التساوي في عدم العلم به، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما هنا، فقال:"سبحان الله، خمسٌ من الغيب لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية".
قال النووي رحمه الله: يُستنبط منه أن العالم إذا سُئل عما لا يَعلَم يُصَرِّح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقصٌ من مرتبته، بل يكون ذلك دليلًا على مزيد وَرَعِه.
وقال القرطبي رحمه الله: مقصود هذا السؤال كَفُّ السامعين عن السؤال عن وقت الساعة؛ لأنهم قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث، فلما حَصَلَ الجواب بما ذُكِر هنا حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة؛ ليتعلمها السامعون ويعملوا بها، ونَبّه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن.
(وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا) بفتح الهمزة، أي: علاماتها، واحدها شَرَطٌ - بفتح الشين والراء - قال أبو جعفر الطبريّ: ومنه سُمّي الشُّرَاط؛ لجعلهم لأنفسهم علامةً يُعرفون بها، وقيل: أشراطها: مقدّماتها، وأشراط الأشياء أوائلها، ومن ذلك سُمّي الشَّرَطان
(1)
؛ لتقدّمهما أول الربيع، وقيل:
(1)
"الشَّرَطان" بالتحريك هما أول نجم من الربيع.
الأشراط جمع شَرْط، وهو الدُّون من كلّ شيء، فأشراط الساعة، صغار أمورها قبل قيامها، ولهذا سُمّي الشرطُ، وكله متقارب
(1)
.
وتقدّم في حديث عمر رضي الله عنه قوله: "فأخبرني عن أماراتها"، وتقدم الجمع بين قوله:"سأحدثك"، وقوله:"فأخبرني"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّهَا) التعبير بـ "إذا"، للإشعار بتحقّق الوقوع، وتقدّم الخلاف في المراد بالربّ في شرح الحديث الماضي.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قد اقتصر في هذا الحديث على ذكر بعض الأشراط التي يكون وقوعها قريبًا من زمانه، وإلا فالشروط كثيرة، وهي أكثر مما ذُكر هنا، كما دلّ عليه الكتاب، والسنّة، ثم إنها منقسمة إلى ما يكون من نوع المعتاد، كهذه الأشراط المذكورة في هذا الحديث، وكرفع العلم، وظهور الجهل، وكثرة الزنا، وشرب الخمر، إلى غير ذلك، وأما التي ليست من النوع المعتاد، فكخروج الدجّال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، ودابّة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، والدخان، والنار التي تسوق الناس، وتحشرهم. انتهى
(2)
.
(فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) أي: من علاماتها (وَإِذَا كَانَتِ الْعُرَاةُ الْحُفَاةُ رُؤُوسَ النَّاس، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإذَا تَطَاوَلَ) أي: تفاخر، وتكاثر (رِعَاءُ الْبَهْمِ) بفتح الباء وإسكان الهاء، وهي الصغار من أولاد الغنم: الضأن والمعز جميعًا، وقيل: أولاد الضأن خاصة، واقتصر عليه الجوهريّ في "صحاحه"، والواحدة بَهْمَة، قال الجوهريّ: وهي تقع على المذكر والمؤنث، والسِّخَال أولاد المعزى، قال: فإذا جَمَعتَ بينهما قلت: بِهَامٌ أيضًا، وقيل: إن الْبَهْم يختص بأولاد المعز، وإليه أشار القاضي عياض بقوله: وقد يختص بالمعز، وأصله كُلُّ ما استبهم عن الكلام، ومنه البهيمة. انتهى
(3)
.
(1)
"إكمال المعلم" للقاضي عياض 1/ 118 - 119 وشرح النوويّ " 1/ 163.
(2)
"المفهم" 1/ 155.
(3)
شرح مسلم" للنوويّ 1/ 163 - 164.
وقال القرطبيّ: ورواية مسلم في رعاء البَهْم من غير ذكر الإبل أولى؛ لأنها الأنسب لمساق الحديث ولمقصوده، فإن مقصوده أن أضعف أهل البادية، وهم رعاء الشاء سينقلب بهم الحال إلى أن يصيروا ملوكًا، مع ضعفهم وبُعدهم عن أسباب ذلك، وأما أصحاب الإبل فهم أهل الفخر والخيلاء؛ فإن الإبل عزّ لأهلها، ولأن أهل الإبل ليسوا عالةً، ولا فقراء غالبًا. انتهى
(1)
.
ووقع في رواية البخاريّ: "رُعَاء الإبل الْبُهْم"، قال في "الفتح": قوله: "رِعَاة الإبل" هو بضم الراء، جمع راع، كقُضَاةٍ وقاضٍ، والْبُهْم بضم الموحدة، ووقع في رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل، وإنما يتجه مع ذكر الشِّيَاه، أو مع عدم الإضافة، كما في رواية مسلم "رِعَاء الْبَهْم"، وميم "البهم" في رواية البخاري يجوز ضمها، على أنه صفة الرعاة، ويجوز الكسر على أنها صفة الإبل، يعني الإبل السُّود، وقيل: إنها شَرّ الألوان عندهم، وخيرها الْحُمْر التي ضُرِب بها المثل، فقيل:"خير من حُمْر النعم"، ووصف الرعاة بـ "البهم" إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أُبْهِم الأمر، فهو مبهم، إذا لم تُعرَف حقيقته. وقال القرطبي: الأَولى أن يُحمَل على أنهم سُود الألوان؛ لأن الأُدْمة غالب ألوانهم، وقيل: معناه أنهم لا شيء لهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"يُحْشَر الناس حُفاةً عُرَاةً بُهْمًا"، قال: وفيه نظر؛ لأنه قد نُسِب له الإبل، فكيف يقال: لا شيء لهم؟
قال الحافظ: يُحمَل على أنها إضافة اختصاص، لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يَرعَى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقَلَّ أن يباشر الرَّعْي بنفسه
(2)
. وقد تقدّم البحث في هذا في الباب الماضي بأتمَّ مما هنا، فراجعه تستفد.
(فِي الْبُنْيَانِ) أي: في تطويله (فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ) أي: عِلْمُ وقت الساعة داخل في جملة خمس، وحَذْفُ مُتَعَلَّق الجارّ سائغ، كما في قوله تعالى:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]، أي: اذْهَبْ إلى فرعون بهذه الآية، في جملة تسع آيات.
(1)
"المفهم" 1/ 150 - 151.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 150.
وفي رواية عطاء الخراساني: "قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب، لا يعلمها إلا الله".
وقال القرطبيّ: قوله: "في خمس إلخ": فيه حذف، وتوسّعٌ: أي: هي من الخمس التي قد انفرد الله بعلمها، أو في عددهنّ، فلا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس، ولقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُو} [الأنعام: 59]، فلا طريق لعلم شيء من ذلك، إلا أن يُعْلِم الله تعالى بذلك، أو بشيء منه أحدًا ممن شاءه، كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26 - 27]، فمن ادّعى علم شيء من هذه الأمور كان في دعواه كاذبًا، إلا أن يُسند ذلك إلى رسول بطريق تفيد العلم القطعيّ، ووجود ذلك متعذّر، بل ممتنع، وأما ظنّ الغيب، فلم يتعرّض شيء من الشرع لنفيه، ولا لإثباته، فقد يجوز أن يظنّ المنجّم، أو صاحب خطّ الرمل، أو نحو هذا شيئًا مما يقع في المستقبل، فيقع على ما ظنّه، فيكون ذلك ظنًّا صادقًا، إذا كان عن موجب عاديّ يقتضي ذلك الظنّ، وليس بعلم، فيُفهم هذا منه، فإنه موضع غَلِطَ بسببه رجالٌ، وأُكلت به أموالٌ.
[ثم اعلم]: أن أخذ الأجرة، والْجُعْل، وإعطائها على ادّعاء علم الغيب، أو ظنّه لا يجوز بالإجماع، على ما حكاه أبو عمر بن عبد البرّ. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أُوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء، سوى هذه الخمس. وعن ابن عمر مرفوعًا نحوه، أخرجهما أحمد. وأخرج حميد بن زنجويه، عن بعض الصحابة، أنه ذُكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره، فأنكر عليه، فقال: إنما الغيب خمس، وتلا هذه الآية، وما عدا ذلك غيب، يعلمه قوم، ويجهله قوم.
[تنبيه]: تضمن الجواب زيادة على السؤال، للاهتمام بذلك، إرشادًا للأمة، لما يترتب على معرفة ذلك من المصلحة.
[فإن قيل]: ليس في الآية أداة حصر، كما في الحديث؟ أجاب الطيبي
(1)
"المفهم" 1/ 155 - 156.
بأن الفعل، إذا كان عظيم الخطر، وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن، فُهم منه الحصر على سبيل الكناية، ولا سيما إذا لُوحظ ما ذُكر في أسباب النزول، من أن العرب كانوا يَدَّعُون علم نزول الغيث، فيُشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك، واختصاصه بالله سبحانه وتعالى.
[فائدة]: النكتة في العدول عن الإثبات إلى النفي في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وكذا التعبير بالدراية، دون العلم؛ للمبالغة والتعميم، إذ الدراية اكتساب على الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذلك عن كل نفس، مع كونه من مختصاتها، ولم تقع منه على علم، كان عدم اطلاعها على علم غير ذلك من باب أولى. انتهى ملخصًا من كلام الطيبي.
(لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم: ({إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]) أي: علم وقت قيامها (وَيُنَزِّلُ) قرأ بالتشديد ابن عامر، ونافع، وعاصم من السبعة، وقرأ الباقون بالتخفيف، وهو عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل، تقديره: إن الله يَثْبُتُ عنده علم الساعة، وينزل (الْغَيْثَ) أي: المطر في إبّانه من غير تقديم ولا تأخير (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَام) أذكرٌ أو أنثى، تامّ أو ناقص (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) برّة كانت أو فاجرةً (مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) من خير أو شرّ، فربّما كانت عازمةً على فعل خير، فعملت شَرًّا، أو بالعكس (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي: أين تموت، فربّما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها، فترمي بها مرامي الأقدار حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالغيوب (خَبِيرٌ) بما كان ويكون.
قال النسفيّ رحمه الله: جَعَلَ العلم لله، والدراية للعبيد؛ لما في الدراية من معنى الْخَتْل والحيلة، والمعنى أنها لا تَعْرِفُ، وإن أعمَلَت حِيَلَها ما يختصّ بها، ولا شيءَ أخصّ بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان معرفة ما عداهما أبعدَ، وأما المنجّم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت، فإنه يقول بالقياس، والنظر في الطالع، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيبًا، على أنه مجرّد الظنّ، والظنّ غير العلم. انتهى كلام النسفيّ
(1)
.
(1)
راجع: "تفسير النسفيّ" 3/ 285 - 286.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله
(1)
: هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعِلمُ وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أَمَرَ به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه، وكذلك لا يَعْلَم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أَمَر بكونه ذكرًا أو أنثى، أو شقيًّا أو سعيدًا، علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدًا في دنياها وأخراها وما تدري نفس بأي أرض تموت في بلدها أو غيره، من أيّ بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك، وهذه شَبِيهة بقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية [الأنعام: 59]، وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب.
قال: وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سليمان بن أبي مسيح، قال: أنشدني محمد بن الحكم لأعشى همدان [من البسيط]:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ
…
سِوَى حَنْوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ مَعْ خِرَقِ
وَغَيْرِ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ
(2)
…
وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
لَا تَأْسَيَنَّ عَلَى شَيْءٍ فَكُلُّ فَتًى
…
إِلَى مَنِيَّتِه سَيَّارٌ فِي عَنَقِ
وَكُلُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَوْتَ يُخْطِئُهُ
…
مُعَلَّلٌ بِأَعَالِيلٍ مِنَ الْحُمُقِ
بِأَيِّمَا بَلْدَةٍ تُقْدَرْ مَنِيَّتُهُ
…
إِنْ لَا يَسِيرُ
(3)
إِلَيْهَا طَائِعًا يُسَقِ
أورده الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، وهو أعشى هَمْدَان، وكان الشعبي زوج أخته، وهو مُزَوَّج بأخت الشعبي أيضًا، وقد كان ممن طَلَب العلم وتَفَقَّهَ، ثم عدل إلى صناعة الشعر، فعُرِف به
(4)
.
وأخرج ابن عساكر عن المبرّد قال: كان عمر بن عبد العزيز كثيرًا ما يتمثّل:
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 3/ 454.
(2)
وعند ابن عساكر: "تسير له".
(3)
وفي "تاريخ دمشق". أي "يُسَبَّح".
(4)
راجع ترجمته في: "تاريخ دمشق" 34/ 478 - 482.
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ
…
سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ في خِرَقِ
وَغَيْرِ نَفْجَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ
…
وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
بِأَيِّ مَا بَلَدٍ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ
…
إِلَّا يَسْرِ طَائِعًا فِي قَصْدِهَا يُسَقِ
(1)
وقد روى ابن ماجه في "سننه"(4263) بسند صحيح، عن عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان أجل أحدكم بأرض، أوثبته إليها الحاجة، فإذا بلغ أقصى أثره، قبضه الله سبحانه، فتقول الأرض يوم القيامة: رَبِّ هذا ما استودعتني"
(2)
.
وأخرج الطبرانّي في "الكبير" بإسناده صحيح أيضًا عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما جَعَلَ الله مَنِيَّة عبد بأرض، إلا جعل له إليها حاجة"
(3)
.
(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ) أي: ذهب (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ") أي: ائتوني به (فَأَخَذُوا) أي: فشرعوا (لِيَرُدُّوهُ) وفي رواية عمارة التالية: "فالْتُمِسَ، فلم يجدوه"(فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا) فيه أن المَلَك يجوز أن يتمثل لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم فيراه، ويتكلم بحضرته وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه كان يسمع كلام الملائكة.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ")، وفي رواية عمارة التالية:"هذا جبريل أراد أن تَعَلَّموا؛ إذ لم تسألوا"، وفي رواية أبي فَرْوة عند النسائيّ:"والذي بعث محمدًا بالحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل"، وفي حديث أبي عامر الأشعريّ عند أحمد بسند حسن - كما قال الحافظ -:"ثم وَلّى، فلما لم نَرَ طريقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم، والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه، إلا أن تكون هذه المرة"، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في حديث عمر رضي الله عنه الماضي، وكذا البحث عن المسائل المتعلّقة به، قد استوفيته هناك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع: "تاريخ دمشق" 45/ 240.
(2)
راجع: "سنن ابن ماجه" 2/ 1424.
(3)
"المعجم الكبير" 1/ 178 رقم (461).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) رحمه الله تعالى هنا في "الإيمان"(1/ 105) عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزُهير بن حرب جميعًا، عن ابن عُليّة - (ح) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن محمد بن بشر - كلاهما عن أبي حيان التيميّ - و (1/ 107) عن زهير بن حرب، عن جرير، عن عمارة بن القعقاع - كلاهما عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عنه. وأخرجه (البخاريّ)(1/ 19) عن مسدّدٌ، عن إسماعيل بن إبراهيم، و (6/ 144) عن إسحاق، عن جرير بن عبد الحميد، عن أبي حيّان به.
و (أحمد)(2/ 426) عن إسماعيل بن علية، عن أبي حيّان به.
و (ابن ماجه)(64) و (4044) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن عليّة به و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(85 و 86).
و (ابن خزيمة)(2244) عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، عن ابن عليّة به، (ح) وعن يوسف بن موسى، عن جرير به، (ح) وعن موسى عبد الرحمن المسروقيّ عن أبي أسامة، عن أبي حيّان به، (ح) وعن عبدة بن عبد الله الْخُزَاعيّ، عن محمد بن بشر، عن أبي حيّان التيميّ به. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة):
ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى في "الإكمال" عن الإمام المازريّ رحمه الله أنه قال في "شرحه": خرّجه - يعني هذا الحديث - مسلم عن زهير بن حرب، عن جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، ثم قال مسلم: جرير كنيته أبو عمرو، وأبو زرعة اسمه عُبيد الله، وأبو زرعة هذا روى عنه الحسن بن عُبيد الله، وأبو زرعة كوفّي من أشجع.
قال بعضهم
(1)
: وقع هذا الكلام لمسلم في رواية ابن ماهان خاصّةً،
(1)
هو أبو عليّ الْجَيّانيّ.
وليس في رواية الجلوديّ، ولا الكسائيّ منه شيء، قال: وبين أهل العلم خلافٌ في هذه الجملة.
أما قوله: أبو زرعة اسمه عُبيد الله، فقد قاله أيضًا في "كتاب الطبقات"، قال: وقال البخاريّ في "تاريخه"، ومسلم في "كتاب الكنى": أبو زرعة اسمه هَرِم، وخالفهما يحيى بن معين، فقال: أبو زرعة بن عمرو، واسمه عَمرو بن عمرو، وكذا ذكره النسائيّ في الأسماء والكنى من تأليفه.
وأما قوله: أبو زرعة روى عن الحسن، فقد قاله البخاريّ أيضًا
(1)
، وقد خولفا في ذلك، فقيل: الذي يروي عنه الحسن رجلٌ آخر يروي عن ثابت بن قيس، اسمه هَرِم، قاله ابن المدينّي، وإليه ذهب ابن الجارود في "كتاب الكنى"، قال: ثم ذكر ابن الجارود ترجمة أخرى، فقال: أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه روى عنه عمارة بن القعقاع، والحارث الْعُكْليّ، وأبو حيّان التيميّ، وكذا ذكر النسائيّ ترجمتين، كما فَعَل ابن الجارود سواءً.
وأما قوله في رواية ابن ماهان: أبو زرعة كوفِيّ من أشجع، فقال بعضهم: لا أعلم ما يقول، كيف يكون من أشجع؟ وأبو زرعة الذي في الإسناد هو ابن عَمْرو بن جرير بن عبد الله الْبَجليّ، وأين يجتمع أشجع وبَجِيلة، إلا أن يريد رجلًا آخر. انتهى كلامه
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن أبا زرعة بجليّ، لا أشجعيّ، وقد تقدّم نحو هذا الكلام في ترجمة أبي زرعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل أول الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[106]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ: "إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ بَعْلَهَا" - يَعْني السَّرَارِيَّ).
(1)
راجع: "التاريخ الكبير" 8/ 243.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 123 - 126.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهمدانّي، أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) 1/ 5.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) بن الْفُرَافِصَة بن المختار الحافظ العبديّ، أبو عبد الله الكوفِيّ، ثقة حافظ [9].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عُمر العمريّ، ويزيد بن زيادة بن أبي الجعد، والأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، والثوري، وشعبة، وغيرهم.
ورَوى عنه علي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو كريب، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وموسى بن حِزَام الترمذي، وهارون بن عبد الله الْحَمّال، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، وعبدة بن عبد الله الصفار، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: هو أحفظ من كان بالكوفة. وقال الكديمي عن أبي نعيم: لَمّا خرجنا في جنازة مِسْعَر جعلت أتطاول، فقلت: يجيئوني فيسألوني عن حديث مِسْعَر، فذاكرني محمد بن بشر العبدي بحديث مسعر، فأغرب علي سبعين حديثًا لم يكن عندي منها إلا حديث واحد. وفي "المراسيل" قال ابن معين: والله ما سمع محمد بن بشر من مجاهد بن رُومي شيئًا، ولكنه مرسل. وقال النسائي، وابن قانع: ثقة. وقال ابن الجنيد عن ابن معين: لم يكن به بأس. وقيل له: هو أحب إليك، أو أبو أسامة؟ فقال: أبو أسامة. وقال ابن شاهين في: "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: محمد بن بشر ثقة ثبتٌ إذا حَدّث من كتابه.
قال البخاريّ، وابن حبان: مات سنة ثلاث ومائتين، وفيها أَرَّخه يعقوب بن شيبة، ومحمد بن سعد، وزاد: في جمادى، وكان ثقةً كثير الحديث.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (83) حديثًا.
3 -
(أبو حيّان التيميّ) يحيى بن سعيد بن حيّان المذكور قريبًا.
وقوله: "بهذا الإسناد" الإشارة إلى إسناد أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير
عن ابن عليّة، عن أبي حيّان، عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: "مثله"، أي: مثل المتن السابق، وقد تقدَّم أنه لا يطلق لفظ "مثل" إلا إذا اتفقا لفظًا
(1)
، ولذا استثنى ما اختلفا فيه، وهو "إذا ولدت الأمة بعلها".
ولفظ رواية محمد بن بشر ساقه ابن خزيمة في "صحيحه"، فقال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّورقيّ، حدثنا ابن علية حدثنا أبو حيان (ح) وحدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن أبي حيان التيمي (ح) وحدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا أبو أسامة، حدثني أبو حيان التيمي (ح) وحدثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، أخبرنا محمد بن بشر، حدثني أبو حيّان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر"، قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "أن تعبد الله، لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان"، وقال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائلَ، ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها - يعني السراري - فقال: فذلك من أشراطها، وإذا تطاول رِعَاء الْبَهْم في البنيان، فذلك أشراطها، وإذا صار الْعُرَاة الْحُفَاة رؤوس الناس، فذلك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا لله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخر السورة [لقمان: 34]، ثم أدبر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا جبريل، يعلم الناس دينهم"، هذا حديمث محمد بن بشر
(2)
.
(1)
هكذا ذكر الحاكم أبو عبد الله هذه القاعدة كما سبق بيانه في شرح المقدمة، لكن بتتبعي لصنيع المصنف رحمه الله في هذا الكتاب ظهر لي أنه لا يفرق بين "مثله" و"نحوه"، فقد يستعمل كلًّا منهما فيما اتَّفَقَ لفظًا، أو معنى فقط، فمن أراد تحقيق ذلك، فليتابع صنيعه يتضح له تمام الاتضاح، على أنه يمكن أن يكون الاختلاف واقعًا بعد المصنف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 5.
وقوله: "غير أن في روايته إلخ"، يعني: أن رواية محمد بن عبد الله بن نمير قوله: "إذا ولدت الأمة بعلها" بدل رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بلفظ:"إذا وَلَدت الأمة ربّها"، لكن وقع عند ابن خزيمة كما أسلفته آنفًا بلفظ "ربّها"، فليُنظر.
وقوله: "يعني السَّرَارِيّ" هذه العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟.
و"السَّرَاريّ": بتشديد الياء، ويجوز تخفيفها لغتان معروفتان، الواحدة سُرِّيّة بالتشديد، قال ابن السِّكِّيت في "إصلاح المنطق": كل ما كان واحده مشدّدًا من هذا النوع جاز في جمعه التشديد والتخفيف، والسُّرِّية الجارية الْمُتَّخَذَة للوطء، مأخوذة من السِّرّ، وهو النكاح، قال الأزهريّ: السُّرّيّة فُعْلِيَّةٌ من السِّرّ، وهو النكاح، قال: وكان أبو الهيثم يقول: السّرّ، والسُّرُور، فقيل لها: سرية؛ لأنها سُرُور مالكها، قال الأزهريّ، وهذا القول أحسن، والأول أكثر. ذكره النوويّ
(1)
.
وقال ابن منظور: واختَلَف أهلُ اللغة في الجارية التي يتسرّاها مالكها لِمَ سُمّيت سُرِّيّةً، فقال بعضهم: نُسبت إلى السِّرّ، وهو الجماع، وضُمّت السين للفرق بين الحرّة والأمة توطأ، فيقال للحرّة إذا نُكحت سرًّا، أو كانت فاجرةً: سِرِّيّةٌ - بالكسر - وللمملوكة يتسرّاها صاحبها: سُرّيّةٌ؛ مخافةَ اللَّبْس، وقال أبو الْهَيثم: السِّرّ: السرور، فسميّت الجارية سُرّيّةً؛ لأنها موضع سُرُور الرجل، قال: وهذا أحسن ما قيل فيها، وقال الليث: السُّرّيّةُ فُعْلِيّةٌ، من قولك: تسرّرتُ، ومن قال: تسرّيت، فإنه غَلط، وتعقّبه الأزهريّ، فقال: هو الصواب، والأصلُ تسرّرت، ولكن لَمّا توالت ثلاث راءات أبدلوا إحداهنّ ياء، كما قالوا: تظنّيتُ من الظنّ، وقصّيتُ أظفاري، والأصل قَصَصتُ، ومنه قول العجاج [من الرجز]:
تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ
انتهى كلام ابن منظور بتصرّف يسير
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 1/ 164.
(2)
"لسان العرب" 4/ 358.
وقال ابن الأثير: المراد بالبعل ها هنا المالك، يعني كثرة السبي، والتسرّي، فإذا استولد المسلم جاريةً كان ولدها بمنزلة ربّها. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل أول الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[107]
(10) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ - وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ - عَنْ أَبي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلُونِي، فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا الإِسلَامُ؟ قَالَ: "لَا تُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلَائِكَتِه، وَكِتَابِه، وَلِقَائِه، وَرُسُلِه، وَتُوْمِنَ بِالْبَعْث، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَخْشَى اللهَ كَانكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمسئول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِل، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ، مُلُوكَ الْأَرْض، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْم، يَتَطَاوَلُونَ، فِي الْبُنْيَان، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ مِنْ الْغَيْب، لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ"، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]، قَالَ: ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَالْتُمِسَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا جِبْرِيلُ، أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا، إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَرِيرٌ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ الكوفّي، نزيل الرَّيّ،
(1)
"النهاية" 1/ 141.
وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يَهِمُ من حفظه [8](ت 188)(ع) 5/ 49.
2 -
(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ)
(1)
بن شُبْرُمة - بضم المعجمة والراء، بينهما موحّدة ساكنة - الضبي - بالمعجمة، والموحّدة - الكوفي، ابن أخي عبد الله بن شُبْرُمة، وكان أكبر من عمه، ثقة [6].
رَوَى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي نُعْمٍ البجلي، والحارث الْعُكْليّ، والأخنس بن خليفة الضبي.
وروى عنه الحارث العكليُّ شيخه، وابنه القعقاع بن عُمارة، والأعمش، وفضيل بن غَزْوان، وابنه محمد بن فضيل، وعبد الواحد بن زياد، والسفيانان، وشريك، وغيرهم. قال البخاريّ عن علي: له نحو ثلاثين حديثًا. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. ووثقه ابنُ سعد، ويعقوب بن سفيان. وذكره ابن حبان في الثقات"، وقال ابن عُيينة: عُمارة بن القعقاع ابن أخي عبد الله بن شُبْرُمة، وعبدُ الله بن عيسى ابن أخي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كانوا يقولون: هما أفضل مِن عَمَّيهما. وقال ابن أبي حاتم في المراسيل" عن أبيه: عُمَارة بن القعقاع عن ابن مسعود، ليس بمتصل، بينهما رجل.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.
والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: "وهو ابن القعقاع"، زاد المصنّف قوله:"وهو"، ولم يقل: عمار بن القعقاع؛ لأن شيخه زهيرًا لم ينسبه إلى أبيه، وإنما قال:"حدّثنا جريرٌ عن عمارة، عن أبي زرعة، فأراد المصنّف أن يبيّنه بذكر أبيه، فزاد "وهو"؛ لئلا يكون كاذبًا على شيخه، وقد تقدّم بيان هذا غير مرّة، فلا تغفل.
وقوله: "سلوني إلخ"، هذا ليس بمخالف للنهي عن سؤاله في قوله عز وجل:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]، فإن هذا المأمور به هو فيما يحتاج إليه، فهو
(1)
"عُمارة - بضم العين المهملة، وتخفيف الميم -، و"القعقاع" بفتح القاف الأولى.
موافقٌ لقوله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية [النحل: 43]
(1)
.
وفيه أمر العالم الناس بسؤاله عما يحتاجون إليه؛ ليبيّنه لهم، وأنهم إن لم يُحسنوا السؤال ابتدأ التعليم من قِبَل نفسه، كما فعل جبريل عليه السلام، أو يَجعل من يسأل، فيُجيبُ بما يلزمهم علمه
(2)
.
وقوله: "وتؤمن بالقدر"، قيل: لعلّ الحكمة في إعادة لفظ: "وتؤمن كأنها إشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة "تؤمن"، ثم أكّده بقوله: "كلّه"، بل في الرواية الأخرى بالإبدال بقوله: "خيره وشرِّه، وحُلْوِه ومُرِّه"، ثم زاده تأكيدًا بقوله في الرواية الأخرى أيضًا: "من الله".
وقوله: "وإذا رأيت الْحُفَاة الْعُرَاة الصُّمَّ الْبُكْم": المراد بهم الْجَهَلَة السَّفَلَة الرِّعاع، وقيل لهم: ذلك مبالغةً في وصفهم بالجهل، كما قال سبحانه وتعالى:"صمّ بكم عُميٌ"، أي لَمّا لم ينتفعوا بجوارحهم هذه، فكأنهم عَدِموها، يعني أنهم لم يستعملوا أسماعهم، ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم، وإن كانت حَوَاسُّهم سَلِيمة.
وقوله: "ملوك الأرض"، وفي رواية:"رؤوس الناس"، وأراد بهم أهلَ البادية، كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره قال:"ما الحفاة العراة"؟ قال: "الْعُرَيب" وهو بالعين المهملة على التصغير، وفي الطبراني من طريق أبي حمزة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:"مِن انقلاب الدين تَفصُّح النَّبَط، واتخاذهم القُصُور في الأمصار".
قال القرطبيّ رحمه الله: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهلُ البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان، والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذا الزمان، ومنه الحديث الآخر:"لا تقوم الساعة حتى يكون أسعدُ الناس بالدنيا لُكَعَ ابن لُكَع"، ومنه:"إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله، فانتظروا الساعة"، وكلاهما في "الصحيح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "شرح النووي" 1/ 165.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 126.
(2) - (بَابُ بَيَانِ الصَّلَوَاتِ الَّتي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسلَامِ)
وبسندنا المتّصل الذي سبق في أَوَّل الكتاب إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال:
[108]
(11) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ مَالكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْه، عَنْ أبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ الله، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَاثِرُ الرَّأْس، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِه، وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَام، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، فَقَالَ: "هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ) الْبَغلاني، ثقة ثبت [10] مات سنة (240) عن (90) سنة، (ع) 5/ 49.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنسٍ) بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله الفقيه، رأس الْمُتْقِنين، وكبير المتثبّتين [7] مات سنة (179)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" 1/ 382 - 385.
3 -
(أَبُو سُهَيْلٍ) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ التيميّ المدنيّ، حَلِيف بني تيم، ثقة [4].
رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وغيرهم.
ورَوَى عنه الزهري، وهو من أقرانه، وابن أخيه مالك بن أنس إمام دار
الهجرة، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير، ومحمد بن طلحة التيمي، وعبد العزيز الدَّرَاوَرْدي، وآخرون.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: من الثقات. وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا. وقال الواقديّ: كان يؤخذ عنه القراءة بالمدينة، هَلَك في إمارة أبي العباس.
وفي "التقريب": ثقة [4]، مات بعد (140).
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (12) و (89) و (1793) و (1794).
4 -
(أَبُوهُ) مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو أنس، ويقال: أبو محمد، جَدُّ مالك بن أنس الفقيه، ثقة [2].
رَوَى عن عمر، وعثمان، وطلحة، وعَقيل بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعائشة، وربيعة بن مُحْرِز، كاتب عمر، وكعب الأحبار.
وروى عنه أبناؤه: أنس، والربيع، ونافع، وسليمان بن يسار، وسالم أبو النضر، ومحمد بن إبراهيم التيمي.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وقال: فَرَضَ له عثمان. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث صالحة.
قال ابنه الربيع: مات أبي حين اجتمع الناس على عبد الملك - يعني سنة أربع وسبعين -.
[تنبيه]: وَهِمَ عبد الغني في "الكمال" تبعًا لابن سعد، عن الواقديّ، قال: إنه مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وهو ابن سبعين، أو اثنتين وسبعين سنة.
وتعقّبه المنذريّ بأن سماعه من طلحة مُصَرَّحٌ به في "الصحيح"، وطلحةُ قُتِل سنة ست وثلاثين، وعلى ما ذكره يكون مولده سنة أربعين، فكيف يمكن سماعه؟ ثم قال: فلعله كان الوهم في سنّه والصواب تسعين بتقديم التاء، انتهى.
قال الحافظ: وهو مشكل أيضًا، فقد صَحَّ سماعه من عمر رضي الله عنه، فإنه قال: شَهِدتُ عمر عند الجمرة، وذكر قِصَّة، أوردها ابن سعد بسند جيد،
والصواب ما تقدّم
(1)
، وكذا ذكره البخاريّ في "الأوسط" في "فصل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين".
أخرجه له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (12) و (89) و (337) و (1794) و (2967).
5 -
(طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عثمان بن عَمْرو بن كَعْب بن سَعْد بن تَيْم بن مُرّة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب القرشي التيميّ، أبو محمد المدنّي، يجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأب السابع مثل أبي بكر رضي الله عنه، أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأمه الصعبة أخت العلاء بن الحضرمي، من المهاجرات، غاب عن بدر، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وشَهدَ أُحُدًا وما بعدها، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذَكَرَ يوم أحد قال: ذاك يوم كُلُّه لطلحة، وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، والخمس الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، والستّة الذين هم أصحاب الشورى الذين تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهو ممن ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ووقاه بيده ضربة قُصِد بها، وقيل: جُرح في ذلك اليوم خمسًا وسبعين جراحةً، وشُلّت أصبعاه، وسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم طلحة الخير، وطلحة الجود.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وروى عنه أولاده: محمد، وموسي، ويحيي، وعمران، وعيسي، وإسحاق، وعائشة، وابن أخيه عبد الرَّحمن بن عثمان، وجابر بن عبد الله الأنصاري، والسائب بن يزيد، وقيس بن أبي حازم، ومالك بن أوس بن الحدثان، وأبو عثمان النَّهْديّ، ومالك بن أبي عامر الأصبحي، وربيعة بن عبد الله بن الْهُدَير، وعبد الله بن شدّاد بن الهاد، وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن، وقيل: لم يسمع منه، وغيرهم.
قال أبو أسامة: عن طلحة بن يحيى: أخبرني أبو بردة، عن مسعود بن خِرَاش قال: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة، فإذا أناس كثير يتبعون أناسًا، قال: فنظرت، فإذا شابّ مُوثَقٌ يده إلى عنقه، فقلت: ما شان هؤلاء؟ فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله قد صَبَأَ. وقال محمد بن عُمر بن علي: آخى
(1)
أي كونه مات سنة (74).
النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بينه وبين الزبير. ورُوي عن الزهري قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بين طلحة وأبي أيوب، خالد بن زيد. وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شَلاء وَقَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عيينة، عن عبد الملك بن عُمير، عن قَبِيصة بن جابر: صحبت طلحة بن عبيد الله، في رأيت رجلًا أعطى لجزيلِ مالٍ من غير مسألة منه. وقال البخاري في "التاريخ الصغير": حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، عن حُصَين في حديث عَمْرو بن جاوان قال: فالتقى القوم - يعني يوم الجمل - فكان طلحة من أول قتيل. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم: كان مروان مع طلحة والزبير يوم الجمل، فلما شَبّت الحرب قال مروان: لا أطلب بثأري بعد اليوم، فَرَمَى طلحة بسهم، فأصاب ركبته، فمات منه. وقال أبو مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة، مولى طلحة قال: دخلت على عليّ مع عمران بن طلحة، بعدما فَرَغ من أصحاب الجمل، فَرَحَّب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47]. وقال ابن سعد: أخبرني مَن سَمِع أبا جناب الكلبيّ يقول: حدثني شيخ من كلب، قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: لولا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه قَتَلَ طلحة، ما تركتُ أحدًا من ولد طلحة إلَّا قتلته بعثمان. وقال الحميدي في "النوادر" عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن مروان قال: دخل موسى بن طلحة على الوليد، فقال له الوليد: ما دخلت عليّ قطّ إلَّا هَمَسْتُ بقتلك، لولا أن أبي أخبرني أن مروان قَتَل طلحة. وقال أبو عمر بن عبد البر: لا يَختَلِف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة.
قال خليفة بن خياط: كانت وقعة الجمل بناحية الطّفّ، يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من جمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين، وقُتِل فيها طلحة في المعركة، أصابه سهم غَرْبٌ فقتله. وقال المدائني: مات وهو ابن (60) سنة، وقال أبو نعيم: وهو ابن (63) سنة، وقيل: غير ذلك.
أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (38) اتّفق الشيخان على حديث واحد، وهو هذا الحديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم في هذا الكتاب
بأربعة أحاديث، برقم (12) و (769) وأعاده بعده (770) و (2067) و (4356) و (4435)
(1)
. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا، وهي قرية ببلخ، لكن الظاهر أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك رحمه الله تعالى.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو سهيل عن أبيه.
5 -
(ومنها): أنه مسلسل بالأقارب، لأن مالكًا يرويه عن عمّه، وهو عن أبيه، عن حليفه، فإن مالك بن أبي عامر حليف لطلحة رضي الله عنه، كما سبق التنبيه عليه، فهو مسلسل بالأقارب، كما هو مسلسل بالبلد.
6 -
(ومنها): قتيبة من أفراد الكتب الستّة، إذ لا يوجد من اسمه قتيبة غيره، ويقال: إنه لقب، واسمه عليّ، قاله أبو عبد الله بن منده، وقيل: يحيى، قاله ابن عديّ، ويقال له:"الثقفيّ"؛ لأنه مولاهم؛ قيل: إن جدّه كان حَمِيلًا، وكان مولى للحجاج بن يوسف الثقفيّ.
7 -
(ومنها): أن طلحة، وأبا سهيل، وأباه هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا عدة ما رواه عنهم المصنّف فيه.
8 -
(ومنها): أن طلحة في الصحابة جماعة، وطلحة بن عُبيد الله اثنان، هذا أحدهما، والثاني تيميّ أيضًا، ويقال له أيضًا: طلحة الخير، فأشكل على الناس. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ) نافع بن مالك (عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر (أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، قيل: إن هذا
(1)
راجع: "الإصابة" 3/ 430 - 432، و"تهذيب التهذيب" 2/ 240 - 241، و"عمدة القاري" 1/ 265.
الرجل هو ضِمَام بن ثعلبة الذي سمّاه البخاري في حديث أنس رضي الله عنه المذكور بعد هذا، وإن الحديثين حديث واحد، قال القرطبّي رحمه الله تعالى: وهذا فيه بُعد؛ لاختلاف مساقهما، وتباين الأسئلة فيهما، ولزيادة الحجّ في حديث أنسّ رضي الله عنه، ويَبعُد الجمع بينهما، فالأولى أن يقال: هما حديثان مختلفان، وكذلك القول في كلّ ما يَرِد من الأحاديث التي فيها الأسئلة المختلفة، كحديث أبي أيوب وجابر وغيرهما مما يُذكَر بعد هذا، وقد رام بعض العلماء الجمع بينها، وزَعَم أنَّها كلّها حديث واحد، فادّعى فَرَطًا، وتكلّف شَطَطًا، من غير ضرورة نقليّة ولا عقليّة. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
(مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ) متعلّق بصفة لـ "رجل"، و"النَّجْدُ" - بفتح النون، وسكون الجيم -: المرتفع من الأرض والْغَوْرُ: المنخفِضُ منها، وهما بحكم العرف جهتان مخصوصتان
(2)
.
وقال الفيوميّ رحمه الله تعالى: "النَّجْدُ": ما ارتفع من الأرض، والجمعُ نُجُود، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوس، وبالواحد سُمّي بلادٌ معروفة من ديار العرب مما يَلي العِرَاقَ، وليست من الحجاز، وإن كانت من جَزِيرة العرب، قال في "التهذيب": كلُّ ما وراء الْخَنْدق الذي خَنْدَقه كسرى على سواد العراق، فهو نَجْدٌ إلى أن تَمِيل إلى الحرّة، فإذا مِلتَ إليها فأنت في الحِجَاز، وقال الصَّغَاني: كلُّ ما ارتفع من تِهَامةَ إلى أرض العراق فهو نَجْدٌ. انتهى كلام الفيّوميّ
(3)
.
(ثَائِرُ الرَّأسِ) مرفوع على أنه صفة لـ "رجل"، ويجوز نصبه على الحال، وقال الطيبيّ رحمه الله: يُنصبُ على الحال من "رجل" لوصفه، والرفع فيه حسن على الصفة لولا الرواية بالنصب
(4)
.
[فإن قلت]: إن شرط الحال التنكير، و"ثائر" مضاف، فكيف يقع حالًا؟ وأيضًا إذا كان صاحب الحال نكرة وجب تقديم الحال عليه.
(1)
"المفهم" 1/ 157.
(2)
"المفهم" 1/ 157.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 593.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 459.
[أجيب]: عن الأول بأن إضافته لفظيّة، لا تفيده معرفة؛ لكونه وصفًا، قال في "الخلاصة":
وَإِنْ يُشَابِهِ الْمُضَافُ "يَفْعَلُ"
…
وَصْفًا فَعَنْ تَنْكِيرِهِ لَا يُعْزَلُ
كَـ "رُبَّ رَاجِينَا عَظِيمِ الأَمَلِ
…
مُرَوَّعِ الْقَلْبِ قَلِيلِ الْحِيَلِ"
وَذِي الإِضَافَةُ اسْمُهَا لَفْظِيَّهْ
…
وَتِلْكَ مَحْضَةٌ وَمَعْنَوِيَّهْ
وأجيب عن الثاني بأنه يجوز تأخير الحال عن النكرة إذا تخصّصت بالوصف، كقوله عز وجل:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 4، 5] الآية، أو بالإضافة، نحو "جاء غلام رجل قائمًا"، أو وقعت بعد نفي كقوله عز وجل:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)} [الحجر: 4] وهنا اتّصف النكرة بقوله: "من أهل نجد"، قال في "الخلاصة":
وَلَمْ يُنَكَرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ
…
لَمْ يَتَأَخَّرْ أوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ
مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ أَوْ مُضَاهِيهِ كَـ "لَا
…
يَبْغِ امرُؤٌ عَلَى امْرِئٍ مُسْتَسْهِلًا"
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: معنى "ثائر الرأس": منتَفِشُ الشعر، مرتفِعُهُ، من قولهم: ثار الشيء يثور: إذا ارتفع، ومنه ثارت الفتنة، وهذه صفة أهل البادية غالبًا. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": المراد: أن شعره مُتَفَرِّقٌ من ترك الرفاهية، ففيه إشارة إلى قُرْب عهده بالوِفَادة، وأوقع اسم الرأس - على الشعر، إما مبالغةً، أو لأن الشعر منه ينبت. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": أطلق اسم الرأس على الشعر إما لأن الشعر منه ينبت، كما يُطلق اسم السماء على المطر؛ لأنه ينزل من السماء، وإما لأنه جَعَل نفس الرأس ذا ثَوَران على طريق المبالغة، أو يكون من باب حذف المضاف لقرينة العقل. انتهى
(3)
.
(نَسْمَعُ) رُوي هو وقوله: "نَفْقَهُ" بالنون المفتوحة فيهما، ورُوي بالياء المثنّاة من تحتُ المضمومة فيها، والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف. قاله النوويّ
(4)
.
(1)
"المفهم" 1/ 157.
(2)
"الفتح" 1/ 131.
(3)
"عمدة القاري" 1/ 267.
(4)
"شرح النوويّ" 1/ 166.
وقال القرطبيّ: رويناه "يُسْمَعُ"، و"يُفْقَهُ" بالياء المثنّاة من تحتُ - مبنيًّا لما لم يُسمّ فاعله، ونائب فاعله قوله:"دويّ صوته". وبالنون فيهما مبنيًّا للفاعل، و"دويَّ صوته" منصوب على المفعوليّة، وكلاهما واضح الصحّة. انتهى بزيادة
(1)
.
(دَوِيَّ صَوْتِهِ) أي: بعده في الهواء، ومعناه شدّة صوتٍ لا يُفهَمُ، وهو بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء هذا هو المشهور، وحَكَى صاحب "المطالع" فيه ضمّ الدال أيضًا. قاله النوويّ
(2)
.
وقال في "الفتح": "الدَّوِيُّ" - بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء - كذا في روايتنا، وقال القاضي عياض: جاء عندنا في البخاري بضم الدال، قال: والصواب الفتح، وقال الخطابي: صوت مرتفع مُتَكَرِّرٌ، ولا يُفْهَم، وإنما كان كذلك؛ لأنه نادى من بُعْد
(3)
.
وقال في "العمدة": يقال الدويّ: بُعدُ الصوت في الهواء، وعُلُوّه، ومعناه: صوتٌ شديدٌ لا يُفهَم منه شيءٌ كدويّ النحل، وقال الشيخ قطب الدين: هو شدّة الصوت وبُعْده في الهواء، مأخوذ من دَوِيّ الرعد، ويقال: هو شدّة صوت لا يُفهَم، فلما دنا فُهِم كلامه، فلهذا قال:"فإذا هو يسأل"، وقال الجوهريّ: دَويّ الريح حَفِيفها، وكذلك دويّ النحل والطائر، ويقال: دَوَّى النحلُ تدويةً، وذلك إذا سمعتَ لِهَدِيره دويًّا، والدويّ أيضًا السحاب ذو الرعد المرتجس. انتهى
(4)
.
(ولَا نَفْقَهُ) من الفقه، من باب تَعِبَ، وهو الفهم، قال الله تعالى:{يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 28]: أي: يفهموا (مَا يَقُولُ)"ما" موصولة مفعول به لـ "نفقه"، و"يقول" صلتها، والعائد محذوف، أي: يقوله، إنما لم يفهموه لأنه نادى من بعيد، فلما دنا فَهِموه، كما بيّنه قوله:(حَتَّى دَنَا) من الدنوّ، وهو القرب، أي: إلى أن قَرُب، فـ "حتَّى" هنا للغاية بمعنى "إلى"(مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا) هي "إذا" الفجائيّة، وهي تختصّ بالجمل الاسميّة، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في
(1)
"المفهم" 1/ 158.
(2)
"شرح النوويّ" 1/ 166.
(3)
"الفتح" 1/ 131.
(4)
"عمدة القاري" 1/ 266.
الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، وهي حرف عند الأخفش، واختاره ابن مالك، وظرف مكان عند المبرّد، واختاره ابن عصفور، وظرف زمان عند الزجّاج، واختاره الزمخشريّ
(1)
(هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ)، أي: فرائضه التي فُرِضت على من وحّد الله تعالى، وصدّق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يَذكُر فيه الشهادتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن الرجل يسال عن شرائع الإسلام، ويُمكن أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وقد ذكر له الشهادتين، فلم يسمعها طلحة رضي الله عنه لبعد موضعه منه، وهذا القول أمثل وأجمع، قاله الطيبيّ.
وقال في "الفتح": قوله: "فإذا هو يسأل عن الإسلام": أي عن شرائع الإسلام، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة؛ لأنه عَلِمَ أنه يعلمها، أو عَلِمَ أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذَكَرَها ولم ينقلها الراوي؛ لشهرتها، وإنما لم يَذكُر الحج إما لأنه لم يكن فُرِضَ بَعْدُ، أو الراوي اختصره، ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه البخاريّ في "الصيام" من طريق إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل، في هذا الحديث قال:"فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام"، فدَخَل فيه باقي المفروضات، بل والمندوبات. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) يجوز في "خمس" الرفع، والنصب، أما الرفع فعلى أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي: هي خمسُ صلوات، وأما النصب فعلى أنه مفعول لفعل مقدَّر، أي: خُذْ خمسَ صلوات، وجوّز العينّي الجرّ على أنه بدل من "الإسلام"، وفيه نظرٌ.
وفي رواية للبخاريّ من طريق إسماعيل بن جعفر، عن أبي سُهيل أنه قال في سؤاله: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس، فتبين بهذا مطابقة الجواب للسؤال، ويستفاد من قوله: "في اليوم والليلة": أنه لا يجب شيء من الصلوات في كلّ يوم وليلة غير الخمس، خلافًا لمن أوجب الوتر، أو ركعتي الفجر، أو صلاة الضحي، أو صلاة العيد، أو الركعتين بعد المغرب
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 267.
(2)
"الفتح" 1/ 131.
(3)
"الفتح" 1/ 132.
(فَقَالَ) أي: الرجل المذكور (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟)"هل" للاستفهام، و"غيرها" بالرفع مبتدأ، و"عليّ" خبره (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)، أي: لا فرضَ عليك غيرها (إِلَّا أنْ تَطَّوَّعَ) استثناء من قوله: "لا"، و"تَطَّوَّعَ" بتشديد الطاء والواو، وأصله تتطوع بتاءين، فأُدغِمت إحداهما في الأخرى، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحدى التاءين، كما قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبيَّنُ الْعِبَرْ"
وقد اختُلف في هذا الاستثناء، فقيل: متّصلٌ، وقيل: منقطع، فمن قال بالأول: قال: يجب الإتمام بالشروع في التطوّع، ومن قال بالثاني قال: لا يجب، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثامنة - إن شاء الله تعالى -.
وفيه ردٌّ على الإصطخريّ من الشافعيّة في قوله بفرضيّة صلاة العيدين على الكفاية، وعلى الحنفية في قولهم بوجوب الوتر.
(وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ) برفع "صيام"، ونصبه، كما سبق بيانه، ولفظ البخاريّ "وصيام رمضان" بدون ذكر "شهر"، وفيه جواز إطلاق "رمضان"، خلافًا لمن كره ذلك (فَقَالَ) الرجل ("هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟)، أي: هل يجب عليّ صومٌ غير شهر رمضان؟ (فَقَالَ) الرسول ع صلى الله عليه وسلم: ("لَا)، أي: لا يجب عليك غيره (إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ)، وفي رواية البخاريّ:"قال: و"ذكره له إلخ"، أي: قال الراوي، وهو طلحة بن عُبَيْدِ الله رضي الله عنه: وذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الزكاة.
وإنما قال: "وذكر إلخ"، لعله نسي ما نصّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والتبس عليه، فأتى بهذه الصيغة المحتملة، وفي رواية أبي داود:"وذكر له صلى الله عليه وسلم الصدقة"، والمراد منها الزكاة أيضًا كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60]، وهذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ هو الأولى في الرواية، فإذا التبس على الراوي لفظه أشار إلى ما ينبئ عنه كما فعل الراوي هنا.
وفي رواية للبخاريّ: قال: أخبرني بما فَرَضَ الله عليّ من الزكاة، قال: فأخبره رسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام".
فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياءَ أُجمِلَت، منها بيانُ نُصُبِ الزكاة، فإنها لم تُفَسَّر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكأن السبب فيه
شُهْرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيانُ أن المتمسك بالفرائض نَاجٍ، وإن لم يَفْعَلِ النوافل. قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَقَالَ) الرجل (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟)، أي: هل يجب عليّ أداء شيء من المال غير الزكاة؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ) الراوي، وهو طلحة رضي الله عنه، كما أسلفته آنفًا (فَأَدْبَرَ) من الإدبار، وهو التولّي، أي: ذهب مولِّيًا دُبُرَه إليهم (الرَّجُلُ) أي: السائل الذي مرّ ذكره في قوله: "جاء رجلٌ إلخ"؛ لأن النكرة إذا أُعيدت معرفةً كانت عين الأولي، كما قال في "عقود الجمان":
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
شَاهِدُهَا الَّذِي رَوَيْنَا مُسْنَدًا
…
"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدًا
(وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة من "الرجلُ"، (وَاللهِ) وفي رواية للبخاريّ في "الصيام":"فقال: والذي أكرمك"، وفيه جواز الحلف في الأمر المهمّ (لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا) الذي علّمتنيه شيئًا غيره (وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ) من باب قتل، من النقص ثلاثيًّا، وفي لغة ضعيفة من الإنقاص رباعيًّا.
قال في "المصباح": نَقَصَ نَقْصًا، من باب قتل، ونُقْصَانًا، وانتقصَ: ذهب منه شيءٌ بعد تمامه، ونَقَصْتُهُ يتعدّي، ولا يتعدّي، هذه هي اللغة الفصحَى، وبها القرآن في قوله عز وجل:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، وقوله:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدّى بالهمزة والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقَصتُ زيدًا حقّه، وانتقصته مثله، انتهى
(2)
.
قال الجامع: وما هنا يحتمل الوجهين، اللزوم، كهذه الرواية، والتعدّي، كرواية إسماعيل بن جعفر عند البخاريّ في "الصوم" بلفظ "ولا أنقُصُ مما فرض الله على شيئًا".
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ" أي: فاز، وظَفِرَ ببُغيته، من الإفلاح، وهو الفوز والبقاء، وقيل: هو الظفر، وإدراك البُغْية، وقيل: إنه عبارة عن أربعة
(1)
"الفتح" 1/ 132.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 621.
أشياء: بقاء بلا فناء، وغَنَاءٌ بلا فَقْر، وعِزٌّ بلا ذُلّ، وعلمٌ بلا جهل، قالوا: ولا كلمةَ في اللغة أجمع للخيرات منه، والعرب تقول لكلّ من أصاب خيرًا: مُفْلِح، وقال ابن دُريد: أفلح الرجل، وأنجح: أدرك مطلوبه
(1)
.
(إِنْ صَدَقَ) جواب "إن" محذوف دلّ عليه السابق، أي: أفلح، وفي رواية إسماعيل بن جعفر الآتية بعد هذا:"أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجَنَّة وأبيه إن صدق"، ولأبي داود مثله، لكن بحذف "أو"، وسيأتي الجواب عن تعارضه مع النصوص الواردة في النهي عن الْحَلِف بالآباء في شرح الحديث التالي، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(1/ 108) عن قتيبة، عن مالك - و (1/ 109) عن يحيى بن أيوب، وقتيبة كلاهما عن إسماعيل بن جعفر - كلاهما (مالك، وإسماعيل) عن أبي سُهيل، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
و (البخاريّ) في (1/ 18) و (3/ 235) عن إسماعيل بن عبد الله - و (3/ 30) و (9/ 29) عن قتيبة بن سعيد، كلاهما عن مالك به، و (3/ 30) و (9/ 29) عن قتيبة به.
و (أبو داود) في "سننه"(391) عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك به، و (392) و (3252) عن سليمان بن داود العَتَكيّ، عن إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل بن مالك به.
و (النسائيّ)(1/ 226) وفي "الكبرى"(311) عن قتيبة به، و (8/ 118) عن محمد بن سلمة، عن القاسم، عن مالك به، و (4/ 120) عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر به.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 266.
و (مالك) في "الموطأ"(126) عن أبي سهيل به، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 162) عن عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن مالك به، و (الدارميّ) في "سننه"(1586) عن يحيى بن حسّان، عن إسماعيل بن جعفر به، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(306) عن علي بن حُجر عن إسماعيل بن جعفر به و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(87 و 88 و 89 و 90)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الصلاة أحد أركان الإسلام، وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، قال النوويّ رحمه الله تعالى: في هذا الحديث أن الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام التي أُطلقت في باقي الأحاديث هي الصلوات الخمس، وأنها في كلّ يوم وليلة على كلِّ مُكَلَّفٍ بها، وقوله:"بها" احترازٌ من الحائض والنفساء، فإنها مُكَلَّفةٌ بأحكام الشرع إلَّا الصلاة، وما أُلحق بها، مما هو مُقَرَّرٌ في كتب الفقه، انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق الأمة، وهذا مُجْمَعٌ عليه، واختَلَفَ قول الشافعيّ رحمه الله تعالى في نسخه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصح نسخه.
3 -
(ومنها): أن صلاة الوتر ليست بواجبة، وأن صلاة العيد أيضًا ليست بواجبة، وهذا مذهب الجماهير، وذهب أبو حنيفة رحمه الله، وطائفة إلى وجوب الوتر، وذهب أبو سعيد الإصطخريّ من أصحاب الشافعيّ إلى أن صلاة العيد فرض كفاية، وكذا لا تجب ركعتا الفجر، ولا صلاة الضحى، ولا الركعتان بعد المغرب، كما قيل بكلّ، فهذا الحديث ردّ عليهم جميعًا.
4 -
(ومنها): أن الصوم ركنٌ من أركان الإسلام، وأنه في السنة شهر واحد، وهو شهر رمضان وأنه لا يجب صوم عاشوراء ولا غيره، سوى رمضان، وهذا مجمع عليه، واختَلَفَ العلماء، هل كان صوم عاشوراء واجبًا قبل إيجاب رمضان أم كان الأمر به ندبًا، وهما وجهان لأصحاب الشافعيّ، أظهرهما لم يكن واجبًا، والثاني كان واجبًا، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وهو
(1)
"شرح مسلم" 1/ 168.
الصحيح، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
5 -
(ومنها): أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأنه ليس في المال حقّ سوى الزكاة على من ملك نصابًا، وتمّ عليه الحول.
6 -
(ومنها): بيان استحباب السفر والارتحال من بلد إلى بلد؛ لأجل تعلم علم الدين، وسؤال أهل العلم.
7 -
(ومنها): جواز الحلف في الأمر المهمّ، وإن لم يُستحلف، حيث إن هذا الرجل قال بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والله لا أزيد على هذا إلخ"، فلم يُنكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك.
8 -
(ومنها): الاكتفاء في إيمان الشخص بالاعتقاد الجازم من غير نظر، ولا استدلال" خلاف ما قرّره علماء الكلام من وجوب النظر والاستدلال، وهو مذهب باطلٌ، مخالف لما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودلّت عليه النصوص.
وقول العيني - بعد ذكره ما ذُكر -: لكن يحتمل أن ذلك صحّ عنده بالدليل، وإنما أشكلت عليه الإحكام، فمما لا يُلتفت إليه، فالصواب في المسألة أن وجوب النظر والاستدلال على طريقة المتكلّمين مما لا دليل عليه في الشرع، بل هو من محدثات الأمور، ومن الضلال، وقد أشبعت الكلام في هذا في منظومتي المسمّاة بـ "التحفة المرضيّة"، وشرحها، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
9 -
(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" دليلٌ على أنه إن لم يصدُق فيما التزم لا يُفلح، ففيه ردّ على المرجئة القائلين: لا تضرّ المعاصي مع الإيمان، وإن ترك الأعمال.
10 -
(ومنها): أن من أتى بالخصال المذكورة، وواظب عليها صار مفلحًا.
11 -
(ومنها): أن فيه استعمال الصدق في الخبر المستقبل، وقال ابن قتيبة: الكذب مخالفة الخبر في الماضي، والخلف مخالفته في المستقبل، فيجب على هذا أن يكون الصدق في الخبر الماضي، والوفاء في المستقبل، وفي هذا الحديث ما يرُدُّ عليه، مع قوله تعالى:
{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 269.
(المسألة الرابعة):
إن قلت: إن إثبات الفلاح له في عدم النقص واضح، فكيف يصحّ ذلك في عدم الزيادة؟
قال النوويّ رحمه الله تعالى: قيل: هذا الفلاح راجع إلى قوله: "لا أنقُص" خاصةً، والأظهر أنه عائد إلى المجموع، بمعنى أنه إذا لم يَزِد ولم ينقص كان مُفْلِحًا؛ لأنه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه فهو مُفْلِح، وليس في هذا أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحًا؛ لأن هذا مما يُعْرَف بالضرورة، فإنه إذا أفلح بالواجب، فلأن يُفلِح بالواجب والمندوب أولى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة):
إن قيل: كيف قال: "لا أزيد على هذا"، وليس في هذا الحديث جميع الواجبات، ولا المنهيّات الشرعية، ولا السنن المندوبات؟
فالجواب: أنه جاء في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث زيادةٌ توضح المقصود، قال:"فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله تعالى عليّ شيئًا"، فعلى عموم قوله:"بشرائع الإسلام"، وقوله:"مما فَرَض الله عليّ " يزول الإشكال في الفرائض، وأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا كان قبل شرعها، وقيل: يحتمل أنه أراد لا أزيد في الفرض بتغيير صفته، كأنه يقول: لا أصلي الظهر خمسًا، وهذا تأويل ضعيف، ويحتمل أنه أراد أنه لا يصلي النافلة مع أنه لا يُخِلُّ بشيء من الفرائض، وهذا مُفْلِحٌ بلا شكّ، وإن كانت مواظبته على ترك السنن مذمومةً، وتُرَدّ بها الشهادة، إلَّا أنه ليس بعاصٍ، بل هو مُفْلِحٌ ناجٍ
(1)
، وأما قول ابن بطال: يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود فرائض النهي، فتعقبه الحافظ، قائلًا: هذا عجيب منه؛ لأنه جزم بأن السائل ضمام، وأقدم ما قيل فيه أنه وَفَدَ سنة خمس، وقيل: بعد ذلك، وقد كان أكثر المنهيات وَاقِعًا قبل ذلك انتهي، وهو تعقب جيّد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 167.
(المسألة السادسة):
(اعلم): أنه لم يأت في هذا الحديث ذكرُ الحجّ، ولا جاء ذكره في حديث جبريل عليه السلام من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا في غير هذا من هذه الأحاديث لم يُذكَر في بعضها الصوم، ولم يُذكَر في بعضها الزكاة، وذَكَر في بعضها صلَة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكرُ الإيمان، فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادةً ونقصًا، وإثباتًا وحذفًا.
وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله تعالى عنها بجوابٍ، لَخّصَهُ الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى، وهَذَّبَهُ، فقال: ليس هذا باختلافٍ صادرٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قَصر، فاقتصر على ما حفظه، فأدّاه، ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وإن كان اقتصاره على ذلك يُشعِر بأنه الكلُّ، فقد بأن بما أَتَى به غيره من الثقات أَنَّ ذلك ليس بالكل، وأن اقتصاره عليه كان لقصور حفظه عن تمامه.
ألا ترى أن حديث النعمان بن قَوْقَل الآتي قريبًا، اختَلَفَتِ الروايات في خصاله بالزيادة والنقصان، مع أن راوي الجميع راوٍ واحدٌ، وهو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قضية واحدة، ثم إن ذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح، لما عُرِف في مسألة زيادة الثقة، من أَنَّا نَقْبَلُها. هذا آخر كلام الشيخ ابن الصلاح، وهو - كما قال النوويّ - تقرير حسن والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة):
اختُلف في الاستثناء المذكور في قوله: "إلَّا أن تَطّوّع"، هل هو استثناء منقطع، ومعناه: لكن يستحب لك أن تطوع، كما اختاره الشافعيّة، أم استثناء متصل، كما اختاره الحنفيّة، والمالكيّة؟:
قال في "الفتح": استُدِلَّ بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه؛ تمسكًا بأن الاستثناء فيه متصل.
قال القرطبي: لأنه نَفَى وجوبَ شيء آخر إلَّا ما تطوع به، والاستثناء من
النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع، فيتعين أن يكون المراد إلَّا أن تشرع في تطوع، فيلزمك إتمامه. وتعقّبه الطيبيّ بأن ما تمسك به مغالطة؛ لأن الاستثناء هنا من غير الجنس، لأن التطوع لا يقال فيه: عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيء، إلَّا إن أردت أن تطوع فذلك لك، وقد عُلِمَ أن التطوع ليس بواجب، فلا يجب شيء آخر أصلًا، كذا قال.
وحرف المسألة دائر على الاستثناء، فمن قال: إنه متصل تمسك بالأصل، ومن قال: إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما رَوَى النسائيّ وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تُفطر يوم الجمعة بعد أن شَرَعَت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام، إذا كانت نافلة بهذا النص في الصوم، وبالقياس في الباقي.
[فإن قيل]: يَرِدُ الحجّ، قلنا: لا؛ لأنه امتاز عن غيره بلزوم المضيّ في فاسده، فكيف في صحيحه، وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله، كفرضه، والله تعالى أعلم.
قال الجامع: قوله: امتاز بلزوم المضيّ في فاسده فيه نظر؛ لأنه لا دليل على هذا، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
قال: على أن في استدلال الحنفية نظرًا؛ لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع، لتباينهما، وأيضًا فإن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل مسكوت عنه. انتهى كلام صاحب "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي أن من شَرَعَ في نفل الصلاة يلزمه إتمامه؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وأما إذا أفسده، فليس عليه القضاء، لعدم دليل يدلّ على ذلك، وأما من شَرَع في نفل الصوم فله الفطر، لما تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينوي صومًا، ثم يُفطر، ولحديث الجويرية رضي الله عنهما المتقدّم، ولا يجب عليه القضاء، لما رواه البخاريّ من حديث
(1)
"الفتح" 1/ 132.
أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: "آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتَبَذِّلةً، فقال لها: ما شأنك؟ قال: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كلّ، فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل
…
الحديث، فقد استحسن صلى الله عليه وسلم فعل سلمان، ولم يُلزم أبا الدرداء بالقضاء.
وأما الأحاديث التي تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء يومًا مكانه فكلّها ضعيفة، لا تقوم بها الحجة.
والحاصل أن الصلاة يلزم إتمامها بالشروع للآية السابقة، ولا يلزم قضاؤها بالإفساد؛ لعدم الدليل، وأما الصوم وإن كانت الآية تشمله إلَّا أن الأدلّة خصَّصته، كالأحاديث السابقة، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"الصائم المتطوّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر"، وهو حديث صحيح
(1)
فلا يلزم إتمامه، ولا قضاؤه.
وأما قياس الصلاة عليه في هذا التخصيص، كما قاله الحافظ، فغير واضح، فتأمل.
وأما ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله من أن من احتجّ بهذه الآية على منع إبطال النوافل بعد الشروع، فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثرين على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، وقال آخرون: لا تبطلوا بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يَفْرِضْهُ اللهُ عليه، ولا أوجبه على نفسه بنذر أو غير، لامتنع عليه الإفطار إلَّا بما يُبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك. انتهى.
فمردود بكون العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما قاله الشوكانِيّ رحمه الله تعالى، وبأن ما ذكروه من الصوم إنما جاز الفطر فيه - وإن كانت الآية تشمله - للنصوص الواردة بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"، والحاكم من حديث أم هانئ رضي الله عنهما. انظر:"صحيح الجامع" للشيخ الألبانيّ 2/ 717 رقم (3854).
[تنبيه]: تعقّب العينيّ ما استدلّ به صاحب "الفتح" من الحديثين المذكورين، فقال: قلت: من العجب أنه لم يَذكُر الأحاديث الدالّة على إلزام الشروع في العبادة بالإتمام، وعلى القضاء بالإفساد.
وقد روى أحمد في "مسنده" عن عائشة رضي الله عنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأُهديت لنا شاة، فأكلنا منها، فدخل علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فقال:"صوما يومًا مكانه"، وفي لفظ آخر:"أمر بالقضاء"، والأمر للوجوب، فدلّ على أن الشروع مُلزم، وأن القضاء بالإفساد واجب.
وروى الدارقطنيّ عن أم سلمة أنَّها صامت يومًا تطوّعًا، فأفطرت، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تقضي يومًا مكانه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تَعَقُّب العيني على صاحب "الفتح" مجرّد تعصّب، لأن الحديثين اللذين احتجّ بهما ضعيفان
(1)
، ولا يقاومان الحديثين اللذين احتجّ بهما هو، فإنهما صحيحان، لكن التعصّب يُعمي ويصمّ، وعلى تقدير صحة ما احتجّ به يُحْمَل على الاستحباب، جمعًا بين الأدلّة، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، ومعتمد العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وسيأتي تمام البحث في هذا في موضعه - إن شاء الله تعالى -. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى أول الكتاب قال:
[109]
(
…
) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَن طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيث، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفلَحَ وَأَبِيه، إِنْ صَدَقَ"، أَوْ "دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيه، إِنْ صَدَقَ").
(1)
لقد أجاد الكلام في هذين الحديثين وأمثالهما مما استدل به الموجبون للقضاء ابن الجوزيّ، وابن عبد الهادي رحمهما الله تعالى في "التحقيق"، و"تنقيح التحقيق"، فراجعه تستفد 5/ 212 - 220.
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبِ) الْمَقَابريّ - بفتح الميم، والقاف، بعدها موحّدة مكسورة - أبو زكريّا البغداديّ العابد، ثقة [10].
رَوَى عن إسماعيل بن جعفر، وعبد الله بن المبارك، وهشيم، ومروان بن معاوية، وخلف بن خليفة، وإسماعيل بن علية، وابن وهب، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى البخاري في "خلق أفعال العباد" عن محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرميّ، عنه، والنسائيّ في "مسند علي"، عن أبي بكر بن علي المروزي، عنه، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وغيرهم.
قال الميموني عن أحمد: رجل صالح، يُعرَف به، صاحب سكوت ودَعَة. وقال علي بن المديني، وأبو حاتم: صدوق. وقال أبو شعيب الْحَرّاني: يحيى بن أيوب كان من خيار عباد الله تعالى. وقال ابن قانع: ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الحسين بن فَهْم: يَنْزِل عسكر المهديّ، وكان ثقةً ورِعًا مسلمًا، يقول بالسنة، ويعيب على من يقول بقوله جهم، تُوُفّي في شهر ربيع الأول، سنة أربع وثلاثين ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد موسى بن هارون: ومولده فيما أخبرني سنة سبع وخمسين ومائة، وقال غيرهم: مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
وله في هذا الكتاب (130) حديثًا.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ مولاهم، أبو إسحاق المدني القارئ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [8].
رَوَى عن أبي طُوَالة، وعبد الله بن دينار، وربيعة، وجعفر الصادق، وحميد الطويل، وإسرائيل بن يونس، وابن عجلان، وأبي سُهيل نافع بن مالك بن أبي عامر، وغيرهم.
وروى عنه محمد بن جهضم، ويحيى بن يحيى بن النيسابوري، وأبو الربيع الزهراني، وسريج بن النعمان، وقتيبة ويحيى بن أيوب المقابري، وعلي بن حُجْر، وجماعة.
قال أحمد، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن معين: ثقة، وهو أثبت من ابن أبي حازم، والدَّراورديّ، وأبي ضَمْرة. وقال ابن سعد: ثقة، وهو من أهل المدينة، قدم بغداد، فلم يزل بها حتى مات، وهو صاحب الخمسمائة حديث التي سمعها منه الناس. وقال ابن المديني: ثقة. وقال ابن معين فيما حكاه ابن أبي خيثمة، ثقة مأمون، قليل الخطإ، صدوق. وقال الخليلي في "الإرشاد": كان ثقةً، شارك مالكًا في أكثر شيوخه، وكذا قال الحاكم. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن خِرَاش: صدوق. وقال الهيثم بن خارجة: مات ببغداد سنة (180).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (107) أحاديث.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (بهذا الحديث نحو حديث مالك) أي: حدّث إسماعيل بن جعفر بحديث طلحة لجنه المذكور نحو حديث مالك بن أنس المتقدم قبله، وقد سبق بيان الفرق بين قوله:"نحوه"، وقوله:"مثله"، وأن الأول إذا اتفق المعنى دون اللفظ، بخلاف الثاني، فإن اللفظ واحد هكذا قيل، وهو محل تأمل ونظر.
[تنبيه]: رواية إسماعيل بن جعفر التي أشار إليها المصنّف رحمه الله تعالى أخرجها الحافظ ابن منده رحمه الله تعالى في كتاب "الإيمان" 1/ 280 فقال:
(135)
أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا الحسن بن محمد، أبو علي الزعفراني، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا إسماعيل بن جعفر، قال: وثنا عاصم بن علي بن عاصم، ثنا إسماعيل بن جعفر.
(ح) وأنبأ إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن عبيد الله بن أبي داود، ثنا داود بن رشيد.
(ح) وأنبأ محمد بن إبراهيم بن مروان، ثنا زكرياء بن يحيى بن إياس، ثنا قتيبة بن سعيد البغلاني.
(ح) وأنبأ محمد بن محمد بن يوسف، ثنا محمد بن نصر، ثنا أبو عمرو الدُّوريّ، حفص بن عمر، وأنبأ محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن شاذان النيسابوريّ، ثنا علي بن حُجْر بن إياس المروزي، قالوا: أنبأ إسماعيل بن
جعفر، عن أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله: أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فَرَضَ الله عليّ من الصلاة؟ فقال:"الصلوات الخمس، إلَّا أن تَطّوّع شيئًا"، فقال: أخبرني ما فرض الله عليّ من الصيام؟ قال: "صيام شهر رمضان، إلَّا أن تَطّوّع"، فقال: أخبرني ما فَرَضَ الله عليّ من الزكاة؟ قال: فأخبره بشرائع الإسلام، فقال: والذي أكرمك، لا أتطَوّع شيئًا، ولا أنقص مما فَرَضَ الله عليّ شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلح وأبيه، إن كان صدق، أو دخل الجَنَّة وأبيه، إن كان صدق". انتهى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه، إن صدق) قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا مما جرت عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان حالفًا، فَلْيَحْلِف بالله"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم".
وجوابه: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه"، ليس هو حَلِفًا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تُدخِلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقةَ الحلف، كما جَرَى على لسانها عَقْرَى حَلْقَى، وما أشبه ذلك، والنهيُ إنما وَرَدَ فيمن قصد الحلف؛ لما فيه من إعظام المحلوف به، ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى، قال النوويّ رحمه الله تعالى: فهذا هو الجواب المرضيّ.
وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى، أو فيه إضمار اسم الربّ، كأنه قال: ورب أبيه، وقيل: هو خاصّ، ويحتاج إلى دليل.
وحَكَى السهيليُّ عن بعض مشايخه أنه قال: هو تصحيف، وإنما كان "والله"، فقُصِرت اللَّامان، واستنكر القرطبي هذا، وقال: إنه يَخْرِمُ الثقة بالروايات الصحيحة.
وغَفَلَ القرافيّ، فادَّعَى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصحّ؛ لأنَّها ليست في "الموطإ"، وكأنه لم يَرْتَضِ الجوابَ، فعَدَلَ إلى ردّ الخبر، وهو صحيحٌ لا مِرْيَةَ فيه، وأقوى الأجوبة الأولان.
وقال ابن بطال: دَلّ قوله: "أفلح إن صدق"، على أنه إن لم يَصْدُق فيما التزم لا يفلح، وهذا بخلاف قول المرجئة.
[فإن قيل]: كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذُكِر، مع أنه لم يَذكُر المنهيات؟
أجاب ابن بطال باحتمال أن يكون ذلك وَقَعَ قبل ورود فرائض النهي.
قال الحافظ: وهو عجيب منه؛ لأنه جَزَم بأن السائل ضمام، وأَقْدَم ما قيل فيه أنه وَفَد سنة خمس، وقيل: بعد ذلك، وقد كان أكثر المنهيات واقعًا قبل ذلك.
والصواب أن ذلك داخل في عموم قوله: "فأخبره بشرائع الإسلام"، كما أشرنا إليه.
[فإن قيل]: فكيف أقرّه على حلفه، وقد وَرَد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرًا؟
[أجيب]: بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلحٌ، وإن كان غيره أكثر فلاحًا منه.
وقال الطيبي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر منه على طريق المبالغة في التصديق والقبول، أي: قَبِلتُ كلامك قبولَا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول.
وقال ابن الْمُنَيّر: يحتمل أن تكون الزيادة والنقص تتعلق بالإبلاغ؛ لأنه كان وافد قومه، ليتعلم ويعلمهم.
قال الحافظ: والاحتمالان مردودان برواية إسماعيل بن جعفر، فإن نَصّها لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فَرَضَ الله عليّ شيئًا.
وقيل: مراده بقوله: "لا أزيد ولا أنقص": أي لا أُغَيّر صفة الفرض، كمن ينقص الظهر مثلًا ركعةً، أو يزيد المغرب.
وفيه أنه يَعْكُر عليه أيضًا لفظ التطوع في رواية إسماعيل بن جعفر
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى: أقرب التأويلات عندي الاحتمال الأول، فتأمّله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 1/ 133.
(3) - (بَابُ السُّؤَالِ عَنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف المذكور أول الكتاب قال:
[110]
(12) - (حَدَّثَني عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، أَبُو النَّضْر، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَة، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ، فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: "صَدَقَ"، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: "اللهُ"، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: "اللهُ"، قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: "اللهُ"، قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا، قَالَ: "صَدَقَ"، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا، قَالَ: "صَدَقَ"، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللهُ آمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا، قَالَ: "صَدَقَ"، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قَالَ: "صَدَقَ"، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى، قَالَ: "وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرُو بن مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ) أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقة حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في (3/ 23).
2 -
(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، أَبُو النَّضْرِ) الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقة ثبت [9](ت 207) وله (73) سنة (ح) تقدّم 4/ 36.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7].
رَوَى عن أبيه، وثابت البنانيّ، وحميد بن هلال، والحسن، وابن سيرين، والجريري، وأبي موسى الهلالي.
ورَوى عنه الثوري، وشعبة، وماتا قبله، وبَهْزُ بن أسد، وحَبّان بن هِلال، وأبو أسامة، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وزيد بن الْحُبَاب، وشَبَابة بن سَوّار، وغيرهم.
قال قراد أبو نوح: سمعت شعبة يقول: سليمان بن المغيرة سيد أهل البصرة. وقال أبو داود الطيالسي: ثنا سليمان بن المغيرة، وكان خيارًا من الرجال. وقال عبد الله بن داود الْخُرَييّ: ما رأيت بالبصرة أفضل من سليمان بن المغيرة، ومرحوم بن عبد العزيز. وقال أبو طالب عن أحمد: ثَبْتٌ ثَبْتٌ. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة ثقة. قال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا. وقال ابن المديني: لم يمكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة، ثم بعده حماد بن زيد. وقال النسائيّ: ثقة. وذكر أبو زرعة الدمشقي، عن سليمان بن حرب أنه قال: ثنا سليمان بن المغيرة الثقة المأمون. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب: ما رأيت بصريًّا أفضل منه. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة. وذكره ابن حيان في "الثقات" ونقل ابن خلفون عن ابن نُمَير، والعجليّ، وغيرهما توثيقه. وقال أبو مسعود الدمشقيّ في "الأطراف" في "مسند أنس": ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاريّ غير هذا الحديث الواحد، وقرنه بغيره. وقال البزار: كان من ثقات أهل البصرة.
وقال البخاري عن محمد بن محبوب: مات سنة خمس وستين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (39) حديثًا.
4 -
(ثَابِتٌ) بن أسلم البنانيّ - بضمّ الموحّدة، ونونين مخففتين - أبو محمد البصريّ، ثقة عابدٌ [4].
رَوَى عن أنس، وابن الزبير وابن عمر، وعبد الله بن مُغَفَّل، وعُمَر بن أبي سلمة، وشعيب والد عمرو، وابنه عمرو، وهو أكبر منه، وغيرهم.
ورَوَى عنه حميد الطويل، وشعبة، وجرير بن حازم، والحمادن، ومعمر، وهمام، وأبو عوانة، وجعفر بن سليمان، وسليمان بن المغيرة، وداود بن أبي
هند، والأعمش، وغيرهم. قال البخاريّ عن ابن المدينّي: له نحو مائتين وخمسين حديثًا. وقال أبو طالب عن أحمد: ثابت يَتَثَبَّتُ في الحديث، وكان يَقُصّ، وقتادة كان يَقُصّ، وكان أذكر. وقال العجليّ: ثقةُ رجلٌ صالح. وقال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزهريّ، ثم ثابت، ثم قتادة. وقال ابن عديّ؛ أروى الناس عنه حمادُ بن سلمة، وأحاديثه مستقيمة إذا رَوَى عنه ثقة، وما وقع في حديثه من النُّكْرة إنما هو من الراوي عنه. وقال حماد بن سلمة: كنت أسمع أن الْقُصَّاص لا يحفظون الحديث، فكنت أَقْلِب على ثابت الأحاديث، أَجْعَل أنسًا لابن أبي ليلى، وأجعل ابن أبي ليلى لأنس، أُشَوِّشها عليه، فيجيء بها على الاستواء. قال شعبة: كان ثابت يقرأ القرآن في كلّ يوم وليلة، ويصوم الدهر. وقال بكر المزني: ما أدركنا أعبد منه. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من أعبد أهل البصرة. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، توفي في ولاية خالد الْقَسْريّ، وفي سؤالات أبي جعفر، محمد بن الحسين البغدادي لأحمد بن حنبل: سئل أبو عبد الله عن ثابت وحميد أَيُّهما أثبت في أنس؟ فقال: قال يحيى القطان: ثابت اختلط، وحميد أثبت في أنس منه. وفي "الكامل" لابن عدي عن القطان: عَجَبٌ لأيوب يَدَعُ ثابتًا البنانّي، لا يكتب عنه. وقال أبو بكو الْبَرْدِيجيّ: ثابت عن أنس صحيح من حديث شعبة، والحمادين، وسليمان بن المغيرة، فهؤلاء ثقات، ما لم يكن الحديث مُضطربًا، وفي "المراسيل" لابن أبي حاتم: ثابتٌ عن أبي هريرة، قال أبو زرعة: مرسل.
قال ابن علية: مات ثابت سنة (127)، وقال جعفر بن سليمان: سنة (23) حكاهما البخاري في "الأوسط"، وحَكَى عن ثابت قال: صَحِبْتُ أنسًا أربعين سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (142) حديثًا.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه (ت 92)(ح) تقدّم في 1/ 3. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلَّا شيخه، في أخرج له الترمذيّ، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريّين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبغداديّان.
4 -
(ومنها): أن ثابتًا من أثبت الناس في أنس رضي الله عنه، وقد لازمه أربعين سنة، كما سبق عنه آنفًا.
5 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو المشهور بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وهو آخر من مات من الصحابة صلى الله عليه وسلم في البصرة، مات سنة (92) أو (93)، وهو من المعمّرين فقد جاوز عمره مائة سنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: نُهِينَا) بالبناء للمفعول، وفي رواية بهز عن سليمان الآتية بعدُ:"نُهينا في القرآن"، أي نهانا الله تعالى في كتابه بقوله:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] أَنْ نَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ) أي مما لا ضرورة إليه، وأما ما يحتاجون إليه، فقد أمر الله بالسؤال عنه حيث قال عز وجل:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فلا تنافي بين النصّين.
[تنبيه]: سبب النهي هو ما أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعت مثلها قط، قال:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا"، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خَنِين
(1)
، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. لفظ البخاريّ.
ولفظ مسلم: عن أنس رضي الله عنه أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أَحْفَوه بالمسألة، فخرج ذات يوم، فصعد المنبر، فقال: "سلوني، لا تسألوني عن
(1)
بالحاء المهملة، وبالمعجمة أيضًا: صوت البكاء.
شيء إلَّا بينته لكم"، فلما سمع ذلك القوم أَرَمُّوا، ورَهِبُوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت التفت يمينًا وشمالًا، فإذا كلّ رجل لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد كان يُلاحِي، فيُدْعَى لغير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة"، ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، عائذًا بالله من سوء الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر كاليوم قط في الخير والشرّ، إني صُوّرت لي الجَنَّة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط". لفظ مسلم.
وفي رواية له عن أنس رضي الله عنه أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى لهم صلاة الظهر، فلما سلَّم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن قبلها أمورًا عظامًا، ثم قال:"من أحب أن يسألني عن شيء فليسالني عنه، فوالله لا تسألونني عن شيء إلَّا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا"، قال أنس بن مالك: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر رسول الله؟ أن يقول:"سلوني"، فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: "أبوك حذافة"، فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول:"سلوني"، بَرَكَ عمر، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى
(1)
والذي نفس محمد بيده لقد عُرِضت عليّ الجَنَّة والنار آنفًا في عُرْض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشرّ، قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أَعَقّ منك، أَأَمِنتَ أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس، قال عبد الله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
(فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيةِ) أي ممن لم يبلغه النهي عن السؤال، و"البادية"، و"الْبَدْوُ" بمعنًى، وهو ما عدا الحاضرةَ والعمرانَ، والنسبة إليها بَدَوِيّ، والْبِدَاوَةُ: الإقامة بالبادية، وهي بكسر الباء، عند جمهور
(1)
كلمة تهديد، أي قرب ما تكرهون، ومنه قوله عز وجل:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)} [القيامة: 34].
أهل اللغة، وقال أبو زيد: هي بفتح الباء، قال ثعلب: لا أعرف البَدَاوة بالفتح إلَّا عن أبي زيد
(1)
.
وقوله: (الْعَاقِلُ) بالرفع صفة و"الرجل"، وإنما أحبّوا كونه عاقلًا؛ ليكون أعرف بكيفيّة السؤال وآدابه، والمهمّ منه، وحسن المراجعة، فإن هذه من أسباب عِظَمِ الانتفاع بالجواب، ولأن أهل البادية هم الأعراب، وَيغْلِبُ فيهم الجهل والجفاء، ولهذا جاء في الحديث:"مَنْ بَدَا جَفَا"
(2)
.
(فَيَسْأَلَهُ) بالنصب عطفًا على "يجيئ "(وَنَحْنُ نَسْمَعُ) جملة حالية من الفاعل، والرابط الواو، كما قال في "الخلاصة":
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ ضمَرٍ أَوْ بِهِمَا
(فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) هو ضِكمَام - بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الميم - ابن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر، كما بيّنته رواية البخاريّ، قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، قاله أبو عُبيدة، ورجحه القرطبيّ، وقيل: سنة سبع، وقال محمد بن حبيب: سنة خمس، وهو أبعدها: لأن فرض الحجِّ لم يكن نزل إذ ذاك.
وعبارة القرطبيّ: وأولى ما يقال: إن ضمامًا قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع، كما قال أبو عبيدة وغيره من أهل التواريخ، ولأنها كانت سنة الوفود، وذلك أن الله تعالى لَمّا فَتَح على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وهَزَمَ جمعَ هَوَازن، وأسلمت قريش كلُّها، دوّخ العرب، ونَصرَ نبيّه صلى الله عليه وسلم، وذلك سنة ثمان من الهجرة، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وقَدِم رؤساء العرب وفودًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع، فسُمّيت سنة الوفود لذلك. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ " 1/ 169.
(2)
حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (8481) بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بَدَا جَفَا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى أبواب السلطان افْتُتِن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلَّا ازداد من الله بُعدًا".
(3)
"المفهم" 1/ 165.
(فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ) قال العلماء: لعل هذا كان قبل النهي عن مخاطبته صلى الله عليه وسلم باسمه قبل نزول قول الله عز وجل: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، على أحد التفسيرين، قال قتادة: أُمروا أن يُعظِّموه ويُفخّموه، وقال غيره: ويدعوه بأشرف ما يُحبّ أن يُنادى به، يا رسول الله، يا نبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: ذلك أيضًا في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2]، ويحتمل أن يكون بعد نزول الآية، ولم تَبْلُغ الآيةُ هذا القائلَ
(1)
.
وقال القرطبيّ: ونادى هذا الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم يا محمد، ويا ابن عبد المطّلب، ولم يناده بالنبوّه، ولا بالرسالة، إما لأنه لم يؤمن بعدُ - كما سيأتي - وإما لأنه باقٍ على صفة أهل البادية والأعراب؛ إذ لم يتأدّب بعدُ بشيء من آداب الشرع، ولا علم ما يجب عليه من توقير النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى قد نَهى أن يُنادى النبيّ صلى الله عليه وسلم يا محمد حين قال الله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض: وقد ورد في هذا الحديث أيضًا أنه ناداه: "يا رسول الله"، ولعلّ ذلك كان بعد تعليمه ما يجب عليه، أو تمكّن إسلامه، ومعرفة حقّ الرسالة؛ لأنه في أول وروده كان مسترشدًا، ومستفسرًا، انتهى
(3)
.
(أَتَانَا رَسُولُكَ) أي الشخص الذي أرسلته إلينا لتبليغ ما أُرسلت به، وقوله:(فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ) معَ تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاه دليل على أن "زَعَمَ" ليس مخصوصًا بالكذب، والقولِ المشكوك فيه، بل يكون أيضًا في القول المحقق، والصدق الذي لا شك فيه، وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"زَعَم جبريل كذا"
(4)
، وقد أكثر سيبويه، وهو
(1)
"شرح النوويّ " 1/ 170.
(2)
"المفهم" 1/ 164 - 165.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 135 - 136.
(4)
هو ما أخرجه الدارميّ في "سننه"(2305) بسند صحيح عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، فخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الجهاد، فلم يَدَعْ شيئًا أفضل منه إلَّا الفرائض، فقام رجل فقال: يا رسول الله =
إمام العربية في كتابه الذي هو إمام كُتُب العربية من قوله: زعم الخليل، زعم أبو الخطاب، يريد بذلك القول المحقق، وقد نَقَلَ ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم، ونقله أبو عمر الزاهد في "شرح الفصيح" عن شيخه أبي العباس ثعلب، عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين
(1)
.
(أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (صَدَقَ) أي فيما بلّغه إياكم (قَالَ) الرجل (فَمَنْ) استفهاميّة (خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللهُ) بالرفع على الفاعليّة بفعل مقدَّر دل عليه السؤال، أي خلقها الله (قَالَ) الرجل (فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: "اللهم)، قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ) أي أَقَامَ ورَفَعَ، يقال: نصبتُ الخشبةَ نَصْبًا، من باب ضرب: أقمتها، ونصبتُ الحجر: رفعته علامةً
(2)
(هَذ الْجِبَالَ، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟) أي من أنواع الأشجار والأحجار، وغير ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اللهُ) أي نصبها الله وجعل فيها (قَالَ) الرجل (فَبِالَّذِي) الباء للقسم متعلّق بفعل محذوف، أي أُقْسِمُ بالله الذي (خَلَقَ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللهُ أَرْسَلَكَ؟) بمدّ همزة "آلله"، وأصله أالله (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) أي أرسلني الله تعالى (قَالَ) الرجل (وَزَعَمَ) أي قال" (رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ) بنصب "خمسَ" على أنه اسم "أنّ"، وخبرها الجارّ والمجرور قبله (فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا) متعلّق بصفة لـ "خمس"، أو حال منه، أو بدل من الجارّ والمجرور قبله، أو متعلّق بخبر لمبتدإ محذوف، أي ذلك كائن في يومنا وليلتنا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (صَدَقَ) الرسول (قَالَ) الرجل (فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟) أي: بكون الصلوات الخمس واجبة علينا في يومنا وليلتنا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ، قَالَ) الرجل (وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً) بالنصب، اسم "أنّ" مؤخرًّا (فِي أَمْوَالِنَا) متعلّق بصفة لـ "زكاةً" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (صدَقَ، قَالَ (الرجل (فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ، قَالَ) الرجل (وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا) متعلّق بـ "صوم"
= أرأيت مَنْ قُتِل في سبيل الله، فهل ذلك مكفر عنه خطاياه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم إذا قُتِل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، إلَّا الدَّين، فإنه مأخوذ به، كما زعم لي جبريل".
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 170.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 657.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (صَدَقَ، قَالَ) الرجل (فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ، قَالَ) الرجل (وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ) من إضافة المصدر إلى مفعوله، و"من " في قوله:(مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) في محلّ الرفع فاعل بالمصدر؛ لأنه في تأويل "أن يَحُجّ"، كما قال في "الخلاصة":
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ فِي الْعَمَلْ
…
مُضَافًا أَوْ مُجَرّدًا أَوْ مَعَ "أَلْ"
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ "أَلْ" أَوْ "مَا" يَحُلْ
…
مَحَلَّهُ وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ
…
كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفعٍ عَمَلَهْ
وقوله: "سبيلًا" منصوب على التمييز (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (صَدَقَ) هذه جُمَلٌ تدل على أنواع من العلم، قال صاحب "التحرير": هذا من حسن سؤال هذا الرجل، وملاحة سياقته وترتيبه، فإنه سأل أوّلَا عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه به أن يَصْدُقَه في كونه رسولًا للصانع، ثم لَمّا وَقَفَ على رسالته، وعَلِمَها أقسم عليه بحق مرسله، وهذا ترتيب يفتقر إلى عقل رَصِين.
ثم إنّ هذه الإيمان جَرَتْ للتأكيد، وتقرير الأمر، لا لافتقاره إليها، كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة. انتهى.
وقال القاضي عياض: والظاهر أن هذا الرجل لم يأت إلَّا بعد إسلامه، وإنما جاء مستثبتًا ومشافهًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى، وقد خالف القرطبيُّ عياضًا فيما قاله، وسيأتي نقل كلامه - إن شاء الله تعالى -.
(قَالَ) الراوي (ثُمَّ وَلَّى) أي أدبر الرجل السائل، وذهب بعد أن قضى غرضه الذي جاء من أجله، وهو السؤال عن أمور دينه (قَالَ) في محل نصب على الحال من فاعل "ولّى"، أي قائلًا (وَالَّذِي) الواو للقسم، أي أقسم بالله الذي (بَعَثَكَ) أي: أرسلك (بِالْحَقِّ) أي بالدين الحقّ (لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ) أي على هذه الأمور التي سألتك عنها، وأجبتني بصدقها (وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ) تقدّم أن ينقُص بضم القاف، من باب نصر، يتعدّى ويلزم، وأنقص يُنقِص رباعيًّا لغة ضعيفة في شرح حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "لَئِنْ صَدَقَ) في دعواه أنه يُحافظ على هذه الأمور (لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ) فيه أن من أتى بما أوجب الله تعالى عليه استحقّ دخول الجنّة، بمقتضى الوعد السابق، حيث إن الله تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} [البقرة: 277]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف: 30، 31].
[تنبيه]: قصّة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده" مطوّلة، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن الوليد بن نُوَيفع، عن كُريب مولى عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة، وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَدِم عليه، وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلًا جلدًا، أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وَقَفَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا ابن عبد المطلب"، قال: محمد؟ قال: "نعم"، فقال: ابنَ عبد المطلب، إني سائلك، ومُغْلِظٌ في المسألة، فلا تَجِدَنَّ في نفسك، قال:"لا أجد في نفسي، فسل عمَّا بدا لك"، قال: أنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولًا؟ فقال:"اللهم نعم"، قال: فأنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، لا نُشرِك به شيئًا، وأن نَخلَع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا يعبدون معه؟ قال:"اللهم نعم"، قال: فأنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال:"اللهم نعم"، قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام، فريضة، فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، يناشده عند كلّ فريضة، كما يناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد، ولا أنقص، قال: ثم انصرف راجعًا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وَلَّى:"إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجَنَّة"، قال: فأتى إلى بعيره، فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قَدِمَ على
قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزي، قالوا: مَهْ يا ضمام، اتَّقِ البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران، ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم، وفي حاضره رجل ولا امرأة إلَّا مسلمًا، قال: يقول ابن عباس: في سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
وهذا الحديث إسناده ثقات مشهورون، غير محمد بن الوليد، فقد تفرّد بالرواية عنه ابن إسحاق، ووثقه ابن حبّان، وقال الذهبيّ: وُثّق، وقال الدارقطنيّ: يُعتبر به، ولم ينفرد به، بل تابعه سلمة بن كُهيل، عند الدارميّ في "سننه"، فرواه معه عن كريب، وله شواهد، من حديث أنس المذكور في الباب وغيره، فالحديث صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) رحمه الله تعالى هنا في "الإيمان"(3/ 110) عن عمرو الناقد، عن هاشم بن القاسم - و (3/ 111) عن عبد الله بن هاشم، عن بهز - كلاهما (هاشم، وبهز) عن سلميان بن المغيرة، عن ثابت، عنه.
و (البخاريّ)(1/ 24) عن عبد الله بن يوسف، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عنه، و (أبو داود)(486) - و (ابن ماجة) - (1402) و (النسائيّ)(4/ 122) - ثلاثتهم عن عيسى ابن حمّاد المصريّ، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن شريك به. و (الترمذيّ)(619) عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن عبد الحميد - و (النسائيّ)(4/ 121) عن محمد بن معمر، عن أبي عامر الْعَقَديّ - كلاهما عن سليمان بن المغيرة به.
و (أحمد) في "مسنده"(3/ 143) عن هاشم بن القاسم به، و (3/ 139)
عن بهز به، و (3/ 168) عن حجاج، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر به.
و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1285) عن هشام بن القاسم به.
و (الدارميّ) في "سننه"(656) عن عليّ بن عبد الحميد، عن سليمان بن المغيرة به.
و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(91) و (أبو عوانة) في "مسنده"(1 و 2).
و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2358) عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب - (ح) وعن محمد بن عمرو بن تمام المصريّ، عن النضر بن عبد الجبّار - ويحيى بن بكير - كلهم عن الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن شريك بن أبي نَمِر به. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): أن الصلوات الخمس متكررة في كلّ يوم وليلة، وهو معنى قوله:"في يومنا وليلتنا".
2 -
(ومنها): أن صوم شهر رمضان يجب في كلّ سنة.
3 -
(ومنها): ما قاله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: فيه دلالةٌ لصحة ما ذهب إليه أئمة العلماء، من أن العوامّ المقلدين مؤمنون، وأنه يُكتَفَى منهم بمجرد اعتقاد الحقّ جزمًا، من غير شكّ وتزلزل، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قَرّر ضِمَامًا على ما اعتمد عليه في تعريف رسالته، وصدقه، ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم يُنكِر عليه ذلك، ولا قال له: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم تمام البحث في هذا في المسائل التي ذكرتها في شرح حديث جبريل عليه السلام بما فيه الكفاية، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
4 -
(ومنها): أن فيه العملَ بخبر الواحد، حيث إن هذا الرجل قال للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه:"وأنا رسول من ورائي من قومي"، فأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك.
5 -
(ومنها): أن فيه فضل ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وعقله، حيث قدَّم
الاعتذار بين يدي مسألته؛ لظنه أنه لا يصل إلى مقصوده إلَّا بتلك الأساليب، فقد رتّب سؤاله على قوله:"فمن خلق السماء" إلى أن قال: "فبالذي خلق السماء إلخ، ثم أقسم عليه أن يصدقه عما يسأل عنه، وكرّر القسم في كلّ مسألة تأكيدًا، وتقريرًا للأمر، ثم صرّح بالتصديق، فكلّ ذلك دليلٌ على حسن تصرّفه، وتمكّن عقله، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحدًا أحسن مسألةً، ولا أوجز من ضمام"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: "فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام". وزاد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فأما هذه الْهَنَاتُ فوالله إن كنّا لنتنزّه عنها في الجاهليّة"، يعني الفواحش
(1)
.
6 -
(ومنها): جواز الاستحلاف على الأمر المحقّق؛ لزيادة التأكيد، حيث قال ضمام رضي الله عنه:"فبالذي خلق السماء إلخ".
7 -
(ومنها): تقديم الإنسان بين يدي حديثه مقدّمةً يعتذر فيها؛ ليحسن موقع حديثه عند المحدَّث، وهو من حسن التوصّل، فقد قال ضمام رضي الله عنه كما في رواية البخاريّ:"إني سائلك، فمشدّد عليك في المسألة، فلا تَجِد عليّ في نفسك".
8 -
(ومنها): أنه استنبط الحاكم أبو عبد الله رحمه الله من هذا الحديث طلب الإسناد العالي، ولو كان الراوي ثقةً؛ لأن ضمامًا لم يُقنعه خبر رسول النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى رحل بنفسه، وسمع ما بلّغه الرسول عنه، فلم يُنكر ذلك عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل أقرّه عليه وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة):
اختُلف، هل قَدِمَ ضِمَامٌ مسلمًا، أم أسلم بعد ما سأل؟:
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الظاهر أنه لم يأت إلَّا بعد إسلامه، وإنما جاء مستثبتًا، ومشافهًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وهذا هو الذي مال إليه البخاريّ رحمه الله تعالى، حيث أورد هذا الحديث في "كتاب العلم" محتجًّا به في القراءة على العالم.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 182 - 184.
قال في "الفتح": عند قوله: "آمنت بما جئت به": ما نصّه: يَحْتَمِل أن يكون إخبارًا، وهو اختيار البخاريّ، ورجحه القاضي عياض، وأنه حضر بعد إسلامه، مستثبتًا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره به رسوله إليهم؛ لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره: "فإن رسولك زَعَمَ
…
"، وقال في رواية كُريب، عن ابن عباس عند الطبرانيّ: "أتتنا كُتُبك، وأتتنا رُسُلك"، واستَنْبَط منه الحاكم أصلَ طلب علو الإسناد؛ لأنه سمع ذلك من الرسول، وآمن، وصَدَّقَ، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهةً.
ويحتمل أن يكون قوله: "آمنت" إنشاءً، ورجحه القرطبيّ، لقوله:"زَعَمَ" قال: والزعم القول الذي لا يوثق به، قاله ابن السِّكِّيت وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، لأن الزعم يُطْلَق على القول المحقق أيضًا، كما نقله أبو عمر الزاهد في "شرح فصيح شيخه ثعلب"، وأكثر سيبويه من قوله: زعم الخليل في مقام الاحتجاج.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أن ما قاله القرطبيّ في معنى الزعم في الاستعمال الغالب، فالحمل عليه أولي، ومما يؤيّد ذلك قوله في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال في آخر كلامه: "أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، سأؤديّ هذه الفرائض
…
" الحديث.
فهذا ظاهرٌ في أن معنى قوله هنا: "آمنت بما جئت به" إنشاء، لا إخبار، فتأمل، والله تعالى أعلم.
قال: وأما تبويب أبي داود عليه "بابُ المشركِ يدخل المسجد"، فليس مَصِيرًا منه إلى أن ضمامًا قَدِمَ مشركًا، بل وجهه أنهم تركوا شخصًا قادمًا يدخل المسجد من غير استفصال.
قال الجامع: قوله: "فليس مصيرًا إلخ"، فيه نظر لا يخفي، بل الظاهر من صنيع أبي داود أنه يرى أن ضمامًا قَدِمَ مشركًا، وقوله:"تركوا شخصًا إلخ" مما لا يخفى ضعفه، فهل كان من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن كلّ من جاءهم من الغرباء لا بد من أن يسألوه عند دخوله المسجد هل هو مسلم، أو مشرك؟ فهل ثبت هذا في الأحاديث؟ هيهات هيهات. والله تعالى أعلم بالصواب.
قال: ومما يؤيد أن قوله: "آمنت" إخبار، أنه لم يسأل عن دليل التوحيد،
بل عن عموم الرسالة، وعن شرائع الإسلام، ولو كان إنشاءً لكان طَلَبَ معجزةً، توجب له التصديق، قاله الكرمانيّ، وعكسه القرطبيّ، فاستدل به على صحة إيمان المقلد للرسول، ولو لم تظهر له معجزةٌ، وكذا أشار إليه ابن الصلاح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه القرطبيّ رحمه الله تعالى هو الذي يظهر لي، ودونك عبارته:
قال رحمه الله تعالى: وقد خَرَّج البخاريّ هذا الحديث، وقال فيه: عن أنس رضي الله عنه: "بينما نحن جلوس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عَقَلَه، ثم قال لهم: أَيُّكُم محمد، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك، فمشدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تَجِدْ عليَّ في نفسك، فقال: سَلْ عما بدا لك، فقال: أسألك بربك ورب من قبلك: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم
…
، وذكر نحو حديث مسلم.
وقد فَهِمَ البخاريّ من هذا الحديث أن هذا الرجل قد كان أسلم على يدي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءهم، وصحّ إيمانه، وحَفِظ شرائعه، ثم جاء يَعْرِضها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ألا ترى البخاريّ كيف بوّب على هذا "باب القراءة والعرض على المحدّث"، وكأن البخاريّ أخذ هذا المعنى من قول الرجل في آخر الحديث:"آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي"، وفيه نظر، وأما مساق حديث مسلم، فظاهر أن الرجل لم يُشرَح صدره للإسلام بعدُ، وأنه بقيت في قلبه منازعات وشكوك، فجاء مجيء الباحث المستثبت، إلا تراه يقول "يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك"، فإن الزعم قولٌ لا يوثق به، قاله ابن السّكّيت وغيره.
غير أن هذا الرجل كان كامل العقل، وقد كان نظر بعقله في المخلوقات، فَدلَّهُ ذلك على أن لها خالقًا خلقها، إلا ترى أنه استفهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 183.
عن خالق المخلوقات استفهام تقرير للقاعدة التي لا يصحّ العلم بالرسول إلَّا بعد حصولها، وهي التي تفيد العلم بالمرسل، ثم إنه لَمّا وافقه على ما شهد به العقل، وأن الله تعالى هو المنفرد بخلق هذه المخلوقات، أقسم عليه، وسأله به هل أرسله؟
ثم إن الرجل استمرّ على أسئلته إلى أن حَصلَ على طِلْبَتِه، فانشرح صدور للإسلام، وزاحت عنه الشكوك والأوهام، وذلك ببركة مشاهدته أنوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان كثيرٌ من العقلاء يحصُلُ لهم العلم بصحّة رسالته بنفس رؤيته، ومشاهدته صلى الله عليه وسلم قبل النظر في معجزته، كما قال أبو ذرّ رضي الله عنه: "فلَمَّا رأيته علمتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، حتى قال بعضهم:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ
…
لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
والحاصل من حال هذا السائل أنه حصل له العلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصحّة رسالته؛ لمجموع قرائن لا تتعيّن إحداها، ولا تنحصر أعدادها.
ويُستفاد من هذا الحديث أن الشرع إنما طَلَب من المكلّفين التصديق الجازم بالحقّ كيفما حصل، وبأيّ وجه ثَبَت، ولم يَقْصُرُهم في ذلك على النظر في دلالة معيّنَة، ولا معجزة، ولا غيرها، بل كلُّ من حصل له اليقين بصدقه بمشاهدة وجهه، أو بالنظر في معجزته، أو بتحليفه، أو بقرينة لاحت له، كان من المؤمنين، وكان من جملة عباد الله المخلصين، لكن دلالات المعجزات هي الخاصَّة بالأنبياء، والطرق العامّة للعقلاء.
وقد روى ابن عبّاس رضي الله عنهما حديث ضمام هذا بأكمل من هذا، وقال فيه ما يدلُّ على أن ضمامًا إنما أسلم بعد أن أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسئلته المتقدّمة، فلما أن فرغ قال ضمامٌ: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدّي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد، ولا أنقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يصدُق ذو الْعَقِيصتين
(1)
يدخل الجَنَّة"، ثم قَدِم على أهله، فعرض عليهم الإسلام، في أمسى ذلك في حاضره من رجل ولا امرأة إلَّا مسلمًا، قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قطّ كان أفضل من
(1)
أي: الضفيرتين.
ضمام"، وهو صحيح، رواه أحمد، وغيره. انتهى كلام القرطبيّ، وهو تحقيق حسنٌ.
وحاصله أن الأرجح قول ضمام رضي الله عنه: "آمنت بما جئت به" إنشاء، لا إخبار؛ لما ذُكر من الأدلة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[111]
(
…
) - (حَدَّثَيي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا
(1)
بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: "كُنَّا نُهِينَا فِي الْقُرْآن، أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ
…
"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثِلْهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ) هو: عبد الله بن هاشم بن حيّان، أبو عبد الرَّحمن، وقيل: أبو محَمد الطُّوسيّ الرَّاذَكَانيّ، وُلدَ بطوس، وكان أكثر مُقَامه بنيسابور، ثقة، صاحب حديث، من صغار [10].
رَوَى عن ابن عيينة، ويحيى القطان، وابن مهديّ، ووكيع، وأبي أسامة، وبهز بن أسد، وابن نُمَير، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وصالح بن محمد الأسدي، وأحمد بن سلمة، والحسين بن محمد القَبّاني، وإبراهيم بن أبي طالب، ومكي بن عبدان، وغيرهم.
قال ابن صاعد: قَدِمَ علينا للحج سنة (201)، وقال يعقوب بن إسحاق الفقيه: ثنا صالح بن محمد، ثنا عبد الله بن هاشم الطُّوسيّ، ثقة. وقال إبراهيم بن أبي طالب: ابن هاشم مُجَوِّدٌ في حديث يحيى وعبد الرَّحمن. وقال أحمد بن سَيّار: كان عبد الله معروفًا بطلب الحديث وكان أظهر كلام الرّأي، ثم ترك ذلك، ورَحَلُوا إليه، وكتبوا عنه، وأظهر أمر الحديث. وذكره ابن حبان
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا بهز".
في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث من المتقدمين. ورَوَى عنه ابن خزيمة في "صحيحه". وقال الخليليّ: ثقةٌ كبير.
وقال الحسين بن محمد القَبّاني: مات في ذي الحجة سنة خمس وخمسين ومائة، وقال أبو القاسم الطبريّ: مات سنة (158)، وقال أحمد بن سَيّار: مات سنة (159).
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
2 -
(بَهْز) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9].
رَوَى عن شعبة، وحماد بن سلمة، ووهيب بن خالد، وسليمان بن المغيرة، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وعبد الرَّحمن بن بشر بن الحكم، وبندار، ويعقوب الدَّوْرَقِيّ، ومحمد بن حاتم السَّمِين، وعبد الله بن هاشم الطُّوسيّ، وأبو بكر بن خلاد، وعدة.
قال أحمد: إليه الْمُنْتَهَى في التَّثَبُّت، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة، وقال عباس عنه: قال جرير بن عبد الحميد: اختَلَطَ عليَّ حديث عاصم الأحول، وأحاديث أشعث بن سَوّار، حتى قَدِمَ علينا بهز، فخَلَّصها. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، حجة. وقال عبد الرَّحمن بن بشر: سألت يحيى بن سعيد يومًا عن حديث، فحَدَّثني به، ثم قال لي أراك تسألني عن شعبة كثيرًا، فعليك ببهز بن أسد، فإنه صدوق ثقة، فاسمع منه كتاب شعبة، وقال في موضع آخر: ما رأيت رجلًا خيرًا من بهز. وقال العجليّ: كان أسنّ من أخيه مُعَلَّى، بصريّ ثقة ثبت في الحديث، رجلٌ صالحٌ، صاحب سنة، وهو أثبت الناس في حماد بن سلمة. وقال أبو الفتح الأزديّ: صدوق، كان يتحامل على عثمان، سَيِّء المذهب. وقال أحمد: هؤلاء الثلاثة أصحاب الشكل والنقط - يعني بهزًا، وحَبَّان، وعَفّان.
وقال عقبة بن مكرم: مات قبل يحيى بن سعيد، وقال غيره: مات بعد المائتين.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد المائتين، وأَرَّخَه ابن قانع سنة (197).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (68) حديثًا.
والباقون تقدَّموا في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.
وقوله: "وساق الحديث بمثله"، فاعل "ساق" ضمير بهز، أي: ساق بهز الحديث بمثل ما ساقه هاشم بن القاسم، وروايته أخرجها الإمام أحمد في "مسنده"، مقرونًا بعفّان، فقال: حدثنا بهز، وحدثنا عفان قالا: حدثنا سلميان بن المغيرة، عن ثابت، قال عفان: حدثنا ثابت، قال أنس: كنا نُهِينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، قال: وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء رجل فقال: يا محمد أتانا رسولك، وزعم لنا أنك تزعم أن الله عز وجل أرسلك، قال:"صدق"، قال: فمن خَلَقَ السماء؟ قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله"، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: "الله"، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب الجبال، آلله أرسلك؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك أن علينا خمسَ صلواتٍ في يومنا وليلتنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاةً في أموالنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك أن علينا صومَ شهر رمضان في سنتنا، قال عفان: قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، وزعم رسولك أن علينا الحجَّ مَنِ استطاع إليه سبيلًا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، قال عفان: ثم وَلَّي، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد، ولا أنتقص منهن شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجَنَّة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ بَيَانِ الإِيمَانِ الَّذِي يُدْخَلُ بِهِ الْجَنَّةُ، وَأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[112]
(13) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبُو أَيُّوبَ: أَن أَعْرَابِيًا
عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِه، أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَوْ يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّة، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّار، قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِه، ثُمَّ قَالَ:"لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ"، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَعْبُدُ اللهَ، لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤتي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دعَ النَّاقَةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) - مصغّرًا - الْهَمْدانّي، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقة حافظ فاضل [10](ت 232)(ع) 1/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير - مصغَّرًا - الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199)(ع) 1/ 5.
3 -
(عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن موهَب التيميّ مولاهم، أبو سعيد الكوفيّ، ابن عم يحيى بن عبيد الله، ثقة [6].
رَوَى عن أبيه، وموسى بن طلحة، ورَبَاح بن عُبيدة السّلَميّ، وعمر بن عبد العزيز.
ورَوَى عنه زائدة، والثوريّ، وابن نمير، والخريبي، والقطان، ووكيع، وجعفر بن عون، وابن عيينة، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، وجماعة، ورَوَى عنه شعبة، فسماه محمدًا.
قال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: عمرو بن عثمان أحب إليك، أو طلحة بن يحيى؟ قال: عمرو، وكذا قال أحمد بن حنبل، وقال أحمد أيضًا، وابن معين، وابن المديني، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم - (112) - (13) و (468) و (1034).
4 -
(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله القرشيّ التيميّ، أبو عيسى، ويقال: أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، وأمه خَوْلَة بنتُ القَعْقَاع بن سعيد بن زُرَارةَ، ثقة جليلٌ [2].
روى عن أبيه، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وأبي ذَرّ، وأبي أيوب، وحكيم بن حزام، وعثمان بن أبي العاص، وأبي هريرة، وأبي اليسر السلمي، ومعاوية، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه: عمران، وحفيده سليمان بن عيسى بن موسى، وابنا أخيه: إسحاق وطلحة ابنا يحيى بن طلحة، وابن أخيه الآخر: موسى بن إسحاق بن طلحة، وابن ابن أخيه موسى بن عبد الله بن إسحاق بن طلحة، وعثمان بن موهب، وابنه عمرو، وغيرهم.
قال ابن سعد: قال الواقدي: رأيت مَنْ قِبَلَنا وأهل بيته يكنونه أبا عيسى، وكان ثقةً، كثير الحديث. وقال الزبير بن بَكّار: كان من وجوه آل طلحة. وقال الْمَرُّوذِيُّ عن أحمد: ليس به بأس. وقال العجليّ: تابعي ثقة، وكان خيارًا، وقال مرةً: كوفي ثقةٌ، رجلٌ صالحٌ. وقال أبو حاتم: يقال: إنه أفضل وَلَد طلحة بعد محمد، كان يسمى في زمانه المهديّ. وقال ابن خِرَاش: كان من أجلَّاء المسلمين، ويقال: إنه شَهِدَ الجمل مع أبيه، وأطلقه عليّ بعد أن أُسِرَ، ويقال: إنه فَرّ من الكوفة إلى البصرة لَمّا ظهر المختار بن أبي عبيد. وعن عبد الملك بن عُمير قال: كان فُصَحَاءُ الناس أربعةً، فذكره فيهم. ورَوَى الْعَقَديّ عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى، قال: صَحِبتُ عثمان اثنتي عشرة سنة. وقال الهيثم، وابن سعد، وغير واحد: مات سنة ثلاث ومائة، وقال أبو عبيد: مات سنة ثلاث، أو أربع ومائة، وقال أبو نعيم، وأحمد: مات سنة أربع ومائة، ويقال: مات سنة ست، وأرخه سنة ست أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو بكر بن أبي عاصم. وقال ابن عساكر: يقال: إنه ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سَمّاه.
أخرجه له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
5 -
(أَبُو أَيُّوبَ) هو: خالد بن زيد بن كُليب بن ثعلبة بن عبد عوف، ويقال: ابن عمرو بن عبد عوف بن غَنْم، ويقال: ابن عبد عوف بن جُشَم بن غَنْم بن مالك بن النجار، الأنصاري الخزرجيّ، شَهِدَ بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَزَلَ عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ المدينة شهرًا حتى بَنَى المسجدَ.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بن كعب، وعنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وزيد بن خالد الجهني، وابن عباس، وعبد الله بن يزيد الخطميّ، والمقداد بن معدي كرب، وغيرهم من الصحابة، وموسى بن طلحة، وعبد الله بن حُنَين، وعبد الرَّحمن بن أبي ليلى، وعطاء بن يزيد الليثي، وعروة بن الزبير، وأبو عبد الرَّحمن الْحُبُلِّي، وعطاء بن يسار، وعمر بن ثابت، وجماعة.
قال الخطيب: حضر العقبة، وشَهِدَ بَدْرًا وأُحُدًا، والمشاهد كلها، وكان مسكنه المدينة، وحضر مع علي حرب الخوارج، وورد المدائن في ححبته، وعاش بعد ذلك زمانًا طويلًا، حتى مات ببلاد الروم غازيًا في خلافة معاوية.
وذكر الواقديّ، وأبو القاسم البغويّ، وغيرهما: أنه شَهِدَ مع عليّ صِفِّين.
قال الهيثم بن عدي وغيره: مات سنة (50)، وقال الواقدي وغيره: مات سنة (52)، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: مات في سنة (55).
وقال ابن سعد: ولما ثَقُل قال لأصحابه: إن أنا مِتُّ، فاحملوني، فإذا صاففتم العدوّ، فادفِنُوني تحت أقدامكم. وقال البغويّ: قُبِر ليلًا، وأمَرَ يزيدُ بالخيل تُقْبِل عليه وتدبر - حتى عَمِيَ قبره. وقال ابن حبان في "الصحابة": مات بأرض الروم، وقال لهم: إذا أنا متّ، فَقَدِّمُونِي في بلاد العدوّ ما استطعتم، ثم ادْفِنُوني، فمات، وكان المسلمون على حِصَار القسطنطينية، فقدموه حتى دُفِنَ إلى جنب حائط.
أخرج له المجماعة، وروى من الأحاديث (150) حديثًا، اتّفق الشيخان على سبعة أحاديث، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسملم بخمسة أحاديث. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى عمرو بن عثمان، فتفرّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائي.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ممن اشتهر بكنيته، وله مناقب جمّة، نزل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يبني المسجد، وحُجَر أزواجه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن (مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ) التيميّ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ) خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه (أنَّ أَعْرَابِيًّا) بفتح الهمزة واحد الأعراب، قال ابن الأثير: هم ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلَّا لحاجة، والْعَرَبُ اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية، أو الْمُدُن، والنسب إليهما: أعرابيّ، وعربيّ. انتهى
(1)
.
وقال في "المصباح": الْأَعْراب بالفتح: أهل البادية من العرب، الواحد: أعرابيّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة، وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، قال: فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَنَ بظَعْنِهم، فهم أَعْرابٌ، ومن نزل بلاد الرّيف، واستوطن الْمُدُن والْقُرى العربيّةَ وغيرها، ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فصحاء، ويقال: سُمُّوا عَرَبًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمَّى الْعَرَبَات، ويقال: الْعَرَب العاربة هم الذين تكلّموا بلسان يَعْرُب بن قحطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعربة هم الذي تكلّموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وهي لغة الحجاز وما والاها.
والْعُرْبُ وزانُ قُفْل لغة في الْعَرَب، ويُجمع الْعَرَب على أَعْرُب، مثلُ زَمَن وَأَزْمُنٍ، وعلى عُرُب بضمّتين، مثلُ أَسَدٍ وأُسُدٍ. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: هذَا الأعرابي قد سُمِّي فيما رواه البغويّ، وابن السكن، والطبرانيّ في "الكبير"، وأبومسلم الكجي في "السنن" من طريق محمد بن جُحادة وغيره، عن المغيرة بن عبد الله اليشكريّ، أن أباه حدّثه، قال: انطلقت إلى الكوفة، فدخلت المسجد، فإذا رجل من قيس يقال له: ابن المنتفق، وهو يقول: وُصِف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبته، فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه، فقيل لي: إليك عنه، فقال:"دَعُوا الرجلَ أَرَبٌ ما له"، قال: فزاحمتُ عليه، حتى خلصت إليه، فاخذت بخطام راحلته، في غئرَ عليّ، قال: شيئين أسألك عنهما: "ما يُنجيني من النار، وما يُدخلني الجَنَّة"، قال: فنظر إلى السماء، ثم
(1)
"النهاية" 3/ 202.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 400.
أقبل عليّ بوجهه الكريم، فقال، "لئن كنت أوجزت المسألة، لقد أعظمت، وطَوَّلتَ، فاعقِلْ عليّ، اعبُد اللهَ، لا تُشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأَدّ الزكاة المفروضة، وصُمْ رمضان".
وأخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن المغيرة بن عبد الله اليشكريّ، عن أبيه، قال: غَدَوتُ، فإذا رجل يُحَدِّثهم.
قال: وقال جرير، عن الأعصثر، عن عمرو بن مرّة، عن المغيرة بن عبد الله، قال: سأل أعرابي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الاختلاف فيه عن الأعمش، وأن بعضهم قال فيه: عن المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن أبيه، والصواب المغيرة بن عبد الله اليشكري.
وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صَبِرة وافد بني المنتفق، فالله أعلم.
وقد يؤخذ من هذه الرواية أن السائل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا هو السائل في حديث أبي أيوب لجنه؛ لأن سياقه شبيه بالقصة التي ذكرها أبو هريرة. والله تعالى أعلم.
وقد وقع نحو هذا السؤال لصخر بن القعقاع الباهليّ رضي الله عنه، ففي حديث الطبراني أيضًا من طريق قَزعَة بن سُوَيد الباهليّ، حدثني أبي، حدثني خالي، واسمه صخر بن القعقاع، قال: لقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بين عرفة ومزدلفة، فأخذت بخطام ناقته، فقلت: يا رسول الله، ما يُقربني من الجَنَّة، ويباعدني من النار؟
…
"، فذكر الحديث، وإسناده حسن. أفاده في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه آخر]: وقع في رواية البخاريّ في "الزكاة" في حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا بلفظ "أن رجلًا" بدل" أن أعرابيًّا"، فقال في "الفتح": هذا الرجل حَكَى ابن قتيبة في "غريب الحديث" له أنه أبو أيوب الراوي، وغلّطه بعضهم في ذلك، فقال: إنما هو راوي الحديث، وفي التغليط نظر؛ إذ لا مانع أن يُبهم الراوي نفسه؛ لغرض له، ولا يقال: يبعد لوصفه في رواية أبي هريرة التي بعد هذه بكونه أعرابيًّا؛ لأنا نقول: لا مانع من تعدّد القصّة، فيكون
(1)
"الفتح" 3/ 310 - 311.
السائل في حديث أبي أيوب هو نفسه، لقوله:"إن رجلًا"، والسائل في حديث أبي هريرة أعرابيّ آخر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجواب غير صحيح؛ لأن رواية مسلم هذه تبطله، فإنها بلفظ "أن أعربيًّا"، فكون المراد به أبا أيوب غير صحيح؛ لأنه لا يقول عن نفسه "أن أعرابيًّا"، فالظاهر أن السائل في حديث أبي أيوب، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه واحد، وهو أعرابيّ، كما اتّضح في التنبيه السابق، فتأمله بالإنصاف. والله تعالى أعلم.
(عَرَضَ) من باب ضرب: أي ظهر، وبدا (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي سَفَرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من "رسول الله"(فَأَخَذَ) أي ذلك الأعرابيّ (بِخِطَامِ نَاقَتِه، أَوْ) للشكّ من الراوي (بِزِمَامِهَا)"الخطام"، و"الزمام" - بكسر الخاء، والزاي - قال الهرويّ في "الغريبين"، قال الأزهريّ: الخِطام هو الذي يُخْطَم به البعير، وهو أن يؤخذ حبلٌ من لِيفٍ، أو شعر، أو كَتّان، فيُجعَل في أحد طرفيه حَلْقَةٌ يُسْلَك فيها الطرف الآخر، حتى يَصِير كالحلقة، ثم يُقَلَّد البعير، ثم يُثَنَّى على مِخْطَمِه، فإذا ضُفِّر من الأدَمِ فهو جَرِير، فأما الذي يُجعَل في الأنف دَقيقًا فهو الزّمَام، وقال صاحب "المطالع": الزِّمَام للإبل ما تُشَدّ به رؤوسها من حَبْل وسَيْرٍ، ونحوه، لتقاد به. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ) الأعرابيّ (يَا رَسُولَ الله، أَوْ) للشكّ من الراوي (يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي) بتشديد الراء، من التقريب، أي بالعمل الذي إذا عملته يقرّبني (مِنْ الْجَنَّةِ) ويجعلني ممن يدخلها (وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ) أي وبالعمل الذي يجعلني بعيدًا من النار (قَالَ) الراوي، وهو أبو أيوب رضي الله عنه (فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي: منع ناقته من السير: ليتمكّن من سماع سؤاله، وأن لا يتعدّاه دون الإجابة عما سأله (ثُمَّ نَظَرَ) صلى الله عليه وسلم (فِي) وجوه (أَصْحَابِهِ) رضي الله عنهم، تعجّبًا من حسن سؤاله، ووجازته، وبلاغته (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ وُفِّقَ) بالبناء للمفعول، يقال: وفّقه الله توفيقًا: إذا سَدَّدَه
(3)
، وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قال
(1)
"الفتح" 3/ 310.
(2)
"شرح النوويّ" 1/ 172.
(3)
"المصباح" 2/ 667.
أصحابنا المتكلمون: التوفيقُ: خلقُ قدرة الطاعة، والخذلان خلق قدرة المعصية. انتهى (أَوْ) للشكّ من الراوي أيضًا (لَقَدْ هُدِيَ) بالبناء للمفعول أيضًا، قال الراغب الأصبهاني: الهداية: دلالة بلُطْفٍ، ومنه الهديّة، وهوادي الوحوش: المتقدّمات الهادية لغيرها، وخُصّ ما كان دلالةً بهَدَيتُ، وما كان إعطاءً بأهديتُ، ثم قال: إن قيل: كيف جَعَلْتَ الهداية دلالةً بلُطْفٍ، وقد قال الله تعالى:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]، وقال:{وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]، قيل: ذلك استُعْمِلَ فيه استعمالَ اللفظ على التهكم مبالغةً في المعنى، كقوله:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وقول الشاعر:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
قال: وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أضرب:
[الأول]: الهداية التي عمّ بها كلَّ مكلَّف، من العقل، والفِطْنة، والمعارف الضروريّة، بل عمّ بها كلَّ شيء بقدر فيه حسب احتماله، كقوله تعالى:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
[الثاني]: الهداية التي جَعَل للناس بدعائه إياهم على السنة الأنبياء، وإنزال القرآن، ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73].
[الثالث]: التوفيق الذي يختصّ به من اهتدي، وهو المعنّي بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقوله:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
[الرابع]: الهداية في الآخرة إلى الجنّة، وهو المعنيّ بقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43].
قال: وهذه الهدايات الأربع مرتّبة، فمن لم تحصل له الأولى لم تحصل له الثانية، بل لا يصحّ تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لم تحصل له الثالثة، والرابعة، ومن حصلت له الرابعة فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصلت له الثالثة فقد حصل له اللتان قبلها، ثم ينعكس، فقد تحصل الأولى، ولا يحمل الثاني، ويحصل الثاني، ولا يحصل الثالث، والإنسان لا يقدر أن
يهدي أحدًا إلَّا بالدعاء، وتعريف الطرق، دون سائر أنواع الهدايات.
وإلى الأولى أشار بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وإلى سائر الهدايات أشار بقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
قال: وكلُّ هداية ذكر الله تعالى أنه منعَ الظالمين والكافرين فهي الهداية الثالثة التي هي التوفيق الذي يختصّ به المهتدون، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة، وإدخال الجنّة {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].
وكلُّ هداية نفاها الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن البشر، وذَكَر أنهم غير قادرين عليها، فهي ما عدا المختصّ من الدعاء، وتعريف الطريق، وذلك كإعطاء العقل والتوفيق، وإدخال الجنّة، كقوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
وقولُهُ تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35]، أي: أن الله تعالى هو الذي يَهْدي خلقه إلى الحقّ، فهو أحقّ بالاتّباع ممن لا يَهدي أن يهتدي بنفسه، يقال: هدى بنفسه يَهدي مخفّفًا بمعنى اهتدى يهتدي، نحوُ شَرى يَشري بمعنى اشترى يشتري، إلَّا أن يُهدى إلى طريق يسلكها، أو عملٍ يرشده، وهذا استفهام توبيخ لهم على ما اتّخذوه من دون الله إلهًا يُعبَدُ، وإن كان من أشرف الناس وخيرهم، كالمسيح، وعُزير، والملائكة، يعني أن الله وحده هو الذي يهدي كلَّ أحد، وغيره لا يَهدي غيره إلَّا أن يهديه الله تعالى.
قال: ولَمّا كانت الهداية والتعليم يقتضي شيئين: تعريفًا من الْمُعَرّف، وتعرُّقًا من الْمُعَرَّف، وبهما تتمّ الهداية والتعليم، فإنه متى حصل البذل من الهادي والمعلِّم، ولم يحصل القبول صحّ أن يقال: لم يَهْد، ولم يُعلِّم؛ اعتبارًا بعدم القبول، وصحّ أن يقال: هَدَى وعَلّمَ؛ اعتبارًا ببذله، فإذا كان كذلك صحّ أن يقال: إن الله تعالى لم يَهْد الكافرين والفاسقين من حيث إنه لم يحصل القبول الذي هو تمام الهداية والتعليم، وصحّ أن يقال: هداهم وعلَّمهم من حيث إنه حصل البذل الذي هو مبدأ الهداية، فعلى الاعتبار الأول قوله تعالى:{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]، وعلى الثاني قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
وقيل: معنى {اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] أي لا يصلح، فاستعار الهداية للإصلاح، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، والمعنى لا يوفّقهم لعمل أهل الخير.
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، أشار به إلى من هداه الله بالتوفيق المذكور في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]. قال بعضهم: الهداية والْهُدى في موضوع اللغة واحد، ولكن خصّ الله تعالى لفظ الْهُدَى بما تولّاه وأعطاه، واختصّ به هو دون ما هو إلى الإنسان، نحو {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
والاهتداء يختصّ بما يتحرّاه الإنسان على طريق الاختيار، إما في الأمور الدنيويّة، أو الأخرويّة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]، فهذا يجوز أن يكون للهدايتين؛ لأنهم يهتدون بها في أسفارهم، وإلى الجهة التي يتعبّدون إليها لله تعالى.
ويقال أيضًا: اهتدى: إذا طلب الهداية، ومنه قوله تعالى:{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56]، وإذا تَحَرَّاهَا أيضًا، ومنه {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} [البقرة: 53]، أي تتحرّون هدايتكم فيهما، والاهتداء أيضًا: الاقتداء بالعلماء، ومنه قوله تعالى:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، تنبيهًا على أنهم لا يعلمون بأنفسهم، ولا يقتدون بمن يَعلَم، وقوله تعالى:{فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} [الزمر: 41] هذا يتناول وجوه الاهتداء المتقدّمة بأسرها، من طلب الهداية، وتحريّها، والاقتداء بالعلماء.
وقيل في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]، أي ثم أدام طلب الهداية، ولم يَفْتُر عن تحرّيها، ولم يرجع إلى المعصية، وفي قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 157]، أي تَحَرَّوا الهداية وقَبِلوها، وعَمِلوا بها، ولم يُخِلُّوا بشرائطها. انتهى كلام الراغب مختصرًا
(1)
.
والحاصل أن الهداية تُطلق على البيان، والإرشاد، كما قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ
(1)
"مفردات الألفاظ" ص 835 - 839.
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] وتُطلق على التوفيق للطاعة وتيسيرها، كما في قوله عز وجل:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وهذا المعنى هو المراد هنا، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (كَيْفَ قُلْتَ؟)، إنما سأله تعجّبًا بما سأل، وتعجيبًا للحاضرين، ويحتمل أنه لم يسمعه تمام السماع.
وفي رواية البخاريّ: "قال: ما له، ما له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَبٌ مَا له".
قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية لم يُذكَر فاعل "قال: ما له ما له؟ "، وفي رواية بَهْز المعلقة هنا الموصولة في كتاب "الأدب" قال القوم: ما له ما له؟ قال ابن بطال: هو استفهام، والتكرار للتأكيد.
وقوله: "أَرَبٌ" - بفتح الهمزة والراء، منونًا - أي حاجة، وهو مبتدأ، وخبره محذوف، استفهم أوّلًا، ثم رجع إلى نفسه، فقال:"له أَرَبٌ". انتهى.
وهذا بناءٌ على أن فاعل "قال" النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك؛ لما بَيّناه، بل المستفهم الصحابة، والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، و"ما" زائدة، كأنه قال: له حاجةٌ مَا.
وقال ابن الجوزيّ: المعنى له حاجةٌ مهمة مفيدةٌ، جاءت به؛ لأن قد عَلِمَ بالسؤال أن له حاجةً.
وَرُوِيَ بكسر الراء، وفتح الموحدة، بلفظ الفعل الماضي وظاهره الدعاء، والمعنى التعجب من السائل، وقال النضر بن شُمَيل: يقال: أَرِبَ الرجلُ في الأمر: إذا بلغ فيه جهده، وقال الأصمعيّ:"أَرِبَ في الشيء: صار ماهرًا فيه، فهو أريب، وكأنه تعجب من حسن فطنته، والتهدي إلى موضع حاجته، ويؤيده قوله في رواية مسلم هذه، بلفظ: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد وُفّق، أو لقد هُدِي".
وقال ابن قتيبة: قوله: "أَرِبَ" من الآراب، وهي الأعضاء، أي سقطت أعضاؤه، وأصيب بها، كما يقال: تَرِبَت يمينك، وهو مما جاء بصيغة الدعاء، ولا يراد حقيقته.
وقيل لَمّا رأى الرجل يزاحمه، دعا عليه، لكن دعاؤه على المؤمن طُهْرٌ له، كما ثبت في الصحيح.
ورُوِي بفتح أوله، وكسر الراء، والتنوين: أي هو أَرِبٌ، أي حاذقٌ، فَطِنٌ،
قال الحافظ: ولم أقف على صحة هذه الرواية، وجزم الكرماني بأنها ليست محفوظة، وحكى القاضي عن رواية لأبي ذَرّ:"أَرَبَ" بفتح الجميع، وقال: لا وجه له، قال الحافظ: وقعت في "الأدب" من طريق الكشميهني وحده. انتهى
(1)
.
(قَالَ) الراوي (فَأَعَادَ) الأعرابي سؤاله (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَعْبُدُ اللهَ) أي توحّده، وهو بتقدير حرف مصدريّ، كما في قوله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، وقولِ الشاعر [من الطويل]:
أَلَا أَيُّهَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى
…
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
أو الفعل منزّل منزِلَة المصدر، كقوله:"تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تَرَاه"، أو الخبر بمعنى الأمر، أي: اعبد الله.
والعبادة يحتمل أن تكون بمعنى التوحيد، فيكون قوله:"لا تشرك به شيئًا" تفسيرًا وتأكيدًا له، ويحتمل أن تكون بمعنى الطاعة مطلقًا، فتكون الجملة بعدها لبيان الإخلاص، وترك الرياء، وعلى هذا فعطف قوله: "وتقيم الصلاة
…
إلخ" تخصيصٌ بعد التعميم.
وقال العينيّ رحمه الله تعالى: قوله: "تعبد الله" أي توحّده، وفسّره بقوله:"لا تشرك به شيئًا"، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، أي ليوحّدوني.
والتحقيق هنا أن العبادة: الطاعة مع الخضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيّته، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وما بعدها لإدخالها في الإسلام، وإنما لم تكن دخلت في العبادة، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة مطلق الطاعة، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وما بعدها من باب عطف الخاصّ على العام؛ تنبيهًا على شرف هذه الأشياء، ومزيّتها.
وقوله: (لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "تعبُد"، وإنما أتى به بعد ذكر العبادة؛ لأن عبادة الكفّار كانت مع عبادة الأوثان والأصنام، يزعمون أنها شركاء، فنفى ذلك.
(1)
"الفتح" 3/ 311.
(وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ) أي تديم فعلها، وتحافظ عليها على الوجه المطلوب، قال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله تعالى: إقامة الشيء: إدامة فعله، والمحافظة عليه، وتوفيةُ حقّه، قال الله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68]، أي: توفّون حقوقهما بالعلم والعمل، وكذلك قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} الآية [المائدة: 66]، ولم يأمر الله تعالى بالصلاة حيثما أمر، ولا مَدَح حيثما مَدَح إلا بلفظ الإقامة؛ تنبيهًا أن المقصود منها توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئتها، نحو قوله تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] في غير موضع، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]. انتهى كلام الراغب
(1)
.
والمراد بالصلاة المكتوبةُ؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "وتقيم الصلاة المكتوبة".
(وَتُوْتِي الزَّكَاةَ) أي تُعطي الزكاة مستحقّها، فالمفعول الثاني محذوف، والمراد بالزكاة المفروضةُ؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"وتؤدّي الزكاة المفروضة".
(وَتَصِلُ الرَّحِمَ) من وَصَلَ يَصِلُ صِلَةً، من باب وَعَدَ، ومعنى صِلَة الرحم: مشاركة ذوي القربي في الخيرات. قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "تَصِل الرحم": أي تُوَاسِي ذوي القرابة في الخيرات، وقال النووي: معناه أن تحسن إلى أقاربك، ذَوِي رَحِمِك بما تيسر على حسب حالك وحالهم، من إنفاقٍ، أو سَلام، أو زيارة، أو طاعة، أو غير ذلك، وخص هذه الخصلة من بين خلال الخير؛ نظرًا إلى حال السائل، كأنه كان لا يصِلُ رحمه، فأمره به: لأنه المهم بالنسبة إليه، ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحضّ عليها، بحسب حال المخاطب، وافتقاره للتنبيه عليها أكثر مما سواها، إما لمشقتها عليه، وإما لتساهله في أمرها
(3)
.
(دَعِ النَّاقَةَ) أي: اتركها، وإنما قال له ذلك لأنه كان ممسكًا بخطامها؛ ليتمكّن من سؤاله بلا مشقّة، فلما حصل له جواب سؤاله قال له: دعها.
(1)
"مفردات القرآن" ص 692 - 693.
(2)
"عمدة القاري" 8/ 240.
(3)
"الفتح" 3/ 311.
و"دَع" بفتح، فسكون أمر من وَدَعَه وَدْعًا: إذا تركه، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمّ حُذفت الواو، ثم فُتح لمكان حرف الحلق، قيل: إن العرب أماتت ماضي يَدَعُ، ومصدره، واسم الفاعل، والصحيح أن ماضيه مستعمل
(1)
، فقد قرأ بعض التابعين "مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ" بتخفيف الدال، وصحّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لينتهيَنّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنّ من الغافلين"، رواه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه المصنّف هنا (4/ 112) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان - و (4/ 1134) عن محمد بن حاتم، وعبد الرحمن بن بشر، كلاهما عن بهز، عن شعبة، عن محمد (والصواب عمرو) ابن عثمان بن عبد الله بن موهب، وأبيه عثمان - و (4/ 114) عن يحيى بن يحيى، عن أبي الأحوص (ح) وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق - ثلاثتهم (عمرو بن عثمان، وأبوه، وأبو إسحاق) عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب رضي الله عنه.
وأخرجه (البخاريّ)(2/ 130) عن حفص بن عمر - و (8/ 5) عن أبي الوليد - كلاهما عن شعبة، عن ابن عثمان بن عبد الله بن موهب به، و (8/ 6) عن عبد الرحمن بن بشر، عن بهز بن أسد، عن شعبة به.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(5/ 417) عن يحيى - و (5/ 418) عن عبد الرحمن - كلاهما عن بهز بن أسد به، و (النسائيّ)(1/ 234) وفي "الكبرى"(320) عن محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفيّ، عن بهز به و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(92 و 93 و 94)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 653.
المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): بيان الإيمان الذي من تمسّك به دخل الجنة.
2 -
(ومنها): بيان قدر التوحيد، وأنه أساس الأعمال كلّها.
3 -
(ومنها): بيان فرضيّة الصلاة والزكاة، وبيان فضلهما.
بيان فضل صلة الرحم وأنها من جملة أسباب دخول الجنّة، وقطعها من الكبائر المانعة عن دخوله، فقد روى الشيخان من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع"، يعني قاطع رحم.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الحرص والرغبة إلى الجنة، والبحث عما يكون سببًا في دخولها، وهذا هو اللائق بالعاقل، فلا ينبغي له أن يَشغل نفسه بغير ذلك من الزخارف الفانية، فدخول الجنة هو الفوز العظيم، كما قال الله عز وجل:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
5 -
(ومنها): بيان كمال خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد وقف لهذا الأعرابي، واستمع
قوله، وأثنى على سؤاله، فهو المجبول على الخلق العظيم، كما وصفه الله تعالى بذلك بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وهو الحريص على تعليم أمته، كما قال عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
6 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم أن يشجّع الطالب الذي له تميّز في الذكاء، وحسن السؤال، فيظهر ذلك له على رؤوس الطلاب، ويقول: إن فلانًا نعم الطالب، حسن السؤال، حسن الإستماع، ليزداد بذلك نشاطه، وتتكامل رغبته في العلم، وليعلم زملاؤه فضله، ويقتدوا به؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا استحسن سؤال الأعرابيّ نظر في وجه أصحابه، تعجيبًا لهم، ولَمّا قالوا:"ما له ما له؟ "، كما في رواية البخاريّ؛ استغرابًا لسؤاله، أجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله:"أربٌ ما له"، فبّين أن له حاجةً ظريفة، ورغبة منيفة.
7 -
(ومنها): جواز الإفتاء على الدابّة، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب العلم" من "صحيحه"، فقال:"باب الْفُتيا، وهو واقفٌ على الدابّة وغيرها"، ثم أورد حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه
…
" الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[113]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَب، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون البغداديّ السَّمِين، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 235) أو (236)(م د) 1/ 103).
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ) بن الحكم العبديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقة، من صغار [10](ت 260)(خ م د ق) 6/ 98.
3 -
(بَهْز) بن أسد المذكور في الباب الماضي.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة الناقد المشهور [7](160)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" 1/ 385.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ) هو: عمرو بن عثمان المذكور في السند الماضي وَهِمَ فيه شعبة، فسمّاه محَمدًا، فقد وَهَّمَهُ الأئمة في ذلك، ودونك أقوالهم:
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في جميع الأصول في الطريق الأول "عمرو بن عثمان"، وفي الثاني "محمد بن عثمان"، واتّفقوا على أن الثاني وَهَمٌ وغَلطٌ من شعبة، وأن صوابه "عمرو بن عثمان"، كما في الطريق الأول، قال الكلاباذيّ، وجماعات لا يُحْصون، من أهل هذا الشان: هذا وَهَمٌ من شعبة، فإنه كان يُسَمّيه محمدًا، وإنما هو "عمرو"، وكذا وقع على الوهم من رواية شعبة في "كتاب الزكاة" من "صحيح البخاريّ". انتهى
(1)
.
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 172.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب الزكاة" بعد إيراده طريق شبعة: ما نصّه:
قال أبو عبد الله: أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو. انتهى.
فقال في "الفتح": قوله: "أبو عبد الله" هو المصنف، وقوله:"أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو"، وجزم في "التاريخ" بذلك، وكذا قال مسلم في شيوخ شعبة، والدارقطني في "العلل"، وآخرون: المحفوظ "عمرو بن عثمان"، وقال النووي: اتفقوا على أنه وَهَمٌ من شعبة، وأن الصواب عمرو. انتهى
(1)
.
وقال في "التقريب": محمد بن عثمان بن عبد الله بن مَوْهب التيميّ مولاهم، ثقة من السادسة، ويقال: الصواب: عمرو، وقيل: هو أخوه. انتهى.
وقال في "تهذيب التهذيب": هو مولى آل طلحة، روى عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب أن رجلًا
…
ثم ذكر هذ الحديث، رواه شعبة عنه، وعن أبيه عثمان جميعًا عن موسى، قال البخاريّ: أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، وإنما هو عمرو بن عثمان، وهكذا رواه القطّان، وابن نمير، وغير واحد عن عمرو بن عثمان، عن موسى، وذكر أبو يحيى أنّ محمدًا هذا أخٌ لعمرو، فالله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا اتفق معظمهم على توهيم شعبة في هذا الاسم، وهو غريب، فإن شعبة إمام مجمع على جلالته، وإتقانه، فلماذا لا يكون محمد أخًا لعمرو؟ كما هو ظاهر عبارة "التقريب"، ونقل في "التهذيب" القول بأنه أخوه، فالمحلّ محلّ توقّف، والله تعالى أعلم بالصواب.
6 -
(وَأَبُوهُ عُثْمَانُ) بن عبد الله بن مَوْهَب - بفتح الميم والهاء، وإسكان الواو بينهما - التيميّ مولاهم، أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو المدنّي الأعرج، مولى آل طلحة، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقة [4].
رَوَى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأم سلمة، وجابر بن سَمُرة، وجعفر بن
(1)
"الفتح" 3/ 311 - 312.
أبي ثور، وعبد الله بن أبي قتادة، وموسى بن طلحة، والشعبيّ، وحمران بن أبان.
ورَوَى عنه ابنه عمرو، وشعبة، وشيبان، وقيس بن الربيع، وإسرائيل، والثوري، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ، ويعقوب بن شيبة: ثقة. وقال العجليّ: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (160)، وفيها أَرّخه ابن سعد، وخليفة بن خَيّاط، وابن قانع.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (13) و (360) و (1196).
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: "بمثل هذا الحديث"، أي: حدّث محمد بن حاتم، وعبد الرحمن بن بشر من طريق شعبة بمثل حديث محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه.
[تنبيه]: رواية شعبة أخرجها البخاريّ في "كتاب الأدب" من "صحيحه"، فقال:
(5524)
حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، قال: أخبرني ابن عثمان، قال: سمعت موسى بن طلحة، عن أبي أيوب، قال: قيل: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة.
وحدثني عبد الرحمن بن بشر، حدثنا بَهْز بن أسد، حدثنا شعبة، وحدثنا ابن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب، وأبوه عثمان بن عبد الله، أنهما سمعا موسى بن طلحة، عن أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ما له ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَبٌ مَا له"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تعبدُ الله، لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرَّحِمَ، ذَرْهَا"، قال: كأنه كان على راحلته.
وأخرجه النسائيّ، ولفظه:
(464)
أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي صَفْوَان الثَّقَفيّ، قال: حدثنا بَهْزُ بن أسد قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن عبد الله، وأبوه عثمان بن عبد الله، أنهما سمعا موسى بن طلحة، يحدث عن أبي أيوب:
أن رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تعبدُ الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرَّحِمَ، ذَرْهَا، كأنه كان على راحلته". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[114]
(
…
) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ.
(ح) وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَل أَعْمَلُهُ، يُدْنِينِي مِنْ الْجَنَّة، وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّار، قَالَ: تَعْبُدُ اللهَ، لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ"، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: "إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقة ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدّم 2/ 9.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: محمد بن عبد الله بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدّم 1/ 1.
3 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) هو: سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ الحافظ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7].
رَوَى عن أبي إسحاق السَّبيعيّ، وعاصم بن سليمان، وسماك بن حرب، وشَبِيب بن غَرْقَدة، وزياد بن عِلاقة، وآدم بن علي، والأسود بن قيس، وبيان بن بشر، وغيرهم.
وروى عنه يحيى بن آدم، ووكيع، وابن مهديّ، وأبو نعيم، ويحيى بن يحيى، وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، والحسن بن الربيع الْبُورانيّ، وإسماعيل بن أبان الورَّاق، وغيرهم.
قال ابن مهديّ: أبو الأحوص أثبت من شريك. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة متقن. وقال عثمان بن سعيد الدارميّ: قلت ليحيى: أبو الأحوص أحب إليك، أو أبو بكر بن عياش؟ قال: ما أقربهما، وكذا قال أبو حاتم. وقال العجليّ: كان ثقةً، صاحب سنة واتّبَاع. وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه: صدوق، دون زائدة وزهير في الإتقان. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، صالحًا فيه. وذكره ابن حبان في "الثقات". ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير.
وقال البخاريّ: حدثني عبد الله بن أبي الأسود، قال: مات سنة تسع وسبعين - يعني ومائة -.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (52) حديثًا.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) هو: عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقة مكثرٌ عابدٌ اختلط بأخَرَة [3](ت 129)(ع) 2/ 11.
والباقون تقدّموا قبل حديث، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به، قد تقدّمت هناك.
وقوله: (ذا رَحمك) يعني صَاحِبَ قرابتك، وعلى هذا، فتكون القرابة اسم جنس مضافًا إليه "ذو"، فإن حكمها أن تضاف إلى أسماء الأجناس، قال القرطبيّ: وهذا أولى من قول من قال: إن الرحم هنا اسم عين، وإنما هنا بمنزلة قولهم:"ذو نَوَاس"، و"ذو يَزَن"، و"ذو رُعين"؛ لأن هذه أسماء أعلام، لا أسماء أجناس، و"ذو" بمعنى "صاحب"، وهي من الأسماء الستّة التي اعتلَّت بحذف لامها في الإفراد، ترفع بالواو، وتنصب وتُجرّ بالياء. انتهى
(1)
.
وقال المازريّ: قوله: "ذا رحمِك" ينبغي أن يُتأمّل هذا مع قول النحاة: إن لفظة "ذا" إنما تُضاف إلى الأجناس، فلعلّ الإضافة ها هنا مقدّر انفصالها، والإضافة بمعنى تقدير الإنفصال موجودة. انتهى.
وقال القاضي عياض: "ذا"، و"ذي"، و"ذو" عند أهل العربيّة إنما تُضاف إلى الأجناس، ولا تضاف عندهم لغيرها من الصفات، والمضمرات،
(1)
"المفهم" بتصرّف 1/ 167.
والأفعال، والأسماء المفردات؛ لأنها في نفسها لا تنفكّ عن إضافة، وقد جاءت مفردةً ومضافةً إلى مفرد، وإلى فعل، ومجموعةً ومثنّاةً، وكلّه عندهم شاذٌ، كقولهم: ذو يَزَن، وذو نُوَاس، وقالوا فيهم الذَّوَين، والأَذْوَاء، وقالوا: افعَلْ بذي تَسْلَم.
وتقدير هذا عندهم على الإنفصال، كما قال: أي الذي له كذا، أو الذي تسلم، كذلك قوله:"ذا رَحِمِكَ"، أي الذي له رَحِمٌ معك يشاركك فيها، ونحوه، ومعنى "ذو" صاحب، قيل: وأصله ذُوُو؛ لأنهم قالوا في تثنيته ذوا مال. انتهى كلام القاضي
(1)
.
قال الجامح عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا حاجة إلى ما تكلّف به المازريّ وعياض في قوله: "ذا رَحِمِك"؛ لأن المراد بالرحم القرابة، وهي اسم جنس، فيصحّ إضافة "ذي" إليها بدون تأويل، كما سبق في كلام القرطبيّ، وليس هو من جنس "ذي يَزَنَ"، و"ذي نُوَاس"، و"ذي تسلم"، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن تَمَسّك بما أُمر به دخل الجنة"، قال النوويّ: كذا هو في معظم الأصول المحققة، وكذا ضبطناه "أمِرَ" - بضم الهمزة، وكسر الميم - و"بِهِ" - بباء موحدة مكسورة - مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، وضبطه الحافظ أبو عامر العبدريّ:"أَمَرتُهُ" - بفتح الهمزة، وبالتاء المثنّاة من فوقُ التي هي ضمير المتكلم، وكلاهما صحيح، والله أعلم.
وأما ذكره صلى الله عليه وسلم صِلَةَ الرحم في هذا الحديث، وذِكْرُ الأوعيةِ في حديث وفد عبد القيس، وغيرِ ذلك في غيرهما، فقال القاضي عياض وغيره رحمهم الله: ذلك بحسب ما يَخُصُّ السائل، ويَعْنِيهِ
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: ترجم القرطبيّ رحمه الله تعالى، بقوله:"باب من اقتصر على فعل ما وجب عليه، وانتهى عمّا حُرّم عليه دخل الجنّة"، ثم أورد حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا، وحديث جابر رضي الله عنه الآتي: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 142 - 143.
(2)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 174.
فقال: أرأيتَ إذا صليتُ الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا أأدخل الجنة؟ قال:"نعم"، قال: والله لا أزيد على ذلك شيئًا.
ثم قال: هذه الترجمة يشهد بصحّتها الحديثان المذكوران تحتها، فأما حديث أبي أيوب فمن حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم دلّ السائل على فعل ما وجب، وقال:"إن تمسّك بما أُمر به دخل الجنّة"، وأما حديث جابر رضي الله عنه فمن حيث إن السائل إنما سأله عن دخول مَن فَعَلَ ما يجب عليه، وانتهى عما حُرِّم عليه الجنّة، فأجابه بـ "نعم"، ولم يذكر لهما في هذين الحديثين شيئًا من فعل التطوّعات، فدلّ على صحّة ما ذكرناه، وعلى جواز ترك التطوّعات على الجملة.
لكن من تركها، ولم يَعمل شيئًا منها، فقد فوّت على نفسه ربحًا عظيمًا، وثوابًا جسيمًا، ومن داوم على ترك شيء من السنن، كان ذلك نقصًا في دينه، وقدحًا في عدالته، فإن كان تركه تهاونًا به، ورغبةً عنها، كان ذلك فسقًا، يستحقّ به ذمًّا.
وقال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواصلوا على ترك سنّة لقوتلوا عليها حتى يرجعوا.
ولقد كان صدر الصحابة ومن بعدهم يثابرون على فعل السنن والفضائل مثابرتهم على الفرائض، ولم يكونوا يفرّقون بينهما في اغتنام ثوابهما، وإنما احتاج أئمة الفقهاء إلى ذكر الفرق بينهما لما يترتّب عليه من وجوب الإعادة وتركها، وخوف العقاب على الترك، ونفيه إن حصل تركٌ ما بوجه ما.
وإنما سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم لهؤلاء السائلين عن ذكر التطوّعات، ولم يذكرها لهم كما ذكرها في حديث طلحة بن عُبيد الله رضي الله عنه؛ لأن هؤلاء - والله أعلم - كانوا حديثي عهد بإسلام، فاكتفى منهم بفعل ما وَجَبَ عليهم في تلك الحال؛ لئلا يثقل ذلك عليهم، أو لئلا يعتقدوا أن تلك السنن والتطوّعات واجبة، فتركهم إلى أن تنشرح صدورهم بالفهم عنه، والحرص على تحصيل ثواب تلك المندوبات، فتسهل عليهم.
ومن المعلوم أنّ هؤلاء ما سُوِّغ لهم ترك الوتر، ولا صلاة العيدين، ولا
غيرهما، مما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين، ولا يجترؤون على ترك ذلك؛ للذي يُعلم من حرصهم على الإقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى تحصيل الثواب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيق حسنٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[115]
(14) - (وحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ، دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ، لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ"، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغانيّ - بفتح المهملة، ثم المعجمة - خُرَاسَاني الأصل، وكان أحد الحفاظ الرَّحّالين، نَزَلَ بغداد، ثقة ثبتٌ [11].
رَوَى عن رَوْح بن عُبَادة، وأحمد بن إسحاق الحضرميّ، والحسن بن موسى الأشيب، ويونس بن محمد المؤدِّب، وعَفّان بن مسلم، وأسود بن عامر شاذان، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجماعة، سوى البخاري، وأبو عُمَر الدُّوريّ، وهو أكبر منه، وجعفر بن محمد الفريابي، وأبو بكر بن خزيمة، وعبدان الأهوازيّ، وموسى بن هارون، وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو ثَبْتٌ صدوق. وقال
(1)
"المفهم" 1/ 166 - 167.
النسائي: ثقة. وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال ابن خِرَاش ثقة مأمون. وقال الدارقطني: ثقةٌ وفوق الثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الخطيب: كان أحد الأثبات المتقنين، مع صَلابة في الدين، واشتهار بالسنة، واتِّسَاع في الرواية، قال: وبلغني عن أبي مُزَاحِم الخاقاني قال: كان الصاغاني يُشْبِهُ يحيى بن معين في وقته. وقال مَسْلَمة في "الصِّلَة": كان ثقةً مأمونًا. وقال أبو حاتم الرازيّ: ثقة. وقال السُّلَميّ عن الدارقطنّي: هو وَجْهُ مشايخ بغداد.
قال ابن المنادي: مات يوم الخميس لسبع خَلَوْن من صفر سنة سبعين ومائتين، وفيه أَرَّخَه غير واحد.
أخرج له الجماعة، سوى البخاريّ، وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم (32) حديثًا
(1)
.
2 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [10](ت بعد سنة (219)(ع) 4/ 44.
3 -
(وُهَيْبٌ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، تغيّر بأخَرَة قليلًا [7](ت 165)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 2/ 398.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن حيّان، أبو حيّان التيميّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ [6](ت 145)(ع) 1/ 10.
5 -
(أَبُو زُرْعَةَ) بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: غيره [3] 1/ 10.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 1/ 3. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) أي بدويًّا منسوبًا إلى الأعراب بالفتح، وهم: سُكّان البادية
(2)
(جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، دُلَّنِي) بضمّ الدال، وتشديد اللام أمر من الدلالة، وهي الإرشاد (عَلَى عَمَلٍ) صفته أنه (إِذَا
(1)
في "برنامج الحديث" أن مسلمًا روى عنه (36) حديثًا، والظاهر أن الإختلاف من أجل التكرار.
(2)
قد سبق الكلام في اسم هذا الأعرابي في حديث أبي أَيوب الماضي، فلا تغفل.
عَمِلْتُهُ، دَخَلْتُ الْجَنَّةَ) أي دخولًا أوليًّا، غير مسبوق بنوع من العذاب (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (تَعْبُدُ اللهَ) خير بمعنى الأمر، أو هو في تأويل المصدر بتقدير "أَنْ"، وحذفها مع رفع الفعل جائز في سعة الكلام على الراجح، كما قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وجوّز بعضهم نصبه، وهو شاذّ، كما قال في "الخلاصة".
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ " وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
ويحتمل أن يكون منزّلًا منْزِلة المصدر بذكر الفعل، وإرادة الحدث، كما في قوله:"تَسْمَعُ بالمعيديّ خير من أن تراه"، وهو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو، يعني أن العمل الذي إذا عملته دخلت الجنّة هو عبادة الله إلخ.
ثم قيل: المراد بالعبادة التوحيد، لعطف الصلاة، وما بعدها عليه، والأصل في العطف المغايرة، وذكر العبادة شامل للإقرار بالرسالة، لأنها لا تُعتبر بدونه، فذكرها مغنٍ عن ذكره، ويحتمل أن يكون السائل مؤمنًا، فذكرها له لشرفها، وكونها أصلًا، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة جميع أنواع الطاعات، فيكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاصّ على العامّ.
(لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي حال كونك غير مشرك به، قيل: وهو يؤيّد أن المراد بالعبادة التوحيد، وهذه الجملة تفيد التأكيد، وقيل: إنما ذكره ردًّا على الكفّار حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وبيانًا أن العبادة لا تكمل إلا إذا سَلِمت من أنواع الشرك، كبيرها وصغيرها، كالرياء والسمعة، كما قال الله عز وجل:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
[تنبيه]: قال القاري في "المرقاة": قال العارفون: التعبّد إما لنيل الثواب، أو التخلّص من العقاب، وتُسمّى عبادة، وهي أنزل الدرجات؛ لأن معبوده ذلك المطلوب، بل نقل الفخر الرازيّ إجماع المتكلّمين على عدم صحّة عبادته، أو للتشرّف بخدمته تعالى، والإنتساب إليه، وتسمّى عُبُودِيّةً، وهي أرفع من الأولى، ولكنها ليست خالصة له، أو لوجهه تعالى وحده، من غير ملاحظة شيء آخر، وتُسمّى عبودة، وهي أعلى المقامات، وأرفع الحالات. انتهى
(1)
.
(1)
"المرقاة" 1/ 160.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التقسيم الذي ذكره القاري تقسيم ضيزى؛ لكونه مخالفًا لنصوص الكتاب والسنّة، ومناهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الآيات القرآنية، والأخبار الصحيحة النبويّة مشحونة بأن العبادة للفوز بالجنة والنجاة من النار طريقة الأنبياء والمرسلين، وخير الهدى هداهم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"، وقد قال الله عز وجل بعد ذكر أنبيائه: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ولوطًا، ونوحًا، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإسحاق، وذا الكفل، وذا النون، وزكريّا، ويحيى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، فهؤلاء أفضل الخلق أجمعين كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى رغبة ورهبة، فأيُّ رتبة أعلى من رتبتهم؟ وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام:{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)} [الشعراء: 85]، وقال تعالى عن عباده مثنيًا عليهم:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [الإسراء: 57]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق أجمعين كثير السؤال للجنة، والتعوذ من النار، والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة لا حصر لها.
وبالجملة فالعمل المجرّد من الخوف والرجاء هو الذي أدخل الزندقة في كثير من المتصوّفة، الذين يزعمون تجرّدهم عن الإلتفات إلى الجنة والنار، وإنما يعبدون الله تعالى لمحبّتهم له، فصاروا يحتقرون عذاب الله وناره، ويتهاونون بالجنة ونعيمها.
ولهذا قال بعض العلماء: من عبد الله بالحبّ وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده، فهو حروريّ
(1)
، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئيّ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى ردًّا على هؤلاء: إن الواحد
(1)
أي من الخوارج الذين يكفّرون بالذنوب.
من هؤلاء لو جاع في الدنيا أيّامًا، أو أُلقي في بعض عذابها طار عقله، وخرج من قلبه كلّ محبّة، ولهذا قال سمنون:
وَلَيْسَ لِي فِيمَا سِوَاكَ حَظٌّ
…
فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي
فابتُلِي بعُسر البول، فصار يطوف على المكاتب، ويقول: ادعوا لعمكم الكذّاب، وأبو سليمان لَمّا قال: قد أَعطيتُ من الرضا نصيبًا، لو ألقاني في النار لكنت راضيًا، ذُكر أنه ابتُلي بمرض، فقال: إن لم تعافني، وإلا كفرت، أو نحو هذا، وفُضيل بن عياض ابتُلي بعسر البول، فقال: بحبي لك إلا فرّجت عنّي، فبذل حبّه في عسر البول، فلا طاقة لمخلوق بعذاب الخالق ولا غنى به عن رحمته، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل:"ما تدعو في صلاتك؟ "، قال: أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما إني لا أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال:"حولها ندندن"، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما يُدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاذ، ومن يصلّي خلفهما من المهاجرين والأنصار. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن طلب الجنّة، والاستعاذة من النار طريق الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وجميع أولياء الله السابقين المقرّبين، وأصحاب اليمين، فمن حاد عن طريقهم فقد ضلّ ضلالًا مبينًا.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين.
(وَتُقِيمُ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَةَ) أي المفروضة على الأعيان بشرائطها وأركانها المعلومة، قيدها احترازًا عن التطوّعات (وَتُؤَدِّي) أي تعطي (الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ) المغايرة بين الوصفين للتفنّن، وهي للتأكيد، أو لئلا يُتوهّم المعنى اللغويّ، وهو مطلق الصدقة، والمعنى أداء مقدارها المعيّنة، لمصارفها المقرّرة.
(1)
"النبوات" ص 68 - 690 و"الاستقامة" 2/ 110.
وقال في "الفتح": قيل: الفرق بين القيدين كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبّر في الزكاة بـ "المفروضة" للاحتراز عن صدقة التطوّع، فإنها زكاة لغوّية، وقيل: احترز من الزكاة المعجّلة قبل الحول، فإنها زكاة، وليست مفروضة
(1)
.
(وَتَصُومُ رَمَضَانَ) إنما لم يقيده لأنه لا يكون إلا فرضًا (قَالَ) الأعرابيّ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه جواز الحلف للتأكيد بغير استحلاف، أو ضرورة ملجئة.
[فإن قلت]: كيف أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على حلفه، وقد جاء النكير على من حلف أن لا يفعل خيرًا، والنهي عنه في قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} الآية [البقرة: 224].
[أجيب]: بأن المنع والنكير إنما كان عن عناد؛ إذ لا شكّ أن ترك النوافل جائزٌ، والحلف على المباح غير محرّم، ولهذا الكلام محمل آخر، وهو أن يكون السائل رسولًا، فحلف أن لا يزيد في الإبلاغ على ما سمع، ولا ينقص منه، وقيل: يحتمل أن يكون صدور هذا الكلام منه على المبالغة في التصديق والقبول، أي: قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول. ذكره الطيبيّ
(2)
.
(لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا) أي الذي ذَكَره (شَيْئًا) أي من عندي (أَبَدًا، ولَا أَنْقُصُ مِنْهُ) أي مما ذُكر، وقيل: المعنى لا أزيد على هذا السؤال، ولا أنقص في العمل مما سمعته، أو كان الرجل وافد قوم، فأراد أنه لا يزيد في التبليغ على ما سَمِعَ، ولا ينقُص منه شيئًا (فَلَمَّا وَلَّى) أي أدبر الأعرابيّ وذهب عن المجلس (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ) شرطيّة، أو موصولة (سَرَّهُ) أي أعجبه (أَنْ يَنْظُرَ) "أن" مصدريّة، والمصدر المؤَوّل فاعل "أعجب" (إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة، فَلْيَنْظُرْ) جواب الشرط، أو خبر المبتدأ، ودخلت الفاء؛ لكون المبتدأ بمعنى الشرط (إِلَى هَذَا) الأعرابيّ، والظاهر منه أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بالوحي أنه سيُوَفِّي بما التَزَم، وأنه يدوم على ذلك، ويدخل الجنة.
(1)
"الفتح" 3/ 312 كتاب الزكاة.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 456.
ويحتمل أن يكون في الكلام حذفٌ، تقديره: إن دام على فعل الذي أُمر به، ويؤيّد هذا قوله في حديث أبي أيوب رضي الله عنه الذي قبله:"إن تمسّك بما أُمر به دخل الجنّة".
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: في هذا الحديث، وكذا في حديث طلحة في قصّة الأعرابيّ وغيرهما دلالة على جواز ترك التطوّعات، لكن من داوم على ترك السنن كان نقصًا في دينه، فإن تركها تهاونًا بها ورغبةً عنها كان ذلك فسقًا، يعني لورود الوعيد عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من رغِبَ عن سنّتي فليس منّي"، وقد كان صدر الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض، ولا يفرّقون بينهما في اغتنام ثوابهما، وإنما احتاج الفقهاء إلى التفرقة؛ لما يترتّب عليه من وجوب الإعادة وتركها، ووجوب العقاب على الترك ونفيه، ولعلّ أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام، فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحال؛ لئلا يثقل ذلك عليهم، فيملّوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه، والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهُلت عليهم. ذكره في "الفتح"، وقد تقدّم بنحوه
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه المصنّف هنا (4/ 115) عن أبي بكر بن إسحاق، عن عفان بن مسلم، عن وُهيب بن خالد، عن يحيى بن سعيد بن حيّان أبي حيّان التيميّ، عن أبي زرعة، عنه.
و (البخاريّ)(2/ 130) عن محمد بن عبد الرحيم عن عفّان به، وفي (2/ 131) عن مسدّد، عن يحيى القطّان، عن أبي حيّان التيميّ، عن أبي زرعة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، و (أحمد) في "مسنده" 2/ 342 عن عفان به و (أبو عوانة) في "مسنده"(4)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(95)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 3/ 312 كتاب الزكاة.
(المسألة الثالثة):
(اعلم): أنه لم يأتي ذكر الحجّ في هذا الحديث، ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غيره من نحو هذه الأحاديث لم يُذكَر في بعضها الصوم، ولم يُذكر في بعضها الزكاة، وذُكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان، فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادةً ونُقصانًا، وإثباتًا وحذفًا.
وقد أجاب القاضي عياض وغيره عنها بجواب لَخّصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهَذّبه فقال: ليس هذا باختلاف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصّر واختصر على ما حفظه فأدّاه، ولم يتعرّض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وقد وقع التفاوت عن واحد، ألا ترى إلى حديث النعمان بن قوقل رضي الله عنه اختلفت الروايات في خصاله بالزيادة والنقصان، مع أن رواي الجميع واحد، وهو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قضيّة واحدة، ثم ذلك لا يمنع من إيراد الجميع في "الصحيح"؛ لما عُرِف في مسألة زيادة الثقة من أنها مقبولة أيضًا
(1)
.
وقال البيضاويّ: وينبغي لك أن تعلم أن الحديث الواحد إذا رواه راويان، واشتملت إحدى الروايتين على زيادة، فإن لم تكن مغيّرة لإعراب الباقي قُبلت، وحُمل ذلك على نسيان الآخر؛ لذهوله، أو اقتصاره بالمقصود منه في صورة الإستشهاد، وإن كانت مغيّرة تعارضت الروايات، وتعيّن طلب الترجيح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "فإن لم تكن مغيرة لإعراب الباقي إلخ"، هذا قول من الأقوال التي ذُكرت في قبول زيادة الثقة، لكن القول الراجح أنه لا اعتبار بتغيير الإعراب وعدمه، وإنما العبرة في زيادة الثقة بالمخالفة وعدمها، فإذا كانت مخالفةً لرواية الجماعة، بأن كان يلزم من قبولها ردّ روايتهم، فلا تقبل، وإلا قُبلت، وإلى تلك الأقوال مع الترجيح أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 455 - 456.
وَفِي زِياداتِ الثِّقَاتِ الْخُلْفُ جَمّ
…
مِمَّنْ رَوَاهُ نَاقِصًا أَوْ مَنْ أَتَمْ
ثَالِثُهَا تُقْبَلُ لَا مِمَّنْ خَزَلْ
…
وَقِيلَ إِنْ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ حَمَلْ
بَعْضًا أَوِ النّسْيَانَ يَدَّعِيهِ
…
تَقْبَلْ وَإِلَّا يُتَوَقَّفْ فِيه
وَقِيلَ إِنْ أَكْثَرَ حَذْفَهَا تُرَدّ
…
وَقِيلَ فِيمَا إِنْ رَوَى كُلًّا عَدَدْ
إِنْ كَانَ مَنْ يَحْذِفُهَا لَا يَغْفُلُ
…
عَنْ مِثْلِهَا فِي عَادَةٍ لَا تُقْبَلُ
وَقِيلَ لَا إِذْ لَا تُفِيدُ حُكْمَا
…
وَقِيلَ خُذْ مَا لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَا
وَابْنُ الصَّلَاحِ قَالَ وَهْوَ الْمُعْتَمَدْ
…
إِنْ خَالَفَتْ مَا لِلثِّقَاتِ فَهْيَ رَدّ
أَوْ لَا فَخْذُ تِلْكَ بِإِجْمَاعٍ وَضحْ
…
أَوْ خَالَفَ الإِطْلَاقَ فَاقْبَلْ فِي الأَصَحْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور أوائلَ الكتاب قال:
[116]
(15) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل حديث.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء بن كُريب الْهَمْداني الكوفي، ثقة حافظٌ [10].
رَوَى عن عبد الله بن إدريس، وحفص بن غِيَاث، وأبي بكر بن عَيّاش، وهُشيم، ومعتمر، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ويونس بن بكير، وابن المبارك، وأبي معاوية الضرير، ووكيع، ومحمد بن بشر العبدي، ومروان بن معاوية، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجماعة، وروى النسائي عن أبي بكر بن عليّ المروزيّ، عن زكريا بن يحيى السِّجْزِيّ عنه، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وعثمان بن خُرَّزاذ، والذُّهليّ، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم.
قال حجاج بن الشاعر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لو حَدَّثت عن أحد ممن أجاب في المحنة لحدثت عن أبي مَعْمَر، وأبي كريب. وقال الحسن بن سفيان: سمعت ابن نُمير يقول: ما بالعراق أكثر حديثًا من أبي كريب، ولا أَعْرَفَ بحديث بَلَدِنا منه. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، فقال: صدوق. وقال أبو علي النيسابوريّ: سمعت أبا العباس بن عُقْدة يقدمه في الحفظ والمعرفة على جميع مشايخهم، ويقول: ظهر لأبي كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث. وقال موسى بن إسحاق الأنصاري: سمعت من أبي كريب مائة ألف حديث. وقال النسائيّ: لا بأس به، وقال مرّةً: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو عمرو الْخَفّاف: ما رأيت من المشايخ بعد إسحاق بن إبراهيم أحفظ منه. وقال إبراهيم بن أبي طالب: قلت لمحمد بن يحيى: لم أر بعد أحمد بن حنبل بالعراق أحفظ من أبي كريب. وقال صالح جَزَرَة: غَلَبَت اليبوسة مرّة على رأس أبي كريب، فغَلَّف الطبيبُ رأسه بالفالوذج، فأخذه من رأسه، فوضعه في فيه، وقال: بطني أحوج إلى هذا. وقال مسلمة بن قاسم: كوفي ثقة.
قال البخاري وغير واحد: مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين ومائتين، زاد بعضهم: وهو ابن سبع وثمانين سنة، وقيل: مات سنة سبع، وهو وَهَمٌ.
روى عنه الجماعة، وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثًا، ومسلم خمسمائة وستة وخمسين حديثًا
(1)
.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم - بمعجمتين - التميمي السَّعْديّ مولاهم، الضَّرِير الكوفيُّ، يقال: عَمِيَ، وهو ابن ثمان سنين، أو أربع، ثقة،
(1)
الذي في برنامج الحديث أن له في "صحيح البخاريّ"(54) حديثًا، وفي "صحيح مسلم"(488) حديثًا، فليُحرّر.
أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9].
رَوَى عن عاصم الأحول، وأبي مالك الأشجعيّ، وسعد ويحيى ابني سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وداود بن أبي هند، وعبيد الله بن عمر العمري، وغيرهم.
ورَوَى عنه إبراهيم، وابن جريج، وهو أكبر منه، ويحيى القطان، وهو من أقرانه، ويحيى بن حسان التنيسيّ، وأَسَدُ بن موسى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو الوليد الطيالسي، وأبو بكر وعثمان بنا أبي شيبة، وسعيد بن منصور وأبو كريب، وغيرهم.
قال أيوب بن إسحاق: سألت أحمد ويحيى عن أبي معاوية وجرير؟ قالا: أبو معاوية أحبّ إلينا، يعنيان في الأعمش. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظًا جيدًا. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: أبو معاوية أثبت في الأعمش من جرير. وروى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر مناكير. وقال معاوية بن صالح: سألت ابن معين، من أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: أبو معاوية بعد شعبة وسفيان. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أبو معاوية أحب إليك في الأعمش أو وكيع؟ فقال: أبو معاوية أعلم به. وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: أيُّهما أحبُّ إليك في الأعمش، عيسى بن يونس، أو حفص بن غياث، أو أبو معاوية؟ قال: أبو معاوية، وقال أيضًا عن ابن معين: قال لنا وكيع: من تلزمون؟ قلنا: نلزم أبا معاوية، قال: أما أنه كان يَعُدُّ علينا في حياة الأعمش ألفًا وسبعمائة. وقال الدُّوريُّ: قلت لابن معين: كان أبو معاوية أحسنهم حديثًا عن الأعمش؟ قال: كانت الأحاديث الكبار العالية عنده. وقال ابن المدينّي: كتبنا عن أبي معاوية ألفًا وخمسمائة حديث، وكان عند الأعمش ما لم يكن عند أبي معاوية أربع مائة ونيف وخمسون حديثًا. وقال شبابة بن سَوّار: كنا عند شعبة، فجاء أبو معاوية، فقال شعبة: هذا صاحب الأعمش فاعرفوه. وقال إبراهيم الحربي: قال وكيع: ما أدركنا أحدًا كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي معاوية. وقال الحسين بن إدريس: قلت لابن عمار: عليّ بن مسهر أكبر أم أبو معاوية في الأعمش؟ قال: أبو معاوية، قال ابن
عمار: سمعته يقول: كُلُّ حديث قلتُ فيه: حدثنا فهو ما حفظته من فِي المحدث، وكل حديث قلتُ: وذكر فلان، فهو مما قرئ من كتاب. وقال العجليّ: كوفي ثقة، وكان يَرَى الإرجاء، وكان لَيِّنَ القول فيه. وقال يعقوب بن شيبة: كان من الثقات، وربما دَلَّس، وكان يرى الإرجاء. وقال الآجريّ عن أبي داود: كان مرجئًا، وقال مرةً: كان رئيس المرجئة بالكوفة. وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، يُدَلِّس، وكان مرجئًا. وقال النسائيّ: ثقة في الأعمش. وقال أبو زرعة: كان يرى الإرجاء، قيل له: كان يدعو إليه؟ قال: نعم. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: أثبتُ الناس في الأعمش سفيان، ثم أبو معاوية، ومعتمر بن سليمان أحب إليّ من أبي معاوية - يعني في غير حديث الأعمش. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان حافظًا متقنًا، ولكنه كان مُرْجِئًا خبيثًا.
قال أحمد بن حنبل وغير واحد: وُلِدَ سنة (113)، وقال ابن نُمَير: مات سنة (194)، وقال ابن المديني وآخرون: مات سنة خمس وتسعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (259) حديثًا.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة حافظ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147) أو (148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 302.
5 -
(أَبُو سُفْيَان) في سينه ثلاث لغات: الضمّ، والكسر، والفتح، وهو: طلحة بن نافع القرشيّ مولاهم الواسطيّ، ويقال: المكيّ الإسكاف، صدوق [4].
رَوَى عن جابر بن عبد الله، وأبي أيوب الأنصاريّ، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس، وعبيد بن عُمَير، وغيرهم.
ورَوَى عنه الأعمش، وهو راويته، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية، والمثنى بن سعيد، وحصين بن عبد الرحمن، وابن إسحاق، وأبو بشر الوليد بن مسلم العنبري، وشعبة حديثًا واحدًا، وغيرهم.
قال أحمد: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: رَوَى عنه الناس، قيل له: أبو الزبير أحب إليك، أو هو؟ قال: أبو الزبير أشهر، فعاوَدَه بعضُ من حَضَرَ، فقال: الثقة شعبة وسفيان. وقال أبو حاتم: أبو الزبير أحب إليَّ منه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: لا شيء. وقال أبو خيثمة عن ابن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وكذا قال وكيع عن شعبة. وعند البخاري: وقال مسدد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان: جاورت جابرًا بمكة ستة أشهر. وقال النسائئ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: لا بأس به، روى عنه الأعمش أحاديث مستقيمة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ورَوَى له البخاريّ مقرونًا بغيره. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قال أبي: لم يسمع من أبي أيوب. وفي "العلل الكبير" لعلي بن المديني: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلا أربعة أحاديث، وقال فيها: أبو سفيان يُكتَبُ حديثه، وليس بالقوي. وقال أبو حاتم عن شعبة: لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث.
وقال الحافظ في "التهذيب": لم يُخرِج البخاري له سوى أربعة أحاديث عن جابر، وأظنها التي عناها شيخه علي بن المديني، منها حديثان في الأشربة، قرنه بأبي صالح، وفي الفضائل حديث اهتز العرش كذلك، والرابع في تفسير سورة الجمعة، قرنه بسالم بن أبي الجعد، وقال أبو بكر البزار: هو في نفسه ثقة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا.
6 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام بن ثَعْلَبة الخزرجيّ السَّلَميّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وأبي عبيدة، وطلحة، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وأبي بردة بن نِيَار، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأبي حميد الساعديّ، وغيرهم.
وروى عنه أولاده: عبد الرحمن، وعَقيل، ومحمد، وسعيد بن المسيب، ومحمود بن لبيد، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وأبو جعفر الباقر، وابن عمه محمد بن عمرو بن الحسن، ومحمد بن المنكدر، وأبو نضرة العبديّ،
ووهب بن كيسان، وسعيد بن مِيناء، ومجاهد، والحسن البصريّ، وقتادة، والشعبيّ، وخلق كثير.
وروى البخاريّ في "تاريخه" بإسناد صحيح، عن أبي سفيان، عن جابر: كنت أُمِيح أصحابي الماءَ يوم بدر، وأنكر ذلك الواقديّ. وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدرًا، ولا أحدًا، منعني أبي، قال: فلما قُتِل عبد الله لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط، رواه مسلم. وقال حماد بن سلمة عن أبي الزبير، عن جابر: استغفر لي النبي صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرةً. وقال وكيع، عن هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبد الله حَلْقَةً في المسجد، يؤخذ عنه العلم.
قال ابن سعد، والهيثم: مات سنة (73)، وقال محمد بن يحيى بن حَبّان: مات سنة (77)، وكذا قال أبو نعيم، قال: ويقال: مات وهو ابن (94) سنةً، وصَلَّى عليه أبان بن عثمان، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة
(1)
. وقال عمرو بن علي، ويحيى بن بكير، وغيرهما: مات سنة (78)، وقيل: غير ذلك، وقال البخاريّ: صَلّى عليه الحجاج.
أخرج له الجماعة، روى من الأحاديث (1540) حديثًا، اتّفق الشيخان على (58) حديثًا، وانفرد البخاريّ بـ (26)، ومسلم بـ (126) حديثًا
(2)
. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى أبي بكر بن أبي شيبة، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه أبا كُريب أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بغير واسطة، وهم المجموعون في قولي:
(1)
قال البَغَوِيُّ: هذا وَهَمٌ، بل آخرهم سهل بن سعد رضي الله عنه. "الإصابة" 1/ 547.
(2)
هكذا قال ابن الجوزيّ في كتابه "المنتقى"، والذي في برنامج الحديث أن له في "صحيح مسلم"(414) حديثًا، فليُحرّر.
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي
وَابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْعَلَاءِ وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد رجاله كلهم كوفيّون، إلا جابرًا، فمدنيّ، وأبا سفيان فواسطيّ، ويقال: مكيّ.
5 -
(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش، كما سبق في ترجمته.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي سفيان، وهو راويته.
7 -
(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما أسلفنا عدد مرويّه آنفًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للفاعل، و"النبيّ" مفعول مقدّم، والفاعل قوله:(النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ) - بقافين مفتوحتين، بينهما واو ساكنةٌ، وآخره لام - هو: النعمان بن قَوْقَل بنَ أصرم بن فِهْر بن ثَعْلبة بن غَنْم بن عَوْف.
ذكره موسى بن عقبة، وابن إسحاق فيمن استُشْهِد بأُحُد، وكان شهد بدرًا، وقال ابن حبّان له صحبة.
وأخرج البغوي من طريق خالد بن مالك الجعدي قال: وجدت في كتاب أبي أن النعمان بن قوقل الأنصاري قال: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعَرْجتي في خضر الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيته يطأ فيها، وما به من عَرَج". وأخرج ابن قانع، وابن منده من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن الحسن بن الحسن، عن أبي ثابت بن شداد بن أوس قال: قال النعمان بن قوقل
…
فذكر نحوه. قال ابن منده: يُرْوَى هذا الحديث لعمرو بن الْجَمُوح. وأخرج مسلم من طريق شيبان بن عبد الرحمن، عن الأعمش، عن
أبي سفيان، وأبي صالح، عن جابر نحو حديث قبله، مَتْنُهُ أتى النبي صلى الله عليه وسلم النعمانُ بن قوقل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة، وحَرَّمت الحرام، وأحللت الحلال، أدخل الجنة؟ قال:"نعم"، وتابعه أبو حمزة، عن الأعمش، أخرجه ابن منده، وأخرجه من وجه آخر، عن أبي حمزة، فقال: عن أبي سفيان، عن جابر، وعن أبي صالح، عن أبي سعيد، وأخرجه الطبراني في "مسند النعمان بن قوقل" من طريق جابر بن نوح، عن الأعمش، فقال: عن أبي صالح، عن النعمان، أنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، وهو مرسل، ولعل أبا صالح أراد عن قصة النعمان، ولم يرد الرواية عنه، وإنما الرواية عنه، عن جابر، وقد رواه عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، فقال: عن أبي صالح، وأبي سفيان، عن جابر، عن النعمان، أخرجه ابن منده أيضًا، وقد رواه موسى بن داود، عن ابن لَهِيعة، عن أبي الزبير، عن جابر: أن النعمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه يزيد بن جعدبة، عن أبي الزبير، فقال: عن جابر: أخبرني النعمان، أخرجه ابن قانع، وابنُ منده من طريقه، وابن جعدبة، وله ذكر في حديث أبي هريرة عند البخاري، أخرجه من طريق عنبسة بن سعيد عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح خيبر، فقلت: يا رسول الله، أَسْهِمْ لي، فقال أبان بن سعيد بن العاص: لا تُعْطِه، فقلت: هذا قاتلُ ابنِ قوقل، ويقال: إن قوقلًا لقب، واسمه ثعلبة، أو مالك بن ثعلبة، وقد غاير أبو عمر بين النعمان بن قوقل، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وتعقبه ابن الأثير.
[تنبيه]: النعمان بن قوقل صحابيّ آخر، فرق أبو حاتم بينه وبين الذي قبله، وقال في هذا: إنه نزل الكوفة، ورَوَى عنه بلال بن يحيى، وأخرجه البخاري من طريق حبيب بن سليم، عن بلال، عن النعمان بن قوقل، قال: قلت: يا رسول الله، ما أتعلم من القرآن شيئًا إلا انفلت مني، فوالذي أنزل عليك الكتاب، ما من شيء أحبُّ إلي من الله ورسوله، قال:"يا ابن قوقل، المرء مع من أحب، وله ما احتسب"، وأخرج الطبراني في ترجمة الذي قبله من طريق منصور بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: جاء النعمان بن قوقل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فأمره أن يصلي ركعتين، يتجوَّز فيهما.
وأخرجه ابن شاهين من طريق هدبة بن المنهال، عن الأعمش كذلك، قال الحافظ: وعندي أنه بهذا أليق. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ) أي اجتنبتُ الحرام، معتقدًا حرمته (وَأَحْلَلْتُ الْحَلَال) أي اعتقدتُ حلّه، قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: أما تحريم الحرام فالظاهر أنه أراد به أمرين: أن يعتقده حرامًا، وأن لا يفعله، بخلاف تحليل الحلال، فإنه يكفي فيه مجرّد اعتقاده. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني اكتسبت الحلال، وامتنعتُ عن كسب الحرام، هذا عُرْفُ الحلال والحرام في الشرع، وأما في أصل الوضع فيصلح أن يُطلق الحلال على كلّ ما للإنسان أن يفعله شرعًا، ولا يمتنع منه، والحرام على ما مُنِع الإنسان من فعله مطلقًا. انتهى
(3)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟) أي دخولًا أوّليًّا بغير تقدّم عذاب (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) أي تدخل الجنة كذلك.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(4/ 116) عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عنه و (4/ 117) عن حجاج بن الشاعر، والقاسم بن زكريا، كلاهما عن عبيد الله بن
(1)
"الإصابة" 6/ 355 - 356.
(2)
"صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط" ص 144.
(3)
"المفهم" 1/ 167 - 168.
موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، وأبي سفيان، كلاهما عنه، و (4/ 118) عن سلمة بن شبيب، عن الحسن بن أعين، عن معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عنه.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(3/ 316) وعن أبي معاوية - وابن نمير - كلاهما عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي سفيان به و (أبو عوانة) في "مسنده"(5 و 6) و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(96 و 97)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة):
وقع في هذا الإسناد عنعنة الأعمش، وهو مدلّس، والمدلّس إذا عنعن لا تُقبل روايته، إلا أن يثبت سماعه من جهة أخرى.
وأجاب النوويّ رحمه الله تعالى بأن ما كان في "الصحيحين" عن المدلّسي بـ "عن" محمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى.
وأحسن من هذا ما قاله الذهبيّ رحمه الله تعالى في "الميزان": ودونك نصّه: وهو يدلّس، وربّما دلّس عن ضعيف، ولا يُدْرَى به، فمتى قال: حدّثنا، فلا كلام، ومتى قال:"عن" تطرّق إليه التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمّان، فإن روايته عن هذا الصنّف محمولة على الاتّصال. انتهى
(1)
.
فروايته هنا من هذا القبيل، فقد رواه عن أبي صالح في السند الآتي، فيكون مما سمعه منه، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة):
قد كتب الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى على هذا الحديث بحثًا نفيسًا، أحببت إيراده تكميلًا للفائدة، وتتميمًا للعائدة، قال رحمه الله تعالى في شرح قوله: "وحرّمت الحرام، وأحللت الحلال
…
إلخ": ما نصّه:
وقد فسّر بعضهم تحليلَ الحلال باعتقاد حِلِّه، وتحريم الحرام باعتقاد
(1)
"ميزان الاعتدال" 2/ 2224.
حرمته مع اجتنابه، ويحتمل أن يُراد بتحليل الحلال إتيانه، ويكون الحلال ههنا عبارةً عما ليس بحرام، فدخل فيه الواجب والمستحب والمباح، ويكون المعنى أنه يَفْعَلُ ما ليس بمحرم عليه، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره، ويجتنب المحرمات.
وقد رُوي عن طائفة من السلف منهم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية [البقرة: 121]، قالوا: يُحِلُّون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يُحَرِّفونه عن مواضعه
(1)
.
والمراد بالتحريم والتحليل: فعلُ الحلال، واجتناب الحرام، كما ذكر في هذا الحديث، وقد قال الله تعالى في حق الكفار الذين كانوا يُغَيِّرُون تحريم الشُّهُور الْحُرُم:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} الآية [التوبة: 37]، والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عامًا، فيحلونه بذلك، ويمتنعون من القتال فيه عامًا، فيُحَرِّمونه بذلك.
وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 87 - 88]، وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زُهْدًا في الدنيا وتَقَشُّفًا، وبعضهم حَرَّمَ ذلك على نفسه، إما بيمين حَلَف بها، أو بتحريمه على نفسه، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم، فسمى الجميع تحريمًا، حيث قصد الإمتناع منه إضرارًا بالنفس، وكفًّا لها عن شهواتها، ويقال في الأمثال: فلانٌ لا يُحَلِّلُ ولا يُحَرِّم، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام، ولا يقف عند ما أبيح له، وإن كان يعتقد تحريم الحرام، فيجعلون مَن فَعَلَ الحرام، ولا يتحاشى منه مُحَلِّلًا، وإن كان لا يعتقد حله.
(1)
رواه الطبريّ في "تفسيره" عن ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وبكل حال فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات، وانتهى عن المحرمات، دخل الجنة، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، أو ما هو قريب منه، كما خرج النسائيّ وابن حبان والحاكم، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فُتحت له أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء"، ثم تلا:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31].
وخَرَّج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد عَبَدَ الله لا يشرك به شيئًا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر، فله الجنة، - أو - دخل الجنة"
(1)
.
وفي "المسند" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضمام بن ثعلبة، وَفَدَ على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج وشرائع الإسلام كلها، فلما فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، لا أزيد ولا أنقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن صدق دخل الجنة"، وخَرّجه الطبراني من وجه آخر، وفي حديثه قال: والخامسةُ لا أَرَبَ لي فيها - يعني الفواحش - ثم قال: لأعملنّ بها، ومن أطاعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجنة".
وفي "صحيح البخاري" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال:"تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتَصِلُ الرحم"، وخَرّجه مسلم إلا أن عنده أنه قال: أخبرني بعمل يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار، وعنده في رواية: فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تَمَسَّكَ بما أُمر به دخل الجنة".
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال:"تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان"، قال:
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/ 413 والنسائي 7/ 88.
والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه، فلما ولَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن سَرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".
وفي "الصحيحين" عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس، إلا أن تَطّوّع شيئًا"، فقال: أخبرني بما فرض الله عليّ من الصيام؟ فقال: "شهر رمضان، إلا أن تطّوّع شيئًا"، فقال: أخبرني بما فرض الله عليّ من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فقال: والذي أكرمك بالحقّ لا أتطوّع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق - أو - دخل الجنة إن صدق"، ولفظه للبخاريّ.
وفي "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه:"حج البيت من استطاع إليه سبيلًا"، فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ، ولا أنقص منهنّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجنة".
ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام رمضان، وحج البيت شيئًا من التطوع، ليس مراده أنه لا يَعْمَل بشيء من شرائع الإسلام غير ذلك.
وهذه الأحاديث لم يُذْكَر فيها اجتناب المحرمات؛ لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة.
وخَرّج الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "أيها الناس اتقوا الله، وصَلُّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأَدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم"، وقال: حسن صحيح، وخرّجه الإمام أحمد، وعنده:"اعبدوا ربكم" بدل قوله: "اتقوا الله"، وخَرَّجه بَقِيّ بن مَخْلَد في "مسنده" من وجه آخر، ولفظ حديثه:"صَلُّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحُجُّوا بيتكم، وأَدُّوا زكاة أموالكم، طَيِّبَةً بها أنفسكم، تدخلوا جنةَ ربكم".
وخَرَّج الإمام أحمد بإسناده عن ابن الْمُنْتَفِقِ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات فقلت: ثنتان أسألُك عنهما: ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟
فقال: "لئن كنت أوجزتَ في المسألة، لقد أعظمتَ، وأطولتَ، فاعقل عني إذن، اعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأَدِّ الزكاة المفروضة، وصم رمضان، وما تحب أن يفعله الناس بك فافعله بهم، وما تكره أن يَأتي إليك الناس فَذَرِ الناسَ منه"، وفي رواية له أيضًا قال:"اتق الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، ولم تزد على ذلك"
(1)
، وقيل: إن هذا الصحابي هو وافد بني المنتفق، واسمه لقيط.
فهذه الأعمال أسباب مقتضيةٌ لدخول الجنة، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع، ويدلُّ على هذا ما خَرّجه الإمام أحمد، من حديث عمرو بن مرة الجهني، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، شَهِدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن مات على هذا كان مع النبيين والصّدّيقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب إصبعيه - ما لم يَعُقَّ والديه"
(2)
.
وقد وَرَدَ تَرَتُّب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال، كالصلاة، ففي الحديث المشهور:"مَن صلَّى الصلوات لوقتها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة"
(3)
، وفي الحديث الصحيح:"من صلى البردين دخل الجنة"
(4)
.
وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يُعمَل عليه إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه، ويدل هذا على ما خَرَّجه الإمام أحمد، عن بشير بن الخصاصية قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فشرط عليَّ شهادةَ أن لا إله إلا الله،
(1)
رواه أحمد والطبرانيّ، قال الهيثميّ في "المجمع" 1/ 43: في إسناده عبد الله بن أبي عقيل اليشكريّ، ولم أرَ أحدًا روى عنه غير ابن المغيرة بن عبد الله، وقال في "تعجيل المنفعة" ص 229: ليس بالمشهور.
(2)
قال الهيثميّ: رواه أحمد والطبرانيّ بإسنادين رجال أحد إسنادي الطبرانيّ رجال الصحيح، ورواه البزّار بنحوه، وصححه ابن حبان.
(3)
رواه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان.
(4)
متّفق عليه.
وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأُؤَدِّي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله، فأما اثنتان فوالله ما أُطيقهما: الجهاد، والصدقة، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حَرَّكها، فقال:"فلا جهاد، ولا صدقة، فبم تدخل الجنة؟ "، قلت: إذًا يا رسول الله أبايعك، فبايعته عليهنّ كلهنّ
(1)
.
ففي هذا الحديث أنه لا يَكْفِي في دخول الجنة هذه الخصال بدون الجهاد والزكاة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكاب بعض الكبائر، يمنع دخول الجنة، كقوله:"لا يدخل الجنة قاطع"، متّفقٌ عليه، وقوله:"لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"، رواه مسلم، وقوله:"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"، رواه مسلم، والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدَّين حتى يُقضَى، وفي "الصحيح": أن المؤمنين إذا جازوا على الصراط، حُبِسُوا على قنطرة يُقْتَصُّ منهم مظالم بينهم، كانت في الدنيا.
وقال بعض السلف: إن الرجل ليُحْبَس على باب الجنة مائة عام بالذنب، كان يعمله في الدنيا، فهذه كلها موانع.
ومن هنا يظهر معنى الأحاديث التي جاءت في ترتب دخول الجنة على مجرد التوحيد، ففي "الصحيحين" عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق"، قالها ثلاثًا، ثم قال في الرابعة:"على رَغْمِ أنف أبي ذر"، فخَرَجَ أبو ذر يقول: وإن رَغِمَ أنفُ أبي ذر.
وفيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حقّ، والنار حقّ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة،
(1)
رواه أحمد 5/ 224، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي المثنّى العبديّ، وقد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، ورواه الطبرانيّ أيضًا في "الكبير"" (1233) و"الأوسط" (1148)، قال الهيثميّ في "المجمع" 1/ 42: ورجال أحمد موثّقون.
أو أبي سعيد بالشك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ، غير شاكّ فيهما، فتحجبَ عنه الجنة".
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يومًا: "من لَقِيتَ يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة"، وفي المعنى أحاديث كثيرة جدًّا.
وفي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا لمعاذ: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا حرمه الله على النار"، وفيهما عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله قد حَرّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله".
وقال طائفة من العلماء: إن كلمة التوحيد سببٌ مقتضٍ لدخول الجنة، والنجاة من النار، لكن له شروط، وهي الإتيان بالفرائض، وموانعُ وهي إتيان الكبائر، قال الحسن للفرزدق: إن لِلا إله إلا الله شروطًا، فإياك وقذفَ المحصنة، ورُوي عنه أنه قال: هذا العمودُ فأين الطُّنُبُ؟
(1)
، يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه، وهي فعل الواجبات، وترك المحرمات، قيل للحسن: إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله، فأَدَّى حقها وفرضها دخل الجنة، وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتِحَ لك، وإلا لم يُفتَح لك.
ويُشبِه ما رُوي عن ابن عمر أنه سئل عن لا إله إلا الله، هل يَضُرُّ معها عمل، كما لا ينفع مع تركها عمل؟ فقال ابن عمر: اعمل، ولا تَغْتَرَّ.
وقالت طائفة، منهم الضحاك، والزهريّ: كان هذا قبل الفرائض والحدود، فمن هؤلاء من أشار إلى أنها نُسِخَت، ومنهم من قال: بل ضُمّ إليها شروطٌ زيدت عليها، وزيادة الشروط، هل هي نسخٌ أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين، وفي هذا كله نظر، فإن كثيرًا من هذه الأحاديث متأخر بعد الفرائض والحدود.
(1)
"الطُنُبُ": حبل طويلٌ يُشدّ به سُرادق البيت.
وقال الثوريّ: نسختها الفرائض والحدود، فيحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء، ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تَبَيَّن بها أن عقوبات الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين، فكذلك عقوبات الآخرة، ومثلُ هذا البيان، وإزالة الإيهام، كان السلف يسمونه نسخًا، وليس هو نسخًا في الإصطلاح المشهور.
وقالت طائفة: هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدةً، بأن يقولها بصدق وإخلاص، وإخلاصُها وصدقُها يمنع الإصرار على معصية.
وجاء من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة"، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تَحْجُزَكَ عما حَرَّم الله، ورُوي ذلك مسندًا من وجوه أُخَر ضعيفة.
ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا، فإنّ تَحَقُّق القلب بمعنى "لا إله إلا الله"، وصِدْقَه فيها، وإخلاصه بها، يقتضي أن يَرْسَخ فيه تَأَلُّه الله وحده إجلالًا، وهيبةً، ومخافةً، ومحبةً، وتعظيمًا، وتوكلًا، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تألُّهُ ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك لم يبق فيه محبةٌ، ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذل من القلب جميعُ أهواء النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحب شيئًا، أو أطاعه، وأحب عليه وأبغض عليه، فهو إلهه، فمن كان لا يحبّ ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا لله، فالله إلهه حقًّا، ومن أحب لهواه، وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية [الجاثية: 23].
قال الحسن: هو الذي لا يَهْوَى شيئًا إلا رَكِبَهُ، وقال قتادة: هو الذي كلما هَوِيَ شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزُهُ عن ذلك وَرَعٌ، ولا تَقْوَى، ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعًا:"ما تحت ظل السماء إلهٌ يُعْبَد أعظم عندَ الله من هَوًى مُتَّبَعٍ"
(1)
.
(1)
موضوعٌ، رواه الطبرانيّ في "الكبير"(7502) وابن عديّ في "الكامل" 2/ 715 وفي سنده الحسن بن دينار متروك، وشيخه الخصيب بن جحدر كذّبه شعبة، والقطان، وابن معين، والبخاريّ.
وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله، فقد عَبَدَهُ، كما قال الله عز وجل:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [يس: 60].
فتبيَّنَ بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول: "لا إله إلا الله" إلا لمن لم يكن في قلبه إصرارٌ على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يريده الله، ومتى كان في القلب شيء من ذلك، كان ذلك نقصًا في التوحيد، وهو نوع من الشرك الخفي، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]: قال: لا تحبوا غيري.
وفي "مستدرك الحاكم" عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشرك أخفى من دبيب الذَّرّ على الصَّفَا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تُحِبَّ على شيء من الجور، وتُبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وهذا نَصٌّ في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه، متابعةٌ للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي.
وخَرَّج ابن أبي الدنيا من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "لا تزال لا إله إلا الله، تمنع العباد من سخط الله، ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم، فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم، ثم قالوا: لا إله إلا الله، ردها الله عليهم، وقال الله: كذبتم"
(1)
.
(1)
قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه البزّار من حديث أنس رضي الله عنه، وإسناده حسن. راجع: "المجمع" 7/ 277.
ورواه البزار (3619) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيريّ، عن عبد الله بن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن محمد بن عجلان قال العقيليّ: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يحلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجّب، روى عن أبيه نسخة موضوعة، وقال أبو حاتم: لا أعرفه، ولا أعرف حديثه، وسئل أبو زرعة عنه فقال: قد سمعت منه، ولم أكتب من حديثه شيئًا، قيل له: حدّث إبراهيم بن حمزة عنه، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة، رفعه: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع
…
"، فقال: ما أعظم ما جاء به، ينبغي أن يُلقى حديث هذا الشيخ، وأورد له العقيليّ هذا الحديث، وقال: لا يتابع عليه، وقد جاء عن الحسن قوله.
فتبين بهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله صادقًا من قلبه، حَرّمه الله على النار".
وأنّ من دخل النار من أهل هذه الكلمة، فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طَهَّرت القلب من كل ما سوى الله، فمن صَدَق في قول: لا إله إلا الله لم يحب سواه، ولم يَرْجُ إلا إياه، ولم يَخْشَ إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقية من إيثار نفسه وهواه، ومتى بقِي في القلب أثر لسوى الله، فمن قلة الصدق في قولها.
نارُ جهنم تُطفأ بنور إيمان الموحدين، كما في الحديث المشهور:"تقول النار للمؤمن جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لَهَبِي"
(1)
.
وفي "مسند الإمام أحمد" عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبقى بَرّ، ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إنّ للنار ضجيجًا من بردهم"
(2)
.
فهذا ميراثٌ ورثهُ المؤمنون من حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنار المحبة في قلوب المؤمنين تخاف منها نارُ جهنم، قال الجنيد رحمه الله: قالت النار: يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني؟ قال: نعم، كنت أسلط عليك ناري الكبرى، قالت: وهل نار أعظم مني وأشدّ؟ قال: نعم نار محبتي، أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين
(3)
، وفي هذا يقول بعضهم:
فَفِي فُؤَادِ الْمُحِبِّ نَارُ الْهَوَى
…
أَحَرُّ نَارِ الْجَحِيمِ أَبْرَدُهَا
ويشهد لهذا المعنى حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان آخر
(1)
رواه أبو نُعيم في "الحلية" 9/ 329 والطبراني في "الكبير" 22/ 668، وفي سنده بشير بن طلحة ضعيف، وخالد بن دُريك لم يسمع من يعلى.
(2)
رواه أحمد 3/ 328 - 329 وصححه الحاكم 4/ 587 ووافقه الذهبيّ مع أن في سنده أبا سميّة الراوي عن جابر لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الذهبيّ في "الميزان" 4/ 534: مجهول.
(3)
هكذا حكى ابن رجب هذه الحكاية عن الجنيد، ولم يذكر مستنده، ويحتمل أن تكون من الإسرائيليّات، فليُنظر. والله تعالى أعلم.
كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"
(1)
.
فإن المحتَضَر لا يكاد يقولها إلا بإخلاص، وتوبة، ونَدَم على ما مضى، وعَزْم على أن لا يعود لمثله.
ورجح هذا القول الخطابي في مصنف له في التوحيد، وهو حسن. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى
(2)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيق أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور أوائلَ الكتاب قال:
[117]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ، يَا رَسُولَ اللهِ بِمِثْلِه، وَزَادَا فِيهِ: "وَلَمْ أزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقة حافظ [11](ت 259)(م د) 4/ 40.
2 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاء) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب إلى جدّه، ثقة [11].
رَوَى عن إسحاق بن منصور السَّلُوليّ، وحسين بن علي الجعفي، وخالد بن مَخْلَد، ووكيع، وعبيد الله بن موسى، وأبي داود الْحَفَري، ومعاوية بن عمرو، وغيرهم.
ورَوى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وأبو حاتم، والحسين بن سفيان، والحسين بن إسحاق التُّسْتَريّ، والقاسم بن زكريا المطرز، والقاسم بن خَلَف الدُّوريّ، وغيرهم.
(1)
رواه أحمد 5/ 233 و 247 وأبو داود (3116) وصححه الحاكم في "المستدرك" 1/ 351 ووافقه الذهبيّ، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان (3004).
(2)
راجع: "جامع العلوم والحكم" 1/ 513 - 527.
قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكر صاحب "الزهرة" أن مسلمًا روى عنه ستة وعشرين حديثًا
(1)
، وأنه مات، وله خمسة وتسعون سنةً، سنةَ خمس وثلاثين ومائتين، قال الحافظ في "التهذيب": وأظن "السبعين" بتقديم السين، وذكر غيره أنه مات في حدود الخمسين والمائتين.
روى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، وأبي داود.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار، واسمه باذام الْعَبسيّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ الحافظ، ثقة، كان يتشيّع [9].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وأيمن بن نابل، ومعروف بن خَرُّبوذ، والأعمش، وهارون بن سليمان الفراء، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، ويونس بن أبي إسحاق، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم.
وروى عنه البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة أحمد بن أبي سُرَيج الرازي، وأحمد بن إسحاق البخاري، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى الذُّهْليّ،، ومحمد بن الحسين بن إشكاب، ومحمود بن غيلان، ويوسف بن موسى، وإبراهيم بن دينار البغدادي، والقاسم بن زكريا بن دينار، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وغيرهم.
قال الميمونيّ: ذُكِر عند أحمد عبيد الله بن موسى، فرأيته كالمنكر له، وقال: كان صاحب تخليط، وحَدَّث بأحاديث سوء، قيل له: فابن فضيل؟ قال: كان أستر منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الرَّدِيَّة. وقال معاوية بن صالح: سألت ابن معين عنه؟ فقال: كُتِبَ عنه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، ثقةٌ، حسن الحديث، وأبو نعيم أتقن منه، وعبيدُ الله أثبتهم في إسرائيل، كان يأتيه، فيقرأ عليه القرآن. وقال العجليّ: ثقةٌ، وكان عالمًا بالقرآن، رأسًا فيه، وقال أيضًا: ما رأيته رافعًا رأسه، وما رُؤي ضاحكًا قط. وقال الآجري عن أبي داود: كان مُحْتَرِقًا شيعيًّا، جاز حديثه. وقال ابن عديّ: ثقة. وقال ابن سعد: قرأ على عيسى بن عُمَر، وعلى
(1)
وكذا ذكر في برنامج الحديث أن له عند مسلم (26) حديثًا.
علي بن صالح، وكان ثقةً صدوقًا إن شاء الله تعالى، كثير الحديث، حسن الهيئة، وكان يتشيع، ويروي أحاديث في التشيع منكرة، وضُعِّفَ بذلك عند كثير من الناس، وكان صاحب قرآن. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يتشيع. وقال يعقوب بن سفيان: شيعيّ، وإن قال قائل: رافضي لم أُنكر عليه، وهو منكر الحديث. وقال الجوزجاني: وعبيد الله بن موسى أغلى وأسوأ مذهبًا، وأروى للعجائب. وقال الحاكم: سمعت قاسم بن قاسم السّيّاريَّ، سمعت أبا مسلم البغدادي الحافظ يقول: عبيد الله بن موسى من المتروكين، تركه أحمد؛ لتشيعه، وقد عُوتب عن روايته عن عبد الرزاق، فذَكَر أن عبد الرزاق رجع. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: صدوق ثقة، وكان يضطرب في حديث سفيان اضطرابًا قبيحًا، وقال ابن عديّ: قال البخاري: عنده "جامع سفيان"، ويُستَصغَر فيه. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة ما أقربه من يحيى بن يمان، ويحيى بن يمان أرجو أن يكون صدوقًا، وليس حديثه بالقويّ. وقال ابن قانع: كوفي صالح يتشيع. وقال الساجيّ: صدوق، كان يُفْرِط في التشيع.
وقال أبو حاتم: سمعت منه سنة (213)، وقال ابن سعد: مات في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين، وكذا أَرّخه غيره، وقال يعقوب بن شيبة: مات سنة (14)، وذكر الْقَرّاب أنه ولد سنة (128).
أخرج له الجماعة، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري (27) حديثًا، ورَوَى في مواضع عن غير واحد عنه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب (31) حديثًا.
4 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ المؤدّب، سَكَنَ الكوفة، ثم انتقل إلى بغداد، ثقة، صاحب كتاب [7].
رَوَى عن عبد الملك بن عُمير، وقتادة، وفِرَاس بن يحيى، ويحيى بن أبي كثير، وسماك بن حرب، والأعمش، وأشعث بن أبي الشعثاء، والحسن البصري، وغيرهم.
وروى عنه زائدة بن قدامة، وأبو حنيفة الفقيه، وهما من أقرانه، وأبو داود الطيالسي، وأبو أحمد الزبيري، ومعاوية بن هشام، وشبابة، وحسين بن محمد، وعبيد الله بن موسى، وعلي بن الجعد، وآخرون.
قال الأثرم عن أحمد: ما أقرب حديثه، وقال أيضًا: هشام حافظ، وشيبان صاحب كتاب، قيل له: حرب بن شداد كيف هو؟ قال: لا بأس به، وشيبان أرفع. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: شيبان ثَبْتٌ في كل المشايخ. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: وشيبان أحب إليَّ من معمر في قتادة. وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى: شيبان ثقة، وهو صاحب كتاب. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: فشيبان ما حاله في الأعمش؟ قال: ثقة في كل شيء.
وقال العجليّ، والنسائيّ، وابن سعد: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: كان صاحب حروف وقراءات، وكان ابن معين يوثقه. وقال أبو حاتم: حسن الحديث، صالحٌ يُكتَب حديثه. وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا. وقال أبو القاسم البغويّ: شيبان أثبت في يحيى بن أبي كثير من الأوزاعي. وقال العسكريّ: شيبان النحويّ نُسِب إلى بطن، يقال لهم: بنو نَحْو بن شمس من الأزد. وذكر ابن أبي داود، وابن المنادي أن المنسوب إلى القبيلة يزيد بن أبي سعيد النَّحْويّ، لا شيبان النحويُّ هذا.
قال ابن سعد، ويعقوب بن شيبة: مات في خلافة المهديّ سنة أربع وستين ومائة، وكذا أَرّخه مطين، وكذا قال ابن حبان في "الثقات". وقال أسلم في "تاريخ واسط": كان ثقةً، قاله يزيد بن هارون. وقال الترمذيّ: شيبان ثقةٌ عندهم، صاحب كتاب. وقال الساجيّ: صدوق، وعنده مناكير، وأحاديث عن الأعمش تفرد بها، وأثنى عليه أحمد، وكان ابن مهديّ يحدث عنه، وَيفْخَر به.
وقال أبو بكر البزار: ثقة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: كان مُعَلِّمًا صدقًا، حسن الحديث.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (49) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: "بمثله"، أي روى عبيد الله بن موسى عن الأعمش بمثل رواية أبي معاوية، غير أنه زاد قوله:"ولم أزد إلخ".
[تنبيه]: رواية عبيد الله بن موسى هذه أخرجها الحافظ ابن منده في "كتاب الإيمان"(ج 1 ص 285)، فقال:
138 -
أنبأ أبو عمرو عثمان بن أحمد، ثنا الحسن بن سلام السَّوّاق، ثنا
عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، وأبي صالح، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال النعمان بن قوقل: يا رسول الله، أرأيت إن صليتُ المكتوبات، وأحللت الحلال، وحَرَّمتُ الحرام، ولم أزد على ذلك، أأدخل الجنة؟ قال:"نعم"
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور أَوَّلَ الكتاب قال:
[118]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثنَا مَعْقِلٌ - وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَات، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْحَجْريّ الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقة، من كبار [11].
رَوَى عن عبد الرزاق، وأبي أسامة، وزيد بن الْحُبَاب، وعبد الله بن جعفر الرَّقِّيّ، ويزيد بن هارون، والحسن بن محمد بن أعين، وأبي عبد الرحمن المقرئ، وغيرهم.
وروى عنه الجماعة، سوى البخاري، وأحمد بن حنبل، وهو من شيوخه، وأبو مسعود الرازي، وهو من أقرانه، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن هارون الرُّوياني، وإبراهيم بن أبي طالب، وموسى بن هارون الحمال، وغيرهم.
قال أبو حاتم، وصالح بن محمد البغداديّ: صدوق. وقال النسائيّ: ما علمنا به بأسًا. وقال أحمد بن سَيّار: كان من أهل نيسابور، ورَحَل إلى مكة، وكان مستملي المقرئ، صاحب سنة وجماعة، رحل في الحديث، وجالس
(1)
راجع: "كتاب الإيمان" لابن منده 1/ 285.
الناس، وكتب الكثير، ومات بمكة. وقال أبو نعيم الأصبهاني: أحدُ الثقات، حَدَّث عنه الأئمة والقدماء. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الحاكم: هو محدث أهل مكة، والمتفق على إتقانه وصدقه.
وقال ابن يونس، وابن قانع، وغير واحد: مات سنة (247)، وقال أبو بكر بن أبي داود: مات سنة (246) في أَكْلَة فالوذج، وقال حسين الْقَبّاني: مات سنة (244).
وله في هذا الكتاب (40) حديثًا.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ)
(1)
هو: الحسن بن محمد بن أعين الْحَرّاني، أبو عليّ القرشيّ، مولى أم عبد الملك بنت محمد بن مروان، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9].
رَوَى عن عمه موسى بن أعين، ومعقل بن عبيد الله الجزريّ، وزهير بن معاوية، وفُليح بن سليمان، وفُضيل بن غَزْوان، وجماعة.
وروى عنه الفضل بن يعقوب الرُّخَاميّ، وأبو داود الحَرَّانِيُّ، وسلمة بن شبيب، وأحمد بن سليمان الرُّهَاويّ، ومحمد بن مَعَدان بن عيسى، وغيرهم.
قال أبو حاتم: أدركته، ولم أكتب عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال أبو عروبة: مات سنة (210).
أخرجه له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.
3 -
(مَعْقِلٌ
(2)
بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ - بالموحّدة - مولاهم الْحَرّانيّ، صدوقٌ يُخطئ [8].
رَوَى عن عطاء بن أبي رباح، وأبي الزبير، وعكرمة بن خالد، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وزيد بن أبي أنيسة، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، وأبي قَزَعَة سُوَيد بن حُجَير، وغيرهم.
وروى عنه الثوريّ، وهو من أقرانه، والحسن بن محمد بن أعين،
(1)
بفتح الهمزة، وبالعين المهملة، وآخره نون، و"الأعين": مَن في عينيه سَعَة. "شرح النووي" 1/ 176.
(2)
بفتح الميم، وإسكان العين المهملة، وكسر القاف.
ومحمد بن يزيد بن سنان، ووكيع، وأبو نعيم، والْفِريابيّ، وأحمد بن يونس، وعبد الله بن محمد النُّفَيليّ، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث، وقال مرةً: ثقة. وعن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال النسائي. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطئ، ولم يَفْحُش خطأه، فيستحقَّ التركَ. وقال ابن عَدِيّ بعد أن سَرَدَ له عِدّةَ أحاديث: هو حسن الحديث، لم أجد في حديثه منكرًا. وقال النسائي في "الكنى": صالح.
قال النفيليّ: مات سنة ست وستين ومائة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (31) حديثًا.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس - بفتح المثنّاة، وسكون الدال المهملة، وضمّ الراء - الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق، إلا أنه يدلّس [4].
رَوَى عن العبادلة الأربعة، وعن عائشة، وجابر، وأبي الطُّفَيل، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وطاووس، وصفوان بن عبيد الله بن صفوان، وعبيد بن عمرو، وخلق كثير.
ورَوَى عنه عطاء، وهو من شيوخه، والزهريّ، وأيوب، وأيمن بن نابل، وابن عون، والأعمش، وسلمة بن كهيل، وابن جريج، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبيد الله بن عمر، وأبو عوانة، وهشيم، والثوريّ، وابن عيينة، ومعقل بن عبيد الله، وخلق كثير.
قال ابن عيينة عن أبي الزبير: كان عطاء يُقَدِّمني إلى جابر، أحفظ لهم الحديث، ويُروَى عن يعلى بن عطاء قال: حدثني أبو الزبير، وكان أكمل الناس عقلًا وأحفظهم. وقال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد عن أبي الزبير؟ فقال: قد احتمله الناس، وأبو الزبير أحب إليَّ من أبي سفيان؛ لأنه أعلم بالحديث منه، وأبو الزبير ليس به بأس. وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: كان أيوب يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير، قلت لأبي: يضعفه؟ قال: نعم. وقال نعيم بن حماد: سمعت بن عيينة يقول: حدثنا أبو الزبير، وهو أبو الزبير،
أي: كأنه يضعفه. وقال هشام بن عمار عن سويد بن عبد العزيز: قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير، وهو لا يحسن أن يصلي؟ وقال نعيم بن حماد: سمعت هُشيمًا يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزقه. وقال محمود بن غيلان عن أبي داود: قال شعبة: ما كان أحدٌ أحب إليَّ أن ألقاه بمكة من أبي الزبير، حتى لقيته، ثم سكت. وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء: قلت لشعبة: ما لك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يَزِنُ ويسترجح في الميزان. وقال أحمد بن سعيد الرِّباطيّ عن أبي داود الطيالسي قال: قال شعبة: لم يكن في الدنيا أحب إليَّ من رجل يَقْدَم فأسأله عن أبي الزبير، فقدمت مكة، فسمعت منه، فبينما أنا جالس عنده، إذ جاء رجل، فسأله عن مسألة، فردّ عليه، فافترى عليه، فقال له: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه أغضبني، قلت: ومن يُغضبك تفتري عليه؟ لا رَويت عنك شيئًا. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه؟ فقال: ثقة ثبت. وقال هُشيم عن حجاج، وابن أبي ليلى، عن عطاء: كنا نكون عند جابر، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزبير أحفظنا. وقال ابن عون: ثنا أبو الزبير، وما كان بدون عطاء. وقال عثمان الدارميّ: قلت ليحيى: فأبو الزبير؟ قال: ثقة، قلت: محمد بن المنكدر أحب إليك أو أبو الزبير؟ قال: كلاهما ثقتان. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، إلا أن شعبة تركه لشيء زَعَمَ أنه رآه فعله في مُعَاملة. وقال الساجي: صدوق حجة في الأحكام، قد روى عنه أهل النقل وقبلوه، واحتجوا به، قال: وبلغني عن يحيى بن معين أنه قال: استَحْلَفَ ليثٌ أبا الزبير بين الركن والمقام، إنك سمعت هذه الأحاديث من جابر، فقال: والله إني سمعتها من جابر، يقول ثلاثًا. وقال ابن عيينة: كان أبو الزبير عندنا بِمَنْزِلة خبز الشعير، إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: يقولون: إنه لم يسمع من ابن عباس، قال أبي: رآه رؤيةً، ولم يسمع من عائشة، ولم يَلْقَ عبد الله بن عَمْرو. وقال ابن معين: لم يسمع من عبد الله بن عُمَر. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: أبو الزبير يحتاج إلى دِعَامة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث، وقال مرةً: ثقة، وقال
الدُّوريّ عن ابن معين: أبو الزبير أحب إليَّ من أبي سفيان، وقال أيضًا عن يحيى: لم يسمع من ابن عمر، ولم يره. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وإلى الضعف ما هو؟ وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير؟ فقال: يُكتَب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إليَّ من أبي سفيان، قال: وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير؟ فقال: رَوَى عنه الناس، قلت: يُحْتَجُّ بحديثه؟ قال: إنما يُحتج بحديث الثقات. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن عديّ: روى مالك عن أبي الزبير أحاديث، وكفى بأبي الزبير صدقًا أن يحدث عنه مالك، فإن مالكًا لا يروي إلا عن ثقة، وقال: لا أعلم أحدًا من الثقات تَخَلَّف عن أبي الزبير، إلا وقد كتب عنه، وهو في نفسه ثقة، إلا إن رَوَى عنه بعض الضعفاء، فيكون ذلك من جهة الضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لم يُنصِفْ مَنْ قَدَح فيه؛ لأن من استرجح في الوزن لنفسه لم يستحق الترك لأجله. وقال ابن أبي مريم عن الليث: قدمت مكة، فجئت أبا الزبير، فدَفَع إليّ كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو عاودته، فسألته هل سمع هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعتُ، ومنه ما حُدِّثت عنه، فقلت له: أَعْلِم لي على ما سمعتَ، فأَعْلَم لي على هذا الذي عندي.
قال البخاريّ عن علي بن المديني: مات قبل عمرو بن دينار، وقال عمرو بن عليّ، والترمذيّ: مات سنة ست وعشرين ومائة.
أخرج له الجماعة، وحديثه عند البخاريّ مقرون بغيره، وله في هذا الكتاب (214) حديثًا.
والصحابيّ تقدّم قبله.
[تنبيهان]:
(الأول): قوله: "وهو ابن عبيد الله" قد تقدّم غير مرّة، أن فائدته بيان أنه لم يقع في الرواية لفظة "ابن عبيد الله"، فأراد إيضاحه، بحيث لا يزيد في الرواية على شيخه، فأتي بما يفصل بين لفظ شيخه، وبين ما زاده للإيضاح. والله تعالى أعلم.
(الثاني): أن أبا الزبير مدلّس، كما سبق آنفًا في ترجمته، ولا يُقبل منه ما عنعنه عن جابر رضي الله عنه كهذا الحديث، إلا إذا كان من رواية الليث بن سعد
عنه، فإنها مسموعة من جابر كما تقدم في قصّته معه في ترجمته، فكيف أخرج له مسلم هنا بالعنعنة؟
[أجيب]: بأنه لم ينفرد به، بل تابعه أبو صالح، وأبو سفيان، كما في السند الماضي، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابُ بَيَانِ أَرْكَانِ الإِسْلَام، ودَعَائِمِهِ الْعِظَامِ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور أوَّلَ الكتاب قال:
[119]
(16) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمَدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ - يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ الْأَحْمَرَ - عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ، عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاة، وَإِيتَاءِ الزَّكَاة، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ"، فَقَالَ رَجُلٌ: الْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ، قَالَ: لَا، "صِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ"، هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) الكوفيّ الحافظ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ، سُلَيْمَانُ بْنَ حَيَّانَ الْأَحْمَرُ) الأزديّ الكوفيّ، الْجَعْفَريّ، نَزَلَ فيهم، ووُلد بِجُرْجَان، صدوقٌ يُخطئ [8].
رَوَى عن سليمان التيميّ، وحُميد الطويل، وداود بن أبي هند، وابن عون، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عجلان، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وابن جريج، وأبي مالك الأشجعيّ، وسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، وشعبة، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وآدم بن أبي إياس،
وأسد بن موسى، والْفِرْيابيّ، وأبو كريب، وأبو سعيد الأشجّ، ويوسف بن موسى القطان، وعمرو الناقد، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن سلام البيكنديّ، وجماعة.
قال إسحاق بن راهويه: سألت وكيعًا عن أبي خالد؟ فقال: وأبو خالد ممن يسأل عنه؟ وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة، وكذا قال ابن المديني. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال النسائي. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: صدوق، وليس بحجة. وقال أبو هشام الرِّفَاعيّ: ثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الخطيب: كان سفيان يعيب أبا خالد؛ لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث فلم يكن يَطْعَن عليه فيه. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وإنما أُتي من سوء حفظه، فيَغْلَط ويُخطئ، وهو في الأصل كما قال ابن معين: صدوق، وليس بحجة. قلت وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجليّ: ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنة، وكان محْتَرِفًا يؤاجر نفسه من التجار، وكان أصله شاميًّا، إلا أنه نشأ بالكوفة. وقال أبو بكر البزار في كتاب "السنن": ليس ممن تُلزِم زيادته حجةً؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد رَوَى أحاديثَ عن الأعمش وغيره لم يُتَابَعْ عليها.
وقال هارون بن حاتم: سألت أَبا خالد متى وُلِدتَ؟ قال: سنة (114)، قال هارون: ومات سنة (190)، وقال ابن سعد، وخليفة: مات سنة تسع وثمانين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.
3 -
(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ) سَعْد بن طارق بن أشيم الكوفيّ، ثقة [4].
رَوَى عن أبيه، وأنس، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، ورِبْعيّ بن حِرَاش، وسَعْد بن عُبَيدة، وموسى بن طلحة بن عبيد الله، وأبي حازم الأشجعيّ، وغيرهم.
وروى عنه خَلَف بن خليفة، وابن إسحاق، وشعبةُ، والثوريّ، وابن إدريس، وحفص بن غياث، وعَبّاد بن الْعَوّام، وعبد الواحد بن زياد، ومحمد بن
فضيل، ومروان بن معاوية، وأبو عوانة، وأبو معاوية، وأبو خالد الأحمر، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يُكتَب حديثه. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن إسحاق في "السيرة": ثنا سَعْد بن طارق، أبو مالك، ثقة. وقال ابن خلفون: وَثَّقَه ابن نُمَير وغيره. وقال الْعُقيليّ: أمسك يحيى بن سعيد عن الرواية عنه. وقال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون في أنه ثقة عالم. وقال الصَّرِيفينيّ: بقي إلى حدود الأربعين ومائة.
علّق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
4 -
(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السَّلَميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقة [3].
رَوَى عن المغيرة بن شعبة، وابن عمر والبراء بن عازب، وحِبّان بن عَطِيّة، والمستورد بن الأحنف، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وكان خَتَنَه على ابنته.
وروى عنه الأعمش، ومنصور وفِطْر بن خليفة، وحُصَين، وأبو حَصِين، والْحَكَم بن عتيبة، وزُبَيد الياميّ، وعمرو بن مُرّة، وعلقمة بن مرثد، وأبو مالك الأشجعيّ، وجماعة.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: كان يَرَى رأي الخوارج، ثم تركه، يُكْتَب حديثه. وقال الكلاباذيّ: مات في ولاية عمرو بن هُبَيرة على العراق، وكذا قال ابن سعد، وقال: كان ثقةً، كثير الحديث، وكذا أَرّخه ابن حبان في "الثقات". وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 1/ 101. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير أبي مالك الأشجعي، فقد علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبي مالك، عن سعد بن عُبيدة.
5 -
(ومنها): أن فيه التحديث في موضعين، والعنعنة في البقيّة، وكلاهما من صيغ الاتصال من غير المدلّس في "عن".
6 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المفتين من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ) ببناء الفعل للمفعول، ورفع "الإسلامُ" على أنه نائب فاعله.
وفي الكلام استعارة بالكناية؛ لأنه شبّه الإسلام بمبني له دعائم، فذكر المشبّه، وطوى ذكر المشبّه به، وذكر ما هو من خواصّ المشبّه به، وهو البناء، ويُسمّى هذا استعارة ترشيحيّةً، ويجوز أن يكون استعارة تمثيليّةً، بأن تُمثّل حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خِبَاء أُقيمت على خمسة أعمدة، وقُطبُها الذي تدور عليه الأركان هو شهادة أن لا إله إلا الله، وبقيّة شُعَبِ الإيمان كالأوتاد للخباء، ويجوز أن تكون الاستعارة تبعيّةً، بأن تُقدّر الاستعارة في "بُنِيَ"، والقرينة "الإسلام"، شُبّه ثبات الإسلام، واستقامته على هذه الأركان ببناء الخباء على الأعمدة الخمسة، ثم تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل، ومعلوم أن الاستعارة التبعيّة، تقع أولا في المصادر، ومتعلَّقات معاني الحروف، ثم تسري في الأفعال، والصفات، والحروف
(1)
.
(عَلَى خَمْسَةٍ) هكذا في هذه الرواية، والرواية الرابعة "خمسة" بالهاء، وفي الرواية الثانية، والثالثة "خمس" بلا هاء، وفي بعض الأصول المعتمدة في الطريق الرابع بلا هاء، وكلاهما صحيح، ويكون المراد برواية الهاء خمسة أركان، أو أشياء، أو نحو ذلك، وبرواية حذف الهاء خمس خصالٍ، أو دعائمَ، أو قواعدَ أو نحو ذلك.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 120.
[تنبيه]: القاعدة النحويّة أن العدد من ثلاثة إلى عشرة يؤنّث مع المذكّر، كثلاثة رجال، ويذكّر مع المؤنّث، كثلاث نسوة، كما قال في "الخلاصة":
ثَلَاثَةً بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَهْ
…
فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ
فِي الضِّدِّ جَرِّدْ وَالْمُمَيِّزَ اجْرُرِ
…
جَمْعًا بِلَفْظِ قِلَّةٍ فِي الأَكْثَرِ
وهذه القاعدة إنما تجب إذا كان المعدود مذكورًا بعد العدد تمييزًا، وأما إذا حُذف، كحديث: "من صام رمضان، وأتبعه ستًّا من شوال
…
"الحديث، أو قُدّم جاز الأمران، فتقول: مسائل تسعٌ، وتسعةٌ، ورجال تسعةٌ، وتسعٌ، فيكون ما هنا مما حُذف، فجاز الأمران
(1)
، فتنبّه لهذه القاعدة، فإنها مهمّة جدًّا. والله تعالى أعلم.
(عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ) بضم حرف المضارعة، وفتح الحاء المهملة المشدّدة، مبنيًّا للمفعول، ورفع لفظ الجلالة على أنه نائب فاعله، والجارّ والمجرور بدل من الجارّ والمجرور قبله، بدل تفصيل من مجمل، أي على توحيد الله تعالى، والتوحيد بمعنى العبادة في الرواية التالية بلفظ:"على أن يُعبد الله، ويُكفر بما دونه"، وبمعنى الشهادتين في الرواية الثالثة بلفظ:"شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله".
(وَإِقَامِ الصَّلَاةَ) أي وعلى الإتيان بالصلاة على الوجه المطلوب شرعًا، من استيفاء شروطها، وأركانها، وآدابها.
[تنبيه]: أصل "إقام" إقوام؛ لأنه من أقام يُقيم، نُقلت حركة عينه إلى فاء الكلمة، وحُذفت، وعُوّض عنها تاء التأنيث غالبًا، فصار إقامةً بالتاء، لكن هذا التعويض إنما يأتي غالبًا إذا لم يوجد مضاف إليه، فأما إذا وُجد، فإنه يقوم مقام التاء، قال الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73]، وأشار إلى هذه القاعدة في "الخلاصة" بقوله:
وَاسْتَعِذِ اسْتِعَاذَةً ثُمَّ أَقِمْ
…
إِقَامَةً وَغَالبًا ذَا التَّا لَزِمْ
(وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) مصدر آتى يؤتي: إذا أعطى، وفيه شيئان: أحدهما:
إطلاق الزكاة التي هي في الأصل مصدر، أو اسم مصدر على المال الْمُخْرَج
(1)
راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 208.
للمستحقّ، والآخر حذف أحد المفعولين؛ للعلم به؛ لأن الإيتاء يتعدّى إلى مفعولين، والتقدير: إيتاء الزكاة مستحقيها (وَصِيَامِ رَمَضَانَ) من إضافة الحكم إلى سببه (وَالْحَجِّ) أي وحج البيت، فـ "أل" بدل من المضاف إليه، والإظافة فيه أيضًا من إضافة الحكم إلى سببه، فلما لم يتكرر البيت لم يتكرّر الحج، بل صار مرّة في العمر، بخلاف الصوم؛ فإنه يتكرّر كلّ سنة، فصار واجبًا كلّ سنة. (فَقَالَ رَجُلٌ) اسم هذا الرجل يزيد بن بشر السَّكْسَكِيّ، ذكره الخطيب البغداديّ رحمه الله تعالى في "الأسماء المبهمة"(الْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ) بجرهما على الحكاية، أي قال بدل قول ابن عمر رضي الله عنهما "وصيام رمضان، والحجّ": والحجّ، وصيام رمضان، فقدَّم ذكر الحجّ عدى الصيام، فـ (قال) ابن عمر رضي الله عنهما ردًّا عليه (لَا) أي لا تقل:"الحجّ، وصيام رمضان"، بل قل:("صِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ") بالجرّ فيهما على الحكاية أيضًا (هَكَذَا سَمِعْتُهُ) أي سمعت هذا الكلام مرتّبًا على هذا الوجه (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّقٌ بـ "سمعته".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أظهر ما قيل في توجيه إنكار ابن عمر رضي الله عنهما هذا على هذا الرجل عندي قول من قال: إنّ ابن عمر رضي الله عنهما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّتين: مرةً بتقديم الحج، ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضًا على الوجهين، في وقتين، فلما رَدّ عليه الرجل، وقَدَّم الحج، قال ابن عمر: لا تَرُدّ عليّ ما لا عِلْمَ لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه، ولا تَقْدَحْ فيما لا تتحققه، بل هو بتقديم الصوم، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر، وسيأتي ذكر بقيّة أجوبة العلماء في توجيه إنكاره رضي الله عنه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في تخريجه.
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنف) هنا (5/ 119) عن محمد بن عبد الله نُمَير، عن
أبي خالد الأحمر - و (5/ 120) عن سهل بن عثمان العسكريّ، عن يحيى بن زكريا - كلاهما عن أبي مالك الأشجعيّ، عن سعد بن عُبيدة السلميّ، عنه. و (5/ 121) عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عاصم بن محمد، عن أبيه، عنه. و (5/ 122) وعن ابن نمير، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عنه.
وأخرجه (البخاريّ)(2/ 8) عن عبيد الله بن موسى، عن حنظلة بن أبي سفيان به، وأخرجه أيضًا في "التفسير" برقم (4514).
وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده"(703 و 704) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(823) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 26 و 92 و 120 و 143 و (الترمذي) في "جامعه"(2609) و (النسائيّ)(8/ 107)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(98 و 99 و 100 و 101 و 102)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(308 و 309). والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): بيان أركان الإسلام، ودعائمه العظام.
2 -
(ومنها): أنه يُفهم من ظاهر الحديث أنه لا يكون الشخص مسلمًا عند ترك شيء من هذه الأركان، وقد اختُلف في ذلك، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى.
3 -
(ومنها): أن هذه الأشياء الخمسة من فروض الأعيان، لا تسقط بإقامة بعض المكلّفين عن الباقين.
4 -
(ومنها): أن هذا الحديث أصل عظيمٌ في معرفة الدين، وعليه اعتماده، وقد جَمَعَ أركانه كلها.
5 -
(ومنها): أن فيه جواز إطلاق "رمضان" دون إضافة لفظة "شهر" إليه، وهو الحقّ الذي عليه الجمهور، خلافًا لمن منع ذلك، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في موضعه من "كتاب الصيام" - إن شاء الله تعالى -.
6 -
(ومنها): أنه يستفاد من إنكار ابن عمر رضي الله عنهما على الرجل في تقديمه الحج، وقوله:"هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم "تأكّد أداء الحديث باللفظ، وقد سبق في شرح المقدّمة بيان اختلاف العلماء في ذلك، وترجيح قول
الجمهور بجواز الرواية بالمعنى بشروطه، لكن الأولى المحافظة على اللفظ لقوله صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، ثم أدّاها كما سمعها، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ويحتمل أن تكون محافظة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ترتيب هذه القواعد؛ لأنها نزلت كذلك: الصلاة أوّلًا، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحجّ، ويحتمل ذلك أن يكون لإفادة الأوكد فالأوكد، فقد يَستنبط الناظر في ذلك الترتيبِ تقديمَ الأوكد على ما هو دونه إذا تعذّر الجمع بينهما، كمن ضاق عليه وقت الصلاة، وتعيّن عليه في ذلك الوقت أداء الزكاة لضرورة المستحق، فيبدأ بالصلاة، أو كما إذا ضاق وقتُ الصلاة على الحاجّ، فيتذكّر العشاء الآخرة، وقد بقي عليه من وقت صلاة العشاء الآخرة ما لو فعله فاته الوقوف بعرفة، فقد قال بعض العلماء: إنه يبدأ بالصلاة، وإن فاته الوقوف؛ نظرًا إلى ما ذكرناه، وقيل: يبدأ بالوقوف للمشقّة في استئناف الحجّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنَّ القول الثاني أرجح؛ للمشقّة المذكورة، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، فالحرج مرفوع بالنصّ، ففعل ما يرفع الحرج أولى، وإن كان أدون في الرتبة، والله تعالى أعلم.
قال: ومن ذلك لو أوصى رجل بزكاة فرّط في أدائها، وبكفّارةِ فطر من رمضان، وضاق الثلث عنهما، بدأ بالزكاة أوّلًا؛ لأوكديّتها على الصوم، وكذلك لو أوصى بكفّارة الفطر، وبهديٍ واجبٍ في الحجّ، قدّم كفارة الفطر، وهذا كلّه على أصل مالك رحمه الله، فإن ذلك كلّه يخرَج من الثلث، وأما من ذهب إلى أن ذلك يُخرج من رأس المال، فلا تفريع على ذلك بشيء مما ذكرناه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
7 -
(ومنها): أنه يستفاد منه تخصيص عموم مفهوم السنّة بخصوص منطوق القرآن؛ لأن عموم الحديث يقتضي صحّة إسلام من باشر ما ذُكر،
(1)
حديث صحيح، رواه أبو داود (3660) والترمذيّ (2658).
(2)
"المفهم" 1/ 169 - 170.
ومفهومه أن من لم يباشره لا يصحّ منه، وهذا العموم مخصوص بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الطور: 21]، على ما تقرّر في موضعه
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان الأسئلة الواردة على هذا الحديث
(2)
.
(الأول): ما قيل: ما وجه الحصر في هذه الخمسة؟
وأجيب بأن العبادة إما قوليّة، وهي الشهادة، أو غير قوليّة، فهي إما تَركيّ، وهو الصوم، أو فعليّ، وهو إما بدنيّ، وهو الصلاة، أو ماليّ، وهو الزكاة، أو مركّبٌ منهما، وهو الحجّ.
(الثاني): ما قيل: ما وجه الترتيب بينها؟
وأجيب بأن الواو لا تدلّ على الترتيب، ولكن الحكمة في الذكر أن الإيمان أصل للعبادات، فتعيّن تقديمه، ثم الصلاة؛ لأنها عماد الدين، ثم الزكاة؛ لأنها قرينة الصلاة في كتاب الله تعالى، ثم الحج للتغليظات الواردة فيه ونحوها، فبالضرورة يقع الصوم آخرًا.
(الثالث): ما قيل: الإسلام هو الكلمة فقط، ولهذا يُحكم بإسلام من تلفّظ بها، فلم ذكرت الأخوات معها.
وأجيب: بأنها أظهر شعائر الإسلام، قال النوويّ رحمه الله تعالى: حكم الإسلام في الظاهر يَثبُت بالشهادتين، وإنما أُضيف إليهما الصلاة ونحوها؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام، وأعظمها، وبقيامه بها يتمّ إسلامه، وتركه لها يُشعر بانحلال قيد انقياده، أو اختلاله. انتهى.
(الرابع): ما قيل: إن الإسلام هو هذه الخمسة، والمبنيّ لا بدّ أن يكون غير المبنيّ عليه.
وأجيب: بأن الإسلام عبارة عن المجموع، والمجموع غير كلّ واحد من أركانه، وحاصله أن المجموع غيرٌ من حيث الانفراد، وعينٌ من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشَّعْر يُجعل على خمسة أعمدة، أحدها أوسطٌ والبقيّة أركان،
(1)
"الفتح" 1/ 65.
(2)
راجع في هذه الأسئلة: "عمدة القاري" 1/ 120 - 121، و"فتح الباري" 1/ 65 - 66.
فما دام الأوسط قائمًا فمسمّى البيت موجود، ولو سقط ما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمّى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده، أشياء، وأيضًا فبالنظر إلى أسّه وأركانه، الأسُّ أصلٌ، والأركان تبعٌ وتكملة.
(الخامس): ما قيل: الأربعة الأخيرة مبنيّة على الشهادة؛ إذا لا يصحّ شيء منها إلا بعد الكلمة فالأربعة مبنيّة، والشهادة مبنيّ عليها، فلا يجوز إدخالها في سلك واحد.
وأجيب: بأنه لا محذور في أن يُبنى أمرٌ على أمر، ثم يبنى عليهما أمرٌ آخر.
ويقال: لا نسلّم أن الأربعة مبنيّة على الكلمة، بل صحّتها متوقّفة عليها، وذلك غير معنى بناء الإسلام على الخمس.
وقال التيمي رحمه الله تعالى: قوله: "بني الإسلام على خمس"، كان ظاهره أن الإسلام مبنيّ على هذه، وإنما هذه الأشياء مبنيّة على الإسلام؛ لأن الرجل ما لم يشهد لا يُخاطب بهذه الأشياء الأربعة، لو قالها فإنّا نحكم في الوقت بإسلامه، ثم إذا أنكر حكمًا من هذه الأحكام المذكورة المبنيّة على الإسلام حكمنا ببطلان إسلامه، إلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أراد بيان أن الإسلام لا يتمّ إلا بهذه الأشياء ووجودها معه جعله مبنيًّا عليها، ولهذا المعنى سوّى بينها وبين الشهادة، وإن كانت هي الإسلام بعينه.
قال الكرمانيّ: حاصل كلامه أن المقصود من الحديث بيان كمال الإسلام وتمامه، فلذلك ذكر هذه الأمور مع الشهادة، لا نفس الإسلام، وهو حسنٌ، لكن قوله: ثم إذا أنكر حكمًا من هذه حكمنا ببطلان إسلامه ليس من البحث؛ إذ البحث في فعل هذه الأمور وتركها، لا في إنكارها، وكيف وإنكار كلّ حكم من أحكام الإسلام موجبٌ للكفر، فلا معنى للتخصيص بهذه الأربعة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأيضًا قوله: لا يخاطب إلخ فيه نظر؛ إذ هذا مذهب مرجوح، فالحقّ أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، فكان الأولى أن يعبّر بقوله: فلا يُعتدّ بهذه الأشياء إلخ. وللعينيّ اعتراض على كلام
الكرمانيّ المذكور، تركت ذكره لعدم جدواه فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(السادس): ما قيل: لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة عليهم السلام وغير ذلك مما تضمّنه سؤال جبريل عليه السلام؟
أجيب: بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذُكر من المعتقدات، وقال الإسماعيليّ رحمه الله تعالى ما محصّله: هو من باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأت "الحمد"، وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول مثلًا: شهدتُ، برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد جميع ما ذُكر
(1)
. والله تعالى أعلم.
(السابع): ما قيل: لمَ لم يذكر فيه الجهاد؟ أجيب بأنه فرض كفاية، ولا يتعيّن إلا في بعض الأحوال، ولهذا جعله ابن عمر رضي الله عنهما جوابًا للسائل، وزاد في رواية عبد الرزّاق في آخره:"وإن كان الجهاد من العمل الحسن".
وأغرب ابن بطّال، فزعم أن هذا الحديث كان في أول الإسلام قبل فرض الجهاد، وهو خطأ بَيِّنٌ؛ لأن فرض الجهاد كان قبل وقعة بدر، وكانت في رمضان في السنة الثانية، وفيها فُرض الصيام، والزكاة بعد ذلك، والحجّ بعد ذلك على الصحيح.
وقال الداوديّ: لما فُتحت مكة سقط فرض الجهاد على من بعد من الكفّار، وهو فرض على من يليهم، وكان أوّلًا فرضًا على الأعيان، وقيل: هو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، والثوريّ، وابن شُبْرُمة، إلا أن ينزل العدوّ فيأمر الإمام بالجهاد، وجاء في البخاريّ في هذا الحديث في "التفسير":"أن رجلًا قال لابن عمر: ما حملك على أن تحجّ عامًا، وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد"، وفي رواية عكرمة بن خالد الآتية في أولها:"أن رجلًا قال لابن عمر: ألا تغزو، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الإسلام بُني على خمس
…
" الحديث، فهذا يدلّ على أن ابن عمر كان لا يرى فرضيّته إما مطلقًا، كما نُقل عنه، أو في ذلك الوقت
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة):
في بيان اختلاف العلماء في توجيه إنكار ابن عمر رضي الله عنهما على الرجل في
(1)
"الفتح" 1/ 65.
(2)
"عمدة القاري" 1/ 121.
تقديمه الحجّ على الصيام في هذه الرواية مع ثبوت ذلك في الرواية التالية:
قال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما تقديم الحج وتأخيره: ففي الرواية الأولى والرابعة تقديم الصيام، وفي الثانية والثالثة تقديم الحج، ثم اختلف العلماء في إنكار ابن عمر على الرجل الذي قَدَّم الحجَّ مع أنّ ابن عمر رواه كذلك، كما وقع في الطريقين المذكورين.
والأظهر - والله أعلم - أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّتين: مرةً بتقديم الحج، ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضًا على الوجهين في وقتين، فلما رَدّ عليه الرجل، وقَدَّم الحج، قال ابن عمر: لا تَرُدّ على ما لا عِلْمَ لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه، ولا تَقْدَحْ فيما لا تتحققه، بل هو بتقديم الصوم، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر.
ويحتمل أنّ ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين، كما ذكرنا، ثم لَمّا رَدّ عليه الرجل نسي الوجه الذي رده، فأنكره، فهذان الاحتمالان هما المختاران في هذا.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الأرجح عندي، والله تعالى أعلم.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: محافظة ابن عمر رضي الله عنهما على ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهيه عن عكسه، تصلح حجةً لكون الواو تقتضي الترتيب، وهو مذهب كثير من الفقهاء الشافعيين، وشذوذٍ من النحويين، ومن قال: لا تقتضي الترتيب، وهو المختار، وقول الجمهور فله أن يقول: لم يكن ذلك لكونها تقتضي الترتيب، بل لأن فرض صوم رمضان نَزَل في السنة الثانية من الهجرة، ونزلت فريضة الحج سنة ست، وقيل: سنة تسع - بالتاء المثنّاة فوقُ - ومن حق الأول أن يُقَدَّم في الذكر على الثاني، فمحافظة ابن عمر رضي الله عنه لهذا، وأما رواية تقديم الحج، فكأنه وقع ممن كان يروي الرواية بالمعنى، وَيرَى أن تأخير الأول، أو الأهمّ في الذكر شائع في اللسان، فتصرف فيه بالتقديم والتأخير لذلك مع كونه لم يسمع نهيَ ابن عمر رضي الله عنهما عن ذلك، فافهم ذلك، فإنه من المشكل الذي لم أرهم بيَّنوه، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا الذي قاله ضعيف من وجهين:
[أحدهما]: أن الروايتين قد ثبتتا في الصحيح، وهما صحيحتان في المعنى، لا تنافي بينهما، كما قدمنا إيضاحه، فلا يجوز إبطال إحداهما.
[الثاني]: أنّ فتح باب احتمال التقديم والتأخير في مثل هذا قَدْحٌ في الرواة والروايات، فإنه لو فُتِحَ هذا لم يَبْقَ لنا ثِقَةٌ بشيء من الروايات، إلا القليل، ولا يخفى بطلان هذا، وما يترتب عليه من المفاسد، وتَعَلُّق من يتعلق به، ممن في قلبه مرض. والله تعالى أعلم، انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وقال المازريّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن تكون مُشَاحّة ابن عمر في هذا لأنه كان لا يرى نقل الحديث بالمعنى، وإن أدّاه بلفظٍ يَحْتَمِلُ، أو كان يرى الواو توجب الترتيب - كما قال بعضهم - فيجب التحفّظ على الرواية المسموعة من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يتعلّق بذلك أحكام.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد يكون ردّ ابن عمر على الرجل إلى تقديم رمضان على الحجّ؛ لتقدّم فريضة رمضان على فريضة الحجّ، فجاء بالفرائض على نسقها في التاريخ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق ترجيح القول بأن ابن عمر رضي الله عنهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرّتين، وأنه رواه على الوجهين، فردّه على الرجل؛ لكونه اعترض على ما لا علم له به، وردّ الثابت؛ لتوهّمه عدم ثبوته. وأما ما جوّزه بعضهم من أن ابن عمر سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم على الوجهين، ونسي أحدهما عند ردّه على الرجل، ففيه نظر: لأن تطرّق النسيان إلى الراوي عن الصحابيّ أول من تطرّقه إلى الصحابيّ
(3)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(تنبيه): وقع في رواية أبي عوانة الإسفرايينيّ في كتابه "الْمُخَرَّج على صحيح مسلم، وشرطه" عكسُ ما وقع في مسلم من قول الرجل لابن عمر: قَدِّمِ الحجَّ، فوقع فيه أن ابن عمر رضي الله عنه قال للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهنّ، كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 178 - 179.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 149 - 150.
(3)
راجع: "الفتح" 1/ 66.
فقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: لا تقاوم هذه الرواية ما رواه مسلم.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا محتمل أيضًا صحته، ويكون قد جَرَت القضية مرتين لرجلين. والله تعالى أعلم، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن الصلاح رحمه الله تعالى من ترجيح رواية مسلم أظهر، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة):
قد حقّق الكلام على هذا الحديث الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، فأردت إيراد تحقيقه، وإن كان معظمه قد تقدّم، إلا أن فيه فوائد زوائد، قال رحمه الله تعالى:
المراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه، وقد خَرّجه محمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة"، ولفظه: "بُنِي الإسلام على خمس دعائم
…
"، فذكره، والمقصود تمثيل الإسلام بالبنيان، ودعائمُ البنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتَتِمّة البنيان، فإذا فُقِد منها شيء نقص البنيان، وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك، بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس، فإن الإسلام يزول بفقدها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين، والمراد بالشهادتين: الإيمانُ بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقًا: "بُنِي الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله
…
" وذكر بقية الحديث، وفي رواية لمسلم: "على خمس: على أن يُوَحَّد الله عز وجل"، وفي رواية له: "على أن يُعبَد الله، ويُكفر بما دونه".
وبهذا يُعلَم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام، كما سبق في حديث جبريل عليه السلام.
وأما إقام الصلاة: فقد وردت أحاديث متعددةٌ لا تَدُلّ على أن من تركها،
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 179.
فقد خرج من الإسلام، ففي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة"، ورُوي مثله من حديث بُريدة، وثوبان، وأنس، وغيرهم، وخَرّج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تترك الصلاة متعمدًا، فمن تركها متعمدًا، فقد خرج من الملة"
(1)
.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"رأس الأمر الإسلام، وعموده، الصلاة"، فجعل الصلاة كعمود الفُسْطاط الذي لا يقوم الفسطاط ولا يثبت إلا به، ولو سقط العمود لسقط الفسطاط، ولم يثبت بدونه.
وقال عمر رضي الله عنه: لا حَظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقال سعد رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: من تركها فقد كفر.
وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئًا تركه كفر إلا الصلاة.
وقال أبو أيوب السختيانيّ: ترك الصلاة كفر، لا يُخْتَلَف فيه.
وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف، وهو قول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وحَكَى إسحاق عليه إجماع أهل العلم، وقال محمد بن نصر المروزي: وهو قول جمهور أهل الحديث.
وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئًا من أركان الإسلام الخمس عمدًا فهو كافر بذلك، ورُوي ذلك عن سعيد بن جبير، ونافع، والحكم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، وهو قول ابن حبيب من المالكية.
وخَرّج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله الحج في كل عام؟ قال: "لو قلت: نعم لوجب عليكم، ولو وجب عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم"
(2)
.
(1)
حديث ضعيف الإسناد.
(2)
رواه بهذا اللفظ عبد بن حميد في "مسنده" كما في "الدرّ المنثور" 2/ 273 عن الحسن مرسلًا.
وخَرّج اللالكائيّ من طريق مؤمل قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك النُكْريّ، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، ولا أحسبه إلا رفعه، قال:"عُرَى الإسلام، وقواعدُ الدين ثلاثة، عليهن أُسِّسَ الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، وصوم رمضان، مَن تَرَك منهم واحدةً فهو بها كافرٌ، حلال الدم، وتجده كثير المال، لم يحج، فلا يزال بذلك كافرًا، ولا يحل بذلك دمه، وتجده كثير المال ولا يزكي، فلا يزال بذلك كافرًا، ولا يحل دمه"
(1)
.
ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفًا مختصرًا، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد، عن عمر بن مالك بهذا الإسناد مرفوعًا، وقال:"من ترك منهنّ واحدةً فهو بالله كافر، ولا يُقْبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ، وقد حَلّ دمه وماله"، ولم يذكر ما بعده.
وقد رُوِي عن عمر رضي الله عنه ضربُ الجزية على من لم يحجّ، وقال: ليسوا بمسلمين. وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم. وعن أحمد رواية أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر، دون الصيام والحج. وقال ابن عيينة: المرجئة سَمُّوا ترك الفرائض ذنبًا بمنزلة ركوب المحارم، وليس سواءً؛ لأن ركوب المحارم متعمدًا من غير استحلال معصية، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر إبليس، وعلماء اليهود الذين أَقَرُّوا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم، ولم يعملوا بشرائعه.
وقد استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم، وترك السجود لله أعظم.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة وسجد، اعتزل إبليس يبكي ويقول: يا ويلي أُمِر ابنُ آدم بالسجود، فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود، فأبيتُ فلي النار".
(واعلم): أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض، وقد رُوي أنه لا يُقْبَل بعضها بدون بعض، كما في "مسند الإمام أحمد" عن زياد بن نُعيم
(1)
رواه اللالكائيّ في "أصول الاعتقاد"(1576)، ورواه أيضًا أبو يعلى (2349) وإسناده ضعيف، مؤمل سيء الحفظ، وعمرو بن مالك النكريّ صاحب أوهام.
الحضرميّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ فَرَضَهُنّ الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يُغنِينَ عنه شيئًا حتى يأتي بهن جميعًا: الصلاة، والزكاة وصوم رمضان، وحج البيت"، وهذا مرسل
(1)
.
وقد روي عن زياد عن عُمَارَةَ بن حَزْم، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ورُوي عن عثمان بن عطاء الخرساني، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين خمسٌ لا يَقبل الله منهن شيئًا دون شيء: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالجنة والنار، والحياة بعد الموت، هذه واحدة، والصلوات الخمس عمود الدين، لا يَقبل الله الإيمان إلا بالصلاة، والزكاة طَهُور من الذنوب، ولا يقبل الله الإيمان، ولا الصلاة إلا بالزكاة، فمن فعل هؤلاء الأربع، ثم جاء رمضان، فترك صيامه متعمدًا لم يقبل الله منه الإيمان، ولا الصلاة، ولا الزكاة، فمن فعل هؤلاء الأربع، ثم تيسر له الحجّ، فلم يحج، ولم يوصِ بحجته، ولم يحج عنه بعض أهله، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها"، ذكره ابن أبي حاتم
(3)
، فقال: سألت أبي عنه؟ فقال: هذا حديث منكر، يَحتمل أن هذا من كلام عطاء الخرساني.
قال ابن رجب: الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر، وعطاءٌ من أجلاء علماء الشام.
وقال ابن مسعود: من لم يُزَكِّ فلا صلاة له.
ونفيُ القبول هنا لا يراد به نفي الصحة، ولا وجوب الإعادة بتركه، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به، ومدح عامله، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى، والمباهاة به للملائكة.
(1)
أخرجه أحمد 4/ 200 و 201 وإسناده مرسل، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(2)
رواه أحمد، والطبرانيّ في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" 1/ 47 قال الهيثميّ: وفي إسناده ابن لهيعة.
(3)
"العلل" 1/ 294 و 2/ 156، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 201 و 202، وقال: غريب من حديث ابن عمر بهذا اللفظ.
فمن قام بهذه الأركان على وجهها، حصل له القبول بهذا المعنى، ومن أتى ببعضها دون بعض، لم يحصل له ذلك، وإن كان لا يُعاقَب على ما أتى به منها عقوبة تاركه، بل تبرأ به ذمته، وقد يثاب عليه أيضًا.
ومن ها هنا يُعلَم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان، تكون مانعةً من قبول بعض الطاعات، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا"، رواه مسلم، وقال:"مَن أَتَى عَرّافًا، فصدقه بما يقول، لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا"، رواه مسلم أيضًا، وقال:"أَيُّما عبد أَبَقَ من مواليه، لم تُقبَل له صلاة"، رواه مسلم أيضًا.
وحديثُ ابن عمر رضي الله عنهما يُستَدَلُّ به على أن الاسم إذا شَمِلَ أشياء متعددة، لم يَلزم زوالُ الاسم بزوال بعضها، فيبطل بذلك قول من قال: "إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال لَلَزِم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه، وفسر بها الإسلام في حديث جبرائيل عليه السلام، وفي حديث طلحة بن عُبيد الله الذي فيه أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ففسره له بهذه الخمس.
ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون: لو زال من الإسلام خصلة واحدة، أو أربع خصال، سوى الشهادتين لم يَخرُج بذلك من الإسلام، وقد رَوَى بعضهم أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، لا عن الإسلام، وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونُقّاده، منهم أبو زرعة الرازيّ، ومسلم بن الحجاج، وأبو جعفر العقيليّ، وغيرهم.
وقد ضَرَب العلماء مَثَلَ الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشُعَبٌ، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله، ولو زال شيء من شُعَبها وفروعها لم يَزُل عنه اسم الشجرة، وإنما يقال: هي شجرة ناقصة، وغيرها أتم منها.
وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك، في قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} الآية [ابراهيم: 24]، والمراد بالكلمة كلمة التوحيد، وبأصلها التوحيدُ الثابتُ في القلوب، وأُكُلها هو الأعمال الصالحة الناشئة منه.
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلم بالنخلة
(1)
، ولو زال شيء من فروع النخلة من ثمرها، لم يَزُل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر.
ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا، مع أن الجهاد أفضل الأعمال، وفي رواية إن ابن عمر قيل له: فالجهاد؟ قال: الجهاد حسن، ولكن هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَّجه الإمام أحمد.
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذِرْوَة سنامه الجهاد"، وذروةُ سنامه أعلى شيء فيه، ولكنه ليس من دعائمه، وأركانه التي بُنِيَ عليها، وذلك لوجهين:
[أحدهما]: أن الجهاد فرض كفاية، عند جمهور العلماء، ليس بفرض عين، بخلاف هذه الأركان.
[والثاني]: أن الجهاد لا يستمرّ فعله إلى آخر الدهر، بل إذا نزل عيسى عليه السلام، ولم يَبْقَ حينئذٍ ملةٌ إلا ملةُ الإسلام، فحينئذٍ تَضَعُ الحرب أوزارها، ويُستَغْنى عن الجهاد، بخلاف هذه الأركان، فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله، وهم على ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيس، وبحثٌ أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[120]
(
…
) - (وحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ السُّلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاة، وَإِيتَاءِ الزَّكَاة، وَحَجِّ الْبَيْت، وَصَوْمِ رَمَضَانَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعسْكَرِيُّ) بن فارس بن سنان، أبو مسعود الْكِنْدِيّ، نزيل الريّ، أحد الحفّاظ، له غرائب [10].
(1)
حديث حسن بشواهده، رواه الطبراني 19/ 460، وصححه ابن حبان.
رَوَى عن يزيد بن زُريع، وحفص بن غياث، وحماد بن زيد، وزياد بن عبد الله الْبَكّائيّ، وعلي بن مسهر، وأبي معاوية، ومروان بن معاوية، وإبراهيم بن سعد، وعقبة بن خالد السَّكُونيّ، وعبد الرزاق، وعبد الله بن جعفر المدينيّ، وعدّة.
وروى عنه مسلم، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى بن أبي سُمَينة، وهما من أقرانه، وأبو مسعود أحمد بن الْفُرَات الرازي، وأحمد بن نصر بن عبد الوهاب النيسابوريّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازيّ، وإسماعيل بن عبد الله سَمُّويه، وجعفر بن أحمد بن فارس، وجماعة.
قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو الشيخ: كان كثير الفوائد، وقال عبدان: قَدِم عليه أبو بكر الأعين، وجماعة من أصحابه، فقالوا في أحاديث: حَدَّثنا بها أنه أخطأ، فقيل له، فقال: هكذا حَدَّثنا فلان وفلان، فسكتوا عنه، وله غرائب كثيرة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن أبي عاصم: مات سنة خمس وثلاثين ومائتين.
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون بن فَيْرُوز الْهَمْدانيّ - بسكون الميم - الوادعيّ مولاهم، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة متقنٌ، من كبار [9].
رَوَى عن أبيه، والأعمش، وابن عون، وعاصم الأحول، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وداود بن أبي هند، وحارثة بن أبي الرجال، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهم.
وروى عنه يحيى بن آدم، وأبو داود الْحَفَريّ، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وابنا أبي شيبة، وعلي بن المديني، وداود بن رُشَيد، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وإبراهيم بن موسى، وسهيل بن عثمان العسكري، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، وغيرهم.
قال إبراهيم بن موسى عن أبي خالد الأحمر: كان جَيِّد الأخذ، وقال أيضًا عن الحسن بن ثابت: نَزَلتُ بأفقه أهل الكوفة، يعنيه. وقال عمرو الناقد عن ابن عيينة: ما قَدِمَ علينا مثل ابن المبارك، ويحيى بن أبي زائدة، وقال الحارث بن سُرَيج عن يحيى القطان: ما خالفني أحدٌ بالكوفة أشدُّ عليّ من ابن
أبي زائدة. وقال أحمد، وابن معين: ثقة. وقالى عثمان الدارمي: قلت لابن معين: إسماعيل بن زكريا أحب إليك، أو يحيى بن أبي زائدة؟ قال: يحيى أحب إلي، قلت: هما أخوان عندك؟ قال: لا. وقال ابن المدينيّ: هو من الثقات، وقال أيضًا: لم يكن بالكوفة بعد الثوري أثبت منه، وقال أيضًا: انتهى العلم إليه في زمانه. وقال ابن نمير: كان في الإتقان أكثر من ابن إدريس. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث، ثقةٌ، صدوقٌ. وقال النسائيّ: ثقة ثبت. وقال العجليّ: ثقةٌ، وهو ممن جُمِع له الفقه والحديث، وكان على قضاء المدائن، ويُعَدُّ من حفاظ الكوفيين للحديث، متقنًا ثبتًا، صاحب سنة، ووكيع إنما صَنَّف كتبه على كتب يحيى بن أبي زائدة. وذكر ابن أبي حاتم: أنه أول من صَنَّف الكتب بالكوفة. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: يحيى بن أبي زائدة في الحديث مثل العروس الْمُعَطَّرة. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: كان يحيى بن زكريا كَيِّسًا، ولا أعلمه أخطأ إلا في حديث واحد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن قبيصة بن بُرمَة، قال: قال عبد الله: "ما أُحبّ أن يكون عبيدكم مؤدبيكم"، وإنما هو عن واصل، عن قبيصة. وقال الغلابيّ عن ابن معين نحو ذلك. وقال حنبل عن محمد بن داود: سمعت عيسى بن يونس، وسئل عن يحيى بن أبي زائدة، فقال: ثقة، قال: ورأيت زكريا بن أبي زائدة يجيء به إلى مُجَالد. وقال زياد بن أيوب: كان يحدث حفظًا. وقال ابن أبي حاتم في "العلل": سألت أبي وأبا زرعة عن حديث، رواه ابنُ أبي زائدة، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن يسار، عن ابن عُمير في الَعَبَث بالحصى، فقالا: وَهِمَ ابنُ أبي زائدة، وإنما هومسلم بن أبي مريم، عن علي بن عبد الرحمن، عن ابن عُمير، قال أبو زرعة: يحيى قَلَّمَا يُخطئ، فإذا أخطأ أتى بالعظائم. انتهى. وقال ابن سعد: كان ثقة - إن شاء الله تعالى -. وقال ابن شاهين في "الثقات": قيل ليحيى بن معين: إن زكريا بن عدي لم يُحَدِّث عنه، قال: هو خير من زكريا بن عديّ، ومن أهل قريته.
وقال علي بن المدينّي: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقال ابن سعد وغيره: مات بالمدائن، وهو قاضٍ بها سنة ثلاث وثمانين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد يعقوب بن شيبة: وبلغ من السن يوم مات ثلاثًا وستين سنة، وقال:
ثقةٌ، حسن الحديث، ويقولون: إنه أول من صنف الكتب بالكوفة، وكان يُعَدّ في فقهاء محدثي أهل الكوفة، وكانت وفاته في جمادى الأولى، وقال خليفة، وابن حبان: مات سنة ثلاث، أو أربع، وقال ابن قانع: مات سنة أربع.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وسعد بن طارق، هو أبو مالك الأشجعيّ الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[121]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْن مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاة، وَإِيتَاءِ الزَّكَاة، وَحَجِّ الْبَيْت، وَصَوْمِ رَمَضَانَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْن مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237)(خ م د س) 3/ 6.
2 -
(أَبُوه) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) 3/ 6.
3 -
(عَاصِمٌ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب العمريّ المدنيّ، ثقة [7].
رَوَى عن أبيه، وإخوته: واقد، وزيد، وعمر، وابن عم أبيه: القاسم بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن كعب الْقُرَظِيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو إسحاق الفزاري، وابن عيينة، ويزيد بن هارون، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وبِشْر بن المفضل، وعمر بن يونس اليمامي، ومعاذ بن معاذ العنبريّ، ووكيع، وأبو الوليد الطيالسي، وأبو نعيم، وأحمد بن يونس، وعلي بن الْجَعْد، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقةٌ لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: صدوقٌ في الحديث. وقال البزار: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرجه له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (16) و (146) و (1509) و (1820) و (1851).
4 -
(أَبُوهُ) مُحَمَّدُ بْنُ زيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بن الخطاب المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن العبادلة الأربعة: جدِّهِ عبد الله، وابن عمرو، وابن عباس، وابن الزبير، وسعيد بن زيد بن عمرو.
وروى عنه بنوه الخمسة: عاصم، وواقد، وعُمَر، وأبو بكر، وزيد، والأعمش، وبشار بن كِدَام، وعَبْدَة بن أبي لُبَابة، وأبو قُطْبة سُويَد بن نَجِيح.
قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة، قلت: يُحتَجّ بحديثه؟ قال: نعم، وكان البخاري جَعَلَ محمد بن زيد الذي رَوَى عن ابن عباس، وعنه الأعمش، غير ابن عمر هذا، فغَيَّرَهُ أبي، وقال: هما واحدٌ: وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرجه له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
وقوله: "قال عبد الله"، يعني ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.
وقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله"، وما بعده مخفوضٌ على البدليّة من "خمسٍ"، ويجوز رفعها على حذف الخبر، أي منها شهادة إلخ، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره:"أحدها شهادة إلخ، ويجوز النصب بتقدير "أعني شهادة الخ".
[تنبيه]: قال في "الفتح": اشترط الباقلّانيّ في صحّة الإسلام تقدّم الإقرار بالتوحيد على الرسالة، ولم يُتابَع، مع أنه إذا دقّق فيه بان وجهه، ويزداد اتّجاهًا إذا فرّقهما، فليُتأمّل. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 1/ 65.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[122]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالدٍ، يُحَدِّثُ طَاوُسًا، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَلا تَغْزُو، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاة، وَإِيَتَاءِ الزَّكَاة، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَنْظَلَةُ) بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أميّة الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ حجة [6].
رَوَى عن سالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن مِينَاء، وطاووس، وعكرمة بن خالد، والقاسم بن محمد، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رَبَاح، ومجاهد، وأخويه: عبد الرحمن وعمر، وجماعة.
ورَوَى عنه الثوريّ، وحماد بن عيسى الْجُهَنيّ، وابن المبارك، وابن نمير، وابن وهب، ووكيع، والقطان، والوليد بن مسلم، وعبيد الله بن موسى، ومكي بن إبراهيم، وأبو عاصم، وجماعة.
قال أحمد: كان وكيع إذا أَتَى على حديثه قال: حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، وكان ثقة ثقة، وكذا قال الْجُوزَجانيّ عن أحمد: إنه ثقة ثقة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال عبد الله بن شعيب عن ابن معين: حنظلة وأخوه ثقتان. وقال أبو زرعة، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة، زاد أبو داود، وعثمان بن الأسود يُقَدَّم عليه. وقال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه؟ فقال: كان عنده كتابٌ، ولم يكن عندي مثل سيف. وقال ابن عديّ: وعامة ما رَوَى حنظلة مستقيم، وإذا حَدَّث عنه ثقة فهو مستقيم. وقال يعقوب بن شيبة: هو ثقة، وهو دون المتثبتين، وقال أيضًا: قيل لعلي بن المدينيّ: كيف رواية حنظلة عن سالم؟ فقال: روايته عن سالم وادٍ، وروايةُ موسى بن عقبة عن سالم واد آخر، ورواية الزهريّ عن سالم كأنها أحاديث نافع، فقيل لعلي: هذا يدل على أن سالمًا كثير الحديث؟ قال: أجل. وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله
أحاديث. وقال ابن المدينيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال اسم أبي سفيان الأسود، وهو الذي يَرْوِي عنه محمد بن فضيل، ويقول: حدثنا حنظلة بن الأسود، وذكره ابن عدي في "الكامل"، وأورد له حديثًا استنكره، لَعَلَّ العلة فيه من غيره.
قال أحمد عن يحيى بن سعيد: كان حَيًّا سنة (151)، وقال البخاريّ: قال يحيى بن سعيد: مات فيها.
أخرج له الجماعة، سوى البخاريّ، وأبي داود، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
2 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ) بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مَخْزُوم القرشيّ المخزوميّ المكيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الطُّفيل، ومالك بن أوس بن الْحَدَثان، وسعيد بن جبير، وجماعة.
وَرَوَى عنه أيوب، وابن جريج، وعبد الله بن طاوس، وعبد الله بن عطاء المكيّ، وحنظلة بن أبي سفيان، وعباد بن منصور، وقتادة، وابن إسحاق، وعطاء بن عجلان، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. ووَثَّقَه البخاريّ فيما ذكر أبو الحسن بن القطان. وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: لم يسمع من ابن عباس. وقال أبو زرعة: عكرمة بن خالد عن عثمان مرسلٌ .. وقال ابن أبي حاتم: قال أحمد بن حنبل: لم يسمع من عمر، وسمع من ابنه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد عطاء بن أبي رباح.
أخرج له الجماعة، سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا (16) وحديث (2645): "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة
…
" الحديث، والباقون تقدّموا قبل حديثين.
وقوله: "أن رجلًا قال لعبد الله بن عمر إلخ"، تقدّم أن اسم هذا الرجل يزيد بن بشر السكسكيّ، كما ذكر الخطيب في "مبهماته".
وقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله"، اقتصاره في هذه الرواية على إحدى
الشهادتين، فهو إما تقصير من الراوي في حذف الشهادة الأخرى التي أثبتها غيره من الحفاظ، وإما أن يكون وقعت الرواية من أصلها هكذا، ويكون من الحذف للاكتفاء بأحد القرينتين، ودلالته على الآخر المحذوف. قاله النوويّ
(1)
.
وقوله: "ألا تغزو": فهو بالتاء المثناة من فوقُ للخطاب، ويجوز أن يُكتَبَ "تغزوا"، بالألف وبحذفها، فالأول قول الْكُتَّاب المتقدمين، والثاني قول بعض المتأخرين، وهو الأصح، حكاهما ابن. قتيبة في "أدب الكاتب".
وأما جواب ابن عمر رضي الله عنه له بحديثِ "بُنِي الإسلام على خمس"، فالظاهر أن معناه ليس الغزو بلازم على الأعيان، فإن الإسلام بُنِي على خمس، ليس الغزو منها، قاله النوويّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(6) - (بَابُ الأَمْرِ بِالإِيمَانِ بِالله تَعَالَى، وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَائِعِ الدِّين، وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[123]
(17) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ.
(ح) وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا هَذَا الْحَيَّ، مِنْ رَبِيْعَةَ، وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلَّا في شَهْرِ الْحَرَام، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِه، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ:"آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَع: الْإِيمَانِ باللهِ"، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ، فَقَالَ: "شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاة، وَإِيتَاءِ
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 179.
الزَّكَاة، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، وَالْمُقَيَّرِ - زَادَ خَلَفٌ فِي رِوَايَتِهِ - شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ"، وَعَقَدَ وَاحِدَةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) بن ثَعْلب - بالمثلّثة، والمهملة - ويقال: طالب بن غُرَاب الْبَزّار - بالراء آخرَهُ - المقرئ البغداديّ، ثقة [10].
روى عن مالك، وحماد بن زيد، وهشيم، وأبي الأحوص، وأبي شهاب، وأبي عوانة، والدّرَاوَرْديّ، وجماعة.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وابن أبي خيثمة، وإبراهيم الحربيّ، وعباس الدُّوريّ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، وغيرهم.
قال اللالكائيّ: سئل عباس الدُّوريّ عن حكاية عن أحمد بن حنبل في خَلَف بن هشام، فقال: لم أسمعها، ولكن حدّثني أصحابنا أنهم ذكروه عند أحمد، فقيل: إنه يشرب، فقال: قد انتهى إلينا علم هذا، ولكنه والله عندنا الثقة الأمين، وقال عباس: ووَجَّهني خلف إلى يحيى، فقال: كانت عندي كتب حماد بن زيد، فحدثت بها، وبَقِيَ عندي رِقَاع بعضها دارس، فاجتمعت عليه أنا وأصحابنا، فاستخرجناها، فهل ترى أن أحدث بها؟ قال لي: قل له حدث بها يا أبا محمد، فإنك الصدوق الثقة، وقال النسائيّ: بغدادي ثقة، وقال الدارقطنيّ: كان عابدًا فاضلًا، قال: أعدت صلاة أربعين سنةً، كنت أتناول فيها الشراب على مذهب الكوفيين، وحكى الخطيب في "تاريخه" عن محمد بن حاتم الكنديّ، قال: سألت يحيى بن معين عن خَلَف البزار؟ فقال: لم يكن يَدْرِي أَيْشٍ الحديثُ؟ قال الخطيب: أحسبه سأله عن حفاظ الحديث وثقاته، فأجابه بهذا، والمحفوظ عن يحيى توثيق خلف، وقال أبو عمرو الدانيّ: قرأ القرآن عن سُلَيم، وأَخَذَ حرف نافع عن إسحاق المسيَّبِيّ، وحرف عاصم عن يحيى بن آدم، وهو إمام في القراءات، وله اختيار حُمِلَ عنه، مُتَقَدِّم في رواية الحديث، صاحب سنة، ثقة مأمون.
قال موسى بن هارون، وغير واحد: مات في سنة (229) في جمادى
الآخرة، وكذا قال ابن حبان، وزاد: وكان خيرًا فاضلًا عالِمًا بالقراءات، كتب عنه أحمد بن حنبل.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب (30) حديثًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثَبْتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) 3/ 26.
3 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقة ثبتٌ إمام [10](ت 226)(خ م ت س) 2/ 9.
4 -
(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ) بن حبيب بن الْمُهَلَّب بن أبي صُفْرة الأزديّ الْعَتَكيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [7].
روى عن عاصم الأحول، وأبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعيّ، وهشام بن عروة، وعبد الله وعبيد الله ابني عمر بن حفص، وعوف الأعرابيّ، ومجالد، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ويونس بن خباب، وواصل مولى أبي عُيينة، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ويحيى بن يحيى، وإبراهيم بن زياد سَبَلان، ومسدد، ومحمد بن عيسى بن الطَّبّاع النيسابوري، وموسى بن إسماعيل، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: ليس به بأسٌ، وكان رجلًا عاقلًا أديبًا، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: عباد بن عباد، وعباد بن العوّام جميعًا ثقة، وعباد بن عباد أوثقهما، وأكثرهما حديثًا، وقال يعقوب بن شيبة، وأبو داود، والنسائيّ، وابن خِرَاش: ثقة، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوقٌ، لا بأس به، قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: لا، وقال الترمذيّ، عن قتيبة: ما رأيت مثل هؤلاء الفقهاء الأشراف: مالكًا، والليث، وعبد الوهاب الثقفيّ، وعباد بن عباد، كنا نرضى أن نرجع من عند عباد كل يوم بحديثين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقة العجليّ، والعقيليّ، وأبو أحمد المروزيّ، وابن قتيبة.
قال الحافظ: وأورد ابن الجوزي في "الموضوعات" حديث أنس: "إذا بلغ العبد أربعين سنة
…
" من طريق عباد هذا، فنسبه إلى الوضع، وأفحش
القول فيه، فَوَهِمَ وَهَمًا شنيعًا، فإنه التبس عليه بِرَاو آخر، وقد تعقبتُ كلامه في "الخصال المكفرة" انتهى
(1)
.
وقال ابن سعد: كان ثقةً، وربما غَلِطَ، وقال في موضع آخر: كان معروفًا بالطلب، حسن الهيئة، ولم يكن بالقويّ في الحديث، وتُوُفّي سنة إحدى وثمانين ومائة، وزاد أبو جعفر بن جرير الطبريّ: في رجب، قال: وكان ثقةً، غير أنه كان يَغْلَط أحيانًا، وقال البخاريّ: قال سليمان بن حرب: مات قبل حماد بن زيد بستة أشهر، وقال إبراهيم بن زياد سَبَلان: مات سنة (180)، قال البخاريّ: وهذا أشبه.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (17) و (663) و (1211) و (1231) و (1476) و (2132) و (2192) و (2673).
5 -
(أَبُو جَمْرَةَ) - بالجيم - هو: نصر بن عمران بن عِصَام، وقيل: ابن عاصم بن واسع، الضُّبَعيُّ - بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها مهملة - البصريُّ، نزيل خُرَاسان، مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [3].
روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وجُويرية بن قُدامة، وأنس بن مالك، وزَهْدَم الجرمي، وأبي بكر بن أبي موسى الأشعريّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه علقمة، وأبو التَّيّاح، والمثنى بن سعيد الْقَسّام، ومُرّة بن خالد، وشعبة، وإبراهيم بن طَهْمان، والحمادان، وعمران القطان، وهمام بن يحيى، وعباد بن عباد المهلبيّ، وأبو عوانة، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وكذا قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين، وقال الآجريّ، عن أبي داود: روى أبو عوانة، عن أبي حَمْزَة القَصّاب ستين حديثًا، وروى عن أبي جَمْرة حديثًا، واحدًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مسلم بن الحجاج: كان مقيمًا بنيسابور، ثم خرج إلى مرو، ثم إلى سَرَخْس، فمات بها، وقال الحاكم: كان ورد خراسان مع سعيد بن عثمان، ثم وردها مع يزيد بن المهلب، وله ذكر في الفتوح، ثم أقام بسرخس، وتُوفي بها، وقال عمرو بن عليّ: مات قبل أبي التياح بقليل، ومات أبو التياح
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 278.
سنة ثمان وعشرين ومائة، وفيها أرَّخه الترمذيّ، وقال: إنهما ماتا في يوم واحد، وقال خليفة بن خياط، والبخاريّ: مات في ولاية يوسف بن عمر على العراق، وكان عَزْلُ يوسف سنة أربع وعشرين، وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقةٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (17) كرّره ثلاث مرات، (635) و (764) و (967) و (1242) و (2351) و (2474) و (2535).
[تنبيه]: "الضُّبعيّ" - بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، من بني ضُبَيعة - بضم أوله، مُصَغَّرًا - وهم بطن من عبد القيس، كما جزم به الرشاطيّ، وفي بكر بن وائل بطن يقال لهم: بنو ضُبَيعة أيضًا، وقد وَهِمَ من نَسَبَ أبا جمرة إليهم، من شُرّاح البخاريّ، فقد روى الطبرانيّ، وابن منده في ترجمة نوح بن مَخْلَد، جَدِّ أبي جمرة أنه قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:"ممن أنت؟ " قال: من ضُبَيعةِ ربيعةَ، فقال:"خيرُ ربيعة عبد القيس، ثم الحي الذين أنت منهم"، قاله في "الفتح"
(1)
.
6 -
(ابن عبّاس) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقال له: الْحَبْر والْبَحْر؛ لكثرة علمه.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وأمه أم الفضل، وأخيه الفضل، وخالته ميمونة، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وتميم الداري، وخالد بن الوليد، وهو ابن خالته، وأسامة بن زيد، وجماعة.
وروى عنه ابناه: علي ومحمد، وابن ابنه محمد بن علي، وأخوه كَثِير بن العباس، وابن أخيه عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وابن أخيه الآخر، عبد الله بن معبد بن عباس، ومن الصحابة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وثعلبة بن الحكم الليثي، والمسور بن مخرمة، وأبو الطفيل، وغيرهم من الصحابة، وخلق كثير من التابعين.
دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين، وقال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن
(1)
"الفتح" 1/ 158.
ابن عباس. وقال ابن مسعود أيضًا: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحد. وَرَوَى ابن أبي خيثمة بسند فيه جابر الجعفي أن ابن عمر كان يقول: ابنُ عباس أعلم أمة محمد بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وروى ابن سعد بسند صحيح أن أبا هريرة قال - لما مات زيد بن ثابت -: مات اليوم حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت مثل ابن عباس قط.
وقال يزيد بن الأصمّ: خرج معاوية حاجًّا، وخرج ابن عباس حاجًّا، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس ممن يطلب العلم موكب. وقالت عائشة: هو أعلم الناس بالحج. وروى الزبير بن بكار في كتاب "الأنساب" بسند له فيه ضعف عن ابن عمر قال: كان عمر يدعو ابن عباس، ويُقَرِّبه، ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يومًا، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال:"اللهم فَقِّهه في الدين، وعلمه التأويل". ورَوَى أحمد هذا المتن بسند لا بأس به، من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، وبعضه في "الصحيح". ورواه الطبرانيّ بمعناه من طريق ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس نحوه. وعند أبي نعيم بسند له عن عبد الله بن بُريدة، عن ابن عباس قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل، فقال له جبريل: إنه كائن حبرَ هذه الأمة، فاستوصِ به خيرًا.
[فائدة]: رُوي عن غُندَر أن ابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة أحاديث. وعن يحيى القطان: عشرة. وقال الغزالي في "المستصفى" أربعة: وكلُّ هذا فيه نظر، ففي "الصحيحين" عن ابن عباس مما صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة، وفيهما مما شَهِدَ فعله نحوُ ذلك، وفيهما مما له حُكمُ الصريح نحوُ ذلك، فضلًا عما ليس في "الصحيحين".
قال السخاويّ رحمه الله تعالى: وقد اعتنى شيخنا - يعني الحافظ ابن حجر - بجمع الصحيح والحسن فقط مما صرّح فيه ابن عباس بالسماع، فزاد على الأربعين، سوى ما هو في حكم السماع، كحكاية حضور شيء فُعِل بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "فتح المغيث شرح ألفيّة الحديث" 1/ 180 - 181.
ورَوَى سعيد بن جبير عنه قال: قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة. وعنه قال: وأنا خَتِين. وعنه قال: ابن عشر سنين. وعنه قال: وأنا ابن خمس عشرة، وصوَّبه أحمد بن حنبل. وصحح ابنُ عبد البر ما قاله أهل السير أنه كان له عند موت النبي صلى الله عليه وسلم (13) سنة.
وقال أبو نعيم في آخرين: مات سنة ثمان وستين، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة. وكان موته بالطائف. وقيل: مات سنة (69)، وقيل: سنة سبعين.
أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (1696) حديثًا، اتفق الشيخان على (75) حديثًا، وانفرد البخاريّ بـ (28) ومسلم بـ (49) حديثًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنف رحمه الله تعالى، وهو أعلى الأسانيد عنده، كما قدّمناه في "شرح المقدّمة".
2 -
(ومنها): كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وقد تقدّم تمام البحث فيها قريبًا، فلا تَنْسَ.
3 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة إلا شيخيه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والثاني لم يُخرج له أبو داود، وابن ماجه.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخيه أيضًا، فالأول بغداديّ، والثاني نيسابوريّ.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة، وكلها من صيغ الاتصال، على الأصح في "عن" من غير المدلّس إذا ثبت السماع، واكتفى المصنّف بالمعاصرة، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "شرح المقدّمة".
7 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى، وهو الملقّب بالحبر والبحر؛ لسعة علمه، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالطائف.
8 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: إن قوله في الرواية الثانية: أخبرنا عباد بن عباد، عن أبي جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قد يَتَوَهَّم من لا يُعَاني هذا الفن أنّ هذا تطويل لا حاجة إليه، وأنه خلاف عادته، وعادة الحفاظ، فإن عادتهم في مثل هذا أن يقولوا:"عن حماد، وعباد، عن أبي جمرة، عن ابن عباس"، وهذا التوهم يَدُلُّ على شدة غباوة صاحبه، وعدم مؤانسته بشيء من هذا الفن، فإن ذلك إنما يفعلونه فيما استوى فيه لفظ الرواة، وهنا اختلف لفظهم، ففي رواية حماد:"عن أبي جمرة، سمعت ابن عباس"، وفي رواية عباد:"عن أبي جمرة، عن ابن عباس".
قال: وهذا التنبيه الذي ذكرته ينبغي أن يُتَفَطَّن لمثله، وقد نبهت على مثله بأبسط من هذه العبارة في الحديث الأول من "كتاب الإيمان"، ونبهت عليه أيضًا في الفصول، وسأنبه على مواضع منه أيضًا مفرقة في مواضع من الكتاب - إن شاء الله تعالى -.
والمقصود أن تُعْرَف هذه الدقيقة، وَيتَيَقَّظ الطالبُ لِمَا جاء منها، فيعرفَه، وإن لم أنُصَّ عليه اتّكالًا على فهمه بما تكرر التنبيه به.
ولْيَسْتَدِلَّ أيضًا بذلك على عظم إتقان مسلم رحمه الله تعالى، وجلالته، وورعه، ودِقَّة نظره، وحِذْقِه، والله تعالى أعلم، انتهى
(1)
.
9 -
(ومنها): أن أبا جمرة بالجيم والراء، قال صاحب "المطالع": ليس في "الصحيحين"، و"الموطإ" أبو جمرة، ولا جَمْرَة بالجيم، إلا هو، وقد ذكر الحاكم أبو أحمد الحافظ الكبير، شيخ الحاكم أبي عبد الله في كتاب "الأسماء والكنى" أبا جمرة نصر بن عمران هذا في الأفراد، فليس عنده في المحدثين من يُكنى أبا جمرة بالجيم سواه، وفيه أبو حمزة - بالحاء والزاي - ويروي عن ابن عباس حديثًا واحدًا، وذكر فيه معاويةَ بن أبي سفيان، وإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه ابن عباس، وتأخره واعتذاره، رواه مسلم في "الصحيح"
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 1/ 180.
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"، فقال:
2604 -
حدثنا محمد بن المثنى العنزي (ح) وحدثنا ابن بشار، واللفظ لابن المثنى=
وحَكَى الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في كتابه "علوم الحديث"، والقطعة التي شرحها في أول مسلم، عن بعض الحفاظ أنه قال: إن شعبة بن الحجاج، رَوَى عن سبعة رجال، يَرْوُون كلُّهم عن ابن عباس، كلُّهم يقال له: أبو حَمْزَة - بالحاء والزاي - إلا أبا جمرة، نصر بن عمران - فبالجيم والراء - قال: والفرق بينهم يُدرَك بأن شعبة إذا أَطْلَق، وقال:"عن أبي جمرة، عن ابن عباس" فهو بالجيم، وهو نصر بن عمران، وإذا رَوَى عن غيره ممن هو بالحاء والزاي، فهو يذكر اسمه أو نسبه، والله تعالى أعلم، انتهى.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى: وربّما أطلق غيره أيضًا، مثاله ما روى أحمد في "مسنده": ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي حمزة، سمعت ابن عبّاس يقول: "مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، فاختبأتُ منه خلفَ باب
…
" الحديث، فهذا شعبة قد أطلق الرواية عن أبي حمزة، وليس هو نصرَ بنَ عمران، إنما هو بالحاء المهملة والزاي القصّاب، واسمه عمران بن أبي عطاء، كما بيّنه مسلم في روايته
(1)
.
وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، فقال:
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ يَرْوِي شُعْبَةُ
…
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزَايٍ عِدَّةُ
إِلَّا أَبَا جَمْرَةَ فَهْوَ بِالرَّا
…
وَهْوَ الَّذِي يُطْلَقُ يُدْعَى نَصْرَا
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) - بالجيم والراء - نصر بن عمران، كما تقدم (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ) سبب قول ابن عباس رضي الله عنه هذا أن امرأةً جاءته تسأله عن
= قالا: حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة، عن أبي حمزة القصاب، عن ابن عباس، قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف باب، قال: فجاء، فحطأني حطأة، وقال:"اذهب، وادع لي معاوية"، قال: فجئت، فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: "اذهب، فادع لي معاوية"، قال: فجئت، فقلت: هو يأكل، فقال:"لا أشبع الله بطنه". و"الْحَطْأَة": الضرب بالكفّ.
(1)
راجع "تدريب الراوي" 2/ 327.
نبيذ الجرّ، كما سيأتي في الحديث التالي: - إن شاء الله تعالى - (قَدِمَ) - بكسر الدال - يقال: قَدِمَ الرجل البلد يَقْدَمُهُ، من باب تَعِبَ، قُدُومًا، ومَقْدَمًا بفتح الميم والدال، قاله في "المصباح"
(1)
، وفي "القاموس": وقَدِمَ من سَفَرِه، كعَلِمَ قُدُومًا وقِدْمَانًا بالكسر: آب، فهو قادم، انتهى
(2)
.
(وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ)"الْوَفد" بفتح، فسكون: جمع وافد، قال الفيّوميّ: وَفَدَ على القوم وَفْدًا، من باب وَعَدَ، ووُفُودًا، فهو وافدٌ، وقد يُجمَعُ على وُفَّاد، ووُفَّدٍ، وعلى وَفْدٍ، مثلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ، انتهى
(3)
.
وقال ابن سيده: يقال: وَفَدَ عليه، وإليه وَفْدًا ووُفُودًا، ووِفَادةً وإِفَادَةً على البدل: قَدِمَ عليه، وهم الوَفْدُ، والوُفُودُ، فأما الوَفْدُ فاسم جمع، وقيل: جمع، وأما الوُفُودُ فجمع وافدٍ، وقد أوفده إليه.
وفي "الجامع" للقزّاز: وَفَدَ القومُ يَفِدُون، وأوفدتهم أنا أيضًا، وواحد الوفد وافدٌ.
وفي "الصحاح": وَفَدَ فلانٌ على الأمير رسولًا، والجمع وَفْدٌ، وجمع الوافد أَوفَادٌ، والاسم الوفادة، وأوفدته أنا إلى الأمير: أي أرسلته.
وفي "المغيث": الوَفْدُ قوم يجتمعون، فيَرِدون البلادَ، وكذا ذكره الفارسيّ في "مجمع الغرائب".
وقال صاحب "التحرير": "الوَفْدُ": الجماعة المختارة من القوم؛ ليتقدّموهم إلى لُقِيّ العظماء، والمصير إليهم في المهمات، واحدهم وَافِدٌ.
وقال القاضي: هم القوم يأتون الملك ركابًا، ويؤيّده ما ذكره ابن عبّاس فسّر قوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]، قال: رُكبانًا.
و"عبد القيس": أبو قبيلة، وهو ابن أفصى - بفتح الهمزة، وسكون الفاء، والصاد المهملة المفتوحة - ابن دُعْميّ - بضم الدال المهملة، وسكون العين المهملة، وبياء النسبة - ابن جَدِيلة - بفتح الجيم - ابن أسد بن ربيعة بن نِزَار، كانوا ينزلون البحرين، وحوالي القطيف والأحساء، وما بين هَجَر إلى الديار المصريّة
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 493.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1034.
(3)
"المصباح" 2/ 666.
(4)
راجع "عمدة القاري" 1/ 304.
(عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "قَدِمَ"، قال صاحب "التحرير": وَفْدُ عبد القيس هؤلاء تقدَّموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أربعة عشر راكبًا الأشجّ الْعَصَريّ
(1)
رئيسهم، ومَزْيَدَة بن مالك المحاربيّ، وعبيدة بن همام المحاربيّ، وصُحَار بن العباس
(2)
الْمُرّيّ، وعمرو بن مَرْجوم
(3)
الْعَصريّ، والحارث بن شُعيب الْعَصَريّ، والحارث بن جُنْدَب، من بني عايش، ولم نَعْثُر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء وتعقّب صاحب "الفتح" قوله: ولم نعثر بعد طول التتبع إلخ فقال:
قد ذكر ابنُ سعد منهم عُقبة بن جروة، وفي "سنن أبي داود" قيس بن النعمان الْعَبْديّ، وذكره الخطيب أيضًا في "المبهمات"، وفي "مسند البزار"، وتاريخ ابن أبي خيثمة": الجهم بن قُثَم، ووقع ذكره في "صحيح مسلم" أيضًا، لكن لم يُسَمِّه، وفي "مسندي أحمد، وابن أبي شيبة": الرستم العبديّ، وفي "المعرفة" لأبي نعيم: جُويرية العبديّ، وفي "الأدب" للبخاريّ: الزارع بن عامر العبديّ.
قال: فهؤلاء الستة الباقون من العدد، وما ذَكَرَ من أن الوَفْد كانوا أربعة عشر راكبًا، لم يذكر دليله.
وفي "المعرفة" لابن منده، من طريق هُود العَصَريّ، عن جده لأمه،
(1)
واسمه المنذر بن عائذ - بالذال المعجمة - ابن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن عَصَر، كذا نسبه أبو عمر، وقال ابن الكلبيّ: المنذر بن عوف بن عمرو بن زياد بن عَصَر، وكان سيّد قومه، و"عَصَر" - بفتح العين والصاد المهملتين - ابن عوف بن عمرو بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لُكَيز - بضمّ اللام، وفي آخره زاي معجمة - ابن أفصى - بالفاء - ابن عبد القيس بن دُعْمِيّ بن جَدِيلة بن أسد بن ربيعة بن نِزَار، وإنما قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: الأشجّ لأثر كان في وجهه. انتهى "عمدة القاري" 1/ 308.
(2)
بضم الصاد، وتخفيف الحاء، وفي آخره راء، وكلها مهملات.
(3)
بالجيم، واسم المرجوم: عامر بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن قيس بن شهاب بن زيد بن عبد الله بن زياد بن عَصَر، كان من أشراف العرب، وساداتها. انتهى "عمدة القاري" 1/ 308.
مزيدة، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، إذ قال لهم:"سيطلُع لكم من هذا الوجه رَكْبٌ، هم خير أهل المشرق"، فقام عمر، فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فرَحَّب، وقرب، وقال: من القوم؟ قالوا: وفد عبد القيس.
فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب، أو مُرتدفًا.
وأما ما رواه الدُّولابيّ وغيره من طريق أبي خَيْرَة - بفتح الخاء المعجمة، وسكون المثنّاة التحتانية، وبعد الراء هاء - الصُّبَاحيِّ وهو - بضم الصاد المهملة، بعدها موحدة خفيفة، وبعد الألف حاء مهملة - نسبة إلى صُبَاح بطن من عبد القيس، قال: كنت في الوفد الذين أَتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلًا، فنهانا عن الدباء، والنقير
…
الحديث.
فيمكن أن يُجْمَع بينه وبين الرواية الأخرى بأن الثلاثة عشر، كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانًا، وكان الباقون أتباعًا.
وقد وقع في جملة الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة على من سميته هنا، منهم: أخو الزارع، واسمه مطر، وابن أخته، ولم يُسَمَّ، وروى ذلك البغويّ في "معجمه"، ومنهم: مشمرج السعديّ، رَوَى حديثه ابن السكن، وأنه قَدِمَ مع وفد عبد القيس، ومنهم جابر بن الحارث، وخُزيمة بن عبد بن عمرو، وهمام بن ربيعة، وجارية - أوله جيم - ابن جابر ذكرهم ابن شاهين في "معجمه"، ومنهم نوح بن مَخْلَد، جَدُّ أبي جمرة، وكذا أبو خَيْرة الصُّبَاحيّ، كما تقدم.
قال الحافظ: وإنما أطلت في هذا الفصل؛ لقول صاحب "التحرير": إنه لم يَظْفَر بعد طول التتبع إلا بما ذكرهم، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: اعترض العينّي على الحافظ في الجمع المذكور، مع أنه سبق له قوله: لم يذكر دليله، ونصّ عبارة العينيّ بعد ذكره الجوابين: هذا عجيب منه؛ لأنه لم يسلّم التنصيص على العدد المذكور، فكيف يوفق بينه وبين ثلاثة عشر، وأربعين؟
قال الجامع: يجاب عن الحافظ بأن جمعه المذكور على تقدير صحة ذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 1/ 158 - 159.
قال العينيّ رحمه الله تعالى: ومن الذين كانوا في الوفد الأعور بن مالك بن عمر بن عوف بن عامر بن ذُبيان بن الديل بن صباح، وكان من أشراف عبد القيس، وشُجعانهم في الجاهلية، قال أبو عمرو الشيبانيّ: وكان ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأشجّ، ذكره الرشاطي، ومنهم القائف وإياس ابنا عيسى بن أميّة بن ربيعة بن عامر بن ذُبيان بن الديل بن صباح، وكانا من سادات بني صُباح، ومنهم شريك بن عبد الرحمن، والحارث بن عيسى، وعبد الله بن قيس، والزارع بن عامر، وعيسى بن عبد الله كانوا مع الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأشجّ، ذكرهم كلهم أبو عبيدة، ومنهم ربيعة بن خِرَاش، ذكره المدائنيّ، وقال: إنه وفد، ومنهم مُحارب بن مرثد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد القيس، ذكره ابن الكلبيّ، ومنهم عباد بن نوفل بن خداش، وابنه عبد الرحمن بن عباد، وعبد الرحمن بن حيّان، وأخوه الحكم بن حيّان، وعبد الرحمن بن أرقم، وفضالة بن سعد، وحسّان بن زيد، وعبد الله بن همام، وسعد بن عمر، وعبد الرحمن بن همام، وحكيم بن عامر، وأبو عمرو بن شييم كلهم وفدوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا من سادات عبد القيس وأشرافها وفرسانها، ذكرهم أبو عبيدة.
فهؤلاء اثنان وعشرون رجلًا زيادة على ما ذكره هذا القائل
(1)
، فجملة الجميع تكون خمسة وأربعين نفسًا، فعلمنا أن التنصيص على عدد معيّن لم يصحّ، ولهذا لم يُخرجه البخاريّ ومسلم بالعدد المعيّن، انتهى كلام العينيّ رحمه الله تعالى
(2)
.
[تنبيه]: سبب قدوم وَفْد عبد القيس على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ مُنقِذ بن حَبّان أحد بني غَنْم بن وَدِيعة كان مَتْجَرُه إلى يثرب في الجاهلية، فشَخَصَ إلى يثرب بِمَلاحِفَ وتَمْر من هَجَر، بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينا منقذُ بن حبّان قاعدٌ إذ مَرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنَهَضَ منقذ إليه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أمنقذُ بن حبّان؟ كيف جميع هيئتك وقومك؟ ثم سأله عن أشرافهم، رجلٍ رجلٍ، يُسَمِّيهم بأسمائهم، فأسلم منقذٌ، وتَعَلَّم "سورة الفاتحة"، و"اقرأ باسم ربك"، ثم رَحَلَ قِبَلَ هَجَر، فكتب
(1)
يريد الحافظ ابن حجر.
(2)
راجع "عمدة القاري" 1/ 309.
النبيّ صلى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابًا، فذَهَب به، وكَتَمَه أيامًا، ثم اطَّلَعت عليه امرأته، وهي بنت المنذر بن عائذ - بالذال المعجمة - ابن الحارث، والمنذر هو الأشجّ، سَمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ لأثر كان في وجهه، وكان منقذ ل رضي الله عنه يصلي، ويقرأ، فنَكِرَت امرأته ذلك، فذكرته لأبيها المنذر، فقالت: أنكرت بَعْلي منذ قَدِمَ من يثرب، إنه يغسل أطرافه، ويستقبل الجهة - تعني القبلة - فيَحنِي ظهره مرّةً، ويضع جَبِينه مرةً، ذلك دَيْدَنه منذ قَدِمَ، فتلاقيا، فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، ثم ثار الأشجّ إلى قومه عَصَرَ ومُحَارِب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه عليهم، فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار الوَفْدُ، فلما دَنَوْا من المدينة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجلسائه:"أتاكم وَفْدُ عبد القيس خير أهل المشرق، وفيهم الأشجّ العصَريّ، غير ناكثين، ولا مُبَدِّلين، ولا مُرْتابين؛ إذ لم يُسْلِم قوم حتى وُتِرُوا"، نقله النوويّ عن صاحب "التحرير"
(1)
.
(فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا) هي "إنّ" واسمها ضمير المتكلمين، وأصلها: إنّنا، فحذفت النون الثانية من "إنّ" تخفيفًا؛ لتوالي الأمثال، ثم أدغمت في "نا"، وقوله:(هَذَا الْحَيَّ) اسم الإشارة في محلّ نصب على الاختصاص، أي نخصّ هذا، والاختصاص مثلُ النداء، كما قال في "الخلاصة":
الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"
…
كَـ"أَيُّهَا الْفَتَى "بإِثْرِ "ارْجُونِيَا"
وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيِّ" تِلْوَ "أَلْ"
…
كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أًسْخَى مَنْ بَذَلْ"
وقوله: "الحيّ" نعت له، أو بدل، أو عطف بيان، على ما قيل:
مُعَرَّفٌ بَعْدَ إِشَارَةٍ بـ "أَلْ"
…
يُعْرَب نَعْتًا أَوْ بَيَانًا أَوْ بَدَلْ
وأما قول ابن الصلاح
(2)
إن لفظ "الحيّ" منصوب على الاختصاص، ففيه تجوّز؛ لأن هذا الإعراب لاسم الإشارة، وأما لفظ "الحيّ" فتابع له، كما قررناه آنفًا، فتفطّن.
[تنبيه]: "الْحيّ" قال ابن سيده: إنه بطن من بطون العرب، وفي "المطالع": هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سُمّيت القبيلة به، وذكر الجواني في
(1)
راجع "شرح النوويّ" 1/ 181.
(2)
"الصيانة" ص 148.
"الفاصلة": أن العرب على طبقات عشر أعلاها الْجِذْم، ثم الْجُمهور، ثم الشُّعُوب، واحدها شَعْب، ثم القبيلة، ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرَّهْط، وقال الكلبيّ: أول العرب شُعُوب، ثم قبائل، ثم عمائر، ثم بُطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر، وقَدَّم الأزهريّ العشائر على الفصائل، قال: وهم الأحياء، وقال ابن دُريد: الشِّعْب: الحيّ العظيم من الناس.
و"الْجِذْم - بكسر الجيم، وسكون الذال المعجمة: أصل الشيء، و"الشَّعْب" بالفتح: ما تشعّب من قبائل العرب والعجم، و"العِمَارة" - بكسر العين، وتخفيف الميم، وجوّز الخليل فتح عينها، قال في "الْعُباب": وهي القبيلة، والعشيرة، وقيل: هي الحيّ العظيم ينفرد بظعنه، ذكره العينيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقد نظمت ما سبق بقولي:
اعْلَمْ بِأَنَّ الْعُرْبَ فِي الأَنْسَابِ قَدْ
…
انْقَسَمَتْ عَشَرَةً فَخُذْ تُفَدْ
جِذْمٌ فَجُمْهُورٌ فَشَعْبٌ فَقَبِيلْ
…
عِمَارَةٌ بَطْنٌ فَفَخْذٌ يَا نَبِيلْ
عَشِيرَةٌ فَصِيلَةٌ رَهْطٌ خَتَمْ
…
وَبَعْضهُمْ خِلَافَ هَذَا قَدْ رَسَمْ
و"القَبِيل" لغةٌ في القبيلة.
وقال صاحب "المطالع": "الحيّ": اسم لمنزل القبيلة، ثمّ سُمّيت القبيلة به؛ لأن بعضهم يَحيا ببعض
(2)
.
وقوله: (مِنْ رَبِيعَةَ) خبر "إنّ"، وربيعة: هو ابن نزار بن عدنان، وإنما قالوا ربيعة؛ لأن عبد القيس من أولاده، وذلك لأن عبد القيس هو: ابن أَفْصَى - بفتح الهمزة، وبالفاء والصاد المهملة المفتوحة - ابن دُعْمِيّ بن جَدِيلة بن أسد بن ربيعة بن نِزَار، وكانوا يَنْزِلون البحرين، وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا - كما في رواية شعبة الآتية -:"إنا نأتيك من شُقّة بعيدة"، أي من سفر بعيد
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 305.
(2)
"شرح النوويّ" 1/ 182.
(3)
"شرح النوويّ" 1/ 181 - 182 و"الفتح" 1/ 160.
(وَقَدْ حَالَتْ) أي منعت، يقال: حال النهر بيننا حَيْلُولةً: حَجَزَ، ومنع الاتّصال
(1)
(بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ) بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة، غير منصرف، وهو مُضَر بن نزار بن مَعَدّ بن عبدنان، ويقال له مضر الحمراء، ولأخيه ربيعة الفَرَس؛ لأنهما لَمّا اقتسما الميراث أُعطي مُضَرُ الذهب، وربيعة الخيل، وكُفّار مضر كانوا بين ربيعة والمدينة، ولا يمكنهم الوصول إلى المدينة إلا عليهم، وكانوا يخافون منهم إلا في الأشهر الْحُرُم؛ لامتناعهم من القتال فيها (فَلَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ) بضمّ اللام مضارع خَلَص إلى الشيء خُلُوصًا، من باب قَعَد: إذا وصل إليه، ومعنى كلامهم أنا لا نَقْدِر على الوصول إليك؛ خوفًا من أعدائنا الكفار، إلا في الشهر الحرام، فإنهم لا يتعرضون لنا، كما كانت عادة العرب، من تعظيم الأشهر الْحُرم، وامتناعهم من القتال فيها، وقوله:(إِلَّا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ) كذا هو في الأصول كلها بإضافة "شهر" إلى "الحرام"، وفي الرواية الأخرى:"أشهر الحرم"، والقول فيه كالقول في نظائره، من قولهم:"مسجد الجامع"، و"صلاة الأولى"، ومنه قول الله تعالى:{بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، وقوله:{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109].
فعلى مذهب النحويين الكوفيين هو من إضافة الموصوف إلى صفته، وهو جائز عندهم، وعلى مذهب البصريين لا تجوز هذه الإضافة؛ لأنه يكون من إضافة الشيء إلى نفسه؛ لاتحاد المضاف والمضاف إليه في المعنى، وفائدة الإضافة أن يتعرّف المضاف بالمضاف إليه، أو يتخصّص، ولا يتعرّف الشيء، ولا يتخصّص بنفسه، فما ورد من ذلك، كالأمثلة المذكورة مؤوّلٌ عندهم على حذف في الكلام؛ للعلم به، فتقديره "شهر الوقت الحرام"، و"أشهر الأوقات الْحُرُم"، و"مسجد المكان الجامع"، و"دار الحياة الآخرة"، و"جانب المكان الغربيّ"، ونحو ذلك، وإلى مذهبهم أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ
ثم إن قولهم: "شهر الحرام" المراد به جنس الأشهر الْحُرُم، وهي أربعة أشهر حُرُم، كما نَصَّ عليه القرآن العزيز، وتدل عليه الرواية الأخرى بعد هذه:"إلا في أشهر الحرُم"، قاله النوويّ.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 157.
وقال في "الفتح": المراد بالشهر الحرام الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده روايةُ:"إلا في أشهر الحرم"، وروايةُ:"إلا في كل شهر حرام"، وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية للبيهقيّ التصريح به، وكانت مُضَرُ تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة رضي الله عنه حيث قال:"رجبُ مضر"، كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم، مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسأوها بخلافه.
وفيه دليلٌ على تقدّم إسلام عبد القيس على قبائل مُضَر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين، وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما في رواية شعبة:"إنا نأتيك من شُقّة بعيدة"، قال ابن قتيبة: الشُّقّة: السفرُ، وقال الزجاج: هي الغاية التي تُقْصَد، ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضًا ما رواه البخاريّ في "كتاب الجمعة" من طريق أبي جمرة أيضًا، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"إنّ أوّلَ جمعة جُمِّعَت بعد جمعةٍ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيسِ بِجُوَاثَى من البحرين"، و"جُوَاثَى" بضم الجيم، وبعد الألف مثلثة مفتوحة، وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جَمَّعُوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فَدَلَّ على أنهم سَبَقُوا جميع القرى إلى الإسلام، انتهى
(1)
.
[تنبيه]: الأشهر الحُرُم هي: ذو الْقَعْدَة، وذو الْحِجَّة، والمحرَّم، ورجب، هذه الأربعة هي الأشهر الحرم بإجماع العلماء، من أصحاب الفنون، ولكن اختلفوا في الأدب المستحسن في كيفية عَدِّها على قولين، حكاهما الإمام أبو جعفر النّحّاس في كتابه "صناعة الكتاب"، قال: ذهب الكوفيون إلى أنه يقال: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة، قال: والْكُتّابُ يَمِيلون إلى هذا القول؛ ليأتوا بهن من سنة واحدة، قال: وأهل المدينة يقولون: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وقومٌ ينكرون هذا، ويقولون: جاؤوا بهنّ من سنتين، قال أبو جعفر: وهذا غلط بَيِّنٌ، وجهل باللغة؛ لأنه قد عُلِم المراد، وأن المقصود ذكرها، وأنها في كل سنة، فكيف يُتَوَهَّم أنها من سنتين، قال:
(1)
"الفتح" 1/ 160.
والأَولى والاختيار ما قاله أهل المدينة؛ لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا من رواية ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي بكرة رضي الله عنه، قال: وهذا أيضًا قولُ أكثر أهل التأويل.
قال النَّحَّاس: وأُدخلت الألف واللام في المحرم دون غيره من الشهور، قال: وجاء من الشهور ثلاثة مضافات: شهر رمضان، وشهرا ربيع، يعني والباقي غير مضافات، وسُمِّي الشهر شهرًا، لشهرته وظهوره، والله تعالى أعلم
(1)
.
(فَمُرْنَا) الفاء فصيحيّة، أي فإذا تبيّن لك عذرنا في عدم التردّد إليك كثيرًا، لما ذكرنا، فنطلب منك أمرك لنا إلخ.
"ومُر" بضمّ الميم، فعل أمر من أمر يأمر، من باب نصر، قال الفيّوميّ: إذا أمرت من هذا الفعل، ولم يتقدّمه حرف عطف حذفتَ الهمزة على غير قياس، وقلتَ: مُرْهُ بكذا، ونظيره "كُلْ"، و"خُذْ"، وإن تقدّمه حرف عطف، فالمشهور ردّ الهمزة على القياس، فيقال: وأْمُرْ بكذا، قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية [طه: 132]، ولا يُعرف في "كُلْ"، و"خُذْ" إلا التخفيف مطلقًا، انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الفيومي: "ولا يُعْرَفُ إلخ"، لكن أثبت ذلك غيره بقلة كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله تعالى في "لاميَّته"، فقال:
وَشَذَّ بِالْحَذْفِ "مُرْ" وَ"خُذْ" و"كُلْ " وَفَشَا
…
وَأْمُرْ وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيمُ "خُذْ" وَ"كُلَا"
فقوله: "ومستندر إلخ" أشار به إلى أنه يجوز تتميم "خذ" و"كل " بقلّة، فيقال: وأخذ، وأكل، والله تعالى أعلم.
(بِأَمْرٍ) بفتح الهمزة، وسكون الميم، يحتمل أن يكون واحد الأمور، وأن يكون بمعنى الشأن، قاله الطيبيّ.
وقال الفيّوميّ: "الأمرُ" بمعنى الحال، جمعه أمور، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، و"الأمرُ" بمعنى الطلب، جمعه أوامر؛ فرقًا بينهما، وجمعُ الأمر أوامر هكذا يتكلّم به الناس، ومن الأئمة من يصحّحه، ويقول في
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 1/ 182 - 183.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 21.
تأويله: إن الأمر مأمور به، ثم حُوّل المفعول إلى فاعل، كما قيل: أمر عارفٌ، وأصله معروفٌ، وعيشةٌ راضيةٌ، والأصلُ مرضيّةٌ، إلى غير ذلك، ثم جُمِعَ على فواعل، انتهى
(1)
.
(نَعْمَلُ بِهِ) بالرفع، والجملة في محلّ جرّ صفة لـ"أمرٍ"، ويحتمل جزمه على أنه جواب الأمر (وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا)"مَنْ" بفتح الميم موصولة في محلّ نصب مفعول "ندعو"، ولا يثبُتُ كسر ميمها على أنها جارّة، و"وراءنا" منصوب على الظرفيّة صلة "مَنْ"، وهو من الأضداد، يأتي بمعنى "خَلْف"، وبمعنى "قُدّام"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ) أي بأربع خصال، أو بأربع جُمَل (وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أي عن الانتباذ في أربعة أوعية، فالمنهيّ عنه واحد بالنوع، وهو الانتباذ، ثم إنه تعدّد بحسب الأوعية الأربع الآتي ذكرها (الْإِيمَانِ بِاللهِ) بالجرّ بدل من "أربع"، بدل تفصيل من مجمل، أو عطف بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي أحدها الإيمان، والنصب على أنه مفعول لفعل مقدّر، أي أعني الإيمانَ (ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ) أنّث الضمير مع أن الإيمان مذكّر باعتبار أنه أربع خصال (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِله إِلَّا اللهُ) بجرّ "شهادة" على أنه بدل من "الإيمان"، أو عطف بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفع والنصب، كسابقه (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) إعرابه كسابقه، وإقامتها أداؤها بمراعاة أركانها، وواجباتها، وسننها (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي إعطاء القدر المستحقّ لمستحقّها (وَأَنْ تُؤَدُّوا) أي تعطوا (خُمُسَ) بضمتين، ويجوز إسكان ميمه، ويقال فيه: خَمِيس أيضًا، وزان كريم.
[فائدة]: يجوز في كلٍّ من الثلث، والربع، والخمس، والسدس، والسبع، والثمن، والتسع، والعشر، ثلاث لغات، الأول: ضم أولها وثانيها، والثاني: تسكين ثانيها، والثالث: فتح أولها، مع كسر الثاني، وزيادةِ ياء بعدها، وزان كَرِيم، فتقول: ثُلُثٌ، وثُلْثٌ، وثَلِيث، ورُبُعٌ، ورُبْعٌ، ورَبِيع، وهكذا.
وأما النصف، فيجوز فيه ثلاث لغات أيضًا، النصف، بكسر أوله،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 21.
وضمه، مع تسكين ثانيه، والثالث النَّصِيفُ وِزان كريم، والله تعالى أعلم.
(مَا غَنِمْتُمْ) بكسر النون، من باب تَعِبَ، قال الفيّوميّ: غَنِمتُ الشيء أغْنَمه، غُنْمًا: أصبتُهُ غَنِيمَةً، ومَغْنَمًا، قال أبو عبيد: الغَنِيمَة: ما نِيلَ من أهل الشرك عَنْوَةً، والحربُ قائمةٌ، والفيء: ما نِيل منهم بعد أن تَضَعَ الحرب أوزارها، انتهى
(1)
.
وفي "القاموس": والْمَغْنم، والغَنِيمُ، والغَنِيمَةُ، والْغُنْمُ بالضمّ: الفيء، غَنِمَ بالكسر غُنْمًا بالضمّ، وبالفتح، وبالتحريك، وغَنِيمةً، وغُنْمانًا بالضمّ، والفوزُ بالشيء بلا مشقّة، أو هذا الْغُنْمُ، والفيء: الغَنِيمة، انتهى
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله"، ثم فَسّرها لهم، فقال:"شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم"، وفي رواية:"شهادة أن لا إله إلا الله"، وعَقَدَ واحدةً، وفي الطريق الأخرى قال: وأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال:"وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمسًا من المغنم"، وفي الرواية الأخرى قال: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم"، هذه ألفاظه هنا.
وقد ذكر البخاريّ هذا الحديث في مواضع كثيرة، من "صحيحه"، وقال فيه في بعضها:"شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له"، ذكره في "باب إجازة خبر الواحد"، وذكره في باب بعد باب نسبة اليمن إلى إسماعيل صلى الله عليه وسلم في آخر ذكر الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وقال فيه: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وإقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان"، بزيادة واو
(3)
، وكذلك قال فيه في أول
(1)
"المصباح المنير" 2/ 454 - 455.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1031.
(3)
سيأتي أن زيادة الواو رواية شاذّة، فتنبّه.
"كتاب الزكاة": "الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله"، بزيادة واو أيضًا، ولم يَذكُر فيها الصيام، وذكر في باب حديث وفد عبد القيس:"الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله".
فهذه ألفاظ هذه القطعة في "الصحيحين"، وهذه ألفاظ مما يُعَدُّ من المشكل، وليست مشكلة عند أصحاب التحقيق، والإشكال في كونه صلى الله عليه وسلم قال:"آمركم بأربع"، والمذكور في أكثر الروايات خمس.
واختلف العلماء في الجواب عن هذا على أقوال:
أظهرها ما قاله الإمام ابن بطال رحمه الله تعالى في "شرح صحيح البخاريّ"، قال: أمرهم بالأربع التي وَعَدَهم بها، ثم زادهم خامسة - يعني أداء الخمس - لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، فكانوا أهل جهاد وغنائم.
وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح نحو هذا، فقال: قوله: "أمرهم بالإيمان بالله" أعاده لذكر الأربع، ووصفِهِ لها بأنها إيمان، ثم فسرها بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، فهذا موافق لحديث:"بُنِي الإسلام على خمس"، ولتفسير الإسلام بخمس، في حديث جبريل عليه السلام، وقد سبق أن ما يُسَمَّى إسلامًا يُسَمَّى إيمانًا، وأن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان، وقد قيل: إنما لم يذكر الحج في هذا الحديث؛ لكونه لم يكن نزل فرضه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن تؤَدُّوا خُمُسًا من المغنم"، فليس عطفًا على قوله:"شهادة أن لا إله إلا الله"، فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسًا، وإنما هو عطف على قوله:"بأربع"، فيكون مضافًا إلى الأربع، لا واحدًا منها، وإن كان واحدًا من مطلق شُعَب الإيمان، قال: وأما عدم ذكر الصوم في الرواية الأولى، فهو إغفال من الَراوي، وليس من الاختلاف الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من اختلاف الرُّواة الصادر من تفاوتهم في الضبط والحفظ، على ما تقدم بيانه، فافهم ذلك، وتدبّره تجده - إن شاء الله تعالى - مما هدانا الله سبحانه وتعالى لحلِّه من الْعُقَد.
قال النووي - بعد نقل كلام ابن بطّال، وابن الصلاح -: وقيل في معناه غير ما قالاه، مما ليس بظاهر، فتركناه.
قال: وأما قول ابن الصلاح: إن ترك الصوم في بعض الروايات إغفال
من الراوي، وكذا قاله القاضي عياض وغيره، وهو ظاهرٌ، لا شكّ فيه، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وكانت وفادة عبد القيس عامَ الفتح قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر، انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" عند قوله: "فأمرهم بأربع" أي: خصالٍ، أو جُمَلٍ؛ لقولهم:"حَدِّثْنَا بِجُمَلٍ من الأمر"، وهي رواية قُرّة عند البخاريّ في "كتاب المغازي".
قال القرطبيّ: قيل: إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركًا بهما، كما قيل في قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وإلى هذا نحا الطيبيّ، فقال: عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبًا لغرض، جعلوا سياقه له، وطَرَحُوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين، مُقِرِّين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما، كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال: فلهذا لم يَعُدَّ الشهادتين في الأوامر.
قيل: ولا يرد على هذا الإتيانُ بحوف العطف، فيحتاج إلى تقدير.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا: إن ذكر الشهادتين وَرَدَ على سبيل التصدير، لكن يُمْكِن أن يُقْرَأَ قوله:"وإقامِ الصلاة" بالخفض، فيكون عطفًا على قوله:"أَمَرَهم بالإيمان"، والتقدير: أمرهم بالإيمان، مُصَدِّرًا به، وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة إلخ، قال: ويؤيد هذا حذفهما في رواية البخاريّ في "الأدب" من طريق أبي التّيّاح، عن أبي جمرة، ولفظُهُ:"أربع، وأربع: أقيموا الصلاة إلخ".
[فإن قيل]: ظاهر ما ترجم به البخاريّ من أَنَّ أداء الخمس من الإيمان، يقتضي إدخاله مع باقي الخصال، في تفسير الإيمان، والتقدير المذكور يخالفه.
[أجاب ابنُ رُشيد]: بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة، وأجيبوا بأشياء، منها أداء
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 183 - 184.
الخُمس، والأعمال التي تُدخل الجنة، هي أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير.
[فإن قيل]: فكيف قال في رواية حماد بن زيد، عن أبي جمرة:"آمركم بأربع: الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله"، وعَقَدَ واحدةً، كذا للبخاريّ في "المغازي"، وله في "فرض الخمس": وعقد بيده، فدل على أن الشهادة إحدى الأربع، وأما ما وقع عنده في "الزكاة" من هذا الوجه من زيادة الواو في قوله:"وشهادة أن لا إله إلا الله"، فهي زيادة شاذة، لم يُتَابعْ عليها حجاجَ بنَ منهال أحدٌ.
ثم ذكر
(1)
الاستشكال المتقدّم فقال: ما حاصله: كيف قال: "أربع"، والمذكورات خمس؟
قال: وقد أجاب عنه القاضي عياض تبعًا لابن بطال، بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان، وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يَلْزَمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها؛ لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين، قال: وكذلك لم يذكر الحج؛ لأنه لم يكن فُرِضَ.
قال: وقال غيره: قوله: "وأن تعطوا" معطوف على قوله: "بأربع"، أي آمركم بأربع، وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع، والإتيان بـ "أن"، والفعل، مع توجه الخطاب إليهم.
وقال ابن التين: لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع.
قلت
(2)
: ويدل على ذلك لفظ رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ في هذه القصة: "أمركم بأربع: اعبُدُوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم".
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ويحتمل أن يقال: إنه عَدَّ الصلاة والزكاة واحدةً؛ لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداءَ الخُمس، أو أنه لم يَعُدَّ أداء الخُمس؛ لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين، في حال دون حال.
(1)
الضمير لصاحب "الفتح".
(2)
القائل صاحب "الفتح".
وقال البيضاويّ: الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأُخَر حذفها الراوي؛ اختصارًا، أو نسيانًا، كذا قال، وما ذَكَرَ أنه الظاهر لعله بحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع؛ لقوله:"وعَقَدَ واحدةً"، وكان القاضي أراد أن يَرْفَعَ الإشكال من كون الإيمان واحدًا، والموعود بذكره أربعًا.
وقد أجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذَكَرَ أنه يأمرهم بها، ثم فَسَّرَها، فهو واحد بالنوع، متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهيّ عنه، وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار، واحد بالنوع، متعدد بحسب أوعيته.
والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير: أن تَتَشَوَّف النفس إلى التفصيل، ثم تسكن إليه، وأن يحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها طالب نفسه بالعدد، فإذا لم يَسْتَوف العدد الذي في حفظه، عَلِمَ أنه قد فاته بعض ما سَمِع.
وما ذكره القاضي عياض من أن السبب في كونه لم يذكر الحجّ في الحديث؛ لأنه لم يكن فُرِضَ هو المعتمد، وقد قَدَّمنا الدليل على قِدَم إسلامهم، لكن جَزْمُ القاضي بأن قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكة، تَبعَ فيه الواقديّ، وليس بجيد؛ لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح، كما سنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى - ولكن القاضي يَخْتَار أن فرض الحج كان سنة تسع؛ حتى لا يَرِدَ على مذهبه أنه على الفور، انتهى.
وقد احتَجَّ الشافعي لكونه على التراخي، بأن فَرْضَ الحج كان بعد الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على الحج في سنة ثمان، وفي سنة تسع، ولم يَحُجَّ إلا في سنة عشر.
وأما قول من قال: إنه تَرَكَ ذكر الحج؛ لكونه على التراخي، فليس بجيد؛ لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به.
وكذا قول من قال: إنما تركه؛ لشهرته عندهم ليس بقويّ؛ لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال: إنما ترك ذكره؛ لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل، من أجل كفار مضر، ليس بمستقيم؛ لأنه لا يلزم
من عدم الاستطاعة في الحال، ترك الإخبار به؛ لِيُعْمَلَ به عند الإمكان، كما في الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة؛ لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذَكَرُوا أنهم كانوا يأمنون فيها.
لكن يمكن أن يقال: إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يُخْبِرَهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يَقْصِد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلًا وتركًا.
ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية، مع أن في المناهي ما هو أشدّ في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها؛ لكثرة تعاطيهم لها.
وأما ما وقع في "كتاب الصيام"، من "السنن الكبرى" للبيهقيّ من طريق أبي قلابة الرَّقَاشِيّ، عن أبي زيد الهرويّ، عن قُرّة، في هذا الحديث، من زيادة ذكر الحج، ولفظه:"وتَحُجُّوا البيت الحرام"، ولم يتعرض لعدد، فهي رواية شاذة.
وقد أخرجه الشيخان، ومن استخرج عليهما، والنسائيّ، وابن خزيمة، وابن حبان، من طريق قُرّة، لم يذكر أحدٌ منهم الحج، وأبو قلابة تغير حفظه في آخر أمره، فلعل هذا مما حَدَّث به في التغير.
وهذا بالنسبة لرواية أبي جمرة، وقد ورد ذكر الحج أيضًا في "مسند الإمام أحمد" من رواية أبان العطار، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، وعن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة وفد عبد القيس.
وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظًا، فيجمع في الجواب عنه بين الجوابين المتقدمين، فيقال: المراد بالأربع ما عدا الشهادتين، وأداء الخمس، انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
(وأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ) بضم الدال المهملة، وتشديد الموحّدة، والمدّ، وحَكَى الْقَزّاز فيه القصر: هو القرع اليابس، أي الوعاء منه.
(1)
"الفتح" 1/ 161 - 163.
(وَالْحَنْتَمِ) بحاء مهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم تاء مثناة من فوقُ، مفتوحة، ثم ميم، الواحدة: حَنْتَمَةٌ، هي الْجَرَّة، كذا فَسَّرها ابن عمر رضي الله عنهما في "صحيح مسلم"، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه: الحنتم الجرار الخضر، ورَوَى الحربي في "الغريب" عن عطاء: أنها جِرَارٌ كانت تُعْمَلُ من طين، وشعر، ودَمٍ. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قد اختُلِف في معنى "الْحَنتم").
[فأصح الأقوال، وأقواها]: أنها جِرَار خُضْر، وهذا التفسير ثابت في "كتاب الأشربة" من "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو قول عبد الله بن مُغَفَّل الصحابيّ رضي الله عنه، وبه قال الأكثرون أو، كثيرون من أهل اللغة، وغريبِ الحديث، والمحدثين، والفقهاء.
[والثاني]: أنها الجرار كلها، قاله عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير، وأبو سلمة.
[والثالث]: أنها جرار يُؤْتَى بها من مصر، مُقَيَّرات الأجواب، ورُويَ ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ونحوه عن ابن أبي ليلى، وزاد أنها حُمْر.
[والرابع]: عن عائشة رضي الله عنها: جِرَارٌ حُمْرٌ أعناقها في جُنُوبها، يُجْلَب فيها الخمر من مصر.
[والخامس]: عن ابن أبي ليلى أيضًا: أفواهها في جنوبها، يُجْلَب فيها الخمر من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها، يضاهون به الخمر.
[والسادس]: عن عطاء: جِرَارٌ كانت تُعْمَل من طين، وشعر، ودَمٍ. قاله النوويّ في "شرحه"
(2)
.
(والنَّقِيرِ) بالنون المفتوحة والقاف المكسورة: أصلُ النَّخْلة، يُنْقَرُ، فَيُتَّخَذ منه وعاء، وقد جاء تفسيره في الرواية الأخيرة من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: أنه الجِذْعُ يُنقَر وسطه.
(وَالمُقَيَّرِ) بفتح القاف، والياء المشدّدة: هو الْمُزَفَّت، وهو المطليّ
(1)
"الفتح" 1/ 163.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 185.
بالقار، وهو الزِّفْتُ، وقيل: الزِّفْتُ نوع من القار، والصحيح الأول، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: المزفت هو الْمُقَيَّر.
وقال في "الفتح": "والْمُقَيَّر": بالقاف، والياء الأخيرة: ما طُلِيَ بالقار، ويقال له: الْقَيْر، وهو نَبْتٌ يُحْرَق إذا يبس، تُطْلَى به السُّفُن وغيرها، كما تُطْلَى بالزِّفْت، قاله صاحب "المحكم"، وفي "مسند أبي داود الطيالسي" عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: أما الدُّبّاء، فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القَرْع، فيَخْرطُون فيه العنب، ثم يَدْفِنُونه، حتى يُهدَر، ثم يموت.
وأما "النقير": فإن أهل اليمامة كانوا يَنْقُرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرُّطَب والبسر، ثم يَدَعُونه، حتى يُهدَر ثم يموت.
وأما "الْحَنْتَم": فَجِرَارٌ كانت تُحمَلُ إلينا فيها الخمر.
وأما "المُزَفَّت": فهذه الأوعية التي فيها الزِّفتُ، انتهى، وإسناده حسن، وتفسير الصحابي أولى أن يُعْتَمَدَ عليه من غيره؛ لأنه أعلم بالمراد. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: أما معنى النهي عن الانتباذ في هذه الأربع، فهو أنه نَهَى عن الانتباذ فيها، وهو أن يُجْعَل في الماء حَبّات، من تمر، أو زبيب، أو نحوهما، لِيَحْلُوَ؛ ويُشْرَب، وإنما خُصَّت هذه بالنهي؛ لأنه يسرع إليه الإسكار فيها، فيصير حَرَامًا، وتبطل ماليته، فَنَهَى عنه؛ لما فيه من إتلاف المال، ولأنه ربما شَرِبَه بعد إسكاره مَن لم يَطَّلِعِ عليه، ولم يَنْهَ عن الانتباذ في أسقية الأَدَم، بل أَذِنَ فيها؛ لأنها لرقتها لا يَخْفَى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرًا شَقَّها غالبًا.
ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر، ثم نُسِخَ بحديث بُرَيدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كلِّ وِعَاءٍ، ولا تشربوا مُسْكِرًا"، رواه مسلم في "الصحيح".
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا الذي ذكرناه من كونه منسوخًا هو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، قال الخطابيّ: القول بالنسخ هو أصح الأقاويل، قال: وقال قوم: التحريم باقٍ، وكَرِهُوا الانتباذ في هذه الأوعية،
(1)
"الفتح" 1/ 163.
ذهب إليه مالك، وأحمد، وإسحاق، وهو مرويّ عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، انتهى
(1)
.
(زَادَ خَلَفٌ) هو خَلَف بن هشام شيخ المصنّف الأول (فِي رِوَايَتِهِ) عن حمّاد بن زيد (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي مع "وأن محمدًا رسول الله" كما صُرِّح به في رواية يحيى بن يحيى شيخه الثاني، عن عباد بن عباد، قال في "الفتح": والاقتصار على "شهادة أن لا إله إلا الله" على إرادة الشهادتين معًا؛ لكونها صارت عَلَمًا على ذلك.
[تنبيه]: وقع عند البخاريّ في "كتاب الزكاة" بزيادة الواو في قوله: "وشهادة أن لا إله إلا الله"، فقال في "الفتح": هي زيادة شاذة، لم يُتَابع عليها حجاجَ بنَ منهال أحدٌ. انتهى
(2)
.
(وَعَقَدَ وَاحِدَةً) وفي رواية للبخاريّ: "وعقد بيده"، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أشار بعقد يده إلى أول الخصال الأربع التي وعدهم ببيانها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[1241]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَيْنَ النَّاس، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، فَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنِ الْوَفْدُ، أَوْ مَنِ الْقَوْمُ؟ "، قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ:"مَرْحَبًا بِالْقَوْم، أَوْ بِالْوَفْد، غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا النَّدَامَى"، قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي شَهْرِ الْحَرَام، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ بَأرْبَع، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، قَالَ: أَمَرَهُمْ بَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 185 - 186.
(2)
"الفتح" 1/ 161.
بِاللهِ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامُ الصَّلَاة، وَإِيتَاءُ الزَّكَاة، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ"، وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالْمُزَفَّتِ"، قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبَّمَا قَالَ: "النَّقِيرِ"، قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبَّمَا قَالَ: "الْمُقَيَّرِ"، وَقَالَ:"احْفَظُوهُ، وَأَخْبِرُوا بِهِ مِنْ وَرَائِكُمْ"، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ:"مَنْ وَرَاءَكُمْ"، وَلَيْسَ فِي روَايَتِهِ:"الْمُقَيَّرِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقة حافظ [10](ت 235).
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10](252)(ع) 1/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر بُنْدَار البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 202)(ع). 2/ 2
4 -
(غُنْدَر، مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أبو عبد الله البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9](ت 3) أو (194)(ع) 2/ 2.
5 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الناقد الجهبذ [7](ت 160)(ع) تقدّم في المقدّمة. والباقيان تقدّما في المسند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال أبو بكر: حدّثنا غندر، عن شعبة إلخ" ففيه بيان احتياط المصنّف رحمه الله تعالى، ووجه ذلك أن أبا بكر بن أبي شيبة ذكر شيخه غُندرًا بلقبه، فقال: حدثنا غندر، عن شعبة، وأما محمد بن المثنى، ومحمد بن بشّار فقالا: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، فذكراه باسمه ونسبه، وأنه صرّح بتحديث شعبة له، فحصلت المخالفة من وجهين.
5 -
(ومنها): أن "غُنْدَرًا" لقب محمد بن جعفر - وهو بضم الغين المعجمة، وفتح الدال، وحكى الجوهريّ ضم الدال، وقال المجد في "القاموس": غلام غُنْدَر كَجُنْدَبٍ، وقُنْفُذٍ: سَمينٌ غَلِيظٌ ناعمٌ، ويقال لِلْمُبْرِم الْمُلِحِّ: يا غُنْدَرُ، وهو لَقَبُ محمد بن جعفر البصريّ؛ لأنه أكثر من السؤال في مجلس ابن جُريج، فقال: ما تُريد يا غُنْدَرُ، فلَزِمَه. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) نصر بن عمران الضُّبَعيّ البصريّ، أنه (قَالَ: كنْتُ أُتَرْجِمُ) بضمّ أوّله مضارع ترجم، قال في "القاموس": "التُّرْجُمَانُ كَعُنْفُوَانٍ، وَزَعْفَرَانٍ، وَرَيْهَقَانٍ: الْمُفَسِّرُ للِّسَان، وقد تَرْجَمَهُ، وتَرْجَمَ عنه، والفِعْلُ يدلُّ على أصالة التاء. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": وتَرْجَمَ فلانٌ كلامَهُ: إذا بَيّنه وأوضحه، وترجم كلامَ غيره: إذا عَبّر عنه بلغةٍ غيرِ لغة المتكلِّم، واسم الفاعل تُرْجُمان، وفيه لغاتٌ، أجودها فتح التاء، وضمّ الجيم، والثانية: ضمّهما معًا، بجعل التاء تابعةً للجيم، والثالثة: فتحهما بجعل الجيم تابعةً للتاء، والجمع تراجم، والتاء والميم أصليّتان، فوزنُ تَرْجَمَ فَعْلَلَ، مثل دَحْرَجَ، وجعل الجوهريّ التاء زائدةً، وأورده في تركيب رَجَمَ. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ في "شرحه": وأما معنى الترجمة فهو التعبير عن لغة بلغة، ثم قيل: إنه كان يتكلم بالفارسية، فكان يُتَرْجِم لابن عباس عمن يتكلم بها، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: وعندي أنه كان يُبَلِّغ كلام ابن عباس إلى من خَفِي عليه من الناس، إما لزحامٍ مَنَعَ من سماعه فأسمعهم، وإما لاختصار مَنَعَ من فهمه فأفهمهم، أو نحو ذلك، قال: وإطلاقه لفظ "الناس" يُشْعِر بهذا، قال: وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى،
(1)
"القاموس المحيط" ص 408.
(2)
"القاموس المحيط" ص 976.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 74.
فقد أطلقوا على قولهم: "باب كذا" اسم الترجمة؛ لكونه يُعَبِّر عما يُذكَرُ بعده. انتهى
(1)
.
قال النوويّ: والظاهر أن معناه أنه يُفهمهم عنه، ويفهمه عنهم. انتهى
(2)
.
واستظهر في "الفتح" كون ترجمته لقصور الفهم، قال: لأنه كان جالسًا معه على سريره، ففي رواية البخاريّ:"كنتُ أقعد مع ابن عبّاس، يُجلسني على سريره. . ."، فلا فرق في الزحام بينهما، إلا أن يُحمَل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جمرة في طرفه الذي يلي من يترجم عنهم، وقيل: إن أبا جمرة كان يَعْرِف الفارسية، فكان يترجم لابن عباس بها، قال القرطبي: فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد؛ لأنه مخبرٌ، انتهى. وقد بوب عليه البخاري في أواخر "كتاب الأحكام"، فقال:"باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان واحد"
(3)
، وقيل: لا يكفي الواحد، بل لا بدّ من اثنين؛ لأنها شهادة
(4)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأول هو الأرجح، كما فعل ابن عبّاس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بَيْنَ يَدَي ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ)، قال النوويّ رحمه الله تعالى: كذا هو في الأصول، وتقديره: بين يدي ابن عباس، بينه وبين الناس، فحذف لفظة "بينه"؛ لدلالة الكلام عليها، ويجوز أن يكون المراد: بين ابن عباس وبين الناس، كما جاء في البخاريّ وغيره، بحذف "يدي"، فتكون "يدي" عبارة عن الجملة، كما قال الله تعالى:{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40]: أي قَدَّمَ. انتهى.
فقوله: "بين ابن عبّاس" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "أُترجم".
(فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ) لم يُعرف اسمها، كما قاله سبط ابن العَجَميّ
(5)
(تَسْأَلُهُ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ"امرأة"(عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ) أي حكمه، و"الْجَرّ" بفتح الجيم: اسم جمع، الواحدة جَرَّةٌ، ويُجمَع أيضًا على جِرار، وهو هذا الْفَخَّار
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 152.
(2)
"شرح صحيح مسلم" 1/ 186.
(3)
راجع: "صحيح البخاريّ" 9/ 94.
(4)
"المفهم" 1/ 171.
(5)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 52.
المعروف، قاله النوويّ
(1)
، وقال القرطبيّ:"الْجَرّ" جمع جرّة، وهي قلالُ فَخَّار، غير أنها مطليّة بالزجاج، وهو الحنتم، ونبيذ الجرّ هو ما يُنبذ فيها من التمر وغيره، وإنما سألته عن حكم النبيذ في الجِرَار، هل يحلّ أم لا؟ فذكر لها ما يدلّ على منع ذلك، ثم أخذ في ذكر الحديث بقصّته، قال: وفيه دليل على أن للمفتي أن يذكر الدليل، مستغنيًا به عن التنصيص على جواب الفتيا، إذا كان السائل بصيرًا بموضع الحجة. انتهى
(2)
.
وللنسائيّ بسنده عن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فَنَهَى عنه، قلت: يا أبا عباس، إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذًا حُلْوًا، فأشرب منه، فَيُقَرْقِرُ بطني، قال: لا تشرب منه، وإن كان أحلى من العسل.
وللبخاريّ في أواخر "المغازي" من طريق قُرَّة، عن أبي جمرة قال:"قلت لابن عباس: إن لي جَرّةً أنتبذ فيها، فأشربه حُلْوًا، إن أكثرت منه فجالست القوم، فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قَدِمَ وفد عبد القيس. . .".
فلما كان أبو جمرة من عبد القيس، وكان حديثهم يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار، ناسب أن يذكره له.
وفي هذا دليل على أن ابن عباس لم ييلغه نسخ تحريم الانتباذ في الجرار، وهو ثابت من حديثٌ بُرَيدة بن الحصيب رضي الله عنه عند مسلم وغيره
(3)
.
(فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أتوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الْوَفْدُ، أَوْ مَنِ الْقَوْمُ؟ ")، الشك من أحد الرواة، إما أبو جمرة، أو من دونه، قال الحافظ: وأظنه شعبة، فإنه في رواية قُرَّة وغيره بغير شكّ، وأغرب الكرمانيّ، فقال: الشك من ابن عباس
(4)
، و"الوفد": الوافدون، وهم القادمون، والزائرون، يقال: وَفَدَ يَفِدُ، فهو وافدٌ، والجمع وافدون،
(1)
"شرح مسلم" 1/ 186.
(2)
"المفهم" 1/ 172.
(3)
راجع: "الفتح" 1/ 158.
(4)
"الفتح" 1/ 158.
ووُفُود، والقومُ وَفْدٌ، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]
(1)
.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: في قوله: "مَنِ القومُ؟ "، دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه؛ لِيُعْرَفَ، فَيُنَزَّلَ مَنْزِلَته.
(قَالُوا: رَبِيعَةُ) خبر لمحذوف، أي نحن ربيعة، وفيه التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فقد تقدّم من طريق عباد، عن أبي جمرة:"فقالوا: إنّا هذا الحيُّ من ربيعة"، والمعنى إنّا حَيٌّ من ربيعة، و"الْحَيّ": اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به؛ لأن بعضهم يَحْيَا ببعض.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ) منصوب على المصدريّة، استعمله العرب، وأكثرت منه، تريد به البرّ، وحسن اللقاء، ومعناه: صادفت رُحْبًا وسَعَةً، وقال القرطبيّ: هو من الرُّحب بضم الراء، وهو السعة، والرَّحْبُ بفتح الراء: هو الشيء الواسع، وهو منصوب بفعل مضمر، لا يُستعمل إظهاره، أي صادفت رُحبًا، أو أتيت رُحْبًا، فاستأنس، ولا تستوحش. انتهى.
وقال في "الفتح": هو منصوب بفعل مضمر، أي صادفت رُحْبًا، بضم الراء، أي سَعَة، و"الرَّحْبُ" بالفتح الشيء الواسع، وقد يزيدون معها "أهلًا": أي وجدت أهلًا، فاستأنس، وأفاد العسكري أن أول من قال: مَرْحَبًا سيف بن ذي يزن. انتهى.
(أَوْ بِالْوَفْدِ) شكٌّ من الراوي (غَيْرَ خَزَايَا) قال النوويّ: الرواية فيه "غيرَ" بنصب الراء على الحال، وأشار صاحب "التحرير" إلى أنه يُرْوَى أيضًا بكسر الراء، على الصفة لـ "القوم"، والمعروف الأول، يدل عليه ما جاء في رواية البخاريّ:"مَرْحبًا بالقوم الذين جاؤوا غير خزايا، ولا ندامى".
و"خزايا": جمعُ خَزْيَان، كحَيْرَان وحَيَارَى، وسَكْرَان وسَكَارى، يقال: خَزِي الرجلُ يَخْزَى خَزْيًا: إذا ذلَّ، وخزايةً: إذا خَجِلَ، واستحيى، قاله القرطبيّ، وقال النوويّ: الْخَزْيَان: المستحي، وقيل: الذليل المهان، وفي "الفتح": هو الذي أصابه خِزْيٌ.
(1)
"المفهم" 1/ 172.
ومعنى هذا الكلام: تأنيسهم، وإكرامهم، والثناء عليهم بأنهم لم يحصل منهم تأخّر عن الإسلام، ولا عناد، بل بادروا بإسلامهم طائعين من غير خزيٍ لَحِقهم من قهر، ولا سباء، فلم يُخزِهِم حربٌ، ولم يَفْضَحهم سبيٌ، ولا ما أشبه ذلك، مما يستحيون بسببه، أو يُذلّون، أو يهانون، ثم إنهم لما أسلموا كذلك احتُرِموا، وأُكرموا، وأُحِبُّوا، فلم يندموا على ذلك، بل انشرحت صدورهم للإسلام، وتنوّرت قلوبهم بالإيمان.
وقوله (وَلَا النَّدَامَى")، هكذا هو في الأصول:"النَّدَامَى" بالألف واللام و"خزايا" بحذفهما، ورُويَ في غير هذا الموضع بالألف واللام فيهما، ورُوي بإسقاطهما فيهما. قاله ابن الصلاح
(1)
.
ووقع في رواية النسائي من طريق قُرّة عن أبي جمرة: "فقال: مرحبًا بالوفد، ليس الخزايا ولا النادمين"، وهي للطبراني من طريق شعبة عن ابن أبي جمرة أيضًا. بَشَّرهم بالخير عاجلًا وآجلًا؛ لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثَبَتَ ضدّها. انتهى
(2)
.
وأما "النَّدَامَى" فقيل: إنه جمع نَدْمَان، بمعنى نادم، وهي لغة في نادم، حكاها القزاز، صاحب "جامع اللغة"، والجوهريّ في "صحاحه"، وعلى هذا هو على بابه، وقيل: هو جمع نادم، لكنه على غير قياس، لأن قياس نَدَامَى أن يكون جمع ندمان، والندمان هم الْمَجَالِيسُ على الخمر وساقيها، كما قال الشاعر [من البسيط]:
فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي
…
وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَلَثِّمِ
وليس مرادًا هنا، وإنما هو جمع نادم إِتْبَاعًا لـ "خَزَايَا" على عادة العرب في إتباع اللفظ اللفظَ؛ تحسينًا للكلام، وإن لم يكن بمعناه، وهو كثير في كلامهم، وهو من فصيحه، ومنه قوله في للنساء المتّبعات للجنازة:"ارْجِعْنَ مأزورات، غير مأجورات"
(3)
أتبع "مأزورات" لـ"مأجورات"، ولولا مراعاة
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 152 و"شرح النوويّ " 1/ 186.
(2)
"الفتح" 1/ 160.
(3)
أخرجه ابن ماجه في "سننه" 1/ 502 - 503 رقم (1578) وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده إسماعيل بن سلمان الكوفيّ الأزرق، وهو ضعيف.
الإتباع لقال: "موزورات" بالواو؛ لأنه من الوزر، كذا قاله الفراء، وجماعات، قالوا: ومنه قول العرب: إنه لآتيه بالغدايا والعشايا، جمعوا الغداة على غدايا إتباعًا لعشايا، ولو أفردت لم يجز إلا غدوات، ومنه قول الشاعر [من البسيط]:
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ
…
يَخْلِطُ بِالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّينَا
فجمع الباب على أبوبة إتباعًا و"أخبية"، ولو أفرده لما جاز ذلك
(1)
.
(قَالَ) الراوي (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم:"كفّار مضر"، وفي قولهم:"اللهُ ورسوله أعلم"(إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ)"الشقّة": بضم الشين وكسرها، لغتان مشهورتان، أشهرهما وأفصحهما الضم، وهي التي جاء بها القرآن العزيز، قال الإمام أبو إسحاق الثعلبيّ: وقرأ عُبيد بن عُمير بكسر الشين، وهي لغة قيس، والشقّةُ السفر البعيد، كذا قاله ابن السكيت، وابن قتيبة، وقُطْرُب، وغيرهم، قيل: سُمّيت شُقّةً؛ لأنها تَشُقّ على الإنسان، وقيل: هي المسافة، وقيل: الغاية التي يَخرُج الإنسان إليها، فعلى القول الأول يكون قولهم:"بَعيدةٍ" مبالغة في بعدها. قاله النووي
(2)
.
(وإن بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيَّ) أي القبيلة، سُمّوا بذلك؛ لأن بعضهم يحيا ببعض (مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ) فيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين، وما والاها، من أطراف العراق، ولهذا قالوا:"إنا نأتيك من شقة بعيدة"، ويدلّ على سبقهم إلى الإسلام أيضًا ما رواه البخاريّ في "كتاب الجمعة" من طريق أبي جمرة أيضًا عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جُمِّعَت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس، بِجُوَاثَى من البحرين، و"جُوَاثَى" بضم الجيم، وبعد الألف مثلثة مفتوحة، قرية شهيرة لهم، وإنما جَمَّعُوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سَبَقُوا جميع القرى إلى الإسلام. قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"المفهم" 1/ 173 و"شرح النووي" 1/ 187.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 187 - 189.
(3)
"الفتح" 1/ 160.
(وَإِنَّما لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ) قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: ذلك أن أهل الجاهليَّة كانوا أصحاب حروب وغارات، ولا يأمن بعضهم بعضًا في المسالك والمراحل إلا في الأشهر الحرم؛ لأنهم كانوا يكفّون فيها عن الانتهاك، والانتهاب؛ تعظيمًا لها وتسهيلًا للأمر على زوّار البيت. انتهى
(1)
.
(إِلَّا في شَهْرِ الْحَرَامِ) هكذا الرواية عند المصنّف بالإضافة، وقد تقدّم
(2)
أنه من إضافة الشيء إلى نفسه، كمسجد الجامع، ونساء المؤمنات، وتقدّم توجيهه، والمراد بشهر الحرام الجنس، فيشمل الأربعة الحُرُم، ويؤيده رواية البخاريّ في "كتاب المغازي" بلفظ:"إلا في أشهر الْحُرُم"، وفي رواية له في "كتاب المناقب" بلفظ:"إلا في كل شهر حرام"، وقيل: اللام للعهد، المراد شهر رجب، وفي رواية للبيهقيّ التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر ربا، فلهذا أُضيف إليهم في حديث أبي بكرة رضي الله عنه حيث قال:"ورجب مضر"، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - والظاهر أنهم كانوا يخصّونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربّما أَنْسَأُوهَا بخلافه، قاله في "الفتح"
(3)
.
(فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ) هو بتنوين "أمرٍ"، قال الخطّابيّ وغيره: هو الْبَيِّن الواضح الذي ينفصل به المراد، ولا يشكل، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": بالتنوين فيهما، لا بالإضافة، والأمرُ واحد الأوامر، أي مُرْنا بعمل، بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي: أمرهم، وفي رواية للبخاريّ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آمرُكُم"، و"الفصلُ" بمعنى الفاصل، كالعدل بمعنى العادل، أي يَفْصِل بين الحق والباطل، أو بمعنى الْمُفَصَّل، أي الْمُبَيَّن المكشوف، حكاه الطيبيّ، وقال الخطابيّ: الفصلُ الْبَيِّنُ، وقيل: الْمُحْكَمُ. انتهى.
وقال القرطبيّ: القول الفصل: هو الواضح البليغ الذي يفصل بين الحقّ والباطل، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)} [الطارق: 13]
(4)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 460.
(2)
انظر ص 340.
(3)
"الفتح" 1/ 160.
(4)
"المفهم" 1/ 174.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: "قوله: "بأمر فصلٍ" يحتمل أن يكون الأمر واحد الأوامر، وأن يكون بمعنى الشأن، و"فصل" يحتمل أن يكون بمعنى الفاصل، وهو الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحقّ والباطل، وأن يكون بمعنى الْمُفَصّل، أي مبيّن مكشوف، ظاهر ينفصل به المراد عن الاشتباه، فإذا كان بمعنى الشأن والفاصل، وهو الظاهر يكون التنكير للتعظيم بشهادة قوله: "وندخل به الجنّة"، كما قال صلى الله عليه وسلم: "سألتني عن عظيم" في جواب معاذ رضي الله عنه: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة"، فالمناسب حينئذٍ أن يكون الفصل بمعنى المفصَّل؛ لتفصيله صلى الله عليه وسلم الإيمان بأركانه الخمسة، كما فصّله في حديث معاذ رضي الله عنه، وإن كان بمعنى واحد الأوامر، فيكون التنكير للتقليل، فإذًا
(1)
المراد به اللفظ، والباء للاستعانة، والمأمور به محذوف، أي مرنا بعمل بواسطة افعلوا، وتصريحه في هذا المقام أن يقال لهم: آمنوا، وقولوا: آمنّا، هذا هو المعنِيُّ بقول الراوي:"أمرهم بالإيمان بالله وحده".
وعلى أن يراد بالأمر الشأن يكون المراد معنى اللفظ وموادّه، وعلى هذا الفصل بمعنى الفاصل، أي مرنا بأمر فصل، أي جامع قاطع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"قل: آمنت بالله، ثم استقم"، فالمأمور به هاهنا أمر واحد، وهو الإيمان، والأركان الخمسة كالتفسير للإيمان بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم:"أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ "، ثم بَيّنهُ بما قال.
[فإن قيل]: على هذا في قول الراوي إشكالان:
[أحدهما]: أن المأمور به واحد، وقد قال: أربع.
[وثانيهما]: أن الأركان خمسة، وقد ذكر أربعًا.
[والجواب]: عن الأول أنه جعل الإيمان أربعًا باعتبار أجزائه المفصّلة، وعن الثاني أنه من عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبًا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له، وتوجّهه إليه، وكان ما سواه مطروحًا، ومنه قوله تعالى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]، أي فعزّزناه، فترك المنصوب، وأتى بالجارّ والمجرور؛ لأن الكلام لم يكن مسوقًا له، فهاهنا لَمّا لم يكن الغرض في
(1)
هكذا النسخة، ولعل الأولى:"إذ المراد. ." إلخ، فتأمل.
الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرّين بكلمتي الشهادتين، بدليل قولهم:"الله ورسوله أعلم"، وترحيب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ولكن كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما، وأنهما كافيتان لهم، وكان الأمر في صدر الإسلام كذلك، لم يجعله الراوي من الأوامر، وقصد به أنه صلى الله عليه وسلم نبّههم على موجب توهّمهم بقوله:"أتدرون ما الإيمان؟ "، ولذلك خصّص ذكر و"أن تعطوا من المغانم الخمس" حيث أتى بالفعل المضارع على الخطاب، لأن القوم كانوا أصحاب حروب وغزوات، بدليل قولهم:"بيننا وبينك هذا الحيّ من كفّار مضر"؛ لأنه هو الغرض من إيراد الكلام، فصار أمرًا من الأوامر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قرّره الطيبيّ رحمه الله في توجيه الاستشكال الوارد على هذا الحديث من عدم عدّ الشهادتين من الأربع يضعّفه قوله: "وعقد واحدة"، فإنه ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم عدّ الشهادتين منها، فالأولى ما سبق لابن الصلاح رحمه الله وغيره، من التوجيه بأنهما داخلتان فيها، وأن أداء الخمس غير داخل فيها، بل هو أمر مستقلّ، فقوله:"وأن تؤدّوا إلخ" معطوف على "بأربع"، أي وآمركم بأربع، وبأداء الخمس، فهذا جواب يزيل الإشكال المذكور، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.
(نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا) قال الكرمانيّ رحمه الله تعالى: أي بحسب المكان من البلاد البعيدة عن المدينة، ويحتمل أن يراد بحسب الزمان، أي أولادنا، وأخلافنا، والظاهر أن المراد به قومهم. انتهى
(2)
.
و"من" موصولة في محلّ نصب على المفعوليّة لـ"نُخْبِرْ"، قال الشيخ قطب الدين: لا خلاف أن قوله: "من وراءنا" بفتح الميم، والهمزة، وذكر الكرمانيّ أن في بعض الروايات "مِنْ وَرَائنا" بكسر الميم، قال العينيّ: إن صحت هذه الرواية يحتمل أن تكون "من" للغاية، بمعنى أن قومهم يكونون غاية لإخبارهم. انتهى
(3)
.
(نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قيّدناه على من يُوثق
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 361 - 462.
(2)
"شرح الكرمانيّ" 1/ 208.
(3)
"عمدة القاري" 1/ 307.
بعلمه: "نُخْبِرُ به" مرفوعًا، و"ندخل" مرفوعًا ومجزومًا، فرفعهما على الصفة لـ"أمر"، وجزم "ندخُلْ" على جواب الأمر المتضمّن للجزاء، فكأنهم قالوا: إن أمرتنا بأمر واضح فعلنا به، ورجونا دخول الجنّة بذلك الفعل. انتهى
(1)
.
وإلى هذا الجزم أشار في "الخلاصة" حيث قال:
وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْيِ جَزْمًا اعْتَمِدْ
…
إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ
وقال في "الفتح": قوله: "نخبر به" بالرفع على الصفة لـ"أمرٍ"، وكذا قوله:"وندخل"، ويروي بالجزم فيهما، على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو من "وندخل" في بعض الروايات، فيُرفَع "نُخْبِرُ"، ويُجزَم "ندخلْ "
(2)
.
(قَالَ) الراوي (فَأَمَرَهُمْ) الفاء للتعقيب، أي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الوفد بعد ذلك (بِأَرْبَعٍ) أي بأربع خصال، أو جُمَل (وَنَهَاهُمْ) عطف على "أمرهم" (عَنْ أَرْبَعٍ) أي عَن ارتكاب أربع خصال (قَالَ) الراوي (أَمَرَهُمْ بَالايمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ) تفسير لقوله:"فأمرهم بأربع"، ولهذا ترك العاطف (وَقَالَ:"هَلْ تَدْرُونَ")، أي هل تعلمون (مَا) استفهاميّة مبتدأ، خبره قوله:("الْإِيمَانُ باللهِ؟ ") سبحانه وتعالى (قَالُوا) أي الوفد (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("شَهَادَةُ أَنْ لَا إِله إلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) برفع "شهادة" على أنه خبر لمحذوف، أي هو، أو هي شهادة إلخ (وَإِقَامُ الصَّلَاة، وَإِيتَاءُ الزَّكَاة، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا) عطف على "أربع" من قوله: "فأمرهم بأربع"، فيكون مضافًا إلى الأربع، وليس واحدًا منها، وإن كان واحدًا من شعب الإيمان، ولا يُعطف على "شهادة أن لا إله إلا الله إلخ"؛ لئلا يلزم كونها خَمْسًا.
[فإن قلت]: لم عَدَل عن لفظ المصدر الصريح إلى "أن" والفعل المضارع.
[أجيب]: بأن ذلك للإشعار بمعنى التجدّد الذي في الفعل؛ لأن سائر الأركان كانت ثابتة قبل ذلك، بخلاف إيتاء الخمس، فإن فريضته تتجدّد بحسب تجدّد الجهاد
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم (1/ 174.
(2)
"الفتح" 1/ 161.
(3)
راجع: "شرح الكرماني" 1/ 209.
[تنبيه] قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وحَسَنٌ أَن يُقْرَأ "وأن يؤدّوا" بياء المغايبة، ويجوز بتاء المخاطبة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن ابن الصلاح رحمه الله ثبتت الرواية لديه بالوجهين، وإلا فالموجود في النسخ عندنا بتاء الخطاب، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
(خُمُسًا) بضمّتين، أو بضمّ فسكون، كما سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي (مِنْ الْمَغْنَمِ") أي الغنيمة، وهي تُقْسَم على خمسة أخماس، أربعة أخماسه للغزاة، والخُمس يُخَمَّس ثانيًا للمصارف الخمسة التي بيّنها الله تعالى في قوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
(وَنَهَاهُمْ) أي بعد أن سألوه عن الأشربة، ففي رواية للبخاريّ:"وسألوه عن الأشربة"، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي للمصنّف بعد هذا:"قالوا: يا نبيّ الله جعلنا الله فداءك ماذا يصلح لنا من الأشربة؟ "(عَنِ الدُّبَّاءِ) أي عن الانتباذ في القرع (وَالْحَنْتَمِ) أي الجرار الخضر، وقيل في معناها غير ذلك، كما أسلفناه في الحديث السابق (والْمُزَفَّتِ) بتشديد الفاء، بصيغة اسم المفعول: أي المطليّ بالزفت، وهو القار.
(قَالَ شُعْبَةُ) بن الحجّاج الراوي عن أبي جمرة (وَرُبَّمَا) كلمة "رُبَّ" هنا للتقليل، وإذا زيدت عليها "ما" فالغالب أن تكفها عن العمل، وتهيّأها للدخول على الجملة الفعليّة التي فعلها ماض، كما هنا، وأما قوله عز وجل:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2]، فمؤوّل بالماضي، على حد قوله عز وجل:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99]
(1)
وأشار إلى زيادة "ما" عليها في "الخلاصة" فقال:
وَزِيدَ بَعْدَ "رُبَّ" وَالْكَافِ فَكَفّ
…
وَقَدْ يَلِيْهِمَا وَجَرٌّ لَمْ يُكَفّ
(قَالَ) أي أبو جمرة ("النَّقِيرِ") بفتح النون، وكسر القاف: جِذْع يُنقر وسطه، ويُنبذ فيه (قَالَ شُعْبَةُ) أيضًا (وَرُبَّمَا قَالَ:"الْمُقَيَّرِ") أي بدل "المزفّت"، وهو المطليّ بالقار، ويقال له: القير بالكسر، وهو نبتٌ يحرق إذا يبس تُطْلَى به السفن وغيرها، كما تُطْلَى بالزفت.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 308.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (احْفَظُوهُ) أي ما ذكرته لكم (وَأَخْبِرُوا بِهِ) وفي رواية البخاريّ: احفظوهنّ، وأخبروا بهنّ" (مِنْ وَرَائِكُمْ") بكسر ميم "من" على أنها "مِنْ" الجارّة.
(وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) أي ابن أبي شيبة شيخ المصنّف (في رِوَايَتِهِ: "مَنْ وَرَاءَكُمْ") أي بفتح الميم، على أنها موصولة مفعول ثان لـ"أخبروا"، قال ابن الصلاح: ضبطنا الأول بكسر الميم، والثاني بفتحها، وهما يرجعان إلى معنى واحد. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وأخبروا بهن من وراءكم" بفتح "مَنْ"، وهي موصولة، و"وراءكم" يشمل من جاؤوا من عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معًا، حقيقةً ومجازًا، واستنبط منه البخاريّ الاعتماد على أخبار الآحاد، انتهى
(2)
.
(وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ) أي رواية أبي بكر ("الْمُقَيَّرِ") بالجرّ على الحكاية، ويجوز تركها، يعني أنه إنما ذكر "المزفّت" فقط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[125]
(
…
) - وحَدَّثَني عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلَيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيث، نَحْوَ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ:"أَنْهَاكُمْ عَمَّا يُنْبَذُ في الدُّبَّاء، وَالنَّقِير، وَالْحَنْتَم، وَالْمُزَفَّتِ"، وَزَادَ ابْنُ مُعَاذٍ فِي حَدِيثِه، عَنْ أَبِيه، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَشَجّ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ:"إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْن، يُحِبُّهُما اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأنَاةُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ المذكور في الباب الماضي.
(1)
"الصيانة" ص 154 - 155.
(2)
"الفتح" 1/ 163.
2 -
(أبُوه) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ المذكور أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) الأزديّ البصريّ، ثقة ثبتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10](ت 251)(ع) 4/ 30.
4 -
(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ بن صُهْبَان بن أُبيّ الْجَهْضميّ - بفتح الجيم، وسكون الهاء، بعدها معجمة مفتوحة - الْحُدّانيّ الأَزْديّ، أبو الحسن البصري الكبير البصريّ، ثقة، من كبار [9].
رَوَى عن عبد الرحمن بن سليمان الْغَسيل، وعبد العزيز بن أبي رَوّاد، والمثنى بن سعيد الضُّبَعيّ، والقاسم بن مَعْن، ومَهْديّ بن ميمون، وهشام الدستوائي، وخالد بن قيس الْحُدّاني، وإبراهيم بن نافع، وشعبة، وابن المبارك، وقرة بن خالد، والليث، وغيرهم.
وروى عنه ابنه نصر، ووكيع، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو نعيم، وهم من أقرانه، ومعلى بن أسد.
قال أحمد بن حنبل: صالح الحديث، أثبت من أبي معاوية، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة.
وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال صالح بن محمد: صدوق. ذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال محمد بن عبد الله الحضرمي، وابن حبان: مات سنة سبع وثمانين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.
5 -
(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّدُوسيّ، أبو خالد، ويقال: أبو محمد البصريّ، ثقة ضابطٌ [6].
رَوَى عن أبي رجاء الْعُطَارِديّ، وحُميد بن هلال، ومحمد بن سيرين، والحسن، وعبد الحميد بن جُبير بن شيبة، وعمرو بن دينار، وأبي جمرة، وغيره.
وروى عنه شعبة، وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد القطان، وابن مهديّ، وخالد بن الحارث، وأبو داود الطيالسيّ، وأبو عامر الْعَقَديّ، وعليّ بن نصر، وغيرهم.
قال صالح بن أحمد، عن علي بن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: كان قرة عندنا من أثبت شيوخنا، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قرة، وعمران بن حُدير؟ فقال: ما فيهما إلا ثقة، قال: وسئل أبي عن قرة، وأبي خَلْدَة؟ فقال: قرة فوقه، وهو دون حبيب بن الشهيد، قيل له: قرة، والقاسم بن الفضل؟ قال: ما أقربه منه، وقال مرةً: ثقة. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: قرة أحب إليّ من جرير بن حازم، ومن أبي خَلْدَة، وقرة ثبت عندي. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو مسعود الرازيّ، قرة أثبت عندك، أو حسين المعلم؟ فقال: قرةُ. وقال الآجريّ: ذَكَرَ أبو داود قرة، فَرَفَعَ من شأنه، وقال أيضًا: سألت أبا داود عنه، وعن الصَّعْق بن حَزْن؟ فقال: قرة فوقه، وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الطحاويّ: ثبتٌ متقنٌ ضابطٌ.
وقال أبو نعيم: مات سنة نَيِّف وسبعين ومائة، وقال ابن حبان في "الثقات": كان متقنًا، ومات سنة أربع وخمسين ومائة، وكذا أَرَّخه خليفة في "تاريخه"، وقال في "الطبقات": مات سنة خمس وخمسين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
والباقيان تقدّما قريبًا.
وقوله: (قالا جميعًا)، لفظة "جميعًا" منصوبة على الحال، ومعناه: اتّفقا، واجتمعا على التحديث بما يذكره، إمّا مُجْتَمِعَين في وقتٍ واحدٍ، وإما في وقتين، ومن اعتقد أنه لا بدّ أن يكون ذلك في وقت واحدٍ، فقد غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا. قاله النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقوله: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشجِّ أَشَجِّ عبد القيس: "إنّ فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة").
أما "الأشجّ": فاسمه المنذر بن عائذ - بالذال المعجمة - الْعَصَريّ - بفتح العين والصاد المهملتين - هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله ابن عبد البرّ، والأكثرون، أو الكثيرون، وقال ابن الكلبيّ: اسمه المنذر بن الحارث بن
(1)
"شرح مسلم" 1/ 188.
زياد بن عَصَر بن عوف، وقيل: اسمه المنذر بن عامر، وقيل: المنذر بن عُبيد، وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن عوف.
وأما "الْحِلمْ": فهو العقل، وهو بكسر الحاء، يقال منه: حَلُمَ الرجل يَحلُم بضمّ اللام: إذا صار حليمًا، وتحلّم: إذا تكلّف ذلك.
وأما "الأَناة": فهي الرفق، والتَثَبُّتُ في الأمور، وتركُ الْعَجَلة، وهي مقصورة، يقال منه: تأنّى الرجل يتأنى تأنّيًا، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
أَنَاةً وَحِلْمًا وَانْتِظَارًا بِهِمْ غَدًا
…
فَمَا أَنَا بِالْوَانِي وَلَا الضَّرَعِ الْغُمْرِ
وسبب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد: أنهم لَمّا وَصَلُوا المدينة بادروا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجَمَعَها، وَعَقَل ناقته، ولَبِس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقرّبه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تبايعونَ على أنفسكم وقومكم؟ "، فقال القوم: نعم، فقال الأشجّ: يا رسول الله إنك لم تُزاول الرجل عن شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، وترسل معنا مَنْ يدعوهم، فمن اتبعنا كان منّا، ومن أبى قاتلناه، قال:"صدقت، إن فيك خصلتين. . ." الحديث
(1)
.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فالأناة تربُّصُهُ حتى نظر في مصالحه، ولم يَعْجَل، والحِلمُ هذا القول الذي قاله الدالّ على صحة عقله، وجَوْدة نظره للعواقب
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود بمعناه مختصرًا في "سننه" 5/ 395 برقم (5225) ولفظه: حدثنا محمد بن عيسى بن الطّبّاع، حدثنا مطر بن عبد الرحمن الأعنق، حدثتني أم أبان بنت الوازع بن زارع، عن جدّها زارع، وكان في وفد عبد القيس، قال: لَمّا قدمنا المدينة، فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنُقَبِّل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله، قال: وانتظر المنذر الأشجّ حتى أَتَى عَيْبَتَهُ، فلبس ثوبيه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"إن فيك خَلَّتَين يحبهما الله: الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله، أنا أتخلق بهما، أم الله جبلني عليهما؟ قال:"بل الله جَبَلَك عليهما، قال: "الحمد لله الذي جَبَلني على خلتين، يحبهما الله ورسوله". وحسنه الشيخ الألباني دون ذكر رجله. انظر:"صحيح أبي داود" 3/ 918.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 166 - 168.
قال النوويّ: ولا يخالف هذا ما جاء في "مسند أبي يعلى" وغيره أنه لَمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشجّ: "إن فيك خصلتين. . ." الحديث، قال: يا رسول الله، كانا فيَّ أم حَدَثَا؟ قال:"بل قديم"، قال: قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا 6/ 123 عن خلف بن هشام، عن حماد بن زيد - (ح) عن يحيى بن يحيى، عن عباد بن عباد - كلاهما عن أبي جمرة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما و 6/ 124 عن أبي بكر بن أبي شيبة - ومحمد بن المثنى - ومحمد بن بشار - ثلاثتهم عن غندر، عن شعبة، عن أبي جمرة به و 6/ 125 عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه - (ح) عن نصر بن عليّ الْجَهْضَمِيّ، عن أبيه - كلاهما عن قرّة بن خالد، عن أبي جمرة به.
وأخرجه (البخاريّ (1/ 20 و 9/ 111 عن عليّ بن الجعد، - و 1/ 32 عن محمد بن بشار، عن غندر - و 9/ 111 عن إسحاق، عن النضر - ثلاثتهم عن شعبة به، و 1/ 139 عن قتيبة بن سعيد، عن عباد بن عباد المهلّبيّ، و 2/ 131 عن حجاج - و 4/ 98 عن أبي النعمان - و 4/ 220 عن مسدّد، و 5/ 213 عن سليمان بن حرب، و 5/ 213 عن إسحاق، عن أبي عامر الْعَقَديّ، و 8/ 50 عن عمران بن ميسرة، عن عبد الوارث، عن أبي التّيّاح، و 9/ 197 عن عمرو بن عليّ، عن أبي عاصم، تسعتهم عن أبي جمرة به.
وأخرجه (أبو داود) و (3692 و 3694 و 4677) و (الترمذيّ (1599 و 2611) و (النسائيّ (8/ 120 و 322 وفي "الكبرى (316) و (أحمد) 1/ 228 و 333 و 361 و (ابن خزيمة)(307 و 1879 و 2245 و 2246) و (أبو نعيم) في
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 189.
"مستخرجه"(103 و 104 و 105 و 106 و 107)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الأمر بالإيمان بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان.
2 -
(ومنها): مشروعيّة وِفَادة الرؤساء، والأشراف إلى الأئمة عند الأمور المهمة.
3 -
(ومنها): تقديم الاعتذار بين يدي المسألة.
4 -
(ومنها): بيان مهمات الإسلام، وأركانه، ما سوى الحجّ؛ إذ لم يُفرض وقتئذٍ، وقيل: غير ذلك.
5 -
(ومنها): استعانة العالم في تفهيم الحاضرين، والفهم عنهم ببعض أصحابه، كما فعله ابن عبّاس رضي الله عنهما مع أبي جمرة رحمه الله تعالى.
6 -
(ومنها): جواز استفتاء المرأة الرجال الأجانب، وسماعها صوتهم، وسماعهم صوتها، خلافَ من قال: إنّ صوتها عورة، وهو قول ضعيف.
7 -
(ومنها): أن فيه استحباب تأنيس الرجل لزوَّاره، والقادمين عليه بقوله: مرحبًا، ونحوه، والثناء عليهم إيناسًا وبسطًا، وقد تكرر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، كهذا الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ رضي الله عنها:"مرحبًا بأم هانئ"، وفي قصة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه:"مرحبًا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة رضي الله عنها:"مرحبًا بابنتي"، وكلها صحيحة
(1)
، وأخرج النسائي من حديث عاصم بن بشير الحارثيّ، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لما دخل، فسلّم عليه:"مرحبًا، وعليك السلام"، وقد بوّب الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" 8/ 50 - 51:"باب قول الرجل: مرحبًا"، وأورد قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها:"مرحبًا بابنتي"، وقصّة أم هانئ، ثم أخرج حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب.
8 -
(ومنها): جواز مدح الإنسان في وجفه إذا لم يُخَف عليه الإعجاب، أو نحوه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والمدح، فإنه الذبح"، أخرجه أحمد،
(1)
لكن قصة عكرمة بن أبي جهل ضعفها الترمذي، فراجع "الجامع" جـ 5 ص 78.
وابن ماجه
(1)
، وقوله:"ويلك قطعت عنق صاحبك"، متّفقٌ عليه، فمحمول على ما إذا خيف فيه الافتتان.
قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": وفيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه، إذا لم يُخَفْ عليه فتنة بإعجاب ونحوه، وأما استحبابه فيختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وأما النهي عن المدح في الوجه، فهو في حق من يُخاف عليه الفتنة بما ذكرناه، وقد مَدَح النبيّ صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة في الوجه، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:"لست منهم"، "يا أبا بكر لا تَبْكِ إن أَمَنَّ الناس عليّ في صحبته، وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا"، وقال له:"وأرجو أن تكون منهم"، أي من الذين يُدْعَونَ من أبواب الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم:"ائذن له، وبشره بالجنة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"اثْبُتْ أُحُدُ، فإنما عليك نبيّ، وصِدِّيق، وشهيدان"، وقال صلى الله عليه وسلم:"دخلتُ الجنة، ورأيت قصرًا، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله، فذكرتُ غَيْرَتك"، فقال عمر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟ وقال له:"ما لَقِيَك الشيطان سالكًا فَجًّا إلا سلك فجًّا غير فَجِّك"، وقال صلى الله عليه وسلم:"افتح لعثمان، وبَشِّره بالجنة"، وقال لعليِّ رضي الله عنه:"أنت مني، وأنا منك"، وفي الحديث الآخر:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، وقال صلى الله عليه وسلم لبلال:"سَمِعْتُ دَقَّ نعليك في الجنة"، وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام:"أنت على الإسلام حتى تموت"، وقال للأنصاريّ:"ضَحِكَ الله عز وجل أو - عَجِبَ من فعالكما"، وقال للأنصار:"أنتم من أحب الناس إليَّ"، ونظائر هذا كثيرة من مدحه صلى الله عليه وسلم في الوجه، وأما مدح الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يُقْتَدَى بهم رضي الله عنهم أجمعين، فأكثر من أن يحصر، والله تعالى أعلم، انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(2)
.
9 -
(ومنها): وجوب الْخُمُس في الغنيمة، قلّت أم كثُرت، وإن لم يكن الإمام مع السّريّة الغازية.
(1)
حديث حسنٌ، أخرجه أحمد 4/ 99 وابن ماجه (3743) من حديث معاوية رضي الله عنه.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 195 - 196.
10 -
(ومنها): النهي عن الانتباذ في الأواني الأربع المذكورة، وهو أن تجعل في الماء حبّات من تمر، أو زبيب، أو نحوهما؛ ليحلو، فيُشرب؛ لأنه يسرع فيها الإسكار، فيصير حرامًا، ولم يُنه عن الانتباذ في أسقية الأدم، كما سيأتي في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه؛ لأنها لرقّتها لا يبقى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرًا شقّها غالبًا.
11 -
(ومنها): أن في قوله: "إن وفد عبد القيس إلخ"، دليلٌ على أن مذهب ابن عباس رضي الله عنهما أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية، ليس بمنسوخ، بل حكمه باقٍ، وهذا منقول عنه، وعن عمر رضي الله عنه، وحكاه الخطابيّ عن مالك، وأحمد، وإسحاق، والصحيح قول جمهور أهل العلم: إنه منسوخ، وناسخه حديث بريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كلّ وِعاء، ولا تشربوا مسكرًا"، رواه مسلم، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
12 -
(ومنها): أنه استَنْبَطَ منه ابنُ التين رحمه الله جوازَ أخذ الأجرة على التعليم؛ لقول ابن عبّاس رضي الله عنهما لأبي جمرة: أقم حتى أجعل لك سهمًا من مالي"، وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون إعطاؤه ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها في العمرة قبل الحج، كما ورد ذلك صريحًا عند البخاريّ.
13 -
(ومنها): أن فيه اتخاذ المحدث المستملي.
14 -
(ومنها): جواز قول: رمضان، من غير تقييد بالشهر.
15 -
(ومنها): أنه لا عيب على الطالب، أو المستفتي أن يقول للعالم: أوضح لي الجواب، ونحو ذلك.
16 -
(ومنها): استحباب إكرام الفاضل، فقد أجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم الأشجّ إلى جانبه.
17 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن ابن عبّاس رضي الله عنهما كان يكتفي في الترجمة بواحد؛ لأنه مخبر، وقد اختُلف فيه، فقيل: لا يكفي الواحد، بل لا بدّ من اثنين؛ لأنها شهادة، والأول أرجح.
18 -
(ومنها): أن فيه ما يدلّ على أن المفتي يجوز له أن يذكر الدليل، مستغنيًا به عن إيضاح الفتيا، إذا كان السائل بصيرًا بموضع الحجة، فقد استغنى
ابن عبّاس رضي الله عنهما بإيراد الحديث للسائلة عن التصريح بحكم المسألة.
19 -
(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ على إبداء العذر، عند العجز عن توفية الحقّ واجبًا، أو مندوبًا، وعلى أنه يَبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال المصالحة تُدخِل الجنة، إذا قُبِلت، وقبولها يقع برحمة الله تعالى.
20 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الإيمان والإسلام بمعنى واحد؛ لأنه فسّر الإسلام فيما مضى بما فسَّر به الإيمان هاهنا.
21 -
(ومنها): ما قيل: إنما خُصّت هذه الأوعية المذكورة بالنهي؛ لأنها يسرع الإسكار إليها.
22 -
(ومنها): ما قيل: الحكمة في إجمال العدد قبل التفسير في قوله: "بأربع"، و"عن أربع"؛ لأجل تشويق النفس إلى التفصيل؛ لتسكن إليه، ولتحصيل حفظها للسامع، حتى إذا نسي شيئًا من تفاصيل ما أجمله طالبته نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي حفظه، عَلِم أنه قد فاته بعض ما سمعه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[126]
(18) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ لَقِيَ الْوَفْدَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَبْدِ الْقَيْس، قَالَ سَعِيدٌ: وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، فِي حَدِيثِهِ هَذَا: أَنَّ أنَاسًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْس، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحُرُم، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ، نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آمرُكُمْ بِأَرْبَع، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: اعْبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزّكاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْغَنَائِمِ.
وَأنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالْمُزَفَّت، وَالنَّقِيرِ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، مَا عِلْمُكَ بِالنَّقِيرِ؟ قَالَ: "بَلَى، جِذْعٌ تنقُرُونَهُ، فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاء"
- قَالَ سَعِيدٌ: أَوْ قَالَ -: مِنْ التَّمْر، ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ مِنَ الْمَاء، حَتَّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوهُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ - أَوْ - إِنَّ أَحَدَهُمْ، لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ"، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ، قَالَ: وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا؛ حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: فَفِيمَ نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَم، الَّتي يُلَاثُ عَلَى أفوَاهِهَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِن أَرْضَنَا كثِيرَةُ الْجِرْذَان، وَلَا تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الْأَدَم، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ"، قَالَ: وَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْن، يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"):
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) الْمَقَابِريّ البغداديّ، ثقة [10](ت 234)(عخ م د عس) 1/ 9.
2 -
(ابنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقة حافظ [8](ت 193)(ع) 1/ 3.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) واسمه مِهْران الْعَدَويّ الْيشكريّ، مولى بني عَدِيّ بن يَشْكُر، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6].
رَوَى عن قتادة، والنضر بن أنس، والحسن البصري، وعبد الله بن فَيْرُوز الدَّانَاج، وأبي مَعْشَر زياد بن كُليب، وزياد الأعلم، ومطر الوَرَّاق، وأيوب، وعامر الأحول، وعلي بن الْحَكَم الْبُنَانيّ، وأبي رَجَاء الْعُطَاردي، وأبي نضرة العبديّ، ويعلى بن حكيم، وأبي التيّاح، وجماعة.
وروى عنه الأعمش، وهو من شيوخه، وشعبة، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وخالد بن الحارث، ورَوْح بن عُبادة، ويزيد بن زُريع، ومحمد بن أبي عديّ، ومحمد بن سَوَاء، ويحيى القطان، وبشر بن المفضّل، وسهل بن يوسف، وابن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، وكهمس بن المنهال، وابنُ علية، وأبو أسامة، وسالم بن نوح، وسعيد بن عامر، وأبو خالد الأحمر، وعبدة، وعلي بن مسهر، وعلي بن يونس، وعبد الوهاب بن عطاء، ومحمد بن
بكر، ومحمد بن بشر، ومحمد بن جعفر غندر، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وجماعة.
قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب، إنما كان يحفظ ذلك كله. وقال ابن معين والنسائيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة مأمون. وقال ابن أبي خيثمة: أثبت الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي. وقال أبو عوانة: ما كان عندنا في ذلك الزمان أحفظ منه، وقال أبو داود الطيالسيّ: كان أحفظ أصحاب قتادة. وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: سعيد أحفظ، وأثبت - يعني من أبان العطار - وأثبت أصحاب قتادة هشام، وسعيد. وقال أبو حاتم: هو قبل أن يختلط ثقة، وكان أعلم الناس بحديث قتادة، وقال أبو زرعة الدمشقيّ عن دُحَيم اختلط مخرج إبراهيم سنة خمس وأربعين ومائة. وقال الآجري عن أبي داود: سماع وكيع عنه بعد الهزيمة
(1)
، وقال أبو داود: كان وكيع يقول: كنا ندخل على سعيد، فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحًا طرحناه.
وقال أبو نعيم: كتبت عنه بعد ما اختلط حديثين. وقال ابن حبان: كان سماع شعيب بن إسحاق منه سنة (44) قبل أن يختلط بسنة.
وقال النسائيّ: "ذِكْرُ من حَدَّث عنه سعيد بن أبي عروبة، ولم يسمع منه": لم يسمع من عمرو بن دينار، ولا من هشام بن عروة، ولا من زيد بن أسلم، ولا من عبيد الله بن عمر، ولا من أبي الزناد، ولا من الحكم بن عتيبة، ولا من إسماعيل بن أبي خالد، ولا من حماد - يعني ابن أبي سليمان -.
وقال ابن المبارك: سمع من قيس بن سعد شيئًا. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لم يسمع من الأعمش، ولا من يحيى بن سعيد الأنصاري، ولا من أبي بشر. وقال ابن معين: لم يسمع من عبد الله بن محمد بن عَقِيل. وقال أبو بكر البزار: يحدث عن جماعة لم يسمع منهم، فإذا قال: سمعت، وحدثنا كان مأمونًا على ما قال. وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى: كان
(1)
أي بعد هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن سنة (142 هـ)، قاله في "شرح النوويّ" 1/ 190.
يُرسل. وقال الأزديّ: اختلط اختلاطًا قبيحًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، ثم اختلط في آخر عمره. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (155)، وبقي في اختلاطه خمس سنين، ولا يُحتجّ إلا بما رَوَى عنه القدماء، مثل يزيد بن زُريع، وابن المبارك، ويعتبر برواية المتأخرين عنه، دون الاحتجاج بها، ثم قال: وقد قيل: مات سنة (50). وقال الذهليّ عن عبد الوهاب الْخَفّاف: خولط سعيد سنة (48)، وعاش بعدما خولط تسع سنين. وقال العقيليّ: سمع منه محمد بن أبي عديّ بعدما اختلط. وقال الآجري، عن أبي داود: كان سعيد يقول في الاختلاط: قتادة عن أنس، أو أنس عن قتادة.
وقال النسائيّ: من سَمِع منه بعد الاختلاط فليس بشيء، وقال الآجري عن أبي داود: سماع رَوْح منه قبل الهزيمة، وكذا سَرَّار، وسماع ابن مهديّ منه بعد الهزيمة.
وقال يزيد بن زُريع: أول ما أنكرنا ابن أبي عروبة يوم مات سليمان التيميّ، جئنا من جنازته، فقال: من أين جئتم؟ قلنا: من جنازة سليمان التيميّ، فقال: ومن سليمان التيميّ؟
قال الحافظ: والتيميّ مات سنة (143)، ويؤيد ذلك ما حكاه ابن عديّ في "الكامل" عن ابن معين قال: من سمع منه سنة (142) فهو صحيح السماع، وسماع من سمع منه بعد ذلك ليس بشيء، وأثبت الناس سماعًا منه عبدة بن سليمان. وقال ابن قانع: خلط في آخر عمره، وكان أعرج، يُرمَى بالقدر. وقال أحمد: كان يقول بالقدر ويكتمه. وقال العجليّ: كان لا يدعو إليه، وكان ثقة. وقال ابن مهديّ: كتب غُنْدَر عن سعيد بعد الاختلاط.
وقال ابن عدي: وسعيد من ثقات المسلمين، وله أصناف كثيرة، وحدَّثَ عنه الأئمة، ومن سمع منه قبل الاختلاط، فإن ذلك صحيح حجة، ومن سمع منه بعد الاختلاط، لا يُعتمَد عليه، وأرواهم عنه عبد الأعلى، وهو مقدم في أصحاب قتادة، ومن أثبت الناس عنه روايةً، وكان ثَبْتًا عن كل مَن رَوَى عنه، إلا من دَلَّس عنهم، وأثبت الناس عنه ابنُ زُريع، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، ونظراؤهم.
وقال ابن القطان: حديث عبد الأعلى عنه مشتبهٌ، لا يُدرى هو قبل الاختلاط أو بعده؟
وتَعَقَّب ذلك ابن الْمَوَّاق فأجاد. وقال ابن السكن: كان يزيد بن زُريع يقول: اختلط سعيد في الطاعون - يعني سنة (132)، وكان القطان يُنكر ذلك، ويقول: إنما اختلط قبل الهزيمة.
وجمع الحافظ بين القولين بما قال أبو بكر البزار: إنه ابتدأ به الاختلاط سنة (133)، ولم يَستحكم، ولم يُطبِق به، واستمرّ على ذلك، ثم استحكم به أخيرًا، وعامة الرواة عنه سمعوا منه قبل الاستحكام، وإنما اعتبر الناس اختلاطه بما قال يحيى القطان. والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن ممن سمع منه قبل الاختلاط يزيدَ بنَ زُريع، وعبدةَ بنَ سليمان، وخالدَ بن الحارث، ويحيى القطان، وعبدَ الأعلى بن عبد الأعلى، وابنَ المبارك، وروحَ بن عبادة، ويزيدَ بن هارون
(1)
. والله تعالى أعلم.
وقال البخاريّ: قال عبد الصمد: مات سنة ست وخمسين ومائة، وقال غيره: سنة (57). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا.
[تنبيه]: أبو عروبة هكذا يقول أهل الحديث وغيرهم: "عروبة" بغير ألف ولام، وقال ابن قُتيبة في كتابه "أدب الكاتب" في "باب ما تغيّر من أسماء الناس": هو ابن أبي العروبة بالألف واللام، يعني أن قولهم: عروبة لحن، وذكر ابن قتيبة في كتابه "المعارف" كما ذكره غيره، فقال: سعيد بن أبي عروبة، يُكنى أبا النضر، لا عقِب له، يقال: إنه لم يمسّ امرأةً قط، واختلط في آخر عمره. انتهى
(2)
.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبتٌ، رأس [4](ت 117).
5 -
(أَبُو نَضْرَةَ) - بنون مفتوحة، ومعجمة ساكنة - مشهور بكنيته، واسمه:
(1)
ذكره النووي في "شرحه" 1/ 190 ممن سمع منه قبل الاختلاط.
(2)
راجع: "شرح النوويّ على مسلم" 1/ 190.
المنذر بن مالك بن قُطَعَةَ الْعَبْدِيّ، ثم الْعَوَقيّ البصريّ، ثقة [3].
أدرك طلحة، وَرَوَى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعريّ، وأبي ذر الغفاريّ، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وعمران بن حُصين، وسمرة بن جندب، وأنس، وجابر، وغيرهم.
وروى عنه سليمان التيميّ، وأبو مسلم سعيد بن يزيد، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، وقتادة، وداود بن أبي هند، وخُليد بن جعفر، ويحيى بن أبي كثير، وكهمس بن الحسن، وسعيد بن إياس الْجُريريّ، وآخرون.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: ما علمت إلا خيرًا، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو زرعة، والنسائيّ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي نضرة، وعطية؟ فقال: أبو نضرة أحب إليّ. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وليس كل أحد يَحتجّ به، مات في ولاية ابن هُبَيْرة، حدثنا عفّان، حدثنا مهدي بن ميمون: شَهِدتُ الحسنَ حين مات أبو نضرة، صلى بنا على الجنازة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فُصحاء الناس، فُلِج في آخر عمره، مات سنة ثمان أو تسع ومائة، وأوصى أن يصلي عليه الحسن، وكان ممن يخطئ. وقال خليفة بن خياط: مات سنة ثمان، وقال عمرو بن علي: مات سنة تسع ومائة، وقال البخاريّ: قال يحيى بن سعيد: مات قبل الحسن بقليل، وأورده العقيليّ في "الضعفاء"، ولم يذكر فيه قدحًا لأحد، وكذا أورده ابن عديّ في "الكامل"، وقال: كان عَرِيفًا لقومه، وأظن ذلك لِمَا أشار إليه ابن سعد، ولهذا لم يحتج به البخاريّ.
وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن حنبل: ثقة.
علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (64) حديثًا.
[تنبيه]: قوله: "ابن قُطَعَة" بضم القاف، وفتح الطاء المهملة، هكذا ضبطه في "تقريب التهذيب"، وضبطه النوويّ في "شرحه" 1/ 190) بكسر القاف، وإسكان الطاء.
وأما "الْعَوَقِيّ": فهو بفتح العين، والواو، وبالقاف، هذا هو المشهور
الذي قاله الجمهور، وحَكَى صاحب "المطالع" أن بعضهم سكّن الواو من "الْعَوقِيّ"، والْعَوَقَةُ: بطن من عبد القيس، قاله النوويّ في "شرحه" 1/ 190 - 191.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (ت 36) وقيل: غير ذلك، تقدّم في "شرح المقدّمة" 2/ 470. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود، وأخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والنسائيّ في "مسند عليّ رضي الله عنه"، وغير أبي نَضْرَةَ، فقد علّق عنه البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين، غير شيخه، فإنه بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن أبي نَضْرَةَ.
5 -
(ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه صحابيّ ابن صحابيّ - فأبوه صحابيّ، استُشهد يوم أحد رضي الله عنه وهو من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة رحمه الله تعالى أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ) بفتح الميم موصولة، بمعنى الذي (لَقِيَ) بكسر القاف، يقال: لقيتُهُ أَلْقَاهُ، من باب تَعِبَ لُقِيًّا، والأصل على فُعُولٍ، ولُقًى بالضمّ مع القصر، ولقَاءً بالكسر مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء استَقْبَلَ شيئًا، أو صادفه، فقد لَقِيه، ومنه لقاء البيت، وهو استقباله، قاله الفيّوميّ
(1)
(الْوَفْدَ) تقدّم أنه بمعنى الجماعة المختارة من القوم ليتقدّموا في لُقِيّ العظماء في المهمات (الَّذِينَ قَدِمُوا) بكسر الدال، يقال: قَدِمَ الرجلُ البلدَ يقدَمه، من باب تَعِبَ قُدُومًا، ومَقْدَمًا: إذا دخله، وأما قَدَمَ القومَ يقدُمهم قَدْمًا، من باب نصر، فإنه بمعنى تقدّمهم
(2)
، ولا يناسب هنا (عَلَى
(1)
"المصباح المنير" 2/ 558.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 493.
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ) القبيلة المشهورة (قَالَ سَعِيدٌ) هو ابن أبي عروبة (وذَكَرَ قَتَادَة) أي ممن حدّثه بهذا الحديث من الوفد المذكورين (أَبَا نَضْرَةَ) أي فزال بهذا تهمة تدليسه، فإنه معروف به (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه متعلّق بـ "حَدّثنا"، وقال النوويّ: معنى هذا الكلام أن قتادة حدّث بهذا الحديث عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، كما جاء مبيّنًا في الرواية التي بعد هذا من رواية ابن أبي عديّ، انتهى
(1)
(فِي حَدِيثِهِ) متعلّق بـ "حدّثنا"، و"في" بمعنى الباء، وقوله:(هَذَا) بدل من "حديثه"، والإشارة إلى ما يسوقه بعدُ (أَنَّ أُنَاسًا) بضم الهمزة، قال الفيّومي: و"الأُناس" قيل: فُعَالٌ بضمّ الفاء، مشتقّ من الأُنْس، لكن يجوز حذف الهمزة تخفيفًا على غير قياس، فيبقى نَاسًا، وعن الكسائيّ أن الأُناس والناس لغتان بمعنى واحد، وليس أحدهما مشتقًا من الآخر، وهو الوجه، لأنهما مادّتان مُختلفتان في الاشتقاق، والحذف تغيير، وهو خلاف الأصل. انتهى
(2)
(مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ) متعلّق بصفة لـ "أُناس"، أي كائنين من هذه القبيلة (قَدِمُوا) بكسر الدال (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَما نَبِيَّ اللهِ) فيه دليلٌ على أنهم مؤمنون قبل مجيئهم؛ إذ نادوه بصفة النبوّة (إِنَّا) هي "إنّ" واسمها ضمير المتكلّمين، وخبرها قولهم:(حَيٌّ) أي قبيلة، سمّوا بذلك لأن بعضهم يحيا ببعض، وجمعه أحياء (مِنْ رَبِيعَةَ) متعلّق بصفة لـ"حيّ"، كما سبق قريبًا (وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ) بضمّ، ففتح، غير منصرف؛ للعَلَميّة، والعدل من ماضر، وهو أبو قبيلة، وهو مُضر بن نِزَار، يُلقّب مضر الحمراء؛ لولعه بشرب اللبن الماضر، أي الحامض، أو لبياض لونه، والعرب تسمّي الأبيض أحمر
(3)
، وتقدّم غير هذا في سبب تلقيبه (وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ) بتثليث الدال، من باب ضرب، ونصر، وفَرِحَ
(4)
: أي لا نَقْوَى، ولا نتمكّن من
(1)
"شرح مسلم" 1/ 190.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 26 في مادّة "أنس".
(3)
راجع: "القاموس المحيط"، وهامشه ص 429.
(4)
هكذا ضبطه في "القاموس"، واقتصر في "المصباح" على الكسر من باب ضرب فقط.
الوصول إليك؛ خوفًا من هؤلاء الكفّار (إِلا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ) أي الأربعة: ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرّم، ورجب مضر، فالثلاثة سرْدٌ، وواحد فرد (فَمُرْنَا بِأَمْرٍ، نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا) تقدّم الكلام في هذه الجملة، وأنه يجوز رفع "نأمر"، وجزمه، وكذا قوله:(وَنَدْخُلُ بهِ الْجَنَّةَ، إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ) أي إذا عَمِلنا بما تأمرنا به (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آمرُكُمْ بِأَرْبَعٍ") أي أربع خصال، أو أربع جُمَلٍ (وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أي عن الانتباذ في أربع أوعية، ثم فصّل الأربع الأُوَلَ، فقال (اعْبُدُو اللهَ) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: عبادته هي طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمّن غاية الانقياد، والذلّ، والخضوع. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: العبادة هي طاعة الله تعالى بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقال أيضًا: العبادة اسم جامع لكلّ ما يُحبّه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة.
وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله تعالى: ومدارها على خمس عشرة قاعدةً، من كملها كمل مراتب العبوديّة، وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكامُ التي للعبوديّة خمسة: واجبٌ، ومستحبّ، وحرام، ومكروه، ومباح، وهنّ لكلّ واحد من القلب، واللسان، والجوارح.
ولقد أجاد رحمه الله تعالى حيث قال في "نونيّته"[من الكامل]:
وَعِبَادَةُ الرَّحْمنِ غَايَةُ حُبِّهِ
…
مَعَ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ
وَمَدَارُهُ بِالْأَمْرِ أَمْرِ رَسُولِهِ
…
لَا بِالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
ولبعضهم [من الكامل أيضًا]:
حَقُّ الإلَاهِ عِبَادَةٌ بِالأَمْرِ لَا
…
بِهَوَى النُّفُوسِ فَذَاكَ لِلشَّيْطَانِ
مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ بِهِ شَيْئًا همَا
…
سبَبُ النَّجَاةِ فَحَبَّذَا السَّبَبَانِ
لَمْ يَنْجُ مِنْ غَضَبِ الْإِلَهِ وَنَارِهِ
…
إِلَّا الَّذِي قَامَتْ بِهِ الأَصْلَانِ
وَالنَّاسُ بَعْدُ فَمُشْرِكٌ بِإِلَاهِهِ
…
أَوْ ذُو ابْتِدَاعٍ أَوْ لَهُ الْوَصْفَانِ
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أصل العبادة التذلّل والخضوع، وسُمّيت وظائف الشرع على المكلّفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها، ويفعلونها، خاضعين، متذلّلين لله تعالى
(1)
.
وقوله: (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونكم غير مشركين به، أي وحّدوه بالعبادة متجرّدين عن الشرك، فإن من لم يتجرّد عن الشرك لم يكن آتيًا بعبادة الله تعالى وحده (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي أدّوها مراعين شروطها، وأركانها، وواجباتها، وآدابها (وآتُو الزَّكَاةَ) أي أعطوها. مستحقّيها فـ "الزكاة" مفعول ثانٍ، والأول هو ما قدّرناه (وصُومُوا رَمَضَانَ) فيه إطلاق هذا الاسم من غير إضافة شهر، وهو الحقّ، وقد كرهه بعضهم، ولا وجه له (وأَعْطُوا الْخُمُسَ) مستحقّه، فـ "الخمسَ" مفعول ثان، والأول هو المقدّر، كسابقه (مِنَ الْغَنَائِمِ) جمع غنيمة، وهي ما نِيلَ من أهل الشرك عَنْوَةً، والحربُ قائمة، قاله الفيّومي
(2)
، وقال ابن الأثير: هي ما أُصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب
(3)
. وأما الفَىْءُ فهو ما نِيلَ منهم بعدَ أن تَضَعَ الحربُ أوزارها
(4)
.
(وأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أي عن الانتباذ. في أربع أوعية (عَنِ الدُّبَّاءِ) بدل تفصيل من مجمل من الجار والمجرور قبله، وهي بضمّ أوله، وتشديد الموحّدة، ممدودًا: القرعة، كانت يُنبذ فيها، فيَضْرَى، أي يشتدّ، قاله الهرويّ (وَالْحَنْتَمِ) قد تقدّم أن أصحّ ما قيل فيها أنها جِرَارٌ، لأنه تفسير الأكثرين (والْمُزَفَّتِ) أي المطليّ بالزفت، وهو القار (والنَّقِيرِ) فَعِيل بمعنى مفعول، أي المنقور، وهو الجِذع المنقور وسطه، وإنما نُهُوا عن الانتباذ فيها؛ لأنها تُعجّل إسكار النبيذ، وقيل: غير ذلك مما سبق بيانه في شرح الحديث الماضي (قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، مَا عِلْمُكَ بِالنَّقِيرِ؟)"ما" استفهاميّة، وهو استفهام استبعاد، أي كيف عرفته، ولم يكن بأرض قومك؟ (قَالَ:"بَلَى") هي حرف إيجاب، فإذا
(1)
راجع: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" ص 18 و 32.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 455.
(3)
"النهاية" 3/ 389.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 455.
قيل: ما قام زيدٌ، وقلتَ في الجواب: بلى، فمعناه إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا، وقلتَ: بلى، فمعناه التقرير والإثبات، ولا تكون إلا بعد نفي، إما أول الكلام، كما تقدّم، وإما في أثنائه، كقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} الآية [القيامة: 3 - 4]، والتقدير: بلى نجمعها، وقد يكون مع النفي استفهام، وقد لا يكون، كما تقدّم، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات. ذكره الفيّومي
(1)
.
والمعنى هنا: بلى أعلمه، ثم بيّن لهم حقيقته، فقال:
(جِذْعٌ) خبر لمحذوف، أي هو جذع، وهو بكسر الجيم: ساق النخلة، والجمع جُذُوع، وأجذاع (تَنْقُرُونَهُ) بضم الراء، من باب نصر: أي تحفرون وسطه (فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ) أي تُلْقُون في ذلك الجِذع بعض أنواع التمر المسمّى بالقُطَيعاء.
وقال النووي رحمه الله تعالى في "شرحه": أما "تقذفون" فهو بتاء مثنّاة فوقُ، مفتوحة، ثم قاف ساكنة، ثم ذال معجمة مكسورة، ثم فاء، ثم نون، كذا في الأصول كلّها في هذا الموضع الأول، ومعناه تُلقون فيه، وتَرمُون.
وأما قوله في الرواية الأخرى، وهي رواية محمد بن المثنّى، وابن بشّار، عن ابن أبي عديّ:"وتُذِيفُون به من الْقُطَيْعاء"، فليس فيها قاف، ورُوي بالذال المعجمة، وبالمهملة، وهما لغتان فصيحتان، وكلاهما بفتح التاء، وهو من ذافَ يَذِيف بالمعجمة، كباع يَبيع، وداف يَدُوف بالمهملة، كقال يقول، وإهمال الدال أشهر في اللغة، وضبطه بعض رُواة مسلم بضمّ التاء، على رواية المهملة، وعلى رواية المعجمة أيضًا، جعله أذاف، والمعروف فتحها من ذاف، وداف، ومعناه على الأوجه كلّها خَلَطَ، والله تعالى أعلم.
وأما "الْقُطَيعاءُ": فبضم القاف، وفتح الطاء، وبالمدّ، وهو نوع من التمر صغار، يقال له الشّهريز بالشين المعجمة، والمهملة، وبضمّهما وبكسرهما. انتهى
(2)
.
(قَالَ سَعِيدٌ) أي ابن أبي عروبة (أَوْ) للشكّ من الراوي، وهو سعيد كما
(1)
"المصباح" 1/ 62.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 191.
صرّح به (قَالَ) قتادة (مِنَ التَّمْرِ) بدل "من القُطَيْعاء"(ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ)، أي في ذلك الْجِذع الذي ألقيتم فيه من القطيعاء (مِنَ الْمَاءِ) أي بعض الماء، فـ "من" بمعنى البعض، ويحتمل أن تكون ابتدائيّة (حَتَّى) غاية للترك، أي ثم تركتموه حتى (إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ) أي اضطرابه، يقال: غَلَتِ القدرُ غَلْيًا، من باب ضرب، وغَلَيَانًا أَيضًا، قال الفرّاء: إذا كان الفعل في معنى الذهاب والمجيء مضطربًا، فلا تَهَابَن في مصدره الْفَعَلَانَ، وفي لغة: غَلِيَت تَغْلَى، من باب تَعِبَ، قال أبو الأسود الدّؤليّ [من البسيط]:
وَلَا أَقُولُ لِقِدْرِ الْقَوْمِ قَدْ غَلِيَتْ
…
وَلَا أَقُولُ لِبَابِ الدَّارِ مَغْلُوقُ
(1)
والأُولى هي الْفُصحَى، وبها جاء الكتاب العزيز في قوله تعالى:{يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} الآية [الدخان: 45]، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أغليت الزيتَ ونحوه إغلاءً، فهو مُغْلًى
(2)
.
(شَرِبْتُمُوهُ) جواب "إذا"(حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ) غاية لإكثار الشرب، أكثرتم شربه، وسكرتم حتى إن أحكم (أوْ) للشكّ من الراوي، ولم أعرفه (إِنَّ أَحَدَهُمْ) بضمير الغيبة بدل الخطاب (لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بالسَّيْفِ") قال النوويّ رحمه الله تعالى: معناه: إذا شَرِبَ هذا الشراب سَكِرَ، فلَم يَبقَ له عقلٌ، وهاج به الشرّ، فيضرب ابن عمّه الذي هو عنده من أحبّ أحبابه، وهذه مفسدة عظيمة، ونبّه بها على ما سواها من المفاسد. انتهى.
(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه أبو سعيد رضي الله عنه (وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ) جملة من مبتدأ مؤخّر وخبر مقدّم، أي وكان رجل مع أولئك القوم الذين يخاطبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب، وجملة (أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ) صفة لـ "رجل"، واسم هذا الرجل جهم بن قُثَم، كما قاله ابن بشكوال، والخطيب، وقال ابن الصلاح: بلغنا ذلك عن ابن أبي خيثمة، وكانت الجراحة في ساقه
(3)
، وقال سبط ابن العجميّ: وابن عمّه لا يعرف اسمه
(4)
، (كَذَلِكَ) أي جراحة كالجراحة التي
(1)
مراده أنه فصيح لا يلحن.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 452 - 453، و"لسان العرب" 15/ 134.
(3)
"الصيانة" ص 155.
(4)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 52.
وصفها النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنهم يشربون من هذا الشراب المسكر، فيسكرون، وتغيب عقولهم، فيضربون بالسيف أَبناءَ عُمُومتهم (قَالَ) ذلك الرجل (وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا) أي أستر تلك الجراحة (حَيَاءً مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) أي لئلا يراها، فيسأله عن سببها، فيفتضح (فَقُلْتُ: فَفِيمَ) هي "ما" الاستفهاميّة حُذفت ألفها؛ لدخول الجارّ عليها، كقوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} [النبأ: 1]، وقوله:{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، قال في "الخلاصة":
و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
والجارّ والمجرور متعلّق بـ (نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) أي في أيّ الأوعية يجوز أن نتّخذ الأنبذة الجائزة الشرب حتى نشربها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ) متعلّق بفعل مقدّر، دلّ عليه السؤال، أي اشربوا في أسقية الأدم، و"الأَسقية" بالفتح: جمع سِقَاء بالكسر، ككِسَاءٍ: جِلْدُ السَّخْلَة إذا أجذَعَ، يكون للماء واللبن، ويُجمع أيضًا على أسقيات، وأَسَاقٍ، قاله في "القاموس"
(1)
، وأما "الأَدَمُ" فبفتح الهمزة، والدال: جمع أَدِيمٍ، وهو الجلد الذي قد تَمَّ دِبَاغه، وتناهى، قال السِّيرافيّ: لم يُجمع فَعِيلٌ على فَعَل إلا أَدِيمٌ وأَدَمٌ، وَأَفِيقٌ وَأَفَقٌ، وقَضِيمٌ وقَضَمٌ، والقضيم: الصحيفة
(2)
، والأَفِيق: الجلد الذي لم يتمّ دِباغه. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ: والأَديم: الجلد المدبوغ، والجمع أَدَمٌ بفتحتين، وبضمّتين أيضًا، وهو القياس، مثلُ بَرِيدٍ وبُرُد. انتهى
(4)
"الَّتِي يُلَاثُ عَلَى أفوَاهِهَا")، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أي يُربط ويُلفّ بعضها على بعض، قال الْقُتَبيّ: أصلُ اللَّوْث الطيّ، ولُثْتُ الْعِمامة: أي لَفَفتها، وهذا بمعنى اللفظ الوارد في الرواية الأخرى:"عليكم بالْمُوكَى" مقصورًا: أي بالأسقية التي توكأ: أي تُربط أفواهها بالوِكَاء، وهو الخيط الذي تُربط به.
(1)
"القاموس المحيط" ص 1166.
(2)
قال القاضي عياض: القضيم: الصحيفة كما قال، لكنها البيضاء التي لم يُكتب فيها بعدُ. انتهى "إكمال" 1/ 169.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 168.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 9.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قوله: "يُلاثُ على أفواهها": فبضم المثنّاة من تحت، وتخفيف اللام، وآخره ثاء مثلثة، كذا ضبطناه، وكذا هو في أكثر الأصول، وفي أصل الحافظ أبي عامر الْعَبْدَرِيّ:"تُلاثُ" بالمثناة فوقُ، وكلاهما صحيح، فمعنى الأوّل: يُلَفُّ الخيط على أفواهها، ويُرْبَط به، ومعنى الثاني: تُلَفُّ الأسقية على أفواهها، كما يقال: ضربته على رأسه. انتهى
(1)
.
قال عياضٌ رحمه الله تعالى: وإنما حضّهم على الشرب في آنية الأدَم، وهي الأسقية والموكَى المذكور في الأحاديث الأخر؛ لأنها لرقّة جلودها لا يمكن أن يتمّ فيها فساد الأشربة، وتخميرها حتى تنشقّ، ويظهر فيها، بخلاف غيرها من الأواني، فكانت آمن من هذا. انتهى
(2)
.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ) قال النوويّ: كذا ضبطناه "كثيرة" بالهاء في آخره، ووقع في كثير من الأصول "كثير" بغير هاء، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: صحّ في أصولنا "كثير" من غير تاء التأنيث، والتقدير فيه على هذا: أرضنا مكانٌ كثيرُ الْجِرْذَان، ومن نظائره قول الله عز وجل:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
وأما "الْجِرْذَان": فبكسر الجيم، وإسكان الراء، وبالذال المعجمة: جمعُ جُرَذٍ بضم الجيم، وفتح الراء، كنُغَرِ وبغْرَان، وصُرَدٍ وصِرْدَان، والْجُرَذُ: نوعٌ من الفأر، كذا قاله الجوهريّ وغيره، وقال الزُّبَيديّ في "مختصر العين": هو الذكرُ من الفأر، وأطلق جماعة من شُرّاح الحديث أنه الفأر.
(وَلَا تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الْأَدَم) أي لكون الجرذان تأكلها، وهذا اعتذار منهم بكثرة الجرذان في أرضهم، وأَنها تأكلها، فلم يَعذرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قال المازريّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون إنما راجعوه لأنهم اعتقدوا أنه إنما يبني كثيرًا من شرعه على المصالح، وأن من المصلحة الرخصةَ عند الضرورات، فلم يعذِرهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اعتقد أنه ليس بأمر غالبٍ يشقّ التحرّز منه، وأن هذا ليس مما يباح للضرورة
(3)
.
(1)
"شرح مسلم" 1/ 192.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 169.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 171.
(فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَإِنْ أَكلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ) كرّره ثلاث مرّات للتأكيد (قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (وَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ) تَقدّم الاختلاف في اسمه، وأن الصحيح المشهور هو المنذر بن عائذ الْعَصَرِيّ رضي الله عنه ("إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْن") اللام هي لام الابتداء المزحلقة عن موضعها؛ إذ الأصل أن تكون مع "إِنَّ"، فكرهوا توالي حرفي تأكيد، فأخّروها عنها، كما أشار إلى ذلك في "الخلاصة":
وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصْحَبُ الْخَبَرْ
…
لَامُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ "إِنِّي لَوَزَرْ"
وَتَصْحَبُ الْوَاسِطَ مَعْمُولَ الْخَبَرْ
…
وَالْفَصْلَ وَاسْمًا حَلَّ قَبْلَهُ الْخَبَرْ
والمراد بالخصلة هنا: الفضيلة، قال في "القاموس":"الْخَصلَةُ" الْخَلَّةُ، والْفَضِيلَةُ، والرَّذِيلَةُ، أو قد غَلَبَ على الْفَضِيلة، جمعه: خِصال. انتهى
(1)
.
(يُحِبُّهُمَا اللهُ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "خصلتين"، وقوله:(الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ) بالنصب على البدليّة من "خصلتين"، ويجوز القطع إلى الرفع على الخبرية لمبتدإ محذوف: أي هما الحلم والأناة، والنصب، بتقدير "أعني"، وقد تقدّم في الحديث الماضي معنى الحلم بأنه العقل، والأَناةِ بأنه التَّثَبُّتُ، وترك العجلة، وذكرنا سبب قوله صلى الله عليه وسلم له ذلك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنف هنا (6/ 126) عن يحيى بن أيوب، عن ابن عليّة و (6/ 127) عن محمد بن المثنّى، وابن بشّار كلاهما عن ابن أبي عديّ، وكلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه، و (6/ 128) عن محمد بن بكار، عن أبي عاصم، (ح) عن محمد بن رافع، عن
(1)
"القاموس المحيط" ص 893.
عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جريج، عن أبي قزعة، عن أبي نضرة به.
وأخرجه (أحمد) 3/ 22 و 90 و (البخاري) في "الأدب المفرد"(585) و (أبو نعيم) في "المستخرج"(107 و 108 و 109)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[127]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ، لَقِيَ ذَاكَ الْوَفْدَ، وَذَكَرَ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَن وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، غَيْرَ أَن فِيهِ: "وَتَذِيفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاء، أَوْ التَّمْرِ وَالْمَاءِ"، وَلَمْ يَقُلْ: قَالَ سَعِيدٌ: أَوْ قَالَ: "مِنَ التَّمْرِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، ويقال: إن كنية إبراهيم أبو عَدِيّ السُّلَمِيّ مولاهم الْقَسْمَليّ، نَزَل فيهم، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9].
رَوَى عن سليمان التيميّ، وحُميد الطويل، وابن عون، وداود بن أبي هند، وعثمان بن غياث، وشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام بن حسان، وهشام الدستوائيّ، وحجاج الصواف، وحسين المعلم، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعمرو بن عليّ، وابنا أبي شيبة، وأبو موسى وبندار، وعقبة بن مُكْرَم، وقتيبة بن سعيد، وبكر بن خَلَف، وغيرهم.
قال عمرو بن عليّ: سمعت عبد الرحمن بن مهديّ، وذَكَر ابن أبي عديّ، فأحسن الثناء عليه، وسمعت معاذ بن معاذ، يُحسن الثناء عليه، وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وفي "الميزان": قال أبو حاتم مرّةً: لا يُحتجّ به. وقال رُسْته: سمعت معاذ بن معاذ يقول: ما رأيت أحدًا أفضل من ابن أبي عديّ.
وقال ابن سعد: كان ثقةً، مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ومائة، وذكره
ابن حبان في "الثقات" وقال: يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الآخر منها، وقال أبو موسى، محمد بن المثنى: مات سنة (92)، وقال الْقَرّاب: وفي وفاته اختلاف، وفي سنة أربع أكثر.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (82) حديثًا.
وأما الباقون فتقدّموا قريبًا، فمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وابْنُ بَشَّارٍ تقدّما في الحديث الثاني من هذا الباب برقم (124)، وأما الباقون فتقدّموا في المسند الماضي.
وقوله: "وَذَكَرَ أبا نضرة إلخ"، أي ذكر قتادة في جملة من لقي ذاك الوفد أبا نضرة المنذر بن مالك.
وقوله: "بمثل حديث ابن عليّة إلخ"، يعني أن ابن أبي عديّ حدّث عن سعيد مثل حديث ابن عليّة في لفظه، إلا أنه قال:"وتُذيفون فيه إلخ" بدل "فتقذفون فيه إلخ"، وقد تقدّم أنه رُوي بالذال المعجمة، والدال المهملة، وهما لغتان فصيحتان، من ذاف، وداف، والمعنى تخلطون.
وقوله: "ولم يقل: قال سعيد إلخ"، يعني أن ابن أبي عديّ لم يذكر ما ذكره ابنُ عليّة، وهو قوله: قال سعيد إلخ.
[تنبيه]: رواية ابن أبي عدي هذه التي أحالها المصنف هنا على رواية ابن علية لم أجد من ساقها تامة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
128 -
(حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. (ح) وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعَةَ، أَنَّ أبَا نَضْرَةَ أَخْبَرَهُ وَحَسَنًا أَخْبَرَهُمَا، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدرِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أتوا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ - جَعَلَنَا اللهُ فِدَاءَكَ - مَاذَا يَصْلُحُ لَنَا مِن الأَشْرِبَةِ؟ فَقَالَ: "لَا تَشْرَبُوا فِي النَّقِيرِ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ - جَعَلَنَا اللهُ فِدَاءَكَ - أَوَ تَدْرِي مَا النَّقِيرُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، الْجِذْعُ، يُنْقَرُ وَسَطُهُ، وَلَا فِي الدُّبَّاء، وَلَا فِي الْحَنْتَمَة، وَعَلَيْكُمْ بِالْمُوكَى").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ الْبَصْرِيُّ) هو: محمد بن بكّار بن الزُّبير الْعَيْشيّ - بالمعجمة - الصيرفيّ البصريّ، ثقة [10].
رَوَى عن يزيد بن زُريع، وأبي أحمد الزّبيريّ، وأبي داود الطيالسي، وابن عيينة، وعبد المجيد بن أبي رَوّاد، ومروان بن معاوية، وأبي عاصم، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وعبد الله بن الدَّوْرَقِيّ، وغيرهم.
قال محمد بن عبد الله الحضرميّ: مات سنة سبع وثلاثين ومائتين.
[تنبيه]: جَمَعَ غير واحد بين محمد بن بكّار بن الزبير هذا، وبين محمد بن بكّار بن الريّان الهاشميّ، فجعلوهما واحدًا، منهم أبو إسحاق الْحَبَّال في مشايخ مسلم، وأبو علي الجيّانيّ في مشايخ أبي داود، والكلام في الذي قيل في ابن الريّان محتمل أن يكون بعضه في ابن الزبير؛ لأن أكثرهم أطلقوا القول في محمد بن بكار نسبةً، قاله الحافظ في "تهذيب التهذيب" ج 9، ص 65.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الكلام الذي قالوه في ابن الريّان هو ما ذكره في "التهذيب": قال عبد الله بن أحمد: كان أبي لا يَرَى بالكتابة عن هؤلاء الشيوخ بأسًا، وقد حدَّثنا عن بعضهم، منهم محمد بن بكّار، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: لا بأس به، وقال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال صالح بن محمد: صدوقٌ يُحَدِّث عن الضعفاء.
وقال الدارقطنيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع) الْقُشَيْريّ النيسابوريّ، ثقة عابد [11](ت 245)(خ م د ت س) 3/ 18.
3 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحَّاك بن مَخْلَد بن الضحّاك بن مسلم بن الضَّحّاك الشَّيبانيّ النَّبِيل البصريّ، قيل: إنه مولى بني شيبان، وقيل: من أنفسهم، ثقةٌ ثبتٌ [9].
رَوَى عن يزيد بن أبي عبيد، وأيمن بن نابل، وشبيب بن بِشْر، وسليمان
التيمي، وعثمان بن سعد الكاتب، وابن عون، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، وابن جريج، والأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم.
ورَوَى عنه جرير بن حازم، وهو من شيوخه، والأصمعيّ، والْخُرَيبيّ، وهما من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وحجاج بن الشاعر، والحسن بن علي الحلواني، وأبو خيثمة، وعباس بن عبد العظيم العنبري، والبخاريّ، وجماعة.
قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: ثقةٌ، كثير الحديث، وكان له فقهٌ.
وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إليّ من رَوْح بن عُبَادة، وقال محمد بن عيسى الزجاج: قال لي أبو عاصم: كلُّ شيء حدثتك، حدثوني به، وما دَلَّست قط. وقال ابن سعد: كان ثقةً فقيهًا. وقال عُمَر بن شَبّة: والله ما رأيت مثله. وقال ابن خِرَاش: لم يُرَ في يده كتاب قط. وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان يحفظ قدر ألف حديث، من جَيِّد حديثه، وكان فيه مِزَاحٌ. وقال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: منذ عَقَلتُ أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدًا قط. وقال الخليليّ: متفق عليه زهدًا وعلمًا وديانةً وإتقانًا، قيل: إنه لُقِّبَ النبيل؛ لأن الفيل أقدم البصرة، فخرج الناس ينظرون إليه، فقال له ابن جريج: ما لك لا تنظر؟ قال: لا أجد منك عوضًا، فقال له: أنت النبيل، وقيل: لأنه كان يَلْبَس جَيِّد الثياب، وقيل: لأن شعبة حَلَفَ أن لا يُحَدِّث أصحاب الحديث شهرًا، فبلغ أبا عاصم، فقال له: حَدِّث وغلامي حُرّ، وقيل: لأنه كان كبير الأنف، رَوَى إسماعيل بن أحمد والي خُرَاسان عن أبيه، عن أبي عاصم، أنه تزوج امرأةً، فلما أراد أن يُقَبِّلها، قالت له: نَحِّ ركبتك عن وجهي، فقال: ليس هذا ركبة، هذا أنف، وقال ابن قانع: ثقة مأمون. ورَوَى الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق علي بن نصر الجهضمي قال: قالوا لأبي عاصم: إنهم يخالفونك في حديث مالك في الشفعة، فلا يذكرون أبا هريرة، فقال: هاتوا مَن سمعه من مالك في الوقت الذي سمعته منه، إنما كان قَدِمَ علينا أبو جعفر مكة، فاجتمع الناس إليه، وسألوه أن يأمر مالكًا أن يحدثهم، فأمره فسمعته في ذلك الوقت، قال علي بن نصر: وكان ذلك في حياة ابن جريج؛
لأن أبا عاصم خرج من مكة إلى البصرة في حياة ابن جريج، أو حيث مات ابن جريج، ثم لم يَعُد إلى مكة حتى مات، وهذا يدل على أن أبا عاصم مكيّ، تَحَوَّل إلى البصرة.
قال عمرو بن علي وغيره، عن أبي عاصم: وُلدتُ سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقال جابر بن كردي: مات سنة (11)، وقال خليفة وغير واحد: سنة (12)، زاد ابن سعد في ذي الحجة، وقال يعقوب بن سفيان: مات سنة (13) وقال حمدان بن علي الوراق: ذهبنا إلى أحمد": سنة (13)، فسألناه أن يحدثنا، فقال: تسمعون مني، وأبو عاصم في الحياة، اخرجوا إليه، وقال البخاريّ: مات سنة (12)، وكذا نقله عنه الكلاباذيّ، وإسحاق الْقَرّاب، وأبو الوليد الباجيّ، وكذا أرخه ابن حبان في "الثقات" لما ذكره في الطبقة الثالثة، ومن عادته اتّباع البخاري.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (57) حديثًا.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمَّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، مصنّفٌ شهيرٌ، عَمِي في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9].
رَوَى عن أبيه، وعمه وهب، ومعمر، وعبيد الله بن عمر الْعُمَريّ، وأخيه عبد الله بن عمر الْعُمَريّ، وأيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار، وابن جريج، والأوزاعيّ، ومالك، والسفيانين، وزكرياء بن إسحاق المكي، وجعفر بن سليمان، وخلق كثير.
وَرَوَى عنه ابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وهما من شيوخه، ووكيع، وأبو أسامة، وهما من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وعليّ، ويحيى، وأبو خيثمة، وأحمد بن صالح، وإبراهيم بن موسى، وعبد الله بن محمد المُسْنَديّ، وسَلَمَة بن شَبيب، وعمرو الناقد، وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: وأما عبد الرزاق، والْفِرْيَابيّ، وأبو أحمد الزُّبيريّ، وعبيد الله بن موسى، وأبو عاصم، وقَبيصة، وطبقتهم فهم كلهم في سفيان قريب بعضهم من بعض، وهم دون يحيى بن سعيد، وابن مهديّ، ووكيع، وابن المبارك، وأبي نعيم. وقال أحمد بن صالح المصريّ: قلت لأحمد بن حنبل: رأيت أحدًا أحسن حديثًا من عبد الرزاق؟ قال: لا. وقال
أبو زرعة الدمشقيّ: عبد الرزاق أحدُ من ثَبَتَ حديثه، وقال ابن أبي السَّرِيّ، عن عبد الوهاب بن همام: كنت عند معمر، فقال: يختلف إلينا أربعةٌ: رَبَاح بن زيد، ومحمد بن ثور، وهشام بن يوسف، وعبد الرزاق، فأما رَبَاح فخليق أن يَغْلِب عليه العبادة، وأما هشام فخليق أن يغلب عليه السلطان، وأما ابن ثور فكثير النسيان، وأما عبد الرزاق، فإن عاش فخليق أن تُضْرَب إليه أكباد الإبل، قال ابن أبي السريّ: فوالله لقد أَتْعَبَها. وقال أحمد: حديث عبد الرزاق، عن معمر أحب إليَّ من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه، وينظر فيها ظاهرًا، وكان يُحدِّثهم حفظًا بالبصرة - يعني معمرًا - وقال الأثرم: سمعت أحمد يُسأل عن حديث: "النارُ جُبَار"؟ فقال: ومن يُحَدِّث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حدثني أحمد بن شَبّويه، قال: هؤلاء سَمِعُوا بعدما عَمِي، كان يُلَقَّن، فلَقَّنه، وليس هو في كتبه، كان يُلَقَّنُها بعدما عَمِيَ، وقال حنبل بن إسحاق، عن أحمد نحو ذلك، وزاد: مَن سَمِع من الكتب، فهو أصح. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قلت لأحمد: مَن أَثْبَتُ في ابن جريج: عبد الرزاق، أو الْبُرْسَانيّ؟ قال: عبد الرزاق، وقال أيضًا: أخبرني أحمد، أنا عبد الرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر، مَن سمع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر عن هشام بن يوسف، وكان هشام في ابن جريج أقرأ للكتب. وقال يعقوب بن شيبة، عن علي بن المدينيّ، قال لي هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا، قال يعقوب: وكلاهما ثقة ثبتٌ. وقال الحسن بن جرير الصُّوريّ، عن علي بن هاشم، عن عبد الرزاق: كتبَ عني ثلاثة، لا أبالي أن لا يكتُب عني غيرهم: كتب عني ابنُ الشاذكونيّ، وهو من أحفظ الناس، وكتبَ عني يحيى بن معين، وهو من أعرف الناس بالرجال، وكتبَ عني أحمد بن حنبل، وهو من أثبت الناس، وقال جعفر الطيالسي: سمعت ابنَ معين، قال: سمعت من عبد الرزاق كلامًا استدللت به على ما ذُكِر عنه من المذهب، فقلت له: إن أُستاذيك
(1)
الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سنة: معمر، ومالك،
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن الأولى "أَسَاتِذَتَكَ"، فليحرر.
وابن جريج، والثوريّ، والأوزاعيّ، فعمن أخذت هذا المذهب؟ قال: قَدم علينا جعفر بن سليمان، فرأيته فاضلًا، حسن الهدي، فأخذت هذا عنه، وقال محمد بن أبي بكر الْمُقَدَّميّ: وجدت عبد الرزاق ما أفسد جعفرًا غيره
(1)
- يعني في التشيع -. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين - وقيل له: قال أحمد: إن عبيد الله بن موسى يُرَدُّ حديثه للتشيع - فقال: كان عبد الرزاق، والله الذي لا إله إلا هو أغلى في ذلك منه مائة ضعف، ولقد سمعت من عبد الرزاق أضعاف ما سمعت من عبيد الله، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي، هل كان عبد الرزاق يتشيع، ويُفْرِطُ في التشيع؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئًا، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت سلمة بن شبيب، يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أُفَضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان، من لم يحبهم فما هو مؤمن، وقال: أوثق أعمالي حُبِّي إياهم. وقال أبو الأزهر: سمعت عبد الرزاق يقول: أُفَضِّل الشيخين بتفضيل عليّ إياهما على نفسه، ولو لم يُفَضِّلهما ما فضلتهما، كَفَى بي ازدراءً أن أحب عليًّا، ثم أخالف قوله. وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، ولا يُحتج به.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن يخطئ إذا حَدَّث من حفظه على تشيع فيه، وكان ممن جَمَعَ وصَنَّفَ وحَفِظَ وذاكر، وقال الآجريّ عن أبي داود: الْفِرْيَابيّ أحب إلينا منه، وعبد الرزاق ثقة، وقال محمد بن إسماعيل الْفَزَاري: بلغني ونحن بصنعاء أن أحمد ويحيى تركا حديثَ عبد الرزاق، فدَخَلنا غَمٌّ شديدٌ، فوافيت ابن معين في الموسم، فذكرت له، فقال: يا أبا صالح، لو ارتَدَّ عبد الرزاق ما تركنا حديثه. ورُوي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت، فمكثت ثلاثة أيام، لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلقت بالكعبة، وقلت: يا رب ما لي أكذاب أنا، أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت، فجاؤوني، وقال العجلي: ثقة يتشيع، وكذا قال البزار. وقال الذُّهْليّ: كان
(1)
وكذا هو في "تهذيب الكمال" 18/ 59، وقال المزّيّ معلّقًا عليها: لعله ما أفسد جعفرٌ غيرَه.
عبد الرزاق أيقظهم في الحديث، وكان يحفظ، وقال إبراهيم بن عباد الدّبَرِيّ: كان عبد الرزاق يَحفظ نحوًا من سبع عشرة ألف حديث. وقال ابن عديّ: ولعبد الرزاق أصناف، وحديث كثير، وقد رَحَلَ إليه ثقات المسلمين وأئمتهم، وكَتَبُوا عنه، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقد رَوَى أحاديث في الفضائل، لم يتابع عليها، فهذا أعظم ما ذَمُّوه من روايته لهذه الأحاديث، ولِمَا رواه في مثالب غيرهم، وأما في باب الصدق، فأرجو أنه لا بأس به.
قال أحمد وغيره: مولده سنة ست وعشرين ومائة، وقال البخاريّ، وغير واحد: مات سنة إحدى عشرة ومائتين، زاد ابن سعد: في شوال.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (399) حديثًا.
[تنبيه]: من يُسمّى عبدَ الرزاق في الرواة أربعة:
(الأول): عبد الرزاق بن هَمّام المترجم هنا، وهو من رجال الجماعة.
(الثاني): عبد الرزاق بن عمر بن مسلم الدمشقيّ العابد، صدوق، من العاشرة، أخرج له أبو داود حديثًا واحدًا.
(الثالث): عبد الرزاق بن عمر الثقفيّ، أبو بكر الدمشقيّ، متروك الحديث عن الزهريّ، لَيِّن في غيره، من الثامنة، وليس له في الستّة شيء، وإنما يُذكر للتمييز.
(الرابع): عبد الرزاق بن عمر بن بَزِيع الْبَزِيعيّ، صدوق، من العاشرة، وليس له من الكتب الستة شيء، وإنما يُذكر للتمييز أيضًا.
5 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد الْمَكِّيّ، رُوميُّ الأصل، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، وكان يدلّس ويرسل [6].
رَوَى عن حُكَيمة بنت رُقَيقة، وأبيه عبد العزيز، وعطاء بن أبي رَبَاح، وإسحاق بن أبي طلحة، وزيد بن أسلم، والزهريّ، وسليمان بن أبي مسلم الأحول، وصالح بن كيسان، وصَفوان بن سُليم، وطاووس، وابن أبي مليكة، وأبي قَزَعَة سُويد بن حُجَير، وخلقٍ كثيرٍ.
وَرَوَى عنه ابناه: عبد العزيز، ومحمدٌ، والأوزاعيّ، والليث، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهو من شيوخه، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفيّ،
وعيسى بن يونس، ووهيب بن خالد، وأبو قرة موسى بن طارق، وحفص بن غياث، ومسلم بن خالد الزَّنْجِيّ، ومفضل بن فَضَالة المصري، وهمام بن يحيى، وإسماعيل ابن علية، وإسماعيل بن عَيّاش، وابن عيينة، وخالد بن الحارث، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، وابن وهب، والقطان، والوليد بن مسلم، ووكيع، وأبو عاصم، وهشام بن يوسف الصنعاني، وغُنْدَر، وأبو أسامة، وعبد الرزّاق، وخلقٌ كثير.
قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: مَن أَوَّل من صَنَّفَ الكتب؟ قال: ابنُ جريج، وابن أبي عَرُوبة، وقال عبد الوهاب بن همام، أخو عبد الرزاق، عن ابن جريج: لزمت عطاء سبع عشرة سنة، وقال ابن عُيينة: سمعت ابن جريج يقول: ما دَوَّنَ العلمَ تدويني أحدٌ. وقال: جالست عمرو بن دينار بعدما فرغت من عطاء تسع سنين، وقال طلحة بن عُمر المكي: قلت لعطاء: مَنْ نسأل بعدك؟ قال: هذا الفتى إن عاش، وقال عطاء: سيّد شباب أهل الحجاز ابنُ جريج. وقال علي بن المدينيّ: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة، فذكرهم، ثم قال: فصار علم هؤلاء إلى من صَنَّفَ في العلم، منهم من أهل مكة عبد الملك بن جريج. قال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيَّ، وغيرَ واحد: لمن طلبتم العلم؟ فكلهم يقول: لنفسي، غير ابن جريج، فإنه قال: طلبته للناس، وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد القطان: ابن جريج أثبت في نافع من مالك، وقال أحمد: ابنُ جريج أثبت الناس في عطاء. وقال أبو بكر بن خلاد، عن يحيى بن سعيد: كنا نُسَمِّي كُتُبَ ابن جريج كتب الأمانة، وإن لم يُحَدثك ابنُ جريج من كتابه لم ينتفع به، وقال الأثرم عن أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان، وأخبِرتُ جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني، وسمعت، فحسبك به. وقال الميمونيّ: سمعت أبا عبد الله غير مَرَّة يقول: كان ابنُ جريج من أوعية العلم. وقال إسماعيل بن داود الْمِخْراقيّ، عن مالك: كان ابن جريج حاطب ليل. وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ليس بشيء في الزهري. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة في كل ما رُوِي عنه من الكتاب، وقال جعفر بن عبد الواحد، عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقًا، فإذا قال: حدثني فهو سماع، وإذا قال: أخبرني فهو قراءة، وإذا قال:
قال فهو شبه الريح. وقال سليمان بن النضر عن مَخْلد بن الحسين، ما رأيت أصدق لَهْجَةً من ابن جريج، وقال أحمد عن عبد الرزاق: ما رأيت أحسن صلاةً من ابن جريج. وسُئل عنه أبو زرعة؟ فقال: بَخٍ من الأئمة. وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا. وقال العجليّ: مكيّ ثقة. وقال الشافعيّ: استمتع ابن جريج بسبعين امرأة. وقال أبو عاصم: كان من العباد، وكان يصوم الدهر، إلا ثلاثة أيام من الشهر.
قال عمرو بن عليّ: مات سنة تسع وأربعين ومائة، وقال القطان وغيره: مات سنة خمسين، وقال ابن المدينيّ: سنة إحدى وخمسين، وقال غيره: جاز المائة. وقال ابنُ سعد: وُلِد سنة ثمانين، عام الْجُحَاف.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (265) حديثًا.
6 -
(أَبُو قَزَعَةَ)
(1)
سُويد بن حُجَير - بتقديم المهملة، مصغّرًا - ابن بيان الباهليّ البصريّ، ثقة [4].
رَوَى عن خاله صَخْر بن القَعْقَاع الباهليّ، وله صحبةٌ، وأنس بن مالك، وأبيه حُجَير، وحَكِيم بن معاوية، والأَسْقَع بن الأَسْلَع، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وصالح أبي الخليل، والحسن البصريّ، ومُهاجر بن عكرمة المخزوميّ، وأبي نَضْرة الْعَبْدِيّ، وعدة.
وعنه داود بن أبي هند، وابن جريج، وشعبة، وحاتم بن أبي صَغِيرة، والحجاج بن الحجاج الباهليّ، ومَعْقِل بن عُبيد الله الْجَزَريّ، وداود بن شَابُور، وحماد بن سلمة، وابنه قَزَعة بن سُويد، وغيرهم.
(1)
قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" 1/ 194: وأما أبو قَزَعَة المذكور، فاسمه سُوَيد بن حُجَير - بحاء مهملة مضمومة، ثم جيم مفتوحة، وآخره راء - وهو باهليّ، بصريّ، انفرد مسلم بالرواية له دون البخاريّ، وقَزَعَةُ - بفتح القاف، وبفتح الزاي، وإسكانها - ولم يذكر أبو علي الْغَسَّاني في "تقييد المهمل" سوى الفتح، وحَكَى القاضي عياض فيه الفتح والإسكان، ووُجِد بخط ابن الأنباريّ بالإسكان، وذكر ابن مكيّ في كتابه فيما يُلْحَنُ فيه أن الإسكان هو الصواب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ.
قال أبو طالب عن أحمد: من الثقات. وقال ابن المدينيّ، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجليّ: بصري تابعيّ ثقة. وقال أبو بكر البزار في "السنن" له: ليس له بأس. وقال الآجريّ: قُرئ على أبي داود، عن أحمد بن صالح، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج: ثنا أبو قزعة، سمع عمران بن حصين. . قلت لأبي داود: مَن أبو قَزَعَة؟ قال: سُوَيد، قلت: سُوَيد سمع من عمران بن حصين؟ قال: لا.
أخرجه له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (18) و 128 و (1333) و (1594).
والباقيان تقدّما قريبًا.
[تنبيه]: (قوله: قال: أخبرني أبو قَزَعَة، أن أبا نَضْرة أخبره وحَسَنًا أخبرهما، أن أبا سعيد الخدريّ أخبره).
هذا الإسناد مما يُعَدّ من مشكلات الأسانيد، ولذا قد اضطربت فيه أقوال الأئمة، وأخطأ فيه جماعات من كبار الحفاظ، والصوابُ فيه ما حَقَّقَه وحَرَّره، وبسطه وأوضحه، الإمام الحافظ أبو موسى الأصبهانيّ في الجزء الذي جمعه فيه، وما أحسنه وأجوده، وقد لَخّصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى، فقال: هذا الإسناد إحدى المعضلات، ولإعضاله وقع فيه تغييرات من جماعة واهمة.
فمن ذلك رواية أبي نعيم الأصبهانيّ في "مستخرجه" على كتاب مسلم، بإسناده: أخبرني أبو قَزَعَة أن أبا نَضْرَةَ وَحَسَنًا أخبرهما، أن أبا سعيد الخدريّ أخبره، وهذا يلزم منه أن يكون أبو قَزَعة هو الذي أخبر أبا نَضْرَةَ وَحَسَنًا، عن أبي سعيد، ويكون أبو قَزَعة هو الذي سمع من أبي سعيد، وذلك مُنْتَفٍ بلا شك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ساق نصّ أبي نعيم في "المستخرج"، وهذا السياق ليس في "المستخرج" الذي بين يديّ، ودونك نصّه:
1 -
أخرجه بسنده إلى عبد الرزاق، أنبأنا ابن جريج، أخبرنا أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحَسَنًا أخبرهما أن أبا سعيد. . . وهذا هو نصّ "صحيح مسلم".
ثم أخرج عن ابن جُريج أخبرني أبو قَزَعة أن أبا نضرة أخبره، ثنا حسن بن [سالم]
(1)
أخبرهما أن أبا سعيد الخدريّ أخبره.
وكون هذا غلطًا ظاهرٌ، ولا شكّ فيه؛ لأنه يستلزم أن حسنًا أخبر أبا نضرة، مع قوله بعده: أخبرهما، فبطلان هذا واضح.
ثم أخرجه عن ابن جريج، أخبرني أبو قَزَعَة أن أبا نضرة أخبره وحسنًا أخبرهما. . . وهو صحيح مثل الأول.
ثم أخرجه عن ابن جريج، أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره، أن أبا سعيد أخبره. . . ولا ذكر لحسن أصلًا، وهذا أيضًا واضح. والله تعالى أعلم.
قال: ومن ذلك أن أبا عليّ الغسانيّ صاحب "تقييد المهمل" رَدَّ رواية مسلم هذه، وقَلَّده في ذلك صاحب "المعلم"، ومن شأنه تقليده فيما يذكره من علم الأسانيد، مع أنه لا يُسمّيه، ولا يُنصِفه، وصَوَّبهما في ذلك القاضي عياض، فقال أبو عليّ: الصواب في الإسناد: عن ابن جريج قال: أخبرني أبو قَزَعَة أن أبا نضرةَ وحَسَنًا أخبراه، أن أبا سعيد أخبره، وذَكَرَ أنه إنما قال: أخبره، ولم يقل: أخبرهما؛ لأنه رَدّ الضمير إلى أبي نضرة وحده، وأسقط الحسن لموضع الإرسال، فإنه لم يسمع من أبي سعيد، ولم يلقه، وذَكَرَ أنه بهذا اللفظ الذي ذَكَره مسلم خرَّجه أبو علي بن السكن في "مصنَّفه" بإسناده، قال: وأظنُّ هذا من إصلاح ابن السكن.
وذكر الْغَسَّانيّ أيضًا أنه رواه كذلك أبو بكر البزّار في "مسنده الكبير" بإسناده، وحُكِي عنه، وعن عبد الغني بن سعيد الحافظ أنهما ذَكَرا أن حَسَنًا هذا هو الحسن البصريّ.
وليس الأمر في ذلك على ما ذَكَرُوه، بل ما أورده مسلم في هذا الإسناد هو الصواب، وكما أورده رواه أحمد بن حنبل، عن رَوْح بن عُبادة، عن ابن جريج
(2)
.
(1)
كذا وقع في الأصل، إلا أن المحقّق أصلحه، فكتب بين قوسين (مسلم)، وهو الظاهر.
(2)
"كتاب الأشربة" للإمام أحمد 20 حديث رقم (86).
وقد انتصر له الحافظ أبو موسى الأصبهانيّ رحمه الله تعالى، وأَلَّف في ذلك كتابًا لطيفًا تبَجَّحَ فيه بإجادته وإصابته، مع وَهَم غير واحد من الحفّاظ فيه، فذَكَر أن حَسَنًا هذا هو الحسن بن مسلم بن يَنَّاق الذي رَوى عنه ابن جريج غير هذا الحديث، وأن معنى هذا الكلام: أن أبا نَضْرَة أخبر بهذا الحديث أبا قَزَعَةَ وحَسَن بن مسلم كِلَيْهِمَا، ثم أكَّد ذلك بأن أعاد، فقال: أخبرهما أنّ أبا سعيد أخبره - يعني أخبر أبو سعيد أبا نضرة - وهذا كما تقول: إنّ زيدًا جاءني وعمرًا جاءاني، فقالا: كذا وكذا.
وهذا من فصيح الكلام، واحتجّ على أن حَسَنًا فيه هو الحسن بن مُسلم بن يَنّاق بأنّ سَلَمَة بنَ شَبيب - وهو ثقة - رواه عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو قَزعة أنّ أبا نَضْرَة أخبره، وحسَنَ بنَ مسلم بن يَنّاق أخبرهما، أن أبا سعيد أخبره. . . الحديث.
ورواه أبو الشيخ الحافظ في كتابه "الْمُخَرَّج على صحيح مسلم".
وقد أسقط أبو مسعود الدمشقيّ وغيره ذِكْرَ حسنٍ أصلًا من الإسناد؛ لأنه مع إشكاله لا مَدْخَل له في رواية الحديث.
وذكر الحافظ أبو موسى ما حكاه أبو عليّ الغسانيّ في كتابه "تقييد المهمل" في ذلك، وبَيَّنَ بُطلانه، وبطلان رواية من غَيَّرَ الضميرَ في قوله:"أخبرهما"، وغَيْرَ ذلك من التغييرات، ولقد أجاد وأحسن رحمه الله تعالى انتهى كلام الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التحقيق نفيسٌ جدًّا، كما قال ابن الصلاح
(2)
.
وحاصله: أن قوله: "وحسنًا" معطوف على الضمير المنصوب في "أخبره"
(1)
"صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط" ص 158 - 161.
(2)
قال النوويّ في "شرحه" بعد نقل كلام ابن الصلاح رحمهما الله تعالى: وفي هذا القدر الذي ذكره أبلغ كفاية، وإن كان الحافظ أبو موسى قد أطنب في بسطه وإيضاحه بأسانيده، واستشهاداته، ولا ضرورة إلى زيادة على هذا القدر. والله تعالى أعلم.
الواقع خبرًا لـ "أن"، من قوله:"أن أبا نضرة أخبره"، وأن قوله:"أخبرهما" تأكيد لقوله: "أخبره وحسنًا"، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وجعلنا الله فداءك) هو بكسر الفاء، وبالمدّ، ومعناه يَقِيك المكاره، وفيه جواز قول الإنسان لمسلم: جعلني الله فداك، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى بابًا في "صحيحه" فقال:
"باب قول الرجل: جعلني الله فداك"، ثم قول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لَمّا قال:"إن عبدًا خَيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فَدَيْناك بآبائنا وأمهاتنا، والحديث طويل، أخرجه الشيخان.
ثم أخرج حديث أنس رضي الله عنه، أنه أقبل هو، وأبو طلحة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . وفيه قول أبي طلحة: "يا نبيّ الله جعلني الله فداك، هل أصابك من شيء؟. . . الحديث، متّفقٌ عليه.
قال في "الفتح": وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتاب "آداب الحكماء"، وجزم بجواز ذلك، فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه، ولكبيره، ولذوي العلم، ولمن أحب من إخوانه غيرَ محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورًا لنهى النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك، ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره.
قال: وقد ترجم أبو داود نحو ترجمة البخاريّ، وساق حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"لبيك وسعديك، جعلني الله فداك. . ." الحديث، وكذا أخرجه البخاري في "الأدب المفرد".
قال الطبرانيّ: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك، وأما ما رواه مبارك بن فَضَالة عن الحسن، قال: دخل الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاكٍ، فقال: كيف تجدك، جعلني الله فداك؟ قال:"ما تركت أعرابيتك بعدُ"، ثم ساقه من هذا الوجه، ومن وجه آخر، ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع؛ لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة، وعلى تقدير ثبوت ذلك، فليس فيه صريح المنع، بل فيه إشارة إلى أنه تَرَك الأولى، في القول للمريض، إما بالتأنيس والملاطفة، وإما بالدعاء والتوجع.
[فإن قيل]: إنما ساغ ذلك؛ لأن الذي دعا بذلك كان أبواه مشركين.
[فالجواب]: أن قول أبي طلحة رضي الله عنه كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذر رضي الله عنه، وقول أبي بكر كان بعد أن أسلم أبواه رضي الله عنهم، انتهى مُلَخصًا.
قال الحافظ: ويمكن أن يُعتَرض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره؛ لأن نفسه أعزّ من أنفس القائلين وآبائهم، ولو كانوا أسلموا.
فالجواب ما تقدم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارةً إلى أن الأصل عدمُ الخصوصية، وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "فداكِ أبوكِ"، ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:"فداكم أبي وأمي"، ومن حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم.
ومن فوائد الحديث الباب أيضًا أنه لا عَتْبَ على طالب العلم، المستفتي إذا قال للعالم: أوضح لي الجواب، ونحو هذه العبارة، وفيه جوازُ مراجعة العالم على سبيل الاسترشاد والاعتذار ليتلطف له في جواب لا يشقّ عليه، وفيه تأكيد الكلام، وتفخيمه؛ لِيَعْظُم وَقْعُهُ في النفس. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (وعليكم بالْمُوكَى) هو بضم الميم، وإسكان الواو، مقصورٌ غير مهموز، ومعناه: انبذُوا في السقاء الدقيق الذي يُوكَى، أي يُرْبَط فُوه بالْوِكَاء، وهو الخيط الذي يُرْبَط به.
قال النوويّ رحمه الله تعالى بعد أن انتهى من بيان يتعلّق بالحديث سندًا، ومتنًا ما نصّه: فهذه أطراف مما يتعلّق بهذا الحديث، وهي وإن كانت طويلةً، فهي مختصرة بالنسبة إلى طالبي التحقيق.
ولقد أجاد رحمه الله تعالى في التنبيه، وأحسن المقال في التنويه، فعليك بالجدِّ والاستفادة، وعلوّ الهمة، وصدق العزيمة والإرادة، ولا تَمِلْ إلى الراحة والكسل، فإنه عنوان الفشل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ومنه التوفيق والعصمة والتفضيل.
(1)
"فتح الباري" 10/ 698 رقم باب 104 حديث رقم (6185).
(7) - (بَابُ الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَشَرَائِعِ الإسْلَامِ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
(19)
- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرَيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُبَّمَا قَالَ وَكِيعٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: بَعَثَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّكَ تَأْتي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأنِّي رَسُولُ الله، فَإنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُوم، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الْهَمْدَانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10](ت 247)(ع) 4/ 15.
3 -
(إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه الحنظلي المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقة ثبت حافظ إمام [10](ت 238)(خ م دت س) 4/ 28.
4 -
(وَكِيعٌ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ عابدٌ، من كبار [9](ت 247)(ع) 1/ 1.
5 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكي، ثقة [6].
رَوَى عن عمرو بن دينار، وأبي الزبير، وإبراهيم بن ميسرة، ويحيى بن عبد الله بن صيفي، وغيرهم.
ورَوَى عنه أزهر بن القاسم، ورَوْح بن عُبَادة، وبشر بن السَّريّ، وابن المبارك، وعبد الرزاق، ووكيع، وأبو عامر الْعَقَدِيّ، وأبو عاصم، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: لا بأس به. وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: زكريا بن إسحاق قدريّ؟ قال: نخاف عليه، قلت: هو ثقة؟ قال: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الميموني عن أحمد، عن عبد الرزاق، قال لي أبي: الْزَمْ زكريا بن إسحاق، فإني قد رأيته عند ابن أبي نَجِيح بمكان، قال: فأتيته، وإذا هو قد نَسِيَ، وأتاه ابن المبارك، فأخرج له كتابه. وقال ابن المدينيّ، عن سفيان: لم يجالس عطاء، قيل لسفيان: إنهم حَكَوا عنك أن زكريا قال: أخرج إلينا عطاء صحيفةً، فقال سفيان: لا، إنما أراني صحيفةً عنده، ما هي بالكبيرة، فقال: هذه أعطانيها يعقوب بن عطاء، قال هذه التي سمع أبي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث. وقال ابن معين: كان يَرَى القدر، ثنا رَوْح بن عُبادة قال: سمعت مناديًا على الحجر، يقول: إن الأمير أَمَرَ أن لا يُجالَس زكريا بن إسحاق؛ لموضع القدر، وقال وكيع: ثنا زكريا، وكان ثقةً. وقال الْبَرْقي، والحاكم: كان ثقةً.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.
[تنبيه]: لا يوجد في الكتب الستة من يُسمّى زكريّا بن إسحاق غير صاحب الترجمة، والله تعالى أعلم.
6 -
(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ) هو: يحيى بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن صيفيّ، ويقال: يحيى بن محمد، الْمَكيّ مولى بني مَخْزُوم، ويقال: مولى عثمان، ثقة [6].
رَوَى عن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبي معبد، مولى ابن عباس، وأبي سلمة بن سفيان، وعَتّاب بن حُنين، وسعيد بن جبير.
وروى عنه ابنُ جريج، وإسماعيل بن أمية، وزكرياء بن إسحاق، وعبد الله بن أبي نجِيح، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: يحيى بن عبد الله بن صَيْفِيّ كان ثقةً، وله أحاديث. وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (19) وأعاده بعده، و (1085).
7 -
(أَبُو مَعْبَدٍ) هو: نافذ - بفاء، وذال معجمة - مولى ابن عبّاس المكيّ، ثقة [4].
رَوَى عن مولاه، وعنه عمرو بن دينار، ويحيى بن عبد الله بن صَيْفِيّ، وأبو الزبير، وسليمان الأحول، والقاسم بن أبي بَزَّة، وفُرَات الْقَزّاز.
قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة: ثقة، وقال الحميديّ عن سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني أبو مَعْبد، وكان من أصدق موالي ابن عباس، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال ابن سعد: قال محمد بن عُمَر: مات بالمدينة سنة أربع ومائة، وكان ثقة، حَسَنَ الحديث، وفيها أَرّخه غير واحد.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (19) وأعاده بعده، و (583) وكرره ثلاث مرات، و (1282) و (1341).
[تنبيه]: ليس في الرواة من يُسمّى نافذًا غير صاحب الترجمة، وأما من يُكنى بأبي معبد فاثنان، هذا، وأبو معبد السُّلَميّ، واسمه مجالد بن مسعود، أخو مجاشع، صحابيّ، بقي إلى سنة أربعين على الأصحّ، وأخوه أيضًا صَحابيّ، أخرج لهما الشيخان
(1)
فتنبّه. والله تعالى أعلم.
8 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما -6/ 123.
9 -
(مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عَدِيّ بن كعب بن عمرو بن أُدَيّ بن سعد بن عليّ بن أسد بن سارِدَة بن يَزيد بن جُشَم بن الْخَزْرَج الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد الرحمن الْمَدنيّ، صاحب رسول صلى الله عليه وسلم، رُوي أنه كان له ابنان ماتا في طاعون عَمَوَاس، ورُوي أنه مات له ابن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إليه يُعزّيه عنه، وقال أبو عمر بن عبد البرّ: قال الواقديّ وغيره: كان معاذ بن جبل طُوالًا، حَسَنَ الشعر، أبيض، بَرّاق الثنايا، لم يُولد له قطّ، قال أبو عمر: وقد قيل: إنه وُلد له وَلَدٌ يُسمّى
(1)
راجع: "التقريب" ص 329.
عبد الرحمن، وإنه قاتل معه يوم اليرموك، وبه كان يُكنى، ولم يَختلفوا أنه كان يُكنى أبا عبد الرحمن، قال: وهو أحد السبعين الذي شهِدُوا العَقَبة من الأنصار، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود، قال الواقديّ: هذا ما لا اختلاف فيه عندنا، وقال ابن إسحاق: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وبين جعفر بن أبي طالب، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنةً، وشَهِدَ بدرًا، والعقبة، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنُ عباس، وأبو موسى الأشعريّ، وابنُ عَمْرو، وابن عُمَر، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وابن أبي أوفى، وأنس، وجابر، وأبو الطفيل، وعبد الرحمن بن غَنْم، وأبو مسلم الْخَوْلانيّ، وأبو عبد الله الصُّنَابحيّ، وأبو وائل، ومسروق، وخلق كثير.
قال قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: جَمَعَ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعةٌ، كلُّهم من الأنصار: أُبَيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قال أنس: أبو زيد أحد عمومتي
(1)
.
وقال مسروق، عن عبد الله بن عَمْرو: أربعة رهط لا أزال أُحبّهم بعدما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استَقْرِئُوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حُذيفة، وأُبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل
(2)
.
وقال أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكلّ أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عُبيدة بن الجرّاح"
(3)
.
ويُروَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا ومتصلًا: "يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماءِ بِرَتْوَةٍ".
وعن عبد الله بن مسعودء رضي الله عنه قال: إنا كنا نشبهه بإبراهيم عليه السلام، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} الآية [النحل: 120]، قال:"الأمة " معلم الخير، و"القانت"
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
حديث صحيح، أخرجه أحمد 3/ 184 والترمذي (3791) وابن ماجه (154).
المطيع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال: وكذلك كان معاذ، كان يعلّم الناس الخير، وكان مطيعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقال الأعمش عن أبي سفيان: حدثني أشياخ منّا، قالوا: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين إني غِبتُ عن امرأتي سنتين، فجئت وهي حُبلى، فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيلٌ، فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع، فتركها، فولدت غلامًا قد خرجت ثنيّتاه، فعرَفَ الرجل الشبَهَ فيه، فقال: ابني وربّ الكعبة، فقال عمر رضي الله عنه: عَجَزَت النساء أن تَلِدَ مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر.
ومناقبه وفضائله رضي الله عنه كثيرةٌ جدًّا.
قال الهيثم بن عديّ، وغير واحد: مات في طاعون العمواس
(2)
، وقال أبو مسهر: مات سنة سبع عشرة، قال أبو مسهر: قرأت مثله في كتاب يزيد بن عَبِيدة: مات سنة سبع عشرة، قال أبو مسهر: قرأت في كتاب ابن عَبيدة بن أبي المهاجر، وكان سعيد بن عبد العزيز يقول: إنه صحيح، مات معاذ بن جبل في سنة سبع عشرة، وفي تلك السنة فُتح بيت المقدس، وقال يحيى بن معين، وعليّ بن عبد الله التميميّ: مات سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة، زاد يحيى، وهو ابن أربع وثلاثين، وقال الواقديّ عن رجاله: مات سنة ثماني عشرة في الطاعون، وهو ابن ثمان وثلاثين، قال الواقديّ؛ وكان من أجمل الناس، وفيها أرّخه غير واحد، وقيل في سنّه: غير ذلك.
أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (157) حديثًا اتّفقا على حديثين، وانفرد البخاريّ بثلاثة، ومسلم بحديث، فجملة ما له في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (19)، و (30) وكره ثلاث مرّات، و (706) وكره ثلاث مرات.
(1)
راجع: "حلية الأولياء" 1/ 230 و"الاستيعاب" 3/ 1407.
(2)
إنما نسب الطاعون إلى عمواس، وهي قرية بين الرملة وبيت المقدس؛ لأنه أول ما بدأ الطاعون منها. "تهذيب الكمال "28/ 114.
[تنبيه]: جملة من يُسمّى بمعاذ نحو أربعة وعشرين شخصًا، ولا يوجد من يُسمّى معاذ بن جبل، غير صاحب الترجمة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
لطائف من هذا الاسناد:
1 -
(منها): من سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وغير إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين من زكريّا بن إسحاق.
4 -
(ومنها): أن شيخه أبا كُريب أحد المشايخ التسعة الذين اتفق أصحاب الكتب الستة بالرواية عنهم بغير واسطة، وهم الذين جمعتهم بقولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أن فيه قوله: "عن أبي مَعْبد، عن ابن عباس، عن معاذ، قال أبو بكر: وربما قال وكيع: عن ابن عباس، أن معاذًا قال".
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا الذي فعله مسلم رحمه الله تعالى نهايةُ التحقيق، والاحتياط، والتدقيق، فإن الرواية الأولى قال فيها:"عن معاذ"، والثانية:"أن معاذًا"، وبين "أَنّ"، و"عن" فرق، فإن الجماهير قالوا:"أَنَّ " كـ"عَن"، فيُحمَل على الاتصال، وقال جماعة: لا تَلْتَحِق "أنَّ" بـ "عَن"، بل تحمل "أن" على الانقطاع، ويكون مُرسَلًا، ولكنه هنا يكون مُرسَل صحابيّ، له حكم المتصل، على المشهور، من مذاهب العلماء، وفيه قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايينيّ الذي قَدَّمناه في الفصول أنه لا يُحْتَجّ به، فاحتاط مسلم رحمه الله تعالى، وبين اللفظين، والله تعالى أعلم. انتهى.
[فائدة]: من القواعد المهمّة أن الراوي إذا رَوَى حديثًا في قصة أو واقعة، فإن كان أدرك ما رواه بأن حَكَى قصة وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض
الصحابة، والراوي لذلك صحابيّ أدرك تلك الواقعة، فهي محكوم لها بالاتصال، وإن لم يُعْلَم أنه شاهدها، وإن لم يُدْرِك تلك الواقعة، فهو مرسل صحابيّ، وإن كان الراوي تابعيًّا، فهو منقطع، وإن روى التابعيّ عن الصحابيّ قصةً أدركَ وقوعها فمتصلٌ، وكذا إن لم يُدرك وقوعها، ولكن أسندها له، وإلا فمنقطعة، وقد حَكَى ابنُ الْمَوَّاق اتفاقَ أهل التمييز من أهل الحديث على ذلك.
وما نُقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أن "عَن"، و"أنّ " ليسا سواءً مُنَزَّلٌ على هذه القاعدة، فقد روى الخطيب البغداديّ في "الكفاية" بسنده إلى أبي داود، قال: سمعت أحمد قيل له: إن رجلًا قال: قال عروة: إن عائشة قالت: يا رسول الله، وعن عروة، عن عائشة سواءٌ؟ قال أحمد: كيف هذا سواءٌ؟ ليس هذا بسواء.
وإنما فرّق أحمد رحمه الله تعالى بين اللفظين؛ لأن عروة في اللفظ الأول لم يُسنِد ذلك إلى عائشة، ولا أدرك القصة، فكانت مرسلةً، وأما اللفظ الثاني فأَسنَدَ ذلك إليها بالعنعنة، فكانت متصلة. هكذا حقّق القاعدة الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَا لَهُ رَوَى
…
مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبي مَعْبَدٍ) - بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الموحّدة - واسمه نافذ - بالنون، والفاء، والذال المعجمة - وضبطه بعضهم بالدال المهملة، وفي رواية للبخاريّ في "كتاب التوحيد" من طريق إسماعيل بن أميّة، عن يحيى، أنه سمع أبا معبد يقول: سمعت ابن عباس يقول
…
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) رضي الله عنه (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أي ابن أبي شيبة الشيخ الأول للمصنّف في
(1)
راجع: "تدريب الراوي" 1/ 218.
روايته (رُبَّمَا قَالَ وَكِيعٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُعَاذًا) هذا من احتياطات مسلم، وتدقيقاته الإسناديّة في المحافظة على اختلاف ألفاظ شيوخه، وتقدّم في مبحث اللطائف وجه الاختلاف بين الروايتين، وأنه لا خلاف بينهما عند الجمهور، وإنما قال بالاختلاف بعض أهل الحديث، ففرّق بين "عن" و"أنّ"، فجعل "عن" للاتّصال، و"أن" للانقطاع، لكن هنا يكون من مرسل صحابيّ، فلا يضرّ، فتنبّه.
وقال في "الفتح" عند قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن إلخ": ما نصّه: كذا في جميع الطُّرُق إلا ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع، فقال فيه: "عن ابن عباس، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فهو من مسند معاذ صلى الله عليه وسلم، وظاهر سياق مسلم أن اللفظ مدرج
(1)
، لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الروايات أنه من مسند ابن عباس، فقد أخرجه الترمذيّ، عن أبي كُريب، عن وكيع، فقال فيه:"عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ معاذًا"، وكذا هو في "مسند إسحاق بن إبراهيم"، وهو ابن راهويه قال: حدثنا وكيع به، وكذا رواه عن وكيع أحمد في "مسنده"، أخرجه أبو داود عن أحمد، وكذلك عند البخاريّ في "كتاب المظالم" عن يحيى بن موسى، عن وكيع، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" عن محمد بن عبد الله الْمُخَرِّميّ، وجعفر بن محمد الثَّعْلبيّ، وللإسماعيليّ من طريق أبي خيثمة، وموسى بن السُّدِّيّ، والدارقطنيّ، من طريق يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، وإسحاق بن إبراهيم البغويّ، كلهم عن وكيع كذلك، فإن ثبتت رواية أبي بكر، فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد؛ لأنه كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة انتهى
(2)
.
(1)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يظهر لي وجه قوله: وظاهر سياق مسلم أنّ اللفظ مدرجٌ، فليُتأمّل.
(2)
"الفتح" 4/ 176.
وقال ابن الملقّن رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الاختلاف المذكور ما نصّه: ويُجمع بينهما بأن يكون سمع ابن عباس الحديث مرّة عن معاذ، فرواه متّصلًا، وأرسله تارة، ومرسله حجة على المشهور، كيف وقد عُرف من أرسل عنه، ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ، وحضر القصّة، فرواه تارة بلا واسطة، وتارة بها، إما لنسيانه، وإما لمعنى آخر، انتهى
(1)
.
[تنبيه]: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكره البخاريّ في أواخر "كتاب المغازي"، وقيل كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقديّ بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عنه، ثم حَكَى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان، واتفقوا على أنه لم يَزَل على اليمن إلى أن قَدِمَ في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام، فمات بها، واختُلِفَ هل كان معاذ واليًا أو قاضيًا، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغسانيّ بالأول، ذكره في "الفتح"
(2)
.
وقال في "العمدة": وفي "الإكليل" لابن البيّع: "بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى عند انصرافه من تبوك سنة تسع"، وزعم ابن الحذّاء أن ذلك كان في شهر ربيع الآخر سنة عشر، وَقَدِمَ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه في الحجّة التي حجّ فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذا ذكره سيفٌ في الردّة، وفي "الطبقات": في شهر ربيع الآخر سنة تسع، وفي "كتاب الصحابة" للعسكريّ:"بعثه النبي صلى الله عليه وسلم واليًا على اليمن"، وفي "الاستيعاب": لَمّا خلع من ماله لغرمائه بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"لعلّ الله أن يجبُرك"، قال: وبعثه أيضًا قاضيًا، وجعل إليه قبض الصدقات من العمّال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أُميّة على كِنْدة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ على الْجَنَد، وأبى موسى على زَبِيد، وعَدَن، والساحل انتهى
(3)
.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 14.
(2)
"الفتح" 3/ 451.
(3)
"عمدة القاري" 7/ 160.
(قَالَ) معاذ رضي الله عنه (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي إلى اليمن، كما سيأتي في الرواية التالية (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّكَ تَأتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هذا كالتوطئة للتوصية، لتستجمع هِمَّتهُ عليها، لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال، من عَبَدَة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يَقْدَم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خَصَّهم بالذكر تفضيلًا لهم على غيرهم. قاله في "الفتح".
وقال الطيبيّ: قيد قومًا بأهل كتاب، وفيهم أهل الذمّة، وغيرهم من المشركين " تفضيلًا لهم، وتغليبًا على غيرهم.
[تنبيهان]:
(أحدهما): كان أصل دخول اليهودية في اليمن في زمن أسعد أبي كُريب، وهو تُبّعٌ الأصغر، كما حكاه ابن إسحاق في أوائل "السيرة النبويّة".
(ثانيهما): قال ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": تبرّأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن عزيرًا ابنُ الله، وهذا لا يمنع كونه موجودًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم " لأن ذلك نزل في زمنه، واليهود معه بالمدينة وغيرها، فلم يُنقل عن أحد منهم أنه ردّ ذلك، ولا تعقّبه، والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم، لا جميعهم بدليل أن القائل من النصارى: إن المسيح ابن الله طائفة منهم، لا جميعهم، فيجوز أن تكون تلك الطائفة انقرضت في هذه الأزمان، كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل، وتحوّل معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من الأمور المعنوية، لا الحسيّة، فسبحان مقلّب القلوب
(1)
.
وكتب العلامة الصنعانيّ رحمه الله تعالى على قول ابن العربيّ: ولم ينقل عن أحد منهم ردّ ذلك ولا تعقّبه، ما نصّهُ: ونقول: إنهم لا يُصَدَّقون الآن في دعوى البراءة، فإنهم يُكَذّبون نصّ القرآن، فإن الله أخبرنا بأن صفات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم عندهم، يجدونه مكتوبًا في التوراة والإنجيل، وأنكروا ذلك، فكيف تقبل براءتهم مما حكاه الله عنهم من قولهم:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، وإن أراد ابن
(1)
"الفتح" 4/ 127.
العربي أن الموجودين في زمنه تبرؤوا من قولهم بذلك، فلا يُجدي نفعًا، ولا ينفي إشراك آبائهم، وإن قيل: إن بعض اليهود كان يقول ذلك، فكذلك قد قيل: إن بعض النصارى يقول ذلك، وقد نسب الله القول إلى اليهود والنصارى جملة. انتهى كلام الصنعانيّ
(1)
وهو تَعَقُّبٌ نفيس، والله تعالى أعلم.
(فَادْعُهُمْ) أي ادع أهل اليمن أوّلًا إلى شيئين: أحدهما: شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: شهادة أن محمدًا رسول الله، وفي رواية البخاريّ:"فإذا جئتهم، فادعهم"، قيل: عَبّر بلفظ "إذا " تفاؤلًا بحصول الوصول إليهم
(2)
(إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ)، قال في "الفتح": كذا في رواية زكريّا بن إسحاق، لم يُختلف فيها، وفي رواية الأكثرين:"وأن محمدًا رسول الله"، وأما إسماعيل بن أمية، ففي رواية رَوْح بن القاسم عنه: "فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله
…
"، وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: "إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك".
قال في "الفتح": ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيد الشهادة له بذلك، ولنبيه بالرسالة، ووقعت البداءة بهما؛ لأنهما أصل الدين، الذي لا يصح شيءٌ غيرهما إلا بهما، فمن كان منهم غير مُوَحّدٍ فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان مُوَحِّدًا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة، وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه، كمن يقول ببنُوَّة عُزير، أو يعتقد التشبيه فتكون مطالبتهم بالتوحيد؛ لنفي ما يلزم من عقائدهم.
وقال الحافظ زين الدين العراقيّ رحمه الله تعالى: كيفيّة الدعوة إلى الإسلام باعتبار أصناف الخلق في الاعتقادات، فلمّا كان إرسال معاذ إلى من يُقرّ بالإله والنبوّات، وهم أهل الكتاب أمره بأول ما يدعوهم إلى توحيد الإله، والإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم وإن كانوا يعترفون بإلهيّة الله تعالى، ولكن يجعلون له شريكًا، لدعوة النصارى أن المسيح ابن الله، ودعوة اليهود أن عُزيرًا ابن الله، تعالى الله سبحانه عما يصفون، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس برسول الله أصلًا،
(1)
"العدّة حاشية العمدة" 3/ 273.
(2)
"الفتح" 3/ 451.
أو أنه ليس برسول إليهم، على اختلاف آرائهم في الضلالة، فكان هذا أول واجب يُدْعَون إليه
(1)
.
(فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أي شَهِدُوا، وانقادوا للإتيان بالشهادتين، وفي رواية للبخاريّ:"فإن هم أطاعوا لك بذلك"، وفي رواية ابن خزيمة:"فإن هم أجابوا لذلك"، وفي رواية الفضل بن العلاء:"فإذا عَرَفُوا ذلك"، وعَدَّى "أطاع" باللام وإن كان يتعدى بنفسه لتضمنه معنى انقاد.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: أما طاعتهم بالصلاة فتحتمل وجهين:
[أحدهما]: أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها وفرضيّتها عليهم، والتزامهم لها.
[والثاني]: أن يكون المراد الطاعة بالفعل، وأداء الصلاة، وقد رُجّح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفرضيّة، فتعود الإشارة بذلك إليها، ويرجّح الثاني بأنهم لو أُخْبِرُوا بالوجوب، فبادروا بالامتثال بالفعل لكفى، ولم يُشترط تلفّظهم بالإقرار بالوجوب، وكذلك نقول في الزكاة: لو امتثلوا بأدائها من غير تلفّظ بالإقرار لكفى، فالشرط عدم الإنكار، والإذعان، لا التلفّظ بالإقرار. انتهى
(2)
.
ونقل الصنعانيّ عن ابن الملقّن أن الاحتمال الأول
(3)
هو الظاهر، قال: وفي "فتح الباري": الذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار بالفعل كفاه، والأولى أن يكون الامتثال بهما، لكن لم يُذكَر في الحديث.
قال الصنعانيّ: ويظهر أن المراد: فَأَخْبِرْهم أن الله قد فرض عليهم فعل خمس صلوات في اليوم والليلة، لا أنه فَرَضَ الإقرار بوجوبها خمس مرّات، كما عبّر في غيره بقوله صلى الله عليه وسلم:"وتُقيم الصلاة"، وإقامتها فعلُها، فطاعتهم بفعلها
(1)
"عمدة القاري" 7/ 161.
(2)
"إحكام الأحكام" 3/ 274 - 275 بنسخة حاشية "العدّة".
(3)
أي كون المراد مجموع الأمرين: الإقرار بالوجوب، والتزامهم لها.
هو المطلوب، لا مجرّد الإقرار، ولذا ضمَّنَ "أطاعوا"، معنى انقادوا، فعدّاه باللام؛ إذ الانقياد زيادة على مجرّد الطاعة، فالمطلوب منهم في الصلاة فعلها، وهو يتضمّن الإقرار بفرضيّتها، واعتقاده ظاهرًا، وأما التلفّظ بالإقرار بالفرضيّة لها فليس بمراد، ولا وَرَدَ طلب الشارع لذلك إلا في الشهادتين لا غير، فقال الشارح:"ولو بادروا بالامتثال بالقول لكفى" غير ظاهر، بل نقول: التلفّظ بالوجوب بها غير مطلوب منهم، ومثله يَجري في الزكاة، وإنما قلنا: ظاهرًا؛ لأنهم لو فعلوها غير معتقدين وجوبها، كصلاة المنافقين قبلنا ظاهر فعلهم، وأدخلناهم به في حكم الإسلام، ووكلْنا سرائرهم إلى الله عز وجل كما تقرّر في غير هذا. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(فَأَعْلِمْهُمْ) بقطع الهمزة، من الإعلام (أَنَّ اللهَ) بفتح "أَنَّ" لأنها في محل نصب على أنها مفعول ثان و"أعلمهم"(افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ)، استُدِلّ به على أن الوتر ليس بفرض، وهو مذهب الجمهور، وهو الحقّ، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
وقال الخطّابيّ: وقد يستدلّ به من لا يرى على المديون زكاةَ ما في يده إذا لم يفضُل من الدين الذي عليه قدر نصاب؛ لأنه ليس بغنيّ إذ كان ماله مستحقًّا لغرمائه.
(فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ)، أي: لوجوب الصلاة بأدائها، كما ذكرناه (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً) أي زكاةً، وأطلق لفظ الصدقة على الزكاة، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60]، والمراد بها الزكاة (تُؤْخَذُ) بالبناء للمفعول، والجملة في محلّ نصب على أنها صفة لـ"صدقة"، وكذا قوله:"وتُرَدّ"(مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ) فيه دليلٌ على أن الزكاة تؤخذ من مال الطفل؛ لعموم قوله: "من أغنيائهم"، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى - (فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ) استدلّ به من قال بعدم جواز نقل الزكاة من بلد المال إلى غيره، والراجح خلافه، وسيأتي تحقيقه في
(1)
"العدّة" 3/ 274 - 275.
محلّه أيضًا - إن شاء الله تعالى - (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أي لأداء ما فُرِض عليهم من الصدقة (فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) أي احترز من أخذ كرائم أموالهم، و"الكرائم": جمع كريمة، وهي النفيسة من المال، وقيل: ما يختصّه صاحبه لنفسه منها ويؤثره، وقال صاحب "المطالع": هي جامعة الكمال الممكِنِ في حقّها، من غَزَارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة لحم، أو صوف، وهكذا الرواية:"فإياك وكرائم" بالواو في قوله: "وكرائم"، قال ابن قتيبة: ولا يجوز إياك كرائم أموالهم بحذفها
(1)
.
[تنبيه]: قوله: "فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ" بالواو، ولا يجوز تركهما؛ لأن معنى "إِيّاك": اتّق، وهو الذي يقال له التحذير، والمحَذَّر منه إذا ولي الْمُحَذَّر، فإن كان اسمًا صريحًا يُستعمل بـ "مِنْ"، أو الواو، ولا يخلو عنهما، وإلا لا يُفْهَم منه أنه محذَّر منه، وإن كان فعلًا يجب أن يكون مع "أَنْ"؛ ليكون في تأويل الاسم، فيُستعمل بالواو عطفًا، نحو "إياك وأن تحذف"، فإن تقديره: إياك والحذفَ، أو بـ "مِنْ"، نحو إياك من أن تحذف، ولا يجوز أن يقال: إياك الأسد بدون الواو، وقد نَقَل ابن مالك إياك الأسد بحذف الواو، ولكنه شاذّ يكون في الضرورة
(2)
.
قال في "الخلاصة":
"إِيَّاكَ وَالشَّرَّ" وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَار وَجَبْ
وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لِـ"إِيَّا" انْسُبْ
…
وَمَا سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا
إِلَّا مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ
…
كـ"الضَّيغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي"
وَشَذَّ "إِيَّايَ" وَإِيَّاهُ" أَشَد
…
وَعَنْ سَبِيلِ الْقَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ
وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا "إِيَّا" اجْعَلَا
…
مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا
(وَاتَّقِ) أي احذر (دَعْوَةَ الْمَظْلُوم، فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، أي فإن الأمر والشأن، وفي رواية أبي داود:"فإنها" فالضمير للقصّة، أي فإن القصّة.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الرواية الصحيحة في "فإنه" بضمير
(1)
"شرح النووي" 1/ 197، و"عمدة القاري" 7/ 161.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 7/ 161 - 162.
المذكّر، على أن يكون ضمير الأمر والشأن، ويحتمل أن يعود على مذكّر الدعوة، فإن الدعوة دعاء، ووقع في بعض النسخ:"فإنها" بهاء التأنيث، وهو عائدٌ على لفظ الدعوة. انتهى
(1)
.
(لَيْسَ بَيْنَهَا) أي بين دعوة المظلوم، وفي رواية:"بينه" بتأويل الدعوة بالدعاء، أي بين دعاء المظلوم (وَبَيْنَ اللهِ) سبحانه وتعالى (حِجَابٌ) أي مانع يمنع من الوصول، وقال الطيبيّ: قوله: "واتَّق دعوة المظلوم" تذييلٌ؛ لاشتماله على هذا الظلم الخاصّ من أخذ كرائم الأموال، وعلى غيره مما يتعلّق بالمزكّي، وعلى هذا المظلوم وغيره.
وقوله: "فإنه ليس بينها إلخ"، تعليلٌ للاتّقاء، وتمثيل للدعوة بمن يقصد إلى السلطان، متظلّمًا، فلا يُحجب عنه. انتهى
(2)
.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى: إلا أنه وإن كان مطلقًا، فهو مقيّد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يُعجّل له ما طلب، وإما أن يدّخر له أفضل منه، إما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قُيّد قوله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل: 62] بقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} الآية [الأنعام: 41]، انتهى.
[تنبيه]: كتب ابن الملقّن في "شرح العمدة" على قوله: "ليس بينها وبين الله حجاب" ما نصه: الحجاب يقتضي الاستقرار في المكان، والباري منزّه عن ذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يُخاطب العرب بما تَفهم. والمراد أنها مقبولة على كلّ حال، لا أن للباري جلّ وتعالى حجابًا يحجبه عن الناس، ويحتمل كما قال الفاكهيّ أن يراد بالحجاب هنا المعنويّ، دون الحسيّ انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ليت شعري ما الذي يعنيه بنفي الحجاب؟ كيف ينفي حجاب الله تعالى، من يسمع الحديث الصحيح، حديث
(1)
"المفهم" 1/ 184.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1470.
(3)
"الإعلام" 5/ 28 - 29.
أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال:"إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِض القسط، ويَرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل، قبل عمل النهار، وعمل النهار، قبل عمل الليل، حجابه النورُ"، وفي روايةٍ:"النارُ"، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه، أخرجه مسلم في "صحيحه". وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في إثبات الحجاب؟ إن هذا لهو العَجَب العُجاب.
ومن العجيب أن صاحب "الفتح" قد ذكر أيضًا نحو هذا الكلام مُقَرِّرًا له، وراضيًا به.
والحقّ أننا نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه، من حجاب أو غيره، على المعنى اللائق به سبحانه وتعالى، فلا نعطّل، ولا نشبّه، ولقد صدق في قوله: كان صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تفهم. ونحن - ولله الحمد - نكتفي بما تفهمه العرب، واكتفت به من ظواهر النصوص التي بلّغها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ، لأنه هو الصراط المستقيم الذي أوجب الله على عموم الثقلين أن يتّبعوه، وأوجب عليهم أيضًا اعتقاد ما فهموه، فلو كان هذا الذي فهمته العرب غير مراد لبادر صلى الله عليه وسلم إلى أنه غير مراد، وبيّن أن المراد كذا وكذا، فقد بيّن جميع ما يحتاج إليه المكلّف، من المعتقدات، والأعمال بيانًا شافيًا، كما أمره الله عز وجل بقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].
فيا أيها العاقل اللبيب لا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، بل كن مع الحقّ، ودر معه حيثما دار، تنجُ من مخازي دار البوار، أعاذنا الله منها الرحيم الغفّار.
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحق، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا 7/ 129 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع، عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفيّ، عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
و 7/ 130 عن ابن أبي عمر، عن بِشْر بن السريّ - و (ح) عبد بن حميد، عن أبي عاصم - كلاهما (بشر، وأبو عاصم) عن زكريا بن إسحاق، - و 7/ 131 عن أمية بن بِسطام، عن يزيد بن زُريع، عن رَوْح بن القاسم، عن إسماعيل بن أُميّة - كلاهما (زكريا، وأمية) عن يحيى بن عبد الله بن صيفيّ، عن أبي معبد، عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فقال: إنك ستأتي قومًا
…
ولفظ إسماعيل: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا بعث معاذًا إلى اليمن قال: إنك تقدَمُ على قوم
…
والله تعالى أعلم.
وأخرجه (البخاريّ) 2/ 130 و 9/ 145 عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد و 2/ 158 عن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك و 3/ 169 عن يحيى بن موسى، عن وكيع، وفي 5/ 205 عن حِبَّان بن موسى - عن ابن المبارك - ثلاثتهم:(أبو عاصم، وابن المبارك، ووكيع) عن زكريا بن إسحاق به، و 2/ 147 عن أميّة بن بِسطام، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، و 9/ 140 عن عبد الله بن أبي الأسود، عن الفضل بن العلاء، كلاهما (روح، والفضل) عن إسماعيل بن أميّة كلاهما (زكريا، وإسماعيل) عن يحيى بن عبد الله به.
وأخرجه (أبو داود)(1584) و (الترمذيّ)(625 و 2014) و (النسائيّ) 5/ 2 و 5/ 55 و (ابن ماجه)(1783) و (أحمد) في "مسنده" 1/ 233 و (الدارمي) في "سننه"(1622 و 1638) و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2275) و (2346) و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(110 و 111 و 112). والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في ذكر فوائده:
1 -
(منها): أن فيه قبولَ خبر الواحد، ووجوب العمل به، مطلقًا، سواء كان في باب العقائد، أو في باب الأحكام، وهو مجمع عليه بين أهل السنة، وإنما خالف فيه بعض أهل الزيغ، وإلى هذا أشرت في "التحفة المرضيّة" بقولي:
قَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ أَنْ يُحْتَجَّ فِي
…
بَابِ الْعَقَائِدِ بِهِ فَهُوَ يَفِي
كَبَابِ الأَحْكَامِ لأَنَّ الْحُجَجَا
…
كِلَيْهِمَا تَعُمُّ خُذْهُ مَنْهَجَا
ثُمَّةَ رَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
…
بَابِ الْعَقَائِدِ فَسَادُهُ وَفِي
إِذْ فِيهِ إِبْطَالُ أَحَادِيثَ تَصحّ
…
بِهَا الْعَقَائِدُ ثُبُوتُهَا يَضِحْ
وَأَجْمَعَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ وَالتَّبَعْ
…
عَلَى قَبُولِهَا وَنِعْمَ الْمُتَبَعْ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْعَقَائِدِ
…
أَحْدَثَهُ أُولُو اتِّجَاهٍ فَاسِدِ
فَلَيْسَ يُعْرَفُ عَنِ الصَّحْبِ وَلَا
…
مَنْ بَعْدُ مِنْ ذَوِي الْعُلُوم الْفُضَلَا
وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ رُؤُوسِ
…
أَهْلِ الْهَوَى وَالْمَذْهَبِ المَنْحُوسِ
وَهُوَ حُجَّةٌ لِكُلِّ بَاب
…
مِنْ دُونِ فَرْقٍ لِذَوِي الْأَلْبَابِ
لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا تَعُمُّ الْبَلْوى
…
وَغَيْرِهِ لَدَى ثُبُوتِ الْفَتْوَى
وَبَيْنَ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ
…
زَادَ عَلَى مَا فِي الْكِتَاب قَدْ رَأَوْا
أَوْ خَالَفَ الْقِيَاسَ إِذْ أَدِلَّةُ
…
وُجُوبِ أَخْذِنَا سَوَاءٌ عَامَةُ
(1)
هذَا الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ مَنْ سَلَفْ
…
وَمَا عَنِ الْبَعْضِ أَتَى أَنْ قَدْ عَزَفْ
عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أُوِّلَ عَلَى
…
عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ أَوْ وَصَلَا
عَنْ غَيْرِ مَوْثُوقٍ أَوِ الْمُعَارِضُ
…
قَامَ لَدَيْهِمُ فَعَنْهُ أَعْرِضُوا
2 -
(ومنها): أن الكفار يُدْعَون إلى التوحيد قبل القتال، وأن لا يُحكَم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين، وهذا مذهب أهل السنة؛ لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصحّ شيء من فروعه إلا بتحققّه.
3 -
(ومنها): أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة.
4 -
(ومنها): أن الوتر ليس بواجب؛ لأن بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بقليل، بعد الأمر بالوتر، والعملِ به، قال صاحب "التوضيح": وهذا ظاهر لا إيراد عليه، ومن ناقش به فقد غَلِط.
(1)
بتخفيف الميم؛ للوزن.
وقد ناقشه العينيّ ناصرًا لمذهبه، كعادته في مثل هذا، تركت ذكره؛ لعدم جدواه؛ إذ الانتصار إنما هو للحقّ، لا لآراء الرجال، وسيأتي البحث في هذا مستوفًى في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
5 -
(ومنها): أن الزكاة فرض.
6 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به بعضهم على أن الزكاة لا يجوز نقلها عن بلد المال، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فتُرَذ في فقرائهم".
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: وفيه عندي ضعف؛ لأن الأقرب أن المراد تؤخذ من أَغْنِيَائهم من حيث إنهم مسلمون، لا من حيث إنهم من أهل اليمن، وكذلك الردّ عليهم، وإن لم يكن هذا هو الأظهر، فهو محتمل احتمالًا قويًّا، ويقوّيه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكليّة لا تُعتبر، ولولا وجود مناسبة في باب الزكاة لقُطع بأن ذلك غير معتبر، وقد وردت صيغة الأمر بخطابهم في الصلاة، ولا يختصّ بهم قطعًا، أعني الحكم، وإن اختصّ بهم خطاب المواجهة، انتهى كلامه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى من ضعف الاستدلال بهذا الحديث على عدم جواز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر هو الأرجح عندي؛ لما بيّنه في تحقيقه، وأما محاولة الصنعاني في "حاشيته" بالردّ عليه، ففيها نظر، فتأملها بعين الإنصاف.
وقد مال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" لهذا الكتاب إلى ما رجحه ابن دقيق العيد، فانظره
(1)
. وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
7 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن من مَلَكَ النصابَ لا يُعطى من الزكاة، وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك رحمهم الله تعالى من حيث إنه جعل المأخوذ منه غنيًّا، وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذةٌ منه، فهو غنيّ، والغنيّ لا يُعطَى من الزكاة، إلا في المواضع المستثناة في الحديث، وليس بالشديد القوّة، قاله ابن دقيق العيد
(2)
.
(1)
"شرح صحيح مسلم" 1/ 197.
(2)
"إحكام الأحكام" 3/ 278 بنسخة حاشية "العدّة".
وأشار بالحديث إلى ما أخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تحلّ الصدقة لغني، إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدّق عليه بها، فأهداها لغنيّ".
8 -
(ومنها): بيان عِظَم تحريم الظلم، وأن الإمام ينبغي أن يَعِظَ ولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى، ويبالغ في نهيهم عن الظلم، ويُعَرِّفَهم قُبْحَ عاقبته، قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: في الحديث دليلٌ على تعظيم أمر الظلم، واستجابة دعوة المظلوم، وذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك عقب النهي عن أخذ كرائم الأموال؛ لأن أخذها ظلم، وفيه تنبيه على جميع أنواع الظلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه تحريم الظلم، وتخويف الظالم، وإباحة الدعاء للمظلوم عليه، والوعد الصّدق بأن الله تعالى يستجيب للمظلوم فيه، غير أنه قد تُعجّل الإجابة فيه، وقد تؤخّر؛ إملاءً للظالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ
(2)
، ثم قرأ:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102]، وكما قد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله تعالى يَرفع دعوة المظلوم على الغمام، ويقول لها: لأنصرَنَّك ولو بعد حين"
(3)
.
9 -
(ومنها): أنه يَحرُم على الساعي أخذ كرائم المال في أداء الزكاة، بل يأخذ الوسط، ويحرم على رب المال إخراج شَرّ المال، قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: ودلّ الحديث أيضًا على أن كرائم الأموال لا تؤخذ من الصدقة، كالأَكُولة، والرُّبَّى، وهي التي تربّي ولدها، والماخض، وهي الحامل، وفحل الغنم، وحَزَرات المال - بتقديم الزاي، وقيل: بتأخيرها - وهي التي تُحزَرُ بالعين، وتُرمق؛ لشرفها عند أهلها.
(1)
"الإحكام" 3/ 280 بنسخة الحاشية.
(2)
رواه مسلم في "صحيحه"(2583) والترمذي (3110) وابن ماجه (4018) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 305 و 445 والترمذيّ (2526) وابن ماجه (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحكمة فيه أن الزكاة وجبت مواساةً للفقراء من مال الأغنياء، ولا يُناسب ذلك الإجحافَ بأرباب الأموال، فسامح الشرع أرباب الأموال بما يَضِنُّون به، وَنَهَى الْمُصَدِّقين عن أخذه، كما نهاهم عن أخذ رديء المال من الهَرِمة، وذات الْعَوَار، والدَّرِّيّة
(1)
، والمريضة، والشَّرَط، واللئيمة
(2)
، فلا يؤخذ على الغنيّ خيار ماله، ولا يُعطِي الفقير شرار ماله، بل الوسط، وهكذا جرت حكمته تعالى بالرفق بالعباد في كلّ أمر من الأمور، له الحمد كثيرًا، وله الحكمة البالغة. انتهى
(3)
.
10 -
(ومنها): أن الزكاة لا تُدفع إلى كافر، ولا تُدفع أيضًا إلى غنيّ من نصيب الفقراء.
11 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به بعضهم على أن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة، من الصلاة والصوم والزكاة، وتحريم الزنا ونحوها؛ لكونه صلى الله عليه وسلم قال:"فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن عليهم"، فدَلّ على أنهم إذا لم يُطيعوا لا يجب عليهم.
قال النوويّ: وهذا الاستدلال ضعيف؛ فإن المراد علمهم بأنهم مُطَالَبون بالصلوات وغيرها في الدنيا، والمطالبةُ في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، وليس يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، يزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، ولأنه صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ ذلك في الدعاء إلى الإسلام، وبدأ بالأهمّ، ألا تراه بدأ صلى الله عليه وسلم بالصلاة قبل الزكاة، ولم يقل أحد: إنه يصير مكلفًا بالصلاة دون الزكاة. انتهى كلام النوويّ
(4)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به، والمنهيّ عنه، هذا قول المحققين والأكثرين، وقيل: ليسوا مخاطبين بها، وقيل: مخاطبون بالمنهيّ دون المأمور.
(1)
أي: ذات الدّرّ، أي: الحلوبة.
(2)
أي: رُذال المال، وقيل: صِغَارُه، وشِرَاره انتهى "النهاية" 2/ 460.
(3)
"إحكام الأحكام" مع حاشية "العدّة" 3/ 279 - 280.
(4)
"شرح مسلم" 1/ 197 - 198.
وإلى هذا أشرت في "التحفة المرضيّة" بقولي:
وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ خُوطِبُوا
…
أَنْ يُؤْمِنُوا بِلَا خِلَافٍ يُنْسَبُ
أَمَّا بِغَيْرِهِ فَالاخْتِلَافُ جَا
…
وَالْقَوْلُ بِالْخِطَابِ أَقْوَى حُجَجَا
ثم رأيت العلامة الصنعانيّ رحمه الله تعالى قد كتب في هذه المسألة بحثًا نفيسًا، أحببت إيراده هنا لنفاسته:
قال رحمه الله تعالى: قوله: "غير مخاطبين بالفروع"، هكذا أطبق الناس عليه، ولا يخفى أن الله بعث الرسل تدعو العباد إلى طاعته تعالى في كلّ ما أمرت به الرسل، من غير تفرقة بين فروع ولا أصول، بل هذه التفرقة والتسمية حادثة اصطلاحًا قطعًا، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه، وإتيان جبريل عليه السلام يسأله عن الإيمان، والإسلام، فأجابه بأن:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا". فقال له جبريل: "صدقت". وإذا كان هذا مسمّى الإسلام بالنصّ النبويّ ورواية "بني الإسلام على خمس"، وذكر هذه، أخرج الأولى مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأخرج الثانية الشيخان، والترمذيّ، وأبو داود، والنسائيّ.
وإذا عرفت أن هذا مسمى الإسلام، وقد عرفت أنه صلى الله عليه وسلم بُعث يدعو الأمة إلى الإسلام، وقال في كتابه إلى قيصر الذي أخرجه البخاريّ وغيره:"أَسْلِمْ تَسْلَمْ"، فقد دعا إلى هذا المركّب من الخمسة الأجزاء، وهي سواء في صدقه عليها، فلا فروع، ولا أصول، بل هذه تسمية مبتدعة، وإذا كان كذلك، فالدخول في هذا الإسلام مخاطب به كلّ مكلّف، الكافر مكلّف بالدخول فيه، والاتصاف به، والمسلم مكلّف بالاستمرار عليه، فإن امتنع الكافر عن الدخول فيه عُذّب على تركه كما يُعذّب المسلم على تركه لأيّ أجزائه عمدًا، فالكفّار مخاطبون بهذا الذي اصطلحوا على تسميته فروعًا، فإن امتنع الكافر عن الإسلام عوقب على تركه الإسلام بجميع أجزائه بلا فرق. وقالت الكفّار لَمّا سُئلوا:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر: 42، 43]، والرسل من أولهم إلى آخرهم يقولون لأممهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الآية [الأعراف: 59]، وعبادته المأمور بها شاملة لكلّ ما تأمرهم به
الرسل مما سَمَّوه أصولًا، وفروعًا، وهذا شيء دخيل. قال: ولكن لما قسموا الإسلام إلى الأمرين، فشا لهم الخلاف في مسألة خطاب الكفّار بالفروع، وأطالوا المسألة، والمقاولة في الأصول الفقهيّة، وإلا فهذا شيء لا يُعرَف في سلف الأمّة وعصر النبوّة، انتهى كلام الصنعانيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه العلّامة الصنعانيّ رحمه الله تعالى تحقيقٌ نفيس، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): استَدَلَّ به من قال من العلماء أنه لا يشترط التَّبرِّي من كل دين يخالف دين الإسلام؛ خلافًا لمن قال: إن من كان كافرًا بشيء، وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بترك اعتقاد ما كفر به.
والجواب أن اعتقاد الشهادتين يستلزم ترك اعتقاد التشبيه، ودعوى بُنُوّة عُزير وغيره، فَيُكْتَفَى بذلك.
13 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى يُضيف إليها الشهادة لمحمد بالرسالة، وهو قول الجمهور، وقال بعضهم: يصير بالأُولى مسلمًا، ويُطالَب بالثانية، وفائدة الخلاف تظهر بالحكم بالردة.
14 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين، وإن كانوا يعبدون الله، ويُظهرون معرفته، لكن قال حذّاق المتكلّمين: ما عَرَفَ الله من شبّهه بخلقه، أو أضاف إليه اليد، أو أضاف إليه الولد، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله، وإن سمّوه به. قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هؤلاء المتكلّمون مشتمل على حقّ وباطل، أما الحقّ، فقولهم: من شبّه الله بخلقه، أو أضاف إليه الولد، وأما الباطل، فقولهم: أو أضاف إليه اليد، فإن هذا باطل بلا شكّ، فكيف يقال: من أضاف إلى الله عز وجل ما أضافه لنفسه في كتابه العزيز، في قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وأضافه إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، كما هو منصوص عليه في محلّه: إنه لا يعرف الله، إن
(1)
المصدر السابق.
هذا لهو العجب العجاب، فمن اعتقد أن لله تعالى يدًا، لا تشبه أيدي المخلوقين، بل على ما يليق بجلاله، فهو العارف بربه حقّ معرفته، وإنه هو الذي على الحقّ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]. فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[130]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنَا أَبُو عَاصِمٍ، عِنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلى الْيَمَن، فَقَالَ: "إِنَّكَ سَتَأتِي قَوْمًا
…
" بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ).
رجال هذا الإسناد ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمَر الْعَدَنيّ، نزيل مكّة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ، صنّف المسند، وكان ملازمًا لابن عيينة، لكن قال فيه أبو حاتم: فيه غفلة [10]، (ت 243)(م ت س ق) تقدّم في 4/ 31.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ - بمهملة - أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11].
رَوَى عن جعفر بن عون، وأبي أُسامة، وعبد الله بكر السَّهْمِيّ، ويزيد بن هارون، وابن أبي فُدَيك، وأحمد بن إسحاق الحضرمي، والضحّاك بن مَخْلَد، والحسين الجعفي، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والترمذيّ، وابنه محمد بن عبد، وسهل بن شاذَوَيْه، وبكر بن الْمَرْزُبَان، وسليمان بن إسرائيل الْخُجَنديّ، وشاه بن جعفر، وآخرون، من آخرهم إبراهيم بن خُرَيم بن قمر اللَّخْمِيّ الشاشيّ، راوية "التفسير"، و"المسند" عنه.
قال البخاري في "دلائل النبوة" عقب حديث ابن عمر في حَنِين الجذع:
وقال عبد الحميد: ثنا عثمان بن عُمر، ثنا معاذ بن العلاء، عن نافع بهذا، فقيل: إنه عبد بن حُميد هذا، وقال أبو حاتم بن حبان في "الثقات": عبد الحميد بن نَصْر الْكَشّيُّ، وهو الذي يقال له: عبد بن حُميد، وكان ممن جَمَعَ، وصَنَّفَ، ومات سنة تسع وأربعين ومائتين، وقال صاحب "الشيوخ النبل": مات بدمشق، ولم يذكره مع ذلك في "تاريخ دمشق".
قال الحافظ: لعل قوله: "بدمشق" وقع في بعض النسخ السقيمة، فإن أكثر النسخ ليس فيها بدمشق، وقال ابن قانع: مات بِكّشّ، فلعلها كانت في "النبل" كذلك، وتَصحَّفَت، وقرأت بخط الذهبي: لم يدخل عبد بن حُميد دمشق قط، وحَكَى غُنْجَار في "تاريخ بُخَارَى" قال: كان يحيى بن عبد الغفار الكشي مَرِيضًا، فعاده عبد بن حُميد، فقال: لا أبقاني الله بعدك، فماتا جميعًا، مات يحيى، ومات عبد في اليوم الثاني فَجْأَةً من غير مرض، ورُفِعَت جنازتهما في يوم واحد، وقرأت بخط محمد بن مُزَاحِم في ظهر جزء من تفسير عبد: قال: ثنا إبراهيم بن خُرَيم بن خاقان سنة (309)، ثنا أبو محمد، عبد الحميد بن حميد، فذكره. وقال الشيرازي في "الألقاب": عبد، وهو عبد الحميد بن حُميد، ثم ساق عن إبراهيم بن أحمد البلخيّ، وهو المستملي: ثنا داود بن سليمان بن خُزَيمة أبو خزيمة ببخارى، أنا عبد الحميد بن حُميد، ثنا يحيى بن آدم، فذكر حديثًا، وكذا ساق الثعلبي في مقدمة تفسيره بسند إليه، من طريق داود بن سليمان هذا، وكذا قال من طريق عُمَر بن محمد الْبُجَيريّ، عن عبد الحميد بن حميد.
روى له البخاري في "التعاليق"، ومسلم، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب (307) حديث.
[تنبيه]: ليس في الكتب الستة من يُسمّى بـ "عبد" بغير إضافة غير هذا المترجم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
3 -
(بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ) أبو عمرو الأَفْوَهُ البصريّ، سكن مكة، ثقة متقنٌ، طُعِن فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب [9].
رَوَى عن الثوريّ، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، ومسعر، والليث، وإبراهيم بن طَهْمان، وعبد الرزاق، وغيرهم.
وروى عنه يحيى بن آدم، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وأبو صالح، كاتب الليث، وعبد الله الْمُسْنَد، وعلي بن المدينيّ، وابن أبي عمر الْعَدَنيّ، ومحمود بن غيلان، وغيرهم.
وقال عمرو بن عليّ: سألت عبد الرحمن بن مهديّ من حديث إبراهيم بن طَهْمان، فقال: ممن سمعته؟ فقلت: حدثنا بشر بن السَّريّ، فقال: سمعته من بشر، وتسألني عنه؟ لا أحدثك به أبدًا، وقال أحمد بن حنبل: حدثنا بشر بن السريّ، وكان متقنًا للحديث، عجبًا، وقال أحمد: سمعنا منه، ثم ذَكَر حديث {نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، فقال: ما أدري ما هذا؟ أيْش هذا؟ فوَثَبَ به الحميديّ، وأهلُ مكة، فاعتذر، فلم يُقْبَلْ منه، وزَهِدَ الناس فيه، فلما قدمت مكة المرة الثانية، كان يجيء إلينا، فلا نكتب عنه. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عديّ: له غرائب عن الثوريّ، ومسعر، وغيرهما، وهو حسن الحديث، ممن يُكْتَب حديثه، ويقع في أحاديثه من النُّكْرة؛ لأنه يروي عن شيخ مُحْتَمَل، فأما هو في نفسه فلا بأس به، وقال عباس عن يحيى: رأيته يستقبل البيت، يدعو على قوم يرمونه برأي جهم، ويقول: معاذ الله أن أكون جهميًّا، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. قال الْبَرْقَانيّ عن الدارقطنيّ: مكي ثقة، وفي موضع آخر: وَجَدُوا عليه في أمر المذهب، فحَلَفَ، واعتَذَر إلى الحميديّ في ذلك، وهو في الحديث صدوق. وقال العقيليّ: هو في الحديث مستقيم. وقال العجليّ، وعمرو بن علي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال البخاريّ: كان صاحب مواعظ، يتكلم، فسُمِّيَ الأَفْوَهَ، قال: وقال محمود: مات سنة (195)، وقال غيره: مات سنة (196)، وهو ابن (63) سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (19) و (635) و (1451) و (2351) و (2456) و (2810).
4 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلد المذكور قبل حديث.
والباقون تقدّموَا في السند الماضي.
وقوله: "عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ معاذًا إلخ"، قال النوويّ في
"شرحه": هذا اللفظ يقتضى أن الحديث من مسند ابن عباس رضى الله عنهما، وكذلك الرواية التي بعده، وأما الأولى فمن مسند معاذ رضي الله عنه ووجه الجمع بينهما أن يكون ابن عباس سمع الحديث من معاذ رضي الله عنه، فرواه تارة عنه متصلًا، وتارة أرسله، فلم يذكر معاذًا رضي الله عنه، وكلاهما صحيح، كما قدمناه أن مرسل الصحابيّ إذا لم يُعْرَف المحذوف يكون حجةً، فكيف وقد عرفناه في هذا الحديث أنه معاذ رضي الله عنه.
ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ، وحضر القضية، فتارة رواها بلا واسطة؛ لحضوره إياها، وتارة رواها عن معاذ إما لنسيانه الحضور، وإما لمعنى آخر. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيس، وقد أسلفنا نحوه لابن الملقّن
(1)
.
وقوله: "بمثل حديث وكيع" يعني أن حديث بشر بن السريّ، وأبي عاصم عن زكريّا بن إسحاق بمثل ألفاظ حديث وكيع عنه.
[تنبيه]: رواية بِشْرٍ وأبي عاصم اللتان أحالهما المصنف هنا على رواية وكيع أخرجهما أبو نعيم في "مستخرجه"، فقال: حدثناه أبو حامد، ثنا أبو بكر بن خزيمة، ثنا بُندار، ثنا أبو عاصم، ثنا زكريّا بن إسحاق
…
الحديث.
وأما حديث بشر بن السريّ، فحدثناه محمد بن إبراهيم بن عليّ، ثنا إسحاق بن أحمد الْخُزَاعىّ القارئ، ثنا محمد بن أبي عمر، ثنا بشر بن السريّ، ثنا زكريّا بن إسحاق، عن يحى بن عبد الله بن صيفيّ، عن أبي معبد، عن ابن عبّاس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ معاذ بن جبل إلى اليمن، فقال:"إنك ستأتي قومًا أهل الكتاب، فإذا لقيتهم، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن عليهم خمسَ صلوات في يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم، وتُردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب"
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 198.
(2)
"المسند المستخرج" 1/ 114.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[131]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثنَا رَوْحٌ - وَهُوَ ابْنُ الْقَاسمِ - عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاس، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ، أَهلِ كتَاب، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ عز وجل، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهً فَرَضَ عَلَيْهِم خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَن اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكاةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ").
رجال هذا الاسناد: سبعة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) - بالياء والشين المعجمة - هو: أمية بن بِسْطَام بن المُنْتَشِر، أبو بكر البصريّ ابنُ عَمّ يزيد بن زُرَيع، صدوقٌ [10].
رَوَى عن يزيد بن زُريع، وابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وبشر بن المفضل، وغيرهم.
ورَوَى عنه الشيخان، وروى عنه النسائي بواسطة عثمان بن خُرَّزاذ، وروى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، والْبُوشَنْجِيّ، وابن أبي عاصم، والدُّوريّ، وتَمْتَام، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وغيرهم.
قال أبو حاتم: محله الصدق، ومحمد بن المنهال أحبّ إليّ منه. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (231).
تفرّد به الشيخان، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.
[تنبيه]: قال النوويّ في "شرحه": قوله: "ابن بسطام العيشي: "أما "بِسْطام": فبكسر الباء الموحدة، هذا هو المشهور، وحكى صاحب "المطالع" أيضًا فَتْحَهَا، واختُلِفَ في صرفه، فمنهم من صرفه، ومنهم من لم يصرفه، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى:"بِسْطام" عجميّ لا ينصرف، قال ابنُ دُريد: ليس من كلام العرب، قال: ووجدته في كتاب ابن الْجُوَاليقيّ في الْمُعَرَّب مصروفًا، وهو بعيدٌ، هذا كلام الشيخ أبي عمرو.
وقال الجوهري في "الصحاح": بِسْطام ليس من أسماء العرب، وإنما سَمَّى قيسُ بن مسعود ابنه بِسْطَامَ باسم ملك من ملوك فارس، كما سَمَّوا قابوس، فعرَّبوه بكسر الباء. والله تعالى أعلم.
وأما "العَيْشِيُّ": فبالشين المعجمة، وهو منسوب إلى بني عايش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، وكان أصله العايشيّ، ولكنهم خففوه، قال الحاكم أبو عبد الله، والخطيب أبو بكر البغداديّ: العيشيون بالشين المعجمة بصريون، والعبسيون بالباء الموحدة، والسين المهملة كوفيون، والعنسيون بالنون والسين المهملة شاميون، وهذا الذي قالاه هو الغالب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وإلى هذا الضابط في "العيشيّ، والعبسيّ، والعنسيّ"، أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
فِي الْبَصْرَةِ الْعَيْشِيُّ وَالْعَنْسِيُّ
…
بِالشَّامِ وَالْكُوفَةِ قُلْ عَبْسِيُّ
وقد ذَيَّلْتُهُ بقولي:
هَذَا هُوَ الْغَالِب في الضَّبْطِ وَقَدْ
…
يَأتِي مُخَالِفًا فَتَابِعْ مَا وَرَدْ
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) - بتقديم الزاي، مصغّرًا - الْعَيْشيّ، ويقال: التميميّ، أبو معاوية البصريّ الحافظ، ثقة ثبتٌ [8].
رَوَى عن سليمان التيميّ، وحميد الطويل، وأبي سلمة سعيد بن يزيد، وعمرو بن ميمون بن مهران، وأيوب، وحبيب المعلم، وحبيب بن الشهيد، وخالد الحذّاء، وغيرهم.
وروى عنه ابن المبارك، وابن مهديّ، وبهز بن أسد، ويحيى بن غَيْلان، وعفان، وأمية بن بِسطام، وزكرياء بن عديّ، وعبدان، والقعنبيّ، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وغيرهم.
قال إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة: لم يكن أحدٌ أثبت من يزيد بن زريع، وقال أبو بكر الأسدي عن أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان رَيْحَانة البصرة، وقال أبو طالب عن أحمد: ما
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 199.
أتقنه، وما أحفظه، يا لك من صحة حديث، صدوقٌ متقن، قال: وكل شيء رواه يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، فلا تبال أن لا تسمعه من أحد، سماعه منه قديم، وكان يأخذ الحديث بنيَّة. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: يزيد بن زريع الصدوق الثقة المأمون، وقال الدُّوريّ: سئل ابن معين عن يزيد بن زريع، وعبد العزيز الْعَمّيّ، أيهما مُقَدَّم؟ فقال: يزيد أوثق. وقال معاوية بن صالح: قلت لابن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: يزيد بن زريم. وقال سعيد بن صالح: سمعت ابن المبارك يقول لرجل، يحدث عن يزيد بن زريع: عن مثله فحدث. وقال أبو عوانة: صحبت يزيد بن زريع أربعين سنة، يزداد في كل يوم خيرًا، وقال محمد بن المثنى السِّمْسَار: سمعت بشر بن الحكم، وذَكَر يزيد بن زريع، فقال: كان متقنًا حافظًا، ما أعلم أني رأيت مثله، ومثل صحة حديثه. وقال عمرو بن عليّ: أعلى مَن رَوَى عن شعبة يزيد بن زريع، ويحيى بن سعيد، وذكر جماعةً، وقال أبو حاتم: ثقة إمام. وقال نصر بن عليّ الجهضميّ: رأيت يزيد بن زريم في النوم، فقلت: ما فعل الله تعالى بك؟ قال: أدخلني الجنة، قلت: بم ذاك؟ قال: بكثرة الصلاة. وقال عليّ بن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: ابنُ زريع أثبت من وهيب، وعنه أيضًا قال: يزيد بن زريع، ثم ابنُ عُلَيَّة، زاد أبو حاتم: ثم بشر بن المفضل، ثم عبد الوارث. وقال عبد العزيز القواريريّ: لم يكن يحيى بن سعيد يُقَدّم في سعيد بن أبي عروبة أحدًا إلا يزيد بن زريع. وقال محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع: ذَكَرُوا الفقهاءَ، وأصحابَ الحديث، ومن لا يُطْعَن عليه في شيء، فذكروا مالكًا، وحماد بن زيد، ويزيد بن زُريع. وحَكَى ابن أبي خَيْثَمَة أن يزيد بن زريع سئل عن التدليس؟ فقال: التدليس كَذِب. وقال النسائيّ: ثقة.
وعن عفّان قال: كان أثبت الناس. وقد أشار ابن طاهر في ترجمة عباس الْبَحْرَانيّ إلى أنه تغير بأَخَرة.
وقال ابن سعد: كان ثقة حجةً كثير الحديث، وتوفي بالبصرة سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقال عمرو بن عليّ: وُلد سنة إحدى ومائة، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومائة في شوال، وكان من أورع أهل زمانه،
مات أبوه وكان واليًا على الأُبُلَّة، وخَلَفَ خمسمائة ألف، فما أخذ منها حبة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (83) حديثًا.
3 -
(رَوْحٌ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبَرِيّ، أبو غِيَاث - بمعجمة، آخره مثلّثة - البصريّ، ثقة حافظ [6].
رَوَى عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومحمد بن المنكدر، ومنصور، وهشام بن عروة، ومحمد بن عجلان، وأبي الزبير، والعلاء بن عبد الرحمن، وعبد الله بن طاوس، وعطاء بن أبي ميمونة، وسُهيل بن أبي صالح، وعبيد الله بن عُمَر، وعَمْرو بن يحيى بن عُمارة، وإسماعيل بن أمية، في آخرين، ورَوَى عن قتادة حديثًا واحدًا.
وروى عنه سعيد بن أبي عروبة، ومحمد بن إسحاق، وهما من أقرانه، وعيسى بن شعيب النحويّ، والحسن بن حبيب بن نَدَبَة، ومحمد بن سَوَاء السَّدُوسِيّ، ويزيد بن زريع، وإسماعيل بن علية، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة: ثقة، وكذا قال عبد الله بن أحمد عن أبيه، وقال أحمد في موضع آخر: رَوْح بن القاسم، وأخوه هشام من ثقات البصريين، وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن عيينة: لم أر أحدًا طلب الحديث، وهو مُسِنٌّ أحفظ منه. وقال ابن حبان في "الثقات": مات قبل الحجاج بن أرطاة، سنة إحدى وأربعين ومائة، وكان حافظًا متقنًا.
قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ: مات سنة نيف وخمسين.
أخرج له الجماعة إلا الترمذيّ، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أمَيَّةَ) بن عَمْرو بن سَعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأمويّ، ابن عم أيوب بن موسى، ثقةٌ ثبت [6].
رَوَى عن ابن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، وعكرمة، مولى ابن عباس، وسعيد المقبريّ، وأبي الزبير، والزهريّ، ومكحول الشاميّ، ومحمد بن يحيى بن حبان، وجماعة.
وروى عنه ابنُ جريج، والثوريّ، ورَوح بن القاسم، وأبو إسحاق الفزاريّ، وابن إسحاق، ومعمر، ويحيى بن أيوب المصريّ، ويحيى بن سليم الطائفيّ، وابن عيينة، وغيرهم.
قال عليّ بن المدينيّ: عن ابن عيينة: لم يكن عندنا قرشيان، مثل إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وقال أحمد: إسماعيل أكبر من أيوب، وأحب إليّ، وفي رواية: أقوى وأثبت.
وقال ابن معين، والنسائيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، زاد أبو حاتم: رجلٌ صالحٌ. وقال العجليّ: مكيّ ثقة. وقال الذُّهْليّ: ثنا علي، هو ابن المدينيّ، سمعت سفيان قال: كان إسماعيل حافظًا للعلم، مع وَرَع، وصدق، وقال الزبير بن بكار: كان فقيه أهل مكة.
وقال أبو داود: مات إسماعيل في سجن داود، وذكره ابن المديني في الطبقة الثالثة من أصحاب نافع. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، مات سنة (144)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في حبس داود بن عليّ سنة (139)، وهكذا حكاه البخاري في "تاريخه" عن بقية بن الوليد، وتابعه على ذلك يعقوب بن سفيان، وإسحاق الْقَرّاب، والكلاباذيّ، وغيرهم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
[تنبيه]: قال الدارقطنيّ في حديث معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عياض بن عبد الله بن أبي سَرْح، عن أبي سعيد، في زكاة الفطر: خالفه سعيد بن مَسْلَمَة عن إسماعيل بن أمية، عن الحارث بن أبي ذُبَاب عن عياض، والحديث محفوظ عن الحارث، ولا نعلم إسماعيل رَوَى عن عياض شيئًا، انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الدارقطنيّ من عدم علمه أن إسماعيل ما روى عن عياض شيئًا يردّه ما وقع في "صحيح مسلم"
(1)
من التصريح بقول إسماعيل: أخبرني عياض، ودونك نصّ الحديث:
حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، قال: أخبرني عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، أنه سمع أبا سعيد الخدريّ، يقول: كنا نُخرِج زكاة الفطر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، عن كل صغير وكبير، حر ومملوك، من ثلاثة أصناف: صاعًا من تمر، صاعًا من أقط،
(1)
نبّه على هذا الحافظ في "تهذيب التهذيب" 1/ 144.
صاعًا من شعير، فلم نزل نخرجه كذلك، حتى كان معاوية، فرأى أن مدين من بُرّ تَعْدِلُ صاعًا من تمر، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كذلك
(1)
.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (إنك تقدَم) بفتح الدال المهملة، من باب تَعِب، وأراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب، أو أغلب، وإنما نبّهه على هذا ليتهيّأ لمناظرتهم، ويُعِدّ الأدلّة لإفحامهم؛ لأنهم أهل علم سابقٍ، بخلاف المشركين، وعَبَدَة الأوثان. قاله القرطبيّ
(2)
.
وقوله: (فَلْيكن أَوَّلَ مما تدعوهم إليه عبادةُ الله عز وجل بنصب "أوَّلَ" على أنه خبر مقدّم و"يكن"، واسمها قوله:"عبادةُ الله عز وجل"، ويجوز العكس.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أصلُ العبادة التذلّلُ والخضوع، وسُمّيت
وظائف الشرع على المكلّفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها، ويفعلونها خاضعين متذلّلين لله تعالى، والمراد بالعبادة هنا هو النطق بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
وقوله: (فإذا عَرَفُوا الله، فأخبرهم إلخ)، أي إن أطاعوا بالنطق بكلمتي التوحيد، كما قال في الرواية السابقة:"فإن أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم إلخ"، فسَمَّى الطواعية بذلك، والنطق به معرفة؛ لأنه لا يكون غالبًا إلا عن المعرفة.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا الذي أمرَ به النبيّ صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه هو الدعوة قبل القتال التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُوصي بها أُمراءه، وقد اختُلف في حكمها على ما سيأتي بيانه في "كتاب الجهاد" - إن شاء الله تعالى -.
قال: وعلى هذا فلا يكون في حديث معاذ رضي الله عنه به حجة لمن تمسّك به من المتكلّمين على أن أوّل واجب على كلّ مكلَّف معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان، بل هو حجة لمن يقول: إن أول الواجبات التلفّظ بكلمتي الشهادة، مصدِّقًا بها، وقد اختلَفَ المتكلّمون في أول الواجبات على أقوال كثيرة، منها ما يشنع ذكره، ومنها ما ظهر ضعفه، والذي عليه أئمة الفتوى، وبهم يُقتدَى، كمالك،
(1)
راجع الحديث في أبواب زكاة الفطر برقم (985) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
(2)
"المفهم" 1/ 181.
والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة السلف أن أول الواجبات على المكلّف الإيمان التصديقيّ الْجَزميّ الذي لا ريب معه بالله تعالى، ورسله، وكتبه، وما جاءت به الرسل على ما تقرّر في حديث جبريل عليه السلام، كيفما حصل ذلك الإيمان، وبأيّ طريق إليه تُوُصّل، وأما النطق باللسان فمُظهر لِمَا استقرّ في القلب من إيمان، وسببٌ ظاهرٌ تترتّب عليه أحكام الإسلام.
قال: وقد احتجّ بهذا الحديث من قال: إن الكفّار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة، وهو أحد القولين لأصحابنا - يعني المالكيّة - وغيرهم من حيث إنه صلى الله عليه وسلم إنما خاطبهم بالتوحيد أوّلًا، فلمّا التزموا ذلك خاطبهم بالفروع التي هي الصلاة، والزكاة، وهذا لا حجة فيه؛ لوجهين:
[أحدهما]: أنه لم يَنُصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنه إنما قَدَّم الخطاب بالتوحيد لما ذكروه، بل يَحتمل ذلك، ويَحتَمِل أن يقال: إنه إنما قدَّمه لكون الإيمان شرطًا مُصحّحًا للأعمال الفروعيّة، لا للخطاب بالفروع؛ إذ لا يصحّ فعلها شرعًا إلا بتقدّم وجوده، ويصحّ الخطاب بالإيمان وبالفروع معًا في وقت واحد، وإن كانت في الوجود متعاقبةً، وهذا الاحتمال أظهر مما تمسّكوا به، ولو لم يكن أظهر فهو مساوٍ له، فيكون ذلك الخطاب مُجملًا بالنسبة إلى هذا الحكم.
[وثانيهما]: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رَتَّب هذه المَواعد ليبيّن الأوكدَ، فالأوكدَ، والأهمَّ، فالأهمَّ، كما بيّنّاه في حديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدّم.
واقتصار النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذكر القواعد الثلاث؛ لأنها كانت هي المتعيّنة عليهم في ذلك الوقت المتأكّد فيه، ولا يُظَنُّ أن الصوم والحجَّ لم يكونا فُرِضَا إذ ذاك؛ لأن إرسال معاذ رضي الله عنه إلى اليمن كان في سنة تسع
(1)
، وقد كان فُرِضَ الحجّ، وأما الصوم ففُرضَ في السنة الثانية من الهجرة، مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن على الصحيح.
وقول من قال: إن الرواة سكتوا عن ذكر الصوم والحجّ، قول فاسد؛ لأن الحديث قد اشتَهَرَ، واعتَنَى به الناسُ سلفًا وخَلَفًا، فلو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له شيئًا من ذلك لنُقِلَ. انتهى
(2)
.
(1)
تقدّم القول أيضًا بأنه كان سنة عشر.
(2)
"المفهم" 1/ 182 - 183.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار القرطبيّ بقوله: "وقول من قال إلخ" إلى الردّ على ابن الصلاح في قوله: إن ذكر بعض دعائم الإسلام دون بعض في حديث معاذ رضي الله عنه هذا من تقصير الراوي انتهى
(1)
، وقد أجاد القرطبيّ في الردّ عليه، والله تعالى أعلم.
وقد أجاد البحث في هذا في "الفتح" حيث قال: ما نصّه:
لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج، مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر، وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتُعُقّب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية؛ لاحتمال الزيادة والنقصان، وأجاب الكرمانيّ بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كُرِّرَا في القرآن، فمن ثَمَّ لم يُذْكَر الصوم والحج في هذا الحديث، مع أنهما من أركان الإسلام، والسر في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وَجَبَا على المكلف لا يسقطان عنه أصلًا، بخلاف الصوم، فإنه قد يسقط بالفدية، والحج فإن الغير قد يقوم مقامه فيه، كما في المعضوب، ويحتمل أنه حينئذٍ لم يكن شُرعَ، انتهى.
قال الجامع: أما قوله: "ويحتمل أنه لم يكن شُرع" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه فرض قبله على الراجح كما سبق، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وقال البُلْقينيّ رحمه الله تعالى: إذا كان الكلام في بيان الأركان، لم يُخِلّ الشارع منه بشيء، كحديث ابن عمر رضي الله عنه:"بُنِيَ الإسلام على خمس"، إذا كان الدعاء إلى الإسلام، اكتَفَى بالأركان الثلاثة: الشهادة، والصلاة، والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج، كقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 11] في موضعين من براءة، مع أن نزوله ما بعد فُرِضَ الصوم والحج قطعًا، وحديث ابنِ عمر أيضًا:"أُمِرت أن أقاتل الناس حشى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"، وغير ذلك من الأحاديث، قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة منها اعتقاديّ، وهو الشهادة، وبدنيّ، وهو الصلاة، وماليّ، وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى
(1)
راجع: "الصيانة" ص 163.
الإسلام عليها؛ لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدنيّ محضٌ، والحجّ بدنيّ ماليّ، وأيضًا فكلمة الإسلام، هي الأصل، وهي شاقّة على الكفار، والصلوات شاقّة؛ لتكررها، والزكاة شاقّة؛ لما في جِبِلّة الإنسان من حُبّ المال، فإذا أَذْعَنَ المرء لهذه الثلاثة، كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التحقيق الذي ذكره الْبُلْقِينيّ رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى عند قوله: "فإذا عرفوا الله فأخبرهم إلى آخره": ما نصه: هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين بالله تعالى، وهو مذهب حُذّاق المتكلمين في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين بالله تعالى، وإن كانوا يعبدوف، ويظهرون معرفته؛ لدلالة السمع عندهم على هذا، وإن كان العقل لا يَمْنَع أن يعرف الله تعالى من كَذب رسولًا.
قال القاضي عياض رحمه الله: ما عرف الله تعالى مَنْ شَبَّهَهُ، وجَسَّمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء، أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج، من النصارى، أو وصفه بما لا يليق به، أو أضاف إليه الشريك، والمعاند في خلقه من المجوس، والثَّنَويّة، فمعبودهم الذي عبدوه، ليس هو الله، وإن سَمَّوه به؛ إذ ليس موصوفًا بصفات الإله الواجبة له، فإذن ما عرفوا الله سبحانه، فتحقق هذه النكتة، واعتَمِد عليها، وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا، وبها قطع الكلام أبو عمران الفاسيّ
(2)
بين عامة أهل القيروان، عند تنازعهم في هذه المسألة.
(1)
"الفتح" 3/ 454 - 455 كتاب الزكاة رقم الحديث (1496).
(2)
هو الإمام الكبير العلامة عالم القيروان، أبو عمران، موسى بن عيسى الفاسيّ نزيل القيروان، تفقه بأبي الحسن القابسيّ، وهو أكبر تلامذته، ودخل الأندلس، فتفقّه بأبي محمد الأصيليّ، وسمع "صحيح البخاريّ" عن أبي ذرّ الهرويّ، محدث كثير الرواية، واسع الرحلة، عالم بالرجال والتاريخ، فقيه أصوليّ مقرئ، مع زهد وتواضع، وصلاح، من مصنفاته: فهرست شيوخه، وعوالي حديثه، و"كتاب الأمالي في الحديث"، وتعليقات تتعلّق بتراجم الرواة، توفي في ثالث رمضان=
انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار القاضي عياض بقوله: "وبهما قطع الكلام أبو عمران إلخ" إلى قصّة ساقها الحافظ الذهبيّ في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة أبي عمران الفاسيّ المذكور، فقال:
وحكى القاضي عياض، قال: حَدَثَ في الْقَيْرَوان مسألة في الكفار، هل يَعرِفون الله تعالى، أم لا؟ فوقع فيها اختلاف العلماء، ووقعت في ألسنة العامّة، وكَثُرَ المراء، واقتتلوا في الأسواق، إلى أن ذَهَبُوا إلى أبي عمران الفاسيّ، فقال: إن أنصتم عَلَّمتكم، قالوا: نعم، قال: لا يُكَلِّمني إلا رجل، ويسمع الباقون، فَنَصَبُوا واحدًا، فقال له: أرأيتَ لو لقيت رجلًا، فقلت له: أتَعْرِف أبا عمران الفاسيّ؟ قال: نعم، فقلت له: صفه لي، قال: هو بَقّالٌ في سوق كذا، ويسكن سَبْتَةَ، أكان يعرفني؟ فقال: لا، فقال: لو لقيتَ آخر، فسألته كما سألت الأولَ، فقال: أعرفه، يُدَرِّسُ العلم، ويُفتي، ويسكن بغرب الشماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم، قال: فكذلك الكافر قال: لربه صاحبةٌ، وولدٌ، وأنه جسم، فلم يعرف الله، ولا وصفه بصفته، بخلاف المؤمن، فقال: شَفَيتنا، ودَعَوا له، ولم يخوضوا بعدُ في المسألة.
قال الذهبيّ معلّقًا على الكلام: المشركون والكتابيون وغيرهم عَرَفُوا الله تعالى، بمعنى أنهم لم يَجْحَدوه، وعرفوا أنه خالقهم، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وقال: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، فهؤلاء لم يُنكروا البارئ، ولا جحدوا الصانع، بل عرفوه، وإنما جَهِلُوا نعوته المقدسة، وقالوا عليه ما لا يعلمون، وأما المؤمن فعرف ربه بصفات الكمال، ونَفَى عنه سمات النقص في الجملة، وآمن بربه، وكَفَّ عما لا يَعْلَم، فبهذا يتبين لك أن الكافر عَرَفَ الله من وجه، وجهله من وجوه، والنبيون عرفوا الله تعالى، وبعضُهُم أكمل معرفةً لله،
= سنة (430 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" 17/ 545 - 548، و"بغية الملتمس" ص 442، و"فهرس الفهارس" 1/ 159.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 181 - 183، ونقله النوويّ في "شرح" 1/ 199 - 200.
والأولياءُ فعرفوه معرفة جيدةً، ولكنها دون معرفة الأنبياء، ثم المؤمنون العالمون بَعْدَهُم، ثم الصالحون دونهم، فالناس في معرفة ربهم متفاوتون، كما أن إيمانهم يزيد وينقص، بل وكذلك الأمة في الإيمان بنبيهم، والمعرفة له على مراتب، فأرفعهم في ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه مثلًا، ثم عددٌ من السابقين، ثم سائر الصحابة، ثم علماء التابعين، إلى أن تنتهي المعرفة به، والإيمان به إلى أعرابي جاهل، وامرأة من نساء القُرَى، ودون ذلك، وكذلك القول في معرفة الناس لدين الإسلام، انتهى كلام الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيس، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم)، قال النوويّ رحمه الله تعالى: قد يُسْتَدَل بلفظة "من أموالهم" على أنه إذا امتنع من الزكاة، أُخِذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته، ويَجزِيه ذلك في الباطن، فيه وجهان لأصحابنا - يعني الشافعيّة - انتهى
(2)
.
وقوله: (فتردّ على فقرائهم) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ لمالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية، وأنه يجوز للإمام أن يَصرفها إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية، إذا رآه نظرًا ومصلحةً دينيّةً، وسيأتي هذا البحث مستوفًى في "كتاب الزكاة" - إن شاء الله تعالى.
وفيه دليلٌ لمن يقول: يدفعها من وجبت عليه للإمام العدل الذي يضعها مواضعها، ولا يجوز لمن وجبت عليه أن يلي تفرقتها بنفسه إذا أقام الإمام من تُدفع إليه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في هذا الاستدلال نظر، والذي يظهر لي أنه لا وجوب في ذلك إلا لموجب طارئ، كأن يكون الإمام ألزم أرباب الأموال الدفع إليه، وسنعود لاستيفاء البحث في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (وتوقّ كرائم أموالهم)، أي احذر من أخذ خيار أموالهم،
(1)
"سير أعلام النبلاء" 17/ 546 - 548.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 200.
ونفائسها، حذّره من ذلك نظرًا لأرباب الأموال، ورفقًا بهم، وكذلك أيضًا لا يأخذ من شرار المال، ولا معيبه؛ نظرًا للفقراء، فلو طابت نفس ربّ المال بشيء من كرائم أمواله جاز للمصدّق أخذها منه، ولو أن المصدّق رأى أن يأخذ معيبةً على وجه النظرة لمصلحة الفقراء جاز. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(8) - (بَابٌ يُقَاتَلُ النَّاسُ حَتَّى يُوَحِّدُوا الله، ويَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلف رحمه الله تعالى المذكور في أول الكتاب قال:
[123]
(20) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَب، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّه، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَأُقاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَال، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِه، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللهَ عز وجل قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبي بَكْرٍ لِلْقِتَال، فَعَرَفْتُ أنَّهُ الْحَقُّ).
رجال هذا الاسناد: ثمانية:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بْن جَميل الثقَفيّ، أبو رَجاء الْبَغْلَانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) 4/ 49.
2 -
(لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ) بن عبد الرحمن الْفَهْمِيّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ
(1)
"المفهم" 1/ 183 - 184.
فقيهٌ، إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 2/ 397 - 398.
3 -
(عُقَيْل) بضم المهملة، مصغّرًا - ابن خالد بن عَقِيل - بالفتح
(1)
- الأيليّ - بفتح الهمزة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم لام - أبو خالد الأمويّ مولى عثمان، ثقة ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6].
رَوَى عن أبيه، وعمه زياد، ونافع مولى ابن عمر، وعكرمة، والحسن، وسعيد بن أبي سعيد الخدريّ، وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، وسلمة بن كهيل، والزهريّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه إبراهيم، وابن أخيه سلامة بن رَوْح، والمفضل بن فَضالة، والليث بن سعد، وابن لَهِيعة، وجابر بن إسماعيل، وسعيد بن أبي أيوب، ونافع بن يزيد، ويحيى بن أيوب، وحدث عنه يونس بن يزيد الأَيْلِيّ، وهو من أقرانه، وغيرهم.
قال أحمد، ومحمد بن سعد، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن معين: أثبت مَن رَوَى عن الزهري مالك، ثم معمر، ثم عُقيل، وعن ابن معين في رواية الدُّوريّ: أثبت الناس في الزهري مالك، ومعمر، ويونس، وعُقيل، وشُعيب، وسفيان. وفي رواية ابن أبي مريم عن ابن معين: عُقيل ثقة حجة، وقال عبد الله بن أحمد ذُكِرَ عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عُقيل، وإبراهيم بن سعد، كأنه يضعفهما، فقال: وأَيُّ شيء هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرْهم. وقال العجليّ: أيْلِيّ ثقة. وقال البخاريّ: قال عليّ، عن ابن عيينة، عن زياد بن سعد: كان عُقيل يحفظ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العقيليّ: صدوق، تَفَرَّد عن الزهري بأحاديث، قيل: لم يَسمَع من الزهريّ شيئًا إنما هو مناولة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ضُعْفُ هذا القول مما لا يخفى على بصير، فإن سماع عُقيل من الزهريّ ظاهر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال إسحاق بن راهويه: عُقيل حافظ، ويونس صاحب كتاب. وقال أبو
(1)
قال في "تهذيب التهذيب" 3/ 130: اسم جدّه عَقِيل بفتح العين، وكسر القاف، بخلاف هو فإنه بالضم. انتهى.
زرعة: صدوق ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي: عُقيل أحب إليك أم يونس؟ قال: عُقيل أحب إليّ، لا بأس به، قال: وسئل أبي: أيما أثبت، عُقيل أو معمر؟ فقال.: عُقيل أثبت، كان صاحب كتاب، وكان الزهري يكون بأيلةَ، وللزهري هناك ضَيعة، وكان يكتب عنه هناك.
قال المَاجِشُون: كان عُقيل شُرْطيًا عندنا بالمدينة، ومات بمصر سنة (141)، وقال محمد بن عُزَيز الأيليّ: مات سنة (142)، وقال ابن السَّرْح عن خاله: مات سنة (144)، وفيها أَرَّخه ابن يونس.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (65) حديثًا.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإمام الحافظ الحجة الثبت، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" 1/ 353 - 354.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) 2/ 14.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه الصحابيّ المشهور المتوفّى سنة (59) وقيل: غير ذلك (ع) 1/ 2.
7 -
(عمر) بن الخطّاب الخليفة الثاني رضي الله عنه استُشهد في ذي الحجة سنة (23)(ع) 2/ 9.
8 -
(أبو بكر) بن أبي قُحَافة الصّدّيق، عبد الله بن عثمان بن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد بن تَيْم بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَيّ القرشيّ التيميّ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه في الغار، وقيل: اسمه عَتيق، وأمه أُمُّ الخير، سَلْمَى بنت صَخْر بن عامر بن كعب، ابنة عمّ أبيه، وقد أسلم أبواه، وُلد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر.
أخرج ابن الْبَرْقِيّ من حديث عائشة تذاكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر، وصَحِبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسَبَقَ إلى الإيمان به، واستَمَرَّ معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار، وفي المشاهد كُلِّها، إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحَجَّ في الناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، واستَقَرّ خليفة في الأرض بعده، ولَقّبَه المسلمون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وأولاده: عبد الرحمن، وعائشة، ومحمد، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وعقبة بن الحارث النَّوْفَلِيُّ، وأنس، وجابر، والبراء، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وأبو عبد الله الصُّنَابحيّ، وأسلم مولى عمر، وأوسط البجليّ، وقيس بن أبي حازم، وطارق بن شهاب، وأبو الطفيل، وجماعة.
قال سعيد بن منصور: حدّثني صالح بن موسى، حدثنا معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه قالت: اسم أبي بكر الذي سماه به أهله عبد الله، ولكن غَلَب عليه اسم عتيق.
وفي "المعرفة" لابن منده: كان أبيض نَحيفًا خَفيف العارضين، معروق الوجه، ناتئ الجبهة، يَخضِب بالحناء والكتم.
وقد ذكر ابن سعد عن الواقديّ، وأسنده الزبير بن بَكّار عنه، بسند له إلى عائشة، وأخرج ابن أبي الدنيا عن الزهريّ: كان أبيض لَطِيفًا جَعْدًا، مُشرِف الْوَرِكين.
وأخرج أبو يعلى، عن سُويد بن غَفَلة، عن صالح بن موسى بهذا السند إلى عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفناء البيت، إذ جاء أبو بكر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من سَرَّه أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر"، فغلب عليه اسم عتيق
(1)
.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن محمد بن سيرين، قال: كان اسم أبي بكر عَتيق بن عثمان، وأخرج ابن سعد، وابن أبي الدنيا من طريق ابن أبي مُليكة: كان اسم أبي بكر عبد الله، وإنما كان عَتيقٌ لَقَبًا، وفي "المعرفة" لأبي نعيم من طريق الليث سُمِّي أبو بكر عَتيقًا لجماله، وذكر عباس الدُّوريّ عن يحيى بن جعفر نحوه.
وفي "تاريخ الفضل بن دكين" سُمِّي عتيقًا؛ لأنه قديم في الخير، وقال الفلاس في "تاريخه": سُمّي عتيقًا لعتاقة وجهه.
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد، وتعقّبه الذهبيّ، وقال: صالح ضعّفوه، والسند إليه مظلم.
قال ابن إسحاق: كان أنسب العرب. وقال العجليّ: كان أعلم قريش بأنسابها. وقال ابن إسحاق في "السيرة الكبرى": كان أبو بكر رجلًا مُؤَلَّفًا
(1)
لقومه، مُحَبَّبًا سَهْلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر، وكان تاجرًا ذا خُلُق ومعروف، وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وَثِقَ به، فأسلم على يديه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وفي تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن سالم بن أبي الْجَعْد، قلت لمحمد بن الحنفية: لأيّ شيء قُدِّم أبو بكر حتى لا يُذكرَ فيهم غيره؟ قال: لأنه كان أفضلَهم إسلامًا حين أسلم، فلم يزل كذلك حتى قبضه الله، وأخرج أبو داود في "الزهد" بسند صحيح عن هشام بن عروة، أخبرني أبي قال: أسلم أبو بكر، وله أربعون ألف درهم، قال عروة: وأخبرتني عائشة أنه مات، وما ترك دينارًا ولا درهمًا. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا الْحُمَيْدِيّ، حدثنا سفيان، حدثنا هشام، عن أبيه: أسلم أبو بكر، وله أربعون ألفًا، فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعةً كلهم يُعَذَّب في الله، أعتق بلالًا، وعامر بن فُهَيرة، وَزُنَّيْرَة
(2)
، والنهدية، وابنتها، وجاريةَ بني المؤمل، وأم عُبيس، وأخرج الدارقطني في "الأفراد" من طريق أبي إسحاق، عن أبي يحيى، قال: لا أُحصي كم سمعت عليًّا يقول على المنبر: إن الله عز وجل سَمَّى أبا بكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صِدِّيقًا.
ومن أعظم مناقبه رضي الله عنه قول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية [التوبة: 40]، فإن المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع، ولا يُعتَرضُ بأنه لم يتعين؛ لأنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الهجرة عامر بن فُهَيرة، وعبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن أُرَيقط الدَّلِيل؛ لأنا نقول: لم يصحبه في الغار سوى أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن عبد الله بن أبي بكر استَمَرَّ بمكة،
(1)
هكذا النسخة، ولعله "مألوفًا".
(2)
ضبطها في "الإصابة" بكسر أولها، وتشديد النون المكسورة، بعدها تحتانية ساكنة. اهـ 8/ 150.
وكذا عامر بن فُهيرة، وإن كان ترددهما إليهما مدة لُبثهما في الغار استمرت، لعبد الله من أجل الإخبار بما وقع بعدهما، وعامر بسبب ما يقوم بغذائهما من الشياه، والدليل لم يصحبهما إلا من الغار، وكان على دين قومه مع ذلك، كما في نفس الخبر، وقد قيل: إنه أسلم بعد ذلك، وثبت في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر، وهما في الغار:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة، ولم يَشْرَكه في هذه المنقبة غيره. وعند أحمد من طريق شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي تميم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما". وفي "الصحيح" عن عمرو بن العاص، قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ فذكر رجالًا، وأخرج الترمذيّ، والبغويّ، والبزار، جميعًا عن أبي سعيد الأشجّ، عن عقبة بن خالد، عن شعبة، عن الْجُرَيريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال أبو بكر: "ألست أوّلَ من أسلم، ألست أحقَّ بهذا الأمر، ألست كذا، ألست كذا"، رجاله ثقات، لكن قال الترمذي والبزار: تفرد به عقبة بن خالد، ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة، فلم يذكر أبا سعيد، قال الترمذيّ: وهو أصح. وأخرج البغويّ من طريق يوسف بن الماجشون: أدركت مَشيختنا: ابن المنكدر، وربيعة، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكون أن أبا بكر أولُ القوم إسلامًا. وأخرج البغوي بسند جيد عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، قال: وَليَنَا أبو بكر، فخير خليفة، أرحم بنا، وأحناه علينا. وقال إبراهيم النخعي: كان يُسَمَّى الأوّاه لرأفته. وقال ميمون بن مِهْران: لقد آمن أبو بكر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من زمن بَحِيراء الراهب واخْتَلَفَ بينه وبين خديجة حتى تزوجها، وذلك قبل أن يولد عليّ رضي الله عنه. وقال أبو أحمد العسكريّ: كانت إليه الْأَشْنَاق في الجاهلية، وهي الديات، كان إذا حَمَلَ شيئًا، فسأل فيه قريشًا صَدَّقُوه، وأمضوا حمالته، وإن احتملها غيره لم يُصَدِّقُوه، وخَذَلُوه، وذَكَرَ ابن سعد، عن ابن شهاب، أن أبا بكر، والحارث بن كَلَدَة أكلا حَرِيرةً أُهديت لأبي بكر، فقال الحارث وكان طبيبًا: ارفع يدك، والله إن فيها لَسُمَّ سنة، فلم يزالا عَلِيلين حتى ماتا عند انقضاء السنة في يوم واحد.
ومن أعظم مناقب أبي بكر رضي الله عنه أن ابن الدَّغِنَة سيد القارة لَمّا رَدّ إليه جواره بمكة، وصفه بنظير ما وصفت به خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا بُعِثَ فتواردا فيهما على نعت واحد، من غير أن يتواطآ على ذلك، وهذا غاية في مدحه؛ لأن صفات النبيّ صلى الله عليه وسلم منذ نشأ كانت أكمل الصفات.
وقد أطنب أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة الصديق رضي الله عنه حتى إن ترجمته في "تاريخه" على كبره تجيء قدر ثمن عشره، وهو مجلد من ثمانين مجلدًا.
وَليَ الخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم سنتين وشيئًا، وقيل: عشرين شهرًا، تُوُفِّي يوم الاثنين في جمادى الأولى، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه عُمَر، ودُفِن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
أخرج له الجماعة، روى من الأحاديث (142) حديثًا
(2)
، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (20) و (1757) و (1759) وأعاده، و (2009) وكرده ثلاث مرات، و (2381) و (2705) والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه بغلاني، نسبة إلى بَغْلان قرية من قرى بَلْخَ، والباقيان مصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن الصحابيين الخليفتين الراشدين، من العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنه، ورواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن عبيد الله أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم [من الطويل]:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
(1)
راجع: "الإصابة" 4/ 144 - 150 و"تهذيب التهذيب" 2/ 383 - 384.
(2)
وفي "كتاب ابن الجوزيّ" له (142) حديثًا، اتفقا على ستة، وانفرد البخاريّ بأحد عشر حديثًا، ومسلم بحديث.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
وقد تقدّم بيان بعض هذه اللطائف، وإنما أعدته تذكيرًا وتقريبًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ) هكذا رواه الأكثر عن الزهري بهذا السند، على أنه من رواية أبي هريرة، عن عمر، وعن أبي بكر رضي الله عنه، وقال يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرت أن أقاتل الناس
…
" الحديث، فساقه على أنه من مسند أبي هريرة رضي الله عنه ولم يذكر أبا بكر ولا عمر، أخرجه مسلم بعد هذا الحديث، وهو محمول على أن أبا هريرة رضي الله عنه سمع أصل الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحضر مناظرة أبي بكر وعمر رضي الله عنه، فقصّها كما هي، ويؤيّده أنه جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة من طُرُق، فأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، ومن طريق أبي صالح ذكوان، كلاهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن خزيمة من طريق أبي الْعَنْبَس، سعيد بن كثير بن عُبيد، عن أبيه، وأخرجه أحمد من طريق هَمّام بن مُنَبِّه، ورواه مالك خارج "الموطإ" عن أبي الزناد، عن الأعرج، وذكره ابن منده في "كتاب الإيمان" من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة، كلهم عن أبي هريرة، ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا ابنُ عمر، وجابر، وطارقٌ الأشجعيّ، كما سيأتي عند المصنّف بعد هذا، وأخرجه أبو داود، والترمذيّ، من حديث أنس رضي الله عنه، وأصله عند البخاريّ في أوائل الصلاة من "صحيحه"، وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر عن أنس رضي الله عنه، وهو عند ابن خزيمة من وجه آخر عنه، لكن قال: "عن أنس، عن أبي بكر"، وأخرجه البزار من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وأخرجه الطبرانيّ من حديث سهل بن سعد، وابن عباس، وجرير البجليّ رضي الله عنهم، وفي الأوسط" من حديث سمرة رضي الله عنه، وسأذكر ما في روايات هؤلاء من الفوائد
الزائدة في مواضعها - إن شاء الله تعالى
(1)
.
(لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فعلٌ ونائب فاعله، أي مات، والوفاة: الموت، وتوفّاه الله: قبض روحه، قاله في "القاموس"
(2)
.
وقال في "اللسان": الوفاة: المنيّةُ، وتُوُفِّيَ فلانٌ، وَتَوَفَّاه الله: إذا قبض نفسه، قال: وتَوَفِّي الميتِ: استيفاء مدّته التي وُفِيَت له، وعددَ أيامه وشُهُوره وأعوامه في الدنيا. انتهى
(3)
.
وقال السمين الحلبيّ رحمه الله تعالى في "تفسيره" عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية [البقرة: 234]: قراءة الجمهور {يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] مبنيًّا لما لم يُسمّ فاعله، وقرأ أمير المؤمنين يعني عليًّا رضي الله عنه ورواها المفضّل عن عاصم بفتح الياء علي بنائه للفاعل، ومعناها: يستوفُون آجالهم، قاله أبو القاسم الزمخشريّ، والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازة، فقال له رجلٌ: مَن المتَوَفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بوضع كتابٍ في النحو، وهذا تناقضه هذه القراءة، انتهى كلام السمين
(4)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فعلى هذا يجوز أن يُقرأ "تَوَفَّى" بفتح التاء، مبنيًّا للفاعل، ويكون "رسول الله صلى الله عليه وسلم" مرفوعًا على الفاعليّة، وهذا على تقدير صحة الرواية به، وإلا فالرواية على الوجه الأول متّبعة. والله تعالى أعلم.
(وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ) ببناء الفعل للمفعول، أي صار خليفةً (بَعْدَهُ) أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة (وَكفَرَ مَنْ كفَرَ مِنَ الْعَرَبِ) وفي حديث أنس عند ابن خزيمة:"لما تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ارتدّ عامّة العرب"، وقال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: لَمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّت العرب إلا ثلاثة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جُوَاثَا
(5)
.
(1)
راجع: "الفتح" 12/ 346.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1208 - 1209.
(3)
"لسان العرب" 15/ 400.
(4)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 2/ 478.
(5)
راجع: "المفهم" 1/ 185.
وقالى الطيبيّ: قوله: وكفر من كفر: يريد غَطَفَان، وفَزَارة، وبني سُلَيم، وبني يربوع، وبعض بني تميم، وغيرهم منعوا الزكاة، فأراد أبو بكر رضي الله عنه أن يقاتلهم، فاعترضه عمر رضي الله عنه بقوله: "كيف تقاتل الناس
…
"
(1)
.
وقال أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل": انقسمت العرب بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام:
طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته، وهم الجمهور.
وطائفة بقيت على الإسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى.
والثالثة أعلنت بالكفر، والردّة كأصحاب طُلَيحة، وسَجَاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم إلا أنه كان في كلّ قبيلة من يقاوم من ارتدّ.
وطائفة توقّفت، فلم تُطع أحدًا من الطوائف الثلاثة، وتربّصوا لمن تكون الغلبة، فأخرج أبو بكر إليهم البعوث، وكان فيروز، ومن معه غلبوا على بلاد الأسود، وقتلوه، وقُتل مسيلمة باليمامة، وعاد طُليحة إلى الإسلام، وكذا سَجَاح، ورجع غالب من كان ارتدّ إلى الإسلام، فلم يَحُلِ الحولُ إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام، ولله الحمد انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: كان أهل الرّدّة ثلاثة أصناف:
صنف كفر بَعْدَ إسلامه، ولم يلتزم شيئًا، وعاد لجاهليّته، واتّبَعَ مسيلمة الكذّاب، والأسودَ الْعَنسيّ، وصدّق بهما، وكان كلّ منهما ادَّعَى النبوّة قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصدّق مسيلمةَ أهلُ اليمامة، وجماعةٌ غيرهم، وصدّق الأسودَ أهلُ صنعاء، وجماعةٌ غيرهم، فَقُتِلَ الأسودُ قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بقليل، وبقي بعض من آمن به، فقاتلهم عمال النبيّ صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وأما مسيلمة فجهّز إليه أبو بكر الجيش، وعليهم خالد بن الوليد، فقتلوه.
وصنفٌ أقرّ بالإسلام إلا الزكاة، فجحدها، وتأوّل بعضهم أن ذلك كان خاصًّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلَّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103].
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1484.
(2)
"الفتح" 12/ 345 - 346.
وصنفٌ اعترف بوجوبها، ولكن امتنع من دفعها إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: إنما قَبْضُها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً، لا لغيره، وفرّقوا صدقاتهم بأيديهم، فرأى أبو بكر والصحابة رضي الله عنه قتال جميعهم: الصنفان الأولان لكفرهم، والثالث لامتناعهم.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهذا الصنف الثالث هم الذين أشكل أمرهم على عمر رضي الله عنه، فباحَثَ أبا بكر رضي الله عنه في ذلك حتى ظهر له الحقّ الذي كان ظاهرًا لأبي بكر رضي الله عنه فوافقه على ذلك، ولذلك قال:"فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنه الحقّ": أي ظهر له من الدليل، وحَصَل له من ثَلَجِ الصدر
(1)
، وانشراحه لذلك مثلُ الذي حصل لأبي بكر رضي الله عنه، لا أنه قلّده، واتّبعه بعد ظهور الدليل؛ لأن التقليد لا ينشرح به الصدر، ولا يُعرف به الحقّ، ولأنه لا يجوز لمجتهد أن يقلّد مجتهدًا عند تمكّنه من الاجتهاد، كما بُيّن في محلّه من أصول الفقه.
ثم إن أبا بكر رضي الله عنه قاتل جميع المرتدّين الثلاثة الأصناف، وسَبَى ذراريّهم، قال القاضي: وَحَكَمَ فيهم بحكم الناقضين للعهد، فلما تُوفّي أبو بكر رضي الله عنه، ووُلي عمر رضي الله عنه ردّ عليهم سبيهم، وحكم عليهم بحكم المرتدّين، وكان أبو بكر رضي الله عنه يرى سَبْيَ أولاد المرتدّين، وبذلك قال أصبغ بن الفرج من المالكيّة، وكان عمر رضي الله عنه يرى أنهم لا يُسبَوْن، ولذلك رَدَّ سَبيهم، وبهذا قال جمهور العلماء، وأئمة الفتوى
(2)
.
وقد ذكر الإمام الخطابيّ رحمه الله تعالى في كتابه "معالم السنن": في شرح هذا الكلام
(3)
كلامًا حسنًا، لا بُدّ من ذكره؛ لما فيه من الفوائد.
قال رحمه الله تعالى: مما يجب تقديمه في هذا أن يُعْلَمَ أن أهل الرّدّة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة، وعادوا إلى الكفر، وهم الذين
(1)
قال في "المصباح" 1/ 83: ثَلَجَتِ النفوس ثُلُوجًا وثَلَجًا، من بابي قَعَدَ وتَعِبَ: اطمأنت انتهى.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 195 - 200 و"المفهم" 1/ 185 - 186.
(3)
يعني قوله: "لَمّا تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستُخلف أبو بكر رضي الله عنه بعده، وكَفَرَ من كفر من العرب".
عناهم أبو هريرة رضي الله عنه بقوله: "وكَفَرَ من كفر من العرب"، وهذه الفرقة طائفتان.
إحداهما: أصحاب مسيلمة، من بني حنيفة وغيرهم الذين صَدّقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسيّ، ومن كان من مستجيبيه، من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، مُدّعية النبوة لغيره، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قَتَلَ الله مسيلمة باليمامة، والعنسيّ بصنعاء، وانفضت جموعهم، وهلك أكثرهم.
والطائفة الأخرى ارتدُّوا عن الدين، وأنكروا الشرائع، وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادُوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يُسْجَدُ لله تعالى في بسيط الأرض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس في البحرين، في قرية يقال لها جُوَاثا، ففي ذلك يقول الأعور الشنّي
(1)
يفتخر بذلك [من البسيط]:
وَالْمَسْجِدُ الثَّالِثُ الشَّرْقِيُّ كَانَ لَنَا
…
وَالْمِنْبَرَانِ وَفَصْلُ الْقَوْلِ فِي الْخُطَبِ
أَيَّامَ لَا مِنْبَرٌ لِلنَّاسِ نَعْرِفُهُ
…
إِلَّا بِطَيْبَةَ وَالْمَحْجُوجِ ذِي الْحُجُبِ
وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم، من الأزد محصورين بِجُوَاثَا إلىَ أن فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين اليمامة، فقال بعضهم، وهو رجل من بني أبي بكر بن كلاب، يَستنجِد أبا بكر الصديق رضي الله عنه[من الوافر]:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ رَسُولًا
…
وَفِتْيَانَ الْمَدِينَةِ أَجْمَعِينَا
فَهَلْ لَكُمُ إِلَى قَوْمٍ كِرَامٍ
…
قَعُودٍ فِي جُوَاثَا مُحْصَرِينَا
كَأَنَّ دِمَاءَهُمْ فِي كُلِّ فَجِّ
…
دِمَاءُ الْبُدْنِ تُغْشِي النَّاظِرِينَا
تَوَكَّلْنَا عَلَى الرَّحْمنِ إِنَّا
…
وَجَدْنَا النَّصْرَ لِلْمُتَوَكِّلِينَا
والصنف الآخر هم الذين فَرَّقُوا بين الصلاة والزكاة، فأقرُّوا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغيٍ، وإنما لم يُدْعَوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصًا؛ لدخولهم في غمار أهل الرِّدَّة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة؛ إذ كانت أعظم الأمرين
(1)
هكذا في نسخة شرح النووي، والذي في نسخة "معالم السنن" للخطابيّ "الترينيّ" فليُحرر، والله تعالى أعلم.
وأهمهما، وأُرِّخ قتال أهل البغي في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ إذ كانوا منفردين في زمانه، لم يختلطوا بأهل الشرك، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة، من كان يَسْمَح بالزكاة، ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدّوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يَرْبُوع، فإنهم قد جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه، فمنعهم مالك بن نُوَيرة عن ذلك، وفرَّقها فيهم، وقال في شعر له [من الطويل]:
فَقُلْتُ لِقَوْمِي هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ
…
مُصَرَّرَةٌ أَخْلَافُهَا لَمْ تُجَرَّدِ
سَأجْعَلُ نَفْسِي دُونَ مَا تَتَّقُونَهُ
…
وَأَرْهَنُكُمْ يَوْمًا بِمَا قُلْتُهُ يَدِي
وقال بعض شُعرائهم، ممن سلك هذه الطريقة في منع الزكاة، يُحَرِّض قومه، ويأمرُهُم على قتال من طالبهم بها [من الطويل]:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ مَا دَامَ بَيْنَنَا
…
فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبي بَكْرِ؟
وَإِنَّ الَّذِي سَالُكُمُ
(1)
فَمَنَعْتُمُ
…
لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى لَدَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ
سَنَمْنَعُهُمْ مَا دَامَ فِينَا بَقِيَّةٌ
…
كِرَامًا عَلَى الْعَزَّاءِ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ
قال الخطابيّ رحمه الله تعالى: وفي أمر هؤلاء عَرَضَ الخلافُ، ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه، وناظره، واحتج عليه بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أُمِرتُ أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عَصَمَ نفسه وماله"، وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقًا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: إن الزكاة حق المال، يريد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما، والآخر معدوم، ثم قايَسَهُ بالصلاة، ورد الزكاة إليها، فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم، لذلك رَدَّ الْمُخْتَلَفَ فيه إلى المتفق عليه، فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر رضي الله عنه بالعموم، ومن أبي بكر رضي الله عنه بالقياس، ودَلَّ ذلك على أن العموم يُخَصُّ بالقياس، وأن جميع ما تضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد، من شرط، واستثناءٍ مُرَاعًى فيه، ومُعْتَبرٌ صحَّتُهُ به، فلَمّا
(1)
قوله: "سَالُكُمُ" بتسهيل الهمزة من "سَالَ".
استقرّ عند عمر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنهما، وبان له صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله:"فَلَمَّا رأيت الله قد شَرَحَ صدرَ أبي بكر للقتال، عَرَفْتُ أنه الحقّ"، يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصًّا، ودلالة.
وقد زعم قوم من الروافض أن عمر رضي الله عنه إنما أراد بهذا القول تقليد أبي بكر رضي الله عنه، وأنه كان يعتقد له العصمة، والبراءة من الخطإ، وليس ذلك كما زعموه، وإنما وجهه ما أوضحته لك، وبيّنته.
وزعم زاعمون منهم أن أبا بكر رضي الله عنه أول مَن سَمّى المسلمين كفّارًا وأن القوم كانوا متأوّلين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] خطاب خاصّ في مواجهة النبيّ صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه، وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدِّق ما للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الشبهة إذا وجِد كان مما يُعْذَر فيه أمثالُهم، ويُرْفَعُ به السيف عنهم، فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عَسْفًا، وسوء سيرة، وزعم بعض هؤلاء أن القوم كانوا قد اتَّهموه، ولم يأمنوه على أموالهم، إلى ما يُشبه هذا الكلام الذي لا حاصل له، ولا طائل فيه.
قال الخطابيّ رحمه الله تعالى: وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خَلَاقَ لهم في الدين، وإنما رأس مالهم الْبَهْتُ والتّكذيب، والْوَقِيعَة في السلف.
قد بَيَّنَا أن أهل الردّة كانوا أصنافًا، منهم من ارتدّ عن الملة، ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة، وأنكر الشرائع كلها، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة رضي الله عنهم كفّارًا، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سَبْيَ ذراريّهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جاريةً من سبي بني حَنِيفة، فولدت له محمدًا الذي يُدْعَى ابن الحنفية، ثم لم يَنْقَضِ عصرُ الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتدَّ لا يُسْبَى.
فأما مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين، فإنهم أهل بغي، ولم يُسَمَّوا على الانفراد منهم كفّارًا، وإن كانت الردة قد أُضيفت إليهم؛ لمشاركتهم
المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الرّدّة اسم لغويّ، وكلُّ من انصرف عن أمر كان مقبلًا عليه فقد ارتدّ عنه، وقد وُجِد من هؤلاء القوم الانصرافُ عن الطاعة، ومنعُ الحق، فانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين، وعَلِقَ بهم الاسم القبيح؛ لمشاركتهم القومَ الذين كان ارتدادهم حقًّا.
وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وما ادَّعَوه من كون الخطاب فيه خاصًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: خطابٌ عامٌّ، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية [المائدة: 6]، وكقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية [البقرة: 183]، وخطاب خاصٌّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يَشْرَكُهُ فيه غيره، وهو ما أُبِين به عن غيره بسِمَةِ التخصيص، وقَطْعِ التشريك، كقوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} الآية [الإسراء: 79]، وكقوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الأحزاب: 50]، وخطابُ مواجهةٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع أمته في المراد به سواءٌ، كقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية [الإسراء: 78]، وكقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98]، وكقوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 102]، ونحو ذلك من خطاب المواجهة، فكُلُّ من دَلَكَت له الشمس كان عليه إقامة الصلاة واجبةً، وكلُّ من أراد قراءة القرآن كانت الاستعاذة مُعْتَصَمًا له، وكلُّ من حضره العدوّ، وخاف فوت الصلاة، أقامها على الوجه الذي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَنَّها لأمّته، ومن هذا النوع قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حَذْوَه في أخذها منهم، وإنما الفائدة في مواجهة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب، أنه هو الداعي إلى الله تعالى، والْمُبَيّن عنه معنى ما أراده، فقُدِّم اسمه في الخطاب؛ ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما يَنْهَجه، ويُبَيِّنه لهم، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1]، فافتتح الخطاب بالتنويه باسمه خصوصًا، ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عمومًا، وربما كان الخطاب له مواجهةً، والمراد به غيره، كقوله تعالى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]- إلى قوله -:
{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]، ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد شكّ قطّ في شيء مما أنزل عليه، وكقوله تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]
(1)
، وقال:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83]، وهذا خطاب لم يتوجّه عليه، ولم يلزمه حكمه؛ لأمرين: أحدهما أنه لم يُدرك والديه، ولا كان واجبًا عليه لو أدركهما أن يُحسن إليهما، ويشكرهما إحسان الآباء المسلمين وشكرهم.
وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة، فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وكلُّ الثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، فإنه باقٍ غير منقطع بوفاته، وقد يُسْتَحَبُّ للإمام، وعامل الصدقة أن يدعو للمتصدِّق بالنماء والبركة في ماله، ويُرْجَى أن يستجيب الله تعالى ذلك، ولا يُخَيِّب مسألته فيه.
قال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: ومن لواحق بيان ما تقدّم في الفصل الأول من ذكر وجوب إيتاء الزكاة وأدائها إلى القائم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل آخر كلامه عند وفاته قوله: "الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم"؛ ليُعقل أن فرض الزكاة قائمٌ، كفرض الصلاة، وأن القائم بالصلاة هو القائم بأخذ الزكاة، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه:"والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"؛ استدلالًا بهذا، مع سائر ما عُقِل من أنواع الأدلّة على وجوبها، والله تعالى أعلم.
[فإن قيل]: كيف تَأَوَّلْتَ أمر الطائفة التي مَنَعَت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه، وجعلتهم أهل بغيٍ، أرأيتَ إن أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة، وامتنعوا منً أدائها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟
[قيل]: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وبين أولئك أنهم إنما عُذِروا لأسباب وأمور، لا يَحْدُث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيها تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها وقوع الفترة بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان القوم جُهّالًا
(1)
في كون هذا من خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر لا يخفى؛ لأن هذا من خطاب لقمان لابنه، كما نصّ القرآن، فليُتأمّل.
بأمور الدين، وكان عهدهم حديثًا بالإسلام، فتداخلتهم الشبهة، فَعُذِروا كما عُذِر بعضُ من تأوّل من الصحابة في استباحة شرب الخمر قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]، فقالوا: نحن نشربها، ونؤمن بالله، ونعمل الصالحات، ونتّقي، ونُصلح. فأما اليومَ، وقد شاع دين الإسلام، واستفاض علمُ وجوب الزكاة، حتى عرفه الخاص والعام، واشترك فيها العالم والجاهل، فلا يُعْذَر أحدٌ بتأويلٍ يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كُلّ من أنكر شيئًا، مما أجمعت الأمة عليه، من أمور الدين، إذا كان علمه منتشرًا، كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجلٌ حديث عهد بالإسلام، ولا يَعْرِف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئًا منها جهلًا به لم يُكَفَّر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه.
فأما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدًا لا يَرِثُ، وأن للجدة السدسَ، وما أشبه ذلك، من الأحكام، فإن من أنكرها لا يُكَفَّرُ، بل يُعْذَر فيها؛ لعدم استفاضة علمها في العامة، وتفرّد الخاصّة بها.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: وإنما عرَضَ الوهمُ في تأويل الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ووقعت الشبهة فيه لمن تأوّله على الوجه الذي حكيناه عنهم؛ لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار، وذلك لأن القصد به لم يكن سياق الحديث على وجهه، وذِكْرُ القصة في كيفية الردّة منهم، وإنما قَصَدَ به حكاية ما جَرَى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وما تنازعاه من الحجاج في استباحة قتالهم، ويُشْبِهُ أن يكون أبو هريرة إنما لم يُعْنَ بذكر جميع القصة، وسوقها على وجهها كلّها؛ اعتمادًا على معرفة المخاطبين بها؛ إذ كانوا قد عَلِمُوا وجه الأمر، وكيفية القصة في ذلك، فلم يضرّ ترك إشباع البيان مع حصول العلم عندهم به، والله تعالى أعلم.
ويُبَيِّن لك أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصر، غير مستَقْصًى أن عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك رضي الله عنهم قد روياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادة شروط ومعانٍ لم يذكرها أبو هريرة رضي الله عنه.
فأما حديث أنس رضي الله عنه، فقد رواه أبو داود في "كتاب الجهاد" من "السنن"، قال: حدّثنا سعيد بن يعقوب الطالقانيّ، حدّثنا عبد الله بن المبارك، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك، حَرُمَت علينا في ماؤهم، وأموالهم، إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين".
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ففيه زيادة شرط الزكاة، وقد رواه محمد بن إسماعيل البخاريّ في "الجامع الصحيح"، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد الْمُسْنَدِيُّ، قال: حدثنا أبو رَوْح الْحَرَمِيّ بن عُمَارة، قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يُحَدِّث عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله". انتهى كلام الخطّابيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقد اعترض الحافظ في "الفتح" جوابه المذكور، وسيأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(قَالَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنهما (كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ) وفي حديث أنس: "أتريد أن تقاتل العرب"(وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الواو واو الحال (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِله إِلَّا الله)، قال في "الفتح": كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق الآتية:"من وحّد الله، وكفر بما يُعبَد من دونه حَرُمَ دمه وماله". وأخرجه الطبرانيّ من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة". ونحوه في حديث أبي الْعَنْبَس، وفي حديث أنس عند أبي داود:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلّوا صلاتنا". وفي رواية العلاء بن
(1)
راجع: "معالم السنن" 2/ 163 - 168.
عبد الرحمن: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به".
قال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض؛ لأن في أوله أنهم كفروا، وفي آخره أنهم ثبتوا على الإسلام؛ إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين، فكيف استَحَلّ قتالهم وسبي ذراريهم؟ وإن كانوا كفّارًا، فكيف احتجّ على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة؟ فإن في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرّين بالصلاة.
قال: والجواب عن ذلك أن الذين نُسبوا إلى الردّة كانوا صنفين: صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة، وتأولوا قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} الآية [التوبة: 103]، فزعموا أن دفع الزكاة خاصّ به صلى الله عليه وسلم؛ لأن غيره لا يطهّرهم، ولا يصلي عليهم، فكيف تكون صلاته سكنًا لهم، وإنما أراد عمر بقوله:"تقاتل الناس" الصنف الثاني؛ لأنه لا يتردّد في جواز قتل الصنف الأول؛ كما أنه لا يتردّد في قتال غيرهم من عبّاد الأوثان، والنيران، واليهود، والنصارى، قال: وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معًا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعمّ جميع الشريعة، حيث قال فيها:"ويؤمنوا بي، وبما جئت به"، فإن مقتضى ذلك أن من جَحَد شيئًا مما جاء به صلى الله عليه وسلم، ودُعي إليه، فامتنع، ونَصَب القتالَ أنه يجب قتاله، وقتله إذا أصرّ، قال: وإنما عَرَضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكأن راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه، وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر، واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث، انتهى مُلَخصًا.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث: "حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" ما استشكل قتالهم؛ للتسوية في كون غاية القتال ترك كلّ من التلفّظ بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
قال عياض: حديث ابن عمر نصّ في قتال من لم يُصلّ، ولم يزكّ، كمن لم يقرّ بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دلّ على
أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة، إذ لو سمعه عمر لم يحتجّ على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لردّ به على عمر، ولم يَحْتجْ إلى الاحتجاج بعموم قوله:"إلا بحقّه".
قال الحافظ: إن كان الضمير في قوله: "بحقّه" للإسلام، فمهما ثبت أنه من حقّ الإسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة انتهى
(1)
.
(فَمَنْ قَالَ: لَا إِله إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي) أي منع مني، وأصل العصمة من الْعِصَام، وهو الخيط الذي يُشدّ به فم القِرْبَة؛ ليمنع سيلان الماء (مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ) المراد بالحقّ بالنسبة للمال، هو الزكاة، ونحوها من الحقوق المتعلّقة به.
وأما بالنسبة للنفس فهو ما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن بسند صحيح عن ابن عمر، أن عثمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم، أو قَتَل عمدًا، فعليه الْقَوَد، أو ارتد بعد إسلامه، فعليه القتل"، والله تعالى أعلم.
(وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ") أي حساب سريرته على الله تعالى؛ لأنه المطّلع عليه، فمن أخلص في إيمانه، اْعماله، جازاه الله عليها جزاء المخلصين، ومن لم يُخلص في ذلك كان من المنافقين، يُحكم لي في الدنيا بأحكام المسلمين، وهو عند الله من أسوإ الكافرين.
ويستفاد منه أن أحكام الإسلام إنما تُدار على الظواهر الجليّة، لا الأسرار الخفيّة. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: معنى قوله: (وحسابه على الله") أي فيما يستسرون به، ويُخفونه، دون ما يُخِلُّون به في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء.
وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تُقبل، ويُحكى ذلك أيضًا عن أحمد بن حنبل رحمهما الله. هذا كلام الخطّابيّ.
وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، وأوضحه، فقال: اختصاص
(1)
"الفتح" 14/ 279 - 280.
(2)
"المفهم" 3/ 189.
عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا الله، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحّد، وهم كانوا أول من دُعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقرّ بالتوحيد، فلا يُكتفى في عصمته بقوله: لا إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذا جاء في الحديث الآخر:"وأني رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة". وهذا كلام القاضي.
قلت
(1)
: ولا بدّ مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه، هي مذكورة في "صحيح مسلم":"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به". والله أعلم.
قال: واختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق، وهو الذي ينكر الشرع جملة، فذكروا فيه خمسة أوجه لأصحابنا:
أصحها، والأصوب منها قبولها مطلقًا، للأحاديث الصحيحة المطلقة.
والثاني: لا تُقبل، ويتحتّم قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة، وكان من أهل الجنّة.
والثالث: إن تاب مرة واحدة قبلت توبته، فإن تكرّر ذلك منه لم تقبل.
والرابع: إن أسلم ابتداءً من غير طلب قبل منه، وإن كان تحت السيف فلا.
والخامس: إن كان داعيًا إلى الضلال لم يقبل منه، وإلا قبل منه، والله تعالى أعلم، انتهى كلام النوويّ
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما صححه النووي رحمه الله تعالى من قبول توبة الزنديق مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لما ذكره، ولإطلاق قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38]، والزنديق كافر، تعمّه هذه الآية، ولحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعًا:"أما علمت أن الإسلام يَهْدِمُ ما كان قبله". أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم.
(1)
القائل هو النوويّ رحمه الله تعالى.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 156 - 157.
(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)، قال النوويّ: ضبطناه بوجهين، "فَرَقَ"، و"فَرَّقَ" بتشديد الراء، وتخفيفها، ومعناه: من أطاع في الصلاة، وجحد الزكاة، أو منعها. انتهى.
وعبارة الحافظ: يجوز تشديد "فرّق" وتخفيفه، والمراد بالفرق من أقرّ بالصلاة، وأنكر الزكاة، جاحدًا، أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصّة الكفر ليشمل الصنفين، فهو في حقّ من جحد حقيقةٌ، وفي حقّ الآخرين مجازٌ تغليبًا، وإنما قاتلهم الصدّيق رضي الله عنه، ولم يَعْذِرهم بالجهل، لأنهم نصبوا القتال، فجهّز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصرّوا قاتلهم. قال المازريّ: ظاهر السياق أن عمر كان موافقًا على قتال من جحد الصلاة، فألزمه الصدّيق بمثله في الزكاة، لورودها في الكتاب والسنّة مَوْرِدًا واحدًا، انتهى
(1)
.
(فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حقّ النفس الصلاة، وحقّ المال الزكاة، فمن صلّى عصم نفسه، ومن زكّى عصم ماله، فمن لم يصلّ قوتل على ترك الصلاة، ومن لم يُزكّ أُخذت الزكاة من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب لذلك قوتل، وهذا يوضّح أنه لو كان سمع في الحديث:"ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه، واستظهر بهذا الدليل النظريّ.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "فإن الزكاة حقّ المال"، هذا الرّدّ يدلّ على أن عمر رضي الله عنه حَمَلَ الحقّ في قوله:"عَصَم منّي ماله ونفسه إلا بحقّه" على غير الزكاة، وإلا لم يقم استشهاد عمر رضي الله عنه بالحديث على منع المقاتلة، وردُّ أبي بكر رضي الله عنه بقوله:"فإن الزكاة حقّ المال"، أو يقال: إن عمر ظنّ أن المقاتلة مع القوم إنما كانت لكفرهم لا للمنع، فاستشهد بالحديث، أجابه أبو بكر رضي الله عنه بأني لم أقاتلهم لكفرهم، بل لمنعهم الزكاة، ويَعضد هذا الوجه قوله:"كَفَرَ من كَفَرَ". انتهى
(2)
.
(واللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا)، هكذا رواية مسلم بلفظ:(عِقَالًا)، قال الحافظ
(1)
"الفتح" 14/ 280.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1484.
رحمه الله تعالى في "الفتح" بعد أن ذكره بلفظ "عناقًا" ما نصّه: ووقع في رواية قتيبة، عن الليث، عند مسلم "عقالًا"، وأخرجه البخاريّ في "كتاب الاعتصام" عن قتيبة، فكَنَى بهذه اللفظة، فقال:"لو منعوني كذا".
واختُلِفَ في هذه اللفظة، فقال قوم: هي وَهَم، وإلى هذا أشار البخاريّ بقوله في "الاعتصام" عقب إيراده: قال لي ابنُ بُكير - يعني شيخه فيه هنا - وعبدُ الله - يعني ابن صالح - عن الليث: "عَنَاقًا"، وهو أصحّ، ووقع في روايةٍ ذكرها أبو عُبيدة:"لو منعوني جَدْيًا أَذْوَط"، وهو يؤيّد أن الرواية "عَناقًا"، و"الأذوط" الصغير الفَكّ والذَّقَنِ. قال: و"العَنَاق" - بفتح المهملة، والنون -: الأنثى من ولد المعز. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": هكذا في مسلم "عِقَالًا"، وكذا في بعض روايات البخاريّ، وفي بعضها "عَنَاقًا" - بفتح العين، وبالنون وهي الأنثى من ولد المعز وكلاهما صحيح وهو محمول على أنه كرّر الكلام مرتين، فقال في مرة: عقالًا، وفي الأخرى "عناقًا"، فرُوي عنه اللفظان.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: اعترض الحافظ على النووي هذا التأويل، فقال: وهو بعيد، مع اتحاد المخرج والقصّة، انتهى.
لكن الذي يظهر لي أن ما قاله النوويّ ليس ببعيد، لأنه يمكن أن يُكَرِّر أبو بكر رضي الله عنه الكلام في مجلس واحد تأكيدًا، وتشديدًا، فيتلفّظ باللفظين، فينقل عنه، وهذا لا إشكال فيه، فما قاله النووي قريب، لا بعيد، فتأمّله. والله تعالى أعلم.
قال: فأما رواية العَنَاق، فهي محمولة على ما إذا كانت الغنم صغارًا كلها بأن ماتت أمهاتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمهات زُكي السِّخال الصغار بحول الأمهات، سواء بقي من الأمهات شيء، أم لا، هذا هو الصحيح المشهور.
وقال أبو القاسم الأنماطيّ من الشافعية: لا يزكِّي الأولاد بحول الأمهات، إلا أن يبقى من الأمهات نصاب.
(1)
"الفتح" 14/ 280.
قال بعض الشافعية: إلا أن يبقى من الأمهات شيء، ويتصوّر ذلك فيما إذا مات معظم الكبار، وحدثت صغار، فحال حول الكبار على بقيّتها، وعلى الصغار. والله أعلم.
وأما رواية "عِقَالًا" فقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا فيها، فذهب جماعة منهم إلى أن المراد بالعِقَال زكاة عام، وهو معروف في اللغة بذلك، وهذا قول النسائيّ، والنضر بن شُميل، وأبي عُبيدة، والمبرّد، وغيرهم من أهل اللغة، وهو قول جماعة من الفقهاء، واحتج هؤلاء على أن العِقَال يُطلق على زكاة العام بقول عمرو بن الْعَدَّاء الكَلْبيّ [من البسيط]:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا
(1)
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
لأَصْبَحَ الْحَيُّ أَوْبَادًا وَلَمْ يَجِدُوا
…
عِنْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْهَيْجَا جِمَالَيْنِ
(2)
أراد مُدّة عقال، فنصبه على الظرف.
وعمرو هذا الساعي هو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان وَلّاه عمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما صدقات كلب، فاعتدى عليهم، فقال فيه قائلهم ذلك.
قالوا: ولأن العقال الذي هو الحبل الذي يُعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة، فلا يجوز القتال عليه، فلا يصحّ حمل الحديث عليه.
وذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يُعقل به البعير.
وهذا القول يُحكى عن مالك، وابن أبي ذئب، وغيرهما، وهو اختيار صاحب "التحرير"، وجماعة من حُذّاق المتأخّرين.
قال صاحب "التحرير": قول من قال: المراد صدقة عام تعسّف، وذهابٌ عن طريقة العرب؛ لأن الكلام خرج مخرج المضييق، والتشديد، والمبالغة، فيقتضي قلّة ما عُلِّق به القتال، وحقارته، وإذا حُمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى، قال: ولست أشبّه هذا إلا بتعسّف من قال في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يَسرق البيضة، فتُقطع يده، وَيسرق الحبل، فتقطع يده"، أن المراد
(1)
السبد: البقية من النبت، والقليل من الشعر. أي لم يترك شيئًا قليلًا.
(2)
البيت الثاني مزيد من "لسان العرب"، وكذا جملة قوله:"فاعتدى عليهم".
بالبيضة بيضة الحديد التي يُغطَّى بها الرأس في الحرب، وبالحبل الواحدُ من حبال السفينة، وكلّ واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة.
قال بعض المحقّقين: إن هذا القول لا يجوز عند من يعرف اللغة، ومخارج كلام العرب؛ لأن هذا ليس موضع تكثير لما يسرقه، فيصرفَ إليه بيضةٌ تساوي دنانير، وحبلٌ لا يقدر السارق على حمله، وليس من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبّح الله فلانًا عرّض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه الله تعرّض لقطع اليد في حبل رَثٍّ، أو في كُبَّة شعر، وكلّما كان من هذا أحقر كان أبلغ.
فالصحيح هنا أنه أراد به العقال الذي يُعقَل به البعير، ولم يُرد عينه، وإنما أراد قدر قيمته، والدليل على هذا أن المراد به المبالغة، ولهذا قال في الرواية الأخرى:"عَنَاقًا"، وفي بعضها:"لو منعوني جَدْيًا أذوط". والأذوط صغير الفكّ والذقن. هذا آخر كلام صاحب "التحرير".
قال النوويّ: وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره.
وعلى هذا اختلفوا في المراد بـ "منعوني عِقالًا"، فقيل: قدر قيمته، وهو ظاهر متصوَّرٌ في زكاة الذهب والفضّة، والمعشرات، والمعدن، والركاز، وزكاة الفطر، وفي المواشي أيضًا في بعض أحوالها، كما إذا وجب عليه سنّ، فلم يكن عنده، ونزل إلى سنّ دونها، واختار أن يردّ عشرين درهمًا، فمنعه من العشرين قيمة عقال، وكما إذا كانت غنمه سِخالًا، وفيها سَخْلة، فمنعها، وهي تساوي عقالًا، ونظائر ما ذكرته كثيرة معروفة في كتب الفقه، وإنما ذكرت هذه الصورة تنبيهًا بها على غيرها، وعلى أنه متصوّرٌ ليس بصعب، فإني رأيت كثيرين ممن لم يُعَانِ الفقه يستصعب تصوّره حتى حمله بعضهم - وربما وافقه بعض المتقدّمين - على أن ذلك للمبالغة، وليس متصوّرًا، وهذا غلطٌ قبيحٌ، وجهلٌ صريحٌ.
وحكى الخطّابيّ عن بعض العلماء أن معناه: منعوني زكاة العقال، إذا كان من عروض التجارة، وهذا تأويل صحيحٌ أيضًا.
ويجوز أن يراد منعوني عقالًا، أي منعوني الحبل نفسه على مذهب من
يُجوّز القيمة، ويتصوّر على مذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى على أحد أقواله، فإن للشافعيّ في الواجب في عروض التجارة ثلاثةَ أقوال:
[أحدها]: يتعيّن أن يأخذ منها عرضًا، حبلًا أو غيره، كما يأخذ من الماشية من جنسها.
[والثاني]: أنه لا يأخذ إلا دراهم، أو دنانير، ربع عشر قيمته، كالذهب والفضّة.
[والثالث]: يتخيّر بين العرض والنقد. والله أعلم.
وحكى الخطابيّ عن بعض أهل العلم أن العقال يؤخذ مع الفريضة، لأن على صاحبها تسليمها، وإنما يقع قبضها التامّ برباطها.
قال الخطّابيّ: قال ابن عائشة: كان من عادة الْمُصَدِّق إذا أخذ الصدقة أن يَعْمِد إلى قَرَن - وهو بفتح القاف، والراء - وهو حبلٌ، فيقرن به بين بعيرين، أي يشدّه في أعناقهما لئلا تشرد الإبل.
وقال أبو عبيد: وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة على الصدقة، فكان يأخذ مع كلّ فريضتين عقالهما، وقرانهما، وكان عمر رضي الله عنه أيضًا يأخذ مع كلّ فريضة عقالًا. والله أعلم انتهى كلام النوويّ
(1)
.
ونقل ابن الصلاح عن أبي العبّاس المبرّد في كتابه "الكامل" أن المصدّق إذا أخذ من مال الصدقة ما فيه، ولم يأخذ ثمنه قيل: أخذ عِقالًا، وإذا أخذ ثمنه قيل: أخذ نقدًا، قال الشاعر [من الطويل]:
أَتَانَا أَبُو الْخَطَّاب يَضْرِبُ طَبْلَهُ
…
فَرُدَّ وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدَا
وذكر أن الصحيح في العقال المذكور تفسيره بهذا، قال ابن الصلاح: وليس ذلك عندنا بصحيح. انتهى
(2)
.
وذكر القرطبي رحمه الله تعالى في كتابه "المفهم" في معنى "العقال" خمسة أقوال:
(الأول): أنه الفريضة من الإبل. رواه ابن وهب عن مالك، وقاله النضر بن شُميل.
(1)
"شرح مسلم" 1/ 157 - 159.
(2)
"الصيانة" ص 166.
(الثاني): أنه صدقة عام، قاله الكسائيّ، وأنشد قوله:"سَعَى عِقَالًا إلخ".
(الثالث): أنه كلّ شيء يُؤخذ في الزكاة، من أنعام، وثمار؛ لأنه يُعقل عن مالكه، قاله أبو سعيد الضرير.
(الرابع): هو ما يأخذه المصدِّق من الصدقة بعينها، فإن أخذ عوضها، قيل: أخذ نقدًا، ومنه قول الشاعر:
وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدًا
(الخامس): أنه اسم لما يُعقل به البعير، قاله أبو عُبيد، وقال: قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة على الصدقة، فكان يأخذ مع كلّ قرين عقالًا، ورِوَاء
(1)
.
قال: والأشبه بمساق أبي بكر أن يُراد بالعقال ما يُعقل به البعير؛ لأنه خرج مخرج التقليل. والله أعلم
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي أن رواية "عِقَالًا" صحيحة، وأن أقرب تفسير العقال تفسير من فسّره بالحبل الذي تربط به الدوابّ، وأن من منع إعطاء العقال إذا احتاج إليه الساعي يُعتبر مانعًا لبعض الزكاة. والله تعالى أعلم.
(كَانُوا يُؤَدُّونَهُ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِه، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (فَوَاللهِ مَا هُوَ) أي ما الأمر والشأن، فالضمير للشأن، وقال السنديّ: أي ما سبب رجوعي إلى رأي أبي بكر انتهى (إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللهَ عز وجل) أي: علمت وأيقنت أن الله تعالى.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: المستثنى منه غير مذكور، أي ليس الأمر شيئًا من الأشياء إلا علمي بأن أبا بكر مُحِقّ، ونحوه قوله تعالى:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] فـ {هِيَ} ضمير مبهم يفسّره ما بعده. انتهى
(3)
.
(1)
الرواء: الحبل الذي تربط به المزادتان. والمزادة: الراوية التي ينقل بها الماء.
قلت: لم أرَ سند هذا الحديث، فيحتاج الى النظر في سنده، والله أعلم.
(2)
راجع: "المفهم" 1/ 189 - 190.
(3)
"الكاشف" 5/ 1484 - 1485.
(قَدْ شَرَحَ) أي فتح، ووسع، وليّن (صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (لِلْقِتَالِ) قال النوويّ: معناه: علمت بأنه جازم بالقتال؛ لما ألقى الله عز وجل، في قلبه من الطمأنينة لذلك، واستصوابه ذلك (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي عرفت بما ظهر من الدليل، وأقامه أبو بكر رضي الله عنه من الحجة أن ما عزم عليه هو الحقّ، وليس معنى ذلك أن عمر رضي الله عنه قلّد أبا بكر رضي الله عنه، فإن المجتهد لا يقلّد المجتهد.
وقد زعمت الرافضة أن عمر رضي الله عنه إنما وافق أبا بكر تقليدًا، وبنوه على مذهبهم الفاسد في وجوب عصمة الأئمة، وهذه جهالة ظاهرة منهم، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسأله الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا فقط (8/ 132) عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن عُقيل، عن الزهريّ، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن أبي هريرة، عن عمر وأبي بكر رضي الله عنهم.
وأخرجه (البخاريّ) في "الزكاة" 2/ 131 (1399) و 147 (1456) عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة - وفي 2/ 147 (1456) وقال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر - وفي "استتابة المرتدّين" 9/ 19 (6924) عن يحيى بن بُكير - وفي "الاعتصام" 9/ 115 (8284) و (8285) عن قتيبة - كلاهما عن الليث، عن عُقيل - ثلاثتهم عن الزهريّ، عن عبيد الله به.
و (أبو داود) في "الزكاة"(1556) عن قتيبة - به، و (1557) عن أحمد بن عمرو بن السرح، وسليمان بن داود، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ عن أبي بكر به مرسلًا.
و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2607) عن قتيبة به، وقال: حسنٌ صحيح، وهكذا روى شعيبٌ عن الزهريّ، وروى هذا الحديث عن عمران القطّان، عن معمر، عن الزهريّ، عن أنس، عن أبي بكر، وهو خطأ، وقد خولف عمران في روايته عن معمر.
و (النسائيّ) في "الزكاة" 5/ 14 (2223) وفي "المحاربة" 7/ 77 (3432) عن قتيبة به، وفي "الجهاد" 5/ 6 (4300) عن كثير بن عبيد، عن بقية بن الوليد 6/ 5 (4300) وفي "المحاربة) أيضًا (3435) عن أحمد بن محمد بن المغيرة، عن عثمان بن سعيد، كلاهما عن شعيب بن أبي حمزة به، و 6/ 5 (4299) عن كثير بن عبيد، عن محمد بن حرب، عن الزبيديّ، و 6/ 6 (4301)، وفي "المحاربة أيضًا" (3437) و 7/ 78 عن أحمد بن سليمان، عن مؤمّل بن الفضل، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، وسفيان بن عيينة، وذكر آخر، أربعتهم عن الزهريّ به، وفي "المحاربة" أيضًا 7/ 77 (3433) عن زياد بن أيوب، عن محمد بن يزيد، عن سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي هريرة، عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 1/ 19 (117) عن عصام بن خالد، وأبي اليمان، كلاهما عن شعيب بن أبي حمزة، وفي 1/ 47 (335) عن إبراهيم بن خالد، عن رَبَاح، عن معمر به.
وأخرجه أيضًا 1/ 35 (239) عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لَمّا ارتدّ أهل الردّة في زمان أبي بكر قال عمر
…
الحديث، ليس فيه أبو هريرة. و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(113 و 114 و 115 و 116 و 117 و 118).
وأخرجه (عبد الرزاق)(18718) و (ابن منده) في "الإيمان"(216) و (البيهقيّ) في "الكبرى" 4/ 114 و 7/ 3
(1)
. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في بيان فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الناس يُقاتلون إلى أن يوحّدوا الله تعالى، ويلتزموا أحكام الشريعة كلها.
2 -
(ومنها): أن فيه أدلّ دليل على شجاعة أبي بكر رضي الله عنه، وتقدّمه في الشجاعة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 309 - 310.
أكبر نعمة، أنعم الله تعالى بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره، ورَصَانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيرِهِ مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحقّ على أنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صنّف العلماء رحمهم الله تعالى في معرفة رجحانه أشياء كثيرة، مشهورة في الأصول وغيرها، ومن أحسنها كتاب "فضائل الصحابة رضي الله عنهم" للإمام أبي المظفّر منصور بن محمد السمعانيّ الشافعيّ، قاله النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين، والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا قال: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله والتزم أحكام دين الإسلام، فإنه مؤمن شرعًا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بذلك، حيث قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله
…
" إلى أن قال: "فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم
…
" الحديث.
وقد أوجب عليه تعلّم أدلة المتكلّمين كثير من المعتزلة، وبعض من يدّعي الانتساب إلى أهل السنة من المغفّلين، من المتكلمين، وممن انصبغ بأفكار الفلاسفة الملحدين، وهو مذهب مبتدع، لا يعرفه السلف، وإنما أحدثه المعتزلة وأذنابهم من الذين لا صلة لهم بالأدلة المنقولة، وإنما يخوضون في أفكارهم المنصبغة بأفكار الفلاسفة، فلا حقّ عنده إلا ما أثبته عقله السخيف، فهذا هو عين الخذلان، نعوذ بالله من أن نُفْتَنَ عن ديننا، أو نُردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك أرحم الراحمين.
وقد استوفيتُ هذا البحث في المسائل التي ذكرتها أوائل "كتاب الإيمان"، فارجع إليها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
4 -
(ومنها): جواز مراجعة الأئمة الأكابر، ومناظرتهم لأظهار الحقّ.
5 -
(ومنها): أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما، واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم كما في رواية
(1)
"شرح مسلم" 1/ 160.
لمسلم - بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بما جئت به".
6 -
(ومنها): مشروعيّة مقاتلة مانع الزكاة، إن امتنع، وناصَبَ الحربَ، وإلا أُخِذت منه قهرًا.
7 -
(ومنها): وجوب الجهاد.
8 -
(ومنها): صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد، ونفسه، ولو كان عند السيف.
9 -
(ومنها): أن الأحكام تُجْرَى على الظواهر، والله تعالى يتولّى السرائر.
10 -
(ومنها): أن الصحابة كانوا قائلين بجواز القياس والعمل به.
11 -
(ومنها): وجوب قتال مانعي الزكاة، أو الصلاة، أو غيرها من واجبات الإسلام، قليلًا كان أو كثيرًا؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه:"لو منعوني عقالًا"، أو "عناقًا".
12 -
(ومنها): جواز التمسّك بالعموم؛ لقوله: "فإن الزكاة حقّ المال".
13 -
(ومنها): وجوب قتل أهل البغي.
14 -
(ومنها): ما قيل: أن فيه وجوب الزكاة في السخال تبعًا لأمهاتها.
15 -
(ومنها): اجتهاد الأئمة في النوازل، وردّها إلى الأصول، ومناظرة أهل العلم فيها، ورجوع من ظهر له الحقّ إلى قول صاحبه.
16 -
(ومنها): الأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطّف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظر، فلو عاند بعد ظهورها، فحينئذٍ يستحقّ الإغلاظ بحسب حاله.
17 -
(ومنها): جواز الحلف على الشيء لتأكيده، وإن كان دون استحلاف.
18 -
(ومنها): أن الإجماع لا ينعقد إذا خالف من أهل الحلّ والعقد واحد. قاله النوويّ رحمه الله تعالى: وهو الصحيح المشهور، وخالف فيه بعض أصحاب الأصول.
19 -
(ومنها): أن فيه قبول توبة الزنديق، وقد تقدّم بيان الخلاف فيه.
20 -
(ومنها): أنه استدلّ به مالك والشافعيّ رحمهما الله تعالى، ومن قال بقولهما على قتل تارك الصلاة، وإن كان معتقدًا لوجوبها، وسيأتي تمام البحث في ذلك في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
21 -
(ومنها): أنه تمسّك برواية "لو منعونى جَذَعًا" بدل "عَنَاقًا" من أجاز أخذ الْجَذَع من المعز في الزكاة إذا كانت سخالًا كلها، وهو قول الشافعيّ، وأحد قولي مالك، وليس بالمشهور عنه، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ولا حجة في ذلك؛ لأنه خرج مخرج التقليل، فإن عادة العرب إذا أغيت تقليل شيء ذكرت في كلامها ما لا يكون مقصودًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة"، متّفقٌ عليه، وقال أيضًا:"ولو ظِلْفًا مُحرَقًا" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليسا مما يُنتفع بهما، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من بَنَى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة"
(1)
، وذلك القدر لا يكون مسجدًا، ونحو من هذا في الإغياء قول امرئ القيس [من الطويل]:
مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ
…
مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإِتْبِ
(2)
مِنْهَا لأَثَّرَا
ونحوه كثير في كلامهم في التقليل والتكثير، والتعظيم والتحقير. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(3)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في محله من "كتاب الزكاة" - إن شاء الله تعالى -.
22 -
(ومنها): أن الحديث حجة على أن الزكاة لا تسقط عن المرتدّ بردّته، بل يؤخذ منه ما وجب عليه منها، فإن تاب، وإلا قُتل، وكان ماله فيئًا.
23 -
(ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: في الحديث أن من أظهر الإسلام أُجريت عليه أحكامه الظاهرة، ولو أسرّ الكفر في نفس الأمر، ومحلّ الخلاف إنما هو فيمن اطُّلِع على مُعتَقَده الفاسد، فأظهر الرجوع، هل
(1)
رواه البيهقيّ في "الكبرى" 2/ 437.
(2)
بكسر فسكون: بُرْدٌ يُشَقّ، تلبسه المرأة من غير جيب، ولا كُمِّين اهـ "القاموس" ص 56.
(3)
"المفهم" 1/ 190 - 191.
يُقبل منه، أو لا؟ وأما من جُهل أمره، فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة):
في قوله صلى الله عليه وسلم: حتى يقولوا: "لا إله إلا الله" فإنه يفيد منع قتل من قال: "لا إله إلا الله"، ولو لم يزد عليه، "محمد رسول الله".
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرّد ذلك مسلمًا؟ الراجح لا، بل يجب الكفّ عن قتله حتى يُخْتَبَر، فإن شهد بالرسالة، والتزم أحكام الإسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله:"إلا بحقّ الإسلام".
وقال البغويّ رحمه الله تعالى: الكافر إذا كان وثنيًّا، أو ثنويًّا، لا يقرّ بالوحدانيّة، فإذا قال:"لا إله إلا الله" حُكم بإسلامه، ثُمَّ يُجبر على قبول جميع أحكام الإسلام، وأن يتبرّأ من كلّ دين يُخالف دين الإسلام، وأما من كان مقرًّا بالوحدانيّة، منكرًا للنبوّة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول:"محمد رسول الله"، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصّة، فلا بدّ أن يقول:"إلى جميع الخلق"، فإن كان كفر بجحود واجب، أو استباحة محرّم، فيحتاج أن يرجع عما اعتقده، ومقتضى قوله:"يجبر" أنه إذا لم يلتزم تُجرى عليه أحكام المرتدّ، وبه صرّح القفّال، واستدلّ بحديث الباب، فادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، كذا قال، وهي غفلة عظيمة، فالحديث في "صحيحي البخاري ومسلم" في "كتاب الإيمان" من كلّ منهما، من رواية ابن عمر بلفظ:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، ويحتمل أن يكون المراد بقول:"لا إله إلا الله" هنا التلفّظ بالشهادتين؛ لكونها صارت علمًا على ذلك، ويؤيّده ورودهما صريحًا في الطرق الأخرى، انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر هذا الحديث أن من نطق بكلمة التوحيد فقط حُكم له بحكم الإسلام، وهذا الظاهر متروك قطعًا؛ إذ لا بدّ مع
(1)
"الفتح" 12/ 349 - 350.
ذلك من النطق بالشهادة بالرسالة، أو بما يدلّ عليها، لكنه سكت عن كلمة الرسالة؛ لدلالة كلمة التوحيد عليها؛ لأنهما متلازمان، فهي مرادة قطعًا، ثم النطق بالشهادتين يدلّ على الدخول في الدين، والتصديق بكلّ ما تضمّنه، وعلى هذا فالنطق بالكلمة الأولى يفيد إرادة الثانية، كما يقال: قرأت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، والمراد جميع السورة، ويدلّ على صحّة ما قلناه الروايات الأخرى التي فيها:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"، وفي لفظ آخر:"أُمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئتُ به"، غير أن أبا بكر وعمر لم يحضرهما في وقت المناظرة غير ذلك اللفظ الذي ذكراه؛ إذ لو حضرهما قوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" لارتفع البحث بينهما؛ لأن اللفظ نصّ في المطلوب، وأوضح في الدلالة مما استدلّ به أبو بكر رضي الله عنه من قوله:"لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"، ويعني بهذا أبو بكر رضي الله عنه والله أعلم - أن الله تعالى قد سوّى بين الصلاة والزكاة في الوجوب في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وفي غيرها، فقد جمع الله تعالى بينهما في الأمر بهما، والصلاة المأمور بها واجبة قطعًا، فالزكاة مثلها، فمن فرّق بينهما قُوتل.
ويمكن أن يشير بذلك إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، ودليل خطابها أن من لم يفعل جميع ذلك لم يُخَلَّ سبيله، فيُقاتَلُ إلى أن يُقتَلَ أو يتوب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة):
أنه استُدلّ بهذا الحديث على أن الزكاة لا تسقط عن المرتدّ. قال الحافظ: وتُعُقّب بأن المرتدّ كافر، والكافر لا يُطالب بالزكاة، وإنما يطالب
(1)
"المفهم" 1/ 187 - 188.
بالإيمان، وليس في فعل الصدّيق حجة، لما ذكرنا، وإنما فيه قتال من منع الزكاة، والذين تمسّكوا بأصل الإسلام، ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجّة.
وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تُغنم أموالهم، وتُسبى ذراريّهم كالكفّار، أو لا، كالبغاة؟ فرأى أبو بكر الأول، وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني، ووافقه غيره في خلافته على ذلك، واستقرّ الإجماع عليه في حقّ من جحد شيئًا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل، وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع، وإلا عومل معاملة الكفار حينئذٍ، ويقال: إن أصبغ من المالكية استقرّ على القول الأول، فعُدّ من ندرة المخالف.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يستفاد من هذه القصّة أن الحاكم إذا أدّاه اجتهاده في أمر لا نصّ فيه إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكمًا وجب عليه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده، وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك؛ لأن عمر أطاع أبا بكر رضي الله عنهما فيما رأى من حقّ مانعي الزكاة مع اعتقاده خلافه، ثم عمل في خلافته بما أدّاه إليه اجتهاده، ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم.
وهذا مما يُنبّه عليه في الاحتجاج بالإجماع السكوتيّ، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار، وهذا منها. انتهى كلام عياض رحمه الله تعالى.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يستفاد من فعل عمر رضي الله عنه وحكمه أن الإمام المجتهد العدل إذا أمر بأمر، أو حَكَم بحكم وجبت موافقته على ذلك، وإن كان في رعيّته من يرى خلاف رأيه، بل يجب عليه ترك العمل والفتيا بما عنده، وإن اعتقد صحّته، فإن عاد الأمر إليه عمل برأيه الذي كان يعتقده صوابًا، كما فعل عمر رضي الله عنه، حيث ردّ في خلافته السبايا.
ويحصل من قضيّة الخليفتين أن سبي أولاد المرتدّين لم يكن مجمعًا عليه، وأن عمر رضي الله عنه إنما وافق أبا بكر ظاهرًا وباطنًا على قتال الجميع لا غير، وأما سبيُ الذراريّ فلم يوافقه عليه باطنًا، لكنه ترك العمل بما ظهر
له، والفتيا به؛ لِمَا يجب عليه من طاعة الإمام وموافقته، فلَمّا وُلِّي عَمِلَ بما كان عنده، هذا هو الظاهر من حال عمر رضي الله عنه، ولا يجوز أن يقال: إنه قد ظهر له من جواز السبي ما ظهر لأبي بكر، ثم تغيّر اجتهاده؛ لأن ذلك يلزم منه خرق إجماع الصحابة رضي الله عنهم السابق، فإنهم كانوا قد أجمعوا مع أبي بكر رضي الله عنه على السبي، وعَمِلُوا بذلك من غير مخالفة ظهرت من أحد منهم، ولا إنكار ظاهر، غير أنهم منقسمون في ذلك إلى من ظهر له جواز ذلك، فسكت لذلك، ومنهم من ظهر له خلاف ذلك، فسكت بحكم ترجيح قول الإمام العدل المجتهد على رأيه، ولوجوب اتّباع الإمام على ما يراه، والعمل به، فإذا فُقد ذلك الإمام، تعيّن على ذلك المجتهد أن يَعمل على ما كان قد ظهر له، لكن بعد تجديد النظر، لا أنه يعتمد على ذلك الرأي الأول من غير إعادة البحث ثانيةً؛ لإمكان التغيّر على ما بُيّن في محلّه من "أصول الفقه".
وقد حكى بعض الناس أن الإجماع انعقد بعد أبي بكر رضي الله عنه على أن المرتدّ لا يُسبَى، وليس ذلك بصحيح؛ لوجود الخلاف في ذلك، كما حكيناه عن أصبغ، ولأنه يؤدّي إلى تناقض الإجماعين، وهو محالٌ، كما يُعرف في "الأصول"، ولَمّا اعتقد بعض الأصوليين في هذه المسألة إجماعين متناقضين، رأى أن الْمَخْلَص من ذلك اشتراط انقراض العصر في صحّة الإجماع، فلم ينعقد عند هذا القائل فيها إجماع أوّلًا وآخرًا؛ لأن عصر الصحابة لم يكن انقرض في زمان عمر رضي الله عنه.
قال القرطبيّ: واشتراط انقراض العصر في دلالة الإجماع باطلٌ؛ لأنه زيادة شرط في دلالات الإجماع الصحيحة من غير أن يشهد لتلك الزيادة عقلٌ ولا نقلٌ، والصحيح من هذه المسألة أنه لا إجماع فيها أوّلًا ولا آخرًا؛ لإضمار الخلاف فيها في عصر أبي بكر رضي الله عنه، والتصريح به بعده
(1)
. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"المفهم" 1/ 186 - 187.
[133]
(21) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّه، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقة [10](ت 250)(م د س ق) 2/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران، أبو حفص التُّجيبيّ
(1)
المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) 2/ 14).
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان، أبو عبد الله العسكريّ المصريّ، المعروف بابن التُّسْتَرِيّ
(2)
، صدوقٌ، تُكُلِّم في بعض سماعاته بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق).
رَوَى عن ابن وهب، والمفضل بن فَضَالة، وضِمَام بن إسماعيل وغيرهم.
وَرَوى عنه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، وحنبل بن إسحاق، وإبراهيم الحربيّ، وإسماعيل القاضي، وحرب الكرماني، وابن الضُّرَيس، وأبو القاسم البغويّ، وغيرهم.
قال أبو داود: كان ابن معين يَحْلف أنه كذّاب، وقال أبو حاتم: تكلم الناس فيه، قيل لي بمصر: إنه قَدِمَها، واشترى كُتُب ابن وهب، وكتاب الْمُفَضَّل بن فَضَالة، ثم قَدِمتُ بغداد، فسألت هل يحدث عن المفضل؟ فقالوا:
(1)
قال الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى: في "صيانة صحيح مسلم" 1/ 170: حرملة بن يحيى شيخ مسلم، منسوب إلى تُجِيب، قبيلة من كِنْدة - بضم التاء المثناة من فوق في قوله، وتفتح أيضًا - وبالضم هو عند أصحاب الحديث، وكثيرٍ من الأدباء، ولم يُجِز فيه بعضهم إلا الفتح، وليس ذلك بالقويّ، وحرملة هذا هو صاحب الشافعي الذي يذكره أصحابه في مصنفاتهم. والله تعالى أعلم. انتهى كلامه.
(2)
بضم أوله، وسكون ثانيه، وفتح ثالثه.
نعم، فأنكرت ذلك، وذلك أن الرواية عن ابن وهب، والرواية عن المفضل لا يستويان. وقال سعيد بن عَمْرو الْبَرْدعيّ: أنكر أبو زرعة على مسلم روايته عن أحمد بن عيسى في "الصحيح"، قال سعيد: قال لي: ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أنه، وأشار إلى لسانه، كأنه يقول الكذب. وقال الخطيب: ما رأيت لمن تكلم فيه حجةً توجب ترك الاحتجاج بحديثه.
قال الحافظ: إنما أنكروا عليه ادّعاء السماع، ولم يُتَّهَم بالوضع، وليس في حديثه شيء من المناكير. والله أعلم.
وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال النسائيّ: أحمد بن عيسى كان بالْعَسْكَر ليس به بأس، وقال البغويّ، وابن قانع، وابن يونس: مات سنة (243).
روى عنه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد فقيه [9] 197 (ع) 2/ 10.
5 -
(يُونُسُ)
(1)
بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقة، من كبار [7](ت 159)(ع) 2/ 14.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب)
(2)
بن حَزْن بن أبي وَهْب القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات، والفقهَاء الكبار، من كبار [3] بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) 4/ 70.
والباقيان تقدّما في السند السابق، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به.
(1)
فيه ستة أوجه: ضمّ النون، وكسرها، وفتحها، مع الهمز وتركه. "شرح النوويّ" 1/ 200.
(2)
قوله: "ابن المسيِّب" اشتهر أنه بفتح الياء المشدّدة، لكن الأولى كسرها؛ لأنه كان يَكْرَهُ الفتح، بل قَيل: إنه دعا على من فتحه، كما سبق بيان ذلك في "شرح المقدّمة".
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنف) هنا [8/ 133](21) و (البخاري) في "الجهاد" 4/ 58 (2946)، و (النسائيّ) في "الجهاد" 6/ 4 (4298) وفي "المحاربة"(3434)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[134]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنِ الْعَلَاءِ. (ح) وَحَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ - واللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِه، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ
(1)
الضَّبِّيُّ) أَبو عبد الله البصريّ، ثقة رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) 1/ 102.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هُوَ: عَبد العزيز بن محمد بن عُبيد بن أبي عُبيد الْجُهَنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، وكان يُحدّث من كُتُب غيره فيُخطئ، قال النسائيّ: منكر الحديث عن عبيد الله العمريّ [8].
رَوَى عن زيد بن أسلم، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عروة، وعمرو بن أبي عمرو، وثور بن زيد الدِّيليّ، وحميد الطويل، وجعفر الصادق، والحارث بن فُضَيل، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم.
وَرَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وهما أكبر منه، وابن إسحاق، وهو من
(1)
بسكون الموحّدة.
شيوخه، والشافعيّ، وابن مهديّ، وابن وهب، ووكيع، وداود بن عبد الله الْجَعْفري، وعبد الله بن جعفر الرَّقّيّ، والقعنبيّ، وأصبغ بن الْفَرَج، وبشر بن الحكم، وسعيد بن منصور، والحميديّ، وإبراهيم بن حمزة، وهارون بن معروف، وغيرهم.
قال مصعب الزبيريّ: كان مالك يوثق الدَّرَاورديّ. وقال أحمد بن حنبل: كان معروفًا بالطلب، وإذا حَدَّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كُتُب الناس وَهِمَ، وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قَلَب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر.
وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: الدَّراورديّ أثبت من فُلَيح، وابن أبي الزناد، وأبي أويس.
وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجة. وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، رُبَّما حَدَّث من حفظه الشيء فيخطئ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن يوسف بن الماجشون، والدَّراورديّ؟ فقال: عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وقال العجليّ: ثقة. وقال الساجيّ: كان من أهل الصدق والأمانة، إلا أنه كثير الوَهَم، قال: وقال أحمد: حاتم بن إسماعيل أحب إليّ منه، وقال عمرو بن عليّ: حَدَّث عنه ابن مهديّ حديثًا واحدًا. وقال الزبير: حدثني عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن: جاء الدَّراورديّ إلى أبي يَعْرِض عليه الحديث، فجَعَل يَلْحَن لَحْنًا منكرًا، فقال له أبي: ويحك إنك كنت إلى لسانك أحوج منك إلى هذا.
وقال ابن سعد: وُلد بالمدينة، ونشأ بها، وسمع بها العلم والأحاديث، ولم يزل بها حتى توفي سنة (187)، وكان ثقةً، كثير الحديث، يَغْلَط.
وَحَكَى البخاريّ أنه مات سنة (89) وجزم به ابن قانع، والْقَرّاب، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في صفر سنة (86) وكان يخطئ، قال: وقد قيل: إنه تُوُفّي سنة (82) انتهى.
أخرج له الجماعة، روى له البخاري مقرونًا بغيره، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا.
[تنبيه]: قال ابن سعد: دَراورد قرية بخراسان، وقال أبو حاتم، عن داود الْجَعْفَريّ: كان أصله من قرية من قُرى فارس، يقال لها: دراورد، وقال البخاريّ: دار بجرد بفارس، كان جدّه منها، وقال أحمد بن صالح: كان من أهل أصبهان، نَزَلَ المدينة، وكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلَقّبه أهل المدينة الدراوردي. وقال ابن حبّان: كان أبوه من درابجرد، مدينة بفارس، فاستثقلوا أن يقولوا: درابجردي، فقالوا: دراورديّ، وقد قيل: إنه من أندرانه، ووقع في "سنن أبي داود" في "الجهاد": حدثنا النُّفَيليّ، ثنا عبد العزيز الأَنْدَرَاورديّ، وقال أبو حاتم السجستانيّ، عن الأصمعيّ: نسبوا إلى درابجرد الدراوردي، فغَلِطُوا، قال أبو حاتم: والصواب دَرَابِيّ، أو جِرْدِيّ، ودَرَابِيّ أجود. انتهى
(1)
.
وقال الشيخ ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم"ج 1، ص 167:"الدَّراورديّ" عبد العزيز بن محمد، حروفه مهملة كلها، وهو بدال مفتوحة، ثم راء، بعدها ألف، ثم واو مفتوحة، بعدها راء ساكنة، ثم دال - والأثبت فيه أنه نَسَبٌ شاذّ مسموع على غير القياس، وأنه نسبة إلى دَرَابَجِرد، مدينة من فارس، وهي بدال مهملة مفتوحة، ثم راء، بعدها ألف، ثم باء موحدة مفتوحة، ثم جيم مكسورة، بعدها راء ساكنة، ثم دال، ومنهم من يُثبت فيها بعد الدال الأولى ألفًا أخرى - وما ذكرناه من كونه نسبةً إلى دَرَا بجرد هو قول أهل العربية، أو من ذَكَرَ ذلك منهم، وممن قاله من أهل الحديث الحافظان: أبو حاتم بن حبان الْبُسْتيّ، وأبو نصر الْكلاباذيّ، قال ابن حبان: كان أبوه منها، وقال الكلاباذي: كان جدّه منها، وقال أبو حاتم السجستانيّ اللغويّ: زعم الأصمعي أن الدراوردي الفقيه منسوب إلى درابجرد، قال أبو حاتم: وهو منسوب على غير قياس، بل هو خطأ، وإنما الصواب: دَرَابِيّ، أو جِرْديّ، ودرابي أجود، قلت: وليس من المرضي قولُ ابن قتيبة: إنه منسوب إلى دراورد، وكذا قول الكلاباذي: دراوردي هي درابجرد؛ لأن ذلك مشعر بأنه غير مخصوص بالنسب، وهو به مخصوص.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 592 - 593.
وقرأت بخط الحافظ أبي سعد السمعانيّ في كتابه "الأنساب": إنه قد قيل: إنه من أندرابة، قلت: وهذا لائق بقول من يقول فيه: الأندراورديّ، بزيادة همزة مفتوحة، ونون ساكنة في أوله، وهو قول أبي عبد الله الْبُوشَنْجيّ، من أئمة الحديث وأدبائهم.
وأَنْدَرابة مدينة من عمل بَلْخ، وقرية بمرو أيضًا.
قال: أخبرني شيخنا المسند، أبو الفتح، منصور بن عبد المنعم، حفيد الْفُرَاويّ بقراءتي عليه بنيسابور، عن أبي جَدّه، أبي عبد الله الفُرَاوي وغيره، عن أبوي عثمان: إسماعيل بن عبد الرحمن الصابونيّ، وسعيد بن محمد الْبَحِيريّ، وأبي بكر البيهقيّ، قالوا: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا بكر محمد بن جعفر يقول: سمعت أبا عبد الله الْبُوشَنْجِيَّ غير مرّة يقول: عبد العزيز بن محمد الأَنْدَرَاورديّ، والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح رحمه الله تعالى
(1)
.
3 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ يَعْقُوبَ) الْحُرَقِيّ - بضم المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف - أبو شِبْل - بكسر المعجمة، وسكون الموحّدة - المدنيّ، مولى الْحُرَقة من جُهَينة، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5].
رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وأنس، وأبي السائب، مولى هشام بن زهرة، ونعيم المجمر، وسعد بن كعب بن مالك، وعليّ بن ماجد، وعباس بن سهل بن سعد، وغيرهم.
وروى عنه ابنه شِبْل، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، ومالك، ومحمد بن عجلان، ورَوح بن القاسم، وحفص بن ميسرة، والدَّراورديّ، وابن أبي حازم، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، لم أسمع أحدًا ذكره بسوء، قال: وسألت أبي عن العلاء وسهيل؟ فقال: العلاء فوق سهيل، وكذا قال حرب عن أحمد، وزاد: وفوق محمد بن عمرو. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس حديثه بحجة، وهو وسهيل قريب من السواء.
(1)
راجع: "الصيانة" ص 166 - 169.
وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس بذاك، لم يزل الناس يتوقون حديثه. وقال أبو زرعة: ليس هو بأقوى ما يكون. وقال أبو حاتم: صالح، رَوَى عنه الثقات، ولكنه أُنكر من حديثه أشياء، وهو عندي أشبه من العلاء بن المسيب، وقال النسائيّ: ليس به بأس.
وقال ابن عديّ: وللعلاء نُسَخٌ يرويها عنه الثقات، وما أَرَى به بأسًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو داود: سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان - يعني حديث:"إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" - وقال عثمان الدارميّ: سألت ابن معين عن العلاء وابنه، كيف حديثهما؟ قال: ليس به بأس، قلت: هو أحب إليك، أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف - يعني بالنسبة إليه، يعني كأنه لَمّا قال: أوثق خشي أن يُظَنّ أنه يشاركه في هذه الصفة، فقال: إنه ضعيف. وقال الخليليّ: مدني مختلف فيه؛ لأنه ينفرد بأحاديث لا يتابع عليها، كحديثه:"إذا كان النصف من شعبان، فلا تصوموا"، وقد أخرج له مسلم من حديث المشاهير، دون الشواذّ، وقال الترمذيّ: هو ثقة عند أهل الحديث.
وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: صحيفةُ العلاء بالمدينة مشهورة، كان ثقةً، كثير الحديث، ثَبْتًا، وتُوُفيَ في أول خلافة أبي جعفر، وقال البخاريّ: قال عليّ: مات سنة (32)، وقال ابن الأثير: مات سنة (39).
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (70) حديثًا.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ، المدني مولى الْحُرَقة، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وابن عمر، وهانئ مولى عليّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه العلاء، وسالم أبو النضر، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن عَلْقَمة، وعُمَر بن حفص بن ذَكوان.
قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: هو أوثق، أو المسيب بن رافع؟ فقال: ما أقربهما. وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وذكره ابن المدينيّ مع الأعرج وغيره، من أصحاب أبي هريرة. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (67) حديثًا. والباقون تقدّموا قريبًا، ورَوْحٌ هو: ابن القاسم المذكور في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
وقوله: "أمرتُ أن أُقاتل الناس إلخ"، ووقع في بعض النسخ
(1)
: "أقاتل الناس إلخ" بحذف "أمرت أن".
وقوله: (وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبمَا جِئْتُ بِهِ)، قال النوويّ رحمه الله تعالى: فيه بيان ما اختُصِر في الروايات الَأُخَر، من الاقتصار على قوله:"لا إله إلا الله"، وقد تقدم بيان هذا، وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين، والجماهير من السلف والخلف، أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه، كَفَاه ذلك، وهو مؤمنٌ من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين، ومعرفة الله تعالى بها؛ خلافًا لمن أوجب ذلك، وجعله شرطًا في كونه من أهل القبلة، وزَعَمَ أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة، وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأٌ ظاهرٌ، فإن المراد التصديق الجازم، وقد حصل، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم، ولم يشترط المعرفة بالدليل، فقد تظاهرت بهذا أحاديث في "الصحيحين" يحصل بمجموعها التواتر بأصلها، والعلم القطعيّ، وقد تقدم ذكر هذه القاعدة في أول الإيمان. انتهى كلام النوويّ، وقد أجاد فيه وأفاد، وفنّد الرأي الباطل مما ابتدعه المتأخّرون من أهل الأهواء والعناد، والله تعالى وليّ الْهُدَى والرشاد.
وقوله: "عصموا منّي إلخ" أي منعوا، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقال:{يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43]، وقال:{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43]، وفسّر العصمة بعده في الحديث بقوله:"حرُم ماله ودمه"، واختصاص ذلك بمن قال:"لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة
(1)
راجع النسخة التي صححها محمد ذهني 1/ 39.
إلى الإيمان، وأن المراد به مشركو العرب، وأهل الأوثان، ممن لا يوحّد الله سبحانه وتعالى، وهم كانوا أوّل من دُعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيره ممن يوحّد الله، فلا يُكتفى في عصمته بقوله:"لا إله إلا الله"؛ إذ يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر:"وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"، وقد تقدّم تمام شرح الحديث قريبًا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(مسألة):
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا فقط
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[135]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
…
" بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(ح) وحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ
…
(ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ - يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ - قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِله إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ" ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21 - 22].
رجال هذا الإسناد:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) المذكور قبل باب.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بن حسّان الْعَنْبَرِيّ مولاهم، أبو سعيد
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 10/ 17 و 29.
البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ، عارفٌ بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 392.
4 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بمعجمة مكسورة، وياء ومثلّثة ابن طَلْق بن معاوية بن مالك بن الحارث بن ثعلبة النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ قاضيها، وقاضي بغداد أيضًا، ثقة فقيهٌ تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8].
رَوَى عن جده، وإسماعيل بن أبي خالد، وأشعث الْحُدّاني، وأبي مالك الأشجعيّ، وسليمان التيميّ، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، ومصعب بن سُليم، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عروة، والأعمش، والثوري، وجعفر الصادق، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وعلي، وابنا أبي شيبة، وابن معين، وأبو نعيم، وأبو داود الْحَفريّ، وأبو خيثمة، وعفان، وأبو موسى، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وعمرو بن محمد الناقد، وأبو كريب، وابنه عمر بن حفص بن غياث، والحسن بن عرفة، وجماعة، ورَوَى عنه يحيى القطان، وهو من أقرانه.
قال ابن كامل: ولاه الرشيد قضاء الشرقية ببغداد، ثم عزله، وولاه قضاء الكوفة، وقال إسحاق بن منصور وغيره، عن ابن معين: ثقة. وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: صاحب حديث، له معرفة. وقال العجليّ: ثقة مأمون فقيه، كان وكيع ربما سئل عن الشيء، فيقول: اذهبوا إلى قاضينا فسلوه. وقال يعقوب: ثقة ثبت، إذا حَدّث من كتابه، ويُتَّقَى بعضُ حفظه. وقال ابن خِرَاش: بلغني عن علي بن المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أوثق أصحاب الأعمش حفص بن غياث، فأنكرتُ ذلك، ثم قَدِمت الكوفة بأخرة، فأخرج إليّ عُمَر بن حفص كتاب أبيه، عن الأعمش، فجعلت أترحَّم على يحيى. وحَكَى صاعقة، عن علي بن المديني شبيهًا بذلك، وقال ابن نُمير: كان حفص أعلم بالحديث من ابن إدريس. وقال أبو زرعة: ساء حفظه بعدما استُقْضِي، فمن كَتَب عنه من كتابه، فهو صالح، وإلا فهو كذا. وقال أبو حاتم: حفص أتقن، وأحفظ من أبي خالد الأحمر. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: حفص أثبت من عبد الواحد بن زياد، وقال النسائيّ، وابن خِرَاش: ثقة. وقال ابن معين: جميعُ ما حدث به ببغداد من حفظه. وقال
الآجريّ عن أبي داود: كان ابن مهديّ: لا يُقَدِّم بعد الكبار من أصحاب الأعمش غير حفص بن غياث، وقال داود بن رُشيد: حفص كثير الغلط. وقال ابن عمار: كان لا يحفظ حَسَنًا وكان عَسِرًا. وقال الحسن بن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة: سمعت حفص بن غياث يقول: والله ما وَلِيتُ القضاء حتى حَلَّت لي الميتة، وكذا قال سَجّادة عنه، وزاد: ولم يَخلُف درهمًا يوم مات، وخَلَّف عليه الدين، وكان يقال: خُتِم القضاء بحفص، وقال يحيى بن الليث بعد أن ساق قصةً من عدله في قضائه: كان أبو يوسف لمّا وُلِّي حفص، قال لأصحابه: تعالوا نَكتُب نوادر حفص، فلما وَرَدت قضاياه عليه، قال له أصحابه أين النوادر؟ فقال: ويحكم إن حفصًا أراد الله فوفّقَه.
وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أن حفصًا كان يُدلّس. وقال العجليّ: ثبت فقيه البدن.
وقال أبو جعفر محمد بن الحسين البغداديّ: قلت لأبي عبد الله: من أثبتُ عندك شعبة، أو حفص بن غياث؟ يعني في جعفر بن محمد، فقال: ما منهما إلا ثَبْتٌ، وحفص أكثر روايةً، والقليل من شعبة كثير. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا كثير الحديث، يُدَلِّس. وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: كان حفص بأخرة دخله نسيان، وكان يحفظ، ومما أُنكر على حفص حديثه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"كنّا نأكل ونحن نمشي"، قال ابن معين: تَفَرَّدَ، وما أراه إلا وَهِمَ فيه. وقال أحمد: ما أدري ماذا؟ كالمنكر له. وقال أبو زرعة: رواه حفص وحده. وقال ابن المدينيّ: انفرد حفص نَفْسُهُ بروايته، وإنما هو حديث أبي الْبَزَريّ، وكذا حديثه عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رفعه: "من أقال مسلمًا عَثْرَته
…
" الحديث، قال ابن معين: تفرد به عن الأعمش، وقال صالح بن محمد: حفص لَمّا ولي القضاء جفا كُتُبَهُ، وليس هذا الحديث في كتبه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ليس هذا الحديث في كتبه، قال ابن عديّ: وقد رواه عن حفص يحيى بن معين، وزكرياء بن عديّ، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول - في حديث حفص عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا: "خَمِّروا وجوه موتاكم
…
" الحديث -: هذا خطأ، وأنكره، وقال: قد حدثناه حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، مرسلًا.
قال هارون بن حاتم: سئل حفص، وأنا أسمع عن مولده؟ فقال: وُلدتُ سنة (117)، قال: ومات سنة (194)، وكذا قال جماعة، وقال سَلْمُ بن جُنَادة: مات سنة (195)، وقال الفلاس، وأبو موسى: سنة (196)، والأول أصحّ، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في عشر ذي الحجة سنة خمس أو ست وتسعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (69) حديثًا.
[تنبيه]: في الرواة من يُسمّى حفص بن غياث، اثنان: أحدهما هذا، والثاني حفص بن غياث، شيخ يروي عن ميمون بن مهران، مجهول، من الطبقة الثامنة، ليس له في الكتب الستة شيء، وإنما يُذكر في كتب الرجال للتمييز، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
5 -
(وكيع) بن الجرّاح المذكور في الباب الماضي.
6 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه العابد، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدّم في 1/ 1.
7 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ ورعٌ، يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 302.
8 -
(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ، الإسكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) 4/ 115.
9 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) 1/ 4.
10 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) 4/ 118.
11 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ وابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة 4/ 115.
12 -
(أَبُو هريرة) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.
وقوله: (وعن أبي صالح) عطف في قوله: "عن أبي سفيان"، فالأعمش يَرْوِي هذا الحديث عن شيخين بإسنادين: عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه، وعن
أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكلاهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث.
وقوله: (بمثل حديث ابن المسيّب عن أبي هريرة رضي الله عنه)، يعني أن حديث أبي سفيان عن جابر، وأبي صالح عن أبي هريرة بمثل سياق حديث سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة الماضي قبل حديث.
[تنبيه]: حديث أبي سفيان الذي أحاله المصنف هنا ساقه الحافظ أبو نعيم في "مُستخرجه"، فقال: حدَّثنا عبد الله بن يحيى الطاحيّ، ثنا عُبيد بن غنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص، وحدّثنا محمد بن عليّ بن حبيش، ثنا القاسم بن زكريّا، ثنا أبو كُريب، ثنا حفص بن غياث، وأبو معاوية، وحدّثنا جعفر بن محمد بن عمرو، ثنا أبو حصين الوادعيّ، ثنا يحيى الحمّانيّ، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - لفظ القاسم - وقال حفص عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله"
(1)
.
وساقه أيضًا الحافظ ابن منده في "كتاب الإيمان"، فقال:
أنبأنا محمد بن عمرو البختريّ الرَّزَّاز، ثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، ثنا يعلى بن عُبيد، أنبأنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وعن أبي صالح، عن أبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله عز وجل
(2)
.
وقوله: (ثم قرأ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21 - 22] الظاهر أن القارئ هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من جملة المرفوع.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21 - 22]: أي فذكّر يا محمد الناسَ بما أرسلت به إليهم، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، ولهذا قال:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22]. انتهى
(3)
.
(1)
"المسند المستخرج"1/ 116.
(2)
"كتاب الإيمان" لابن منده 1/ 168.
(3)
"تفسير ابن كثير" ص 1417.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قال المفسرون: معناه: إنما أنت واعظ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم أُمر إذ ذاك إلا بالتذكير، ثم أُمر بعدُ بالقتال، و"المسيطر": الْمُسَلَّط، وقيل: الجبار، وقيل الربّ. انتهى
(1)
.
وقال السمين الحلبيّ رحمه الله تعالى: قوله: {بِمُصَيْطِرٍ} العامّة على الصاد، وقُنبلٌ في بعض طرقه، وهشام بالسين، وخَلَفٌ بإشمام الصاد زايًا بلا خلاف، وعن خلّاد وجهان، وقرأ هارون "بمسيطر" بفتح الطاء، اسم مفعول؛ لأن سيطر عندهم متعدّ، يدلّ على ذلك فعل مطاوعه، وهو تسيطر، ولم يجئ اسم فاعل على مُفَيعل إلا مُسيطر، ومُبيقِرٌ، ومُهيمِنٌ، ومُبيطِرٌ، من سيطر، وبيقر، وهيمن، وبيطر، وقد جاء مُجَيمرٌ اسم وادٍ، ومُديبِرٌ، قيل: ويمكن أن يكون أصلهما مُجمِر، ومُدبر، فصُغِّرا، قلت: وقد تقدّم لك أن بعضهم جوّز مهيمنًا مصغّرًا، وتقدّم أنه خطأٌ عظيم، وذلك في سورة المائدة، وغيرها. انتهى كلام السمين
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "تفسيره": قوله تعالى: {فَذَكِّرْ} ، أي فعظهم يا محمد، وخَوِّفهم {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] أي واعظ {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22] أي بمسلط عليهم، فتقتلهم، ثم نسختها آية السيف، وقرأ هارون الأعور "بمسيطَر" بفتح الطاء. انتهى
(3)
.
وفي "اللسان": "المسيطر"، و"المصيطر": الْمُسَلَّط على الشيء؛ ليُشرِف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السَّطْر؛ لأن الكتاب مُسَطَّرٌ، والذي يفعله مُسَطِّرٌ، ومُسَيْطِرٌ، يقال: سيطرتَ علينا، وقال تعالى:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22]، أي مسلّط، يقال: سيطر يُسيطر، وتسيطر يتسيطر، فهو مُسيْطِرٌ، ومُتسيطِرٌ، وقد تُقلب السين صادًا؛ لأجل الطاء، وقال الزجّاج: المسطرون: الأرباب المسلَّطون، يقال: قد تسيطر علينا، وتَصَيْطَرَ، بالسين والصاد، والأصل السين، وكلُّ سين بعدها طاء يجوز أن تُقلب صادًا، يقال: سَطَرَ
(1)
"شرح مسلم" 1/ 211.
(2)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 10/ 771.
(3)
"تفسير القرطبيّ"20/ 37.
وصَطَرَ، وسطا عليه وصطا، وسَطَرَهُ: أي صرعه. انتهى
(1)
. والله تعالى بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث جابر رضي الله عنه هذا انفرد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية):
في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا 8/ 135 عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع - وعن محمد بن المثنّى، عن عبد الرحمن بن مهديّ - كلاهما عن سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير، عنه.
وأخرجه (الترمذيّ) في "التفسير"(3341) عن محمد بن بشّار، عن ابن مهديّ به، وقال: حسنٌ صحيح.
و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(11670) عن عمرو بن منصور، عن أبي نعيم، عن الثوريّ به.
وأخرجه (أحمد) 3/ 300 من طريق الثوريّ - 3/ 295 ومن طريق ابن جريج - كلاهما عن أبي الزبير به و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(119)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[136]
(22) - (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِد، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاح، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ").
(1)
"لسان العرب" 4/ 364.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسمَعِيُّ، مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ) البصريُّ، ثقة [10].
رَوَى عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد الوهاب الثقفيّ، ومعتمر بن سليمان، وابن أبي عديّ، وبشر بن المفضل، وعبد العزيز بن عبد الصمد العميّ، وعبد الملك بن الصبّاح، ومعاذ بن معاذ، ومعاذ بن هشام، ويزيد بن هارون وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو قلابة الرَّقَاشيّ، ومعاذ بن المثنى، ومحمد بن يونس الْكُدَيميّ، وغيرهم.
قال ابن حبان في "الثقات": يُغرِبُ، مات سنة ثلاثين ومائتين، وفيها أَرّخه ابن قانع، وقال: ثقةٌ ثبتٌ.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.
[تنبيه]: "الْمِسْمَعِيّ": - بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الميم -: مَحِلّة بالبصرة، نزلها الْمِسْمَعون، فنُسبت إليهم
(1)
، وأفاد في "القاموس" أن "مِسْمَعًا" كمِنْبَرٍ: جمعه مَسَامِع: أبو قبيلة، وهم الْمَسَامِعَةُ. انتهى باختصار
(2)
.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْن الصَّبَّاحِ) الْمِسْمَعِيُّ، أبو محمد الصَّنْعَانيّ، ثم البصريّ، صدوقٌ [9].
رَوَى عن أبيه، وابن عون، والأوزاعيّ، وهشام بن حَسّان، وعبد الحميد بن جعفر، وعمران بن حُدَير، وشعبة، والثوريّ، وثور بن يزيد، الحمصيّ، وغيرهم.
وروَى عنه إسحاق بن راهويه، وبندار، وأبو موسى، وأبو غَسّان المسمعيّ، ونُصير بن الفَرَج، ويحيى بن حكيم الْمُقَوّم، وعبد الرحمن بن عمر، رُسته، والذُّهْليّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صالح، وقال ابن قانع: ثقة، وذكره ابن حبان في
(1)
"الأنساب" 5/ 297 و"اللباب" 3/ 212 و"معجم البلدان" 5/ 123.
(2)
"القاموس المحيط" ص 657.
"الثقات"، وقال: مات سنة تسع وتسعين ومائة في ذي القعدة، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة مائتين، وقال الخليليّ: عبد الملك بن الصبَّاح، عن مالك مُتَّهَمٌ بسرقة الحديث، قال الحافظ: كذا قال، ولم أر في الرواة عن مالك للخطيب، ولا للدارقطني أحدًا يقال له: عبد الملك بن الصبَّاح، فإن كان محفوظًا، فهو غيرُ الْمِسْمَعِيِّ. انتهى
(1)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (22) و (904) و (2719) و (533).
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الناقد الجِهْبِذُ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 385.
4 -
(وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب الْعَدَوِيُّ المدنيّ، ثقة [6].
رَوَى عن أبيه، وسعيد بن مُرْجانة، وابن أبي مليكة، وصفوان بن سُليم، ونافع مولى ابن عمر، وابن المنكدر.
وروى عنه أخوه عاصم، وابنه عثمان بن واقد، وشعبة.
قال أحمد، وأبو داود، وابن معين: ثقة، وقال ابن معين مرة أخرى: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: لا بأس به، ثقةٌ يُحتج بحديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات".
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (22) و (65) و (66) و (1509) و (2060).
5 -
(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدّم في 5/ 121.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (ت 73)(ع) 1/ 101.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 614 - 615.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى عبد الملك بن الصبّاح، فما أخرج له أبو داود، والترمذيّ، وواقد بن محمد، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
[تنبيه]: لا يوجد في الكتب الستّة من يُسمّى مالك بن عبد الواحد، ولا عبد الملك بن الصباح غير المذكورين في هذا السند.
3 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى واقدًا في الكتب الستّة سبعة، منهم في "الصحيحين" اثنان: أحدهما: واقد بن محمد هذا، والثاني: واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاريّ، له عند المصنّف حديث واحد فقط، وهو حديث عليّ رضي الله عنه في قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم للجنازة، والباقون في "السنن".
[تنبيه]: قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: في "صيانة صحيح مسلم": واقد بن محمد الْعُمَريّ - بالقاف - وليس في "الصحيحين" وافد بالفاء أصلًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل ولا يوجد في الرواة، لا في الكتب الستة، ولا في غيرها من يسمّى وافدًا بالفاء أصلًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن واقد بن محمد روى عن أبيه عن جد أبيه، ورواية الأبناء عن الآباء كثيرة، لكن رواية الشخص عن أبيه، عن جدّه قليلة، وهي عن جدّ أبيه أقلّ.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ) أي أمرني الله تعالى؛ لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أُمِرتُ فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعيّ: احتمل.
والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك، فُهِمَ منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس.
(أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ) أي بأن أُقاتل، فحذف منه حرف الجر، وهو في مثله قياس، كما قال في "الخلاصة":
وَعَدَّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" و"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ "كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"
(حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) جُعِلت غاية المقاتلة وجودَ ما ذُكِر، فمقتضاه أن مَن شَهِدَ، وأقام، وآتى، عَصَمَ دمه، ولو جحد باقي الأحكام.
والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أنّ نص الحديث، وهو قوله:"إلا بحق الإسلام" يدخل فيه جميع ذلك.
[فإن قيل]: فَلِمَ لم يَكْتَفِ به؟ ونَصَّ على الصلاة والزكاة.
[فالجواب]: أن ذلك لعظمهما، والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أُمّا العبادات البدنية والمالية.
(وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوق: إذا نَفَقَت، وقامت الحرب: إذا اشتدّ القتال، أو المراد بالقيام الأداء؛ تعبيرًا عن الكل بالجزء؛ إذ القيام بعض أركانها، والمراد بالصلاة المفروض منها، لا جنسَها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلًا، وإن صَدَقَ اسم الصلاة عليها.
(وُيؤْتُوا الزَّكَاةَ) أي يُعْطوها لمستحقيها (فَإِذَا فَعَلُوا) وفي رواية البخاريّ: "فإذا فَعَلوا ذلك"، وذكر اسم الإشارة باعتبار المذكور، أي فعلوا ما ذُكر من الشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وفيه التعبير بالفعل عما بعضُه قولٌ، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم؛ إذ القولُ فعلُ اللسان. انتهى
(1)
، وقوله:(عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) جواب "إذا"، أي حفظوا، وحَقَنُوا، ومعنى العصمة في اللغة: المنع، ومنه العصام، وهو الخيط الذي تُشدّ به فم القربة، حيث يمنع الماء من السيلان (إِلَّا بِحَقِّهَا) أي بحقّ الدماء، والأموال، وللبخاريّ:"إلَّا بحقّ الإسلام"، وهو بمعناه، والاستثناء مفرّغ،
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 97 و "عمدة القاري" 1/ 180.
والعصمة متضمّنة لمعنى النفي؛ فلذا صحّ التفريغ؛ إذ هو شرطه، أي لا يجوز إهدار دمائهم وأموالهم بسبب من الأسباب إلا بحقّها، والإضافة في "بحقّها" بمعنى اللام، ويجوز أن تكون بمعنى:"من"، وبمعنى "في".
[فائدة]: الاستثناء المفرغ لا يكون إلا في النفي، وجوّزه ابن مالك في كلّ موجب في النفي، نحو صمت إلا يوم الجمعة؛ إذ معناه لم أفطر، والتفريغ إما في نهي صّريح، كقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]، أو ما في معناه، كالشرط في قوله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال: 16]، وإما في نفي صريح، كقوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144]، أو فيما معناه، كقوله تعالى:{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]
(1)
.
[تنبيه]: أراد بحقّ الدماء، ما بيّنه في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، متّفقٌ عليه،
وبحقِّ الأموال الزكاة، ونحوها من الحقوق المتعلّقة بها.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: قوله: "إلا بحقها"، سيأتي أن أبا بكر رضي الله عنه أدخل في هذا الحقّ فعلَ الصلاة والزكاة، وأن من العلماء مَن أدخل فيه فعل الصيام والحج، أيضًا، ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات، وقد ورد تفسير حقها بذلك، أخرجه الطبرانيّ، وابن جرير الطبريّ، من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل، قيل: وما حقُّها؟ قال: "زِنًا بعد إحصان، وكُفْرٌ بعد إيمان، وقتلُ نفس، فيقتل بها"
(2)
.
ولعل آخره من قول أنس رضي الله عنه، وقد قيل: إن الصواب وقف الحديث كله عليه.
(1)
راجع "عمدة القاري" 1/ 180،
(2)
أورده الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 1/ 25 - 26 وقال: رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفيه عمرو بن هاشم البيروتيّ، والأكثر على توثيقه. انتهى.
ويشهد لهذا ما في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ") جملة من مبتدإ وخبر، أي محاسبة الناس بعد تمسّكهم بهذه الأشياء في أمور سرائرهم على الله سبحانه وتعالى.
وقال في "الفتح": قوله: "وحسابهم على الله"، أي في أمر سرائرهم، ولفظة "على" مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام، أو على سبيل التشبيه، أي هو كالواجب على الله في تحقيق الوقوع. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: قوله: "وحسابهم على الله عز وجل ": يعني أن الشهادتين مع إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، تَعْصِم دم صاحبهما وماله في الدنيا، إلا أن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقًا أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبًا فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وقد تقدم أن في بعض الروايات في "صحيح مسلم" ثم تلا:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} الآية [الغاشية: 21 - 22].
والمعنى إنما عليك أن تُذَكِّرهم بالله، وتدعوهم إليه، ولست مُسَلَّطًا على إدخال الإيمان في قلوبهم قهرًا، ولا مكلفًا بذلك، ثم أخبر أن مرجع العباد كلهم إليه، وحسابهم عليه.
وفي "مسند البزار" عن عياض الأنصاريّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لا إله إلا الله، كلمةٌ على الله كريمةٌ، لها عند الله مكان، وهى كلمةٌ مَن قالها صادقًا أدخله الله بها الجنة، ومن قالها كاذبًا حَقَنَت ماله ودمه، ولقي الله غدًا، فحاسبه".
وقد استَدَلَّ بهذا من يَرَى قبول توبة الزنديق، وهو المنافق، إذا أظهر
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 235 - 236.
(2)
"الفتح" 1/ 97.
الْعَوْد إلى الإسلام، ولم يَرَ قتله بمجرد ظهور نفاقه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين، ويجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن، وهذا قول الشافعيّ، وأحمد في رواية عنه، وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية):
في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[136](22) عن أبي غسّان مالك بن عبد الواحد، عن عبد الملك بن الصبّاح، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد، عن أبيه، عنه.
و (البخاريّ) في "الإيمان"(25) عن عبد الله بن محمد الْمُسْنَدِيّ، عن حرميّ بن عُمارة، عن شعبة، به.
وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" 1/ 117 (120 و 121)، و (ابن منده) في "الإيمان"(25) و (البيهقيّ) في "الكبرى" 3/ 367 و 8/ 177 و (البغويّ) في "شرح السنة"(33) و (ابن حبان) في "صحيحه"(175) و (219)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة):
(اعلم): أن هذا الحديث غريب الإسناد، تفرد بروايته شعبة، عن واقد بن محمد، قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيزٌ، تفرّد بروايته عنه عبد الملك بن الصبّاح عند المصنّف، وحَرَمِيّ بن عُمارة عند البخاريّ، وهو عزيز عن حرميّ، تفرّد به عنه الْمُسْنَديّ، وإبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَة، ومن جهة إبراهيم أخرجه
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 236 - 237.
أبو عوانة، وابن حبان، والإسماعيليّ، وغيرهم، وهو غريب عن عبد الملك، تفرّد به عنه أبو غسان شيخ المصنّف، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو في "مسند أحمد" على سعته.
وقد استَبْعَد قوم صحته بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لَمَا تَرَكَ أباه يُنازع أبا بكر رضي الله عنهم في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه، لَمَا كان أبو بكر يُقِرُّ عمر على الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، وينتقل عن الاستدلال بهذا النّصّ إلى القياس؛ إذ قال: لأُقاتلنّ مَن فَرَّق بين الصلاة والزكاة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله.
[والجواب]: أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مُستَحضِرًا له، فقد يَحتَمِل أن لا يكون حَضَرَ المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذَكَرَهُ لهما بَعْدُ، ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضًا من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه:"إلا بحق الإسلام"، قال أبو بكر: والزكاةُ حقُّ الإسلام.
ولم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور، بل رواه أبو هريرة أيضًا بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سبق بيانه في الأحاديث السابقة.
وفي القصة دليلٌ على أن السنة قد تَخْفَى على بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ويَطَّلِعُ عليها آحادهم، ولهذا لا يجوز أن يُلْتَفَتَ إلى الآراء، ولو قَوِيت مع وجود سنة تخالفها، ولا يجوز أن يقال: كيف خَفِي ذا على فلان الإمام؛ إذ لا يكون أعلم، وأرفع رتبة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد خفي عليهما ما حفظه صغار الصحابة رضي الله عنهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة الرابعة):
في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه دليلًا على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافًا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم تفنيد ذلك بما فيه الكفاية، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
2 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.
3 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن حبّان رحمه الله تعالى: فيه بيانٌ واضحٌ بأن الإيمان أجزاءٌ وشُعَبٌ تتباين أحوال المخاطبين فيها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ في هذا الخبر: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"، فهذا هو الإشارة إلى الشعبة التي هي فَرْضٌ على المخاطبين في جميع الأحوال، ثم قال:"ويقيموا الصلاة"، فذكر الشيء الذي هو فرض على المخاطبين في بعض الأحوال، ثم قال:"ويؤتوا الزكاة"، فذكر الشيء الذي هو فرض على المخاطبين في بعض الأحوال، فدل ذلك على أن كل شيء من الطاعات التي تشبه الأشياء الثلاثة التي ذكرها في هذا الخبر من الإيمان. انتهى كلامه
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله النووي: في هذا الحديث أنّ من ترك الصلاة عمدًا يُقْتَلُ، ثم ذكر اختلاف المذاهب في ذلك.
وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب بأن حكمهما واحد؛ لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا، والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرًا، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال؛ ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، ولم يُنقَل أنه قَتَلَ أحدًا منهم صبرًا، وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظرٌ، للفرق بين صيغة "أُقاتِل"، و"أَقتُل".
وقد أطنب ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" في الإنكار على من استَدَلَّ بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل؛ لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل، وحَكَى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، فقد يَحِلّ قتال الرجل ولا يحل قتله. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 1/ 401 - 402.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 96.
(المسألة الخامسة):
في دفع الاستشكال الوارد على هذا الحديث، وذلك أنّ مقتضاه قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف تُرِكَ قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟
[فالجواب]: من أوجه:
[أحدها]: دعوى النسخ، بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرًا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
[ثانيها]: أن يكون من العام الذي خُصّ منه البعض؛ لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم.
[ثالثها]: أن يكون من العام الذي أريد به الخاصّ، فيكون المراد بالناس في قوله:"أقاتل الناس": أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائيّ بلفظ:"أُمرت أن أقاتل المشركين".
(فإن قيل): إذا تَمَّ هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن مَنَعَ الجزية.
(أجيب): بأن الممتنع في ترك المقاتلة رَفْعُها، لا تأخيرها مدةً، كما في الهدنة، ومقاتلةِ من امتنع من أداء الجزية، بدليل الآية.
[رابعها]: أن يكون المراد بما ذُكِرَ من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله، وإذعان المخالفين، فيحصل في بعضٍ بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة.
[خامسها]: أن يكون المراد بالقتال هو أو ما يقوم مقامه، من جزية، أو غيرها.
[سادسها]: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسببُ السبب سببٌ، فكأنه قال: حتى يُسلِموا، أو يلتزموا ما يُؤَدِّيهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتي فيه ما في الثالث، وهو آخر الأجوبة، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أقربُ الأجوبة عندي هو الثالث، فكأنه
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 97.
قال: "أمرت أن أقاتل جميع الناس، إلا الذين أخرجتهم الأدلة من وجوب مقاتلتهم، ممن كان من أهل الجزية، أو نحوها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة):
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: وقد رُوي عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان هذا في أول الإسلام قبل فَرْض الصلاة، والصيام، والزكاة والهجرة، وهذا ضعيف جدًّا، وفي صحته عن سفيان نظرٌ؛ فإن رواة هذه الأحاديث، إنما صحِبُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبعضهم تأخر إسلامه، ثم قوله:"عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم" يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورًا بالقتال، ويَقتُل من أبي الإسلام، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة، ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل مِن كل مَن جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويَعْصِم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا، فقد أنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنهما قتله لمن قال:"لا إله إلا الله" لَمّا رَفَع عليه السيف، واشتد نكيره عليه.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد رُوي أنه قَبِلَ مِن قومٍ الإسلامَ، واشترطوا أن لا يُزَكُّوا، ففي "مسند الإمام أحمد" عن جبار رضي الله عنه قال: اشتَرَطَت ثقيفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم، ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سيتصدقون، ويجاهدون"
(1)
.
وفيه أيضًا: عن نصر بن عاصم الليثيّ، عن رجل منهم، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن لا يُصَلِّي إلا صلاتين، فقبل منه
(2)
.
وأخذ الإمام أحمد رحمه الله تعالى بهذه الأحاديث، وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يُلْزَم بشرائع الإسلام كلها، واستَدَلَّ أيضًا بأن
(1)
رواه أحمد 3/ 341 وفي سنده ابن لَهِيعة، وفيه كلام مشهور.
(2)
رواه أحمد 3/ 402 والطيالسيّ (1360) والنسائيّ 2/ 205 والطحاويّ في "شرح مشكل الآثار" برقم (204)، وإسناده صحيح.
حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أَخِرَّ إلا قائمًا
(1)
، قال أحمد: معناه أن يَسْجُد من غير ركوع.
وخَرَّج محمد بن نصر المروزي بإسناد ضعيف جدًّا عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يَقبَلُ مَنْ أجابه إلى الإسلام، إلا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكانتا فريضتين على مَن أَقَرَّ بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، وذلك قول الله عز وجل:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13]، وهذا لا يثبت
(2)
وعلى تقدير ثبوته، فالمراد منه أنه لم يكن يُقِرُّ أحدًا دخل في الإسلام على ترك الصلاة والزكاة، وهذا حقٌّ، فإنه صلى الله عليه وسلم أَمَر معاذًا رضي الله عنه لَمّا بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أوّلًا إلى الشهادتين، وقال: إن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم بالصلاة، ثم بالزكاة، ومراده أنّ من صار مسلمًا بدخوله في الإسلام أُمر بعد ذلك بإقام الصلاة، ثم بإيتاء الزكاة، وكان مَن سأله عن الإسلام يَذْكُر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام، كما قال لجبريل عليه السلام لَمّا سأله عن الإسلام، وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائرَ الرأس، يسأله عن الإسلام.
وبهذا الذي قررناه يَظهَر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب، ويتبين أن كلها حَقٌّ، فإن كلمتي الشهادتين بمجردها تَعْصِم مَنْ أتى بهما، ويصير بذلك مسلمًا، فإذا دخل في الإسلام، فإن أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وقام بشرائع الإسلام، فله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، وإن أَخَلَّ بشيء من هذه الأركان، فإن كانوا جماعةً لهم مَنَعَةٌ قوتلوا.
وقد ظَنَّ بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يُقاتَل حتى يأتي بالشهادتين، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، وجعلوا ذلك حجةً على خطاب الكفار بالفروع، وفي هذا نظرٌ، وسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تدل على خلاف هذا، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليًّا يوم خيبر، فأعطاه
(1)
رواه أحمد 3/ 25 و 363، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
رواه ابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 95 وفي سنده عروة بن مروان العرقيّ الرقيّ، قال الدارقطنيّ: كان أميًّا ليس بالقويّ، وأبو العوّام، عمران بن داور القطان صاحب أوهام.
الراية، وقال:"امش، ولا تَلْتَفِت حتى يفتح الله عليك"، فسار عليّ شيئًا، ثم وَقَفَ، فَصَرَخَ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ فقال: "قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصَمُوا منك دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل"
(1)
.
فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمةً للنفوس والأموال، إلا بحقها، ومن حقّها عدم الامتناع عن الصلاة والزكاة، بعد الدخول في الإسلام، كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم.
ومما يدل على قتال الجماعة الممتنعين من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة من القرآن، قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} الآية [التوبة: 5]، وقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} الآية [التوبة: 11]، وقوله:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، مع قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قومًا لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِح، فإن سمع أذانًا، وإلا أغار عليهم
(2)
.
مع احتمال أن يكونوا قد دخلوا في الإسلام، وكان يوصي سراياه:"إن سمعتم مؤذنًا، أو رأيتم مسجدًا، فلا تقتلوا أحدًا"
(3)
.
وقد بَعَثَ عيينة بن حِصْن إلى قوم من بني الْعَنْبر، فأغار عليهم، ولم يَسمَع أذانًا، ثم ادَّعَوا أنهم قد أسلموا قبل ذلك.
وبَعَثَ صلى الله عليه وسلم إلى أهل عُمَان كتابًا فيه: "من محمد النبي إلى أهل عُمَان، سلام عليكم، أما بعدُ فأقرُّوا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأَدُّوا الزكاة، وخُطُّوا المساجد، وإلا غَزَوْتكم". خَرَّجه البزّار، والطبرانيّ، وغيرهما
(4)
.
(1)
رواه مسلم (2406).
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 3/ 159، والبخاريّ في "صحيحه"(610).
(3)
رواه أحمد 4/ 226 وأبو داود (2635) والترمذيّ (1549) وحسّنه، ولكن في سنده ابن عصام المزنيّ، قال ابن المدينيّ: لا يُعرف.
(4)
قال الهيثمي في "المجمع" 3/ 64 بعد أن عزاه إلى البزار: وهو مرسل، وفيه من لا يعرف.
فهذا كله يدلّ على أنه كان يَعتبِر حالَ الداخلين في الإسلام، فإن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وإلا لم يمتنع عن قتالهم، وفي هذا وقع تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنه، كما في قصّتهما السابقة.
فأبو بكر رضي الله عنه أَخَذَ قتالهم من قوله: "إلا بحقه"، فدَلّ على أن قتالَ مَن أتى بالشهادتين جائز، ومن حقه أداءُ حقّ المال الواجب، وعمر رضي الله عنه ظَنّ أن مجرد الإتيان بالشهادتين يَعْصِم الدم في الدنيا؛ تَمَسُّكًا بعموم أول الحديث، كما ظَنّ طائفة من الناس أنّ مَن أتى بالشهادتين امتنع من دخول النار في الآخرة؛ تَمَسُّكًا بعموم ألفاظٍ وَرَدت، وليس الأمر على ذلك، ثم إن عمر رضي الله عنه رَجَعَ إلى موافقة أبي بكر رضي الله عنه.
وقد خَرَّج النسائي قصة تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بزيادةٍ، وهي أن أبا بكر قال لعمر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"، وخَرَّجه ابن خزيمة في "صحيحه"، ولكن هذه الرواية خطأ أخطأ فيها عمران القطان إسنادًا ومتنًا، قاله الأئمة الحفاظ، منهم علي بن المدينيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذيّ، والنسائيّ، ولم يكن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر.
وإنما قال أبو بكر: "والله لأقاتلنّ من فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقّ المال"، وهذا أخذه والله أعلم من قوله في الحديث:"إلا بحقها"، وفي رواية:"إلا بحق الإسلام"، فجَعَلَ من حق الإسلام إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كما أن من حقه أن لا تُرتَكَب الحدود، وجعل كل ذلك مما استثني بقوله:"إلا بحقها".
وقوله: لأقاتلن مَن فَرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقّ المال"، يدلّ على أن من ترك الصلاة، فإنه يُقاتَل؛ لأنها حق البدن، فكذلك من ترك الزكاة التي هي حق المال.
وفي هذا إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مُجْمَعٌ عليه؛ لأنه جعله أصلًا مقيسًا عليه، وليس هو مذكورًا في الحديث الذي احْتَجَّ به عمر رضي الله عنه، وإنما أُخِذ من قوله:"إلا بحقها"، فكذلك الزكاة؛ لأنها من حقها، وكلُّ ذلك من حقوق الإسلام.
ويُسْتَدَلُّ أيضًا على القتال على ترك الصلاة بما في "صحيح مسلم" عن أم سلمة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يُستَعمَل عليكم أمراءُ، فتَعْرِفون وتُنكرِون، فمَن أنكر فقد بَرِئ، ومن كَرِهَ فقد سَلِمَ، ولكن مَن رَضِيَ وتابع"، فقالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال:"لا، ما صَلَّوْا"
(1)
.
وحُكْمُ مَن تَرَك سائر أركان الإسلام أن يُقاتَلُوا عليها كما يُقاتَلُون على ترك الصلاة والزكاة.
ورَوَى ابنُ شهاب عن حنظلة بن علي بن الأسقع، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بَعَثَ خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمَن تَرَك واحدة من الخمس، فقاتلهم عليها، كما تُقاتل على الخمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان".
وقال سعيد بن جُبير: قال عمر بن الخطاب: لو أَنَّ الناس تركوا الحج لقاتلناهم عليه، كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة.
فهذا الكلام في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات، وأما قتل الواحد الممتنع عنها، فأكثر العلماء على أنه يُقتَل الممتنع عن الصلاة، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي عبيد، وغيرهم، ويدل على ذلك ما في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتل رجل، فقال:"لا، لعله أن يكون يصلي"، فقال خالد: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لم أُومَرْ أن أَنْقُبَ عن قلوب الناس، ولا أَشُقَّ بطونهم".
وفي "مسند الإمام أحمد رحمه الله" عن عبيد الله بن عَدِيّ بن الخيار: أن رجلًا من الأنصار حدثه، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ "، قال: بلى، ولا شهادة له، قال:"أليس يصلي؟ "، قال: بلى، ولا صلاة له، قال:"أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم"
(2)
.
(1)
رواه مسلم برقم (1854) وأبو داود (4760).
(2)
رواه أحمد 5/ 432 - 433 وإسناده على شرط الشيخين.
وأما قتل الممتنع عن أداء الزكاة، ففيه قولان لمن قال: يُقتَل الممتنع من فعل الصلاة:
[أحدهما]: يُقتَل أيضًا، وهو المشهور عن أحمد رحمه الله، ويُسْتَدَلُّ له بحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا.
[والثاني]: يُقتَل، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأحمد في رواية.
وأما الصوم، فقال مالك: وأحمد في رواية عنه: يُقْتَلُ بتركه، وقال الشافعيّ، وأحمد في رواية: لا يُقْتَل بذلك، ويُستَدَلُّ له بحديث ابن عمر وغيره، مما في معناه، فإنه ليس في شيء منها ذكر الصوم، ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب: الصوم لم يجئ فيه شيء.
قال ابن رجب: قلت: وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا وموقوفًا: أن من ترك الشهادتين، أو الصلاة، أو الصيام، فهو كافرٌ، حلال الدم، بخلاف الزكاة والحج، وقد سبق ذكر شرحه في حديث:"بُني الإسلام على خمس".
أما الحج فعن أحمد رحمه الله في القتل بتركه روايتان، وحَمَلَ بعض أصحابنا رواية قتله على من أخره عازمًا على تركه بالكلية، أو أخره، وغلب على ظنه الموت في عامه، وأما إن أخره معتقدًا أنه على التراخي، كما يقول كثير من العلماء، فلا قتل بذلك. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[137]
(23) - (وحَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ يَعْنِيَانِ الْفَزَارِيَّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ الله، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سَهْل الْهَرَويّ الأصل، ثم الْحَدَثَانيّ، ويقال له:
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 226 - 236.
الأنباريّ، أبو محمد، صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) 4/ 86.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ، قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) 4/ 31.
3 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حِصْن بن حُذيفة بن بَدْر، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، وهو ابن عمّ أبي إسحاق الفزاريّ، ثقة حافظٌ، وكان يُدلّس أسماء الشيوخ [8].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وحميد الطويل، وسليمان التيميّ، وعاصم الأحول، وأيمن بن نابل، وموسى الجهنيّ، وهاشم بن هاشم بن عتبة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي مالك الأشجعيّ، ويزيد بن كيسان، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وزكرياء بن عديّ، ويحيى بن معين، والحميديّ، وعلي بن المدينيّ، وداود بن رُشيد، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن محمد الْمُسْنَدِيُّ، وسُويد بن سعيد، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وغيرهم.
قال أبو بكر الأسدّي عن أحمد: ثبت حافظ، وقال أبو داود عن أحمد: ثقة ما كان أحفظه، وكان يحفظ حديثه. وقال ابن معين، ويعقوب بن شيبة، والنسائيّ: ثقة. وقال الدُّوريّ: سألت يحيى بن معين عن حديث مروان بن معاوية، عن علي بن أبي الوليد؟ قال: هذا علي بن غُرَاب، والله ما رأيت أحيل الناس للتدليس منه. وقال عبد الله بن علي بن المدينيّ، عن أبيه: ثقة فيما يَروِي عن المعروفين، وضعَّفه فيما يروي عن المجهولين. وقال علي بن الحسين بن الجنيد، عن ابن نُمَير: كان يلتقط الشيوخ من السِّكَك. وقال العجليّ: ثقة ثبت، ما حَدَّث عن المعروفين فصحيح، وما حَدَّثَ عن المجهولين ففيه ما فيه، وليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق، لا يُدفَع عن صدقه، ويكثر روايته عن الشيوخ المجهولين. وقال الآجريّ، عن أبي داود:
كان يقلب الأسماء. وقال ابن أبي خَيْثَمة، عن ابن معين: كان مروان يُغَيِّر الأسماء يُعَمِّي على الناس، كان يحدثنا عن الحكم بن أبي خالد، وإنما هو حَكَم بن ظُهَير. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وفي "الميزان": قال ابن معين: وجدتُ بخط مروان: وكيعٌ رافضيّ، فقلت له: وكيعٌ خير منك، فَسَبَّنِي، وقال الذهبيّ: كان عالِمًا، لكنه يَرْوي عمن دَبَّ ودَرَجَ، وكان فقيرًا ذا عيال، فكانوا يَبَرُّونه، يعني الذين يروي عنهم، كأنه يُجازيهم.
قال ابن المثنى، ودُحَيم: مات فَجْأَةً سنة ثلاث وتسعين ومائة، قبل التروية بيوم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.
4 -
(أَبُو مَالِكٍ) سَعْد بن طارق الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [4] مات في حدود (140)(خت م 4) 5/ 119.
5 -
(أبوه) طارق بن أَشْيم بالمعجمة، وزانُ أحمر ابن مسعود الأشجعيّ، صحابيّ، له أحاديث، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة، وعنه ابنه أبو مالك
(1)
.
وقال في "الإصابة": طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي والد أبي مالك، قال البغويّ: سكن الكوفة، قال مسلم: تفرد ابنه بالرواية عنه، وله عنده حديثان، قال الحافظ: وفي ابن ماجه أحدهما، وصَرَّح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "السنن" حديث آخر عن أبي مالك الأشجعيّ: قلت لأبي: يا أبت قد صليتَ الصبحَ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ ها هنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: يا بُنَيّ مُحْدَثٌ، وصححه الترمذيّ، وأغرب الخطيب، فقال في كتاب "القنوت": في صحبته نظر.
قال الحافِظُ: ما أدري أيُّ نظر فيه بعد هذا التصريح؟ ولعله رأى ما أخرجه ابن منده من طريق أبي الوليد، عن القاسم بن مَعْن، قال: سألت آل
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 232.
أبي مالك الأشجعيّ: أسمع أبوهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا، وهذا نَفْيٌ يُقَدَّم عليه مَن أثبت، ويَحْتَمِلُ أنه عَنَى بقوله: أبوهم أبا مالك، وهو كذلك، لا صحبة له، إنما الصحبة لابنه. انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال الجمامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله تعالى تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، وحاصله أن طارق بن أشيم رضي الله عنه صحابيّ دون شكّ؛ لصحة تصريحه بالسماع، فينبغي حمل قول القاسم على ولده أبي مالك، فإنه هو الذي لا صحبة له، وأما قول الخطيب: في صحبته نظر، فَمِمَّا لا يُلتفت إليه. والله تعالى أعلم.
روى البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث برقم (23) وحديث رقم (2697) وكرّره ثلاث مرّات. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): من رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، كالسند التالي، وهو أعلى ما وقع له من أعلى الأسانيد، كما سبق بيانه في "شرح المقدّمة".
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخيه، فالأول هرويّ، ثم حدثانيّ، نسبة إلى الحديثة، بلد على الفرات، مشهور
(2)
، والثاني عدنيّ، ثم مكيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له من الأحاديث إلا نحو ثمانية، راجع:"تحفة الأشراف" في ترجمة 4/ 205 - 206، و"إتحاف الْمَهَرَة بأطراف العشرة" 6/ 337 - 340.
أما شرح الحديث فواضحٌ، يُعلم مما سبق. والله تعالى أعلم.
(مسألة): حديث أبي مالك الأشجعيّ، عن أبيه هذا مما انفرد به المصنّف عن بقيّة أصحاب الكتب الستة، أخرجه هنا [8/ 137](138) عن سُويد بن نصر، ومحمد بن أبي عمر، كلاهما عن مروان بن معاوية
(1)
3/ 411 - 412.
(2)
راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 347 - 348.
الفزاريّ و 8/ 138 عن زُهير بن حرب، عن يزيد بن هارون و 8/ 138 عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر ثلاثتهم عن أبي مالك، عن أبيه.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده 3/ 472 و 6/ 394، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" 10/ 123، و 375/ 12، و (أبو نعيم) في "المستخرج" 1/ 117 - 118 (122 - 123)، والطبرانيّ في "الكبير" 8/ 819 وما بعده و (ابن منده)(34). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[138]
(
…
) (وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أُبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ. (ح) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيه، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ وَحَّدَ اللهَ
…
" ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قبل حديثين.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [8](ت 190)(ع) 5/ 119.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) 2/ 3.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السّلميّ، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) 4/ 45.
والباقيان تقدما في السند الماضي.
وقوله: "ثم ذكر بمثله"، أي ذكر كُلٌّ من أبي خالد الأحمر، ويزيد بن هارون بمثل حديث مروان الفزاريّ، وإنما أفرد الضمير باعتبار لفظ كليهما، فإنه مفرد اللفظ، مثنّى المعنى.
ويحتمل أن يكون الضمير لشيخيه على التأويل المذكور، وهذان الاحتمالان هما الغالب في عادة المصنّف في إحالاته الكثيرة، كما سبق، وكما سيأتي التنبيه عليه.
ويحتمل أن يكون الضمير لوالد أبي مالك الأشجعيّ، وهو طارق بن أشيم، أي ساق لفظ الحديث بمثل حديثه السابق.
[تنبيه]: رواية أبي خالد الأحمر التي أحالها المصنف هنا على رواية مروان أخرجها ابن حبان في "صحيحه"(171) فقال: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن أبي مالك الأشجعي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من وَحَّدَ الله، وكَفَرَ بما يُعْبَدُ من دونه، حَرُمَ ماله وَدَمُهُ، وحسابه على الله".
وأما رواية يزيد بن هارون، فقد أخرجها الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 472 قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا أبو مالك الأشجعي، عن أبيه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لقوم:"من وحّد الله تعالى، وكفر بما يُعبد من دونه حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل".
ثم قال أحمد: حدثنا به يزيد بواسط، وبغداد، قال. سممع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)
[139]
(24) - (وحَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، عَن أَبِيه، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَمّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَن مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيه، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ"، فَأنْزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]، وَأنزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الثقة الحافظ العابد الفقيه [9](ت 197)(ع) 2/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة، من كبار [9](ت 159)(ع) 2/ 4.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الفقيه الثبت، رأس [4](ت 125)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" 1/ 343.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ) بن حزن القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الفقيه الثقة الثبت، من كبار [3](ت 94)(ع) 4/ 70.
6 -
(أَبُوهُ) المسيّب بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عِمْران بن مَخْزُوم القرشيّ المخزوميّ، والد سعيد، له ولأبيه حَزْن صحبة، وله حديث في "الصحيحين " من طريق طارق بن عبد الرحمن، قال: انطلقت حاجًّا، فمررت بقوم يُصَلُّون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فلقيت سعيد بن المسيب، فأخبرني، فقال سعيد: حدثني أبي، أنه كان ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فلما خرجنا من العام المقبل أتيناها، فلم نَقْدِر عليها، قال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها، فعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم، وللمسيب حديث آخر في "الصحيحين" وغيرهما في قصة وفاة أبي طالب.
قال الحافظ في "الإصابة": وفي كل ذلك رَدٌّ لقول مصعب الزبيريّ: لا يختلف أصحابنا أن المسيب وأباه من مسلمة الفتح، وقد رد كلامه بذلك أبو أحمد الْعَسْكريّ، وقد شَهِدَ المسيب فتوح الشام، ولم يتحرر لي متى مات. انتهى كلام الحافظ
(1)
.
(1)
"الإصابة" 6/ 96.
وقال في "تهذيب التهذيب": زعم الواقديّ، ومصعب الزبيريّ أنه من مسلمة الفتح، ولم يصنعا شيئًا، فقد ثبت في "الصحيح" أنه شهد الحديبية، وقال ابن يونس: قَدِمَ المسيب مصر لغزو إفريقية، سنة سبع وعشرين. وفي "الثقات" لابن حبان في التابعين: المسيب بن حزن فإن كان أراد هذا، فقد وَهِمَ وَهَمًا قَبِيحًا، وعَدَّه الأزديّ وغيره فيمن لم يَرْوِ عنه إلا واحدٌ
(1)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وحديث مبايعته تحت الشجرة (1859)، وأعاده بعده مرّتين. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ويونس وإن كان أيليًّا، إلا أنه نزل مصر، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالإخبار، وفي أوله التحديث، وفي آخره العنعنة، وكلّها من صيغ الاتّصال على التفصيل في "عن".
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة من التابعين، وقد تقدّموا قريبًا.
7 -
(ومنها): أن سعيدًا تفرّد بالرواية عن أبيه، فليس له راوٍ غيره، وهذا مما يُردّ به على الحاكم أبي عبد الله النيسابوريّ في دعواه أن شرط الشيخين أن يخرجا الحديث الذي يرويه صحابيّ مشهور بالرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعيّ المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان إلخ، فإن هذه دعوى يكذّبها هذا السند، ونحوه مما سبق بيانه في المسألة
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 80.
الحادية والعشرين من مقدّمة "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
8 -
(ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلا ثلاثة أحاديث: هذا الحديث عند الشيخين، والنسائيّ، وحديث قصّة مبايعته تحت الشجرة عندهما، وحديث قصة مجيء أبيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ما اسمك؟
…
إلخ" عند البخاريّ.
9 -
(ومنها): أن "المُسَيَّب" كله بفتح الياء، بصيغة اسم المفعول، إلا هذا، فإن الأولى ضبطه بكسر الياء المشدّدة؛ لأنه الذي ثبت عن أهل المدينة، وهم أعلم به، وإنما فتحه أهل الكوفة، وكان سعيد يكره فتحه، ويقال: إنه دعا على من فتح، وقال: سيّب الله من سيّب أبي، وإلى ما ذُكر من ضبطه أشرت بقولي:
مُسَيَّبٌ بِفَتْحِ يَائِهِ سِوَى
…
أَبِي سَعِيدٍ فَلِوَجْهَيْنِ حَوَى
لَكِنَّ كَسْرَهُ أَحَقُّ إِذْ أَتَى
…
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهِ فَلْيُثْبَتَا
وَعَنْ سَعِيدٍ كُرْهُهُ الْفَتْحَ وَرَدْ
…
بَلْ قِيلَ قَدْ دَعَا عَلَى مَنِ اعْتَمَدْ
فَابْتَعِدَنْ عَنْ فَتْحِهِ لِتَسْلَمِ
…
عَنْ كُرْهِهِ وَلَوْمِهِ وَتَغْنَمِ
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِيهِ) المسيِّب بن حَزْن - بفَتح المهملة، وسكون الزاي، بعدها نون - ابن أبي وَهْب، أنه (قَال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ) أي حضرت علامات الموت، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة، لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدُل عليه ما وقع من محاورة النبيّ صلى الله عليه وسلم له ولمن حضره من كفّار قريش بينه وبينهم.
ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، وتَسُوغُ شفاعته؛ لمكانه منه، ولهذا قال:"أُحاجّ لك بها عند الله"، فيكون من الخصوصيّات، ويؤيد ذلك أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال: هو على ملة
عبد المطلب ومات على ذلك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شَفَعَ له حتى خُفِّفَ عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ضعّف القاضي عياضٌ هذا الاحتمال الثاني في "إكماله" 1/ 212 ونقله عنه النوويّ في "شرحه"، وأقرّه عليه، والذي يظهر لي أنه احتمال صحيح قويّ، بل هو أقوى من الأول؛ للأدلة التي سمعتها الآن في تحقيق الحافظ، فاحتفظ بها، ولا يصُدَّنَّكَ كلام القاضي، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وسيأتي تمام البحث في هذا في شرح أحاديث الشفاعة الآتية قريبًا إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: أبو طالب هذا هو ابن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وهو عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووالد علي بن أبي طالب، واسمه: عبد مناف، وقيل: اسمه كنيته، والأول أصحّ، واسم عبد المطّلب: شيبة، وكان يقال له: شيبة الحمد، واسم هاشم: عمرو، وهاشم لقب له؛ لأنه أوّل من هَشَمَ الثَّرِيد لقومه، واسم عبد مناف: المغيرة، واسم قُصيّ: زيد، وقيل له: مُجَمِّع؛ لأنه جَمَعَ إليه قومَهُ، وكان والد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله قد تُوُفّي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَمْلٌ في بطن أمه على الأصحّ، فوُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في كفالة جدّه عبد المطّلب إلى أن تُوُفّي، فكَفَلَهُ عمّه أبو طالب، ولم يَزَل يُحبّه حبًّا شديدًا، ويَحُوطه ويَحفظه إلى أن بَعَثَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالنبوّة، فنصَرَه أبو طالب، وأعانه، وأجاره ممن يُريد به سُوءًا، وقام دونه، وعادى في حقّه قُرَيشًا، وجميع العرب إلى أن ناصبوه القتال، وجاهروه بالعداوة والأذى، وطَلَبوا أن يُسلّمه لهم، فلم يفعل، ثم إن قريشًا، وجميع أهل مكة تعاقدوا فيما بينهم، وتحالفوا على هَجْره، وجميع بني هاشم، ومقاطعتهم، وعلى أن لا يقاربوهم، ولا يناكحوهم، لا يبايعوهم، ولا يَصِلُوهم بشيء، من وجوه الرفق كلّها، حتى يُسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَتَبُوا بذلك صحيفةً، وعلّقوها في الكعبة، فانحاز أبو طالب، وبنو هاشم في شِعْبِهم، وأقاموا على ذلك نحو ثلاث سنين
(1)
"الفتح" 8/ 643.
في جهد جَهِيد، وحال شديد إلى أن نَقَضَ الله أمر الصحيفة، وأظهر أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما هو مذكور في كتب السِّيَر.
وكان أبو طالب يَعْرِفُ صدقَ النبي صلى الله عليه وسلم في كلّ ما يقوله، ويقول لقريش: تعلمون أن محمدًا لم يَكذِب قطّ، ويقول لابنه عليّ: اتّبعه، فإنه على الحقّ، غير أنه لم يدخل في الإسلام، ولم يتلفّظ به، ولم يزل على ذلك إلى أن حضرته الوفاة، فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم طامعًا في إسلامه، وحَرِيصًا عليه، باذلًا في ذلك جهده، مُستفرغًا ما عنده، ولكن عاقت عن ذلك عوائق الأقدار التي لا ينفع معها حرصٌ، ولا اقتدار. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال النوويّ في "شرحه": وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل، قال ابن فارس: مات أبو طالب، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة، وثمانية أشهر، وأحد عشر يومًا، وتُوُفِّيت خديجة، أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام. انتهى
(2)
.
(جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ)، قال في "الفتح": يحتمل أن يكون الْمُسَيِّب حضر هذه القصة، فإن المذكورين من بني مخزوم، وهو من بني مخزوم أيضًا، وكان الثلاثة يومئذ كُفّارًا، فمات أبو جهل على كفره، وأسلم الآخران.
وأما قول بعض الشُّرّاح: هذا الحديث من مراسيل الصحابة فمردود؛ لأنه اسْتَدَلَّ بأن المسيِّب على قول مصعب من مسلمة الفتح، وعلى قول الْعَسْكَرِيّ ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأَيًّا ما كان فلم يَشْهَد وفاةَ أبي طالب؛ لأنه تُوُفي هو وخديجة في أيام متقاربة، في عام واحد، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ نحوُ الخمسين سنةً. انتهى.
ووجه الرَّدِّ أنه يلزم من كون المسيِّب تأخر إسلامه أن لا يَشهَد وفاة أبي طالب، كما شَهِدَها عبد الله بن أبي أمية، وهو يومئذ كافر، ثم أسلم بعد ذلك.
وعَجَبٌ من هذا القائل كيف يعزو كون المسيّب كان ممن بايع تحت الشجرة إلى العسكريّ، وَيغْفُلُ عن كون ذلك ثابتًا في "صحيح البخاري" الذي
(1)
"المفهم" 1/ 192 - 193.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 215.
شَرَحَهُ؟ كما هو مذكور في "كتاب المغازي" واضحًا
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَا عَمِّ) وفي رواية البخاريّ: "أَيْ عَمِّ"، فـ "أَيْ" بتخفيف الياء حرف نداء، و"عَمّ" منادى مضاف إلى ياء المتكلّم، حُذفت تخفيفًا.
[فائدة]: يجوز في إعراب قوله: "يا عمّ" أوجه، وذلك لأن القاعدة أنه إذا أُضيف المنادى إلى ياء المتكلّم، وكان صحيح الآخر، كالعبد، والأب، والأم، والعم، ونحوها، جاز فيه ستّة أوجه:
[أحدها]: حذف الياء، والاستغناء بالكسرة، نحو "يا عمِّ"، وهذا هو الأكثر.
[الثاني]: إثبات الياء ساكنةً، نحو "يا عمّي"، وهو دون الأول في الكثرة.
[الثالث]: قلب الياء ألفًا، وحذفها، والاستغناء عنها بالفتحة، نحو "يا عمَّ".
[الرابع]: قلبها ألفًا، وإبقاؤها، وقلب الكسرة فتحةً، نحو "يا عمَّا".
[الخامس]: إثبات الياء مُحرّكةً بالفتح، نحو "يا عمّيَ"، وإلى هذه الأوجه الخمسة أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" بقوله:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا
…
كـ"عَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا"
[السادس]: ضم الاسم بعد حذفها، كالمنادى المفرد، والاكتفاء بنيّة الإضافة، وهو أضعف الوجوه، ولا يكون إلا فيما يكثر نداؤه مضافًا للياء، كالربّ، والأبوين، والعم، ونحو ذلك
(2)
.
فتبيّن بهذا أنه يجوز في قوله هنا: "يا عمّ" هذه الأوجه الستة كلّها، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(قُلْ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً) بالنصب على البدل من "لا إله إلا الله"، أو على الاختصاص، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هي كلمة
(1)
"الفتح" 8/ 643.
(2)
راجع: "شرح ابن عقيل، مع حاشية الخضريّ" 2/ 122 - 123.
(أَشْهَدُ) يجوز جزمه على أنه جواب الأمر، أي إن تقل أشهَدْ، ويجوز رفعه على الاستئناف استئنافًا بيانيًّا، كأنه قال: فما لي إن قلتها؟ وفي رواية للبخاريّ: "أُحَاجُّ"، وهي بتشديد الجيم، من الْمُحَاجّة، وهي مفاعلة من الْحُجّة، وفي رواية مجاهد عند الطبريّ:"أُجادل عنك بها"، زاد الطبريّ من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري قال:"أَيْ عَمّ، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا، فقل: كلمةً تجب لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة". قاله في "الفتح"
(1)
.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وكلّ ذلك ترغيبٌ لأبي طالب، وحرصٌ على نجاته، ويأبى الله إلا ما يُريد. انتهى
(2)
.
(لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ) الجارّان، والظرف متعلّقات بـ "أشهد".
(فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِب، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) الهمزة فيه للاستفهام الإنكاريّ، أي أتُعرض عنها، وتتركها، يقال: رَغِبَ عن الشيء: إذا لم يُرِده، ورغب فيه: إذا أراده، قال في "القاموس": رَغِبَ فيه، كسَمِعَ رَغْبًا، ويُضمّ، ورَغْبَةً: أراده، كارتغب، ورَغِبَ عنه: لم يُرده. انتهى
(3)
، وفي "المصباح": رَغِبْتُ في الشيء، ورَغِبْتُهُ يتعدّى بنفسه أيضًا: إذا أردته، رَغَبًا بفتح الغين، وسكونها، وَرُغْبَى بفتح الراء وضمّها، ورَغْبَاءً بالفتح والمدّ، ورَغِبْتُ عنه: إذا لم تُرده. انتهى
(4)
.
(فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ) بفتح أوله، وكسر الراء، يقال عَرَضَ عليه الشيءَ: أراه إيّاه، أي لم يَزَلْ صلى الله عليه وسلم يُرغّب أبا طالب في تلك الكلمة، ويُحسّنها له، وفي رواية الشعبي عند الطبريّ:"فقال له ذلك مرارًا"(وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ)، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في الأصول، وعند أكثر الشيوخ، ويعني بذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل على أبي طالب يَعْرِض عليه الشهادة، ويُكرّرها عليه، ووقع في بعض النسخ:"ويُعيدان له تلك المقالة" على التثنية، ووجهها أن أبا جهل وعبد الله بن أبي أميّة أعادا على أبي طالب
(1)
"الفتح" 8/ 645.
(2)
"المفهم" 1/ 193.
(3)
"القاموس" ص 84.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 231.
قولهما: "أترغب عن ملّة عبد المطّلب"، حتى أجابهم إلى ذلك، قال القاضي: وهذا أشبه. انتهى
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "ويُعيدانه بتلك المقالة" قال في "الفتح": أي ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كأنه قال: كان قارب أن يقولها، فَيَرُدّانه، ووقع في رواية معمر:"فيعودان له بتلك المقالة"، وهي أوضح. انتهى
(2)
.
(حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ) أي في آخر تكليمه إياهم (هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) أرادَ بذلك نفسه، ويحتمل أن يكون قال:"أنا" فَغَيَّرها الراوي؛ أَنَفَةً أن يَحْكِيَ كلامَ أبي طالب، استقباحًا للّفظ المذكور، وهي من التصرفات الحسنة.
ووقع في رواية مجاهد قال: "يا ابن أخي مِلَّةُ الأشياخ"، ووقع في حديث أبي هريرة الآتي بعد هذا عند مسلم:"قال: لولا أَنْ تُعَيِّرني قريش، يقولون: إنّما حمله الْجَزَعُ، لأقررت بها عينك"، وفي رواية الطبرانيّ: قال: لولا أن يكون عليك عارٌ لم أُبَالِ أن أَفْعَلَ".
(وَأَبَى) أي امتنع أبو طالب (أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال، وهذا القدر هو الذي يُمْكن اطّلاعه عليه، ويَحْتَمِل أن يكون أطلعه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا") بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، وتنبيه، مثلُ "ألا" ووقع في بعض النسخ "أَمَ والله لأستغفرن لك"، قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا ضبطناه "أَمَ " من غير ألف بعد الميم، وفي كثير من الأصول، أو أكثرها:"أَمَا والله" بألف بعد الميم، وكلاهما صحيح.
قال الإمام أبو السعادات، هبة الله بن عليّ بن محمد العلويّ الحسنيّ المعروف بابن الشجريّ في كتابه "الأمالي":"ما" مزيدة للتوكيد، رَكَّبُوها مع همزة الاستفهام، واستعملوا مجموعهما على وجهين: أحدهما: أن يراد به
(1)
"المفهم" 1/ 193 بزيادة من "شرح النووي" 1/ 214.
(2)
"الفتح" 8/ 644.
معنى "حَقًّا" في قولهم: "أما والله لأفعلنّ". والآخر: أن يكون افتتاحًا للكلام، بِمَنْزلة "ألا"، كقولك:"أما إنّ زيدًا منطلق"، وأكثر ما تُحذَف ألفها إذا وَقَعَ بعدها القسم؛ لِيَدُلُّوا على شدة اتصال الثاني بالأول؛ لأن الكلمة إذا بَقِيت على حرف واحد، لم تقم بنفسها، فعُلِم بحذف ألف "ما" افتقارها إلى الاتصال بالهمزة انتهى
(1)
.
(وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنُهَ) بالبناء للمفعول (عَنْكَ) أي عن الاستغفار لك، وفي بعض رواية غير الكشميهني عند البخاريّ:"ما لم أُنه عنه"، أي عن الاستغفار الذي دلّ عليه قوله:"لأستغفرنّ لك".
قال الزين بن الْمُنَيِّر: ليس المراد طلب المغفرة العامّة، والمسامحة بذنب الشرك، وإنما المراد تخفيف العذاب عنه، كما جاء مُبَيَّنًا في حديث آخر.
وتعقّبه الحافظ بأنّ هذه غفلة شديدةٌ منه، فإن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب لم تُرَدَّ، وطلبها لم يُنْهَ عنه، وإنما وَقَعَ النهي عن طلب المغفرة العامة، وإنما ساغ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم اقتداءً بإبراهيم عليه السلام في ذلك، ثم وَرَدَ نسخ ذلك كما سيأتي بيانه واضحًا. انتهى.
أفَانزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113])، أي ما يجوز، وما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي، قاله في "الفتح"، وذكر أهل المعاني أنّ "ما" تأتي في القرآن بمعنى النفي، كقوله عز وجل:{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، وبمعنى النهي، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53]، وهي في هذا الحديث للنهي، وتأوّل بعضهم الاستغفار هنا بمعنى الصلاة، والصحيح الأول
(2)
.
والواو في قوله تعالِي: ({وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى})[التوبة: 113] واو الحال ({مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ})[التوبة: 113]، أي بالموت على الكفر، و"الجحيم" اسم من أسماء النار المعدّة للكفّار، وكلُّ نار في مَهْوَاة فهي جحيم، ومنه قوله تعالى:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصّافّات: 97]،
(1)
راجع: "شرح مسلم" للنووي 1/ 215.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 8/ 181.
والجاحم: المكان الشديد الحرّ، وأصحاب الجحيم: مستحقّوها، وملازموها.
ثم بيّن تعالى عذر إبراهيم عن استغفاره في قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)} [الشعراء: 86] بأن ذلك إنما كان منه لأجل وعد إبراهيم لأبيه حين قال له: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، وقيل: إن الموعد هو من أبي إبراهيم له بأن يسلم، فلما لم يَفِ بها، وتبيّن له أنه لا يسلم إما بالوحي، وإما بموته على الكفر، تبرّأ منه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]، والقولان لأهل التفسير.
و"الأوّاه": الدَّعَّاءُ المتضرّع، قاله ابن مسعود، وابن عبّاس، و"الحليم": السيّد، قاله ابن حبيب، وقيل: هو الصبور على البَلْوَى، الصَّفُوحُ عن الأذى. قاله القرطبيّ
(1)
.
(وَأنزَلَ اللهُ تَعَالَى في أَبيِ طَالِبٍ) أي في شأنه وأمره (فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]، قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي لا تقدر على توفيق من أراد الله تعالى خذلانه، وكشَفَ ذلك بأن الهداية الحقيقيّة هي خلق القدرة على الطاعة، وقبولها، وليس ذلك إلا لله تعالى، والهداية التي تصحّ نسبتها لغير الله تعالى بوجه ما، هي الإرشاد والدلالة، كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]: أي ترشد، وتبيّن، كما قال:{لِتُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وما ذكرناه هو مذهب أهل السنّة والجماعة، وهو الذي تدلّ عليه البراهين القاطعة. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ في "شرحه": قد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، وكذا نقل إجماعهم على هذا الزجاجُ وغيره
(3)
، وهي عامّةٌ، فإنه لا يَهْدِي، ولا يُضِلُّ إلا الله تعالى.
(1)
"المفهم" 1/ 195 - 196.
(2)
"المفهم" 1/ 196.
(3)
وتعقّب أبو عبد الله القرطبي في "تفسيره" 13/ 299 على الزجاج، فقال بعد نقل قوله: قلت: والصواب أن يقال: أجمع جلّ المفسّرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال الفراء وغيره: قوله تعالى: {مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] يكون على وجهين:
[أحدهما]: معناه من أحببته لقرابته.
[والثاني]: من أحببت أن يَهتدِيَ، قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] أي بمن قُدِّرَ له الهدى. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره": يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنك يا محمد {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] وقال: {وَمَا أَكْثَر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103]، وهذه الآية أخصّ من هذا كلّه، فإنه قال:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]، أي هو أعلم بمن يستحقّ الهداية ممن يستحقّ الغَوَايةَ. انتهى
(2)
.
وقال النسفيّ رحمه الله تعالى: في "تفسيره": {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كلّ من أحببتَ أن يدخل فيه من قومك وغيرهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 117] بمن يختار الهداية، ويَقبلها، ويتّعظ بالدلائل والآيات. قال الزجّاج: أجمع المفسّرون
(3)
على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدّقُوا محمدًا تُفلِحُوا، فقال صلى الله عليه وسلم:"يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم، وتَدَعُها لنفسك؟ "، قال: فما تُريد يا ابن أخي؟ قال: "أريد أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله"، قال: يا ابن أخي أنا قد عَلِمتُ أنك صادقٌ، ولكنّي أكره أن يُقال: جَرخَ عند الموت، وإن كانت الصيغة عامّةً، والآية حجة على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلّ أن وراء البيان ما يُسمّى
(1)
"شرح مسلم" 1/ 215 - 216.
(2)
"تفسير ابن كثير" ص 1001 نسخة مؤسّسة الرسالة.
(3)
تقدّم أن القرطبي قد تعقّب هذا، وقال: الصواب: أجمع جلّ المفسّرين.
هدايةً، وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث المسيِّب بن حَزْن رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا "الإيمان" 1/ 40 (139 (24)
(2)
عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبيه به. وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ به. وعن الحسن بن عليّ الحلوانيّ، وعبد بن حميد، كلاهما عن يعقوب بن إبراهيم، عن الزهريّ به.
و (البخاريّ) في "التفسير" 6/ 87 (4675) عن إسحاق بن إبراهيم - وفي قصّة أبي طالب 5/ 65 (3884) عن محمود - كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر. وفي "النذور" 8/ 173 (6681) وفي "التفسير" أيضًا 6/ 141 (4772) عن أبي اليمان، عن شعيب - وفي "الجنائز" 2/ 119 (1360) عن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح - ثلاثتهم عن الزهريّ به.
و (النسائيّ) في "الجنائز" 4/ 90 (2162) وفي "التفسير"(11230) و (11383) عن محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر به.
و (أحمد) 5/ 433 عن عبد الرزاق، عن معمر به. و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(124 و 125 و 126 و 127) و (أبو عوانة) في "مسنده"(22 و 23 و 24 و 25)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): أنه دليلٌ واضحٌ على صحة إسلامِ مَن حضره الموت، ما لم يَشْرَع في النَّزْع، وهو الْغَرْغَرة.
(1)
"تفسير النسفي" 3/ 240.
(2)
الأول ترقيمي، والثاني ترقيم محمد فؤاد.
2 -
(ومنها): أنّ من مات على الشرك، فهو من أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل.
3 -
(ومنها): أنّ من لم يعمل خيرًا قط إذا خَتَمَ عمره بشهادة أن لا إله إلا الله، حُكِم بإسلامه، وأُجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطق لسانه عَقْدُ قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى، بشرط أن لا يكون وَصَلَ إلى حَدّ انقطاع الأمل من الحياة، وعَجَزَ عن فهم الخطاب ورَدّ الجواب، وهو وقت المعاينة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن الذي ينفع الإنسان عمله، لا نسبه، فإذا كان غير متّبع للإسلام، فلا تنفعه شفاعة الشافعين.
5 -
(ومنها): أن المحبّة النافعة هي المحبّة الإيمانيّة، لا المحبّة الطبيعيّة، فإن أبا طالب كان يحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، ويقدّمه على نفسه، وعلى أولاده، ولكنه ما نفعه ذلك؛ إذ لم يحبّه المحبّة الشرعيّة التي تحمل على اتّباعه، والانقياد لشرعه.
6 -
(ومنها): أن الشرك محبطٌ لأعمال الخير؛ لأن أبا طالب كان يحوط النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقوم بالدفاع عنه، ويَفْدِيه بكلّ ما يملكه، ويفعل تجاهه كلّ خير، إلا أن كلّ ذلك حَبِطَ بشركه، وعدم طاعته بالتوحيد، قال الله عز وجل:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
7 -
(ومنها): النهي عن الاستغفار للمشركين.
8 -
(ومنها): بيان سبب نزول الآية المذكورة.
9 -
(ومنها): جواز الْحَلِف من غير استحلاف؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أما والله لأستغفرنّ لك
…
" الحديث، قال النوويّ رحمه الله تعالى: وكأنّ الحلف هنا لتوكيد العزم على الاستغفار، وتطييبًا لنفس أبي طالب.
10 -
(ومنها): أن قوله: "هو على ملّة عبد المطّلب" من أحسن الآداب، والتصرّفات، وهو أن من حَكَى قول غيره القبيح، ينبغي له أن يَأتي بضمير الغيبة؛ لِقُبْحِ صورة لفظه الواقع، كمثل هذا، وكما في حديث: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله
…
" الحديث، رواه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في الاستشكال الوارد على هذا الحديث.
قال في "الفتح": قوله: "فَأَنْزَل اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] ": هكذا وقع في هذه الرواية، ورَوَى الطبريّ من طريق شِبْلٍ، عن عمرو بن دينار، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "استَغْفَر إبراهيم لأبيه، وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي"، فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا، كما استغفر نبيّنا لعمه، فنزلت.
وهذا فيه إشكال؛ لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتّفاقًا، وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَتَى قبر أمه لَمّا اعتَمَرَ، فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فنَزَلت هذه الآية، والأصل عدم تكرر النُّزُول.
وقد أخرج الحاكم، وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا إلى المقابر، فاتّبَعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلًا، ثم بكى، فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جَلَستُ عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يَأْذَن لي، فأنزل عليّ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].
وأخرج أحمد من حديث ابن بُريدة، عن أبيه نحوه، وفيه:"نَزَل بنا، ونحن معه قريبٌ من ألف راكب"، ولم يذكر نزول الآية.
وفي رواية الطبريّ من هذا الوجه: "لَمّا قَدِمَ مكة أتى رَسْمَ قبر
…
"، ومن طريق فُضيل بن مرزوق، عن عطية: "لَقا قَدِم مكة وَقَفَ على قبر أمه، حتى سخنت عليه الشمس؛ رَجَاءَ أن يؤذن له، فيستغفر لها، فنَزَلَت"، وللطبرانيّ من طريق عبد الله بن كيسان، عن عكرمة، عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود، وفيه: "لَمّا هبط من ثنية عسفان" وفيه نزول الآية في ذلك.
فهذه طُرُق يَعْضِدُ بعضُها بعضًا، وفيها دلالة على تأخّر نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ويؤيده أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شُجَّ وجهه:"رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
لكن يَحتَمِلُ في هذا أن يكون الاستغفار خاصًّا بالأحياء، وليس البحث فيه. ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخّر، وإن كان سببها تَقَدَّمَ، ويكون لنُزُولها سببان، مُتَقَدَّمٌ، وهو أمر أبي طالب، ومتأخرٌ، وهو أمر آمنة.
يُؤَيِّدُ تأخير النُّزول ما ثبت من استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نَزَل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النُّزُول، وإن تقدَّم السبب، ويشير إلى ذلك أيضًا قوله في هذا الحديث: وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية [القصص: 56]؛ لأنه يُشعِر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره، والثانية نزلت فيه وحده. ويؤيد تَعَدُّد السبب ما أخرجه أحمد من طريق أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رجلًا يَستَغفِر لوالديه، وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
…
} الآية [التوبة: 113].
وروى الطبريّ من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: وقال المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا، كما استغفر إبراهيم لأبيه، فنَزَلت، ومن طريق قتادة قال: ذكرنا له أن رجالًا، فذكر نحوه. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ.
وحاصله أن يُحْمَل على تعدد السبب، وتأخر نزول الآية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى أول الكتاب قال:
[140]
(
…
) - (وحَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. (ح) وحَدَّثنا حَسَن الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ - قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ صَالِحٍ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأنزَلَ اللهُ عز وجل فِيه، وَلَمْ يَذْكُرْ الْآيتَيْن، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَيَعُودَانِ فِي تِلْكَ الْمَقَالَة، وَفي حَدِيثِ مَعْمَرٍ مَكَانَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: فَلَمْ يَزَالَا بِهِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مَخْلَد الْحَنْظلي، أبو محمد بن راهويه المروزيّ، ثقة حافظ مجتهد [10]، (ت 238)(خ م د ت س) 4/ 28.
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 645.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الكِسيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقة حافظ [11](ت 249)(خت م ت) 7/ 130.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ، مصنّفٌ شهير، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) 6/ 128.
4 -
(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبتٌ فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار [7](ت 154)(ع) 4/ 18.
5 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِي) - بضمّ المهملة، وسكون اللام - هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو عليّ الْخَلّال، نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) 4/ 24.
6 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9](ت 208)(ع).
رَوَى عن أبيه، وشعبة، وابن أخي الزهريّ، والليث، وأبي أويس، وعبد العزيز بن المطلب، وعاصم بن محمد بن زيد الْعُمَريّ، وسيف بن عُمَر الضَّبّيّ، وشريك القاضي، وغيرهم.
وروى عنه ابن أخيه عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، وأحمد، وعليّ، وإسحاق، وابن معين، وعبد الله بن محمد الْمُسْنَديّ، وعَمْرو الناقد، والْكَوْسج، وأبو خيثمة، وحسن الحلوانيّ، وحجاج بن الشاعر، وغيرهم.
قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: سمعت "المغازي" من يعقوب بن إبراهيم بن سعد. وقال العجليّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكوه ابن حبان في "الثقات". وقال الذُّهْليّ: رَوَى عن إبراهيم بن سعد الزهريّ، وعن أصحاب الزهريّ، فكثرت روايته لحديث الزهري، ومدار حديثه على أبيه يعقوب، وكان قد سمع هو وأخوه سعد الكتب، فمات أخوه قبل أن يكتب عنه كثيرُ أحدٍ، وبقي يعقوب، فكتب عنه الناس، فوجدوا عنده عِلْمًا جليلًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، يُقَدَّم على أخيه في الفضل والورع والحديث، ومات في شوال سنة ثمان ومائتين، وكان
أصغر من أخيه سعد بأربع سنين، وفي سنة ثمان أَرَّخه مُطَيَّن، وغير واحد.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (96) حديثًا.
7 -
(أَبُوه) هو: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة، حجّةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8].
رَوَى عن أبيه، وصالح بن كيسان، والزهريّ، وهشام بن عروة، وصفوان بن سُليم، ومحمد بن إسحاق، وشعبة، ويزيد بن الهاد، وخلق كثير.
ورَوَى عنه الليث، وقيس بن الربيع، وهما أكبر منه، ويزيد بن الهاد، وشعبة، وهما من شيوخه، والقعنبيّ، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وابناه: يعقوب، وسعد، وجماعة.
قال أحمد: ثقة، وقال أيضًا: أحاديثه مستقيمة. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: كان وكيع كَفَّ عن حديث إبراهيم بن سعد، ثم حَدَّث عنه بعدُ، قلت: لم؟ قال: لا أدري، إبراهيم ثقة. وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجةٌ. وقال أيضًا: إبراهيم أحب إلي في الزهريّ من ابن أبي ذئب، وقال أيضًا: إبراهيم أثبت من الوليد بن كثير، ومن ابن إسحاق، وقال الدُّوريّ: قلت ليحيى: إبراهيم أحب إليك في الزهريّ، أو الليث؟ فقال: كلاهما ثقة، وقال ابن معين أيضًا، والعجليّ، وأبو حاتم: ثقة، وقال مرةً: ليس به بأس. وقال عليّ بن الجعد: سألت شعبةَ عن حديث لسعد بن إبراهيم؟ فقال لي: فأين أنت من ابنه؟ قلت: وأين ذا؟ قال: نازل على عُمارة بن حمزة، فأتيته، فحدثني. وقال البخاريّ: قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه. وقال صالح جَزَرة: حديثه عن الزهريّ ليس بذاك؛ لأنه كان صغيرًا حين سمع من الزهريّ. وقال الدُّوريّ عن ابن معين في حديث جمع القرآن: ليس أحدٌ حَدَّثَ به أحسن من إبراهيم بن سعد، وقد حَدَّث مالك بطرف منه. وقال أبو داود: وَليَ بيت المال ببغداد. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وذكر ابن عدي في "الكامل" عن عبد الله بن أحمد، سمعت أبي يقول: ذُكِرَ عند يحيى بن سعيد عُقَيل، وإبراهيم بن سعد، فجعل كأنه يُضَعّفهما، يقول: عُقيل وإبراهيم، ثم قال أبي: أَيْشٍ ينفع هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرهما يحيى.
وعن أبي داود السِّجِسْتانيّ: سمعت أحمد سُئل عن حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أنس، مرفوعًا:"الأئمة من قريش"، فقال: ليس هذا في كتب إبراهيم بن سعد، لا ينبغي أن يكون له أصل.
قال الحافظ: رواه جماعة عن إبراهيم.
ونَقَلَ الخطيب أن إبراهيم كان يُجِيز الغناء بالعود، ووَليَ قضاء المدينة.
وقال ابن عيينة: كنت عند ابن شهاب، فجاء إبراهيم بن سعد، فَرَفَعَهُ وأكرمه، وقال: إن سعدأ أوصاني بابنه، وسعد سعد. وقال ابن عديّ: هو من ثقات المسلمين، حَدَّث عنه جماعة من الأئمة، ولم يَتخلَّف أحدٌ في الكتابة عنه، وقولُ مَن تَكَلَّم فيه تحاملٌ، وله أحاديث صالحة مستقيمة، عن الزهري وغيره.
قال عبد الله بن أحمد: وُلد سنة (108) أخبرني بذلك بعض ولده، وقال أبو موسى: مات سنة (182)، أو (183)، وقال ابن سعد، وابن المدينيّ، وخليفة، وابن أبي خيثمة، وغيرهم: مات سنة (183)، زاد علي بن المديني: وهو ابن (73) سنة، وقال ابن سعد وهو ابن (75) سنة، وقال سعيد بن عُفَير وأبو حسان الزِّيَاديّ: مات سنة (184)، وقال أبو مروان العثمانيّ: سمعت من إبراهيم بن سعد سنة (185)، ومات بعد ذلك.
قال الخطيب: حَدَّث عنه يزيد بن الهاد، والحسين بن سَيَّار الْحَرّانيّ، وبين وفاتيهما مائة واثنتا عشرة سنة.
وفي "تاريخ بغداد": أنه قَدِمَ بغداد سنة (184)، فأكرمه الرَّشِيد، وفيها أَرَّخ ابن أبي عاصم وفاته.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (109) أحاديث.
8 -
(صالِح) بن كَيْسَان المدنيّ، أبو محمد، ويقال: أبو الحارث، مُؤَدِّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [4].
رأى ابن عمر، وابن الزبير، وقال ابن معين: سمع منهما، ورَوَى عن سليمان بن أبي حَثْمَة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وإسماعيل بن محمد بن سعد، والأعرج، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، ونافع مولى ابن عمر، ونافع مولى أبي قتادة، ونافع بن جبير بن مطعم، وعبد الرحمن بن
حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عُبيدة الرَّبَذِيّ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، والزهريّ، وأبي الزناد، ومحمد بن عجلان، والثلاثة أصغر منه، وغيرهم.
وعنه مالك، وابن إسحاق، وابن جريج، ومعمر، وإبراهيم بن سعد، وحماد بن زيد، وسليمان بن بلال، وابن عتيبة، وغيرهم.
قال مُصعَب الزبيريّ: كان جامعًا من الحديث والفقه والمروءة. وقال حرب: سئل عنه أحمد؛ فقال: بَخٍ بَخٍ. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صالح أكبر من الزهريّ. وقال إسماعيل القاضي، عن ابن المديني: صالح أَسَنّ من الزهريّ، قد رأى ابن عمر، وابن الزبير. وقال ابن معين: صالح أكبر من الزهريّ، سَمِع من ابن عمر، وابن الزبير. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: معمر أحب إليّ، وصالح ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: حدثني أحمد بن العباس، عن ابن معين: قال: ليس في أصحاب الزهريّ أثبت من مالك، ثم صالح بن كيسان. وقال يعقوب: صالح ثقة ثبت. وقال أبو حاتم: صالح أحبّ إليّ من عُقيل؛ لأنه حجازيّ، وهو أسنُّ، رأى ابن عمر، وهو ثقة، يُعَدّ في التابعين. وقال النسائيّ، وابن خِرَاش: ثقة. وقال العجليّ: ثقة. ووقع في "كتاب الزكاة" من "صحيح البخاريّ: صالح أكبر من الزهريّ، أدرك ابن عمر. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من فقهاء المدينة، والجامعين للحديث والفقه، من ذوي الهيئة والمروءة، وقد قيل: إنه سَمِعَ من ابن عمر، وما أراه محفوظًا. وقال الخليليّ في "الإرشاد": كان حافظًا إمامًا، رَوَى عنه من هو أقدم منه، عمرو بن دينار، وكان موسى بن عقبة يَحْكِي عنه، وهو من أقرانه. وقال ابن عبد البر: كان كثير الحديث، ثقةً حجّةً فيما حَمَلَ.
قال الهيثم بن عديّ: مات في زمن مروان بن محمد، وقال ابن سعد، عن الواقديّ: مات بعد الأربعين ومائة، وقيل: مَخْرَجَ محمدِ بنِ عبد الله بن حسن، وكان ثقةً، كثير الحديث. وقال الحاكم: مات صالح بن كيسان، وهو ابن مائة ونيف وستين سنة، وكان قد لَقِيَ جماعةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك تَلَمَّذَ للزهريّ، وتَلَقَّن عنه العلم، وهو ابن تسعين سنة، ابتدأ بالتعلّم وهو ابن سبعين سنة.
قال الحافظ: هذه مجازفةٌ قبيحةٌ، مقتضاها أن يكون صالح بن كيسان وُلدَ قبل بِعْثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أدري من أين وقع ذلك للحاكم؟ ولو كان طَلَبَ العلم كما حَدَّده الحاكم، لكان قد أَخَذَ عن سعد بن أبي وقّاص، وعائشة، وقد قال عليّ بن المدينيّ في "العلل": صالح بن كيسان لم يَلْقَ عقبة بن عامر، كان يروي عن رجل عنه، وقرأت بخط الذهبيّ: الذي يظهر لي أنه ما أكمل التسعين. انتهى كلام الحافظ
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (72) حديثًا.
9 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم المذكور في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنَّ رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ من رواية الأكابر عن الأصاغر، وأن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب. والله تعالى أعلم.
وقوله: (بهذا الإسناد) الإشارة إلى الإسناد الماضي، أي رواه معمر، وصالح كلاهما عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبيه رضي الله عنه.
وقوله: (مثله) منصوب على الحال، أي حال كون حديثهما مثل حديث يونس الماضي.
[تنبيه]: رواية معمر التي أحالها المصنف هنا ساقها الإمام البخاري، وأحمد، والنسائي، ولفظ البخاريّ: حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيب، عن أبيه، أن أبا طالب، لَمّا حضرته الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، فقال:"أَيْ عَمّ قل: لا إله إلا الله، كلمةً أُحَاجُّ لك بها عند الله"، فقال أبو جهل: وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب تَرْغَب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرنّ لك، ما لم أُنْهَ عنه"، فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]، ونزلت:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 198 - 199.
وأما رواية صالح، فقد ساقها البخاريّ أيضًا، فقال:
حدثنا إسحاق، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، أنه أخبره، أنه لَمّا حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوَجَدَ عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب:"يا عَمِّ قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرنّ لك، ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله تعالى فيه:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية [لتوبة: 113].
وقوله: (غير أن حديث صالح انتهى) استثناء من كون روايتهما مثل رواية يونس، يعني رواية صالح بن كيسان انتهى عند قوله:"فأنزل الله عز وجل فيه، ولم يذكر تمام الآيتين، وقد عرفت من رواية البخاريّ المذكورة أنه زاد"{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113]، وعليه فيكون نهاية حديث صالح قوله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113]، ولعل المصنّف وقع له بدون ذكره.
وقوله: (ويعودان في تلك المقالة) يعني أن لفظ صالح مكان قول يونس: "ويُعيدان له تلك المقالة"، و"يعودان في تلك المقالة"، ووقع عند البخاريّ "بتلك المقالة" بالباء.
وقوله: (وفي حديث معمر مكان هذه الكلمة، فلم يزالا به) الإشارة إلى قوله: "ويعودان في تلك المقالة"، يعني أنه وقع في رواية معمر بدل قول صالح:"ويعودان في تلك المقالة""فلم يزالا به"، ولفظ البخاريّ: فلم يزالا يكلمانه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى أول الكتاب قال:
[141]
(25) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: "قُلْ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَأَبَى، فَأَنزَلَ اللهُ:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الآيةَ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ) بن الزِّبْرِقَان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) 4/ 19.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر المذكور في الباب الماضي.
3 -
(مَرْوَانُ) بن معاوية الفزاريّ المذكور في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) الْيشكريّ، أبو إسماعيل، ويقال: أبو مُنَين - بنون، مصغّرًا - الكوفيّ، صدوق يُخطيء [6].
رَوَى عن أبي حازم، سلمان الأشجعيّ، ومَعْبَد، أبي الأزهر.
ورَوَى عنه عبد الواحد بن زياد، وابن عيينة، وأبو خالد الأحمر، وخلف بن خليفة، وعلي بن هاشم بن الْبَرِيد، ومروان بن معاوية، ويحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن عُبيد الظَنَافسيّ، وآخرون.
قال علي بن المديني، عن القطان: صالحٌ، وَسَطٌ، ليس هو ممن يُعْتَمَد عليه.
وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: يُكْتَب حديثه، محله الصدق، صالح الحديث، قلت: يُحْتَجُّ بحديثه؟ قال: لا، هو بابةُ فُضيل بن غَزْوَان، وذويه، بعض ما يأتي به صحيح، وبعض لا، قال أبي يُحَوَّلُ من كتاب "الضعفاء".
وقال الدارقطنيّ: كوفي ثقة. وقال الْعُقَيليّ: قال أحمد بن حنبل: ثقة.
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم.
وقال ابن حبان في "الثقات": يزيد بن كيسان الأسلمي، كنيته أبو إسماعيل، وهو الذي يقال له: أبو مُنَيْن، كان يُخطيء ويُخَالف، لم يَفْحُش خطؤه حتى يُعْدَلَ به عن سبيل العدول، ولا أَتَى بما يُنكَر، فهو مقبول، إلا ما يُعْلَم أنه أخطأ فيه، فيُتْرَك خطؤه كغيره من الثقات.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (24) حديثًا.
5 -
(أَبُو حَازِمِ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [3].
رَوَى عن مولَاته عَزَّة الأشجعيّة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن، والحسين، وابن الزبير، وغيرهم.
وروى عنه الأعمش، ومنصور، وأبو مالك الأشجعيّ، وعديّ بن ثابت، وفُضيل بن غَزْوان، وميسرة الأشجعيّ، ومحمد بن جُحَادة، ومحمد بن عَجْلان، ويزيد بن كيسان، وسَيَّار، أبو الحكم، وفُرَاتٌ الْقَزّاز، ونُعَيم بن أبي هند، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة.
وقال العجليّ: ثقة. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وفي "صحيح البخاريّ " عنه قال؛ جالست أبا هريرة خمس سنين.
وقال بعض الناس: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (53) حديثًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه -1/ 3. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن فيه التحديث مرّتين بضمير الجماعة؛ لكون الراوي سمعه من لفظ الشيخ مع غيره، والعنعنة ثلاث مرّات، وكلاهما من صيغ الاتّصال بشروطه في "عن".
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فإن الأول لم يُخرج له أبو داود، والثاني لم يُخرج له البخاريّ، وأبو داود، ويزيد بن كيسان أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد".
4 -
(ومنها): أن جملة من يسمّى بيزيد بن كيسان في الرواة اثنان:
[أحدهما]: صاحب الترجمة هنا.
[والثاني]: يزيد بن كيسان، أبو حفص الْخُلْقَانيّ، روى عن طاوس قوله،
وعنه أبو نُعيم، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال في "التقريب": مقبول، من الطبقة السادسة أيضًا، تفرّد به النسائيّ، أخرج له في "مسند عليّ رضي الله عنه، فقط"
(1)
.
5 -
(ومنها): أن جملة من يُكنى بأبي حازم في الرواة ستة:
(الأول): هذا المترجم هنا.
(والثاني): أبو حازم الأعرج، واسمه سلمة بن دينار التمّار المدنيّ الثقة العابد، من الطبقة الخامسة، وهو أيضًا من رجال الجماعة.
(والثالث): أبو حازم بن صخر بن الْعَيْلة - بالمهملة المفتوحة، بعدها تحتانيّة ساكنة - مستور، من الطبقة الثالثة، تفرّد به أبو داود.
(والرابع): أبو حازم الأنصاريّ البياضيّ مولاهم، صحابيّ، له حديث، وقيل: لا صحبة له، تفرّد به أبو داود في "المراسيل".
(والخامس): أبو حازم الغفاريّ مولاهم التمّار المدنيّ، مقبول من الطبقة الثالثة، تفرّد به البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والنسائيّ.
(والسادس): أبو حازم البجليّ الأحمسيّ، والد قيس بن أبي حازم، صحابيّ، له حديث، قيل: اسمه حصين، وقيل: عوف، وقيل: عبد عوف، تفرد به البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود
(2)
. والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أنه يقع الالتباس في "الصحيحين" بين أبي حازم الأشجعي، وأبي حازم الأعرج، لأنهما اللذان لهما رواية فيهما، ويفرّق بينهما بأمور:
[أحدها]: أن الأشجعيّ روى عن أبي هريرة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، والأعرج لم يرو عن أحد من الصحابة غير سهل بن سعد رضي الله عنه.
[الثاني]: أن الأول كوفي، والثاني مدني.
[الثالث]: أن الأول من الطبقة الثالثة، والثاني من الخامسة.
7 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 427، و"تقريب التهذيب" ص 384.
(2)
راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 507، و"التقريب" ص 400.
وأما شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به، فقد استوفيتها في الحديث الماضي، غير تخريجه، فأذكره هنا، فأقول:
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، فلم يُخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا "الإيمان" 9/ 141 عن محمد بن عبّاد، وابن أبي عمر، كلاهما عن مروان بن معاوية - و 9/ 142 عن محمد بن حاتم بن ميمون، عن يحيى بن سعيد القطّان، وحديثه أتمّ - كلاهما عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم الأشجعيّ عنه.
وأخرجه (الترمذيّ) في "التفسير"(3188) عن بُندار، عن يحيى بن سعيد به، وقال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 2/ 434 و 2/ 441 و (أبو نعيم) في "مستخرجه "(127)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى أول الكتاب قال:
[142]
(
…
) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ: "قُلْ: لَا إِلهَ إِلَّاَ اللهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ، لأقْرَرْتُ بهَا عَيْنَكَ، فَأنزَلَ اللهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]).
رجال هذا الإسناد هم المذكورون في السند الماضي، غير اثنين:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم بْنِ مَيْمُونٍ) البغداديّ السَّمِين، صدوق ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 235)(م د) 1/ 103.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فَرّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة متقن حافظٌ، إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 398.
وقوله: (يقولون: إنما حمله على ذلك الْجَزَعُ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الْجَزَعُ" بالجيم والزاي، صحيح الرواية، لا يُعرف في كتاب مسلم غيرها، وهو بمعنى الخوف من الموت، وفي كتاب أبي عُبيد:"الْخَرَعُ" - بالخاء المعجمة، والراء المهملة - وقال: يعني الضعف، والْخَوَر، وكذلك قال ثعلبٌ، وفسّره به، قال شَمِر
(1)
: يقال: خَرعَ الرجل: إذا ضعُفَ، وكلُّ رِخْوٍ ضعيفٍ خَرِيعٌ، وخَرع، و"الْخَرَعُ": الفصيل الضعيف، قال: و"الْخَرعُ": الدَّهِشُ، وفي "الصحاح" "الخَرَعُ - بالتحريك -: الرخاوة في الشيء، وقد خَرعَ الرجُل - بالكسر -: أي ضعُف، فهو خرع، ويقال لِمشْفَر البعير إذا تدلَّى: خَرِيعٌ. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "الْجَزَع" هكذا هو في جميع روايات المحدثين في مسلم وغيره "الجزع" بالجيم والزاي، وكذا نقله القاضي عياض وغيره من جميع روايات المحدثين، وأصحاب الأخبار، أي التواريخ، والسير، وذهب جماعات من أهل اللغة إلى أنه "الْخَرَع" - بالخاء المعجمة، والراء المفتوحتين - أيضًا، وممن نَصَّ عليه كذلك الْهَرَويّ في "الغريبين"، ونقله الخطابيّ عن ثعلب مُختارًا له، وقاله أيضًا شَمِر، ومن المتأخرين أبو قاسم الزمخشريّ، قال القاضي عياض رحمه الله: ونبّهنا غير واحد من شيوخنا على أنه الصواب، قالوا: والْخَرَع هو الضعف والْخَوَر، قال الأزهريّ: وقيل: الْخَرَعُ: الدَّهَشُ، قال شَمِر: كلُّ رَخْوٍ ضعيفٍ خَرِيع، وخَرعٌ، قال: والْخَرَع: الدَّهَشُ، قال: ومنه قول أبي
(1)
هو شَمِر بن حمدويه الهرويّ، أبو عمر اللغويّ الأديب، رحل إلى العراق شابًا، وأخذ عمن بها من أهل اللغة، وكتَبَ الحديث، له كتاب كبير في اللغة ابتدأه بحرف الجيم، وكان في غاية الكمال، أودعه تفسير القرآن وغريب الحديث، غير أنه كان ضَنِينًا به، لا يسمح بنسخه، ففقد جلّه بوفاته، وله غريب الحديث، توفي سنة (255 هـ). انظر:"بغية الوعاة" 2/ 4 و"إنباه الرواة" 2/ 77 و"نزهة الألباب" ص 259.
(2)
"المفهم" 1/ 194.
طالب، فذكره، وفسّره بالضعف والْخَوَر. والله أعلم، انتهى (1).
وقوله: (لولا أن تُعيّرني قريش) أي تَسُبّني، وتُقَبِّح إليّ، يقال: عيّرتُهُ بكذا تعييرًا: إذا قبّحته، ونسبته إليه، يتعدّى بنفسه، وبالباء، والمختار أن يتعدّى بنفسه، قال الشاعر [من الطويل]:
أَعَيَّرْتَنَا أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا
…
وَذَلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرُ
قاله في "المصباح"، وقال في "اللسان": وقد عَيَّره الأمرَ، والعامّة تقول: عَيَّره بكذا بالباء، والأول كلام العرب، كما قال النابغة [من البسيط]:
وَعَيَّرَتْنِي بَنُو ذُبْيَانَ خَشْيَتَهُ وَهَلْ
…
عَلَيَّ بِأَنْ أَخْشَاكَ مِنْ عَارِ؟
انتهى باختصار
(2)
.
وقوله: (لأقررت بها عينك) أي سَرَرتك بقولها، وأبلغتُك أمنيّتك، يقال: قَرَّت العينُ، من باب ضربَ قُرَّةً بالضمّ، وقُرُورًا: بَرَدَت، سُرُورًا، وفيه لغة أخرى من باب تَعِبَ
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: أحسن ما يقال فيه: ما قاله أبو العباس ثعلب، قال: معنى أَقَرَّ الله عينه: أي بَلَّغَه الله أمنيته، حتى ترضى نفسه، وتَقَرَّ عينه، فلا تستشرفُ لشيء، ومنه قولهم لمن أدرك ثأره: وقَعْتَ بِقُرِّكَ: أي أدرك قلبك ما كان يتطلَّعُ إليه، وقال الأصمعيّ: معناه أبرد الله دَمْعَته، لأن دمعة الفَرَحِ باردةٌ، قال القاضي عياض: وسمعتُ الأُستاذ أبا الحسن بن الأخضر النحويّ يقول في تفسير هذا: إنه من البرد، كما قال في ضدّه من السّخْن بقوله: أسخن الله عينه، وذلك أن الذي يَرَى ما يسؤوه يَبْكي، فتَسْخن عينه بالدموع، والذي يرى ما يَسُرُّه لا يبكي، فتبقى عينه باردة، فيكون معنى "أقرّ الله عينه": أي أراه ما يسُرُّه. انتهى
(4)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
1) "الإكمال" 1/ 210 - 212 و"شرح النووي" 1/ 216 - 217.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 439 و"لسان العرب" 4/ 625.
(3)
"المصباخ المنير" 2/ 496 - 497.
(4)
"الإكمال" 1/ 212 - 214 و"شرح النووي" 1/ 217.
(10) - (بَابٌ مَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[143]
(26) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ خالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ مَاتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ لَا إِلهَ إلَّا اللهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الحافظ المذكور قريبًا.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شَدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) 2/ 3.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُلَيَّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ [8](ت 193)(ع) 1/ 3.
4 -
(خَالِدُ) بن مِهْرَان، أبو الْمَنَازل - بفتح الميم، وقيل: بضمّها، وكسر الزاي - الْحَذّاء - بفتح المهملة، وتشديد الذال المعجمة - مولى قريش، وقيل: مولى بني مُجَاشِع، البصريّ، ثقة، يُرسل [5].
رَأَى أنس بن مالك، ورَوَى عن عبد الله بن شقيق، وأبي رجاء العُطَارديّ، وأبي عثمان النَّهْدي، وأبي قلابة، وأنس، ومحمد، وحفصة أولاد سيرين، وغيرهم.
ورَوَى عنه الحمادان، والثوري، وشعبة، وابن علية، وسعيد بن أبي عروبة، وخالد بن عبد الله الواسطي، وعبد الوهاب الثقفي، وبشر بن المفضل، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: ثَبْت. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن سعد: لم يكن خالد بِحَذّاء، ولكن كان يجلس إليهم، قال: وقال فهد بن حَيّان:
إنما كان يقول: احْذُ على هذا النحو، فلُقَب الحذاء، قال: وكان خالد ثقة، مَهِيبًا، كثير الحديث، توفي سنة (141)، وكان قد استُعْمِل على العشور بالبصرة. وقال محمد بن المثنى عن قُريش بن أنس: مات سنة (142) أو أكثر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحكى القولين في تاريخ وفاته. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال أبو الوليد الباجي: قرأت على أبي ذر الهروي في "كتاب الكنى" لمسلم: خالدٌ الحذاء أبو المنازل - بفتح الميم -، قال أبو الوليد: والضم أشهر.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "كتاب العلل" عن أبيه: لم يسمع خالد الحذاء من أبي عثمان النَّهْدي شيئًا، وقال أحمد أيضًا: لم يسمع من أبي العالية، وذكر ابن خزيمة ما يوافق ذلك، ويشهد له. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أبيه عن أحمد: ما أُراه سمع من الكوفيين من رجل أقدم من أبي الضحى، وقد حَدَّث عن الشعبي، وما أُراه سمع منه، وقال غيره: لم يسمع من عِرَاك بن مالك، بينهما خالد بن أبي الصَّلْت، وحكى العُقيليّ في "تاريخه" من طريق يحيى بن آدم، عن أبي شهاب قال: قال لي شعبة: عليك بحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق، فإنهما حافظان، واكْتُم علَيَّ عند البصريين في خالد الحذاء وهشام، قال يحيى: وقلت لحماد بن زيد: فخالد الحذاء؟ قال: قَدِمَ علينا قَدْمَةً من الشام، فكأنا أنكرنا حفظه. وقال عباد بن عباد: أراد شعبة أن يَقَعَ في خالد، فأتيته أنا وحماد بن زيد، فقلنا له: ما لك أَجُنِنتَ؟ وتَهَدَّدناه، فسكت. وحَكَى الْعُقَيليّ من طريق أحمد بن حنبل: قيل لابن علية في حديث كان خالد يرويه، فلم يَلْتَفِت إليه ابنُ علية، وَضَعَّفَ أمر خالد. وعن الذهبي: ما خالد في الثبت بدون هشام بن عروة وأمثاله.
قال الحافظ: والظاهر أن كلام هؤلاء فيه، من أجل ما أشار إليه حماد بن زيد من تغير حفظه بأخرة، أو من أجل دخوله في عمل السلطان. والله أعلم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.
[تنبيه]: لا يوجد في الرواة من يسمّى خالد بن مِهْران غير صاحب الترجمة. والله تعالى أعلم.
5 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن شهاب التَّمِيميّ الْعَنْبَريّ، أبو بِشْر البصريّ، ثقة [5].
رَوَى عن جُندُب البجليّ، وحُمْران بن أبان، وأبي المتوكل الناجيّ، وأبي الصِّدّيق الناجيّ، وأبي سفيان، طلحة بن نافع، وغيرهم.
ورَوى عنه سعيد بن أبي عروبة، ويونس بن عُبيد، وأبو بشر، وخالد الحذّاء، ومنصور بن زاذان، وسلمة بن علقمة، ومحمد بن عبد الله بن أبي يعقوب.
قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث وحديث رقم (452)
(1)
: "كنّا نحزُر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث، وأعاده بعده.
[تنبيه]: جملة من يُسمّى بالوليد بن مسلم في الكتب الستة اثنان فقط:
1 -
صاحب الترجمة هذا.
2 -
والوليد بن مسلم الدمشقيّ الثقة المعروف بتدليس التسوية، وسيأتي في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه برقم (147) - إن شاء الله تعالى -.
6 -
(حُمْرَانُ) بن أبان، مولى عثمان بن عفّان، يُكنى أبا يزيد
(2)
، كان من النَّمِر بن قاسط، سُبِي بعين التَّمر، في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فابتاعه عثمان رضي الله عنه من الْمُسَيَّب بن نَجَبَة، فأعتقه، ثقة [2].
أدرك أبا بكر، وعُمر، وروى عن عثمان، ومعاوية.
ورَوَى عنه أبو وائل، شقيق بن سلمة، وهو من أقرانه، وأبو صَخْرَة، جامع بن شدّاد، وعروة بن الزبير، ومعاذ بن عبد الرحمن التيميّ، وعطاء بن يزيد الليثيّ، وأبو التياح، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وبيان بن بشر البجليّ، وغيرهم.
قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: حُمران من تابعي أهل المدينة، ومحدثيهم، وأورد ابن عبد البر نسبه إلى النَّمِر بن قاسط في ترجمة هشام بن عروة من "التمهيد"، وقال: إنه ابن عَمِّ صُهَيب بن سِنَان، يَلْتَقِي معه
(1)
أي برقم محمد فؤاد عبد الباقي، لا برقم شرحي، فتنبّه.
(2)
قاله النوويّ في "شرحه" 1/ 218.
في خالد بن عبد عمرو، قال: وكان حُمران أحد العلماء الْجِلّة، أهل الْوَجَاهة والرأي والشَّرَف، ورَوَينا بسند صحيح عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن الْمسور أن عثمان مَرِضَ، فكتب العهد لعبد الرحمن بن عوف، ولم يُطْلِع على ذلك إلا حمران، ثم أفاق عثمان، فأطلع حمران عبد الرحمن على ذلك، فبَلَغَ عثمانَ، فغضب عليه، فنفاه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأَرَّخ ابن قانع وفاته سنة (76)، وابن جرير الطبريّ سنة (71).
وقال ابن سعد: نزل البصرة، وادَّعَى وُلْده في النَّمِر بن قاسط، وكان كثير الحديث، ولم أرهم يحتجون بحديثه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولم أرهم يحتجّون به"، فيه نظر لا يخفى، فقد احتجّ به الشيخان، بل هو مما أجمعوا على الاحتجاج به، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وحَكَى قتادة أنه كان يصلي مع عثمان، فإذا أخطأ فَتَحَ عليه، وحَكَى الليث بن سعد أن عثمان أَسَرَّ إليه سِرًّا، فأَخبَرَ به عبدَ الرحمن بن عوف، فاستأمن له عبد الرحمن عثمان، وأخبره بما أخبره به، فغَضِبَ عليه عثمان ونفاه، وذكره خليفة بن خيّاط في تسمية عُمّال عثمان، فقال: وحاجبه حمران، وقال في موضع آخر: مات بعده سنة (75).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
[تنبيه]: جملة من يُسمّى بحمران في الكتب الستة ثلاثة:
1 -
صاحب الترجمة هنا.
2 -
وحمران بن أعين الكوفيّ، مولى بني شيبان، ضعيف، رُمي بالرفض من الطبقة الخامسة، عند ابن ماجه فقط.
3 -
وحمران مولى الْعَبَلات، مقبول من الطبقة الثالثة، عند النسائيّ فقط. والله تعالى أعلم.
7 -
(عُثْمَانُ) بن عَفّان بن أبي العاص بن أُمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أمير المؤمنين أبو عبد الله، وأبو عمر، وأمه أَرْوَى بنت كُرَيز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، عمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان رَبْعَةً، حسن الوجه، رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين، أسلم قديمًا، قال ابن إسحاق: كان أبو بكر مؤئفًا لقومه، فجعل يدعو إلى الإسلام مَن يَثِقُ به، فأسلم على يده فيما بلغني: الزبير، وطلحة، وعثمان، وزَوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رُقَتة من عثمان، وماتت عنده في أيام بدر، فزوجه بعدها أختها أم كلثوم، فلذلك كان يلقب ذا النورين. وجاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشّره بالجنة، وعَدّه من أهل الجنة، وشهد له بالشهادة. ورَوَى أبو خيثمة في "فضائل الصحابة" من طريق الضحاك، عن النَّزَّال بن سَبرَة قلنا لعلي: حَدِّثنا عن عثمان، قال: "ذاك امرؤ يُدْعَى في الملأ الأعلى ذا النورين. وجاء من طرُق كثيرة شهيرة صحيحة عن عثمان رضي الله عنه لَمّا أن حصروه انتشد الصحابةَ في أشياء، منها: تجهيزه جيش العسرة، ومنها مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عنه تحت الشجرة لَمّا أرسله إلى مكة، ومنها شراؤه بئر رُومة، وغير ذلك.
وهو أول من هاجر إلى الحبشة، ومعه زوجته رُقيّة، وتخلف عن بدر لتمريضها، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وتخلف عن بيعة الرضوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة، فأُشيع أنهم قتلوه، فكان ذلك سبب البيعة، فضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان. وقال ابن مسعود لَمّا بويع: بايعنا خيرنا ولم نَأْلُ. وقال علي رضي الله عنه: كان عثمان أوصلنا للرحم. وكذا قالت عائشة لما بلغها قتله: قتلوه، وإنه لأوصلهم للرحم، وأتقاهم للرب.
وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وبخراسان عبد الله بن عامر، وكان مَنْ حَجّ منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لَيّن العَرِيكة
(1)
، كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل بمعض أمرائه فيرضيهم، ثم يعيده بعدُ إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فعزله وكتب له كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان
(1)
أي: سَلِسَ الْخُلُق.
باستقرار ابن أبي سرح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فاخذوا الكتاب ورجعوا، وواجهوا به، فحلف أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سَلمْنا كاتبك، فخَشِي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا وحصروه في داره، واجتمع جماعة يَحمُونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوَّروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه فقتلوه، فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، والله المستعان
(1)
.
وروى البخاري في قصة قتل عمر رضي الله عنه أنه عَهِد إلى ستة، وأمرهم أن يختاروا رجلًا، فجعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف، فاختار عثمان فبايعوه، ويقال: كان ذلك يوم السبت غُرّة المحرم، سنة أربع وعشرين. وقال ابن إسحاق قُتل على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا من خلافته، فيكون ذلك في ثاني وعشرين ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقال غيره: قُتل لسبع عشرة، وقيل: لثمان عشرة، رواه أحمد، عن إسحاق بن الطباع، عن أبي معشر. وقال الزبير بن بكار: بويع يوم الاثنين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقُتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودُفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حَشّ كَوْكَب، كان عثمان اشتراه، فوسع به البقيع. وقُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور. وقيل: دون ذلك. وزعم أبو محمد بن حزم أنه لم يبلغ الثمانين
(2)
.
روى (146) حديثًا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، ومسلم بخمسة
(3)
. أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ، والوليدُ بن مسلم، فتفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ.
(1)
راجع: "الإصابة" 4/ 377 - 379.
(2)
راجع: "الإصابة" 4/ 377 - 379.
(3)
هكذا عند ابن الجوزيّ في "المنتقى"، والذي في برنامج الحديث أن له في "صحيح مسلم"(31) حديثًا، والظاهر أن الاختلاف بالتكرار وعدمه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخيه، فالأول كوفي، والثاني نسائيّ، ثم بغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وهما من صيغ الاتّصال، على ما أوضحته سابقًا.
5 -
(ومنها): أن قوله: "قال أبو بكر: حدّثنا ابن عليّة إلخ" من شدّة احتياط المصنّف رحمه الله تعالى، حيث يراعي اختلاف ألفاظ الشيوخ، ويؤدّيها كما سمعها منهم، وإن لم يكن اختلافهم مما يؤدّي إلى اختلاف المعنى، فإن ابن عليّة هو إسماعيل بن إبراهيم الذي ذكره به زهير بن حرب، فلما اختلف الشيخان في ذكره باسمه، وكنيته بيّن ذلك كما تحمّله منهما، ولم يقتصر على لفظ أحدهما؛ احتياطًا، وورعًا.
[تنبيه]: عُلَيَّة - بضم العين المهملة، مصغّرًا - اسم أم إسماعيل، وكان يكره أن يقال له: ابن عُليّة، لكن لضرورة اشتهاره بها استعمله العلماء، وقالوا: إنما يُنهى عنه إذا أريد به التنقيص، وإلى ذلك أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَذِكْرُهُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لَا بَأَسَ إِنْ لَمْ يَعِب
ومن لطيف ما نُقل عن الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى في ذلك أنه كَان يقول: حدثنا إسماعيل الذي يقال له: ابن عُليّة، انظر أيها اللبيب إلى حسن تلطف الإمام الشافعي رحمه الله حيث بَرَّأَ نفسه عن وصف شيخه بما يكرهه، لكن لما اضطرَّ إلى ذكره بما يعرفه به الناس أسنده إليهم، فقال: الذي يقال له، فلله در الشافعي رحمه الله تعالى، ما أذكاه، وأحسن أدبه، وهكذا ينبغي للتلميذ أن يُبَجِّلَ شيخه، ويبتعد عما يكرهه، فإن الله تعالى يَجْزِيه بأن يبارك علمه، كما بارك علم الشافعي رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أنه ربّما اشتبه الوليد بن مسلم بن شهاب العنبريّ، أبو بِشْر البصرفي هذا على من لا عِنَاية له بمعرفة أسماء الرجال وطبقاتهم، بالوليد بن مسلم الأمويّ مولاهم الدمشقيّ أبي العباس، صاحب الأوزاعيّ، ولا يشتبه ذلك على العلماء العارفين بالرجال والطبقات، فإنهما مفترقان في النسب إلى القبيلة، والبلدة، والكنية، كما ذكرنا وفي الطبقة، فإن الأول أقدم طبقة، من الطبقة الخامسة، كما أسلفناه، فهو من التابعين، في طبقة كبار شيوخ الثاني،
ويفترقان أيضًا في الشهرة، والعلم، والجلالة، فإن الثاني متميزٌ بذلك كله، قال العلماء: انتهى علمُ الشام إليه، وإلى إسماعيل بن عَيّاش، وكان أجلّ من ابن عيّاش، إلا أنه كان شديد التدليس، والتسوية
(1)
.
7 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: خالد، عن الوليد، عن حمران.
8 -
(ومنها): أن "الْحَذّاء" بالمدّ: لقب لخالد، قال أهل العلم: لم يكن خالدٌ حذّاءً قط، ولكنه كان يَجلس إليهم، فقيل له: الحذّاء لذلك، هذا هو المشهور، وقيل: إنما كان يقول: احْذُوا على هذا النحو، فلُقِّب بالحذّاء.
9 -
(ومنها): أن الصحابيّ رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنه، ذو المناقب الجمة، كما مرّ آنفًا في ترجمته. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ حُمْرَانَ) - بضمّ الحاء المهملة، وسكون الميم - ابن أبان (عَنْ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ") "من" يحتمل أن تكون شرطيّة، وأن تكون موصولة مبتدأ، وجوابها، أو الخبر، قوله:"دخل"(وَهُوَ) الواو وللحال، أي والحال أَنّه (يَعْلَمُ أنهُ) الضمير للشأن، وضمير الشأن هو ضمير غائب يعمل فيه الابتداء، أو أحد نواسخه، وتُفسّره الجملة بعده، ويسمّى ضمير القصّة إذا كان بلفظ مؤنّث، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في "الكافية الشافية"
(2)
:
وَمُضْمَرُ الشَّأنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كـ"إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"
لِلابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ
…
إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ
وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ
…
حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ
فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ
…
كـ"إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"
وَجَائِزٌ تَأنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا
…
أُنِّثَ أَوْ تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا
(1)
"شرح مسلم" بزيادة 1/ 218.
(2)
راجع: "الكافية الشافية" 1/ 233 - 234 بنسخة الشرح.
وَقَبْلَ مَا أَنِّثَ عُمْدَةً فَشَا
…
تَأنِيثُهُ كـ"إِنَهَا هِنْدٌ رَشَا"
والجملة المفسّرة هنا هي قوله: (لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ)، أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى (دَخَلَ الْجَنَّةَ) قال بعض المحقّقين: لا شكّ أن الإقرار باللساق ركن من أركان الإيمان في حقّ القادر عليه، فمن علم أن لا إله إلا الله، ولكنه أبي أن يقرّ بذلك بلسانه مع القدرة على النطق، فليس بمؤمن، فمثل هذا الحديث يجب حمله على العاجز عن النطق؛ لخرس، أو مرض، أو عدم مُهلة. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": حقيقة العلم هي وُضُوح أمر ما، وانكشافه على غايته، بحيث لا يبقى له بعد ذلك غاية في الوضوح، ولا شكّ في أن من كانت معرفته بالله تعالى ورسوله كذلك، كان في أعلى درجات الجنّة، وهذه الحالة هي حالة النبيين والصّدّيقين، ولا يلزم فيمن لم يكن كذلك أن لا يدخُل الجنّة، فإن من اعتقد الحقّ، وصدّق به تصديقًا جازمًا لا شكّ فيه ولا ريب دخل الجنّة، كما قدّمناه، وكما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"من لَقِي الله، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله غير شاكّ فيهما دخل الجنّة"، وكما قال:"من كان آخر قوله: لا إله إلا الله دخل الجنّة"، فحاصل هذين الحديثين أن من لقي الله تعالى، وهو موصوف بالحالة الأولى والثانية دخل الجنّة، غير أن هناك فرقًا بين الدرجتين كما بين الحالتين، كما صرّحت به الآيات الواضحات، كقوله تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، انتهى
(1)
.
وسيأتي البحث في هذا مستوفًى في المسألة الثالثة، والرابعة - إن شاء الله تعالى -. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا مما تفرّد به المصنّف، فلم يُخرجه البخاريّ.
(1)
"المفهم" 1/ 196 - 197.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا 10/ 143 عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، كلاهما عن إسماعيل ابن عليّة - و 10/ 144 عن محمد بن أبي بكر المقدّميّ، عن بشر بن المفضل - كلاهما عن خالد الحذاء، عن الوليد بن مسلم العنبريّ البصري، عن حُمران، عنه.
و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1114) عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن غندر - و (113 عن بُندار، عن ابن أبي عديّ - كلاهما عن شعبة، عن خالد الحذّاء به.
و (أحمد) في "مسنده" 1/ 65 (464) عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة به، 1/ 69 و (498) عن إسماعيل ابن عليّة به، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(55) عن أبي بكر بن أبي شيبة به، و (أيو عوانة) في "مستخرجه"(128 و 129 و 130)، و (ابن خزيمة) في "كتاب التوحيد" 710 و 711 و 712 و 713 و 715 و 716 و 717 و 718 و 719) و (ابن حبان) في "صحيحه"(201) و (أبو نعيم) في "مستخرجه "(128 و 129 و 130)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(10 و 11 و 12) و (ابن منده) في "الإيمان"(32)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة):
قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": (اعلم): أن مذهب أهل السنة، وما عليه أهل الحق من السلف والخلف، أن من مات مُوَحّدًا دخل الجنة قطعًا على كل حال، فإن كان سالِمًا من المعاصي، كالصغير، والمجنون، والذي اتَّصَل جنونه بالبلوغ، والتائب توبةً صحيحة من الشرك، أو غيره من المعاصي إذا لم يُحْدِث معصية بعد توبته، والْمُوفَّق الذي لم يُبْتَلَ بمعصية أصلًا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار أصلًا، لكنهم يَرِدُون على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط، وهو منصوب على ظهر جهنم - أعاذنا الله منها، ومن سائر المكروه - وأما من كانت له معصيةٌ كبيرة، ومات من غير توبة، فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة أوّلًا، وجعله كالقسم الأوّل، وان شاء عذّبه القدر الذي يُريده سبحانه وتعالى، ثم يدخله الجنة، فلا يُخَلَّد في
النار أحدٌ مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عَمِلَ، كما أنه لا يدخل الجنة أحدٌ مات على الكفر، ولو عَمِلَ من أعمال البر ما عَمِلَ.
هذا مختصرٌ جامع لمذهب أهل الحقّ في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع مَن يُعْتَدُّ به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوصٌ تُحَصِّلُ العلم القطعيّ.
فإذا تَقَرَّرت هذه القاعدة، حُمِل عليها جميعُ ما وَرَدَ من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مُخَالَفَةٌ وَجَبَ تأويله عليها " لِيُجْمَعَ بين نصوص الشرع، وسنذكر من تأويل بعضها ما يُعْرَف به تأويل الباقي - إن شاء الله تعالى - انتهى كلام النوويّ
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة):
قد تكلّم العلماء في معنى هذا الحديث، فقد جَمَع القاضي عياض رحمه الله تعالى كلامًا حسنًا، جَمَعَ فيه نفائس، لخّصه النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه"، وزاد عليه، فقال:
قال القاضي رحمه الله تعالى: اختلف الناس فيمن عَصَى الله تعالى من أهل الشهادتين، فقالت المرجئة: لا تضرّه المعصية مع الإيمان، وقالت الخوارج: تضره، ويُكَفَّر بها، وقالت المعتزلة: يُخَلَّد في النار، إذا كانت معصيةً كبيرةً، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر، ولكن يوصف بأنه فاسقٌ، وقالت الأشعرية: بل هو مؤمن، وإن لم يُغْفَر له، وعُذِّب فلا بد من إخراجه من النار، وإدخاله الجنة، قال: وهذا الحديث حجة على الخوارج، والمعتزلة، وأما المرجئة، فإن احتجت بظاهره، قلنا: مَحْمِله على أنه غُفِر له، أو أُخرج من النار بالشفاعة، ثم أُدخل الجنة، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"دَخَل الجنة"، أي دخلها بعد مُجازاته بالعذاب، وهذا لا بد من تأويله، لِمَا جاء في ظواهرَ كثيرةٍ من عذاب بعض العصاة، فلا بُذ من تأويل هذا؛ لئلا تتناقض نصوص الشريعة.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "وهو يَعْلَمُ"، إشارة إلى الردّ على من قال من غلاة
(1)
"شرح مسلم" 1/ 217.
المرجئة: إنّ مُظهِر الشهادتين يدخل الجنة، وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قُيِّد ذلك في حديث آخر بقوله صلى الله عليه وسلم:"غير شاكّ فيهما"، وهذا يؤكد ما قلناه.
قال القاضي: وقد يَحتَجّ به أيضًا من يَرَى أن مجرد معرفة القلب نافعة، دون النطق بالشهادتين؛ لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين، لا تنفع إحداهما، ولا تُنجي من النار دون الأُخرى، إلا لمن لم يقدر على الشهادتين؛ لآفة بلسانه، أو لم تُمْهِله لمدة ليقولها، بل اخترمته المنية، ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ؛ إذ قد وَرَدَ مُفَسَّرًا في الحديث الآخر:"من قال: لا إله إلا الله"، و"من شَهِد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"، وزاد في الحديث الآخر:"مستيقنًا بها قلبه"، وفي الآخر:"صادقًا من قلبه"، وفي الآخر:"غير شاكّ فيهما".
وقد جاء هذا الحديث، وأمثلة له كثيرة، في ألفاظها اختلافٌ، ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلافٌ، وللناس فيها خبط كثيرٌ، وعن السلف خلاف مأثورٌ.
فجاء هذا اللفظ في هذا الحديث، وفي رواية معاذ رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"
(1)
، وفي رواية عنه قال صلى الله عليه وسلم:"من لَقِيَ الله لا يشرك به شيئًا، دخل الجنة"، وعنه صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، إلا حرمه الله على النار"، وكلها أحاديث صحيحة.
ونحوه في حديث عبادة بن الصامت، وعِتبان بن مالك، وزاد في حديث عبادة:"على ما كان من عَمَل"، وفي حديث أبي هريرة:"لا يلقى الله تعالى بهما عبدٌ غير شاكّ فيهما إلا دخل الجنة"، وفي حديث آخر:"فيُحجب عن الجنّة".
وفي حديث أبي ذرّ، وأبي الدرداء رضي الله عنهما:"ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنّة، وإن زنى، وإن سرق".
وفي حديث أنس رضي الله عنه "حَرَّم الله على النار من قال: لا إله إلا الله،
(1)
أخرجه أبو داود (3116)، وصححه الحاكم في "المستدرك 1/ 500، ووافقه الذهبيّ.
يبتغي بذلك وجه الله". وهذه الأحاديث كلُّها سردها مسلم رحمه الله تعالى في كتابه.
فَحُكِيَ عن جماعة من السلف رحمهم الله تعالى، منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض، والأمر والنهي، وقال بعضهم: هي مُجْمَلةٌ تحتاج إلى شرح، ومعناه: من قال الكلمة، وأَدَّى حقَّها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصريّ، وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة، ومات على ذلك، وهذا قول البخاريّ.
وهذه التأويلات إنما هي إذا حُمِلت الأحاديث على ظاهرها، وأما إذا نُزِّلت منازلها، فلا يُشكِل تأويلها على ما بينه المحققون.
فنقر أوّلًا أن مذهب أهل السنة بأجمعهم، من السلف الصالح، وأهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين، أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى، وأن كل من مات على الإيمان، وتشهَّد مُخْلِصًا من قلبه بالشهادتين، فإنه يدخل الجنة، فإن كان تائبًا، أو سليمًا من المعاصي، دخل الجنة برحمة ربه، وحُرِّم على النار بالجملة، فإن حَمَلْنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بَيِّنًا، وهذا معنى تأويلي الحسن والبخاريّ، وإن كان هذا من الْمُخَلِّطين بتضييع ما أوجب الله تعالى عليه، أو بفعل ما حُرِّم عليه، فهو في المشيئة، لا يُقْطَع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة لأول وَهْلَة، بل يُقْطَع بأنه لا بُدّ من دخوله الجنة آخرًا، وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة، إن شاء الله تعالى عَذَّبه بذنبه، وإن شاء عفا عنه بفضله.
ويُمكِن أن تَسْتَقِلّ الأحاديث بنفسها، وُيجمَع بينها، فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه من إجماع أهل السنة أنه لا بد من دخولها لكل مُوَحِّد، إما مُعَجَّلًا مُعَافًى، وإما مُؤَخَّرًا بعد عقابه.
والمراد بتحريم النار الخلود، خلافًا للخوارج والمعتزلة في المسألتين.
ويجوز في حديث: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"، أن يكون مخصوصًا بمن كان هذا آخر نطقه، وخاتمة لفظه، وإن كان قبل مُخَلِّطًا، فيكون سببًا لرحمة الله تعالى إيّاه، ونجاته رأسًا من النار، وتحريمه عليها، بخلاف من لم يكن ذلك آخر كلامه من الموحدين المخلِّطين.
وكذلك ما وَرَدَ في حديث عبادة رضي الله عنه من مثل هذا، ودخوله من أيّ أبواب الجَنَّة شاء يكون مخصوصًا بمن قال ما ذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقُرِنَ بالشهادتين من حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يُرَجِّح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة، ودخول الجَنَّة لأول وَهْلَةٍ - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بمراد نبيّه صلى الله عليه وسلم
(1)
. قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى، وهو في نهاية الحسن، وأما ما حكاه عن ابن المسيِّب وغيره فضعيف باطل، وذلك لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة رضي الله عنه، وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر، سنة سبع بالاتفاق، وكانت أحكام الشريعة مُسْتَقِرَّةً، وأكثر هذه الواجبات كانت فروضها مستقرة، وكانت الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الإحكام قد تقرر فرضها، وكذا الحج على قول من قال فُرِض سنة خمس أو ست، وهما أرجح من قول من قال سنة تسع. والله تعالى أعلم.
وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى تأويلًا آخر في الظواهر الواردة بدخول الجَنَّة بمجرد الشهادة، فقال: يجوز أن يكون ذلك اقتصارًا من بعض الرواة، نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدلالة مجيئه تامًّا في رواية غيره، وقد تقدم نحو هذا التأويل، قال: ويجوز أن يكون اختصارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خاطب به الكفارَ، عبدةَ الأوثان الذين كان توحيدهم لله تعالى مصحوبًا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام، ومستلزمًا له، والكافر إذا كان لا يُقِرّ بالوحدانية، كالوثنيّ والثنويّ، فقال: لا إله إلَّا الله، وحاله الحال التي حكيناها حُكِم بإسلامه، ولا نقول - والحالة هذه -: ما قاله بعض أصحابنا، من أن من قال: لا إله إلَّا الله يحكم بإسلامه، يُجْبَر على قبول سائر الإحكام، فإن حاصله راجع إلى أنه يُجْبَر حينئذ على إتمام الإسلام، ويجعل حكمه حكم المرتد إن لَمْ يفعل، من غير أن يُحْكَم بإسلامه بذلك في نفس الأمر، وفي أحكام الآخرة، ومن وصفناه مسلم في نفس الأمر، وفي أحكام الآخرة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى، وهو
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 222 - 227.
تحقيقٌ مفيدٌ، وقد تقدّم هذا البحث، مُسْتَوْفًى في المسائل التي ذكرتها في شرح حديث جبريل، فراجعها تُشْفَ غُلَّتك، وتَنَلْ بُغْيَتَكْ، وبالله تعالى التوفيق، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف أول الكتاب قال رحمه الله تعالى:
[144]
(27) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّل، حَدَّثنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مِثْلَهُ، سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: ستة أيضًا، وقد تقدّموا سوى اثنين:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) - بفتح الدال المشدّدة - هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [10].
رَوَى عن عمه عمر بن عليّ المقَدَّميّ، ويزيد بن زُريع، وحماد بن زيد، وابن علية، وبشر بن المفضل، وعباد بن عباد، ومعتمر بن سليمان، وأبي عوانة، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وروى البخاريّ عن أحمد غير منسوب عنه، ورَوَى النسائيّ عن أبي بكر بن عليّ المروزيّ عنه، وأبو حاتم، وأبو بكر بن أبي عاصم، وإبراهيم بن هاشم الْبَغَويّ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وإبراهيم بن محمد بن نائلة، وعبد الله بن أحمد، ويوسف بن يعقوب القاضي، وهو راويته، وأبو يعلى أحمد بن علي بن الْمُثَنَّى الموصليّ، وغيرهم.
قال عبد الخالق بن منصور: قلت ليحيى: أَكْتُبُ عنه أحاديث أبيه؟ قال: اكتب، وقال أيضًا عن يحيى: ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، محلُّه الصدق.
قال البخاري وغير واحد: مات سنة أربع وثلاثين ومائتين، زاد بعضهم: في أول السنة، وقال ابن قانع: مات في شعبان، وكان ثقة.
تفرَّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ - بقاف، ومعجمة - أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8].
رَوَى عن حميد الطويل، وأبي رَيْحَانة، ومحمد بن المنكدر، وابن عون، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وسُهيل بن أبي صالح، وعاصم بن كُليب، وعبيد الله بن عُمر العمريّ، وعبد الرَّحمن بن إسحاق، وعُمَارة بن غَزِيّة. وعن أبيه المفضل بن لاحق، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وعلي، ومسدد، وأبو أسامة، وأبو الوليد، وخليفة بن خياط، وبشر بن معاذ الْعَقَديّ، وعثمان بن أبي شيبة، وحامد بن عُمر البكراويّ، ومحمد بن هشام بن أبي خَيْرة السَّدُوسيّ، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وغيرهم.
قال أحمد بن حنبل: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وعَدَّه ابن معين في أثبات شيوخ البصريين، وقال عليّ بن المدينيّ: كان بشر يصلي كلّ يوم أربعمائة ركعة، ويصوم يومًا ويفطر يومًا، وذُكِرَ عنده إنسان من الجهمية، فقال: لا تذكروا ذاك الكافر، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: ثقة فقيه البدن، ثبت في الحديث، حسن الحديث، صاحب سنة، وقال البزار: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثيرَ الحديث عثمانيًّا، تُوُفّي سنة (186)، وقال أحمد بن حنبل: دخلت البصرة في رجب سنة (186)، واعْتُقِل لسان بشر بن المفضل قبل أن نخرُج، ومات سنة (187)، وأرَّخه ابن حبان في "الثقات" في ربيع الأول منها.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا.
وقوله: (مثله) يعني أن حديث بشر المفضل مثل رواية إسماعيل بن عُليَّة.
وقوله: (سواءً) منصوب على الحال، أي حال كون الحديثين متساويين في اللفظ والمعنى، وإنما الاختلاف في أول الحديث، فإن ابن عليّة رواه بالعنعنة في كلّ من الوليد، وحمران، وأن عثمان قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ورواه بشر بتصريحهما بالسماع، وبقول عثمان: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: رواية بشر هذه ساقها الحافظ ابن منده: رحمه الله في "كتاب الإيمان"، فقال:
33 -
أنبأ علي بن الحسين بن عليّ، ثنا أبو حاتم الرازيّ ثنا مُسَدَّدٌ (ح)
وأنبأ يحيى بن عبد الله بن الحارث، ثنا أحمد بن عليّ بن سعيد، ثنا الْقَوَاريريّ، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن خالد الحذّاء، عن الوليد أبي بشر، قال: سمعت حُمْران يقول: سمعت عثمان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات، وهو يعلم أن لا إله إلَّا الله، دخل الجَنَّة"، انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[145]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضرِ بْنِ أَبِي النَّضْر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر، هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ، قَالَ: فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْم، "قالَ: حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْم، فَدَعَوْتَ اللهَ عَلَيْهَا، قَالَ: فَفَعَلَ، قَالَ: فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّه، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِه، قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ، قُلْتُ: وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنَّوَى؟ قَالَ: كَانُوا يَمُصُّونَهُ، وَيَشْرَبُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهَا، حَتَّى مَلَأَ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ، قَالَ: فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ، غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ) البغداديّ، وقد يُنسب إلى جدّه، واسمه كنيته، وقيل: اسمه أحمد، وقيل: محمد، ثقة [111](ت 245)(م، س) 5/ 36.
2 -
(أَبُو النَّضْر، هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبت [9](ت 207)(ع) 5/ 36.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ الْأَشْجَعِيُّ) هو: عبيد الله بن عُبيد الرَّحمن، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ مأمون، أثبت الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9].
(1)
"كتاب الإيمان" لابن منده 1/ 174.
رَوَى عن هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومالك بن مِغْوَل، وشعبة، والثوريّ، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغيرهم.
وروى عنه ابناه: أبو عبيدة، وعباد، وأبو النضر هاشم بن القاسم، ويحيى بن آدم، وابن المبارك، وعثمان بن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم.
قال الأشجعيّ: سمعت من الثوري ثلاثين ألف حديث، وقال ابن سعد: رَوَى كُتُب الثوريّ على وجهها، ورَوَى عنه "الجامع"، وكان من أهل الكوفة، وقَدِمَ بغداد، فمات بها، وقال قبيصة: لَمّا مات الثوريّ أرادوا الأشجعي على أن يقعُد مكانه فأبي، وقال أبو بكر الأعين: سألت أحمد عن أصحاب الثوريّ، فقال: يحيي، وعبد الرَّحمن، ووكيع، ثم الأشجعيّ، وقال أبو داود، عن أحمد: كان يكتب في المجلس، فمن ثَمَّ صح حديثه، وقال ابن مُحْرِز، عن ابن معين: ما كان بالكوفة أعلم بسفيان من الأشجعيّ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة مأمون، وقال النسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: كان ثقةً ثبتًا متقنًا عالِمًا بحديث الثوريّ، رجلًا صالحًا، أرفع مَن رَوَى عن سفيان، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: كان أثبت الناس في الثوريّ، إذا أخرج كتابه، وقال ابن سعد: أشجعي، من أنفسهم، وكان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِب، وينفرد. قال أبو داود: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة في أولها.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
[تنبيه]: "عبيد الله بن عبيد الرَّحمن" مصغّر الاسمين، في وقع في بعض نسخ "التقريب" مكبّر الاسم الثاني، فمن أخطاء المطابع، وهو منفرد بهذا الاسم، فلا يوجد في الكتب الستّة له فيه مشارك. والله تعالى أعلم.
4 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) - بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الواو - ابن عاصم بن غَزِيّة بن حُرْثة بن جُريج بن بَجِيلة البجلي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت، من كبار [7].
روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعون بن أبي جحيفة، وسماك بن حرب، ونافع مولى ابن عمر، والزبير بن عَدِيّ، ومحمد بن سُوقة، والوليد بن العيزار، وغيرهم.
وروى عنه أبو إسحاق شيخه، وشعبة، ومِسْعَر، والثوري، وزائدة، وابن عيينة، وإسماعيل بن زكريا، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع، وابن المبارك، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: ثقة ثبت في الحديث. وقال يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال أبو نعيم: ثنا مالك بن مِغْول، وكان ثقة. وقال العجلي: رجل صالح مُبَرّزٌ في الفضل. وقال الطبراني: من خيار المسلمين. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: سمعت ابن عيينة يقول: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله فوضع خده بالأرض. وقال ابن سعد: كان ثقة، مأمونًا، كثير الحديث، فاضلًا خيرًا. وقال البخاري: قال عبد الله بن سعيد: سمعت ابن مهدي يقول: إذا رأيت الكوفي يذكر مالك بن مغول بخير، فاطمأن إليه. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من عُبّاد أهل الكوفة، ومتقنيهم.
قال عمرو بن علي: مات سنة سبع. وقال ابن سعد: سنة ثمان. وقال أبو نعيم وغيره: سنة تسع وخمسين ومائة، وفيها أرَّخه مُطّيِّن، وزاد: في ذي الحجة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
[تنبيه]: "مالك بن مغول" لا مشارك له في هذا الاسم، والله تعالى أعلم.
5 -
(طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ) بن عمرو بن كعب بن جخدب بن معاوية بن سعد بن الحارث الْهَمْدانيّ الياميّ - بالتحتانيّة - أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ قارئٌ فاضلٌ [5].
رَوَى عن أنس، وعبد الله بن أبي أوفي، وخَيْثمة بن عبد الرَّحمن، وزيد بن وهب، وأبي صالح السَّمَّان، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومصعب بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم.
وروى عنه أبو إسحاق السبيعيّ، وهو أكبر منه، وإسماعيل بن أبي خالد، وزُبيد بن الحارث الياميّ، والأعمش، وهم من أقرانه، وابنه محمد، ومالك بن مِغْوَل، وغيرهم.
قال ابن معين وأبو حاتم: والعجليّ ثقة، وقال أبو معشر: ما ترك بعده مثله، وأثنى عليه، وقال عبد الله بن إدريس: ما رأيت الأعمش يُثني على أحد أدركه إلَّا على طلحة بن مُصَرِّف، قال ابن إدريس: كانوا يُسَمُّونه سيد القراء، وقال العجليّ: كان عثمانيًّا، وكان من أقرإ أهل الكوفة، وخيارهم: قال: واجتمع القراء في منزل الحكم بن عتيبة، فاجتمعوا على أن طلحة أقرأ أهل الكوفة، فبلغه ذلك، فغدا إلى الأعمش يقرأ عليه؛ لِيَذْهَب ذلك الاسم عنه، وقال عبد الملك بن أبجر: ما رأيت مثله، وما رأيته في قوم إلَّا رأيت له الفضل عليهم، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث صالحةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قيل لابن معين: سمع طلحة من أنس؟ فقال: لا، وسمعت أبي يقول: طلحة أدرك أنسًا، وما ثبت له سماع منه.
قال أبو نعيم، وعمرو بن عليّ، وابن سعد، وغيرهم: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وقال يحيى بن بكرٍ، وابنُ نُمَير: مات سنة (13).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (27) و (173) و 996) و 1071) وأعاده بعده، و (1634) و (1637).
[تنبيه]: "طلحة بن مصرّف" لا مشارك له في هذا الاسم، وهو بضم الميم، وفتح الصاد المهملة، وكسر الراء، هذا هو المشهور المعروف في كتب المحدِّثين، وأصحاب الْمُؤتَلِف، وأصحاب أسماء الرجال وغيرهم.
وقال النوويّ في "شرحه": وحَكَى الإمام أبو عبد الله القلعيّ الفقيه الشافعيّ في كتابه "ألفاظ الْمُهَذب" أنه يُرْوَى بكسر الراء وفتحها، وهذا الذي حكاه من رواية الفتح غريب منكر، ولا أظنه يصح، وأخاف أن يكون قَلَّد فيه بعض الفقهاء، أو بعض النُّسَخ، أو نحو ذلك، وهذا كثيرٌ، يوجد مثله في كتب الفقه، وفي الكتب المصنفة في شرح ألفاظها، فيقع فيها تصحيفات، ونقولٌ غريبةٌ، لا تُعْرَف، وأكثر هذه الغريبة أغاليط؛ لكون الناقلين لها لَمْ يَتَحَرَّوا
فيها. والله تعالى أعلم، انتهى كلام النوويّ
(1)
.
6 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبتٌ [3](ت 101)(ع) 1/ 4.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 1/ 4. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث بالإفراد مرتين، وبالجمع مرّة، والعنعنة في الباقي، وكلّها من صيغ الاتّصال على ما قدّمنا تفصيله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو، والترمذيّ، والنسائيّ، وغير عبيد الله الأشجعيّ، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من عبيد الله الأسجعيّ، وشيخه، ووالده بغداديّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدِّه: أبو بكر، عن أبي النضر، وتابعيّ عن تابعيّ: طلحة عن أبي صالح، وصحابيّه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كنّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الْمَسِير": السير، يريد به السفر. انتهى.
وفي رواية الأعمش الآتية: "لَمّا كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة
…
"، فتبين بها أن ذلك المسير كان في غزوة تبوك.
(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَنَفِدَتْ) أي فنيت، وفرغت، يقال: نَفِدَ - بكسر الفاء - يَنْفَدُ - بفتحها، من باب تَعِبَ، نَفَادًا: فَنِيَ، وانقطع، ومنه قوله تعالى:{لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109]، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أنفدته: إذا أفنيته، قاله في "المصباح"
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 11/ 222.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 616 بزيادة.
وقال في "القاموس" نَفِدَ كَسَمِعَ نَفَادًا، ونَفَدًا: فَنِيَ وذهبَ، وأنفده: أفناه، كاستنفده، وانتفده، ونَفِدَ القومُ: فَنِي زادُهُم، وما لُهُم. انتهى
(1)
.
(أَزْوَادُ الْقَوْمِ) بالرفع على الفاعليّة، و"الأَزْوَادُ" بالفتح: جمع زاب، وهو طعامُ المسافر المتّخذ لسفره (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (حَتَّى هَمَّ) الظاهر أن الضمير للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقتضيه صنيع القرطبيّ في "المفهم"، ويكون المعنى حتى هَمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بنحر بعض حمائلهم؛ ليستعينوا بذلك على دفع الجوع، ويحتمل أن يكون الضمير للقوم باعتبار أن لفظه مفرد، ويؤيّد هذا قوله في الرواية التالية:"قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا، فنحرنا نواضحنا".
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كان هذا الهمّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم بحكم النظر المصلحيّ، لا بالوحي، إلا ترى كيف عَرَض عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه مصلحة أخرى، ظهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم رُجحانها، فوافقه عليها، وعمل بها
(2)
.
(بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ) يعني ما يَحمل أثقالهم، واحدتها حَمُولةٌ - بفتح الحاء - ومنه قوله تعالى:{حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142]، وهي الإبل التي تُحمَل عليها الأثقال، وتُسمّى رواحل؛ لأنَّها يُرحل عليها، وتُسمّى نواضح إذا استُقي عليها، والبعير ناضح، والناقة ناضحة، قاله أبو عبيد
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله "حمائلهم": رُوِيَ بالحاء المهملة، وبالجيم، وقد نَقَلَ جماعة من الشُّرّاح الوجهين، لكن اختلفوا في الراجح منهما، فممن نَقَلَ الوجهين صاحب "التحرير"، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح وغيرهما، واختار صاحب "التحرير" الجيم، وجزم القاضي عياض بالحاء، ولم يذكر غيرها، قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى: وكلاهما صحيح، فهو بالحاء جمع حَمُولة - بفتح الحاء - وهي الإبل التي تُحْمَلُ، وبالجيم جمع جِمَالة - بكسرها - جمع جَمَل، ونظيره حَجَرٌ وحِجَارة، والجمل هو الذكر، دون الناقة. هكذا نقله النوويّ
(4)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 291.
(2)
"المفهم" 1/ 198.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 231 و"المفهم" 1/ 197.
(4)
"شرح مسلم" 1/ 223.
وعبارة ابن الصلاح: قوله: "همّ بنحر بعض حمائلهم" هو في الأصل الذي هو بخطّ الحافظ أبي عامر الْعَبدريّ، وفي أصل أبي القاسم الدمشقيّ:"حمائلهم" بالحاء المهملة محقَّقًا، ولم يذكر القاضي عياض غير هذا، وفي الأصل المأخوذ عن الْجُلُوديّ بالجيم، والحاء، مكتوبًا عليه "مَعًا"، وهو بالجيم
(1)
في "تخريج أبي نعيم الحافظ على كتاب مسلم" في أصل مُعتَمَد مسموع عليه، وفي حاشيته:"الْجَمائل": جمع الْجِمالة، وهي التي لا إناث لها.
قال: وكلاهما له وجه صحيح، أما بالحاء فهو جمع "حَمُولة" بفتح الحاء، وهي الإبل التي تحمل، وعند أبي الْهَيْثَم اللغويّ: لا يقال في غير الإبل: حَمُولةٌ، وأما بالجيم، فهو: جمع جِمَالَة، بكسر الجيم، جمع جَمَل، ونظيره حجرٌ وحِجَارةٌ، والجَمَلُ هو الذكر دون الناقة، فيما حكاه الأزهريّ عن الفرّاء وغيره. والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(2)
.
وقال ابن الأثير: "الجمائل" جمع جَمَلَ، وقيل: جمع جِمَالَة، وجِمَالَةٌ جمع جَمَل، كرِسَالة ورَسَائل، وهو الأشبه. انتهى
(3)
.
وقال في "المصباح": الْجَمَل من الإبل بمنزلة الرجل يختصّ بالذكر، قالوا: ولا يُسمَّى بذلك إلَّا إذا بَزَلَ، وجمعه جِمالٌ، وأَجْمالٌ، وأَجْمُلٌ، وجِمَالَةٌ بالهاء، وجمع الجِمَال جِمالات. انتهى.
فأفاد أن الجمالة بالهاء جمع جَمَلٍ، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَقَالَ عُمَرُ) أي بعد أن أذن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن ينحروا بعض حمائلهم (يَا رَسُولَ الله، لَوْ جَمَعْتَ)"لو" هنا للعرض، نحو قولك: لو تَنْزِل عندنا، فتصيبَ خيرًا، ويحتمل أن تكون للتمنّي، كقولك: لو تأتيني، فتحدِّثَني، أي أتمنّى ذلك، ويحتمل أن تكون للشرط، ويقدَّر جوابها "لكان خيرًا".
(1)
الذي في "مستخرج أبي نعيم" 1/ 120 في النسخة المطبوعة: "حمائلهم" بالحاء المهملة، لا بالجيم، فليُحرَّر.
(2)
"صيانة صحيح مسلم" ص 178 - 179.
(3)
"النهاية" 1/ 298.
وفي الرواية التالية: "فجاء عمر، فقال: يا رسول الله إن فعلتَ قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم
…
" (مَا بَقِيَ) "ما" اسم موصول مفعول "جَمَعتَ"، و"بَقِي" بكسر القاف، وفتحها، والكسر لغة أكثر العرب، وبها جاء القرآن المكريم، والفتح لغة طيّء، فإنهم يُبدلون الكسرة فتحةً، فتنقلب الياء ألفًا، فيصير "بَقَا"، وكذلك يفعلون في كلّ فعل ثلاثيّ، سواء كانت الكسرة والياء أصليّتين، نحوُ "بَقِي"، و"نَسِيَ"، و"فَنِيَ"، أو كان ذلك عارضًا، كما لو بُني الفعل للمفعول، فيقولون في "هُدِيَ زيدٌ"، و"بُنِيَ البيتُ": هُدَى زيدٌ، وبُنَا البيتُ. قاله الفيّوميّ
(1)
.
(مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ) بيان لـ "ما بقي"(فَدَعَوْتَ اللهَ عَلَيْهَا) أي على الأزواد (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَفَعَلَ) أي فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أشار عليه عمر رضي الله عنه من جمع أزواد القوم (قَالَ: فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ)"البُرّ" بضمّ الموحّدة، وتشديد الراء: الْقَمْحُ، والواحدة: بُرّةٌ
(2)
(وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ)"التمر" بفتح، فسكون يذكّر ويؤنّث، فيقال: هو التمر، وهى التمر، وهو من ثمر النخل، كالزبيب من الْعِنَب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُترك على النخل بعد أرطابه حتى يَجِفَّ، أو يقارب، ثم يُقطَع، ويُترك في الشمس حتى ييبَس، قال أبو حاتم السجستانيّ: وربما جُدّت النخل، وهي باسرة بعد ما أَخَلَّت
(3)
؛ ليُخفَّف عنها، أو لخوف السرقة، فتترَكُ حتى تكون تمرًا، الواحدة تمرةٌ، والجمع تُمورٌ، وتُمْرَانٌ بالضمّ
(4)
.
وقوله: (قَالَ) الضمير لطلحة بن مُصَرِّف، كما قاله الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ المصريّ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ) يعني أن مجاهدًا زاد في روايته لهذا الحديث قوله: "وذو النواة بنواه"، ولم أجد رواية مجاهد هذه.
وقوله: (وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ) قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: كذا
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 58.
(2)
"المصباح" ص 143.
(3)
أي صارت بلحًا، وهو ثمر النخل ما دام أخضر قريبًا إلى الاستدارة إلى أن يغلظ النوى، وأهل البصرة يسمونه الخَلَالَ.
(4)
المصدر السابق.
هو في أصولنا وغيرها، الأول "النواة" بهاء التأنيث، والثاني بحذفها، فذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى أن صوابه حذف تاء التأنيث في الموضعين، كما قال:"ذو التمر بتمره"، قال ابن الصلاح: وجدته في كتاب أبي نعيم "المخرج على صحيح مسلم": "ذو النوى بنواه"، بلا هاء في الكلمتين، قال: والواقع في "كتاب مسلم" له عندي وجه صحيح، وهو أن تُجعل "النواة" عبارة عن جملة من النوي، أُفْرِدت عن غيرها، فتُسمّى الجملة المفردة الواحدة باسم النواة الواحدة، كما أُطلق اسم الكلمة على القصيدة، أو تكون النواة من قبيل ما يُسْتَعمَل في الواحد والجمع بلفظ واحد من الأسماء التي فيها علامة التأنيث، نحو: الْحَنْوة، وهي نبتٌ طيّب الريح على مثال الْعَنْوَة. انتهى
(1)
.
(قُلْتُ) الظاهر أن القائل هو طلحة، كسابقه (وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنَّوَى؟) أي: أيَّ شيء يستفيدون بإحضارهم النوى (قَالَ: كَانُوا يَمَصُّونَهُ) - بفتح الميم - هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة، ويقال: مَصِصْتُ الرُّمَّانة والتمر، وشبههما - بكسر الصاد - أَمَصُّهَا - بفتح الميم - وحَكَى الأزهريّ عن بعض العرب ضم الميم، وحَكَى أبو عُمَر الزاهد في "شرح الفصيح" عن ثعلب، عن ابن الأعرابيّ هاتين اللغتين: مَصِصْتُ - بكسر الصاد - أَمَصُّ - بفتح الميم - ومَصَصْتُ - بفتح الصاد - أَمُصُّ - بضم الميم - مَصًّا فيهما، فأنا مَاصٌّ، وهي مَمْصُوصَةٌ.
وإذا أمرتَ منهما قلتَ: مَصَّ الرُّمّانةَ، ومَصِّهَا، ومُصَّهَا، ومُصِّهَا، ومُصُّهَا، فهذه خمس لغات في الأمر: فتح الميم مع الصاد، ومع كسرها، وضمّ الميم، مع فتح الصاد، ومع كسرها، وضمها، هذا كلام ثعلب، والفصيح المعروف في مُصّها ونحوه، مما يَتَّصِل به "ها" التأنيثِ لمؤنثٍ أنه يتعين فتح ما يلي الهاء، ولا يكسر، ولا يضم. قاله النوويّ في "شرحه"
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كذا الذي ذكره النَّوويّ هنا في الأمر من "مصّ"، من المسائل المهمة جدًّا، فينبغي أن نحقّقه بالتفصيل، فنقول:
(اعلم): أنه إذا اتّصل بآخر الفعل المدغم من المجزوم وشبهه ضمير الغائبة وجب فتحه، كرُدَّهَا، ولم يَرُدّهَا، أو ضمير الغائب وجب ضمّه، كرُدُّهُ،
(1)
"الصيانة" ص 179 - 180.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 223 - 224.
ولم يَرُدُّهُ؛ لأن الهاء خفيَّة، فلم يُعتدّ بها، فكأنّ الدال قد وليَهَا الألف والواو، وحَكَى ثعلبٌ التثليث قبل هاء الغائب، وغُلِّط في جواز الفتح، وأما الكسر فالصحيح أنه لُغيّةٌ، سَمِعَ الأخفشُ مُدِّه، وغُطِّه، وحكى الكوفيّون التثليث قبل كلّ منهما.
وإذا اتْصل بآخر الفعل ساكنٌ، فأكثرهم يكسره، كرُدّ القوم بالكسر؛ لأنَّها حركة لالتقاء الساكنين، وبنو أسد تفتحه؛ تخفيفًا، وحَكَى ابن جني ضمَّهُ؛ إتباعًا، وقد رُوي بهنّ قول جرير [من الوافر]:
فَغُضُّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيرٍ
…
فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابَا
نعم الضمّ قليلٌ، ولذا أنكره في "التسهيل".
وإن لم يتّصل الفعل بشيء من ذلك، ففيه ثلاث لغات: الفتح؛ للخفّة مطلقًا، أي سواء كان مضموم الفاء، كرُدُّ، أو مكسورها، كفِرَّ، أو مفتوحها، كعَضَّ، وهو لغة أسد وغيرهم، والكسر مطلقًا، على أصل التخلّص من التقاء الساكنين، وهو لغة كعب، والإتباع لحركة الفاء، كرُدُّ بالضمّ، وفِرِّ بالكسر، وعَضَّ بالفتح، وهذا أكثر في كلامهم. ذكره الخضريّ في "حاشيته"
(1)
.
وقد نظم بعضهم هذه القاعدة، فقال:
إِنْ جُزِمَ الْفِعْلُ الَّذِي قَدْ شُدِّدَا
…
آخِرُهُ كَـ "لَا تَضُرِّ أَحَدَا"
فَاكْسِرْهُ مُطْلَقًا لِقَوْمٍ وَافْتَحَا
…
لآخَرِينَ ثُمَّ إِنَّ الْفُصَحَا
مِنْ هَؤُلَاءِ حَيْثُ يَلْقَى ساكِنَا
…
يَأتُونَ بِالْكَسْرِ كَـ "سُرِّ الْحَزَنَا"
ثَالِثَةُ اللُّغَاتِ أَنْ يُتْبَعَ مَا
…
يَلِي فَإِثْرَ ضَمِّهِ لَهُ اضْمُمَا
وَافْتَحْهُ بَعْدَ فَتْحَةٍ أَوْ أَلِفِ
…
وَبَعْدَ كَسْرَةٍ لَهُ الْكَسْرُ يَفِي
إِلَّا بِنَحْوِ "مُسُّهُ" وَ"فِرُّهُ"
…
فَالضَّمُّ عِنْدَهُمْ كَـ "لَا تُمِرُّهُ"
وَنَحْوَ "رُدَّهَا" وَ"حُبَّهَا" افْتَحَا
…
لِصِلَةٍ وَخِفَّةٍ قَدْ وَضَحَا
وَنَحْوَ "غُضِّ الطَّرْفَ""عَضِّ اللَّحْمَا"
…
فَاكْسِرْهُ لِلسَّاكِنِ فَابْغِ الْعِلْمَا
(2)
(وَيَشْرَبُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) يعني: أنهم، وإن لَمْ ينتفعوا بأكله، إلَّا أنه إذا
(1)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 2/ 329.
(2)
راجع: "الفتح الودوديّ في حاشية المكوديّ" 2/ 839.
مُصّ جلب العطش، فشربوا الماء، وتقوَّوا بذلك (قَالَ) الظاهر أن الضمير لأبي هريرة رضي الله عنه (فَدَعَا عَلَيْهَا) أي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أتوا به من بقيّة الأزواد (حَتَّى مَلَأَ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ) غاية لمحذوف، أي فأمرهم بالأخذ منها، فأخذوا حتى ملؤوا أزودتهم.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا الرواية - "أزودتهم" - وصوابه مزاودهم، فإنها هي التي تُمْلأُ بالأزودة، وهي جمع زاد، فسمّي المزاد أزودةً باسمها؛ لأنَّها تُجعل فيها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب، وقد عبّر عنها في الرواية الأخرى بالأوعية. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "أزودتهم" كذا الرواية فيه في جميع أصول شيوخنا، و"الأزودة" غير الأوعية، كما قال في الحديث الآخر:"أوعيتهم"، ولعلّه "مَزَاودهم"، أو سمّى الأوعية بما فيها، كما سُمِّيت الأسقية "رَوَايَا" بحامليها، وإنما الرَّوَايَا الإبلُ التي تحملها، وسُمّيت النساء ظعائن باسم الهودج التي حُمِلت فيها. انتهى
(2)
.
وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: "الأَزْوِدَة: جمع زاد، وهي لا تُمْلأُ، إنما تُمْلأُ بها أوعيتُهَا، قال: ووجهه عندي أن يكون المراد حتى ملأ القوم أوعية أزودتهم، فحُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، أي: أهل القرية، وبلغنا عن ابن جني أن في القرآن العظيم زُهاء ألف موضع فيه حذفُ المضاف، وإقامة المضاف إليه، أو يكون ذلك من قبيل المقلوب الذي من أمثلته قول الشاعر [من الكامل]:
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ كَمَا
…
كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
وليس هذا مخصوصًا بضرورة الشعر، كما زعم ابن قتيبة، بل من عادات العرب قلبهم الكلام عند اتّضاح المعنى توسّعًا في فُنون المخاطبات، ومما ذكروا من أمثلته قوله تعالى:{وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40]، أي: بلغت الكبر.
(1)
"المفهم 11/ 198.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 229 - 230.
قال: فاعلم ذلك، فإنه حرف مشكلٌ، لَمْ أرهم شرحوه إلَّا ما كان من القاضي عياض، فإنه ذكر فيه أنه يحتمل أنه سَمَّى الأوعية بما فيها، كما سُمّيت الأسقية رَوَايَا بحاملها، وإنما الروايا الإبل التي تحملها، وسُمِّيت النساء ظعائن باسم الْهَوَادج التي حُمِلت فيها، وما قاله غير مسلَّم، وتسمية رَوَايَا من توليد العامّة، والأمر في الظعائن على العكس مما ذكره، فإن صفة الظَّعْن للنساء بالأصالة. انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تعقّب ابن الصلاح على القاضي عياض فيه نظر لا يخفي، فإن ما قاله قد أثبته أهل اللغة، فراجع "القاموس"، و"شرحه"، و"لسان العرب".
والحاصل أن تأويل القاضي ليس ببعيد، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (عِنْدَ ذَلِكَ) أي عند معاينته ظهور البركة على ما دعا فيه بالبركة من بقيّة الأزواد ("أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا) أي بكلمتي الشهادة المذكورتين (عَبْدُ، غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا) بنصب "غير" على الحال (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ").
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر هذا الحديث أن من لَقِي الله تعالى، وهو يشهد أن لا إله إلَّا الله دخل الجَنَّة، ولا يدخل النار، وهذا صحيحٌ فيمن لقي الله تعالى بريئًا من الكبائر، فأما من لقي الله تعالى مرتكب كبيرة، ولم يَتُبْ منها، فهو في مشيئة الله تعالى التي دلّ عليها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة المفيدة بكثرتها حصول العلم القطعيّ أن طائفة كثيرة من أهل التوحيد يدخلون النار، ثم يخرجون منها بالشفاعة، أو بالقبضة يَقْبِضُهَا الله تعالى التي وردت في الحديث الصحيح كما سيأتي في أحاديث الشفاعة - إن شاء الله تعالى - أو بما شاء الله تعالى، فدلّ ذلك على أن الحديث المتقدم ليس على ظاهره، فيتعيّن تأويله، ولأهل العلم فيه تأويلان:
[أحدهما]: أن هذا العموم يُراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 180 - 181.
أهل الكبائر، ممن يشاء الله تعالى أن يَغفِر له؛ ابتداءً من غير توبة كانت منهم، ولا سبب يقتضي ذلك، غير محض كرم الله تعالى وفضله، كما دلّ عليه قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وهذا على مذهب أهل السنّة والجماعة، خلافًا للمبتدعة المانعين تفضّل الله تعالى بذلك، وهو مذهبٌ مردود بالأدلّة العقليّة والنقليّة.
[وثانيهما]: أنهم لا يُحجبون عن الجنّة بعد الخروج من النار، وتكون فائدته الأخبار بخلود كلّ من دخل الجَنَّة فيها، وأنه لا يُحجب عنها، ولا عن شيء من نعيمها. انتهى
(1)
.
وقد تقدّم تمام البحث في هذا قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى
(2)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) رحمه الله تعالى هنا (10/ 145) عن أبي بكر بن النضر بن أبي النضر عن أبي النضر، عن عُبيد الله الأشجعيّ، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرّف، عن أبي صالح، عنه.
وفي (10/ 146) عن سهل بن عثمان، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد (شكّ الأعمش).
(والنسائيّ) في "السير" من "الكبرى"(8794) عن أبي بكر بن أبي النضر به، (ح) عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن عبد الله، عن عبد العزيز، عن سهيل بن أبي صالح - (ح) عن أحمد بن سليمان، عن قتادة بن الفُضَيل، عن الأعمش - كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1)
"المفهم" 1/ 199 - 200.
(2)
أي عن البخاريّ رحمه الله تعالى.
و (8795) عن موسى بن عبد الرَّحمن الْمَسروقيّ، عن أبي أسامة، عن مالك بن مِغْول، عن طلحة، عن أبي صالح: "بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
"، فذكره مرسلًا، ولم يذكر أبا هريرة رضي الله عنه. و (أحمد) 2/ 421 و 3/ 11، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (131 و 132) و (أبو عوانة) في "مسنده" (13 و 14 و 15 و 16)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في بيان استدراك الإمام الدارقطنيّ رحمه الله تعالى على إسناد هذا الحديث.
(اعلم): أن هذا الإسناد، والإسناد الذي بعده مما استدركه الدارقطنيّ رحمه الله تعالى، وعَلَّله:
فأما الأول فعلله من جهة أن أبا أسامة وغيره خالفوا عُبيدَ الله الأشجعيّ فرووه عن مالك بن مِغْوَل عن طلحة، عن أبي صالح مرسلًا.
وأما الثاني فعلله؛ لكونه اختُلِف فيه عن الأعمش، فقيل فيه أيضًا عنه عن أبي صالح، عن جابر، وكان الأعمش يَشُكّ فيه.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: هذان الاستدراكان من الدارقطني مع أكثر استدراكاته على البخاريّ ومسلم قَدْحٌ في أسانيدهما غير مُخْرِج لمتون الأحاديث من حَيِّز الصحة، وقد ذكر في هذا الحديث أبو مسعود إبراهيم بن محمد الدمشقيّ الحافظ فيما أجاب الدارقطنيّ عن استدراكاته على مسلم رحمه الله تعالى أن الأشجعيّ ثقة مُجَوِّد، فإذا جَوَّدَ ما قَصَّر فيه غيره حُكِمَ له به، ومع ذلك فالحديث له أصلٌ ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الأعمش له مُسنَدًا، وبرواية يزيد بن أبي عُبيد، وإياس بن سلمة بن الأكوع، عن سلمة رضي الله عنه.
قال الشيخ: رواه البخاريّ، عن سلمة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما شَكُّ الأعمش فهو غير قادح في متن الحديث، فإنه شَكٌّ في عين الصحابيّ الراوي له، وذلك غير قادح؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدولٌ. انتهى كلامُ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى
(1)
.
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 176 - 178.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى - بعد ذكر كلام ابن الصلاح -: وهذان الاستدراكان لا يستقيم واحد منهما، أمّا الأول، فلأنا قدّمنا في الفصول السابقة أن الحديث الذي رواه بعض الثقات موصولًا، وبعضهم مرسلًا، فالصحيح الذي قاله الفقهاء، وأصحاب الأصول، والمحققون من المحدثين، أن الحكم لرواية الوصل، سواء كان راويها أقلّ عددًا من رواية الإرسال، أو مساويًا؛ لأنَّها زيادة ثقة، فهذا موجودٌ هنا، وهو كما قال الحافظ أبو مسعود الدمشقيّ جَوَّد، وحَفِظَ ما قَصَّر فيه غيره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ من أن الحكم للوصل مطلقًا، ليس مذهب المحقّقين من أهل الحديث، فإنهم إنما يحكمون على ما يظهر لهم من القرائن، فربّما حكموا للوصل، وربّما حكموا للإرسال، فليست المسألة تدخل تحت ضابط كليّ، بل لهم في كلّ سند دراسة خاصّة، كما أسلفنا تحقيق ذلك فيما سبق من "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد
(1)
، والله تعالى وليّ التوفيق.
وأما الثاني فلأنهم قالوا: إذا قال الراوي: حَدَّثَني فلان أو فلان، وهما ثقتان احتُجَّ به بلا خلاف، لأن المقصود الرواية عن ثقة مُسَمَّي، وقد حَصلَ، وهذه قاعدة ذكرها الخطيب البغداديّ في "الكفاية"، وذكرها غيره، وهذا في غير الصحابة، ففي الصحابة أولى؛ فإنهم كُلَّهم عُدُولٌ، فلا غَرَضَ في تعيين الرواي منهم. انتهى
(2)
.
وإلى القاعدة أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
وَمَنْ يَقُلْ "أَخْبَرَنِي فُلَانٌ اوْ
…
هَذَا "لِعَدْلَيْنِ قَبُولَهُ رَأَوْا
فَإِنْ يَقُلْ "أَوْ غَيْرُهُ" أَوْ يُجْهَلِ
…
بَعْضُ الَّذِي سَمَّاهُمَا لَا تَقْبَلِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): أن من مات على التوحيد دخل الجنّة قطعًا، وهذا هو الذي أراده المصنّف رحمه الله تعالى بإيراده في هذا المحلّ.
(1)
راجع: "شرح المقدّمة" 1/ 362 - 366.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 222.
2 -
(ومنها): أن في هَمِّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذبح بعض حمائلهم بيانَ مراعاة المصالح، وتقديم الأهمّ فالأهمّ، وارتكاب أخفّ الضررين، لدفع أشدّهما.
3 -
(ومنها): أن في قول عمر رضي الله عنه: لو جمعتَ ما بقي من أزواد القوم إلخ"، بيانَ جواز عَرْض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحةً؛ لينظر الفاضل فيه، فإن ظَهَرت له مصلحةٌ فعله.
4 -
(ومنها): جوازُ خَلْط المسافرين أزوادهم، وأكلهم منها مجتمعين، وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض، وقد نصّ العلماء على أن ذلك سنة، وهو نظير مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم للأشعريين رضي الله عنهم في جمعهم الأزواد إذا قلّت، وتقاسمهم إياها بالسويّة، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قَل طعام عيالهم بالمدينة، جَمَعُوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم منيّ، وأنا منهم"
(1)
.
5 -
(ومنها): أنّ فيه عَلَمًا من أعلام النبوة الظاهرة، وما أكثر نظائره التي يزيد مجموعها على شرط التواتر، ويحصل العلم القطعي بها، وقد جمعها العلماء، وصَنَّفُوا فيها كُتُبًا مشهورة.
قال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: وهو بابٌ عُلِم على القطع والتواتر؛ لترادف الأحاديث بمعناه من تكثير الطعام القليل، وقد جمعنا مشهور أحاديث هذا الباب، ومن رواه من الصحابة، ومن حَمَلَهُ عنهم من التابعين في "باب معجزات نبيّنا صلى الله عليه وسلم من كتابنا المسمَّى بـ "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم".
ولأن هذا الحديث ومثله إذا رواه الصحابيّ الواحد، وذكره عن المواطن المشهورة، والغزوات المحضورة، والجموع الْحَفِلَة، وحدَّث به عنهم بما شاهدوه، وجرى بحضرته، وهم غير منكرين، ولا مكذّبين، مع أنهم الملأ لا يقرّون على منكر، ولا يُداهنون في غير الحقّ، كان إقرارهم على خبره، وسكوتهم على ما حدّث به عن ملئهم كالنطق، ولَحِقَ خبره، وإن كان واحدًا بخبر التواتر الصدق. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "المفهم" 1/ 198.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 231 - 232.
6 -
(ومنها): أن فيه ترك افتيات أهل العسكر بنحر ما يحملون عليه، وإخراجه عن أيديهم إلَّا بإذن الإمام؛ لأن ذلك يضعفهم عن غزوهم وسفرهم، وكذلك الحكم في أسلحتهم، وجميع ما يحتاجون إليه في غزوهم
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤئف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[146]
(28) - (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ جَمِيعًا، مَنْ أَبِي مُعَاوَيةَ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَذَثنا أَبُو مُعَاوَيةَ، عَنِ الْأَعْمَش، مَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - شَكَّ الْأَعْمَشُ - قَالَ: لَمَّا كَانَ فَزْوَةُ تَبُوكَ، أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، لَوْ أَذِنْتَ لَنَا، فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "افْعَلُوا"، قَالَ: فَجَاء عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادْع اللهَ لَهمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَة، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ"، قَالَ: فَدَعَا بِنِطَعٍ، فَبَسطَهُ، ثمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، قَالَ: وَيَجِيءُ الآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، قَالَ: وَيَجِيءُ الآخَرُ بِكِسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ بِالْبَرَكَة، ثُمَّ قَالَ: "خُذُوا أَوْعِيَتِكُمْ"، قَالَ: فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ، حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلا مَلَؤُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدُ، غَيْرَ شَاكٍّ، فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الكنديّ، أبو مسعود العَسكَريّ، نزيل الرَّيّ، ثقةٌ، حافظ، له غرائب [10](ت 235)(م) 5/ 120.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10](ت 247)(ع) 6/ 114.
(1)
المصدر السابق.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة حافظ، من كبار 91، (ت 195)(ع) 4/ 116.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، أبو محمد الكوفيّ، ثقة حافظ قارئ يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 302.
5 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمان الزيات المذكور في السند الماضي.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةُ) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "شرح المقدّمة" 2/ 470. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه الأول، فمن أفراده، وأما شيخه الثاني فمن المشايخ التسعة الذين اشترك في الرواية عنهم أصحاب الكتب الستة دون واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أبي كريب، وأما سهل، فرازيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه قولَه: "قال أبو كريب: حدّثنا إلخ" ومعناه أن أبا كريب صرّح بتحديث أبي معاوية له مع الجماعة، بخلاف سهل، فلم يُصرّح به، وهذا من احتياطات المصنّف، ومحافظته على ألفاظ الشيوخ، وقد سبق مثله غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى لأحاديث الأعمش، والأعمش أكثر الرواية عن أبي صالح، فقد روى عنه ألف حديث، وأبو صالح من أكثر أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه روايةً عنه.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن أبا هريرة، وأبا سعيد رضي الله عنهما من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
146 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَوْ) للشكّ من الراوي (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (شَكَّ الْأَعْمَشُ) أي في كون الحديث من مسند أبي هريرة، أو
من مسند أبي سعيد الخدريّ، ولكن هذا الشكّ لا يضرّ، كما مرّ إيضاحه في المسألة الثالثة من مسائل الحديث الماضي (قَالَ) أبو هريرة، أو أبو سعيد (لَمَّا كَانَ) تامّة بمعنى جاء ووقع، فلا تحتاج إلى خبر، بل تكتفي بمرفوعها، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
........................
…
وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي
وقال الحريريّ في "مُلحة الإعراب":
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ
(غَزْوَةُ تَبُوكَ)، هكذا في معظم النسخ، ووقع في بعض النسخ:"لَمّا كان وقت غزوة تبوك"، بزيادة لفظة "وقت"، قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا ضبطناه "يوم غزوة تبوك"، والمراد باليوم هنا الوقت والزمان، لا اليوم الذي هو ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وليسس في كثير من الأصول، أو أكثرها ذكر اليوم هنا. انتهى.
و"الْغَزْوَةُ" - بفتح، فسكون - والجمع غَزَوات، مثلُ شَهْوَةٍ وشَهَوَات، قال ابن الأثير: الْغَزْوَةُ: المرّة من الْغَزْو، والاسمُ الْغَزَاةُ - أي بفتحتين - وجمع الغازي: غُزَاةٌ، وغُزًّى، وغَزِيٌّ، وغُزّاءٌ، كقُضَاةٍ، وسُبَّقٍ، وحَجِيجٍ، وفُسّاقٍ،
وأغزيتُ فلانًا: إذا جهّزته للغزو، والْمَغْزَى والْمَغْزَاةُ: موضع الْغَزْو، وقد يكون الغَزْوُ نفسه. انتهى
(1)
.
و"تَبُوك" - بفتح التاء، وضمّ الباء - هي طرف الشام، من جهة القبلة، وبينها وبين المدينة نحو أربعة عشر مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلةً، وكانت غزوة النبيّ صلى الله عليه وسلم تبوك سنة تسع من الهجرة، ومنها راسل عظماء الروم" وجاء إليه صلى الله عليه وسلم من جاء، وهي آخر غزواته بنفسه، قال الأزهريّ: أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتبوك بضعة عشر يومًا، والمشهور ترك صرف تبوك؛ للتأنيث والعلَميّة، قاله النوويّ في "تهذيبه"
(2)
.
وقال الفيّوميّ: بَاكَ الحمارُ الأَتَانَ يَبُوكَهَا بَوْكًا: نَزَا عليها، وباكتِ الناقةُ
(1)
"النهاية" 3/ 366.
(2)
"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 43.
تَبُوكُ بَوْكًا: سَمِنَت، فهي بائك، بغير هاء، وبهذا المضارع سُمِّيت غَزْوة تبوك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم غَزَاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية من غير قتال، فكانت خالية من البُؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هُزَالٌ، ثم سُمّيت البقعة تبوك بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريب من مدين الذين بعثَ اللهُ تعالى إليهم شعيبًا عليه السلام. انتهى
(1)
.
وذكر المرتضى في "التاج" أنه اختُلف في وزن تبوك، ووجه تسميتها، قال الأزهريّ: فإن كانت التاء أصليّةً، فلا أدري مم اشتقاق تبوك، وإن كانت للتأنيث في المضارع، فهي من باكت تبوك، ثم قال: وقد يكون تبوك على تَفْعول. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قيل: سبب غزوة تبوك هو ما رواه البيهقي في "دلائل النبوّة" عن الحاكم، عن أحمد بن عبد البربار العُطَارديّ، عن يونس بن بكرٍ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرَّحمن بن غَنْم، أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقًا أنك نبيّ، فالْحَقْ بالشام، فإن الشام أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فَصدَّق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك، لا يريد إلَّا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله آيات من سورة بني إسرائيل، بعد ما خُتِمَت السورة:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76]، فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال:"فيها محياك ومماتك، ومنها تُبْعَث".
قال الحافظ ابن كثير: وفي هذا الإسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالًا لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، ولقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]، وغزاها لِيَقْتَصَّ ويَنْتَقِمَ ممن قَتَلَ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 66.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 7/ 113.
أهلُ مؤتة من أصحابه، والله أعلم، ولو صَحَّ هذا لَحُمِل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم، عن عُفَير بن معدان، عن سُلَيم بن عامر، عن أبي أمامة صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة، والمدينة، والشام"، قال الوليد: يعني بيت المقدس، وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد: إنه بيت المقدس. انتهى كلام ابن كثير
(1)
، وهو تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ) - بفتح الميم، وتخفيف الجيم -: هو الجوع الشديد (قَالُوا) أي الصحابة الذين معه في الغزو، قال سبط ابن الْعَجَميّ في "التنبيه": لا أعرف أعيانهم، انتهى
(2)
(يَا رَسُولَ الله، لَوْ أَذِنْتَ لنَا) بكسر الذال، يقال: أَذِنتُ له في كذا، من باب عَلِمَ: إذا أطلقت له فعله
(3)
.
وقولهم: "لو أذنت لنا"، من أحسن آداب خطاب الكبار، والسؤال منهم، فيقال: لو فعلتَ كذا، أو أمرت بكذا، أو لو أَذِنت في كذا، وأشرت بكذا، ومعناه لكان خيرًا، أو لكان صوابًا، ورأيًا متينًا، أو مصلحة ظاهرة، وما أشبه هذا، فهذا أجملُ من قولهم للكبير: افْعَلْ كذا بصيغة الأمر.
وفيه أنه لا ينبغي لأهل العسكر من الْغُزَاة أن يُضَيِّعُوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بغير إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلَّا إذا رأى مصلحةً، أو خاف مفسدةً ظاهرةً. والله تعالى أعلم
(4)
.
(فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا) النواضحُ: من الإبل التي يُسْتَقَى عليها، قال أبو عبيد: الذَّكَر منها ناضح، والأُنثى ناضحة، وقال الفيّوميّ: ونَضَحَ البعير الماءَ: حمله من نهر، أو بئر؛ لسقي الزرع، فهو ناضحٌ، والأنثى ناضحةٌ بالهاء، سُمّي ناضحًا؛ لأنه يَنْضَحُ العطشَ، أي يَبُلّهُ بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استُعمل الناضح في كلّ بعير، وإن لَمْ يحمل الماء، والجمع نواضح. انتهى
(5)
.
(1)
"تفسير ابن كثير" 3/ 54.
(2)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 53.
(3)
راجع: "المصباح" 1/ 9.
(4)
"شرح النووي" 1/ 225.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 609 - 610.
(فَأَكَلْنَا وَادِّهَنِّا) قال صاحب "التحرير": ليس مقصودهم ما هو المعروف من الادِّهَان، وإنما معناه اتَّخَذنا دُهْنًا من شُحُومها. انتهى.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "افْعَلُوا") أي انحروا نواضحكم، فكلوا، وادّهنوا (قَالَ) الراوي، أبو هريرة، أو أبو سعيد (فَجَاءَ عُمَرُ) بن الخطّاب صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنْ فَعَلْتَ)، أي: إن أذنت لهم فيما طلبوه من نحر نواضحهم (قَلَّ الظَّهْرُ)، قال في "اللسان":"الظَّهْرُ": الرِّكَاب التي تَحْمِل الأثقال في السفر؛ لحملها إياها على ظهورها، وبنو فلان مُظْهِرُون، إذا كان لهم ظَهْرٌ ينقلون عليه، كما يقال: مُنجِبون، إذا كانوا أصحاب نَجَائب، وقال أيضًا:"الظَّهْرُ" الإبل التي يُحْمَلُ عليها ويُركَب، يقال: عند فلان ظَهْرٌ: أي إبل، ويُجمع على ظُهْرَان بالضمّ. انتهى باختصار
(1)
.
وقال النوويّ في "شرحه": المرادـ "الظهْرِ" هنا: الدَّوَابُّ، سُمِّيت ظهرًا؛ لكونها يُركَبُ على ظهرها، أو لكونها يُستَظهر، ويُستعان بها على السفر.
وفيه جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء، وأن للمفضول أن يشير عليهم بخلاف ما رأوه، إذا ظهرت مصلحته عنده، وأن يشير عليه بإبطال ما أَمَرُوا بفعله
(2)
.
(وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ)، أي مرهم بأن يأتوا بما فَضَل من أزوادهم (ثُمَّ ادْعُ اللهَ) تعالى (لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ) أصل البركة: كثرةُ الخير، وثبوته، وتبارك الله: ثبت الخير عنده، وقيل: غير ذلك (لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ) هكذا وقع في الأصول التي رأيناها، وفيه محذوف تقديره:"يَجْعَلُ في ذلك بركةً، أو خيرًا، أو نحو ذلك"، فحذف المفعول به؛ لأنه فضلة، كما قال في "الخلاصة":
وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ
…
كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ") تقدّم أنَّها للتصديق، إن وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد، وللوعد إن وقعت بعد المستقبل، نحو هل تقوم، ونحو كلام عمر رضي الله عنه هنا؛ إذ قوله:"ادعهم بفضل أزوادهم" طلبٌ، والطلب
(1)
"لسان العرب" 4/ 522.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 225.
مستقبل، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم:"نعم" وعدًا منه بأن يدعوهم إلى ذلك.
(قَالَ) الراوي (فَدَعَا) صلى الله عليه وسلم " (بِنِطَعٍ) فيه أربع لغات مشهورة: أشهرُها كسر النون مع فتح الطاء، والثانية فتحهمَا، والثالثة فتح النون مع إسكان الطاء، والرابعة كسر النون مع إسكان الطاء، وهو الْمُتَّخذ من الأَدِيم معووف، والجمع: أَنْطَاع، ونُطُوعٌ
(1)
.
(فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، قَالَ) الراوي (فَجَعَلَ) أي شرع (الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُر) أي بمقدار ما يملأ كفّه، وفيه إشارة إلى قلّته، و"الذّرَة" بضم الذال المعجمة، وفتح الراء المخفّفة: حبّ معروف، ولامها محذوفة، والأصل ذُرَؤ، أي ذُرَيٌ، فحُذِفت اللام، وعُوّضَ عنها الهاء، قاله في "المصباح" (قَالَ: وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ) تقدّم ضبطها ومعناها في الحديث الماضي (قَالَ: وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ) بكسر فسكون: القطعة من الخبز، جمعه كِسَرٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَرٍ (حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ويَسِيرٌ) أي قليل (قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ) أي بأن يزداد حتى يكفي الجميع (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ) جمع وعاء بالكسر: ما يُوعَي، أي يُجمع فيه الشيءُ (قَالَ) الراوي (فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ، حَتَّى مَا) نافية (تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ) بفتح، فسكون: الجيش، قال الْجُوَاليقيُّ: فارسيّ مُعَرَّب (وِعَاءً إِلا مَلَئُوهُ، قَالَ) الراوي (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا) بكسر المودعّدة (وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ) يقال: فَضَلَ، وفَضَلَ بكسر الضاد، وفتحها - لغتان مشهورتان، قال في "المصباح": فَضَلَ فَضْلًا، من باب قَتَلَ: بَقِيَ، وفي لغة فَضِلَ يَفْضَلُ، من باب تَعِبَ، وفَضِلَ بالكسر يَفْضُلُ بالضمّ لغةٌ ليست بالأصل، ولكنّها على تداخل اللغتين، ونظيره في السالم: نَعِمَ يَنْعُمُ، وَنَكِلَ يَنْكُلُ، وفي المعتلّ: دِمْتَ تَدُوم، ومِتَّ تَمُوتُ. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) اعترافًا بفضل الله تعالى، وبيانًا للناس أنه بمحض فضله، وأنه لا دخل له في ذلك، وإنما هو رسول مبلّغ عن الله سبحانه وتعالى، فاستجاب الله تعالى دعوته، وأنزل له البركة في ذلك الطعام تصديقًا لكونه
(1)
راجع: "المصباح" 2/ 611 و"شرح النووي" 1/ 225.
(2)
"المصباح" 2/ 475.
رسوله بالحقّ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا) أي بهاتين الكلمتين (عَبْدُ) حال كونه (غَيْرَ شَاكٍّ) في مدلولهما (فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: رويناه بنصب"يُحجب"، ورفعه، فالنصب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
وهذا الوجه هو الأَظهر، والأجود، وفي الرفع إشكالٌ؛ لأنه يرتفع على أن يكون خبرًا لمبتدإ محذوف، تقديره: فهو يُحجب، وهو نقيض المقصود، فلا يستقيم المعنى حتى يقدّر "لا" النافية، أي: فهو لا يحجب، ولا تُحذف "لا" النافية في مثل هذا. انتهى
(1)
.
وتخريج الحديث، وبيان المسائل المتعلّقة به تقدّما في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[147]
(29) - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ - يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ - عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِت، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِه، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) - بضم الراء مصغرًا - الهاشميّ مولاهم، أبو الفضل الْخُوَارَزميّ، نزيل بغداد، ثقة [10].
رَوَى عن هشيم، والوليد بن مسلم، ومُعَمَّر بن سليمان، ويحيى بن أبي زائدة، وحفص بن غياث، وإسماعيل بن جعفر، وابن علية، وإسماعيل بن عياش، وغيرهم.
(1)
"المفهم" 1/ 198 - 199 بزيادة.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وروى له البخاريّ حديثًا في فضل العتق، والنسائي آخرَ بواسطة صاعقة، وأحمد بن عليّ المروزيّ، ورَوَى عنه البخاريّ في غير "الجامع" بلا واسطة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عبيد الله بن الْمُنَادي، وغيرهم.
قال صالح بن محمد: كان يحيى بن معين يوثِّقه، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الدارقطنيّ: ثقة نَبِيل، وقال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره: مات في سنة (239)، زاد غيرهما في شعبان، وهو قول الكلاباذيّ تبعًا للبخاريّ في "تاريخه"، وكذا قال السَّراج، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ثنا عنه الحسين بن إدريس الأنصاريّ وغيره، مات بعدما عَمِيَ، ووَهِمَ ابن حزم، فقال إِثْرَ حديث أخرجه من روايته في "كتاب الحدود" من "الإيصال": داود بن رُشَيد ضعيف.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْقُرَشِيُّ
(1)
، مولى بني أمية، وقيل: مولى بني العباس، أبو العبّاس الدَّمَشقيّ، ثقة، عالم الشام، لكنه كثير التدليس والتسوية [8].
رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وصفوان بن عمرو، والأوزاعيّ، وابن جريجٍ، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، وسعيد بن عبد العزيز، والثوريّ، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وثور بن يزيد، وحنظلة بن أبي سفيان، وبكر بن مُضَر، وإسماعيل بن رافع، وغيرهم.
وروى عنه الليث بن سعد، وهو من شيوخه، وبقية بن الوليد، وعبد الله بن وهب، وهما من أقرانه، والْحُمَيديّ، وسليمان بن عبد الرَّحمن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المدينيّ، وأبو خيثمة، وداود بن رُشيد، وإبراهيم بن المنذر، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال حماد كاتِبُهُ عنه: جالست ابن جابر سبع عشرة سنة، وعنه قال: كنت إذا أردت أن أسمع من شيخ، سألت عنه الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وقال الفضل بن زياد، عن
(1)
بالقاف والشين، ويقال له: الفَرَسِيّ بالفاء والسين المهملة.
أحمد: ليس أحدٌ أروى عن الشاميين من إسماعيل بن عياش، والوليد، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما رأيت أعقل منه، وقال إبراهيم بن المنذر: سألني علي بن المديني أن أُخرج له حديث الوليد، فقلت له: سبحان الله وأين سماعي من سماعك؟ فقال: الوليد دخل الشام، وعنده علم كثير ولم أستمكن منه، قال: فأخرجته له، فتعجب من فوائده، وجَعَلَ يقول: كان يكتب على الوجه، وقال عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه: ثنا عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن الوليد، ثم سمعت من الوليد، وما رأيت من الشاميين مثله، وقد أغرب بأحاديث صحيحة، لَمْ يَشْرَكه فيها أحدٌ، وقال أحمد بن أبي الْحَوَارِ: قال لي مروان - بن محمد: إذا كتبت حديث الأوزاعيّ عن الوليد، فما تبالي من فاتك، وقال مروان أيضًا: كان الوليد عالِمًا بحديث الأوزاعيّ، وقال أبو مسهر: كان الوليد معتنيًا بالعلم، وقال أيضًا: كان من ثقات أصحابنا، وفي رواية من حفاظ أصحابنا، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قال لي أحمد: عندكم ثلاثةٌ أصحاب حديث: مروان بن محمد، والوليد، وأبو مُسْهِر، وقال يعقوب بن سفيان: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الناس عند إسماعيل بن عياش، والوليد بن مسلم، فأما الوليد فمَضَى على سنته محمودًا عند أهل العلم، متقنًا صحيحًا، صحيحَ العلم، وقال العجليّ، ويعقوب بن شيبة: الوليد بن مسلم ثقة، وقال محمد بن إبراهيم: قلت لأبي حاتم: ما تقول في الوليد بن مسلم؟ قال: صالح الحديث، وقال أبو زرعة الرازيّ: كان الوليد أعلم من وكيع بأمر المغازي، وقال ابن جَوْصاء: لَمْ نزل نسمع أنه مَن كَتَبَ مصنفات الوليد صَلَحَ أن يلي القضاء، قال: ومصنفات الوليد سبعون كتابًا، وقال صدقة بن الفضل المروزيّ: قَدِمَ الوليد مكة، في رأيت أحفظ للطوال والملاحم منه، فجعلوا يسألونه عن الرأي، ولم يكن يحفظ، ثم رجع وأنا بمكة، وإذا هو قد حَفِظَ الأبواب، وإذا الرجل حافظٌ متقنٌ، وقال الحميديّ: قال لنا الوليد بن مسلم: إن تركتموني حدثتكم عن ثقات شيوخنا، وإن أبيتم فاسألوا نحدثكم بما تسألون.
وقال الْفَسَويّ: سألت هشام بن عمار عن الوليد، فأقبل يَصِفُ علمه، وورعه، وتواضعه، وقال ابن اليمان: ما رأيت مثله، وقال الآجريّ: سألت أبا
داود عن صدقة بن خالد، فقال: هو أثبت من الوليد، الوليدُ رَوَى عن مالك عشرة أحاديث، ليس لها أصلٌ، منها أربعة عن نافع، وقال مُهَنّا: سألت أحمد عن الوليد، فقال: اختلطت عليه أحاديثُ ما سَمِعَ وما لَمْ يَسْمَع، وكانت له منكرات، منها حديثُ عمرو بن العاص:"لا تُلَبّسُوا علينا ديننا"
(1)
، في هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله بن أحمد: سئل عنه أبي، فقال: كان رَفّاعًا. وقال الإسماعيليّ: أُخبرتُ عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، قال: كان الوليد رَفّاعًا، وقال المرُّوذيّ، عن أحمد: كان الوليد كثير الخطإ، وقال حنبل، عن ابن معين: سمعت أبا مسهر يقول: كان الوليد ممن يأخذ عن أبي السَّفَر حديث الأوزاعيّ، وكان أبو السَّفَر كذّابًا، وقال مؤمل بن إهاب، عن أبي مسهر: كان الوليد بن مسلم يُحَدِّث حديث الأوزاعيّ عن الكذابين، ثم يُدَلِّسها عنهم، وقال صالح بن محمد: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد: قد أفسدت حديث الأوزاعيّ، قال: كيف؟ قلتُ: تروي عن الأوزاعيّ، عن نافع، وعن الأوزاعي، عن الزهريّ، ويحيى بن سعيد، وغيرُك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مُرّة، وقُرَّةَ، وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أُنَبِّلُ الأوزاعيّ عن هؤلاء، قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء، وهؤلاء، وهم ضعفاء، أحاديثَ مناكير، فأسقطتهم أنت، وصَيَّرْتَها من رواية الأوزاعيّ عن الثقات، ضُغفَ الأوزاعيّ، قال: فلم يلتفت إلى قولي، وقال الدارقطنيّ: كان الوليد يُرسِل، يروي عن الأوزاعيّ أحاديث عند الأوزاعيّ عن شيوخ ضعفاء، عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعيّ، فيُسقِط أسماء الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعيّ، عن نافع، وعن عطاء.
قال دُحَيم عن ابن بنت الوليد: وُلد الوليد سنة تسع عشرة ومائة، وقال ابن سعد، ويعقوب بن شيبة، وغيرهما: حَجَّ الوليد سنة أربع وتسعين، ومات بعد انصرافه من الحج قبل أن يصل إلى دِمَشق، وفي سنة أربع أَرَّخَه عمرو بن عليّ، وأبو موسى، وغيرهما، وقال دُحَيم، وغير واحد: مات في المحرم سنة
(1)
تمام الحديث: "عدّةُ أم الولد عدّة المتوفّى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشرًا"، أخرجه ابن حبَّان (4300) والدارقطني 2/ 309 - 310 والبيهقيُّ 7/ 447 - 448.
خمس وتسعين، وقال البخاريّ: قال لي إبراهيم بن المنذر: قال لي حرملة بن عبد العزيز: نَزَلَ عَلَيَّ الوليدُ قافلًا من الحج، فمات عندي بذي المروة، وقال معاوية بن صالح: مات سنة ست وتسعين، ولم يتابع على ذلك.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (42) حديثًا.
3 -
(ابْنُ جَابِرٍ) هو: عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقة [7].
رَوَى عن مكحول، والزهري، وعطية بن قيس، وعمير بن هانيّ، وسليم بن عامر، وبسر بن عبيد الله الحضرمي، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وصدقة بن خالد، وصدقة بن المبارك، وعمر بن عبد الواحد، وبشر بن بكر، وحسين بن علي الجعفي، وغيرهم.
قال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين، والعجليّ، وابن سعد، والنسائيّ، وغير واحد: ثقة. وقال ابن المديني: يُعَدّ في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشام، بعد الصحابة رضي الله عنهم. وقال يعقوب بن سفيان: عبد الرَّحمن ويزيد ابنا جابر ثقتان، كانا نزلا البصرة، ثم تحولا إلى دمشق. وقال أبو داود: هو من ثقات الناس. وقال ابنه أبو بكر بن أبي داود: ثقة مأمون. وقال موسى بن هارون: رَوَى أبو أسامة عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر، وكان ذلك وَهَمًا منه، هو لَمْ يَلْقَ ابنَ جابر، وإنما لَقِي ابنَ تميم، فظَنّ أنه ابن جابر، وابن جابر ثقة، وابن تميم ضعيف. وقال الفلاس: ضعيف الحديث، وهو عندهم من أهل الصدق، رَوَى عنه أهل الكوفة أحاديث مناكير، قال الخطيب: كأنه اشتبه على الفلاس بابن تميم. وقال ابن مهديّ: إذا رأيت الشامي يَذكر الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد الرَّحمن بن يزيد، فاطمَئِنَّ إليه. وقال دُحيم: هو بعد زيد بن واقد في مكحول. وقال أبو حاتم: صدوق، لا بأس به، ثقة.
قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، زاد ابن سعد: وهو ابن بضع وثمانين. وقال صفوان بن صالح: سمعت الوليد وغير واحد من أصحابنا يقولون: مات سنة (54)، وقال عبد الله بن يزيد القاري: مات
سنة (55)، وقال ابن معين: مات سنة (56)، وكذا حكاه البخاري، ويعقوب بن شيبة، وجزم ابن حبان في "الثقات" بالقول الأول.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (28) و (104) و (972) وأعاده بعده، و (1847) و (1855) و (1537) و (2864) و (2937)
(1)
.
4 -
(عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ) الْعَنْسيّ - بسكون النون، ومهملتين - أبو الوليد الدمشقيّ الدارانيّ، ثقةٌ، من كبار [4].
رَوَى عن معاوية، ومالك بن يُخامِر، وجُنَادة بن أبي أُمية، وأبي هريرة.
وروى عنه أبو عمرو الأوزاعيّ، وعبد الرَّحمن بن ثابت بن ثوبان، وعبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر، والعلاء بن عتبة اليحصبيّ، وعثمان بن أبي العاتكة، وسعيد بن بَشِير، ومعاوية بن صالح، وجماعة.
قال الحاكم أبو أحمد: يقال: أدرك ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو داود: كان قدريًّا، وكان يُسَبِّح في اليوم مائة ألف تسبيحة، وأسند الترمذيّ بزيادة في "كتاب الدعوات" من جامعه"، فقال: حدثنا علي بن حُجْر: ثنا مَسْلمة بن عَمْرو، قال: كان عُمير بن هانئ يصلي كلّ يوم ألف سجدة، ويسبح مائة ألف تسبيحة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونه يصلّي كلّ يوم ألف سجدة، ويسبّح مائة ألف تسبيحة، ليس له كبير مدح، فإن هذا ليس من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى في يوم هذا القدر، ولا سبّح هذا القدر، فالخير كلّ الخير في اتّباع هديه، وإنما ذكرت هذا لئلا يَغْتَرَّ به من يقرأ مثل هذا، ويظنّ أنه من السنّة، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وذكر أبو زرعة الدمشقيّ أن الصَّقْر بن حبيب الْمُرِّيّ قتله بداريا سنة سبع وعشرين ومائة، وقال يعقوب بن سفيان: قلت لدُحَيم: عمير بن هانئ؟ قال: مات قديمًا، قلت: قُتِلَ؟ قال: لا، إنما المقتول ابنه.
(1)
هذه الأرقام حسب ترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، لا حسب ترقيمي في الشرح، فتنبّه.
أخرج له لجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وحديث (1037): "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله
…
"، وله عند النسائيّ حديث عبادة رضي الله عنه المذكور هنا فقط.
5 -
(جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ) - بضمّ الجيم، وتخفيف النون - الأزديّ، ثم الزَّهْرَانِيّ، ويقال: الدَّوْسيّ، أبو عبد الله الشاميّ، يقال: اسم أبيه كبير، مختلَفٌ في ححبته.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعليّ، ومعاذ، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو، وعبادة بن الصامت، وبُسْر بن أبي أرطاة.
وروى عنه ابنه سليمان، وعمير بن هانيّ، وعُبَادة بن نُسَيّ، وبسر بن سعيد، وشُيَيْم بن بَيْتَان، وغيرهم.
قال ابن يونس: كان من الصحابة، شَهِد فتح مصر، ووَليَ البحرين لمعاوية، وممن أثبت صحبته يحيى بن معين، ففي سؤالات إيراهيم بن الْجُنيدٍ عنه: جُنَادة بن أبي أمية الأزديّ الذي رَوَى عنه مجاهد له صحبة؟ قال: نعم، قلت: الذي رَوى عن عبادة؟ قال: هو هو، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: قيل: إن له صحبةً، وليس ذلك بصحيح، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، من كبار التابعين، سَكَنَ الأُرْدُن، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: صحّح النوويّ رحمه الله في "شرحه" قول من قال بصحبة جُنادة، لكن الذي صوّبه الحافظ رحمه الله تعالى أنهما اثنان: أحدهما، صحابيّ، والآخر تابعيّ، وهو المترجم هنا، ودُونَك نصّه في "التقريب":
والحقّ أنهما اثنان: صحابيّ، وتابعيّ، متّفقان في الاسم وكنية الأب، وقد بيّنتُ ذلك بأدلته في كتابي في الصحابة، ورواية جُنادة الأزديّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في "سنن النسائيّ"، ورواية جُنادة بن أبي أميّة عن عبادة بن الصامت في الكتب الستة. انتهى
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ. والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة"1/ 607 - 608 و "التقريب" ص 57.
قال الواقديّ، وخليفة، وغيرهما: مات سنة (80)، زاد الواقديّ: وكان ثقة، صاحب غزو، وقيل: مات سنة (86)، وقيل: سنة (75)
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (1709):"بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا".
6 -
(عبادة بن الصامت) بن قيس بن أَصْرم بن فِهر بن قيس بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عَمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجيّ، أبو الوليد، قال خليفة بن خياط: وأمه قُرّة العين بنت عبادة بن نَضْلَة بن العجلان، شهد بدرًا. وقال ابن سعد: كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي مَرْثَد الْغَنَوِيّ، وشَهِد المشاهد كلها بعد بدر. وقال ابن يونس: شَهِد فتح مصر، وكان أمير ربع الْمَدَد. وفي "الصحيحين" عن الصُّنابحي، عن عبادة قال: أنا من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة
…
الحديث.
وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وروى عنه أبناؤه: الوليد، وداود، وعبيد الله، وحفيداه: يحيى، وعبادة ابنا الوليد، وإسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة، ولم يدركه، ومن أقرانه أبو أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، ورفاعة بن رافع، وشُرَحبيل بن حسنة، وسلمة بن الْمُحَبِّق، وأبو أمامة، وعبد الرَّحمن بن غنْم، وفَضَالة بن عبيد، ومحمود بن الربيع، وغيرهم من الصحابة، والأسود بن ثعلبة، وجُبير بن نفير، وجنادة بن أبي أمية، وحطان بن عبد الله الرقاشي، وعبد الله بن محيريز، وأبو عبد الرَّحمن الصنابحي، وربيعة بن ناجذ، وعطاء بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب، ونافع بن محمود بن ربيعة، ويعلى بن شداد بن أوس، وأبو الأشعث الصنعاني، وأبو إدريس الخولاني، وخلق كثير.
أخرج حميد بن زنجويه في كتاب "الترغيب" من طريق أبي الأشعث، أنه راح إلى مسجد دمشق، فلقي شداد بن أوس، والصنابحي، فقالا: اذهب بنا
(1)
هكذا ذكر هذه الاختلافات في تاريخ وفاته في: "التهذيب" 1/ 317، وذكر في "الإصابة" أنه مات سنة (67) ولم يذكر خلافًا، فليُحرّر.
إلى أخ لنا نعوده، فدخلا على عبادة، فقالا: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بنعمة من الله وفضل. قال عبد الصمد بن سعيد في "تاريخ حمص"، وهو أول من ولي قضاء فلسطين. ومن مناقبه ما ذُكِرَ في "المغازي" لابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الصامت قال: لما حارب بنو قينقاع بسبب ما أمرهم عبد الله بن أُبَيّ، وكانوا حلفاءه، فمشى عبادة بن الصامت، وكان له حِلْف مثل الذي لعبد الله بن أُبَيّ، فخلعهم، وتبرأ إلى الله ورسوله من حِلْفهم، فنزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} [المائدة: 51].
وذكر خليفة أن أبا عبيدة ولّاه إِمْرَة حمص، ثم صرفه، ووَلَّى عبد الله بن قُرْط. وروى ابن سعد في ترجمته من طريق محمد بن كعب القرظي، أنه ممن جمع القرآن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا أورده البخاري في "التاريخ" من وجه آخر عن محمد بن كعب، وزاد: فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر، قد احتاج أهل الشام إلى من يُعَلِّمهم القرآن، ويفقههم، فأرسل معاذًا وعبادة وأبا الدرداء، فأقام عبادة بفلسطين. وقال السراج في "تاريخه" حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن جنادة: دخلت على عبادة، وكان قد تفقه في دين الله. هذا سند صحيح. وفي مسند إسحاق بن راهويه، و"الأوسط" للطبراني من طريق عيسى بن سنان، عن يعلى بن شداد، قال: ذكر معاوية الفرار من الطاعون، فذكر قصة له مع عبادة، فقام معاوية عند المنبر، بعد صلاة العصر، فقال: الحديث كما حدثني عبادة، فاقتبِسُوا منه، فهو أفقه مني. ولعبادة قصص متعددة مع معاوية، وإنكاره عليه أشياء، وفي بعضها رجوع معاوية له، وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه، تدل على قوته في دين الله، وقيامه في الأمر بالمعروف.
ورَوَى ابن سعد في ترجمته أنه كان طِوَالا جميلًا جسيمًا، ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وكذا ذكره المدائني، وفيها أرّخه خليفة بن خياط، وآخرون منهم من قال: مات ببيت المقدس. وأورد ابن عساكر في ترجمته أخبارًا له مع معاوية، تدل على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وبذلك جزم الهيثم بن عديّ، وقيل: إنه عاش إلى سنة خمس وأربعين. قاله في "الإصابة"
(1)
.
(1)
"الإصابة" 3/ 505 - 507.
وفي "تهذيب التهذيب": قال ابن سعد، عن الواقدي، عن يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه: مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن (72) سنة. قال ابن سعد: وسمعت من يقول: إنه بقي حتى توفي في خلافة معاوية، وكذا قال الهيثم بن محمدي. وقال دُحَيم: توفي ببيت المقدس. وقال ابن حبان: هو أول من ولى القضاء بفلسطين. وقال سعيد بن عُفَير: كان طوله عشرة أشبار
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله (181) حديثًا، اتفق. الشيخان على ستة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بحديثين
(2)
وله في هذا الكتاب (18) حديثًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، في أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فخُوَارزميّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث إلَّا في موضع واحد.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ كبير: عمير، عن جُنادة.
6 -
(ومنها): أن صحابيِّه رضي الله عنه من كبار الصحابة، جمّ المناقب، فإنه أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وأنه أول من ولي القضاء بفلسطين رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) أنه قال: (حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) الأنصاريّ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ") شرطيّةٌ مبتدأ جوابها
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 285 - 286.
(2)
هذا يدلُّ على أن لعبادة رضي الله عنه في "صحيح مسلم" ثمانية أحاديث فقط، والذي في برنامج الحديث أن له (18) حديثًا، ولا تخالف بينهما؛ لأنَّها ثمانية عشر بالتكرار، فتنبّه.
"أدخله الله إلخ"، أو موصولة مبتدأ خبره الجملة المذكورة (قَالَ: أَشْهَدُ) أي من تكلّم بها، عارفًا لمعناها، عاملًا بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، فلا بدّ في الشهادتين من العلم واليقين، والعمل بمدلولهما، كما قال الله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، أما النطق بها من غير معرفة معناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه، من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل، فغير نافع بالإجماع
(1)
(أَنْ) مخفّفة من الثقيلة، أي أنه (لا إِلَهَ) أي لا معبود بحقّ (إِلَّا الله وَحْدَهُ) تأكيد للإثبات، وهو منصوب على الحال بتأويله بـ "منفردًا"، كما قال في "الخلاصة":
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ
…
تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَـ "وَحْدَكَ اجْتَهِدْ"
أي حال كونه منفردًا في ربوبيَّته، وألوهيَّته، وأسمائه وصفاته.
وقوله: (لَا شَرِيكَ لَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، وهو تأكيد للنفي.
[تنبيه]: قال الوزير أبو المظفر رحمه الله تعالى في "الإفصاح": قوله: "شهادة أن لا إله إلَّا الله" يقتضي أن يكون الشاهد عالِمًا بأنه لا إله إلَّا الله، كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، قال: واسم "الله" مرتفع بعد "إلَّا" من حيث إنه الواجب له الإلهيّة، فلا يستحقها غيره سبحانه وتعالى، قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فإنك لَمَّا نَفَيتَ الإلهيَّة، وأثبت الإيجاب لله سبحانه وتعالى كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله.
وقال ابن القيّم رحمه الله تعالى في "المبدائع" ردًّا لقول من قال: إن المستثنى مُخرج من المستثنى منه، قال: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلًا في المستثني، إذ لو كان كذلك لَمْ يدخل الرجل في الإسلام بقوله:"لا إله إلَّا الله"؛ لأنه لَمْ يُثبت الإلهيّة لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمّنت بالوضع نفي الإلهيّة عمّا سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات إلهيّته أعظم من دلالة قولنا:"الله إله"، ولا يستريب أحدٌ في هذا البتّة. انتهى.
(1)
راجع: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" ص 58.
وقال أيضًا: "الإله" هو الذي تالهه القلوب محبّةً وإجلالًا وإنابةً، وإكرامًا وتعظيمًا، وذُلًّا وخضوعًا، وخوفًا ورجاءً، وتوكّلًا.
وقال شيخ الإسلام: "الإله" هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحقّ أن يُعبَد، وكونه يستحقّ أن يُعبد هو بما اتّصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحبّ، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تُؤَلِّهُهُ القلوب بحبها، وتخضع له، وتذلّ له، وتخافه وترجوه، وتُنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهمّاتها، وتتوكّل عليه في مصالحها وتلجأ إليه، وتطمئنّ بذكره، وتسكن إلى حبّه، وليس ذلك إلَّا اللهُ وحده، ولهذا كانت "لا إله إلَّا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه، وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحّت صحّ بها كلّ مسألة وحال وذوق، وإذا لَمْ يُصحّحها العبد، فالفساد لازم له في علومه وأعماله. انتهى.
وقال ابن رجب: "الإله" هو الذي يُطاع فلا يُعصى هيبةً له وإجلالًا، ومحبَّةً وخوفًا ورجاء، وتَوَكُّلًا عليه، وسؤالًا منه، ودعاءً له، ولا يصلح هذا كلّه إلَّا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهيّة كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قوله:"لا إله إلَّا الله"، وكان فيه من عبوديّة المخلوق، بحسب ما فيه من ذلك. انتهى
(1)
.
(وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) أي وشهِدَ بذلك، وهو معطوف على "أن لا إله إلَّا الله"، وهذان الوصفان أخصّ أوصاف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذا وصفه الله تعالى بالعبوديّة في أسمى المقام، فقال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1].
(وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِهِ)، أي خلافًا لما يعتقده النصارى أنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91].
فلا بدَّ للمكلف أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه
(1)
نقل هذا كلّه في: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" ص 60 - 61.
مملوك لله، خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]، فليس ربًّا ولا إلهًا، قال تعالى:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)} [مريم: 29 - 36]، وقال:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} الآية [النساء: 172].
ولا بدّ أيضًا أن يشهد ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولد بغيّ، لعنهم الله تعالى، فلا يصحّ إسلام أحد علم ما يقولونه حتى يتبرّأ من قول الطائفتين جميعًا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: إنه عبد الله ورسوله.
وقوله: (وَكَلِمَتُهُ) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: سُمّي عيسى عليه السلام كلمةً؛ لأنه كان بكلمة الله، قيل: هي قوله: "كن"، فكان، وقيل: هي الرسالة التي جاء بها الملك لأمه مبشّرًا به عن أمر الله، كما ذكره في كتابه، وقال ابن عبّاس في: الكلمة اسم عيسى. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: سُمّي كلمةً؛ لأنه كان بكلمة "كن" فحسب، من غير أب بخلاف غيره من بني آدم، وقال الهرويّ: سُمِّي كلمة؛ لأنه كان عن الكلمة، فسمي بها، كما يقال للمطر: رحمةٌ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وقوله: "وكلمته": إشارة إلى أنه حجة الله على عباده، أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيا الموتى على يده، وقيل: سُمِّي كلمة الله؛ لأنه أوجده بقوله: "كن"، فلما كان بكلامه سُمِّي به، كما يقال: سيف الله، وأسد الله، وقيل: لَمّا قال في صغره: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30]
(3)
.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 233.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 227.
(3)
"الفتح" 6/ 547.
وقال القرطبيّ: اختُلف في وصف عيسى عليه السلام بكونه كلمة، فقيل: لأنه تكوَّن بكلمة "كن" من غير أب، وقيل: لأن الملك جاء أمَّه بكلمة البشارة به عن أمر الله تعالى، وهذان القولان أشبه ما قيل: في ذلك. انتهى
(1)
.
وقال التوربشتيّ: "الكلمة" تقع على كلّ واحد من الأنواع الثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف، وتقع على الألفاظ المنظومة، والمعاني المجموعة تحتها، وبهذا تُستعمل في القضيّة، والحكم، والحجة، وبجميعها ورد التنزيل، وكأنّ الكلام أُخذ من الكَلْم، فإن الكَلْمِ يُدرك تأثيره بحاسّة البصر، والكلام يُدرك تأثيره بحاسّة السمع، وأما تسمية عيسى بالكلمة، فإنه حجة الله تعالى على عباده، أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيا الموتى على يده، وقد قيل: إنه سُمي كلمةً؛ لكونه مُوجَدًا بـ "كن"، وقيل: لما انتُفع بكلامه سمي به، كما يقال: فلان سيف الله، وأسد الله، وقيل: لما خصّه الله به في صغره، حيث قال:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الآية [مريم: 30]
(2)
.
(أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) أي أوصلها إليها، وحصلها فيها
(3)
، وقيل: معنى "ألقاها"، أي أعلمها بها، يقال: ألقيتُ عليك كلمة: أي أعلمتك بها، قاله القاضي عياض
(4)
.
وأصل الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه، ثم استُعمل في كلّ طرح، ويقال: أبيقيتُ إليك قولًا، وسلامًا، وكلامًا، ومودّةً، وألقى الله الشيء في القلب: قذفه، وألقى القرآن: أوحى به، وأنزله
(5)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، أي إنما هو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله، وكلمته القاها إلى مريم، أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربّه عز وجل، فكان عيسى بإذنه عز وجل، فهو ناشئ
(1)
"المفهم" 1/ 200.
(2)
"الكاشف" 2/ 481.
(3)
"الكاشف" 2/ 481.
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 233.
(5)
راجع: "المفردات" للراغب ص 453، و"تاج العروس شرح القاموس" 10/ 330 - 331.
عن الكلمة التي قال له: {كُنْ} البقرة: 117، فكان، والروح التي أرسل بها هو جبريل عليه السلام، وكانت تلك النفخة التي نَفَخَها في جيب دِرْعها، فَنَزَلت حتى وَلَجَت فرجها بِمَنْزِلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله عز وجل، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله، وروح منه؛ لأنه لَمْ يكن له أبُ تَوَلَّدَ منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروحِ التي أَرسل بها جبريل عليه السلام.
قال: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطيّ، قال: سمعت شاذ بن يحيى، يقول في قول الله:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، قال: ليس الكلمةُ صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى، قال ابن كثير: وهذا أحسن مما ادّعاه ابن جرير في قوله: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]: أي أعلمها بها، كما زعمه في قوله:{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45]: أي يُعْلمك بكلمة منه، ويَجْعَلُ ذلك كقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]، بل الصحيح أنَّها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فَنَفَخَ فيها بإذن الله، فكان عيسى عليه السلام.
قال: فقوله في الآية والحديث: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، كقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]: أي من خلقه، ومن عنده، وليست "من" للتبعيض، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة بل هي لابتداء الغاية، كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد في قوله:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]: أي ورسول منه، وقال غيره: ومحبة منه، والأظهر الأول، وهو أنه مخلوق من رُوح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة، والبيت إلى الله في قوله:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف: 73]، وفي قوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26]، وكما وَرَدَ في الحديث الصحيح:"فأدخل على ربي في داره"، أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد، ونمط واحد
(1)
. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه، ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله
(1)
"تفسير ابن كثير" ص 374.
تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإذا كان المضاف عينًا قائمة بنفسها، كعيسى وجبريل عليه السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى؛ لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره، لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:
[أحدهما]: أن تضاف إليه؛ لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شاملٌ لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله، فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله.
[الوجه الثاني]: أن يُضاف إليه لما خصّه به من معنى يُحبّه، ويأمر به، ويرضاه، كما خصّ البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه، فعباد الله هم الذين عبَدُوه، وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمّن ألوهيّته، وشرعه، ودينه، وتلك إضافة تتضمّن ربوبيته وخَلْقه. انتهى ملخّصًا
(1)
.
وقوله: (وَرُوحٌ مِنْهُ)، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: سُمِّي عيسى عليه السلام "روح الله"، و"روح منه"؛ لأنه حَدَث من نفخة جبريل عليه السلام، فنسبه الله إليه؛ لأنه كان عن أمره، وسُمّي النفخ رُوحًا؛ لأنه ريحٌ يخرُج من الروح، قاله مكيّ، وفي هذه العبارة مسامحة، وقيل: روح منه: حياة منه، وقيل: رحمةٌ منه، والروح: الرحمة، كما قال فيه:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم: 21]، وقيل: روح منه: برهان لمن اتّبعه، وقيل: لأنه لَمْ يكن من أب، كما في آدم:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وإنما كان جعل الروح فيه بلا واسطة، قاله الحربيّ
(2)
.
وقيل: و"روح منه"، أي مخلوقة من عنده، وعلى هذا يكون إضافتها إليه إضافة تشريف، كناقة الله، وبيت الله، وإلا فالعالم له سبحانه وتعالى، ومن عنده
(3)
.
وقال في "الفتح": سمّاه بالروح؛ لأجل ما أقدره الله عليه من إحياء الموتي، وقيل: لكونه ذا روح، وُجِد من غير جزء من ذي روح
(4)
.
(1)
راجع: "فتح المجيد" ص 66 - 67.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 233 - 235.
(3)
"شرح النووي" 1/ 227.
(4)
"الفتح" 6/ 547 - 548.
وقال القرطبيّ: سمّي عيسى عليه السلام، روح الله؛ لأنه حَدَثَ عن نفخة الملك، وإضافته إلى الله تعالى؛ لأن ذلك النفخ كان عن أمره وقدره، وسُمّي النفخ روحًا؛ لأنه ريح يخرُج من الروح، وقيل: سُمّي بذلك؛ لأنه روح لمن اتّبعه، وقيل: لأنه تعالى خَلَقَ فيه الروح من غير واسطة أب، كما قال تعالى في آدم عليه السلام:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29].
[فائدة]: ذكر الطيبيّ أنه روي أن عظيمًا من النصارى سمع قارئًا يقرأ {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، قال: أفغير هذا دين النصارى؟ يعني هذا يدلّ على أن عيسى عليه السلام بعض منه، فأجاب علي بن الحسين بن واقد صاحب "كتاب النظائر": أن الله تعالى يقول أيضًا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، فلو أريد بقوله:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] بعض منه، وجزءٌ منه لكان قوله هنا:{جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] معناه بعض منه، أو جزء منه، فأسلم النصرانيّ.
ومعنى الآية أنه تعالى سخّر هذه الأشياء كائنةً منه، وحاصلةً من عنده، يعني أنه مكوّنها، ومُوجِدها بقدرته وحكمته، ثم سخّرها لخلقه. انتهى
(1)
.
(وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ) أي الجَنَّة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدّها للمتّقين، فقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]، وقال:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21] حقّ، أي ثابتة لا شكّ فيها، (وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ)، أي: وأن النار التي أخبر بها في كتابه أنه أعدّها للكافرين، فقال:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، كذلك ثابتةٌ.
وقال الطيبي رحمه الله تعالى: لعله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الجنّة والنار، وأخبر عنهما بقوله:"حقّ"، وهو مصدرٌ للمبالغة في حقّيّته، وأنهما عين الحق، كقولك: زيد عَدْلٌ؛ تعريضًا بالزنادقة، ومن يُنكر دار الثواب ودار العقاب. انتهى
(2)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 480.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 480.
(أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ)، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر هذا يقتضي أن قول هذه الكلمات يقتضي دخولَ الجَنَّة، والتخييرَ في أبوابها، وذلك بخلاف ظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في "كتاب الزكاة"، فإنه فيه ما يقتضي أن كلّ من كان من أهل الجنّة إنما يدخل من الباب المعيَّن للعمل الذي كان يعمله الداخل غالبًا، فإنه قال فيه: "فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرّيّان
…
" الحديث
(1)
.
قال: والتوفيق أنّ كلَّ من يدخل الجَنَّة مُخَيَّر في الدخول من أيّ باب شاء، غير أنه إذا عُرِضَ عليه الأفضل في حقّه، دخل منه مُختارًا للدخول منه، من غير جبر عليه، ولا منع له من الدخول من غيره، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما على من يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ بعد ذكر كلام القرطبيّ: ويحتمل أن يكون فاعل "شاء" هو الله تعالى، والمعنى أن الله يوفقه لعملٍ يُدخله برحمة الله من الباب الْمُعَدّ لعامل ذلك العمل. انتهى
(3)
.
وتوجيه القرطبي أقرب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
ونصّ المصنّف في "كتاب الزكاة":
حدثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى التجيبي، واللفظ لأبي الطاهر، قالا: حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أنفق زوجين في سيل الله نودي في الجَنَّة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريّان"، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما على أحد يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدْعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم، وأرجو أن تكون منهم".
(2)
"المفهم" 1/ 201.
(3)
"الفتح" 6/ 548.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[10/ 147](28) عن داود بن رُشيد، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر - و (10/ 148) عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، عن مُبشّر بن إسماعيل، عن الأوزاعيّ - كلاهما عن عُمير بن هانيّ، عن جُنادة بن أبي أُميّة، عن عبادة رضي الله عنه.
و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء" 4/ 201 (3435) عن صدقة بن الفضل، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، وعبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر، كلاهما عن عمير بن هانئ به.
و (النسائيّ) في "التفسير"(11132) و"عمل اليوم والليلة"(1131) عن محمود بن خالد، عن عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعيّ به، وفي "عمل اليوم والليلة"(1130) عن عمرو بن منصور، عن أبي مُسهر، عن صدقة بن خالد، عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر به.
و (أحمد) في "مسنده" 5/ 313 و 314 و (أبو عوانة) في "مسنده"(8) و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(133 و 134 و 135)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(207)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): أن هذا الحديث حديثٌ عظيم الموقع، وهو أجمعُ، أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فيه ما يُخْرِج عن جميع ملل الكفر، على اختلاف عقائدهم، وتباعدها، فاختصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان فضل هؤلاء الكلمات، حيث إنها توجب دخول الجَنَّة، من أيّ أبوابها شاء.
3 -
(ومنها): إنما جمع في قوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله"، بين
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 227.
الوصفين؛ تحذيرًا عن الإفراط والتفريط، فإن كثيرًا ممن يدّعي أنه من أمته يُفْرِط بالغلوّ قولًا وفعلًا، فيرفعه فوق مَنْزلته من العبوديّة، ويُفَرّط بترك متابعته، معتمدًا على آرائه، أو آراء مقلّديه المخالفة لما جاء به، ويتعسّف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها، فشهادة أن محمدًا عبده ورسوله تنافي ذلك؛ لأنَّها تقتضي الإيمان به، وتوجب تصديقه فيما به أخبر، وطاعته فيما به أَمَر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن تُعَظَّم سنّته، ولا يُقدّم عليها قول أحد كائنًا من كان.
وقد بيّن هذا في الحديث الآخر، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من حديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله".
وقد ورد وصفه بهاتين الصفتين في الكتب السابقة أيضًا، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"(2125) عن عطاء بن يسار، قال: لَقِيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45] وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلَّا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا".
4 -
(ومنها): بيان بطلان - ما عليه النصارى من اعتقادهم في عيسى عليه السلام أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
5 -
(ومنها): بيان ضلال اليهود الذين يعتقدون في عيسى وأمه عليه السلام ما لا يليق بهما، من أنَّها حملته من الزنا، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].
6 -
(ومنها): بيان فضل عيسى عليه السلام حيث إنه كلمة الله تعالى، وروح منه.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: مقصود هذا الحديث التنبيه على ما وقع للنصارى من الضلال في عيسى وأمه عليه السلام، والتحذير من ذلك بأن عيسى عبد الله، لا إله، ولا ولد، وأمّه أَمَةُ الله تعالى، ومملوكة له، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا.
ويُستَفاد منه ما يُلَقَّنه النصرانيّ إذا أسلم، وقال غيره: في ذكر عيسى عليه السلام تعريض بالنصاري، وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله:"عبد الله"، وفي ذكر "رسوله" تعريض باليهود في إنكارهم رسالته، وقذفه بما هو مُنَزّه عنه، وكذا أمه، وفي قوله:"وابن أمته" تشريف له، وكذا تسميته بالروح، ووصفه بأنه منه، كقوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، فالمعنى أنه كائن منه كما أن معنى الآية الأخرى أنه سَخّر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مُكَوِّن كلّ ذلك، ومُوجِده بقدرته وحكمته
(1)
.
8 -
(ومنها): إثبات الجَنَّة والنار، وأنهما مخلوقتان الآن، خلافًا للمبتدعة، وأن الإيمان بحقيّتهما من أصول الدين.
9 -
(ومنها): أن الجنّة لها أبواب، وأنها ثمانية.
10 -
(ومنها): أن بعض عباد الله يخيّرون في دخول الجَنَّة من أيّ أبوابها شاؤوا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]، اللهم ارزقنا الجَنَّة، وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعذنا من النار، وما قرّب إليها من قول وعمل، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[148]
(30) - (وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ"، وَلَمْ يَذْكُرْ: "مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقيُّ) النُّكْريّ البغداديّ، ثقة حافظ [10](ت 246)(م د، ق) 5/ 66.
(1)
"الفتح" 6/ 547 - 548.
2 -
(مُبَشِّرُ
(1)
بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الْحَلَبيّ، أبو إسماعيل الكلبيّ مولاهم، صدوقٌ [9].
رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وحسان بن نوح، وتَمَّام بن نَجِيح، وجعفر بن بُرْقان، والأوزاعي، ومُعَان بن رِفَاعَةَ، وغيرهم.
وروى عنه إبراهيم بن موسى الرازي، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن مِهْرَان الجمّال، وموسى بن عبد الرَّحمن الأنطاكي، ومحمد بن إبراهيم بن العلاء، وغيرهم.
قال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، ومات بحلب سنة مائتين.
وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أحمد بن حنبل. وقال ابن قانع: ضعيف، وقال الذهبي: تُكُلِّم فيه بلا حجة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (753): "أن الفتيا التي كانوا يُفتون بها الماء من الماء
…
".
3 -
(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرَّحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقة ثبت فقيه إمام [7](ت 157)(ع) 5/ 28.
4 -
(عُمَيْرُ بْنُ هَانِئ) المذكور في السند الماضي.
وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ) الإشارة إلى الإسناد الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل الإسناد الماضي، وهو عن عمير بن هانيء، عن جنادة بن أبي أميّة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وقوله: (غَيْرَ أنهُ قَالَ إلخ) الضمير للأوزاعيّ، ويحتمل أن يكون لشيخه أحمد بن إبراهيم، يعني أنه قال في آخر متن الحديث:"عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ، بدل قوله: "مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ".
[تنبيه]: لفظ رواية الأوزاعيّ ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(ج 1 ص 122)، فقال:
(1)
بصيغة اسم الفاعل المضعّف، من التبشير.
(133)
- حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا يعلى بن الوليد بن عبد العزيز الْعَنسيّ، ثنا مُبَشِّر بن إسماعيل الْحَلبيّ، عن الأوزاعيّ، عن عُمير بن هانيء، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَهِدَ أن لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، أدخله الله الجَنَّة على ما كان من عمل".
وقوله: (أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ) ولفظ البخاريّ: "من العمل" بالتعريف، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي يدخله الجنّة، ولا بُدّ، سواء كان عمله صالحًا، أو سيّئًا، وذلك بأن يَغفِرَ له السيّءَ بسبب هذه الأقوال، أو يُرْبِيَ ثوابها على ذلك العمل السيّيء، وكلُّ ذلك يحصُلُ - إن شاء الله - لمن مات على تلك الأقوال، إما مع السلامة المطلقة، وإما بعد المؤاخذة بالكبائر على ما قرّرناه آنفًا. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": معنى قوله: "على ما كان عليه من العمل": أي من صلاح، أو فساد، لكن أهل التوحيد لا بُدّ لهم من دخول الجَنَّة، ويحتمل أن يكون معنى قوله:"على ما كان من العمل": أي يَدْخُل أهل الجَنَّة الجَنَّة على حسب أعمال كُلٍّ منهم في الدرجات. انتهى وقال القاضي البيضاويّ في قوله: "على ما كان عليه من العمل"، دليلٌ على المعتزلة في مقامين:
[أحدهما]: أن العاصي من أهل القبلة لا يُخَلَّد في النار؛ لعموم قوله: "من قال: أشْهَدُ أن لا إله إلَّا الله إلخ".
[وثانيهما]: أنه تعالى يعفو عن السيّئات قبل التوبة، واستيفاء العقوبة؛ لأن قوله:"على ما كان من عمل" حال من قوله: "أدخله الله الجَنَّة"، كما في قولك: رأيت فلانًا على أكل، أي آكلًا، ولا شكّ أن العمل غير حاصل، بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يُناسب عمله من الثواب والعقاب، ولا يُتصوّر ذلك في حقّ العاصي الذي مات قبل التوبة إلَّا إذا أُدخل قبل استيفاء العقوبة.
(1)
"المفهم" 1/ 201.
[فإن قلت]: ما ذكرت يستدعي أن لا يدخل أحدٌ النار من العصاة.
[قلت]: اللازم منه عموم العفو، وهو لا يستلزم عدم دخول النار؛ لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد الدخول، وقبل استيفاء العذاب، وليس بحتم عندنا أن يدخل النار أحدٌ، بل العفو عن الجميع بموجب وعده حيث قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 - 116]، وقال:{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] مرجُوٌّ.
قال الطيبي: أقول: إن التعريف في "العمل"
(1)
للعهد، والإشارة به إلى الكبائر، والدليل عليه قوله:"وإن زنى وإن سرق" في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي، وقوله:"على ما كان عليه" حال كما في قول الحماسيّ [من الطويل]:
فَوَاللَّهِ لَا أَنْسَى قَتِيلًا رُزِئْتُهُ
…
بِجَانِبِ قَوْسِي مَا مَشَيْتُ عَلَى الأَرْضِ
عَلَى أَنَّهَا تَعْفُو الْكُلُومُ وَإِنَّمَا
…
يُوَكَّلُ بِالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي
قال أبو البقاء: "على" وما يتّصل بها حال، أي ما أنسى بهذا الرَّزْء في حال الكلوم، أي حالي مُخالف لحال غيري في استدامة الحُزْن، فالمعنى من يشهد أن لا إله إلَّا الله يدخل الجنّة في حال استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر، أي حال هذا مخالفة للقياس في دخول الجنّة، فإن القياس يقتضي
(2)
أن لا يدخل الجَنَّة مَنْ شأنه هذا، كما زعمت المعتزلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبو ذرّ رضي الله عنه في قوله:"وإن زنى وإن سرق"، وردّ بقوله:"وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرّ". انتهى كلام الطيبيّ
(3)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[149]
(
…
) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
(1)
هذا في رواية البخاريّ، وأما رواية مسلم، فإنها بلفظ:"من عمل" بالتنكير، لا بالتعريف، فتأمّل.
(2)
التعبير بالقياس في مثل هذا الموضع محلّ نظر.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 481 - 482.
الصَّامِت، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْه، وَهُوَ فِي الْمَوْت، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَهْلًا، لِمَ تَبْكِي؟ فَوَالله، لَئِنْ اسْتُشْهِدْتُ لأَشْهَدَنَّ لَكَ، وَلَئِنْ شُفِّعْتُ لأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ لأَنفَعَنَّكَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ، إِلا حَدَّثْتُكُمُوهُ، إِلا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ، وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 240)(ع) 8/ 132.
2 -
(لَيْثٌ) بن سعد بن عبد الرَّحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" 2/ 397.
3 -
(ابْنُ عَجْلَانَ) هو محمد بن عجلان القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، أبو عبد الله المدنيّ، أحد العلماء العاملين، صدوقٌ، إلَّا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5].
رَوَى عن أبيه، وأنس بن مالك، وسلمان أبي حازم الأشجعي، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، ورجاء بن حيوة، وسُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرَّحمن، وصيفي مولى أبي أيوب، وعامر بن عبد الله بن الزبير، والأعرج، وأبي الزناد، وعكرمة، ومحمد بن يحيى بن حبّان، وغيرهم.
ورَوَى عنه صالح بن كيسان، وهو أكبر منه، وعبد الوهاب بن بُخْت، ومات قبله، وإبراهيم بن أبي عَبْلَة، وهو من أقرانه، ومالك، ومنصور، وشعبة، وزياد بن سعد، والسفيانان، والليث، وسليمان بن بلال، ويحيى القطان، وخلق كثير.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا محمد بن عجلان، وكان ثقة. وقال أيضًا: سألت أبي عن محمد بن عجلان، وموسى بن عقبة؟ فقال: جميعًا ثقة، وما أقربهما. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقدمه على داود بن
قيس الفراء. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة، أوثق من محمد بن عمرو، وما يشك في هذا أحد. كان داود بن قيس: يجلس إلى ابن عجلان يتحفظ عنه، وكان يقول: إنها اختطلت على ابن عجلان - يعني أحاديث سعيد المقبري -. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق وسط. وقال أبو زرعة: ابن عجلان من الثقات. وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان عابدًا ناسكًا فقيهًا، وكانت له حلقة في المسجد، وكان يفتي. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال الساجي: هو من أهل الصدق، لَمْ يحدث عنه مالك إلَّا يسيرًا. وقال ابن عيينة: كان ثقة عالمًا. وقال يحيى القطان عن ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبي هريرة، وعن أبيه عن أبي هريرة، وعن رجل عن أبي هريرة، فاختلطت عليه، فجعلها كلها عن أبي هريرة. ولَمّا ذكر ابن حبان في كتاب "الثقات" هذه القصة قال: ليس هذا بِوَهْنٍ يُوَهَّنُ الإنسانُ به؛ لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة، وربما قال ابن عجلان: عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، فهذا مما حُمل عنه قديمًا قبل اختلاط صحيفته، فلا يجب الاحتجاج إلَّا بما يروي عنه الثقات. وقال العقيلي: يضطرب في حديث نافع. وقال الواقدي: سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول: حُمِل بأبي أكثر من ثلاث سنين، قال: وقد رأيته، وسمعت منه، ومات سنة ثمان أو تسع وأربعين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث. وقال ابن يونس: قدم مصر، وصار إلى الإسكندرية، فتزوج بها امرأة، فأتاها في دبرها، فشكته إلى أهلها، فشاع ذلك، فصاحوا به، فخرج منها، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وأربعين.
علّق له البخاريّ، وأخرج له المصنف في المتابعات، ولم يحتج به، وله عنده في هذا الكتاب (15) حديثًا، وأخرج له الأربعة.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) - بفتح المهملة، وتشديد الموحّدة - ابن مُنْقِذ بن عمرو بن مالك بن خَنْسَاء بن مَبْذُول بن عمرو بن غَنْم بن مازن بن النّجّار الأنصاريّ المازنيّ، أبو عبد الله الأنصاريّ المدنيّ، ثقة فقيه [4].
رَوَى عن أبيه، وعمه واسع، ورافع بن خَديج، وأنس، وعَبّاد بن تميم، ويحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري، والأعرج، وعمرو بن سليم الزُّرَقيّ، وعبد الله بن مُحيريز، وغيرهم. ورَوَى عنه الزهري، ويحيى بن سعيد
الأنصاري، وعبد ربه بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرَّحمن، وربيعة بن عثمان التيمي، وابن عجلان، وابن إسحاق، ومالك، وآخرون. قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الواقدي: كانت له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتي، وكان ثقة، كثير الحديث، مات بالمدينة سنة إحدى وعشرين ومائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.
5 -
(ابْنُ مُحَيْرِيزٍ) هو: عبد الله بن مُحَيريز - بمهملة، وراء، آخره زاي، مصغّرًا - ابن جُنَادة بن وهب بن لُوذان بن سَعْد بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيص الْجُمحيّ - بضم الجيم، وفتح الميم، بعدها مهملة - أبو مُحَيريز المكيّ، من رَهْط أبي مَحْذُورة، وكان يتيمًا في حَجْرِه، نَزَلَ الشامَ، وسَكَنَ بيت المقدس، ثقة عابدٌ [3].
رَوَى عن أبي محذورة، وأبي سعيد الخدريّ، ومعاوية، وأبي صِرْمَة الأنصاريّ، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن السَّعْديّ، وأم الدرداء، وغيرهم.
وروى عنه عبد الملك بن أبي محذورة، وعبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، ومكحول الشاميّ، وبسر بن عبد الله الحضرميّ، وغيرهم.
قال أبو زرعة: ابن مُحَيريز الْمُقَدَّم - يعني على خالد بن معدان - وكان الأوزاعيّ لا يذكر خمسة من السلف، إلَّا ذكر فيهم ابن مُحَيريز، ورَفَع من ذكره وفضله، قال دُحَيم: ورأيته أجلَّ أهل الشام عند أبي زرعة، بعد أبي إدريس، وأهلِ طبقته، وقال ضمرة عن الأوزاعيّ: كان ابن أبي زكريا يَقْدَمُ فلسطين، فيَلْقَى ابن محيريز، فتتصاغر إليه نفسه؛ لِمَا يَرَى من فضل ابن محيريز، وقال رَجَاء بن حَيْوَة: إن كان أهل المدينة لَيَرون ابن عمر فيهم أَمَانًا، وإنّا نَرَى ابن محيريز فينا أمانًا، وعن الأوزاعي قال: من كان مقتديًا فليقتد بمثل ابن محيريز، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقةٌ، من خيار المسلمين، وقال ابن أبي خيثمة: لَمْ يكن أحدٌ بالشام يَعِيب الحجاج علانية إلَّا ابن محيريز، وفي "الزهد" لأحمد عن أبي زرعة الشيباني: لَمْ يكن بالشام يُظْهِرُ عيب الحجاج إلَّا ابن محيريز، وأبو الأبيض الْعَنْسيّ، وقال له الوليد. لَتَنْتهِيَنَّ عنه، أو لأَبْعَثَنّ بك إليه.
وقد ذكره العقيليّ في "الصحابة"، وساق بسنده إلى أبي قلابة، عن ابن محيريز، وكانت له صحبة، فذكر خبرًا.
قال الحافظ: وهذا إن كان محفوظًا يكون صحابيًّا لَمْ يُسَمَّ، وأما عبد الله، فتابعيّ لا ريب فيه، وقد بالغ ابن عبد البر في الإنكار على الْعُقيليّ في ذلك، وقال ابن خِرَاش: كان من خيار الناس، وثقات المسلمين، وقال النسائيّ: ثقة.
قال خليفة: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال ضمرة بن ربيعة: مات في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكذا قال ابن حبان في "الثقات".
قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ: مات سنة تسع وتسعين، انتهي، وهو مقضى قول الهيثم بن محمديّ: إنه مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وأما الكلاباذيّ، فقال في "رجال البخاريّ": مات في خلافة الوليد بن عبد الملك كما تقدم. انتهى
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، و (379) و (1438) وأعاده بعده.
6 -
(الصُّنَابحيّ) عبد الرَّحمن بن عُسَيلة - بمهملة، مصغّرًا - ابن عِسْل بن عَسّال المراديّ، أبو عبد الله الصُّنَابحيّ
(2)
، من كبار التابعين، رَحَلَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجده قد مات، وهو في الطريق، وهو بالجحفة، قبل أن يَصِلَ إلى المدينة بخمس ليال، أو ست، فسمع أبا بكر الصديق، وخلائق من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وبلال، وسعد بن عبادة، وعمرو بن عَبَسَةَ، وشداد بن أوس، ومعاذ بن جبل، ومعاوية، وعائشة.
وروى عنه أسلم مولى عمر، وربيعة بن يزيد الدمشقيّ، وأبو الخير
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 429.
(2)
بضم الصاد المهملة، وتخفيف النون: نسبة إلى الصُّنَابح: بطن من مراد. "شرح النووي" 1/ 228.
مرثد بن عبد الله اليزنيّ، وعطاء بن يسار، وسُويد بن غَفَلة، وعبد الله بن محيريز، ومحمود بن لبيد الأنصاريّ، وعبد الله بن سعد البجليّ الكاتب، وجماعة.
قال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث.
وقال يعقوب بن شيبة: هؤلاء الصنابحيون الذين يُرْوَى عنهم في العدد ستة، وإنما هما اثنان فقط: الصنابحيّ الأحمسيّ، وهو الصنابح الأحمسيّ، هذان واحد، مَن قال فيه: الصنابحيّ فقد أخطأ، وهو الذي يروي عنه الكوفيون، والثاني: عبد الرَّحمن بن عُسَيلة، كنيته أبو عبد الله، لَمْ يدرك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بل أرسل عنه، وروى عن أبي بكر وغيره، فمَن قال عن عبد الرَّحمن الصنابحيّ، فقد أصاب اسمه، ومن قال: عن أبي عبد الله الصنابحيّ، فقد أصاب كنيته، وهو رجل واحد، ومن قال: عن أبي عبد الرَّحمن، فقد أخطأ، قَلَبَ اسمه، فجعله كنيته، ومَن قال: عن عبد الله الصنابحيّ، فقد أخطأ، قَلَب كنيته، فجعلها اسمه، هذا قول علي بن المدينيّ، ومن تابعه، وهذا الصواب عندي، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، وكان كثير المناقب، فمن أجلّها ما أخرجه الطبراني في مسند عبادة، من طريق ابن محيريز، قال: عُدْنَا عبادة بن الصامت، فأقبل أبو عبد الله الصنابحيّ، فقال عبادة: مَن سَرَّه أن ينظر إلى رجل، عُرِج به إلى السماء، فنَظَرَ أهل الجَنَّة، وأهل النار، فرَجَعَ وهو يعمل على ما رأي، فلينظر إلى هذا.
وذكر ابن حبان في "الثقات" عبد الرَّحمن بن عسيلة نحو ما ذكره ابن سعد، وقال ابن يونس: شَهِدَ فتح مصر، وقال ابن معين: تأخر إلى زمن عبد الملك بن مروان، وكان عبد الملك يُجلسه معه على السرير، وذكره البخاري في "التاريخ الأوسط" في "فصل من مات ما بين السبعين والثمانين".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث (1709): "بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئًا
…
".
7 -
(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) المذكور في السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون، يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان، عن ابن حَبّان، عبد الله بن مُحَيريز، عن الصُّنَابحيّ.
3 -
(ومنها): أن الصُّنابحيّ هذا، وهو تابعيّ كبير، ربما اشتبه على من لا دراية له بمعرفة الرجال بالصُّنابح بن الأعسر الصحابيّ رضي الله عنه، فينبغي الانتباه لهذا الفرق. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الصُّنَابحِيِّ) - بضم الصاد المهملة - عبد الرَّحمن بن عُسَيلة (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ)، قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا كثير يقع مثله، وفيه صنعةٌ حسنةٌ، وتقديره: عن الصُّنابحيّ أنه حَدَّثَ عن عبادة بحديث، قال فيه: دَخلتُ عليه، ومثله ما سيأتي قريبًا في "كتاب الإيمان"، في حديث:"ثلاثة يُؤْتَون أجرهم مرتين"، قال مسلم رحمه الله: حدثنا يحيى بن يحيى، قال. أنا هشيم، عن صالح بن صالح، عن الشعبيّ، قال: رأيت رجلًا سأل الشعبيّ، فقال: يا أبا عمرو إن من قبلنا من أهل خراسان، ناس يقولون كذا، فقال الشعبيّ: حدثني أبو بردة، عن أبيه
…
فهذا الحديث من النوع الذي نحن فيه، فتقديرّه: قال هشيم: حدثني صالح، عن الشعبيّ بحديثٍ قال فيه صالح: رأيت رجلًا سأل الشعبيّ، ونظائر هذا كثير، سننبه على كثير منها في مواضعها - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ مفيد.
(وَهُوَ فِي الْمَوْتِ) جملة في محلّ نصب على الحال من ضمير "عليه"، أي والحال أن عبادة رمنه في حال الموت، أي ظهرت عليه أماراته (فَبَكَيْتُ) بفتح الكاف، من باب ضرب، قال الأبيّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون بكاؤه لِمَا رأى به من كرب الموت، أو لفقده الانتفاع به، والأظهر أنه لذكره القدوم على الله تعالى؛ لأنه المناسب لتسليته بما ذُكر. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح الأبيّ" 1/ 119 - 120.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الأظهر بكناؤه تأسّفًا على ما فقده من الانتفاع به، ولما رآه من كرب الموت عليه، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ: مَهْلًا) بإسكان الهاء، وتُفتح
(1)
، ومعناه أنظرني، قال الجوهري
(2)
: يقال: مَهْلًا يا رجل، بالسكون وكذلك للاثنين والجمع والمؤنث، وهي موحدة، بمعنى أَمْهِلْ، فإذا قيل لك: مهلًا، قلت: لا مَهْلَ والله، ولا تقل: لا مهلًا والله، وتقول: ما مَهْلٌ والله بمغنية عنك شيئًا، قال الكميت [من الوافر]:
أَقُولُ لَهُ إِذَا مَا جَاءَ مَهْلًا
…
وَمَا مَهْلٌ بِوَاعِظَةِ الْجَهُولِ
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ليس فيه نهيٌ عن البكاء، لأن النهي إنما وقع بعد الوجوب والموت، وفي بكاء بصفة مخصوصة، تأتي مفسَّرة - إن شاء الله - في "الجنائز"، انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار القاضي بهذا إلى حديث جابر بن عَتِيك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غُلِب، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: غُلِبنا عليك يا أبا الربيع، فصاح النسوة وبَكَيْنَ، فجعل ابن عتيك يُسَكِّتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُنّ، فإذا وجب، فلا تَبْكِيَنّ باكية"، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: الموت
…
الحديث
(4)
.
والحاصل أن الجمهور على جواز البكاء قبل الموت، والأولى تركه بعد الموت، وهذا الحكم خاصّ بجريان الدمع من أثر الرحمة وحزن القلب، دون ندب ونياحة، فإن ذلك وأمثاله من لطم الخدود، وشقّ الجيوب، وخمش
(1)
هكذا جوّز الوجهين في هائه في "القاموس". و"المصباح"، في في "شرح النوويّ" من ضبطه بإسكان الهاء فقط تقصير، فتنبَّه.
(2)
راجع: "الصلح" 4/ 1482 - 1483.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 235.
(4)
حديث صحيح أخرجه مالك في "الموطّإ" 1/ 233 وأحمد في "مسنده" رقم (22633) وأبو داود (2704) والنسائيّ (1823) والحاكم في "المستدرك" 1/ 352 وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبيّ.
الوجوه، ونشر الشعر، والدعاء بالويل والثبور، كلّ ذلك محرم بلا خلاف بين العلماء، وعلى الصفة الأولى حملوا الأحاديث الواردة في إباحة البكاء، وعلى الصفة الثانية حملوا الأحاديث الواردة في النهي عنه، جمعًا بين الأدلّة، وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الجنائز" - إن شاء الله تعالى -. والله تعالى أعلم.
(لِمَ تَبْكِي؟ فَوَالله، لَئِنِ اسْتُشْهِدْتُ) بالبناء للمفعول، أي طُلب منّي أن أَشْهَدَ (لأَشْهَدَنَّ لَكَ) أي بكونك من أهل الخير والصلاح (وَلَئِنِ شُفِّعْتُ) بالبناء للمفعول أيضًا: أي قُبِلت شفاعتي (لأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ) بحذف المفعول بدليل ما بعده، أي النفعَ لك (لأَنْفَعَنَّكَ، ثُمَّ قَالَ) عبادة رضي الله عنه (وَاللهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلَّا حَدَّثْتُكُمُوهُ)، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه دليل على أنه كَتَمَ ما خَشِيَ عليهم المضرّة فيه والفتنة، مما لا يحتمله عقل كلّ واحد، وذلك فيما ليس تحته عَمَلٌ، ولا فيه حَدٌّ من حدود الشريعة، قال: ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثيرٌ في ترك الحديث بما ليس تحته عَمَل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحتمله عقول العامة، أو خُشِيت مضرته على قائله، أو سامعه، لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة، وتعيين أقوام وُصِفُوا بأوصاف غير مستحسنة، وذم آخرين ولعنهم. انتهى
(1)
.
(إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ، وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي)، يعني قَرُبْتُ من الموت، وأيست من النجاة والحياة، قال صاحب "التحرير": أصلُ الكلمة في الرجل يجتمع عليه أعداؤه، فيقصدونه، فيأخذون عليه جميع الجوانب، بحيث لا يبقى له في الخلاص مَطْمَعٌ، فيقال: أحاطوا به، أي أطافوا به من جوانبه، ومقصوده قَرُبَ موتي.
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ) أي منعه من دخولها، وهو بمعنى الحديث الماضي:"أدخله الله الجَنَّة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 235 - 236.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، لَمْ يُخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا (29) عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن عبد الله بن مُحيريز، عنه.
و (الترمذي)(2368) عن قتيبة به، و (أحمد) في "مسنده" 5/ 318 عن يونس بن محمد، عن الليث به، و 5/ 318 عن قتيبة به، و (عبد بن حميد) في "مسنده" عن ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيّان، عن محمد بن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن ابن محيريز، فقال: كنا جلوسًا عند عبادة بن الصامت، إذ جاء الصنابحيّ، فبكي، فقال له: ما يُبكيك
…
فذكره، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1128) عن قتيبة بن سعيد به و (أبو عوانة) في "مسنده"(26) و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(136)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(202)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.
(11) - (بَابُ حَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ)
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[150]
(
…
) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ:"يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:"يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:"يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ
وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:"هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَاد، أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا"، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، قَالَ:"يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:"هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ) - بفتح الهاء، وتشديد الدال - ويقال له: هُدْبَة - بضمّ أوله، وسكون الدال، بعدها موحّدة - ابن خالد بن الأسود القيسيّ الثوباني، أبو خالد البصريّ الحافظ، ثقة عابدٌ، تفرّد النسائئ بتليينه، من صغار [9].
رَوَى عن أخيه أمية بن خالد، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى، والحمادين، وحماد بن الْجَعْد، وسليمان بن المغيرة، وأبان بن يزيد العطار، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وأبو حاتم، وحرب بن إسماعيل، وعبد الله بن أحمد، وزكرياء الساجيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والحارث بن أبي أسامة، وابن أبي عاصم، والبزار، والحسن بن سفيان، والمعمري، وغيرهم.
قال علي بن الجنيد، عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال عبدان الأهوازيّ: سمعت عباس بن عبد العظيم يقول: هي كتب أمية بن خالد - يعني الذي يحدث به هُدْبة - وقال عبدان: كنّا لا نصلي خلف هُدْبة من طول صلاته، يُسَبِّح نيفًا وثلاثين تسبيحة، وقال ابن عديّ: سمعت أبا يعلي، وسئل عن هدبة وشيبان، أيهما أفضل؟ فقال: هدبة أفصلهما، وأوثقهما حديثًا، وكان حديث حماد بن سلمة عنده نسختين، نسخة على الشيوخ، ونسخة على المصنفين، وقال الحسن بن سفيان: سمعت هدبة يقول: صليت على شعبة، وقال ابن عدي: لَمْ أر له حديثًا منكرًا، وهو كثير الحديث، صدوق لا بأس به، وقد وثقه الناس.
قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ: قَوّاه النسائي مَرّةً، وضعفه مرةً.
قال أبو داود، عن محمد بن عبد الملك: مات سنة خمس وثلاثين، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ست أو سبع وثلاثين، وقال غيره: مات سنة ثمان أو تسع وثلاثين ومائتين، وقال ابن قانع: مات أول سنة ست، وهو صالح، وفيها ذكره الْقَرّاب، عن موسى بن هارون، وقال الآجريّ، عن أبي داود: هدبة أعلى عندنا - يعني من شيبان - قيل لي: في سماعه من أخيه من الشيوخ؟ فقال: لا يُنكر له السماع، وقال مسلمة بن قاسم: بصريّ ثقة.
تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقة ربّما وَهِمَ [7](ت 164)(ع) 5/ 69.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبتٌ، رأس [4](ت 117)(ع) 5/ 69.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) بن النضر، أبو حمزة الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة (ع) 1/ 2.
5 -
(مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الْخَزرجيّ، أبو عبد الرَّحمن، من أعيان الصحابة رضي الله عنهم، شهد بدرًا وما بعدها، مات بالشام سنة (18)(ع) 6/ 129، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أنّ شيخه مشهور بهدّاب، وهُدْبة، وقد ذكره المصنّف رحمه الله تعالى في مواضع من الكتاب، يقول في بعضها: هُدْبة، وفي بعضها: هَدّاب، واتفقوا على أن أحدهما اسم، والآخر لقب، ثم اختلفوا في الاسم منهما، فقال أبو عليّ الغسّانيّ، وأبو محمد عبد الله بن الحسن الطَّبَسيّ
(1)
،
(1)
"الطَّبَسيّ" بفتحتين نسبة إلى طبس: مدينة بين نيسابور وأصبهان، وكرمان، وأبو محمد =
وصاحب "المطالع"، والحافظ عبد الغنيّ المقدسيّ المتأخّر: هُدْبة هو الاسم، وهَدّاب لقبٌ، وقال غيرهم: هَدّابٌ اسم، وهُدْبة لقبٌ، واختار الشيخ أبو عَمْرِو بن الصلاح هذا، وأنكر الأول، وقال أبو الفضل الفلكيّ الحافظ: إنه كان يَغضَبُ إذا قيل له: هُدْبة، وذكره البخاريّ في "تاريخه"، فقال: هدبة بن خالد، ولم يذكر هدّابًا، فظاهره أنه اختار أن هدبة هو الاسم، والبخاريّ أعرف من غيره، فإنه شيخه وشيخ مسلم رحمهم الله تعالى أجمعين، ذكره النوويّ رحمه الله تعالى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرد به هو، والبخاري، وأبو داود.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير معاذ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم نزل الشام، ومات بها.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) رضي الله عنه هذا ظاهرٌ في أنه من مسند معاذ رضي الله عنه، أخذه أنس عنه، قال في "الفتح": هكذا رواه هَمّام، عن قتادة، ومقتضاه التصريح بأنه من مسند معاذ رضي الله عنه، وخالفه هشام الدستوائيّ، عن قتادة، فقال:"عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال - ومعاذٌ رَدِيُفُه على الرَّحْل -: "يا معاذ"، قال: وقد تقدم في أواخر "كتاب العلم"، ومقتضاه أنه من مسند أنس، والمعتمد الأول، ويؤيده أن البخاريّ أتبع رواية هشام رواية سليمان التيميّ، عن أنس، قال: ذُكِرَ لي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ، فدَلَّ على أن أنسًا لَمْ يسمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، واحتَمَلَ قوله: "ذُكِرَ" على البناء للمجهول أن يكون أنسٌ حمله عن معاذ بواسطة، أو بغير واسطة، قال: وقد أشرت في شرحه في "العلم" إلى احتمال أن يكون أنس حمله عن عمرو بن ميمون الأوديّ، عن معاذ، أو من
= هذا ممن جال الأقطار، وسمع الكثير من الشيوخ، وخرّج لهم التاريخ، وكان حافظًا ثقة، توفّي سنة (449 هـ) بمرو الروذ "اللباب" 2/ 274 "المنتظم" 9/ 125.
عبد الرَّحمن بن سَمُرَة، عن معاذ، وهذا كله بناءٌ على أنه حديث واحد، وقد رَجَحَ لي أنهما حديثان، وإن اتَّحَد مخرجهما، عن قتادة، عن أنس، ومتنهما في كون معاذ رِدْفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم للاختلاف فيما وردا فيه، وهو أن حديث الباب في حق الله على العباد، وحق العباد على الله، والماضي فيمن لقي الله لا يشرك به شيئًا، وكذا رواية أبي عثمان النَّهْديّ، وأبي رَزِين، وأبي الْعَوّام كلهم عن معاذ، عند أحمد، ورواية عمرو بن ميمون موافقة لرواية حديث الباب، ونحوُها رواية عبد الرَّحمن بن سَمُرة، عن معاذ عند النسائيّ، والرواية الأخرى موافقة لرواية هشام التي في "العلم"، قال: وقد أشرت إلى شيء من ذلك في "باب اسم الفرس والحمار"، من "كتاب الجهاد"، وقد جاء عن أنس، عن معاذ نحو حديث الباب، أخرجه أحمد من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، قال: أتينا معاذًا، فقلنا: حَدِّثنا من غرائب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثل حديث همام، عن قتادة. انتهى كلام الحافظ
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ.
(قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) - بكسر الراء، وإسكان الدال - هذه الرواية المشهورة التي ضبطها معظم الرواة، وحَكَى القاضي عياض رحمه الله تعالى أن أبا عليّ الطبريّ الفقيه الشافعيّ أحدَ رواة الكتاب ضبطه بفتح الراء، وكسر الدال، و"الرِّدْف"، و"الرَّدِيف" هو الراكب، يقال منه: رَدِفْتُهُ بكسر الدال في الماضي، وفتحها في المضارع: إذا ركبتَ خلفه، وأردفته أنا رباعيًّا، وأصله من ركوبه على الرِّدف، وهو الْعَجُز، قال القاضي: ولا وجه لرواية الطبريّ إلَّا أن يكون فَعِل هنا اسم فاعل، مثلُ "عَجِلٍ"، و"زَمِنٍ"، و"فَرِقٍ"، إن صحت رواية الطبريّ، انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قد أفرد الحافظ ابن منده رحمه الله تعالى أسماء من أردفه النبيّ صلى الله عليه وسلم خلفه، فبلغوا ثلاثين نفسًا، ذكره في "الفتح"
(3)
(لَيْسَ بَيْني وَبَيْنَهُ) صلى الله عليه وسلم أراد به المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضابطٌ ما رواه
(1)
"الفتح" 11/ 411 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6500).
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 236 - 237 و"شرح النوويّ" 1/ 230.
(3)
"الفتح" 10/ 412 "كتاب اللباس" رقم الحديث (5967).
(إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ) - بضم الميم، بعده همزة ساكنة، ثم خاء مكسورة - هذا هو الصحيح، وفيه لغة أخرى:"مُؤَخَّرَةٌ" - بفتح الهمزة، والخاء المشددة - قال القاضي عياض رحمه الله: أنكر ابن قتيبة فتح الخاء، وقال ثابت السَّرَقسطيّ:"مُؤَخَّرَةُ الرحل، ومُقَدَّمَتُهُ" بفتحهما، ويقال:"آخرة الرحل"، بهمزة ممدودة، وهذه أفصح وأشهر، وقد جمع الجوهريّ في "صحاحه" فيها ست لغات، فقال في "قادمتي الرحل": ست لغات: مُقْدِمٌ، ومُقْدِمَةٌ بكسر الدال مخففةً، ومُقَدَّم، ومُقَدَّمَةٌ، بفتح الدال مشددة، وقَادِمٌ، وقَادِمَةٌ، قال: وكذلك هذه اللغات كلها في "آخرة الرحل"، وهي الْعُودُ الذي يكون خلف الراكب، كذا نقله النوويّ في "شرحه"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "إلَّا مؤخرة الرحل"، كذا وقع ها هنا "مُؤْخِرة"، وقرأناه على من يوثَقُ بعلمه بضم الميم، وفتح الراء، والخاء المشدّدة على أنه اسم مفعول؛ لأنَّها تُؤخِّر، وأنكر هذا اللفظ يعقوب، وابن قُتيبة، وقالا: المعروف عند العرب "آخِرَةُ الرَّحْل"، وهي العود الذي خلف الراكب، وتقابله قادمته، وقيل فيها: مؤخرة بهمز الواو خفيفة، وكسر الخاء، حكاهما صاحب "الصحاح"، وأبو عُبيدة.
و"الرَّحْلُ" للبعير كالسرج للفرس، والإكاف للحمار. انتهى
(2)
.
وعبارة ابن الصلاح في "الصيانة": "مؤخِرة الرحل": هي التي خلف الراكب، يستند إليها، والأكثر الأغلب تسميتها "آخرة الرحل"، وهي مُؤْخِرةُ الرحلِ" بميم مضمومة، ثم همزة ساكنة، ثم خاء مكسورة خفيفة، وقالها بعض الرواة بفتح الهمزة، وفتح الخاء المشدَّدة، وهو غالبٌ على ألسنة الطلبة، وليس ذلك بثابت.
وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى في كتابيه "مشارق الأنوار"، و"إكمال المعلم" عن ابن مكيّ أنه أنكر الكسر، وقال: لا يقال: "مُقدم"، ولا "مؤخر" بالكسر، إلَّا في العين - يعني - قولهم: مُقَدِّم العين، ومؤخرها.
قال ابن الصلاح: وهذا الذي حكاه عن أبي حفص عمر بن مكيّ
(1)
"شرح مسلم" 1/ 230.
(2)
"المفهم" 1/ 202.
الصقليّ، صاحب كتاب "ما تلحن فيه العامّة" معروف عن الخليل، ومن تقدّم من أهل اللغة، وما توهّمه القاضي من كونه مخالفًا لما تقدّم ذكرُهُ وهَمٌ منه، فإن ذلك في مُقَدَّم، ومؤخَّر، بغير تاء التأنيث، والمراد به أنه لا يقال:"مُؤَخِّر السفينة"، وغيرها، و" مُقَدِّمُها" بالكسر، بل" مُؤَخَّرُها"، و" مقَدَّمُها" بالفتح والتشديد، وليس في ذلك تعرّض لمؤخِرة الرحل بتاء التأنيث، وهما نوعان، فاعلم ذلك، والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
وهو تحقيق جيد.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) يجوز في "معاذ" وجهان من الإعراب، أحدهما: الفتح، والضمّ، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
وَنَحْوَ "زيدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ
…
نَحْوِ "أَزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ"
وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا
…
أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا
وحاصل المسألة أنه إذا كان المنادى مفردًا علمًا، ووُصف بابن "مضافٍ إلى علم، ولم يُفصَل بين المنادى وبين "ابن" جاز لك في المنادى وجهان: البناء على الضمّ، على الأصل؛ لأنه منادى مفرد علم، فتقول: "يا معاذُ بنَ جبل"، فتضم الذال، والفتح؛ إتباعًا، فتقول: "يا معاذَ بن جبل"، فتفتحها، ويجب حذف ألف "ابن" والحالة هذه خطًّا.
وأما إذا لَمْ يقع "ابن" بعد علم، نحو "يا غلامُ ابنَ عمرو"، أو لَمْ يقع بعده علمٌ، نحو "يا زيدُ ابنَ أخينا"، وجب ضمّ المنادي، وامتنع فتحه، ويجب إثبات ألف "ابن"، والحالة هذه
(2)
.
(قُلْتُ: لَبَّيْكَ) بفتحٍ اللام، تثنية "لَبّ"، ومعناه إجابةً لك بعد إجابة، وقيل: قربًا منك، وطاعة لك، وقيل: أنا مقيم على طاعتك، وقيل: محبتي لك، وقيل: غير ذلك.
وقال الخليل: لَبّ بالمكان: أقام به، حكاه عنه أبو عبيدة، قال الفرّاءُ: ومنه قولهم: لبيك: أي أنا مقيم على طاعتك، وكان حقَّه أن يقال: لبًّا لك، فثُنّي على معنى التأكيد، أي إلبَابًا لك بعد إلباب، وإقامةً بعد إقامة، قال
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 183 - 184.
(2)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة مع حاشية الخضريّ" 2/ 116 - 118.
الخليل: هذا من قولهم: دار فلان تلبّ داري: أي تحاذيها، أي مواجهك بما تُحبّ إجابةً له، والياء للتثنية، وقال ابن الأنباريّ في "لبيك" أربعة أقوال:
[أحدها]: إجابتي لك، مأخوذ من لَبَّ بالمكان، وألبّ به: إذا أقام به، وقالوا: لبيك، فثنَّوْا؛ لأنهم أرادوا إجابةً بعد إجابةٍ، كما قالوا: حَنَانَيْكَ: أي رحمةَّ بَعد رحمةٍ، وقال بعض النحويين: أصل "لبيك" لبّبك، فاستُثقل الجمع بين ثلاث باءات، فأبدلوا من الثالثة ياء، كما قالوا: تظنّيتُ، أصله تظَنّنْتُ.
[والثاني]: اتّجاهي يا ربّ، وقصدي لك، فثُنّيَ للتأكيد؛ أخذًا مَن قولهم: داري تلبّ دارك، أي تواجهها.
[والثالث]: محبّتي لك يا ربّ، من قول العرب: امرأةٌ لَبّةٌ: إذا كانت محبّةً لولدها، عاطفةً عليه.
[والرابع]: إخلاصي له يا ربّ، من قوله: حَسَبٌ لُبَابٌ إذا كان خالصًا محضًا، ومن ذلك لُبُّ الطعام، ولبابه
(1)
.
[تنبيه]: "لبيك" من المصادر التي يجب حذف فعلها، ونصبه، وكان حقّه أن يقال: لَبًّا لك، ولكنه ثُنّي على معنى التأكيد، فأصله "لبّين"، فحذفت النون للإضافة، كما في "الخلاصة":
نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا
…
مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَـ "طُورِ سِينَا"
قال الفراء: نُصِب على المصدريّة، وقال ابن السكِّيت: كقولك: حمدًا وَشكرًا.
وهو من الأسماء الملازمة للإضافة إلى الضمير، كَـ "سَعْدَيك"، كما قال في "الخلاصة" أيضًا:
وَبَعْضُ مَا يُضَافُ حَتْمًا امْتَنَعْ
…
إِيلَاؤُهُ اسْمًا ظَاهِرًا حَيْثُ وَقَعْ
كَـ "وَحْدَ""لَبَّى" وَ"دَوَالَيْ""سَعْدَيْ"
…
وَشَذَّ إِيلَاءُ "يَدَيْ" لِـ "لَبَّيْ"
(رَسُولَ اللهِ) بالنصب على أنه منادى حُذف منه حرف النداء، وهو جائزٌ، كما قال في "الخلاصة":
وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا
…
جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 206.
وقال الحريريّ في "ملحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
أي: يا رسول الله (وَسَعْدَيْكَ) هو مثل"لبيك"، ومعناه إسعادًا لك بعد إسعاد، وقال النوويّ: معنى"سعديك": أي ساعدت طاعتك مساعدةً بعد مساعدة.
(ثُمَّ سَارَ) صلى الله عليه وسلم (سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ)، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ) صلى الله عليه وسلم (سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ) إنما كرر النبيّ صلى الله عليه وسلم نداء معاذ رضي الله عنه ثلاثًا؛ لتأكيد الاهتمام بما يُخبره به، وليكمل تَنَبُّهُ معاذٍ فيما يَسمعه، وقد ثبت في "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم:"كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا"، لهذا المعنى، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟)، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: حقّ الله على عباده: ما أوجبه عليهم بحكمه، وألزمهم إِيَّاهُ بخطابه انتهى
(1)
.
وقال صاحب "التحرير": اعلم أنّ الحقّ كلُّ موجودٍ متحققٍ، أو ما سيوجد لا مَحَالةَ، والله سبحانه وتعالى هو الحق الموجود الأزليّ الباقي الأبديّ، والموت والساعة والجنة والنار حقٌّ؛ لأنَّها واقعة لا مَحالَةَ، وإذا قيل للكلام الصدقِ: حقٌّ، فمعناه أن الشيء الْمُخْبَرَ عنه بذلك الخبر واقع، متحققٌ، لا تردُّد فيه، وكذلك الحق المستَحَقُّ على العبد من غير أن يكون فيه تردد وتحير، فحقُّ الله تعالى على العباد، معناه ما يستحقه عليهم مُتَحَتِّمًا عليهم، وحق العباد على الله تعالى معناه أنه متحققٌ لا مَحَالةَ، هذا كلام صاحب "التحرير".
وقال غيره: إنما قال: "حقهم على الله تعالى" على جهة المقابلة لحقه عليهم، ويجوز أن يكون من نحو قول الرجل لصاحبه: حَقُّكَ واجب علي، أي متأكد قيامي به، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"حَقٌّ على كلّ مسلم أن يغتسل في كلّ سبعة أيام"، والله تعالى أعلم، ذكره النوويّ في "شرحه"
(2)
.
(قَالَ) معاذ رضي الله عنه (قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى
(1)
"المفهم" 1/ 203.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 231.
الْعِبَاد، أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، المراد بالعبادة عملُ الطاعات، واجتناب المعاصي، ولقد أحسن الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى حيث عرّف العبادة بتعريف جامع مانع، فقال في "نونيّته":
وَعِبَادَةُ الرَّحْمَانِ غَايَةُ حُبِّهِ
…
مَعَ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ
وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْعِبَادَةِ دَائِرٌ
…
مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ الْقُطْبَانِ
وَمَدَارُهُ بِالأَمْرِ أَمْرِ رَسُولِهِ
…
لَا بِالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
وإنما عَطَفَ عليها عدم الشرك؛ لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الْكَفَرة كانوا يَدَّعُون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى، فاشتَرَطَ نفي ذلك.
وجملة "لا يُشركون إلخ" حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به، قال ابن حبان رحمه الله تعالى: عبادة الله إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، ولهذا قال في الجواب:"في حق العباد إذا فعلوا ذلك"، فَعَبَّرَ بالفعل، ولم يُعَبِّر بالقول، ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقال في موضع آخر: اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد باقتضاء، وششدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذّب رسول الله، فقد كذّب الله، ومن كذّب الله فهو مشرك، أو هو مثلُ قول القائل: من توضّأ صحّت صلاته، أي مع سائر الشرائط، فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى الله، إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟)، أي العبادة، مع عدم الشرك (قَالَ) رضي الله عنه (قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ")، وفي رواية ابن حبان من طريق عمرو بن ميمون:"أن يغفر لهم، ولا يعذبهم"، وفي رواية أبي عثمان:"يُدخِلهم الجَنَّة"، وفي رواية أبي الْعَوّام مثله، وزاد:"ويغفر لهم"، وفي رواية عبد الرَّحمن بن غَنْم:"أن يدخلهم الجَنَّة".
قال القرطبي رحمه الله تعالى: حَقُّ العباد على الله: ما وَعَدَهم به من
(1)
"الفتح" 11/ 412 - 413.
(2)
"الفتح" 1/ 275.
الثواب والجزاء، فَحَقَّ ذلك، ووجَبَ بحكم وعده الصدق، وقولِهِ الحقِّ الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا بحكم العقل؛ لأنه كاشف لا موجب، انتهى
(1)
.
وقال ابن أبي العزّ رحمه الله تعالى في "شرح الطحاويّة" معلِّقًا على هذا الحديث: فهذا حقّ وجب بكلماته التامّة، ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحقّ على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله تعالى هو المنعم على العباد بكل خير، وحقّهم الواجب بوعده هو أن لا يُعذبّهم، ولقد أحسن القائل [من الكامل]:
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبُ
…
كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا
…
فَبِفضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ السَّامِعُ
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: كون المطيع يستحقّ الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحقّ المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلَّا أنه أخبر بذلك، ووعدُهُ صدقٌ، ولكن أكثر الناس يُثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة، قال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، لكن أهل السنّة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه الحقّ، لَمْ يوجبه عليه مخلوقٌ، والمعتزلة يدّعون أنه واجبٌ عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يَجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقّون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغَلِطوا في ذلك، وهذا الباب غَلِطَت فيه الجبريّة، والقدريّة، أتباع جهم، والقدريّة النافية. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": تمسك بعض المعتزلة بظاهره، ولا مُتَمَسَّكَ لهم فيه؛ لأن المراد بالحقّ هنا المتحقق الثابت، أو الجدير، لأن إحسان الربّ لمن لَمْ يتخذ ربًّا سواه جديرٌ في الحكمة أن لا يعذبه، أو المراد أنه كالواجب في
(1)
"المفهم" 1/ 203.
(2)
راجع "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" ص 48 - 49.
تحققه وتأكده، أو ذكر على سبيل المقابلة، انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث معاذ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[11/ 150](35) عن هدّاب بن خالد، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عنه.
و (البخاريّ) في "اللباس"(5967) و"الرقاق"(6500) و"الاستئذان"(6267) عن هُدْبَةَ بن خالد - و"الاستئذان"(6267) عن موسى بن إسماعيل - كلاهما عن همام بن يحيى به. و (النسائي) في "عمل اليوم والليلة"(186) عن عمرو بن عليّ، عن أبي داود، عن همام به نحوه.
و (أحمد) في "مسنده"(5/ 228) عن وكيع - و (5/ 236) عن أبي معاوية - عن الأعمش، عن أبي سفيان - وفي (5/ 242) عن عفان، عن هَمَّام، عن قتادة - كلاهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه به، و (أبو عوانة) في "مسنده"(27 و 28 و 29) في "مستخرجه"(137 و 138 و 139 و 140) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(210). والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث مما اتّفق فيه الشيخان بإخراجه عن شيخ واحد، وهو هدّاب بن خالد، وذكره البخاري بِهُدْبة بن خالد، وقد تقدّم أنه يطلق عليه الاسمان، أحدهما اسمه، والآخر لقبه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": هذا الحديث من الأحاديث التي أخرجها البخاري في ثلاثة مواضع، عن شيخ واحد، بسند واحد، وهي قليلة في كتابه جِدًّا، ولكنه أضاف إليه في "الاستئذان" موسى بن إسماعيل، وقد تتبع بعض من لَقِيناه ما أخرجه في موضعين بسند، فبلغ عدتها زيادة على العشرين، وفي بعضها يتصرف في المتن بالاختصار منه. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 11/ 412 - 413.
(2)
"الفتح" 11/ 413.
(المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): بيان حقّ الله تعالى الذي أوجبه على عباده، وهو أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا.
2 -
(ومنها): بيان حقّ العباد على الله تعالى الذي أوجبه على نفسه فضلًا منه ونعمةً، وهو أن يدخلهم الجَنَّة، ولا يعذبهم.
3 -
(ومنها): جواز ركوب اثنين على دابّة إذا كانت تُطيق ذلك.
4 -
(ومنها): بيان تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان يُردف أصحابه، ولا يتكبّر عليهم.
5 -
(ومنها): بيان فضل معاذ رضي الله عنه، وحسن أدبه في القول، وفي العلم، بردّه لِمَا لَمْ يُحطْ بحقيقته إلى علم الله تعالى، وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقرب مَنْزِلته من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
6 -
(ومنها): استحباب تكرار الكلام؛ لتأكيده، وتفهيمه، وهكذا هديه صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم، فسَلَّمَ عليهم سَلَّم عليهم ثلاثًا".
7 -
(ومنها): مشروعيّة استفسار الشيخ تلميذه عن الحكم؛ ليختبر ما عنده من العلم، ويُبَيِّن له ما يُشْكِلُ عليه منه.
8 -
(ومنها): مشروعيّة إجابة الداعي بـ "لبيك، وسعديك".
9 -
(ومنها): أن فيه بشارة عظيمة للموحّدين الذين لا يشركون بالله تعالى شيئًا، حيث وعدهم الله تعالى الذي لا يخلف وعده، أن لا يعذّبهم، بل يُكرمهم بدخول الجَنَّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبسندنا المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[151]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَص، سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ،
تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِن حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَاد، أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ عز وجل أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَفلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ؟ "لَا تُبَشَرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ الحافظ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو الأَحْوَص، سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ) الْحَنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) 4/ 114.
[تنبيه]: "أبو الأحوص" في سند المصنّف هو سلّام بن سُليم، كما صرّح به، ورواه البخاريّ عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن آدم، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن معاذ رضي الله عنه، فأبو الأحوص هو عمّار بن رُزيق.
قال الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": كنتُ أظنّ أنه سلّام بن سُليم، وعلى ذلك يدلّ كلام المزيّ، لكن أخرج هذا الحديث النسائيّ، عن محمد بن عبد الله بن المبارك الْمُخَرِّميّ، عن يحيى بن آدم، شيخ شيخ البخاريّ فيه، فقال:"عن عمّار بن رُزيق، عن أبي إسحاق"، والبخاريّ أخرجه ليحيى بن آدم، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، وكنية عمّار بن رُزيق أبو الأحوص، فهو هو، ولم أَرَ من نبّهَ على ذلك، وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو داود عن هنّاد بن السريّ، كلاهما عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، وأبو الأحوص هذا هو سلّام بن سُليم، فإن أبا بكر، وهنّادًا أدركاه، ولم يُدركا عمّارًا، انتهى كلام الحافظ
(1)
، وهو بحثٌ مُهِمٌّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
3 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله الْهَمْدانيّ السَّبِيعيِّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، اختلط بأخَرة، ويدلّس [3](ت 129)(ع) 2/ 11.
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 70 "كتاب الجهاد" رقم الحديث (2837).
4 -
(عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ) الأَوْديّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحيى الكوفي، أدرك الجاهلية، ولم يَلْقَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة عابدٌ، مخضرمٌ، مشهور [2].
روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي مسعود البدري، وسعد بن أبي وقاص، ومعقل بن يسار، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم.
وروى عنه سعيد بن جبير، والربيع بن خُثَيم، وأبو إسحاق السبيعي، ويزيد بن شريك، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبوه، وغيرهم.
قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعمرو بن ميمون. وقال يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه: كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد، فرُؤي ذُكِر الله. وقال الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن عبد الرَّحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ اليمن رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الشِّحر، رافعًا صوته بالتكبير، أجش الصوت، فَأَلْقَيْتُ عليه محبتي
(1)
…
الحديث. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، فقال: أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصَدَّقَ إليه، وكان مسلمًا في حياته. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
قال أبو نعيم، وغير واحد: مات سنة أربع وسبعين. ويقال: سنة (75).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث فقط.
5 -
(مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلَّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير معاذ رضي الله عنه، فإنه مدنيّ، نزل الشام، ومات بها.
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن "أَلْقَيتُ" بضمير المتكلم مبني للفاعل، و"محبتي" منصوب على المفعولية، ومعناه أحببته، والله أعلم.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) الأوديّ بفتح المزة، وسكون الواو (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَل) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كنْتُ رِدْفَ) بكسر، فسكون (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ) - بعين مهملة مضمومة، ثم فاء مفتوحة، مصغّرًا - هذا هو الصواب في الرواية، وفي الأصول المعتمدة، وفي كتب أهل المعرفة بذلك، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: وقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنه بغين معجمة متروك، قال الشيخ: وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه مات في حجة الوداع، قال: وهذا الحديث يقتضي أن يكون هذا في مرّة أخرى غير المرّة المتقدّمة في الحديث السابق، فإن مُؤْخِرَة الرحل تختص بالإبل، ولا تكون على حمار.
قال النوويّ: ويحتمل أن يكونا قضيةً واحدةً، وأراد بالحديث الأول قدر مُوخِرة الرحل، والله أعلم، انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "عُفَير" - بالمهملة والفاء، مُصَغَّرًا - مأخوذ من الْعَفَر، وهو لون التراب، كأنه سُمِّي بذلك؛ للونه، والْعُفْرة حُمْرة يخالطها بياض، وهو تصغير أعفر، أخرجوه عن بناء أصله، كما قالوا: سُوَيد في تصغير أسود، ووَهِمَ من ضبطه بالغين المعجمة، وهو غير الحمار الآخر الذي يقال له: يعفور، وزعم ابن عبدوس أنهما واحد، وقَوّاه صاحب "الْهَدْي"، ورَدَّه الدمياطيّ، فقال: عُفَير أهداه الْمُقَوقِس، ويعفور أهداه فَرْوَة بن عمرو، وقيل بالعكس، ويعفور بسكون المهملة، وضمّ الفاء، هو اسم ولد الظبي، كأنه سُمِّي بذلك؛ لسرعته، قال الواقديّ: نَفَقَ يعفور مُنْصَرَف النبيّ صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وبه جزم النووي عن ابن الصلاح، وقيل: طَرَح نفسه في بئرٍ، يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يه، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في ترجمة محمد بن
(1)
"شرح مسلم" 1/ 232.
مَرْثد في "الضعفاء"، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غَنِمَه من خيبر، وأنه كلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر له أنه كان ليهوديّ، وأنه خرج من جده ستون حمارًا؛ لركوب الأنبياء، فقال: ولم يبق منهم غيري، وأنت خاتم الأنبياء، فسماه يعفورًا، وكان يركبه في حاجته، ويرسله إلى الرجل، فيقرع بابه برأسه، فيعرف أنه أرسل إليه، فلما مات النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء إلى بئر أبي الهيثم بن التَّيِّهَان، فَتَرَدَّى فيها، فصارت قبره، قال ابن حبان: لا أصل له، وليس سنده بشيء، انتهى
(1)
.
(قَالَ) معاذ رضي الله عنه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا مُعَاذُ، تَدْرِي) بحذف همزة الاستفهام، وقد صُرِّح بها في الرواية التالية، أي أتدري (مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَاد، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ "، قَالَ) معاذ رضي الله عنه (قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَاد، أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"، قَالَ) معاذ رضي الله عنه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أفَلَا أُبَشَرُ النَّاسَ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا") بحذف نون الرفع؛ للنصب في جواب النهي، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
والمعنى أنهم إذا أخبرتهم بهذه البشارة، يمتنعون عن العمل، ويتركونه؛ اعتمادًا على هذه الكلمة، فاتركهم يجتهدوا في العمل.
قال في "الفتح": ما نصّه: قال ابن رجب في "شرحه" لأوائل البخاريّ
(2)
: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ صلى الله عليه وسلم من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرُّخَصِ لا تشاع في عموم الناس؛ لئلا يَقْصُرَ فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ رضي الله عنه، فلم يَزْدَد إلَّا اجتهادًا في العمل، وخشيةً لله عز وجل، فأما من لَمْ يَبْلُغ مَنْزِلته فلا يؤمن أن يُقَصِّر اتَّكالًا على ظاهر هذا الخبر.
وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عُصَاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا فيجب الجمع بين الأمرين، وقد سَلَكُوا في ذلك مسالك:
(1)
"الفتح" 6/ 70.
(2)
هذا الكلام ليس موجودًا في الشرح المطبوع الآن؛ لأن كتاب العلم منه مفقود.
[أحدها]: قول الزهريّ: إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء، واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخرًا عن أكثر نزول الفرائض، وقيل: لا نسخَ، بل هو على عمومه، ولكنه مُقَيَّد بشرائط، كما تُرَتَّب الإحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عَمِلَ المقتضي عمله، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في "كتاب الجنائز" في شرح "إنّ لا إله إلَّا الله مفتاح الجَنَّة" ليس من مفتاح إلَّا وله أسنان، وقيل: المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل: ترك تعذيب جميع بدن الموحدين؛ لأن النار لا تُحْرِق مواضع السجود، وقيل: ليس ذلك لكل مَنْ وَحَّدَ وعَبَدَ، بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يُتَصَوَّر حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية؛ لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطاعة، وتَنْكَفُّ عن المعصية انتهى مُلَخَّصًا
(1)
.
وسيأتي بعد ثلاثة أحاديث حديث أنس عن معاذ رضي الله عنهما، نحو هذا الحديث، وفي آخره:"قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس؟ فيستبشروا، قال: "إذًا يتكلوا"، فأخبر بها معاذٌ عند موته تَأَثُّمًا، أي خروجًا من إثم كتمان العلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه هذا من رواية عمرو بن ميمون عنه، متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه المصنف هنا في "الإيمان"[11/ 151](49) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص سلام بن سُليم، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن معاذ رضي الله عنه.
(1)
راجع: "الفتح الباري" للحافظ ابن حجر 11/ 413 "كتاب الرقاق" رقم (6502).
و (البخاريّ) في "الجهاد"(2856) عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن آدم، عن أبي الأحوص، وهو عمّار بن رُزَيق، عن أبي إسحاق به.
و (أبو داود) في "الجهاد" عن هنّاد بن السريّ، عن أبي الأحوص، وهو سلّام بن سُليم، عن أبي إسحاق، به، بقصّة الحمار فحسب.
و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2643) عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد الزبيريّ، عن سفيان الثوريّ، عن أبي إسحاق به.
(النسائيّ) في "العلم" من "الكبرى"(5877) عن محمد بن عبد الله الْمُخَرِّميّ، عن يحيى بن آدم، عن عمّار بن رُزَيق، به، ولم يذكر قصة الحمار.
و (أحمد) في "مسنده" 5/ 228 عن وكيع، عن إسرائيل - وفي 5/ 228 عن عبد الرَّحمن، عن سفيان - (ح) وعبد الرزاق، عن معمر - ثلاثتهم عن أبي إسحاق به، وفوائد الحديث تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[152]
(31) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْن الْمُثَنَّى: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْم، أَنَّهُمَا سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ هِلَالٍ، يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ، أتدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَاد؟ "، قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ"، قَالَ: "أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْه، إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ "، فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِنِ البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) 2/ 2.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار المعروف ببُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ، كان هو ومحمد بن المثنّى فَرَسَي رِهَان، وماتا في سنة واحدة [10]، (ت 252)(ع) 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) 2/ 2.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقة حافظٌ متقنٌ عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 385.
5 -
(أَبُو حَصِينٍ) - بفتح الحاء المهملة، وكسر الصاد المهملة، مكبّرًا - عثمان بن عاصم بن حَصِين الأسديّ الكوفيّ، ثقة سُنّيٌّ، وربّما دلّس [4](ت 127)(ع) 1/ 4.
6 -
(الأَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ) بن أسود المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6].
رَوَى عن أبيه، والأسود بن يزيد، والأسود بن هلال، وسعيد بن جبير، وعمرو بن ميمون، ومعاوية بن سُويد بن مُقَرِّن، وأبي وائل، وجماعة.
وروى عنه شعبة، والثوريّ، وشريك، وأبو الأحوص، وشيبان النحويّ، وإسرائيل، وزائدة، ومسعر، وزهير، وأبو عوانة، وعدّة، ورَوَى عنه أبو إسحاق الشيبانيّ، وهو من أقرانه.
قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال حرب: سمعت أحمد يُقَدِّمه على سماك بن حرب، وقال أبو داود، والبزار: ثقة، وقال ابن سعد: تُوُفِّي في إمارة يوسف بن عُمَر بالكوفة، وذكره ابن حبان، وابن شاهين في "الثقات"، وقال العجليّ: من ثقات شيوخ الكوفيين، وليس بكثير الحديث، إلَّا أنه شيخٌ عَال، مات سنة (125).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
7 -
(الأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ) المحاربيّ، أبو سَلَّام الكوفيّ، مخضرمٌ ثقة جليلٌ [2].
رَوَى عن معاذ بن جبل، وعمر، وابن مسعود، والمغيرة، وأبي هريرة، وثعلبة بن زَهْدَم.
وروى عنه أشعث بن أبي الشعثاء، وأبو حَصِين، وأبو إسحاق السبيعيّ، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم.
قال أحمد: ما علمتُ إلَّا خيرًا، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال
العجليّ: كان جاهليًّا، وكان رجلًا من أصحاب عبد الله، ووثقه، وذكره الباوَرْديّ، وجماعة ممن أَلَّفَ في الصحابة
(1)
؛ لادراكه، وقال ابن سعد، عن الأسود: هاجرتُ زمن عمر، فذكر قصةً، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال ابن سعد: تُوُفِّي زمن الحجاج بعد الجماجم، وقال عمرو بن عليّ: سنة (84).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، إذ نزل، فقضى حاجته
…
" الحديث.
8 -
(مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير الأسود بن هلال، فلم يخرج له الترمذيّ، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أن شيخيه من المشايخ التسعة الذين اتفق الأئمة الستّة على الرواية عنهم دون واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى شعبة، ومن بعده كوفيون إلَّا الصحابيّ، كما مرّ قريبًا.
5 -
(ومنها): أن فيه مقارنة بين راويين في موضعين، في أول السند بين شيخيه، وفي وسطه بين أبي حَصِين، والأشعث.
6 -
(ومنها): أنه لا يوجد في "الصحيحين" من يكنى بأبي حَصِين بفتح، فكسر، مكبّرًا غير عثمان بن عاصم هذا، ولا يوجد فيهما من اسمه حَصِين بهذا الضبط أصلًا.
7 -
(ومنها): أن الأشعث، والأسود هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب،
(1)
متعلق بـ "ذكره"، أي عدُّوه في جملة الصحابة لأجل أنه أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة ما رواه المصنّف للأشعث اثنا عشر حديثًا، وللأسود حديثان فقط، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ "، قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ") ببناء الفعلين للمفعول، قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا ضبطناه "يُعْبَدُ" بضم المثنّاة تحتُ، و"شيْء" بالرفع، وهذا ظاهرٌ، وقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى: ووقع في الأصول "شيئًا" بالنصب، وهو صحيح على التردد في قوله:"يعبد الله، ولا يشرك به شيئًا" بين وجوه ثلاثة:
[أحدها]: "يَعْبُدَ الله" بفتح الياء التي هي للمذكر الغائب، أي يَعْبُدَ العبدُ اللهَ، ولا يُشْرِكَ به شيئًا، قال: وهذا الوجه أَوْجَهُ الوجوه.
[والثاني]: "تَعْبُدَ" بفتح المثنّاة فوقُ، للمخاطب على التخصيص لمعاذ؛ لكونه المخاطب، والتنبيه به على غيره.
[والثالث]: "يُعْبَدَ" بضم أوله، على ما لَمْ يُسمَّ فاعله، ويكون قوله:"شيئًا" كناية عن المصدر، لا عن المفعول به، أي لا يُشْرَك به إشراكًا، ويكون الجارّ والمجرور في قوله:"به" هو القائم مقام الفاعل، قال: وإذا لَمْ تُعَيِّن الرواةُ شيئًا من هذه الوجوه، فَحَقٌّ على من يروي هذا الحديثَ منّا أن ينطق بها كُلّها واحدًا بعد واحدٍ؛ ليكون آتيًا بما هو المقول منها في نفس الأمر جزمًا، والله تعالى أعلم انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
.
قال النووي رحمه الله تعالى بعد ما ذكر كلام ابن الصلاح: ما نصّه: وما ذكرناه أوّلًا صحيح في الرواية، والمعنى، والله تعالى أعلم، انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله تعالى من صحّة الرواية بضبط "يُعبد الله، ويُشرَك" بالبناء للمفعول، ورفع "شيء" على أنه
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 187 - 188.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 232.
نائب الفاعل، هو المتعيّن؛ لأن ما صحّ رواية لا يجوز تعدّيه إلى غيره، وإن صحَّ عربيّة، فافهمه فإنه مهمّ جدًّا.
هذا بالنسبة لهذه الرواية هنا، وإلا فرواية البخاريّ في "كتاب التوحيد" من "صحيحه" عن محمد بن بشّار بسند المصنّف بلفظ:"أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا"، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ) أي العباد (عَلَيْهِ) أي على الله تعالى حقًّا أوجبه على نفسه فضلًا منه ومنّةً، لا إيجابًا منهم عليه، كما سبق تحقيقه قريبًا (إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟)، الإشارة إلى ما ذُكر من عبادته، وعدم إشراك شيء به (فَقَالَ) معاذ رضي الله عنه (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ") قد تقدّم البحث في هذه الجملة مستوفًى قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه هذا من رواية الأسود عنه متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(11/ 152) عن محمد بن المثنّى، وابن بشّار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي حَصِين، والأشعث بن سُليم، كلاهما عن الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي (11/ 153) عن القاسم بن زكرياء، عن حسين الْجُعفيّ، عن زائدة، عن أبي حَصِين، عن الأسود به.
و (البخاريّ) في "التوحيد"(8373) عن محمد بن بشّار، عن غُنْدر به.
و (أحمد) في "مسنده"(5/ 228) عن عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن أبي حَصِين به، وفي (5/ 229) عن محمد بن بشار به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[153]
(32) - (حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذًا، يَقُولُ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى النَّاسِ
…
" نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة، وقد تقدّموا في السند الماضي، سوى ثلاثة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب لجدّه، ثقة [11] مات في حدود (250)(م، س ق) 4/ 116.
2 -
(حُسَيْنٌ) بن عليّ بن الوليد الْجُعفيّ مولاهم، أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد الكوفيّ المقريء، ثقة عابدٌ [9].
رَوَى عن خاله الحسن بن الْحُرّ، والأعمش، وزائدة، وابن أبي رَوّاد، وحمزة الزيات، وإسرائيل بن موسى، وفضيل بن عياض، وجعفر بن بُرْقان، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وهارون الْحَمّال، ومحمد بن رافع، وجماعة، وقد روى عنه سفيان بن عيينة، وهو أكبر منه.
قال أحمد: ما رأيت أفضل من حسين، وسعيد بن عامر، وقال محمد بن عبد الرَّحمن الْهَرَويّ: ما رأيت أتقن منه، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو داود: سمعت قتيبة يقول: قيل لسفيان بن عيينة: قَدِمَ حسين الجعفي، فوَثَبَ قائمًا، فقيل له؟ فقال: قدم أفضل رجل يكون قط، وقال موسى بن داود: كنت عند ابن عيينة، فجاء حسين الجعفيّ، فقام سفيان، فقَبَّلَ يده، وقال ابن عيينة: عَجِبت لمن مَرّ بالكوفة، فلم يُقَبِّل بين عيني حسين الجعفي، وقال يحيى بن يحيى النيسابوريّ: إن بَقِي أحد من الأبدال، فحسين الجعفيّ، وقال أبو مسعود الرازيّ: أفضل مَن رأيت الْحَفَرِيُّ، وحسين الجعفيّ، وذكر غيرهما، وقال الحجاج بن حَمْزة: ما رأيت حسينًا الجعفيّ ضاحكًا ولا مبتسمًا، ولا سمعت منه كلمة رَكِنَ فيها إلى الدنيا، وقال أبو هشام الرِّفَاعيّ عن الكسائيّ: قال لي هارون الرشيد: مَن أقرأ الناس؟ قلت: حسين بن علي الجعفيّ، وقال حُميد بن الربيع الخزاز: كان لا يحدث، فرأى منامًا، فشَرَعَ يُحَدِّث حتى كتبنا عنه أكثر
من عشرة آلاف، وقال العجليّ: ثقة، وكان يُقرئ القرآن، رأسٌ فيه، وكان صالِحًا، لَمْ أر رجلًا قط أفضل منه، وكان صحيح الكتاب، يقال: إنه لَمْ يطأ أُنثى قط، وكان جميلًا، وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه، فكان أروى الناس عنه، وكان الثوريّ إذا رآه عانقه، وقال: هذا راهب جُعْفَي، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: بَخٍ بَخٍ، ثقة، صدوق.
قيل: ولد سنة (119)، ومات سنة (3) أو (204)، وجزم البخاريّ، وابن سعد، وابن قانع، ومُطَيَّن، وابن حبان في "الثقات" بأنه مات سنة (3).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (35) حديثًا.
[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في "إكماله": قوله في هذا الحديث: من رواية القاسم بن زكرياء: حدثنا حسين، عن زائدة "هكذا هو في أكثر النُّسَخ، والأصول، ووقع في بعضها "حُصَين" بالصاد المهملة، وكذا وجدْتُه مُصْلَحًا في كتابي بخطّي "حُصَين" بالصاد المهملة، ولستُ أدري من أين كتبته؟ وهو خطأٌ، والصواب "حسين" بالسين، وكذا وجدته مُصْلَحًا مغيَّرًا من حُصَين في كتاب شيخنا القاضي أبي عبد الله التميميّ
(1)
، وهو حُسين بن علي الجعفي، مولى الجُعفيين، وقد تكررت روايته عن زائدة في غير موضع من هذا الكتاب، ولا يُعْرَف حُصَين بالصاد، عن زائدة، والله تعالى أعلم، انتهى
(2)
.
3 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، صاحب سنّة [7](ت 160)(ع) 5/ 52.
وقوله: (نحو حديثهم) يعني أن القاسم بن زكرياء، شيخ مسلم في الرواية الرابعة، رواه نحو رواية شيوخ مسلم الأربعة المذكورين في الروايات الثلاث المتقدّمة، وهم هَدَّابٌ، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن المثني، وابن بشار.
ورواية القاسم ساقها الحافظ أبو نعيم رحمه الله تعالى في "المستخرج"، فقال:
(1)
هو محمد بن عيسى التميميّ، أخذ عنه القاضي عياض "صحيح مسلم" سماعًا، وقراءةً، وإجازةً.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 243 للقاضي عياض و"شرح مسلم" للنوويّ 1/ 233 - 234.
140 -
حدثنا أبو محمد بن حَيّان، ثنا محمد بن عبد الرَّحمن بن الحجاج بن جَمرة، ثنا جَدِّي، ثنا حسين الجعفيّ، ثنا زائدة، عن أبي حصين، عن الأسود بن هلال، سمعت معاذ بن جبل يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبته، فقال:"هل تدري ما حق الله على الناس؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يعبدوه، لا يشركوا به شيئًا"، ثم دعاني فأجبته، فقال:"هل تدري ما حق الناس على الله، إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم، وأن لا يدخلهم النار".
رواه مسلم عن القاسم بن زكريا، عن حسين الجعفي، انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابٌ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْن، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِيقَانِ الْقَلْبِ)
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذه الترجمة تنبيهٌ على فساد مذهب غُلاة المرجئة القائلين: إن اللفظ بالشهادتين كافٍ في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدلّ على فساده، بل هو مذهبٌ معلوم الفساد من الشريعة لمن وَقَفَ عليها؛ لأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطلٌ قطعًا، انتهى
(2)
.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[154]
(31) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا، وَفَزِعْنَا، فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ
(1)
"المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم" 1/ 124.
(2)
"المفهم" 1/ 204.
فَزِعَ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا للأَنْصَار، لِبَنِي النَّجَّار، فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا، فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ، مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ - فَاحْتَفَزْتُ، كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَبُو هُرَيْرَةَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"مَا شَأْنُكَ؟ "، قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَقُمْتَ فَأَبْطَأَتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي، فَقَالَ:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ - وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ - قَالَ: "اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْن، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِط، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي بِهِمَا، مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَخَرَرْتُ لِاسْتِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً، وَرَكِبَنِي عُمَرُ، فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ "، قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِه، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً، خَرَرْتُ لِاسْتِي، قَالَ: ارْجِعْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَخَلِّهِمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) 2/ 3.
2 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) هو: عمر بن يونس بن القاسم الْحَنَفيّ، أبو حفص اليماميّ الْجُرَشِيّ، ثقةٌ [9].
روى عن أبيه، وعكرمة بن عَمّار، وأيوب بن عُتْبة، وأيوب بن النَّجّار، وخَبَّاب بن فَضَالة، وعاصم بن محمد بن زيد، ومُلازِم بن عمرو، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن ابنه أحمد بن محمد بن عمر، وأبو عمرو الناقد، وأبو موسى، وبندار، وإسحاق بن وهب الْعَلّاف، وأبو خيثمة، والعباس العنبريّ، ومحمود بن غيلان، وغيرهم.
قال أحمد: ثقةٌ، ولم أسمع منه، وقال ابن معين: والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُتَّقَى حديثُهُ من رواية ابن ابنه عنه؛ لأنه كان يقلب الأخبار، وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي في "كتاب أحكام القرآن": ثنا عليّ - هو ابن المدينيّ - ثنا عمر بن يونس اليماميّ، وكان ثقةً ثبتًا، ووَثَّقه أبو بكر البزار، ويقال: مات سنة ست ومائتين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
3 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عَمّار اليماميّ، بصري الأصل، صدوقٌ يَغْلَطُ [5].
روى عن الْهِرْماس بن زياد، وله صحبة، وإياس بن سلمة بن الأكوع، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسماك بن الوليد الحنفي، وضَمْضَم بن جَوْس، وأبي كثير السُّحَيمِيّ، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، والثوريّ، ووكيع، ويحيى القطان، وابن المبارك، وابن مهديّ، وعمر بن يونس اليماميّ، وعلي بن ثابت الْجَزَريّ، وغيرهم.
قال المفضل الْغَلّابيّ: حدثنا رجل من أهل اليمامة، وسألته عن عكرمة، فقال: هو عكرمة بن عمار بن عقبة بن حَبِيب بن شِهَاب بن ذُبَاب بن الحارث بن حمصانة بن الأسعد بن جُذَيْمَة بن سعد بن عِجْل، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: عكرمةُ مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير، وقال أيضًا عن أبيه: عكرمةُ مضطرب الحديث، عن غير إياس بن سلمة، وكان حديثه عن إياس صالِحًا، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أحمد يُضَعِّف رواية أيوب بن عتبة، وعكرمة بن عَمَّار، عن يحيى بن أبي كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين، وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله، هل كان باليمامة أحدٌ يُقَدَّم على عكرمة اليماميّ، مثلُ أيوب بن عُتبة، ومُلازم بن عمرو، وهؤلاء؟ فقال: عكرمة فوق هؤلاء، أو نحو هذا، ثم قال: رَوَى عنه شعبة أحاديث، وقال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: ثقة، وقال الغلابي، عن يحيى: ثبتٌ، وقال ابن
أبي خيثمة، عن ابن معين: صدوقٌ ليس به بأس، وقال أبو حاتم، عن ابن معين: كان أُمِّيًّا، وكان حافظًا، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيوب بن عُتبة أحبّ إليك، أو عكرمة بن عمار؟ فقال: عكرمة أحب إليّ، وأيوب ضعيف، وقال ابن المدينيّ: أحاديث عكرمة عن يحيى بن أبي كثير، ليست بذاك، مناكير، كان يحيى بن سعيد يُضَعّفها، وقال في موضع آخر: كان يحيى يضعف رواية أهل اليمامة، مثل عكرمة، وضَرْبِه، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن عليّ بن المدينيّ: كان عكرمة عند أصحابنا ثقةً ثبتًا، وقال العجليّ: ثقة، يَرْوي عنه النضر بن محمد ألف حديث، وقال البخاريّ: مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، ولم يكن عنده كتاب، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، كان أحمد بن حنبل يُقَدِّم عليه ملازم بن عمرو، وقال النسائيّ: ليس به بأس، إلَّا في حديث يحيى بن أبي كثير، وقال أبو حاتم: كان صَدُوقًا، ورُبَّما وَهِمَ في حديثه، وربما دَلَّسَ، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير بعض الأغاليط، وقال الساجيّ: صدوقٌ وثقه أحمد ويحيي، إلَّا أن يحيى بن سعيد ضعفه في أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير، وقَدَّم مُلازمًا عليه، وقال محمد بن عبد الله بن عَمّار: عكرمة بن عمار ثقة عندهم، ورَوَى عنه ابن مهديّ، ما سمعت فيه إلَّا خيرًا، وقال في موضع آخر: هو أثبت من مُلازم، وهو شيخُ أهل اليمامة، وقال علي بن محمد الطنافسيّ: ثنا وكيعٌ، عن عكرمة بن عمار، وكان ثقة، وقال صالح بن محمد الأَسَديّ: كان يتفرد بأحاديث طوال، ولم يَشْرَكه فيها أحد، قال: وقَدِمَ البصرة، فاجتمع إليه الناس، فقال: إلا أراني فقيهًا وأنا لا أشعر، وقال صالح بن محمد أيضًا: إن عكرمة بن عمار صدوق، إلَّا أن في حديثه شيئًا، روى عنه الناس، وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاريّ: ثقةٌ، رَوَى عنه الثوريّ، وذكره بالفضل، وكان كثير الغلط، ينفرد عن إياس بأشياء، وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا، وفي حديثه نُكْرَةٌ، وقال الدارقطنيّ: ثقة، وقال ابن عديّ: مستقيم الحديث، إذا روى عنه ثقة، وكذا ذكر ابن حبان في "الثقات"، وقال: في روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطرابٌ، كان يُحَدِّث من غير كتابه، وقال أبو أحمد الحاكم: جُلُّ حديثه عن يحيي، وليس بالقائم، وقال يعقوب بن
شيبة: كان ثقةً ثبتًا، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: أنا أقول: إنه ثقةٌ، وأحتجُّ به، وبقوله.
وقال عاصم بن عليّ: كان مستجاب الدعوة، قال معاوية بن صالح: مات في إمارة المهديّ، وقال ابن معين وغيره: مات سنة (159).
علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.
4 -
(أَبُو كَثِيرٍ) السُّحَيْمِيّ - بمهملتين، مصغّرًا - الْغُبَريّ - بضمّ المعجمة، وفتح الموحَّدة - اليماميّ الأعمي، قيل: اسمه يزيد بن عبد الرَّحمن الضرير، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أُذينة، وقيل: ابن غُفَيلة، قال أبو عوانة الإسفرائينيّ: إنه أصح من أُذينة، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وعنه ابنه زُفَرُ، ويحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عَمّار، وعبد الله بن بَدْر السُّحَيميّ، وموسى بن نَجْدة وعقبة بن التَّوْأَم، والأوزاعيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفَرّق بين يزيد بن أُذينة، وبين يزيد بن غُفَيلة الشاميّ، وغُفَيلة - بضم المعجمة، وفتح الفاء، مصغّرًا -.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (31) و (1985) وكرره ثلاث مرّات، و (1989) و (2491).
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا قُعُودًا) بالضمّ: جمع قاعد، كالركوع، والسُّجُود، جمع راكع، وساجد، كما قال الله تعالى:{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125](حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال أهل اللغة: يقال: قَعَدْنا حولَهُ، وحَوْلَيه، وحَوَاليه وحواله - بفتح الحاء واللام - في جميعها، منصوب على الظرفيّة، أي على جوانبه، وفي الجهات المحيطة به، قالوا: ولا يقال: حَوَالِيهِ - بكسر اللام
(1)
-.
(مَعَنَا) - بفتح العين - هذه اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب "المحكم"، والجوهريّ، وغيرهما، وهي للمصاحبة، قال صاحب "المحكم" "مَعَ": اسمٌ معناه الصحبة، وكذلك "مَعْ" بإسكان العين، غير أن المحركة تكون اسمًا وحرفًا، والساكنة لا تكون إلَّا حرفًا، قال اللحيانيّ: قال الكسائيّ: رَبِيعةُ وغَنْمٌ يُسَكِّنون، فيقولون:"مَعْكُم"، و"مَعْنَا"، فإذا جاءت الألف واللام، أو ألف الوصل اختلفوا، فبعضهم يفتح العين، وبعضهم يَكْسِرها، فيقولون: مع القوم، ومَع ابنك، وبعضهم يقول: مَعَ القوم، ومَعَ ابنِكَ، أما مَن فَتح فبناه على قولك: كنا معًا ونحن معًا، فلما جعلها حرفًا، وأخرجها عن الاسم حذف الألف، وترك العين على فتحتها، وهذه لغة عامّة العرب، وأما مَن سَكَّن، ثم كَسَرَ عند ألف الوصل، فأخرجه مخرج الأدوات، مثال: هل، وبل، فقال: مع القوم، كقولك: هَلِ القومُ، وبَلِ القومُ
(2)
، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَ"مَعَ "مَعْ" فِيهَا قَلِيلٌ وَنُقِلْ
…
فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ
والظرف خبر مقدّم لقوله: (أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق (وَعُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (فِي نَفَرٍ) متعلّق بحال مقدَّر، أي حال كونهما كائنين مع جماعة آخرين.
و"النَّفَرُ" بفتحتين: جماعة الرجال، من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نَفَرٌ فيما زاد على العشرة، قاله الفيّوميّ
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 234 و"المصباح المنير" 1/ 158.
(2)
"شرح النوويّ" 1/ 234.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 617.
فقوله: "في نفر" من فصيح الكلام، وحُسْن الإخبار، فإنهم إذا أرادوا الإخبار عن جماعة، فاستكثروا أن يذكروا جميعهم بأسمائهم، ذكروا أشرافهم، أو بعض أشرافهم، ثم قالوا: وغيرهم، أفاده النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
(فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا)، وقال بعده:"كنت بين أظهُرنا"، هكذا هو في الموضعين "أَظْهُرنا"، وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ووقع الثاني في بعض الأصول: "ظَهْرَينا"، وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة: يقال: "نحن بين أظهركم"، و"ظَهْرَيْكم"، و"ظَهْرَانَيْكُم" - بفتح النون - قال الأصمعيّ: الْعَربُ تقول: نحن بين ظَهْرَيكم، على لفظ الاثنين، وظهرانَيْكم، قال الخليل: أي بينكم، وقال غيره: والعرب تضعا لاثنين موضع الجمع، انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": هو نازلٌ بين ظَهْرَانَيْهِمْ - بفتح النون - قال ابن فارس: ولا تُكسر، وقال جماعة: الألف والنون زائدتان للتأكيد، وبين ظَهْرَيْهِمْ، وبين أظْهُرهم كلُّها بمعنى بينهم، وفائدة إدخاله في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأنّ المعنى أن ظَهْرًا منهم قُدّامه، وظهرًا وراءه، فكأنه مكنوفٌ من جانبيه، هذا أصله، ثم كَثُر، حتى اسْتُعمِل في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم، انتهى
(3)
.
(فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا) أي تأخّر من الرجوع إلينا (وَخَشِينَا) بكسر الشين المعجمة، من باب رَضِي.
قال في "القاموس": خَشِيَهُ، كرَضِيَه خَشْيًا، ويُكسر، وخَشْيَةً، وخَشَاةً، ومَخْشَاةً، ومَخْشِيَةً، وخَشَيَانًا، وتخشّاه: خافه، فهو خاشٍ، وخَشٍ، وهي خَشْيَاءُ، جمعه خَشَايَا، انتهى
(4)
.
وفي "المصباح": خَشِيَ خَشْيَةً: خاف، فهو خَشْيَان، والمرأة خَشْيَا، مثلُ: غَضْبَان وغَضْبَى، وربّما قيل: خَشِيتُ بمعنى عَلِمْتُ، انتهى
(5)
.
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 234.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 245 و"شرح النووي" 1/ 234 - 235.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 287.
(4)
"القاموس المحيط" ص 1152.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 175.
(أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا) ببناء الفعل للمفعول: أي يُصاب بمكروه من عدوّ، إما بأسر، وإما بغير ذلك قبل أن يصل إلينا، وقال القرطبيّ: أي يُحال بيننا وبينه بأخذ، أو هلاك
(1)
(وَفَزِعْنَا) بكسر الزاي، من باب تَعِبَ: أي خِفْنا، وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"الْفَزَعُ" يكون بمعنى الرَّوْع، وبمعنى الْهُبُوب للشيء، والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، قال: فتصح هذه المعاني الثلاثة: أي ذُعِرْنَا؛ لاحتباس النبيّ صلى الله عليه وسلم عنّا، إلا تراه كيف قال:"وخَشِينا أن يُقْتَطَع دوننا"، ويدل على الوجهين الآخرين قولُهُ:"فكنتُ أَوَّلَ من فَزعَ" انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ففزعنا" من قولهم: فَزِعتُ إلى كذا: إذا أقبلت عليه، وتفرّغت له، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
فَزِعْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ بَلَايَا تَنُوبُنِي
…
فَأَلْفَيْتُكُمْ مِنْهَا كَرِيمًا مُمَجَّدَا
وقد دلَّ على ذلك قوله: "فكنتُ أَوّلَ من فَزِعَ": أي أوّل من أخذ في طلبِه، وليس هو من الفزع الذي هو الذُّعْرُ والخوف؛ لأنه قد قال قبل هذا:"فخَشِينا أن يُقتَطَعَ دوننا"، ثمّ رَتَّبَ "فَزِعْنَا" عليه بفاء التعقيب المشعرة بالتسبب، والفزع مشترك يُطلق على ذينك المعنيين، وعلى الإغاثة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما سبق عن القاضي عياض رحمه الله تعالى من صحة إطلاقه على المعاني الثلاثة هو الأولي، ولا ينافيه قوله الماضي:"فخشينا إلخ"؛ إذ يكون من باب التوكيد، فتبصر، والله تعالى أعلم.
(فَقُمْنَا) أي لطلبه، والبحث عنه، وقال القرطبيّ: قوله: "وقمنا"، أي تركنا ما كنّا فيه، وأقبلنا على طلبه.
(فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ) أي أسبق من ارتاع به، أو قام لطلبه، أو لإغاثته (فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي أطلبه، والجملة في محل نصب على الحال من الفاعل، أي حال كوني مبتغيًا، أي طالبًا له صلى الله عليه وسلم، وإنما قال:"رسول الله"، مع أن المقام يقتضي الإضمار؛ تلذُّذًا بذكره صلى الله عليه وسلم على حدّ قول القائل [من الطويل]:
(1)
"المفهم" 1/ 205.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 245.
(3)
"المفهم" 1/ 204 - 205.
أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانٍ لَنَا إنَّ ذِكْرَهُ
…
هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
(حَتَّى أَتَيْتُ) غاية لمقدّر، أي فاستمرّ بي الذهاب إلى أن أتيتُ (حَائِطًا) أي بستانًا، وجمعه: حوائط، وسُمّي بذلك؛ لأنه حائطٌ لا سقف له (للأنصَارِ) بفتح الهمزة، وهو في الأصل جمع نَصِير، بمعنى الناصر، كشَرِيف وأشراف، لُقِّبَ به أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، غَلَبت عليهم الصفة، فجرى مجرى الأسماء، كأنه اسم الحيّ، ولذا نُسب إليه على لفظ الجمع، من غير ردّه إلى مفرده، فقال: أنصاريّ
(1)
، وهذا معنى قول ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة":
وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ
…
إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ
وقوله: (لِبَنِي النَّجَّارِ) - بفتح النون، وتشديد الجيم - بدل من الجارّ والمجرور قبله، وبنو النّجّار: بطن من الخزرج، يُنسبون إلى النجّار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وإنما قيل له: النّجّار؛ لأنه اختَتَن بِقَدُوم، وقيل: ضَرَبَ رجلًا بقدُوم، فسُمّي نجّارًا، وهم أخوال عبد المطّلب بن هاشم جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو تيم بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، قاله ابن السمعانيّ
(2)
.
(فَدُرْتُ) بضمّ الدال: يقال: دار حولَ البيت يدورُ دَوْرُ ودَوَرَانًا: إذا طاف به
(3)
(بِهِ) أي بذلك الحائط (هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا) أي للدخول إلى داخله حتى يبحث عنه صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ)"إذا" هي الْفُجَائيّة، أي ففاجأني وجود ربيع - بفتح، فكسر -: النهر الصغير (يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ) أي بستان (مِنْ بِئْرٍ) متعلّق بحال من "ربيع" لكونه موصوفًا بالجملة، أي حال من ذلك الرَّبِيع جاريًا من بئر (خَارِجَةٍ) صفة لـ "بئر"، أي إن تلك البئر ليست من داخل البستان، وإنما هي من خارجه، ثم أدرج عن بعض الرواة، ولم أعرفه، تفسير الربيع، فقال:(وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ)، قال النوويّ رحمه الله تعالى:
(أما "الرَّبِيع" - فبفتح الراء - على لفظ الرَّبِيع الفصلِ المعروف، و"الْجَدْول - بفتح الجيم -، وهو النهر الصغير، وجمع الربيع: أَرْبِعَاء، كنَبِيِّ وأنبياء.
(1)
راجع: "لسان العرب" 5/ 210.
(2)
"الأنساب" 5/ 356.
(3)
"المصباح" 1/ 202.
وقوله: "من بئر خارجة": هكذا ضبطناه بالتنوين في "بئر"، وفي "خارجة" على أن "خارجة" صفة لـ "بئر"، وكذا نقله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عن الأصل الذي هو بخط الحافظ أبي عامر العبدريّ، والأصل المأخوذِ عن الْجُلُودِيّ، وذكر الحافظ أبو موسى الأصبهانيّ وغيره أنه رُوِي على ثلاثة أوجه:
[أحدها]: هذا.
[والثاني]: من "بئر خارجَهُ" بتنوين "بئر"، وبهاء في آخر "خارجه"، مضمومةٍ، وهي ضمير الحائط، أي البئر في موضع خارجٍ عن الحائط.
[والثالث]: "من بئرِ خارجةَ"، بإضافة "بئر" إلى "خارجة" آخره تاء التأنيث، وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر.
وخالف هذا صاحب"التحرير"، فقال: الصحيح هو الوجه الثالث، قال: والأول تصحيفٌ، قال: و"البئر" يَعْنُون بها البستان، قال: وكثيرًا ما يَفْعَلُون هذا، فيُسَمُّون البساتين بالآبار التي فيها، يقولون:"بئرُ أَرِيس"، و"بئرُ بُضاعة"، و"بئرُ حاء"، وكلُّها بساتين.
قال النوويّ - بعد نقله كلام صاحب "التحرير" هذا -: وأكثره، أو كله لا يُوافَقُ عليه، والله أعلم.
قال: و"الْبِئْرُ": مؤنثة مهموزة، يجوز تخفيف همزتها، وهي مشتقة من بَأَرْتُ: أي حَفَرتُ، وجمعها في القلّة أَبْؤُرٌ، كَأَفْلُسٍ، وأَبْآرٌ، ساكن الباء، على أفْعالٍ، ومن العرب من يَقْلِب الهمزة التي هي عين الكلمة، ويُقدِّمها على الباء، ويقول: أَأْبار، فتجتمع همزتان، فتُقلَبُ الثانيةُ ألفًا، وجوَّزَ الفرّاء القلب في "أَبْؤُر، فيقال: آبُرٌ: وجمعها في الكثرة بِئَارٌ بكسر الباء بعدها همزة، بوزن كِتَابٍ، وتصغيرها بُؤَيرَةٌ
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَاحْتَفَزْتُ، كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ)، قد رُوي على وجهين: رُوِي بالزاي، وروي بالراء، قال القاضي عياض: رواه عامّة شيوخنا بالراء عن الْعَبْدريّ وغيره، قال: وسمعنا عن الأسديّ، عن أبي الليث الشاشيّ، عن عبد الغافر الفارسيّ، عن الجلوديّ بالزاي، وهو الصواب، ومعناه تضامَمْتُ
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 1/ 235 و"المصباح المنير" 1/ 68.
وتداخلتُ؛ لِيَسَعني الْمَدْخَل، ومنه حديث عليّ رضي الله عنه:"إذا صلّت المرأة، فلتحفز"
(1)
، أي لتضامّ، وتَنْزَوي إذا سجدت، وكذا قال الشيخ أبو عمرو: إنه بالزاي في الأصل الذي بخطّ أبي عامر العبدريّ، وفي الأصل المأخوذ عن الجلوديّ، وإنها رواية الأكثرين، وإن رواية الزاي أقرب، من حيث المعنى، ويدُلّ عليه تشبيهه بفعل الثعلب، وهو تَضَامُّهُ للدخول في الْمَضَايِق
(2)
.
وأما صاحب "التحرير"، فأنكر الزاي، وخَطّأَ رُوَاتها، واختار الراء، قال النوويّ: وليس اختياره بمختار، والله تعالى أعلم
(3)
.
[تنبيه]: وقع في "مستخرج أبي عوانة" بالراء في المواضع كلها، إلَّا أنه تصحّف الأول إلى "فاحترفت" بتقديم الراء على الفاء، والظاهر أنه غلط من النّاسخ، والله تعالى أعلم.
(فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ) أي الرسول صلى الله عليه وسلم ("أَبُو هُرَيْرَةَ؟ ") خبر لمحذوف، مع همزة الاستفهام، أي أأنت أبو هريرة؟ (فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا شَأَنُكَ؟ ")، أي: ما حالك في دخولك عليّ في هذا المحلّ؟ (قُلْتُ: كنْتَ) بتاء الخطاب (بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أي بيننا (فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا) أي تأخَّر رجوعك إلينا (فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا) أي تصاب بضرر قبل وصولك إلينا (فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ) أي البستان (فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي).
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني به النفر الذين كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عنهم، وأخذوا في طلبه، وهم المعنيّون للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط، يشهد أن لا إله إلَّا الله، مستيقنًا بها قلبه، فبشّره بالجنة"، فإنه قيّده بقوله:"من لقِيتَ من وراء هذا الحائط"، ولا شكّ في أن أولئك هم من أهل الجنّة، وهذا ظاهر اللفظ، وَيحتَمِل أن يقال: إن ذلك القيد مُلْغًى، والمراد هم، وكلّ من شاركهم في التلفّظ بالشهادتين، واستيقان القلب بهما.
(1)
أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث"(4/ 238) موقوفًا على عليّ رضي الله عنه، وهو ضعيف؛ لأن في سنده الحارث بن عبد الله الأعور، كذّبه الشعبيّ في رأيه، وضعّفوه في روايته.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 244.
(3)
"شرح النوويّ" 1/ 236.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الثاني هو ظاهر اللفظ، لا ما قاله القرطبيّ من أن الأول هو الظاهر، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم " (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وقوله: (قَالَ) مؤكّد لـ"قال" الأول، قال النوويّ رحمه الله تعالى: في هذا الكلام فائدة لطيفة، فإنه أعاد لَفْظَةَ "قال"، وإنما أعادها؛ لطول الكلام، وحصول الفصل بقوله: "يا أبا هريرة، وأعطاني نعليه"، وهذا حَسَنٌ، وهو موجودٌ في كلام العرب، جل جاء أيضًا في كلام الله تعالى، قال الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، قال الإمام أبو الحسن الواحديّ: قال محمد بن يزيد: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} [البقرة: 89] تكرير للأول؛ لطول الكلام، قال: ومثله قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} [المؤمنون: 35]، أعاد {أَنَّكُمْ} ، لطول الكلام، والله تعالى أعلم.
وأما إعطاؤه النعلين، فلتكون علامةً ظاهرةً معلومةً عندهم، يَعرِفون بها أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون أوقع في نفوسهم، لما يُخْبِرهم به عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يُنكَرُ كون مثل هذا يفيد تأكيدًا، وإن كان خبره مقبولًا، انتهى
(1)
.
("اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ) بفتح اللام، مضاف إلى ياء المتكلّم، وإنما لَمْ يُكسر ما قبلها، وإن كان ذلك هو الأصل؛ لكونه مثنّى، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة":
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا
…
لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَـ "رَامٍ" وَ"قَذَى"
أَوْ يَكُ كَـ "ابْنَيْنِ"، وَ"زَيْدِينَ" فَذِي
…
جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي
وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ
…
مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ
(هَاتَيْنِ) بدل أو عطف بيان لـ "نعليّ"، وهو تثنية "تا" اسم إشارة للمؤنّثة، كما قال في "الخلاصة":
بِـ "ذَا" لِمُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ أَشِرْ
…
بِـ "ذِي"و "ذِهْ""تِي""تَا" عَلَى الأُنْثَى اقْتَصِرْ
و"ها" حرف تنبيه (فَمَنْ لَقِيتَ) بكسر آلاف، يقال: لَقِيتُه أَلْقَاهُ، من باب
(1)
"شرح مسلم" 1/ 236.
تَعِبَ لُقِيًّا، والأصل على فُعُولٍ، ولُقًى بالضمّ مع القصر، ولِقَاءً بالكسر مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء اسْتَقْبَلَ شيئًا، أو صادفه، فقد لَقِيَهُ، ومنه لِقَاء البيت، وهو استقباله، قاله الفيّوميّ
(1)
(مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ) أي بعد هذا البستان (يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، وكذا قوله (مُسْتَيْقِنًا بِهَا) أي عالِمًا بمعنى هذه الكلمة، يقال: يَقِنَ الأمرَ، كفَرِحَ يَقْنًا، وَيُحَرَّكُ، وأَيْقَنَهُ وَبِه، وتيقّنه، واستيقنه، وبه: عَلِمَهُ، وتحقَّقه، وهو يَقِنٌ، مَثلَّثَ القاف، قاله في "القاموس"
(2)
، وقال في "المصباح": اليَقِينُ: العلمُ الحاصل عن نظر واستدلال، ولهذا لا يُسمّى علم الله تعالى يَقِينًا، ويَقِنَ الأمرُ يَيْقَنُ يَقَنًا، من باب تَعِبَ: إذا ثبت ووضَحَ، فهو يَقِينٌ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ، ويُستعمل متعدّيًا أيضًا بنفسه، وبالباء، فيقال: يَقِنْتُهُ، ويَقِنْتُ به، وأيقنتُ به، وتيقَّنتُهُ، واستيقنته: أي علمته، انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: اليقين: هو العلم الراسخ في القلب الثابت فيه، قال: وربّما عبّروا عن الظنّ باليقين، وباليقين عن الظنّ، قال الشاعر [من الطويل]:
تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وَأَيْقَنَ أَنَّنِي
…
بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِدٍ لَا أُغَامِرُهْ
يقول: تَشَمَّمَ الأسد ناقتي، يظنّ أنني أفتدي بها منه، وأتركها له، ولا أقاتله، قاله الجوهريّ، وقال غيره: اليقين هو السكون مع الوضوح، يقال: يَقِنَ الماءُ: أي سَكَنَ، وظهر ما تحته، انتهى
(4)
.
وقوله: (قَلْبُهُ) مرفوع على الفاعليّة باسم الفاعل (فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) والمراد أنّ من كانت هذه صفته، فهو من أهل الجنّة، وإلا فأبو هريرة رضي الله عنه لا يعلم استيقان قلوبهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق، ولا النطق دون الاعتقاد، بل لا بُدّ من الجمع بينهما، وقد تقدم إيضاحه في أول الباب، وذِكْرُ القلب هنا للتأكيد، ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلَّا بالقلب
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 558.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1118.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 681.
(4)
"المفهم" 1/ 206.
(5)
"شرح النوويّ" 1/ 237.
(فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه بنصب "أَوَّلَ" على أنه خبر "كان"، مقدَّمًا، ورفع "عمرُ" على أنه اسمها، ويجوز العكس، و"من" موصولة، والعائد محذوفٌ؛ لكونه فضلة، كما قال في "الخلاصة":
...........................
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
وقال أيضًا:
وَحَذْفَ فَضلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ
…
كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ
(فَقَالَ) أي عمر رضي الله عنه (مَا) استفهاميّةٌ (هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في "شرح النوويّ" بلفظ:"فقلت: هاتين نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما"، قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في جميع الأصول: "فقلت: هاتين نعلا" بنصب "هاتين"، ورفع "نعلا"، وهو صحيح، معناه: فقلت: يعني هاتين هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصب "هاتين" بإضمار "يعني"
(1)
، وحذف "هما" التي هي المبتدأ؛ للعلم به.
قال الجامع عفا الله تعالى: الظاهر أن النوويّ رحمه الله تعالى لَمْ يقع عنده إلَّا بنصب "هاتين"، كما يفيده قوله:"هكذا هو في جميع الأصول"، ولكن بعض النسخ التي بين يديّ وقع فيها "هاتان" بالرفع، وهو الذي وقع في مختصر القرطبيّ، ولم يذكر في شرحه شيئًا، مع أنه يعلّق في مثل هذا، وكذا لَمْ يذكر القاضي عياض في "الإكمال" شيئًا، مع أنه كثير التنبيه على مثل هذا، ولا ابنُ الصلاح في "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، وحمايته من الإسقاط والسقط"، مع أن مثل هذا التنبيه موضوع كتابه.
والحاصل أنه لَمْ تتّفق النسخ كلّها على ما قاله النوويّ، بل وقع في بعضها رفع "هاتان"، وهو واضح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع في "مستخرج أبي نعيم"(1/ 124، 141)"هاتين نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم " بنصب الاثنين، فإن صحّت النسخة، فيؤّل على أن الأول
(1)
الأوضح أن يقدّر: "أخذت هاتين".
منصوب بفعل مقدَّر، أي أخذتُ هاتين، وقوله: "نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ بدل منه، والله تعالى أعلم.
(بَعَثَنِي بِهِمَا) قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا ضبطناه "بهما" على التثنية، وهو ظاهر، ووقع في كثير من الأصول، أو أكثرها "بها" من غير ميم، وهو صحيحٌ أيضًا، ويكون الضمير عائدًا إلى العلامة، فإن النعلين كانتا علامة، والله تعالى أعلم
(1)
.
(مَنْ لَقِيتُ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُسْتَيقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ)، أي ليرجع عما هو عازم عليه من تبشير الناس بما أُرسل به، لا بقصد سقوطه وإيذائه، وإنما ضرب بيده في صدره؛ ليكون أبلغ في زجره (بَيْنَ ثَدْيَيَّ) تثنية "ثَدْيٍ" - بفتح الثاء، وسكون الدال - وهو مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، واختلفوا في اختصاصه بالمرأة، فمنهم من قال: يكون للرجل والمرأة، ومنهم من قال: هو للمرأة خاصة، فيكون إطلاقه في الرجل مجازًا، واستعارةً، وقد كثر إطلاقه في الأحاديث للرجل، قاله النووي
(2)
.
وقال في "القاموس": "الثَّدْيُ" - أي بفتح، فسكون - ويُكسَرُ، وكالثَّرَى، خاصّ بالمرأة، أو عامّ، ويؤنِّث، جمعه أَثْدٍ، وثُدِيٌّ، كَحُلِيٍّ، انتهى
(3)
.
(فَخَرَرْتُ لِاسْتِي) أي على استي، فاللام بمعنى "على"، كما في قوله تعالى:{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107]، أي: عليها، وكأنه وَكَزَ في صدره، فوقع على استه، وليس قول من قال: خَرَّ على وجهه بشيء، قاله القرطبيّ
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: "الاسْتُ": الْعَجُزُ، ويُراد به حَلْقَةُ الدُّبُر، والأصل سَتَهٌ بالتحريك، ولهذا يُجمع على أَسْتَاهٍ، مثلُ سبب وأسباب، ويُصَغَّرُ على سُتَيهٍ"، وقد يُقال: سَهٌ بالهاء، وسَتٌ بالتاء، فيُعرب إعرابَ يَدٍ ودَمٍ، وبعضهم يقول في الوصل بالتاء، وفي الوقف بالهاء، على قياس هاء التأنيث، قال الأزهريّ: قال النحويّون: الأصلُ سَتْهٌ بالسكون، فاستثقلوا الهاء؛ لسكون التاء قبلها، فحَذَفُوا الهاءَ، وسَكَنتِ السينُ، ثم اجْتُلِبت همزة الوصل، وما نقله
(1)
"شرح النووي" 1/ 237.
(2)
"شرح صحيح مسلم" 1/ 237.
(3)
"القاموس المحيط" ص 1140.
(4)
"المفهم" 1/ 207.
الأزهريّ في توجيهه نظرٌ؛ لأنهم قالوا: سَتِهَ سَتَهًا، من باب تَعِبَ: إِذا كَبِرَت عَجِيزته، ثم سُمّي بالمصدر، ودخله النقص بعد ثُبُوت الاسم، ودعوى السكون لا يشهد له أصلٌ، وقد نَسَبُوا إليه، سَتَهِيٌّ بالتحريك، وقالوا في الجمع: أَسْتَاهٌ، والتصغير والتكسير يرُدّان الأسماء إلى أصولها، انتهى
(1)
.
[تنبيه]: "است" أحد الأسماء العشرة التي بُدأت بهمزة الوصل، وأصل هذه القاعدة أن همزة الوصل إنما تأتي في الفعل الماضي إذا كان أكثر من أربعة أحرف، نحو انطلق، واستخرج، وكذا الأمرُ منه، نحو انطَلِقْ، واسْتَخْرِجْ، والمصدر، نحو انطلاقٍ، واستخراج، وكذا أمرُ الثلاثيّ، نحو اخشَ، وامض، وانفُذ، ولم يُحْفَظْ عن العرب همزة الوصل في الأسماء التي ليست مصادر لفعل زائد على أربعة، إلَّا في عشرة أسماء: اسم، واست، وابن، وابنم، واثنين، وامريّ، وامرأة، وابنة، واثنتين، وايمن في القسم، وكذا لَمْ تُحفَظ همزة الوصل في الحروف إلَّا في "أل"، وإلى ما ذُكر أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
لِلْوَصْلِ هَمْزٌ سَابِقٌ لَا يَثْبُتُ
…
إِلا إِذَا ابْتُدِي بِهِ كَاسْتَثْبِتُوا
وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ احْتَوَى عَلَى
…
أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ نَحْوُ انْجَلَى
وَالأَمْرِ وَالْمَصْدَرِ مِنْهُ وَكَذَا
…
أَمْرُ الثُّلَاثِي كَاخْشَ وَامْضِ وَانْفُذَا
وَفِي اسْمٍ اسْتٍ ابْنٍ ابْنِمٍ سُمِعَ
…
وَاثْنَيْنِ وَامْرِئٍ وَتَأَنِيثٍ تَبِعْ
وَايْمُنُ هَمْزُ "أَلْ" كَذَا وَيُبْدَلُ
…
مَدًّا فِي الاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ
[تنبيه آخر]: قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "لاستي" المستحب في مثل هذا الكناية عن قبيح الأسماء، واستعمال المجاز، والألفاظ التي تُحَصِّل الغرض، ولا يكون في حورتها ما يُستحيا من التصريح بحقيقة لفظه، وبهذا الأدب جاء القرآن العزيز، والسنن، كقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، وقوله:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، وقوله:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، وقوله:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]، وقوله:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
(1)
"المصباح المنير" 1/ 266.
وقد يَستَحْمِلون صريح الاسم؛ لمصلحة راجحة، وهي إزالة اللبس، أو الاشتراك، أو نفي المجاز، أو نحو ذلك، كقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"أَنِكْتَها"، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"أدبر الشيطان وله ضرَاط"، وكقول أبي هريرة رضي الله عنه:"الحدث فُسَاءٌ أو ضُرَاطٌ"، ونظائر ذلك كثيرة، واستعمال أبي هريرة رضي الله عنه هنا لفظ الاست من هذا القبيل، والله تعالى أعلم، انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) قال القاضي عياض وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى: ليس فعلُ عمر رضي الله عنهما، ومراجعته النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتراضًا عليه، ولا ردًّا لأمره، وإنما كان ذلك سعيًا في استكشافٍ عن مصلحةٍ ظهرت له، لَمْ يُعارض بها حكمًا ولا شرعًا؛ إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة رضي الله عنه غير تطييب قلوب الأمة وبُشْرَاهم، فرأى عمر رضي الله عنه أنّ كَتْمَ هذه البشرى أصلح لهم، وأحرى بهم لئلا يَتَّكِلُوا عليها، فتقلّ أعمالهم وأُجورهم، وأن ذلك أعوَد عليهم بالخير، من مُعَجَّل هذه البشرى، فلما عرضه على النبيّ صلى الله عليه وسلم صَوَّبَهُ فيه. والله تعالى أعلم
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ولعلّ عمر صلى الله عليه وسلم قد كان سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سمعه معاذ رضي الله عنه، كما سبق في حديثه، فيكون ذلك تذكيرًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم بما قد سَمِعَ منه، ويكون سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك تعديلًا على ما قد كان تعذّر لهم تبيانه لذلك، ويكون عمر رضي الله عنه لِمَا خصّه الله تعالى من الفطنة وحضور الذهن تذكّر ذلك، واستبلد أبا هريرة؛ إذ لَمْ يتفطّن لذلك، ولا تذكّره، فضربه تلك الضربةَ؛ تأديبًا وتذكيرًا انتهى، والله تعالى أعلم
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولعلّ عمر سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلخ، فيه نظر لا يخفى؛ إذ السياق يأبى ذلك، فإنه لَمّا قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا عمر ما حملك على ما فعلتَ؟ "، أجابه بقوله: فإني أخشى أن يتّكل الناسُ عليها، ولو كان سمع ذلك منه، لَقال له: إنك قلت لمعاذ: "لا تبشّرهم، فيتكلوا"، وإنما الظاهر من حال عمر رضي الله عنه أن هذا مما أُلهمه، فإنه من
(1)
"شرح مسلم" 1/ 237 - 238.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 238.
(3)
"المفهم" 1/ 206 - 207.
المحدّثين، فقد أخرج البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثُون، فإن يك في أمتي أحدٌ، فإنه عمر"، وفي رواية:"لقد كان فيمن كان قبلكم، من بني إسرائيل رجالٌ يُكَلَّمُون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحدٌ، فعمر".
وأخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ، فإن عمر بن الخطاب منهم"، قال ابن وهب تفسير مُحَدَّثون مُلْهَمُون، والله تعالى أعلم.
(فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَجْهَشْتُ) - بالجيم والشين المعجمة - والهمزةُ والهاءُ مفتوحتان، أي تهيّأت له، وأخذتُ فيه، قاله القرطبيّ، وقال النوويّ: هكذا وقع في الأصول التي رأيناها، ورأيت في كتاب القاضي عياض رحمه الله تعالى:"فَجَهِشْتُ" بحذف الألف، وهما صحيحان، قال في "القاموس": جَهَشَ إليه، كسَمِعَ، ومَنَعَ جَهْشًا، وجُهُوشًا، وجَهَشَانًا: فَزِعَ إليه، وهو يريد البكاء، كالصبيّ يَفزَعُ إلى أمه، كأجهشَ، ومن الشيء جَهَشَانًا: خاف، أو هَرَبَ، انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وهو أن يَفْزَع الإنسان إلى غيره، وهو متغير الوجه، مُتَهَيِّءٌ للبكاء، ولَمّا يَبْكِ بَعْدُ، وقال الطبريّ: هو الفزع والإستغاثة، وقال أبو زيد: جَهَشْتُ للبكاء والحزن والشوق، والله أعلم.
(بُكَاءً) منصوب على المفعول له، وقد جاء في رواية:"للبكاء"، و"الْبُكَاء" يُمَدُّ ويُقْصَر لغتان، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: بَكَى يبكي بُكًى، وبُكاءً بالقصر والمدّ، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جَمَعَ الشاعرُ اللغتين، فقال [من الوافر]:
بَكَتْ عَيْنِي وَحَقَّ لَهَا بُكَاهَا
…
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
ويَتَعَدَّى بالهمزة، فيقال: أبكيته، ويقال: بَكَيتُهُ، وبَكَيتُ عليه، وبَكَيتُ لَهُ، انتهى
(2)
.
(وَرَكِبَني عُمَرُ) أي تَبِعَني، ومَشَى خَلْفي في الحال، بلا مُهْلَة.
(1)
"القاموس المحيط" ص 528.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 59.
(فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي)"إذا" هي الفُجَائيّة، أي ففاجأني وجود عمر رضي الله عنه ورائي، و"الأَثَرُ" فيه لغتان فصيحتان، مشهورتان: إحداهما: كسرُ الهمزة، وإسكان الثاء، والثانية: فتحهما، ومعناه تَبِعَهُ عن قُرب
(1)
(فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟)، "ما": استفهاميّةٌ، أي: أيّ شيء ثبت لك في تغيّر حالك عن الحال التي خرجت من عندي، وأنت عليها، من السرور والبهجة بوصولك إليّ، ومشاهدتك لي، وأنا سالم من كلّ مكروه، وحملك البشرى إلى الأمة؟ (قُلْتُ: لَقِيتُ) بكسر القاف، كما سبق بيانه (عُمَرَ) بن الخطّاب (فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ) من الْبُشْرَى (فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً، خَرَرْتُ لِاسْتِي) أي سقطتُ على عجُزي من شدّة الضرب (قَالَ) أي عمر (ارْجِعْ) يا أبا هريرة، ولا تبلّغ النَّاسَ ما أُمرت به (فَقَالَ لَهُ) أي لعمر (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟) "ما" استفهاميّة أيضًا، أَيْ: أَيُّ شيءٍ حملك على منع أبي هريرة من التبليغ، حتى أذى ذلك إلى ضربه (قَالَ) عمر (يَا رَسُولَ اللهِ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) الجارّ والمجرور متعلّق بخبر مبتدأ محذوف، أي أنت مَفْدِيٌّ بأبي وأمي، أو متعلِّق بفعل محذوف، أي أَفْدِيك بهما (أَبَعَثْتَ) الهمزة للإستفهام (أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ) أي بجعلك نعليك علامة على صدقه، (مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟)، فـ "من لقي" مبتدأ، وجملة "بشّره بالجنة" خبره، والجملة في محلّ نصب على الحال من "أبا هريرة"، أي حال كونه مبشّرًا من لقي إلخ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") أي بعثته بذلك (قَالَ) عمر رضي الله عنه (فَلَا تَفْعَلْ) الفاء فصيحيّة، أفصحت عن جواب شرط مقدَّر، أي: فإذا ثبت وصحّ لديّ أنك بعثته بهذا، فأقول لك: لا تفعل هذا (فَإنِّي أَخْشَى) الفاء هنا تعليليّة؛ أي إنما أطلب منك عدم الفعل لأني أخاف (أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا) أي على هذه الشهادة، ويتركوا الأعمال (فَخَلِّهِمْ) أي اتركهم (يَعْمَلُونَ) سائر الأعمال الصالحات (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَخَلِّهِمْ") الفاء هنا فصيحيّة أيضًا، أي: فإذا كان يترتّب على التبشير اتّكالهم عليها، فاتركهم ولا تبشّرهم؛ لكي يستكثروا من الأعمال الصالحات التي تتفاوت بها
(1)
"المصباح المنير" 4/ 1 و "شرح النوويّ" 1/ 239.
الدرجات في الجنّة، فإن تفاوت أهلها إنما يكون بتفاوت أعمالهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، لم يُخرجه من أصحاب الأصول أحد غيره، أخرجه هنا في "الإيمان"(11/ 154) عن زهير بن حرب، عن عمر بن يونس الحنفيّ، عن عكرمة بن عمّار، عن أبي كثير عنه.
وأخرجه (أبو نعيم) في "المسند المستخرج"(141) عن أبي محمد، عن أبي يعلى، عن أبي خيثمة - زهير بن حرب - بسند المصنّف، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4526)
(1)
عن أحمد بن عليّ بن المثنّى، عن أبي خيثمة به، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده.
1 -
(منها): أن مجرّد التلفظ بالشهادتين لا يكفي في تحقّق الإيمان، بل لا بدّ من استيقان القلب، فالإيمان المنجي من الخلود في النار لا بُدّ فيه من الإعتقاد، والنطق معًا، فإن الإيمان اعتقاد بالجَنان، ونطق باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان، كما سبق البحث فيه مستوفى في المسائل المذكورة في أول "كتاب الإيمان".
2 -
(ومنها): استحباب جلوس العالم لأصحابه، ولغيرهم من المستفتين وغيرهم، يُعَلِّمهم، ويفيدهم ويفتيهم.
3 -
(ومنها): ما قدمناه من أنه إذا أراد ذكر جماعة كثيرة، فاقتصر على ذكر بعضهم، ذَكَر أشرافهم، أو بعض أشرافهم، ثم قال: وغيرهم.
4 -
(ومنها): بيان ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من القيام بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإكرامه، والشفقة عليه، والإنزعاج البالغ لِمَا يَطْرُقُه صلى الله عليه وسلم.
5 -
(ومنها): استحباب اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم، والإعتناء بتحصيل مصالحه، ودفع المفاسد عنه.
(1)
"الإحسان" 7/ 37 - 38 بنسخة كمال يوسف الحوت.
6 -
(ومنها): جوازُ دخول الإنسان ملكَ غيره بغير إذنه إذا عَلِمَ أنه يَرْضَى ذلك؛ لمودة بينهما، أو غير ذلك؛ فإن أبا هريرة رضي الله عنه دَخَلَ الحائط، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يُنْقَل أنه أنكر عليه.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا غير مُخْتَصٍّ بدخول الأرض، بل يجوز له الإنتفاع بأدواته، وأكل طعامه، والحمل من طعامه إلى بيته، وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يَعْلَمُ أنه لا يشقّ على صاحبه.
هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف، من العلماء رحمة الله عليهم، وصرح به أصحابنا.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وأجمعوا على أنه لا يَتَجَاوَزُ الطعام وأشباهه إلى الدراهم والدنانير وأشباههما، وفي ثبوت الإجماع في حَقِّ مَن يُقْطَع بطيب قلب صاحبه بذلك نظرٌ، ولعل هذا يكون في الدراهم الكثيرة التي يُشَكّ، أو قد يُشَكّ في رضاه بها، فإنهم اتفقوا على أنه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقًا فيما تشكك في رضاه به.
ثم دليل الجواز في الباب الكتاب والسنة، وفِعلُ وقولُ أعيانِ الأمة، فالكتاب قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلى قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]، والسنة هذا الحديث، وأحاديث كثيرة معروفة بنحوه، وأفعال السلف، وأقوالهم في هذا أكثر من أن تحصى، والله تعالى أعلم، انتهى كلام النوويّ
(1)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن الإمام، وكبير القوم مطلقًا إذا رأى شيئًا، ورأى بعض أتباعه خلافَه أنه ينبغي للتابع أن يَعْرِضه على المتبوع؛ لينظر فيه، فإن ظَهَر له أن ما قاله التابع هو الصواب رجع إليه، وإلا بَيَّنَ للتابع جواب الشبهة التي عَرَضَتْ له.
8 -
(ومنها): مشروعيّة إرسال الإمام، والمتبوع إلى أتباعه بعلامة يَعرِفونها؛ ليزدادوا بها طُمأنينةً.
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 239 - 240.
9 -
(ومنها): جوازُ إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها؛ للمصلحة، أو خوف المفسدة، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب العلم" من "صحيحه" بابًا لذلك، فقال:"باب من خصّ بالعلم قومًا دون قوم"، فأورد فيه حديث أنس في قصة معاذ رضي الله عنهما الآتي بعد هذا.
10 -
(ومنها): جواز إشارة بعض الأتباع على المتبوع بما يراه مصلحةً، وموافقةُ المتبوع له إذا رآه مصلحةً، ورجوعه عما أَمرَ به بسببه.
11 -
(ومنها): إدخال الْمَشُورة على الإمام من أهل العلم والدين، ومن وزرائه وخاصّته، وعرضُ النصائح له، وإن لم يستشرهم
(1)
.
12 -
(ومنها): جواز قول الرجل للآخر: "بأبي أنت وأمي"، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد كرهه بعض السلف، وقال: لا يُفَدَّى بمسلم، ولكن الأحاديث الصحيحة ترُدّ عليه، فهي تدلّ على جوازه، سواء كان المُفَدَّى به مسلمًا أو كافرًا، حيًّا كان أو ميتًا.
13 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ على جواز تخصيص العموم بالمصلحة المشهود لها بالإعتبار، وقد اختَلَف فيه الأصوليّون انتهى
(2)
.
14 -
(ومنها): أن في دفعه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه نعليه دليلًا على جواز عَضُدِ خبر المخبِر الواحد بالقرائن؛ تقويةً لخبره، وإن كان لا يُتّهم.
15 -
(ومنها): اعتبار القرائن والعلامات، والعمل على ما يقتضيه من الأعمال والأحكام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة):
في اختلاف أهل العلم في جواز الاجتهاد لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى:
أما أمره صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بالتبشير، فهو من تغير الاجتهاد، وقد كان الاجتهاد جائزًا له وواقعًا منه صلى الله عليه وسلم عند المحققين، وله مزية على سائر المجتهدين بأنه لا يُقَرّ على الخطأ في اجتهاده، ومن نفى ذلك، وقال: لا
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 248.
(2)
"المفهم" 1/ 208.
يجوز له صلى الله عليه وسلم القول في الأمور الدينية إلا عن وحي، فليس يمتنع أن يكون قد نَزَل عليه صلى الله عليه وسلم عند مخاطبته عمر رضي الله عنه وحيٌ بما أجابه به، ناسخٌ لوحيٍ سَبَقَ بما قاله صلى الله عليه وسلم أوّلًا.
قال النوويّ بعد ذكر كلام ابن الصلاح هذا: ما نصّه: وهذه المسألة، وهي اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها تفصيل معروف.
فأما أمور الدنيا فاتفق العلماء رضي الله عنهم على جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها، ووقوعه منه.
وأما أحكام الدين، فقال أكثر العلماء بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا جاز لغيره فله صلى الله عليه وسلم أولى، وقال جماعة: لا يجوز له لقدرته على اليقين، وقال بعضهم: كان يجوز في الحروب دون غيرها، وتوقف في كل ذلك آخرون، ثم الجمهور الذين جوَّزوه اختلفوا في وقوعه، فقال الأكثرون منهم: وُجِدَ ذلك، وقال آخرون: لم يوجد، وتوقف آخرون، ثم الأكثرون الذين قالوا بالجواز والوقوع، اختلفوا هل كان الخطأ جائزًا عليه صلى الله عليه وسلم، فذهب المحققون إلى أنه لم يكن جائزًا عليه صلى الله عليه وسلم، وذهب كثيرون إلى جوازه، ولكن لا يُقَرُّ عليه بخلاف غيره، وليس هذا موضع استقصاء هذا، والله تعالى أعلم، انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأخذ في أمور الدنيا باجتهاده، ويرجع عن رأيه فيها أحيانًا إلى رأي غيره، كما فعل في تلقيح النخل، وفي النزول ببدر، وفيما هَمَّ به من مُصالحة الأحزاب، ولا خلاف في ذلك.
واختلف العلماء هل كان يجتهد برأيه في الشرعيّات فيما لم ينزل عليه فيه شيء أم لا؟ وهل هو معصوم في اجتهاده، أم هو كسائر المجتهدين؟ والصواب جواز الاجتهاد له، ووقوعه منه، وعصمته فيه على كلّ حال، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الآية [النساء: 105]، ودلّت الآثار الصحيحة على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في نوازل، وحكمه فيها برأيه، كقصّة أسرى بدر، قاله القاضي عياض
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 1/ 241.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 250 - 251.
قال الجامع عفا الله تعالى: ملخّص هذه المسألة أن العلماء اختلفوا فيها على أقوال:
[أحدها]: الجواز مطلقًا، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو الصحيح؛ لكثرة أدلته، وقوّتها.
[الثاني]: المنع مطلقًا، وهو مذهب أبي عليّ الجبّائي المعتزليّ، وابنه أبي هاشم، وبعض أهل الظاهر.
[الثالث]: الجواز في مصالح الدنيا دون غيرها، وهو مذهب القدريّة.
[الرابع]: التوقّف في ذلك.
وكذلك اختلفوا في وقوعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهب الجمهور إلى وقوعه مطلقًا، وهو الصحيح، وذهب كثير من الحنفيّة إلى وقوعه بشرط انتظار الوحي، وذهب بعضهم إلى المنع مطلقًا، وذهب آخرون إلى وقوعه في أمور الدنيا فقط، والمذهب الخامس التوقّف.
وأما عصمته صلى الله عليه وسلم من الخطإ في اجتهاده، فللعلماء فيها قولان، مؤدّاهما واحد.
[أحدهما]: امتناع وقوع الخطإ منه صلى الله عليه وسلم في اجتهاده، وهو مذهب كثير من أهل العلم، وصوّبه الرازيّ، والسبكيّ، وغيرهما.
[الثاني]: - وهو الأصحّ - وقوعُ الخطإ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يُقرّ عليه، بل يُنبَّه إلى الصواب، وهو مذهب أكثر الحنفيّة، والشافعيّة، والحنابلة، وأصحاب الحديث، واختاره الآمديّ، وابن الحاجب، وغيرهما، وهو الأصحّ، وعليه دلّت نصوص الكتاب والسنّة
(1)
.
وقد ذكرت هذه الأقوال في نظمي في الأصول، بقولي:
اخْتَلَفُوا هَلِ الرَّسُولُ يَجْتَهِدْ
…
فَالأَكْثَرُونَ جَوَّزُوهُ وَوُجِدْ
(1)
راجع لتحقيق هذه المسألة "الإحكام" للآمديّ 4/ 15 و"المحصول" 3/ 9 - 25 و"المستصفى" 2/ 355 - 357 و"مناهج العقول" و"نهاية السول" و"منهاج الوصول" 3/ 262 - 268 و"اللمع" ص 367 و"مختصر ابن الحاجب" مع حاشية التفتازاني، والجرجاني" 2/ 291 - 292.
وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ وَالْبَعْضُ فِي
…
حَرْبٍ رَأَى وَالْبَعْضُ ذُو تَوَقُّفِ
وَالْحَقُّ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فَقَدْ
…
جَاءَتْ وَقَائِعُ لَهَا قَدِ اجْتَهَدْ
وَالْخُلْفُ فِي خَطَئِهِ وَصُوِّبَا
…
وُقُوعُهُ بِلَا تَمَادٍ صَاحَبَا
فَاللهُ لَا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ بَلْ
…
يُنْزِلُ وَحْيَهُ إِزَالَةَ الْخَلَلْ
ثُمَّةَ ذَا الْخُلْفُ لأَمْرٍ نُسِبَا
…
لِلدِّينِ لَا غَيْرُ فَخُذْهُ رَاغِبَا
أَمَّا الأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَقَدْ
…
اتَّفَقُوا فِي كَوْنِه فِيهَا اجْتَهَدْ
(1)
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[155]
(32) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ الله، وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ، فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: "إِذًا يَتَّكِلُوا، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا")
(2)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبت [11].
رَوَى عن ابن عيينة، وابن نُمَير، وعبد الرزاق، وأبي داود الطيالسيّ، وجعفر بن عون، وبشر بن عُمر، وابن مهدي، والقطان، وخلق كثير، وتَلْمَذَ
(1)
راجع: "المنحة الرضية شرح التحفة المرضية" في تحقيق معنى الأبيات، وما احتوته من الفوائد.
(2)
كان الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يقدّم حديث أنس رضي الله عنه هذا إلى حديثه عن معاذ رضي الله عنه قبل أربعة أحاديث مُرَاعَاةً للمناسبة، والله تعالى أعلم.
لأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وله عنهم مسائل.
وروى عنه الجماعَة، سوى أبي داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وإبراهيم الحربيّ، وعبد الله بن أحمد، والْجُوزَجانيّ، وأبو بكر محمد بن علي ابن أُخت مسلم بن الحجاج، وغيرهم.
قال مسلم: ثقة مأمون، أحد الأئمة، من أصحاب الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ ثبتٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال الحاكم: هو أحد الأئمة، من أصحاب الحديث، من الزُّهّاد، والمتمسكين بالسنة، وقال الخطيب: كان فقيهًا عالِمًا، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ثقةٌ صدوقٌ، وكان غيره: أثبت منه.
قال البخاريّ: مات بنيسابور يوم الاثنين، ودُفِنَ يوم الثلاثاء لعشر خَلَوْن من جمادى الأولى، سنة (251)، وكذا قال ابن حبان في "الثقات".
وله في هذا الكتاب (94) حديثًا.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، ثم البصرة، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9].
روى عن أبيه، وابن عون، وشعبة، وأشعث بن عبد الملك، وبُكير بن أبي السَّمِيط، ويحيى بن العلاء الرازي.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وابن المدينيّ، وابن معين، وعفان، وعمرو بن عليّ، وبُندار، وأبو موسى، وأبو قدامة السَّرَخْسِيّ، وأبو خيثمة، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وعبيد الله بن عمر القواريري وأبو غَسّان الْمِسْمَعِيّ، وغيرهم.
قال الميمونيّ: عن أحمد: كان في كتاب أبيه: ليس المعاصي من القدر، قال: فَحَجَّ، فقال الحميديّ: لا تسمعوا من هذا القدريّ شيئًا، قال: وسمعت أبا عبد الله، وسَمِع من يُكثره في الحديث والفقه، فقال: وأيُّ شيء عنده من الحديث؟ ما كتبتُ عنه سوى مجلس واحد، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: صدوقٌ، وليس بحجة، وقال عباس بن عبد العظيم، عن علي بن المدينيّ: سمعت معاذ بن هشام يقول: سَمِعَ أبي من قتادة عشرة آلاف حديث، قال: ثم أخرج إلينا من الكُتُب عن أبيه نحوًا مما قال، فقال: هذا سمعته، وهذا لم
أسمعه، فجعل يُمَيِّزها، وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: معاذ بن هشام عندك حجة؟ قال: أكره أن أقول شيئًا، كان يحيى لا يرضاه، وقال ابن عبدِيّ: ولمعاذ عن أبيه، عن قتادة، حديث كثير، وله عن غير أبيه أحاديث صالحة، وهو رُبَّما يَغْلَط في الشيء، وأرجو أنه صدوقٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس بذاك القويّ، وقال عثمان الدارميّ: قلت ليحيى بن معين: معاذ بن هشام أثبت في شعبة، أو غندر؟ فقال: ثقة، وثقة، وقال ابن قانع: ثقةٌ مأمونٌ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ربيع الآخر سنة مائتين، وفيها أَرَّخَه أبو حاتم، وأبو داود، وغير واحد.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (75) حديثًا.
3 -
(أَبُوهُ) هو: هشام بن أبي عبد الله، واسم أبيه سَنْبَر - بمهملة، ثم نون، ثمّ موحّدة، وزان جعفر - أبو بكر البصريّ الدَّسْتَوائيّ - بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح المثنّاة، ثمّ مدّ - الرَّبَعِيّ، كان يبيع الثياب التي تُجْلَب من دَسْتَوَاء، فنُسِب إليها، ورُبّما قيل له: صاحب الدَّسْتَوَائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7].
روى عن قتادة، ويونس الإسكاف، وشعيب بن الحبحاب، وعامر بن عبد الواحد الأحول، ومطر الورّاق، وأبي الزبير، والقاسم بن عوف، وبُديل بن ميسرة، وأيوب وأبي جعفر الخطميّ، وأبي عِصَام البصريّ، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي نَجِيح، وغيرهم.
وروى عنه ابناه: عبد الله، ومعاذٌ، وشعبة بن الحجاج، وهو من أقرانه، وابن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، وابن مهدي، ويحيى القطان، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وبشر بن المفضل، وعبد الأعلى، وغُندر، ووكيع، وخلق كثير.
قال يزيد بن زريع: كان أيوب قبل الطاعون يأمرنا بهشام، والأخذ عنه، وقال أمية بن خالد، عن شعبة: ما من الناس أحدٌ أقول: إنه طلب الحديث، يريد به وجه الله تعالى إلا هشام، وكان يقول: ليتنا ننجو منه كفافًا، قال شعبة: فإذا كان هشام يقول هذا، فكيف نحن؟ وقال عليّ بن الْجَعْد: سمعت شعبة يقول: كان هشام أحفظ مني عن قتادة، وقال أيضًا: كان أعلم بحديث قتادة
مني، وذكره ابن علية في حفاظ البصرة، وقال أبو هشام الرِّفَاعيّ، عن وكيع، ثنا هشام، وكان ثَبْتًا، وقال يحيى بن معين: كان يحيى بن سعيد، إذا سمع الحديث من هشام لا يبالي أن لا يسمعه من غيره، وقال أبو داود الطيالسيّ: هشام الدَّسْتَوَائيّ أمير المؤمنين في الحديث، وقال أبو حاتم: ثنا أبو نعيم، ثنا هشام الدستوائيّ، وأثنى عليه خيرًا، قال: وما رأيت أبا نعيم يَحُثُّ على أحد إلا على هشام، وقال أبو حاتم: وسألت أحمد بن حنبل عن الأوزاعيّ والدستوائيّ: أيهما أثبت في يحيى بن أبي كثير؟ قال: الدستوائيّ لا تسأل عنه أحدًا، ما أرى الناس يروون عن أحد أثبت منه، أما مثله فعسى، وأما أثبت منه فلا، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: هشام الدستوائي أكثر في يحيى بن أبي كثير من أهل البصرة، وقال في رواية: هو أرفع من شيبان، وقال ابن البراء، عن ابن المدينيّ: الدستوائي ثبت، وقال أبو حاتم: سألت ابن المدينيّ: من أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ فقال: هشام، قلت: ثم أيّ؟ قال: ثم الأوزاعيّ، وسَمَّى غيره، قال: فإذا سمعت عن هشام عن يحيى، فلا تُرِدْ به بَدَلًا، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ ثَبْتٌ في الحديث، حجةٌ، إلا أنه يَرَى القدر، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة، مَنْ أحبّ إليكما من أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ قالا: هشام، قالا: والأوزاعيّ بعده، زاد عن أبي زرعة: لأن الأوزاعيّ ذهبت كتبه، قال: وأثبت أصحاب قتادة هشام وسعيد، قال: وسئل أبي عن هشام وهمام أيهما أحفظ؟ فقال: هشام، وقال البزار: الدستوائيّ أحفظ من أبي هلال، وقال أبو إسحاق الْجُوزجانيّ: كان ممن تَكَلَّم في القدر، وكان من أثبت الناس.
وقال عبد الصمد بن عبد الوارث: كان بينه وبين قتادة في المولد سبع سنين، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائة، قال معاذ بن هشام: عاش أبي ثمانيًا وسبعين سنة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث أو أربع وخمسين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (112) حديثًا.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ المذكور في الباب الماضي.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي أيضًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ، وهو أيضًا دخل البصرة؛ للأخذ عن أهلها.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار، في غير هشام، فقال:"عن قتادة".
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة، من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (92) أو (93)، وهو من المعمّرين، فقد تجاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، والرديف: هو الراكب خلف الراكب على الدابّة، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في حديث معاذ رضي الله عنه، وقوله:(عَلَى الرَّحْلِ) متعلقٌ بحال مقدّر، أي حال كونه راكبًا على الرحل، وهو بفتح الراء، وسكون الحاء المهملة، آخره لام، قال في "القاموس": الرَّحْلُ: مَرْكبٌ للبعير، كالرَّاحُول، جمعه أَرْحُلٌ، ورِحالٌ، ومَسْكَنُكَ، وما تستصحبه من الأثاث، انتهى
(1)
.
وقال في "العباب": الرَّحْلُ رَحْلُ البعير، وهو أصغر من الْقَتَب، وهو من مراكب الرجال، دون النساء، وثلاثةٌ أَرْحُلٌ، والكثيرُ رِحالٌ، وَرَحَلتُ البعيرَ
(1)
"القاموس المحيط" ص 904.
أَرْحَلُهُ رَحْلًا: إذا شدَدْتَ على ظهره رَحْلًا، و"الْقَتَبُ" بالتحريك: رحلٌ صغيرٌ على قدر السَّنَام، انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": "الرَّحْلُ" بإسكان الحاء المهملة، أكثر ما يُستَعمَلُ للبعير، لكن معاذٌ كان في تلك الحالة رديفه صلى الله عليه وسلم على حمار، كما بُيّن في رواية البخاريّ في "الجهاد".
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا مُعَاذُ") منادى مفرد علم، مبنيّ على الضمّ (قَالَ) معاذ رضي الله عنه (لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ) منادى بحذف حرف النداء جوازًا، كما قال الحريريّ في "مُلحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
(وَسَعْدَيْكَ)"اللَّبّ" - بفتح اللام - معناه هنا: الإجابة، و"السَّعْد": المساعدة، وكأنه قال: لَبًّا لك، وإسعادًا لك، ولكنهما ثُنِّيا على معنى التأكيد والتكثير، أي إجابة بعد إجابة، وإسعادًا بعد إسعاد، وقد تقدّم تمام البحث فيهما قريبًا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا مُعَاذُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ الله، وَسَعْدَيْكَ) كرّر النداء والإجابة ثلاثًا؛ للتأكيد، فقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا مِنْ عَبْدٍ) كلمة "ما" للنفي، وكلمة "مِنْ" زائدة للتأكيد، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّ"
وقوله: "عَبد" مجرور اللفظ بـ "من"، مرفوع المحلّ على الإبتداء، ولفظ البخاريّ:"ما من أحد"، وجملة (يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) صفة لـ "عبد"(إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ")، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم عن جميع رواته فيما علمته، وقد زاد البخاريّ فيه:"صدقًا من قلبه"، وهي زيادة حسنة تنصّ على صحّة ما تضمّنته الترجمة المتقدّمة، وعلى فساد مذهب المرجئة، كما قدّمناه، ومعنى صدق القلب تصديقه الجازم بحيث لا يخطُرُ له نقيضُ ما صدّق به، وذلك إما
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 206.
عن برهان، فيكون علمًا، أو عن غيره فيكون اعتقادًا جزمًا، ويجوز أن يُحرِّم الله تعالى من مات على الشهادتين على النار مطلقًا، ومن دخل النار من أهل الشهادتين بكبائره حرّم على النار جميعه، أو بعضه، كما قال في الحديث الآخر:"فتحرّم صورهم على النار"
(1)
، وقال:"حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود"
(2)
، ويجوز أن يكون معناه: إن الله يُحرّمه على نار الكفّار التي تُنضج جلودهم، ثم تُبدّل بعد ذلك، كما قال تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} الآية [النساء: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها، ولا يَحْيَون، ولكنّ ناسًا أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله إماتةً، حتى إذا كانوا فَحْمًا أُذن لهم في الشفاعة
…
" الحديث، وسيأتي للمصنّف
(3)
، انتهى كلام القرطبيّ
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "صدقًا" فيه احتراز عن شهادة المنافق، وقوله:"من قلبه" يمكن أن يتعلق بـ "صدقًا"، أي يشهد بلفظه، ويُصَدِّق بقلبه، ويمكن أن يتعلق بـ "يَشْهَد"، أي يشهد بقلبه، والأول أولى.
وقال الطيبيّ: قوله: "صدقًا" أقيم هنا مُقامَ الاستقامة؛ لأن الصدق يُعَبَّر به قولًا عن مطابقة القول الْمُخْبَرِ عنه، ويُعَبَّر به فعلًا عن تَحَرِّي الأخلاق المرضية، كقوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، أي: حَقَّق ما أورده قولًا بما تَحَرّاه فعلًا، انتهى.
وأراد بهذا التقريرِ رفعَ الإشكال عن ظاهر الخبر؛ لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شَهِدَ الشهادتين النار؛ لما فيه من التعميم والتأكيد، لكن دَلَّتِ الأدلة القطعيةُ عند أهل السنة على أن طائفةً من عصاة المؤمنين يُعَذَّبون، ثم يُخرَجون من النار بالشفاعة، فعلم أن ظاهره غير مراد، فكأنه قال: إن ذلك مُقَيَّدٌ بمن عمل الأعمال الصالحة، قال: ولأجل خفاء ذلك لم يُؤذَن لمعاذ في التبشير به.
(1)
رواه البخاريّ في "صحيحه" رقم (7439).
(2)
متّفق عليه، رواه البخاريّ (6573) ومسلم (182) رقم محمد فؤاد عبد الباقي.
(3)
يأتي برقم (184) رقم محمد فؤاد عبد الباقي.
(4)
"المفهم" 1/ 208 - 209.
وقد أجاب العلماء عن الإشكال أيضًا بأجوبة أخرى:
[منها]: أن مطلقه مقيدٌ بمن قالها تائبًا، ثم مات على ذلك.
[ومنها]: أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة رضي الله عنه كما رواه مسلم في الحديث الماضي، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى رضي الله عنه، رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قَدِمَ فيها أبو هريرة رضي الله عنه.
[ومنها]: أنه خَرَجَ مَخْرَج الغالب؛ إذ الغالب أن الموحِّد يعمل الطاعة، ويجتنب المعصية.
[ومنها]: أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها، لا أصل دخولها.
[ومنها]: أن المراد النار التي أُعِدَّتْ للكافرين، لا الطبقة التي أُفردت لعصاة الموحدين.
[ومنها]: أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته؛ لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم، كما ثبت في حديث الشفاعة، أن ذلك مُحَرَّم عليها، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، والعلم عند الله تعالى، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أقرب الأجوبة عندي الجواب الأخير، وهو الذي قدّمه القرطبيّ رحمه الله تعالى في بحثه السابق، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) معاذ رضي الله عنه (يَا رَسُولَ الله، أَفلَا أُخْبِرُ بِهَا) أي بهذه البشارة (النَّاسَ، فَيَسْتَبْشِرُوا؟) بحذف نون الرفع؛ لكونه منصوبًا بوقوعه بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
ووقع عند البخَاريّ في رواية أبي ذرّ: "فيستبشرون" بثبوت النون، قال في "الفتح": كذا لأبي ذر، أي: فهم يستبشرون، وللباقين بحذف النون، وهو أَوْجَهُ؛ لوقوع الفاء بعد النفي، أو الإستفهام، أو العرض، وهي تنصب في كل ذلك، انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 273.
(2)
"الفتح" 1/ 273.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذًا) هي "إذا" الشرطيّة، حُذف فعل شرطها وعُوِّض عنه التنوينُ
(1)
، كما في قوله تعالى:{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء: 75]، وقوله:{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ} [النساء: 67]، والمعنى: إذا أخبرتهم بها (يَتَّكِلُوا) أي يستندوا إليها، ويتركوا العمل.
وقال في "الفتح": وقوله: "إذًا يَتّكِلوا" - بتشديد المثنّاة المفتوحة، وكسر الكاف - وهو جواب وجزاء، أي إن أخبرتهم يتكلوا، وللأصيليّ، والكشميهنيّ:"يَنْكُلُوا" - بإسكان الكاف - أي يمتنعوا من العمل؛ اعتمادًا على ما يتبادر من ظاهره.
ورَوَى البزار بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في هذه القصة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لمعاذ رضي الله عنه في التبشير، فلقيه عمر رضي الله عنه، فقال: لا تعجل، ثم دخل، فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيًا، إن الناس إذا سَمِعُوا ذلك اتكلوا عليها، قال: فَرَدَّه.
وهذا معدود من موافقات عمر رضي الله عنه، وفيه جواز الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم، واستَدَلّ بعض متكلمي الأشاعرة من قوله:"يتكلوا" على أن للعبد اختيارًا، كما سبق في علم الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عزا في "الفتح" هذا الاستدلال لبعض الأشاعرة، وهو الصواب الذي عليه مذهب السلف رضي الله عنهم.
قال الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله فيما علّقه على "الفتح": هذا الذي عَزاه الشارح لبعض متكلمي الأشاعرة هو قول أهل السنة، وهو أن للعبد اختيارًا، وفعلًا، ومشيئةً، لكن ذلك إنما يقع بعد مشيئة الله تعالى، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28 - 29]، فتنبه، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
(فَأَخْبَرَ بِهَا) أي بهذه البشارة (مُعَاذٌ) رضي الله عنه (عِنْدَ مَوْتِهِ) أي موت معاذ رضي الله عنه،
(1)
كون تنوين "إذا" الشرطيّة للتعويض أثبته جماعة من النحاة، واختاروه، وقد أجاد بحثه العلامة ياسين الحمصيّ في "حاشية التصريح على التوضيح" 1/ 34، فراجعه، فإنه بحث مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وأغرب الكرمانيّ، فقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: ويرده ما رواه أحمد بسند صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال: أخبرني من شَهِدَ معاذًا حين حضرته الوفاة يقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، لم يمنعني أن أحدثكموه، إلا مخافة أن تتكلوا
…
"، فذكره. انتهى
(1)
.
وقوله: (تَأَثُّمًا") - بفتح الهمزة، وتشديد المثلثة المضمومة -: أي تجنّبًا للإثم، يقال: تأثّم فلانٌ: إذا فعل فعلًا خَرَج به من الإثم، كما يُقال: تَحرَّج: إذا فَعَل ما يخرُجُ به من الْحَرَج، قاله ابن الأثير رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "تأثُّمًا": أي تحرّجًا من الإثم، وخوفًا منه، قال الهرويّ وغيره: وتفَعَّل كثيرًا ما يأتي لإلقاء الرجل الشيء عن نفسه، وإزالته عنه، يقال: تَحَنَّثَ، وتحرّج، وتحوّب
(3)
: إذا ألقى عن نفسه ذلك، ومنه فلان يتهجّد، أي يُلقي الْهُجُود - أي النوم - عن نفسه، ومنه امرأةٌ قَذَوَّرٌ: إذا كانت تتجنّب الأقذار، حكاه الثعالبيّ، انتهى
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قال أهل اللغة: تَأَثَّم الرجلُ: إذا فَعَلَ فعلًا يَخرجُ به من الإثم، وتَحَرَّج: أزال عنه الحرَج، وتحنّث: أزال عنه الْحِنْثَ.
ومعنى تَأَثُّم معاذٍ رضي الله عنه أنه كان يحفظ علمًا، يَخاف فواته وذهابه بموته، فخشي أن يكون ممن كَتَمَ علمًا، وممن لم يَمْتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ سنته، فيكون آثمًا، فاحتاط، وأخبر بهذه السنة؛ مخافةً من الإثم، وعَلِمَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن الإخبار بها نهيَ تحريم.
قال القاضي عياض: رحمه الله تعالى: لعل معاذًا لم يَفْهَم من النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي، لكن كسر عزمه عما عَرَضَ له من بشراهم، بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من لقيتَ يشهد أن لا إله إلا الله، مستقينًا بها قلبُهُ، فبشره
(1)
"الفتح" 1/ 274.
(2)
"النهاية" 1/ 24.
(3)
التَّحُّوبُ: التوجُّعُ، وتركُ الْحُوب أي الإثم، كالتأثُّم، أفاده في "القاموس" ص 73.
(4)
"المفهم" 1/ 209.
بالجنة"، قال: أو يكون معناه: بلغه بعد ذلك أمرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، وخاف أن يكتم علمًا عَلِمَه، فيأثم، أو يكون حَمَلَ النهي على إذاعته.
قال النوويّ: وهذا الوجه ظاهرٌ، وقد اختاره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى، فقال: مَنْعُهُ من التبشير العامّ؛ خوفًا من أن يَسْمَعَ ذلك مَن لا خِبْرَة له، ولا علم، فيغترّ، وَيتَّكِل، وأخبر به صلى الله عليه وسلم على الخصوص من أَمِنَ عليه الإغترار والإتكال، من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذًا، فسلك معاذٌ هذا المسلك، فأخبر به من الخاصة مَن رآه أهلًا لذلك، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي اختاره ابن الصلاح رحمه الله تعالى، سيأتي قريبًا ما يضعفه - إن شاء الله تعالى -.
وقال في "الفتح": قوله: "تأثّمًا": أي خشيةَ الوقوع في الإثم، والمراد بالإثم هو الحاصلُ من كتمان العلم، ودَلَّ صنيع معاذ رضي الله عنه على أنه عَرَفَ أن النهي عن التبشير، كان على التَّنْزِيه، لا على التحريم، وإلا لَمَا كان يخبر به أصلًا، أو عَرَفَ أن النهي مُقَيَّدٌ بالإتكال، فأخبر به من لا يَخْشَى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيد، والأول أوجه؛ لكونه أخَّر ذلك إلى وقت موته انتهى
(2)
.
وقال في محلّ آخر: قوله: "فأخبر بها معاذ عند موته تَأَثّمًا": معنى التأثم: التحرُّج من الوقوع في الإثم، وهو كالتحنُّث، وإنما خشي معاذ رضي الله عنه من الإثم المرتب على كتمان العلم، وكأنه فَهِمَ من منع النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يخبر بها إخبارًا عامًّا؛ لقوله:"أفلا أبشر الناس؟ "، فأخذ هو أوّلًا بعموم المنع، فلم يخبر بها أحدًا، ثم ظَهَرَ له أن المنع إنما هو من الإخبار عمومًا، فبادر قبل موته، فأخبر بها خاصًّا من الناس، فجمع بين الحكمين، ويُقَوِّي ذلك أن المنع لو كان على عمومه في الأشخاص، لَمَا أخبر هو بذلك، وأخذ منه أن من كان في مثل مقامه في الفهم، أنه لم يُمنَع من إخباره.
وقد تُعُقِّب هذا الجواب بما أخرجه أحمد من وجه آخر، فيه انقطاع، عن معاذ رضي الله عنه أنه لَمّا حضرته الوفاة قال: أَدْخِلوا عليّ الناس، فأُدخِلوا عليه،
(1)
"شرح مسلم" 1/ 240 - 241.
(2)
"الفتح" 1/ 274.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئًا، جعله الله في الجنة"، وما كنت أحدثكموه إلا عند الموت، وشاهدي على ذلك أبو الدرداء، فقال: صَدَقَ أخي، وما كان يحدثكم به إلا عند موته.
وقد وقع لأبي أيوب رضي الله عنه مثل ذلك، ففي "المسند" من طريق أبي ظَبْيان، أن أبا أيوب رضي الله عنه غزا الروم، فمَرِض، فلما حُضِرَ، قال: سأحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لولا حالي هذه ما حدثتكموه، سمعته يقول:"من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة".
وإذا عُورِضَ هذا الجواب، فأُجيب عن أصل الإشكال بأن معاذًا اطّلَعَ على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريمَ، بدليل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبا هريرة رضي الله عنه أن يبشر بذلك الناس، فلقيه عمر رضي الله عنه، فدفعه
…
" الحديث.
فكأنّ قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "أخاف أن يَتّكِلوا"، كان بعد قصة أبي هريرة رضي الله عنه، فكان النهي للمصلحة، لا للتحريم، فلذلك أخبَرَ به معاذ رضي الله عنه لعموم الآية بالتبليغ، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تلخّص مما سبق أن أقرب الأجوبة عن الإستشكال المذكور أنّ معاذًا رضي الله عنه فهم أن النهي من باب رعاية المصلحة والأولويّة، لا من باب التحريم، فترك الإخبار به حياته عملًا بظاهر النهي، فلمّا دنا أجله، وخشي موته دون أن يبلّغ ما تحمّله رأى المصلحة في إخباره به؛ إبقاءً للعلم، وهذا توجيه حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(11/ 155) عن إسحاق بن منصور، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عنه.
(1)
"الفتح" 1/ 275.
و (البخاريّ) في "العلم" 1/ 44 (128) عن إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام به.
و (أبو نعيم) في "مستخرجهِ (142) و (أبو عوانة) في "مسنده" (29).
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله تعالى من طريق سليمان التَّيْمِيّ، قال: سمعت أنس بن مالك، قال ذُكِرَ لي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل:"من لَقِيَ الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة"، قال: ألا أُبَشِّرُ الناسَ؟ قال: "لا، إني أخاف أن يتكلوا".
قال في "الفتح": قوله: "ذُكِرَ لي" هو بالضم على البناء لِمَا لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يُسَمِّ أنس مَن ذَكر له ذلك في جميع ما وقفتُ عليه من الطرق، وكذلك جابر بن عبد الله، كما قدمناه من عند أحمد؛ لأن معاذًا إنما حَدَّث به عند موته بالشام، وجابر وأنس إذ ذاك بالمدينة، فلم يشهداه، وقد حَضَرَ ذلك من معاذ عمرُو بن ميمون الأوديّ، أحدُ المخضرمين، كما جاء ذلك في رواية البخاريّ في "كتاب الجهاد"، ورواه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن سَمُرَة الصحابي المشهور رضي الله عنه أنه سمع ذلك من معاذ أيضًا، فيحتمل أن يُفَسَّر المبهم بأحدهما، والله تعالى أعلم.
ثم قال: أورد الْمِزّيّ في "الأطراف" هذا الحديث في مسند أنس، وهو من مراسيل أنس، وكان حقه أن يذكره في المبهمات.
وقوله: "من لَقِيَ الله"، أي من لقي الأجل الذي قدّره الله - يعني الموت - كذا قاله جماعة، ويحتمل أن يكون المراد البعثَ، أو رؤية الله تعالى في الآخرة.
وقوله: "لا يشرك به"، اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ مَن كَذَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كَذَّب الله تعالى، ومن كذب الله تعالى، فهو مشرك، أو هو مثل قول القائل:"من توضأ صحت صلاته"، أي مع سائر الشرائط، فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به، وليس في قوله:"دخل الجنة" من الإشكال ما تقدم في سياق الحديث الماضي؛ لأنه أعمّ من أن يكون قبل التعذيب أو بعده.
وقوله: "لا" هي للنهي، وليست داخلة على "أخاف"، بل المعنى: لا تبشر، ثم استأنف، فقال:"أخاف"، وفي رواية كريمة:"إني إخاف" بإثبات التعليل، وللحسن بن سفيان في "مسنده" عن عبيد الله بن معاذ عن معتمر:"قال: لا، دَعْهُمْ، فليتنافسوا في الأعمال، فإني أخاف أن يتكلوا"، انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيق نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[156]
(33) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - قَالَ: حَدَّثنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَني مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيع، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ عِتْبَانَ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ، قَالَ: أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْء، فَبَعَثْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأَتِيَنِي، فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَصْحَابِه، فَدَخَلَ، وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِي، وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ وَكُبْرَهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُم، قَالُوا: وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، وَوَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَرٌّ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، وَقَالَ: "أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ "، قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ فِي قَلْبِه، قَالَ: "لَا يَشْهدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله، فَيَدْخُلَ النَّارَ - أَوْ - تَطْعَمَهُ"، قَالَ أَنَسٌ: فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثُ، فَقُلْتُ لِابْنِي: اكْتُبْهُ، فَكَتَبَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) هو: شَيْبان بن أبي شَيْبَة الْحَبَطِيّ - بمهملة، وموحّدة مفتوحتين - مولاهم، أبو محمد الأُبُلّيّ - بضم الهمزة، والموحّدة، وتشديد اللام - صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9].
روى عن جرير بن حازم، وأبي الأشهب الْعُطَارديّ، وأبان بن يزيد
(1)
"الفتح" 1/ 275 - 276.
العطار، وحماد بن سلمة، وسلام بن مسكين، وعبد الوارث عن سعيد، وسليمان بن المغيرة، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى له أبو داود والنسائي بواسطة أبي بكر الأحمدين: ابنِ إبراهيم العطار، وابنِ علي بن سعيد المروزيّ، وزكرياء بن يحيى السِّجْزيّ، وأبو يعلى، والحسن بن سفيان، وَبَقِيّ بن مَخْلَد، وجعفر بن محمد الفريابيّ، وعبد الله بن أحمد، وعبدان الأهوازي، وعثمان الدارميّ، وموسى بن هارون، وغيرهم.
قال أحمد بن سعد بن إبراهيم، عن أحمد بن حنبل: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: صدوقٌ، وقال أبو حاتم: كان يَرَى الْقَدَر، واضطَرَّ الناس إليه بأَخَرَة، وقال ابنُ قانع: صالحٌ، وقال مسلمة: ثقةٌ، وقال الساجيّ: قَدَريّ، إلا أنه كان صدوقًا.
وقال أبو الشيخ، عن عبدان الأهوازيّ، كان شيبان أثبت عندهم من هُدْبة، مولده في حدود سنة (140)، ومات سنة (236)، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأَرَّخَها ابن قانع سنة (6).
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (93) حديثًا.
[تنبيه]: قوله: "ابن فَرُّوخ" هو بفتح الراء، وضم الراء المشدّدة، وبالخاء المعجمة، غير مصروف؛ للعجمة والعلمية، قال صاحب "كتاب العين": فَرُّوخ اسم ابن لإبراهيم الخليل عليه السلام، هو أبو العجم، وكذا نقل صاحب "المطالع" وغيره أن فَرُّوخ ابن لإبراهيم عليه السلام، وأنه أبو العجم، وقد نص جماعة من الأئمة على أنه لا يَنصرف لما ذكرناه، قاله النوويّ
(1)
.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنَ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة، أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا [7](ت 165)(ع) 3/ 110.
3 -
(ثَابِتٌ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت سنة بضع و 120)(ع) 3/ 110.
(1)
"شرح مسلم" 1/ 242.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.
5 -
(مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ) بن سُرَاقة بن عمرو بن زيد بن عبدة بن عامر بن عديّ بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ الْخَزْرَجي، أبو نعيم، ويقال: أبو محمد المدنيّ، ويقال في نسبه غير ذلك، كان خَتَنَ عبادةَ بن الصامت.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عِتْبان بن مالك، وعُبادة، وأبي أيوب، وروى عنه أنس بن مالك، والزهريّ، ورَجَاء بن حَيْوَة، ومكحول الشاميّ، وهانئ بن كُلْثوم، وأبو بكر بن أنس، نزيلُ بيت المقدس.
قال البغويّ: سكن المدينة، وروى أنه عَقَل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّها من دلو في دارهم، أخرجه البخاريّ من طرُق عن الزهريّ عنه، وهو عند مسلم في أثناء حديث، وأخرجه البغويّ من طريق الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن محمود، قال: ما أنسى مجّةً مجّها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر في دارنا في وجهي، ووقع في بعض طرقه: وأنا ابن خمس سنين
(1)
.
قال الواقديّ: وإبراهيم بن المنذر: مات سنة تسع وتسعين، وهو ابن ثلاث وتسعين.
قال الحافظ: فعلى هذا يكون مولده سنة ست، فيكون له عن عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم أربع سنين، أو يكون دخل في الخامسة، فقد رَوَى الطبراني بسند صحيح عنه أنه قال: تُوُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن خمس سنين، وقال ابن حبان في "الصحابة": مات سنة تسع، وهو ابن أربع وتسعين، وأكثر رواياته عن الصحابة وأمه جميلة بنت صَعْصَعَة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: له رؤية، وليست له صحبة، وقال العجليّ: ثقةٌ، من كبار التابعين
(2)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم
(3)
(33) و (874) وكرّره ثلاث مرّات، (و 1496).
(1)
"الإصابة" 6/ 33.
(2)
"تهذيب الكمال" 27/ 301 - 302 و"تهذيب التهذيب" 4/ 35 - 36.
(3)
ترقيم نسخة دار السلام.
6 -
(عِتْبَانُ بْنُ مَالِك) بن عمرو بن الْعَجْلان بن زيد بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاريّ السَّالِمِيّ البدريّ.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس، ومحمود بن الربيع، والحصين بن محمد السالميّ، وأبو بكر بن أنس بن مالك، قال ابن عبد البر: لم يذكره ابن إسحاق في البدريين، وذكره غيره، ومات في خلافة معاوية، وذكر ابن سعد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، آخى بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
أخرج له البخاريّ، والمصنف، وأبو داود في "مسند مالك"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث رقم (874)، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن شيخه، ومحمود بن الربيع، وعتبان بن مالك هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لشيخه (93) حديثًا، ولمحمود رضي الله عنه ثلاثةٌ، ولعتبان رضي الله عنه حديثان فقط، كما أسلفناه آنفًا.
3 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بشيبان في الكتب الستة أربعة:
[الأول]: شيبان بن أُميّة القتبانيّ المصريّ، مجهول من الطبقة الثالثة، عند أبي داود.
[الثاني]: شيبان بن عبد الرحمن النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة من السابعة، عند الجماعة.
[الثالث]: شيخ المصنّف هذا المترجم هنا.
[الرابع]: شيبان بن مُحَزِّم - بفتح المهملة، وكسر الزاي المثقّلة، ضبطه هكذا ابن ماكولا، مقبول من الطبقة الثالثة، عند النسائيّ في "مسند عليّ رضي الله عنه".
4 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وغير عتبان رضي الله عنه، فلم يُخرج له الترمذيّ أصلًا، وأبو داود في "سننه".
5 -
(ومنها): أنه اجتمع فيه ثلاثة صحابيون، روى بعضهم عن بعض، وهم: أنسٌ، ومحمود، وعتبان رضي الله عنهم.
6 -
(ومنها): أن رواية أنس عن محمود من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإنه أكبر منه سنًّا وعلمًا ومرتبةً رضي الله عنهم أجمعين.
7 -
(ومنها): أن قوله: "حدثني ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: حدثني محمود بن الربيع، عن عِتْبَانَ بن مالك، قال: قدمت المدينة، فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك"، هذا اللفظ شبيه بما تقدَّم في الباب الماضي من قوله:"عن ابن محيريز، عن الصُّنابحيّ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه"، وقد قدَّمنا بيانه واضحًا، وتقرير هذا الذي نحن فيه: حدثني محمود بن الربيع، عن عتبان بحديثٍ قال فيه محمود: قَدِمتُ المدينة، فلقيتُ عتبان، وقد قال في الرواية الثانية: عن ثابت، عن أنس، قال: حدثني عتبان بن مالك، وهذا لا يُخالف الأول؛ فإن أنسًا سمعه أوّلًا من محمود، عن عتبان رضي الله عنهم، ثم اجتمع أنس بعتبان، فسمعه منه، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن محمودًا، وعتبان رضي الله عنهما من المقلّين من الرواية، فليس لعتبان رضي الله عنه إلا هذا الحديث عندهم إلا أبا أبا داود، والترمذيّ
(1)
، ولا لمحمود رضي الله عنه غير هذا الحديث عند الشيخين، والنسائيّ، وابن ماجه، وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في قراءة الفاتحة في الصلاة عندهم
(2)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ) بفتح الراء، مكبّرًا (عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ) بكسر العين المهملة، وبعدها تاء مثنّاة من فوقُ ساكنة، ثم باء موحدة، قال النوويّ: وهذا الذي ذكرناه من كسر العين، هو الصحيح المشهور الذي لم يَذْكُر الجمهور سواه، وقال صاحب "المطالع": وقد ضبطناه من طريق ابن سَهْل بالضم أيضًا، انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 514 - 516.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 41 - 42.
(3)
"شرح مسلم" 1/ 242.
(قَالَ) أي محمود (قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ) النبويّة، أي راجعًا من غزوة الروم، كما بُيِّن في رواية أخرى، فإن الحديث مختصرٌ، وقد ساقه النسائيّ رحمه الله تعالى مطوّلًا في "السنن الكبرى" 6/ 272 فقال:
(10947)
- أخبرنا سُويد بن نصر، قال: حدثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - عن معمر، عن الزهريّ، قال: أخبرني محمود بن الربيع، زعم أنه عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَقَلَ مَجَّةً مَجَّها من دلو كانت في دارهم، قال: سمعت عِتْبان بن مالك الأنصاريّ، ثم أحدَ بني سالم يقول: كنت أصلي لقومي بني سالم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني قد أنكرت بصري، وإن السيول تَحُول بيني وبين مسجد قومي، فلَوَدِدْتُ أنك جئت، فصليت في بيتي مكانًا أتَّخِذُه مسجدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَفْعَلُ - إن شاء الله تعالى -"، فغدا عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر معه، بَعْدَمَا اشتدّ النهارُ، فاستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال:"أين تُحِبُّ أن أصلي من بيتك"، فأشرت له إلى المكان الذي أُحِبّ أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْنا خلفه، ثم سَلَّم، وسَلَّمنا حين يسلم، فحَبَسْنَاه على خَزِيرٍ صُنِع له، فسمع به أهل الدار، فثابوا حتى امتلأ البيت، فقال رجل: أين مالك بن الدخشم؟ فقال رجل منا: ذاك رجل منافقٌ، لا يحب الله ورسوله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا تقولونه
(1)
يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله؟ "، قال: أما نحن فَنَرَى وجهه وحديثه إلى المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: "ألا تقولونه يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله؟ "، قال: بلى، أُرَى يا رسول الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لن يوافي عبدٌ يومَ القيامة، وهو يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله، إلا حَرَّم الله عليه النار".
قال محمود: فحَدَّثتُ قومًا، فيهم أبو أيوب، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي تُوُفّي فيها، مع يزيد بن معاوية، فأَنْكَر ذلك عليَّ، وقال: ما أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما قلتَ قط، فَكَبُرَ ذلك عليَّ، فجعلت لله عليّ إن سَلَّمني، حتى أَقْفُلَ من غزوتي، أن أسأل عنها عتبان بن مالك إن وجدته حيًّا،
(1)
"أي: تظنّونه"، فالقول هنا بمعنى الظنّ.
فأهللتُ من إيلياء بحج وعمرة
(1)
، حتى قَدِمْتُ المدينة، فأتيتُ بني سالم، فإذا عتبان بن مالك شيخ كبير، قد ذهب بصره، وهو إمام قومه، فلما سَلَّم من صلاته جئته، فسلمتُ عليه، وأخبرته مَنْ أنا، فحدثني كما حدثني به أولَ مَرَّةٍ، انتهى
(2)
.
(فَلَقِيتُ عِتْبَانَ) بن مالك رضي الله عنه (فَقُلْتُ: حَدِيثٌ) التنوين للتعظيم، أي حديث عظيم، وهو مبتدأ، سوّغه كونه فاعلًا في المعنى، أو الوصف المقدّر، وخبره جملة قوله:(بَلَغَنِي عَنكَ) ومراده بهذه الجملة السؤال عن الحديث، كأنه قال: حَدَّثني به.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "بلغني عنك" هذا لا يُخالف ما تقدّم في رواية النسائيّ المطولة مما يقتضي أنه سمعه منه أوّلًا؛ لاحتمال أن يكون قوله: "بلغني عنك"؛ لأجل أن يعتني عتبان بتحديثه الحديثَ على الوجه؛ إذ لو علم أنه سمعه منه قبل هذا ربّما اختصر الحديث، ولم يُحدّثه مفصّلًا؛ لعلمه أنه سمعه منه قبل هذا، وأما إذا علم أنه لم يسمعه منه أصلًا، فيعتني بتحديثه مستوعبًا مفصّلًا، ويحتمل أن يكون سمعه منه ومن غيره، ثم لَمّا أراد الآن أن يُحدّثه لإزالة إنكار أبي أيوب رضي الله عنه عليه، ترك سماعه منه؛ لما ذكرناه، وذكر سماعه من غيره، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) عتبان رضي الله عنه (أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ) وقال في الرواية الأخرى: "عَمًى"، فَيحْتَمِل أنه أراد ببعض الشيء العمى، وهو ذهاب البصر جميعه، ويَحتمل أنه أراد ضعف البصر، وذهاب معظمه، وسَمّاه عَمًى في الرواية الأخرى؛ لقربه منه، ومشاركته إيّاه في فوات بعض ما كان حاصلًا في حال السلامة. قاله النوويّ.
وفي الرواية الآتية في "الصلاة" من طريق الزهريّ، عن محمود، وهي رواية البخاريّ: "أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري
…
".
(1)
هذا رأي له، والسنة هو الإحرام من الميقات التي حدّدها الشارع، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في "كتاب الحجّ" - إن شاء الله تعالى -.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 272.
قال في "الفتح": قوله: "قد أنكرت بصري"، كذا ذكره جمهور أصحاب ابن شهاب كما للمصنف من طريق إبراهيم بن سَعْد ومعمر، ولمسلم من طريق يونس، وللطبرانيّ من طريق الزُّبَيْديّ، والأوزاعيّ، وله من طريق أبي أويس:"لَمّا ساء بصري"، وللإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن نَمِر:"جَعَلَ بصري يَكِلُّ"، ولمسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت:"أصابني في بصري بعض الشيء"، وكل ذلك ظاهرٌ في أنه لم يكن بَلَغَ العمى إذ ذاك.
لكن أخرجه البخاريّ في "باب الرخصة في المطر" من طريق مالك، عن ابن شهاب، فقال فيه: "إنّ عتبان كان يؤم قومه، وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر
…
" الحديث.
وقد قيل: إن رواية مالك هذه معارِضَةٌ لغيره، قال الحافظ: وليست عندي كذلك، بل قول محمود:"إن عتبان كان يؤم قومه، وهو أعمى"، أي حين لقيه محمود، وسمع منه الحديث، لا حين سؤاله للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويبينه قوله في رواية يعقوب:"فجئت إلى عتبان، وهو شيخ أعمى، يؤمّ قومه"، وأما قوله:"وأنا رجل ضرير البصر": أي أصابني فيه ضُرّ، كقوله:"أنكرت بصري"، ويؤيد هذا الحمل قوله في رواية ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد أيضًا:"لَمّا أنكرت من بصري"، وقوله في رواية مسلم:"أصابني في بصري بعض الشيء"، فإنه ظاهر في أنه لم يَكْمُل عماه، لكن رواية مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، بلفظ:"إنه عَمِيَ، فأرسل".
وقد جمع ابنُ خزيمة بين رواية مالك وغيره، من أصحاب ابن شهاب، فقال: قوله: "أنكرت بصري"، هذا اللفظ يُطْلَق على من في بصره سُوء، وإن كان يُبْصر بَصَرًا ما، وعلى من صار أعمى لا يُبصر شيئًا، انتهى.
والأَوْلَى أن يقال: أَطْلَق عليه "عَمِيَ"؛ لقربه منه، ومشاركته له في فوات بعض ما كان يَعْهَدُه في حال الصحة، وبهذا تأتلف الروايات، انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 1/ 619.
(فَبَعَثْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي الرواية الآتية في "الصلاة": "إنه أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
"، فيَحتَمِل أن يكون في هذه الرواية نَسَبَ إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا، وَيحتَمِل أن يكون أتاه مرةً، وبَعَث إليه أخرى، إمّا متقاضيًا، وإما مُذَكِّرًا، وفي الطبرانيّ من طريق أبي أُويس، عن ابن شهاب بسنده أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم يومَ جمعة: لو أتيتني يا رسول الله"، وفيه أنه أتاه يوم السبت، وظاهره إن مخاطبة عتبان بذلك كانت حقيقةً لا مجازًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
(أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي) وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج": "فقلت: يا رسول الله، إنه قد أصابني في بصري بعض الشيء، فأنا أُحبّ أن تأتيني، فَتُصَلِّيَ
…
"، (فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي، فَأَتِّخِذَهُ مُصَلَّى) بصيغة اسم المفعول، أي مكان صلاة، زاد في رواية ابن شهاب: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله" (قَالَ) عتبان رضي الله عنه (فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أبي نُعيم: "فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن شاء من أصحابه، حتى أتاني
…
" (وَ) أتى معه (مَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَصْحَابِهِ) فيه إشارة إلى أن جماعة من الصحابة جاؤوا معه، وفي رواية ابن شهاب الآتية في "الصلاة": "قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدّيق حين ارتفع النهار"، قال في "الفتح": ولم يذكر جمهور الرواة عن ابن شهاب غير أبي بكر رضي الله عنه، حتى إن رواية الأوزاعيّ: "فاستأذنا، فأذنت لهما"، لكن في رواية أبي أويس: "ومعه أبو بكر وعمر"، وللطبراني من وجه آخر عن أنس: "في نفر من أصحابه".
فيَحْتَمِل الجمع بأن أبا بكر رضي الله عنه صَحِبَهُ وحده في ابتداء التوجه، ثم عند الدخول، أو قبله اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه، انتهى.
(فَدَخَلَ) أي البيت، وقوله:(وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلي) جملة حاليّة من مقدّر، توضّحه الروايات الأخرى، تقديره: فلما دخل البيت، سأل عن المكان الذي أُحبّ أن يُصلي فيه، فأريته المكان، فقام، فقوله:"وهو يُصَلِّي"، حال من فاعل "قام"، يوضّح ذلك رواية ابن شهاب الآتية في "الصلاة" بلفظ: "فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: أين تُحبّ أن أصلي من بيتك، قال: فأشرت
(1)
المصدر السابق.
له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبّر
…
"، وفي رواية أبي نعيم: "فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي، وأصحابه يتحدّثون
…
" (وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ) جملة حاليّة أيضًا، أي والحال أن أصحابه صلى الله عليه وسلم يتحدّثون (ثُمَّ أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ) - بضم العين، وإسكان الظاء - أي معظمه، والإشارة إلى تحديثهم (وَكُبْرَهُ) - بضم الكاف، وكسرها - لغتان فصيحتان مشهورتان، وذكرهما في هذا الحديث القاضي عياض وغيره، لكنهم رَجّحوا الضم، وقُرئ قول الله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] بكسر الكاف وضمها، والكسر قراءة القراء السبعة، والضم في الشواذ
(1)
، قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي المفسر رحمه الله تعالى: قراءة العامة بالكسر، وقراءة حُميد الأعرج، ويعقوب الحضرميّ بالضم، قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأٌ، وقال الكسائيّ: هما لغتان، ومعنى قوله:"أسندوا عظم ذلك وكبره": أنهم تحدَّثُوا، وذكروا شأن المنافقين وأفعالهم القبيحة، وما يَلْقَون منهم، ونَسَبُوا مُعْظَم ذلك إلى مالك بن دُخْشُم".
وفي رواية أبي نعيم: "وأصحابه يتحدّثون، ويذكرون المنافقين، وما يَلْقَونه منهم، حتى ارتفعت أصواتهم، واشتدّت، فذكروا مالك بن الدخشم، ويرون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليه، فأصابه بعض الشيء".
وقوله: (إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ) متعلّق بـ "أسندوا"، و"دُخْشُم" - بضم الدال المهملة، وإسكان الخاء المعجمة، وبعدها ميم -.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا ضبطناه في الرواية الأولى، وضبطناه في الثانية بزيادة ياء بعد الخاء، على التصغير، وهكذا هو في معظم الأصول، وفي بعضها في الثانية مكبرٌ أيضًا، ثم إنه في الأولى بغير ألف ولام، وفي الثانية بالألف واللام.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: رَوَيناه "دُخْشُم" مكبرًا، و"دُخَيْشِم" مصغرًا، قال: ورويناه في غير مسلم بالنون، بدلَ الميم، مكبرًا ومصغرًا.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: "دخشم" بدال مهملة
(1)
في كون قراءة حميد الأعرج، ويعقوب من الشواذ نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم.
مضمومة، ثم خاء معجمة ساكنة، ثم شين مثلثة مضمومة، ثم ميم، وقيل فيه:"الدُّخْشُن" بالنون، ويقال أيضًا:"الدِّخْشِن - بكسر الدال والشين -، وجاء مصغّرًا ومكبّرًا فيهما، غير أن الواقع فيه في روايتنا في "كتاب مسلم"، وفي أصولنا به في رواية مسلم الأولى بالميم مكبّرًا، وهو في أكثرها بغير ألف ولام في الرواية، وهو في الرواية الثانية مصغّر، وبالميم أيضًا، وبالألف واللام، إلا في أصل أبي حازم الحافظ بخطّه، فإنه مكبّر فيه في الثانية أيضًا، والله تعالى أعلم
(1)
.
[تنبيه]: (اعلم): أن مالك بن دُخْشُم هذا من الأنصار، ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى اختلافًا بين العلماء في شهوده العقبة، قال: ولم يختلفوا أنه شهد بدرًا وما بعدها من المشاهد، قال: ولا يصح عنه النفاق، فقد ظَهَر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه، انتهى.
قال النوويّ: وقد نَصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على إيمانه باطنًا، وبراءته من النفاق بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاريّ
(2)
رحمه الله تعالى: "ألا تَرَاه قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله تعالى"، فهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأنه قالها مُصَدِّقًا بها، مُعْتَقِدًا صدقها، مُتقرِّبًا بها إلى الله تعالى، وشَهِد له في شهادته لأهل بدر بما هو معروف، فلا ينبغي أن يُشَكَّ في صدق إيمانه رضي الله عنه، انتهى.
وقال في "الفتح": قال ابن عبد البر: لم يُختَلف في شهود مالك بدرًا، وهو الذي أَسَرَ سهيل بن عمرو، ثم ساق بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن تكلم فيه:"أليس قد شَهِدَ بدرًا؟ "، قال: وفي "المغازي" لابن إسحاق: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مالكًا هذا، ومَعْنَ بن عَدِيٍّ، فحَرَّقا مسجد الضرار، فدل على أنه بريء مما اتُّهِمَ به من النفاق، أو كان قد أقلع عن ذلك،
(1)
"الصيانة" ص 193 - 194.
(2)
قوله: في رواية البخاريّ يوهم أنه تفرّد بها، وليس كذلك، فإنها ستأتي للمصنّف أيضًا في "كتاب الصلاة"، في "باب الرخصة في التخلّف عن الجماعة لعذر" وجعلوا له رقم (1496) 263 الأول رقم تحقيق دار السلام، والثاني رقم محمد فؤاد عبد الباقي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
أو النفاق الذي اتُّهِم به ليس نفاق الكفر، إنما أنكر الصحابة عليه تَوَدُّده للمنافقين، ولعل له عذرًا في ذلك، كما وقع لحاطب رضي الله عنه، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأخير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
(قَالُوا) أي الصحابة المتحدّثون (وَدُّوا) هكذا في هذه الرواية بلفظ الغيبة، وفيه التفات، إذ الظاهر وَدِدْنَا بالتكلّم، أي تمنّوا (أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (دَعَا عَلَيْهِ) أي على مالك (فَهَلَكَ) فيه جواز تمنّي هلاك أهل النفاق والشقاق، والبدع (وَوَدُّوا أَنَّهُ) أي مالكًا (أَصَابَهُ شَرٌ) قال النوويّ: هكذا هو في بعض الأصول "شَرٌّ"، وفي بعضها "بِشَرّ" بزيادة الباء الجارة، وفي بعضها "شيء"، وكله صحيح، انتهى. (فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ) أي انتهى منها، وسلّم، وفي رواية أبي نُعيم:"فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة، التَفَتَ إليهم، فقال: أليس يشهد إلخ"(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ردًّا لما قالوه في مالك رضي الله عنه ("أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ "، قَالُوا: إِنّهُ) أي مالكًا (يَقُولُ ذَلِكَ) أي بلسانه (وَمَا هُوَ) أي قوله (فِي قَلْبِهِ) أي لا يعتقده، ولا يستيقن به (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله، فَيَدْخُلَ النَّارَ) بنصب "يدخلَ" بـ "أن" مضمرةً بعد الفاء الجوابيّة للنفي، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَاجَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَترُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
(أَوْ) للشكّ من الراوي (تَطْعَمَهُ) أي تأكله، وفي رواية ابن شهاب:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله قد حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله".
(قَالَ أَنَسٌ) أي ابن مالك رضي الله عنه الراوي له عن محمود رضي الله عنه (فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثُ) وفي رواية أبي نُعيم: "قال أنسٌ: فلقيتُ عتبان بن مالك، فحدّثني بهذا الحديث، فأعجبني، وقلت لابني: فكتبه"(فَقُلْتُ لِابْنِي: اكْتُبْهُ، فَكَتَبَهُ) فيه حرص أنس رضي الله عنه على العلم، وشدّة عنايته به، حيث لم يكتف بحفظه، بل أمر ابنه أن يكتبه، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 1/ 621.
[تنبيه]: سيأتي في "كتاب الصلاة" أن أبا أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه سمع محمودَ بن الربيع يحدث به عن عتبان، فأنكره عليه، لِمَا يقتضيه ظاهره من أن النار محرَّمة على جميع الموحدين، وأحاديث الشفاعة دالّةٌ على أن بعضهم يُعَذَّب.
لكن للعلماء أجوبة عن ذلك:
منها: ما رواه مسلم عن ابن شهاب أنه قال عقب حديث الباب: ثم نزلت بعد ذلك فرائض، وأمور نُرَى أن الأمر قد انتهى إليها، فمن استطاع أن لا يَغْتَرّ فلا يغتر.
وفي كلامه نظر؛ لأن الصلوات الخمس نزل فرضها قبل هذه الواقعة قطعًا، وظاهره يقتضي أن تاركها لا يُعَذَّب إذا كان موحدًا.
وقيل: المراد أن من قالها مخلصًا، لا يترك الفرائض؛ لأن الإخلاص يَحْمِل على أداء اللازم، وتُعُقِّب بمنع الملازمة.
وقيل: المراد تحريم التخليد، أو تحريم دخول النار الْمُعَدَّة للكافرين، لا الطبقة المعدة للعصاة.
وقيل: المراد تحريم دخول النار بشرط حصول قبول العمل الصالح، والتجاوز عن السيء، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم تحقيق القول في هذا قريبًا، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(11/ 156) عن شيبان بن فرّوخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، عن محمود بن الربيع، عنه،
(1)
"الفتح" 1/ 622.
و (11/ 157) عن أبي بكر بن نافع، عن بهز بن أسد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت به، ولم يذكر محمود بن الربيع، وفي "الصلاة"(263) عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ، عن محمود بن الربيع، عنه و (264) عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ به، و (265) عن إسحاق بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ به.
وأخرجه (البخاريّ) في "الصلاة"(838) عن حِبّان بن موسى - وفي "الرقاق"(6422) عن معاذ بن أسد - وفي "استتابة المرتدّين"(6938) و"الصلاة" أيضًا (840) عن عبدان - ثلاثتهم عن ابن المبارك، عن معمر - وفي "الصلاة" أيضًا (667) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك - و (1185) عن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه - وفيه (424) وفي "المغازي" عن القعنبيّ، عن إبراهيم بن سعد - وفيهما عن سعيد بن عُفير - وفي "الأطعمة"(5401) وفي "المغازي" أيضًا (4010) عن أحمد بن صالح، عن عنبسة، عن يونس - خمستهم عن الزهريّ به.
وعندهما في حديث يونس، عن الزهريّ، قال: ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاريّ عن حديث محمود فصدّقه.
و (النسائيّ) في "الصلاة"(863) عن هارون بن عبد الله، عن معن - و (863) عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، كلاهما عن مالك به، و (918) عن نصر بن عليّ، عن عبد الأعلى، عن معمر به، وفيه (1250) وفي "التفسير"(11494) عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك به، وفي "عمل اليوم والليلة"(1105) عن أبي بكر بن نافع به، و (1109) عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: سألت الحصين بن محمد الأنصاريّ عن حديث محمود؟ فصدّقه، و (1107) وفي "التفسير"(11494) عن عمرو بن عليّ، عن ابن مهديّ، عن سليمان بن المغيرة به، وذكر فيه قصّة محمود بن الربيع، و (1106) عن محمد بن عليّ بن ميمون الرّقّيّ، عن القعنبيّ، عن سليمان بن المغيرة، بقصّة الشهادتين، ولم يذكر محمود بن الربيع، وأعاد فيه (1108) بعضه عن سُويد بن نصر.
و (ابن ماجه) في "الصلاة"(754) عن أبي مروان محمد بن عثمان العثمانيّ، عن إبراهيم بن سعد بطوله.
و (مالك) في "الموطّإ"(476) و (أحمد) في "مسنده" 4/ 43 و 44 و 5/ 449 و 450 و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1231) و (1654) و (1673) و (1709)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(14/ 143)، (144)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(18 و 19 و 20 و 21)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده.
1 -
(منها): بيان فضل الشهادتين إذا كانا خالصتين لله تعالى، كما يدلّ على ذلك رواية:"يبتغي بذلك وجه الله"، وبه يطابق الحديث الباب الذي نحن فيه؛ إذ المصنّف رحمه الله تعالى رتّب الأحاديث الأخيرة للدلالة على أن مجرّد التلفّظ غير كاف في تحقّق الإيمان، بل لا بُدَّ من استيقان القلب، ولذلك ترجمت له بقولي:"باب لا يكفي مجرّد التلفّظ بالشهادتين إلخ"، تبعًا للقرطبيّ رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسابقون فيها، وأما التبرك بآثار غيره من الصالحين، وإن قال به شرّاح هذا الكتاب، كالنوويّ، وغيره، وكذا شُرَّاح البخاريّ، فمما لا دليل عليه، وهو مخالف لهدي السلف رحمهم الله تعالى، فإنهم ما كانوا يفعلونه، مع أن فيهم أفاضل الصحابة، كأبي بكر الصديق، وبقية الخلفاء الراشدين، فما أحد من الصحابة، ولا التابعين تَبَرَّكَ بآثار أبي بكر، وغيره، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
3 -
(ومنها): زيارةُ العلماء والفضلاء والكبراء أتباعَهُم، وتلبيتهم دعوتهم، وإكرامهم بالمجيء إلى بيوتهم، والدعاء لهم.
4 -
(ومنها): جواز استدعاء المفضول الفاضلَ؛ لمصلحة تَعْرِض.
5 -
(ومنها): جواز الجماعة في صلاة النافلة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بهم في بيت عتبان رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أنَّ فيه بيانَ أن السنة في نوافل النهار ركعتان كالليل.
7 -
(ومنها): جواز الكلام، والتحدث بحضرة المصلين، ما لم يَشْغَلهم، ويُدْخِلْ عليهم لبسًا في صلاتهم، أو نحوه.
8 -
(ومنها): جواز إمامة الزائر المزور برضاه.
9 -
(ومنها): ذكر من يُتَّهَمُ بِرِيبة أو نحوها للأئمة وغيرهم؛ لِيُتَحَرَّزَ منه.
10 -
(ومنها): جواز كتابة الحديث وغيره من العلوم الشرعية؛ لقول أنس رضي الله عنه لابنه: اكتبه، بل هي مستحبة، وقد جاء في الحديث النهيُ عن كتابة الحديث، وجاء الإذن فيه، فقيل: كان النهي لمن خِيف اتِّكاله على الكتاب، وتفريطه في الحفظ، مع تمكنه منه، والإذن لمن لا يتمكن من الحفظ، وقيل: كان النهي أوّلًا لَمّا خِيف اختلاطه بالقرآن، والإذن بعده لَمّا أُمِن من ذلك، وكان بين السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم خلافٌ في جواز كتابة الحديث، ثم أجمعت الأمة على جوازها، واستحبابها، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهَا اخْتُلِفَا
…
ثُمَّ الْجَوَازُ بَعْدُ إِجْمَاعًا وَفَى
مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ حَدِيثُ مُسْلِمِ
…
"لَا تَكْتُبُوا عَنِّيَ" فَالْخُلْفُ نُمِي
فَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ
…
وَآخَرُونَ عَلَّلُوا بِالْخَوْفِ
مِنِ اخْتِلَاطٍ بِالْقُرَانِ فَانْتَسَخْ
…
لأَمْنِهِ وَقِيلَ ذَا لِمَنْ نَسَخْ
الْكُلَّ فِي صَحِيفَةٍ وَقِيلَ بَلْ
…
لآمِنٍ نِسْيَانَهُ لَا ذِي خَلَلْ
وقد تقدّم هذا البحث مستوفًى في شرح المقدّمة، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
11 -
(ومنها): البداءة بالأهمّ، فالأهمّ، فإنه صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان رضي الله عنه هذا بدأ أولَ قدومه بالصلاة، ثم أكل، وفي حديث زيارته لأم سليم رضي الله عنهما بدأ بالأكل، ثم صَلَّى؛ لأن المهم في حديث عتبان هو الصلاة، فإنه دعاه لها، وفي حديث أم سليم دعته للطعام، ففي كل واحد من الحديثين بدأ بما دُعِي إليه.
12 -
(ومنها): جواز استتباع الإمام والعالم أصحابه لزيارةٍ، أو ضيافةٍ، أو نحوها، إذا علم أن الداعي لا يكره ذلك
(1)
.
13 -
(ومنها): جواز إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة، ولا يكون من الشكوى.
(1)
راجع: "شرح النووي" 1/ 244 - 245.
14 -
(ومنها): بيانُ أنه كان في المدينة مساجد للجماعة، سوى مسجده صلى الله عليه وسلم.
15 -
(ومنها): جواز التخلف عن الجماعة في المطر والظلمة، ونحو ذلك.
16 -
(ومنها): اتخاذ موضع معين للصلاة، وأما النهي عن إيطان موضع معين من المسجد، ففيه حديثٌ، رواه أبو داود، وهو محمول على ما إذا استلزم رياءً ونحوه، وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الصلاة" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[157]
(
…
) - (حَدَّثِنَي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِتْبَاَنُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّهُ عَمِيَ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تَعَالَ، فَخُطَّ لِي مَسْجِدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَاءَ قَوْمُهُ، وَنُعِتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُم، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع الْعَبديّ القيسيّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10].
روى عن معتمر بن سليمان، وعُمَر بن عليّ الْمُقَدَّميّ، وابن أبي عديّ، وبهز بن أسد، وغندر، وأبي عامر الْعَقَديّ، وأمية بن خالد، وبشر بن المفضل، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والترمذيّ والنسائيّ، وزكرياء الساجيّ، وسعيد بن عبد الله الْفَرْغَانيّ، وعبد الله بن أبي الدنيا، وعَبْدان الأهوازيّ، وأبو الشيخ محمد بن الحسين الأَبْهَريّ، وأبو رِفَاعة عبد الله بن محمد البصريّ، وغيرهم، قال الذهبيّ في "الكاشف": ثقة
(1)
، مات بعد الأربعين ومائتين.
(1)
راجع: "الكاشف" 3/ 17، ولم يذكر، في "تهذيب الكمال"، ولا في =
وله في هذا الكتاب (48) حديثًا
(1)
.
2 -
(بَهْز) بن أسد الْعميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت بعد 200) أو قبلها (ع) 3/ 11.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة، مولى تميم، ويقال: مولى قريش، وقيل: غير ذلك، ثقة عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بأَخَرة، من كبار [8].
روى عن ثابت البناني، وقتادة، وخاله حميد الطويل، وخلق كثير.
وروى عنه ابن جريج، والثوري، وشعبة وهم أكبر منه، وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، وعفّان بن مسلم وغيرهم.
قال أحمد: حماد بن سلمة أثبت في ثابت من معمر. وقال أيضًا في الحمادين: ما منهما إلا ثقة. وقال حنبل عن أحمد: أسند حماد بن سلمة عن أيوب أحاديث، لا يسندها الناس عنه. وقال أبو طالب عنه: حماد بن سلمة أعلم الناس بحديث حميد، وأصح حديثًا. وقال في موضع آخر: هو أثبت الناس في حميد الطويل، سمع منه قديمًا، يخالف الناس في حديثه. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال الدُّورِيُّ عن ابن معين: من خالف حماد بن سلمة في ثابت، فالقول قول حماد. وقال جعفر الطيالسي عنه: من سمع من حماد بن سلمة الأصناف، ففيها اختلاف، ومن سمع منه نسخًا فهو صحيح. وقال ابن المديني: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة. وقال الأصمعي عن عبد الرحمن بن مهدي: حماد بن سلمة صحيح السماع، حسن اللُّقيّ، أدرك الناس، لم يُتَّهَم بلون من الألوان، ولم يلتبس بشيء، أحسن مَلَكَةَ نفسِهِ ولسانه، ولم يطلقه على أحد، فسَلِمَ حتى مات. وقال ابن المبارك: دخلت البصرة، فما رأيت أحدًا أشبه بمسالك الأُوَلِ من
= "تهذيب التهذيب"، ولا في "الخلاصة" شيئًا من التوثيق، ولا غيره، وهذا من الغريب، وذكر في "التقريب" أنه صدوقٌ.
(1)
وذكره في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" أن مسلمًا روى عنه أربعة وخمسين حديثًا، والظاهر أن الاختلاف بالتكرار، والله تعالى أعلم.
حماد بن سلمة. وقال أبو عمر الجرمي: ما رأيت فقيهًا أفصح من عبد الوارث، وكان حماد بن سلمة أفصح منه. وقال عفان: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير، وقراءة القرآن، والعمل لله من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدًا، ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا. وقال ابن حبان: كان من العباد المجابي الدعوة في الأوقات، ولم يُنصِف من جانب حديثه، واحتج في كتابه بأبي بكر بن عياش، فإن كان تَرْكُهُ إياه لِمَا كان يخطئ، فغيره من أقرانه، مثل الثوري وشعبة، كانوا يخطئون، فإن زعم أن خطأه قد كثر حتى تغير، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجودًا، ولم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل، والدين، والنُّسُك، والعلم، والْكَتْب، والجمع، والصلابة في السنة، والقمع لأهل البدع.
قال الحافظ: وقد عَرَّض ابن حبان بالبخاري؛ لمجانبته حديث حماد بن سلمة، حيث يقول: لم يُنصف من عَدَل عن الاحتجاج به إلى الاحتجاج بفُلَيح، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. واعتذر أبو الفضل بن طاهر عن ذلك، لَمَّا ذَكَرَ أن مسلمًا أخرج أحاديث أقوام، ترك البخاري حديثهم، قال: وكذلك حماد بن سلمة إمام كبير، مدحه الأئمة وأطنبوا، لَمّا تكلم بعض منتحلي المعرفة، أن بعض الْكَذَبة أدخل في حديثه ما ليس منه، لم يخرج عنه البخاري، مُعْتَمِدًا عليه، بل استشهد به في مواضع؛ لِيُبَيِّن أنه ثقة. وأخرج أحاديثه التي يرويها من حديث أقرانه، كشعبة، وحماد بن زيد، وأبي عوانة، وغيرهم، ومسلم اعتمد عليه؛ لأنه رأى جماعة من أصحابه القدماء والمتأخرين لم يختلفوا، وشاهد مسلم منهم جماعة، وأخذ عنهم، ثم عدالة الرجل في نفسه، وإجماع أئمة أهل النقل على ثقته وأمانته. انتهى.
وقال الحاكم: لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول، إلا من حديثه عن ثابت، وقد خرج له في الشواهد عن طائفة.
وقال البيهقي: هو أحد أئمة المسلمين، إلا أنه لَمّا كَبِرَ ساء حفظه، فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سُمِعَ منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا، أخرجها في
الشواهد. وأورد له ابن عدي في "الكامل" عدة أحاديث مما ينفرد به متنًا أو إسنادًا، قال: وحماد من أجلة المسلمين، وهو مفتي البصرة، وقد حدث عنه من هو أكبر منه سنًّا، وله أحاديث كثيرهّ، وأصناف كثيرة، ومشايخ، وهو كما قال ابن المديني: من تكلم في حماد بن سلمة، فاتهموه في الدين. وقال الساجي: كان حافظًا ثقة مأمونًا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وقال العجلي: ثقة، رجل صالح، حسن الحديث، وقال: إن عنده ألفَ حديث حسن ليس عند غيره.
قال سليمان بن حرب وغيره: مات سنة (167)، زاد ابن حبان: في ذي الحجة.
اسشتهد به البخاري، وقيل: إنه روى له حديثًا واحدًا عن أبي الوليد عنه، عن ثابت
(1)
، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (105) حديث.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (حدثني عتبان بن مالك) فيه أن أنسًا رضي الله عنه سمعه من عتبان نفسه، بعد ما سمعه عنه بواسطة محمود بن الربيع.
وقوله: (أنه عَمِي) تقدّم الجمع بينه وبين قوله: "أصابني في بصري بعض الشيء" في الحديث الماضي، فلا تغفل.
وقوله: (فخُطّ لي مسجدًا) أمر من الخطّ، يقال: خطّ على الأرض، من باب نصر: إذا أعلم بعلامة
(2)
.
والمعنى: أعلم لي على موضعٍ؛ لأتّخذه مسجدًا، أي موضعًا أجعل صلاتي فيه، متبرّكًا بآثارك.
وقوله: (وجاء قومه) الضمير لعتبان، أي جاء قوم عتبان، والمراد بهم أهل قريته الذين يسكنون حول بيته، ففي رواية ابن شهاب الآتية في "الصلاة":
(1)
الحديث المذكور هو حديث أبي بن كعب رضي الله عنه من رواية ثابت، عن أنس، عنه، في "كتاب الرقاق" من "صحيح البخاريّ"، ولفظه:"قال لنا أبو الوليد"،
…
فذكره.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 173.
"قال: فثاب رجال من أهل الدار حولنا، حتى اجتمع في البيت رجال ذوو عدد"، ومعنى "ثاب": رجع، أو أقبل.
وفيه اجتماع أهل المحلّة على الإمام، أو العالم إذا ورد منزل بعضهم؛ ليستفيدوا منه، فقد اجتمع أهل محلة عتبان لَمّا سمعوا بمجيء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيته.
وقوله: (ونُعت رجل) ببناء الفعل للمفعول، أي وُصِفَ، يقال: نَعَتَ الرجل صاحبه نَعْتًا، من باب نَفَعَ: إذا وصفه
(1)
.
وقوله: (ثم ذكر إلخ) الضمير لشيخه أبي بكر، يعني أن أبا بكر بن نافع ذكر متن الحديث نحوَ حديث سليمان بن المغيرة الماضي في المعنى، لا في اللفظ، وهذا بيّنٌ ظاهر، من سياقه، فقد ساق النسائيّ رحمه الله تعالى رواية أبي بكر في "عمل اليوم والليلة" 1/ 593، فقال:
1105 -
أخبرنا أبو بكر بن نافع، قال: حدّثنا بَهْز، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، عن أنس، قال: حدثني عتبان بن مالك، أنه عَمِيَ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تَعَالَ، فخُطَّ لي مسجدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء قومه، وتغيب رجل منهم، يقال له: مالك بن الدُّخْشُم، قالوا: يا رسول الله إنه، وإنه، يقعون فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أليس يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ "، قالوا: إنما يقولها مُتَعَوِّذًا، قال:"والذي نفسي بيده، لا يقولها أحدٌ صادقًا، إلا حُرّمَتْ عليه النار" انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء الأول من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثَّجَّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى
(1)
"المصباح" 2/ 612.
(2)
راجع: "عمل اليوم والليلة" ص 593 - 594.
يوم الجمعة 7/ 9/ 1424 هـ الموافق 31 أكتوبر (تشرين الأول) / 2003 م.
أسأل الله العليّ العظيم، ربّ العرش العظيم، أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثاني مفتتحًا بـ (12) - (بَابُ ذَاقَ طَعْمَ الإيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا) رقم الحديث (158).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".