الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة العشاء 12/ 5/ 1426 هـ أول الجزء العاشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.
(18) - (بَابُ التَّسْمِيعِ، وَالتَّحْمِيدِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[918]
(409) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَاِئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدم في الباب الماضي.
3 -
(سُمَيّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) مقتولًا بقُديد (ع).
رَوَى عن مولاه، وابن المسيِّب، وأبي صالح ذكوان، والقعقاع بن حكيم، والنعمان بن أبي عياش.
وعنه ابنه عبد الملك، ويحيى بن سعيد، وسُهيل بن أبي صالح، وهما
من أقرانه، وابن عجلان، وعبيد اللَّه بن عمر، والسفيانان، ومالك، وعبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند، وعُمارة بن غَزِيّة، وورقاء بن عُمر، وعبد العزيز بن المختار، وغيرهم.
قال أحمد، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، أحبّ إليك، أو سُمَيّ؟ فقال: سُميّ خير منه، وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: سُميّ أثبت عندك، أو القعقاع؟ فقال: القعقاع أحبّ إليّ منه.
قال البخاريّ: قال لنا عبد الملك بن شيبة: قُتِل بقُدَيد سنة ثلاثين ومائة، وقال ابن عيينة: قتلته الحرورية يوم قُديد، وقال غيره: وذلك سنة (131)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قتلته الْحَرُورية سنة خمس وثلاثين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا، إلا أنه دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة، بصيغة التصغير (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) قال النوويّ رحمه الله: "سمع اللَّه لمن حمده" أي أجاب، أي من حَمِد اللَّه متعرّضًا لثوابه استجاب اللَّه تعالى له، وأعطاه ما تعرّض له، قال: ولفظ "ربّنا" على تقدير إثبات الواو متعلّق بما قبله، تقديره: سمع اللَّه لمن حَمِده، يا ربّنا فاستجب حمدنا ودعاءنا، ولك الحمد على ما هديتنا. انتهى.
وقال البغويّ رحمه الله: وقوله: "سمع اللَّه لمن حمده": أي تقبّل اللَّه منه حمده، وأجابه، يقال: اسمع دعائي: أي أجب؛ لأن غرض السائل الإجابة، فوُضع السمع موضع الإجابة، ومنه قوله تعالى:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25]، أي اسمعوا منّي سمع الطاعة والقبول، ومنه الحديث:"أعوذ بك من دعاء لا يُسمَعُ"، أي لا يُجاب. انتهى
(1)
.
(فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) وفي رواية البخاريّ: "فقولوا: اللَّهمّ ربنا ولك الحمد"، قال في "الفتح": في رواية الكشميهنيّ: "ولك الحمد" بإثبات الواو، وفيه رَدٌّ على ابن القيِّم حيث جَزَم بأنه لم يَرِد الجمع بين "اللهم" والواو في ذلك. انتهى
(2)
.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون السماع بمعناه المشهور.
[فإن قلت]: فلا بُدَّ أن تُستعمل بـ "من"، لا باللام.
[قلت]: معناه: سمع الحمد لأجل الحامد منه، ثم لفظ "ربّنا" لا يُمكن أن يتعلّق بما قبله؛ لأنه كلام المأموم، وما قبله كلام الإمام بدليل قوله:"فقولوا"؛ بل هو ابتداء كلام، وقوله:"لك الحمد" حال منه؛ أي أدعوك، والحال أن الحمد لك، لا لغيرك.
(1)
"شرح السنّة" 3/ 13 - 14.
(2)
"الفتح" 2/ 331.
[فإن قلت]: هل يكون عطفًا على "أدعوك"؟.
[قلت]: لا؛ لأنها إنشائيّة، وهذه خبريّة. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله ما حاصله: هذا الكلام يَحتاج إلى مزيد كشف وبيان، وذلك أن قوله:"سَمِعَ اللَّه لمن حمده" وسيلة، و"ربّنا ولك الحمد" طلبٌ، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، فإذا رُوي بالعاطف تعلّق "ربنا" بالأولى؛ ليستقيم عطف الجملة الخبريّة على مثلها، وإذا عُزل عن الواو تعلّق "ربّنا" بالثانية، فإنه لا يجوز عطف الإنشائيّ على الخبريّ، وتقديره على الوجه الأول: يا ربنا قَبِلتَ في الدهور الماضية حَمْدَ مَنْ حَمِدَكَ من الأمم السالفة، ونحن نطلب منك الآن قبول حمدنا، ولك الحمد أوّلًا وآخرًا، فأخرج الأولى على الجملة الفعليّة، وعلى الغيبة، وخصّ اسم اللَّه الأعظم بالذكر، والثانية على الاسميّة، وعلى الخطاب؛ لإرادة الدوام، ولمزيد إنجاح المطلوب، فعلى هذا في الكلام التفاتة واحدة، وعلى الأول التفاتتان، من الخطاب إلى الغَيبة، ومنها إلى الخطاب. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده (مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ) برفع "قولُهُ" على الفاعليّة لـ "وَافَقَ"، ونصب "قولَ" على المفعوليّة، وفيه إشعار بأن الملائكة تقول ما يقوله المأمومون.
وأرجح الأقوال في معنى موافقة الملائكة هو الموافقة في القول والزمن، وسيأتي ذكر بقيّة الأقوال في التأمين -إن شاء اللَّه تعالى-.
(غُفِرَ لَهُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(مَا) موصولة (تَقَدَّمَ) بالبناء للفاعل (مِنْ ذَنْبِهِ") بيان لـ "ما".
ثم ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، صغيرها وكبيرها، وفضل اللَّه واسع، لكن خصّه العلماء بالصغائر، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في شرح حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه فيمن توضّأ كوضوئه صلى الله عليه وسلم في "كتاب الطهارة"،
(1)
راجع: "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد" للسيوطيّ 2/ 177 - 178.
فارجع إليه تجد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 918 و 919](409)، و (البخاريّ) في "الأذان"(796) و"بدء الخلق"(3228)، و (أبو داود) في "الصلاة"(848)، و (الترمذيّ) فيها (267)، و (النسائيّ) فيها (2/ 196)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 88)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 84)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 459)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1907 و 1909)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1855)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(906 و 907)(1/ 238)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 96)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(630)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة قول "سمع اللَّه لمن حمده" للإمام، وسيأتي حكم تحميده قريبًا.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة "اللهم ربنا لك الحمد" للمأموم، وسيأتي حكم تسميعه أيضًا.
3 -
(ومنها): بيان رغبة الملائكة في مشاركة المؤمنين في صلاتهم، فيؤمّنون لتأمينهم، ويحمدون لتحميدهم.
4 -
(ومنها): الحثّ على موافقة الملائكة في التحميد، وذلك بمتابعة تسميع الإمام.
5 -
(ومنها): بيان فضل موافقة الملائكة في التحميد، وذلك أنه سبب لغفران ما تقدّم من الذنوب.
6 -
(ومنها): ما قيل: إنه يُستَدَلّ به على أن الإمام لا يقول: "ربنا لك الحمد"، وعلى أن المأموم لا يقول:"سمع اللَّه لمن حمده"؛ لكون ذلك لم يُذْكَر في هذه الرواية، كما حكاه الطحاويّ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة.
وتُعُقّب بأنه ليس فيه ما يدلّ على النفي؛ بل فيه أن قول المأموم: "ربنا لك الحمد" يكون عقب قول الإمام: "سمع اللَّه لمن حمده"، والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام، كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين، كما سيأتي في الباب التالي من أنه لا يلزم من قوله:"إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين" أن الإمام لا يُؤَمِّن بعد قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} ، وليس فيه أن الإمام يُؤَمِّن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول:"ربنا لك الحمد"، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة، كما سيأتي في التأمين، وقد ثبت في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين التسميع والتحميد، وهو إمامٌ، وقد قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلّي".
وأما ما احتجوا به من حيث المعنى، من أن معنى:"سمع اللَّه لمن حمده" طلب التحميد، فيناسب حال الإمام، وأما المأموم، فتناسبه الإجابة بقوله:"ربنا لك الحمد"، ويقويه حديث أبي موسى الأشعريّ عند المصنّف وغيره، ففيه:"وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع اللَّه لكم".
فجوابه: أن يقال: لا يدلّ ما ذكرتم على أن الإمام لا يقول: "ربنا ولك الحمد"؛ إذ لا يمتنع أن يكون طالبًا ومجيبًا، وهو نظير ما سيأتي في مسألة التأمين، من أنه لا يلزم من كون الإمام داعيًا والمأموم مُؤَمِّنًا أن لا يكون الإمام مُؤَمِّنًا، ويَقرُب منه ما تقدم البحث فيه في الجمع بين الحيعلة والحوقلة لسامع المؤذن.
وقضية ذلك أن الإمام يجمعهما، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والجمهور، والأحاديث الصحيحة تَشْهَد له، وزاد الشافعيّ أن المأموم يجمع بينهما أيضًا، لكن لم يصحّ في ذلك شيء، ولم يثبت عن ابن المنذر أنه قال: إن الشافعيّ انفرد بذلك؛ لأنه قد نَقَلَ في "الإشراف" عن عطاء، وابن سيرين وغيرهما القول بالجمع بينهما للمأموم.
وأما المنفرد: فحَكَى الطحاويّ، وابن عبد البرّ الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاويّ حجةً لكون الإمام يجمع بينهما؛ للاتفاق على اتّحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب "الهداية" إلى خلاف عندهم في المنفرد، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من البحث أن أرجح الأقوال أن يجمع الإمام ومثله المنفرد بين التسميع والتحميد؛ لصحّة ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان يجمع بينهما، وهو إمام، وأما المأموم، فلا يُسمّع؛ لظاهر هذا الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده"، فقولوا:"اللَّهمّ ربنا لك الحمد"، فوزعّ بينهما التسميع والتحميد، فأمره بالتحميد فقط، ولولا ثبوت الجمع بينهما عنه صلى الله عليه وسلم إمامًا لكان للإمام أيضًا التسميع فقط، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[919]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ سُمَيٍّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"الفتح" 2/ 331.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن محمد بن عبد اللَّه بن عبدٍ القاريّ -بتشديد الياء- المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
3 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ سُمَيٍّ) يعني أن حديث سُهيل عن أبيه، بمعنى حديث سُميّ عنه.
[تنبيه]: رواية سهيل عن أبيه هذه أخرجها الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(2/ 32)، فقال:
(907)
حدثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال القارئ: سمع اللَّه لمن حمده، فقال مَن خلفه: اللهم ربنا لك الحمد، فوافق قوله قول أهل السماء: اللهم ربنا لك الحمد، غُفِر له ما تقدم من ذنبه". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(19) - (بَابُ التَّأْمِينِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[920]
(410) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "آمِينَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الحافظ الفقيه، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الإمام الثبت الفقيه الحجة، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
3 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبثٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
والباقون تقدّموا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، إلا أنه دخل المدينة أيضًا.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين.
5 -
(ومنها): أن سعيدًا وأبا سلمة من الفقهاء السبعة، كما تقدّم غير مرّة.
6 -
(ومنها): ما قيل: إن أصحّ أسانيد أبي هريرة: ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، عنه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي ابنَ شهاب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ) وفي رواية النسائيّ: "إذا أمّن القارئ"، أي الإمام (فَأَمِّنُوا) جواب "إذا"، أي قولوا: آمين، وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحَكَى
الواحديّ عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها ثلاث لغات أخرى شاذّةٌ: القصرُ، حَكاه ثعلب، وأنشد له شاهدًا، وأنكره ابن درستويه، وطَعَن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، وحَكَى عياضٌ ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصّة، والتشديد مع المدّ والقصر، وخطّأهما جماعة من أهل اللغة.
و"آمين" من أسماء الأفعال مثل "صَهْ" للسكوت، وتفتح في الوصل؛ لأنها مبنية بالاتفاق، مثل "كيف"، وإنما لم تُكْسَر؛ لثقل الكسرة بعد الياء، ومعناها: اللهم استَجِبْ عند الجمهور، وقيل غير ذلك مما يَرجع جميعه إلى هذا المعنى، كقول من قال: معناه: اللهم أُمَّنا بخير، وقيل: كذلك يكون، وقيل: درجة في الجنة تَجب لقائلها، وقيل: لمن استجيب له كما استجيب للملائكة، وقيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، رواه عبد الرزاق، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بإسناد ضعيف، وعن هلال بن يساف التابعيّ مثله، وأنكره جماعة، وقال مَن مدَّ وشدَّد: معناها قاصدين إليك، ونُقِل ذلك عن جعفر الصادق، وقال مَن قَصَر وشَدَّد: هي كلمة عبرانية، أو سريانية، وعند أبي داود من حديث أبي زُهير النميريّ الصحابي: أن آمين مثل الطابَع على الصحيفة، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم:"إن خَتَم بآمين فقد أوجب". انتهى
(1)
.
وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(فَإِنَّهُ) الضمير للشأن كما سبق في الحديث الماضي (مَنْ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ (وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَاِئكَةِ) قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: الصحيح أن المراد الموافقة في الزمن، بحيث يقع تأمين ابن آدم وتأمين الملائكة معًا، وهو ظاهر الحديث، وقيل: المراد بذلك الموافقة في صفة التأمين، من كونه بإخلاص وخشوع، قال القرطبيّ: وهذا بعيد، وقيل: من وافق الملائكة في استجابة الدعاء غُفِر له، وقيل: من وافقهم في لفظ الدعاء، قال القرطبيّ، وابنُ دقيق العيد: والأول أظهر. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح" ما حاصله: المراد الموافقة في القول والزمان خلافًا
(1)
"الفتح" 2/ 306.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 266.
لمن قال: المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع، كابن حبّان، فإنه لَمّا ذكر الحديث قال: يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجاب، وكذا جنح إليه غيره، فقال: نحو ذلك من الصفات المحمودة، أو في إجابة الدعاء، أو في الدعاء بالطاعة خاصّة، أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين.
وقال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها؛ لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان متيقظًا.
ثم إن ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة، وقيل: الحفظة منهم، وقيل: الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا إنهم غير الحفظة.
قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن المراد بهم مَن يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء، وسيأتي في رواية الأعرج، عن أبي هريرة:"والملائكة في السماء آمين"، وفي رواية سهيل، عن أبيه:"فوافق قوله قول أهل السماء"، ورَوَى عبد الرزاق، عن عكرمة، قال:"صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد". انتهى. ومثله لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ") جواب الشرط، أو خبر المبتدأ، وظاهر الحديث مغفرة ما تقدم من الذنوب، سواء فيه الصغائر والكبائر، وقد خَصَّ العلماء هذا وأشباهه بتكفير الصغائر فقط، وقالوا: إنما يُكَفِّر الكبائرَ التوبةُ، وكأنهم لما رأوا التقييد في بعض ذلك بالصغائر، حملوا ما أُطْلِق في غيرها عليها، كالحديث الصحيح:"الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان مُكَفِّراتٌ لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر"، واللَّه تعالى أعلم
(2)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": وَقَع في "أمالي الجرجانيّ" عن أبي العباس الأصمّ، عن بحر بن نصر، عن ابن وهب، عن يونس، في آخر هذا الحديث:"وما تأخر"، وهي زيادة شاذّة، فقد رواه ابن الجارود في "المنتقى" عن بحر بن
(1)
"الفتح" 2/ 309.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 266.
نصر بدونها، وكذا رواه مسلم عن حرملة، وابن خزيمة، عن يونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب، وكذلك في جميع الطرق عن أبي هريرة؛ إلا أني وجدته في بعض النسخ من ابن ماجه عن هشام بن عمّار، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها، ولا يصحّ؛ لأن أبا بكر قد رواه في "مسنده"، و"مصنفه" بدونها، وكذلك حفاظ أصحاب ابن عيينة: الحميديّ، وابن المدينيّ، وغيرهما، وله طريق أخرى ضعيفة من رواية أبي فَرْوة، محمد بن يزيد بن سنان، عن أبيه، عن عثمان، والوليد ابني ساج، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. انتهى
(1)
.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "آمِينَ") قال في "الفتح": هو متصل إليه بروايةً مالك عنه، وأخطأ من زعم أنه مُعَلَّق، ثم هو من مراسيل ابن شهاب، لكنه قد اعتضد بفعل أبي هريرة رضي الله عنه
(2)
، ورُوي عنه موصولًا، أخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب"، و"العلل" من طريق حفص بن عُمر العدنيّ، عن مالك، عنه، وقال الدارقطنيّ: تفرّد به حفص بن عمر، وهو ضعيف
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قول الزهريّ: "وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: آمين" معناه: أن هذه صفة تأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أَمَّن الإمام فأمّنوا"، وردٌّ لقول من زَعَمَ أن معناه: إذا دعا الإمام بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} إلخ. انتهى
(4)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 2/ 310.
(2)
وذلك أنه جهر بآمين، فقد أخرج النسائيّ بسند صحيح، عن نعيم المجمر، قال: صلّيت وراء أبي هريرة، فقرأ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فقال: آمين، فقال الناس: آمين. . . الحديث.
(3)
راجع: "الفتح" 2/ 312.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 130.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 920 و 921 و 922 و 923 و 924 و 925](410)، و (البخاريّ) في "الأذان"(780 و 782) و"الدعوات"(6402) و"التفسير"(4475)، و (أبو داود) في "الصلاة"(935 و 936)، و (الترمذيّ) فيها (250)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(2/ 143 - 144)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(852)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 87)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2644)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 76)، و (الحميديّ) في "مسنده"(933)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 233 و 238)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 284)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(570 و 575)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1803)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 55 و 57)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(587)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1685 و 1686 و 1687 و 1688 و 1689 و 1690 و 1691 و 1692)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(908 و 909 و 910 و 911 و 912)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر بالتأمين، وهو للندب عند الجمهور، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم؛ عملًا بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهريّة على كلّ مصلّ، هكذا قال، والذي ذكره ابن حزم في كتابه "المحلَّى" أنه فرض على المأموم، قال: وإن قاله الإمام فحسنٌ وسنةٌ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي وجوبه على المأموم؛ لظاهر الأمر، وهو للوجوب عند الجمهور ما لم يَصرِفه صارف، ولم يذكر الجمهور هنا له صارفًا، وأما الإمام والمنفرد فيُستحبّ لهما التأمين؛ إذ لا دليل على الوجوب عليهما، فتبصّر، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في حكم الجهر به في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): أن فيه فضيلة الإمام؛ لأن تأمين الإمام يوافق تأمين الملائكة، ولهذا شُرِعت للمأموم موافقته.
قال في "الفتح": وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يُؤَمِّن إذا أَمَّن
الإمام، لا إذا ترك، وقال به بعض الشافعية، كما صرح به صاحب "الذخائر"، وهو مقتضى إطلاق الرافعيّ الخلاف، وادَّعَى النوويّ في "شرح المهذَّب" الاتفاق على خلافه، ونَصَّ الشافعيّ في "الأم" على أن المأموم يؤمِّن ولو تركه الإمام عمدًا أو سهوًا. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ" هو الأرجح؛ لظاهر قوله: "وإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين"، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن القرطبيّ استدَلّ به على تعيُّن قراءة الفاتحة للإمام، وعلى أن المأموم ليس عليه أن يقرأ فيما جَهَر به إمامه.
قال الحافظ: فأما الأول فكأنه أخذه من أن التأمين مختصّ بالفاتحة، فظاهر السياق يقتضي أن قراءة الفاتحة كانت أمرًا معلومًا عندهم، وأما الثاني فقد يدلّ على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة حال قراءة الإمام لها، لا أنه لا يقرؤها أصلًا. انتهى.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: وما أدري ما وجه الدلالة من الحديث؟ والأدلّة الصحيحة قائمة على وجوب القراءة على المأموم مطلقًا. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: استدلال القرطبيّ بهذا الحديث على أن المأموم لا يقرأ فيما جهر به الإمام عجيبٌ، فأين محلّه؟ ثم القول بعدم وجوب القراءة عليه قول ضعيف، قد تقدّم ردّه بالحديث الصحيح:"لعلكم تقرؤون وراء إمامكم؟ "، وفيه:"فلا تفعلوا إلا بأمّ القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، أخرجه أحمد، والترمذيّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
4 -
(ومنها): أنه يستفاد من رواية الأعرج الآتية: "إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء: آمين. . . " استحباب التأمين للمنفرد والمأموم أيضًا، قال صاحب "المفهم": وقد اتّفقوا على أن الفذّ يؤمّن مطلقًا، والإمام والمأموم فيما يُسرّان فيه يؤمّنان. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: التقييد بالإسرار مما لا دليل عليه؛ بل الأحاديث الصحاح مطلقة تدلّ على أن التأمين لكلّ مصلّ في كلّ صلاة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن اللَّه تعالى جعل للملائكة قوّة الإدراك بالسمع، وهم في السماء لما يَنطِق به بنو آدم في الأرض، أو لبعض ذلك؛ لأنه جعل مكان تأمين الملائكة في السماء، ويَحتَمل أن يراد بالسماء العلو، والأولى حمله على ما تقدّم، قاله العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أنه أطلق في هذه الرواية التأمين، ولم يقيدها بالصلاة، فمن قال: يُعْمَل بالمطلق، كالحنفية والظاهرية، يقولون: إن هذا الثواب لا يتقيد بالصلاة، بل التأمين في غير الصلاة حكمه هكذا، ويقال لهم: إن الثواب مترتب على موافقة تأمين ابن آدم لتأمين الملائكة، وإنما نُقِل لنا تأمين الملائكة لتأمين المصلي، ففي رواية البخاريّ:"إذا أَمّن القارئ فأمّنوا، فإن الملائكة تؤمّن، فمن وافق تأمينه. . . " الحديث، وأما مَن حَمَل المطلق على المقيد، فإنه يَخُصّه بالصلاة؛ لرواية مسلم الآتية:"إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين. . . " الحديث
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقييده بالصلاة هو الأظهر، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): ما قال الحافظ العراقيّ رحمه الله أيضًا: قد يُسْتَدَلّ به على أن تأمين المأموم يستحب أن يكون بعد تأمين الإمام؛ لأنه رتّبه عليه بالفاء، وقد جزم أصحاب الشافعيّ باستحباب مقارنة الإمام فيه، فقال الرافعيّ: والأحب أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام، لا قبله، ولا بعده، وقال ابن الرفعة: إنه لا يستحب مساواته فيما عداه من الصلاة، قال إمام الحرمين: ويمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه.
قال العراقيّ: ويدِل عليه قوله في الرواية المتفق عليها: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين. . . " الحديث.
وروى أبو داود من حديث بلال رضي الله عنه أنه قال: يا رسول اللَّه لا تسبقني بآمين، وإسناده ثقات؛ إلا أن البيهقيّ صحّح رواية مَن جعله عن أبي عثمان النَّهْديّ مرسلًا، ثم رواه عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تسبقني
(1)
"طرح التثريب" 2/ 265 - 266.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 267.
بآمين"، قال البيهقيّ: فكان بلالًا كان يؤمِّن قبل تأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تسبقني بآمين"، كما قال: "إذا أَمَّن الإمام فأمنوا". انتهى.
8 -
(ومنها): أن الإمام يجهر بالتأمين فيما يَجْهَر به من القراءة، وإلا لَمَا عَلّق تأمينهم على تأمينه، وإنما يُطَّلَع عليه بالسماع، وهذا قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وذهب أبو حنيفة، ومالك، في رواية عنه إلى أنه يُسِرّ به.
قال ابن دقيق العيد: ودلالة الحديث على الجهر بالتأمين أضعف من دلالته على نفس التأمين قليلًا؛ لأنه قد يدلّ دليل على تأمين الإمام من غير جهر. انتهى. وسيأتي تحقيق هذا الخلاف في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
9 -
(ومنها): أن مطلق الأمر بتأمين المأموم لتأمين الإمام، أن المأموم يؤمِّن، وإن كان يقرأ في أثناء فاتحة نفسه، قال العراقيّ: وهو كذلك على المشهور من الوجهين، كما قال الرافعيّ، ولكن اختلف أصحابنا -يعني الشافعيّة- هل تنقطع الموالاة بذلك حتى يجب استئنافها، أم لا تنقطع، ويَبْنِي عليها؟ على وجهين، أصحهما كما قال الرافعيّ: الثاني؛ لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة، بل زاد أبو علي الفارقيّ، صاحب الشيخ أبي إسحاق: الشيرازيّ على هذا بأن المأموم لو قرأ بعض الفاتحة في السكتة الأولى، ثم قرأ الإمام استمع المأموم، فإذأ فرغ الإمام وسكت في الثانية أتمها، ولا تبطل الصلاة؛ لأنه مأمور بهذا السكوت، فكان الفارقيّ لَحَظَ كون الفصل من مصلحة الصلاة، لكن قال المحب الطبري في "شرح التنبيه": وهذا لم أره لغيره من الأصحاب.
وذلك بخلاف المندوب الذي لا يتعلق بالصلاة، كالعاطس يحمد اللَّه في أثناء الفاتحة، فإنه يجب استئنافها، واللَّه أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لي هنا وقفتان:
الأولى: أن ما قاله الفارقيّ: من عدم بطلان الصلاة بتفريق الفاتحة لاستماع قراءة الإمام هو الذي يترجّح عندي؛ لظهور حجّته.
الثانية: أن قوله: "بخلاف المندوب إلخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأن حمد العاطس في أثناء الصلاة مما ورد في السنّة تقريره، فقد أخرج الترمذيّ،
والنسائيّ عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال: صلّيت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعَطَست، فقلت: الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انصرف، فقال:"من المتكلم في الصلاة؟ " فلم يكلمه أحدٌ. . . وفيه: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا، أيُّهم يَصْعَد بها".
فهذا دليل على أنّ الحمد للعطاس في الصلاة مشروع، فكيف يجب بسببه استئناف الفاتحة؟ هذا غريب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): أن المستحب الاقتصار على التأمين عقب الفاتحة، من غير زيادة عليه اتّباعًا للحديث، وأما ما رواه البيهقيّ، من حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، قال:"رب اغفر لي آمين"، فإن في إسناده أبا بكر النَّهْشليّ، وهو ضعيف، وفي "الأم" للشافعيّ رحمه الله: فإن قال: آمين ربَّ العالمين كان حسنًا، ونقله النوويّ في زوائده في "الروضة".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي نُقل عن الشافعيّ: يحتاج إلى دليل، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر في "الفتح" ما نصّه: وفي الحديث حجةٌ على الإمامية في قولهم: إن التأمين يُبطل الصلاة؛ لأنه ليس بلفظ قرآن: ولا ذكر، ويمكن أن يكون مستندهم ما نُقِل عن جعفر الصادق أن معنى آمين: أي قاصدين إليك، وبه تمسك من قال: إنه بالمد والتشديد، وصرح المتولي من الشافعية بأن من قاله هكذا بطلت صلاته. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ليت صاحب "الفتح" لم يذكر خلاف الإماميّة هنا؛ لأن هذه الفرقة ليست ممن يُعدّ في الإجماع ولا الخلاف، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الجهر بـ "آمين":
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر أحاديث الجهر بالتأمين، ما نصّه: فقد ثبت الجهر بالتأمين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وجوه، وممن كان يؤمّن على إثر القراءة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما، ويؤمّن من خلفه
حتى إن للمسجد للَجّةً، ثم قال: إنما "آمين" دعاء، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا ختم "أم القرآن" قال:"آمين"، وروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وبه قال عطاء، والأوزاعيّ، واختُلف فيه عن الأوزاعيّ، فحكى الوليد بن مسلم عنه أنه كان يرى الجهر بـ "آمين"، وحَكَى عنه الوليد بن يزيد
(1)
أنه قال: خمس يُخْفيهنّ الإمام، فذكر "آمين".
وقال أحمد: يجهر بـ "آمين"، وبه قال إسحاق، ويحيى بن يحيى، وسليمان بن داود، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، وقال أبو هريرة، وهلال بن يساف:"آمين" اسم من أسماء اللَّه.
وكان أصحاب الرأي يرون أن يُخفي الإمام "آمين"، وقال سفيان الثوريّ: فإذا فرغت من قراءة فاتحة الكتاب، فقل:"آمين" تُخفيها. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله ملخّصًا
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال: باستحباب الجهر بـ "آمين"؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، قال: صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجهر بـ "آمين"، وفي لفظ له:"ورفع بها صوته"، ورواه الترمذيّ، وحسّنه بلفظ:"ومدّ بها صوته"، وأخرجه الحاكم، وصحّحه.
وأما رواية شعبة في هذا الحديث: "وخَفَض بها صوته"، فهي خطأ خَطّأه فيها البخاريّ، وأبو زرعة، وغيرهما.
ولأبي داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيّد مرفوعًا:"كان إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتجّ بها المسجد".
وقد استوفيت البحث في هذه المسألة فيما كتبته على النسائيّ، فارجع إليه، تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من "الوليد بن مَزْيَد"، فليُحرّر.
(2)
"الأوسط" 3/ 131 - 132.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[921]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حَرملة بن عمران التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حافظ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ إلخ) يعني أن حديث يونس عن الزهريّ مثل حديث مالك عنه، غير أنه لم يذكر مرسل الزهريّ.
[تنبيه]: رواية يونس هذه، أخرجها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"(1/ 455)، فقال:
(1685)
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن الزهريّ، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، أن أبا هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أمَّن الإمام فأمّنوا، فإن الملائكة تؤمِّن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدم من ذنبه". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[922]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا يُونُسَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَالَ
أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ آمِينَ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
2 -
(أَبُو يُونُسَ) سُليم بن جُبير الدَّوْسيّ المصريّ، مولى أبي هريرة رضي الله عنه، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
والباقون تقدّموا في الذي قبله، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[923]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
(1)
، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 221)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(الْمُغِيرَةُ) بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام الْحِزَاميّ المدنيّ، وقد نزل عسقلان، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
(1)
وفي نسخة: "فوافق أحدهما الآخر".
وقوله: ("إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَالْمَلَاِئكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ) وفي رواية البخاريّ: "وقالت الملائكة".
[تنبيه]: احتجّ الإمام البخاريّ رحمه الله بهذا الحديث على فضل التأمين، فترجم عليه، فقال:"باب فضل التأمين"، ووجه ذلك أنّ هذه الرواية مطلقة، غير مقيدة بحال الصلاة، قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: وأَيُّ فضل أعظم من كونه قولًا يسيرًا، لا كلفة فيه، ثم قد ترتبت عليه المغفرة؟. انتهى.
وقال الحافظ رحمه الله: ويؤخذ منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة، سواء كان داخل الصلاة أو خارجها؛ لقوله:"إذا قال أحدكم"، لكن في رواية مسلم من هذا الوجه:"إذا قال أحدكم في صلاته"، فيُحْمَل المطلق على المقيد، نعم في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد، وساق مسلم إسنادها:"إذا أَمّن القارئ فأمّنوا"، فهذا يُمكن حمله على الإطلاق، فيستحب التأمين إذا أمّن القارئ مطلقًا لكل من سمعه من مصلٍّ أو غيره، ويمكن أن يقال: المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة، فإن الحديث واحدٌ اختَلَفت ألفاظه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم قريبًا أن التقييد هو الأظهر؛ لاتحاد الحديث، ويوضّح ذلك قوله في رواية سهيل، عن أبيه الآتية بعد حديث بلفظ:"إذا قال القارئ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقال من خلفه: آمين. . . " الحديث، فقد بيّن فيه أن المراد الإمام القارئ في الصلاة، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.
(فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) وفي بعض النسخ: "فوافق أحدهما الآخر"، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[924]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
(1)
"الفتح" 2/ 311.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير، عمي في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّه) بن كامل الأبناويّ، أبو عُقبة الصنعانيّ، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
و"أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن رواية همّام عن أبي هريرة رضي الله عنه مثل رواية الأعرج، عنه.
[تنبيه]: رواية همّام هذه أخرجها الإمام أبو عوانة في "مسنده"(1/ 456) فقال:
(1692)
حدّثنا السلميّ، قال: ثنا عبد الرزّاق، أنبأ معمر، عن همّام بن منبّه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة: آمين في السماء، فوافق إحداهما الأخرى، غُفِر له ما تقدّم من ذنبه". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[925]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-
(1)
عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا
(1)
وفي نسخة: "يعقوب بن عبد الرحمن".
قَالَ الْقَارِئُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ: آمِينَ، فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
هذا الإسناد هو إسناد الحديث الثاني من أحاديث هذا الباب، وقد تقدّم الكلام فيه هناك.
وقوله: (إِذَا قَالَ الْقَارِئُ) المراد الإمام القارئ للفاتحة بدليل قوله: "فقال من خلفه: آمين"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(20) - (بَابُ وُجُوبِ ائْتِمَامِ الْمَأْمُومِ بِالإِمَامِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[926]
(411) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرُو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَقَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ
(1)
قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوْا قُعُودًا أَجْمَعُونَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل بابين.
(1)
وفي نسخة: "صلاته".
4 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
5 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقة ثبتٌ إمامٌ حجة فقيه، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
6 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (45) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ستّة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، وزهير، فما أخرج لهما الترمذيّ، وعمرو الناقد، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، ومن المعمّرين، فقد جاوز المائة، وهو خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المعروف، خدمه عشر سنين، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَقَطَ) بالبناء للفاعل (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ) أي وقع على الأرض عن ظهر فرس ركبها، يقال: سَقَطَ سُقُوطًا، من باب قعد: وقع من أعلى إلى أسفل، ويتعدّى بالألف، فيقال: أسقطه
(1)
.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 280.
و"الفرسُ" بفتحتين يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هو الفرس، وهي الفرس، وتصغير الذكر فُرَيسٌ، والأنثى فُريسةٌ على القياس، وجُمعت الفرس على غير لفظها، فقيل: خَيْلٌ، وعلى لفظها، فقيل: ثلاثة أفراس بالهاء للذكور، وثلاث أفراس بحذفها للإناث
(1)
.
[تنبيه]: قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الفرس الذي سقط منه صلى الله عليه وسلم بعينه، وله صلى الله عليه وسلم سبعة أفراس متّفقٌ عليها، قال الشاعر [من البسيط]:
وَالْخَيْلُ سَكْبٌ لُحَيْفٌ سَبْحَةٌ ظَرِبٌ
…
لِزَازُ مُرْتَجِزٌ وَرْدٌ لَهَا اسْرَارُ
انتهى
(2)
.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة":
سَكْبٌ لِزَازٌ ظَرِبٌ وَسَبْحَةُ
…
مُرْتَجِزٌ وَرْدٌ لُحَيْفٌ سَبْعَةُ
وَلَيْسَ فِيهَا عِنْدَهُمْ مِنْ خُلْفِ
…
وَالْخُلْفُ فِي مُلَاوِحٍ وَالطِّرْفِ
كَذَاكَ ضَرْسٌ وَشَحَا مَنْدُوبُ
…
مِرْوَاحُ بَحْرٌ أَدْهَمٌ نَجِيبُ
أَبْلَقُ مَعْ مُرْتَجِلٍ وَيَعْسُوبْ
…
سِرْحَانُ وَالْعُقَالُ سِجْلٌ يَعْبُوبْ
(3)
(فَجُحِشَ) بضم الجيم، وكسر الحاء المهملة، بعدها شين معجمة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: قُشِرَ جلدُهُ، وخُدِش، وذكر بعضهم أن الْجَحْش أكبر من الْخَدْش، وفي رواية للبخاريّ:"فخُدِش، أو فجُحِش"، قال في "الطرح": وهذا يقتضي فرقًا بينهما، إلا أن يكون شكًّا من الراوي في اللفظ المقول
(4)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قد يكون ما أصاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذلك السقوط مع الخدش رَضٌّ في الأعضاء، وتوَجُّعٌ، فلذلك منعه القيام في الصلاة. انتهى
(5)
.
(شِقُّهُ الْأَيْمَنُ) بالرفع على أنه نائب فاعل "جُحِشَ"، و"الشِّقُّ" -بكسر الشين المعجمة-: الجانب.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 367.
(2)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 123 - 124.
(3)
راجع: "العُجالة السنيّة" شرح "ألفيّة السيرة النبويّة" ص 262 - 263.
(4)
"طرح التثريب" 2/ 343 - 344.
(5)
"إكمال المعلم" 2/ 311.
وفي رواية الليث، عن الزهريّ التالية الاقتصار على قوله:"فَجُحِش"، وهي في "الصحيحين"، وفي رواية للبخاريّ عن ابن عيينة:"حَفِظت شقَّه الأيمنَ"، فلما خرجنا من عند الزهريّ قال ابن جريج:"فَجُحِش ساقه الأيمن". انتهى.
قال في "الطرح": وقوله: "فَجُحش ساقه الأيمن" لا ينافي قوله في الرواية المشهورة: "شقه الأيمن"؛ لأن الْجَحْش لم يستوعب الشِّقَّ، وإنما كان في بعضه، وقد تبيّن بتلك الرواية أن ذلك البعض هو الساق، وفي "سنن أبي داود" وغيره، عن جابر رضي الله عنه:"رَكِبَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة، فَصَرَعه على جِذْعِ نخلةٍ، فانفكَّت قدمه. . . " الحديث، فيَحْتَمِل أن يقال في الجمع بينه وبين حديث أنس رضي الله عنه: لا مانع من حصول فَكّ القدم، وقَشْرِ الجلد معًا ويحتمل أنهما واقعتان. انتهى
(1)
.
(فَدَخَلْنَا) أي جماعة الصحابة رضي الله عنهم (عَلَيْهِ نَعُودُهُ) أي يزورونه، يقال: عُدتُ المريضَ عِيَادةً: زُرْتُهُ، فا لرجل عائدٌ، وجمعه عُوّادٌ، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوَّدٌ بغير ألف، قاله الأزهريّ، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
والجملة في محلّ نصبٍ على الحال من فاعل "دخلنا".
(فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) وكذا هو في رواية حميد، عن أنس، عند الإسماعيليّ، وفي رواية مالك، عن ابن شهاب، عن البخاريّ:"فصلى صلاةً من الصلوات".
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فحضرت الصلاة" اللام للعهد ظاهرًا، والمراد الفرض؛ لأنها التي عُرِف من عادتهم أنهم يجتمعون لها، بخلاف النافلة، وحَكَى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلًا.
وتعقب الحافظ هذا، بأن في رواية جابر عند ابن خزيمة، وأبي داود
(1)
"طرح التثريب" 2/ 344.
الجزم بأنها فرضٌ، لكن لم أقف على تعيينها، إلا أن في حديث أنس:"فصلى بنا يومئذ"، فكأنها نهاريّة الظهر، أو العصر. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لفظ حديث أبي داود في "سننه": (602) حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جرير، ووكيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: رَكِب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة، فصَرَعه على جِذْم نخلةٍ، فانفكَّت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشرُبة لعائشة يُسَبِّحُ جالسًا، قال: فقمنا خلفه، فسكت عنّا، ثم أتيناه مرةً أخرى نعوده، فصَلَّى المكتوبة جالسًا، فقمنا خلفه، فأشار إلينا، فقعدنا، قال: فلما قَضَى الصلاة قال: "إذا صَلَّى الإمام جالسًا، فصلوا جلوسًا، وإذا صلى الإمام قائمًا، فصلوا قيامًا، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها". انتهى.
والحديث صحيحٌ، وهو صريح في أنهم دخلوا عليه يعودونه مرّتين، ففي المرّة الأولى صلَّوا وراءه نافلةً قيامًا، وهو جالسٌ، وفي المرّة الثانية صلَّوا وراءه فريضةً قيامًا، فأشار عليهم بالجلوس، فدلّ على اختلاف الحكم بين الفريضة والنافلة، وأن تلك الصلاة التي أمرهم بالجلوس فيها كانت فريضة، واللَّه تعالى أعلم.
قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها، إلا أن في حديث أنس رضي الله عنه:"فصلَّى بنا يومئذ"، فكأنها نهاريّة: الظهر، أو العصر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: في استدلال الحافظ على أنها نهاريّة بقوله: "يومئذ" نظر لا يخفى؛ لأن "يومئذ" في مثل هذا لمطلق الوقت، لا لخصوص النهار، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد تبيّن من قوله: "في مشرُبة لعائشة" أن ذلك لم يكن في المسجد، وإنما كان في بيته، وكأنه لم يستطع الخروج لعذره، ولا يمكن التقدّم عليه، فصلّى بهم، وصلّى الناس وراءه في منزله.
قال القاضي عياض رحمه الله: والظاهر أن مَن في المسجد صلَّى بصلاته؛ لكون منزله في المسجد.
(1)
"الفتح" 2/ 211.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: استظهار القاضي صلاة من في المسجد بصلاته صلى الله عليه وسلم محلّ نظر؛ لأن هذا الحديث لا يدلّ عليه، كما لا يخفى، فتأمل.
قال: وفيه جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه أصحابه إذا كانت معه جماعة هناك، قال: وقد روي هذا عن مالك، وحمله شيوخنا على تفسير ما وقع من الكراهية مجملًا، وأن منعه من ذلك إنما هو لمن يفعله تكبّرًا، وهو ضدّ ما وُضعت له الصلاة من التواضع والسكينة. انتهى
(1)
.
قال العراقيّ رحمه الله: وهذه الصورة إن صحّ فيها أن أهل المسجد صلَّوْا مقتدين بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليست من صُوَر المنع عند مالك وأبي حنيفة؛ لأنهما يقولان: إن كان مع الإمام في العلو طائفة جازت الصلاة بالذين أسفل، وإلا فلا. انتهى
(2)
.
(فَصَلَّى بِنَا) حال كونه صلى الله عليه وسلم (قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا) بالضمّ جمع قاعد، قال في "الفتح": ظاهره يخالف حديث عائشة رضي الله عنها، فإن فيه:"وصلّى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا. . . ".
والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصارًا، وكأنه اقتَصَر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس، وفي رواية للبخاريّ من طريق حميد، عن أنس، بلفظ:"فصلَّى بهم جالسًا، وهم قيامٌ فلما سلم، قال: إنما جُعل الإمام. . . "، وفيها أيضًا اختصارٌ؛ لأنه لم يُذكَر فيه قولُهُ لهم:"اجلسوا".
والجمع بينهما أنهم ابتدءُوا الصلاة قيامًا، فأومأ إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنَقَلَ كلٌّ من الزهريّ وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابر في حديثه الآتي في هذا الباب.
وجَمَعَ القرطبيّ بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قَعَدَ من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهذا الذي حكته عائشة.
وتُعُقِّب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد؛ لأن فرض القادر في الأصل القيام.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 315.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 345 - 346.
وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة، قال الحافظ: وفيه بُعْدٌ؛ لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقةً لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخِّرةً لم يحتج إلى إعادة قول:"إنما جُعِل الإمام ليؤتم به. . . إلخ"؛ لأنهم قد امتَثَلُوا أمره السابق، وصَلَّوا قعودًا؛ لكونه قاعدًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بتعدّد الواقعة لا بُعْد فيه؛ لاحتمال أن يكون الذين صلَّوا معه صلى الله عليه وسلم في واقعة غير الذين صلَّوا معه في أخرى، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
(فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ) وفي نسخة: "صلاته"(قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ) ببناء الفعل للمفعول، وهو بمعنى صُيِّرَ يتعدّى إلى مفعولين، فـ "الإمامُ" بالرفع نائب فاعله، وهو المفعول الأول، وحُذف المفعول الثاني، وهو "إمامًا"، أي إنما جُعل الإمام إمامًا (لِيُؤْتَمَّ بِهِ) أي ليُقتدَى به على الوجه المشروع، فقوله:"فإذا ركع فاركعوا إلخ" بيان للوجه المشروع الذي يُطلب الاقتداء به فيه.
قال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: لفظ "إنما" من صِيَغِ الحصر عند جماعة من أئمة الأصول والبيان، ومعنى الحصر فيها إثباتُ الحكم في المذكور، ونفيُهُ عما عداه، واختار الآمديّ أنها لا تفيد الحصر، وإنما تفيد تأكيد الإثبات فقط، ونقله أبو حيان عن البصريين، وفي كلام الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد: ما يَقتضي نقلَ الاتفاق على إفادتها للحصر.
والمراد بالحصر هنا حصر الفائدة في الاقتداء بالإمام، والاتّباع له، ومن شأن التابع أن لا يتقدم على المتبوع، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فَصَّلها الحديثُ، ولا في غيرها قياسًا عليها، ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة، لا الباطنة، وهي ما لا يَطَّلِع عليه المأموم، كالنية فلا يضرّ الاختلاف فيها، فلا يصحّ الاستدلال به على مَن جَوَّز ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، ومن يصلي الأداء بمن يصلي القضاء، ومن يصلي الفرض بمن يصلي النفل، وعكس ذلك. وعامّة الفقهاء على ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، وترك مخالفته له
(1)
"الفتح" 2/ 211.
في نية أو غيرها؛ لأن ذلك من الاختلاف، وقد نَهَى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله:"فلا تختلفوا".
وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم قد بَيَّنَ وجوه الاختلاف، فقال:"فإذا كَبَّر فكبروا. . . إلخ".
ويُتَعَّقب بإلحاق غيرها بها قياسًا، كما تقدم.
وقد استَدَلَّ بالحديث أيضًا القائلون بأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الإمام، إذا بان جنبًا، أو محدثًا، أو عليه نجاسة خفيّة، وبذلك صَرَّح أصحاب الشافعيّ؛ بناءً على اختصاص النهي عن الاختلاف بالأمور المذكورة في الحديث، أو بالأمور التي يمكن المؤتمَّ الاطّلاع عليها. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجّح عندي أن الاختلاف المنهيّ عنه مقصور على الأشياء المذكورة في الحديث، فلا يُلحَق بها غيرها؛ قياسًا عليها.
ومما يؤيّد هذا ما ورد في قصّة معاذ رضي الله عنه في صلاته مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يؤمّ قومه، وهو متنفّل، وهم مفترضون، وقصّته في "الصحيح"، وكذلك، أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجلين اللذين صلّيا في رحالهما، أن يصليا إذا أتيا المسجد مع الإمام نافلة، وهو حديث صحيح أخرجه الترمذيّ وغيره، وغير ذلك مما يدلّ على أن الاختلاف في مثله لا يضرّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": قال البيضاوي وغيره: الائتمام: الاقتداء، والاتِّباع، أي جعل الإمام إمامًا؛ ليُقْتَدَى به ويُتَّبَع، ومن شأن التابع أن لا يَسْبِق متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله، ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال.
وقال النووي وغيره: متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة، وقد نَبَّه عليها في الحديث، فذكر الركوع وغيره، بخلاف النية فإنها لم تُذْكَر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قِصّة معاذ الآتية.
ويُمكِن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي
(1)
"نيل الأوطار" 4/ 26 - 27.
الحصر في الاقتداء به في أفعاله، لا في جميع أحواله، كما لو كان محدثًا، أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصحّ لمن لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء، ثم مع وجوب المتابعة ليس شيء منها شرطًا في صحة القدوة، إلا تكبيرة الإحرام.
واختلف في السلام، والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية، فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا: لأن معنى الائتمام الامتثال، ومن فَعَل مثل فعل إمامه عُدَّ ممتثلًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الحنفيّة مخالف لصريح الذي يوجب تأخّر فعل المأموم عن فعل الإمام، فمقارنة الإمام في الأفعال محرّمة، بالنصوص الصحيحة، وقد تقدّم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل
(2)
: "فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم"، وقال:"فتلك بتلك"، وكذلك قال في السجود، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِذَا كَبَّرَ) أي للإحرام، أو مطلقًا، فيشمل تكبيرات الانتقالات (فَكَبِّرُوا) وروى أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه:"إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد. . . "، الحديث
(3)
.
فهذه الرواية توضّح أن المراد أن تكبير المأموم يكون بعد تكبير الإمام.
[فائدة]: جزم ابن بطال ومن تبعه حتى ابن دقيق العيد أن الفاء في قوله: "فكبروا" للتعقيب، قالوا: ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام.
لكن تُعُقِّب بأن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط فقط؛ لأنها وقعت جوابًا للشرط، فعلى هذا لا تقتضي تأخُّر أفعال المأموم عن
(1)
"الفتح" 2/ 178.
(2)
هو حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه الطويل، وقد تقدّم في "الصلاة" برقم (16/ 909).
(3)
حديث صحيح أخرجه أبو داود في "سننه" بسند صحيح رقم (603).
الإمام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء، وقد قال قوم: إن الجزاء يكون مع الشرط، فعلى هذا لا تنتفي المقارنة، لكن رواية أبي داود هذه صريحة في انتفاء التقدم والمقارنة، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره في "الفتح" من أن رواية أبي داود بلفظ: "ولا تكبّروا حتى يكبّر، ولا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد" نصّ صريح في منع المقارنة للإمام، فبالأحرى التقدّم، فلا متمسّك لمن قال باستحباب مقارنة الإمام في الركوع والسجود محتجّين بأن الفاء ليست للتعقيب.
ثم إن المراد بالتعقيب هنا هو الترتيب بدون مهلة، فما قاله الأولون من إفادة الفاء له هو الصواب، وأما الاعتراض بأن الفاء لا تفيد الترتيب إلا إذا كانت للعطف، فغير صحيح، فقد نقل محمد الأمير في "حاشيته" على "مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاريّ (1/ 139) عن المحقّق الرضيّ أن الفاء تفيد الترتيب مطلقًا، سواء كانت حرف عطف أو لا. انتهى.
والحاصل أن أفعال المأموم يجب أن تكون بعد أفعال الإمام، وذلك بأن يقع كلّ فعل من أفعاله عقب كلّ فعل من أفعاله، كأن يركع بعد تمام انحناء الإمام، ويسجد بعد تمام وضع جبهته على الأرض، وهكذا بلا تراخ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(وَإِذَا سَجَدَ) أي أخذ وشرع في السجود (فَاسْجُدُوا) أي فلا تسجدوا حتى يتحقّق سجوده، كما بيّنته رواية أبي داود المذكورة:"ولا تسجدوا حتى يسجد"، وهو يتناول جميع السجدات، وقال في "الفتح" بعد ذكر هذه الزيادة من عند أبي داود ما نصّه: وهي زيادةٌ حسنةٌ، تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله:"إذا كبر فكبروا". انتهى. وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: ليس في رواية المصنّف هذه ذكر الركوع، وقد ساقه بتمامه أبو عوانة، وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، ولفظهما: سقط النبيّ صلى الله عليه وسلم من فرس، فَجُحِش شقه الأيمن، فدخلنا نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعدًا، وصلينا خلفه قعودًا، فلما قضى صلاته قال: "إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فماذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن
حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعدًا فصلُّوا قعودًا أجمعون"
(1)
.
قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: قوله: "فإذا ركع فاركعوا"، مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام، إما بعد تمام انحنائه، وإما أن يسبقه الإمام بأوله، فيشرع فيه بعد أن يشرع. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول هو الصواب، يدلّ عليه حديث البراء رضي الله عنه الآتي، ولفظه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، لم يَحْنِ أحدٌ منّا ظهره حتى يقع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجدًا ثم نقع سجودًا بعده"، متّفقٌ عليه، وفي رواية للبخاريّ: قال: "كنا نصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده لم يَحْن أحدٌ منّا ظهره حتى يضع النبيّ صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض".
فهذا ظاهر في أنهم ما كانوا يتابعونه في الركن إلا بعد تمام دخوله صلى الله عليه وسلم فيه.
(وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا) يتناول الرفع من الركوع، والرفع من السجود، قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) قال في "الفتح": كذا لجميع الرُّواة في حديث عائشة بإثبات الواو، وكذا لهم في حديث أبي هريرة، وأنس، إلا في رواية الليث، عن الزهريّ -أي عند البخاريّ- فللكشميهنيّ بحذف الواو.
ورُجِّح إثبات الواو بأن فيها معنى زائدًا؛ لكونها عاطفةً على محذوف، تقديره: ربنا استجب، أو ربنا أطعناك، ولك الحمد، فيشتمل على الدعاء والثناء معًا.
ورجّح قوم حذفها؛ لأن الأصل عدم التقدير، فتكون عاطفة على كلام غير تامّ، والأول أوجه، كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله.
(1)
راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 435 رقم (1615)، و"مستخرج أبي عوانة" 2/ 34 - 35 رقم (913).
(2)
2/ 210.
وقال النوويّ رحمه الله: كذا وقع هنا "ولك الحمد" بالواو، وفي روايات بحذفها، وقد سبق أنه يجوز الأمران. انتهى
(1)
.
وقد تقدّم الكلام على زيادة "اللهم" قبلها، في شرح حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه برقم (909)، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
ونَقَل عياض عن القاضي عبد الوهاب أنه استَدَلَّ به على أن الإمام يقتصر على قوله: "سمع اللَّه لمن حمده"، وأن المأموم يقتصر على قوله:"ربنا ولك الحمد"، وليس في السياق ما يقتضي المنع من ذلك؛ لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي ترك فعله، نعم مقتضاه أن المأموم يقول:"ربنا لك الحمد"، عَقِب قول الإمام:"سمع اللَّه لمن حمده"، فأما منع الإمام من قول:"ربنا ولك الحمد"، فليس بشيء؛ لأنه ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما. انتهى
(2)
.
(وَإِذَا صَلَّى) الإمام حال كونه (قَاعِدًا) لمرض منعه من القيام (فَصَلُّوْا قُعُودًا) بالضمّ: جمع قاعد، حال من الفاعل.
وفي رواية البخاريّ: "وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جُلُوسًا"، قال في "الفتح": استُدِلّ به على صحة إمامة الجالس، وادَّعَى بعضهم أن المراد بالأمر أن يقتدي به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع، والرفع منه، والسجود، قال: فيُحْمَل على أنه لَمّا جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له، فأمرهم بالجلوس تواضعًا، وقد نَبَّهَ على ذلك بقوله في حديث جابر:"إن كِدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم، وهم قُعُود، فلا تفعلوا".
وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد، وبأن سياق طُرُق الحديث تأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن، لقال: وإذا جلس فاجلسوا؛ ليناسب قولَهُ: و"إذا سجد فاسجدوا"، فلما عَدَل عن ذلك إلى قوله:"وإذا صلّى جالسًا"، كان كقوله:"وإذا صلَّى قائمًا"، فالمراد بذلك جميع الصلاة، ويؤيد ذلك قول أنس رضي الله عنه:"فصَلَّينا وراءه قعودًا". انتهى
(3)
، وهو تعقّب جيّدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 132.
(2)
"الفتح" 2/ 210 - 211.
(3)
"الفتح" 2/ 211 - 212.
وقوله: (أَجْمَعُونَ") قال في "الفتح": كذا في جميع الطرق في "الصحيحين" بالواو، إلا أن الرواة اختلفوا في رواية هَمّام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال بعضهم:"أجمعين" بالياء، والأول تأكيد لضمير الفاعل في قوله:"صَلُّوا"، وأخطأ مَن ضَعَّفَه، فإن المعنى عليه، والثاني نَصْبٌ على الحال، أي جُلُوسًا مجتمعين، أو على التأكيد لضميرٍ مقدَّرٍ منصوبٍ، كأنه قال: أَعْنِيكُم أجمعين. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسالة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 926 و 927 و 928 و 929 و 930](411)، و (البخاريّ) في "الأذان"(805) وفي "تقصير الصلاة"(1114)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 195 - 196)، و (ابن ماجه) فيها (1238)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4078)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 325)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1189)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 162)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2102 و 2103 و 2108 و 2111 و 2113)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(229)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 403)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 78)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(850)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1615 و 1616 و 1617 و 1618 و 1619 و 1620)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(913 و 914 و 915 و 916 و 917) واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعية ركوب الخيل، والتدرُّب على أخلاقها، والتأسي لمن يحصل له سقوطٌ ونحوُه بما اتَّفَق للنبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة.
2 -
(ومنها): بيان أنه يجوز على النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها، من غير نقص في مقداره بذلك، بل ليزداد قدرُهُ رِفْعَةً، ومنصبُهُ جلالةً.
3 -
(ومنها): بيان جوازِ الإشارة، والعمل القليل في الصلاة للحاجة.
4 -
(ومنها): بيان وجوب متابعة المأموم لإمامه في التكبير، والقيام، والقعود، والركوع والسجود، وأنه يفعلها بعد الإمام، فيكبر تكبيرة الإحرام بعد فراغ الإمام منها، فإن شَرَع فيها قبل فراغ الإمام منها لم تنعقد صلاته، وكذلك يركع بعد شروع الإمام في الركوع، وقبل رفعه منه، فإن قارنه أو سبقه فقد أساء، ولكن لا تبطل صلاته، وكذا السجود، هذا مذهب الجمهور، وأبطلها الظاهريّة، وهو الظاهر؛ لظواهر النصوص الكثيرة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
قال النوويّ: ويسلّم بعد فراغ الإمام من السلام، فإن سَلَّم قبله بطلت صلاته، إلا أن ينوي المفارقة، ففيه خلاف مشهور، وإن سلّم معه، لا قبله ولا بعده، فقد أساء، ولا تبطل صلاته على الصحيح، وقيل: تبطل. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ لما أسلفته آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): مشروعيّة عيادة المريض، وإن كان المرض خفيفًا، كالخدش، ونحوه، واختُلف في حكمه، ومذهب البخاريّ الوجوب، فقد قال في "صحيحه":"باب وجوب عيادة المريض"، ثم أورد حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أطعموا الجائع، وعُودوا المريض، وفُكُّوا العاني".
ومن أدلته ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "حقُّ المسلم على المسلم خمس: رَدُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".
وفي لفظ لمسلم: "خمسٌ تجب للمسلم على أخيه: ردُّ السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادةُ المريض، واتباع الجنائز".
قال ابن بطّال رحمه الله: يَحْتَمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية، كإطعام الجائع، وفكّ الأسير، ويَحْتَمل أن يكون للندب؛ للحثّ على التواصل والأُلفة، وجزم الداوديّ بالأول، فقال: هي فرضٌ يَحمله بعض الناس عن بعض، وقال الجمهور: هي في الأصل ندبٌ، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ
بعض دون بعض، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما قاله الداوديّ أرجح، فيكون واجبًا كفائيًّا، مثل ردّ السلام، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في محلّه من "كتاب السلام" -إن شاء اللَّه تعالى-.
6 -
(ومنها): جواز صلاة المريض قاعدًا، وهو مجمع عليه، ولا يَتَوَقّف ذلك على عدم إمكان القيام، بل له الصلاة قاعدًا إذا خاف الهلاك، أو زيادة المرض، أو لحوق مشقة شديدة، أو خوف الغَرَق، ودَوَران الرأس في حقّ راكب السفينة، واختار إمام الحرمين في ضبط العجز أن يَلْحَقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه، ذكره العراقيّ رحمه الله
(2)
.
7 -
(ومنها): أنه يجب متابعة الإمام في القعود، وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام، وقد اختُلف فيه، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
8 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: إن قوله: "إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به" حجة لمالك، وعامّة الفقهاء في ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، وترك مخالفته له في نيّة الصلاة، وغير ذلك، لا سيّما مع قوله:"ولا تختلفوا عليه"، ولا خلاف أشدّ من اختلاف النيّات في صلاتين فرضين، أو فرض ونفل.
وخالف في ذلك الشافعيّ، وفقهاء أصحاب الحديث، فأجازوا اقتداء المفترض بالمتنفّل، ومصلِّي الظهر بمصلِّي العصر، وحجتهم حديث معاذ رضي الله عنه، ولا حجة لهم فيه. انتهى كلام القاضي
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كيف لا يكون لهم فيه حجة؟ بل هو من أوضح الحجج للمسألة، فقد أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان يؤمّ قومه في صلاة الفريضة بعد أن أدّى فرضها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أليس هذا حجةً؟.
ومن الحجج لهم أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه ببطن نخل صلاة الخوف مرّتين،
(1)
"الفتح" 10/ 117 "كتاب المرضى" رقم (5648 - 5650).
(2)
"طرح التثريب" 2/ 344.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 313.
بكلّ فرقة مرّةً، فصلاته صلى الله عليه وسلم الثانية وقعت له نفلًا، وللمقتدين فرضًا، ولا شكّ في ذلك.
ومن الحجج أيضًا الحديث الصحيح الذي قدّمناه عن الرجلين اللذين صلّيا في رحالهما، وهي قصّة صحيحة، مشهورة، وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجد، وقد صلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ "، فقام رجل من القوم، فصلّى معه.
وفي رواية أبي داود: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال:"ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه"، وهذا الرجل الذي تصدّق بالصلاة معه متنفّل، اقتدى بمفترض بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الحقّ ما قاله الشافعيّ، وفقهاء أصحاب الحديث، وسيأتي مزيد تحقيق في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.
9 -
(ومنها): ما قاله العراقيّ رحمه الله: إنه يجوز للإمام إذا مَرِض، وعجز عن القيام أن يصلي بنفسه، ولا يستخلف، لكن الأفضل له الاستخلاف.
قال الشافعيّ رحمه الله: وإنما اخترت أن يُوَكِّل الإمام إذا مرض رجلًا صحيحًا يصلي بالناس قائمًا أن مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أيامًا كثيرةً، وإنا لم نعلمه صلّى بالناس جالسًا في مرضه إلا مرةً واحدةً لم يُصَلِّ بهم بعدها عَلِمته حتى لقي اللَّه عز وجل، فدلّ ذلك على أن التوكيل بهم، والصلاةَ قاعدًا جائزان عنده معًا، وكان ما صلّى بهم غيرُهُ بأمره أكثر من ذلك. انتهى.
قال العراقيّ رحمه الله: ومراد الشافعيّ رحمه الله بكونه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس جالسًا في مرضه إلا مرة: مرض موته، فإنه قد صلّى بهم في غير مرض الموت غير مرة، وهو جالس، وهم جلوس، كما دلّت عليه الأحاديث، وكذا ذكر الحنابلة، أنه يستحب له الاستخلاف عند العجز عن القيام، وعَلَّلوه بأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فنخرج من الخلاف، وبأن صلاة القائم أكمل، فيُستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة.
وأجابوا عن هذا الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، واستَخْلَف في الأكثر، وبأن الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا أفضل من الاقتداء بغيره قائمًا.
انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في البحث المتعلّق بقوله: "وإذا صلّى قاعدًا، فصلّوا قُعُودًا":
(اعلم): أنه قد لخّص الحافظ الزيلعيّ رحمه الله في "نصب الراية" اختلاف الروايات في هذا، فقال:
حديث: "إذا صلّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا"، أخرجه البخاريّ، ومسلم، وباقي الستة عن الزهريّ، عن أنس رضي الله عنه، قال: سقط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن فرس، فَجُحِش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلّى بنا قاعدًا، فصلينا وراءه قعودًا، فلما قضى الصلاة قال:"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا -إلى أن قال-: وإذا صلّى قاعدًا، فصلوا قعودًا".
وأخرجا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما جُعِل الإمام ليؤتم به. . . " الحديث، ليس فيه قصة الفرس.
وأخرجا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشتكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسًا، فصلَّوا بصلاته قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا، فلما انصرف قال:"إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلّى جالسًا فصلّوا جلوسًا". انتهى.
وأخرج مسلم عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه نحوه سواءً.
وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" حديث أنس المذكور من رواية حميد الطويل عنه، مخالفًا لرواية الزهريّ عنه، ولفظه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه، فجُحِشت ساقه، أو كتفه، وآلى من نسائه شهرًا، فجلس في مَشْرُبة له، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلّى بهم جالسًا، وهم قيامٌ، فلما سَلَّم قال:"إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلّى قائمًا فصلّوا قيامًا"، ونزل لتسع وعشرين، فقالوا: يا رسول اللَّه، إنك آليت شهرًا، فقال:"إن الشهر تسع وعشرون". انتهى. ذكره
(1)
"طرح التثريب" 2/ 345.
في أوائل "الصلاة" في "باب الصلاة في السُّطُوح"، منفردًا به دون الباقين.
وتَكَلَّف القرطبيّ في "شرح مسلم" الجمع بين الروايتين، فقال: يَحْتَمِل أن يكون البعض صلَّوا قيامًا، والبعض صلَّوا جلُوسًا، فأخبر أنس بالحالتين، وهذا مع ما فيه من التعسف، ليس في شيء من الروايات ما يساعده عليه.
قال الزيلعيّ رحمه الله: وقد ظهر لي فيه وجهان:
[أحدهما]: أنهم صلَّوا خلفه قيامًا، فلما شَعَر بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجلوس فجلسوا، فرآهم أنس على الحالتين، فأخبر بكل منهما مختصرًا للأخرى، لم يذكر القصة بتمامها، يدلّ عليه حديث عائشة، وحديث جابر المتقدم.
[الثاني]: وهو الأظهر أنهما كانا في وقتين، وإنما أقرّهم عليه السلام في إحدى الواقعتين على قيامهم خلفه؛ لأن تلك الصلاة كانت تطوعًا، والتطوعات يُحْتَمَل فيها ما لا يُحْتَمَل في الفرائض، وقد صُرِّح بذلك في بعض طرُقه، كما أخرجه أبو داود في "سننه" عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال: ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة، فصَرَعه على جِذْم نَخْلَة
(1)
، فانفكّت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مَشْرُبة لعائشة، يُسَبِّح جالسًا، قال: فقمنا خلفه، فسكت عنّا، ثم أتيناه مرةً أخرى نعوده، فصلّى المكتوبة جالسًا فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا، قال: فلما قضى الصلاة قال: "إذا صلّى الإمام جالسًا فصلّوا جلوسًا، وإذا صلى قائمًا فصلُّوا قيامًا، ولا تفعلوا كما تفعل فارس بعظمائها". انتهى.
ورواه ابن حبّان في "صحيحه" كذلك، ثم قال:
وفي هذا الخبر دليل على أن ما في حديث حميد، عن أنس، أنه صلّى بهم قاعدًا، وهم قيام، أنه إنما كانت تلك الصلاة سبحةً، فلما حضرت الفريضة أمرهم بالجلوس فجلسوا، فكان أمرَ فريضة، لا فضيلة. انتهى.
قلت
(2)
: ومما يدلّ على أن التطوعات يُحْتَمَل فيها ما لا يُحْتَمَل في الفرائض، ما أخرجه الترمذيّ، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إياك والالتفاتَ في الصلاة، فإنه
(1)
بكسر، فسكون: أي قِطعة نخلة.
(2)
القائل هو الزيلعيّ رحمه الله.
هَلَكَةٌ، فإن كان لا بُدّ ففي التطوع، لا في الفريضة"، وقال: حديث حسنٌ
(1)
. انتهى.
قال: وأصحابنا -يعني الحنفيّة- يجعلون أحاديث: "إذا صلّى جالسًا، فصلّوا جلوسًا" منسوخة بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أنه صلّى آخر صلاته قاعدًا، والناس خلفه قيام، وبحديث:"لا يَؤُمَّنَّ أحد بعدي جالسًا"، وسيأتي ذكره.
لكن حديث عائشة وقع فيه اضطراب لا يَقْدَح فيه، فالذي تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم كان إمامًا. وأبو بكر مأموم، وقد ورد فيه العكس، كما أخرجه الترمذيّ والنسائيّ عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيحٌ.
وأخرج النسائيّ أيضًا عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: آخر صلاة صلّاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع القوم صلّى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر. انتهى.
ومثل هذا لا يعارض ما وقع في "الصحيح"، مع أن العلماء جمعوا بينهما.
قال البيهقيّ في "المعرفة": ولا تعارض بين الخبرين، فإن الصلاة التي كان فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم إمامًا هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها صلى الله عليه وسلم حتى خرج من الدنيا، قال: وهذا لا يخالف ما يثبت عن الزهريّ، عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه عليه السلام الستر، ثم إرخائه، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى، ثم إنه عليه السلام وجد في نفسه خِفّةً، فخرج، فأدرك معه الركعة الثانية، يدُلُّ عليه ما ذكره موسى بن عقبة في "المغازي"، عن الزهريّ، وذكره أبو الأسود، عن عروة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَقْلَعَ عنه الوَعْكُ ليلة الاثنين، فغدا إلى صلاة الصبح متوكئًا على الفضل بن العباس وغلام له، وقد سجد الناس مع أبي بكر، حتى قام إلى جنب أبي بكر، فاستأخر أبو بكر، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بثوبه،
(1)
بل هو ضعيف؛ لأن في سنده عليّ بن زيد بن جدعان، ضعيف.
فقدَّمه في مصلّاه، فصفّا جميعًا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ، وأبو بكر يقرأ، فركع معه الركعة الآخرة، ثم جلس أبو بكر، حتى قَضَى سجوده، فتشهد وسلم، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى، ثم انصرف إلى جِذْع من جذوع المسجد، فذكر القصة في دعائه أُسامة بن زيد، وعَهْدِه إليه فيما بعثه فيه، ثم في وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ.
أخبرنا به أبو عبد اللَّه الحافظ، بسنده إلى ابن لَهِيعة، حدثنا أبو الأسود، عن عروة، فذكره.
قال البيهقيّ: فالصلاة التي صلاها أبو بكر، وهو مأموم هي صلاة الظهر، وهي التي خرج فيها بين العباس وعليّ رضي الله عنهما، والتي كان فيها إمامًا هي صلاة الصبح، وهي التي خرج فيها بين الفضل بن العباس وغلام له، وفيها الجمع بين الأخبار. انتهى كلام البيهقيّ.
قلت: وحديث كشف الستارة في "الصحيحين"، وليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلّى خلف أبي بكر، أخرجاه عن أنس، أن أبا بكر كان يصلّي بهم في وجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في الصلاة كشف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ستر الْحُجْرة، فنظر إلينا وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضاحكًا، قال: فَبُهِتنا ونحن في الصلاة فرحًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونَكَصَ أبو بكر على عقبيه، وظَنّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل، وأرخى الستر، وتُوُفّي من يومه ذلك.
وفي لفظ للبخاريّ أن ذلك كان في صلاة الفجر، واللَّه ألحم.
وقال ابن حبان في "صحيحه" بعد أن روى حديث عائشة من رواية زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عائشة بلفظ "الصحيحين"، ثم رواه من حديث شعبة، عن موسى بن أبي عائشة به، أن أبا بكر صلّى بالناس، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه. انتهى.
قال: فهذا شعبة قد خالف زائدة في هذا الخبر، وهما ثبتان حافظان، ثم أخرج عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: أُغْمي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق، فقال:"أصَلّى الناسُ؟ "، قلنا:
لا. . . الحديث، إلى أن قال: فخرج بين بَرِيرة ونُوبة
(1)
، فأجلسناه إلى جنب أبي بكر، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو جالس، وأبو بكر قائم، يصلّي بصلاة رسول اللَّه، والناس يصلّون بصلاة أبي بكر.
ثم قال: وقد خالف نعيم بن أبي هند في هذا الخبر عاصم بن أبي النجود، ثم أخرج عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدًا، قال: وعاصم بن أبي النجود، ونعيم بن أبي هند حافظان ثقتان.
قال: وأقول -وباللَّه التوفيق-: إن هذه الأخبار كلها صحيحة، ليس فيها تعارض، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد، في إحداهما كان إمامًا، وفي الأخرى كان مأمومًا، قال: والدليل على ذلك أن في خبر عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم خرج بين رجلين: العباس وعليّ، وفي خبر مسروق عنها أنه صلى الله عليه وسلم خرج بين بَرِيرة ونُوبة، فهذا يدلّ على أنها كانت صلاتين لا صلاةً واحدة. انتهى
(2)
.
وفي كلام البخاريّ ما يقتضي الميل إلى أن حديث: "إذا صلّى جالسًا فصلّوا جلوسًا" منسوخ، فإنه قال -بعد أن رواه-: قال الحميديّ: هذا حديث منسوخٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم آخر ما صلّى صلّى قاعدًا، والناس خلفه قيامٌ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم. انتهى. ذكره في عدة مواضع من كتابه.
وابن حبان لم ير النسخَ، فإنه قال بعد أن رواه في "صحيحه": وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلّى قاعدًا كان على المأمومين أن يصلّوا قعودًا، وأفتى به من الصحابة: جابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة، وأُسيد بن حُضير، وقيس بن قَهْد، ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع، فكان إجماعًا، والإجماع عندنا إجماع الصحابة، وقد أفتى به من التابعين: جابر بن زيد، ولم يُرْوَ عن غيره من التابعين خلافه بإسناد صحيح ولا واهٍ، فكان إجماعًا من التابعين أيضًا.
(1)
بضم النون وبالموحّدة، هو نوبة الأسود مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(2)
راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 460 - 488.
وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مِقْسَم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة، ثم عنه أصحابه، وأعلى حديث احتجُّوا به حديثٌ رواه جابر الجعفيّ، عن الشعبيّ، قال صلى الله عليه وسلم:"لا يَؤُمَّنّ أحد بعدي جالسًا"، وهذا لو صح إسناده لكان مرسلًا، والمرسل عندنا وما لم يُرْوَ سِيّان؛ لأنا لو قبلنا إرسال تابعيّ، وإن كان ثقة للزمنا قبول مثله عن أتباع التابعين، وإذا قبلنا لزمنا قبوله من أتباع أتباع التابعين، ويؤدي ذلك إلى أن يُقْبَل من كل أحد إذا قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نقض الشريعة.
والعجب أن أبا حنيفةَ يَجْرَح جابرًا الجعفيّ ويُكَذِّبه، ثم لما أخطره الأمر جعل يحتج بحديثه، وذلك كما أخبرنا به الحسين بن عبد اللَّه بن يزيد القطان بالرَّقَّة، ثنا أحمد بن أبي الحوَارِيّ، سمعت أبا يحيى الْحِمّانيّ، سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفيّ، ما أتيته بشيء من رأيي قط إلا جاءني فيه بحديث. وقد ذكرنا ترجمة جابر الجعفيّ في "كتاب الضعفاء". انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله باختصار
(1)
.
وحديث جابر الجعفيّ هذا أخرجه الدارقطنيّ، ثم البيهقيّ في "سننهما" عن جابر الجعفيّ، عن الشعبيّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمنّ أحد بعدي جالسًا"، قال الدارقطنيّ: لم يروه عن الشعبيّ غير جابر الجعفيّ، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. انتهى.
وقال عبد الحق في "أحكامه": ورواه عن الجعفيّ مُجالدٌ، وهو أيضًا ضعيف. انتهى.
وقال البيهقيّ في "المعرفة": الحديث مرسل لا تقوم به حجةٌ، وفيه جابر الجعفيّ، وهو متروك في روايته، مذموم في رأيه، ثم قد اختُلِف عليه فيه، فرواه ابن عيينة عنه كما تقدم، ورواه ابن طهمان عنه، عن الحكم، قال: كتب عمر: "لا يؤمنّ أحد جالسًا بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وهذا مرسل موقوفٌ.
ثم أسند عن الشافعيّ، ثنا عبد الوهاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، عن
(1)
راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 471 - 475.
أبي الزبير، عن جابر، أنها صلّى وهو مريض جالسًا، وصلّى الناس خلفه جلوسًا، وأخبرنا الثقفي عن يحيى بن سعيد أن أُسيد بن حضير فعل مثل ذلك، قال الشافعيّ: وإنما فعلا مثل ذلك لأنهما لم يعلما بالناسخ، وكذلك ما حُكِي عن غيرهم من الصحابة أنهم أَمَّوْا جالسين، ومن خلفهم جُلوسٌ محمول على أنه لم يبلغهم النسخ، وعلم الخاصة يوجد عند بعض، ويَعْزُب عن بعض. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: دعوى النسخ في هذه المسألة، لا تثبت، وسيأتي إيضاحها، وتحقيق الخلاف فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة خلف الإمام القاعد لعلّة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في الإمام يصلّي قاعدًا من علّة:
فقالت طائفة: يصلّون قُعودًا؛ استنانًا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين صلَّوا خلفه قيامًا بالقعود، فممن رُوي عنه أنه استعمل ذلك: جابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة، وأُسَيد بن حُضَير، وقد روينا عن قَيْس بن قَهْد -بفتح القاف، وسكون الهاء- أن إمامًا اشتكى لهم أعلى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: فكان يؤمّنا جالسًا، ونحن جُلُوس.
قال ابن المنذر: وهذا قول أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، قال أحمد: كذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفعله أربعةٌ من أصحابه: أُسيد بن حُضَير، وقيس بن قَهْد، وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
قال ابن المنذر: وكان أحقّ الناس بالاستدلال لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن ذلك غير منسوخ مَنْ جَعَلَ مَشْيَ ابن عُمر بعد بيعه بأنها أحد الدلائل على أن الافتراق في البيوع افتراق الأبدان؛ لما روى ابن عمر الحديث، قال: ابنُ عمر أعلم بتأويل حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ممن بعده، فكذلك لما كان فيما
(1)
راجع: "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" 2/ 42 - 52.
روى
(1)
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ الذين صَلَّوْا خلفه قيامًا بالقعود أبو هريرة، وجابر، ثم استعملوا ذلك بعد وفاته، وجب كذلك على هذا القائل أن يقول: أبو هريرة وجابر أعلم بتأويل حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبناسخه ومنسوخه ممن بعدهما.
ولو لم تختلف الأخبار في أمر أبي بكر في موضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يجز الانتقال عما سنّه النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم، وأمرهم بالقعود إذا صلَّى إمامهم قاعدًا؛ لأن الذي افتتح بهم الصلاة أبو بكر، فوجب عليهم القيام؛ لقيام أبي بكر بهم مما لم يحدث بإمامهم الذي عقد بهم الصلاة بأنها علّة
(2)
، فوجب الجلوس، فعليهم أن يفعلوا كفعل إمامهم، وإن تقدّم إمام غير الإمام الذي عقدوا الصلاة معه، فصلّى جالسًا، فليس عليهم الجلوس ما دام الإمام الذي عقدوا معه الصلاة قائمًا، فإذا كانت الحال هكذا في حدوث إمام بعد إمام استُعمل ما جاءت به الأخبار في مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه، وإذا كان مثل الحال الذي صلّى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في منزله، وافتَتَح بهم الصلاةَ قاعدًا، فعليهم القعود بقعوده.
فتكون كلُّ سنّة من هاتين السنّتين مستقلّة في موضعها، ولا يبطل كلُّ واحدة للأخرى؛ أن معنى
(3)
كلّ سنة غير معنى الأخرى.
وقد تأوّل هذا المعنى بعينه أحمد بن حنبل، وكان أولى الناس بأن يقول هذا القول مَنْ مذهبه استعمال الأخبار كلّها إذا وَجَد إلى استعمالها سبيلًا، كاختلاف صفة صلاة الخوف على اختلاف الأحوال فيها، هذا لو كانت الأحوال لا تختلف في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه.
وقالت طائفة: إن صلّى الإمام قاعدًا صلّى المأمومون قيامًا إذا أطاقوا، وصلّى كلُّ واحد فرضه، هذا قول الشافعيّ، قال: أمرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث
(1)
هكذا نسخة "الأوسط" ولعله: "فيمن روى".
(2)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب:"ما لم يحدُث بإمامهم الذي عقد بهم الصلاة علّة. . . إلخ"، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
(3)
كذا النسخة، وهو بتقدير لام التعليل؛ أي لأن معنى. . . إلخ.
أنس، ومن حدّث معه في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلّى بهم جالسًا، ومن خلفه جلوسٌ منسوخٌ بحديث عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بهم في مرضه الذي مات فيه جالسًا، وصلَّوا خلفه قيامًا.
وقال أصحاب الرأي في مريض صلّى قاعدًا يسجد ويركع، فائتمّ به قوم فصلَّوا خلفه قيامًا: يُجزيهم، وإن كان الإمام قاعدًا يومئ إيماءً، أو مضطجعًا على فراشه يومئ إيماءً، والقوم يصلّون قيامًا قال: لا يجزيه، ولا يجزئ القوم في الوجهين جميعًا.
وقال أبو ثور كما قال الشافعيّ.
وفي المسألة قول ثالث، قاله مالك، قال: لا ينبغي لأحد أن يؤمّ الناس قاعدًا، وحُكي عن المغيرة أنه قال: ما يعجبني أن يصلّي الإمام بالقوم جلوسًا، وقد روينا عن جابر الجعفيّ، عن الشعبيّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمّنّ أحد بعدي جالسًا".
قال ابن المنذر: وهذا خبر واهٍ، تُحيط به العلل، جابر متروك الحديث، والحديث مرسل، وهو مخالف للأخبار الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله ملخّصًا
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: واستُدلّ به -أي بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور الآتي- على صحّة إمامة القاعد المعذور بمثله، وبالقائم أيضًا، وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه، ومحمد بن الحسن، فيما حكاه الطحاويّ، ونَقَل عنه أن ذلك خاص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، واحتَجّ بحديث جابر، عن الشعبيّ مرفوعًا:"لا يَؤُمَّنّ أحدٌ بعدي جالسًا".
واعترضه الشافعيّ، فقال: قد عَلِم مَن احتجّ بهذا أن لا حجة فيه؛ لأنه مرسلٌ، ومن رواية رجل يَرْغَب أهلُ العلم عن الرواية عنه، يعني جابرًا الجعفيّ.
وقال ابن بزيزة: لو صَحّ لم يكن فيه حجة؛ لأنه يَحْتَمل أن يكون المراد منع الصلاة بالجالس؛ أي يُعْرَب قوله: "جالسًا" مفعولًا لا حالًا.
(1)
"الأوسط" 4/ 205 - 208.
وحكى عياض عن بعض مشايخهم أن الحديث المذكور يدُلّ على نسخ أمره المتقدِّم لهم بالجلوس لَمّا صلَّوا خلفه قيامًا.
وتُعُقِّب بأن ذلك يَحتاج لو صحّ إلى تاريخ، وهو لا يصحّ، لكنه زَعَم أنه تَقَوَّى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحدٌ منهم، قال: والنسخ لا يثبت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث المذكور.
وتُعُقِّب بأنّ عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع، ثم لو سُلِّم لا يلزم منه عدم الجواز؛ لاحتمال أن يكونوا اكتَفَوا باستخلاف القادر على القيام؛ للاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنسبة إلى صلاة القائم بمثله، وهذا كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود.
واحتَجَّ أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم إنما صلّى بهم قاعدًا؛ لأنه لا يصح التقدم بين يديه؛ لنهي اللَّه عن ذلك، ولأن الأئمة شُفَعاء، ولا يكون أحدٌ شافعًا له.
وتُعُقّب بصلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف، وهو ثابت بلا خلاف، وصَحَّ أيضًا أنه صلّى خلف أبي بكر.
والعجب أن عمدة مالك في منع إمامة القاعد قولُ ربيعة: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة مأمومًا خلف أبي بكر، وإنكاره أن يكون صلى الله عليه وسلم أمَّ في مرض موته قاعدًا، كما حكاه عنه الشافعيّ في "الأم"، فكيف يدَّعي أصحابه عدم تصوير أنه صلّى مأمومًا، وكأن حديث إمامته المذكور لَمّا كان في غاية الصحة، ولم يمكنهم ردُّهُ سلكوا في الانتصار وجوهًا مختلفة.
وقد تبيّن بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف، أن المراد بمنع التقدم بين يديه في غير الإمامة، وأن المراد بكون الأئمة شفعاء، أي في حق مَن يَحتاج إلى الشفاعة.
ثم لو سُلِّم أنه لا يجوز أن يؤمه أحدٌ لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أمَّ قاعدًا جماعة من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم منهم أُسيد بن حُضير، وجابر، وقَيس بن قَهْد، وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحةٌ، أخرجها عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم.
بل ادَّعى ابنُ حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد.
وقال أبو بكر ابن العربيّ: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم-
يَخْلُص عند السبك، واتِّباع السنة أولى، والتخصيصُ لا يثبت بالاحتمال، قال: إلا أني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتبرك به، وعدم العِوَض عنه، يقتضي الصلاة معه على أيِّ حال كان عليها، وليس ذلك لغيره، وأيضًا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يُتَصَوَّر في حقه، ويتصور في حق غيره.
والجواب عن الأول ردُّه بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حقّ القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم.
واستُدِلّ به على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعدًا إذا صلّى الإمام قاعدًا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أقرّ الصحابة على القيام خلفه، وهو قاعدٌ، هكذا قرره الشافعيّ، وكذا نقله البخاريّ في آخر الباب عن شيخه الحميديّ، وهو تلميذ الشافعيّ، وبذلك يقول أبو حنيفة، وأبو يوسف، والأوزاعيّ، وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك.
وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين: إحداهما إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدًا لمرض يُرْجَى برؤه، فحينئذ يصلّون خلفه قُعُودًا، ثانيتهما إذا ابتدأ الإمام الراتب قائمًا لزم المأمومين أن يصلُّوا خلفه قيامًا سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدًا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن تقريره لهم على القيام دلّ على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائمًا، وصلَّوا معه قيامًا بخلاف الحالة الأولى، فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسًا، فلما صلَّوا خلفه قيامًا أنكر عليهم.
ويُقَوِّي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيّما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلّي قاعدًا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلّى إمامه قاعدًا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدَّم عن نقل عياض، فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات.
وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية، كابن خزيمة، وابن
المنذر، وابن حبان، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة أخرى، منها: قولُ ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلّي قاعدًا تبعًا لإمامه لم يُختَلَف في صحتها، ولا في سياقها، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم قاعدًا، فاختُلِف فيها، هل كان إمامًا أو مأمومًا؟ قال: وما لم يُخْتَلَف فيه لا ينبغي تركه لمختَلَف فيه.
وأجيب بدفع الاختلاف، والحمل على أنه كان إمامًا مرةً، ومأمومًا أخرى.
ومنها: أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا الأمرِ مَن أَمَّ قاعدًا لعذر تَخَيَّر مَن صلّى خلفه بين القعود والقيام، والقعودُ أولى؛ لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع، وكثرةِ الأحاديث الواردة في ذلك.
وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد مَن استبعد ذلك بأن الأمر قد صدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، واستمرّ عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فرَوَى عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن قيس بن قَهْد -بفتح القاف، وسكون الهاء- الأنصاريّ أن إمامًا لهم اشتكى لهم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فكان يؤمّنا، وهو جالسٌ، ونحن جلوس.
وروى ابن المنذر بإسناد صحيح، عن أُسيد بن حُضير أنه كان يؤمُّ قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلّي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن أصلّي قائمًا، فاقعدوا، فصلّى بهم قاعدًا، وهم قعود.
وروى أبو داود من وجه آخر عن أُسيد بن حُضير، أنه قال: يا رسول اللَّه إن إمامنا مريضٌ، قال:"إذا صلّى قاعدًا فصلّوا قعودًا"، وفي إسناده انقطاع.
ورَوَى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن جابر، أنه اشتكى، فحضرت الصلاة، فصلّى بهم جالسًا، وصلَّوا معه جلوسًا.
وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك، وإسناده صحيح أيضًا.
وقد ألزم ابن المنذر من قال بأن الصحابيّ أعلم بتأويل ما رَوَى بأن يقول بذلك؛ لأن أبا هريرة وجابرًا رويا الأمر المذكور، واستمرّا على العمل به، والفتيا بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويلزم ذلك من قال: إن الصحابي إذا رَوَى وعَمِل بخلافه أن العبرة بما عَمِل من باب أولى؛ لأنه هنا عَمِل بوفق ما رَوَى.
وقد ادَّعَى ابن حبان الإجماع على العمل به، وكأنه أراد السكوتيّ؛ لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم، وقال: إنه لا يُحْفَظ عن أحد من الصحابة غيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم: إنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلافُ ذلك، ثم نازع في ثبوت كون الصحابة صَلَّوا خلفه صلى الله عليه وسلم، وهو قاعد قيامًا غير أبي بكر، قال: لأن ذلك لم يَرِد صريحًا، وأطال في ذلك بما لا طائل فيه، والذي ادَّعى نفيه قد أثبته الشافعيّ، وقال: إنه في رواية إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا حجة في هذا؛ لأن الشافعي لم يروه متّصلًا، ومعلوم أنه يروي عن إبراهيم بن أبي يحيى، وقد كذّبه أبو داود وغيره، فتنبّه.
قال الحافظ: ثم وجدته مُصَرَّحًا به أيضًا في "مصنف عبد الرزاق"، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، فذكر الحديث، ولفظه:"فصلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا، وجعل أبو بكر وراءه بينه وبين الناس، وصلّى الناس وراءه قيامًا"، وهذا مرسلٌ يَعتضد بالرواية التي علَّقها الشافعيّ، عن النخعيّ، وهذا هو الذي يقتضيه النظر، فإنهم ابتدؤوا الصلاة مع أبي بكر قيامًا بلا نزاع، فمن ادَّعَى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي ما يردّ هذا، وكيف يحتجّ بمرسل عطاء، وقد ضعّفه الأئمة؟ ضعّفه يحى القطان؛ لأنه يأخذ عن الضعفاء، وكذلك ضعّفه الإمام أحمد، بل قال: مراسيل الحسن وعطاء أضعف المراسيل؛ لأنهما يأخذان عن كلٍّ؛ أي كلّ الناس الثقات والضعفاء، راجع ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ"
(1)
.
قال: ثم رأيت ابن حبّان استَدَلّ على أنهم قعدوا بعد أن كانوا قيامًا بما رواه من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال:"اشتكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلّينا وراءه، وهو قاعدٌ، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلَّم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، فلا تفعلوا. . . " الحديث، وهو حديث صحيحٌ، أخرجه مسلم، لكن ذلك لم
(1)
1/ 319 - 320 بنسخة تحقيق نور الدين عتر.
يكن في مرض موته، وإنما كان ذلك حيث سَقَط عن الفرس، كما في رواية أبي سفيان، عن جابر أيضًا، قال:"رَكِب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة، فصرعه على جِذْع نخلة، فانفَكَّت قدمه. . . " الحديث، أخرجه أبو داود، وابن خزيمة، بإسناد صحيح، فلا حجة على هذا لما ادّعاه، إلا أنه تمسك بقوله في رواية أبي الزبير:"وأبو بكر يُسمع الناس التكبير"، وقال: إن ذلك لم يكن إلا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مَشْرُبة عائشة، ومعه نفر من أصحابه، لا يحتاجون إلى من يُسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد بجمع كثير من الصحابة، فاحتاج أبو بكر أن يسمعهم التكبير. انتهى.
ولا راحة له فيما تمسك به؛ لأن إسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحدٌ، وعلى تقدير أنه حفظه، فلا مانع أن يُسمعهم أبو بكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يُحْمَل على أن صوته صلى الله عليه وسلم كان خفيًّا من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير، فكان أبو بكر يجهر عنه بالتكبير لذلك، ووراء ذلك كلِّه أنه أمر مُحْتَمِل لا يُتْرَك لأجله الخبر الصريح بأنهم صلَّوا قيامًا، كما تقدم في مرسل عطاء وغيره، بل في مرسل عطاء أنهم استمروا قيامًا إلى أن انقضت الصلاة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن مرسل عطاء ضعيف، كما أسلفناه آنفًا، فلا يكون حجة في المسألة، فتدبّر، ومما يؤيّد ذلك ما أشار إليه بقوله:
نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلًا به بعد قوله: "وصلّى الناس وراءه قيامًا"، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ ما صلّيتم إلا قعودًا، فصلُّوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلّى قائمًا، فصلّوا قيامًا، وإن صلّى قاعدًا فصلّوا قعودًا"، وهذه الزيادة تُقَوِّي ما قال ابن حبان أن هذه القصة كانت في مرض موت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا هو العدل، فلو قدّرنا صلاحية مرسل عطاء للاحتجاج به، لكان الاحتجاج بهذه الزيادة أولى وأقرب، فنقول: إن حجة دعوى النسخ بمرسل عطاء بطلت بما دلّت عليه هذه الزيادة؛ لأنه أمرهم بأن يصلّوا قعودًا إذا صلّى الإمام قاعدًا.
والحاصل أن الظاهر صحّة ما قاله ابن حبّان رحمه الله في المسألة، واللَّه تعالى أعلم.
قال: ويُستفاد منها -أي من هذه الزيادة- نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعودًا إذا صلّى إمامهم قاعدًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نُسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب، فيُحْمَل أمره الأخير بأن يصلُّوا قعودًا على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رُفِع بتقريره لهم، وترك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة، وباللَّه التوفيق، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ المحقّق رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله أخيرًا تحقيقٌ حسنٌ، إلا احتجاجه على الاستحباب بمرسل عطاء المذكور؛ لأنك عرفت أنه ضعيف، فتأمّل.
وبالجملة فهذا يدلّ على إنصاف الحافظ رحمه الله في هذه المسألة حيث خالف مذهبه؛ لأن مذهب الشافعي بخلافه، وهذا هو الذي يجب على كلّ مسلم عَرَفَ صحيح الأحاديث من سقيمها، وعَرَف الجمع بين مختلفها، لا أن يتعصّب لرأي بعض الناس، فيتكلّف ويتعسّف بتأويل ما لا يَقبل التأويل، وهو صرف ظواهر الأحاديث عن مقتضاها؛ لمخالفتها مذهبه.
والحاصل أن الأرجح ما ذهب إليه من قال: إن من صلّى خلف إمام يصلّي قاعدًا لعذر منعه من القيام يصلّي قاعدًا تبعًا لإمامه كما فعل الصحابة وراء النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمره، ولكن إن صحّ ما دلّ عليه مرسل عطاء المذكور، فلا مانع لمن صلّى قائمًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقرّهم عليه، ولم يأمرهم بإعادة ما صلّوا قائمين، فدلّ على جوازه، وإن كان الأولى الصلاة قاعدًا؛ لأمره صلى الله عليه وسلم به، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف الروايات، هل كان النبيّ صلى الله عليه وسلم الإمامَ، أو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه هو الإمام؟:
(اعلم): أن جماعةً قالوا: الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها صريح في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان هو الإمامَ؛ لأنه جَلَس عن يسار أبي بكر، ولقوله: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي به، وكان أبو بكر مبلغًا؛ لأنه لا يجوز أن يكون للناس إمامان.
وقالت طائفة: كان أبو بكر هو الإمامَ؛ لما رواه شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى خلف أبي بكر، وفي رواية مسروق عنها: أنه صلى الله عليه وسلم صلّى خلف أبي بكر جالسًا في مرضه الذي تُوُفِّي فيه.
وروي حديث عائشة بطرق كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما، وفيه اضطراب غير قادح، وقال البيهقيّ: لا تعارض في أحاديثها، فإن الصلاة التي كان فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم إمامًا، هي صلاة الظهر يوم السبت، أو يوم الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلّاها صلى الله عليه وسلم حتى خرج من الدنيا.
وقال نعيم بن أبي هند: الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحةٌ، وليس فيها تعارضٌ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد، في إحداهما كان إمامًا، وفي الأخرى كان مأمومًا.
وقال الضياء المقدسيّ، وابن ناصر: صحّ وثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلّى خلفه مقتديًا به في مرضه الذي تُوُفّي فيه ثلاث مرات، ولا ينكر ذلك إلا جاهل، لا علم له بالرواية.
وقيل: إن ذلك كان مرتين؛ جمعًا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان.
وقال ابن عبد البر: الآثار الصحاح على أن النبيّ هو الإمام، ذكر هذا كلّه العينيّ في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح" ما حاصله: روى ابن خزيمة في "صحيحه" عن محمد بن بشار، عن أبي داود، عن شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدَّم بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصفّ، ومنهم من يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المقدَّم"، ورواه مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى خلف أبي بكر"، أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديدٌ.
(1)
راجع "عمدة القاري" 5/ 191.
ووقع في رواية مسروق عنها أيضًا اختلاف، فأخرجه ابن حبان من رواية عاصم، عن شقيق، عنها بلفظ:"كان أبو بكر يصلّي بصلاته، والناس يصلّون بصلاة أبي بكر"، وأخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن خزيمة، من رواية شعبة، عن نعيم بن أبي هند، عن شقيق، بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى خلف أبي بكر".
وظاهر رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تضافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة.
منها: رواية موسى بن أبي عائشة التي أشرنا إليها -يعني الرواية المذكورة هنا- ففيها: "فجَعَل أبو بكر يصلّي بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر"، وهذه رواية زائدة بن قُدامة، عن موسى.
وخالفه شعبة أيضًا، فرواه عن موسى، بلفظ:"أن أبا بكر صلّى بالناس، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه".
فمن العلماء: مَن سَلَك الترجيح، فقدَّم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأمومًا للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ في حديث الأعمش من غيره.
ومنهم: مَن سَلَك عكس ذلك، ورَجّح أنه كان إمامًا، وتمسك بقول أبي بكر رضي الله عنه الآتي في الباب التالي:"ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
ومنهم: مَن سَلَك الجمعَ، فحمل القصة على التعدد، وأجاب عن قول أبي بكر كما سيأتي في بابه.
ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة، غير عائشة رضي الله عنها، فحديث ابن عباس فيه: أن أبا بكر كان مأمومًا، وكذا في رواية أرقم بن شُرَحبيل عن ابن عباس
(1)
، وحديث أنس فيه: أن أبا بكر كان إمامًا، أخرجه الترمذيّ وغيره من
(1)
هو ما أخرجه ابن ماجه في "سننه" بإسناد حسن (1235) عن الأرقم بن شُرَحبيل، عن ابن عباس، قال: لَمّا مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، كان في بيت عائشة، فقال:"ادعوا لي عليًّا"، قالت عائشة: يا رسول اللَّه، ندعو لك أبا بكر؟ قال:"ادعوه"، قالت حفصة: يا رسول اللَّه، ندعو لك عمر؟ قال:"ادعوه"، قالت =
رواية حُميد، عن ثابت، عنه، بلفظ:"آخرُ صلاة صلّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في ثوب"، وأخرجه النسائيّ من وجه آخر، عن حميد، عن أنس، فلم يذكر ثابتًا. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجّح عندي من هذه التوجيهات للاختلافات في أحاديث الباب قول من حمل القصّة على التعدّد، ففي بعض الصلاة كان النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وفي بعضها صلّى خلف أبي بكر؛ لأن في بعض الروايات التصريح بذلك، أما كونه صلى الله عليه وسلم إمامًا فأحاديث "الصحيحين" وغيرهما من حديث عائشة واضحة فيه، وأما كونه مأمومًا، فكذلك دلّت عليه بعض الأحاديث الصحيحة، كحديث أنس رضي الله عنه المذكور، وهو حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: ذكر الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد جمعه بين أحاديث الباب؛ ما نصّه: ولا يتوهّمَنّ متوهمٌ أن الجمع بين الأخبار على حسب ما جمعنا بينها في هذا النوع من أنواع السنن يضادُّ قول الشافعيّ -رحمة اللَّه، ورضوانه عليه- وذلك أن كلَّ أصل تكلمنا عليه في كتبنا، أو فرع استنبطناه من
= أم الفضل: يا رسول اللَّه، ندعو لك العباس؟ قال:"نعم"، فلما اجتمعوا رفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه، فنظر، فسكت، فقال عمر: قوموا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال:"مروا أبا بكر، فليصلّ بالناس"، فقالت عائشة: "يا رسول اللَّه، إن أبا بكر رجل رقيقٌ حَصِرٌ، ومتى لا يراك يبكي، والناس يبكون، فلو أمرت عمر يصلي بالناس، فخرج أبو بكر، فصلى بالناس، فوجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نفسه خِفّة، فخرج يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، فلما رآه الناس سبّحوا بأبي بكر، فذهب ليستأخر، فأومأ إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أي مكانك، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجلس عن يمينه، وقام أبو بكر، فكان أبو بكر يأتم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمون بأبي بكر، قال ابن عباس: وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر، قال وكيع: وكذا السنة، قال: فمات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك. انتهى.
(1)
"الفتح" 2/ 181 - 182.
السنن في مصنفاتنا، هي كلُّها قولُ الشافعيّ، وهو راجعٌ عما في كتبه، وإن كان ذلك المشهورَ من قوله، وذاك أني سمعت ابن خزيمة يقول: سمعت المزنيّ يقول: سمعت الشافعيّ يقول: "إذا صحّ لكم الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخُذُوا به، ودَعُوا قولي".
وللشافعي -رحمة اللَّه عليه- في كثرة عنايته بالسنن، وجمعه لها، وتفقهه فيها، وذَبِّه عن حريمها، وقمعه مَن خالفها، زَعَمَ أن الخبر إذا صحّ فهو قائل به، راجع عما تقدّم من قوله في كتبه، وهذا مما ذكرناه في كتاب "المبين" أن للشافعيّ رحمه الله ثلاث كلمات، ما تَكَلَّم بها أحدٌ في الإسلام قبله، ولا تفوّه بها أحدٌ بعده، إلا والمأخذ فيها كان عنه:
إحداها: ما وصفتُ.
والثانية: أخبرني محمد بن المنذر بن سعيد، عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانيّ، قال: سمعت الشافعيّ يقول: ما ناظرت أحدًا قط، فأحببت أن يخطئ.
والثالثة: سمعت موسى بن محمد الديلمي بأنطاكية يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعيّ يقول: وَدِدتُ أن الناس تعلموا هذه الكتب، ولم ينسبوها إليّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أجلّ قدر الإمام الشافعيّ رحمه الله، وقدر تعظيمه للسنّة، وما أشدّ تواضعه رحمه الله.
ومما رأيته مما يخالف ظاهر كلام الشافعيّ رحمه الله المذكور أن بعض المتأخرين من الشافعيّة أوّل قول الشافعيّ رحمه الله: "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" بأنه محمول على ما لم يطّلع عليه الشافعيّ من الأحاديث، أما إذا اطّلع عليه، وترك العمل به فلا.
وفي هذا التأويل نظر لا يخفى على بصير، فقد اطّلع الشافعيّ على حديث الباب، وتأوّله، ولكن تأويله لم يقبله محقّقو أتباعه، كابن خزيمة، وابن حبّان، وابن المنذر، وابن حجر العسقلانيّ، فتركوا مذهبه، وقالوا: إنه لو
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 5/ 497.
جمع أطراف الأحاديث، وقابل بينها لتبيّن له أن الصواب خلاف ما أوّل به، ولهذا قال ابن حبّان: هذا التأويل الذي أوّلنا به هو مذهب الشافعيّ؛ لأن من قواعده أن ما صحّ من الحديث، واتّضح معناه، وتأويله هو المذهب له، وإن قال في كتبه خلاف هذا التأويل، وهذا ظاهر كلامه رحمه الله، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[927]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ
(1)
: خَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ، فَصَلَّى لَنَا
(2)
قَاعِدًا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الثبت الفقيه المشهور الحجة [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (46) من رباعيّات الكتاب.
قوله: (خَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هو بمعنى سقط في الرواية الماضية.
وقوله: (فَجُحِشَ) بالبناء للمفعول: أي خُدش، وجُرح.
وقوله: (فَصَلَّى لَنَا) وفي نسخة: "فصلّى بنا".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ) الضمير لليث، أي ذكر الليث، عن ابن شهاب نحو حديث سفيان ابن عيينة عنه.
(1)
وفي نسخة: "أنه قال".
(2)
وفي نسخة: "بِنَا".
[تنبيه]: رواية الليث التي أحالها المصنّف هنا على رواية سفيان بن عيينة، أخرجها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(733)
حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، أنه قال: خَرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن فرس، فَجُحِش، فصلّى لنا قاعدًا، فصلّينا معه قعودًا، ثم انصَرَفَ، فقال:"إنما الإمام، أو إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[928]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُرِعَ عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا، وَزَادَ
(1)
: "فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوْا قِيَامًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة، وكلهم تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا) ضمير التثنية لسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، يعني أن يونس بن يزيد الأيليّ حدّث عن ابن شهاب نحو حديث سفيان، والليث.
وقوله: (وَزَادَ) وفي نسخة: "وزاد فيه"، والضمير ليونس، أي زاد يونس على رواية سفيان والليث قوله:"فإذا صلّى قيامًا فصلُّوا قيامًا".
وقوله: (فَصُرِعَ) -بضم الصاد المهملة، وكسر الراء-: أي سَقَط عن ظهر الفرس، قال في "الْمُحْكَم": الصَّرْعُ: الطَّرحُ بالأرض. انتهى.
وقوله: (فإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوْا قِيَامًا) أي لمن استطاع ذلك، فمَنْ عَجَز
(1)
وفي نسخة: "وزاد فيه".
عنه صَلَّى على حسب حاله مع الاقتداء بالإمام القائم، وهذا لا خلاف فيه، قاله في "الطرح"
(1)
.
[تنبيه]: رواية يونس هذه، أخرجها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"(2/ 106)، فقال:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، وأبو عبيد اللَّه، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، ومالك، والليث، أن ابن شهاب أخبرهم، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَكِب فرسًا، فصُرِع عنه، فجُحِش شقه الأيمن، فصلّى لنا صلاةً من الصلوات، وهو جالس، فصلّينا معه جلوسًا، فلما انصرف قال:"إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا صلّى قائمًا فصلّوا قيامًا، وإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى قاعدًا فصلّوا قعودًا أجمعون". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[929]
(. . .) - (حَدَّثَنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَفِيهِ: "إِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوْا قِيَامًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، صنّف "المسند"، كان يلازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مَعْنُ بْنُ عِيسَى) بن يحيى الْقَزّاز الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 345.
3 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان تقدّما فيما قبله.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) يعني أن حديث مالك، عن الزهريّ نحو حديث كلٍّ من ابن عيينة، والليث، ويونس، عنه.
وقوله: (وَفِيهِ: إِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوْا قِيَامًا) يعني في حديث مالك زيادة قوله: "إذا صلّى قائمًا. . . إلخ".
[تنبيه]: رواية مالك، عن الزهريّ هذه، أخرجها في "الموطّأ"، فقال:
(280)
حدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَكِب فرسًا فصُرِع، فجُحِش شقه الأيمن، فصلّى صلاةً من الصلوات، وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال:"إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلّى قائمًا فصلّوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رَفَع فارفعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلّى جالسًا فصلّوا جلوسًا أجمعون". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[930]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَنَسٌ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ مِنْ فَرَسِهِ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ يُونُسَ وَمَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْد) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
والباقيان تقدّما في السابق.
قوله: (سَقَطَ مِنْ فَرَسِهِ) وفي نسخة: "من فرسٍ".
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الضمير لمعمر.
وقوله: (وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ يُونُسَ وَمَالِكٍ) يعني أن معمرًا لم يزد في روايته ما زاده يونس، ومالك، وهو قوله:"فإذا صلّى قائمًا، فصلُّوا قيامًا".
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه، أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(12195)
حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن الزهريّ، عن أنس، قال: سقط النبيّ صلى الله عليه وسلم من فرس، فجُحِش شقه الأيمن، فدخلوا عليه، فصلّى بهم قاعدًا، وأشار إليهم أن اقعدوا، فلما سلّم قال:"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا أجمعون". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[932]
(412) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَصَلَّوْا بِصَلَاِتهِ
(1)
قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوْا جُلُوسًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.
2 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكِلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
3 -
(هِشَام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيهٌ،
(1)
وفي نسخة: "لصلاته".
ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57) أو بعدها (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: هشام، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الحديث، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (عَنْ) خالته (عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَت: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي مَرِضَ، قال في "اللسان": الشَّكْوُ، والشَّكْوَى، والشَّكَاةُ، والشَّكَاء كلّه: المرضُ، تقول: شَكَا يَشْكُو شَكَاةً، يُستعمل في الْمَوْجِدَة والمرض، ويقال: هو شاكٍ: أي مريض، واشتكى عُضْوًا من أعضائه، وتَشَكَّى بمعنًى. انتهى باختصار
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "صلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته، وهو شاكٍ"، قال في "الفتح": قوله: "في بيته" أي في الْمَشْرُبة التي في حُجْرة عائشة رضي الله عنها، كما بينّه
(1)
راجع: "لسان العرب" 14/ 439.
أبو سفيان، عن جابر رضي الله عنه، وهو دالّ على أن تلك الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنه صلى الله عليه وسلم عَجَز عن الصلاة بالناس في المسجد، فكان يصلّي في بيته بمن حَضَر، لكنه لم يُنقل أنه استَخْلَف، ومن ثَمّ قال عياض: إن الظاهر أنه صَلّى في حجرة عائشة، وائتَمّ به مَن حَضَر عنده، ومن كان في المسجد، وهذا الذي قاله مُحْتَمِلٌ، وَيحْتَمِل أيضًا أن يكون استَخْلَف، وإن لم يُنقَل، ويلزم على الأول صلاة الإمام أعلى من المأمومين، ومذهب عياض خلافه، لكن له أن يقول: محل المنع ما إذا لم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحدٌ، وهنا كان معه بعض أصحابه. انتهى
(1)
، وهو بحثٌ جيّد، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "وهو شَاكٍ" -بتخفيف الكاف، بوزن قاضٍ- من الشِّكاية، وهي المرض، وكان سبب ذلك ما في حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الحديث السابق:"أنه سَقَط عن فَرَسٍ".
(فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) قد سُمِّي منهم في الأحاديث أنسٌ، كما في الحديث الذي قبل هذا، وجابر رضي الله عنه، كما في الحديث الآتي، وأبو بكر، كما في حديث جابر الآتي أيضًا، وعمر، كما في رواية الحسن مرسلًا عند عبد الرزاق، أفاده في "الفتح"
(2)
.
(يَعُودُونَهُ) أي يزورونه صلى الله عليه وسلم (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا) قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون أصابه من السَّقْطَة رَضٌّ في الأعضاء، مَنَعَهُ من القيام.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وليس كذلك، وإنما كانت قدمه صلى الله عليه وسلم انفَكّت، كما في رواية بشر بن المفضَّل، عن حميد، عن أنس، عند الإسماعيليّ، وكذا لأبي داود، وابن خزيمة، من رواية أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه.
وأما قوله في رواية الزهريّ، عن أنس بن مالك:"جُحِش شقُّه الأيمن"، وفي رواية يزيد، عن حميد، عن أنس:"جُحش ساقه، أو كتفه"، فلا ينافي ذلك كون قدمه انفكَّت؛ لاحتمال وقوع الأمرين، وقد تقدَّم تفسير الجحش بأنه الْخَدْش، والْخَدْشُ: قَشْرُ الجلد.
(1)
"الفتح" 2/ 208 - 209.
(2)
"الفتح" 2/ 209.
ووقع عند البخاريّ من رواية سفيان، عن الزهريّ، عن أنس، قال سفيان: حَفِظت من الزهريّ "شقه الأيمن"، فلما خَرَجنا قال ابن جريج:"ساقه الأيمن"، قال الحافظ: رواية ابن جريج أخرجها عبد الرزاق عنه، وليست مُصَحَّفةً، كما زعم بعضهم؛ لموافقة رواية حميد المذكورة لها، وإنما هي مُفَسِّرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه.
وحاصل ما في القصة أن عائشة أبهمت الشكوى، وبَيَّنَ جابر وأنس السبب، وهو السقوط عن الفرس، وعَيَّن جابر العلّة في الصلاة قاعدًا، وهي انفكاك القدم
(1)
.
وأفاد ابن حبان في "صحيحه" أن هذه القصّة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة
(2)
.
(فَصَلَّوْا) أي الناس الذين دخلوا عليه يعودونه (بِصَلَاِتِهِ) الباء سببيّة، أو بمعنى "مع"، وفي نسخة:"لصلاته" باللام، أي لأجل صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(قِيَامًا) مصدر قام، وقع حالًا من الفاعل، كما قال في "الخلاصة":
وَمَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حَالًا يَقَعْ
…
بِكَثْرَةٍ كَـ "بَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ"
أي حال كونهم قائمين.
(فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا) وكذا هو عند البخاريّ، ورواه أيوب، عن هشام، بلفظ:"فأومأ إليهم"، وهو بمعناه، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام، بلفظ:"فأخلف بيده، يومئ بها إليهم"، وفي مرسل الحسن:"ولم يبلغ بها الغاية"(فَجَلَسُوا) أي صلَّوا وراءه جالسين؛ امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي سلّم من الصلاة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوْا جُلُوسًا") قد تقدّم شرح هذه القطعة في حديث أنس رضي الله عنه، فراجعه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 2/ 209.
(2)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 492.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 931 و 932](412)، و (البخاريّ) في "الأذان"(688) و"تقصير الصلاة"(1113) و"السهو"(1236) و"المرضَى"(5658)، و (أبو داود) في "الصلاة"(605)، و (ابن ماجه) فيها (1237)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 135)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 142)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 51 و 57 و 68 و 148 و 194) و (2/ 325)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1614)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2104)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 404)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1621 و 1622 و 1623)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(918 و 919)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 79)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(851)، وأما بقيّة المسائل، فقد تقدّمت في شرح حديث أنس رضي الله عنه، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[932]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلّم فيه أحدٌ بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن دِرْهَم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) الأول هو: عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) الثاني هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير الهمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
وقوله: (نَحْوَهُ) أي نحو حديث عبدة بن سليمان، يعني أن حديث عبد اللَّه بن نُمير، عن هشام بن عروة، نحوُ حديث عبدة بن سليمان الماضي، عنه.
[تنبيه]: رواية عبد اللَّه بن نُمير، عن هشام بن عروة هذه أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(23168)
حدّثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صَلَّى في مرضه، وهو جالسٌ، فصلّى، وخلفه قومٌ قيامًا، فأشار إليهم أَنِ اجلسوا، فلما قَضَى صلاته، قال:"إنما الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صَلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[933]
(413) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ، وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا، فَقَعَدْنَا، فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:"إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ، وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأئِمَّتِكُمْ، إِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوْا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوْا قُعُودًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
2 -
(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عَمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد (70) وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون كلّهم تقدّموا في هذا الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (47) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (1540) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم المكيّ (عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: اشْتَكَى) أي مَرِضَ (رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ) عطفٌ على مقدّر، أي فصلّى بنا، فصلّينا وراءه، والصلاة التي صلّاها بهم هي الظهر، ففي رواية النسائيّ من طريق حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرُّؤاسيّ، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، وأبو بكر خلفه، فإذا كبّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كبّر أبو بكر يسمعنا (وَهُوَ قَاعِدٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ) صلى الله عليه وسلم، والجملة حاليّة معطوفة على الأولى، أي والحال أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه يُسمع -بضم أوله- من الإسماع، و"الناس" منصوب على المفعوليّة، وإنما فعل ذلك أبو بكر رضي الله عنه لضعف صوته صلى الله عليه وسلم بسبب المرض (فَالْتَفَتَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَيْنَا) فيه جواز الالتفات في الصلاة للحاجة.
وإنما التفت إليهم؛ لبيان الجواز، وليطّلع على أحوالهم، فيُرشدهم إلى
الصواب مع دوام مراقبته للَّه عز وجل، وهذا لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم:"فإني أراكم من وراء ظهري"؛ لاحتمال أن يكون غير منتبه لهم أوّلًا حتى يراهم من وراء ظهره؛ لاشتغاله بشأن الصلاة، فلما انتبه لذلك بسبب التفاته رآهم.
فقول السنديّ: إن هذا يقتضي أن رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه ما كانت على الدوام، فيه نظرٌ؛ لما ذكرته آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.
(فَرَآنَا) أي الصحابة الحاضرين لعيادته (قِيَامًا) منصوب على الحال، كما تقدّم في الحديث الماضي، أي قائمين (فَأَشَارَ إِلَيْنَا) أي بالقعود (فَقَعَدْنَا، فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا) بالضمّ جمع قاعد، أي حال كوننا قاعدين (فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:"إِنْ كِدْتُم) "إن" بكسر الهمزة هي المخفّفة من الثقيلة، أي إنكم كدتم: أي قاربتم (آنِفًا) بالمدّ والقصر، قال في "القاموس": وقال آنفًا، كصاحب، وكَتِفٍ، وقُرئ بهما: أي مُذْ ساعة، أي في أول وقتٍ يَقرُب منّا. انتهى
(1)
(لَتَفْعَلُونَ) اللام هي الفارقة بين "إِنِ" المخفّفة و"إِنِ" النافية، كما أشار إليها في "الخلاصة" بقوله:
وَخُفِّفَت "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وفي رواية النسائيّ: "إن كنتم تفعلون" بلفظ "كنتم" بدل "كدتم"، وحذف اللام لدلالة القرينة عليها، كما قال في "الخلاصة":
وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا
…
مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا
(فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ) جيلان من الناس معروفان (يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأنهم قالوا له: ماذا يفعلون؟، فقال:"يقومون على ملوكهم" أي بين أيديهم (وَهُمْ قُعُودٌ) الضمير للملوك، أي والحال أنهم قاعدون (فَلَا تَفْعَلُوا) حُذف مفعوله؛ لدلالة السياق عليه، أي لا تفعلوا فعلهم.
قال النوويّ رحمه الله: فيه النهي عن قيام الغِلْمان، والأتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة، وأما القيام للداخل إذا كان من أهل الفضل والخير، فليس من هذا، بل هو جائز، قد جاءت به أحاديث، وأطبق عليه
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 119.
السلف والخلف، قال: وقد جمعت دلائله، وما يَرِد عليه في جزء -وباللَّه التوفيق والعصمة- انتهى
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: يريد أن القيام مع قعود الإمام يُشبه تعظيم الإمام فيما شُرِع لتعظيم اللَّه وحده، فلا يجوز، ولا يخفى دوام هذه العلّة، فينبغي أن يدوم هذا الحكم، فالقول بنسخه كما عليه الجمهور خفيّ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم ترجيح القول بعدم النسخ، وأن القيام جائز، وإن كان الأولى القعود؛ للأمر به، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ) أي اقتدوا بهم فيما يفعلونه، ثم بيّن بعض ما يأتمّون بهم فيه، بقوله:(إِنْ صَلَّى) أي الإمام (قَائِمًا، فَصَلُّوْا قِيَامًا) أي حال كونكم قائمين (وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوْا قُعُودًا") أي حال كونكم قاعدين، فيه جواز الصلاة قاعدًا بلا مرض خلف من يُصلّي قاعدًا لمرض، وقد تقدّم اختلاف العلماء فيه، وترجيح القول بالجواز في المسألة الرابعة من شرح حديث أنس رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 933 و 934](413)، و (أبو داود) في "الصلاة"(606)، و (النسائيّ) فيها (3/ 9)، و (ابن ماجه) فيها (1240)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 334)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2122 و 2123)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 403)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1624 و 1625 و 1626)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(920 و 921)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 79). وأما بقيّة المسائل، فقد تقدّمت
(1)
"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 4/ 135.
قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[934]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسَيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ؛ لِيُسْمِعَنَا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم أول الباب.
2 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ) -بضمّ الراء، بعدها همزة خفيفة- أبو عوف، وقيل: كنيته أبو عليّ، وأبو عوف لَقَبٌ الكوفيّ، ثقة [8].
رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، والحسن بن صالح، وزهير، وأبي الأحوص، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد، وأبو خيثمة، وابنا أبي شيبة، وقتيبة، وابن نمير، ويحيى بن يحيى.
قال الأثرم: أثنى عليه أحمد، ووصفه بخير، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن أبي خيثمة، عن أبي بكر بن أبي شيبة: قَلَّ مَن رأيت مثله، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، لم يَكْتُب الناس كلَّ ما عنده، وقال العجليّ: ثقةٌ ثبتٌ عاقلٌ ناسكٌ، نقله ابن خلفون.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في آخر سنة (192)، وقال ابن نمير: مات سنة (90)، وقيل: إنه مات سنة (89).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (413) و (1286) و (1685) و (2196) و (2586) و (2851).
3 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسيّ الكوفيّ، ثقة [7](م د س) تقدم في "الصلاة" 16/ 908.
والباقيان تقدّما فيما قبله.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عبد الرحمن بن حميد.
[تنبيه]: حديث عبد الرحمن بن حُميد، عن أبي الزبير الذي أحاله المصنّف هنا على حديث الليث، أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 37) فقال:
(921)
حدثنا عليّ بن المفضَّل، ثنا محمد بن أيوب الزايديّ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وحدثنا أبو محمد بن حَيّان، ثنا ابن أبي عاصم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة (ح) وحدّثنا محمد بن عليّ بن حُبيش، ثنا إسماعيل بن إسحاق السّرّاج، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا حُميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بنا جالسًا الظهر، فلما قَضَى صلاته، قال:"كِدتم أن تفعلوا كفعل فارس والروم، إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلّى قائمًا فصلّوا قيامًا، وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا"، لفظ يحيى بن يحيى. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[935]
(414) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، يَعْنِي الْحِزَامِيَّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا الْإِمَامُ
(1)
لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوْا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
كلهم تقدّموا، و"الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ" هو: المغيرة بن عبد الرحمن المدنيّ،
(1)
وفي نسخة: "إنما جُعِل الإمام".
و"أبو الزناد" هو: عبد اللَّه بن ذكوان، و"الأعرج" هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (إِنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ) وفي نسخة: "إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ به"، وهو الذي في "صحيح البخاريّ".
وقوله: "فلا تختلفوا عليه" هذه الزيادة ليست عند البخاريّ، وقال في "الفتح": أفادت هذه الزيادة أن الأمر بالاتباع يَعُمُّ جميع المأمومين، ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتّباع بعض دون بعض. انتهى.
وكتب الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" تعليقًا على هذا الحديث ما نصّه:
قال أبو حاتم رضي الله عنه: قد زَجَر المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر المأمومين عن الاختلاف على إمامهم، إذا صلّى قاعدًا، وهو من ضرب الذي ذكرتُ في غير موضع من كتبنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد يَزْجُر عن الشيء بلفظ العموم، ثم يستثني بعض ذلك الشيء المزجور عنه، فيبيحه لعلة معلومة، كما نَهَى صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، بلفظٍ مطلقٍ، ثم استثنى بعضها، وهو الْعَرِيّة، فأباحها بشرط معلوم؛ لعلة معلومة، وكذلك يأمر صلى الله عليه وسلم الأمر بلفظ العموم، ثم يستثني بعض ذلك العموم، فيحظُره؛ لعلة معلومة، كما أمر صلى الله عليه وسلم المأمومين والأئمة جميعًا أن يصلُّوا قيامًا إلا عند العجز عنه، ثم استثنى بعض هذا العموم، وهو إذا صَلَّى إمامهم قاعدًا، فزجرهم عن استعماله، مُسْتَثْنًى من جملة الأمر المطلق، ولهذا نظائر كثيرة من السنن، سنذكرها في مواضعها من هذا الكتاب، إن قضى اللَّه ذلك وشاءه. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله
(1)
.
وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق من شرح الأحاديث الماضية، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"صحيح ابن حبان" 5/ 468.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 935 و 936](414)، و (البخاريّ) في "الأذان"(722 و 734)، و (أبو داود) في "الصلاة"(603 و 604)، و (النسائيّ) فيها (2/ 141 - 142)، و (ابن ماجه) فيها (846 و 1239)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4082 و 4083)، و (الحميديّ) في "مسنده"(958 و 959)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 326)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 230 و 314 و 341 و 375 و 376 و 411 و 475)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1613)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2107)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 404)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 79)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1627 و 1628 و 1629)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(922 و 923). وبقيّة المسائل تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[936]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا
(1)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة، وقد تقدّم بعينه في الباب الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث الأعرج، يعني أن حديث همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه مثل حديث الأعرج عنه.
[تنبيه]: حديث همّام بن منبّه هذا أخرجه الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(2/ 38) فقال:
(922)
أخبرنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا عبد الرزاق، عن معمر، عن همّام، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (ح) وحدَّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن أبي السيريّ
(2)
أنبا
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
هكذا النسخة، وليُنظر.
عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، قالا
(1)
تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى جالسًا، فصلّوا جلوسًا أجمعين". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(21) - (بَابُ النَّهْي عَنْ مُبَادَرَةِ الإِمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[937]
(415) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا، يَقُولُ: "لَا تُبَادِرُوا الْإِمَامَ، إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ")
(2)
.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ خَشْرَمٍ) هو: عليّ بن خَشْرَم -بمعجمتين، بوزن جَعْفَر- المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 157) أو بعدها (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.
(1)
هكذا النسخة "قالا تختلفوا عليه" والظاهر أنه تصحيف، والصواب:"فلا تختلفوا عليه"، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم. .
(2)
وفي نسخة: "ربنا ولك الحمد".
5 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان تقدّم قبل باب.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني تفرّد به هو، والترمذيّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي صالح.
4 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا) أي أحكام الصلاة بدليل قوله: "يقول. . . إلخ"، فجملة (يَقُولُ) تفسير وتوضيح لمعنى: يعلّمنا ("لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تُبَادِرُوا الْإِمَامَ) أي لا تسبقوه بالتكبير، والركوع، والسجود، والرفع منهما، فقوله:"إذا كبّر فكبّروا. . . إلخ" بيان للمعنى المراد بالنهي عن مسابقة الإمام (إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) أي للإحرام، أو مطلقًا، زاد في رواية أبي داود:"ولا تكبّروا حتى يُكبّر"(وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}) أي مع تأمينه، بدليل الرواية الأخرى:"وإذا أمّن، فأمّنوا"(فَقُولُوا: آمِينَ) أي مقارنًا لتأمين الإمام؛ لما تقدّم أنّ السنّة مقارنة الإمام في التأمين (وَإِذَا رَكَعَ) أي أخذ في الركوع، وتحقّق ركوعه (فَارْكَعُوا) زاد في رواية أبي داود:"ولا تركعوا حتى يركع"، وقد تقدّم أن المراد تحقّق ركوعه بتمام الانحناء، وليس المراد تمام الركوع، وفراغه منه كما يتبادر من اللفظ (وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أي مع التحميد (فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ") وفي نسخة: "ربّنا ولك الحمد"، بالواو، وتقدّم جواز الوجهين، وزيادة "اللَّهمّ" قبله أيضًا.
ثم إن ظاهره أن التسميع للإمام، والتحميد للمأموم؛ لأن التوزيع
والتقسيم ينافي الشركة، لكن سبق أنّ الأرجح بالنسبة للإمام أن يجمع بينهما؛ لثبوت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما المأموم فيكتفي بالتحميد فقط؛ لظاهر هذا الحديث؛ إذ لم يثبت صريحًا ما يعارضه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 937 و 938](415)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1630 و 1631)، و (أبو نُعيم)(924 و 925)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1576 و 1582)، وبقيّة المسائل تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[938]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ
(1)
، عَنْ سُهَيلِ بْنِ أَبي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ، إِلَّا قَوْلَهُ:" {وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ"، وَزَادَ:"وَلَا تَرْفَعُوا قَبْلَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد بن عُبيد الْجُهَنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) تقدّم قبل بابين.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا عبد العزيز الدّراورديّ".
وقوله: (بِنَحْوِهِ) يعني أن حديث عبد العزيز الدراورديّ نحو حديث الأعمش، إلا أنه نقص منه قوله:"وإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين"، فلم يذكره.
وقوله: (وَزَادَ: وَلَا تَرْفَعُوا قَبْلَهُ) فاعل "زاد" ضمير عبد العزيز الدراورديّ.
[تنبيه] رواية عبد العزيز الدَّرَاوَرْديّ هذه ساقها أبو نعيم
(1)
، في "مستخرجه"(2/ 39) فساقه بسنده
(2)
إلى محمد بن إسحاق السّرّاج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه
(3)
، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، ولا تختلفوا عليه، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا ترفعوا قبله". انتهى
(4)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[939]
(416) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى، وَهُوَ ابْنُ عَطَاءٍ، سَمِعَ أَبَا عَلْقَمَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوْا قُعُودًا، وَإِذَا قَالَ:
(1)
لكن في النسخة الموجودة أغلاط، صححته من رواية مسلم، فتنبّه.
(2)
إنما لم أسق إسناده لكثرة التصحيفات فيه لكون النسخة سقيمة، فاقتصرت على السند الذي اتفق فيه مع مسلم، وعدّلت التصحيفات الواقعة فيه بما في مسلم، فتنبّه.
(3)
وقع في النسخة، غلط كثير في هذا، ونصّه: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سهيل بن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل، عن أمه، عن أبي هريرة، فقوله:"ثنا سهيل بن عبد العزيز" غلط، والصواب: حدثنا عبد العزيز بن محمد، وقوله:"عن أمه" غلط، والصواب: عن أبيه، وأصلحته من سند مسلم، فتنبّه.
(4)
راجع: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" 2/ 39 رقم (925).
سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِذَا وَافَقَ قَوْلُ أَهْلِ الْأَرْضِ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذ) الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ) العامريّ، ويقال: الليثيّ الطائفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وأوس بن أبي أوس، وعُمارة بن حُدَير البجليّ، وعمرو بن الشَّرِيد بن سُوَيد، وعمرو بن عاصم بن سُفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيّ، وأبي عَلْقَمَة الهاشميّ، وجابر بن يزيد بن الأسود، وأبي هَمّام عبد اللَّه بن يسار الكوفيّ، ووكيع بن عُدُس، ويزيد بن طَلْق، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، والثوريُّ، وحماد بن سلمة، وهُشيم، وشريك، وأبو عوانة، وغيرهم.
قال الأثرم: أثنى عليه أحمد بن حنبل خيرًا. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: سمع هُشيم من يعلى، وهو صغير جدًّا. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: قال هشيم: فارقنا يعلى سنة عشرين ومائة. وقال البخاريّ: يقال: مات بواسط سنة عشرين، وفيها أَرّخه ابن حبّان. وقال ابن المديني: يعلى بن عطاء له أحاديثُ لم يروها غيره، ورجالٌ لم يرو عنهم غيره، منهم وكيع بن عُدُس، وأهل الحجاز لا يعرفونه، وإنما رَوَى عنه قوم بواسط.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (416) و (1835) و (2231).
4 -
(أَبُو عَلْقَمَةَ) الفارسيّ المصريّ، مولى بني هاشم، ويقال: إنه مولى ابن عبّاس، وقيل: حليفهم، ويقال: حليف الأنصار، ثقة، وكان قاضي إفريقية، من كبار [3].
روى عن عثمان بن عفان، وابن مسعود، وأبي سعيد، وأبى هريرة، وابن عمر، ويسار بن نمير، مولى ابن عمر، وغيرهم.
وعنه أبو الزبير المكي، وأبو الخليل، مُفلح بن أبي مريم، وعطاء العامري، ويعلى بن عطاء العامري، وأيوب، ويقال: محمد بن حصين، وآخرون.
قال أبو حاتم: أحاديثه صحاح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: أبو علقمة الفارسيّ، مولى ابن عباس، كان على قضاء إفريقية، وكان أحد الفقهاء الموالي الذين ذكرهم يزيد بن أبي حبيب، وقال العجليّ: مصري تابعيّ ثقة، وقال أبو أحمد بن عديّ: أبو علقمة هذا اسمه مسلم بن يسار
(1)
.
أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (416) و (1456) و (1835).
والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، والصحابيّ في السند الماضي.
وقوله: (إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ) أي ساتر من خلفه، ومانعٌ من مفسدات صلاتهم من سهو يَحمله عنهم، أو مارّ يقطعها عليهم، فهو لهم كالمجَنّ، والْجُنّة، وهي التُّرْس الذي يستُر من وراءه، ويدفع عنه ما يكرهه، قاله القاضي عياض
(2)
.
وقوله: (فَإِذَا وَافَقَ قَوْلُ أَهْلِ الْأَرْضِ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ) أي الملائكة، وقد تقدّم أن الصحيح في معنى الموافقة هو الموافقة في الزمن، وتمام شرح الحديث قد تقدّم.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من طريق أبي علقمة من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
انظر: "تحفة الأشراف" 10/ 499.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 313، و"شرح النوويّ" 4/ 135.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 939](416)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 386 و 416 و 467)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1462)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1597)، و (الطحاوي) في "شرح معاني الآثار"(1/ 404)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1629)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(926)، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث عند المصنّف مختصر، وقد ساقه أبو عوانة في "مسنده"(1/ 438) مطولًا، فقال:
(1629)
حدثنا يونس بن حبيب، وعمار بن رجاء، قالا: ثنا أبو داود (ح) وحدثنا أبو حميد، قال: ثنا حجاج، قالا: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، إنما الإمام جُنة، فإذا صلّى قاعدًا فصلّوا قعودًا، وإذا قال: سمع اللَّه من حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإذا وافق قول أهل الأرض قول أهل السماء، غُفِر له ما تقدم من ذنبه"، قال:"ويهلك قيصر فلا قيصر بعده، ويهلك كسرى فلا كسرى بعده"، وكان يتعوذ من خمس:"من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وفتنة المحيا، وفتنة الممات، وفتنة المسيح الدجالِ" -حديثهما واحد، وفي حديث أبي داود- "إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين، فإنه إذا وافق قول أهل الأرض قول أهل السماء، غُفِر للعبد ما مضى من ذنبه"، وسائر حديثهم واحد. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[940]
(417) - (حَدَّثَنى أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبِ، عَنْ حَيْوَةَ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-
أّنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلَّوْا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوْا قُعُودًا أَجْمَعُونَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) هو: أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(حَيْوَةُ) بن شُرَيح بن صَفْوان التُّجِيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهد [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
4 -
(أَبُو يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) سليم بن جُبَير الدَّوْسيّ المصريّ، تقدّم قبل باب.
5 -
و (أبو هريرة رضي الله عنه) ذُكر قبله.
وشرح الحديث، وفوائده تُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من طريق أبي يونس من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 940)(417)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 351)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2115)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(927)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(22) - (بَابُ اسْتِخْلَافِ الإِمَامِ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِذَا عَرَضَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ نَحْوِهِ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[941]
(418) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، وَهُمْ
(2)
يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ
(1)
نصّ ترجمة النوويّ رحمه الله: "باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، من مرض وسفر، وغيرهما، من يصلي بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حقّ من قدر على القيام". انتهى.
والغريب من النوويّ وتبعه بعض الشّرّاح أنه زاد في هذه الترجمة على ما يدلّ عليه أحاديث الباب قوله: "وأن من صلّى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حقّ من قدر على القيام". انتهى.
وهذا الذي زاده ليس في أحاديث الباب ما يدلّ عليه صريحًا، وإنما سرى له من تأثّره بمذهبه الشافعيّ، حيث تأول الشافعي ومن تبعه، كالحميديّ أحاديث الباب بأنها ناسخة لأحاديث الباب الماضي، وقد عرفت أن المحقّقين من فقهاء المحدثين، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وابن خزيمة، وابن حبّان، وابن المنذر، وابن حجر العسقلانيّ ردّوا دعوى النسخ، وقالوا: لا دليل على النسخ، بل يُجمع بين أحاديث البابين بالوجه الذي سبق بيانه في شرح أحاديث الباب السابق، وهذا الذي قالوه هو الأرجح؛ عملًا بالأحاديث كلها دون تعارض، ودعوى النسخ، أو الترجيح يؤدي إلى ترك العمل ببعضها دون حاجة، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(2)
وفي نسخة: "هم" بدون واو.
عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:"أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:"ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:"أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:"ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:"أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا-: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ
(1)
، وَقَالَ لَهُمَا:"أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ"، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي، وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ، عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ
(2)
صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ حَدِيثَهَا عَلَيْهِ، فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ الْيَرْبُوعيّ، وقد يُنْسَب إلى جدّه، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
(1)
وفي نسخة: "أن لا تتأخَّرْ".
(2)
وفي نسخة: "النبيّ صلى الله عليه وسلم".
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثّقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ صاحب سُنّة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
3 -
(مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ) الْمَخْزوميّ الْهَمْدانيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ، مولى آل جَعْدة بن هُبَيرة، ثقةٌ عابدٌ [5].
رَوَى عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وعمرو بن الحارث، يقال: مرسل، وسليمان بن صُرَد، يقال: مرسل، وسعيد بن جبير، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، ويحيى بن الجزار، وعبد اللَّه بن أبي رَزِين الأسديّ، وعمرو بن شعيب، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، وإسرائيل، وأبو إسحاق الفزاريّ، وزائدة، والسفيانان، وأبو عوانة، وعَبِيدة بن حُميد، وجرير بن عبد الحميد، وآخرون.
قال عليّ ابن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان سفيان الثوريّ يحسن الثناء عليه، وقال الحميديّ، عن ابن عيينة: حدّثنا موسى بن أبي عائشة، وكان من الثقات، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال محمد بن حُميد عن جرير: كنت إذا رأيت موسى ذكرت اللَّه تعالى لرؤيته، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: تُرِيبني رواية موسى بن أبي عائشة حديثَ عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه في مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: عَنَى أبو حاتم أنه اضطرب فيه، وهذا من تعنته، وإلا فهو حديث صحيح، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقةٌ، وقال البخاريّ، وابن حبان: رأى عَمْرَو بن حُرَيث.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (418) و (448) وأعاده بعده، و (2213).
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عُتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير عبيد اللَّه وعائشة، فمدنيّان.
4 -
(ومنها): أن شيخه، وموسى هذا أول محل ذكرهما في الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما لكلّ منهما من الحديث فيه.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن عبيد اللَّه أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عُتبة أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة عرض وتحضيض، ومعناهما طلبُ الشيء، لكن الْعَرضُ طلبٌ برفق، والتحضيض طلب بحَثّ، فمعنى قوله:(أَلَا تُحَدِّثِينِي) أي حدّثيني (عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) قال في "القاموس": "الْمَرَضُ": إظلامُ الطبيعة، واضطرابها بعد صفائها واعتدالِهَا، مَرِضَ، كفَرِحَ مَرَضًا -بالتحريك- ومَرْضًا -بسكون الراء-، فهو مَرِضٌ، ومَرِيضٌ، ومارضٌ، وجمعه مِرَاضٌ، ومَرْضَى، ومَرَاضَى، أو الْمَرْضُ -بفتح، فسكون-: للقلب خاصّةً، وبالتحريك، أو كلاهما الشكّ، والنفاق، والفُتُور، والظلمة، والنُّقْصَانُ. انتهى
(1)
.
وقال في "المصباح": مَرِضَ الحيوانُ مَرَضًا، من باب تَحِبَ، و"الْمَرَضُ": حالةٌ خارجة عن الطبع، ضَارّةٌ بالفعل، ويُعْلَم من هذا أن الآلام والأَوْرَامَ
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 344.
أعراضٌ عن المرض، وقال ابن فارس: الْمَرَضُ: كلُّ ما خرَجَ به الإنسان عن حدّ الصِّحّة، من عِلّةٍ، أو نِفاقٍ، أو تقصير في أمرٍ، ومَرِضَ مَرْضًا لغةٌ قليلةُ الاستعمال، قال الأصمعيّ: قرأت على أبي عَمْرو بن العلاء: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، فقال لي: مَرْضٌ يا غلام، أي بالسكون، والفاعل من الأولى: مريضٌ، وجمعه مَرْضى، ومن الثانية: مارضٌ، قال:
لَيْسَ بِمَهْزُولٍ وَلَا بِمَارِضٍ
(1)
والمراد بالمرض هنا مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي تُوفّي فيه.
(قَالَتْ: بَلَى) هي حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بلى، فمعناه إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا؟ وقلت: بلى، فمعناه التقرير والإثبات، ولا تكون إلا بعد نفي، إما في أول الكلام، كالمثال المذكور، أو في أثنائه، كقوله عز وجل:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} الآية [القيامة: 3 - 4]، والتقدير: بل نجمعها، وقد يكون مع النفي استفهام، وقد لا يكون، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي اشتدّ به مرضه، يقال: ثَقُل في مرضه -بفتح الثاء المثلّثة، وضمّ القاف، من باب صَغُرَ-: إذا تناهى في الضعف، ورَكَدت أعضاؤه عن خفّة الحركة، حتى لا تكاد رجلاه تحمله، وقال في "اللسان": وثَقُل الرجل ثِقَلًا، فهو ثَقِيلٌ، وثاقل: اشتدّ مرضه، يقال: أصبح فلانٌ ثاقلًا: أي أثقله المرض، قال لبيد [من الطويل]:
رَأَيْتُ التُّقَى وَالْحَمْدَ يَخْرَ تِجَارَةٍ
…
رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا
أي ثقيلًا من المرض، قد أدنفه، وأشرف على الموت، ويُروَى: ناقلًا، أي منقولًا من الدنيا إلى الأخرى، وقد أثقله المرض والنوم. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 568 - 569.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 62.
(3)
"لسان العرب" 11/ 88.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَصَلَّى النَّاسُ؟ ") الهمزة للاستفهام والاستخبار (قُلْنَا) القائل عائشة رضي الله عنها، ومن كان حاضرًا في البيت (لَا) أي لم يصلّوا (وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي نسخة:"هم" بدون واو، والجملة في محلّ نصب على الحال من الضمير الواقع في مضمون "لا"؛ إذ أصلها لم يُصلّوا، حال كونهم منتظرين لك؛ لتصلّي بهم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ضَعُوا لِي) أمر من الوضع (مَاءً فِي الْمِخْضَبِ") -بكسر الميم، وسكون الخاء، وفتح الضاد المعجمتين، آخره باء موحّدة-: هو الْمِرْكَن، وهو الإِجّانَةُ
(1)
.
(فَفَعَلْنَا) أي ما أمرنا به من الماء في الْمِخْضب (فَاغْتَسَلَ) حمله بعضهم على الوضوء، وبعضهم على الغسل الكامل، وهو الأصحّ، كما سيأتي بيانه (ثُمَّ ذَهَبَ) أي أخذ وشرع (لِيَنُوءَ) أي لينهض بجُهد، قال الكرمانيّ: ينوء، كيقوم وزنًا ومعنًى. انتهى
(2)
.
وقال في "القاموس": نَاءَ نَوْءًا، وتَنْوَاءً: نَهَضَ بِجَهْد ومشقّةٍ، وبالحمل: نَهَضَ مُثْقَلًا، وبه الحملُ: أثقله، وأماله، كأناءه، وفلانٌ: أُثْقِلَ فسَقَطَ، ضِدٌّ. انتهى
(3)
.
(فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، من الإغماء رباعيّا، ويقال أيضًا: غُمِي عليه ثلاثيًّا، قال في "المصباح": وغُمي على المريض ثلاثيًّا، مبنيًّا للمفعول، فهو مَغْمِيٌّ عليه، على مفعول، قاله ابن السِّكِّيت وجماعة، وأُغْمِي عليه إغماءً بالبناء للمفعول أيضًا، والإغماء: امتلاء بُطون الدماغ من بلغم بارد غليظ، وقيل: الإغماء: سَهْوٌ يَلْحَقُ الإنسان مع فُتُور الأعضاء لِعِلّة. انتهى
(4)
.
(1)
"الْمِرْكنُ" بكسر، فسكون: الإِجّانة، وهو بكسر الهمزة، وتشديد الجيم: إناءٌ تُغسل فيه الثياب، جمعه أَجَاجين، والإِنْجانة -بالنون- لغة تمتنع الفصحاء من استعمالها، قاله في "المصباح المنير" 1/ 6.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 315.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 31.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 448 و 454 في مادتي "غُمي" و"غُشي".
وفيه جواز الإغماء على الأنبياء عليهم السلام لأنه شَبيه بالنوم، وقال النوويّ رحمه الله: لأنه مرضٌ من الأمراض، بخلاف الجنون، فإنه لم يجُز عليهم؛ لأنه نقصٌ، وقال العينيّ رحمه الله: العقل في الإغماء يكون مغلوبًا، وفي الجنون يكون مسلوبًا. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ أَفَاقَ) أي رجع إليه صلى الله عليه وسلم عقله بعد الغيبوبة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ) أي يقوم (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ) بضم العين: جمع عاكف، يقال: عَكَفَ على الشيء عُكُوفًا، وعَكْفًا، من بابي قَعَدَ، وضَرَبَ: لازمه، وواظبه، وقُرئ بهما في السبعة قوله تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} الآية [الأعراف: 138]، وعَكَفْتُ الشيءَ أَعْكُفُه بالضمّ، وأعْكِفه بالكسر: حبسته، ومنه الاعتكاف، وهو افتعال؛ لأنه حبس النفس عن التصرّفات العاديّة، وعَكَفته عن حاجته: منعتُهُ، قاله في "المصباح"
(2)
.
والمعنى: أنهم ملازمون المسجد لأداء الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، وهذه الجملة قالتها عائشة رضي الله عنها عند روايتها لعُبيد اللَّه، لا أنها قالتها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا أتى عبيد اللَّه بلفظة:"قالت".
(يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ) جملة فعليّة في محلّ نصب على الحال مما قبلها، فتكون من الأحوال المتداخلة، أو المترادفة.
(قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ)"أن" مصدريّة، واللام مقدّرة، أي لأن يصلّي بهم، أو مفعول لـ "أرسل" على تضمينه
(1)
"عمدة القاري" 5/ 315.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 424.
معنى "طلب"، أي طلب منه الصلاة بالناس (فَأَتَاهُ الرَّسُولُ) أي بلال رضي الله عنه، كما بُيّن في الرواية الأخرى (فَقَالَ) لأبي بكر رضي الله عنه (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه، وقوله:(وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا) جملة معترضة بين القول ومقوله، بيّن بها سبب صرفه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه إلى عمر رضي الله عنه.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رقيقًا" أي رقيق القلب، كثير الخشية، سريع الدَّمعة، وهو الأسيف أيضًا في الحديث الآخر، وحالة الحزين غالبًا الرقّة، والأسيف في غير هذا: العبد، والأسيف أيضًا: الغضبان. انتهى
(1)
.
(يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ) قال السنديّ رحمه الله: وكأن أبا بكر رضي الله عنه رأى أن أمره صلى الله عليه وسلم بذلك كان تكرّمًا منه له، والمقصود أداء الصلاة بإمام، لا تعيينُ أنه الإمام، ولم يَدْرِ ما جرى بينه صلى الله عليه وسلم، وبين أزواجه
(2)
في ذلك، وإلا لما كان له تفويض الإمامة إلى عمر. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح" ما معناه: لم يُرِدْ أبو بكر رضي الله عنه بهذا القول ما أرادت عائشة رضي الله عنها يعني ما يأتي أنها أرادت أن يصرف صلى الله عليه وسلم الإمامة عن أبي بكر؛ لئلا يتشاءم الناس به لو مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يأتي بعد حديثين -وقال النوويّ رحمه الله: تأوله بعضهم على أن أبا بكر قاله تواضعًا، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو كونه رقيق القلب، كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس. انتهى.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون رضي الله عنه فَهِمَ من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعَلِم ما في تحمُّلها من الخطر، وعَلِم قُوّة عمر على ذلك، فاختاره، ويؤيِّده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه، أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجرّاح.
(1)
"المفهم" 2/ 50.
(2)
يعني ما جرى بين عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
(3)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 2/ 101 - 102.
والظاهر أنه لم يَطَّلِع على المراجعة المتقدمة، وفَهِم من الأمر له بذلك تفويضَ الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه، أو استَخْلَف
(1)
.
وقال القرطبيّ: ويستفاد منه أن للمستَخلَف في الصلاة أن يَستَخْلِف، ولا يتوقفُ على إذن خاصّ له بذلك. انتهى
(2)
.
(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه عبيد اللَّه أي ناقلًا عن عائشة (فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ) أي بأن تصلّي بالناس؛ لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياك به (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ) أي أيام مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وانقطاعه عن المسجد.
واستُدلّ به على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استَخْلَف أبا بكر رضي الله عنه، ولم يُصلّ بهم قاعدًا غير مرّة واحدة، قاله في "الفتح"
(3)
.
(ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً) أي خفّة المرض عنه (فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ) وسيأتي في رواية الأسود، عن عائشة:"فقام يُهادَى بين رجلين"(أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ) بن عبد المطّلب عم النبيّ صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (32)، أو بعدها، وهو ابن (88) سنة، وقد تقدّمت ترجمته في "كتاب الإيمان" 13/ 159، والرجل الآخر هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما يأتي قريبًا.
وقال في "الفتح" ما حاصله: وقع في رواية عاصم، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة:"فخَرَج بين بريرة ونُوبة"، قال: ويُجمَع -كما قال النوويّ- بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثَمّ إلى مقام الصلاة بين العباس وعليّ، أو يُحْمَل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطنيّ أنه خرج بين أُسامة بن زيد والفضل بن العباس، وأما ما في
(1)
"الفتح" 2/ 181.
(2)
"المفهم" 2/ 50.
(3)
2/ 402.
مسلم
(1)
أنه خرج بين الفضل بن العباس وعليّ، فذاك في حال مجيئه إلى بيت عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: "نُوبة" -بضم النون، وبالموحدة- ذكره بعضهم في النساء الصحابيّات، فوَهِمَ، وإنما هو عبد أسود، كما وقع عند سيف في "كتاب الردّة"، ويؤيده حديث سالم بن عبيد في "صحيح ابن خزيمة" بلفظ:"خرج بين بريرة ورجل آخر". انتهى
(2)
.
وقوله: (لِصَلَاةِ الظُّهْرِ) قال في "الفتح": هو صريحٌ في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، واستدلّ بقوله في رواية أرقم بن شُرَحبيل، عن ابن عبّاس:"وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر. . . "، هذا لفظ ابن ماجه، وإسناده حسنٌ، لكن في الاستدلال به نظرٌ؛ لاحتمال أن يكون سمع من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصّةً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُسمِع الآية أحيانًا في الصلاة السرّيّة، كما سيأتي من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
ثم لو سُلِّم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح، بل يَحْتَمِلُ أن تكون المغرب، فقد ثبت في "الصحيحين" عن أمّ الفضل بنت الحارث رضي الله عنها قالت:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}، ثم ما صلّى لنا بعدها حتى قبضه اللَّه"، وهذا لفظ البخاريّ، قال الحافظ: لكن وجدت بعدُ في النسائيّ أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل، كانت في بيته، وقد صَرَّح الشافعيّ بأنه صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرةً واحدةً، وهي هذه التي صلّى فيها قاعدًا، وكان أبو بكر فيها أوّلًا إمامًا، ثم صار مأمومًا، يُسمِع الناسَ التكبيرَ. انتهى
(3)
.
(1)
أراد به ما في الحديث التالي لهذا الحديث، فإن فيه:"فخرج ويد له على الفضل بن عباس، ويد له على رجل آخر".
(2)
"الفتح" 2/ 181.
(3)
"الفتح" 2/ 205.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب كون تلك الصلاة هي الظهر لا الصبح؛ لتصريح هذه الرواية بذلك، واللَّه تعالى أعلم.
(وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ) أي علم بحضوره صلى الله عليه وسلم، ففي رواية الأسود، عن عائشة الآتية:"فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه، ذهب يتأخّر"، وفي رواية أرقم بن شُرَحبيل، عن ابن عبّاس في هذا الحديث:"فلمّا أحسّ الناس به سَبَّحُوا"، أخرجه ابن ماجه وغيره بإسناد حسن
(1)
. (ذَهَبَ) أي شرع أبو بكر رضي الله عنه (لِيَتَأَخَّرَ) حتى يتقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيُصلّي إمامًا (فَأَوْمَأَ) أي أشار (إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ) وفي نسخة:"أن لا تتأخّر"، فتكون "أن" مفسّرةً، و"لا" ناهية، والفعل مجزوم، وفي رواية الأسود:"فأومأ إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قم مكانك"(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُمَا) أي للرجلين اللذين خرج يُهَادَى بينهما ("أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ"، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (وَكَانَ أَبُو بَكْرِ) رضي الله عنه (يُصَلِّي، وَهُوَ قَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "يصلّي"(وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) أي بتسميعه لهم التكبير (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ) ولفظ النسائيّ: "ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي قاعدًا"، ولفظ البخاريّ:"فجعل أبو بكر يصلّي، وهو يأتمّ بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدٌ".
(قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عبد اللَّه بن عتبة الراوي عن عائشة رضي الله عنها (فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف "لا"، كما تقدّم قريبًا (أَعْرِضُ عَلَيْكَ) بكسر الراء، يقال: عَرَض عليه الشيءَ، من باب ضرب: إذا أراه إيّاه
(2)
. (مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ) رضي الله عنها (عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ؟) وفي نسخة: "النبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (هَاتِ) بكسر التاء، قال في "اللسان": يقال: هاتِ يا رجلُ -بكسر التاء-: أي أعطني، وللاثنين: هاتيا، مثلُ آتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي بالياء، وللمرأتين: هاتيا، وللنساء: هاتين. انتهى
(3)
.
(فَعَرَضْتُ حَدِيثَهَا عَلَيْهِ) أي ما حدّثته عائشة رضي الله عنها من قصّة مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 181.
(2)
راجع: "القاموس المحيط" 2/ 334.
(3)
"لسان العرب" 2/ 107.
كما طلب منها أن تحدّثه به (فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) منصوب على الاستثناء، أي أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما قال زيادة لتوضيح ما أبهمته من تسمية الرجل الثاني (أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟) قال عبيد اللَّه (قُلْتُ: لَا) أي لم تسمّه لي (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (هُوَ عَلِيٌّ) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
قال في "الفتح": زاد الإسماعيليّ من رواية عبد الرزاق، عن معمر:"ولكن عائشة لا تطيب نفسًا له بخير"، ولابن إسحاق في "المغازي" عن الزهريّ:"ولكنها لا تَقْدِرُ على أن تذكره بخير".
ولم يَقِف الكرماني على هذه الزيادة، فعَبَّر عنها بعبارة شنيعة
(1)
، وفي هذا رَدّ على من تنطع، فقال: لا يجوز أن يُظَنَّ ذلك بعائشة، ورَدٌّ على مَن زعم أنها أبهمت الثاني؛ لكونه لم يتعين في جميع المسافة؛ إذ كان تارةً يتوكأ على الفضل، وتارةً على أسامة، وتارةً على عليّ، وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختصّ بذلك إكرامًا له، وهذا توهُّم ممن قاله، والواقع خلافه؛ لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازمٌ بأن المبهم عليٌّ، فهو المعتمدُ، واللَّه أعلم.
ودعوى وجود العباس في كل مرّة، والذي يتبدل غيره مردودٌ بدليل رواية عاصم التي تقدمت الإشارة إليها وغيرها صريحٌ في أن العباس لم يكن في مرة، ولا في مرتين منها، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
حيث قال: لم ما سمّته؟ ثم قال: ما سمّته تحقيرًا، أو عداوةً، هكذا نقل العينيّ عن الكرمانيّ، وأشار إلى مثله في "الفتح"، وهذا سوء أدب، فلا ينبغي الإصغاء إليه، ولكن نسخة الكرمانيّ التي عندي خلاف هذا، ولعلها من إصلاح بعض الناس، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 2/ 183.
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 941 و 942 و 943 و 944 و 945 و 946 و 947 و 948](418)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(198) و"الأذان"(664 و 665 و 679 و 683 و 687 و 712 و 713 و 716) و"الهبة"(2588) و"المغازي"(4442) و"الطبّ"(5714) و"الاعتصام"(7303)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(2/ 101 - 102)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1618)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9754)، و (الحميديّ) في "مسنده"(233)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 181)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 228 و 231 و 251)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 503)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 287)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 16)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 111 و 113 و 114 و 117)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(928 و 929 و 930 و 931 و 932 و 933 و 934 و 935)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 405)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 80) و"دلائل النبوّة"(7/ 190)، و (ابن المنذر) في "الأسط"(1/ 315)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 126)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2116 و 2117 و 2118 و 2119 و 2120 و 2121)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز استخلاف الإمام من يصلّي بالناس إذا عرض له عذر يمنعه عن حضور صلاة الجماعة، من مرض أو غيره، وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم.
2 -
(ومنها): جواز الإغماء على الأنبياء -صلوات اللَّه وسلامه عليهم- ولا شك في جوازه؛ فإنه مرض، والمرض يجوز عليهم، بخلاف الجنون، فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقصٌ، والحكمة في جواز المرض عليهم، ومصائبِ الدنيا تكثير أجرهم، وتسلية الناس بهم، ولئلا يُفْتَتَن الناس بهم، ويعبدوهم؛ لما يَظْهَر عليهم من المعجزات والآيات البينات، واللَّه تعالى أعلم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 136.
3 -
(ومنها): بيان استحباب الغسل من الإغماء، وإذا تكرّر الإغماء استُحِبّ تكرار الغسل لكل مرّة، فإن لم يَغتَسل إلا بعد الإغماء مراتٍ كفى غسل واحد.
وقد حَمَل القاضي عياض رحمه الله الغسل هنا على الوضوء، من حيث إن الإغماء ينقض الوضوء.
قال النوويّ رحمه الله: ولكن الصواب أن المراد غسل جميع البدن، فإنه ظاهر اللفظ، ولا مانع يَمنع منه، فإن الغسل مستحبّ من الإغماء، بل قال بعض أصحابنا: إنه واجبٌ، وهذا شاذّ ضعيفٌ. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان جواز قول الإنسان: العشاء الآخرة، وقد أنكره الأصمعيّ، والصواب جوازه؛ فقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعائشة، وأنس، والبراء، رضي الله عنهم، وجماعة آخرين إطلاق العشاء الآخرة، واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): بيان فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وترجيحه على جميع الصحابة -رضوان اللَّه عليهم أجمعين- وتفضيله، وتنبيهٌ على أنه أحقّ بخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غيره.
6 -
(ومنها): بيان فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنهما؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يَعْدِل إلى غيره.
7 -
(ومنها): بيان أن المفضول إذا عَرَض عليه الفاضل مرتبةً لا يقبلها، بل يَدَعُها للفاضل إذا لم يمنع مانعٌ.
8 -
(ومنها): جواز الثناء في الوجه من أُمِن عليه الإعجاب والفتنة؛ لقول عمر رضي الله عنه: "أنت أحق بذلك".
9 -
(ومنها): جواز مراجعة الصغير الكبير، والمشاورة في الأمر العامّ، والأدب مع الكبير؛ لِهَمّ أبي بكر بالتأخر عن الصفّ، وإكرام الفاضل؛ لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي مع الصفّ، فلم يتركه النبيّ صلى الله عليه وسلم يتزحزح عن مقامه.
10 -
(ومنها): أن البكاء، ولو كثر لا يُبطل الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن علم حال أبي بكر في رقة القلب، وكثرة البكاء لم يَعْدِل عنه، ولا نهاه عن البكاء.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 136.
11 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ملاطفة أزواجه، ولا سيّما عائشة رضي الله عنهن جميعًا.
12 -
(ومنها): أن الإيماء يقوم مقام النطق، حيث اقتصر النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإشارة ببقاء أبي بكر رضي الله عنه في مكانه.
قال في "الفتح": واقتصاره صلى الله عليه وسلم على الإشارة يَحْتَمِل أن يكون لضعف صوته، ويَحْتَمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة مَن يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. انتهى
(1)
.
13 -
(ومنها): أن فيه تأكيدَ أمر الجماعة، والأخذ فيها بالأشدّ، وإن كان المريض يُرَخَّص له في تركها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تكلّف الحضور مع مشقّته عليه.
قال في "الفتح": ويَحْتَمِل أن يكون فَعَلَ ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشدّ، وإن كانت الرخصة أولى، وقال الطبريّ: إنما فَعَل ذلك؛ لئلا يَعْذُر أحدٌ من الأئمة بعده نفسه بأدنى عذر، فيتخلَّفَ عن الإمامة، ويَحْتَمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر رضي الله عنه كان لأهليته لذلك، حتى إنه صلّى خلفه.
14 -
(ومنها): أنه استدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة؛ لصنيع أبي بكر رضي الله عنه في عرضه على عمر رضي الله عنه.
15 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قَصَد أن يبلِّغ عنه، ويَلْتَحِق به مَن زُحِم عن الصفّ.
16 -
(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو قول الشعبيّ، واختيار الطبريّ، وأومأ إليه البخاريّ.
وتُعُقِّب بأن أبا بكر إنما كان مبلِّغًا كما سيأتي من رواية الأعمش: "وأبو بكر يُسمع الناس"، فعلى هذا فمعنى قوله:"ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" اقتداؤهم بصوته، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسًا، وكان أبو بكر قائمًا، فكان بعض أفعاله يَخْفَى على بعض المأمومين، فمن ثَمّ كان أبو بكر كالإمام في حقهم، واللَّه تعالى أعلم
(2)
.
17 -
(ومنها): أن فيه اتِّباعَ صوت المكبر، وصحة صلاة الْمُسْمِع
(1)
"الفتح" 2/ 206.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 183.
والسامع، ومنهم من شَرَط في صحته تقدم إذن الإمام، والأول أصحّ، قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": فيه جواز رفع الصوت بالتكبير؛ ليسمعه الناس ويتبعوه، وأنه يجوز للمقتدي اتّباعُ صوت المكبر، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، ونقلوا فيه الإجماع، وما أراه يصحّ الإجماع فيه، فقد نَقَل القاضي عياض عن مذهبهم أنّ منهم من أبطل صلاة المقتدي، ومنهم من لم يبطلها، ومنهم من قال: إن أذن له الإمام في الإسماع صح الاقتداء به، وإلا فلا، ومنهم من أبطل صلاة الْمُسْمِع، ومنهم من صححها، ومنهم من شرط إذن الإمام، ومنهم من قال: إن تكَلَّف صوتًا بطلت صلاته، وصلاة من ارتبط بصلاته، وكلُّ هذا ضعيف، والصحيح جوازُ كل ذلك، وصحة صلاة الْمُسْمِع والسامع، ولا يعتبر إذن الإمام. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
18 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به الطبريّ رحمه الله على أن للإمام أن يقطع الاقتداء به، ويقتدي هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة، وعلى جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة، وعلى جواز تقدّم إحرام المأموم على الإمام؛ بناءً على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة، ثم قطع القدوة، وائتمّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ رحمه الله: وهو ظاهر الرواية، ويؤيِّده أيضًا أن في رواية أرقم بن شُرَحبيل، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"فابتدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث انتهى أبو بكر". انتهى
(2)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.
19 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على صحة صلاة القادر على القيام قائمًا خلف القاعد، خلافًا للمالكية مطلقًا، ولأحمد حيث أوجب القعود على مَن يصلي خلف القاعد، وقد سبق تحقيق القول في ذلك، وأن الأرجح جواز الاقتداء للقادر قائمًا وقاعدًا، كما هو أحد القولين عن الإمام أحمد رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم.
20 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتَكَى أولى من صلاته بهم قاعدًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استَخْلَف أبا بكر رضي الله عنه، ولم
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 144.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 183 - 184.
يُصَلِّ بهم قاعدًا غير مرة واحدة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[942]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
(1)
مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا، فَأَذِنَّ لَهُ
(2)
، قَالَتْ: فَخَرَجَ، وَيَدٌ لَهُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَيَدٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، وَهُوَ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ هُوَ عَلِيٌّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة، وكلّهم تقدّموا قريبًا، فمن شيخيه إلى الزهريّ، تقدّموا قبل باب، والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي. . . إلخ) معنى هذا الكلام أن الزهريّ أخبره عبيد اللَّه حديثًا أو أكثر غير هذا الحديث، فعطف عليه هذا، فقال: وأخبرني. . . إلخ.
وقولها: (أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ) برفع "أولُ" على الابتداء، وخبره "في بيت ميمونة"، و"ما" مصدريّة، أي أوّلُ اشتكاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة رضي الله عنها.
وَ"مَيْمُونَةُ" هي: بنت الحارث الهلاليّة، أم المؤمنين، قيل: كان اسمها برّة، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة، وتزوّجها بسَرِف، موضع قريب من مكّة، سنة سبع من الهجرة، وماتت رضي الله عنها سنة (51) على الصحيح، وكان موتها بِسرِف في الظلّة التي كان بنى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتقدّمت ترجمتها مستوفاةً في "الحيض" 1/ 687.
وقولها: (فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ) أي يُخدَم في مرضه، يقال: مرّضته
(1)
وفي نسخة: "قال: حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "وَأذنّ له" بالواو.
تمريضًا: إذا تكفّلت بمداواته، قاله في "المصباح"
(1)
.
وقال في "القاموس"، و"شرحه":"التَّمْريضُ": حُسنُ القيام على المريض، قال سيبويه: مرّضه تمريضًا: قام عليه، ووَلِيَهُ في مَرَضه، وداواه؛ ليزول مرَضُهُ، جاءت فَعَّلْتُ هنا للسلب، وإن كانت في أكثر الأمر إنما تكون للإثبات. انتهى
(2)
.
وقولها: (فِي بَيْتِهَا) أي بيت عائشة رضي الله عنها، قال النوويّ رحمه الله: هذا يَسْتَدِلّ به مَن يقول: كان القسم واجبًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أزواجه في الدوام، كما يَجب في حقّنا، ولأصحابنا وجهان: أحدهما هذا، والثاني: سُنّة، ويَحملون هذا، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم هذا قَسْمي فيما أملك. . . "، على الاستحباب، ومكارم الأخلاق، وجميل العشرة
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الصحيح أن القسم ليس واجبًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما يفعله؛ لكريم أخلاقه، وحسن معاملته، والدليل قوله عز وجل:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الآية [الأحزاب: 51]، وسيأتي تمام البحث في هذا في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.
وفيه فضيلة عائشة رضي الله عنها، ورجحانها على جميع أزواجه صلى الله عليه وسلم الموجودات ذلك الوقت، وكُنّ تسعًا، إحداهن عائشة رضي الله عنهن، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلفوا في عائشة وخديجة رضي الله عنهما، والأرجح ترجيح عائشة رضي الله عنها، وسيأتي هذا أيضًا في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقولها: (فَأَذِنَّ لَهُ) وفي بعض النسخ: "وَأذنّ له"، وهو بفتح الهمزة، وكسر الذال المعجمة، وتشديد النون: أي أذن أزواجه صلى الله عليه وسلم، وحَكَى الكرمانيّ أنه رُوي بضم الهمزة، وكسر الذال، وتخفيف النون، على البناء للمجهول.
وقولها: (وَيَدٌ لَهُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) تقدّم قولها: "فخرج بين رجلين، أحدهما العبّاس. . . "، قال النوويّ رحمه الله: وجاء في غير "صحيح مسلم": "بين
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 568 - 569.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 5/ 85.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 138 - 139.
رجلين: أحدهما: أسامة بن زيد"، وطريق الجمع بين هذا كلِّه أنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم تارةً هذا، وتارةً ذاك وذاك، ويتنافسون في ذلك، وهؤلاء هم خواصّ أهل بيته الرجال الكبار، وكان العباس رضي الله عنه أكثرهم ملازمة للأخذ بيده الكريمة المباركة صلى الله عليه وسلم، أو أنه أدام الأخذ بيده، وإنما يتناوب الباقون في اليد الأخرى، وأكرموا العباس باختصاصه بيد، واستمرارها له؛ لما له من السنّ والعمومة وغيرهما، ولهذا ذكرته عائشة لمُسَمًّى، وأبهمت الرجل الآخر؛ إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازمًا في جميع الطريق، ولا مُعْظَمِهِ، بخلاف العباس، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقولها: (وَهُوَ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ فِي الْأَرْضِ) أي لا يستطيع أن يرفعهما، ويضعهما، ويَعتَمِدَ عليهما، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[943]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(2)
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاشْتَدَّ
(3)
بِهِ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، بَيْنَ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِالَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَلِيٌّ).
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 138.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(3)
وفي نسخة: "فاشتدّ".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شُعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأَيْليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت.
[تنبيه]: قوله: (بَيْنَ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ) قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ رحمه الله: هكذا في روايتنا عن أَبي أحمد الجُلُوديّ والكسائيّ، ووقع في النسخة عن ابن ماهان:"بين الفضل بن عبّاس، وبين رجل آخر"، جَعَل الفضل مكان ابن عبّاس، وهكذا قال عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عائشة:"فخرج ويدٌ له على الفضل بن عبّاس، ويدٌ على رجل آخر". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم الجمع بين الروايات المختلفة في هذا في كلام النوويّ رحمه الله، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[944]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 810.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا، وَإِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ أَحَدٌ، إِلَّا تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي بَكْرٍ).
رجال هذا الإسناد: هم الذين تقدّموا في السند الماضي.
وقولها: (لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ) أي شأن إمامة أبي بكر رضي الله عنه، لَمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يؤمّ الناس.
قال النوويّ رحمه الله: وفي مراجعة عائشة رضي الله عنها جواز مراجعة وليّ الأمر على سببيل العَرْض والمشاورة، والإشارة بما يَظهَر أنه مصلحةٌ، وتكون تلك المراجعة بعبارة لطيفة، ومثل هذه المراجعة مراجعةُ عمر رضي الله عنه في قوله:"لا تبَشّرهم، فَيَتَّكِلوا"، وأشباهه كثيرةٌ مشهورةٌ. انتهى
(1)
.
وقولها: (وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ)"ما" نافيةٌ، و"حملني" مبنيّ للفاعل، وفاعله قولها:"إِلا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ. . . إلخ"، و"إلا" أداة استثناء مُلغاة، و"أنه" بفتح الهمزة؛ لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة":
وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ
…
مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ
فهنا وقعت فاعلًا، أي ما حملني إلا عدم وقوع محبة الناس.
وقولها: (أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا)"أن" مصدريّةٌ، والفعل مبنيّ للفاعل، وهو في تأويل المصدر فاعل "يقع".
وقولها: (وَإِلَّا أَنِّي كُنْتُ. . . إلخ) بفتح همزة "أن"، وهو عطفٌ على "إلا أنه. . . إلخ".
وقولها: (أَرَى) بفتح أوله، أي أعتقد، ويَحتَمل أن يكون بضمّ أوله بصيغة المبنيّ للمفعول، بمعنى أَظُنُّ.
وقولها: (مَقَامَهُ) أي مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقولها: (إِلَّا تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ) أي يتطيّروا به، والتشاؤم: ضدّ التيامن.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 140.
وقولها: (أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ. . . إلخ) بكسر الدال، من باب ضرب؛ أي يصرفه عن أبي بكر رضي الله عنه إلى غيره، وبقية مباحث الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[945]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَاَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي، قَالَ:"مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرِ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: "لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ
(2)
أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة، كلّهم تقدّموا قبل حديثين، غير:
(حَمْزَةُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب، أبو عُمَارة المدنيّ، شقيق سالم بن عبد اللَّه، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وعمته حفصة، وعائشة. وروى عنه أخوه عبد اللَّه، وابن ابن أخيه خالد بن أبي بكر بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، والزهريّ، وأخوه عبد اللَّه بن مسلم بن شهاب، والحارث بن عبد الرحمن، خال ابن أبي ذئب، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر المصريّ، وموسى بن عقبة، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن المديني عن يحيى بن سعيد في فقهاء أهل المدينة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا بالمكرّر.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "فليُصلّ بالناس".
وقوله: (لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ) وفي نسخة: "فلْيُصَلِّ بالناس".
وقوله: (فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) أي في التظاهر على ما تُرِدْنَ، وكثرةِ إِلْحَاحِكُنّ في طلب ما تُرِدنه، وتَمِلْنَ إليه، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[946]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ:"مُرُوا أَبا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ، لَا يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَ:"مُرُوا أَبَا بَكْرِ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ، لَا يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَتْ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، قَالَتْ: فَأَمَرُوا أَبَا بَكْرٍ، يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ، فَذَهَبَ
(1)
يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْ
(2)
مَكَانَكَ"، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "ذهب" بحذف الفاء.
(2)
وفي نسخة: "أقم".
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لأحاديث الأعمش، من كبار [9](ت 195) عن (82) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابد، من كبار [9](ت 6 أو أوّل 197) عن (70) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 1.
4 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.
5 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الإمام المشهور، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عِمْران الكوفيّ الفقيه، ثقةٌ ثبت [5](ت 96) عن (50) سنةً أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
7 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عَمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، خال إبراهيم، ثقة مُكثرٌ فقيهٌ مخضرمٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
8 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أوّل الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، فكلّ رواته كوفيّون، إلا عائشة رضي الله عنها، ويحيى بن يحيى، وقد دخلها.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وهو خالٌ لإبراهيم، فإن أمه مليكة بنت يزيد أخت الأسود.
5 -
(ومنها): كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وقد تقدّم البحث عنها مستوفًى في غير موضع.
6 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له"؛ إشارة إلى أن شيخيه اختلفا في
لفظ هذا الحديث، وهذا الذي ساقه لفظ شيخه يحيى، وأما أبو بكر، فرواه بمعناه.
7 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها، وقد تقدّم الكلام عنها قريبًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي اشتدّ به المرض، وقد تقدّم ضبط "ثَقُل" ومعناه قريبًا (جَاءَ بِلَالٌ) بن رَبَاح، مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، المتوفّى سنة (117) أو بعدها بالشام، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ) بضمّ حرف المضارعة، من الإيذان، وهو الإعلام؛ أي يُعلمه بحضورها، وفي رواية البخاريّ، عن الأسود قال: كنا عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا المواظبة على الصلاة، والتعظيمَ لها، قالت: لَمّا مَرِض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأُذِّن، فقال: "مُرُوا أبا بكر. . ".
والصلاة المذكورة هي العشاء الآخرة، كما تقدّم في رواية موسى بن أبي عائشة، وقد تقدّم بيان الخلاف في ذلك، وتقدّم أيضاَّ أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي بدأ بالسؤال عن حضور وقت الصلاة، فقال:"أصلّى الناس؟ "، وذلك ليتهيّأ للخروج إليها، ولكنه أغمي عليه إلى آخر ما تقدّم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مُرُوا أَبَا بَكْرٍ) رضي الله عنه (فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ") استُدِلَّ به على أن الآمر بالأمر بالشيء يكون آمرًا به، وهي مسألة معروفة في أصول الفقه، وأجاب المانعون بأن المعنى بَلِّغُوا أبا بكر أني أمرته، وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرًا حقيقةً، فمسلَّم؛ لأنه ليس فيه صيغةُ أمرٍ للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح عندي القول الثاني، وإليه أشرت في "التحفة المرضيّة" حيث قلت:
(1)
2/ 179 رقم (665).
وَالأَمْرُ بِالأَمْرِ بِشَيْءٍ لَا يُرَى
…
أَمْرًا بِهِ نَحْوُ "مُرُوا" كَمَا جَرَى
"أَوْلَادَكُمْ" لَيْسَ خِطَابًا لِلصَّبِي
…
بَلِ الْوُجُوبَ لِلْوَلِيِّ نَجْتَبِي
وَإِنْ يَكُنْ حَصَلَ مَا دَلَّ عَلَيْه
…
كَـ "فَلْيُرَاجِعْهَا" فَيُصْرَفُ إِلَيْه
وأشرت بقولي: "مرُوا. . . إلخ" إلى ما أخرجه أبو داود بسند حسن عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع".
وبقولي: "فليُراجعها" إلى ما أخرجه الشيخان عن عبد اللَّه بن عمر، أنه طلَّق امرأته، وهي حائض، على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مُرْه فليراجعها. . . " الحديث.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ) بفتح الهمزة، وكسر السين المهملة، بوزن فَعِيل، وهو بمعنى فاعل، من الأَسَف، وهو شدّة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب، ولابن حبّان من رواية عاصم، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: قال عاصم: والأَسِيف: الرقيق الرحيم، وتقدّم في حديث حمزة بن عبد اللَّه بن عمر عنها في هذه القصة، قالت: فقلت: "يا رسول اللَّه: إن أبا بكر رجل رقيقٌ، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر"، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه نحوه، ومن رواية مالك، عن هشام، عن أبيه، عنها، بلفظ:"قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس، من البكاء، فمُرْ عمرَ".
(وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ)"متى" اسم شرط يجزم فعلين، الأول فعل الشرط، وهو "يقم"، والثاني جوابه، وهو قوله:(لَا يُسْمِعِ النَّاسَ) وكسرت العين؛ لالتقاء الساكنين (فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ)"لو" يحتمل أن تكون للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب، ويَحْتَمِل أن تكون شرطيّة، وجوابها محذوف، أي لكان خيرًا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ") وفي رواية البخاريّ من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش:"إن أبا بكر رجل أسيفٌ إذا قام في مقامك لم يستطع أن يُصلّي بالناس، وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة"(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطّاب، أم المؤمنين، تزوّجها
النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خُنَيس بن حُذَافة سنة ثلاث من الهجرة، وماتت سنة (45) وستأتي ترجمتها مستوفاةً في "كتاب صلاة المسافرين" برقم (723)
(1)
. (قُولِي لَهُ) صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ، لَا يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَتْ) حفصة رضي الله عنها ذلك (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) وفي رواية مالك، عن هشام بن عروة: فقال: "مَهْ، إنكنّ لأنتن صواحب يوسف"، أي في التظاهر على ما تُردن، وكثرة إلحاحكنّ في طلب ما تردنه، وتَمِلن إليه، وفيه جواز تشبيه أحد الشيئين بآخر في وصف مشهور بين الناس.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لأنتنّ صواحب يوسف": يعني في تردادهنّ، وتظاهرهنّ بالإغواء والإلحاح، حتى يَصِلْنَ إلى أغراضهنّ، كتظاهر امرأة العزيز ونسائها على يوسف عليه السلام؛ ليصرفنه عن رأيه في الاستعصام، و"صواحبات": جمع صواحب، وهو جمع شاذّ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "صواحب": جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحد، وهي عائشة فقط، كما أن صواحب صيغة جمع، والمراد زَلِيخَا فقط، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زَلِيخا استَدْعَت النسوة، وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادةً على ذلك، هو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، وأنّ عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرفَ الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادةً على ذلك، هو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صَرَّحت هي بذلك، فقالت:"لقد راجحت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته، إلا أنه لم يقع في قلبي أن يُحِبّ الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا. . . " الحديث، قد سبق قبل حديث.
قال الحافظ: وبهذا التقرير يندفع إشكال مَن قال: إن صواحب يوسف لم يقع منهنّ إظهار يخالف ما في الباطن.
(1)
هذا الرقم للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، فتنبّه.
(2)
"المفهم" 2/ 51 - 52.
ووقع في مرسل الحسن، عند ابن أبي خيثمة: أن أبا بكر أمر عائشة أن تُكَلِّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصرف ذلك عنه، فأرادت التوصل إلى ذلك بكل طريق، فلم يَتِمّ.
ووقع في أمالي ابن عبد السلام: أن النسوة أَتَيْنَ امرأة العزيز يُظهِرن تعنيفها، ومقصودهنّ في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن، كذا قال، وليس في سياق الآية ما يساعد ما قال. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما قاله ابن عبد السلام هو الصواب؛ لأنه الذي يدلّ عليه سياق الآية؛ إذ قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، ثم قال تعالى:{فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} الآية [يوسف: 34]، وقال أيضًا:{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} الآية [يوسف: 51]، ظاهرٌ في كونهنّ راودنه كما راودته امرأة العزيز، فقول الحافظ: وليس في سياق الآية ما يساعد ما قال غريبٌ جدًّا.
والحاصل أن سياق الآيات المذكورة واضح في الدلالة على ما ذُكر، فقوله صلى الله عليه وسلم:"إنكنّ صواحب يوسف" بالجمع على ظاهره، وذلك أنه أراد عائشة وحفصة، وقد سبق أن الأرجح أن أقلّ الجمع اثنان، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، وأما في قصّة يوسف عليه السلام، فالجمع واضح؛ إذ المراد امرأة العزيز، والنسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[فائدة]: قال الحافظ رحمه الله: زاد حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم في هذا الحديث: أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر عمر بالصلاة، أخرجه الدَّوْرَقيّ في "مسنده"، وزاد مالك في روايته: فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا، ومثله للإسماعيليّ، وإنما قالت حفصة ذلك؛ لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاودة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث، فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذُكِر من كونهنّ
(1)
"الفتح" 2/ 179 - 180.
صواحب يوسف، وَجَدَت حفصة في نفسها من ذلك؛ لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكرت ما وقع لها معها أيضًا في قصة المغافير، كما سيأتي في موضعه. انتهى
(1)
.
(مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ") وفي رواية الكشميهنيّ للبخاريّ: "للناس" باللام (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَأَمَرُوا أَبا بَكْرٍ) أي بلّغوه أمره صلى الله عليه وسلم، والمبلّغ هو رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو بلالٌ رضي الله عنه، وإنما جمع الضمير؛ لأن الحاضرين موافقون له في ذلك، وقوله:(يُصَلِّي بِالنَّاسِ) بتقدير حرف مصدريّ، أي أن يصليّ، وهو في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف، والتقدير: فأمروا أبا بكر بالصلاة بالناس.
وفي رواية البخاريّ: "فخرج أبو بكر، فصلّى"، قال في "الفتح": فيه حذفٌ دَلَّ عليه سياق الكلام، وقد بيّنه في رواية موسى بن أبي عائشة المتقدّمة، ولفظه:"فأتاه الرسول" أي بلال؛ لأنه هو الذي أَعْلَم بحضور الصلاة، فأجيب بذلك، وفي روايته أيضًا: فقال له: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلًا رقيقًا: يا عمر صلِّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحقّ بذلك". انتهى.
وقولُ أبي بكر هذا لم يُرِد به ما أرادت عائشة، قال النوويّ: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعًا، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو كونه رقيقَ القلب، كثيرَ البكاء، فخشي أن لا يُسْمِع الناس. انتهى. وقد تقدّم تمام البحث في هذا عند شرح رواية موسى بن أبي عائشة المذكورة.
(قَالَتْ) عائشة: (فَلَمَّا دَخَلَ) أبو بكر (فِي الصَّلَاةِ) هذا ظاهر في كونه شرع في الصلاة، ولا داعي للاحتمال الذي ذكره في "الفتح" بأنه محتمل لأن يكون المراد دخل في مكان الصلاة، فإنه احتمال بعيد، فتأمله، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
(وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم وجد ذلك في تلك الصلاة بعينها، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك بعد ذلك، وأن يكون فيه حذفٌ، كما
(1)
"الفتح" 2/ 180.
تقدم مثله في قوله: "فخَرَجَ أبو بكر"، وأوضح منه رواية موسى بن أبي عائشة المتقدّمة بلفظ:"فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَجَدَ من نفسه خِفّةً"، وعلى هذا لا يتعين أن تكون الصلاة المذكورة هي العشاء، قاله في "الفتح"، وهو بحثٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَامَ يُهَادَى) -بضم أوله، وفتح الدال- مبنيًّا للمفعول: أي يمشي مُعْتَمِدًا عَلى الرجلين متمايلًا في مشيه، من شدّة الضعف، والتهادي: التمايل في المشي البطيء.
(بَيْنَ رَجُلَيْنِ) هما العبّاس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وتقدّم اختلاف الروايات في ذلك، والجمع بينها عند شرح رواية موسى المذكورة.
(وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ) أي تجعلان فيها خطًّا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم يجرّهما، ولا يعتمد عليهما؛ لعدم قدرته على تمكينهما من الأرض بسبب شدّة ضعفه، وفي رواية عند ابن حبان:"إني لأنظر إلى بطون قدميه".
(قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (الْمَسْجِدَ) النبويّ (سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ) قال في "القاموس": "الْحَسُّ" بفتح الحاء: الْجَلَبَةُ، وبكسرها: الحركة، وأن يمرّ بك قريبًا، فتسمعه، ولا تراه، كالْحَسِيس. انتهى باختصار
(1)
.
والظاهر أن الرواية هنا بالكسر، فيكون المعنى: أنه سمع حركته صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.
(فَذَهَبَ) عطف على "سمع"، وفي بعض النسخ:"ذَهَبَ" بحذف العاطف، وعليه فيكون جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، كأنه قيل لها: فماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه حين سمع حسّه؟ فأجابت بقولها: ذَهَبَ (يَتَأَخَّرُ) أي إلى الصفّ؛ ليكون مأمومًا بعد أن كان إمامًا (فَأَوْمَأَ) أي أشار إِلَيْهِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْ) وفي نسخة: "أقم" بهمزة القطع، من الإقامة (مَكَانَكَ") منصوب على الظرفية، أي اثبُت في مكانك الذي أنت فيه، وفي رواية البخاريّ:"أن مكانك"، وفي رواية عاصم المذكورة:"أن اثْبُتْ مكانك"، وكلمة "أن" بفتح الهمزة، وسكون النون، و"مكانك" منصوب على
(1)
راجع: "القاموس المحيط" 2/ 206 - 207.
معنى الزَمْ مكانك، وفي رواية موسى بن أبي عائشة المتقدّمة:"فأومأ إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر"
(1)
.
(فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ) وفي رواية موسى بن أبي عائشة المتقدّمة أن ذلك كان بأمره صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"فقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر".
وقوله: (عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ) هذا هو مقام الإمام، وسيأتي القول فيه، وأغرب القرطبيّ حيث قال -لَمّا حَكَى الخلاف، هل كان أبو بكر إمامًا، أو مأمومًا؟ -: لم يقع في "الصحيح" بيان جلوسه صلى الله عليه وسلم، هل كان عن يمين أبي بكر، أو عن يساره؟. انتهى
(2)
.
والغريب أن هذه الرواية كما ترى في "صحيح مسلم"، بل هي متّفقٌ عليها، والقرطبيّ نفسه ساقها في "مختصره"، فالعجب منه كيف يَغْفُل عن ذلك في حال شرحه له، فسبحان مَن {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .
(قَالَتْ) عائشة: (فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ) حال كونه (جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا) هذا من عطف المعمولين على معمولي عاملين مختلفين، وفيه الخلاف المقرّر في محلّه، فقوله:"أبو بكر" عطف على "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وقوله:"قائمًا" عطف على "جالسًا"، وهو حال من فاعل "يُصلّي".
وقوله: (يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) حال من أبي بكر (وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه.
وهذا صريح في كون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأبو بكر مأموم به صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى قوله:"ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" اقتداؤهم به في الانتقالات، حيث كان يُسمعهم تكبيرات النبيّ صلى الله عليه وسلم.
واستدلّ به الجمهور على نسخ حديث: "وإذا صلّى جالسًا فصلّوا جُلُوسًا"، والحقّ أنه لا نسخ، كما سبق تحقيقه، قريبًا.
واستدلّ به أيضًا ابن المسيّب: على أن مقام المأموم يكون عن يسار الإمام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر رضي الله عنه، وهذا إنما يتمشّى على قول من
(1)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 278.
(2)
"المفهم" 2/ 51.
قال: إن أبا بكر كان هو الإمامَ، والجمهور على أنه يقوم عن يمينه، وهو الحقّ؛ فقد ثبت في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم حوّل ابن عبّاس رضي الله عنهما إلى يمينه لَمّا قام عن يساره، وغير ذلك من الأدلة الصحيحة، وتخريج الحديث، وبيان فوائده تقدّمت في شرح أول أحاديث الباب، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[947]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ
(2)
، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِهِمَا:"لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ:"فَأُتِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُجْلِسَ إِلَى جَنْبِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمُ التَّكْبِيرَ"، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى: "فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
(3)
، وَأَبُو بَكْرِ إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.
2 -
(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصِل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 198)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه الْحنظليّ المروزيّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا عيسى يعني ابن يونس".
(3)
وفي نسخة: "يصلي بالناس".
و"الأعمش" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لابن مُسْهِر وعيسى.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش المتقدّم، وهو عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها.
وقوله: (نَحْوَهُ) أي نحو الحديث السابق.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمَا) أي ابن مسهر، وعيسى.
وقوله: (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي) وفي نسخة: "يصلّي بالناس".
[تنبيه]: رواية أبي مسهر هذه ساقها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 443)، فقال:
(1641)
حدثنا الصَّغَانيّ، قال: أنبأ إسماعيل بن الخليل، قال: أنبأ عليّ بن مُسْهِرٍ، قال: أنبأ الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لَمّا مَرِضَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرضه الذي تُوُفِّي فيه أتاه بلالٌ، فآذنه للصلاة، فقال:"مُرُوا أبا بكر فليصلّ بالناس"، قالت عائشة: فقلت: يا رسول اللَّه، إن أبا بكر رجل أسيفٌ، ومتى ما يقوم مقامك لا يسمع الناس، فمر عمر، فليصلّ بالناس، فقال:"مُرُوا أبا بكر، فليصلّ بالناس"، فقلت: يا رسول اللَّه، إن أبا بكر رجل أسيف، ومتى يقوم مقامك يبك، فلا يستطيع، فمُرْ عمر، فليصلّ بالناس، فقال:"مَهْ إنكن لأنتن صواحب يوسف، مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس"، فأُتِي أبو بكر، فأُوذِن، قالت: فلما دخل الصلاة، وَجَدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفَّةً، فخرج يهادى بين رجلين، وقدماه تَخُطّان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأَومى إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، فأُتي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أُجلس إلى جنبه، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، وأبو بكر يسمعهم التكبير. انتهى.
وأما رواية عيسى بن يونس، فساقها الإمام إسحاق ابن راهويه في "مسنده" (3/ 831) فقال:
(1481)
أخبرنا عيسى بن يونس، نا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لَمّا مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه، أُذِّن بالصلاة، فقال:"مُرُوا أبا بكر أن يصلي بالناس"، فقلت: إن أبا بكر رجل
أسيفٌ، متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فسكت، ثم قال:"مروا أبا بكر أن يصلي بالناس"، فقلت: إن أبا بكر رجل رقيقٌ، متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال:"مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فإنكنّ صواحب يوسف"، فأقيمت الصلاة، فصلّى أبو بكر بالناس، فوجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفّةً، فخرج إلى الصلاة، وقدماه تخطان في الأرض، فلما رآه أبو بكر ذَهَبَ يتأخر، فأومأ إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنب أبي بكر، وأبو بكر يقتدي به، وأبو بكر رضي الله عنه يُسْمِع الناس. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[948]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبِ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ، قَالَ عُرْوَةُ: فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ، وَإِذَا
(1)
أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيْ كَمَا أَنْتَ"، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديث.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير، تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد اللَّه بن نمير والد محمد الراوي عنه، تقدّم قبل باب أيضًا.
(1)
وفي نسخة: "فإذا".
5 -
(هِشَام) بن عروة، تقدّم قبل باب أيضًا.
6 -
(أبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم قبل باب أيضًا.
و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبل حديث.
وقوله: (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ) الأول هو عبد اللَّه والد ابن نمير المذكور بعد التحويل.
وقوله: (وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ) يعني أن ألفاظ كلٍّ من شيوخه الثلاثة: أبي بكر، وأبي كُريب، وابن نمير متقاربة.
وقوله: (وحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ) الثاني هو محمد بن عبد اللَّه بن نمير.
وقوله: (حَدَّثَنَا أَبِي) أي عبد اللَّه بن نمير.
وقوله: (قَالَ عُرْوَةُ. . . إلخ) قال في "الفتح": هو بالإسناد المذكور، ووَهِمَ من جعله مُعَلَّقًا، ثم إن ظاهره الإرسال من قوله:"فوجد. . . إلخ"، لكن رواه ابن أبي شيبة، عن ابن نمير بهذا الإسناد متصلًا بما قبله، وأخرجه ابن ماجه عنه، وكذا وصله الشافعيّ، عن يحيى بن حَبَّان، عن حماد بن سلمة، عن هشام، وكذا وصله عن عروة عنها، كما تقدم.
ويَحْتَمِل أن يكون عروة أخذه عن عائشة وعن غيرها، فلذلك قطعه عن القدر الأول الذي أخذه عنها وحدها. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً) هذا مقابل ما تقدّم من قوله: "لَمّا ثَقُل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني أنه خفّ عنه المرض- فوجد من نفسه خفّة الحركة".
وقوله: (أَيْ كَمَا أَنْتَ)"أي" تفسيريّة؛ و"ما" موصولة، و"أنت" مبتدأ، حُذف خبره، أي عليه، والجملة صلة "ما"، والجارّ والمجرور، أعني "كما أنت" متعلّق بمحذوف خبرٍ لـ "كان" المحذوفة مع اسمها، أي كن كما أنت، والكاف بمعنى "على"، أي كُنْ على الحال الذي أنت عليه من كونك إمامًا.
وفي رواية البخاريّ: "أن كما أنت"، و"أن" تفسيريّة كـ "أي".
وقوله: (وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) أي بتسميعهم التكبير، لا أنهم صلّوا تلك الصلاة بإمامين، فتنبّه.
(1)
"الفتح" 2/ 196.
والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[949]
(419) - (حَدَّثَنِي
(1)
عَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَحَدَّثَنِي
(2)
أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُم
(3)
فِي وَجَعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ، كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَاحِكًا، قَالَ: فَبُهِتْنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ، مِنْ فَرَحِ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ
(4)
صلى الله عليه وسلم، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَارجٌ لِلصَّلَاةِ
(5)
، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْخَى السِّتْرَ، قَالَ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: حسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الْخَلّالُ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [10](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسِّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "بهم".
(4)
وفي نسخة: "النبيّ صلى الله عليه وسلم".
(5)
وفي نسخة: "إلى الصلاة".
بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجّةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
6 -
(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أبو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4](ت بعد 130 أو بعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
7 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل ثلاثة أحاديث.
8 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيوخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه أيضًا.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: صالح عن ابن شهاب، وهو من رواية الأكابر، عن الأصاغر؛ لأن صالحًا أكبر من ابن شهاب، على ما قيل.
5 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين، وهو المشهور بالخادم، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب، عن الزهريّ، قال:"أخبرني أنس بن مالك الأنصاريّ، وكان تَبعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخَدَمَه، وصَحِبَه"، فقوله:"تَبعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم" لم يذكر المتبوع فيه ليُشعر بالعموم، أي تبعه في العقائد والأقوال والأفعال، وقوله:"وخَدَمه" أي خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما ذكر خدمته لبيان زيادة شرفه، وهو كان خادمًا له عشر سنين ليلًا ونهارًا، وقوله:"وصَحِبه" إنما ذكر صحبته له؛
لأن صحبته صلى الله عليه وسلم أفضل أحوال المؤمنين، وأعلى مقاماتهم
(1)
.
(أَنَّ أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ) أي لأجل الصحابة، إمامًا لهم، وفي نسخة:"بهم"(فِي وَجَعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بفتحتين: أي في أيّام مرضه، وتقدّم تصريف الوجع، وتفسيره في "الإيمان" برقم [46/ 294] (104). (الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ) بالبناء للمفعول: أي مات بسببه (حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ) رُوي برفع "يومُ" على جعل "كان" تامّةً، وبالنصب على أنه خبرها، واسمها ضمير يعود إلى الزمن، أي حتى كان الزمن يومَ الاثنين، والوجه الأول أوضح (وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال (كَشَفَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ) بكسر السين المهملة، وسكون التاء بمعنى الساتر، و"الْحُجْرة" بضم، فسكون: البيت (فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ) عبارة عن الجمال البارع، وحُسن الْبَشَرَة، وصفاء الوجه، واستنارته، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه عبارة عمّا راعهم من جماله، وحسن بشرته، ومائيّة وجهه، كما قال في الحديث الآخر:"كأن وجهه مُذْهَبَةٌ"
(3)
، و"الورقة" بفتح الواو والراء، واحد الوَرَق، قال في "القاموس":"الْوَرَقُ" مُحَرَّكَةً من الكتاب والشجرِ معروفٌ. انتهى
(4)
. وقال في "المصباح": الْوَرَق: الكاغَدُ
(5)
، قال الأخطل [من الكامل]:
فَكَأَنَّمَا هِيَ مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا
…
وَرَقٌ نُشِرْنَ مِنَ الْكِتَاب بَوَالِي
وقال الأزهريّ أيضًا: الْوَرَقُ ورَقُ الشجر، والْمُصْحَفِ، وقالَ بعضهم: الْوَرَقُ: الْكَاغَدُ، لم يوجد في الكلام القديم، بل الْوَرَق اسم لجلودٍ رِقَاقٍ يُكْتَبُ فيها، وهي مُستعارة من ورق الشجر. انتهى
(6)
.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 299.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 142.
(3)
رواه مسلم برقم (1017)، والنسائيّ 5/ 76 من حديث جرير رضي الله عنه.
(4)
"القاموس المحيط" 3/ 288.
(5)
"الكاغَد" بفتح الغين، وبالدال المهملة، وربّما قيل بالذال المعجمة: الْقِرْطاس، معرَّبٌ، أفاده في "المصباح" 2/ 535، و"القاموس" 1/ 333.
(6)
"المصباح المنير" 2/ 656.
و"المصحف" مثلّث الميم، من أُصْحِف بالضمّ: أي جُعِلت فيه الصُّحُف، قاله في "القاموس"
(1)
.
وذكر الأبيّ أن المصحف من لفظ الراوي؛ لأنه لم يكن حينئذ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: فيما قاله الأبيّ نظر لا يخفى؛ لأن المصحف كان موجودًا حينما حدّث أنسٌ رضي الله عنه بهذا الحديث؛ إذ هو موجود من عهد الخلفاء رضي الله عنهم، فتشبيهه بالمصحف للذين يروي لهم الحديث واضحٌ، ولم يُرد تشبيهه بمصحف كان حين رؤية وجهه صلى الله عليه وسلم، كما لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم.
(ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَاحِكًا) حال مؤكّد لتبسّم، كما قال في "الخلاصة":
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
فِي نِحْوِ لَا تَعْثَ فِي الأرْضِ مُفْسِدَا
قال في "المصباح": بَسَمَ بَسْمًا، من باب ضَرَبَ: ضَحِكَ قليلًا من غير صَوْتٍ، وابْتَسَمَ وَتبَسَّمَ كذلك، ويقال: هو دون الضَّحِك. انتهى
(3)
.
وفي "اللسان": التبسُّمُ: أقلّ الضحك وأحسنه، وفي التنزيل:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19] قال الزجّاج: التبسّم أكثر ضحِك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقال الليث: بَسَمَ يَبْسِمُ بَسْمًا: إذا فَتَح شفتيه كالمكاشر. انتهى
(4)
.
قال النوويّ رحمه الله: سبب تبسمه صلى الله عليه وسلم فَرَحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة، واتّباعهم لإمامهم، وإقامتهم شريعته، واتفاق كلمتهم، واجتماع قلوبهم، ولهذا استنار وجهه صلى الله عليه وسلم على عادته إذا رأى أو سمع ما يَسُرُّه يَستنير وجهه، وفيه معنى آخر، وهو تأنيسهم، وإعلامهم بتماثل حاله في مرضه، وقيل: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم خرج ليصلّي بهم، فرأى من نفسه ضعفًا فرجع. انتهى
(5)
.
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 161.
(2)
"شرح الأبيّ" 2/ 176.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 49.
(4)
"لسان العرب" 12/ 50.
(5)
"شرح النوويّ" 4/ 142.
(قَالَ: فَبُهِتْنَا) بضمّ الموحّدة مبنيًّا للمفعول: أي أُخِذنا بَغْتَةً، وانتابتنا الْحَيْرةُ، قال في "القاموس": و"الْبَهْتُ" بالضمّ والفتح: الأخذ بَغْتةً، والْحَيْرةُ، والفعل كعَلِمَ، ونَصَرَ، وكَرُمَ، وزُهِي، وهو مَبْهُوتٌ، لا باهتٌ، ولا بَهِيتٌ. انتهى
(1)
.
وفي "المصباح": بَهِتَ، وبَهُتَ: من بابي قَرُبَ، وتَعِبَ: دَهِشَ، وتَحَيَّرَ، ويُعدَّى بالحركة، فيقال: بَهَتَهُ يَبْهَتُهُ بفتحتين، فَبُهِتَ بالبناء للمجهول. انتهى
(2)
.
وفي رواية البخاريّ: "فَهَممنا أن نَفْتَتِنَ من الفَرَح برؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم".
(وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من نائب الفاعل، وقوله:(مِنْ فَرَحٍ) أي من أجل فرحنا، وهو متعلّق بـ "بُهتنا" وقوله:(بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ) النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "فَرَح"(وَنَكَصَ) أي رجع إلى ورائه قهقرى (أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ) يقال: نَكَصَ على عِقَبيه نُكُوصًا، من باب قعد: رجع، قال ابن فارس: والنُّكُوصُ: الإحجام عن الشيء
(3)
، وقوله:(لِيَصِلَ) من الوصول، لا من الوصل، وقوله:(الصَّفَّ) منصوب على أنه مفعول به لـ "يَصِل"؛ لأنه يتعدّى بنفسه، فلا حاجة إلى ما قاله العينيّ: إنه منصوب بنزع الخافض: أي إلى الصفّ
(4)
؛ لما ذكرناه.
قال في "القاموس": وَصَلَ الشيءَ، وإليه وُصُولًا، وَوُصْلَةً، وَصِلَةً: بَلَغَهُ، وانتهى إليه. انتهى
(5)
. فأفاد أن وَصَلَ هنا متعدّ بنفسه إلى الصفّ، فتنبّه، وباللَّه تعالى التوفيق.
(وَظَنَّ) أي أبو بكر رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَارجٌ لِلصَّلَاةِ) وفي نسخة: "إلى الصلاة"(فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ)"أن" هنا تفسيريّة، بمعنى "أي"، فقد توفّر فيها شروط وقوعها تفسيريّة، وهي: أن تُسبق بجملة، وتتأخّر عنها جملة، فيها معنى القول، دون حروفه، ولم يدخل عليها جارّ
(6)
، فجملة "أتمّوا صلاتكم" تفسير لإشارته صلى الله عليه وسلم.
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 144.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 63.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 625.
(4)
"عمدة القاري" 5/ 299 - 300.
(5)
"القاموس المحيط" 4/ 64.
(6)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ص 43 - 45.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي حجرته (فَأَرْخَى السِّتْرَ) أي أرسل الساتر الذي كشفه (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ) أي في يومه، و"من" بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية [الجمعة: 9]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 949 و 950 و 951 و 952](419) و (البخاريّ) في "الأذان"(680 و 681 و 754) و"العمل في الصلاة"(1205) و"المغازي"(4448)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(367)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 7)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1624)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1188)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 163 و 196 و 197 و 202)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1488)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2065)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1647 و 1648 و 1649 و 1650 و 1651 و 1652)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(936 و 937 و 938 و 939)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 75)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 216)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3824).
وأما فوائد الحديث، وبقيّة مباحثه، فتقدّمت في شرح حديث عائشة رضي الله عنها الماضي، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[950]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَحَدِيثُ صَالِحٍ أَتَمُّ وَأَشْبَعُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) عن (74) سنة (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة حافظ إمام، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (48) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارَةَ)"آخر" مبتدأ خبره قوله: "كشَفَ السِّتارة"، بتقدير حرف مصدريّ، أي أن كشف، و"السِّتَارة" بالكسر: ما يُسْتر به، كالسُّترة، والْمِسْتَر، والإستار، جمعه: سَتَائر، قاله في "القاموس"
(1)
.
وقوله: (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) متعلّق بـ "كشف".
وقوله: (بِهَذ الْقِصَّةِ) أي يعني أن سفيان بن عيينة حدّث عن الزهريّ بهذه القصّة التي سبقت في رواية صالح بن كيسان، عنه.
وقوله: (وَحَدِيثُ صَالِحٍ أَتَمُّ وَأَشْبَعُ) أراد به أن حديث سفيان مختصر.
[تنبيه]: حديث سفيان بن عيينة التي أحالها هنا، ساقها بتمامها الإمام النسائيّ في "سننه"، فقال:
(1831)
أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أنس، قال:"آخرُ نظرة نظرتها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارة، والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه، فأراد أبو بكر أن يرتدَّ، فأشار إليهم أن امكثوا، وألقى السِّجْفَ، وتُوُفّي من آخر ذلك اليوم، وذلك يوم الاثنين". انتهى.
وأخرجها أيضًا الإمام ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(1624)
حدّثنا هشام بن عمّار، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ،
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 44.
سمع أنس بن مالك يقول: "آخرُ نظرة نظرتها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارة يوم الاثنين، فنظرت إلى وجهه كأنه ورقَةُ مُصْحف، والناس خلف أبي بكر في الصلاة، فأراد أن يتحرك، فأشار إليه أَنِ اثْبُتْ، وألقى السِّجْفَ، ومات من آخر ذلك اليوم". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[951]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أخْبَرَنِي
(1)
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا) الضمير لصالح بن كيسان، وابن عيينة، يعني أن معنى حديث معمر، عن الزهريّ كمعنى حديث صالح، وسفيان عنه.
[تنبيه]: رواية معمر هذه ساقها بتمامها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 445) فقال:
(1649)
حدّثنا الدَّبَريّ
(2)
، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، قال: وأخبرني أنس بن مالك، قال:"لَمّا كان يومُ الاثنين كَشَفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الحجرة، فرأى أبا بكر يصلّي بالناس، قال: فنظرتُ في وجهه كأنه ورقةُ مصحف، وهو يتبسم، قال: وكِدْنا أن نُفْتَتَن في صلاتنا فرحًا برؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فأراد أبو بكر أن ينكُص، فأشار إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ كما أنت، ثم أرخى السِّتْر، فمات من يومه". انتهى.
وأخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مطوّلةً، فقال:
(12557)
حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: قال الزهريّ: وأخبرني أنس بن مالك، قال: لما كان يومُ الاثنين كَشَفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرة، فرأى أبا بكر، وهو يصلّي بالناس، قال: فنظرتُ إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، وهو يتبسم، قال: وكِدْنا أن نُفْتَتَنَ في صلاتنا فرحًا لرؤية
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
هو إسحاق بن إبراهيم.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأراد أبو بكر، أن ينكُصَ، فأشار إليه أَنْ كما أنت، ثم أرخى السِّتْر، فقُبض من يومه ذلك، فقام عمر، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنّ ربه أَرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فمكث عن قومه أربعين ليلةً، واللَّه إني لأرجو أن يعيش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يَقْطَع أيدي رجال من المنافقين، وألسنتهم، يزعمون، أو قال: يقولون: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد مات". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[952]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ، فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا وَجْهُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا قَطُّ كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ وَضَحَ لَنَا، قَالَ: فَأَوْمَأَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِجَابَ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِنِ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مروان الْحَمّال، أبو موسى البغداديّ الْبَزّاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز (80) سنة (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
3 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث الْعَنْبَريّ مولاهم، التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
5 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهَيب البنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
و"أنس" رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى هارون، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه هارون، فبغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه، وأن شيخه الأول أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا) أي ثلاث ليال، وقد تقدّم غير مرّة، أن تمييز العدد إذا لم يُذْكَر بعده جاز في العدد التأنيث، والتذكير، وكان ابتداؤها من حين خَرَج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلَّى بهم قاعدًا، كما تقدّم
(1)
. (فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ) أي شَرَع وأخذ (أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ) أي يكون إمامًا يصلّي بالناس، وذلك بأمره صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم قوله صلى الله عليه وسلم:"مُرُوا أبا بكر أن يصلّي بالناس"(فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجَابِ) أي أخذه، وإجراء القول مجرى فَعَلَ كثير في استعمال العرب، وقد قدّمنا تحقيقه (فَرَفَعَهُ) أي ليرى ما عليه الصحابة رضي الله عنهم من اجتماعهم للصلاة خلف من أمره أن يصلّي بهم، وهو أبو بكر رضي الله عنه (فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا) أي بأن وظهر للصحابة الحاضرين تلك الصلاة، وقال ابن التين: أي ظهر لنا بياضه وحسنه؛ لأن الوضاح عند العرب هو الأبيض اللون لحسنه. انتهى
(2)
. (وَجْهُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا) نافية (نَظَرْنَا مَنْظَرًا)
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 194، و"عمدة القاري" 5/ 300.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 300.
وفي رواية البخاريّ: "ما رأينا منظرًا (قَطُّ) أي في الزمان الماضي، وهي بفتح القاف، وتشديد الطاء مضمومةً في أفصح اللغات، ظرف زمان لاستغراق ما مضى وتختصّ بالنفي، يقال: ما فعلته قطّ، والعامّة يقولون: لا أفعله قطُّ، وهو لحنٌ، واشتقاقه من قَطَطْتُهُ: أي قطعته، فمعنى ما فعلته قطّ: ما فعلته فيما انقطع عن عمري؛ لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال، وبُنِيتْ؛ لتضمّنها معنى "مُذْ، وإلى"؛ إذ المعنى: مُذْ أن خُلِقتُ إلى الآن، وعلى حركة؛ لئلا يلتقي ساكنان، وكانت ضمّةً؛ تشبيهًا لها بالغايات، وقد تُكْسر على أصل التقاء الساكنين، وقد تُتْبَع قافه طاءه في الضمّ، وقد تُخَفّف طاؤه مع ضمّها، أو إسكانها، ذكره ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه"
(1)
.
(كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ وَضَحَ) أي ظهر (لَنَا، قَالَ) أنس رضي الله عنه: (فَأَوْمَأَ) أي أشار، يقال: أومأتُ إليه إيماءً: أشرتُ إليه بحاجب، أو يدٍ، وفي لغة: وَمَأْتُ وَمْئًا، من باب نَفَعَ، قاله الفيّوميّ
(2)
. (نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل، مجرور بحرف جرّ مقدّر، أي بالتقدّم، وهذا التقدير قياسٌ، كما قال في "الخلاصة":
وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"
ويَحْتَمِلُ أن يكون مفعولًا لـ "أومأ"، بتضمينه معنى "طَلَبَ" أي طلب إليه التقدّم.
ثم إن قوله: "فأومأ. . . إلخ" ليس مخالفًا لقوله في أوله: "فتقدّم أبو بكر"؛ إذ في السياق حذف يظهر من رواية الزهريّ التي قبله، حيث قال فيها:"فنكص أبو بكر".
وحاصل ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه تقدّم لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، فلما كشف صلى الله عليه وسلم الحجاب ظنّ أنه خارجٌ إليهم ليصلّي بهم، فتأخّر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم حينئذ أن يرجع إلى مكانه، ويستمرّ على إمامته
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ص 181.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 673.
(3)
راجع: "الفتح" 2/ 194.
(وَأَرْخَى) بالبناء للفاعل، أي أرسل (نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِجَابَ) أي الساتر الذي رفعه بيده؛ ليرى الصحابة رضي الله عنهم (فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ) بفتح النون، وكسر الدال، مبنيًّا للفاعل، أي لم نستطع على رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (حَتَّى مَاتَ) أي إلى أن مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للبخاريّ:"فلم يُقدَر" بالياء بدل النون، وعليه فالفعل مبنيّ للمجهول.
قال في "العمدة": ومما يُستفاد منه أن أبا بكر رضي الله عنه كان خليفته صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى موته، ولم يَعزِله عنها، كما زعمت الشيعة أنه عُزِلَ بخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتخلّفه، وتقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن الإشارة باليد تقوم مقام الأمر في مثل هذا الموضع. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تخريجه، وبيان فوائده قبل حديثين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[953]
(420) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ:"مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُل رَقِيقٌ، مَتَى يَقُمْ
(1)
مَقَامَكَ لَا يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ:"مُرِي أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ"، قَالَ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في هذا الباب.
2 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ) بن الوليد الْجُعْفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله (4 أو 85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
(1)
وفي نسخة: "متى يقوم".
3 -
(زَائِدَةُ) بن قُدَامة الثقَفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْن عُمَيْر) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ الفرسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته، الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 104) وقد جاوز (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وشرح الحديث يعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [22/ 953](420)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(3385)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1/ 390)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 215)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 442)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 45)، و (النسائي) في "الكبرى"(5/ 401)، و (البيهقي) في "الكبرى"(8/ 152)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(23) - (بَابُ تَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ إِذَا تَأَخَّرَ الإِمَامُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[954]
(421) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ؛ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ،
فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ "، قَالَ
(1)
أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ؟ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ
(2)
لِلنِّسَاءِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
4 -
(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88)، وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (45) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو من المعمّرين، كما أسلفناه
(1)
وفي نسخة: "فقال".
(2)
وفي نسخة: "وإنما التصفيق" بالقاف.
آنفًا، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم على بعض الأقوال، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) رضي الله عنهما، وفي رواية النسائيّ من طريق سفيان، عن أبي حازم:"سمعتُ سهلًا"(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ) بن مالك بن الأوس، والأوس أحد قبيلتي الأنصار، وهما: الأوس والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس، فيه عِدّةُ أَحياء، كانت منازلهم بقباء، منهم بنو أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف، وبنو ضُبيعة بن زيد، وبنو ثعلبة بن عمرو بن عوف
(1)
.
(لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ) أي إن سبب ذهابه صلى الله عليه وسلم إليهم لأجل أن يُصلح ما وقع بينهم من العداوة، ففي رواية النسائيّ، "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء"، وفي رواية سفيان، عن أبي حازم:"وقع بين حيين من الأنصار كلام"، وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الصلح" من طريق محمد بن جعفر، عن أبي حازم:"أن أهل قباء اقتتلوا، حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: اذهبوا بنا نُصلِح بينهم".
وله فيه من رواية أبي غَسّان، عن أبي حازم:"فخرج في أناس من أصحابه"، وسَمَّى الطبرانيّ منهم، من طريق موسى بن محمد، عن أبي حازم: أُبَيَّ بنَ كعب، وسهيلَ بنَ بيضاء، وللبخاريّ في "كتاب الأحكام" من طريق حماد بن زيد، عن أبي حازم: أن توجهه كان بعد أَنْ صلّى الظهر، وللطبرانيّ من طريق عُمَر بن عليّ، عن أبي حازم:"أن الخبر جاء بذلك، وقد أَذَّنَ بلال لصلاة الظهر".
(فَحَانَتِ الصَّلَاةُ) أي قرب وقت الصلاة، والمراد بها العصر، فقد صُرِّح به عند البخاريّ في "كتاب الأحكام"، ولفظه:"فلما حضرت صلاة العصر أَذَّنَ وأقام، وأمر أبا بكر، فتقدَّم"، ولم يسم فاعل ذلك، وقد أخرجه أحمد، وأبو
(1)
"الفتح" 2/ 197.
داود، وابن حبان من رواية حماد بن زيد، عن أبي حازم، فبَيَّن الفاعلَ، وأن ذلك كان بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"فقال لبلال: إن حضرت العصر، ولم آتك، فمر أبا بكر، فليصلّ بالناس، فلما حضرت العصر أَذَّن بلال، ثم أقام، ثم أَمَر أبا بكر فتقدم"، ونحوه للطبرانيّ من رواية موسى بن محمد، عن أبي حازم، وعُرِفَ بهذا أن المؤذن بلال رضي الله عنه.
(فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ) أي بلال رضي الله عنه، كما مرّ آنفًا (إِلَى أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَقَالَ: أتصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأُقِيمَ؟) بالنصب؛ لوقوعه بعد الفاء السببيّة في جواب الاستفهام، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَب
ويجوز رفعه، على أنه مستأنف بتقدير مبتدأ، أي فأنا أقيم.
ثم إن هذا لا يعارض ما ذكرناه آنفًا من أن ذلك بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلالًا بذلك؛ لأنه يُحمل على أن بلالًا استفهم أبا بكر، هل يبادر أوّلَ الوقت لتنفيذ أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أم أنه ينتظر قليلًا مجيئه صلى الله عليه وسلم حتى يُصلّي بالناس؟ فترجّح لأبي بكر رضي الله عنه المبادرة؛ لأنها فضيلة متحقّقة، فلا تُترك لفضيلة متوهّمة، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) أبو بكر رضي الله عنه: (لعَمْ) زاد في رواية البخاريّ من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: "إن شئت"، وإنما فَوَّض ذلك له مع كونه صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤمّ الناس إن تأخّر؛ لاحتمال أن يكون عند بلال رضي الله عنه زيادة علم من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك.
(قَالَ) سهل رضي الله عنه (فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ) أي دخل في الصلاة، وفي رواية النسائيّ:"فأقام بلالٌ، وتقدّم أبو بكر، فكبّر بالناس"، وفي رواية للبخاريّ:"وتقدم أبو بكر، فكبّر"، وفي روايةٍ:"فاستفتح أبو بكر الصلاة"، وهي عند الطبرانيّ.
قال في "الفتح": وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين، حيث امتنع أبو بكر هنا أن يَسْتَمِرّ إمامًا، وحيث استمرّ في مرض موته صلى الله عليه وسلم حين صلّى خلفه
(1)
2/ 197.
الركعة الثانية من الصبح، كما صَرَّح به موسى بن عقبة في "المغازي"، فكأنه لَمّا أَنْ مَضَى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولَمّا أن لم يَمْضِ منها إلا اليسير لم يستمرّ، وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف، حيث صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح، فإنه استمرّ في صلاته إمامًا لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن هي الآتية بعد هذا من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للنسائيّ: "ثم جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو (فَتَخَلَّصَ) قال الكرمانيّ: أي صار خالصًا من الأشغال، فتعقّبه العينيّ رحمه الله، فقال: ليس المراد هذا المعنى هنا، بل معناه: فتخلّص من شَقّ الصفوف، حتى وصل إلى الصفّ الأول، وهو معنى قوله (حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ) أي في الصفّ الأول، والدليل على ما قلنا: رواية عبيد اللَّه العمريّ
(1)
عند مسلم -يعني الآتية بعد هذا-: "فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخَرَقَ الصفوف حتى قام عند الصفّ المقدّم". انتهى
(2)
.
وفي رواية للبخاريّ من طريق عبد العزيز، عن أبيه:"فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف، يَشُقّها شَقًّا، حتى قام في الصف الأول"، وفي رواية للنسائيّ من طريق حماد بن زيد، عن أبي حازم:"فجعل يشقّ الناس، حتى قام خلف أبي بكر".
(فَصَفَّقَ النَّاسُ) بتشديد الفاء من التصفيق، أي ضربوا كفّ إحدى اليدين على صفحة الكفّ الآخر؛ إعلامًا لأبي بكر رضي الله عنه بحضور النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففي رواية النسائيّ، من طريق عبيد اللَّه العمريّ، عن أبي حازم:"وصَفّح الناس بأبي بكر؛ ليؤذنوه برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
وللبخاريّ من طريق عبد العزيز، عن أبيه:"فأخذ الناس في التصفيح"، قال سهل: أتدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق. انتهى.
(1)
وقع في نسخة "العمدة": "عن عبد العزيز"، وهو غلط؛ لأن هذا عند مسلم ليس في رواية عبد العزيز، وإنما هو في رواية عبيد اللَّه العمريّ، فتنبّه.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 306.
قال في "الفتح": وهذا يدل على ترادفهما عنده، فلا يُلتَفت إلى ما يخالف ذلك. انتهى.
وقال الكرمانيّ: التصفيق: الضرب الذي يُسمَع له صوت، والتصفيق باليد التصويت بها. انتهى.
وقال في "العمدة": التصفيق: هو التصفيح بالحاء، سواء صَفَّق بيده، أو صَفَّح، وقيل: هو بالحاء الضرب بظاهر اليد إحداهما على صفحة الأخرى، وهو الإنذار والتنبيه، وبالقاف ضرب إحدى الصفحتين على الأخرى، وهو اللَّهْوُ واللَّعِبُ.
وقال أبو داود: قال عيسى بن أيوب: التصفيح للنساء ضرب بإصبعين من يمينها على كفها اليسرى، وقال الداوديّ في بعض الروايات:"فصَفَّح القوم، وإنما التصفيح للنساء"، فيُحْمَل أنهم ضربوا أكفهم على أفخاذهم. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ أَبُو بَكْرِ) رضي الله عنه (لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ) لمزيد خشوعه، واستغراقه في مناجاة ربّه، ولأَنه ورد ذمُّ الالتفات في الصلاة، فقد أخرج البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، بإسناد صحيح، وصححه ابن خزيمة عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال اللَّه عز وجل مقبلًا على العبد في صلاته، ما لم يَلتَفِت، فإذا صَرَف وجهه انصرف عنه".
وأخرج أحمد، والترمذيّ عن الحارث الأشعريّ رضي الله عنه نحوه، وزاد:"فإذا صلّيتم، فلا تلتفتوا"
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 306.
(2)
حديث الحارث الأشعريّ رضي الله عنه حديث طويل صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، ولفظه:
2790 -
حدّثنا محمد بن إسماعيل، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبان بن يزيد، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، أن أبا سلام حدّثه، أن الحارث الأشعريّ حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه أمر يحيى بن زكريا بخمس =
(فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ) وفي رواية البخاريّ من طريق حماد بن زيد، عن أبي حازم:"فلما رأى التصفيح لا يُمْسَك عنه التفت".
يعني أنه لَمّا صفّق أكثر الناس التفت أبو بكر رضي الله عنه لينظر ما أوجب تصفيقَهُمِ.
(فرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) عطف على محذوف، أي فأخذ أبو بكر في التأخّر ليتقدّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم بعدم التأخّر (أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ)"أن" تصلح أن تكون مصدريّة، والتقدير: فأشار إليه
= كلمات، أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى: إن اللَّه أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخْسَف بي، أو أُعَذَّب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وتَعَدَّوا على الشَّرَف، فقال: إن اللَّه أمرني بخمس كلمات، أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولهنّ أن تعبدوا اللَّه، ولا تشركوا به شيئًا، وإن مثل من أشرك باللَّه، كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله، بذهب أو ورق، فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل، وأدّ إليّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟، وإن اللَّه أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن اللَّه يَنْصِب وجهه لوجه عبده في صلاته، ما لم يلتفت، وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك، كمثل رجل في عصابة، معه صُرَّةٌ، فيها مسكٌ، فكلهم يعجب، أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك، وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا اللَّه، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوّ في أثره سِراعًا، حتى إذا أتى على حِصْن حَصِين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يَحرِز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللَّه" -قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وأنا آمركم بخمس، اللَّه أمرني بهنّ: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه مَن فارق الجماعة قِيدَ شِبْر فقد خَلَع رِبْقَة الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع، ومن ادَّعَى دعوى الجاهلية، فإنه من جُثَا جهنم"، فقال رجل: يا رسول اللَّه، وإن صلى وصام؟، قال:"وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى اللَّه الذي سماكم المسلمين المؤمنين، عباد اللَّه".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.
بالمكث في مكانه، ويَحْتَمل أن تكون تفسيريّة؛ لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، والتقدير: فأشار إليه: أي امكُث مكانك، وقد تقدّم البحث فيها قريبًا.
وفي رواية للبخاريّ: "فأشار إليه يأمره أن يصلّي"، وفي رواية له:"فأومأ إليه رسول اللَّه بيده"، "فدفع في صدره ليتقدّم، فأبى".
(فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ) قال السنديّ رحمه الله: فيه دليلٌ لمشروعيّة رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، حيث لم يُنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه رفع يديه. انتهى.
(فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ) وفي رواية للنسائيّ: "فحمد اللَّه عز وجل على قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له: امْضِهْ"، وإنما حمد اللَّه عز وجل؛ لأجل إكرام النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه بالتقدّم بين يديه، وإنما ترك امتثال الأمر؛ لكونه فَهِمَ أن الأمر بذلك مجرّد إكرام، وليس للإلزام، فاختار التأدّب، وإلا فلا يجوز له مخالفة الأمر.
ثم إن ظاهره أنه تلفظ بالحمد، لكن في رواية الحميديّ، عن سفيان:"فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكرًا للَّه، ورجع القهقرى".
وادَّعَى ابن الْجَوْزيّ أنه أشار بالشكر والحمد بيده، ولم يتكلم، وليس في رواية الحميديّ ما يمنع أن يكون تلفظ، ويُقَوِّي ذلك ما عند أحمد، من رواية عبد العزيز الماجشون، عن أبي حازم:"يا أبا بكر، لم رفعت يديك؟ وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعتُ يدي؛ لأني حمدت اللَّه على ما رأيتُ منك"، قاله في "الفتح"
(1)
.
(ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ) أي تأخّر عن مقام الإمامة (حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ) أي قام فيه، وفي رواية النسائيّ:"ورجع القهقرى وراءه، حتى قام في الصفّ"، وفي رواية له:"ثم مشى أبو بكر القهقرى على عقبيه فتأخّر، فلما رأى ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تقدّم"(وَتَقَدَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى) زاد النسائيّ: "بالناس"، وفي رواية المسعوديّ:"فلما تَنَحَّى تقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ونحوه في رواية حماد بن زيد.
(1)
2/ 197.
وفيه دليلٌ على أن الإمام الراتب إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخيّر بين أن يأتمّ به، أو يؤمّ هو، ويصير النائب مأمومًا من غير أن يقطع الصلاة، ولا يبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين.
(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي سلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة بعد أن انتهى منها (فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا) استفهاميّة، أي أيُّ شيء (مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ) بضمّ الموحّدة، يقال: ثبت الشيءُ يثبُتُ ثُبُوتًا، من باب قعد: دام واستقرّ، فهو ثابتٌ
(1)
، أي تدوم وتستقرّ إمامًا تصلي بالناس (إِذْ) ظرفيّة متعلّقة بـ "تثبُت" (أَمَرْتُكَ؟ ") أي وقت أمري لك بذلك (قَالَ) وفي نسخة:"فقال (أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (مَا) نافية (كَانَ) وفي رواية النسائيّ: "ما كان ينبغي" (لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ) -بضم القاف، وتخفيف الحاء المهملة، وبعد الألف فاء- كنية والد الصدّيق، واسمه عثمان بن عامر القرشيّ، أسلم عام الفتح، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، ومات سنة أربع عشرة.
وإنما لم يقل أبو بكر: ما لي، أو ما لأبي بكر؛ تحقيرًا لنفسه، واستصغارًا لمرتبته عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية الحمادين، والماجشون:"أن يؤُمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية للنسائيّ:"ما كان اللَّه ليرى ابن أبي قُحافة بين يدي نبيّه صلى الله عليه وسلم".
والمراد من "بين يديه" قُدّامه، وقال الكرمانيّ: أو لفظ "يدي" مقحم، وتعقّبه العينيّ بأنه إذا كان لفظ "يدي" مقحمًا لا ينتظم المعنى على ما لا يخفى. انتهى
(2)
، وهو تعقّب جيّد، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "المنهل": قوله: "ما كان لابن أبي قُحافة. . . إلخ" يعني ما كان ينبغي لابن أبي قُحافة أن يؤمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ عُذره، حيث لم يُعنّفه على مخالفة أمره.
وفيه: أن من أُكرم بكرامة يُخيَّر فيها بين القبول والترك إذا علم أن الأمر ليس على طريق الإلزام. انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 80.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 306 - 307.
(3)
"المنهل العذب المورود" 6/ 46 - 47.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لِي)"ما" استفهاميّةٌ مبتدأ، والجارّ والمجرور خبره، والاستفهام للإنكار، وقوله:(رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ؟) جملة في محلّ نصب على الحال من المجرور، وفي رواية النسائيّ:"فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: يا أيها الناس ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟ ".
(مَنْ) شرطيّة، جوابها "فليُسبّح"(نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ) أي أصابه، وعرض له في خلال صلاته شيء مما يقتضي إعلام غيره بشيء، من تنبيه إمامه على خلل يريد فعله في الصلاة، أو رؤية أعمى يقع في بئر، أو نحو ذلك (فَلْيُسَبِّحْ) وفي رواية النسائيّ:"فليقل: سبحان اللَّه"، وحمل الجمهور الأمر على الندب، وسيأتي البحث عنه مستوفًى قريبًا (فَإِنَّهُ) الفاء لتعليل أمره بالتسبيح، والضمير للشأن، أي لأن الحال والشأن (إِذَا سَبَّحَ) بالبناء للفاعل (الْتُفِتَ إِلَيْهِ) بالبناء للمفعول، وفي رواية النسائيّ:"فإنه لا يسمعه أحدٌ حين يقول: سبحان اللَّه إلا التَفَتَ إليه"، والتفت" هنا مبنيّ للفاعل.
(وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ) بالحاء المهملة، وفي بعض النسخ:"وإنما التصفيق" بالقاف، وتقدّم أن الأرجح كونهما بمعنى واحد (لِلنِّسَاءِ") يعني أنهنّ إذا نابهنّ أمر في الصلاة فالتصفيح هو المشروع لهنّ، كما تدلّ عليه الروايات الأخرى، ففي رواية للنسائيّ:"إذا نابكم أمرٌ، فليُسبّح الرجال، وليُصفِّح النساء".
أو المعنى: أنه من أفعال النساء ولَعِبهنّ، فلا يليق أن يُفْعَل في الصلاة، والأول هو الأرجح.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر معنى التصفيح والتصفيق-: واختُلف في حكمه في الصلاة، فقيل: لا يجوز أن يفعله في الصلاة لا الرجال، ولا النساء، وإنما هو التسبيح للجميع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: من نابه شيء في صلاته فليُسبّح، فإنه إذا سَبَّحَ الْتُفِت إليه"، وهذا مشهور مذهب مالك وأصحابه، وتأوّلوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما التصفيق للنساء" أن ذلك ذمّ للتصفيق، ومعناه: أنه من شأن النساء، لا الرجال، وقيل: هو جائز للنساء دون الرجال؛ تمسُّكًا بظاهر الحديث، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا الآتي: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء"، وهو مذهب الشافعيّ، والأوزاعيّ، وحُكي عن مالك أيضًا، وعَلَّلوا
اختصاص النساء بالتصفيق؛ لأن أصواتهنّ عورةٌ، ولذلك مُنعن من الأذان، ومن الجهر بالإقامة والقراءة، وهو معنى مناسبٌ، شَهِد الشرع له بالاعتبار، وهذا القول الثاني هو الصحيح؛ نظرًا وخبرًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي رجّحه القرطبيّ رحمه الله من أن الصحيح مشروعيّة التصفيق للنساء؛ عملًا بظواهر النصوص، هو الحقّ، وهذا يعدّ من إنصافه رحمه الله؛ إذ هذا خلاف مذهبه، وهذا هو حقّ كلّ مسلم أن يكون دائرًا مع الأدلّة، وإن خالفها الأجلّة، والخلاف في هذه المسألة سيأتي مستوفى في الباب التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.
وأما قوله: "لأن أصواتهنّ عورة"، فمما لا دليل عليه، فأصوات النساء ليست عورةً على الإطلاق، فقد أباح لها الشرع أن تتكلّم مع الرجال للحاجة، فقد كانت النساء المؤمنات في عهده صلى الله عليه وسلم يسألن الرجال الأجانب حاجتهنّ، ويستفتينهم، وإنما قال اللَّه تعالى لأمهات المؤمنين خاصّة:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} الآية، ومع ذلك لم يمنعهنّ من الكلام، بل قال:{وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، وأما استدلاله بمنعهنّ من الأذان ونحوه فهذا ليس لما ذكره، بل لأمر يخص تلك الأمور، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الثانية): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 954 و 955 و 956](421)، و (البخاريّ)(684 و 1201 و 1204 و 1234 و 2690 و 2693)، و (أبو داود) في "الصلاة"(940)، و (النسائيّ)(2/ 77 - 79)، و (ابن ماجه)(1035)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 163 - 164)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 117 - 118)،
(1)
"المفهم" 2/ 56.
و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4072)، و (الحميديّ) في "مسنده"(927)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 330 و 331 و 335 و 336 و 337 و 338)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 317)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(853 و 854)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2260)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(211)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5742 و 5771 و 5882 و 5909 و 5914 و 5926)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2033 و 2034 و 2035 و 2036 و 2037 و 2038)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(941 و 942 و 943)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 246 و 248)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(749)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه فضلَ الإصلاح بين الناس، وحَسْم مادة الفتنة بينهم، وجمعهم على كلمة واحدة.
2 -
(ومنها): توجُّه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته للإصلاح، وتقديم ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه؛ لأن في ذلك دفع المفسدة، وهو أولى من الإمامة بنفسه، ويَلْتحق بذلك توجه الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم، إذا علم أن فيه مصلحة.
3 -
(ومنها): بيان جواز الصلاة الواحدة بإمامين، أحدهما بعد الآخر.
4 -
(ومنها): أن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره، وأنه إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير بين أن يأتم به، أو يؤم هو، ويصير النائب مأمومًا من غير أن يقطع الصلاة، ولا يُبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين.
قال الحافظ: وادَّعَى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم، وادَّعَى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم، ونوقض بأن الخلاف ثابت، فالصحيح المشهور عند الشافعية الجواز، وعن ابن القاسم في الإمام يُحْدِث فيستخلف، ثم يرجع فيخرج المستخلَف، ويُتِمّ الأول أن الصلاة صحيحة. انتهى.
وتعقّبه العينيّ كعادته نصرًا لمذهبه، تركت ذكره لعدم جدواه، فتبصّر.
5 -
(ومنها): أن فيه جوازَ إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إمامًا، وفي بعضها مأمومًا.
6 -
(ومنها): أن من أحرم منفردًا، ثم أقيمت الصلاة جاز له الدخول مع الجماعة من غير قطع لصلاته، كذا استنبطه الطبريّ من هذه القصّة، وهو مأخوذ من لازم جواز إحرام الإمام بعد المأموم كما ذكرنا، قاله في "الفتح".
7 -
(ومنها): أن فيه بيانَ فضل أبي بكر رضي الله عنه على جميع الصحابة رضي الله عنهم، واستَدَلّ به جمع من الشُّرّاح، ومن الفقهاء، كالرويانيّ على أن أبا بكر رضي الله عنه كان عند الصحابة أفضلهم؛ لكونهم اختاروه دون غيره، وعلى جواز تقديم الناس لأنفسهم إذا غاب إمامهم، قالوا: ومحل ذلك إذا أُمِنت الفتنة، والإنكار من الإمام، وأن الذي يتقدم نيابةً عن الإمام يكون أصلحهم لذلك الأمر، وأقومهم به، وأن المؤذن وغيره يَعْرِض التقدم على الفاضل، وأن الفاضل يوافقه بعد أن يَعْلَم أن ذلك برضا الجماعة.
قال الحافظ رحمه الله: وكلُّ ذلك مبنيّ على أن الصحابة فعلوا ذلك بالاجتهاد، وقد قدّمنا أنهم إنما فعلوا ذلك بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
8 -
(ومنها): أن إقامة الصلاة، واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن، لكنه لا يقيم إلا بإذن الإمام، فقد قال بلال لأبي بكر رضي الله عنهما:"أتصلّي بالناس، فأقيم؟ "، فقد استأذنه في الإقامة.
9 -
(ومنها): أن المؤذن هو الذي يقيم، وهذا هو الأولى، فإن أقام غيره جاز، وأما حديث:"من أذَّن فهو يقيم"، فضعيف، وكذلك حديث عبد اللَّه بن زيد لما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يلقيه على بلال، فقال عبد اللَّه: أنا رأيته، وأنا كنت أريده، قال:"فأقم أنت"، ضعيف أيضًا، فلا يصلح للاحتجاج بهما، كما ادّعاه بعضهم.
10 -
(ومنها): أن فعل الصلاة، لا سيما العصر في أول الوقت مقدّم على انتظار الإمام الأفضل.
11 -
(ومنها): أن فيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة؛ لأنه من ذكر اللَّه، ولو كان مراد المسبِّح إعلام غيره بما صدر منه.
12 -
(ومنها): جواز رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على أبي بكر ذلك.
13 -
(ومنها): استحباب حمد اللَّه تعالى من تجددت له نعمة، ولو كان في الصلاة.
14 -
(ومنها): جواز الالتفات في الصلاة للحاجة، وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة.
15 -
(ومنها): أن الإشارة تقوم مقام النطق؛ لمعاتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر على مخالفة إشارته.
16 -
(ومنها): جواز شَقّ الصفوف، والمشي بين المصلين؛ لقصد الوصول إلى الصفّ الأول، لكنه مقصور على مَن يليق ذلك به، كالإمام، أو مَن كان بصدد أن يَحتاج الإمام إلى استخلافه، أو من أراد سَدّ فُرْجة في الصف الأول، أو ما يليه، مع ترك من يليه سدَّها، ولا يكون ذلك معدودًا من الأذى.
قال المهلب رحمه الله: لا تعارض بين هذا، وبين النهي عن التخطي؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في أمر الصلاة ولا غيرها؛ لأن له أن يتقدم بسبب ما يَنزل عليه من الأحكام، وأطال في تقرير ذلك.
قال الحافظ رحمه الله: وتُعُقّب بأن هذا ليس من الخصائص، وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك، فقال: ليس في ذلك شيء من الأذى والجفاء الذي يحصل من التخطي، وليس كمن شقّ الصفوف، والناسُ جلوسٌ؛ لما فيه من تخطي رقابهم.
17 -
(ومنها): كراهية التصفيق في الصلاة، وسيأتي تحقيق الأقوال فيه مستوفى -إن شاء اللَّه تعالى-.
18 -
(ومنها): أن فيه الحمدَ والشكرَ على الوجاهة في الدين.
19 -
(ومنها): أن من أُكْرِم بكرامة يتخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم، وكأن القرينة التي بَيَّنَت لأبي بكر رضي الله عنه ذلك هي كونه صلى الله عليه وسلم شَقّ الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنه فَهِمَ من ذلك أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له، والتنويه بقدره، فَسَلَك هو طريقَ الأدب والتواضع، ورَجَّحَ ذلك عنده احتمالُ نزول الوحي في حال الصلاة لتغيير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب صلى الله عليه وسلم اعتذاره بردِّ عليه.
20 -
(ومنها): جواز إمامة المفضول للفاضل.
21 -
(ومنها): سؤالُ الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك.
22 -
(ومنها): إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية، واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يُشْعِر بالتواضع، من جهة استعمال أبي بكر رضي الله عنه خطاب الغيبة مكان الحضور؛ إذ كان حقّ الكلام أن يقول أبو بكر: ما كان لي، فعَدَل عنه إلى قوله:"ما كان لابن أبي قحافة"؛ لأنه أدلّ على التواضع من الأول.
23 -
(ومنها): جواز العمل القليل في الصلاة؛ لتأخر أبي بكر عن مقامه إلى الصف الذي يليه، وأن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القَهْقَرَى، ولا يَستدبِر القبلةَ، ولا ينحرف عنها.
24 -
(ومنها): أن الحافظ ابن عبد البر رحمه الله استنبط منه جوازَ الفتح على الإمام؛ لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب أولى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[955]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ-
(1)
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ- كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَفِي حَدِيثِهِمَا: فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8] (ت 184) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
3 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّه بن عَبْدٍ القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة [8](ت 181)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
(1)
وفي نسخة: "عبد العزيز بن أبي حازم" بدون "يعني".
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (46) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ) يعني أن حديث عبد العزيز، ويعقوب عن أبي حازم مثل حديث مالك بن أنس عنه الذي ذكر قبل هذا.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمَا. . . إلخ) يعني أنه وقع في حديث عبد العزيز ويعقوب لفظ: "فرفع أبو بكر يديه، فحمد اللَّه"، ولم يذكرا قوله:"على ما أمره به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذلك"، وقالا:"ورجع القهقرى وراءه حتى قام في الصفّ" بدل قول مالك: "ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصفّ".
وقوله: (وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ) قال في "القاموس": و"القَهْقَرَى": الرجوع إلى خلف، وتثنيته الْقَهْقَرَان بحذف الياء، وقَهْقَرَ، وتَقَهْقَر: رجع الْقَهْقَرَى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: فعلى هذا يكون قوله: "وراءه" مؤكّدًا لمعنى القهقرى؛ لأن معناه الرجوع إلى خلف، وهو الوراء.
وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
[تنبيه]: حديث عبد العزيز بن أبي حازم، الذي أحاله المصنّف هنا على حديث مالك فقد ساقه الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1218)
حدثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عوف بقباء، كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم، في أناس من أصحابه، فحُبِس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد حُبِس، وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر رضي الله عنه، فكبّر للناس، وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف، يَشُقّها شَقًّا، حتى قام في الصف، فأخذ الناس في التصفيح -قال سهل: التصفيح هو التصفيق- قال: وكان أبو
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 123.
بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفت، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه يأمره أن يصلّي، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يده، فحمد اللَّه، ثم رجع القهقرى وراءه حتى قام في الصف، وتقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلّى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال:"يا أيها الناس، ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة، أخذتم بالتصفيح؟ إنما التصفيح للنساء، من نابه شيء في صلاته، فليقل: سبحان اللَّه"، ثم التفت إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال:"يا أبا بكر، ما منعك أن تصلّي للناس حين أشرت إليك؟ " قال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وأما حديث يعقوب بن عبد الرحمن فقد ساقه بتمامه أيضًا البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1234)
حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف، كان بينهم شيء، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلِح بينهم، في أناس معه، فحُبس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: يا أَبا بكر، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قد حُبِس، وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال، وتقدم أبو بكر رضي الله عنه، فكبّر للناس، وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف، حتى قام في الصفّ، فأخذ الناس في التصفيق، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفت، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمره أن يصلّي، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه، فحمد اللَّه، ورجع القهقرى وراءه، حتى قام في الصفّ، فتقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلّى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال:"يا أيها الناس، ما لكم جن نابكم شيء في الصلاة، أخذتم في التصفيق؟ إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته، فليقل: سبحان اللَّه، فإنه لا يسمعه أحدٌ حين يقول: سبحان اللَّه إلا التفت، يا أبا بكر، ما منعك أن تصلّي للناس، حين أشرت إليك؟ "، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[956]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، أَخْبَرَنَا
(1)
عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: ذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَقَ الصُّفُوفَ
(2)
حَتَّى قَامَ عِنْدَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ الْقَهْقَرَى).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعِ) -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي- البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى السّاميّ -بالمهملة- أبو محمد البصريّ، وكان يغضب إذا قيل له: أبو هَمّام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ العدويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5](ت سنة بضع 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
والباقيان تقدّما قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) أي بمثل حديث مالك، وعبد العزيز، ويعقوب ثلاثتهم عن أبي حازم.
وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير عبيد اللَّه.
وقوله: (فَخَرَقَ الصُّفُوفَ) وفي نسخة: "فخرق الصفّ"، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"يمشي في الصفوف، يَشُقّها شَقًّا".
[تنبيه]: حديث عبيد اللَّه بن عُمَر، عن أبي حازم الذي أحاله المصنّف رحمه الله هنا على رواية مالك، وعبد العزيز بن أبي حازم، ويعقوب بن عبد الرحمن الماضي، ساقه النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1183)
أخبرنا محمد بن عبد اللَّه بن بَزِيع، قال: حدّثنا عبد الأعلى بن
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "فخرق الصفّ".
عبد الأعلى، قال: حدّثنا عبيد اللَّه، وهو ابن عمر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصْلِح بين بني عمرو بن عوف، فحضرت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فأمره أن يجمع الناس ويؤمهم، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخرق الصفوف، حتى قام في الصف المقدَّم، وصفّح الناس بأبي بكر؛ ليؤذنوه برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثروا عَلِمَ أنه قد نابهم شيء في صلاتهم فالتفت، فإذا هو برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأومأ إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي كما أنت، فرفع أبو بكر يديه، فحمد اللَّه، وأثنى عليه؛ لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم رجع القهقرى، وتقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى، فلما انصرف قال لأبي بكر:"ما منعك إذ أومأت إليك أن تصلّي؟ "، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يؤُمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال للناس:"ما بالكم صفّحتم؟، إنما التصفيح للنساء -ثم قال-: إذا نابكم شيء في صلاتكم فسبِّحُوا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[957]
(274) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ
(1)
، أَن عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ الْمُغِيَرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ الْغَائِطِ، فَحَمَلْتُ مَعَهُ إِدَاوَةً قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ أَخَذْتُ أُهَرِيقُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُ جُبَّتَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ كُمَّا جُبَّتِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْجُبَّةِ، حَتَّى أَخْرَجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ، قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ، حَتَّى نَجِدُ النَّاسَ قَدْ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَلَّى لَهُمْ، فَأَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى
(1)
وفي نسخة: "حدّثني ابن شهاب، عن عبّاد بن زياد".
الرَّكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُتِمُّ صَلَاتَهُ
(1)
، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، فَكثَرُوا التَّسْبِيحَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ:"أَحْسَنْتُمْ" أَوْ قَالَ: "قَدْ أَصَبْتُمْ"، يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كان يدلّس ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
2 -
(عَبَّادُ بْنُ زَيادٍ) ابن أبيه، المعروف أبوه بزياد بن أبي سفيان، أخو عبيد اللَّه، يكنى أبا حرب، كان والي سِجِسْتان سنة (55) وثّقه ابن حبّان [4]. روى عن عروة، وحمزة ابني المغيرة بن شعبة. وروى عنه الزهريّ ومكحول.
قال ابن المدينيّ: رجل مجهول، لم يرو عنه غير الزهري، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال خليفة: ولّاه معاوية سجستان سنة ثلاث وخمسين. تفرد به المصنف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلّا هذا الحديث.
3 -
(عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) الثقفيّ، أبو يَعْفُور الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت بعد 90)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 632.
4 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، أسلم قبل الْحُديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة (50) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، وعبّاد، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني ما أخرج له النسائيّ، وعبّاد تفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ.
(1)
وفي نسخة: "ليتمّ صلاته".
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن عبّاد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، وفيه رواية الابن عن أبيه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
قال ابن جريج: حدّثني ابن شهاب (عَنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه مخبرًا عن حديث عبّاد بن زياد، وفي نسخة "عن عبّاد بن زياد" بإسقاط "عن حديث"(أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ) تقدّم أنه موضع ببادية الشام، قريب من مدين الذين بعث اللَّه تعالى إليهم شُعيبًا
(1)
. (قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي خرج إلى البَرَاز بالفتح، وقد يُكسر، وهو الفضاء الواسع الخالي من الشجر، وقيل: البَرَاز: الصحراء البارزة، ثم كُني به عن النَّجْو، كما كُنِي بالغائط، فقيل: تَبَرَّز، وقوله:(قِبَلَ الْغَائِطِ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة: الْمُطْمَئِنّ من الأرض، والجمع غِيطان، وأَغْوَاط، وغُوي، ثم أُطلق الغائط على الخارج المستَقْذَر من الإنسان؛ تسميته باسمه الخاصّ؛ لأنهم كانوا يَقْضُون حوائجهم في المواضع المطمَئِنّة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسّعوا فيه حتى اشتقّوا منه، فقالوا: تَغَوّط الإنسان، قاله الفيّوميّ
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قوله: "قِبَل الغائط" مؤكِّد لما قبله؛ لأن معنى تبرّز خرج إلى البَرَاز، وهو الفضاء الخالي، وهو قريب من معنى الغائط.
وحاصل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم اتّجه إلى المكان الخالي البعيد عن أعين الناس لقضاء حاجته، واللَّه تعالى أعلم.
(فَحَمَلْتُ مَعَهُ إِدَاوَةً) أي بأمره صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية المتقدّمة في "الطهارة":"كنت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة. . . ".
و"الإِداوة" بالكسر: الْمِطْهَرَة، وجمعها الأَدَوَى بفتح الواو، وقال النوويّ رحمه الله: الإداوة، والرّكْوَةُ، والْمِطهرة بكسر الميم، والميضأة بكسرها أيضًا بمعنى متقارب، وهو إناء الوضوء.
(قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ) أي ليتأهّب بالوضوء لأجل صلاتها (فَلَمَّا رَجَعَ
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 66.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 457.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ) أي من الخلاء بعد قضاء حاجته (أَخَذْتُ) أي شَرَعتُ، وبدأتُ (أُهَرِيقُ) بضمّ الهمزة، وفتح الهاء، وهي مبدلة من الهمزة، قال الفيّوميّ رحمه الله: راق الماءُ والدمُ رَيْقًا، من باب باع: انصَبَّ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبُهُ، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتُبْدَل الهمزة هاءً، فيقال: هَرَاقه، والأصلُ هَرْيَقَهُ، وزانُ دَحْرَجه، ولهذا تُفْتَحُ الهاء من المضارع، فيقال: يُهَرِيقُهُ، كما تُفتَحُ الدال من يُدَحْرِجُهُ، وتُفْتَح من الفاعل والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ
والأمرُ هَرِقْ ماءَك، والأصل هَرْيِقْ، وزانُ دَحْرِجْ، وقد يُجمَعُ بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقهُ يُهْرِيقه ساكنُ الهاء تشبيهًا له بأَسْطَاعَ يُسْطِيع، كأنّ الهمزة زيدت عِوَضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خُماسيًّا. انتهى
(1)
.
(عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ) فيه جواز الاستعانة في صبّ الماء، واستحباب خدمة الأكابر (وَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ) أي ثلاثًا (ثُمَّ ذَهَبَ) أي أخذ وشرع (يُخْرِجُ) بضم أوله من الإخراج (جُبَّتَهُ) بضم الجيم، وتشديد الموحّدة: نوع من مقطّعات الثياب تُلبس، وجمعها جُبَبٌ بضم، ففتح، وجِبَابٌ بالكسر (عَنْ ذِرَاعَيْهِ) أي ليتمكّن من استيعاب اليد بالغسل (فَضَاقَ كُمَّا جُبَّتِهِ) تثنيةُ كُمّ -بضمّ الكاف، وتشديد الميم-: هو مدخل اليد، ومخرجها من الثوب، جمعه أكمام، وكِمَمَة -بكسر، ففتح- كعِنبَةٍ
(2)
.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا أراد أن يشمّر الثوب عن ذراعيه؛ ليمكنه استيعابهما بالغسل ضاق عليه الكمّان.
وفي الرواية المتقدّمة في "الطهارة": "ثم ذهب يحسُر عن ذراعيه".
(فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْجُبَّةِ، حَتَّى أَخْرَجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ) زاد في الرواية المتقدّمة في "الطهارة": "وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ" -بفتح الميم، وكسر
(1)
"المصباح المنير" 1/ 248.
(2)
راجع: "المصباح المنير"، و"المعجم الوسيط" في مادّة كم.
الكاف، بوزن مَجْلِس-: مُجْتَمِع رأس الكتف والْعَضُد
(1)
.
(وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفقَيْنِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ عَلَى خُفَّيْهِ) فيه حذفٌ، تقديره: ثم توضّأ، ومسح على خفّيه، أي أتمّ وضوءه بمسح الرأس، ثم مسح على خفّيه، وفي الرواية المتقدّمة:"فتوضّأ، ومسح على خفّيه"، وفي رواية:"فصببتُ عليه، فتوضّأ وضوءه للصلاة، ثم مسح على خفّيه، ثم صلّى".
(ثُمَّ أَقْبَلَ) أي توجّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس (قَالَ الْمُغِيرَةُ) رضي الله عنه (فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ، حَتَّى نَجِدُ النَّاسَ) كان الظاهر أن يقول: حتى وجدنا الناسَ قد قدّموا. . . إلخ؛ لأن الكلام عن الماضي، ولكنه عبّر بالمضارع؛ استحضارًا للصورة الغريبة في نظر المغيرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: قوله: "نَجِدَ" يجوز نصبه ورفعه، أما نصبه فبتقدير كونه مستقبلًا لحالة الإقبال، وأما رفعه فبتقدير حاليّته لحالة الإخبار.
والأصل في مسألة "حتى" أن ما بعدها إن كان مستقبلًا بالنسبة للتكلّم وجب نصبه، كقوله تعالى:{حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] أو حاضرًا وقته وجب رفعه، كقولك: سِرْتُ حتى أدخلُ البلدَ إذا قلته وقت الدخول، أو ماضيًا جاز الأمران باعتبار التأويل، فإن قدّرته حاضرًا وقت التكلّم على حكاية الحال وجب رفعه، أو مستقبلًا بتقدير العزم عليه وقت التكلّم وجب النصب، فقوله تعالى:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} الآية [البقرة: 214]، قرأ السبعة إلا نافعًا "يقول" بالنصب؛ لاستقباله بالنظر للزلزال، ورفعه نافع على فرض القول واقعًا حال الحكاية؛ استحضارًا لصورته.
وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْدَ "حَتَّى" حَالًا أوْ مُؤَوَّلَا
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا
(2)
ووجه الرفع هنا فرضه واقعًا حال تكلّم المغيرة به، ووجه النصب كونه مستقبلًا بالنظر لإقباله صلى الله عليه وسلم مع المغيرة، واللَّه تعالى أعلم.
(قَدْ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفِ) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن
(1)
"القاموس المحيط" ص 129، و"المصباح" 2/ 624.
(2)
راجع: شروح "الخلاصة" لهذا البيت وحواشيها، كحاشية الخضريّ 2/ 176 - 177.
زُهْرَة بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، أبا محمد الزهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأمه من بني زُهْرة أيضًا، واسمها الشفاء، ويقال: صَفِيّة، وُلِد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، وكان اسمه عبد الكعبة، ويقال: عبد عمرو، فَغَيَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، ورَوى عنه أولاده: إبراهيم، وحميد، وعمر، ومصعب، وأبو سلمة، وابن ابنه المسور بن إبراهيم، وابن أخته المسور بن مخرمة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وجبير بن مطعم، وأنس، وبَجَالة بن عبيدة، ومالك بن أوس بن الْحَدَثان، ونوفل بن إياس الْهُذَليّ، ورداد الليثيّ، وعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، ومحمد بن جبير بن مطعم، وغيرهم.
قال الزبير بن بَكّار: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وراءه في غزوة -يعني غزوة تبوك- وهو صاحب الشُّورَى، وقال معمر، عن الزهريّ: تصدَّق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدّق بأربعين ألف دينار، ثم حَمَل على خمسمائة فرس في سبيل اللَّه، وخمسمائة راحلة، وكان عامة ماله من التجارة.
وقال حميد عن أنس: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا لها، فبلَغَنا أن ذلك ذُكِر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"دَعُوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أُحُدٍ، ومثل الجبال ذهبًا ما بلغتم أعمالهم"، رواه الإمام أحمد في "مسنده"
(1)
.
وقال الزهريّ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: مَرِضَ عبد الرحمن، فأُغمي عليه، فصرخت أم كلثوم، فلما أفاق قال: أتاني رجلان، فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين، فلقيهما رجل، فقال: لا تنطلقا به، فإنه ممن سبقت له السعادة في بطن أمه.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه: صولحت امرأة عبد الرحمن من نصيبها، ربعِ الثُّمُن على ثمانين ألفًا.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (13310).
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ممن يُفتي على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ومناقبه كثيرة، وقال عمرو بن عليّ وغير واحد: مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنة (3)، وقال بعضهم: وله خمس وسبعون سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (1752) و (1757) و (2219) وأعاده بعده.
(فَصَلَّى لَهُمْ) أي لأجلهم إمامًا بهم، وإلا فالصلاة للَّه تعالى (فَأَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ) هي الركعة الثانية، كما أوضحه بقوله:(فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْآخِرَةَ) أي الثانية من صلاة الصبح (فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُتِمُّ صَلَاتَهُ) وفي نسخة: "ليُتمّ صلاته"(فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ) يعني أنه شقّ عليهم تقدّم صلاتهم على صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ) أي حين حضر النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا حين قام لقضاء ما سُبق، ففي رواية ابن سعد:"فانتهينا إلى عبد الرحمن، وقد ركع ركعةً، فسبّح الناس له حين رأوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كادوا يُفتنون، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اثبُت".
وفي رواية المصنّف التالية من طريق إسماعيل بن محمد، عن حمزة بن المغيرة:"قال المغيرة: فأردت تأخير عبد الرحمن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ".
وفي رواية النسائيّ: "فجئنا، وقد أمّ الناس عبد الرحمن بن عوف، وقد صلّى بهم ركعةً من صلاة الصبح، فذهبتُ لأوذنه، فنهاني".
وفي رواية المصنّف السابقة في "الطهارة": "فلما أحسّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخّر، فأومأ إليه، فصلى بهم".
(فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ) أي على الصحابة الذين فزعوا من صنيعهم (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَحْسَنْتُمْ"، أَوْ قَالَ: "قَدْ أَصَبْتُمْ") أي فعلتم الصواب، وهو ضدّ الخطأ (يَغْبِطُهُمْ) أي يستحسن حالهم، وبتمنّى مثلها، وهو بكسر الموحّدة، وفتحها، من بابي ضرب، وسَمِع، كما في "القاموس"، واقتصر في "المصباح" على الكسر، قال: غَبَطته غَبْطًا، من باب ضرب: إذا تمنّيتَ مثل ما ناله من غير أن تُريد زواله عنه لما أعجبك منه، وعَظُم عندك. انتهى.
(أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا)"أن" بفتح الهمزة مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما تقدّم البحث عنه قريبًا.
[فإن قلت]: كيف بقي عبد الرحمن بن عوف إمامًا في صلاته، وتأخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليتقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ في القصّة السابقة.
[أجيب]: بوجود الفرق بينهما، وذلك أن في قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبيّ صلى الله عليه وسلم التقدم؛ لئلا يَخْتَلّ ترتيب صلاة القوم، بخلاف قضية أبي بكر رضي الله عنه، فإنه كان في أول ركعة من صلاته، فلا يحصل بتقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم على الناس اختلالٌ، أفاده النوويّ رحمه الله
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتخريجه، وبقيّة مسائله قد استوفيتها في أبواب المسح من "كتاب الطهارة" برقم [23/ 639] فلا أطيل الكتاب بإعادتها، فراجعها إن شئت تستفد علمًا جمًا، وباللَّه تعالى التوفيق.
[تنبيه]: مناسبة إيراد المصنّف رحمه الله لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هنا لبيان أن الإمام الراتب إذا تأخّر عن أول الوقت يستَحبّ للجماعة أن يقدّموا أحدهم، فيصلّي بهم، ولكن إذا وَثِقوا لحسن خلق الإمام، وأنه لا يتأذّى من ذلك، ولا يترتّب عليه فتنة، فأما إذا لم يَأمنوا أذاه، فإنهم يصلّون في أول الوقت فرادى، ثم إن أدركوا الجماعة بعد استُحبّ لهم إعادتها معهم، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ رضي الله عنه بذلك، فقد أخرج المصنّف رحمه الله عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه لى اللَّه عليه وسلم -: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صَلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة"، وفي لفظ:"ثم إن أقيمت الصلاة، فصلِّ معهم، فإنها زيادة خير"، وفي لفظ: قال: "صلِّ الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصلِّ".
وفي الحديث أيضًا بيان فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حيث قدّموه للصلاة بهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 173.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[958]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَالْحُلْوَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، نَحْوَ حَدِيثِ عَبَّادٍ، قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَرَدْتُ تَأْخِيرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 134)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.
2 -
(حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) بن شعبة الثقفيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وعنه إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعباد بن زياد بن أبي سفيان، والنعمان بن أبي خالد، وروى بَكْر بن عبد اللَّه الْمُزَنيّ عنه، عن أبيه في المسح على الخفين، وقال مرة: عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، وقال الحسن البصريّ: عن ابن المغيرة، عن أبيه، في المسح على الخفين، وقال مرةً: عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، ولم يسمِّه، قال العجليّ: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم في أبواب المسح الكلام في اختلاف الإسناد المذكور مستوفًى، فراجع رقم (23/ 638) تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"الْحُلوانيّ" هو: حسن بن عليّ.
وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ عَبَّادٍ) يعني أن حديث إسماعيل بن محمد، عن حمزة، عن المغيرة، نحو حديث عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة.
وقوله: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ") أي اترك عبد الرحمن يصلّي بالناس، ولا تؤخّره.
[تنبيه]: رواية إسماعيل التي أحالها المصنّف هنا على رواية عبّاد ساقها بتمامها النسائيّ في "سننه"، فقال:
(125)
أخبرنا محمد بن منصور، قال: حدّثنا سفيان، قال: سمعت إسماعيل بن محمد بن سعد، قال: سمعت حمزة بن المغيرة بن شعبة، يحدِّث عن أبيه، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال:"تَخَلَّف يا مغيرة، وامضوا أيها الناس"، فتخلفت، ومعي إداوة من ماء، ومضى الناس، فذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحاجته، فلما رجع ذهبت أَصُبّ عليه، وعليه جبة رُومِيّة ضَيِّقة الْكُمَّين، فأراد أن يُخرج يده منها، فضاقت عليه، فأخرج يده من تحت الجبة، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على خفيه. انتهى.
[تنبيه آخر]: قوله: (قال المغيرة: فأردت. . . إلخ) لم أجد هذه الزيادة عند غير المصنّف، إلا عند الطبرانيّ في "المعجم الكبير"(20/ 376) قال -بعدما ساقه من رواية ابن شهاب، عن عبّاد بن زياد- ما نصّه: قال ابن شهاب: فحدّثني إسماعيل بن محمد بن سعد، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، بمثل حديث عباد بن زياد، وزاد: قال المغيرة: فبادرت لأُخْبِر عبد الرحمن بن عوف، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُ"، فذكر نحوه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(24) - (بَابُ تَسْبِيحِ الرَّجُلِ، وَتَصْفِيقِ الْمَرْأَةِ إِذَا نَابَهُمَا شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[959]
(422) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا:
أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ
(1)
لِلنِّسَاءِ"، زَادَ حَرْمَلَةُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُسَبِّحُونَ وَيُشِيرُونَ).
رجال الإسناد الأول: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد، تقدّم قبل باب.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب أيضًا.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن شهاب، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
رجال الإسناد الثاني: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الْخَزّاز الضرير، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجِيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه المصريّ الحافظ الفقيه، تقدّم قريبًا.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضل، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
(1)
وفي نسخة: "والتصفيح".
لطائف هذين الإسنادين:
1 -
(منها): أن الإسناد الأول من خماسيّات المصنّف رحمه الله، فهو أعلى، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم.
وأما الإسناد الثاني فهو من سُداسيّاته، فهو أنزل مما قبله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن نصف السند الثاني مسلسلٌ بالمصريين غير هارون، ونصفه الثاني بالمدنيين.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين.
4 -
(ومنها): أنه إنما لم يختصر التحويل في هذين الإسنادين على عادته، بأن يحوّل عند الزهريّ، بل ساق الأول بتمامه، ثم ساق الثاني تامًّا؛ لمهمّة إسناديّة، وهي بيان الفرق بينهما في صيغ الأداء، فسفيان بن عيينة قال:"عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فعنعنه، وأفرد أبا سلمة، وأما يونس، فقال:"عن ابن شهاب، أخبرنى سعيد بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أنهما سمعا أبا هريرة، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فبيّن الإخبار بين ابن شهاب، وسعيد، وأبي سلمة، وبسماعهما عن أبي هريرة، وبقوله: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهذا هو السبب في مخالفته عادته في اختصاره الأسانيد بالتحويلات، وإنما نبّهت عليه، وإن كان واضحًا عند المحصّلين؛ لأن كثيرًا ممن لا تحصيل عنده يستغرب مثل هذا السياق، ويظن أن هذا تطويل بلا طائل، مع أنه من أدقّ فنون الأسانيد، فخذه شاكرًا، والحمد للَّه أوّلًا وآخرًا.
4 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه قال: (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أن الأولى كسر يائه المشدّدة؛ لأنه المعروف عند أهل المدينة، وإنما فتح أهل الكوفة، وأيضًا حكي عنه أنه كان يَكْرَه الفتح (وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "التَّسْبِيحُ
لِلرِّجَالِ) مبتدأ وخبره، يعني أنه إذا نابهم شيء، وهم في الصلاة، كاستئذان الداخل، وإنذار الأعمى، وتنبيه الساهي، فالمشروع لهم أن يقولوا: سبحان اللَّه (وَالتَّصْفِيقُ) وفي نسخة: "والتصفيح" بالحاء المهملة (لِلنِّسَاءِ") إعرابه كسابقه، يعني أنه إذا نابهنّ شيء في الصلاة، فالمشروع لهنّ أن يُصفّقن، وإنما خصّ النساء بالتصفيق؛ لأنهنّ مأمورات بخفض أصواتهنّ إلا للحاجة؛ دفعًا للفتنة بهنّ، ولم يُجعل التصفيق للرجال؛ لأنه من شأن النساء.
قال الشوكانيّ رحمه الله: الحديث يردّ على ما ذهب إليه مالك في المشهور عنه أن المشروع في حقّ الجميع التسبيح دون التصفيق، وعلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من فساد صلاة المرأة إذا صفّقت في صلاتها. انتهى
(1)
.
وقال في "المنهل": وبظاهر الحديث أخذت الشافعيّة والحنابلة، وقالوا: لا يضرّ التسبيح ولو كثُر؛ لأنه قول من جنس الصلاة، وإن كثُر التصفيق أبطلها؛ لأنه عملٌ من غير جنس الصلاة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: إن أراد بالكثرة الزائد على الحاجة، فمقبول، وإن أراد الكثرة مع الحاجة فلا؛ لأن الشارع أباح لها أن تصفّق بقدر حاجتها، ولم يقيّده بالقلّة، فلا وجه للتقييد، فتبصّر، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسائل -إن شاء اللَّه تعالى-.
(زَادَ حَرْمَلَةُ) بن يحيى شيخه الثاني في السند الثاني (فِي رِوَايَتِهِ) أي عن ابن وهب، عن يونس (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ (وَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُسَبِّحُونَ وَيُشِيرُونَ) أي يَجمعون بين التسبيح والإشارة، يعني أنهم يرون جواز ذلك؛ لأن كلًّا سَنة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أمر في هذا الحديث بالتسبيح، وفعل الإشارة، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة السادسة -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"نيل الأوطار" 2/ 378.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 959 و 960 و 961](422)، و (البخاريّ) في "العمل في الصلاة"(1203)، و (أبو داود) في "الصلاة"(939)، و (الترمذيّ) فيها (369)، و (النسائيّ) فيها (311)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4069)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 117)، و (الحميديّ) في "مسنده"(948)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 241 و 261 و 440 و 432 و 473 و 479 و 507)، و (الدارميّ) في "سننه"(1370)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(894)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2263)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(210)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 447)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1973 و 1974 و 1975 و 1976)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(946 و 947 و 948 و 949)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 246)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(748).
وفوائد الحديث تقدّمت في الباب الماضي، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم التسبيح للرجل إذا نابه شيء في صلاته:
(اعلم): أنه إذا ناب المصلّي في صلاته ما يقتضي إعلام غيره بشيء، من تنبيه إمامه على خَلَل يريد فعله في الصلاة، أو رؤية أعمى يقع في بئر، أو استئذان داخل، أو كون المصلّي يريد إعلام غيره بأمر أنه ينبغي له أن يسبّح، بأن يقول:"سبحان اللَّه"؛ لإفهام ما يريد التنبيه عليه؛ ويدل لذلك حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في الباب الماضي، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور.
وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، والأوزاعيّ، وأبو ثور، وجمهور العلماء من السلف والخلف.
وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن: من أتى بالذكر جوابًا بطلت صلاته، وإن قصد به الإعلام بأنه في الصلاة لم تبطل، فحملا التسبيح المذكور في هذا الحديث على ما إذا كان القصد به الإعلام بأنه في الصلاة، وهما
محتاجان لدليل على ذلك، وكذلك حَمَلا قوله في حديث سهل:"من نابه شيء في صلاته" على نائبٍ مخصوصٍ، وهو إرادة الإعلام بأنه في الصلاة، والأصل عدم هذا التخصيص؛ لأنه عامّ؛ لكونه نكرةً في سياق الشرط، فيتناول النائب الذي يحتاج معه إلى الجواب، والنائب الذي يحتاج معه إلى الإعلام بأنه في الصلاة، فالحمل على أحدهما من غير دليل لا يمكن المصير إليه، كيف والواقعة التي هي سبب الحديث لم يكن القصد فيها الإعلام بأنه في الصلاة، وإنما كان القصد تنبيه الصديق رضي الله عنه على حضور النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أنه كان حقهم عند هذا النائب التسبيح، وكذا عند كل نائب، وقد اتفقوا على أن السبب لا يجوز إخراجه.
ومن هنا رد الشافعيّة على الحنفية في قولهم: إن الأَمَة لا تكون فِرَاشًا بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" إنما ورد في أمة، والسبب لا يجوز إخراجه بلا خلاف، وعن أحمد رواية مثل قول أبي حنيفة، أفاده العراقيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحقّ ما ذهب إليه الشافعيّة، والحنابلة أن من نابه شيء مطلقًا في صلاته فليُسبّح؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التصفيق للنساء:
ذهب الشافعيّ، وأحمد، والجمهور -رحمهم اللَّه تعالى- إلى أنه إذا ناب المرأة في صلاتها شيء ينبغي لها أن تُصَفِّق.
وخالف في ذلك مالك رحمه الله، فسَوّى في ذلك بين الرجل والمرأة، وقال: إن المشروع في حقها التسبيح كالرجل، وضَعَّف أمر التصفيق للنساء.
وحَكَى أبو العباس القرطبيّ عن مشهور قول مالك أنه لا يجوز أن يفعله في الصلاة لا الرجال ولا النساء.
وحَكَى القاضي عياض عن أبي حنيفة أنه رأى فساد صلاة المرأة إذا صَفَّقت في صلاتها، قال: وخَطَّأ أصحابه هذا القول، وقال الأبهريّ من المالكية: إن صَفَّقت المرأة لم تبطل صلاتها، غير أن المختار التسبيح.
وذكر ابن عبد البرّ في توجيه قول مالك أنه أخذ بظاهر قوله في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: "من نابه شيء في صلاته فليسبّح"، قال: وهذا على
عمومه في الرجال والنساء، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما التصفيق للنساء" على أن التصفيق من أفعال النساء على جهة الذمّ لذلك. انتهى.
وهذا التأويل مردود، وهو إن كان محتملًا في لفظ هذه الرواية، فإنه يتعذّر في رواية أخرى رواها البخاريّ في "صحيحه"، لفظها:"إذا رابكم شيء في الصلاة، فليسبّح الرجال، وليصفِّح النساء".
وعن مالك روايةٌ موافقةٌ للجمهور، وجزم بها عنه ابن المنذر، فقال بعد ذكر حديث:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء"، قال بظاهر هذا الخبر مالك. انتهى.
واختار جماعة من المالكية موافقة الجمهور في ذلك، فقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ بعد نقله مشهور مذهب مالك في ذلك: وليس بصحيح.
وقال أبو العباس القرطبيّ بعد ذكره مذهب الجمهور في ذلك: وهذا القول هو الصحيح خبرًا ونظرًا.
وقال ابن حزم: رَوَيْنا عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ أنهما قالا: التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ولا يعرف لهما من الصحابة رضي الله عنهم مخالف.
وقال وليّ الدين: قد رُوي ذلك أيضًا عن جابر بن عبد اللَّه، رواه عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه".
وقال القاضي عياض: قيل: كان الرجال والنساء يصفِّقون في الصلاة والطواف، فأنزل اللَّه تعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} الآية [الأنفال: 35] أي صفيرًا وتصفيقًا، فنهوا عن ذلك رجالًا ونساءً، ثم أَعْلَم أنه من عادة النساء في خاصتهنّ ولهوهنّ، لا أنه إباحة لهنّ وسنة فيما يعتريهن في صلاتهن. انتهى.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ليس في سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ} الآية أنه نهى النساء عن ذلك، لا في حالة الصلاة ولا غيرها، وإنما ذَكَر غير واحد من المفسرين أنهم كانوا يؤذون النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في الصلاة والطواف؛ ليشوّشوا عليه، فنزلت الآية بمكة، ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن يصفِّق النساء لما نابهنّ. انتهى
(1)
.
(1)
"طرح التثريب" 3/ 216.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن النساء يُصفّقن إذا نابهنّ شيء في صلاتهنّ، كما أن الرجال يسبّحون إذا نابهم شيء؛ لصحّة الأدلّة بذلك.
(فمنها): رواية المصنّف رحمه الله الآتية من طريق همّام عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء في الصلاة".
(ومنها): رواية البخاريّ في "كتاب الأحكام" من "صحيحه": "إذا رابكم أمرٌ، فليسبح الرجال، وليصفِّح النساء"، ولفظ أبي داود:"إذا نابكم شيء في صلاتكم، فليسبّح الرجال، وليصفّح النساء".
(ومنها): ما أخرجه أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء في الصلاة".
(ومنها): ما أخرجه البيهقيّ من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة:"إذا استُؤذن على الرجل، وهو يصلي، فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة، وهي تصلّي، فإذنها التصفيق"، وقال في "الخلافيات": رُواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. انتهى.
فهذه النصوص كلها صريحة في جواز التصفيق في الصلاة للنساء، وأن القول بعدم مشروعيّته، أو أنه يبطل الصلاة قولٌ لا يؤيّده دليلٌ صحيح، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء:
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: كون المشروع للرجال التسبيح، وللنساء التصفيق، هو على سبيل الإيجاب، أو الاستحباب، أو الإباحة الذي ذكره أصحابنا -يعني الشافعيّة- ومنهم الرافعيّ، والنوويّ أنه سنّة، وحكاه الرافعيّ عن الأصحاب.
وحَكَى والدي في "شرح الترمذيّ" عن شيخه الإمام تقيّ الدين السبكيّ أنهما إنما يكونان سُنّتين إذا كان التنبيه قربةً، فإن كان مباحًا كانا مباحين، قاله الشيخ أبو حامد وغيره، قال السبكيّ: وقياس ذلك إذا كان التنبيه واجبًا كإنذار
الأعمى من الوقوع في بئر أن يكونا واجبين إذا تَعَيَّنا طريقًا، وحصل المقصود بهما. انتهى.
وقال ابن قدامة في "المغني": وإذا سها الإمام، فأتى بفعل في غير موضعه لزم المأمومين تنبيهه، فإن كانوا رجالًا سبّحوا، وإن كانوا نساء صفَّقن. انتهى. وهو موافق لما ذكره السبكيّ من الوجوب، إلا أنه في صورة غير الصورة التي ذكرها السبكيّ.
ويوافق ما ذكره الشيخ أبو حامد من الإباحة، ما رواه ابن ماجه في "سننه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"رَخّص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للنساء في التصفيق، وللرجال في التسبيح".
وفي "العلل" لابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث منكر بهذا الإسناد
(1)
.
والتعبير بالرخصة يقتضي الاقتصار فيه على الإباحة إن جرينا على مدلول الرخصة اللغويّ، فأما إذا فَسَّرنا الرخصة بما ذكره غير واحد من أهل الأصول أنها الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، فلا يدل على الإباحة؛ لأن الرخصة باصطلاحهم قد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة، والحق انقسام التنبيه في حالة الصلاة إلى ما هو واجب، وإلى ما هو مندوب، وإلى ما هو مباح بحسب ما يقتضيه الحال، وأما تعبير الرافعيّ وغيره بالتنبيه، فإنما عَبّروا بذلك لأجل التفريق، والتفصيل في ذلك بين الرجل والمرأة، فيكون تنبيه الرجل بالتسبيح، وتنبيه المرأة بالتصفيق هو السنةَ، وأما أصل التنبيه فقد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون مباحًا، بل قد يكون مكروهًا أيضًا، وقد يكون حرامًا بحسب المنَبَّه عليه، فهما مسألتان:
إحداهما: حكم التنبيه، وهو معروف من حكم المنبَّه عليه، ومنقسم إلى الأحكام الخمسة.
الثانية: الكيفية التي يحصل بها التنبيه، وهذه الثانية هي التي تكلم عنها
(1)
وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله؛ لأنه يشهد له حديثا أبي هريرة وسهل بن سعد رضي الله عنهم، انظر:"صحيح ابن ماجه" 1/ 170.
الأصحاب، وقالوا: إن السُنّة في حق الرجل التسبيح، وفي حق المرأة التصفيق. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قول الزهريّ رحمه الله: "وقد رأيت رجالًا من أهل العلم يُسَبِّحون ويشيرون" أي في الصلاة، وجمعوا بينهما لأن في كل منهما إفهام ما في النفس، وهل المراد أنهم كانوا يجمعونهما في حالة واحدة أو يفعلونهما متفرقين؟ فيه نظر، وأكثر العلماء من السلف والخلف على جواز الإشارة في الصلاة، وأنها لا تَبطُل بها، ولو كانت مُفْهِمة.
وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وقد ورد في الإشارة في الصلاة أحاديث تكاد أن تبلغ حدّ التواتر، والأصح عند الشافعية أنه لا تُبطل الصلاة بإشارة الأخرس المفهمة كالناطق.
ونقل ابن حزم من "مصنف عبد الرزاق" بأسانيده عن عائشة أنها كانت تأمر خادمها يَقْسِم المرقة، فتمر بها، وهي في الصلاة فتشير إليها أن زيدي، وتأمر بالشيء للمسلمين تومئ به، وهي في الصلاة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أومأ إلى رجل في الصفّ، ورأى خللًا أن تَقَدَّم.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: إني لأعدّها للرجل عندي يدًا أن يعدِّلني في الصلاة.
وعن عطاء بن أبي رباح أنه قيل له: إنسان يمر بي، فأقول: سبحان اللَّه، سبحان اللَّه، سبحان اللَّه ثلاثًا، فيقبل، فأقول له بيدي أين تذهب؟ فيقول: إني كذا وكذا، وأنا في المكتوبة، هل انقطعت صلاتي؟ فقال: لا، ولكن أكره، قلت: فأسجد للسهو؟ قال: لا.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قامت إلى الصلاة في درع وخمار، فأشارت إلى الْمِلْحَفة، فتناولتها، وكان عندها نسوة، فأومأت إليهن بشيء من طعام بيدها، يعني وهي تصلّي.
وعن أبي رافع: كان يجيء الرجلان إلى الرجل من أصحاب
(1)
"طرح التثريب" 2/ 216.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فيشهد أنه على الشهادة، فيُصغِي لها سمعه، فإذا فرغ يومئ برأسه، أي نعم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إذا كان أحدكم في الصلاة، فسُلِّم عليه، فلا يتكلمنّ، وليشر إشارة، فإن ذلك ردُّه.
وذهب الحنفية إلى بطلان الصلاة بالإشارة المفهمة، ونزّلوها منزلة الكلام، واستدلوا لذلك بما رواه أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من أشار في صلاته إشارةً تُفْهَم عنه، فليَعُدْ لها"، يعني الصلاة، لكنه حديث ضعيف، قال أبو داود: هذا الحديث وَهْمٌ، وقال أبو بكر بن أبي داود: أبو غطفان مجهول، ولعله من قول ابن إسحاق، والصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في الصلاة، وقال أبو زرعة: ليس في شيء من الأحاديث هذا الكلام، وليس عندي بذاك الصحيح، إنما رواه ابن إسحاق، وقال أحمد بن حنبل: لا يثبت هذا الحديث، إسناده ليس بشيء، ذكر هذا كلّه في "الطرح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحقّ مذهب الجمهور من جواز الإشارة المفهمة في الصلاة، للأحاديث الصحيحة الكثيرة، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أم سلمة رضي الله عنها لما أرسلت جاريتها تسأله عن الركعتين بعد العصر، وقالت لها: فإن أشار بيده فاستَأْخِري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، الحديث بطوله
(2)
.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 219.
(2)
أخرج الشيخان عن كريب، أن ابن عباس، والمسور بن مَخْرمة، وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها، فقالوا: اقرأ عليهم السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أُخبرنا عنك أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وقال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنها، فقال كريب: فدخلت على عائشة رضي الله عنها، فبلّغتها ما أرسلوني، فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردّوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة: لسمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل عليّ، وعندي نسوة من بني حَرَام من الأنصار، فأرسلت =
وأخرج أحمد، وأبو داود بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة"
(1)
.
فقد ثبتت الإشارة بفعله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت التسبيح بقوله، فدلّ على مشروعيّة الأمرين، كما نقله ابن شهاب عن رجال من أهل العلم، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: أما ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة، عن عليّ رضي الله عنه، قال:"كنت إذا استأذنتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن كان في صلاة سبّح، وإن كان في غير ذلك أَذِنَ"، فهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده عليّ بن يزيد الألهانيّ، وهو ضعيف. وكذلك ما أخرجه النسائيّ في "سننه"، عن عبد اللَّه بن نُجَيّ، عن عليّ قال:"كان لي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها، فإذا أتيته استأذنت، إن وجدته يصلي، فتنحنح دخلت، وإن وجدته فارغًا أذن لي"، لا يصحّ؛ لأنه منقطع بين عبد اللَّه بن نُجيّ، وبين عليّ رضي الله عنه، فتنبّه.
وقد أوصلت المسائل المتعلّقة بهذا الحديث في "شرح النسائيّ" إلى ست عشرة مسألة مفيدة فراجعها تستفد
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[960]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ -يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ- (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
= إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول اللَّه سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف، قال:"يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان".
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده"(3/ 138)، وأبو داود في "سننه"(943).
(2)
راجع: "ذخيرة العقبى" 9/ 364 - 377.
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضِ) بن مسعود التميميّ، أبو عليّ الزاهد المشهور، أصله من خراسان، وسكن مكة، ثقةٌ عابدٌ إمامٌ [8](ت 187) أو قبلها (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
2 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان المدنيّ، ثقة ثبت [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو كريب": محمد بن العلاء، و"أبو معاوية": محمد بن خازم، و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه.
وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ) الضمير لفضيل بن عياض، وأبي معاوية، وعيسى بن يونس.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه عنه سعيد بن المسيّب، وأبو سلمة في السند الماضي.
[تنبيه]: أما رواية فضيل بن عياض، عن الأعمش، فساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:
(1209)
أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا الفضيل بن عياض، عن الأعمش (ح) وأنبأنا سويد بن نصر، قال: أنبأنا عبد اللَّه، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء". انتهى.
وأما رواية أبي معاوية، عن الأعمش، فقد ساقها الترمذيّ في "جامعه"، فقال:
(337)
حدّثنا هنّاد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء"، وقال: حديث حسن صحيح. انتهى.
وأما رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، فلم أجد من ساقها بتمامها،
إلا أن البيهقيّ رحمه الله، قال في "السنن الكبرى"(2/ 247) -بعد سوقه رواية أبي معاوية، عن الأعمش رحمه الله ما نصّه:
(3154)
وأخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأ أبو نصر، محمد بن عمر، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ عيسى بن يونس، ثنا الأعمش، فذكره بمثله، قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم، فقال: قد كانت أمي تفعله. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[961]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ
(1)
، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَزَادَ:"فِي الصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَمَّام) بن مُنبّه بن كامل الأَبْناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون تقدّموا قبل باب.
وقوله: (بِمِثلِهِ) أي بمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور قبله.
وقوله: (وَزَادَ: فِي الصَّلَاةِ) فاعل "زاد" ضمير لهمّام، أي زاد همّام في روايته على رواية ابن المسيّب، وأبي سلمة، وأبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله:"في الصلاة".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر كلام المصنّف رحمه الله أن هذه الزيادة في رواية همّام فقط، وهذا يخالف ما قاله النسائيّ، فإنه جعل الزيادة في رواية أبي سلمة، ودونك نصّه:
(1207)
أخبرنا قتيبة، ومحمد بن المثنى، واللفظ له، قالا: حدثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
وفي نسخة: "عن همّام بن منبّه".
"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء"، زاد ابن المثنى:"في الصلاة". انتهى.
وقد ثبتت الزيادة أيضًا في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" قال:
(10186)
حدّثنا يزيد
(1)
، أخبرنا هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء في الصلاة". انتهى.
فبهذا يتبيّن أن هذه الزيادة ثابتة في رواية أبي سلمة، وهمّام، وابن سيرين كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، لا كما يوهمه كلام المصنّف رحمه الله، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "الطرح": هذه الزيادة ليست عند البخاريّ، وإنما هي عند مسلم من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة، وهي عند النسائي من هذا الوجه، من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: وهي عند النسائيّ من طريق سعيد بن المسيّب، فيه نظر؛ لأنها عند النسائيّ من طريق أبى سلمة، لا من طريق سعيد، كما أسلفته آنفًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: رواية همّام هذه ساقها أبو نُعيم في "مستخرجه"(2/ 49) فقال:
(949)
أخبرنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق، أنبا عبد الرزاق، أنبا معمر، عن همام بن مُنَبِّه، أنه سمع أبا هريرة، يقول (ح) وحدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا ابن أبي السّريّ، ثنا عبد الرزاق، أنبا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للقوم، والتصفيق للنساء في الصلاة"، لفظ ابن أبي السّريّ. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هو ابن هارون.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 219.
(25) - (بَابُ الأَمْرِ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامِهَا، وَالْخُشُوعِ فِيهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[962]
(423) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبِ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ -يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: "يَا فُلَانُ أَلَا تُحْسِنُ
(1)
صَلَاتَكَ؟ أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى، كَيْفَ يُصَلِّي؟ فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ مِنْ
(2)
وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(الْوَليدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ) أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر قبل موته بأربع سنين، [3] مات في حدود سنة (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
5 -
(أَبُوهُ) أبو سعيد كيسان المقبريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
(1)
وفي نسخة: "ألا تُحَسّن" بالتشديد من التحسين.
(2)
وفي نسخة: "مَن" بالفتح في الموضعين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْوَلِيدِ -يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ) هكذا رواية المصنّف والنسائيّ من طريق الوليد بن كثير، بزيادة "عن أبيه"، وكذا هو عند ابن خزيمة في "صحيحه" برقم (4474) من طريق عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد، و (446) من طريق أبي خالد الأحمر، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد.
ووقع في "مسند أحمد"(2/ 449) من طريق يزيد -يعني ابن هارون- عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه. . . بدون ذكر "عن أبيه".
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا) وفي رواية أحمد، وابن خزيمة:"صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر"، وعند ابن خزيمة من طريق أبي خالد الأحمر المذكورة:"العصر"(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي سلّم من الصلاة، وانتهى منها (فَقَالَ: "يَا فُلَانُ) الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم ناداه باسمه، ولكن الراوي كنى عنه، وأخفاه طلبًا للستر عليه، ولم أر أحدًا ذكر اسمه، واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية لأحمد: "صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، وفي مؤخّر الصفوف رجلٌ، فأساء الصلاة، فلما سلّم ناداه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا فلان، ألا تتقي اللَّه، ألا ترى كيف تصلّي، إنكم ترون أني يخفى عليّ شيء مما تصنعون؟ واللَّه إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يديّ".
وعند ابن خزيمة: "صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، فلما سلّم نادى رجلًا كان في آخر الصفوف، فقال: يا فلان ألا تتّقي اللَّه، ألا تنظر كيف تصلّي؟ إن أحدكم إذا قام يصلّي إنما يقوم يناجي ربّه، فلينظر كيف يناجيه، إنكم ترون أني لا أراكم؟ إني واللَّه أراكم من خلف ظهري كما أرى من بين يديّ".
وفي لفظ: "صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العصر، فبَصُرَ برجل يصلّي، فقال: يا فلان اتّق اللَّه، أحسن صلاتك، أترون أني لا أراكم؟ إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يديّ، أحسنوا صلاتكم، وأتمّوا ركوعكم وسجودكم".
(أَلا) أداة عَرْض، وهو الطلب برفق، أو تحضيض، وهو الطلب بحثّ، وهو المناسب هنا، كما يدلّ عليه السياق (تُحْسِنُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإحسان، وفي بعض النسخ:"ألا تُحَسّن" بالتشديد، من التحسين، يقال: حَسّن الشيءَ: إذا زيّنه، ويقال: أحسنتَ الشيءَ: عرفته، وأتقنته، أفاده في "المصباح"، ونحوه في "مختار الصحاح"
(1)
، أي ألا تُزَيِّن (صَلَاَتَكَ؟) وتتقنها بإتمام الركوع والسجود والخشوع.
قال بعضهم: أصل الهمزة التي للاستفهام التوبيخيّ بمعنى لا ينبغي، دخلت على "لا" النافية، فصار الكلام لا ينبغي أن لا تُحسن صلاتك، ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى: ينبغي أن تحسن صلاتك. انتهى.
(أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى، كَيْفَ يُصَلِّي؟) أي ينبغي للمصلّي النظر، والمرافى من النظر التفكّر والتأمّل، أي ليفكّر المصلّي في صلاته، ويقارن بين ما يؤدّي، وبين ما ينبغي (فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ) الفاء للتعليل، وفي الكلام مضافٌ محذوفٌ، أي لنفع نفسه، وفائدة نفسه، فإن اللَّه تعالى غنيّ عن الإنسان، وعن عبادته، وما أوجب الصلاة إلا لمثوبة العبد ومجازاته، ومن عَرَفَ أن الفعل لفائدة نفسه أحسن، وأتقن عمله، فليس هناك من هو أحبّ إلى الإنسان من نفسه غالبًا.
(إِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ) بضم أوله، من الإبصار (مِنْ) بكسر الميم في الموضعين، وهي الجارّة، وفي بعض النسخ بفتحها، وعليه فهي موصولة
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 136، و"مختار الصحاح" ص 58.
(وَرَائِي) وفي الرواية التالية: "من بعد ظهري"(كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه أن اللَّه تعالى خَلَق له صلى الله عليه وسلم إدراكًا في قفاه يُبْصِر به مِن ورائه، وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذا، وليس يَمنع من هذا عقلٌ ولا شرعٌ، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به.
قال القاضي: قال أحمد بن حنبل رحمه الله، وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقةً. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد اختُلِف في معنى ذلك، فقيل: المراد بها العلم، إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم، وإما أن يُلْهَم، وفيه نظر؛ لأن العلم لو كان مرادًا لم يقيِّده بقوله:"من وراء ظهري".
وقيل: المراد أنه يَرَى من عن يمينه، ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب.
والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقيّ خاصّ به صلى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا عَمِلَ البخاريّ رحمه الله، فقد أخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نُقِل عن الإمام أحمد وغيره.
ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه انخرقت له العادة فيه أيضًا، فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السُنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عاديةٌ، يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلًا، ولذلك حكموا بجواز رؤية اللَّه تعالى في الدار الآخرة، خلافًا لأهل البِدَع؛ لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا.
وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سمّ الخياط يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب ولا غيره.
وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته، كما تنطبع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 149 - 150.
(2)
"الفتح" 1/ 666.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الأقوال الثلاثة تحتاج إلى دليل، بل القول الثاني أبشع، لا ينبغي حكايته إلا للتعجّب منه.
فالحقّ أن نكل العلم في كيفيّة إبصاره صلى الله عليه وسلم إلى العليم الخبير الذي أعطاه تلك المعجزة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: مذهب أهل السنّة من الأشعريّة وغيرهم أن هذا الإبصار يجوز أن يكون إدراكًا خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم محقّقًا، انخرقت له فيه العادة، وخلق له وراءه، أو يكون الإدراك العينيّ انخرقت له العادة، فكان يرى به من غير مقابلة، فإن أهل السنّة لا يشترطون في الرؤية عقلًا بِنْيَةً مخصوصةً، ولا مقابلة، ولا قربًا ولا شيئًا مما يشترطه المعتزلة، وأهل الْبِدَع، وأن تلك الأمور إنما هي شروط عاديّةٌ يجوز حصول الإدراك مع عدمها، ولذلك حَكَموا بجواز رؤية اللَّه تعالى في الدار الآخرة، مع إحالة تلك الأمور كلّها، ولَمّا ذهب أهلُ الْبِدَع إلى أن تلك الشروط عقليّة استحال عندهم رؤية اللَّه تعالى، فأنكروها، وخالفوا قواطع الشريعة التي وردت بإثبات الرؤية، وخالفوا ما أجمع عليه الصحابة والتابعون، ويؤيّد هذا قولُ عائشة رضي الله عنها في هذا:"زيادة زاده اللَّه إياها في حجته"
(1)
.
وقال بقيّ بن مخلد: كان صلى الله عليه وسلم يرى في الظلام كما يرى في الضوء، وقال مجاهد: كان صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأبصر من ورائي" راجع إلى العلم، وأن معناه: إني لأعلم، وهذا تأويل لا حاجة إليه، بل حَمْلُ ذلك على ظاهره أولى، ويكون ذلك زيادةً في كرامات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي فضائله؛ لأن ذلك جار على أصول أهل الحقّ كما قدّمناه، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(1)
قول عائشة رضي الله عنها هذا هكذا ذكره القاضي عياض أيضًا في "الإكمال"(2/ 336)، ونقلها الأبيّ أيضًا، ولم يعزها أحد منهم إلى مصدر، فلا أدري من أخرجها، فلينظر.
(2)
"المفهم" 2/ 57 - 58.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حقّقه القرطبيّ رحمه الله من حمل الرؤية على الرؤية الحقيقيّة، كما هو ظاهر النصّ تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
ومن غريب ما رأيته ما كتبه صاحب "فتح المنعم" في هذا المحلّ مستنكرًا هذا المعنى الظاهر، ومرجحًا كون الرؤية بمعنى الإحساس والشعور، وأعجب منه تشبيهه بإحساس الأعمى التي يعطيه تعويضًا عما فقده من البصر، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، فأيّ بصر فقده النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى عوّضه اللَّه إحساسًا كالأعمى؟ إن هذا لهو العجب العجاب.
والحاصل أنه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذا التأويل المزري على منصب النبيّ صلى الله عليه وسلم في تنظيره بالأعمى، وهو صلى الله عليه وسلم صرّح تصريحًا لا خفاء فيه ولا لبس بأن اللَّه عز وجل خصّه، وفضّله بأن أعطاه إبصارًا من وراء ظهره، كما يبصر من أمامه من غير فرق، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: قال في "الفتح": ظاهر الحديث أن ذلك الإبصار يختص بحالة الصلاة، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله، وقد نُقِل ذلك عن مجاهد، وحَكَى بَقِيّ بن مَخْلَد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: في كون الإبصار خاصًّا بالصلاة مما يدلّ عليه ظاهر الحديث عندي نظر، بل الاحتمال الثاني هو الظاهر، فالأولى حمله على العموم، كما نُقل عن مجاهد رحمه الله، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 962 و 963](423 و 424)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(418) و"الأذان"(741)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 119)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 167)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 365 و 379)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6337 و 6338)، و (عليّ بن الجعد) في
"مسنده"(2897)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1614)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(950 و 951)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(6/ 73)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3712)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه الأمرَ بإحسان الصلاة، والمحافظة على إتمام أركانها، ومستحبّاتها، والحثَّ على الخشوع فيها.
ورَوَى البيهقيّ بإسناد صحيح عن مجاهد، قال: كان ابن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عُود، وحدَّث أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان كذلك، قال: وكان يقال: ذاك الخشوع في الصلاة.
قال في "الفتح": واستُدِلّ بحديث الباب على أنه لا يجب؛ إذ لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وفيه نظرٌ.
نعم في حديث أبي هريرة من وجه آخر عند مسلم -يعني هذا الحديث-: "صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا ثم انصرف، فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك"، وله في رواية أخرى:"أتموا الركوع والسجود"، وفي أخرى:"أقيموا الصفوف"، وفي أخرى:"لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود"، وعند أحمد:"صلى بنا الظهر، وفي مؤخر الصفوف رجلٌ، فأساء الصلاة"، وعنده من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه "أن بعض الصحابة تعمّد المسابقة؛ لينظر هل يعلم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فلما قضى الصلاة نهاه عن ذلك"، واختلاف هذه الأسباب يدل على أن جميع ذلك صدر من جماعة في صلاة واحدة، أو في صلوات.
وقد حَكَى النوويّ الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب، ولا يَرِد عليه قول القاضي حسين: إن مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حدّ يَذْهَب معه الخشوع أبطلت الصلاة، وقاله أيضًا أبو زيد المروزيّ؛ لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق، أو المراد بالإجماع أنه لم يُصَرِّح أحد بوجوبه، وكلاهما في أمر يحصل من مجموع المدافعة وترك الخشوع.
وفيه تعقب على من نسب إلى القاضي وأبي زيد أنهما قالا: إن الخشوع شرط في صحة الصلاة، وقد حكاه المحب الطبريّ، وقال: هو محمول على
أن يحصل في الصلاة في الجملة، لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضًا.
وأما قول ابن بطال: فإن قال قائل: فإن الخشوع فرض في الصلاة.
قيل له: بحسب الإنسان أن يُقْبِل على صلاته بقلبه ونيته، يريد بذلك وجه اللَّه عز وجل، ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر، فحاصل كلامه أن القدر المذكور هو الذي يجب من الخشوع، وما زاد على ذلك فلا.
وأنكر ابن الْمُنَيِّر إطلاق الفرضية، وقال: الصواب أن عدم الخشوع تابع لما يظهر عنه من الآثار، وهو أمر متفاوت، فإن أَثَّر نقصًا في الواجبات كان حرامًا، وكان الخشوع واجبًا، وإلا فلا. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): جواز الحلف باللَّه تعالى من غير ضرورة، لكن المستحب تركه إلا لحاجة، كتأكيد أمر، وتفخيمه، والمبالغة في تحقيقه، وتمكينه من النفوس، وعلى هذا يُحْمَل ما جاء في الأحاديث من الحلف، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
3 -
(ومنها): إثبات معجزة باهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث جعله اللَّه تعالى يرى من خلفه كما يرى من أمامه، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة":
أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ حَقًّا تَبَعَا
…
يَرَى وَرَاءَهُ كَقُدَّامٍ مَعَا
وهذه الرؤية كما أسلفنا على ظاهرها، وأن اللَّه تعالى جعله يُبصر من وراء ظهره، كما يُبصر من أمامه.
4 -
(ومنها): أنه ينبغي للإمام أن يُنَبِّه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة، ولا سيما إن رأى منهم ما يخالف الأَوْلى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[963]
(424) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا
(1)
"الفتح" 1/ 264 - 265.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 150.
هُنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ، وَلَا سُجُودُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي
(1)
").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
وقتيبة تقدّم في الباب الماضي، ومالك قبل باب.
وقوله: ("هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا) الإشارة إلى القبلة، أي هل ترون توجّهي إلى جهة القبلة، فتظنّون أني أرى ما في المواجهة فقط؟، والاستفهام إنكاريّ لما يلزم منه، أي أنتم تظنون أني لا أرى فعلكم؛ لكون قبلتي في هذه الجهة؛ لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه، فلا ينبغي لكم أن تظنّوا هذا؛ فإن رؤيتي ليست قاصرة في جهة قبلتي، بل أراكم من وراء ظهري، كما أراكم من أمامي.
وقوله: (فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ، وَلَا سُجُودُكُمْ) وفي رواية البخاريّ: "فَوَاللَّه ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم"، قال في "الفتح": أي في جميع الأركان، ويَحْتَمِل أن يريد به السجود؛ لأن فيه غاية الخشوع، وقد صَرَّح بالسجود في رواية لمسلم، يعني هذه الرواية.
وقوله: (إِنِّي لَأَرَاكُمْ) بفتح الهمزة.
وقوله: (وَرَاءَ ظَهْرِي) وفي نسخة: "من وراء ظهري" بزيادة "من".
والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "من وراء ظهري".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[964]
(425) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي -وَرُبَّمَا قَالَ-: مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي، إِذَا رَكعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بُنْدار تقدّم قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم قريبًا أيضًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبتٌ يُدلّس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
6 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِك) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع.
5 -
(ومنها): أن شيخيه كانا كفرسي رهان في الحفظ، وماتا في سنة واحدة، سنة (252) ومن المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة.
6 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه ممن لازم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخدمه عشر سين، ومن المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) أي أكملوهما بمراعاة الطمأنينة والاعتدال، وفي رواية النسائيّ:"أتمّوا" بدل "أقيموا"، والإقامة هنا بمعنى الإحسان المتقدّم في قوله:"ألا تُحسن صلاتك"(فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي) أي بعد ظهري، كما أشار إليه بقوله:(وَرُبَّمَا قَالَ: مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي) تقدّم الكلام على معنى هذه الجملة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال في "الفتح": وأغرب الداوديّ الشارح، فحَمَل البعدية هنا على ما بعد الوفاة، يعني أن أعمال الأمة تُعْرَض عليه، وكأنه لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث بَيَّنَ فيه سبب هذه المقالة، وحديثه وحديث أنس رضي الله عنه في قضية واحدة، وهو مقتضى صنيع الشيخين في إيرادهما الحديثين في هذا الباب.
[فإن قيل]: ما الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم، دون تحذيرهم برؤية اللَّه تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبيّن في سؤال جبريل عليه السلام، كما تقدم في "كتاب الإيمان":"اعبُدِ اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؟.
[أجيب]: بأن في التعليل برؤيته صلى الله عليه وسلم لهم تنبيهًا على رؤية اللَّه تعالى لهم، فإنهم إذا أحسنوا الصلاة؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة اللَّه تعالى، مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكونه يُبْعَث شهيدًا عليهم يوم القيامة، فإذا عَلِمُوا أنه يراهم، تحفظوا في عبادتهم؛ ليشهد لهم بحسن عبادتهم، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ") ظرف لـ "أراكم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 265.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 964 و 965](425)، و (البخاريّ) في (742)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1054 و 1117) و"الكبرى"(641 و 704 و 1363)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 113 و 130 و 170 و 177 و 269 و 274)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1170)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1715 و 1716)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(952 و 953)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[965]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ -يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ- حَدَّثَنِي أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي، إِذَا مَا رَكَعْتُمْ، وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ"، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: "إِذَا رَكَعْتُمْ، وَإِذَا سَجَدْتُمْ
(1)
").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستَوَائيّ البصريّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) عن (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
5 -
(سَعِيد) بن أبي عروبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ،
(1)
وفي نسخة: "إذا ركعتم، وسجدتم".
ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط، أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالبصريين، كسابقه.
وقوله: (إِذَا مَا رَكَعْتُمْ، وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ)"ما" بعد "إذا" زائدة، كما تبيّن من الرواية التالية.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت فيما قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(26) - (بَابُ تَحْرِيمِ سَبْقِ الإِمَامِ بِرُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[966]
(426) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "أيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي، وَمِنْ خَلْفِي"، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السّعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ) مولى عمرو بن حُريث البصريّ، ثقةٌ له أوهام [5](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 358.
5 -
(أَنَس) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (47) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، كما سبق قريبًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا من الأيّام (فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ) أي أدّاها، وسلّم منها (أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِمَامُكُمْ) بكسر الهمزة، أي ومُهمّة الإمام أن يؤتمّ، ويُقتدى به، على وجه المتابعة.
وقال السنديّ رحمه الله: فيه أن امتناع التقدّم عليه لكونه إمامًا، فيعمّ كلَّ إمام، لا لكونه نبيًّا؛ ليختصّ به. انتهى. (فَلَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تَسْبِقُونِي) أصله تسبقونني، فحُذفت نون الرفع للجازم، والنون الموجودة هي نون الوقاية، كما قال في "الخلاصة":
وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ الْتُزِمْ
…
نُونُ وِقَايَةٍ وَلَيْسِي قَدْ نُظِمْ
(بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ) المراد بالانصراف هنا هو السلام، وقيل: هو الانصراف بعد السلام، والأول أرجح، بدليل أنه ذكره مع الركوع والسجود والقيام، وأيضًا قوله:"فإني أراكم من وراء ظهري" يدلّ على أن المبادرة التي نهاهم عنها هي المبادرة الواقعة في الصلاة قبل توجّهه إليه.
وأما الانصراف الذي يكون بعد السلام، فيجوز قبل الإمام، إلا إذا كان
هناك نساء، فيتأخّر مع الإمام حتى ينصرفن إلى بيوتهنّ قبل الاختلاط بالرجال.
وقد أخرج الطبرانيّ في "المعجم الكبير" بإسناد رجاله ثقات، عن أبي الأحوص، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"إذا كنت خلف الإمام، فلا تركع حتى يركع، ولا تسجد حتى يسجد، ولا ترفع رأسك قبله، وإذا فرغ الإمام، ولم يقم، ولم ينحرف، وكانت لك حاجة فاذهب، ودَعْهُ، فقد تمّت صلاتك". انتهى
(1)
.
وقد استوفيت هذا البحث في "شرح النسائيّ" في باب "جلسة الإمام بين التسليم والانصراف"(77/ 1333) فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبقهم إياه بالانصراف، فقد ذهب الحسن والزهريّ إلى أن حقّ المأموم أن لا ينصرف حتى ينصرف الإمام؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، والجمهور على خلافهما؛ لأن الاقتداء بالإمام قد تمّ بالسلام من الصلاة، ورأوا أن ذلك كان خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك من باب قوله تعالى:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]، فإنه قد يَحتاج إلى مكالمتهم في أمور الدين، ومراعاة المصالح والآراء، واللَّه أعلم.
ويَحْتَمِل أن يريد بالانصراف المذكور التسليم، فإنه يقال: انصرف من الصلاة، أي سلَّم منها، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حمله على التسليم هو الظاهر؛ لما أسلفته آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي) وفي رواية النسائيّ: "من أمامي"(وَمِنْ خَلْفِي") أي رؤية حقيقيّةً، أعطاه اللَّه تعالى إياها آية بيّنة على نبوّته، وقد تقدّم أقوال العلماء في معنى هذه الرؤية في الباب الماضي، فراجعه.
وقال ابن الملك رحمه الله: إنما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الأَمَامَ مع الخلف؛ إشارةً إلى
(1)
راجع: "مجمع الزوائد" للحافظ الهيثميّ 2/ 78 - 79.
(2)
"المفهم" 2/ 58 - 59.
أن رؤيته من خلفه كرؤيته من قُدّامه، ولعلّ هذه الحالة تكون حاصلة له في بعض الأوقات حين تغلب عليه جهة مَلَكيّته دون بشريّته؛ لأنه عليه السلام قال:"إنما أنا بشر أَنْسَى كما تنسون". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "جهة ملكيّته" محلّ تأمل، واللَّه تعالى أعلم.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد للَّه عز وجل على ما يليق بجلاله (لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ)"ما" موصولة، وعائد الصلة محذوفٌ، والتقدير: لو رأيتم الذي رأيته، أي من عظيم قدرة اللَّه تعالى، وشدّة انتقامه من أهل الإجرام.
(لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا) منصوب على أنه صفة لمفعول مطلق محذوف، أي ضحكًا قليلًا، ويحتمل أن يكون صفة ظرف محذوف: أي زمنًا قليلًا، والأول أظهر.
قيل: معنى القلّة هنا العدم، والتقدير: لتركتم الضحك، ولم يقع منكم إلا نادرًا؛ لغلبة الخوف، واستيلاء الحزن عليكم (وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا") وإعرابه كسابقه، أي بكيتم بكاءً كثيرًا، أو زمنًا كثيرًا؛ خوفًا من عذاب اللَّه تعالى، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: لو رأيتم من سعة رحمة اللَّه وحلمه، وغير ذلك ما رأيت لتركتم الضحك وبكيتم على ما فاتكم من ذلك.
(قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)"ما" استفهاميّة، مفعول مقدّم وجوبًا؛ لكونه اسم استفهام، ويحتمل أن تكون مبتدأ، و"رأيت" خبرها بتقدير الرابط، أي أيُّ شيء رأيته؛ والرؤية هنا بصريّة، ولذا تتعدّى إلى مفعول واحد (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ") هذه الرؤية أيضًا حقيقيّة، يعني أن الجنّة والنار سبب لكثرة البكاء، وقلّة الضحك، فالجنّة شوقًا إليها، وخوفًا من الحرمان منها، والنار خوفًا من الدخول فيها، والاحتراق بلهيبها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 966 و 967](426)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(3/ 83)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 102 و 126 و 154 و 217 و 245 و 290)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1715 و 1716)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1757 و 1758)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(954)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم مسابقة الإمام بالركوع، والسجود، والقيام، والسلام.
2 -
(ومنها): بيان حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشدّة عنايته في تحذير أمته مما يكون سببًا لهلاكها، وحثّهم على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وبالجملة فما من شيء فيه خير لهم إلا دلّهم عليه، وما من شيء فيه شرّ إلا حذّرهم منه، فظهر فيه مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
3 -
(ومنها): بيان ما خصّ اللَّه عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم من إطلاعه على المغيّبات، حتى الجنّة والنار.
4 -
(ومنها): الحثّ على قلّة الضحك، وكثرة البكاء؛ لأن هذا هو اللائق بالعاقل؛ إذ لا يدري ماذا يكون حاله في الآخرة: هل يكون من الفائزين بدخول الجنّة، أو يكون من الخاسرين بدخول النار؟ اللهم إنّا نسألك الجنّة، ونعوذ بك من النار آمين.
5 -
(ومنها): بيان أن الجنّة والنار مخلوقتان، قاله النوويّ رحمه الله.
[تنبيه]: من أغرب ما رأيته في هذا المحلّ من بعض شرّاح الكتاب
(1)
إنه كتب هنا ردًّا على استنباط النوويّ المذكور كلامًا خطيرًا، حيث قال: إن قلنا: الرؤية بصريّة، يَحْتَمِل أنهما صُوّرتا له صلى الله عليه وسلم، فرآهما، ومن فيهما من المنعّمين والمعذّبين في عُرْض الحائط كما نرى شاشة التلفزيون بتصوير ما سيكون في
(1)
هو الدكتور موسى شاهين، صاحب كتاب "فتح المنعم".
صورة ما هو كائن، فليس فيه دليلٌ على أن الجنّة والنار موجودتان، كما استدلّ به النوويّ، وإن قلنا: إن الرؤية علميّة سقط الاستدلال من أساسه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر كلامه هذا يدلّ على أنه ممن لا يؤمن بوجود الجنّة والنار، كما يفيده تشبيهه بما يشاهَدُ في التلفزيون مما سيكون. . . إلخ، وهذا خطر عظيم، فإن هذا من عقائد الفرق الضالّة، فكيف يصدر مثل هذا ممن يتولّى شرح "صحيح مسلم"، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، وإنما نبّهت عليه لعِظَم خطره؛ لأن الناس كثيرًا ما يغترّون بمثل هذا الكلام، ولا سيّما إذا صدر من الدكاترة، فلا حول ولا قوّة إلا باللَّه العزيز الحكيم، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في بطلان من سابق إمامه في أفعال الصلاة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في صلاة من خالف الإمام في صلاته، فقالت طائفة: لا صلاة له، روي هذا القول عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا تبادروا أئمتكم الركوع ولا السجود، فإن سبق أحد منكم، فليضع قدر ما سبق به. وممن رأى أن يرجع راكعًا أو ساجدًا إذا رفع رأسه قبل الإمام: مالك بن أنس، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقال الأوزاعيّ: فليُعد رأسه، فإذا رفع الإمام رأسه فليمكث بعده بقدر ما نزل، وكان أبو ثور يقول: إذا ركع قبل الإمام، فأدركه الإمام، وهو راكع، ويسجد قبله، فقد أساء ويجزيه، وحُكي عن الشافعيّ أنه قال: يجزيه، وأكرهه، وقال سفيان الثوريّ فيمن ركع قبل الإمام: ينبغي أن يرفع رأسه، ثم يركع، قيل له: أيُعيد؟ قال: ومن يسلم من هذا؟. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد اختلف العلماء فيمن تعمّد رفع رأسه قبل إمامه في ركوعه أو سجوده، هل تبطل صلاته أم لا؟ وفيه وجهان
(1)
"الأوسط" 4/ 190 - 192.
لأصحابنا -يعني الحنبليّة- وأكثرهم على البطلان، ورُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": الجمهور على أن فاعله يأثم، وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر؛ بناءً على أن النهي يقتضي الفساد، وفي "المغني": عن أحمد أنه قال في "رسالته": ليس من سَبَقَ الإمام صلاةٌ؛ لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لَرَجى له الثوابَ، ولم يَخْشَ عليه العقاب. انتهى
(2)
.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: وفرض على كل مأموم أن لا يرفع، ولا يركع، ولا يسجد، ولا يكبّر، ولا يقوم، ولا يسلم قبل إمامه، ولا مع إمامه، فإن فعل عامدًا بطلت صلاته، لكن بعد تمام كل ذلك من إمامه، فإن فعل ذلك ساهيًا فليرجع، ولا بُدّ حتى يكون ذلك كله منه بعد كل ذلك من إمامه، وعليه سجود السهو.
قال: وبه قال السلف، رَوَينا عن أبي هريرة رحمه الله أنه قال: إن الذي يرفع رأسه قبل الإمام، ويخفض قبله، فإن ناصيته بيد شيطان، وعن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: ما يُؤَمِّن الرجل إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يعود رأسه رأس كلب، وعنه قال: لا تبادروا أئمتكم بالسجود، فإن سبقكم من ذلك شيء، فليضع أحدكم رأسه كقدر ما سَبَق. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل هذا حرفًا حرفًا.
قال ابن حزم: لا وعيد أشدّ من المسخ في صورة كلب أو حمار -يعني المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي-، ولا عقوبة أعظم من إسلام ناصية المرء إلى يد الشيطان، والمعصية المحرِّمة المبعِدة من اللَّه تعالى، لا تنوب عن الطاعة المفترضة المقرِّبة منه عز وجل. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن عمر رضي الله عنهما، ونُقل عن الإمام أحمد رحمه الله، من بطلان صلاة من سابق إمامه، وعزاه ابن حزم إلى السلف، هو
(1)
"فتح الباري" 6/ 167 لابن رجب.
(2)
"الفتح" 2/ 215.
(3)
"المحلّى" 4/ 61 - 62.
الراجح عندي؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[967]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ جَمِيعًا، عَنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ في حَدِيثِ جَرِيرٍ:"وَلَا بِالِانْصِرَافِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرِ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(ابْنُ فُضَيْل) هو: محمد بن فُضَيل بن غَزْوَان الضّبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه ولا حقه، وهو (48).
وقوله: (جَمِيعًا، عَنِ الْمُخْتَارِ) يعني أن كلًّا من جرير، وابن فُضيل رويا عن المختار بن فُلْفُل.
وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي بحديث أنس الماضي.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد لم أر من أخرجها، وأما رواية محمد بن فُضيل، فقد أخرجها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(11559)
حدّثنا محمد بن فضيل، حدّثنا المختار بن فُلْفُل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وقد انصرف من الصلاة، فأقبل
إلينا، فقال:"يا أيها الناس إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالقعود، ولا بالانصراف، فإني أراكم من أمامي، ومن خلفي، وايم الذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت، لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا"، قالوا: يا رسول اللَّه، وما رأيت؟ قال:"رأيت الجنة والنار". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[968]
(427) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ خَلَفٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ، أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَام) بن ثَعْلَب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختياراتٌ في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلّم فيه أحدٌ بحجة [10](234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
4 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْد) بن دِرْهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، وهو (49) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: خلف، وأبي الربيع، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة روايةً للحديث، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ) الْجُمَحيّ، أنه قال (حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ) كذا في هذه الرواية، وفي الرواية التالية: "ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام. . . "، وفي رواية البخاريّ: "أما يخشى أحدكم، أو ألا يخشى أحدكم" بالشكّ.
و"أما" -بتخفيف الميم-: حرف استفتاح، مثل "ألا"، وأصلها "ما" النافية، دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو هنا استفهام إنكار وتوبيخ، و"يخشى" بمعنى يخاف، لفظه خبرٌ، ومعناه النهي، قاله الصنعانيّ رحمه الله
(1)
.
وزيادة "في صلاته" المذكورة آنفًا تدلّ على أن المسابقة المنهيّ عنها عامّة في جميع أجزاء الصلاة.
ووقع في رواية أبي داود، عن حفص بن عمر:"الذي يرفع رأسه، والإمام ساجد"، فقال في "الفتح": فتبيّن أن المراد الرفع من السجود، ففيه تعقّب على من قال: إن الحديث نصّ في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معًا، وإنما هو نصّ في السجود، ويلتحق به الركوع؛ لكونه في معناه، ويمكن أن يُفَرَّق بينهما بأن السجود له مزيد مزية؛ لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه؛ لأنه غاية الخضوع المطلوب منه، فلذلك خُصّ بالتنصيص عليه.
ويَحْتَمِل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم، إذا كان للمذكور مزية، وأما التقدم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود، فقيل: يَلْتَحِق به من بابٍ أولى؛ لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دلّ الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة، فأولى أن يجب فيما هو مقصد.
(1)
"العدّة" حاشية "العمدة" 2/ 233.
ويمكن أن يقال: ليس هذا بواضح؛ لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، ودخول النقص في المقاصد أشدّ من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديث آخر، أخرجه البزار من رواية مَلِيح بن عبد اللَّه السعديّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"الذي يَخفِض ويرفع قبل الإمام، إنما ناصيته بيد شيطان"، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفًا، وهو المحفوظ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله في "الفتح" من إلحاق الركوع والسجود، وأنه لا يشمله النصّ المذكور غير سديد، بل الظاهر أنه يشمله، ويقوّي ذلك زيادة "في صلاته" في الرواية الآتية، ويؤيّده حديث أنس رضي الله عنه المذكور قبله:"فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، وبالقيام، ولا بالانصراف".
ومن الغريب أن يحتجّ على هذا برواية البزّار المختلف في رفعها ووقفها، مع أن حديث أنس رضي الله عنه أصرح في النهي، وهو عند مسلم.
والحاصل أن أحاديث الباب وغيرها تدلّ دلالة صريحة على أن المسابقة في جميع أجزاء الصلاة محرّمة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ) من التحويل (رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ") وفي رواية محمد بن زياد التالية: "أن يحوّل اللَّه صورته صورة حمار"، وفي رواية الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد الآتية أيضًا:"أن يجعل اللَّه وجهه وجه حمار".
ووقع في رواية البخاريّ: "أن يجعل اللَّه رأسه رأس حمار، أو يجعل اللَّه صورته صورة حمار" بالشكّ، قال في "الفتح": الشك من شعبة، فقد رواه الطيالسيّ، عن حماد بن سلمة، وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد، ومسلم من رواية يونس بن عبيد، والربيع بن مسلم، كلهم عن محمد بن زياد بغير تردّد، فأما الحمّادان فقالا:"رأس"، وأما يونس فقال:"صورة"، وأما الربيع فقال:"وجه"، والظاهر أنه من تصرف الرواة.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس، ومعظم الصورة فيه، قال الحافظ رحمه الله: لفظ الصورة يُطلق على الوجه أيضًا، وأما الرأس فرواتها أكثر، وهي أشمل فهي المعتمدة، وخُصّ وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجناية، وهي أشمل.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه الروايات متقاربة إذا أريد بالصورة الوجه، فإن أريد بها الصفة انصرفت إلى الصفة الباطنة من البلادة، ومقصود هذا الحديث الوعيدُ بمسخ الصورة الظاهرة، أو الباطنة على مسابقة الإمام بالرفع، وهذا يدلّ على أن الرفع من الركوع والسجود مقصود لنفسه، وأنه ركن مستقلّ، كالركوع والسجود.
قال: وقوله في الحديث الآخر: "فإنما ناصيته بيد شيطان"
(1)
يعني أنه قد تمكّن منه بجهله، فهو يصرفه كيف يشاء، كما تفعل بمن ملكتَ ناصيته. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تمام ما قاله العلماء في معنى التحويل المذكور في هذا الحديث في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.
[تنبيه]: إنما اختصّ الحمار بالذكر دون سائر الحيوان على الرواية الصحيحة المشهورة -واللَّه أعلم- لأن الحمار من أبلد الحيوانات وأجهلها، وبه يُضرب المثل في الجهل والبلادة، ولهذا مثّل اللَّه تعالى العالم السَّوْءَ الذي يَحمِل العلم، ولا ينتفع به في قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الآية [الجمعة: 5]، فكذلك المتعبّد بالجهل يشبه الحمار، فإن الحمار يُحرّك رأسه، ويرفعه، ويَخفِضه لغير معنى.
والحاصل أن مشابهة من يسابق إمامه بالحمار في البلادة، وعدم الفهم واضحة؛ لأن من يعلم أنه لا يخرج من تلك الصلاة إلا بخروج إمامه منها، ومع ذلك يسابقه، قد بلغ الغاية من البلادة والحماقة، فناسب بذلك أن يجعل اللَّه رأسه رأس حمار؛ لشبهه به
(3)
، وقد قالوا: إن العقوبة تكون من جنس الجناية والذنب، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
أخرجه الإمام مالك رحمه الله في "الموطّأ"(194) عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن مَلِيح بن عبد اللَّه السعديّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:"الذي يرفع رأسه، ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد شيطان". انتهى، ومليح بن عبد اللَّه وثّقه ابن حبّان.
(2)
"المفهم" 2/ 59 - 60.
(3)
راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 546 - 547.
[تنبيه آخر]: جاء في "صحيح ابن حبّان" في هذا الحديث بلفظ: "أن يحوّل اللَّه رأسه رأس كلب"، وقال ابن الملقّن رحمه الله: وروى ابن جُمَيع
(1)
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: "أنه يحول اللَّه رأسه رأس شيطان". انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ": قال الحافظ أبو موسى المدينيّ رحمه الله: اتّفق الأئمة على ثبوت هذا الحديث من هذا الطريق، رواه عن محمد بن زياد قريبٌ من خمسين نفسًا، وبعضهم يقول:"صورته"، وبعضهم يقول:"وجهه"، ومنهم من قال:"رأس كلب، أو خنزير"، وتابع محمد بن زياد جماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى
(3)
.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: هذا الحديث رواه مع أبي هريرة عائشة، وابن عمر، وابن عبّاس، وأنس، وحذيفة بن اليمان، كما أفاده ابن منده في "مستخرجه"
(4)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 968 و 969 و 970](427)، و (البخاريّ) في "الأذان"(691)، و (أبو داود) في "الصلاة"(623)، و (الترمذيّ) فيها (582)، و (النسائيّ) فيها (828) و"الكبرى"(902)، و (ابن ماجه) فيها (961)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2490)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 260 و 456 و 469 و 472 و 504)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 302)،
(1)
أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد، صاحب "المعجم"(305 هـ) ومات سنة (402 هـ).
(2)
"الإعلام" 2/ 547.
(3)
"فتح الباري" للحافظ ابن رجب 6/ 166.
(4)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 545.
و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1600)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2282)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 93)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1709 و 1710 و 1711 و 1712 و 1713 و 1714)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(955 و 956 و 957 و 958)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه دليلًا صريحًا على تحريم سبق الإمام بركوع، أو سجود، أو غير ذلك من أجزاء الصلاة عمدًا، فقد توعّد عليه بالمسخ، وهو من أشدّ العقوبات.
ونظر ابن مسعود رضي الله عنه إلى من سبق إمامه، فقال: لا وحدك صلّيت، ولا بإمامك اقتديت، وعن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وأمره بالإعادة، وفي "مصنّف عبد الرزّاق" عن أبي هريرة رضي الله عنه:"إن الذي يرفع رأسه قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان"، وكذا قاله سلمان رضي الله عنه.
وقال في "الفتح": ظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام؛ لكونه تُوُعِّد عليه بالمسخ، وهو أشدّ العقوبات، وبذلك جزم النوويّ في "شرح المهذب"، ومع القول بالتحريم، فالجمهور على أن فاعله يأثم، وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر؛ بناءً على أن النهي يقتضي الفساد، وفي "المغني" عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس من سبق الإمام صلاةٌ؛ لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرُجِي له الثواب، ولم يُخْشَ عليه العقاب. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح ما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنهما، والإمام أحمد، وأهل الظاهر، كما أسلفت تحقيقه في المسألة الرابعة في شرح حديث أنس رضي الله عنه الماضي، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): بيان الوعيد المذكور من رفع رأسه قبل الإمام، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله على هذا الحديث بقوله:"باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام".
3 -
(ومنها): أن فيه التهديد على المخالفة خشية وقوعها.
4 -
(ومنها): وجوب متابعة الإمام، قال القاضي عياضٌ: لا خلاف أن متابعة الإمام من سنن الصلاة.
5 -
(ومنها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته حيث بيّن لهم الأحكام، وما يترتّب على المخالفة من العقاب.
6 -
(ومنها): ما قال أبو بكر ابن العربيّ رحمه الله في "الْقَبس": جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الشيطان مسلّط على الإنسان لإفساد صلاته عليه قولًا بالوسوسة حتى لا يدري كم صلّى؟ وفعلًا بالتقدّم على الإمام حتى يُخلّ بالاقتداء، فأما الوسوسة فدواؤها الذكر، والإقبال على الصلاة، وأما التقدّم فعلّته طلب الاستعجال، ودواؤها أن يَعْلَم أنه لا يُسلّم قبل الإمام، فلا يستعجل في هذه الأفعال. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن الملقّن: هذا الحديث دالّ بمنطوقه على عدم المسابقة، وبمفهومه على جواز المقارنة، ولا شكّ فيه، لكن يكره، ويفوت به فضيلة الجماعة، نعم تضرّ مقارنته في تكبيرة الإحرام، هذا في الأفعال، وأما في الأقوال فإنه يتابعه فيها، فيتأخّر ابتداؤه عن ابتداء الإمام إلا في التأمين، فتستحبّ المقارنة؛ للنصّ فيه، وحكى القاضي عن مالك ثلاثة أقوال: أحدها: عقبه، ثانيها: بعد تمامه، ثالثها: معه إلا القيام من اثنتين فبعد تمامه. انتهى كلامه
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: فيما قاله ابن الملقّن من دلالة الحديث على جواز المقارنة نظر لا يخفى، كيف يحتجّ بالمفهوم مع ورود المنطوق على خلافه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه المصنّف من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وقد سبق:"فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم"، وقال:"فتلك بتلك"، وقال في السجود كذلك.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والبيهقيّ بأسانيد صحيحة، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تبادروني بركوع، ولا بسجود، فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت، تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدنت".
فقد نصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصرّح على أن أفعال المأموم تقع بعد أفعال الإمام،
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 2/ 551 - 552.
(2)
"الإعلام" 2/ 552.
فلا يجوز للمأموم أن يسابقه، ولا أن يقارنه، وهذا معنى الأمر الذي في قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا ركع فاركعوا. . . " الحديث، فتكون أفعال المأموم كلّها إثر تحقّق أفعال الإمام، فمن خالف ذلك فقد خالف الأمر، فإن تعمّد فلا صلاة له، وإن كان ساهيًا، فليعُد إلى المتابعة.
وبهذا يتبيّن أن ما يفعله كثير من الناس من المقارنة للإمام في الانتقالات، مستندين إلى ما قاله بعض العلماء ممن لم تبلغهم هذه الأحاديث مخالف لهدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وطاعةٌ للشيطان، فما أقبح ذلك، ولا سيّما إذا صدر ممن يدّعي الانتساب إلى العلم، واللَّه المستعان على من خالف الهدى، وسلك سبيل الردى، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه العزيز الحكيم.
[تنبيه]: قال ابن بزيزة رحمه الله: استَدَلّ بظاهر هذا الحديث قوم لا يعقلون على جواز التناسخ
(1)
، قال الحافظ: وهو مذهب رديءٌ، مبنيّ على دعاوى بغير برهان، والذي استَدَلّ بذلك منهم إنما استَدَلّ بأصل المسخ، لا بخصوص هذا الحديث. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى الوعيد المذكور في هذا الحديث:
(اعلم): أنهم اختلفوا فيه، فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنويّ، فإن الحمار موصوف بالبلادة، فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه، من فرض الصلاة، ومتابعة الإمام، ويرجح هذا المجازيّ أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدلّ على أن ذلك يقع ولا بدّ، وإنما يدل على كون فاعله متعرِّضًا لذلك، وكون فعله ممكنًا لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
وقال ابن بزيزة رحمه الله: يَحْتَمِل أن يراد بالتحويل المسخ، أو تحويل الهيئة الحسية، أو المعنوية، أو هما معًا.
(1)
التناسخ: تعلّق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر بغير تخلّل زمن بين التعلّقين، قاله في "التوقيف على مهمّات التعريف"(ص 208).
(2)
"الفتح" 2/ 216.
وحمله آخرون على ظاهره؛ إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك.
قال الحافظ رحمه الله: ويدلّ على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة: ما أخرجه البخاريّ في "المغازي" من "صحيحه" من حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الْحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف
(1)
، ولَيَنْزِلَنَّ أقوام إلى جنب عَلَم يَرُوح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فَيُبَيِّتُهُم اللَّه، ويَضَعُ العَلَم، ويَمْسَخ آخرين قِرَدةً وخنازير إلى يوم القيامة".
وأخرج أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن عبد الرحمن بن صُحَار
(2)
العبديّ، عن أبيه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقوم الساعة حتى يُخسَف بقبائل، حتى يقال: من بَقِي من بني فلان؟ "، فعرفت حين قال: قبائل أنها العربُ؛ لأن العجم إنما تُنسَب إلى قراها.
وأخرج الترمذيّ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الأمة خسف، ومسخ، وقَذْف". قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم إذا ظهر الخبث"
(3)
.
وأخرج أيضًا بإسناد صحيح، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"في هذه الأمة خسفٌ، ومسخ، وقذف"، فقال رجل من المسلمين: يا رسول اللَّه، ومتى ذاك؟ قال:"إذا ظهرت القينات والمعازف، وشُربت الخمور"، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة.
قال الحافظ رحمه الله: ويقوّي حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه آخر، عن محمد بن زياد:"أن يُحَوِّل اللَّه رأسه رأس كلب"، فهذا يُبعد المجاز؛ لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار.
(1)
"الْحِرُ" بكسر الحاء، وتخفيف الراء: الفرج، و"المعازف": آلات اللَّهو، كالعود، والطنبور، أفاده في "القاموس".
(2)
بمهملتين أوله مضموم مع التخفيف، قاله في "الفتح" 8/ 142.
(3)
في سنده عبد اللَّه بن عمر العمري المكبر ضعّفه بعضهم، لكن الحديث صحيح بشواهده.
ومما يبعده أيضًا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل، وباللفظ الدالّ على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلًا: فرأسه رأس حمار.
قال: وإنما قلت ذلك؛ لأن الصفة المذكورة، وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له: يُخْشَى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدًا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة.
وقال ابن الجوزي رحمه الله في الرواية التي عَبّر فيها بالصورة-: هذه اللفظة تَمنَع تأويل من قال: المراد رأس حمار في البلادة، ولم يبيِّن وجه المنع، قاله في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[969]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ، أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ فِي صُورَةِ حِمَارٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار الْعَبديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقون تقدّموا قريبًا، فـ "عمرو الناقد" و"زهير" تقدّما قبل باب، والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (مَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ. . . إلخ)"ما"
(1)
"الفتح" 2/ 215 - 216.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
يَحْتَمل أن تكون نافية، أي لا يأمن تحويل صورته في صورة حمار، ويَحْتَمِلُ أن تكون استفهاميّة، أي أيَّ شيء يامن في تحويل اللَّه عز وجل صورته في صورة حمار، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[970]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمِ، جَمِيعًا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، غَيْرَ أَنَّ في حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ:"أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ
(1)
الْجُمَحِيُّ) مولاهم، أبو حرب البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(م) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ) هو: عبد الرحمن بن بكر بن الربيع بن مسلم الْجُمَحيّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 230).
رَوَى عن أبيه، وجدّه، وسهل بن قُرَين، ومحمد بن حُمْران الْقَيسيّ، وأبي المغيرة النضر بن إسماعيل.
وروى عنه المصنّف هذا الحديث فقط، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وعثمان بن خُرَّزاذ، وتمتام، ومعاذ أبو المثنى، وأبو خليفة، وغيرهم.
قال أبو حاتم: محلُّه الصدق، يُحَدِّث عن جدِّه أحاديث صحاحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال أبو القاسم البغويّ: مات سنة ثلاثين ومائتين.
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
(1)
بتشديد اللام.
3 -
(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 167)(م د ت س) تقدم في "المقدمة" 100/ 526.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
5 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
6 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم في الباب الماضي.
7 -
(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
8 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون تقدّموا في الباب.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ) أي كلٌّ من الربيع بن مسلم، وشعبة، وحماد بن سلمة رووا هذا الحديث عن محمد بن زياد.
وقوله: (بِهَذَا) أي بهذا الحديث المتقدّم.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِم. . . إلخ) بنصب "غير" على الاستثناء.
[تنبيه]: رواية الربيع بن مسلم، أخرجها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 462) فقال:
(1714)
حدثني الفضل بن الحباب الْجُمَحيّ، قال: سمعت عبد الرحمن بن بكر بن الربيع بن مسلم، يقول: سمعت الربيع بن مسلم، يقول: سمعت محمد بن زياد، يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يُحَوِّل اللَّه رأسه رأس حمار".
وكذا ساقه بهذا اللفظ أيضًا أبو نعيم في "المستخرج" 2/ 52 رقم (957)، وأما اللفظ الذي أحاله المصنّف رحمه الله، فلم أجد من ساقه به، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وأما رواية شعبة، فساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(691)
حدّثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، سمعت أبا هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أما يخشى أحدكم -أو- لا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل اللَّه رأسه رأس حمار، أو يجعل اللَّه صورته صورة حمار". انتهى.
وأما رواية حماد بن سلمة، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(9723)
حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام، أن يُحَوِّل رأسه رأس حمار". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(27) - (بَابُ النَّهْي عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[971]
(428) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل بابين.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان تقدّم قبل بابين.
5 -
(الْمُسَيَّبُ) بن رافع الأسديّ الكاهليّ، أبو العلاء الكوفيّ الأعمى، ثقة [4](ت 105)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
6 -
(تَمِيمُ بْنُ طَرَفَةَ) -بفتح الطاء المهملة، والراء- الطائيّ الْمُسْليّ -بضم الميم، وسكون السين المهملة- الكوفيّ، ثقة [3].
رَوَى عن جابر بن سَمُرة، وعديّ بن حاتم، وابن أبي أوفى، والضحاك بن قيس.
وروى عنه سماك بن حرب، والمسيَّب بن رافع، وعبد العزيز بن رُفيع، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، وقال الشافعيّ: تميم بن طَرَفة مجهول، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ مأمونٌ، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات".
وقال أبو حَسّان الزياديّ، وغيره: مات سنة (94)، وقال ابن أبي عاصم: سنة (95)، وقال ابن قانع: تُوُفّي سنة (93)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ثلاث، أو أربع وتسعين.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (428) و (435) و (870) و (1651) وأعاده أربع مرات.
[تنبيه]: "الْمُسْلِيّ" بضم الميم، وسكون المهملة: نسبة إلى مُسلية قبيلة من مَذْحِج، ومَحِلّة لهم بالكوفة، قاله في "لبّ اللباب"
(1)
.
7 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وتميم، فما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
(1)
"لبّ اللباب" 2/ 256.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.
4 -
(ومنها): أن شيخه أبا كريب ممن اتّفق أصحاب الكتب الستة في الرواية عنه بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن ثلاثة منهم مشهورون بالكنية.
6 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن المسيّب، عن تميم.
7 -
(ومنها): أن "الْمُسيَّب بن رافع" بفتح الياء المشدّدة، بصيغة اسم المفعول، وكذا كلّ الْمُسَيَّبِ، سوى والد سعيد بن المسيّب، ففيه وجهان: الكسر، والفتح، والكسر أوَلى، كما تقدّم غير مرّة، قال السيوطيّ في "ألفيّة الحديث":
كُلُّ مُسَيَّبٍ فَبِالْفتْحِ سِوَى
…
أَبِي سَعِيدٍ فَلِوَجْهَيْنِ حَوَى
وقلت مذيِّلًا عليه:
قُلْتُ وَكَسْرُهُ أَحَقُّ إِذْ أَتَى
…
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهِ فَثَبَتَا
وَعَنْ سَعِيدٍ كُرْهُهُ الْفَتْحَ وَرَدْ
…
بَلْ قِيلَ قَدْ دَعَا عَلَى مَنِ اعْتَمَدْ
فَابْعُدْ عَنِ الْفَتْحِ تَكُنْ مُجَانِبَا
…
دُعَاءَهُ وَنِعْمَ هَذَا مَطْلَبَا
واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ) اللام هي الموطّئة للقسم المقدَّر، أي: واللَّه لينتهينّ، والفعل مبنيّ للفاعل، و"أقوام" مرفوع على الفاعليّة، وجملة:(يرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ) في محلّ رفع صفة لـ "أقوام"(فِي الصَّلَاةِ) متعلّق بـ "يرفعون"، أو بحال مقدّر من الفاعل، أي حال كونهم كائنين في الصلاة.
ويأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بزيادة: "عند الدعاء"، فإن حُمِل المطلق على المقيّد اقتضى اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حمله على إطلاقه هو الظاهر، وقد أخرجه ابن ماجه، وابن حبان من حديث ابن عمر بغير تقييد، ولفظه: "لا ترفعوا أبصاركم
إلى السماء" يعني في الصلاة، وأخرجه بغير تقييد أيضا الطبرانيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ، وكعب بن مالك، وأخرج ابن أبي شيبة من رواية هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين: "كانوا يَلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]، فأقبلوا على صلاتهم، ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده"، ووصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال في آخره: "فطأطأ رأسه"، قاله في "الفتح"
(1)
.
وإلى حمله على إطلاقه ذهب القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، حيث قال: وهذا وعيدٌ بإعماء من رفع بصره إلى السماء في الصلاة، ولا فرق بين أن يكون عند الدعاء، أو عند غيره؛ لأن الوعيد إنما تعلّق به من حيث إنه إذا رفع بصره إلى السماء أعرض عن القبلة، وخرج عن سَمْتها، وعن هيئة الصلاة، وقد نقل بعض العلماء الإجماع على النهي عن ذلك في الصلاة، وحَكَى الطبريّ كراهة رفع البصر في الدعاء إلى السماء في غير الصلاة، وحُكي عن شُرَيح أنه قال من رآه يفعله: اكفُفْ يديك، واخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيس، واللَّه تعالى أعلم.
(أَوْ لَا) نافية، ولذا رفع قوله:(تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) الفاعل ضمير "أبصارهم"، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه التالية:"أو لتُخطفنّ أبصارهم"، أي لتُسلبنّ أبصارهم بسرعة.
و"أو" هنا للتخيير، نظير قوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، وإما الإسلام، وهو خبر في معنى الأمر، قاله في "الفتح".
والمعنى أن أحد الأمرين واقع لا محالة، إما الانتهاء، وإما عدم رجوع أبصارهم إليهم؛ عقوبةً من اللَّه عز وجل لهم.
قال في "الفتح": واختُلِف في المراد بذلك، فقيل: هو وعيد، وعلى هذا فالفعل المذكور حرام، وأفرط ابن حزم، فقال: يُبْطِل الصلاة، وقيل: المعنى
(1)
"الفتح" 2/ 273.
(2)
"المفهم" 2/ 60.
أنه يُخْشَى على الأبصار من الأنوار التي تنزل بها الملائكة على المصلين، كما في حديث أُسَيد بن حُضَير رضي الله عنهما الآتي في "فضائل القرآن" -إن شاء اللَّه تعالى- أشار إلى ذلك الداوديّ، ونحوه في "جامع حماد بن سلمة"، عن أبي مِجْلَز، أحدِ التابعين.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، وقد نُقِلَ الإجماعُ في النهي عن ذلك.
وقال القاضي عياض رحمه الله: واختلفوا في كراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة، فكرهه شُرَيح، وآخرون، وجوَّزه الأكثرون، وقالوا: لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ولا يُنكَر رفع الأبصار إليها، كما لا يكره رفع اليد، قال اللَّه تعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22]. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لأن السماء قبلة الدعاء" فيه نظر لا يخفى؛ إذ الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يستقبل القبلة عند الدعاء، ولم يُنقل عنه أنه كان يتوجّه في الدعاء إلى السماء، وتشبيهه برفع اليد غير صحيح؛ لأن رفع اليد في الدعاء ثبت في النصوص الصحيحة، وأما رفع البصر إلى السماء في الدعاء فلم يَرِد، وأما الآية فليس فيها بيان كون السماء قبلةً للدعاء، كما لا يخفى على بصير.
والحاصل أن السنّة في الدعاء هو التوجّه إلى القبلة، لا إلى السماء، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: تفرّد المصنّف رحمه الله بإخراج هذا الحديث من حديث جابر بن سمرة، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وتفرّد البخاري بإخراجه من حديث أنس رضي الله عنه، فقال:
(750)
حدّثنا عليّ بن عبد اللَّه، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، قال:
حدّثنا ابن أبي عروبة، قال: حدّثنا قتادة، أن أنس بن مالك حدّثهم، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم"، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال:"لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم".
وقوله: "لَيُنْتَهَيَنَّ" كذا للمستملي، والحمويّ -بضم الياء، وسكون النون، وفتح المثناة والهاء والياء، وتشديد النون- على البناء للمفعول، والنون للتأكيد، وللباقين:"لَيَنْتَهُنَ" -بفتح أوله، وضم الهاء- على البناء للفاعل، قاله في "الفتح"
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 971](428)، و (أبو داود) في "الصلاة"(912)، و (ابن ماجه) فيها (1045)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 143)، و (أحمد) في "مسنده"(19921 و 19960 و 20006 و 20134)، و (الدارميّ) في "سننه"(1268)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 201)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 401)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(959)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم رفع الأبصار إلى السماء في الصلاة، وأما رفع البصر في الدعاء خارج الصلاة فمكروه؛ لمخالفته هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في غير حديث أنه كان يستقبل القبلة في الدعاء، فلا ينبغي مخالفة هديه.
وأما رفعه في غير الدعاء فجائز؛ لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع بصره إلى السماء، كما في "الصحيحين" من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما حين بات عند خالته ميمونة رضي الله عنها، فقد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم قام من الليل، فخرج، فنظر إلى السماء، ثم تلا هذه الآية في آل عمران:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيات [آل عمران: 190]، وحديث بدء الوحي:"بينا أنا أمشي إذ سمعت من السماء صوتًا، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ. . . " الحديث، متّفقٌ عليه، وغير ذلك من الأحاديث التي تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء، ولكن أكثر نظره كان إلى الأرض، كما ذكره الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة" بقوله:
(1)
2/ 273.
نَظَرُهُ لِلأَرْضِ مِنْهُ أَكْثَرُ
…
إِلَى السَّمَاءِ خَافِضٌ إِذْ يَنْظُرُ
2 -
(ومنها): بيان الوعيد الشديد من رفع بصره إلى السماء في الصلاة بعدم رجوع بصره إليه.
3 -
(ومنها): تغليظ القول في زجر مرتكب المنكرات؛ ليرتدع عن ذلك.
4 -
(ومنها): بيان أنه ينبغي سلوك مسلك الرفق عند زجر مرتكب المنكرات بعدم التصريح بذكر اسمه عند زجره، بل يكون بالإجمال، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"لينتهينّ أقوام"، وفي الحديث الآخر:"ما بال أقوام"، وذلك لئلا يكون فضيحة للشخص المرتكب؛ إذ ربّما يحمله ذلك على عدم قبول النصح، أو ارتكاب ما هو أشدّ من ذلك، فينبغي من ينهى عن المنكر أن يسلك مسلك الستر ما أمكن، فإن ذلك أدعى لقبول قوله، والانتفاع بإرشاده، فكثير ممن يتصدّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسلكون هذا المسلك، فيُفسدون أكثر مما يُصلحون، وقد قال اللَّه تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [النحل: 125]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[972]
(429) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ
(1)
عِنْدَ الدُّعَاءِ، في الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 254)(م د س ق) تقدم في "الايمان" 34/ 239.
(1)
وفي نسخة: "عن رفع أبصارهم" بالإضافة.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
5 -
(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحْبيل بن حَسَنَة الْكِنديّ، أبو شُرَحبيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
6 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ) ابن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى الأعرج، وهو والصحابيّ مدنيّان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
وقوله: ("لَيَنتهِيَنَّ أَقْوَامٌ) ببناء الفعل للفاعل.
وقوله: (عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ) وفي بعض النسخ: "عن رفع أبصارهم" بإضافة "رفع" إلى "أبصار".
وقوله: (عِنْدَ الدُّعَاءِ) هذا التقييد بالدعاء لم يأت في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما الماضي، ولا في حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه البخاريّ، وظاهره أنه يقتضي أن النهي خاصّ في حالة الدعاء في الصلاة، لكن الأولى إجراؤه على العموم، فليس القيد به شرطًا في النهي؛ لكثرة الروايات بالإطلاق، ولأن سبب النهي منافاته الخشوع الذي هو المطلوب في الصلاة، فقد أمر لى اللَّه عليه وسلم -بالسكون في الصلاة، كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما الآتي في الباب التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقوله: (أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) ببناء الفعل للمفعول: أي لَتُسْلَبَنّ، والخطف هو السلب والأخذ بسرعة، قال تعالى:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20].
وقال الطيبيّ رحمه الله: "أو" هنا للتخيير تهديدًا، وهو خبر في معنى الأمر، أي ليكوننّ منكم الانتهاء عن رفع البصر، أو خطف الأبصار عند الرفع. انتهى.
وتمام شرح الحديث تقدّم في الحديث الماضي.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 972](429)، و (النسائيّ) في "السهو"(1276)، و (أحمد) في "مسنده"(8556 و 8446)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1199 و 3352)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(960)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(28) - (بَابُ الأَمْرِ بِالسُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ، وَالنَّهْي عَنِ الإِشَارَةِ بِالْيَدِ، وَإِتْمَامِ الصُّفُوفِ الأُوَلِ، وَالتَّرَاصِّ فِيهَا، وَالنَّهْي عَنِ التَّفَرُّقِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[973]
(430) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ، كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ؟ اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ"، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَرَآنَا حِلَقًا، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ " قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: "أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ").
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد هو الإسناد الذي تقدّم في الباب الماضي، وتكلّمنا عنه هناك، فلا حاجة إلى إعادته.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مِسْعر، عن عبيد اللَّه بن القبطيّة عن جابر رضي الله عنه التالية: "قال: كنّا إذا صلّينا مع
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه، وأشار بيده إلى الجانبين"، وفي رواية فُرات القزّاز، عن ابن القبطيّة الثالثة: "قال: صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكنّا إذا سلّمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم"، وفي رواية النسائيّ: "خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحنُ رافعو أيدينا في الصلاة" (فَقَالَ) عطف على مقدّر، أي فرآنا رافعي أيدينا، فقال منكرًا علينا ذلك الرفع ("مَا لِي) "ما" استفهاميّة مبتدأ، و"لي" جارّ ومجرور خبرها، والاستفهام هنا إنكاريّ، أَيْ أيُّ شيء ثبت لي؟.
وقوله: (أَرَاكُمْ) جملة حاليّة، والرؤية هنا بصريّة تتعدّى إلى مفعول واحد، أي حال كوني رائيًا لكم (رَافِعِي أَيْدِيكُمْ) بنصب "رافعي" على الحال؛ لأن "أرى" بصريّة، كما أسلفته آنفًا، و"رافعي" جمع مذكّر سالم مضاف إلى "أيديكم"، ولذا سقطت نونه للإضافة، كما قال في "الخلاصة":
نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا
…
مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَـ "طُورِ سِينَا"
وفي رواية مِسْعر الآتية: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "علام تومئون بأيديكم؟، كأنها أذناب خيل شُمُسٍ، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلّم على أخيه، مَنْ على يمينه وشماله"، وفي رواية فُرات القزّاز الآتية: فنظر إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمُس؟ إذا سلّم أحدكم، فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده"، وفي رواية النسائيّ:"فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة؟ ".
والمراد من رفع الأيدي رفعها عن الفخذ، والإشارة بها يمينًا وشمالًا، وجمع الأيدي لجمع أصحابها، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا، كأنه قال: ما لي أراكم رافعًا كلٌّ منكم يده، مشيرًا بالسلام؟.
(كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ)"الأذناب" بالفتح: جمع ذَنَب بفتحتين، قال الفيّوميّ: وذَنَبُ الفرس، والطائر وغيره: جمعه أَذنابٌ، مثلُ سَبَب وأسباب، والذُّنَابَى وزانُ الْخُزَامَى لغة في الذّنَبِ، ويقال: هو في الطائر أفصح من الذّنَب. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 210.
وقال في "القاموس": والذُّنَابَى، والذُّنُبَّى بضمّهما، والذِّنِبَّى بالكسر: الذَّنَبُ. انتهى
(1)
.
و"الخيل" -بفتح، فسكون-: جماعة الأفراس، لا واحد له، أو واحده خائل؛ لأنه يختال، جمعه أخيال، وخُيُول بالضمّ، ويُكسر، أفاده في "القاموس"
(2)
.
و"الشُّمْسُ" -بضمّ الشين المعجمة، وسكون الميم، أو بضمّتين-: جمع شَمُوس -بفتح، فضمّ-، وهي النَّفُور من الدوابّ الذي لا يستقرّ لِشَغَبه وحِدَّته، وأذنابُها كثيرة الاضطراب.
وقال في "اللسان": و"الشَّمِسُ" -بكسر الميم- والشَّمُوس من الدوابّ: الذي إذا نُخِسَ لم يستقرّ، وشَمَسَتِ الدابّة والفرس تَشْمِسُ، شِمَاسًا -بالكسر- وشُمُوسًا -بضمّتين- وهي شَمُوسٌ -بفتح، فضمّ-: شَرَدَت، وجَمَحَت، ومَنَعَت ظهرها. انتهى بإيضاح.
وقال في "المصباح": وشَمَسَ الفرسُ يَشْمِسُ، ويَشْمُسُ، من بابي ضرب ونصر شُمُوسًا، وشِمَاسًا بالكسر: استَعْصَى على راكبه، فهو شَمُوسٌ، وخَيْلٌ شُمُسٌ، مثلُ رَسُول ورُسُلٍ، قال الشاعر:
رَكْضُ الشَّمُوسِ نَاجِزًا بِنَاجِزِ
قالوا: ولا يقال: فرسٌ شَمُوصٌ بالصاد، ومنه قيل للرجل الصَّعْبِ الْخُلُق: شَمُوسٌ أيضًا. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "شُمْس" بإسكان الميم، وضمها، وهي: التي لا تستقِرّ، بل تضطرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها، والمراد بالرفع المنهيّ عنه هنا رفعهم أيديهم عند السلام، مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صُرِّح به في الرواية الثانية. انتهى
(4)
.
وقال بعضهم: المقصود من هذا التشبيه التنفير، وقد استخدم فيه ثلاثة مشبَّهات بها منفّرة، تشبيه الأيدي التي في مقدّمة الإنسان، ورمز قوّته بالأذناب
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 69.
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 373.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 322 - 323.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 152 - 153.
التي في المؤخّرة، وهي مثلٌ للحقارة والضعف والتبعيّة، وتشبيه الإنسان بالحيوان، وتشبيه الحركة بالشغب والنفور. انتهى
(1)
.
(اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ") فيه الأمر بالسكون في الصلاة، فيلزم منه النهي عن الحركة فيها، وهو محمول على الحركات لغير حاجة، أو الحركات الكثيرة، كما يدلّ عليه تشبيهه صلى الله عليه وسلم باضطراب أذناب الخيل الشُّمْس.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كانوا يشيرون عند السلام من الصلاة بأيديهم يمينًا وشمالًا، وتشبيه أيديهم بأذناب الخيل الشُّمُس تشبيهٌ واقعٌ، فإنها تُحرّك أذنابها يمينًا وشمالًا، فلمّا رآهم على تلك الحالة أمرهم بالسكون في الصلاة، وهذا دليلٌ على أبي حنيفة في أن حكم الصلاة باقٍ على المصلّي إلى أن يُسلِّم، ويلزم منه أنه إن أحدث في تلك الحالة -أعني في حالة الجلوس الأخير للسلام- أعاد الصلاة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ) جابر رضي الله عنه (ثُمَّ خَرَجَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيته إلى المسجد، وقيل: معنى الخروج: الطلوع والظهور، والأول أظهر (عَلَيْنَا، فَرَآنَا حِلَقًا) قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حَلْقة، بإسكان اللام، وحكى الجوهريّ وغيره فتحها في لغة ضعيفة. انتهى.
وقال في "القاموس": وحَلْقَةُ الباب، والقومِ، وقد تُفتَح لامهما، وتُكسر، أو ليس في الكلام حَلَقَةٌ محرَّكةً إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفة، جمعه: حَلَقٌ محرَّكةً، وكَبِدَرٍ، وحَلَقَات محرَّكةً، وتكسر الحاء. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": وحَلْقَةُ الباب، بالسكون من حديث وغيره، وحَلْقَةُ القوم: الذين يجتمعون مُستديرين، والْحَلْقَةُ: السلاحُ كلّه، والجمع: حَلَقٌ بفتحتين على غير قياس، وقال الأصمعيّ: والجمع حِلَقٌ بالكسر، مثلُ قَصَبَة وقَصَبٍ، وبَدْرَةٍ وبِدَر، وحَكَى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الْحَلَقَةَ بالفتح لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياسٌ، مثلُ قَصَبَةٍ وقَصَبٍ. انتهى
(3)
.
(1)
"فتح المنعم" 2/ 593 - 594.
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 222.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 146 - 147.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ ") أي متفرّقين، جماعةً جماعةً، وهو بتخفيف الزاي، الواحدة عِزَةٌ، ومعناه النهي عن التفرّق، والأمر بالاجتماع، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
ونصبُ "عِزِين" على الحال؛ لأن "أرى" هنا بصريّة تتعدّى لمفعول واحد، كما سبق ذلك قريبًا.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "عِزِين" أي جماعات متفرّقين حلقةً حلقةً، وهو جمع عِزَة، وهي الحلقة المجتمعة من الناس، وأصلها عِزوة، فحُذفت الواو، وجُمِعت جمع السلامة على غير قياس، كثُبِين، وبُرين، جمع ثُبَة وبُرَة.
والمعنى: ما لي أراكم أشتاتًا متفرّقين؟ وفي معناه قوله عز وجل: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)} [المعارج: 37].
قال: وهو إنكار على رؤيته صلى الله عليه وسلم إياهم متفرّقين أشتاتًا، والمقصود الإنكار عليهم كونهم على تلك الحالة، يعني أنه لا ينبغي لكم أن تتفرّقوا، ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك، وكيف وقد قال اللَّه تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ولعلّ العذر من طرفي، وذلك أنكم مجتمعون، وإني أراكم متفرّقين، ولو قال: ومالكم متفرّقين؟ لم يُفد من المبالغة فائدةً، ونظيره قوله تعالى:{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] حكايةً عن سليمان عليه السلام، أنكر على نفسه عدم رؤية الهدهد إنكارًا بليغًا، على معنى أنه لا يراه، وهو حاضرٌ لساتر ستره، أو غير ذلك. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: أمرهم بالائتلاف والاجتماع، وحذرهم من الْفُرْقة، وقد يَحْتَمِلُ أنه نهاهم عن هذا في الصلاة، وأمرهم بوصل الصفوف، ألا تراه كيف قال: ثم خرج، فقال:"ألا تصفّون". انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 153.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1143.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 344.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول هو الصحيح، فالنهي عن تحلّقهم ليس في حال الصلاة، بل هو في حال اجتماعهم في المسجد، وهذا هو الذي تدلّ عليه روايات الحديث المختلفة، ولذا ترجم الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (4/ 534) بقوله:"ذِكْرُ الزجر عن ترك اجتماع الناس في المسجد في المجلس الواحد، إذا أرادوا تعلُّم العلم، أو دَرْسَه"، ثم أخرجه بسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم في المسجد جلوسٌ حِلَقًا، فقال:"ما لي أراكم عِزِين؟ ". انتهى.
وترجم البيهقيّ في "الكبرى"(3/ 234)، فقال:
(12)
"باب من كره التحلُّق في المسجد، إذا كانت الجماعة كثيرة، والمسجد صغيرًا، وكان فيه منع المصلين عن الصلاة"، ثم أخرج حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما المذكور في الباب، بلفظ:"قال: دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحن حلق متفرقون، فقال: ما لي أراكم عِزِين؟ ". انتهى.
وأخرجه أبو عوانة في "مسنده"(1/ 380) بلفظ: "قال: دخل علينا، ونحن جلوس في المسجد، فقال: ما لي أراكم عِزِين؟ ".
فكلّ هذه الروايات صريحة في أن ذلك كان في غير الصلاة، فإذا كان هذا في غير الصلاة فيكون النهي عنه فيها أشدّ وأغلظ، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ) جابر رضي الله عنه (ثُمَّ خَرَجَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْنَا، فَقَالَ: "ألَا) -بفتح الهمزة، وتخفيف اللام، ويجوز تشديدها-: أداة تحضيض، وهو الطلب بِحَثّ، كقوله تعالى:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وقوله:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13](تَصُفُّونَ) بفتح أوله، وضمّ ثانيه، من باب نصر، ويستعمل متعدّيًا، فيقال: صَفَفْتُ الشيءَ صَفًّا، فهو مصفوف، وقد يُستعمل لازمًا، فيقال: صَفَفتُ القومَ، فصفُّوا هم، أفاده في "المصباح"
(1)
، وما هنا من اللازم.
(كمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ ") ولفظ أبي داود، والنسائيّ:"عند ربهم"
(1)
"المصباح المنير" 1/ 343.
(فَقُلْنَا) وللنسائيّ: "قالوا"(يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يُتِمُّونَ) بضمّ أوله، من الإتمام (الصُّفُوفَ الْأُوَلَ) بضم الهمزة، وفتح الواو: جمع "الأُولى"، وفي رواية النسائيّ:"يُتمّون الصفّ الأَوّل"، والمعنى: أنهم يتمّمون الصفوف المتقدّمة، وهي ما عدا الصفّ الأخير (وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ") أي يتلاصقون فيها حتى لا يكون بينهم فُرَج، ويؤخذ منه أن تلاصق بعضهم ببعض، وتضامّهم يستلزم تسوية الصفوف، والعكس بالعكس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرَة بهذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 973 و 974 و 975 و 976](430 و 431)، و (أبو داود) في "الصلاة"(661 و 999)، و (النسائيّ) فيها (3/ 4 - 5)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3135)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 92)، و (الحميديّ) في "مسنده"(896)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 86 و 88 و 101 و 102 و 107)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(733)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1879)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1822 و 1825 و 1826 و 1828 و 1829 و 1837)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2055 و 2056 و 2057 و 2058 و 2059)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(961 و 962 و 963)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 172 و 173 و 178 و 108)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(699)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): الإنكار على من أحدث في الصلاة خلاف السنّة.
2 -
(ومنها): الأمر بالسكون في الصلاة، والخشوع فيها، والإقبال
(1)
المراد فوائد حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما المذكور في الباب برواياته الثلاث، لا خصوص اللفظ المتقدّم، فتنبّه.
عليها، وهو معنى قوله عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"(3/ 239): قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:{خَاشِعُونَ} خائفون، ساكنون، وكذا رُوي عن مجاهد، والحسن، وقتادة، والزهريّ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب، وكذا قال إبراهيم النخعيّ، وقال الحسن البصريّ: كان خشوعهم في قلوبهم، فغَضُّوا بذلك أبصارهم، وخَفَضوا الجناح، وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} وخَفَضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، وقال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مُصَلّاه، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغَمِّض، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، ثم روى ابن جرير عنه، وعن عطاء بن أبي رباح أيضًا مرسلًا: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، حتى نزلت هذه الآية.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فَرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحةً له، وقُرّة عين، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (3128)، والنسائيّ (761) عن أنس رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"حُبّب إليّ الطيب، والنساء، وجُعِلت قرة عيني في الصلاة"، حديث حسن.
وقال الإمام أحمد (5364): حدّثنا وكيع، حدّثنا مِسْعَر، عن عمرو بن مُرّة، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل من أسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال أَرِحْنا بالصلاة"، حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد أيضًا (5371): ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، ثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، أن محمد ابن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صِهْر لنا من الأنصار، فحضرت الصلاة، فقال: يا جارية ائتيني بوَضُوء لعلّي أصلي، فأستريح، فرآنا أنكرنا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة". انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 3/ 239.
3 -
(ومنها): بيان أن الإمام يحثّ المأمومين على رصّ الصفوف، والمقاربة بينها، وأن ذلك من وظيفته.
4 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الاهتمام في تسوية الصفوف.
5 -
(ومنها): الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم، وتعبّداتهم.
6 -
(ومنها): بيان أن الملائكة يصلّون، وأن صفوفهم كما وُصف في هذا الحديث، فيعتنون بتسوية صفوفهم، وإتمام الأول فالأول، فينبغي للمسلمين أن يقتفوا بهم في ذلك.
وقد أخرج المصنّف رحمه الله عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعِلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجُعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجُعِلت تربتها لنا طهورًا. . . " الحديث
(1)
.
7 -
(ومنها): الأمر بإتمام الصفوف الأُوَل، والتراصّ فيها، قال النوويّ رحمه الله: ومعنى إتمام الصفوف الأُوَل أن يُتَمّ الأَوَّل، ولا يُشْرَع في الثاني حتى يَتِمّ الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. انتهى
(2)
.
8 -
(ومنها): أن السنّة في السلام من الصلاة أن يقول: "السلام عليكم ورحمة اللَّه" عن يمينه، "السلام عليكم ورحمة اللَّه"، عن شماله.
قال النوويّ: ولا يسن زيادة "وبركاته"، وإن كان قد جاء فيها حديث ضعيفٌ، وأشار إليها بعض العلماء، ولكنها بدعةٌ؛ إذ لم يصحّ فيها حديث، بل صح هذا الحديث وغيره في تركها.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ من عدم صحّة زيادة "وبركاته" غير صحيح، بل الحقّ أن زيادتها صحيح من الجانبين، ولا تخص اليمين فقط، كما ادّعاه بعضهم
(3)
، وسيأتي البحث في هذا مستوفى في
(1)
سيأتي للمصنّف رحمه الله برقم (522).
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 153.
(3)
فقد كتبت في هذا رسالة سمّيتها: "رفع الغين عمن يُنكر زيادة وبركاته في السلام من الجانبين"، وهي مذكورة بتمامها في "شرح النسائيّ"، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
"باب السلام للتحلّل من الصلاة" برقم (581) -إن شاء اللَّه تعالى-.
قال النوويّ رحمه الله: والواجب منه السلام عليكم مرة واحدة، ولو قال: السلام عليك بغير ميم لم تصحّ صلاته، وفيه دليل على استحباب تسليمتين، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وقوله: "والواجب مرّة واحدة" محلّ تأمّل؛ لأنه قد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم"، وهو يعمّ التسليمتين، كما ثبت عنه ذلك فعلًا، فكيف يكون الواجب مرّة واحدةً؟ فهذا قول لا دليل عليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): النهي عن التفرّق أحزابًا، بل يجب أن يكون المسلمون صفًّا واحدًا تجمعهم كلمة الحقّ، وتربطهم أخوّة الإيمان، لا يلوون عنقهم إلى القوميّة، ولا إلى الوطن، ولا إلى غير ذلك مما لا صلة له بالدين، وإنما هم يدٌ واحدة على من سواهم، كما وصفهم بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما أخرجه النسائيّ، وغيره، وأصله في "الصحيحين" من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا:"المؤمنون تَكَافَأُ دماؤهم، وهم يَدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. . . " الحديث.
وفي "الصحيحين" عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والْحُمَّى"، ولفظ البخاريّ:"ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادّهم، وتعاطفهم. . . " الحديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: قد ذكر ابن القصّار هذا الحديث حجة في النهي عن رفع الأيدي في الصلاة على رواية المنع من ذلك جملة، وذكر أن في ذلك نزلت:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 77]، قال: والمفسّرون في سبب نزول الآية على غير هذا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي نُقل عن ابن القصّار إن أراد المنع في
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 153.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 344.
غير محلّ المشروع فمسلّم، وإن أراد المنع عن رفع اليدين في المحلّ المشروع كالركوع والرفع منه، ونحو ذلك، مما ثبت في الصحيح، فما أبعده عن الصواب، وأبعدُ منه استدلاله بالآية المذكورة، فإنه لم يقله أحد ممن تكلّم فيها، كما أشار إليه القرطبيّ، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): استدلّ الحنفيّة بهذا الحديث على عدم مشروعيّة رفع اليدين في غير حالة الإحرام، وهو استدلال باطلٌ؛ إذ لا دليل فيه؛ لأنه مختصر من الحديث التالي كما ساقه المصنّف رحمه الله بتمامه، قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه":"ذكرُ الخبر المتقَصِّي للقصّة المتقدّمة بأن القوم إنما أُمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم، دون الرفع الثابت عند الركوع"، ثم رواه كنحو رواية المصنّف الآتية.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "جزء رفع اليدين": من احتجّ بحديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما على منع الرفع عند الركوع، فليس له حظّ من العلم، هذا مشهور، لا خلاف فيه أنه إنما كان في حال التشهّد، كذا في "التلخيص الحبير".
وقال الزيلعيّ في "نصب الراية" بعد ذكر حديث جابر بن سمرة المختصر ما مُلخّصه: واعترضه البخاريّ في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين، فقال: وأما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث تميم بن طَرَفة، عن جابر بن سَمُرة، فذكر حديثه المختصر، وقال: وهذا إنما كان في التشهّد، لا في القيام، ففسّره رواية عُبيد اللَّه بن القِبطيّة، قال: سمعت جابر بن سَمُرة يقول: كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه الطويل المذكور، ثم قال البخاريّ: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضًا منهيًّا عنه؛ لأنه لم يستثن رفعًا دون رفع، بل أطلق. انتهى.
قال الزيلعيّ: ولقائل أن يقول: إنهما حديثان لا يفسَّر أحدهما بالآخر، كما في لفظ الحديث الأول:"اسكنوا في الصلاة"، والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: اسكن في الصلاة، إنما يقال ذلك من يرفع يديه في أثناء الصلاة، وهو حالة الركوع والسجود، ونحو ذلك، هذا هو الظاهر، والراوي روى هذا في وقت كما شاهده، ورَوَى الآخر في وقت آخر كما شاهده، وليس في ذلك بُعْدٌ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الزيلعيّ من دعواه كون حديث جابر بن سمرة حديثين غير صحيح، والحقّ ما قاله البخاريّ وابن حبّان من أن الحديث واحد، ولكن اختصره الرواة.
وعلى تقدير تسليمه نقول: إن النهي لا يتناول الرفع المشروع عند الركوع ونحوه، وإنما هو في الرفع الذي ليس مشروعًا، بدليل أن الحنفيّة أنفسهم يستثنون من هذا النهي الرفع في تكبيرات العيدين بدعوى أنها ثابتة بالنصّ، فما أجابوا به هناك فهو جوابنا هنا من غير فرق.
والحاصل أن الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه، ونحو ذلك ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها، فيُقدّم خصوصها على عموم حديث جابر هذا.
ولذا قال السنديّ الحنفيّ رحمه الله عند قوله: "فنسلّم بأيدينا. . . إلخ" ما نصّه: وبهذه الرواية تبيّن أن الحديث مسوقٌ للنهي عن رفع الأيدي عند السلام إشارةً إلى الجانبين، ولا دلالة فيه على النهي عن الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه، ولذلك قال النوويّ: الاستدلال به على النهي عن الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه جهلٌ قبيحٌ.
وقد يقال: العبرة بعموم اللفظ، ولفظ:"ما بالهم رافعي أيديهم في الصلاة؟ " إلى قوله: "اسكنوا في الصلاة" تمام، فصحّ بناء الاستدلال عليه، وخصوص المورد لا عبرة به، إلا أن يقال: ذلك إذا لم يعارضه عن العموم عارض، وإلا يُحْمَلُ على خصوص المورد، وها هنا قد صحّ وثبت الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه ثبوتًا لا مردّ له، فيجب حمل هذا اللفظ على خصوص المورد؛ توفيقًا، ودفعًا للتعارض. انتهى المقصود من كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حقّقه السنديّ رحمه الله أخيرًا هو الحقّ الذي لا مرية فيه، وهذا من إنصافه للحقّ، وعدم تعصّبه لمذهبه الحنفيّ، كما تعصّب له كثير ممن أعماهم التقليد وأصمّهم عن اتّباع الحقّ.
ومن العجيب الغريب أنهم إذا أورد عليهم تناقضهم في المسألة، وقيل
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 3/ 5.
لهم: إنكم تقولون: إن الرفع في تكبيرات العيدين مشروعة بالنصّ، فلا يتناولها هذا النهي، فهلّا قلتم مثله في الرفع من الركوع ونحوه: إنه ثابت بالنصّ، فلا يتناوله هذا النهي، فما الفرق بينهما؟ على أن دليلهم الذي تمسّكوا به في الرفع في العيدين لا يصحّ عند أهل الحديث، وأدلّة الرفع في الركوع ونحوه صحيحة ثابتةٌ بلا خلاف بين أهل الحديث، فقد أخرجها الشيخان وغيرهما من أصحاب الصحاح، سكتوا، وانقطعوا عن الجواب، إن هذا لهو العجب العجاب، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[974]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد اللَّه بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17، أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة.
2 -
(وَكِيع) بن الْجَرّاح تقدّم قبل باب.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم قبل باب.
4 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب. و"الأعمش" سبق في السند الماضي.
وقوله: (قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ) يعني أن كلًّا من وكيع، وعيسى قالا: حدّثنا الأعمش.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) الإشارة إلى إسناد الأعمش الماضي، عن المسيَّب بن رافع، عن تميم بن طَرَفَةَ، عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنهما.
وقوله: (نَحْوَهُ) أي نحو حديث جابر الماضي.
[تنبيه]: رواية وكيع هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(20119)
حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن المسيَّب بن رافع، عن تميم بن طَرَفة، عن جابر بن سَمُرة، قال: دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحن رافعي أيدينا في الصلاة، فقال:"ما لي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شُمُس؟ اسكنوا في الصلاة"، قال: ودخل علينا المسجد، ونحن حِلَقٌ متفرقون، فقال:"ما لي أراكم عِزِين؟ ". انتهى.
وأما رواية عيسى بن يونس، فلم أجد من ساقها مفردة، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[975]
(431) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، حَدَّثَنى عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ الْقِبْطِيَّةِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ، كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ؟، إِنَّمَا
(1)
يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ
(2)
، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ، مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ
(3)
").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) عن (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
2 -
(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 13.
(1)
وفي نسخة: "وإنما" بالواو.
(2)
وفي نسخة: "يديه على فخذيه".
(3)
وفي نسخة: "من عن يمينه وشماله".
3 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ الْقِبْطِيَّةِ) الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن جابر بن سَمُرة، وأم سلمة، والحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، وعبد اللَّه بن صفوان بن أمية، وأبي رجاء الْعُطارديّ.
وروى عنه عبد العزيز بن رُفيع، وبحر بن كَنِيز السّقّاء، وفُرَات القَزّاز، ومسعرٌ.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وحَكَى الدارقطنيّ في "العلل" أنه كان يلقّب المهاجر، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله حديثان فقط: أحدهما حديث الباب، عندهم، والثاني عند المصنّف، وأبي داود في الخمس.
والباقون تقدّموا في الباب.
وقوله: (قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي في نهاية الصلاة، وعند نيّة الخروج منها.
وقوله: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ) فاعل "أشار" ضمير جابر رضي الله عنه، وهو من كلام عبيد اللَّه ابن القبطيّة، والمراد بالإشارة إشارة السلام.
وقوله: (عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ) أي على أيّ شيء تشيرون بأيديكم، فـ "علام" هي "على" الجارّة دخلت على "ما" الاستفهاميّة، وأصلها "على ما"، فحُذفت ألفها، كقوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} [النبأ: 1]، وإليه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
و"تومئون" مضارع أومأ، بمعنى أشار، والجارّ والمجرور -أعني "علام"- متعلّق بـ "تومئون"، والاستفهام توبيخيّ، بمعنى أنه لا ينبغي، ولا يصحّ هذا لكم.
وقوله: (إِنَّمَا يَكْفِي) وفي نسخة: "وإنما يكفي" بالواو.
وقوله: (أَنْ يَضَعَ) في تأويل المصدر فاعل "يكفي".
وقوله: (عَلَى فَخِذِهِ) وفي نسخة: "على فخذيه" بالتثنية، أي يُبقي يديه موضوعتين على فخذيه؛ إذ السنّة وضعهما كذلك من أول التشهّد إلى أن يسلّم من الصلاة.
وقوله: (مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ) بفتح ميم "من"، وهي موصولة بدل من "أخيه"، والجارّ والمجرور صلتها، أي الذي استقرّ على جهة يمينه وشماله، وفي بعض النسخ:"مَنْ عن يمينه" بـ "عن" بدل "على".
قال النوويّ رحمه الله: المراد بالأخ الجنس، أي إخوانه الحاضرين عن اليمين والشمال. انتهى
(1)
.
وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الأول، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[976]
(. . .) - (وَحَدَّثنَا
(2)
الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ فُرَاتٍ، يَعْنِي الْقَزَّازَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ
(3)
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنَّا إِذَا سَلَّمْنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَا شَأْنُكُمْ، تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ، كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ؟ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَلْتَفِتْ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُومِئْ بِيَدِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطّحّان، وربما نُسب إلى جدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ تُكُلّم فيه بلا حجة [7](160) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
4 -
(فُرَاتٌ الْقَزَّازُ) هو: فُرَات بن أبي عبد الرحمن الْقَزّاز التميمىّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد اللَّه البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [5].
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 154.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(3)
وفي نسخة: "صلّينا".
رَوَى عن أبي الطُّفَيل، وأبي حازم سلمان الأشجعيّ، وعبيد اللَّه ابن القبطية، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعيّ.
وروى عنه ابنه الحسن بن الفرات، وابن ابنه زياد بن الحسن بن فرات، ومحمد بن جُحَادة، وشعبة، والمسعوديّ، وعمر بن قيس الملائيّ، وعمرو بن أبي قيس الرازيّ، وأبو الأحوص، وشريك، والسفيانان، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال سفيان: كان ثقةً، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (431) و (1842) و (2901) وأعاده بعده.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "صلّينا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ".
وقوله: (قُلْنَا بأَيْدِينَا) أي أشرنا، ففيه إطلاق القول على الإشارة.
وقوله: (مَا شَأْنُكُمْ)"ما" استفهاميّة، أي ما حالكم؟.
وقوله: (تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ) جملة في محلّ نصب على الحال، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الأول، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(29) - (بَابُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، وَإِقَامَتِهَا، وَفَضْلِ الأَوَّلِ مِنْهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[977]
(432) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: "اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ
وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، قَالَ أَبُو مَسْعُود: فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأَوْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ التَّيْمِيُّ) من بني تيم اللَّه بن ثعلبة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4].
رأى عبد اللَّه بن عمر، وروى عن الأسود بن يزيد النخعيّ، والحارث بن سُويد التيميّ، وعبد الرحمن بن يزيد النخعيّ، وأبي عطية الوادعيّ، وإبراهيم بن أبي موسى الأشعريّ، وأبي معمر عبد اللَّه بن سَخْبَرة الأزدي، وغيرهم.
وروى عنه إبراهيم النخعيّ، والحكم بن عتيبة، وزبيد الياميّ، والأعمش، وسعد بن عبيدة، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم.
قال البخاريّ عن علي ابن المدينيّ: له نحو ثمانين حديثًا، وقال عبد اللَّه بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: ثقة وزيادة، يُسأل عن مثل هذا؟ وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وكان خيارًا، وقال ابن حبّان في "الثقات": رَوَى عن عبد اللَّه بن عمر، وكذا جزم بروايته عن ابن عمر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل".
قال ابن سعد: تُوُفّي في خلافة سليمان بن عبد الملك، وكذا قال ابن حبان في "الثقات"، وخليفة بن خياط، وزاد: سنة (98)، وأما ابن أبي خيثمة فحَكَى عن يحيى بن معين أنه مات سنة ثنتين وثمانين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
3 -
(أَبُو مَعْمَرٍ) عبد اللَّه بن سَخْبَرَة -بفتح المهملة، وسكون المعجمة، وفتح الموحّدة- الأزديّ الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات في ولاية عبيد اللَّه بن زياد (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 470.
4 -
(أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض: الأعمش، عن عمارة، عن أبي معمر.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه اشتهر بالبدريّ، قيل: إنه لم يشهد بدرًا، وإنما نُسب إليها، لسكناه بها، ولكن عدّه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" ممن شهد بدرًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبد اللَّه بن سَخْبَرة الأزديّ (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا) أي يُسَوِّي مناكبنا في الصفوف، ويُعَدِّلنا فيها.
و"المناكب": جمع مَنْكِب -بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الكاف- وهو مُجْتَمَع رأس العضد والْكَتِف، قاله في "المصباح"، يعني أنه يضع يده على مناكبنا حتى لا يتقدّم بعضنا على بعض، أو يتأخّر (فِي الصَّلَاةِ) متعلّق بـ "يمسح"، أي في حال إرادة أداء الصلاة بالجماعة، يعني أنه يراعي تسويتنا للصفوف عند القيام للصلاة، ويَتَعَهَّد ذلك (وَيَقُولُ) في حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر، كما قاله القاري ("اسْتَوُوا) أي اعتدلوا في صفوفكم بأن لا يتقدّم بعضكم على بعض، وهو معنى قوله:(وَلَا تَخْتَلِفُوا) أي بالتقدّم والتأخّر، و"لا" ناهية، ولهذا جُزم الفعل بها (فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ) بنصب "تختلف" على أنه جواب النهي، بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
والمعنى: لا تختلفوا في إقامة الصفوف بالأبدان بالتقدّم والتأخّر،
فتختلفَ قلوبكم بالأهوية والإرادة؛ لأن اختلاف الظاهر يكون سببًا في اختلاف الباطن.
[فإن قلت]: هذا الحديث يدلّ على أن القلب تابع للأعضاء، ففسادها سببٌ لفساده، ويعارضه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما المتّفق عليه:"ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"؛ لأنه يدلّ على أن الأعضاء تابعة للقلب، فصلاحها بصلاحه، وفسادها بفساده، فكيف يُجمع بينهما؟.
[قلت]: يُجمع بأن الاختلاف في الظاهر ناشئ عن فساد القلب، وذلك أن عدم إقامة الصفوف يدلّ عدم الاعتناء بالسنّة، وعدم الاعتناء بها يدلّ على غفلة القلب وفساده؛ لأن من كان قلبه حيًّا صالحًا منوَّرًا بنور الإيمان يكون متّبعًا للسنّة في جميع أحواله، والعكس بالعكس، فثبت بهذا ترتّب الاختلاف الظاهريّ على الفساد الباطنيّ، ثم يَنشَأ من هذا الاختلاف الظاهريّ المتسبّب عن فساد القلب الاختلاف الباطنيّ بمعنى آخر، وهو وقوع العداوة والبغضاء والتحاسد فيما بينهم.
فظهر بهذا أن فساد القلب أوّلًا بالإعراض عن السنّة هو الأصل؛ لاختلاف الظاهر بعدم إقامة الصفوف الذي ينشأ عنه اختلاف الباطن بالعداوة والبغضاء والتحاسد ونحوها، فاختلف جهة فساد القلب، فالفساد الأول هو الغفلة عن اللَّه، والإعراض عن اتّباع السنّة، والفساد الثاني هو الفساد الذي يكون بينهم من الأشياء المذكورة، فالفساد الثاني نتيجة الفساد الأول.
وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين، وللَّه الحمد والنعمة، وله الفضل والمنّة.
(لِيَلِنِي مِنْكُمْ) أمر من الوَلْي، وهو القرب، والدنوّ، أي ليقرب منّي، وأصله "يليني" بياء بعد اللام، فلمّا دخلت لام الأمر حُذفت الياء للجزم.
[تنبيه]: تكلّم الشرّاح في حذف الياء الثانية وإثباتها من قوله: "ليلني"، فقال النوويّ رحمه الله: هو بكسر اللامين، وتخفيف النون، من غير ياء قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. انتهى
(1)
. وأشار في هامش
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 154 - 155.
نسخة محمد ذهني (2/ 30) أنه وقع في بعض النسخ: "لِيَلِيَنّي" بالياء وتشديد النون، وهو الضبط الثاني مما ذكره النوويّ.
وقال شارح "المصابيح": الرواية "لِيَليني" بإثبات الياء، وهو شاذّ؛ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كُتب بالياء؛ لأنه الأصل، ثم قُرئ كذا.
والأولى أن يقال: إنه من إشباع الكسرة كما قيل في قول الشاعر [من البسيط]:
هَجَوْتَ زَبّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا
…
مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ
حيث ثبتت الواو في "تَهْجُو".
وقوله [من الطويل]:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ
…
كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا
فثبتت الألف في "تَرَى".
قال ابن مالك رحمه الله في "شواهد التوضيح"(ص 22 - 24): وإشباع الحركات الثلاث، وتوليد الأحرف الثلاثة -يعني الواو، والياء، والألف- بعدها لغة معروفة، وذكر لذلك شواهد، فراجعه تستفد.
أو هو تنبيه على الأصل، كما قيل في قراءة قُنْبُل:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} ، أو أنه لغة كما قاله في "همع الهوامع"
(1)
.
وقال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله فيما كتبه على الترمذيّ بعد نقل كلام النوويّ المذكور: وهكذا طُبع في "صحيح مسلم" بحذف الياء في طبعة بولاق (1: 128)، وفي طبعة الاستانة (2: 30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود، وكتب بهامشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة:"ليليني"، وضبط بتشديد النون، وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من "صحيح مسلم" يغلب عليها الصحّة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة "ليلني" بحذف الياء.
وقال الشارح المباركفوريّ (1/ 193): قد وقع في بعض نسخ الترمذيّ: "ليلني" بحذف الياء قبل النون، وفي بعضها بإثباتها.
(1)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل" 1/ 51.
قال أحمد شاكر: وإني لم أرها في شيء من نسخ الترمذيّ بحذف الياء، وأظنّ أن حذفها فيه وفي غيره من تصرّف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها، وتشديد النون؛ ذهابًا منه إلى الجادّة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتلّ بحذف حرف العلّة، وقد رأيت كثيرًا من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظنًّا منهم أنه خطأٌ، والدليل على ظنّ التصرّف منهم أن الشارح نقل عن الطيبيّ أنه قال: من حقّ هذا اللفظ أن يُحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدناه بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث، والظاهر أنه غلطٌ.
قال أحمد شاكر: وليس هذا غلطًا كما زعم الطيبيّ، بل إثبات حرف العلّة في مثل هذا ورد في الحديث كثيرًا، وله شواهد من الشعر، وقد بَحَث فيه العلامة ابن مالك في كتاب "شواهد التوضيح" بحثًا طويلًا (11 - 15) وذكر من شواهده في البخاري قول عائشة:"إن أبا بكر رجلٌ أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمع الناس"، وحديث:"من أكل من هذه الشجرة، فلا يغشانا"، وحديث:"مرُوا أبا بكر فليُصلّي بالناس"، ووجّه ذلك بأوجه متعدّدة، أحسنها عندي الوجه الثالث، أن يكون أجري المعتلّ مُجرى الصحيح، فأثبت الألف -يعني أو الواو، أو الياء- واكتفى بتقدير حذف الضمّة التي كان ثبوتها منويًّا في الرفع. انتهى كلام أحمد محمد شاكر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن قول أحمد شاكر رحمه الله: وأظنّ أن حذفها من تصرّفات الناسخين إلى آخر كلامه فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن الحقّ أن ما ثبت في النسخ يُعتمد عليه، ولا سيّما إذا كان على وفق القواعد، ولا نتّهم الناسخين بالتصرّف، ومن الغريب استدلاله بما نقله عن الطيبيّ، فإن الطيبيّ ليس من المحدّثين المعتمدين في ضبط الروايات، وإنما هو من أهل اللغة والنحو والبلاغة.
والحاصل أن ما ضبطه به النوويّ من أنه بكسر اللامين، وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، مع تجويز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد، هو الوجه الوجيه، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
انظر: تعليقه على "جامع الترمذيّ" 1/ 440 - 441.
(أُولُو الْأَحْلَامِ) أي ذوو العقول الراجحة، واحدها حِلْمٌ بكسر، فسكون، قال في "اللسان": الْحِلْم بالكسر: الأناة، والعقل، جمعه أَحْلامٌ، وحُلُومٌ، وفي التنزيل العزيز:{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} الآية [الطور: 32]، قال جرير [من البسيط]:
هَلْ مِنْ حُلُومٍ لأَقْوَامٍ فَتُنْذِرُهُمْ
…
مَا جَرَّبَ النَّاسُ مِنْ عَضِّي وَتَضْرِيسِي
قال ابن سِيدَهْ: وهذا أحد ما جُمِع من المصادر. انتهى
(1)
.
وقال في "المرقاة": الْحِلْم بالكسر: الأناة، والتثبّت في الأمور، والسكون، والوقارُ، وضبط النفس عند هَيَجَان الغضب، ويُفسّر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل، والعقلُ الراجح يتسبّب لها، وقيل:"أولو الأحلام": البالغون، والْحُلُم بضمّ الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم. انتهى
(2)
.
(وَالنُّهَى) بضم النون، وفتح الهاء مقصورًا: جمع نُهْيَة بالضمّ بمعنى العقل؛ سمّي به لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.
وقال في "اللسان": "النُّهَى": العقلُ يكون واحدًا وجَمْعًا، وفي التنزيل العزيز:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54]، والنُّهْيةُ بالضمّ: العقلُ، سُمّيت بذلك؛ لأنها تنهى عن القبيح، وأنشد ابن بَرّيّ للخَنْسَاء [من الطويل]:
فَتًى كَانَ ذَا حِلْمٍ أَصِيلٍ وَنُهْيَةٍ
…
إِذَا مَا الْحُبَا مِنْ طَائِفِ الْجَهْلِ حُلَّتِ
ومن هنا اختار بعضهم أن يكون النُّهَى جمع نُهْية، وقد صَرَّح اللِّحْيانيّ بأنّ النُّهَى جمع نُهْيَةٍ، فأغنى عن التأويل. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "أولو الأحلام": هم العقلاء، وقيل: البالغون، و"النُّهَى" -بضم النون-: العقول، فعلى قول من يقول:"أولو الأحلام": العقلاء يكون اللفظان بمعنًى، فلما اختَلَف اللفظ عُطِف أحدهما على الآخر تأكيدًا، وعلى الثاني معناه: البالغون العقلاء، قال أهل اللغة: واحدة النُّهَى نُهْية -بضم النون- وهي العقل، ورجلٌ نَهٍ -بفتح، فكسر- من قوم نَهِينَ،
(1)
"لسان العرب" 12/ 146.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 3/ 171 - 172.
(3)
"لسان العرب" 15/ 346.
ونَهِيٌّ -بفتح، فكسر، فياء مشدّدة- من قوم أَنْهِيَاء، ويقال: نِهٍ -بكسرتين- للإتباع، وسُمِّي العقل نُهْيَةً؛ لأنه يُنْتَهَى إلى ما أَمَرَ به، ولا يُتَجاوَز، وقيل: لأنه يَنْهَى عن القبائح.
قال أبو عليّ الفارسيّ: يجوز أن يكون النُّهَى مصدرًا، كالْهُدَى، وأن يكون جَمْعًا كالظُّلَمِ، قال: والنُّهَى في اللغة معناه: الثبات، والحبس، ومنه النِّهْيُ، والنَّهْيُ، بكسر النون وفتحها، والنُّهْيةُ للمكان الذي يَنتَهِي إليه الماء، فيستنقع، قال الواحديّ: فرجع القولان في اشتقاق النُّهْية إلى قول واحد، وهو الحبس، فالنُّهْية هي التي تَنْهَى، وتَحْبِس عن القبائح. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
بزيادة من "اللسان"
(2)
.
والمعنى: لِيَدْنُ منّي البالغون العقلاء؛ لشرفهم، ومزيد فِطْنتهم، وتيقّظهم، وضبطهم لصلاته، وإن حدث به عارض استخلفهم في الإمامة.
وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث تقديمُ الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يَتَفَطَّن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة، ويحفظوها، وينقلوها، ويُعَلِّموها الناس، وليقتدي بأفعالهم مَن وَراءهم، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنَّة أن يقدم أهل الفضل في كل مَجْمَع إلى الإمام وكبير المجلس، كمجالس العلم، والقضاء، والذكر، والمشاورة، ومواقف القتال، وإمامة الصلاة، والتدريس، والإفتاء، وإسماع الحديث، ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسنّ، والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك. وفيه تسويةُ الصفوف، واعتناء الإمام بها، والحثّ عليها. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: المعنى: ليدن منّي العلماء النجباء، أولو الأخطار، وذوو السكينة والوقار، أمرهم به؛ ليحفظوا صلاته، ويضبطوا الأحكام والسنن، فيُبلغوا مَن بَعْدهم، وفي ذلك بعد الإفصاح عن جلالة شؤونهم، ونباهة أقدارهم
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 155.
(2)
"لسان العرب" 15/ 346.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 155 - 156.
حثٌّ لهم على المسابقة إلى تلك الفضيلة، وفيه إرشاد لمن قصر عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحرّي ما يُزاحمهم فيها. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) أي الذين يَقْرُبون منهم في هذا الوصف، كالمراهقين، أو الذين يقاربون الأولين في النُّهَى والْحِلْم (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ") كالصبيان المميِّزين، أو الذين هم أنزل مرتبةً من المتقدّمين حِلْمًا وعَقْلًا.
(قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عَمْرو رضي الله عنه (فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَّدُّ اخْتِلَافًا) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا خطاب للقوم الذين هيَّجُوا الفِتَن، وأراد أن سبب الاختلاف والفتن عدم تسوية صفوفكم، وقال أيضًا: لعله أراد الفتن التي وقعت بين الصحابة، و"أشدّ" يَحْتَمِل أن يجري على المبالغة من وضع "أفعل" مقام اسم الفاعل، أي فأنتم اليوم في اختلاف لا مزيد عليه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: إن كلام أبي مسعود رضي الله عنه يَحْتَمِل معنيين:
[أحدهما]: أنه يقول: إنكم اليوم أشدّ اختلافًا في الصفوف من اليوم الذي قال لنا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا، فتختلف قلوبكم"، فإنه كان قليلًا، فقد كان أحيانًا يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم عدم تسوية الصفّ من بعض الناس، فيُحذّرهم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صفوفنا، كأنما يُسوّي الْقِدَاحَ حتى رأى أنا قد عَقَلنا عنه، ثم خرج يومًا، فقام حتى كاد يكبّرُ، فرأى رجلًا باديًا صدره من الصفّ، فقال:"عباد اللَّه لتسوّنّ صفوفكم، أو ليُخالفنّ اللَّه بين وجوهكم".
[الثاني]: أنه يقول: أنتم اليوم بسبب عدم تسويتكم الصفوف أشدّ اختلافًا حيث وقعتم في الفتن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1142.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1141.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 977 و 978](432)، و (أبو داود) في "الصلاة"(674)، و (النسائيّ) فيها (2/ 87 - 88)، و (ابن ماجه) فيها (976)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2430)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(612)، و (الحميديّ) في "مسنده"(456)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 351)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 122)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 290)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1542)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2172 و 2178)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(315)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 587 و 589 و 590 و 592 و 593 و 595 و 596 و 597 و 598)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1382 و 1383)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(964 و 965)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 219)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 97)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب تسوية الصفوف، وعدم الاختلاف فيها؛ لأنه جاء به الأمر، وترتّب عليه الوعيد.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الاهتمام بتسوية الصفوف، وتولّي ذلك بنفسه.
3 -
(ومنها): بيان أن عدم تسوية الصفوف يترتّب عليه الاختلاف القلبيّ، فيستولي بسببه على المجتمع البغضاء، والتنافر، والتحاسد، وعدم توحيد الكلمة، وهذا واللَّه هو الدمار والهلاك، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه.
فبهذا يتبيّن ويتّضح تمام الاتّضاح أنه ما حلّ بالمسلمين اليوم من الضعف، والهَوَان، والذلّ، والخضوع لأعداء الإسلام إلا بسبب هذا وأمثاله من تهاونهم بالسنّة، وعدم مبالاتهم بمخالفتها، فإنك لا تدخل مسجدًا يجتمع فيه المسلمون لأداء الصلاة جماعةً، إلا وترى صفوفهم عوجاء، وإذا طلبت من بعضهم أن يكمل الصفّ، أو أن يتراصّ وجدته معرضًا بعيدًا عن الاستجابة، بل ربما قال بعضهم: صلّ لنفسك، ولا تتدخّل في شأن غيرك، ثم إذا دخلوا في الصلاة ترى العجب العجاب من مسابقة بعضهم للإمام في الانتقالات، ومقارنة
بعضهم له، بل ربّما قال بعضهم: إن المستحبّ في مذهبنا المقارنة، مستندًا إلى بعض أقوال ساقطة مخالفة للأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم. . . " الحديث، فلا حول ولا قوّة إلا باللَّه العزيز الحكيم.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهم ثبّتنا على السنّة، أحينا عليها، وأمتنا عليها، واجعلنا من خيار أهلها أحياءً وأمواتًا، إنك سميع قريبٌ مجيب الدعوات.
4 -
(ومنها): أن أهل الفضل لهم حقّ التقدّم في مجالس الخير والتكريم على حسب مراتبهم، فقد أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار؛ ليحفظوا عنه، وقد أشبع الكلام النوويّ رحمه الله في هذا كما أسلفناه.
5 -
(ومنها): بيان فضل عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان وقت تناصح، وتوافق، واتّحاد كلمة، وقليل التنازع والاختلاف، وإنما جاء الاختلاف، واشتدّ بعده صلى الله عليه وسلم كما بيّنه أبو مسعود رضي الله عنه في هذا الكلام.
6 -
(ومنها): أن العلماء -رحمهم اللَّه تعالى- ذكروا في حكمة إقامة الصفوف أمورًا:
[أحدها]: حصول الاستقامة والاعتدال ظاهرًا، كما هو المطلوب باطنًا.
[ثانيها]: لئلا يتخللَّهم الشيطان، فيفسد صلاتهم بالوسوسة، كما جاء في ذلك الحديث.
[ثالثها]: ما في ذلك من حُسْن الهيئة.
[رابعها]: أن في ذلك تمكّنهم من صلاتهم مع كثرة جمعهم، فإذا تراصُّوا وَسِع جميعهم المسجدُ، وإذا لم يفعلوا ذلك ضاق عنهم.
[خامسها]: أن لا يَشْغَل بعضُهم بعضًا بالنظر إلى ما يشغله منه، إذا كانوا مختلفين، وإذا اصطفُّوا غابت وجوه بعضهم عن بعض، وكثير من حركاتهم، وإنما يلي بعضهم من بعض ظهورهم. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 329.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تسوية الصفوف:
ذهب جمهور العلماء إلى أن تسويتها مستحبّة، وقد استُدِلّ لهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الصف في الصلاة؛ فإن إقامة الصفّ من حسن الصلاة"، ولمسلم من حديث أنس رضي الله عنه:"سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"، وللبخاريّ:"من إقامة الصلاة".
قال ابن بطّال رحمه الله: هذا يدلّ على أن إقامة الصفوف سنّةٌ؛ لأنه لو كان فرضًا لم يجعله من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب. قال: ودلّ هذا على أن قوله في حديث أنس رضي الله عنه: "من إقامة الصلاة" أن إقامة الصلاة تقع على السنّة كما تقع على الفريضة.
وقال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله: قد يؤخذ من قوله: "من تمام الصلاة" أنه مستحبّ غير واجب؛ لأنه لم يذكر أنه من أركانها، ولا من واجباتها، وتمام الشيء أمر زائد على وجود حقيقته التي لا يتحقّق إلا بها في مشهور الاصطلاح، قال: وقد ينطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتمّ الحقيقة إلا به. انتهى.
واعترضه الصنعانيّ رحمه الله في قوله: "ولم يذكر أنه من أركانها، ولا من واجباتها" قائلًا: التعبير بالأركان والواجبات ليس من المطّرد، واعتبارات الشارع له مسلّم، بل قال في الفاتحة:"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن"، وقال صلى الله عليه وسلم:"فإنك لم تصلّ"، وغاية كون هذا القول، أو الفعل ركنًا من الصلاة، أو واجبًا منها لم يقع التعبير به في لسان الشرع فيما لا تتمّ الصلاة إلا به، وإن جاء فنادرٌ. انتهى.
واعترض الحافظ رحمه الله قوله: "في مشهور الاصطلاح"، فقال: وهذا الأخذ بعيدٌ؛ لأن لفظ الشارع لا يُحْمَل إلا على ما دلّ عليه الوضع في اللسان العربيّ، وإنما يُحْمَل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع، لا العرف الحادث. انتهى.
وذهب أبو محمد بن حزم: إلى فرضيّة تسوية الصفوف، وبطلان الصلاة بتركه، فقال: وفَرْضٌ على المأمومين تعديل الصفوف، الأول فالأول، والتراصّ فيها، والمحاذاة بالمناكب والأرجل، فإن كان نقصٌ كان في آخرها، ومن صلى
وأمامه في الصف فُرْجة يمكنه سدّها بنفسه، فلم يفعل بطلت صلاته. انتهى
(1)
.
ثم ذكر حديث النعمان بن بشير: "لتسوُّنّ صفوفكم، أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم"، قال: وهذا وعيد شديدٌ، والوعيد لا يكون إلا في كبيرة من الكبائر، ثم ذكر قول أنس: كان أحدنا يُلْزِق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، وهو في "صحيح البخاريّ"، ثم قال: هذا إجماع منهم، ثم قال: وبقولنا يقول السلف الطيِّب، رَوَينا بأصح إسناد عن أبي عثمان النَّهديّ قال: كنت فيمن ضرب عمرُ بن الخطاب قدمه لإقامة الصف في الصلاة، قال ابن حزم: ما كان رضي الله عنه ليضرب أحدًا، ويستبيح بَشَرَةً مُحَرَّمة عليه على غير فرض، ثم حكى ابن حزم بعث عثمان رضي الله عنه رجلًا لذلك، وأنه لا يكبّر حتى يخبروه باستوائها، ثم قال: فهذا فعل الخليفتين بحضرة الصحابة، لا يخالفهم في ذلك أحد منهم، ثم حَكَى عن سُويد بن غَفَلة قال: كان بلال، هو مؤذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يضرب أقدامنا في الصلاة، ويسوِّي مناكبنا، ثم قال: فهذا بلال ما كان ليضرب أحدًا على غير الفرض، ثم حكى قولهم لأنس بن مالك: أتنكر شيئًا مما كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، قال ابن حزم: المباح ليس منكرًا. انتهى
(2)
.
وقد استدل الإمام البخاريّ رحمه الله بكلام أنس هذا على الوجوب، فبوّب عليه في "صحيحه"
(3)
: "باب إثم من لم يتم الصفوف"، وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: هذا الوعيد يعني الذي في حديث النعمان لا يكون إلا في ترك واجب، وهذا كان يقتضي الوجوب إلا أن الشرع سَمَحَ في ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "إلا أن الشرع سَمَحَ في ذلك" هذا
(1)
"المحلَّى" 4/ 52.
(2)
"المحلّى" 4/ 52 - 56.
(3)
نصّ الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب إثم من لم يُتمّ الصفوف، (724) حدّثنا معاذ بن أسد، قال: أخبرنا الفضل بن موسى، قال: أخبرنا سعيد بن عبيد الطائيّ، عن بُشَير بن يسار الأنصاريّ، عن أنس بن مالك، أنه قَدِم المدينة، فقيل له: ما أنكرتَ منّا منذ يوم عَهِدتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف". انتهى.
عجيبٌ، فمتى سمح فيه؟ فهل سمح بترك تسوية الصفوف، بعد قوله:"لتسوّن صفوفكم، أو ليُخالفنّ اللَّه بين وجوهكم"؟، فهيهات هيهات!!!.
وقال في "الفتح": قال ابن رُشيد: أورد فيه حديث أنس: "ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف".
وتُعُقّب بأن الإنكار قد يَقع على ترك السنّة، فلا يدلّ ذلك على حصول الإثم.
وأُجيب بأنه لعله حَمَل الأمر في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النور: 63] على أن المراد بالأمر الشأن والحال، لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أن من خالف شيئًا من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم أن يأثم؛ لِمَا يدُلّ عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنس رضي الله عنه ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. انتهى كلام ابن رُشيد ملخصًا.
قال الحافظ: وهو ضعيف؛ لأنه يُفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون؛ لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب.
وأما قول ابن بطال: إن تسوية الصفوف لَمّا كانت من السنن المندوب إليها التي يَستحِقّ فاعلها المدح عليها دلّ على أن تاركها يستحق الذم، فهو مُتَعقَّب من جهة أنه لا يلزم من ذمّ تارك السنّة أن يكون آثمًا، سَلَّمنا، لكن يَرِدُ عليه التعقب الذي قبله.
ويَحْتَمِل أن يكون البخاريّ أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صفوفكم"، ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي"، ومن ورود الوعيد على تركه، فرَجَح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الاحتمال الأخير هو الصواب، فالحقّ أن البخاريّ رحمه الله إنما أخذ الوجوب من هذه الأدلّة، ولا سيّما صيغة الأمر، فقد تقرّر في الأصول أن صيغة الأمر محمولة عند الجمهور على الوجوب، إلا لصارف، ولا صارف هنا، فتنبّه.
قال: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف، ولم يُسَوِّ
صحيحة؛ لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسًا رضي الله عنه مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة.
وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان، ونازع مَن ادَّعَى الإجماع على عدم الوجوب بما صحّ عن عمر أنه ضَرَب قَدَم أبي عثمان النهديّ لإقامة الصف، وبما صحّ عن سُوَيد بن غَفَلة، قال: كان بلال يُسَوِّي مناكبنا، ويضرب أقدامنا في الصلاة، فقال: ما كان عمر وبلال يضربان أحدًا على ترك غير الواجب.
وفيه نظر؛ لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنّة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجّح عندي وجوبُ تسوية الصفوف، كما هو ظاهر صنيع الإمام البخاريّ رحمه الله المذكور آنفًا، ومن أوضح الأدلّة على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم به، والأمر للوجوب كما أسلفناه آنفًا، ومنها الوعيد المذكور في أحاديث الباب بقوله:"أو ليخالفنّ اللَّه بين وجوهكم"، ومنها ما صحّ من ضرب عمر، وبلال رضي الله عنهما على تركه.
وخلاصة القول أن الأدلة التي استدلّ بها ابن حزم واضحة في إفادة الوجوب، وأما إفادتها البطلان فغير واضحة، ولذا قال الصنعانيّ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم من كلام الحافظ رحمه الله ما نصّه: قلت: الوعيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لتسوّنّ صفوفكم، أو ليُخالفنّ اللَّه بين وجوهكم " يقتضي الوجوب، كما قاله ابن رسلان في "شرح الترمذيّ" ويؤئده حديث أبي أُمامة رضي الله عنه عند أحمد:"لتسونّ صفوفكم، أو لتُطمسنّ الوجوه"
(2)
، ولهذا قال ابن الجوزيّ: الظاهر أنه مثل الوعيد في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الآية [النساء: 47].
نعم الأوامر، والوعيد، وفعل عمر وبلال أدلّة على الوجوب ناهضةٌ،
(1)
"الفتح" 2/ 245 - 246.
(2)
حديث ضعيف، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، راجع:"ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله (4653).
وأما على بطلان الصلاة، فلا بدّ من الدليل عليه. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
فتلخّص من هذا أن الراجح وجوب تسوية الصفوف دون بطلان الصلاة بعدم تسويتها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[978]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) قَالَ:
(2)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى -يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ- (ح) قَالَ: وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ)
(3)
.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(جَرِير) بن عبد الحميد، تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ خَشْرَمٍ) هو: عليّ بن خَشْرَم -بالخاء المعجمة، وزان جعفر- المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
4 -
(ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيان الإمام الحجة الفقيه المشهور، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
وإسحاق بن راهويه، وعيسى بن يونس تقدّما في الباب الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني أن كلًّا من جرير، وعيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة رووا هذا الحديث عن الأعمش بإسناده السابق، وهو: عن عمارة بن عُمير التيميّ، عن أبي معمر، عن أبي مسعود رضي الله عنه.
(1)
"العدة حاشية العمدة" 2/ 217 - 218.
(2)
وفي نسخة: "قال: (ح) " بتقديم "قال" في الموضعين.
(3)
سقط من بعض النسخ لفظة "نحوه".
وقوله: (نَحْوَهُ) أي نحو حديث عبد اللَّه بن إدريس، وأبي معاوية، ووكيع، ثلاثتهم عن الأعمش.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة هذه ساقها الإمام ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(976)
حدّثنا محمد بن الصباح، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول:"لا تختلفوا، فتختلفَ قلوبكم، لِيَلِيَنِّي منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". انتهى.
وأما رواية جرير، وعيسى، فلم أجد من أفردهما، إلا أن أبا نُعيم ساقهما في جملة رواية ساقها عن جماعة رووا عن الأعمش، فقال في "مستخرجه" (2/ 55):
(964)
حدّثنا أبو بكر بن يحيى الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، قال: وحدّث عن أبي بكر بن أبي شيبة في كتابي، ثنا عبد اللَّه بن إدريس، وأبو معاوية، ووكيع (ح) وحدّثنا أبو عمرو، ثنا الحسن، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد اللَّه بن إدريس، وأبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش (ح) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ومخلد بن جعفر، قالا: ثنا جعفر بن محمد الفريابيّ، ثنا أبو كريب، ثنا وكيع، وابن فضيل، وابن نمير، وأبو معاوية، وابن إدريس، وأبو خالد الأحمر، ومحمد بن عُبيد، قالوا: عن الأعمش، وحدّثنا أبو أحمد، ثنا عبد اللَّه بن شيرويه، ثنا إسحاق، ثنا جرير، وعبد اللَّه بن إدريس، وعيسى بن يونس، ووكيع، عن الأعمش (ح) وحدّثنا جعفر بن محمد بن عمرو، ثنا أبو حصين الوادعيّ، ثنا يحيى الْحِمّانيّ، ثنا عبد اللَّه بن إدريس، ووكيع، وأبو معاوية، ويعلى، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول:"استَوُوا، لا تختلفوا، فتختلفَ قلوبكم، لِيَلِيَنِّي منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، قال أبو مسعود
(1)
: فأنتم اليوم أشدّ اختلافًا.
(1)
وقع في النسخة: "ابن مسعود"، وهو غلطٌ، فتنبّه.
انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[979]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، وَصَالِحُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنِي خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقة [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(صَالِحُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ) أبو محمد البصريّ، صدوقٌ [10].
رَوَى عن أبيه، ويزيد بن زريع، وحماد بن زيد، ومعتمر، وعبد الوهاب الثقفيّ.
وروى عنه مسلم، وإبراهيم أبو رِمْثة، وبَقِيّ بن مَخْلد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازيّ، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وأبو القاسم البغويّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: شيخٌ، وقال ابن قانع: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال موسى بن هارون: مات سنة ست وثلاثين ومائتين.
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (432) وحديث (1872).
3 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
4 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) ابن مِهْرَان، أبو الْمنازل البصريّ، ثقةٌ يُرسل، وتغيّر حفظه لَمّا قَدِمَ من الشام [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
5 -
(أَبُو مَعْشَرٍ) زياد بن كُليب الحنظليّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 19 أو 120)(م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
6 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) 6/ 52.
7 -
(عَلْقَمَةُ) بن قيس النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
8 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه، وأبا معشر، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أبي معشر، والباقون بصريّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: إبراهيم، عن علقمة.
5 -
(ومنها): أن رواية خالد الحذّاء عن أبي معشر من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن خالدًا من الطبقة الخامسة، وأبا معشر من السادسة.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من أكابر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وقرّائهم، جمّ المناقب، وقد تقدّم غير مرّة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَام وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا") أي كرّر "ثم الذين يلونهم" ثلاث مرّات (وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ") بفتح الهاء، وسكون الياء، وبالشين المعجمة: جمع هَيْشَة بالفتح: أي اختلاطها، والمنازعة، والخصومات، وارتفاع الأصوات، واللغط، والفِتَن التي فيها، قاله النوويّ.
وقال ابن الأثير رحمه الله: قوله: "إياكم وهَوْشَات الأسواق"، ويُروى بالياء: أي فِتَنها وهَيْجها. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ في "المعالم": أصله من الْهَوْش، وهو الاختلاط، يقال: تهاوش القومُ: إذا اختلطوا، ودخل بعضهم في بعض، وبينهم تهاوشٌ، واختلاف. انتهى.
وقال في "المرقاة": "هيشات الأسواق": جمع هَيْشَة، وهي رفع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضورٌ بين يدي الحضرة الإلهيّة، فينبغي أن يكونوا على السكوت، وآداب العبوديّة، وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يُميّز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميّز الصبيان من البالغين، ولا الذكور من الإناث. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ: هي ما يكون من الْجَلَبَة، وارتفاع الأصوات، وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميّز الذكور من الإناث، ولا الصبيان من البالغين، ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق، فإنه يمنعكم أن تلوني. انتهى
(3)
.
[فائدة]: ذكر القرطبيّ في "المفهم" قال: قال أبو عبيد: الْهَوْشَةُ: الفتنة، والهيج، والاختلاط، يقال: هَوَّش القومُ: إذا اختلطوا، ومنه:"من أصاب مالًا من نَهَاوِش، أذهبه اللَّه في نَهَابِر"، قال أبو عبيد: هو كلّ مال أُخذ من غير حلّه، وهو شبيه بما ذكرنا من الهوشات، وقال بعض أهل العلم: الصواب: من تهاوش بالتاء، أي من تخاليط. انتهى
(4)
.
وقال ابن الأثير: "من أصاب مالًا من مهاوِش، أذهبه اللَّه في نهابِر"
(5)
، هو كلّ مال أُصيب من غير حلّه، ولا يُدرى ما وجهه، والْهُوَاشُ بالضمّ: ما جُمع من مال حرام وحلال، كأنه جمع مَهْوَاش، من الْهَوْش: الجمع والخلط، والميم زائدة.
(1)
"النهاية" 5/ 282.
(2)
"المرقاة" 3/ 172.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1142.
(4)
"المفهم" 2/ 63.
(5)
ومعنى نهابر: مهالك.
ويُروى "نهاوِش" بالنون، و"تَهاوِش" بالتاء، وكسر الواو: جمع تَهْواش، وهو بمعناه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول: "من أصاب مالًا. . . إلخ" أخرجه القضاعيّ في "مسنده"(1/ 271) رقم (441) وفيه عمرو بن الحصين متروك، وقال السبكيّ في "الفتاوى" (2/ 369): هذا الحديث لم يصحّ، ولا هو وارد في الكتب المذكورة، ومن أورده من العوامّ، فإن كان مع علمه بعدم وروده أثم، وإن اعتقد وروده لم يأثم، وعُذر لجهله، إلى آخر كلامه. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: أورد الحافظ أبو الفضل بن عمّار رحمه الله في "علله" حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من رواية المصنّف، ثم قال: حدّثني محمد بن أحمد مولى بني هاشم، قال: سمعت حنبل بن إسحاق، عن عمّه أحمد بن حنبل، قال: هذا حديث منكر، قال أبو الفضل: قلت: إنما أنكره أحمد بن حنبل من هذا الطريق، فأما حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه، فهو صحيح. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن الإمام أحمد رحمه الله إنما أنكر كونه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ لكثرة من رواه من حديث أبي مسعود رضي الله عنه، فقد تقدّم بأسانيد كثيرة، فقد رواه عن الأعمش جمع، وهم: وكيع، وأبو معاوية، وعبد اللَّه بن إدريس، وجرير، وشعبة، ومحمد بن عُبيد، ويعلى بن عبيد، وابن فضيل، وابن نمير، وأبو خالد الأحمر، والثوريّ، وعيسى بن يونس، وابن عيينة
(4)
، ولم ينفرد به الأعمش، بل تابعه حبيب بن أبي ثابت، عن عمارة بن
(1)
"النهاية" 5/ 282.
(2)
أفاده محقّق "مسند الشهاب" 1/ 271.
(3)
راجع: كتابي "قرّة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجاج" 1/ 146.
(4)
راجع: "مستخرج أبي عوانة" 2/ 55 - 56.
عُمير، عند الطبرانيّ (17/ 597) والحاكم في "المستدرك"(1/ 219) ولم ينفرد به عمارة، فقد تابعه عمرو بن مُرّة، عن أبي معمر.
وأما هذا الحديث، فليس له إلا هذا الإسناد، لكن المصنّف رحمه الله لا يرى هذا علّة في صحّته؛ لثقة رجاله، وضبطهم، فلا يضرّ تفرّدهم، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 979](432)، و (أبو داود) في "الصلاة"(675)، و (الترمذيّ) فيها (228)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 475)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 290)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1572)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2180)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 96 - 97)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10041)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(821)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1384)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(966).
وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث أبي مسعود رضي الله عنه السابق، فراجعها هناك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[980]
(433) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة، وقد تقدّم بعينه قبل ثلاثة أبواب، ومن لطائفه أنه مسلسلٌ بالبصريين، وأن شيخيه من مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وفيه قتادة من المدلّسين، وقد عنعنه، لكن الراوي عنه شعبة، ولا يروي عن المدلسين إلا ما صرّحوا بسماعه.
لكن يعكر على هذا ما عند الإسماعيليّ، فقد زاد من طريق أبي داود
الطيالسيّ، قال: سمعت شعبة يقول: داهنت في هذا الحديث، لم أسأل قتادة: أسمعته من أنس أم لا؟ انتهى. قال الحافظ رحمه الله: ولم أره عن قتادة إلا معنعنًا، ولعلّ هذا هو السرّ في إيراد البخاريّ لحديث أبي هريرة معه في الباب؛ تقويةً. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قصّة شعبة المذكورة ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 379) فقال:
(1372)
حدّثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: سمعت شعبة يقول: كان همتي من الدنيا شَفَتَيْ قتادة، فإذا قال: سمعت كتبت، وإذا قال: قال تركت، وأنه حدّثني بهذا عن أنس بن مالك، يعني حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم:"سَوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"، فلم أسأله، أسمعته؟ مخافة أن يُفْسِده عليّ. انتهى.
قال الجامع: ولعلّ المصنّف رحمه الله أيضًا صنع كصنيع البخاريّ رحمه الله؛ للغرض المذكور، فأورد حديث أنس، ثم أتبعه بحديث أبي هريرة، عكس صنيع البخاريّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ) قال ابن دقيق العيد رحمه الله: تسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها
(2)
على سمت واحد، وقد تدلّ تسويتها أيضًا على سدّ الْفُرَج فيها؛ بناء على التسوية المعنويّة، والاتّفاق على أن تسويتها بالمعنى الأول والثاني أمر مطلوب، وإن كان الأظهر أنّ المراد بالحديث الأولَ. انتهى
(3)
.
فقوله: "سوّوا" فيه دليلٌ على وجوب تسوية الصفوف، وقد تقدّم أن هذا الحقّ.
(1)
"الفتح" 2/ 245.
(2)
قال البرماويّ: كان ينبغي أن يعبّر بالتعديل، فإنه هو التسوية، لا الاعتدال؛ إذ لا يفسّر المتعدّي بالقاصر. اهـ. "العدّة" 2/ 216.
(3)
"إحكام الأحكام" 2/ 216 بنسخة الحاشية.
(فَإِنَّ تَسْوِيةَ الصَّفِّ) بالإفراد، والمراد به الجنس، وفي رواية البخاريّ:"الصفوف" بالجمع (مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ") هكذا عند المصنّف بلفظ "تمام"، وكذا عند أبي داود، وابن ماجه، والإسماعيليّ، والبيهقيّ وغيرهم، ولفظ البخاريّ:"من إقامة الصلاة" أي من جملة إقامة الصلاة المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة، كقوله تعالى:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [المائدة: 55]، وهي تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها، وسننها، وآدابها.
وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن من تمام الصلاة إقامةَ الصفّ"
(1)
، أخرجه أحمد، وأبو يعلى، والطبرانيّ في "الكبير"، و"الأوسط".
قال العينيّ: أي من تمام الصلاة، أو من حسن تمام الصلاة.
وتعقّبه صاحب "المرعاة"، فقال: هذا خلاف الظاهر، والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال، أو الحسن. انتهى
(2)
، وهو تعقّب وجيه.
والحاصل أن الحديث من أدلّة وجوب التسوية، كما أسلفنا تحقيقه في شرح حديث أبي مسعود رضي الله عنه الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 980 و 981](433) و (434)، و (البخاريّ) في "الأذان"(718 و 723)، و (أبو داود) في "الصلاة"(668)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 91)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(993)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1982)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2426 و 2427 و 2463)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 351)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 177 و 254 و 274 و 279 و 286 و 291)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 289)، و (ابن
(1)
حديث صحيح.
(2)
راجع: "المرعاة" 4/ 7.
حبّان) في "صحيحه"(2171 و 2174)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1543)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2997 و 3055 و 3137 و 3188 و 3212 و 3291)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 99 - 100)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(808 و 812)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1372 و 1373)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(967 و 968).
وأما بقيّة مسائل الحديث، فقد تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[981]
(434) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتِمُّوا الصُّفُوفَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُليّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235)، وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
و"أنس" رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (50) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالبصريين، وشيخه أُبُليّ -بضمتين، وتشديد اللام- نسبة إلى "أُبُلّة" موضع بالبصرة، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي) الفاء للتعليل، فالجملة تعليل للأمر بإتمام الصفوف، فكأنه يقول لهم: إنما أمرتكم بذلك؛ لأني تحقّقت منكم خلافه، وقد تقدّم قريبًا المعنى المراد من هذه الرؤية، وأن الصواب أنها رؤية
حقيقيّة، خلافًا لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروريّ له بذلك، ونحو ذلك، قال ابن المنيّر رحمه الله: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة، وقال القرطبيّ رحمه الله: بل حملها على ظاهرها أولى؛ لأنه زيادة في كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[982]
(435) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: "أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة، وقد تقدّم هذا الإسناد بعينه قبل أربعة أبواب.
وقوله: (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير همّام، واسم الإشارة إلى كتاب مجموع من أحاديث، وهي الصحيفة المشهورة بصحيفة همّام بن منبّه، رواها عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ثم رواها أصحاب الكتب الستّة عن أصحاب عبد الرزاق، وقد تقدّم بيانها غير مرّة.
وقوله: (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) أي ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أحاديث كثيرة، ويحتمل أن يكون الضمير لهمّام.
وقوله: (مِنْهَا: وَقَالَ. . . إلخ) الجارّ والمجرور خبر مقدّم، و"قال" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه.
وقوله: (أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ) هكذا بإفراد "الصفّ"، والمراد الجنس، أي سوّوه، وعدّلوه، وتراصّوا فيه.
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 243.
وقوله: (فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ) قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" مترجمًا على هذا الحديث: "بابٌ إقامةُ الصّفّ من تمام الصلاة"، ثم أورده، قال ابن رُشيد: إنما قال البخاريّ في الترجمة: "من تمام الصلاة"، ولفظ الحديث "من حسن الصلاة"؛ لأنه أراد أن يُبيّن أنه المراد بالحسن هنا، وأنه لا يُعْنَى به الظاهر المرئيّ من الترتيب، بل المقصود منه الحسن الحكميّ بدليل حديث أنس، يعني الحديث الذي قبله، حيث عبّر فيه بقوله:"من إقامة الصلاة"
(1)
. انتهى
(2)
، وتمام شرح الحديث تقدّم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 982](435)، و (البخاريّ) في "الأذان"(722)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2424)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 314)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2177)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1374)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 99)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(969).
[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مختصر عند المصنّف، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال:
(722)
حدّثنا عبد اللَّه بن محمد، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى جالسًا فصلّوا جلوسًا أجمعون، وأقيموا الصفّ في الصلاة، فإن إقامة الصفّ من حسن
(1)
هذا لفظه عند البخاريّ، وأما لفظه عند مسلم:"من تمام الصلاة"، كما تقدّم قريبًا.
(2)
"الفتح" 2/ 244 - 245.
الصلاة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[983]
(436) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ الْغَطَفَانِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
2 -
(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ
(1)
الْغَطَفَانِيُّ)
(2)
واسم أبيه رافع الأشجعيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ يُرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 98) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.
3 -
(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِير) بن سَعْد بن ثَعْلَبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ بالمدنيّ، ثم سكن الشام، ثم وَلِي إِمْرة الكوفة، ثم قُتِل بحمص سنة (65) وله (64) سنة (ع) تقدّم في "الإيمان" 97/ 522.
والباقون تقدّموا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه منَ سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ فرّق بينهم؛ لاختلاف صيغ الأداء، فأبو بكر قال: حدّثنا غندر، فذكره بلقبه، وقال:"عن شعبة"، وأما ابن المثنّى وابن بشّار فقالا: حدّثنا
(1)
بفتح الجيم، وسكون العين المهملة.
(2)
بفتح الغين المعجمة، وفتح الطاء المهملة، بعدها فاء: نسبة إلى غَطَفَان، قبيلة كبيرة من قيس عَيْلان، وبطنٌ من جُهَينة، ومن جُذَام، قاله في "اللبّ".
محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، فذكراه باسمه، وصرّحا بتحديث شعبة له.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، غير أبي بكر، فكوفيّ، كالباقين.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعي: عمرو، عن سالم، وشرح الحديث يأتي في الذي بعده، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[984]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا، فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: "عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 3 أو 174)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 62.
3 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذُّهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (51) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا) أي يعَدِّلها بيده، أو بأمره (حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا) أي بالصفوف (الْقِدَاحَ) -بكسر القاف، وتخفيف الدال- جمع قِدْحٍ -بكسر، فسكون- وهو خَشَبُ السهام حين تُنْحَتُ وتُبْرَى، قال الخطّابيّ رحمه الله في
"المعالم": القِدْحُ: خشب السهم إذا بُري، وأُصلح قبل أن يركّب فيه النَّصْلُ والرِّيش. انتهى
(1)
. وقيل: هو السهم مطلقًا.
والمعنى: أنه يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يُقَوَّم بها السهام؛ لشدة استوائها واعتدالها، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "الْقِدْح" بالكسر: السهم قبل أن يُرَاش، ويُرَكَّبَ نَصْلُهُ، وجمعه: قِدَاحٌ، وضَرْبُ المثل به ها هنا من أبلغ الأشياء في المعنى المراد منه؛ لأن الْقِدْح لا يَصلُحُ لما يُراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جُمع مع الغُنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف، أي يسوّي كلّ صفّ على حِدَته كما يُسوّي الصانع كلَّ قِدْحٍ على حِدَتِهِ، ورُوعِيَ في قوله:"يُسوّي بها القداح" نكتةٌ؛ لأن الظاهر أن يقال: كأنما يسوّيها بالقِدَاح، والباء للآلة، كما في قولك كتبتُ بالقلم، فعَكَسَ، وجَعَل الصفوف هي التي يُسوَّى بها القِدَاح؛ مبالغة في استوائها. انتهى
(3)
.
وفي رواية لأحمد في "مسنده"(4/ 272): "كان يسوّينا في الصفوف، حتى كأنما يُحاذي بنا الْقِدَاح"، وفي رواية له (4/ 271):"يقيم الصفوف كما تقام الرماح، أو الْقِدَاح"، وفي رواية له (4/ 277)، وابن ماجه (994):"يُسوّي الصفّ حتى يَجعله مثلَ الرُّمْح، أو الْقِدْحِ".
(حَتَّى رَأَى) أي عَلِم النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ) أي فَهِمنا التسوية التي أرادها منّا، وقال الطيبيّ رحمه الله: يعني أنه لم يبرح صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منّا، وتعقّلنا عنه فعله. انتهى.
(ثُمَّ خَرَجَ) أي من بيته إلى المسجد ليصلّي بالناس (يَوْمًا، فَقَامَ) أي في محلّ إمامته (حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ) الغالب في خبر "كاد" أن يكون مضارعًا، وأن يُجرّد من "أن"، كما قال في "الخلاصة":
كَـ "كَانَ""كَادَ" وَ"عَسَى" لَكِنْ نَدَرْ
…
غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ
وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ "عَسَى"
…
نَزْرٌ وَ"كَادَ" الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا
(1)
"المعالم" 1/ 184.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 157.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1140.
والمعنى: حتى قرُب تكبيره صلى الله عليه وسلم للإحرام.
(فَرَأَى رَجُلًا) لم يُذكر اسمه (بَادِيًا) أي ظاهرًا خارجًا (صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ) أي من صُدُور أهل الصفّ، وفي رواية لأحمد، وأبي داود:"حتى إذا ظَنّ أنا قد أخذنا ذلك عنه، وفهمناه، أقبل ذات يوم بوجهه، فإذا رجل مُنْتَبِذٌ بصدره. . . "، وفي رواية لأحمد:"فلما أراد أن يكبّر رأى رجلًا شاخصًا صدره. . . "، وفي رواية له، وابن ماجه:"فرأى صدر رجل ناتئًا" يعني مرتفعًا بالتقدّم على أصحابه
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عِبَادَ اللَّهِ) منصوب على النداء بحذف حرف النداء، وهو جائز في سعة الكلام، كما قال في "الخلاصة":
وَغَيْرُ مُضْمَرٍ وَمَنْدُوبٍ وَمَا
…
جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا
وقال الحريريّ رحمه الله في "مُلْحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
(لَتُسَوُّنَّ) -بفتح اللام، وضم التاء المثناة، وفتح السين، وضم الواو المشددة، وتشديد النون- ووقع في "صحيح البخاريّ" في رواية المستملي:"لَتُسَوُّون" بواوين، قال البيضاويّ: هذه اللام هي التي يُتَلَقَّى بها القسم، والقسم هنا مقدَّر، ولهذا أكده بالنون المشددة. انتهى. وقد صرّح بالقسم في رواية لأبي داود، ولفظه:"واللَّه لتقيمنّ صفوفكم، أو ليخالفنّ بين قلوبكم"(صُفُوفَكُمْ) بالنصب على المفعوليّة لـ "تُسوّنّ"، والمراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سَمْتٍ واحد، أو يراد بها سَدّ الخلل الذي في الصفّ (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) أي إن لم تُسَوُّوا. قال البيضاويّ:"أو" للعطف، رَدّد بين تسويتهم الصفوف، وما هو كاللازم لنقيضها، وقال الطيبيّ: إن مثل هذا التركيب متضمّن للأمر توبيخًا وتهديدًا، أي ليكن أحد الأمرين: إما تسوية الصفوف، أو أن يُخالف اللَّه تعالى بين وجوهكم. انتهى
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: قيل: معناه: يمسخها، ويُحَوِّلها عن صورها؛
(1)
"المرعاة" 4/ 3.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1140.
لقوله صلى الله عليه وسلم: "يَجعل اللَّه تعالى صورته صورة حمار"، وقيل: يُغَيِّرُ صفاتها، والأظهر -واللَّه أعلم- أن معناه: يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، كما يقال: تَغَيَّر وجه فلان عليّ: أي ظهر لي من وجهه كراهة لي، وتَغَيَّر قلبه عليّ؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. انتهى.
وقال في "الفتح": اختُلِف في الوعيد المذكور، فقيل: هو على حقيقته، والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضعَ القفا، أو نحو ذلك، فهو نظير ما تقدَّم من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل اللَّه رأسه رأس حمار، وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة.
قال: ويؤيد حمله على ظاهره حديثُ أبي أمامة رضي الله عنه: ("لَتُسَوُّنَّ الصفوفَ، أو لَتُطْمَسَنّ الوجوه"، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف، ولهذا قال ابن الجوزيّ: الظاهر أنه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الآية [النساء: 47].
ومنهم من حمله على المجاز، قال النوويّ: معناه: يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، كما تقول: تَغَيَّر وجه فلان عليّ: أي ظهر لي من وجهه كراهيةٌ؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيِّده رواية أبي داود وغيره بلفظ:"أو ليخالفَنّ اللَّه بين قلوبكم". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا داعي لدعوى المجاز، فالحقّ حمله على ظاهره، من تحويل خلق وجهه إلى خلق آخر، ولا ينافيه ما في أبي داود؛ إذ يمكن الجمع بين العقوبتين، أو بعقوبة بعضهم بهذا، وبعضهم بهذا، واللَّه تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه: تفترقون فيأخذ كلّ واحد وجهًا غير الذي أخذ صاحبه؛ لأن تقدّم الشخص على غيره مَظِنَّةُ الكبر الْمُفْسِد للقلب، الداعي إلى القطيعة.
(1)
"الفتح" 2/ 242 - 243.
والحاصل أن المراد بالوجه: إن حُمِل على العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، أو الصفة، أو جَعْلِ القدام وراء، وإن حُمِل على ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، أشار إلى ذلك الكرمانيّ.
ويَحْتَمِل أن يراد بالمخالفة في الجزاء، فيُجازي الْمُسَوِّي بخير، ومن لا يُسَوّي بشرّ. انتهى.
قال الجامع: هذا احتمال بعيد، فالصواب حمله على الحقيقة، كما سبق، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 983 و 984 و 985](436)، (والبخاريّ) في "الأذان"(717)، و (أبو داود) في "الصلاة"(663 و 665)، و (الترمذيّ) فيها (227)، و (النسائيّ) فيها (2/ 89)، و (ابن ماجه) فيها (994)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(791)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2429)، و (أبو بكر بن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 308)، و (عليّ بن الجعد) في "مسنده"(581)(1/ 351)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 272 و 276 و 277)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 21 و 3/ 100)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(810)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2165 و 2175 و 2176)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1378 و 1379 و 1380 و 1381)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(970 و 971 و 972)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على تسوية الصفوف، وشدّة اهتمامه بها، حتى يقوم بنفسه حقّ القيام.
2 -
(ومنها): أن فيه الحثَّ على تسويتها.
3 -
(ومنها): جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، قال
النوويّ رحمه الله: وهذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، ومنعه بعض العلماء، والصواب الجواز، وسواء كان الكلام لمصلحة الصلاة، أو لغيرها، أو لا لمصلحة. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أنه دليلٌ على أن تسوية الصفُوف واجبة، وأن التفريط فيها حرام؛ لأن هذا الأمر المقرون بالوعيد، وأمثاله لا يكون إلا على ترك واجب، وهذا هو القول الصحيح المختار، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[985]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ (ح) وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.
2 -
(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) بن سليمان الْبَجَليّ الْقَسْريّ، أبو عليّ الكوفيّ الْبُورَانيّ -بضمّ الموحّدة- الْحَصّار، ويقال: الْخَشّاب، ثقةٌ [10](ت 220) أو (221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
4 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 157.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ) يعني أن أبا الأحوص، وأبا عوانة حدّثا بإسناد سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما نحو حديث أبي خيثمة عنه.
[تنبيه]: رواية أبي الأحوص هذه ساقها الإمام النسائيّ رحمه الله، فقال:
(810)
أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: أنبأنا أبو الأحوص، عن سماك، عن النعمان بن بشير، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقَوِّم الصفوف، كما تُقَوَّم الْقِدَاح، فأبصر رجلًا خارجًا صدره من الصفّ، فلقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لَتُقِيمُنّ صفوفكم، أو ليخالفنّ اللَّه بين وجوهكم". انتهى.
وأما رواية أبي عوانة، فقد ساقها الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(210)
حدّثنا قتيبة، حدّثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صفوفنا، فخَرَجَ يومًا، فرأى رجلًا خارجًا صدره عن القوم، فقال:"لتسَوُّنّ صفوفكم، أو ليخالفنّ اللَّه بين وجوهكم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[986]
(437) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ المذكور قبل حديث.
2 -
(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه، إمام
دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْر) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) مقتولًا بقُديد (ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ) ذكوان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ سُمَيٍّ) بضم أوله، بصيغة التصغير (مَوْلَى أَبِى بَكْر) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان (السَّمَّانِ) بفتح السين المهملة، وتشديد الميم: نسبة إلى بيع السَّمْنَ، أو حمله من محلّ إلى محلّ آخر، ويقال له: الزّيّات؛ لأنه كان يجلُب السمن والزيت إلى الكوفة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) أي لو عَلِمُوا، فَوَضَع المضارع موضع الماضي؛ ليُفيد استمرار العلم، وأنه مما ينبغي أن يكون على بالٍ (مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان، قال في "الفتح": وهي رواية بِشْر بن عُمَر، عن مالك عند السّرّاج.
قال في "العمدة": الفرق بين النداء والأذان أن لفظة الأذان والتأذين أخصّ من لفظ النداء لغةً وشرعًا، والفرق بين الأذان والتأذين، أن التأذين يتناول جميع ما يصدُر من المؤذن من قول وفعل وهيئة ونية، وأما الأذان فهو حقيقةٌ تُعْقَلُ بدون ذلك. انتهى
(1)
.
(وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ في رواية له، من طريق الأعرج، عن أبي هريرة:"من الخير والبركة"، والتقدير: لو يعلم الناس ما في الصف الأول، وقال الطيبيّ رحمه الله: أَطْلَق مفعول "يَعْلَم"، وهو كلمة "ما"، ولم يُبَيِّن الفضيلة ما هي؟ ليفيد ضربًا من المبالغة، وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد بُيِّنت في الرواية الأخرى:"بالخير والبركة"، قاله في "الفتح"
(2)
.
[تنبيه]: اختُلف في المراد بالصفّ الأول، فقيل: ما يلي الإمام مطلقًا، وهو الأصحّ، وقيل: أول صفّ تامّ يلي الإمام، لا ما تخلّله شيء، كمقصورة، وقيل: المراد به من سبق إلى الصلاة، ولو صلّى في آخر الصفوف، وهذا ضعيفٌ.
وقال النوويّ رحمه الله: الصف الأول الممدوح الذي قد وردت الأحاديث بفضله، والحثّ عليه هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدمًا، أو متأخرًا، وسواء تخلله مقصورة ونحوها، أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون، وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه، لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول ما لا يتخلله شيء، وإن تأخر، وقيل: الصف الأول عبارة عن مجيء الإنسان إلى المسجد أوّلًا، وإن صلّى في صف متأخر، وهذان القولان غلطٌ صريحٌ، وإنما أذكره ومثله لأُنَبِّه على بطلانه؛ لئلا يغتر به.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 182.
(2)
2/ 115.
انتهى
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) أي للتمكّن من النداء والصفّ الأول، ووقع عند البخاريّ في رواية المستملي، والحمويّ:"ثم لا يجدون"، وحَكَى الكرمانيّ أن في بعض الروايات:"ثم لا يجدوا"، ووجّهَهُ بجواز حذف النون تخفيفًا، قال الحافظ: ولم أقف على هذه الرواية (إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا، من الاستهام، وهو الاقتراع، يقال: استهموا، فسَهَمَهم فلانٌ سَهْمًا: إذا أقرعهم، وقال صاحب "العين": القُرْعة مثالُ الظُّلْمة: الاقتراع، وقد اقتَرَعوا، وتقارعوا، وقارعته فقرعته: أي أصابتني القُرْعة دونه، وأقرعت بينهم: إذا أمرتهم أن يقترعوا، وقارعت بينهم أيضًا، والأول أصوب، ذكره ابن التيانيّ في "الموعب"، وفي "التهذيب" لأبي منصور، عن ابن الأعرابيّ: القرع، والسبق، والندب: الخطر الذي يَستِبق عليه.
والمعنى: لم يجدوا شيئًا من وجوه الأولوية إلا بالاقتراع، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت، وحسن الصوت، ونحو ذلك من شرائط المؤذن، وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يَصِلُوا دفعةً واحدةً، ويستووا في الفضل، فيُقْرَع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنهم لو عَلِمُوا فضيلة الأذان، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقًا يحصلونه به؛ لضيق الوقت، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله، ولو يعلمون ما في الصفّ الأول من الفضيلة نحو ما سبق، وجاءوا إليه دفعةً واحدةً، وضاق عليهم، ثم لم يسمح بعضهم لبعض به لاقترعوا عليه. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 160.
(2)
"الفتح" 2/ 115.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 157 - 158.
وقال الطيبيّ رحمه الله: المعنى: لو عَلِموا ما في النداء، والصف الأول من الفضيلة، ثم حاولوا الاستباق إليه لوجب عليهم ذلك، فوضعَ المضارع موضع ما يستدعيه "لو"؛ ليفيد استمرار العلم، وأنه ينبغي أن يكون على بال منه، ثم أتى بـ "ثُمَّ" الْمُؤْذِنةِ بتراخي رتبة الاستباق من العلم، وقَدَّم ذكرَ النداء؛ دلالةً على تَهَيُّؤ المقدمة الموصلة إلى المقصود الذي هو الْمُثُول بين يدي رب العزة، فيكون من المقرّبين، وأَطْلَقَ مفعول "يَعْلَم" يعني "ما"، ولم يُبيّن أن الفضيلة ما هي؟ ليفيد ضربًا من المبالغة، وأنه مما لا يدخل تحت الحصر والوصف، وكذا تصوير حالة الاستباق بالاستهام فيه من المبالغة البالغة حَدَّها؛ لأنه لا يقع إلا في أمر يَتنافس فيه المتنافسون، ويَرْغب فيه الراغبون، ولا سيّما إخراجه مخرج الاستثناء والحصر، وليت شعري بماذا يتشبّث، ويَتَمسّك مَن طَرَقَ سمعَه هذا البيان، ثم يتقاعد عن الجماعة خصوصًا عن الاستباق إلى الصفّ الأول؟ ولعلّه يعتذر بأنه خارج من زمرة من سَمِع وأطاع. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ.
قال في "الفتح": واستَدَلَّ به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر؛ لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام؛ لما فيه من المزية.
وزَعَمَ بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام، وأنه أُخْرِج مخرج المبالغة، واستَأْنَسَ بحديث لفظه:"لتجالدوا عليه بالسيوف"، لكن الأول أظهر، وأقرب، كما بيّنته رواية المصنّف من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة الآتية بلفظ:"لكانت قُرْعَةً"، وهذا هو الذي فهمه البخاريّ رحمه الله حيث قال:"باب الاستهام في الأذان"، ثم استشهد على ذلك بقصّة سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، وهو ما أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقيّ كلاهما من طريق أبي
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 896 - 897.
عبيد، عن هشيم، عن عبد اللَّه بن شبرمة، قال: تشاحّ الناس في الأذان بالقادسية، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم، وهذا منقطع، وقد وصله سيف بن عمر في "الفتوح"، والطبريّ من طريقه عنه، عن عبد اللَّه بن شُبْرُمة، عن شقيق، وهو أبو وائل، قال: افتتحنا القادسيّة صدر النهار، فتراجعنا، وقد أُصيب المؤذن، فذكره، وزاد:"فخرجت القرعة لرجل منهم، فأذّن"
(1)
.
وقوله: (عَلَيْهِ) أي على ما ذُكِرَ؛ لِيَشْمَل الأمرين: الأذان، والصف الأول، وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول، لا على النداء، وهو حقّ الكلام؛ لأن الضمير يعود لأقرب مذكور، ونازعه القرطبيّ، وقال: إنه يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له، قال: والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم، ومثله قوله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآية [الفرقان: 68] أي جميع ذلك.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله القرطبيّ أولى؛ لأنه تؤيّده رواية عبد الرزاق له، عن مالك، بلفظ:"لاستَهَموا عليهما"، فقد بيّنت المراد بالضمير في هذه الرواية، فتبصّر.
وقوله: (لَاسْتَهَمُوا) جواب "لو"؛ أي لاقترعوا على ما ذُكِرَ، والاستهام: بمعنى الاقتراع، ومنه قوله تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141]، قال الخطابيّ، وغيره: قيل له: الاستهام؛ لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غَلَب. انتهى.
قال الطيبيّ رحمه الله: فلَمّا فرغ من الترغيب في الاستباق إلى الصفّ الأول عقّبه بالترغيب في إدراك أوّل الوقت، ولذا أوجب أن يفسّر التهجير بالتبكير، كما ذهب إليه الكثيرون (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلاة، قاله الهرويّ، وحمله الخليل وغيره على ظاهره، فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت؛ لأن التهجير مشتقّ من الهاجرة، وهي شدّة الحرّ
(1)
"الفتح" 2/ 115.
نصف النهار، وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال البخاريّ، ولا يَرِدُ على ذلك مشروعية الإبراد؛ لأنه أريد به الرفق، وأما مَن تَرَك قائلته، وقَصَد إلى المسجد؛ لينتظر الصلاة، فلا يخفى ما له من الفضل، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: التهجير: التبكير إلى كلّ شيء، والمبادرة إليه، يقال: هَجَّرَ تهجيرًا، فهو مُهَجِّرٌ، وهي لغة حجازيّة، أراد المبادرة إلى أول وقت الصلاة، ومنه حديث الجمعة:"فالمهجِّر إليها كالمهدي بَدَنَةً".
قال: لا يقال: الأمر بالإبراد ينافي الأمر بالتهجير، والسعي إلى الجماعة بالظهيرة؛ لأنا نمنع ذلك، فإن كثيرًا من أصحابنا حملوا الأمر به على الرخصة، فعلى هذا يكون الإبراد رخصةً، والتهجير سنّةً، ومن حَمَل ذلك على الندب، فله أن يقول: الإبراد تأخير الظهر أدنى تأخير بحيث يقع الظلّ، ولا يخرج بذلك عن حدّ التهجير، فإن الهاجرة تُطلق على الوقت إلى أن يقرُب العصر. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح تفسير الهرويّ بأن التهجير هو التبكير في أول الوقت مطلقًا، والمراد به أول الوقت المستحبّ، فالتهجير في صيف الظهر يكون بعد الإبراد، أي في أول دخول البرودة، فلا منافاة بين التهجير، وبين الأمر بالإبراد، وهذا الذي رجّحته هو الذي قاله المجد في "القاموس"، ونصّه: والتهجير في قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُهَجِّر إلى الجمعة كالمهدي بَدَنَةً"، وفي قوله:"ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه" بمعنى التبكير إلى الصلوات، وهو المضيّ في أوائل أوقاتها، وليس من الهاجرة.
وقال قبل ذلك: والْهَجِيرُ، والهَجِيرةُ، والْهَجْرُ، والهاجرةُ: نصفُ النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو من عند زوالها إلى العصر؛ لأن الناس يَسْتَكِنُّونَ في بيوتهم، كأنهم قد تهاجروا، وشِدّةُ الحرّ، وهَجَّرْنا تهجيرًا، وأهجرنا، وتهَجَّرنا: سِرْنا في الهاجرة. انتهى
(3)
.
(1)
2/ 115.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 897.
(3)
"القاموس المحيط" 2/ 158.
وقال في "اللسان" نقلًا عن الأزهريّ: يذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث من المهاجرة وقت الزوال، قال: وهو غلطٌ، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفيّ، عن النضر بن شُمَيل أنه قال: التهجير إلى الجمعة وغيرها: التبكير، والمبادرة إلى كلّ شيء، قال: وسَمِعتُ الخليل يقول ذلك، قاله في تفسير هذا الحديث، يقال: هَجَّرَ يُهَجِّرُ تَهْجِيرًا، فهو مُهَجِّرٌ، قال الأزهريّ: وهذا صحيحٌ، وهي لغة أهل الحجاز، ومن جاورهم من قيس، قال لبيد [من البسيط]:
رَاحَ الْقَطِينُ بِهَجْرٍ بَعْدَ مَا ابْتَكَرُوا
فقَرَنَ الهجر بالابتكار، قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يَعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه" أراد التبكير إلى جميع الصلوات، وهو المضيّ إليها في أول أوقاتها.
قال الأزهريّ: وسائر العرب يقولون: هَجَّرَ الرجل: إذا خرج بالهاجرة، وهي نصف النهار، ويقال: أتيته بالْهَجِير، وبالْهَجْرِ. انتهى
(1)
.
فتبيّن بهذا أن إطلاق التهجير على التبكير المطلق، وهو المبادرة إلى الشيء أول وقته لغة ثابتة، فلا داعي أن يقال: إن هذا الحديث يعارض حديث الأمر بالإبراد في الظهر؛ إذ المراد المبادرة إلى الظهر أو غيره أول الوقت المستحبّ، فالتبكير في صيف الظهر يكون مع الإبراد، أي أن يذهب مبكّرًا بعد أن يُبرِد، ويذهب شدّة الحرّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي إلى التهجير، قال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق معنًى لا حِسًّا بأن يَسْبِق غيره في الحضور إلى الصلاة؛ لأن المسابقة على الأقدام حسًّا تقتضي السرعة في المشي، وهو ممنوع منه. انتهى.
(وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ) أي من مزيد الفضل، و"الْعَتَمَةُ" بفتحات: هي صلاة العشاء، يعني لو يعلمون ما في ثواب أدائها، وأداء الصبح (لَأَتَوْهُمَا) أي الصلاتين، و"أتى" بالقصر ثلاثيّ، يقال: أتى الرجلُ يأتي أَتْيًا، من باب ضرب: جاء، والاسم الإتيان، وأتيته يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، قال الشاعر:
(1)
"لسان العرب" 5/ 254 - 255.
فَاحْتَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ أَتْي الْعَسْكَرِ
وأتا يأتو أَتْوًا لغةٌ، قاله الفيّوميّ
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: المناسب هنا المتعدّي؛ لأنه عَمِلَ في ضمير المثنّى، فتنبّه.
والمراد لأتوا المحلّ الذي يُصلَّيان فيه جماعةً، وهو المسجد، وإنما خُصّتا بهذا؛ لأنهما في وقت النوم والغفلة، والكسل عن العبادة، فحُثَّ عليهما؛ لكونهما مظنّة التفويت، أفاده القاري
(2)
.
(وَلَوْ حَبْوًا") أي ولو كانوا حابين، من حَبَى الصبيّ: إذا مَشَى على أربع، قاله صاحب "المجمل"، ويقال: إذا مشى على يديه، أو ركبتيه، أو اسْتِهِ.
أي يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يَزْحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه:"ولو حَبْوًا على المرافق والرُّكَب"، قاله في "الفتح"
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 986](437)، و (البخاريّ) في "الأذان"(615 و 654 و 721) و"الشهادات"(2689)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(225 و 226)، و (النسائيّ) فيها (1/ 269 و 2/ 23)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 67)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2007)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 278 و 303 و 374 و 375 و 533)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(391)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1659 و 2153)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 428 و 10/ 288)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(384)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(970 و 1367)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(973)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 3 - 4.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 2/ 323.
(3)
2/ 166.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة الأذان، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في أبوابه.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة الصفّ الأول، والقرب من الإمام؛ لاستماع القرآن إذا جهر، والتأمين عند فراغه من الفاتحة، والتكبير عقب تكبيره، وأيضًا يَحْتَمِل أن يحتاج الإمام إلى استخلاف عند الحاجة، فيكون هو خليفته، فحصل له بذلك أجر عظيم، أو يضبط صفة الصلاة، وينقلها ويعلمها الناس، وسيأتي في الباب قوله صلى الله عليه وسلم:"خير صفوف الرجال أولها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أولها".
وأخرج الدارميّ بسند صحيح، عن عرباض بن سارية رضي الله عنه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للصف الأول ثلاثًا، وللصف الثاني مرةً".
وأخرج أبو داود بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم اللَّه في النار".
وأخرج النسائيّ بإسناد صحيح، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية، يمسح مناكبنا وصدورنا، ويقول: لا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، وكان يقول:"إن اللَّه وملائكته يصلون على الصفوف المتقدمة".
وأخرج الطبرانيّ بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:"إن اللَّه وملائكته يصلون على الصف الأول".
وعند ابن حبان عن البراء عن عازب رضي الله عنهما: "إن اللَّه وملائكته يصلون على الصف الأول"، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): بيان جواز تسمية العشاء عَتَمَةً، وقد ورد النهي عن تسميتها بها، فقد أخرج المصنّف عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَغْلِبَنَّكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب اللَّه العشاء، وإنها تُعْتِم بحلاب الإبل".
وقد جمع العلماء بينهما بوجهين:
(أحدهما): أن النهي للتنزيه، لا للتحريم.
(والثاني): وهو الأظهر، أن استعمال العتمة هنا لمصلحة، ونفي مفسدة؛
لأن العرب كانت تستعمل لفظة العشاء في المغرب، فلو قال:"لو يعلمون ما في العشاء والصبح" لحملوها على المغرب، ففسد المعنى، وفات المطلوب، فاستَعْمَل العتمة التي يعرفونها، ولا يَشُكُّون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخفّ المفسدتين لدفع أعظمهما
(1)
.
وسيأتي تمام البحث في هذا عند شرح الحديث المذكور برقم (644) -إن شاء اللَّه تعالى-.
4 -
(ومنها): بيان فضيلة التبكير إلى الصلاة في أول وقتها المستحبّ.
5 -
(ومنها): الحثّ على حضور صلاتي العشاء والصبح في المساجد، وبيان ما في ذلك من الفضل الكثير؛ وذلك لما فيهما من المشقّة على النفس بتنقيص أول النوم وآخره، ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين، فقد أخرج أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا".
6 -
(ومنها): مشروعيّة الاقتراع في الحقوق التي يُزدَحم عليها، ويُتنازع فيها.
7 -
(ومنها): أن الصف الثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع، وهلُمّ جَرًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[987]
(438) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: "تَقَدَّمُوا، فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ، حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّه").
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 4/ 158، و"عمدة القاري" 5/ 184.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) تقدّم في الباب.
2 -
(أَبُو الْأَشْهَبِ) جعفر بن حيّان السَّعْديّ الْعُطَارديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [6](ت 165) عن (95) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.
3 -
(أَبُو نَضْرَةَ الْعَبْدِيُّ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَوَقيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
4 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65 وقيل: 74) (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (51) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وشيخه أُبُلّيّ نسبة إلى قرية بالبصرة.
3 -
(ومنها): أن صحابيّه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى) هي هنا بصريّة، فلذا تعدّت إلى مفعول واحد، وهو قوله:"تأخّرًا"، وقوله:(فِي أَصْحَابِهِ) متعلّق بـ "رأى"، والظاهر أن المراد بعضهم (تَأَخُّرًا) أي عن الصفّ الأول، وفي الرواية التالية:"رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قومًا في مؤخَّر المسجد. . . "، ولعلّهم إنما تأخّروا لأنهم لما سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم:"ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" رأوا في أنفسهم قُصورًا عن هذه المرتبة، فتأخروا، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "رأى تأخّرًا في أصحابه" يَحْتَمِلُ أن يراد به التأخّر في صفوف الصلاة، والتأخّر عن أخذ العلم، فعلى الأول المعنى: ليَقِف العلماء والألبّاء من دونهم في الصفّ الثاني يقتدون بالصفّ الأول ظاهرًا لا حكمًا، وعلى الثاني المعنى: ليتعلّم كلُّكم منّي العلم، وأحكام الشريعة،
وليتعلّم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرنًا بعد قرن إلى انقضاء الدنيا، هذا تلخيص كلام المظهر. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (لَهُمْ: "تَقَدَّمُوا) أي إلى الصفّ الأول (فَأْتَمُّوا بِي) أي اقتدوا بأفعالي في الصلاة (وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ) بفتح ميم "من"، وهي موصولة مفعول "يأتمّ"، والظرف صلتها، أي ليقتد بكم الصفّ الذي يليكم.
قال القاضي عياضٌ رحمه الله: وقد يحتجّ بظاهره الشعبيّ من جواز الائتمام بالمأموم، وأن كلّ صفّ منهم إمام لمن وراءهم حتى لو دخل داخلٌ والإمام قد رفع رأسه من الركعة، والناس معه، فإن كان الصفّ الذي يلي الداخل لم يرفعوا رؤوسهم حتى ركع هذا الداخل أدرك الركعة؛ لأن بعضهم أئمة بعض، وعامّة الفقهاء لا يقولون بها، وهذا الحديث إنما جاء في ذمّ التأخّر، وأنهم إذا تأخّروا لم يعلموا ما حَدَثَ في الصلاة، ولا يتنبّه بعضهم لفعل الإمام بفعل بعض.
وقد يَحْتَمِلُ أن يكون قوله: "تقدّموا، فائتمّوا بي" يريد أهل وقته، ويأتمّ بكم من بعدكم فيما أخذتم به من سُنّتي، وتعلّمتموه عنّي، فحضّهم على التقدّم ليتحقّقوا الاقتداء به في جميع أفعاله وأقواله، ومشاهدة هيئاته في الصلاة وآدابه، وذلك لا يصحّ مع التأخّر. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: تمسّك بظاهره الشعبيّ على قوله: إن كلّ صفّ منهم إمام لمن وراءه، وعامّة الفقهاء لا يقولون بهذا؛ لأن الكلام مجمل؛ لأنه مُحْتَمِلٌ لأن يُراد به الاقتداء في فعل الصلاة، ولأن يُراد به في نقل أفعاله وأقواله وسنّته كي يُبلّغوها غيرهم، والشعبيّ دَفَعَ دعوى الإجمال، وتمسّك بالظاهر منه. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": ظاهره يدلّ لمذهب الشعبيّ رحمه الله، وأجاب النوويّ: بأن معنى: "وليأتمّ بكم مَنْ بَعْدَكم" أي يقتدوا بي مستدلّين على أفعالي بأفعالكم، ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه، ولا يسمعه
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1142.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 351.
(3)
"المفهم" 2/ 66.
على مُبَلّغٍ عنه، أو صَفٍّ قُدّامه يراه متابعًا للإمام، وقيل: معناه: تعلّموا منّي أحكام الشريعة، وليتعلّم منكم التابعون بعدكم، وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. انتهى
(1)
.
(لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ) أي عن الصفوف الأُوَل (حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّه") عز وجل أي عن رحمته، وعظيم فضله، ورفيع المنزلة، وعن العلم، ونحو ذلك، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله بعد ذكر كلام النوويّ المذكور ما نصّه: جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "حتى يؤخّرهم اللَّه في النار"، ومعناه: لا يزال يؤخّرهم عن رحمته وفضله حتى تكون عاقبة أمرهم إلى النار. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قيل: هذا في المنافقين، ويَحْتَمِلُ أن يراد به أن اللَّه يؤخّرهم عن رتبة العلماء المأخوذ عنهم، أو عن رتبة السابقين. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأولى تفسير التأخير المذكور في هذا الحديث بالتأخير في النار، كما فسّره حديث عائشة رضي الله عنها المذكور، وخير ما فُسّر به الوارد هو الوارد، والحديث أخرجه أبو داود في "سننه"(679) بسند صحيح، عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم اللَّه في النار"، وفي رواية لأحمد في "مسنده":"حتى يؤخّرهم اللَّه عز وجل يوم القيامة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الحديث علّقه الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 158 - 159، و"الفتح" 2/ 440.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 159.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1143.
(4)
"المفهم" 2/ 66.
ويُذكَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ائتمّوا بي، وليأتمّ بكم من بعدكم"، قال في "الفتح": قيل: إنما ذكره البخاريّ بصيغة التمريض؛ لأن أبا نضرة ليس على شرطه؛ لضعف فيه، قال: وهذا ليس بصواب؛ لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحًا للاحتجاج به عنده، وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحّة، والحقّ أن هذه الصيغة لا تختصّ بالضعيف، بل قد تُستَعمَل في الصحيح أيضًا، بخلاف صيغة الجزم، فإنها لا تُستَعْمَل إلا في الصحيح. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 987 و 988](438)، و (أبو داود) في "الصلاة"(679 و 680)، و (النسائيّ) فيها (2/ 83) وفي "الكبرى"(1/ 284)، و (ابن ماجه) فيها (978)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2/ 53)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 287)، و (أحمد) في "مسنده"(10715 و 10862 و 11087)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 276)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 27)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 327 و 401) و (3/ 27 و 51)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1458)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1385)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(974 و 975)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 103)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ذمّ التأخّر عن الصفّ الأول.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة العناية بالحثّ على المسابقة في الاقتداء به.
3 -
(ومنها): أن من تكاسل، وتهاون عن الصفوف الأُوَل يعاقبه اللَّه عز وجل بتأخيره عما ينال به الأجر والثواب من الأعمال الصالحات، ويَحْرِمه من القيام بأنواع الطاعات حتى يكون منتهاه إلى النار، نسأل اللَّه تعالى أن يثبّتنا على طاعته، ويجعلنا من أهل جنّته، إنه بعباده رءوف رحيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 2/ 440.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[988]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقنديّ الإمام الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ فاضل [11](ت 255) عن (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ) -بفتح الراء، وتخفيف القاف، ثم شين معجمة- هو: محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الملك بن مسلم، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، من كبار [10].
رَوَى عن أبيه، ووهيب بن خالد، ومالك، وعبد الواحد بن زياد، ومعتمر بن سليمان، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وبشر بن منصور السّليميّ، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ورَوَى مسلم، والنسائيّ، وابن ماجه له بواسطة عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارميّ، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن رافع، وعمرو بن منصور، والحسن بن إسحاق، وهلال بن العلاء، ومحمد بن يحيى الذُّهْليّ، وغيرهم.
قال الذُّهْليّ: كان متقنًا، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ ثبتٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ متعبدٌ عاقلٌ، يقال: إنه كان يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة
(1)
، وقال أبو حاتم: حدّثنا محمد بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ الثقة الرضيّ، وقال النسائيّ: ليس به بأس.
(1)
هذا فيه نظر لا يخفى، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى في يوم أربعمائة ركعة، فتفطّن، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وقد نبّهت على هذا غير مرّة.
وقال البخاريّ، وابن حبان: مات قبل سنة (222)، وقال أبو موسى، محمد بن المثنى: مات سنة تسع عشرة ومائتين، وقال غيره: مات سنة (217).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط
(1)
.
3 -
(بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ) السَّلِيميّ -بفتح السين المهملة، كسر اللام، وبعدها تحتانيّة- أبو محمد الأزديّ البصريّ، صدوقٌ عابدٌ زاهدٌ [8].
رَوَى عن أيوب السختيانيّ، وسعيد الْجُريريّ، وعاصم الأحول، وابن جُريج، وابن عجلان، وغيرهم.
وروى عنه ابنه إسماعيل، وعبد الرحمن بن مهديّ، وفُضيل بن عياض، وبشر الحافي، وعبد الأعلى بن حماد، وشيبان بن فَرُّوخ، وعُبيد اللَّه القَوَاريريّ، ومحمد بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، وغيرهم.
قال ابن مهديّ: ما رأيت أحدًا أخوف للَّه منه، وكان يصلي كل يوم خمسمائة ركعة
(2)
، وكان ورده ثلث القرآن، وقال القواريريّ: هو من أفضل من رأيت من المشايخ، وقال أبو زرعة: ثقةٌ مأمونٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال نصر بن علي الجهضميّ: ثبت في الحديث، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار أهل البصرة، وعُبّادهم، مات بعدما عَمِي، وقال يعقوب بن شيبة: كان قد سَمِع، ولم يكن له عناية بالحديث.
قال إسماعيل بن بشر: مات أبي سنة (180)، وكذا قال البخاريّ، عن ابن المدينيّ.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(الْجُرَيْرِيُّ) -بالضمّ مصغّرًا- سعيد بن إياس أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ، اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
(1)
ونقل في "تهذيب التهذيب"(9/ 247) عن "الزهرة" أن البخاريّ رَوَى عنه ثلاثة أحاديث، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
تقدّم الكلام عليه في الترجمة التي قبله، فتنبّه.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ) بفتح الخاء المشدّدة بصيغة اسم المفعول، قال في "المصباح": ومُؤَخَّرُ كُلِّ شيءٍ بالتثقيل والفتح: خلافُ مقدّمه. انتهى. والمعنى هنا: أي في آخر المسجد.
وقوله: (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) الفاعل ضمير الْجُريريّ، أي ذكر سعيد الْجُريريّ عن أبي نضرة، مثل حديث أبي الأشهب، عنه.
[تنبيه]: رواية الْجُريريّ هذه، ساقها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1385)
حدّثنا أيوب بن إسحاق بن سافري
(1)
، قال: ثنا محمد بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، قال: ثنا بشر بن منصور، عن الْجُرَيريّ، عن أبي نَضرَة، عن أبي سعيد، قال: رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ناسًا في مُؤَخَّر المسجد، فقال:"لا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم اللَّه، ادْنُوا مِنِّي، فائتَمُّوا بي، وليأتمّ بكم مَنْ بَعْدَكم". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[989]
(439) - (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو قَطَنٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ، أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ اَلْمُقَدَّمِ، لَكَانَتْ قُرْعَةً"، وَقَالَ ابْنُ حَرْبٍ: "الصَّفِّ الأَوَّلِ، مَا كَانَتْ إِلَّا قُرْعَةً").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِبْرَاهيمُ بْنُ دِينَارٍ) التّمّار، أبو إسحاق البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232)(م) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
(1)
كذا وقع في النسخة: "سافري"، ويحتاج إلى تحرير.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاسِطِيُّ) النشائيّ -بالمعجمة- ويقال: النشاستجيّ، أبو عبد اللَّه الواسطيّ، صدوقٌ، من صغار [10].
رَوَى عن إسماعيل ابن علية، وأبي معاوية، ومحمد بن يزيد الواسطيّ، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وعبد الوهاب بن عطاء، وأبي قَطَن عمرو بن الهيثم، وعلي بن عاصم الواسطيّ، وأبي بَدْر شُجَاع بن الوليد، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن خزيمة، ومحمد بن عبد اللَّه الحضرميّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال أبو القاسم الطبرانيّ: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال القرّاب: مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وقال ابن حبّان: مات بعد الخمسين.
روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وعند أبي داود حديث عُبَادة:"خمس صلوات افترضهن اللَّه. . . "
(1)
.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو قَطَنٍ) -بفتح القاف، والطاء المهملة- هو: عمرو بن الهيثم بن قَطَن بن كعب الزُّبَيديّ الْقُطَعِيّ -بضمّ القاف، وفتح الطاء المهملة- أبو قَطَن البصريّ، ثقةٌ، من صغار [9].
رَوَى عن شعبة، ومالك بن مِغْوَل، ومبارك بن فَضالة، ومالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وحمزة الزّيّات، وأبي حنيفة، وسعيد بن أبي عروبة، وأبي حُرّة واصل بن عبد الرحمن، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، ويحيى بن معين، ويحيى بن بِشْر اللَّخْميّ، وأحمد بن مَنِيع، وعمرو الناقد، وسُرَيج بن يونس، وبُندار، وأبو ثور، وإبراهيم بن دينار التمّار، ومحمد بن حرب النشائيّ، والحسن بن محمد الزعفرانيّ، وغيرهم.
قال الربيع بن سليمان، عن الشافعيّ: ثقة، وقال أبو داود، عن أحمد:
(1)
وذكر في "تهذيب التهذيب"(9/ 95) عن "الزهرة" أن البخاريّ روى عنه ثمانية أحاديث، واللَّه تعالى أعلم.
ما كان به بأسٌ، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه، قال: قال أبو قطن، وكان ثبتًا: ما أعرت أحدًا كتابي قطّ، وقال إبراهيم الحربيّ: ثنا عنه أحمد يومًا، فقال له رجل: إن هذا تَكَلَّم بعدكم في القدر، فقال أحمد: إن ثُلُث أهل البصرة قدريّة، وقال عبد اللَّه بن أحمد: قلت لأبي: أيما أحب إليك، أبو قَطَن، أو عبد الوهاب الْخَفّاف في سعيد بن أبي عروبة؟ فقال: الخفاف أقدم سماعًا، وقال ابن المدينيّ: ثقةٌ من الطبقة الرابعة من أصحاب شعبة، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبو زرعة، فذكره بجميل، وقال أبو حاتم: صدوقٌ صالحٌ، وقال صالح بن محمد البغداديّ: ثقةٌ، وقال عبد المؤمن بن خَلَف النسفيّ: سألت أبا عليّ صالح بن محمد، عن أبي قطن؟ فقال: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره مسلم بن الحجاج في الطبقة الثانية من ثقات أصحاب شعبة، مع وكيع، ويزيد بن هارون، وغيرهما.
وقال ابن حبّان: مات بعد المائتين، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وفيها أرَّخه ابن سعد، عن الواقديّ، وزاد: في شعبان، وهو ابن (77) سنةً.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (439)، وحديث في الدعاء برقم (2720).
4 -
(خِلَاس) -بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف اللام- ابن عمرو الْهَجَريّ -بفتحتين- البصريّ، ثقةٌ [2].
رَوَى عن عليّ، وعمار بن ياسر، وعائشة، وأبى هريرة، وابن عباس، وأبي رافع الصائغ، وغيرهم.
وروى عنه قتادة، وعوف الأعرابيّ، وجابر بن صُبْح، وداود بن أبي هند، وجماعة.
قال إبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجَانيّ، عن أحمد بن حنبل: روايته عن عليّ من كتاب، قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ ثقةٌ، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان يحيى بن سعيد يتوقى أن يُحَدِّث عن خِلاس، عن عليّ خاصةً، وأظنه حدّثنا عنه بحديث، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ ثقةٌ، قيل: سَمِع من عليّ؟ قال: لا، قال أبو داود: وسمعت أحمد يقول: لم يسمع خِلاس من
أبي هريرة شيئًا، وقال في موضع آخر: خِلاس لم يسمع من حذيفة، وقال أيضًا: كانوا يخشون أن يكون خِلاس يُحَدِّث عن صحيفة الحارث الأعور، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن خِلاس، سمع من عليّ؟ فقال: كان يحيى بن سعيد يقول: هو كتاب، وقد سمع من عمّار وعائشة، وابن عباس، وقال أبو حاتم: يقال: وقعت عنده صُحُف عن عليّ، وليس بقويّ، وقال ابن سعد: كان قديمًا كثير الحديث، له صحيفة يُحَدِّث عنها، وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحةٌ، ولم أر بعامّة حديثه بأسًا، حديثه في "صحيح البخاري" مقرون بغيره، وقال البخاريّ في "تاريخه": رَوَى عن أبي هريرة، وعليّ رضي الله عنهما صحيفةً، وقال أبو طالب: سألت أحمد: سَمِع خِلاس من عُمَر؟ فقال: لا، وقال عبد اللَّه بن أحمد في "العلل": قال يحيى بن سعيد: لم يسمع من عمر، ولا من عليّ، وقال الْجُوزجانيّ، والعقيليّ: كان على شُرْطة عليّ، وقال العجليّ: بصريّ، تابعيّ، ثقةٌ، وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: كان أبوه صحابيًّا، وما كان من حديثه عن أبي رافع، عن أبي هريرة احتُمِل، وأما عن عثمان، وعليّ فلا، وذكر محمد بن نصر في "كتاب الوتر" أنه قال: سألت عمار بن ياسر.
قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: مات خِلاس قبيل المائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(أَبُو رَافِعٍ) نُفيع الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.
والباقون تقدّموا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه، فالأول بغداديّ، والثاني واسطيّ، والصحابيّ مدنيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض: قتادة، عن خِلاس، عن أبي رافع.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ، أَوْ) للشكّ من الراوي، شكّ في قوله:"لو تعلمون" بالتاء المثنّاة الفوقانيّة، أو (يَعْلَمُونَ) بالياء التحتانيّة (مَما) موصولة مفعول "تعلمون"(فِي الصَّفَ الْمُقَدَّمِ) بصيغة اسم المفعول، أي الأوّل، يعني لو تعلمون أيها المخاطبون، أو يعلم المسلمون ما في الصفّ الأول من الفضل الجسيم، والأجر العظيم (لَكَانَتْ قُرْعَةً") اسم "كان" ضمير يعود إلى المفهوم، أي لكانت الخصلة الفاصلة للنزاع قُرْعةً، أو لكانت صلاة الجماعة، بالقُرعة (وَقَالَ) محمد (بْنُ حَرْبٍ) شيخه الثاني في روايته (الصَّفِّ الْأَوَّلِ) بدل قول إبراهيم بن دينار:"الصفّ اَلمقدَّم"، وقال أيضًا (مَا كَانَتْ إِلَّا قُرْعَةً) بدل قول إبراهيم: لكانت قُرْعة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: انتقد الإمام الدارقطنيّ رحمه الله هذا الحديث، ودونك نصّ "العلل":
(1642)
وسئل عن حديث أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-:"لو تعلمون ما في الصف الأول، لكانت قرعة"؟ فقال: يرويه قتادة، واختُلِف عنه، فرواه أبو قَطَن، عن شعبة، عن قتادة، عن خِلَاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وكذلك قال يعلى بن عَبّاد، عن همام، عن قتادة، وغيرهما يرويه عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، موقوفًا، قال ذلك سعيد بن أبي عروبة، وأبانٌ العطار، عن قتادة، هذا أشبه. انتهى
(1)
.
وكذلك انتقده صالح بن محمد، فقد ذكر في "التهذيب"
(2)
عن عبد المؤمن بن خَلَف النسفيّ، قال: سألت أبا عليّ صالح بن محمد، عن حديث أبي قَطَن، عن شعبة، عن قتادة، عن خِلاس، عن أبي رافع، عن أبي
(1)
راجع: "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للدارقطنيّ 9/ 61.
(2)
راجع: "تهذيب الكمال" 22/ 285، و"تهذيب التهذيب" 8/ 101.
هريرة، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-:"لو تعلمون ما في الصفّ المقدم، لكانت قرعة"؟ فقال: هذا خطأ، ثنا به يحيى بن معين، وأبو ثور، عن أبي قطن، ولم يرفعه أحد غيره، والصحيح عن أبي هريرة قوله. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لم يرفعه أحد غيره" فيه نظر، فقد تقدّم عن الدارقطنيّ أن يعلى بن عبّاد، رواه، عن همّام، عن قتادة مرفوعًا، فتنبّه.
والظاهر أن المصنّف: رجَّح الرفع على الوقف؛ لأن شعبة، وهمّام بن يحيى اتّفقا عليه، فمخالفة سعيد بن أبي عروبة وأبان العطّار لهما فيه لا تضرّ.
وأيضًا للرفع شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نفسِهِ، متّفق عليه، وقد تقدّم قبل حديثين، "لو يعلم الناس ما في النداء والصفّ الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا".
والحاصل أن الراجح هو الرفع، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 989](439)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(998)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1555)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 105)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(976)، و (ابن حزم) في "المحلَّى"(4/ 56)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 145)، وفوائد الحديث تقدّمت في الأحاديث السابقة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[990]
(440) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(جَرِيرٌ) هو ابن عبد الحميد، تقدّم
3 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح السمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
والباقون تقدّموا في الباب، وجرير: هو ابن عبد الحميد، وأبو سُهيل، أبو صالح ذكوان السمّان.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
3 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا)"خَيْرُ" مبتدأ خبره "أولها"، يعني أن أفضل صفوف الرجال، وأكثرها ثوابًا أولّها، وإنما كان خيرًا؛ لأن اللَّه تعالى وملائكته يُصلّون على الصفّ الأول، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّه وملائكته يصلون على الصف المقدم. . . " الحديث، ولفظ النسائيّ:"على الصفوف المتقدّمة".
ولأن الرجال اختصّوا بكمال الأوصاف، والضبط عن الإمام، والاقتداء به، والتبليغ عنه، ولما فيه من البعد من صفّ النساء، وقال ابن الملك: المراد بالخير كثرة الثواب، فإن الصفّ الأول أعلم بحال الإمام، فتكون متابعته أكثر، وثوابه أوفر. انتهى.
وقد تقدّم الخلاف في المراد بالصفّ الأول، وأن الراجح أنه الصفّ الذي يلي الإمام مطلقًا، سواء جاء صاحبه متقدّمًا، أم متأخّرًا، وسواء تخلّله مقصورة ونحوها، أم لا.
(وَشَرُّهَا آخِرُهَما) يعني أن أقلّ صفوف الرجال ثوابًا آخرها؛ لبعده عن الإمام، ولترك الفضيلة الحاصلة بالتقدّم إلى الصفّ الأول، ولقربه من صفّ النساء.
(وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا) أي لبعدهنّ من مخالطة الرجال، ورؤيتهم، وتعلّق القلب بهم عند رؤية حركاتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك (وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا") أي لكونه مظنّة المخالطة، وتعلّق القلب بهنّ، المتسبّب عن رؤيتهنّ، وسماع كلامهنّ.
وقال الطيبيّ رحمه الله: والخير والشرّ في صفّي الرجال والنساء للتفضيل؛ لئلا يلزم من نسبة الخير إلى أحد الصفّين شركة الآخر فيه، ومن نسبة الشرّ إلى أحدهما شركة الآخر فيه، فيتناقض، ونسبة الشرّ إلى الصفّ الأخير، مع أن صفوف الصلاة كلّها خيرٌ؛ إشارةٌ إلى أن تأخُّر الرجل عن مقام القرب مع تمكّنه منه هَضْمٌ لحقّه، وتسفيهٌ لرأيه، فلا يبعُد أن يسمّى شرًّا، قال أبو الطيّب [من الوافر]:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَاسِ عَيْبًا
(1)
…
كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
وقال المظهر رحمه الله: الرجال مأمورون بالتقدّم، فمن هو أكثر تقدّمًا، فهو أشدّ تعظيمًا لأمر الشرع، فيحصل له من الفضيلة ما لا يحصل لغيره، وأما النساء، فمأمورات بالحجاب، فمن هي أقرب إلى صفّ الرجال تكون أكثر تركًا للحجاب، فهي لذلك شرّ من اللائي تكنّ في الصفّ الأخير. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أما صفوف الرجال، فهي على عمومها، فخيرها أولها أبدًا، وشرها آخرها أبدًا، وأما صفوف النساء، فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صَلّين متميزات، لا مع الرجال، فهنّ كالرجال، خير صفوفهن أولها، وشرها آخرها، والمراد بشرّ الصفوف في الرجال والنساء أقلُّها ثوابًا وفضلًا، وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكسه، وإنما فُضِّل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال؛ لبعدهنّ من مخالطة الرجال، ورؤيتهم، وتعلُّق القلب بهم عند رؤية حركاتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك، وذُمَّ أول صفوفهن؛ لعكس ذلك. انتهى
(3)
.
(1)
وقع في النسخة: "شيئًا"، وما هنا من "فيض القدير"(3/ 487 - 488).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1144.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 159 - 160.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تفريق النوويّ رحمه الله في صفوف النساء بين صلاتهنّ مع الرجال، وصلاتهنّ وحدهنّ محلّ نظر؛ فإن ظاهر النصّ يعمّ النوعين، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 990 و 991](440)، و (أبو داود) في "الصلاة"(678)، و (الترمذيّ) فيها (224)، و (النسائيّ) فيها (2/ 93 - 94)، و (ابن ماجه) فيها (1000)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 139)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2408)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 385)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1000 و 1001)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 336 و 240 و 354 و 367 و 485)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 291)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1561)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1368 و 1369)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(977 و 978)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2179)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 97)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(815)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ترتيب صفوف الرجال والنساء في الفضل والثواب.
2 -
(ومنها): بيان أن خير صفوف الرجال، أولها، وشرها آخرها، وأما النساء فبالعكس.
3 -
(ومنها): بيان شدة عناية الشرع بالحثّ على الابتعاد عن محلّ الافتتان، فقد أمر ببعد النساء عن الرجال؛ لئلا يقع محظور شرعيّ.
4 -
(ومنها): بيان فضل الرجال على النساء، حيث يتقدّمون عليهنّ في المواطن المهمة، كصفوف الصلاة، وصفوف القتال، وغير ذلك، مما فضّل اللَّه تعالى به الرجال على النساء، فجعلهم متحمّلين عنهنّ من أعباء الدين، وأثقال
المعيشة، ما يشقّ عليهنّ تحمّله، كما قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[991]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد بن عُبيد الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
و"سهيل" ذُكر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية عبد العزيز الدراورديّ هذه ساقها الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(208)
حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"، وقال: حديث حسن صحيح.
قال: وفي الباب عن جابر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأُبَيّ، وعائشة، والعرباض بن سارية، وأنس، رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(30) - (بَابُ أَمْرِ النِّسَاءِ الْمُصَلِّيَاتِ وَرَاءَ الرِّجَالِ أَنْ لَا يَرْفَعْنَ رُؤُوسَهُنَّ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[992]
(441) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ، مِثْلَ الصِّبْيَانِ مِنْ ضِيقِ الْأُزرِ، خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، لَا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ
(1)
الرِّجَالُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ، من كبار [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
5 -
(سَهْلُ بْنُ سَعْد) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أبو العبّاس المدنيّ، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
وفي نسخة: "ترفع" بالتاء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى سفيان، والباقيان مدنيّان.
4 -
(ومنها): أنّ صحابيّه من المعمّرين، قد جاوز عمره مائة سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، وقيل: الآخر هو السائب بن يزيد، والأول هو الأصح، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ) اللام فيه للجنس، فهو في حكم النكرة، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"كان رجالٌ" بالتنكير وهو يقتضي أن بعضهم كان بخلاف ذلك، وهو كذلك، قاله في "الفتح"
(1)
. (عَاقِدِي أُزُرِهِمْ) منصوب على الحال، وأصله "عاقدين أزرَهم" بنصب "أزرهم" على المفعوليّة، فلما أُضيف سقطت النون للإضافة، كما قال في "الخلاصة":
نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا
…
مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كـ "طُورِ سِينَا"
و"عاقدي" جمع عاقد، اسم فاعل، من عَقَدَ الشيءَ، يقال: عَقَدَ الحبلَ وغيره، من باب ضرب: إذا شدّه، وربطه
(2)
.
و"الأُزُرُ" بضمّتين: جمع كثرة لإِزار، بالكسر: الْمِلْحَفة، يُذكَّر ويؤنّث، وجمع القلّة: آزِرةٌ، مثلُ حمار وحُمُرٍ وأَحْمِرَة
(3)
.
(فِي أَعْنَاقِهِمْ) متعلّق بـ "عاقدي"، وفي رواية البخاريّ:"على أعناقهم"(مِثْلَ الصِّبْيَانِ) بكسر الصاد المهملة، وضمّها، جمع صَبِيّ، وهو الصغير، وقوله:(مِنْ ضيقِ الْأُزُرِ) بيان لسبب عقدها على الأعناق، والمعنى: أنهم يَعْقِدون أُزُرهم على أعناقهم من أجل ضيقها، كما يعقد الصبيان على قفاهم (خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"عاقدي"، أو بحال مقدّر، أي حال كونهم واقفين
(1)
"الفتح" 1/ 564.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 421، و"القاموس المحيط" 1/ 315.
(3)
راجع: "المصباح" 1/ 13.
خلفه صلى الله عليه وسلم، يصلّون وراءه (فَقَالَ قَائِلٌ) يَحْتَمِل أن يكون هذا القائل هو النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون غيره، ويؤيّد الأول ما أخرجه أحمد، وأبو داود بسند صحيح، من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان منكنّ يؤمنّ باللَّه، واليوم الآخر، فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم؛ كراهةَ أن يَرَيْنَ من عورات الرجال".
ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "وقال للنساء"، قال في "الفتح": قال الكرمانيّ: فاعل "قال" هو النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، كذا جزم به، وقد وقع في رواية الكشميهنيّ: و"يقال للنساء"، قال: فكأن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- أمر من يقول لهنّ ذلك، ويغلب على الظنّ أنه بلال. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأقرب ما قدّمته من أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي باشر القول بنفسه؛ لحديث أسماء رضي الله عنها المذكور، وأما قول الحافظ:"يغلب على الظنّ. . . إلخ" فلم يذكر مستنده على الغلبة، واللَّه تعالى أعلم.
(يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ)"المعشر" بالفتح، كالْمَسْكَن: الجماعة، أي جماعة النساء (لَا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ) أي من السجود (حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ) هكذا رواية المصنّف، فيكون المفعول محذوفًا، أي رؤوسهم، وفي رواية البخاريّ:"حتى يستوي الرجال جُلُوسًا"، وهو جمع جالس، كالركوع جمع راكع، ويحتمل أن يكون مصدرًا بمعنى جالسين، ونصبه على الحال.
وإنما نُهي النساء عن ذلك؛ لئلا يَلْمَحْنَ عند رفع رؤوسهنّ من السجود شيئًا من عورات الرجال عند نهوضهم؛ لضيق الأُزُر، وقد تقدّم آنفًا التصريح بذلك في حديث أسماء رضي الله عنها عند أحمد، وأبى داود.
وفي رواية لابن خزيمة رقم (1695): "كُنّ النساء يؤمرن في الصلاة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعن رؤوسهنّ حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من قباحة الثياب"، ويؤخذ منه أنه لا يجب التستّر من أسفل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 992](441)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(362) و"الأذان"(814) و"العمل في الصلاة"(1215)، و (أبو داود) في "الصلاة"(630)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 70)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 53 - 54)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 433 و 5/ 331)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1695)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2301)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5763)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 241)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1453 و 1454 و 1455)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(979)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أمر النساء بعدم رفع رؤوسهنّ حتى لا يرين عورات الرجال.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ضيق المعيشة، وهم أنصار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو شاء لجعل اللَّه تعالى له الجبال ذهبًا، ولكنّ العيش عيش الآخرة.
3 -
(ومنها): أن فيه بيانَ أن النساء كنّ يصلّين جماعة مع الرجال في المسجد. 4 - (ومنها): أن صفوفهنّ خلف صفوف الرجال، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
5 -
(ومنها): بيان أن الإزار الضيّق يُعقد على القفا إذا أمكن؛ ليحصل به ستر بعض المنكبين مع العورة، ولهذا استدلّ به الإمام أحمد في رواية حنبل عنه
(1)
.
6 -
(ومنها): بيان عدم وجوب ستر أسفل البدن.
7 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله: إن من انكشف من عورته يسير في صلاة لم تبطل صلاته، قال: وقد استدلّ بذلك طائفة من الفقهاء، وتوقّف فيه الإمام أحمد، وقال: ليس هو بالبيّن، يشير إلى أنه لم يُذكَر فيه انكشاف العورة حقيقةً، إنما فيه خشية ذلك، وإنما ذكر حديث عمرو بن سَلِمة
(1)
راجع: "فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 370.
الْجَرْميّ أنه كان يُصلّي بقومه في بُرْدة له صغيرة، فكان إذا سجد تقلّصت عنه، فيبدو بعض عورته حتى قالت عجوز من ورائه: ألا تغطّون عنّا است قارئكم؟ أخرجه البخاريّ.
قال: ومذهب أحمد أنه إذا انكشفت العورة كلّها، أو كثيرٌ منها، ثم سترها في زمن يسير لم تبطل الصلاة، وكذلك إن انكشف منها شيء يسير، وهو ما لا يُستفحش في النظر، ولو طال زمنه، وإن كان كثيرًا، وطالت مدّة انكشافه بطلت الصلاة، وكذا قال الثوريّ: لو انكشفت عورته في صلاته لم يُعِد، ومراده إذا أعاد سترها في الحال.
ومذهب الشافعيّ أنه يُعيد الصلاة بانكشافها بكلّ حال، وعن أحمد ما يدلّ عليه.
وعن أبي حنيفة وأصحابه: إن انكشف من العورة المغلّظة دون قدر الدرهم فلا إعادة، ومن المخفّفة إن انكشف دون ربعها فكذلك، ويُعيد فيما زاد على ذلك، ولا فرق بين العمد والسهو في ذلك عند الأكثرين.
وقال إسحاق: إن لم يَعلَم بذلك إلا بعد انقضاء صلاته لم يُعد، وهو الصحيح عند أصحاب مالك أيضًا، وحُكي عن طائفة من المالكيّة أن من صلَّى عاريًا، فإنه يُعيد في الوقت، ولا يُعيد بعده، وقالوا: ليس ستر العورة من فرائض الصلاة كالوضوء، بل هو سنّة، والمنصوص عن مالك أن الحرّة إذا صلّت بادية الشعر، أو الصدر، أو ظهور القدمين أعادت في الوقت خاصّة، ذكره ابن رجب رحمه الله في شرح البخاري
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح عندي أن ستر العورة في الصلاة واجب، مطلقًا، سواء كان المصلّي ذكرًا أم أنثى، لعموم الأدلّة الدالّة على ذلك، وهذا هو ما ذهب إليه الجمهور، وسيأتي تفصيل المسألة في "باب الصلاة في ثوب واحد" برقم (515) -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"فتح الباري" للحافظ ابن رجب رحمه الله 2/ 370 - 371.
(31) - (بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ)
[993]
(442) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، سَمِعَ سَالِمًا، يُحَدَّثُ عَنْ أَبِيهِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يَمْنَعْهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، أبو عثمان، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الفقيه الثبت، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الفقيه الثبت، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(سَالِم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
6 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (73) أو أول التي بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، وشرح الحديث يأتي في الذي بعده، وإنما أخرته إليه؛ لكونه أتمّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[994]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ
إِلَيْهَا"، قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ
(1)
، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لنَمْنَعُهُنَّ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عِمْران التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ الأمويّ مولاهم، أبو يزيد، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح، (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون تقدّموا قبله.
لطائف هذين الإسنادين:
1 -
(منها): أن الأول من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما، والثاني من سُداسيّاته.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه: فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني، ما أخرج له الترمذيّ، والثالث تفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن السند الثاني نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الزهريّ، عن سالم.
5 -
(ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
6 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المشهورين بالفتوى، من الصحابة رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "إنا لنمنعهنّ".
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ) أباه (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ) أي حضور المساجد للصلاة فيها، وهو جمع مسجد، بفتح الجيم وكسرها، وهو بيت الصلاة، ويُطلق أيضًا على موضع السجود من بدن الإنسان
(1)
. (إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ) بتشديد النون، وفي الرواية الآتية:"إذا استأذنوكم" بواو الجمع، وسيأتي توجيهه، والاستئذان طلب الإذن (إِلَيْهَا") متعلّق بـ "استأذنّ"، والضمير للمساجد، وفي رواية مجاهد الآتية:"لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل".
وكذا وقع عند البخاريّ، من رواية حنظلة، عن سالم، بلفظ:"إذا استأذنَكُم نساؤكم بالليل"، قال في "الفتح": لم يذكر أكثر الرواة عن حنظلة قوله: "بالليل"، كذلك أخرجه مسلم وغيره، وقد اختلف فيه على الزهريّ عن سالم أيضًا، فأورده البخاريّ، من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس بن يزيد، وأحمد من رواية عُقيل، والسرّاج من رواية الأوزاعيّ كلهم عن الزهريّ بغير تقييد بالليل، وكذا أخرجه البخاريّ في "النكاح" عن علي ابن المدينيّ، عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ بغير قيد، ووقع عند أبي عوانة في "صحيحه"، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن عيينة مثله، لكن قال في آخره:"يعني بالليل"، وبَيَّن ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء، أن سفيان ابن عيينة هو القائل: يعني، وله عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن عيينة، قال: قال نافع: "بالليل"، وله عن يحيى بن حكيم، عن ابن عيينة، قال: جاءنا رجلٌ، فحدّثنا عن نافع، قال: إنما هو بالليل، وسَمَّى عبد الرزاق، عن ابن عيينة الرجل المبهم، فقال بعد روايته عن الزهريّ، قال ابن عيينة: وحدثنا عبد الغفار، يعني ابن القاسم، أنه سمع أبا جعفر، يعني الباقر، يخبر بمثل هذا عن ابن عمر، قال: فقال له نافع، مولى ابن عمر: إنما ذلك بالليل.
وكأن اختصاص الليل بذلك؛ لكونه أستر، ولا يخفى أن محلّ ذلك إذا
(1)
راجع: "المصباح" 1/ 266.
أُمِنت المفسدة منهنّ، وعليهنّ. انتهى
(1)
.
[فائدة]: قال ابن بطال رحمه الله: ويخرج من هذا الحديث أن الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحجّ لا يمنعها، فيكون وجه نهيه عن مسجد اللَّه الحرام لأداء فريضة الحج نهي إيجاب، قال: وهو قول مالك، والشافعيّ في أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج. انتهى.
قال العراقيّ رحمه الله: وما نقله عن الشافعيّ هو أحد قوليه، والقول الآخر، وهو الأظهر عند أصحابه أن له منعها من حج الفرض، ولا يلزم من الإذن لها في المسجد القريب الإذن في الحج الذي يَحتاج إلى سفر، ونفقة، وأعمال كثيرة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بمنع المرأة عن فرض الحجّ مما لا وجه له، فإذا كان الشارع نهى الرجال عن منع النساء لأداء صلاة الجماعة التي هي مستحبّة في حقّ النساء، فكيف بفريضة الحجّ؟ وما ذكروه من السفر والنفقة وغير ذلك فليس له وجه في المنع؛ لأن اللَّه تعالى حين فرضه فرضه مع هذه المشاقّ كلها، ولم يرخّص لأحد مع الاستطاعة أن يتساهل في أدائه، بل هدّد في ذلك حيث قال بعد قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، فترك فرض الحج خطر عظيم على الناس جميعًا، رجالًا ونساءً، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ) ابن شهاب (فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر، هكذا في هذه الرواية تسميته بلالًا، وكذا في رواية كعب بن علقمة، عن بلال بن عبد اللَّه نفسه الآتية، ووقع في رواية عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عمر الآتية تسميته بواقد، ووقع في رواية الأعمش، عن مجاهد بلفظ:"فقال ابن لعبد اللَّه بن عمر"، فأبهمه.
وقد أخرج البخاريّ رحمه الله الحديث بدون ذكر القضة، قال الحافظ رحمه الله: ولم أر لهذه القصة ذكرًا في شيء من الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث، وقد أوهم صنيع صاحب "العمدة" خلاف ذلك، ولم يتعرض لبيان
(1)
"الفتح" 2/ 404.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 317.
ذلك أحدٌ من شُرّاحه، وأظنّ البخاري اختصرها؛ للاختلاف في تسمية ابن عبد اللَّه بن عمر، فقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر، وسَمَّى الابن بلالًا، فأخرجه من طريق كعب بن علقمة، عن بلال بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، بلفظ:"لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد، إذا استأذنَّكم، فقال بلال: واللَّه لنمنعهن. . . " الحديث، وللطبرانيّ من طريق عبد اللَّه بن هُبيرة، عن بلال بن عبد اللَّه نحوه، وفيه:"فقلت: أمّا أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فَلْيُسَرِّحْ أهله"، وفي رواية يونس، عن ابن شهاب الزهريّ، عن سالم في هذا الحديث:"قال: فقال بلال بن عبد اللَّه: واللَّه لنمنعهن"، ومثله في رواية عُقَيل عند أحمد، وعنده في رواية شعبة، عن الأعمش المذكورة: فقال سالم، أو بعض بنيه:"واللَّه لا نَدَعُهُنّ يتخذنه دَغَلًا. . . " الحديث.
والراجح من هذا أن صاحب القصّة بلالٌ؛ لورود ذلك من روايته نفسِهِ، ومن رواية أخيه سالم، ولم يُخْتَلَف عليهما في ذلك، وأما هذه الرواية الأخيرة فمرجوحة؛ لوقوع الشك فيها.
قال الحافظ: ولم أره مع ذلك في شيء من الروايات عن الأعمش مُسَمًّى، ولا عن شيخه مجاهد، فقد أخرجه أحمد، من رواية إبراهيم بن مهاجر، وابن أبي نَجِيح، وليث بن أبي سُليم كلهم عن مجاهد، ولم يسمِّه أحدٌ منهم، فإن كانت رواية عمرو بن دينار، عن مجاهد محفوظةً في تسميته واقدًا، فَيَحْتَمِلُ أن يكون كلٌّ من بلال وواقد وقع منه ذلك، إما في مجلس، أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلًّا منهما بجواب يليق به.
ويُقَوِّيه اختلاف النَّقَلَة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم:"فأقبل عليه عبد اللَّه، فسَبّه سبًّا سيِّئًا، ما سمعته يسبه مثله قط"، وفسّر عبد اللَّه بن هُبيرة في رواية الطبرانيّ السبَّ المذكور باللعن ثلاث مرّات، وفي رواية زائدة، عن الأعمش:"فانتهره، وقال: أُفّ لك"، وله عن ابن نُمَير، عن الأعمش:"فَعَل اللَّه بك، وفعل"، ومثله للترمذيّ من رواية عيسى بن يونس، ولمسلم من رواية أبي معاوية:"فَزَبَره"، ولأبي داود من رواية جرير:"فسَبَّه، وغَضِبَ"، فيَحْتَمِل أن يكون بلال البادئ فلذلك أجابه بالسبّ المفسر باللعن، وأن يكون واقد بدأه فلذلك أجابه بالسبّ المفسر بالتأفيف، مع الدفع في صدره، وكأن
السرّ في ذلك أن بلالًا عارض الخبر برأيه، ولم يذكر عِلّة المخالفة، ووافقه واقد، لكن ذكرها بقوله:"يَتَّخِذنه دَغَلًا"، وهو بفتح المهملة، ثم المعجمة، وأصله الشجر الْمُلْتَفّ، ثم استُعْمِل في المخادعة؛ لكون المخادع يَلُفّ في ضميره أمرًا، ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لَمّا رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الْغَيْرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر؛ لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال مثلًا: إن الزمان قد تَغَيَّر، وإن بعضهن ربما ظهر منها قَصْدُ المسجد، وإضمار غيره، لكان يَظْهَر أن لا يُنكر عليه، وإلى ذلك أشارت عائشة رضي الله عنها بما ذُكِر في الحديث الأخير. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ.
(وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ) أي عن الخروج إلى المساجد (قَالَ) ابن شهاب (فَأَقبَلَ عَلَيْهِ) أي بلال (عَبْدُ اللَّهِ) بن عمر رضي الله عنهما (فَسَبَّهُ) من باب نصر، أي شتمه (سَبًّا سَيِّئًا، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ) قد تقدّم من رواية الطبرانيّ تفسير هذا السبّ، باللعن ثلاث مرّات (وَقَالَ) ابن عمر مبيّنًا سبب سبّه له (أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي عن نهيه الرجال عن منع نسائهم إذا استأذنّهم في الخروج إلى المساجد (وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ)، أي فهذا منكر من القول؛ لأن مقتضى الإيمان أن المسلم إذا سمع أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يعترض برأيه؛ لأنه ينافي الإيمان، قال اللَّه عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، وقال عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 2/ 405 - 406.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 993 و 994 و 995 و 996 و 997 و 998 و 999 و 100] و (442)، و (البخاريّ) في "الأذان"(865 و 873 و 988 و 900) و"النكاح"(5238)، و (أبو داود) في "الصلاة"(567 و 568)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(16)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1903)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5107 و 5122)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 127)، و (الحميديّ) في "مسنده"(612)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 383)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 9 و 76 و 77 و 90 و 151)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 293) و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1677)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2208 و 2209 و 2210 و 2213)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13255)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1437 و 1438 و 1439 و 1440 و 1441 و 1442 و 1443 و 1444 و 1445 و 1446 و 1447)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(980 و 981 و 982 و 983 و 984 و 985 و 986)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 132)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(862)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز خروج النساء إلى المساجد، لكن بشرط أن لا تتطيّب، كما قُيّد في الروايات الآتية.
قال النوويّ رحمه الله: أحاديث الباب ظاهرة في أنها لا تُمْنع المسجد، لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي أن لا تكون متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يُسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها، وأن لا يكون في الطريق ما يُخاف به مفسدة ونحوها.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "ولا شابّة. . . إلخ" فيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ النصوص عامّة، تعمّ العجائز، والشابّات، وأما كونها ممن يُفتتن بها، فإنا نقول: إن الافتتان بها لا يتحقّق إلا إذا كانت متبرجة، غير متستّرة، أو مظهرة زينتها، وقد بيّن الشارع حين أجاز لهنّ الخروج إلى المساجد أن لا يكنّ بهيئة من يُفتتن بها، فلا تتطيّب، ولا تبرُز، بل تكون مستترة بجلبابها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد، ووجدت الشروط المذكورة، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حَرُم المنع إذا وُجدت الشروط. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: التفريق بحمل النهي على الكراهة في ذات الزوج والسيّد، وعلى التحريم في غيرهما، مما لا دليل عليه، بل النهي الوارد في أحاديث الباب إنما جاء في ذات الزوج والسيّد، فما الذي صرفه عن التحريم؟ إن هذا لغريب، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ: استُدِلَّ به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن.
وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه إن أُخِذ من المفهوم، فهو مفهوم لقب، وهو ضعيف، لكن يَتَقَوَّى بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرّرٌ، وإنما عَلَّق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، فيبقى ما عداه على المنع.
3 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأْذَن مخيرًا في الإجابة أو الردّ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لأن ذلك إنما يتحقّق. . . إلخ" فيه نظر؛ إذ لا يلزم ذلك، قال اللَّه تعالى:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية [البقرة: 232] فهذا النهي للتحريم قطعًا، فلا قائل بأن الوليّ مخيّر في الإجابة والردّ، فكذا هنا، فتأمّله، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه يؤخذ من إنكار عبد اللَّه رضي الله عنه على ولده تأديب المعترِض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه.
5 -
(ومنها): جواز تأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا إذا تكلم بما لا ينبغي له.
6 -
(ومنها): جواز التأديب بالْهِجْران، فقد وقع في رواية ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد عند أحمد:"فما كلَّمه عبد اللَّه حتى مات"، قال الحافظ: وهذا إن كان محفوظًا يَحْتَمِل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله معلّقًا على هذه الرواية-: أقول: عجبتُ ممن يتسمّي
بالسنيّ، وإذا سمع سنّةً من سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وله رأي رجّح رأيه عليها، وأيُّ فرق بينه وبين المبتدع؟ أما سمع حديث:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"
(1)
، وها هو ابن عمر، وهو من أكابر فقهاء الصحابة، والمرجوع إليه بالفتيا والاجتهاد، كيف غضب للَّه تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهَجَرَ فِلْذَة
(2)
كَبده، وشقيق روحه لتلك الْهَنَة؛ عِبرةً لأولي الألباب. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أحسن كلام الطيبيّ رحمه الله، وأجمله، كيف يطيب لمسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يخالف السنة لرأيه، أو لرأي أحد من الناس ممن يرى تقليده، وهو يسمع قوله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، هذا هو السبيل، وهذا هو الحقّ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث صريح في النهي عن المنع للنساء عن المساجد عند الاستئذان، وقوله في الرواية الأخرى:"لا تمنعوا إماء اللَّه" يشعر أيضًا بطلبهن للخروج، فإن المانع إنما يكون بعد وجود المقتضي، ويلزم من النهي عن منعهن من الخروج إباحته لهنّ؛ لأنه لو كان ممتنعًا لم ينه الرجال عن منعهن منه.
(1)
حديث ضعيف الإسناد، وصححه النووي في "أربعينه"، فردّ عليه الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(2/ 394 - 395)؛ لتفرّد نعيم بن حمّاد به، وقد ضعّفه الأكثرون، وفيه انقطاع أيضًا، فراجع ما كتبه بالرقم المذكور، لكن بمعناه الآية:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
(2)
الْفِلْذ بكسر الذال المعجمة، وسكون اللام: القطعة من الشيء، وجمعها فِلَذ بكسر ففتح، كسِدْرَة وسِدَر، أفاده في "المصباح" 2/ 481.
قال: والحديث عامّ في النساء، ولكن الفقهاء قد خصصوه بشروط وحالات:
منها: أن لا يتطيبن، وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي بعض الروايات:"ولْيَخْرُجْن تَفِلات"
(1)
، وفي بعضها:"إذا شَهِدت إحداكنّ المسجد، فلا تمس طيبًا"، وفي بعضها:"إذا شَهِدت إحداكنّ العشاء، فلا تطيّب تلك الليلة".
فيُلْحَق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما مُنِع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببًا لتحريك شهوة المرأة أيضًا، فما أوجب هذا المعنى التَحَقَ به، وقد صحَّ أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قال: "أيما امرأة أصابت بَخُورًا
(2)
، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة"، ويُلْحَق به أيضًا حُسْن الملابس، ولبس الحليّ الذي يظهر أثره في الزينة، وحَمَل بعضهم قول عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين": "لو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدثت النساء بعده، لمنعهن المساجد، كما مُنِعت نساء بني إسرائيل" على هذا، تعني إحداث حسن الملابس والطيب والزينة.
قال: ومما خَصّ به بعضهم هذا الحديث أن منع الخروج إلى المسجد للمرأة الجميلة المشهورة جائز.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا القول غير صحيح، فإن النصّ عامّ يتناول الجميلة وغيرها، ومما يردّه ما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت امرأة تصلّي خلف النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول؛ لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع قال هكذا، ينظر من تحت
(1)
قوله: "تَفِلات" هو بفتح التاء المثناة من فوقُ وكسر الفاء: جمع تَفِلَة، مأخوذ من التَفَل بفتحهما، وهو الريح الكريهة، والمراد به: ليخرجن تاركات للطيب، ومنه الحديث الآخر:"الحاجّ الشَّعث التَّفِلُ". قاله في "طرح التثريب" 2/ 316.
(2)
"البَخُور" بفتح الباء الموحدة: ما يُتَبَخَّر به، من عُود، أو لُبَان، أو غيرهما، قاله في "الطرح" 2/ 316.
إبطه، فأنزل اللَّه:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} [الحجر: 24] في شأنها"
(1)
.
فقد ثبت أن هذه المرأة الجميلة كانت تحضر الصلاة مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، ولم تُمنع من ذلك، فتبصّر بالإنصاف.
قال: ومما ذكره بعضهم مما يقتضي التخصيص أن يكون بالليل، وهذا قد جاء في بعض طرق الحديث في "الصحيح":"لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل"، فالتقييد بالليل قد يشعر بما قال.
ومما قيل أيضًا في تخصيص هذا الحديث: أن لا يزاحمن الرجال.
وبالجملة فمدار هذا كله النظر إلى المعنى، فما اقتضاه المعنى من المنع، كان خارجًا عن الحديث، وخُصّ العموم به.
وقيل: إن في الحديث دليلًا على أن للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه، وهذا إن أُخِذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد، وأن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد.
وقد يُعْتَرض عليه بأن هذا تخصيص الحكم باللقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند الأصوليين.
ويمكن أن يقال في هذا: إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معتاد، وقد قُرِّروا عليه، وإنما عُلّق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، وإخراجه عن المنع المستمر المعلوم، فيبقى ما عداه على المنع، وعلى هذا فلا يكون منع الرجل لخروج امرأته لغير المسجد مأخوذًا من تقييد الحكم بالمسجد فقط.
ويمكن أن يقال فيه وجه آخر، وهو أن في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه" مناسبةً تقتضي الإباحة، أعني كونهن إماء اللَّه بالنسبة إلى خروجهن إلى مساجد اللَّه، ولهذا كان التعبير بإماء اللَّه، أوقع في النفس من التعبير بالنساء لو قيل، وإذا كان مناسبًا أمكن أن يكون علة للجواز، وإذا انتفى انتفى الحكم؛
(1)
حديث صحيح. أخرجه الترمذيّ برقم (3047)، والنسائيّ (870)، وابن ماجه (1046).
لأن الحكم يزول بزوال علته، والمراد بالانتفاء ها هنا انتفاء الخروج إلى المساجد التي للصلاة. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم خروج النساء إلى المساجد:
قال في "طرح التثريب" عند الكلام على حديث: "وبيوتهنّ خير لهنّ" -وقد تقدّم الكلام عليه- ما حاصله: في هذا حجة لمن لم يستحبّ لهنّ شهود الجماعة، وهو قول أهل الكوفة، وكان إبراهيم النخعيّ يمنع نساءه الجمعة والجماعة، وقال أبو حنيفة: أكره للنساء شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة، وقد أرخص للعجوز أن تشهد العشاء والفجر، وأما غير ذلك فلا، وقال الثوريّ: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا، وقال أبو يوسف: أكرهه للشابّة، ولا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها، وقال الشافعيّة: إن أردن حضور المسجد مع الرجال كُرِه للشواب دون العجائز، ورَوَى أشهب عن مالك قال: وللْمُتَجَالَّة -أي الكبيرة السنّ- أن تخرج إلى المسجد، ولا تكثر التردد إليه، وللشابة أن تخرج المرة بعد المرة. انتهى
(2)
.
وقال العلامة أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولا يحلّ لوليّ المرأة، ولا لسيّد الأمة منعهما من حضور الصلاة في جماعة في المسجد، إذا عُرف أنهنّ يُردن الصلاة، ولا يحلّ لهنّ أن يخرجن متطيّبات، وفي ثياب حِسَان، فإن فعلت فليمنعها، وصلاتهنّ في الجماعة أفضل من صلاتهنّ منفردات.
قال: وقال أبو حنيفة ومالك: صلاتهنّ في بيوتهنّ أفضل، وكره أبو حنيفة خروجهنّ إلى المساجد لصلاة الجماعة، وللجمعة، وفي العيدين، ورَخص للعجوز خاصّةً في العشاء الآخرة والفجر، وقد روي عنه أنه لم يكره خروجهنّ في العيدين.
وقال مالك: لا نمنعهنّ من الخروج إلى المساجد، وأباح للْمُتَجَالّة -أي
(1)
"إحكام الأحكام" 2/ 139 - 143.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 317.
الكبيرة السنّ- شهود العيدين، والاستسقاء، وقال: تخرج الشابّة إلى المسجد المرّة بعد المرّة، قال: والمتجالّة تخرج إلى المسجد، ولا تكثر التردّد.
ثم ردّ أبو محمد رحمه الله على هؤلاء بما لا تجده في غير كتابه، فأفاد وأجاد
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن حزم رحمه الله حسنٌ جدًّا إلا قوله: وصلاتهنّ في الجماعة أفضل، فإنه غير مسلّم له، فإن صلاتهنّ في بيوتهنّ أفضل؛ لصحّة الأحاديث بذلك.
(فمنها): ما أخرجه أحمد، والطبرانيّ من حديث أم حميد، امرأة أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه أنها جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إني أُحب الصلاة معك، قال:"قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي"، قال: فأمرت فبُنِي لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلّي فيه حتى لقيت اللَّه عز وجل. انتهى. وإسناده حسن، ويشهد له حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي بعده.
(ومنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مُخْدَعها أفضل من صلاتها في بيتها"، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
و"الْمُخْدَع" بضمّ الميم: بيت صغير، يُحرز فيه الشيء، وتثليث الميم لغة، قاله الفيّوميّ
(2)
.
(ومنها): حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنّ خير لهنّ"، أخرجه أبو داود، وأحمد، والحاكم، والبيهقيّ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، وصححه أيضًا جماعة آخرون، وأعلّه بعضهم بعنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلّس، لكن ينجبر بالأحاديث المذكورة، فتنبّه.
(1)
انظر: "المحلَّى" 3/ 129.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 165.
وبالجملة فأحاديث الباب صحيحة صالحة للاحتجاج بها، فتضعيف ابن حزم لها، وكذا دعواه النسخ لها على تقدير ثبوتها، فمما لا يُلتفت إليه، فتأمّل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.
والحاصل أن صلاة المرأة في المسجد جائزة إذا توفّرت الشروط المذكورة، ولكن صلاتها في البيت أفضل؛ للأحاديث المذكورة.
ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقّق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكّد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرّج والزينة، ومن ثَمّ قالت عائشة رضي الله عنها:"لو أدرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنّ المسجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل"، متّفق عليه. وقال الشوكانيّ رحمه الله: وقد حصل من مجموع الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهنّ ما يدعو إلى الفتنة، من طيب، أو حليّ، أو زينة واجبٌ على الرجال، وأنه لا يجب مع ما يدعو إلى ذلك، بل لا يجوز، ويحرم عليهنّ الخروج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة"، رواه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وصلاتهنّ على كلّ حال في بيوتهنّ أفضل من صلاتهن في المساجد. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أنه يجب على الرجال الإذن للنساء بالخروج إلى المسجد، ولا يجوز لهم المنع، إذا طلبن ذلك بشرط أن يلتزمن آداب الخروج، مما هو مذكور في الأحاديث المتقدّمة، من ترك الطيب، وعدم التبخّر بالبخور، وغير ذلك مما ألحقه العلماء بالمنصوص مما يثير الفتنة.
فأما إذا خالفت ذلك فيحرم عليها الخروج، ولا يجوز الإذن لها؛ لأنه يكون إعانة على المعصية؛ لأنها إذا خرجت متعطّرة قاصدة لذلك تكون زانية، فقد أخرج النسائيّ، وأحمد، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استَعْطَرت، فمَرّت بقوم؛ ليجدوا ريحها، فهي زانية"
(1)
، واللَّه تعالى
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (18879 و 18912)، والنسائيّ في =
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[995]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- قَالَ:"لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمَير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد اللَّه بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت سنة بضع 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(نَافِع) مولى ابن عمر العدويّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
وقوله: (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) التعبير بإماء اللَّه أوقع في النفس من التعبير بالنساء، ففيه مناسبة ظاهرة؛ إذ كونهن إماء اللَّه يقتضي أن لا يُمنعن من مساجد مالكهنّ، ففيه دفع للأزواج إلى الإذن لهنّ؛ لأنهنّ ممن يستحقّ الخروج إليها؛ لكونهنّ إماء للَّه عز وجل كما أن الرجال عبيده.
وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
= "المجتبى" برقم (5126)، والدارميّ في "سننه" برقم (2532).
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[996]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ
(1)
نِسَاؤُكُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَنْظَلَةُ) بن أبي سفيان واسمه الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان بن أُميّة الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجة [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.
والباقون تقدّموا قبله، و"ابن نُمير" هو محمد بن عبد اللَّه بن نُمير.
وقوله: ("إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ) وفي نسخة: "إذا استأذنتكم نساؤكم"، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[997]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ"، فَقَالَ ابْن لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: لَا نَدَعُهُنَّ يَخْرُجْنَ، فَيَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا، قَالَ: فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ: لَا نَدَعُهُنَّ؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الستّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "إذا استأذنتكم".
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(مُجَاهِد) بن جَبْر الْمخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، إمامٌ مشهورٌ [3](ت 101) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
وقوله: ("لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ) قال العراقيّ رحمه الله: أطلق في بعض طرق الحديث النهي عن منعهن، كما تقدّم، وقيّده في بعضها بالليل، كهذه الرواية، قال ابن بطال: وفي هذه الرواية دليل على أن النهار بخلاف ذلك؛ لنصه على الليل، قال: وهذا الحديث يَقْضِي على المطلق، ألا ترى إلى قول عائشة رضي الله عنها:"ما يَعْرِفهنّ أحد من الغلس"؟.
قال: إن قيل: ظاهر رواية البيهقي أن التقييد بالليل مدرج من قول سفيان، فإنه رواه من طريقه:"إذا استأذنت أحدَكُم امرأتُهُ إلى المسجد فلا يمنعها"، ثم قال: زاد العلويّ في روايته: قال سفيان: "إذا كان ذلك ليلًا".
والجواب أن رواية سفيان في "الصحيحين" وغيرهما مطلقةٌ، ليس فيها التقييد بالليل، فلا يَضُرُّنا زيادة سفيان فيها اشتراطه ذلك، والرواية التي فيها التقييد بالليل، ليست من طريقه، إنما هي من رواية حنظلة، عن سالم، عن أبيه، عند البخاريّ، واتَّفَقَ عليها الشيخان أيضًا من رواية مجاهد، عن ابن عمر، وليست من طريق سفيان، وليست على هذا مدرجةً، وإنما هي من أصل الحديث. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله (فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) تقدّم أن الراجح أنه بلال بن عبد اللَّه بن عمر، وقيل: واقد.
وقوله: (فَيَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا) بفتح الدال، والغين المعجمة: هو الفساد، والْخِداع، والريبة، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أصل الدَّغَل: الشجر الْمُلْتفّ الذي يكون فيه أهل الفساد، قال الليث: يقال: أدغلت في الأمر: إذا أدخلت فيه ما يُخالفه، قال: وإذا دخل الرجل مدخلًا مُريبًا قيل: دَغَلَ فيه. انتهى
(3)
.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 315.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 162.
(3)
"المفهم" 2/ 68.
وقوله: (فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ) أي انتهره، قال القاضي عياض رحمه الله: قال صاحب "الأفعال": يقال: زَبَرتُ الكتاب: إذا كتبته، والشيءَ: قطعته، والرجلَ: انتهرته، والبئرَ: طويتُها بالحجارة، قال القاضي: وانتهار ابن عمر لابنه، وضربه في صدره، وسبّه له، كما جاء الحديث فيه تأديب للمعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وجواز التأديب باليد، وبالسبّ، وتأديب الرجل ولده، وإن كان كبيرًا وتغيير المنكر، وتأديب العالم من يتعلّم عنده، ويتكلّم بما يخالف الشرع بين يديه. انتهى
(1)
.
وقوله: (لَا نَدَعُهُنَّ) بفتح الدال: أي لا نتركهنّ يخرجن إلى المساجد للفساد، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في حديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[998]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) -بوزن جعفر- المروزيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
و"الأعمش" ذُكر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد الأعمش الذي سبق، وهو عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقوله: (مِثْلَهُ) يعني أن حديث عيسى بن يونس عن الأعمش مثل حديث أبي معاوية، عنه.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 354 - 355.
[تنبيه]: رواية عيسى هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(520)
حدّثنا نصر بن عليّ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كنا عند ابن عمر، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد"، فقال ابنه: واللَّه لا نأذن لهنّ، يتخذنه دَغَلًا، فقال: فَعَلَ اللَّه بك، وفَعَل، أقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا نأذن لهنّ. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[999]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَابْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي
(2)
وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ"، فَقَالَ ابْنٌ لَهُ، يُقَالُ لَهُ وَاقِدٌ: إِذَنْ يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ: لَا؟).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون المعروف بالسمين، المروزيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد بن رافع تقدّم قبل باب.
3 -
(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: كان اسمه مروان، الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 204) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
4 -
(وَرْقَاءُ) بن عُمر بن كُليب الْيَشْكُريّ، ويقال: الشيبانيّ، أبو بِشر الكوفيّ، نزيل المدائن، يقال: أصله من مرو، صدوقٌ [7].
رَوَى عن أبي إسحاق السَّبِيعي، وأبي طُوالة، وزيد بن أسلم، وعبد اللَّه بن دينار، وعمرو بن دينار، وسعد بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، ومنصور، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
ورَوَى عنه شعبة، وهو من أقرانه، وابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وبقية بن الوليد، وشَبَابة بن سَوّار، ويحيى بن أبي زائدة، وغيرهم.
قال أبو داود الطيالسيّ: قال لي شعبة: عليك بورقاء، إنك لا تلقى بعده مثله حتى يرجع، قال محمود بن غيلان: قلت لأبي داود: أيَّ شيء عَنَى بذلك؟ قال: أفضل، وأورع، وخيرًا منه، وقال أبو داود، عن أحمد: ثقةٌ، صاحب سنة، قيل له: كان مرجئًا؟ قال: لا أدري، وقال حنبل، عن أحمد: ورقاء من أهل خراسان، قال: وقال حجاج: كان يقول لي: كيف هذا الحرف عندك؟ فأقول له: كذا وكذا، قال أبو عبد اللَّه: وهو يُصَحِّف في غير حرف، وكأنه ضعّفه في التفسير، وقال حرب: قلت لأحمد: ورقاء أحبّ إليك في تفسير ابن أبي نَجِيح، أو شيبان؟ قال: كلاهما ثقة، وورقاء أوثقهما، إلا أنهم يقولون: لم يسمع التفسير كله، يقولون: بعضه عَرْضٌ، وقال علي ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: قال معاذ: قال ورقاء: كتاب التفسير قرأت نصفه على ابن أبي نَجِيح، وقرأ عليّ نصفه، وقال الدُّوريّ: قلت لابن معين: أيما أحبّ إليك، تفسير ورقاء، أو تفسير شيبان، وسعيد عن قتادة؟ قال: تفسير ورقاء؛ لأنه عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد، قلت: فأيما أحب إليك، تفسير ورقاء، أو ابن جريج؟ قال: ورقاء؛ لأن ابن جريج لم يسمع من مجاهد إلا حرفًا، وقال أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين: ورقاء ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: صالحٌ، وقال الغلابيّ، عن ابن معين: ورقاء وشيبان ثقتان، قال: وسمعت معاذ بن معاذ يقول ليحيى القطان: سمعت حديث منصور؟، قال: نعم، فقال: ممن؟ قال: من ورقاء، قال: لا يساوي شيئًا، وقال إبراهيم الحربيّ: لَمّا قرأ وكيع التفسير قال للناس: خذوه، فليس فيه عن الكلبيّ، ولا عن ورقاء شيءٌ، وقال شبابة: قال لي شعبة: اكتب أحاديث ورقاء عن أبي الزناد، وقال عمرو بن عليّ: سمعت معاذ بن معاذ ذَكَرَ ورقاء، فأحسن عليه الثناء ورضيه، وحدّثنا عنه، وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن ورقاء، وشبل في ابن أبي نَجِيح؟، فقال: ورقاء صاحب سنة، إلا أن فيه إرجاء، وشبل قدريّ، قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة: ورقاء أحب إليك في أبي الزناد،
أو شعيب، أو مغيرة، أو ابن أبي الزناد؟ فقال: ورقاء أحب إلي منهم، وقال أبو حاتم: كان شعبة يُثني عليه، وكان صالح الحديث، وقال العقيليّ: تكلَّموا في حديثه عن منصور، وقال ابن عديّ: رَوَى أحاديث غَلِطَ في أسانيدها، وباقي حديثه لا بأس به، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال وكيع: ورقاء ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال يحيى بن أبي طالب: أنا أبو المنذر، إسماعيل بن عمر، قال: دخلنا على ورقاء، وهو في الموت، فجعل يُهَلِّل ويكبر، وجعل الناس يسلمون عليه، فقال لابنه: يا بُنَيّ اكفني رد السلام على هؤلاء؛ لئلا يشغلوني عن ربي. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
5 -
(عَمْرو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبت [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (يُقَالُ لَهُ وَاقِدٌ) تقدّم أن الراجح أن اسم صاحب القصّة بلال بن عبد اللَّه، وأما واقد فوقع في هذه الرواية، من طريق مجاهد، وقد اختلفوا عليه، ففي رواية عمرو بن دينار عنه:"يقال له: واقد"، وفي رواية الأعمش، عنه عند أحمد في "مسنده":"فقال سالم، أو بعض بنيه" بالشكّ.
فتبيّن بهذا أن كونه بلالًا هو الصواب؛ لأنه جاء من رواية نفسه، كما في رواية كعب بن علقمة، عنه الآتية بعد هذا، وكذا جاء في رواية ابن شهاب، عن سالم، ولم يَختلف الرواة في هاتين الروايتين، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ) أي دفعه بيده في صدره، وفي رواية أحمد:"فَلَطَمَ صدره"، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في حديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1000]
(. . .) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي أَيُّوبَ- حَدَّثَنَا كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ
بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ
(1)
"، فَقَالَ بِلَالٌ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ أَنْتَ: لنَمْنَعُهُنَّ؟)
(2)
.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الْحَمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ)
(3)
أبو عبد الرحمن المكيّ، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ، أقرأ القرآن نيِّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213) وقد قارب المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) واسمه مِقْلاص الخزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
(1)
وفي نسخة: "إذا استأذنَّكم".
(2)
قال الجامع الفقير إلى رحمة ربّه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الحديث متمّم الألف الأول لأحاديث الكتاب، من أحاديث "صحيح مسلم" حسب ترقيمي، وبحمد اللَّه سبحانه وتعالى قد انتهيت من شرحه وقت الضحى يوم الخميس المبارك (18/ 4/ 1426 هـ) الموافق 26/ مايو - أيار (2005 م) أسأل اللَّه تعالى الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يمنّ عليّ بإتمام شرح بقيّة أحاديث الكتاب، كما منّ عليّ بإنجاز ما مضى، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} ، وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله المختار، وآله الأبرار، وصحابته الأخيار آمين آمين آمين.
(3)
[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث هنا غلط، حيث ترجم هنا لعبد اللَّه بن يزيد مولى الأسود بن سفيان المقرئ المدنيّ، شيخ مالك، والصواب ما هنا، وذلك لأن مولى الأسود متقدّم من الطبقة السادسة، ما أدركه زهير بن حرب، ولا ابن نمير؛ لأنه مات سنة (148) وزهير ولد سنة (160) أي بعد موته بنحو اثنتي عشرة سنة، وقد وقع لهم قبل هذا نفس الغلط في المقدّمة رقم (4/ 15) ونبّهت عليه هناك، وسيأتي كذلك أسانيد أخرى وقع فيها نفس الغلط، وجملة ما وقع فيه الغلط (18) حديثًا، فتنبّه لهذا الغلط الكثير، وباللَّه تعالى التوفيق.
4 -
(كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ) بن كعب التَّنُوخيّ، أبو عبد الحميد المصريّ، صدوقٌ [5] (ت 127) وقيل: بعدها (عخ م د س ق) تقدم في "الصلاة" 7/ 855.
5 -
(بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب القرشيّ الْعَدَويّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه حديث الباب فقط، وروى عنه كعب بن علقمة، وعبد اللَّه بن هُبيرة، وعبد الملك بن فارع.
قال أبو زرعة: مدنيّ ثقةٌ، وقال حمزة الكنانيّ: لا أعلم له غير هذا الحديث، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين، وعدّه يحيى القطان في فقهاء أهل المدينة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
و"ابن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
وقوله: ("لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ) قال في "القاموس": الحظّ: النصيب والْجَدُّ، أو خاصّ بالنصيب من الخير والفضل، جمعه: أَحُظٌّ، وأَحَاظٍ، وحِظَاظٌ، وحِظَاغ بكسرهما، وحُظٌّ، وحُظُوظٌ، وحُظُوظَةٌ بضمّهنّ. انتهى
(1)
.
والمعنى: لا تمنعوهنّ نصيبهُنّ من الثواب الحاصل لهنّ بحضورهنّ المساجد للصلاة ونحوها.
وقوله: (إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في أكثر الأصول "استأذنوكم"، أي بواو الجمع، وفي بعضها:"استأذنّكم" أي بتشديد النون، وهذا ظاهرٌ، والأول أيضًا صحيح، وعومل معاملة الذكور؛ لطلبهنّ الخروج إلى مجلس الذكور. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: ذكّر ضمير النساء تعظيمًا لهنّ، لما قصدن أن يسلكن في سلك الرجال الرُّكَّع السُّجَّد على نحو قوله تعالى:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]، وقال الشاعر:
وإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 394 - 395.
(2)
"شرح النووي" 4/ 162 - 163.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1001]
(443) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ، كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) نزيل مصر، أبو جعفر السعديّ مولاهم، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنة (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْب) هو: عبد اللَّه بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(مَخْرَمَةُ) بن بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، صدوقٌ [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
4 -
(أَبُوهُ) بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 559.
5 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الْحَضْرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2].
رَوَى عن أبي هريرة، وعثمان، وأبي سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي جُهيم بن الحارث بن الصِّمّة، وزيد بن ثابت، وزيد بن خالد الْجُهَنيّ، وزينب الثقفية، وغيرهم.
ورَوَى عنه سالم أبو النضر، وبكير بن الأشج، ومحمد بن إبراهيم، ويعقوب بن الأشج، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ويزيد بن خُصيفة، وغيرهم.
قال علي ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: بُسْرٌ أحبّ إلي من عطاء بن يسار، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا يسأل عن مثله، وقال ابن سعد: كان من العباد المنقطعين، وأهل الزهد في الدنيا، وكان ثقةً، كثير الحديث، وقال مالك: قال الوليد بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: مَن أفضل أهل المدينة؟ قال: مولى لبني الحضرميّ، يقال له: بُسْرٌ، قال مالك:
مات ولم يُخَلِّف كَفَنًا، وقال العجليّ: تابعيّ مدنيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يسكن دار الحضرميّ في جَدِيلة بني قيس، فنُسِب إليهم، وكان سعيدًا متزهِّدًا، لم يُخَلِّف كَفَنًا.
وقال الواقديّ: مات بالمدينة سنة (100)، وهو ابن (78)، وقيل: مات سنة (101).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.
6 -
(زَيْنَبُ الثَّقَفِيَّةُ) هي: زينب بنت معاوية، وقيل: بنت أبي معاوية، وقيل: بنت عبد اللَّه بن معاوية بن عَتّاب بن الأسعد بن غاضِرة بن حُطَيط بن قَسيّ، وهو ثقيف، وهي امرأة عبد اللَّه بن مسعود، ولها صحبةٌ، وقيل: اسمها رائطة.
قال الحافظ رحمه الله: فَرَّقَ أبو سعيد، وابن حبان، والعسكريّ، وابن منده، وأبو نعيم، وغير واحد بين زينب ورائطة امرأتي ابن مسعود. انتهى
(1)
.
رَوَت عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وعن زوجها عبد اللَّه بن مسعود، وعمر بن الخطّاب.
وروى عنها ابنها أبو عُبيدة، وابن أخيها، ولم يُسَمّ، وعمرو بن الحارث بن أبي ضِرَار، وابنه محمد بن عمرو، أو عبد اللَّه بن عمرو، على خلاف فيه، وبسر بن سعيد، وعُبيد بن السَّبّاق.
أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (443) وأعاده بعده، وحديث رقم (1000):"تصدّقن يا معشر النساء، ولو من حليّكنّ. . . ".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ، ومخرمة، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح"، وابن ماجه.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 675.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مخرمة، والباقون مصريّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بُكير، عن بسر، والابن عن أبيه: مخرمة، عن بُكير، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ بُسْرِ) بضمّ الموحّدة، وإسكان السين المهملة، آخره راء (ابْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْنَبَ) بنت معاوية الصحابيّة، وهي امرأة عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما (الثَّقَفِيَّةَ) بفتح الثاء المثلّثة، والقاف: نسبة إلى قبيلة مشهورة، وهو ثقيف بن منبّه بن بكر بن هَوَازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، قاله في "اللباب"
(1)
. (كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا شَهِدَتْ) أي أرادت أن تشهد، وتحضر (إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ) أي صلاة العشاء في المسجد، قال النوويّ رحمه الله: معناه: أرادت شهودها، أما من شهِدتها، ثم عادت إلى بيتها، فلا تُمنع من الطيب بعد ذلك
(2)
. (فَلَا تَطَيَّبْ) بفتح أوله، أصله: فلا تتطيّب، حُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدِ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
(تِلْكَ اللَّيْلَةَ") منصوب على الظرفيّة، أي في الليلة التي تريد حضور صلاة العشاء في المسجد.
والحديث دليلٌ على جواز حضور النساء المساجد للصلاة فيها إذا لم يتطيّبن، وقد سبق البحث في هذا مستوفًى في شرح أول أحاديث الباب، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زينب الثقفيّة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"اللباب" 1/ 240 - 241، و"الأنساب" 1/ 508 - 511.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 163.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1001 و 1002](443)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 154 و 155)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1652)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 363)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2212 و 2215)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 717 و 721 و 722 و 723 و 724)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 133)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1448 و 1449)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(987).
وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1002]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنى بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ، فَلَا تَمَسَّ
(1)
طيبًا").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الثبت [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ) القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ) بالجرّ صفة لـ "زينب"، يعني أنها زوج عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنها.
(1)
وفي نسخة: "فلا تمسنّ".
وقوله: (فَلَا تَمَسَّ طيبًا) وفي نسخة: "فلا تمسّنّ" بنون التوكيد.
[تنبيه]: قوله: "فلا تمسّ""لا" ناهيةٌ، والفعل مجزوم بها، فيجوز في سينه المشدّدة الكسر، وهو الأصل، والفتح؛ للتخفيف، وذلك أن القاعدة أنه إذا لم يتّصل بآخر الفعل المدغم المجزوم وشبهه شيء من الضمائر جاز فيه ثلاث لغات: الفتح للخفّة مطلقًا، أي سواء كان مضموم الفاء، كَرُدَّ، أو مكسورها، كَفِرَّ، أو مفتوحها، كَعَضَّ، وهو لغة بني أسد وغيرهم، والكسر مطلقًا على أصل التخلّص من التقاء الساكنين، وهو لغة كعب، والإتباع بحركة الفاء، كَرُدُّ بالضمّ، وَفِرِّ بالكسر، وعَضَّ بالفتح، وهذا أكثر في كلامهم، قاله الخضريّ في "حاشية شرح ابن عقيل على الخلاصة"
(1)
، وسيأتي البحث مستوفًى في شرح حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما:"ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس" -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1003]
(444) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت فقية [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ) الأمويّ مولاهم، أبو
(1)
راجع الحاشية المذكورة في: "باب الإدغام" 2/ 329.
علقمة الْفَرْويّ المدنيّ، صدوقٌ [8](ت 190) وله (100) سنة (بخ م د س) تقدم في "المقدمة" 53/ 319.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن خُصَيفة -بضم الخاء المعجمة، وفتح الصاد المهملة، مصغًّرا- ابن عبد اللَّه بن يزيد، نُسِب إلى جدّه الكنديّ المدنيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أبيه، والسائب بن يزيد، ويزيد بن عبد اللَّه بن قُسَيط، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وعمرو بن عبد اللَّه بن كعب، وبُسْر بن سعيد، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجعيد بن عبد الرحمن، ومالك، وأبو علقمة الْفَرْويّ، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، والسفيانان، والدراورديّ، وآخرون.
قال الأثرم، عن أحمد، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ حجةٌ، وقال ابن سعد: كان عابدًا ناسكًا كثير الحديث ثبتًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزَعَم ابن عبد البر أنه ابن أخي السائب بن يزيد، وكان ثقةً مأمونًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (444)، وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه (577):"أنه قرأ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ".
5 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور قبله.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، وعبد اللَّه بن محمد، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، كما أسلفته آنفًا أيضًا.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يزيد، عن بُسر.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ)"أيّما" شرطيّة، جوابها قوله:"فلا تشهد"(أَصَابَتْ بَخُورًا) بفتح الباء الموحّدة، وضمّ الخاء المعجمة، وزان صَبُور: ما يُتبخّر به، والمراد به هنا ما ظهر ريحه (فَلَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَشْهَدْ) أي لا تحضر (مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ") أي لأن الليل مظنّة الفتنة، فالتخصيص بالعشاء الآخرة بمزيد التأكيد، أو لأن النساء يخرجن في العشاء الآخرة إلى المسجد، فنهاهنّ عن الحضور متطيّبات.
وقال الطيبيّ رحمه الله: وخصّها بالذكر لأنها وقت الظَّلام وخلوّ الطرق، والعطر مُهيّج للشهوة، فلا يؤمن من المرأة حينئذ الفتنة، بخلاف الصبح عند إدبار الليل، وإقبال النهار، فحينئذ تنعكس القضية. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: لعلّ التخصيص به؛ لأن الخوف عليهنّ في الليل أكثر، أو لأن عادتهنّ استعمال الْبَخُور في الليل لأزواجهنّ. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على جواز قول الإنسان: العشاء الآخرة، وأما ما نُقِل عن الأصمعيّ أنه قال: من المحال قول العامّة: العشاء الآخرة؛ لأنه ليس لنا إلا عشاء واحدة، فلا توصف بالآخرة، فهذا القول غلطٌ؛ لهذا الحديث، وقد ثبت في "صحيح مسلم"، عن جماعات من الصحابة وصفها بالعشاء الآخرة، وألفاظهم بهذا مشهورة في هذه الأبواب التي بعد هذا. انتهى
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1130.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 163 - 164.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الإسناد تكلّم فيه النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال -بعد إخراجه عن محمد بن هشام بن عيسى البغداديّ، عن أبي علقمة عبد اللَّه بن محمد الفرويّ، بسند المصنف- ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أحدًا تابع يزيد بن خُصيفة، عن بُسر بن سعيد على قوله:"عن أبي هريرة"، وقد خالفه يعقوب بن عبد اللَّه بن الأشجّ، رواه عن زينب الثقفيّة. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد استوفى النسائيّ رحمه الله طرقه المختلفة، وتكلّم في تلك الأسانيد المختلفة، فأفاد وأجاد، فراجع ما كتبته في شرحي عليه
(1)
.
وحاصل ما أعلّ به رواية يزيد هذه أنه تفرّد عن بسر بن سعيد بقوله: "عن أبي هريرة"، وقد خالفه يعقوب بن عبد اللَّه بن الأشجّ، فرواه عن بسر، عن زينب الثقفيّة، ووافقه عليه أخوه بكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، كما في الرواية التي قبل هذا.
والظاهر أن إعلال النسائيّ رحمه الله قويّ، ووجيه، إلا أن المصنّف رحمه الله يرى صحّة الطريقين، كونه من مسند زينب رضي الله عنها، ومن مسند أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن يزيد بن خُصيفة ثقةٌ، فلا تضرٌ مخالفتهما، هذا هو الظاهر من صنيعه، لكن ما قاله النسائيّ، أظهر منه، وأرجح؛ لأن يزيد بن خُصيفة، وإن وثّقه الأكثرون، فقد تقدّم عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي داود عنه أنه قال: منكر الحديث، فتفرّد مثله مع هذه المخالفة مما يوهن حديثه، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1003](444)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4175)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 154) و"الكبرى"(5/ 431)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 407)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 191)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1300)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(989)، و (البغويّ) في "شرح
(1)
"ذخيرة العقبى" 38/ 177 - 189.
السنّة" (3/ 439)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1004]
(445) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ، لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقة عابد، من صغار [9](ت 221) بمكة (ع) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنَ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ القاضي، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(عَمْرَة بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] (ت قبل 100) وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين، ماتت رضي الله عنها سنة (57)(ع) تقدمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بصريًّا إلا أنه مدنيّ الأصل، وسكنها مدّةً.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة: يحيى عن عمرة.
5 -
(ومنها): أن عمرة ممن لازم عائشة رضي الله عنها، وأكثرت الرواية عنها.
6 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الحديث (2210).
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بنصب "زوج" على أنه بدلٌ، أو عطف بيان لـ "عائشة"، والزوج بلا هاء أفصح من الهاء، وهو الذي جاء في التنزيل، قال اللَّه عز وجل:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وقال تعالى:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]، وقد تقدّم تمام البحث فيه. (تَقُولُ: لَوْ) شرطيّة، وجوابها قوله:"لمنعهنّ المساجد"(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ)"ما" موصولة، في محلّ نصب على أنها مفعول "رأى"، و"رأى" هنا بصريّة، أي ما أحدثنه من الزينة، وحسن الثياب، والتزاحم والاختلاط بالرجال (لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ) أي حضور المسجد للصلاة فيه (كَمَا مُنِعَتْ) بالبناء للمفعول (نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب عليه السلام، قال في "العمدة": يَحْتَمل أن تكون شريعتهم المنع، ويَحْتَمل أن يكون منعهنّ بعد الإباحة، ويَحتمل غير ذلك مما لا طرق لنا إلى معرفته إلا بالخبر. انتهى
(1)
.
قال الكرمانيّ رحمه الله: [فإن قلت]: من أين علمت عائشة هذه الملازمة، والحكمُ بالمنع وعدمه ليس إلا للَّه تعالى؟.
[قلت]: مما شاهدت من القواعد الدينية المقتضية لحسم موادّ الفساد، والأَولى في هذا الباب أن يُنظَر إلى ما يُخشَى منه الفساد، فيُجتَنَبَ لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع الطيب والتزين، حيث قال:"إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسّ طيبًا"، رواه مسلم، ورَوَى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه، ولكن لِيَخْرُجن، وهنّ تَفِلات
(2)
"، وكذلك قَيّد ذلك
(1)
"عمدة القاري" 6/ 228.
(2)
قوله: "تَفِلات": جمع تَفِلَة -بفتح التاء المثناة من فوقُ، وكسر الفاء- من التَّفَل، وهو سوء الرائحة، يقال: امرأة تَفِلَة: إذا لم تتطيب، ويقال: رجل تَفِلٌ، وامرأة =
في بعض المواضع بالليل؛ ليتحقق الأمن فيه من الفتنة والفساد، كما تقدّم في بعض روايات ابن عمر رضي الله عنهما.
وبهذا يمنع استدلال بعضهم في المنع مطلقًا في قول عائشة رضي الله عنها؛ لأنها علّقته على شرط لم يوجد، فقالت:"لو رأى لمنع"، فيقال عليه: لم ير، ولم يمنع، على أن عائشة رضي الله عنها لم تُصَرِّح بالمنع، وإن كان ظاهرُ كلامها يقتضي أنها ترى المنع.
وأيضًا فالإحداث لم يقع من الكلّ، بل من بعضهم، فإن تعيّن المنع فيكون في حقّ مَن أحدثت، لا في حق الكلّ.
والحاصل أن الإحداث وإن وقع لم يقع في جميع النساء، فلا ينبغي تعميم المنع، بل يُقتصر في اللاتي أحدثن، فيمنعن من الخروج إلى المساجد، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: وقد تمسك بعضهم في منع النساء من المساجد مطلقًا بقول عائشة هذا، وفيه نظر؛ إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم؛ لأنها علّقته على شرط لم يوجد في زمانه صلى الله عليه وسلم، بل قالت ذلك بناءً على ظنّ ظنته، فقالت:"لو رأى لمنع"، فيقال عليه: لم ير، ولم يمنع، وظنها ليس بحجة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) يحيى بن سعيد الأنصاريّ الراوي عنها (فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟) بهمزة الاستفهام، وبناء الفعل للمفعول (قَالَتْ) عمرة (نَعَمْ) أي منُعن منه.
قال في "الفتح": قول عمرة "نعم" في جواب سؤال يحيى بن سعيد لها يظهر أنها نقلته عن عائشة رضي الله عنها، ويَحْتَمِل أن يكون عن غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها موقوفًا، أخرجه عبد الرزّاق بإسناد صحيح، ولفظه:"قالت: كان نساء بني إسرائيل يتّخِذن أرجلًا من خشب، يتشرّفن للرجال في المساجد، فحرّم اللَّه عليهنّ المساجد، وسُلّطَت عليهنّ الحيضة".
= تَفِلة، ومِتْفَال، قاله في "عمدة القاري" 6/ 228.
(1)
"نيل الأوطار" 3/ 162.
وأخرج عبد الرزّاق أيضًا بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلّون جميعًا، فكانت المرأة تتشرّف للرجل، فألقى اللَّه عليهنّ الحيض، ومنعهنّ المساجد".
وهذان الأثران، وإن كانا موقوفين، إلا أن لهما حكم الرفع؛ لأنهما مما لا يقال من قبل الرأي
(1)
.
ولا يقال: إن هذا يعارضه ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قال لها حين حاضت في حجة الوداع: "إن هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم. . . " الحديث؛ لإمكان الجمع بأن أصله على أول بنات آدم، والذي أُرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهنّ عقوبةَّ لَهنّ لا ابتداء وجوده، وقد تقدّم تمام البحث في هذا أول "كتاب الحيض"، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1054 و 1005](445)، و (البخاريّ) في "الأذان"(869)، و (أبو داود) في "الصلاة"(569)، و (الترمذيّ) فيها (2/ 420)، (ومالك) في "الموطّأ"(1/ 198)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 276)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 216)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1450)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(990)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 190)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3/ 440)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز خروج النساء إلى المساجد إذا التزمن بآداب الخروج.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 477 "كتاب الحيض" رقم (294)، و 2/ 407 "كتاب الأذان" رقم (869).
2 -
(ومنها): منعهنّ من الخروج إذا لم يلتزمن بها، بأن خرجن متبرّجات، أو متطيّبات، أو نحو ذلك.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابيّات في عهد النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- من التزامهنّ بالتعليمات النبويّة، ولذا نهى النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- أولياء النساء أن يمنعوهنّ من الخروج إلى المساجد.
4 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها أشارت بهذا الكلام إلى أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- كان يُرخّص في بعض ما يُرخِّص فيه حيث لم يكن في زمنه فساد، فلو أدرك ما حدث بعده لَمَا استمرّ على الرخصة، بل نهى عنه، فإنه إنما يأمر بالصلاح، وينهى عن الفساد
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان أن التغير، والانحراف في النساء وُجد في العصر المبكّر، في عصر الصحابة رضي الله عنهم، فقد بيّنت ذلك عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث أن النساء أحدثن ما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن الإحداث قليلٌ بالنسبة إلى ما حصل بعد ذلك، فلو شاهدت عائشة رضي الله عنها ما أحدث نساء هذا الزمان من أنواع البدع والمنكرات، لكانت أشدّ إنكارًا، وإلى اللَّه تعالى المشتكى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1005]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي الثَّقَفِيَّ- قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرُو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ:(ح)
(2)
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإِسنادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعنزيّ، تقدّم قبل باب.
(1)
"فتح الباري" للحافظ ابن رجب رحمه الله 8/ 41.
(2)
وفي نسخة: " (ح) قال" بتأخير "قال" في المواضع الثلاثة.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
3 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوق يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
والباقون كلهم تقدّموا في هذا الباب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ) الإشارة إلى إسناد يحيى بن سعيد الماضي، وهو: عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة هذه أخرجها أبو عوأنة في "مسنده"(1/ 397)، فقال:
(1450)
حدّثنا يوثس بن عبد الأعلى، وسعدان بن نصر، وشعيب بن عمرو، قالوا: ثنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: لو رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهنّ المسجد، كما مُنِعت نساء بني إسرائيل، قال: قلت: يا هذه، ومُنعت نساء بني إسرائيل؟ قالت: نعم. انتهى.
وأما رواية عيسى بن يونس، فأخرجها الإمام إسحاق ابن راهويه رحمه الله، في "مسنده"(2/ 148)، فقال:
(639)
أخبرنا عيسى بن يونس، نا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد، كما مُنعته نساء بني إسرائيل، فقلت لعمرة: وهل كُنّ منعن المساجد؟ فقالت: نعم. انتهى.
وأما رواية عبد المجيد الثقفيّ، فأخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 65)، فقال:
(990)
حدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عبد الوهاب الثقفيّ، سمع يحيى بن سعيد يقول (ح) حدثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غَنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة (ح) وحدثنا إبراهيم بن عبد اللَّه، ثنا محمد بن
إسحاق، أنبا عيسى بن يوسف
(1)
ثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة (ح) وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا حامد بن شعيب، ثنا شريح بن يونس
(2)
ثنا سفيان بن عيينة، سمعت يحيى بن سعيد (ح) وحدّثنا محمد بن بدر، ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد اللَّه بن يوسف، ثنا مالك (ح) وحدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا حماد بن زيد، وحدّثنا أبو علي الصوّاف، ثنا محمد بن نصر الصايغ، ثنا خالد بن خِدَاش، ثنا عبد اللَّه بن وهب، عن عمرو بن الحارث، قالوا: عن يحيى بن سعيد، أخبرتني عمرة، قالت: سمعت عائشة تقول: لو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما مُنِع نساء بني إسرائيل، قلت لعمرة: كأن نساء بني إسرائيل مُنِعْنَ المسجد؟ قالت: نعم. لفظ عبد الوهاب. انتهى.
وأما رواية أبي خالد الأحمر، فلم أجد من أخرجها بمفردها، إلا ما سبق عن أبي نعيم، في ضمن الرواية المذكورة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(32) - (بَابُ التَّوَسُّطِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِسْرَارِ إِذَا خَافَ مِنَ الْجَهْرِ مَفْسَدَةً)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1006]
(446) - (حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّباحِ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
(1)
هكذا النسخة: "ابن يوسف"، والظاهر أنه تصحيف من "عيسى بن يونس"، فليُحرّر.
(2)
هكذا النسخة، والظاهر أنه تصحيف من "سُريج بن يونس" بالسين المهملة، وآخره جيم، فليُحرّر.
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلهِ عز وجل:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَكَ، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ، أَسْمِعْهُمُ الْقُرْآنَ، وَلَا تَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} ، يَقُولُ
(1)
: بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(هُشَيْم) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(أَبُو بِشْرٍ) بن أبي وحشيّة، جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، من أثبت الناس في سعيد بن جبير [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
(1)
وفي نسخة: "قال: يقول".
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه عمرو، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال ابن الصبّاح. . . إلخ" إشارة إلى اختلاف شيخيه في صيغ الأداء، وفيه بيان تصريح هشيم بالإخبار؛ لأنه مدلّس.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو بشر، عن سعيد.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وقد مرّ هذا غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، كذا وصله هُشيم بذكر ابن عبّاس، وأرسله شعبة، كما أخرجه الترمذيّ من طريق الطيالسيّ، عن شعبة، وهشيم، مفصّلًا، قاله في "الفتح"
(1)
. (فِي قَوْلِهِ عز وجل) أي في بيان سبب نزول قوله عز وجل، وتوضيح معناه {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (نَزَلَتْ) أي هذه الآية (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ) بالضمّ: اسم فاعل، من توارى يتوارى: إذا اختفى، أي مختف ومتستّر عن المشركين؛ لئلا يعتدوا عليه، يعني أنها نزلت في أول الإسلام في وقت اشتداد أذى المشركين له صلى الله عليه وسلم، والجملة في محلّ نصب على الحال، من فاعل "نزلت"، والرابط الواو، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
وقوله: (بِمَكَّةَ) متعلّق بـ"متوار"(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ) أي بقراءة القرآن؛ ليسمعوه، ويعوه، ويبلّغوه من بعدهم.
وفي رواية الطبريّ من وجه آخر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فكان إذا صلّى بأصحابه، أسمع المشركين، فآذوه"، وفَسَّرت رواية الباب الأذى، حيث قال:"سَبُّوا القرآن"، وأخرج الطبريّ أيضًا بسنده عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن شقّ ذلك على
(1)
8/ 257.
المشركين إذا سمعوه، فيؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به، وذلك بمكة، فأنزل اللَّه: يا محمد {لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} ويقول: لا تُعْلِن بالقراءة بالقرآن إعلانًا شديدًا، يسمعه المشركون، فيؤذونك، ولا تخافت بالقراءة بالقرآن، يقول: لا خفض صوتك حتى لا تُسْمِع أذنيك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} يقول: اطلب بين الإعلان والجهر، وبين التخافت والخفض طريقًا لا جهرًا شديدًا ولا خفضًا لا تسمع أذنيك، فلما هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله، فيفعل أيّ ذلك شاء.
(فَإِذَا سَمِعَ دلِكَ الْمُشْرِكُونَ) أي قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن (سَبُّوا الْقُرْآنَ) قال الراغب: السبّ: الشتم الوجيع (وَمَنْ أَنْزَلَهُ) أي وسبّوا من أنزله، وهو اللَّه، كما قال عز وجل:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} [الفرقان: 6].
قال الراغب: وسبّهم للَّه تعالى ليس على أنهم يسبّونه صريحًا، ولكن يخوضون في ذكره، فيذكرونه بما لا يليق به، ويتمادون في ذلك بالمجادلة، فيزدادون في ذكره بما تنزّه تعالى عنه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا مانع من أن يكون سبّهم صريحًا، فإنهم جُرَآء على اللَّه تعالى، فلا يُستبعد أن يصرّحوا بسبّه.
والحاصل أنهم يسبّونه بما استطاعوا من صريح، أو كناية، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
(وَمَنْ جَاءَ بِهِ) أي وسبّوا أيضًا من جاء بالقرآن، وهو النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، أو الملك الذي جاء به إليه من عند ربّه تبارك وتعالى، وهو جبريل عليه السلام (فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} ) أي بقراءتك، هكذا وقع التفسير عند البخاريّ، والنسائيّ، وهو تفسير من ابن عبّاس رضي الله عنهما، وفي رواية الطبريّ:{لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي لا تُعلن بقراءة القرآن إعلانًا شديدًا، فيسمعك المشركون، فيؤذونك، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} وأي لا تخفض صوتك حتى
(1)
"مفردات القرآن" للراغب الأصبهانيّ (ص 391).
لا تُسمع أذنيك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أي طريقًا وسطًا. انتهى.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": عبّر بالصلاة هنا عن القراءة كما عبّر بالقراءة عن الصلاة في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة، وركوع، وسجود، فهي من جملة أجزائها، فعبّر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء، على عادة العرب في المجاز، وهو كثير، ومنه الحديث الصحيح:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي"، أي قراءة الفاتحة، كما تقدّم. انتهى
(1)
.
(فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَكَ) بنصب "يسمع" مبنيًّا للفاعل، ونصبه بـ "أن" مضمرةً وجوبًا بعد الفاء المجاب بها طلبٌ محضٌ، وهو النهي في قوله:{وَلَا تَجْهَرْ} ، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
ومفعول "يسمع" محذوف، تقديره: قراءتك، زاد في رواية البخاريّ، والنسائيّ:"فيسبُّوا القرآن".
({وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}) أي بصلاتك، بمعنى قراءتك، كما أسلفنا تقريره، أي لا تُسِرّ بقراءتك، يقال: خَفَتَ الصوتُ، من بابي: ضَرَبَ، وجَلَس: إذا سكن، ويُعدَّى بالباء، فيقال: خَفَتَ الرجل بصوته: إذا لم يرفعه، وخافت بقراءته مخافتةً: إذا لم يرفع صوته بها، أفاده في "المصباح"، و"المختار"، وقال السمين الحلبيّ رحمه الله: المخافتة: المسارّة، بحيث لا يسمع الكلام، وضربته حتى خَفَتَ: أي لم يُسمَع له صوت. انتهى
(2)
.
وقوله: (عَنْ أَصْحَابِكَ) متعلّق بـ "تُخافت"، وقوله:(أَسْمِعْهُمُ الْقُرْآنَ) توضيح وبيان لمعنى {وَلَا تُخَافِتْ} . . . إلخ، وفي رواية البخاريّ:"فلا تُسمعهم"، وللنسائيّ:"فلا يسمعوا"، أي قراءتك (وَلَا تَجْهَرْ) أي بصلاتك،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 344.
(2)
راجع: "حاشية الجمل على الجلالين" 2/ 667 - 668.
بمعنى قراءتك (ذَلِكَ الْجَهْرَ) أي البالغ حدّه ({وَابْتَغِ) أي اطلب (بَيْنَ ذَلِكَ) أي بين الجهر والمخافتة (سَبِيلًا}) أي طريقًا وسطًا، وقوله:(يَقُولُ) وفي نسخة: قال: يقول بزيادة "قال" أي قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: يقول اللَّه تعالى، يعني أنه يريد بقوله:{بَيْنَ ذَلِكَ} (بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ) يعني أن قوله تعالى: {بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} وبين المخافتة والجهر.
وحاصل المعنى: أن اللَّه عز وجل أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يطلب بين ما ذُكر من الجهر والمخافتة ما يحصل به الأمران جميعًا، وهو عدم الإخلال بسماع الحاضرين، والاحتراز عن سبّ أعداء الدين.
وأخرج ابن جرير رحمه الله في "تفسيره" عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني داود بن الحصين
(1)
، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن، وهو يصلي تفرقوا عنه، وأَبَوا أن يسمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو، وهو يصلي استرق السمع دونهم فَرَقًا منهم، فإذا رأى أنهم قد عَرَفُوا أنه يستمع ذهب خشيةَ أذاهم، فلم يسمع، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئًا، فأنزل اللَّه:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} فيتفرقوا عنك {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} فلا يَسمَع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم، فلعله يَرْعَوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} ، وهكذا قال عكرمة، والحسن البصريّ، وقتادة: نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة، وقال شعبة، عن أشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود: لم يُخافت من أسمع أذنيه. انتهى
(2)
.
وقال ابن جرير أيضًا بعد ذكر الأقوال في الآية ما نصّه: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ما ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في الخبر الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس؛ لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه
(1)
داود بن الحصين ثقة إلا في عكرمة، وهذا الحديث من روايته عنه، فلا يصحّ.
(2)
"تفسير ابن جرير" 17/ 585.
قول مُخَرّج، وأشبه الأقوال بما دَلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عقيب قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن، وذلك بُعْدُهم منه، ومن الإيمان، فماذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى وأشبه بقوله:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون على انصرافه عنه دليل يُعْلَم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل: ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك، ودعائك فيها ربَّك، ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها، فلا يسمعها أصحابك، وابتغ بين ذلك سبيلًا، ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقًا إلى أن تُسْمِع أصحابك، ولا يسمعه المشركون، فيؤذوك.
قال: ولولا أن أقوال أهل التأويل مَضَت بما ذكرتُ عنهم من التأويل، وإنّا لا نستجيز خلافهم فيما جاء عنهم، لكان وجهًا يَحْتَمِلُه التأويل أن يقال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار؛ لأنها عجماء، لا يُجْهَر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنها يُجهَر بها، وابتغ بين ذلك سبيلًا، بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان ذلك وجهًا غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نَرَى ذلك صحيحًا؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه.
فإن قال قائل: فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة؟.
قيل: حدَّثني مطر بن محمد، قال: ثنا قتيبة، ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سُلَيم، عن الأسود بن هلال، قال: قال عبد اللَّه: لم يُخافِتْ من أسمع أذنيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الأشعث،
عن الأسود بن هلال، عن عبد اللَّه مثله. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1006](446)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4722) و"التوحيد"(7490 و 7525 و 7547)، و (الترمذيّ) في (التفسير)(3145 و 3146)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 177 - 178)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1587)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1796)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(15/ 184 و 185 - 186)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 195)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1661)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(991)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية الكريمة:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال:
(الأول): هذا الذي ذُكر في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا، وهو متّفق عليه.
(الثاني): ما يأتي في حديث عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء، متّفقٌ عليه، وروي عن ابن عبّاس أيضًا.
وقال ابن كثير في تفسيره: قال أشعث بن سوّار، عن عكرمة، عن ابن عباس: نزلت في الدعاء، وهكذا روى الثوريّ، ومالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عياض، ومكحول، وعروة بن الزبير.
وقال الثوريّ، عن ابن عياش العامريّ، عن عبد اللَّه بن شدّاد، قال: كان
(1)
"تفسير الطبري" 15/ 188.
أعرابيّ من بني تميم، إذا سَلَّم النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قال: اللهم ارزقني إبلًا وولدًا، قال: فنزلت هذه الآية: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} . انتهى.
ورَوَى سعيد بن منصور من طريق صحابيّ لم يُسَمّ رَفَعَه في هذه الآية: "لا ترفع صوتك في دعائك، فتذكُرَ ذنوبك، فتُعَيَّر بها"
(1)
.
(الثالث): قول ابن سيرين رحمه الله: كان الأعراب يجهرون بتشهّدهم، فنزلت الآية في ذلك.
قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: نزلت هذه الآية في التشهد، {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، وبه قال حفص، عن أشعث بن سوّار، عن محمد بن سيرين مثله.
(الرابع): ما رُوي عن ابن سيرين أيضًا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يُسرّ قراءته، وكان عمر رضي الله عنه يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؟ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي إليه، وقال عمر: أنا أطرُد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية، قيل لأبي بكر: ارفع قليلًا، وقيل لعمر: اخفض قليلًا.
وقال ابن جرير الطبريّ: حدّثنا يعقوب، حدّثنا ابن عُلَيّة، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: نُبِّئت أن أبا بكر كان إذا صلى، فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجي ربي عز وجل، وقد عَلِم حاجتي، فقيل: أحسنت، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الْوَسْنان، قيل: أحسنت، فلما نزلت:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} ، قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا. انتهى.
(الخامس): ما رُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا أن معناها: ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل، ذكره يحيى بن سلّام وغيره.
وقال في "الفتح": قال الطبريّ رحمه الله: لولا أننا لا نستجيز مخالفة أهل التفسير فيما جاء عنهم، لاحْتَمَل أن يكون المراد لا تجهر بصلاتك، أي
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 258.
بقراءتك نهارًا ولا تخافت بها أي ليلًا، وكان ذلك وجهًا لا يبعد من الصحة. انتهى. وقد أثبته بعض المتأخرين قولًا. انتهى
(1)
.
(السادس): قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} وقال: لا تُصَلّ مراءاةً للناس، ولا تَدَعها مخافةَ الناس، وقال الثوريّ عن منصور، عن الحسن البصريّ:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، قال: لا تُحْسن علانيتها، وتسيء سريرتها، وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن به، وهشام، عن عوف عنه به، وسعيد عن قتادة عنه كذلك.
(السابع): قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله:{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} وقال: أهل الكتاب يخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يخافت كما يخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سَنّ له جبريل من الصلاة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أرجح هذه الأقوال هو الأول والثاني؛ لقوتهما صحّةً، ولا تنافي بينهما؛ إذ يُحمل الدعاء على الدعاء الذي يكون في الصلاة، ويؤيّده ما رَوَاه ابن مردويه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء، فنَزَلت. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التوسّط في القراءة في الصلاة الجهريّة، فينبغي للقارئ أن يكون رفعه لصوته وسطًا، بحيث لا يحصل منه ضرر لأيّ أحد، لا له، ولا لمن يستمع منه.
(1)
"الفتح" 8/ 258.
(2)
راجع: هذه الأقوال في: "تفسير ابن جرير" 17/ 580 - 589، و"تفسير ابن كثير" 3/ 98 - 99.
(3)
"الفتح" 8/ 258.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- في بداية أمره من إيذاء قومه له، حتى كان يعبد ربّه خفيةً، ولكنه مع ذلك يواصل في الدعوة إلى اللَّه عز وجل، لا يفتر عن ذلك لا ليلًا ولا نهارًا، لا سرًّا، ولا علانيةً، حتى أتاه النصر من اللَّه العزيز الحكيم، وكذلك ينبغي للداعي أن يأخذ أسباب الوقاية من أعدائه، ويدعو ما استطاع، ولا ييأس، ولا ينقطع، ويصبر على ذلك حتى يأتيه النصر من عند اللَّه العزيز الحكيم.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه المشركون من شدّة عنادهم، وهجرهم للحقّ، ومبارزتهم بكلّ قواهم حتى يصدّوا عنه، ولكنّ اللَّه عز وجل غالب على أمره، فحفظ نبيّه صلى الله عليه وسلم، ونصر دينه، ورفع قدر كتابه.
4 -
(ومنها): بيان أنه يجب على الداعي في حال الدعوة أن يبتعد عن كلّ ما يؤدّي إلى الطعن في اللَّه، أو في كتابه، أو نبيّه صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن تكون دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كما أوضح اللَّه تعالى ذلك في محكم كتابه، حيث قال:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
فينبغي له أن لا يجهر، ولا يُعلن في مجمع الجهلاء بما يدعوهم إلى أن يتجرّءوا على اللَّه تعالى، أو على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه، أو دينه بالسبّ والطعن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1007]
(447) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، قَالَتْ: أُنْزِلَ هَذَا في الدُّعَاءِ)
(2)
.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أُنْزِلت هذه في الدعاء".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) عن (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ربما دلّس [5](ت 5 أو 146) عن (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه عابدٌ [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وشيخ شيخه، فكوفيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن، عن أبيه، عن خالته: هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، وهكذا أخرجه البخاريّ عن شيخه طَلْق بن غَنّام، عن زائدة بن قُدامة، عن هشام، عن أبيه، قال في "الفتح": قوله: "عن عائشة" تابعه
(1)
الثوريّ، عن هشام، وأرسله سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحيم
(2)
الإسكندرانيّ، عن هشام، وكذلك أرسله مالك. انتهى
(3)
.
(1)
الضمير لزائدة بن قُدامة.
(2)
كذا في نسخة "الفتح"، وليُنظر هل هو يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندرانيّ، أم لا؟.
(3)
"الفتح" 8/ 258.
(فِي قَوْلِهِ عز وجل) أي في بيان سبب نزول قوله عز وجل ({وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}، قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (أُنْزِلَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(هَذَا فِي الدُّعَاءِ) وفي نسخة: "أُنزلت هذه في الدعاء".
قال في "الفتح": هكذا أطلقت عائشة رضي الله عنها، وهو أعمّ من أن يكون ذلك داخل الصلاة، أو خارجها، وقد أخرجه الطبريّ، وابن خزيمة، والعمريّ، والحاكم، من طريق حفص بن غياث، عن هشام، نزلت:"في التشهد"، ومن طريق عبد اللَّه بن شدّاد، قال: كان أعرابيّ من بني تميم إذا سَلَّم النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قال: اللهم ارزقنا مالًا وولدًا، ورَجّح الطبريّ حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لأنه أصحّ مخرجًا، ثم أسند عن عطاء، قال: يقول قوم: إنها في الصلاة، وقوم: إنها في الدعاء.
وقد جاء عن ابن عباس نحو تأويل عائشة، أخرجه الطبريّ من طريق أشعث بن سَوّار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت في الدعاء.
ومن وجه آخر، عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، ومن طريق عطاء، ومجاهد، وسعيد، ومكحول مثله، ورَجّح النوويّ وغيره قول ابن عباس، كما رجّحه الطبريّ
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: لكن يَحْتَمِل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة، وقد رَوَى ابن مردويه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلّى عند البيت رفع صوته بالدعاء، فنَزَلت. انتهى
(2)
.
وقيل: الآية في الدعاء، وهي منسوخة بقوله:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
لكن الذي في "شرح النووي" أن الطبريّ رجّح كون الآية نزلت في الدعاء، والظاهر أنه غلط، فإن الذي في تفسير الطبريّ ترجيح قول ابن عبّاس رضي الله عنهما، راجع:"تفسير الطبريّ" 17/ 588.
(2)
"الفتح" 8/ 258.
(3)
"الفتح" 8/ 258.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1007 و 1008](447)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4723)، و"الدعوات"(6327)، و"التوحيد"(7526)، و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(6/ 384)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(707)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1662 و 1663)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(992)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1008]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ- (ح) قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَوَكِيعٌ (ح) قَالَ: وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
4 -
(وَكِيع) بن الجرّاح تقدّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد هشام السابق، وهو: عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: أما رواية حماد بن زيد، فلم أجد من أخرجها، فليُنظر.
وأما رواية أبي أسامة، فأخرجها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(7526)
حدّثنا عُبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} في الدعاء. انتهى.
وأما رواية وكيع، فأخرجها ابن أبي شيبة في "مصنّفه" (6/ 96) فقال:
(29760)
حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قالت: في الدعاء. انتهى.
وأما رواية أبي معاوية، فأخرجها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 450) فقال:
(1663)
حدثنا الصومعيّ، قال: ثنا النُّفَيليّ، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قالت: في الدعاء. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(33) - (بَابُ الاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1009]
(448) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلهِ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بالْوَحْي، كَانَ مِمَّا يُحَرَّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَيَشْتَدُ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ بُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}، أَخْذَهُ، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} ، إِن عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنهُ فَتَقْرَؤُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ (18)}، قَالَ: أَنْزَلْنَاهُ، فَاسْتَمِعْ لَهُ، {إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كمَا وَعَدَهُ اللَّهُ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ) بن قُرْط الضّبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ) الْهَمْدَانيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، كان يُرسل [5](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 941.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال أبو بكر. . . إلخ"، وذلك لبيان اختلاف شيوخه في صيغ الأداء، فقد صرّح أبو بكر بن أبي شيبة، بتحديث شيخه له، وذكر شيخه باسمه، واسم أبيه، بخلاف الآخرين، فلم يفعلا ذلك.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وإسحاق، فما أخرج له ابن ماجه.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، إلا قتيبة، فبغلانيّ، وإسحاق، فمروزيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: موسى، عن سعيد.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه كان يقال له: الحبر والبحر؛ لكثرة علمه، وترجمان القرآن، وهو والد الخلفاء، وأحد العبادلة الأربعة، وهم: عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وقول الجوهريّ في "الصحاح" بدل ابن العاص: ابن مسعود
(1)
وفي نسخة: "كما وعده اللَّه تبارك وتعالى".
مردود عليه؛ لأنه منابذ لما قال أعلام المحدثين، كالإمام أحمد وغيره
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ) قال في "الفتح": لا يُعرف اسم أبيه، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير. انتهى. (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فِي قَوْلِهِ عز وجل) أي في توضيح معانيه، وبيان سبب نزوله ({لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": هذا تعليم من اللَّه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تَلَقِّيه الوحيَ من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره اللَّه عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتَكَفَّل اللَّه له أن يَجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يُبَيِّنه له، ويفسره، ويوضحه، فالحالة الأولى جمعُه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه، ولهذا قال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} [القيامة: 16] أي بالقرآن، كما قال تعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، ثم قال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} أي أن تقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي إذا تلاه عليك الملك عن اللَّه تعالى، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ي فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} أي بعد حفظه وتلاوته نُبَيِّنه لك، ونوضِّحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. انتهى
(2)
.
(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) لفظة "كان" في مثل هذا التركيب تفيد الاستمرار (إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ) عليه السلام، هو ملك الوحي إلى الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الموكل بإنزال العذاب والزلازل والدَّمَادِم، ومعناه: عبد اللَّه بالسريانية؛ لأن "جبر" عبد بالسريانية، و"إيل" اسم من أسماء اللَّه تعالى.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 70.
(2)
"تفسير ابن كثير"(4/ 450).
ورَوَى عبد بن حميد في "تفسيره" عن عكرمة أن اسم جبريل: عبد اللَّه، واسم ميكائيل: عبيد اللَّه.
وقال السهيليّ: جبريل سريانيّ، ومعناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز، كما جاء عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أصحّ.
وذهبت طائفة إلى أن الإضافة في هذه الأسماء مقلوبة، فـ "إيل" هو العبد، وأوله اسم من أسماء اللَّه تعالى، والجبر عند العجم هو إصلاح ما فسد، وهي توافق معناه من جهة العربية، فإن في الوحي إصلاحَ ما فسد، وجَبْرَ ما وَهَى من الدين.
ولم يكن هذا الاسم معروفًا بمكة، ولا بأرض العرب، ولهذا لما ذكره النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- لخديجة رضي الله عنها انطلقت لتسأل مَن عنده علم من الكتاب، كعَدّاس، ونَسطُور الراهب، فقالا: قدوس قدوس، ومن أين هذا الاسم بهذه البلاد؟
(1)
.
(بِالْوَحْي) أي بالقرآن الذي أوحاه اللَّه عز وجل إليه (كَانَ) قال النوويّ رحمه الله: إنما كرّر "كان" لطول الكلام، وقد قال العلماء: إذا طال الكلام جاز إعادة اللفظ ونحوه، كقوله تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، فأعاد "أنكم" لطول الكلام، وقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، وقد سبق بيان هذه المسألة مبسوطًا في أوائل "كتاب الإيمان". انتهى
(2)
.
(مِمَّا يُحَرِّكُ بهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ) اختلفوا في معنى هذا الكلام وتقديره، فقال القاضي عياض رحمه الله: معناه: كثيرًا ما كان يفعل ذلك، قال: وقيل: معناه: هذا من شأنه ودأبِهِ، فجعل "ما" كنايةً عن ذلك، وأدغمت نون "من" في ميم "ما".
ومنه قوله في حديث سمرة رضي الله عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الصبح مما يقول لأصحابه: "مَن رأى منكم رؤيا" أي هذا من شأنه.
وحديث البراء رضي الله عنه: "كُنّا إذا صلّينا خلف النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- مما نُحبّ أن نكون عن يمينه"، أي هذا شأننا.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 127.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 166.
وقال بعضهم: معناه: "رُبَّما"؛ لأن "من" إذا وقع بعدها "ما" كانت بمعنى "ربما"، قاله الشّيرازيّ، وابن خروف، وابن طاهر، والأعلم، وخَرّجوا عليه قول سيبويه:"واعلم أنهم مما يحذفون كذا"، وأنشدوا قول الشاعر [من الطويل]:
وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً
…
عَلَى رَأْسِهِ نُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ
وقال الكرمانيّ: أي كان العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين، أي مبدأ العلاج منه، أو بمعنى "مَنْ"؛ إذ قد تجيء للعقلاء أيضًا، أي وكان ممن يحرك شفتيه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كون "ما" هنا بمعنى "مَن" هو التوجيه الوجيه، وأما قوله رحمه الله:"كان العلاج. . . إلخ"، فلا يخفى بُعده، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
زاد في الرواية التالية: "فقال لي ابن عباس: أنا أُحَرِّكهما كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكهما، فقال سعيد: أنا أُحَرِّكهما كما كان ابن عباس يُحَرّكهما، فحَرَّك شفتيه"، وسيأتي شرحه هنا -إن شاء اللَّه تعالى-.
(فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير التحريك المفهوم، أي يشقّ عليه صلى الله عليه وسلم تحريكه شفتيه (فَكَانَ ذَلِكَ) أي كونه يشتدّ عليه التحريك (يُعْرَفُ مِنْهُ) ببناء الفعل للمفعول، يعني أنه يعرفه من رآه؛ لِما يظهر على وجهه وبدنه من آثاره، كما قالت عائشة رضي الله عنها:"ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عَرَقًا"
(1)
.
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}) الضمير عائد على القرآن، وإن لم يَجْرِ له ذكرٌ، لكن القرآن يُرشد إليه، بل دلّ عليه سياق الآية، أي لا تعجل بقراءة القرآن ما دام جبريل يقرؤه.
({لِتَعْجَلَ بِهِ} أَخْذَهُ) أي لتأخذه على عَجَلة، يقال: عَجِلَ عَجَلًا، من باب تَعِبَ، وعَجَلَةً: إذا أسرع، وحَضَر، فيكون قوله:"أخذه" منصوبًا بنزع الخافض، أي في أخذه، ويَحْتَمِل أن يكون من عَجِلَ إلى الشيء، من باب
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 166.
تَعِبَ أيضًا: إذا سبق إليه، كما في قوله تعالى:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، فيكون التقدير: إلى أخذه، واللَّه تعالى أعلم.
ثم عَلَّلَ النهي عن الْعَجَلَة بقوله: ({إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)}) ثم فسّره بقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنَهُ) بالنصب عطفًا على "أن نجمعه؛ لأنه في تأويل المصدر، أي إن علينا جمعه في صدرك، وقرآنه، والمراد بالقرآن هنا معناه المصدريّ، أي القراءة، ولذا فسّره بقوله:(فَتَقْرَؤُهُ) أي إن علينا قراءته.
({فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما، موضّحًا معناه:(أَنْزَلْنَاهُ) يعني أن معنى {قُرْآنَهُ} أنزلناه على لسان جبريل عليه السلام، فقرأه عليك (فَاسْتَمِعْ لَهُ) أي ومعنى:{فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} استمع إلى قراءة جبريل عليه السلام، فالقرآن هنا أيضًا بمعنى القراءة.
قال ابن كثير رحمه الله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي إذا تلاه جبريل عليه السلام، ففيه إضافة ما يكون عن أمر اللَّه تعالى إليه {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك. انتهى.
({إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}) أي ثمّ إن علينا (أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ) وقيل: معناه: إن علينا تفسير ما فيه من الحدود، والحلال والحرام، قاله قتادة، وقيل: إن علينا بيان ما فيه من الوعد، والوعيد، وتحقيقهما، ذكره القرطبيّ
(1)
.
والأَولى تفسير البيان بما يعمّ هذا كلّه، وقد ذكرت في "المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة" توضيح ذلك، وحاصله أن البيان يُطلق على التبيين الذي هو مصدر بَيّن، وهو فعل المبيِّن، ويُطلق أيضًا على ما حصل به التبيين، وهو الدليل، والمراد به كلُّ ما يُزيل الإشكال، فيدخل فيه التقييد، والتخصيص، والنسخ، والتأويل، ويُطلق أيضًا على متعلَّق التبيين، وهو المدلول، أي المبَيَّنُ -بالفتح- وعلى محلّه أيضًا، ويُطلق البيان على كلّ إيضاح، سواء تقدّمه خفاء وإجمالٌ أم لا، فالبيان تارةً يكون ابتداءً، وتارةً يكون بعد إجمال. انتهى.
وكلّ هذه المعاني تشملها هذه الآية، وإلى هذا أشرت في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 106.
إِخْرَاجُهُ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ
…
إِلَى تَجَلِّيهِ الْبَيَانُ الْغَالِي
وَهْوَ الْمُبَيِّنُ وَيُطْلَقُ عَلَى
…
مَا حَصَّلَ الْبَيَانَ عِنْدَ النُّبَلَا
فَهُوَ كُلُّ مَا أَزَالَ مُشْكِلَا
…
تَقْيِيدًا أَوْ تَخْصِيصًا أَوْ نَسْخًا جَلَا
كَذَلِكَ التَّأْوِيلُ وَالْبَيَانُ قَدْ
…
يُطْلَقُ لِلإِيضَاحِ مُطْلَقًا وَرَدْ
سَبَقَهُ الإِجْمَالُ أَمْ لَا فَالْبَيَانْ
…
يَأْتِي ابْتِدًا أَوْ بَعْدَ إِجْمَالٍ يُبَانْ
(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا أتَاهُ جِبْرِيلُ) عليه السلام بعد نزول هذه الآية (أَطْرَقَ) أي سكت صلى الله عليه وسلم، أو نظر إلى الأرض ساكتًا، من الإطراق، وهو السكوت، أو النظر إلى الأرض، قال في "اللسان": الإطراق: السكوت عامّةً، وقيل: السكوت من فَرَق، أي خَوْف، ورجلٌ مُطْرِقٌ، ومِطْرَاقٌ، وطِرِّيقٌ: كثير السكوت، وأطرق الرجلُ: إذا سكت، فلم يتكلّم، وأطرق أيضًا: أي أرخى عينيه ينظر إلى الأرض، وفي حديث نظر الفَجْأة:"أَطْرِق بصرك"
(1)
، والإطراق: أن يُقْبِل ببصره إلى صدره، ويسكُت ساكنًا. انتهى
(2)
.
(فَإِذَا ذَهَبَ) جبريل عليه السلام من عنده بعد القراءة عليه، وفي الرواية التالية:"فإذا انطلق جبريل"(قَرَأَهُ) صلى الله عليه وسلم (كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ) زاد في نسخة: "تبارك وتعالى"، وفي الرواية التالية:"قرأه النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، كما قرأه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 1009 و 1010](448)، و (البخاريّ) في "بدء الوحي"(5)، و"التفسير"(4927 و 4928 و 4929)، و"الفضائل"(5044)، و"التوحيد"(7524)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3329)،
(1)
هكذا في "اللسان"، والمعروف في الحديث:"اصرف بصرك"، والحديث أخرجه أحمد، وأبو داود بسند صحيح، عن جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفَجْأة؟ فقال: "اصرف بصرك".
(2)
راجع: "لسان العرب" 10/ 219.
و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 149)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2628)، و (الحميديّ) في "مسنده"(527)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 343)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 198)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12297)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(39)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(993 و 994)، و"دلائل النبوّة"(1/ 279)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان استحباب الاستماع لقراءة القارئ، والتأدّب معه بالإطراق، والإنصات.
2 -
(ومنها): بيان ما كان النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- يلقاه من معالجة الشدّة عند نزول الوحي عليه، وذلك لثقل الوحي، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5].
3 -
(ومنها): معاناته صلى الله عليه وسلم من تلقّي الوحي عن الملك، بحيث إنه كان يُحرّك شفتيه؛ لئلا ينسى، وقيل: إنما كان يفعل ذلك من حبّه له، وحلاوته في لسانه، والأول أظهر، فنُهي عن ذلك حتى يَجتمع له كلّه؛ لأن بعضه مرتبط ببعضه.
4 -
(ومنها): أن فيه النوع المسمّى في فنّ "مصطلح الحديث" بـ "المسلسل بتحريك الشفتين"
(2)
، فقد تسلسل بتحريك النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- لابن عبّاس رضي الله عنهما، ففي رواية أبي داود الطيالسيّ: أنه رآه يُحرّك شفتيه، ثم بتحريك ابن عبّاس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير، ثم بتحريك سعيد، لموسى بن أبي عائشة، وهلُمّ جرّا، حتى وصل إلينا من بعض شيوخنا
(3)
.
وفائدة التسلسل اشتماله على زيادة الضبط، واتّصال السماع، والأمن من التدليس، لكن غالب المسلسلات لا يصحّ تسلسلها، كحديث الرحمة المسلسل بالأوليّة، فإن تسلسله انقطع على سفيان بن عيينة، فمن رواه مسلسلًا إلى آخره فقد وَهِمَ.
(1)
المراد فوائد الروايتين، هذه والتي بعدها، لا خصوص هذا، فتنبّه.
(2)
هذا من فوائد الرواية التالية؛ لأن التحريك ليس في هذه الرواية، فتنبّه.
(3)
هو الشيخ إسماعيل بن عثمان زين اليمنيّ المتوفى (12/ 12/ 1414 هـ).
وقد بيّن السيوطيّ رحمه الله النوع المسلسل مع بيان أنواعه، وفائدته في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
هُوَ الَّذِي إِسْنَادُهُ رِجَالَهْ
…
قَدْ تَابَعُوا فِي صِفَةٍ أَوْ حَالَهْ
قَوْلِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ كِلَيْهِمَا
…
لَهُمْ أَوِ الإِسْنَادِ فِيمَا قُسِّمَا
وَخَيْرُهُ الدَّالُ
(1)
عَلَى الْوَصْفِ وَمِنْ
…
مُفَادِهِ زِيَادَةُ الضَّبْطِ زُكِنْ
وَقَلَّمَا يَسْلَمُ فِي التَّسَلْسُلِ
…
مِنْ خَلَلٍ وَرُبَّمَا لَمْ يُوصَلِ
كَأَوَّليَّةٍ لِسُفْيَانَ انْتَهَى
…
وَخَيْرُهُ مُسَلْسَلٌ بِالْفُقَهَا
5 -
(ومنها): بيان أن اللَّه تعالى تكفّل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا ينسى القرآن، وأنه كان بعد نزول هذه الآية يستمع ويُنصت لقراءة جبريل عليه السلام، فإذا انتهى جبريل من قراءته، وذهب من عنده قرأه النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- على أصحابه كما قرأه جبريل عليه السلام من غير زيادة، ولا نقص، كما قال اللَّه تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6].
6 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أنّ أحدًا لا يحفظ القرآن إلا بعون اللَّه تعالى وفضله، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)} [القمر: 32].
7 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: اختلف السلف والخلف في الْهَذّ -أي الإسراع في القراءة- أو الترتيل، فمن رأى الْهَذّ أراد استكثار الأجر، وحَوْز الحسنات بعدد الكلمات، ومن رأى الترتيل -وهم الأكثرون- ذهبوا إلى تفهّم معانيه، والوقوف عند حدوده، وتدبّر آياته، وتحسين تلاوته، كما أمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث قال:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، ولا خلاف أن الْهَذّ المفضي إلى لفّ كلماته، وترك إقامة حروفه غير جائز، وقال مالك رحمه الله: مِن الناس مَنْ إذا هَذّ كان أخفّ عليه، وإذا رتّل أخطأ، ومنهم من لا يُحسن الْهَذّ، والناس في ذلك على قدر حالاتهم، وما يَخفّ عليهم، وكلّ واسع. قال: وما قاله مالكٌ رحمه الله وغيره ممن أجاز الهذّ، فإنما هو لمن لم يكن حظّه غير مجرّد التلاوة، وفضل القراءة، فأما من فتح اللَّه عليه بعلمه، وتلاه
(1)
بتخفيف اللام؛ للوزن.
بالتفكّر والاعتبار، وتفهّم معانيه، واستثارة أحكامه، فلا مرية أن تلاوة هذا على مكث وإن قلّ ما يتلوه أفضل من ختمات غيره، وقد جاء للعلماء في ذلك أخبار، واختيار معلوم. انتهى كلام القاضي رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
8 -
(ومنها): أنه استدلّ بهذا من جوّز اجتهاد النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، حيث إنه كان يعجل بالقراءة، وجوّز الفخر الرازيّ أن يكون أذن له في الاستعجال إلى وقت ورود النهي عن ذلك، فلا يلزم وقوع الاجتهاد في ذلك
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما جوّزه الرازيّ لا يخفى بُعده، والحقّ أن اجتهاد النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- جائز، وواقع، وقد أوضحت ذلك في "التحفة المرضيّة" حيث قلت:
اخْتَلفُوا هَلِ الرَّسُولُ يَجْتَهِدْ
…
فَالأَكْثَرُونَ جَوَّزُوهُ وَوُجِدْ
وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ وَالْبَعْضُ فِي
…
حَرْبٍ رَأَى وَالْبَعْضُ ذُو تَوَقُّفِ
وَالْحَقُّ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فَقَدْ
…
جَاءَتْ وَقَائِعُ لَهَا قَدِ اجْتَهَدْ
وَالْخُلْفُ فِي خَطَئِهِ وَصُوِّبَا
…
وَقُوعُهُ بِلَا تَمَادٍ صَاحَبَا
فَاللَّه لَا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ بَلْ
…
يُنْزِلُ وَحْيَهُ إِزَالَةَ الْخَلَلْ
ثُمَّةَ ذَا الْخُلْفُ لأَمْرٍ نُسِبَا
…
لِلدِّينِ لَا غَيْرُ فَخُذْهُ رَاغِبَا
أَمَّا الأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَقَدْ
…
اتَّفَقُوا فِي كَوْنِهِ فِيهَا اجْتَهَدْ
فإن أردت إيضاح معاني الأبيات، فارجع إلى الشرح
(3)
، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
9 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو مذهب الجمهور من أهل السنّة، وهو الصحيح في كتب الأصول، ونصّ عليه الشافعيّ رحمه الله لما تقتضيه "ثمّ" من التراخي.
قال في "الفتح": أولُ من استدلّ لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الخطيب وتبعوه، وهذا لا يتمّ إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حُمِل على أن المراد استمرار حفظه له، وظهوره على لسانه فلا.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 359 - 360.
(2)
"الفتح" 8/ 551.
(3)
"المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة" 3/ 495.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حمل البيان على معنى استمرار حفظه فقط بعيد، فالأولى حمله على ما يعمّه، وجميع أنواع البيان، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الآمديّ: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار، لا بيان المجمل، يقال: بيان الكوكب: إذا ظهر. قال: ويؤيّد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعض بالأمر المذكور دون بعض.
وقال أبو الحسين البصريّ: يجوز أن يراد البيان التفصيليّ، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجماليّ، فلا يتمّ الاستدلال.
وتُعُقّب باحتمال إرادة المعنيين: الإظهار، والتفصيل، وغير ذلك؛ لأن قوله:{بَيَانَهُ} جنس مضاف، فيعُمّ جميع أصناف البيان، من إظهاره، وتبيين أحكامه، وما يتعلّق بها، من تخصيص، وتقييد، ونسخ، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حققه في "الفتح" أخيرًا هو الحقّ.
وحاصله أن المراد بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} جميع أنواع البيان، من جهة لفظه، ومن جهة معناه، وحمل الآية على بعض أنواع البيان دون بعض تحكّم، لا دليل عليه، فيكون لفظه محفوظًا لديه لا يغيب عنه شيء حتى يبلّغه، فمتى أراد تبليغه استطاع أداءه كما سمعه من جبريل عليه السلام، كما يكون معناه ظاهرًا لديه ظهورًا لا خفاء فيه، وإذا أراد بيان أحكامه أراه اللَّه تعالى ما أراد منه، وتكون دلالاته كلها ظاهرة لديه متى أراد بيانها للناس استطاع، فهو يعلم تفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامّه، وناسخه من منسوخه، وغير ذلك من أنواع الدلالات.
وأما مسألة تأخير البيان، فقد وقع فيها اختلاف بين العلماء، والصحيح ما عليه الجمهور، من أن تأخير البيان عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة جائز، وواقع، وهذا هو الصواب؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} فقد عبّر بـ "ثم" المقتضية للتأخير، وإلى هذا قد أشرت في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:
(1)
"الفتح" 8/ 551.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ الْبَيَانْ
…
عَنْ وَقْتِ حَاجَةِ الْمُكَلَّفِ الْمُعَانْ
لأَنَّهُ يُوقِعُ فِي التَّكْلِيفِ مَا
…
لَيْسَ يُطَاقُ وَهْوَ مَمْنُوعًا سَمَا
جَوَّزَهُ بَعْضٌ وَلَكِنْ قَالَ لَا
…
يَقَعُ فَالإِجْمَاعُ حَتْمًا حَصَلَا
وَجَوَّزَ الْجُمْهُورُ تَأَخِيرَهُ عَنْ
…
وَقْتِ الْخِطَابِ لاحْتِيَاجٍ فَانْصُرَنْ
وَرُبَّمَا الْحَاجَةُ تَدْعُوكَ إِلَى
…
تَعْجِيلِهِ أَوْ ضِدِّهِ فَلتَعْقِلَا
فَوَاجِبٌ تَعْجِيلُهُ إِذَا يُخَافْ
…
فَوَاتُهُ بِلَا تَمَكُّنِ التَّلَافْ
وَجَازَ تَدْرِيجُ الْبَيَانِ وَكَذَا
…
تَأْخِيرُ إِسْمَاعِ مُخَصِّصٍ خُذَا
وَوَجَبَ اعْتِقَادُ عَامٍ وَالْعَمَلْ
…
كُلُّ الأَدِلَّةِ كَذَا عِنْدَ النَّبَلْ
وإن أردت تحقيق معنى الأبيات، فارجع إلى شرحي "المنحة الرّضيّة"
(1)
تنل بغيتك، واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1010]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا
(2)
، فَقَالَ سَعِيدٌ: أنا أُحَرِّكُهُمَا
(3)
كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَؤُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ، وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ، قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدّموا في السند الماضي، إلا واحدًا، وهو:
(1)
3/ 127 - 138.
(2)
زاد في نسخة: "فحرّك شفتيه".
(3)
زاد في نسخة: "لك".
1 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فِي قَوْله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}، قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (كَانَ النَّبِيُّ -صلي اللَّه عليه وسلم- يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ) المعالجة: محاولة الشيء بمشقّة، وقوله:"شدّةً" منصوب على المفعوليّة لـ "يُعالج"، وقال في "العمدة": أي يحاول من تنزيل القرآن عليه شِدّةً، ومنه ما جاء في حديث آخر:"وَلي حرَّه، وعِلاجه": أي عَمَله وتَعَبَهُ، ومنه قوله:"من كسبه وعلاجه": أي من محاولته وملاطفته في اكتسابه، ومنه معالجة المريض، وهي ملاطفته بالدواء حتى يُقْبِل عليه، والمعالجة: الملاطفة في المراودة بالقول والفعل، ويقال: محاولةُ الشيء بمشقة. انتهى.
وجملة: "يعالج" في محلّ نصب خبر "كان".
وقوله: (شِدَّةً) بالنصب مفعول "يعالج"، وقال الكرمانيّ: يجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا له، أي يعالج معالجةً شديدةً، فعلى هذا يحتاج إلى شيئين: أحدهما تقدير المفعول به لـ "يعالج"، والثاني تأويل الشّدّة بالشديدة، وتقدير الموصوف لها، فافهم، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: سبب الشدّة هيبة الملك، وما جاء به، وثقل الوحي، قال اللَّه تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]، والمعالجة: المحاولة للشيء، والمشقّة في تحصيله. انتهى
(2)
.
(كَانَ) صلى الله عليه وسلم (يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ) ببناء الفعل للفاعل، وفي الرواية السابقة:"وكان مما يُحرّك شفتيه"، وقد تقدّم الكلام عليها، قال سعيد:(فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَا أُحَرِّكهُمَا) أي الشفتين، وفي رواية البخاريّ:"فقال ابن عبّاس: فأنا أحرّكهما"، قال في "العمدة": تقديم فاعل الفعل يُشعر بتقوية الفعل، ووقوعه لا محالة، قال: وقوله: فقال لي ابن عبّاس رضي الله عنهما إلى قوله:
(1)
"عمدة القاري" 1/ 128.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 166.
"فأنزل اللَّه" جملة معترضةٌ بالفاء، وذلك جائزٌ، كما في قول الشاعر [من الكامل]:
وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ
…
أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا
وفائدة الاعتراض زيادة البيان بالوصف على القول.
(كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا) زاد في نسخة: "فحرّك شفتيه" (فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا
(1)
كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكهُمَا) ووقع عند البخاريّ: "وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عبّاس يحرّكهما"، فقال الكرمانيّ: فإن قلت: كيف قال في الأول: "كان يحركهما"، وفي الثاني بلفظ:"رأيت"؟ قلت: العبارة الأولى أعمّ من أنه رأى بنفسه تحريك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم سمع أنه حركهما.
وتعقّبه في "العمدة"، فقال: ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم ير النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- في تلك الحالة؛ لأن سورة القيامة مكية باتفاق، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك وُلد؛ لأنه وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، والظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، ولكن يجوز أن يكون النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- أخبره بذلك بعدُ أو أخبره بعض الصحابة أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في "الفتح": والأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحًا عن أبي داود الطيالسيّ في "مسنده" عن أبي عوانة بلفظ:"قال ابن عبّاس: فأنا أحرّك لك شفتي كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.
(فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ) لا تنافي بين هذا حيث ذكر الشفتين، وبين قوله (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ) حيث ذكر اللسان؛ لأن تحريك الشفتين بالكلام
(1)
زاد في نسخة: "لك".
(2)
هكذا نقل في "الفتح" في "تفسير سورة القيامة" عن "مسند أبي داود الطيالسيّ" عن أبي عوانة، ولكن الذي وجدته في "مسنده" عن أبي عوانة رقم (2628) نصّه:"قال ابن عبّاس: إنما أحرك شفتي كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحرّك. . . " الحديث، ولكن الحافظ ثبتٌ في نقله، فلا أدري من أي موضع نقله، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان، أو اكتَفَى بالشفتين، وحذَفَ اللسان؛ لوضوحه؛ لأنه الأصل في النطق؛ إذ الأصل حركة الفم، وكلٌّ من الحركتين ناشئ عن ذلك، وتدلّ عليه رواية البخاريّ من طريق جرير في "التفسير":"يحرّك به لسانه وشفتيه"، فجَمَع بينهما.
وكان النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- في ابتداء الأمر إذا لُقِّن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يَصْبِر حتى يتمها؛ مسارعة إلى الحفظ؛ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره.
ووقع في رواية للترمذيّ: "يحرّك به لسانه" يريد أن يحفظه، وللنسائيّ:"يَعْجَلُ بقراءته ليحفظه"، ولابن أبي حاتم:"يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه؛ خشيةَ أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره".
وفي رواية الطبريّ، عن الشعبيّ:"عَجِلَ يتكلم به من حبه إياه"، وكلا الأمرين مراد.
ولا تنافي بين محبته إياه، والشدّة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن يُنْصِت حتى يُقْضَى إليه وحيه، ووَعَدَ بأنه آمن من تفلّته منه بالنسيان أو غيره.
ونحوه قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، أي بالقراءة، قاله في "الفتح"
(1)
.
(لِتَعْجَلَ بِهِ) أي لتأخذه على عجلة {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَأَهُ) بالنصب بـ "أن" مضمرة؛ لكونه معطوفًا على اسم خالص، وهو "جمعه"، كما في قول الشاعر [من البسيط]:
إِنِّي وَقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَهُ
…
كَالثَّوْرِ يُضْرَبُ لَمَّا عَافَتِ الْبَقَرُ
فـ "أعقله" منصوب لعطفه على "قتلي"، وهو اسم صريح، وإلى هذه القاعدة أشار في "الخلاصة" بقوله:
وَإِنْ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ
…
تَنْصِبُهُ "أَنْ" ثَابِتًا أَوْ مُنْحَذِفْ
والتقدير هنا: "ثم قراءتَكَ".
(1)
"الفتح" 1/ 30.
ووقع في بعض النسخ: "ثُمّ تَقْرَؤُهُ" بالرفع، وعليه فيكون مستأنفًا، أي ثم أنت تقرؤه.
({فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)}، قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما مفسّرًا هذه الجملة (فَاسْتَمِعْ، وَأَنْصِتْ) فيه لغتان: قطع همزته، ووصلها، يقال: أنصت إنصاتًا: استمع، يتعدّى بالحرف، فيقال: أنصت الرجل للقارئ، وقد يُحذف الحرف، فينصبُ المفعولُ، فيقال: أنصت الرجل القارئَ، ضُمِّن سَمِعَهُ، ونَصَتَ له يَنْصِتُ، من باب ضرب لغة: أي سَكَت مستمعًا، وهذا يتعدَّى بالهمزة، فيقال: أنصته: أي أسكته، قاله في "المصباح"
(1)
.
وقال النوويّ في "شرحه": الاستماع: الإصغاء، والإنصات: السكوت، فقد يَستمع، ولا يُنصتُ، فلهذا جمع بينهما، كما قال اللَّه تعالى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، قال الأزهريّ: يقال: أَنْصَتَ، ونَصَتَ، وانتصتَ، ثلاث لغات، أفصحهنّ: أنصت، وبها جاء القرآن العزيز. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ) هكذا رواية المصنّف، وهو بيان لمعنى قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} ، وقد صُرّح به في رواية البخاريّ، ولفظه:" {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} ثم إن علينا أن تقرأه"، وفي رواية له:"علينا أن نبيّنه بلسانك"، وفي رواية:"على لسانك".
والمعنى: أن اللَّه عز وجل ضمِنَ له صلى الله عليه وسلم أن يُيسّر له قراءة القرآن متى شاء، سواء كان لنفسه تدبّرًا، وتعبّدًا بتلاوته، أو للناس تبليغًا، وأن يُبيّن له ما يراد منه من المعاني والأحكام، وهذا فضل من اللَّه تعالى الكريم عليه، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بعد نزول هذه الآية (إِذَا إتاهُ جِبْرِيلُ) عليه السلام (اسْتَمَعَ) لقراءته (فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ) عليه السلام أي ذهب، وانصرف من عنده صلى الله عليه وسلم (قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صلي اللَّه عليه وسلم- كَمَا أَقْرَأَهُ) فاعل "قرأ" الأول ضمير النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وفاعل "قرأ" الثاني ضمير جبريل عليه السلام.
والمعنى: أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- كان بعد نزول هذه الآية إذا أتاه جبريل عليه السلام
(1)
"المصباح المنير" 2/ 607.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 166 - 167.
بالوحي، وبدأ يقرأ ذلك الوحي عليه، استمع صلى الله عليه وسلم لقراءته، فإذا انتهى من قراءته، وانصرف من عنده، قرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما قرأه جبريل عليه السلام، من غير زيادة، ولا نقص، ولا تبديل، ولا تحريف.
والحديث متّفق عليه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(34) - (بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ، وَالْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنِّ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1011]
(449) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علَى الْجِنًّ، وَمَا رَآهُمُ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ
(1)
عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ؟ فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا
(2)
نَحْوَ تِهَامَةَ، وَهُوَ بِنَخْلٍ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرآنَ، اسْتَمَعُوا لَهُ، وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)} ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} ).
(1)
وفي نسخة: "وأُرسل" بلا تاء.
(2)
وفي نسخة: "ذهبوا".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ الأُبُلّيّ، صدوق يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235) عن بضع وتسعين سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
"وأبو بشر" هو: ابن أبي وَحْشيّة، جعفر بن إياس، تقدّم قبل باب، والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وكذا لطائف الإسناد.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجِنِّ، وَمَا رَآهُمُ) قال النوويّ رحمه الله: في وجه الجمع بين هذا وبين ما يأتي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم القرآن: هما قضيّتان.
فحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أول الأمر، وأول النبوة، حين أَتَوا فسمعوا قراءة {قُلْ أُوحِيَ} ، واختَلَف المفسرون، هل علم النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- استماعهم حال استماعهم بوحي أُوحي إليه، أم لم يعلم بهم إلا بعد ذلك؟.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقضية أخرى، جَرَت بعد ذلك بزمان، اللَّه أعلم بقدره، وكان بعد اشتهار الإسلام. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله حديث ابن عبّاس هذا، لكنه اقتصر على قوله:"انطَلَق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ"، فقال في "الفتح": قوله: "انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، كذا اختصره البخاريّ هنا، وفي "صفة الصلاة"، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبرانيّ، عن معاذ بن المثنى، عن مسدد شيخ البخاريّ فيه، فزاد في أوله:"ما قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الجنّ، ولا رآهم، انطلق. . . إلخ"، وهكذا أخرجه مسلم عن شيبان بن فَرُّوخ، عن أبي عوانة بالسند الذي أخرجه به البخاريّ، فكأنّ البخاريّ حذف هذه اللفظة عمدًا؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه أثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنّ، فكان ذلك مقدَّمًا على نفي ابن عباس رضي الله عنهما، وقد أشار إلى ذلك مسلم، فأخرج عقب حديثِ ابن عباس هذا حديثَ ابنِ مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قال: "أتاني داعي الجنّ، فانطلقتُ
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 167.
معه، فقرأت عليه القرآن"، ويمكن الجمع بالتعدد، كما سيأتي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حمله على التعدّد أولى، كما سبق عن النوويّ رحمه الله.
(انْطَلَقَ) أي ذهب (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ) قال في "العمدة": ذكره الجوهريّ في باب "طَوَفَ"، وقال: الطائفة من الشيء قطعة منه، وقوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] قال ابن عباس رضي الله عنهما: الواحد فما فوقه، وقال مجاهد: الطائفة: الرجل الواحد إلى الألف، وقال عطاء: أقلها رجلان. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": الطائفة: الفرقة من الناس، والطائفة: القطعة من الشيء، والطائفة من الناس: الجماعة، وأقلّها ثلاثةٌ، وربّما أُطلقت على الواحد والاثنين. انتهى
(3)
.
وقوله: (مِنْ أَصْحَابِهِ) بيان لـ "طائفة"، قال في "الفتح": ذكر ابن إسحاق، وابن سعد أن ذلك كان في ذي القعدة سنة عشر من المبعث لَمّا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ثم رجع منها، ويؤيده قوله في هذا الحديث: إن الجن رأوه يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، والصلاة المفروضة إنما شُرِعت ليلة الإسراء، والإسراء كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين، أو ثلاث، فتكون القصّة بعد الإسراء.
لكنه مشكل من جهة أخرى؛ لأن مُحَصَّل ما في "الصحيح"، كما في "بدء الخلق"، وما ذكره ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا خرج إلى الطائف، لم يكن معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وهنا قال: إنه انطلق في طائفة من أصحابه، فلعلها كانت وِجْهةً أخرى، ويمكن الجمع بأنه لَمّا رجع لاقاه بعض أصحابه في أثناء الطريق، فرافقوه. انتهى
(4)
.
(عَامِدِينَ) أي قاصدين، يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، من باب ضرب،
(1)
"الفتح" 8/ 538 "كتاب التفسير" رقم (4920 - 4921).
(2)
"عمدة القاري" 6/ 50 في "كتاب الصلاة" رقم (773).
(3)
"المصباح المنير" 2/ 381.
(4)
"الفتح" 8/ 538.
وعَمَدتُ إليه: قصدتُ، وتعمّدته: قصدت إليه أيضًا، قاله الفيّوميّ
(1)
.
(إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ) متعلّق بـ "عامدين".
و"السُّوق": تؤنّث وتذكّر لغتان، قيل: سُمِّيت بذلك لقيام الناس فيها على سُوقهم
(2)
.
و"عُكَاظ": بضم العين المهملة، وتخفيف الكاف، وآخره ظاء معجمة، بالصرف وعدمه.
قال اللحيانيّ: الصرف لأهل الحجاز، وعدمه لغة تميم، وهو موسم معروف للعرب، بل كان من أعظم مواسمهم، وهو نخل في وادٍ بين مكة والطائف، وهو إلى الطائف أقرب، بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة، من طريق صنعاء اليمن.
وقال البكريّ: أَوّلُ ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقًا إلى سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج الحرورية، فَنَهَبُوها، فتُرِكت إلى الآن، وكانوا يقيمون به جميع شَوّال، يتبايعون، ويتفاخرون، وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم، كقول حسان [من الوافر]:
سَأَنْشُرُ إِنْ حَيِيتُ لَكُمْ كَلَامًا
…
يُنَشَّرُ فِي الْمَجَامِعِ مِنْ عُكَاظِ
وكان المكان الذي يجتمعون به منه يقال له: الابتداء، وكانت هناك صُخُور يطوفون حولها، ثم يأتون مَجَنّة
(3)
، فيُقيمون بها عشرين ليلة من ذي القَعْدة، ثم يأتون ذا الْمَجَاز، وهو خلف عرفة، فيقيمون به إلى وقت الحجّ.
وقال ابن التين: سُوق عكاظ من إضافة الشيء إلى نفسه، كذا قال، وعلى ما تقدم من أن السوق كانت تقام بمكان من عكاظ، يقال له الابتداء، لا يكون كذلك، قاله في "الفتح"
(4)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن التين، من أنه من إضافة
(1)
"المصباح المنير" 2/ 428.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 167.
(3)
قال في "القاموس" 4/ 210: و"الْمَجَنَّةُ": الأرض الكثيرة الجنّ، وموضع قرب مكة، وقد تكسر ميمها. انتهى.
(4)
"الفتح" 8/ 539.
الشيء إلى نفسه، ليس كما قال، بل هو من إضافة العام إلى الخاصّ، كشجر أراك، وعلم الفقه، ونحو ذلك، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الفيوميّ: "عُكَاظ" وزانُ غُرَاب: سوقٌ من أعظم أسواق الجاهليّة، وراء قرن المنازل بمرحلة، من عَمَل الطائف، على طريق اليمن، وقال أبو عُبيد: هي الصحراء مستويةً، لا جبل فيها، ولا عَلَمَ، وهي بين نجد والطائف، وكان يقام فيها السوق في ذي الْقَعْدة نحوًا من نصف شهر، ثم يأتون موضعًا دونه إلى مكة، يقال له: سوق مَجَنّة، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر، ثم يأتون موضعًا قريبًا منه، يقال له: ذو الْمَجَاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية، ثم يَصْدُرُون إلى منى، والتأنيث لغة الحجاز، والتذكير لغة تميم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": وعن الليث: سُمّي عُكاظُ عُكاظًا؛ لأن العرب كانت تجتمع فيها، فيَعْكِظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة: أي يَدْعَك
(2)
، وقال غيره: عَكَظَ الرجلُ دابته يَعْكِظها عَكْظًا
(3)
: إذا حَبَسَها، وتَعَكّظ القوم تعكُّظًا: إذا تحبسوا ينظرون في أمرهم، وبه سُمّيت عكاظ.
قال: وقال أبو عبيدة: عُكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى موضع، يقال له: الْفُتُق
(4)
، به أموال ونخيل لثقيف، بينه وبين الطائف عشرة أميال، فكان سوق عُكاظ يقوم صبيحة هلال ذي القعدة عشرين يومًا، وسوق مَجَنّة يقوم بعده عشرة أيام، وسوق ذي المجاز يقوم هلال ذي الحجة.
وزعم الرشاطيّ أنها كانت تقام نصف ذي القعدة إلى آخر الشهر، فإذا أَهَلّ ذو الحجة أَتَوا ذا المجاز، وهي قريب من عُكاظ، فيقوم سوقها إلى يوم التروية، فيسيرون إلى منى، وقال ابن الكلبيّ: لم يكن بعُكاظ عُشُور ولا خَفَارة. انتهى
(5)
.
(وَقَدْ حِيلَ) بكسر الحاء المهملة، وسكون التحتانيّة، بعدها لام: أي حُجِز، ومُنِع على البناء للمجهول، قاله في "الفتح"
(6)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 424.
(2)
يقال: دعك خصمه: ليّنه. اهـ. "ق".
(3)
من باب ضرب.
(4)
بضمتين: قرية بالطائف. اهـ. "ق".
(5)
"عمدة القاري" 6/ 51.
(6)
8/ 539.
وقال في "العمدة": يقال: حال الشيءُ بيني وبينك: أي حَجَزَ، وأصل مصدره واويّ، يعني من الْحَوْل، وأصلُ حِيلَ حُولَ، نُقِلت كسرة الواو إلى ما قبلها، بعد حذف الضمة منها، فصار حِيلَ. انتهى
(1)
.
(بَيْنَ الشَّيَاطِينِ) جمع شيطان، قال الزمخشريّ: وقد جَعَل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصليةً، وفي آخر زائدةً، واشتقاقه من شَطَن: إذا بَعُدَ؛ لبعده عن الصلاح والخير، أو من شاط إذا بطل، إذا جعلت نونه زائدة، والشياطين: العصاة من الجنّ، وهم من ولد إبليس، والمراد أعتاهم وأغواهم، وهم أعوان إبليس، يُنَفِّذون بين يديه في الإغواء، وقال الجوهريّ: كل عاتٍ متمرّدٍ من الجنّ، والإنس، والدواب شيطان.
وقال القاضي أبو يعلى: الشياطين: مردة الجنّ وأشرارهم، ولذلك يقال للشِّرِّير: ماردٌ وشيطانٌ، وقال تعالى:{شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7].
وقال أبو عمر بن عبد البر: الجنّ مُنَزَّلون على مراتب، فإذا ذكر الجنّ خالصًا، يقال: جنيّ، وإن أريد به أنه ممن يَسْكُن مع الناس، يقال: عامرٌ، والجمع عُمّار، وإن كان مما يَعْرِض للصبيان، يقال: أرواح، فإن خَبُث فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو ماردٌ، فإن زاد على ذلك، وقَوِيَ أمره فهو عِفْرِيت، والجمع عفاريت. انتهى.
وفي الحديث المذكور ذكر وجود الجنّ، ووجود الشياطين، ولكنهما نوع واحدٌ، غير أنهما صارا صنفين باعتبار أَمْرٍ عَرَض لهما، وهو الكفر والإيمان، فالكافر منهم يُسَمَّى بالشيطان، والمؤمن بالجنّ، قاله في "العمدة"
(2)
.
(وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ) وفي نسخة: "وأُرسل" بلا تاء التأنيث (عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ) بضم الهاء: جمع شِهَاب، وهو شُعْلة نار، ساطعةٌ كأنها كوكب مُنْقَضٌّ.
قال "الفتح": ظاهر هذا أن الحيلولة، وإرسال الشهب وقع في هذا الزمان المقدَّم ذكْرُهُ، والذي تضافرت به الأخبار أن ذلك وقع لهم من أول البعثة النبوية، وهذا مما يؤيِّد تغاير زمن القصّتين، وأن مجيء الجنّ لاستماع
(1)
"عمدة القاري" 6/ 51.
(2)
"عمدة القاري" 6/ 52.
القرآن كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بسنتين، ولا يَعْكُر على ذلك إلا قوله في هذا الخبر: إنهم رأوه يصلّي بأصحابه صلاة الفجر؛ لأنه يَحْتَمِل أن يكون ذلك قبل فرض الصلوات ليلة الإسراء، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلّي قطعًا، وكذلك أصحابه، لكن اختُلِف هل افتُرِض قبل الخمس شيء من الصلاة، أم لا؟، فيصح على هذا قولُ مَن قال: إن الفرض أوّلًا كان صلاةً قبل طلوع الشمس، وصلاةً قبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، ونحوها من الآيات، فيكون إطلاق صلاة الفجر في حديث الباب باعتبار الزمان، لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، فتكون قصّة الجن متقدّمة من أول المبعث.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا الموضع مما لم يُنَبِّه عليه أحدٌ ممن وقفت على كلامهم في شرح هذا الحديث.
وقد أخرج الترمذيّ، والطبريّ حديث الباب بسياقٍ سالمٍ من الإشكال الذي ذكرته من طريق أبي إسحاق السبيعيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كانت الجنّ تصعد إلى السماء الدنيا، يستمعون الوحي، فإذا سَمِعُوا الكلمة زادوا فيها أضعافًا، فالكلمة تكون حقًّا، وأما ما زادوا فيكون باطلًا، فلما بُعِث النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- مُنِعُوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يُرْمَى بها قبل ذلك".
وأخرجه الطبريّ أيضًا، وابن مردويه، وغيرهما، من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مُطَوَّلًا، وأوله:"كان للجن مقاعدُ في السماء، يستمعون الوحي. . . " الحديث، "فبينما هم كذلك، إذ بُعِث النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فدُحِرت الشياطين من السماء، ورُمُوا بالكواكب، فجَعَلَ لا يصعد أحد منهم إلا احترق، وفزع أهل الأرض لِمَا رأوا من الكواكب، ولم تكن قبل ذلك، فقالوا: هلك أهل السماء، وكان أهل الطائف أَوَّلَ من تفطّن لذلك، فعَمَدُوا إلى أموالهم، فسَئبُوها، وإلى عبيدهم فعتقوها
(1)
، فقال لهم رجل: ويلكم لا تُهلِكوا
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب: فأعتقوها، بالهمزة؛ لأن عتق الثلاثي لا يتعدّى، اللَّهمّ إلا أن نجعله من التعتيق المضاعف، وإن كان غير ظاهر، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
أموالكم، فإن معالمكم من الكواكب التي تَهْتَدون بها لم يَسقُط منها شيء، فأَقْلَعُوا، وقال إبليس: حَدَث في الأرض حَدَث، فأُتِي من كل أرض بتربة فشَمَّها، فقال لتربة تهامة: ها هنا حَدَثَ الحدث، فصَرَفَ إليه نَفَرًا من الجنّ، فهم الذين استمعوا القرآن.
وعند أبي داود في "كتاب المبعث" من طريق الشعبيّ أن الذي قال لأهل الطائف ما قال، هو عبدُ ياليل بن عمرو، وكان قد عَمِيَ، فقال لهم: لا تَعْجَلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي يُرْمَى بها هي التي تُعْرَف، فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تُعْرَف فهو من حَدَثٍ، فنظروا فإذا هي نجوم لا تُعْرَف، فلم يلبثوا أن سمعوا بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرجه الطبريّ، من طريق السُّدّيّ مُطَوَّلًا، وذكر ابن إسحاق نحوه مطوّلًا بغير إسناد في "مختصر ابن هشام"، زاد في رواية يونس بن بُكير، فساق سنده بذلك، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حَدَّثه، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه، أنه حدثه أن رجلًا من ثقيف، يقال له: عمرو بن أمية، كان من أدهى العرب، وكان أوَّلَ مَن فَزعَ لَمّا رُمِي بالنجوم من الناس، فذكر نحوه.
وأخرجه ابن سعد من وجه آخر، عن يعقوب بن عتبة، قال: أول العرب فَزِع مِن رَمْي النجوم ثقيف، فأَتَوْا عمرو بن أمية.
وذكر الزبير بن بكار في "النسب" نحوه بغير سياقه، ونسب القول المنسوب لعبد ياليل لعتبة بن ربيعة، فلعلهما تواردا على ذلك.
فهذه الأخبار تَدُلّ على أن القصّة وقعت أول البعثة، وهو المعتمد.
قال: وقد استَشْكَل عياض، وتبعه القرطبيّ، والنوويّ، وغيرهما من حديث الباب موضعًا آخر، ولم يتعرضوا لما ذكرته، فقال عياض: ظاهر الحديث أن الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعث النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- لإنكار الشياطين له، وطلبهم سببه، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب، ومرجوعًا إليها في حكمهم، حتى قُطِع سببها، بأن حيل بين الشياطين وبين استراق السمع، كما قال تعالى في "سورة الجنّ":{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}
[الجنّ: 8 - 9]، وقوله تعالى:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)} [الشعراء: 212]، وقد جاءت أشعار العرب باستغراب رميها وإنكاره؛ إذ لم يَعْهَدوه قبل المبعث، وكان ذلك أحد دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما ذُكِر في الحديث من إنكار الشياطين.
قال: وقال بعضهم: لم تَزَلِ الشُّهُبُ يُرْمَى بها مذ كانت الدنيا، واحتجوا بما جاء في أشعار العرب من ذلك، قال: وهذا مرويّ عن ابن عباس، والزهريّ ورَفَع فيه ابنُ عباس حديثًا عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-.
وقال الزهريّ لمن اعترض عليه بقوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] قال: غُلّظَ أمرها، وشُدِّد. انتهى.
وهذا الحديث الذي أشار إليه أخرجه مسلم، من طريق الزهريّ، عن عبيد اللَّه، عن ابن عباس، عن رجال من الأنصار، قالوا:"كنا عند النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- إذ رمي بنجم، فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رُمِي به في الجاهلية؟. . . " الحديث
(1)
، وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر، قال: سئل الزهريّ عن النجوم، أكان يُرْمَى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذ جاء الإسلام غُلِّظَ وشُدّد، وهذا جمع حسن.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إذا رُمِي بها في الجاهلية، أي جاهلية المخاطبين، ولا يلزم أن يكون ذلك قبل المبعث، فإن المخاطب بذلك الأنصار، وكانوا قبل إسلامهم في جاهلية، فإنهم لم يُسْلِموا إلا بعد المبعث بثلاث عشرة سنة.
وقال السهيليّ: لم يَزَل القذف بالنجوم قديمًا، وهو موجود في أشعار قدماء الجاهلية، كأوس بن حُجْر، وبشر بن أبي حازم وغيرهما.
وقال القرطبيّ: يُجْمَع بأنها لم تكن يُرْمَى بها قبل المبعث رميًا يَقطع الشياطين عن استراق السمع، ولكن كانت تُرْمَى تارةً، ولا تُرْمَى أخرى، وتُرْمَى من جانب، ولا تُرْمَى من جميع الجوانب، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى:{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا} [الصافات: 8 - 9] انتهى.
(1)
سيأتي للمصنّف في "كتاب السلام" برقم (2229).
قال الحافظ رحمه الله: ثم وجدت عن وهب بن منبه ما يرفع الإشكال، ويجمع بين مختلف الأخبار، قال: كان إبليس يَصْعَد إلى السماوات كلهنّ، يتقلَّب فيهنّ كيف شاء، لا يُمنَع منذ أُخرج آدم إلى أن رُفِع عيسى، فحُجِب حينئذ من أربع سماوات، فلما بُعِث نبينا صلى الله عليه وسلم حُجِب من الثلاث، فصار يسترق السمع هو وجنوده، ويقذفون بالكواكب.
ويؤيِّده ما رَوَى الطبريّ، من طريق الْعَوْفيّ، عن ابن عباس، قال: لم تكن السماء تُحْرَس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم حُرِست حَرَسًا شديدًا، ورُجِمت الشياطين، فأنكروا ذلك.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي رواه وهب بن منبّه الظاهر أنه من الإسرائيليّات، فرَفْعُهُ الإشكال محلّ نظر، وأما تأييده برواية العوفيّ، فلا ينفع؛ لأنّ عطيّة العوفي ضعيف، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: ومن طريق السديّ قال: إن السماء لم تكن تُحْرَس إلا أن يكون في الأرض نبيّ، أو دين ظاهرٌ، وكانت الشياطين قد اتَّخَذت مقاعد يسمعون فيها ما يحدُث، فلما بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم رُجِموا.
وقال الزين ابن الْمُنَيِّر: ظاهر الخبر أن الشهب لم تكن يُرْمَى بها، وليس كذلك؛ لما دَلّ عليه حديث مسلم، وأما قوله تعالى:{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} ، فمعناه أن الشهب كانت تُرْمَى فتصيب تارةً، ولا تصيب أخرى، وبعد البعثة أصابتهم إصابةً مستمرةً، فوصفوها لذلك بالرصد؛ لأن الذي يَرْصُد الشيء لا يخطئه، فيكون المتجدد دوام الإصابة لا أصلها.
وأما قول السهيليّ: لولا أن الشهاب قد يُخطئ الشيطان لم يَتَعَرَّض له مرة أخرى، فجوابه أنه يجوز أن يقع التعرض مع تحقق الإصابة؛ لرجاء اختطاف الكلمة وإلقائها قبل إصابة الشهاب، ثم لا يبالي المختطِفُ بالإصابة لِمَاطُبع عليه من الشرّ كما تقدّم.
وأخرج العقيليّ، وابن منده، وغيرهما، وذكره أبو عمر بغير سند من طريق لَهَب -بفتحتين، ويقال: بالتصغير- ابن مالك الليثيّ قال: ذُكِرت عند النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- الكهانة، فقلت: نحن أول من عَرَفَ حراسة السماء، ورَجْمَ الشياطين، ومَنْعَهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا عند
كاهن لنا، يقال له: خطر بن مالك، وكان شيخًا كبيرًا، قد أتت عليه مائتان وستة وثمانون سنةً، فقلنا: يا خطر هل عندك علمٌ من هذه النجوم التي يُرْمَى بها، فإنا فَزِعنا منها، وخِفْنا سوء عاقبتها. . . الحديث، وفيه: فانقضّ نجم عظيم من السماء، فصرخ الكاهن رافعًا صوته:
أَصَابَهُ أَصَابَهُ خَامَرَهُ عَذَابُهُ أَحْرَقَهُ شِهَابُهُ
الأبيات، وفي الخبر أنه قال أيضًا:
قَدْ مُنِعَ السَّمْعَ عُتَاةُ الْجَانِ بِثَاقِبٍ يُتْلِفُ ذِي سُلْطَانِ مِنْ أَجْلِ مَبْعُوثٍ عَظِيمِ الشَّانِ
وفيه أنه قال:
أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي
…
أَنْ يَتْبَعُوا خَيْرَ نَبِيِّ الإِنْسِ
الحديث بطوله، قال أبو عمر: سنده ضعيف جدًّا، ولو كان فيه حكم لما ذكرته؛ لكونه عَلَمًا من أعلام النبوة والأصول.
[فإن قبل]: إذا كان الرمي بها غُلِّظَ وشُدّد بسبب نزول الوحي، فهلا انقطع بانقطاع الوحي، بموت النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، ونحن نشاهدها الآن يرمى بها.
[فالجواب]: يؤخذ مما تقدّم من حديث الزهريّ عند مسلم
(1)
، ففيه:"قالوا: كنا نقول: وُلِدَ الليلة رجل عظيمٌ، ومات رجل عظيمٌ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا تُرْمَى لموت أحد، ولا لحياته، ولكن رَبّنا إذا قضى أمرًا أخبر أهلُ السماوات بعضهم بعضًا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا، فيخطف الجنّ السمع، فَيَقْذِفُون به إلى أوليائهم".
فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع؛ لِمَا يتجدد من الحوادث التي تُلْقَى بأمره إلى الملائكة، فإن الشياطين مع شدّة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث، لم ينقطع طمعهم في استراق السمع في زمن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فكيف بما بعده؟.
وقد قال عمر رضي الله عنه لغيلان بن سلمة لَمّا طَلَّق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت، فألقت إليك ذلك. . . الحديث، أخرجه عبد الرزاق وغيره.
(1)
تقدّم أنه سيأتي في "كتاب السلام" برقم (2229).
فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استَمَرَّ بعد النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فكانوا يَقْصِدون استماع الشيء مما يحدث، فلا يصلون إلى ذلك، إلا إن اختَطَف أحدهم بخفة حركته خَطْفةً، فيتبعه الشهاب، فإن أصابه قبل أن يُلقيها لأصحابه فاتت، وإلا سمعوها وتداولوها، وهذا يرد على قول السهيليّ المقدّم ذكره. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا) أي قال لهم رؤساؤهم، قال في "الفتح": الذي قال لهم ذلك هو إبليس، كما تقدّم في رواية أبي إسحاق المتقدّمة قريبًا. انتهى
(1)
. (مَا لَكُمْ؟)"ما" استفهاميّة، أي أيّ شيء ثبت عندكم؟ (قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَر السَّمَاءِ) المراد جنس الأخبار التي في السماء عند الملائكة (وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا ذَاكَ)"ما" نافية، أي ليس هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء (إِلَّا مِنْ) زائدة، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرّ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّ"
ويَحْتَمِل أن تكون أصليّة للتعليل، ويعود اسم الإشارة إلى حصول الحيلولة، أي ليس حصول الحيلولة بيننا وبين خبر السماء إلا من أجل (شَيْءٍ حَدَثَ) أي وُجد بعد أن لم يكن (فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) بنصب "مشارق"، و"مغارب" على الظرفيّة، أي سيروا في الأرض كلّها، فالمشارق والمغارب كناية عن الكلّ، ويقال: فلان ضرب في الأرض، أي سار فيها، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101]، وقوله:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، ومنه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عوراتهما يتحدّثان، فإن اللَّه تعالى يمقت على ذلك"
(2)
.
وفي رواية نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد: "فَشَكَوا ذلك
(1)
"الفتح" 8/ 541 "كتاب التفسير" رقم (4920 - 4921).
(2)
أبو داود، وابن خزيمة، وفي سنده عياض بن عبد اللَّه، أو عبد اللَّه بن عياض مجهول، لكن صححه الشيخ الألباني لغيره، انظر:"صحيح الترغيب والترهيب" رقم (155).
إلى إبليس، فَبَثَّ جنوده، فإذا هم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي بِرَحْبَةٍ في نَخْلَة". انتهى.
(فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ؟ فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا) وفي نسخة: "ذَهَبُوا"، أي ذهب الشياطين الذين توجّهوا نحو تهامة.
قال في "الفتح": قيل: كان هؤلاء المذكورون من الجنّ على دين اليهود، ولهذا قالوا:{أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30]، وأخرج ابن مردويه من طريق عُمر بن قيس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنهم كانوا تسعةً، ومن طريق النضر بن عربيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس: كانوا سبعةً من أهل نَصِيبين، وعند ابن أبي حاتم، من طريق مجاهد نحوه، لكن قال: كانوا أربعةً من نَصِيبين، وثلاثة من حَرّان، وهم حسا ونسا وشاصر وماضر والأدرس ووردان والأحقب، ونقل السهيليّ في "التعريف" أن ابن دريد ذكر منهم خمسةً: شاصر وماضر ومنشي وناشي والأحقب، قال: وذكر يحيى بن سلام وغيره قصة عمرو بن جابر، وقصة سرق، وقصة زَوْبعة، قال: فإن كانوا سبعةً، فالأحقب لقب أحدهم لا اسمه، واستدرك عليه ابن عساكر ما تقدم عن مجاهد، قال: فإذا ضُمّ إليهم عمرو، وزوبعة، وسرق، وكان الأحقب لقبًا كانوا تسعة، قال الحافظ: هو مطابق لرواية عمر بن قيس المذكورة.
وقد روى ابن مردويه أيضًا من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: كانوا اثني عشر ألفًا من جزيرة الْمَوْصِل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن مسعود:"انظرني حتى آتيك، وخَطَّ عليه خطًّا. . . " الحديث.
والجمع بين الروايتين تعدد القصة، فإن الذين جاؤوا أوّلًا كان سبب مجيئهم ما ذُكِر في الحديث من إرسال الشهب، وسببُ مجيء الذين في قصة ابن مسعود أنهم جاؤوا لقصد الإسلام، وسماع القرآن، والسؤال عن أحكام الدين.
قال الحافظ: وقد بينتُ ذلك في أوائل المبعث في الكلام على حديث أبي هريرة، وهو من أقوى الأدلة على تعدد القصة، فإن أبا هريرة إنما أسلم بعد الهجرة، والقصة الأولى كانت عقب المبعث، ولعل مَن ذكر في القصص المفَرَّقة كانوا ممن وَفَد بعدُ؛ لأنه ليس في كل قصة منها إلا أنه كان ممن وَفَد، وقد ثبت تعدد وفودهم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يَحْمِل مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:"مَن هذا؟ "، فقال: أنا أبو هريرة، فقال:"ابغني أحجارًا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة"، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فَرَغَ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجنّ، وإنه أتاني وَفْدُ جنّ نصيبين، ونعم الجنّ، فسألوني الزاد، فدعوت اللَّه لهم أن لا يَمُرُّوا بعظم ولا بروثة، إلا وجدوا عليها طعامًا". انتهى.
قال في "الفتح": وحديث أبي هريرة في هذا الباب، وإن كان ظاهرًا في اجتماع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- بالجنّ، وحديثِهِ معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن؛ لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قَدِم على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- في السنة السابعة المدينة، وقصةُ استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك.
فيُجْمَع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجنّ على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن، والرجوع إلى قومهم منذرين، كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بَيِّنٌ في الحديثين المذكورين.
ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضًا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويَحْتَمِل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضًا.
قال البيهقيّ: حديث ابن عباس حَكَى ما وقع في أول الأمر عندما عَلِم الجنّ بحاله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت لم يَقْرأ عليهم، ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجنّ مرة أخرى، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد اللَّه بن مسعود. انتهى.
وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد، والحاكم، من طريق زِرّ بن حُبيش، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، قال: هَبَطُوا على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وهو يقرأ القرآن
ببطن نَخْل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا سبعةً، أحدهم زوبعة. وهذا يوافق حديث ابن عباس.
وأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن علقمة، قال: قلت لعبد اللَّه بن مسعود: هل صَحِب أحد منكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنا فقدناه. . . الحديث.
قال: وقول ابن مسعود في هذا الحديث: إنه لم يكن مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- أصح مما رواه الزهريّ، أخبرني أبو عثمان بن شيبة الْخُزَاعيّ، أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، وهو بمكة:"مَن أحبّ منكم أن ينظر الليلة أثر الجنّ فليفعل"، قال: فلم يحضر منهم أحد غيري، فلما كنا بأعلى مكة خَطّ لي برجله خَطًّا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق، ثم قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا، وفَرَغَ منهم مع الفجر، فانطلق. . . الحديث.
قال البيهقيّ: يَحْتَمِل أن يكون قوله في "الصحيح": ما صَحِبه منا أحدٌ أراد به في حال إقرائه القرآن، لكن قوله في "الصحيح": إنهم فقدوه يدلّ على أنهم لم يعلموا بخروجه إلا أن يُحْمَل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه، فاللَّه أعلم.
ولرواية الزهريّ متابع من طريق موسى بن عُلَيّ بن رَبَاح، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فقال:"إن نفرًا من الجنّ خمسة عشر بني إخوة، وبني عمّ، يأتونني الليلةَ، فأقرأ عليهم القرآن"، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فَخَطّ لي خَطًّا. . .، فذكر الحديث، نحوه، أخرجه الدارقطنيّ، وابن مردويه، وغيرهما.
وأخرج ابن مردويه، من طريق أبي الجوزاء، عن ابن مسعود نحوه مختصرًا.
وذكر ابن إسحاق أن استماع الجنّ كان بعد رجوع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- من الطائف لَمّا خرج إليها يدعو ثقيفًا إلى نصره، وذلك بعد موت أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابن سعد بأن خروجه إلى الطائف كان في شوال، وسوق عكاظ التي أشار إليها ابن عباس كانت تقام في ذي القعدة،
وقولُ ابن عباس في حديثه: "وهو يصلّي بأصحابه" لم يُضْبَط ممن كان معه في تلك السفرة غيرُ زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقّاه لَمّا رجع، واللَّه أعلم.
وقول من قال: إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحًا في أولية قدوم بعضهم، والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء، من استراق الجنّ السمع دالٌّ على أن ذلك كان قبل المبعث النبويّ، وإنزال الوحي إلى الأرض، فكَشَفُوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ثم لما انتشرت الدعوة، وأسلم من أسلم، قَدِموا، فسمعوا، فأسلموا، وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر من سياق الروايات المختلفة، أن وقائع قصّة الجنّ متعدّدة، قبل الهجرة إلى المدينة، وبعدها، وبهذا تندفع الإشكالات الواردة على تلك الأحاديث، فتنبّه لذلك، واللَّه تعالى أعلم.
(نَحْوَ تِهَامَةَ) -بكسر التاء المثناة- اسم لكل مكان غير عال، من بلاد الحجاز، سُمِّيت بذلك؛ لشدة حرّها؛ اشتقاقًا من التَّهَم -بفتحتين- وهو شدّة الحرّ، وسكونُ الريح، وقيل: من تَهِمَ الشيءُ
(2)
: إذا تغير، قيل لها ذلك لتغير هوائها، قال البكريّ: حدّها من جهة الشرق ذات عِرْق، ومن قبل الحجاز السَّرْج -بفتح المهملة، وسكون الراء، بعدها جيم-: قرية من عَمَل الْفُرْع، بينها وبين المدينة اثنان وسبعون ميلًا. انتهى
(3)
.
وقال في "الموعب": تهامة: اسم مكة، وطرف تهامة من قِبَل الحجاز مدارج الْعَرْج، وأولها من قِبَل نَجْد مدارج عِرْق، فإذا نُسِب إليها يقال: تَهَاميّ، بفتح التاء، قاله أبو حاتم، وعن سيبويه بكسرها، وفي "أمالي الْهَجَريّ": آخر تهامة أعلام الحرم الشاميّ.
(1)
"الفتح" 7/ 208 - 210 "كتاب مناقب الأنصار""باب ذكر الجنّ" رقم الحديث (3860).
(2)
من باب تَعِبَ. "المصباح".
(3)
"الفتح" 8/ 542 رقم (4920 - 4921).
وفي كتاب الرشاطيّ: تهامة: ما ساير البحر من نجد، ونجْد ما بين الحجاز إلى الشام إلى الْعُذَيب، والصحيح أن مكة من تهامة.
وقال المدائنيّ: جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة، ونجد، وحجاز، وعروض، ويمن، أما تهامة فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نجد فهي الناحية التي من الحجاز والعراق، وأما الحجاز فهو جبل يُقْبِل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة وعمان، وأما العروض فهي اليمامة إلى البحرين، قال: وإنما سمي الحجاز حجازًا؛ لأنه يَحْجُز بين نجد وتهامة، ومن المدينة إلى طريق مكة إلى أن يبلغ مهبط الْعَرْج حجازٌ أيضًا، وما وراء ذلك إلى مكة وجُدّة فهو تهامة.
وقال الواقديّ: الحجاز من المدينة إلى تبوك، ومن المدينة إلى طريق الكوفة، ومن وراء ذلك إلى أن يُشارف أرض البصرة فهو نجد، وما بين العراق وبين وَجْرة
(1)
وعمرة الطائف نجد، وما كان من وراء وجرة إلى البحر فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونجد فهو حجاز.
وقال قطرب: تهامة من قولهم: تَهِم البعير تَهَمًا -أي من باب تَعِبَ- دخله حَرّ، وتَهِم البعيرُ: إذا استنكر الْمَرْعَى، ولم يَسْتَمْرِ به، ولحم تَهِمٌ: خَنِزٌ
(2)
، ويقال: تهامة، وتهومة، وقيل: سُمِّيت تهامة؛ لأنها انخفضت عن نجد، فَتَهِمَ ريحُها: أي تغير، وعن ابن دريد: التَّهَمُ: شدّةُ الحرّ، وركود الريح، وسميت بها تهامة، قاله في "العمدة"
(3)
.
(وَهُوَ بِنَخْلٍ) قال النوويّ رحمه الله هكذا وقع في "صحيح مسلم" بـ "نخل" بالخاء المعجمة، وصوابه بنخلة بالهاء، وهو موضع معروف هناك، كذا جاء صوابه في "صحيح البخاريّ"، ويَحْتَمِل أنه يقال فيه: نَخْلٌ، ونَخْلَةٌ. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "بنخلة" بفتح النون، وسكون المعجمة: موضع بين مكة والطائف، قال البكريّ: على ليلة من مكة، وهي التي يُنسب إليها بطن
(1)
بفتح الواو، وسكون الجيم: موضع بين مكة والبصرة. "ق".
(2)
خَنِز اللحم، من باب تعِب: تغيّر. "المصباح".
(3)
"عمدة القاري" 6/ 53.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 169.
نخل، ووقع في رواية مسلم:"بنخل" بلا هاء، والصواب إثباتها. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "وهو بنخلة" -بفتح النون، وسكون الخاء المعجمة- وهو موضع معروف ثمة، وبطن نخلة موضع بين مكة والطائف، وقال البكريّ: نخلة على لفظ الواحدة من النخل موضع على ليلة من مكة، وهي التي نسب إليها بطن نخلة، وهي التي ورد الحديث فيها ليلة الجنّ، وهو غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث. انتهى.
(عَامِدِينَ) منصوب على الحال، وإنما جُمِع وإن كان ذو الحال واحدًا باعتبار أن أصحابه معه، كما يقال: جاء السلطان، والمراد هو وأتباعه، أو جُمِع تعظيمًا له
(2)
.
(إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ) متعلّق بـ "عامدين"(وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ) جملة في محلّ نصب على الحال، فيكون مع ما قبله مترادفين، أَو متداخلين.
قال في "الفتح": قوله: "وهو يصلّي بأصحابه. . . إلخ"، لم يُخْتَلف على ابن عباس في ذلك، ووقع في رواية عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال الزبير، أو ابن الزبير: كان ذلك بنخلة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء، وأخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: قال الزبير، فذكره، وزاد:"فقرأ: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] "، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا منقطع، والأول أصح. انتهى
(3)
.
(فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ، اسْتَمَعُوا لَهُ) أي قصدوا لسماع القرآن، وأصغوا إليه، قال في "العمدة": والفرق بين السماع والاستماع، أن باب الافتعال لا بُدّ فيه من التصرف، فالاستماع تصرُّفٌ بالقصد، والإصغاءِ إليه، والسماع أعمّ منه. انتهى
(4)
.
(وَقَالُوا) أي الجنّ الذين سمعوا القرآن واستمعوا له (هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ) وفي رواية البخاريّ: "فهُنالك رجعوا إلى قومهم"(فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}) أي بديعًا مبيّنًا لسائر
(1)
"الفتح" 8/ 542.
(2)
"عمدة القاري" 6/ 53.
(3)
"الفتح" 8/ 542 - 543.
(4)
"عمدة القاري" 6/ 53.
الكتب في حسن لفظه، وصحّة معانيه، قائمة في دلائل الإعجاز، وانتصاب "عجبًا" على أنه مصدرٌ وُضِع موضع التعجب، وفيه مبالغةٌ، والْعَجَبُ ما خَرَج عن حدّ أشكاله ونظائره.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {قُرْآنًا عَجَبًا} أي في فصاحة كلامه، وقيل: عجبًا في بلاغة مواعظه، وقيل: عجبًا في عظم بركته، وقيل: قرآنًا عزيزًا، لا يوجد مثله، وقيل: يعنون عظيمًا. انتهى
(1)
.
({يَهْدِي}) جملة في محلّ نصب صفة لـ "عجبًا"، أي هاديًا ({إِلَى الرُّشْدِ}) أي يدعو إلى الصواب، وقيل: يَهدِي إلى التوحيد والإيمان، وقيل: يهدي إلى مراشد الأمور، وقيل: إلى معرفة اللَّه تعالى: ({فَآمَنَّا بِهِ}) أي فاهتدينا بالقرآن، وصدَّقنا أنه من عند اللَّه تعالى.
قال في "الفتح": قال الماورديّ: ظاهر هذا أنهم آمنوا عند سماع القرآن، قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يَعْلَم حقيقةَ الإعجاز، وشروط المعجزة، فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشَّر به، وكلا الأمرين في الجنّ محتمل. انتهى
(2)
.
ونقل القاضي عياض عن المازريّ أنه قال: ظاهر الحديث أنهم آمنوا عند سماع القرآن، ولا بدّ لمن آمن عند سماعه أن يعلم حقيقة الإعجاز، وشروط المعجزة، وبعد ذلك يقع العلم له بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون الجنّ علموا بذلك، أو علموا من كتب الرسل المتقدّمة ما دلّهم على أنه هو النبيّ الصادق الْمُبَشَّر به. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لا بدّ لمن آمن. . . إلخ"، وكذا ما قبله من كلام المازريّ شيء عجيبٌ، فمن أين له هذا الشرط؟ فأي آية دلّت عليه؟ ومتى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من شرط الإيمان بي العلم بحقيقة الإعجاز، وشروط المعجزة؟ بل هذا قول تبع فيه المتكلّمين الذين يتّبعون أهواءهم، فيقول
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 7.
(2)
"الفتح" 8/ 543.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 361.
أحدهم: أول واجب على المكلّف النظر، ويقول الآخر: لا، بل أول الواجب الشكّ، ثم النظر، إلى آخر ما تنازعوا فيه مما هو مهزلة في الدين، واتّباع لسبيل المعتدين من الفلاسفة والملحدين.
فمن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو سمع كلامه، أو استمع إلى قراءته، فآمن، فذلك المؤمن الذي شرح اللَّه تعالى صدره للإسلام، فلا يجوز أن نقول له: هل علمت المعجزة، وهل علمت معنى الإعجاز، وهل، وهل، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقد استوفيت هذا البحث في المسائل التي كتبتها في أوائل "كتاب الإيمان"، فارجع إليها ترى العجب العجاب، وتجد ما يسرّك مما جاء عن السلف من فصل الخطاب، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
({وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}) لَمّا كان الإيمان بالقرآن إيمانًا باللَّه عز وجل، وبوحدانيته، وبراءةً من الشرك، قالوا:{وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، أي من خلقه، وجاز أن يكون الضمير في {بِهِ} للَّه تعالى؛ لأن قوله:{بِرَبِّنَا} يفسّره، قاله النسفيّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} أي لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه؛ لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رُمِي الجن بالشهب، وقيل: لا نتخذ مع اللَّه إلهًا آخر؛ لأنه المتفرد بالربوبية، وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجنّ بتدبرها القرآن. انتهى
(2)
.
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} أي قل يا محمد، أي أخبر قومك ما ليس لهم به علم، ثم بَيَّنَ له ما يقوله، فقال: ({أُوحِيَ إِلَيَّ}) قال في "العمدة": وقرأ حيوة الأسديّ: "قل أُحِيَ إليّ"، وقال الزجاج في "المعاني": الأكثر أَوْحَيْتُ، ويقال: وَحَيْتُ، فالأصل وُحِيَ. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقرأ ابن أبي عَبْلة: "أُحِيَ" على الأصل، يقال: أَوْحَى إليه، ووَحَى، فقُلِبت الواو همزةً، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ}
(1)
"تفسير النسفيّ" 4/ 299.
(2)
"تفسير القرطبي" 19/ 7.
(3)
"عمدة القاري" 6/ 54.
[المرسلات: 11] وهو من القلب المطلق جوازُهُ في كل واو مضمومة، وقد أطلقه المازنيّ في المكسورة أيضًا، كإِشَاح، وإِسَادة، و"إِعَاءِ أخيه"، ونحوه. انتهى.
({أَنَّهُ}) بفتح الهمزة؛ لأنه نائب فاعل {أُوحِيَ} ، والضمير للشأن، تفسّره الجملة بعده، أي أن الأمر والشأن.
[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: كان علقمة، ويحيى، والأعمش، وحمزة، والكسائيّ، وابن عامر، وخَلَف، وحفص، والسلميّ يفتحون "أَنّ" في جميع السورة، في اثني عشر موضعًا، وهو {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} ، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} ، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي} ، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} ، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} ، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ}؛ عطفًا على قوله:{أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} ، و {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} لا يجوز فيه إلا الفتح؛ لأنها في موضع فاعل {أُوحِيَ} ، فما بعده معطوف عليه، وقيل: هو محمول على الهاء في {آمَنَّا بِهِ} أي وبأنه تعالى جد ربنا، وجاز ذلك، وهو مضمر مجرور؛ لكثرة حذف الجارّ مع "أنّ"، وقيل: المعنى: أي وصدَّقنا أنه جد ربنا.
وقرأ الباقون كلَّها بالكسر، وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة، وأبو حاتم، عطفًا على قوله:{فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا} ؛ لأنه كلّه من كلام الجنّ.
وأما أبو جعفر وشيبة، فإنهما فتحا ثلاثة مواضع، وهي قوله تعالى:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} ، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي؛ لأنه من كلام الجنّ، وأما قوله تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} فكلهم فتحوا إلا نافعًا وشيبة وزِرّ بن حُبيش وأبا بكر والمفضل، عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير، ولا خلاف في فتح همزة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} ، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} ، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} ، وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول، نحو قوله تعالى:{فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا} ، و {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} ، و {قُلْ إِنْ أَدْرِي} ، و {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ} ، وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء، نحو قوله تعالى:{فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ، و {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} ؛ لأنه موضع ابتداء. انتهى كلام
القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
({اسْتَمَعَ نَفَرٌ}) أي جماعة، أي استمعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعَلِموا أن ما يقرؤه كلام اللَّه، ولم يُذْكَر المستمع إليه لدلالة الحال عليه، والنفر: الرهط، قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة، وقرأ عيسى الثقفيّ:"يَهْدِي إلى الرَّشَدِ" بفتح الراء والشين.
({مِنَ الْجِنِّ}) أي جنّ نصيبين، وقيل غير ذلك.
زاد الترمذيّ: قال ابن عباس: وقول الجنّ لقومهم: لَمّا قام عبد اللَّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا، قال: لَمّا رأوه يصلّي، وأصحابه يصلّون بصلاته، يسجدون بسجوده، قال: فتعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم ذلك.
وزاد في رواية البخاريّ: "وإنما أُوحي إليه قولُ الجنّ"، قال في "الفتح": هذا كلام ابن عباس رضي الله عنهما، كأنه قرّر فيه ما ذهب إليه أوّلًا أنه صلى الله عليه وسلم لم يجتمع بهم، وإنما أَوْحَى اللَّه إليه بأنهم استمعوا، ومثله قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية [الأحقاف: 29]، ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمعوا أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك، كما تقدم تقريره. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجنّ في غير هذه الواقعة ثابتٌ، فقول ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنه لم يرهم محمول على عدم علمه، لا على ما هو الواقع، فقد أثبته ابن مسعود رضي الله عنه، كما سيأتي قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1011](449)، و (البخاريّ) في "الأذان"(773) و"التفسير"(4921)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3323 و 3324)،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 19/ 7 - 8.
و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(6/ 499)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 330 - 331)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 52 - 53 رقم 12449)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(29/ 102)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 503)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6526)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 225 - 226)، و (البغويّ) في "تفسيره"(4/ 173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3793 و 3794 و 3795)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(995)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الجهر بالقراءة في الصبح، وعليه بوّب البخاريّ رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن الصلاة في جماعة شُرعت قبل الهجرة في أوائل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
(ومنها): مشروعيّة صلاة الجماعة في السفر.
4 -
(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُرْسِل إلى الإنس والجنّ، ولم يخالف أحدٌ من طوائف المسلمين في أن اللَّه تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه في "الصحيحين":"وبُعِثت إلى الناس عامّةً"، قال الجوهريّ: الناس قد يكون من الإنس، ومن الجنّ، وقد أخبر اللَّه تعالى في القرآن أن الجنّ استمعوا القرآن، وأنهم آمنوا به، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] إلى قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32]، ثم أمره اللَّه أن يخبر الناس بذلك؛ ليعلم الإنس بأحوالها، وأنه مبعوث إلى الإنس والجن.
5 -
(ومنها): إثبات وجود الشياطين والجنّ، وأنهما لمسمًّى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم: إنه شيطان.
وقال إمام الحرمين في كتابه "الشامل": إن كثيرًا من الفلاسفة، وجماهير القدريّة، وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسًا، وقال أبو القاسم الصفّار في "شرح الإرشاد": وقد أنكرهم معظم المعتزلة، وقد دَلَّت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وقال أبو بكر الباقلانيّ: وكثير من القدريّة يثبتون وجود الجن قديمًا، وينفون وجودهم الآن، ومنهم من يُقِرّ بوجودهم، ويزعم أنهم لا
يُرَوْن لرقة أجسادهم، ونفوذ الشعاع، ومنهم من قال: إنهم لا يُرَون؛ لأنهم لا ألوان لهم.
وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية: لم يخالف أحدٌ من طوائف المسلمين في وجود الجنّ، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجنّ، وإن وُجِد من يُنكِر ذلك منهم كما يوجد في بعض طوائف المسلمين، كالجهمية، والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة، وأئمتها مقرين بذلك، وهذا لأن وجود الجنّ تواترت به أخبار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تواترًا معلومًا بالاضطرار. ذكره في "العمدة"
(1)
.
6 -
(ومنها): بيان أن الاعتبار بما قضى اللَّه للعبد من حسن الخاتمة، لا بما يظهر منه من الشرّ، ولو بلغ ما بَلَغ؛ لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم يكونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشرّ ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الْحَدَث الحادث من جهتها، ومع ذلك فغَلَب عليهم ما قُضِي لهم من السعادة بحسن الخاتمة، ونحو ذلك قصة سَحَرَة فرعون
(2)
.
7 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: اتّفق العلماء على أن الجن يُعَذَّبون في الآخرة على المعاصي، قال اللَّه تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، واختلفوا في أن مؤمنهم ومطيعهم هل يدخل الجنة، وُينَعَّم بها ثوابًا ومجازاةً له على طاعته، أم لا يدخلون، بل يكون ثوابهم أن ينجوا من النار، ثم يقال: كونوا ترابًا كالبهائم؟ وهذا مذهب ابن أبي سُلَيم وجماعة، والصحيح أنهم يدخلونها، ويُنَعَّمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما، وهذا قول الحسن البصريّ، والضحاك، ومالك بن أنس، وابن أبي ليلى، وغيرهم
(3)
.
وقال في "العمدة" -في بيان ابتداء خلق الجن-: وفي كتاب "المبتدأ"
(1)
"عمدة القاري" 6/ 55.
(2)
راجع: "الفتح" 8/ 543 "كتاب التفسير".
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 169.
عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: خلق اللَّه الجنّ قبل آدم بألفي سنة، وعن ابن عباس: كان الجن سكان الأرض، والملائكة سكان السماء، وقال بعضهم: عَمَرُوا الأرض ألفي سنة، وقيل: أربعين سنة، وقال إسحاق بن بشر في "المبتدأ": قال أبو رَوْق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما خلق اللَّه شوما أبا الجن، وهو الذي خُلق من مارج من نار، فقال تبارك وتعالى: تمنَّ، قال: أتمنى أن نَرَى ولا نُرَى، وأن نغيب في الثَّرَى، وأن يصير كهلنا شابًّا، فأعطي ذلك، فهم يَرَون ولا يُرَون، وإذا ماتوا غُيِّبوا في الثرى، ولا يموت كهلهم حتى يعود شابًّا، يعني مثل الصبي، ثم يردّ إلى أرذل العمر، قال: وخلق اللَّه آدم عليه السلام فقيل له: تمنَّ، فتمَنَّى الْحِيَل، فأعطي الحيل.
وفي "التلويح": وقد اختُلِف في أصلهم: فعن الحسن أن الجنّ ولد إبليس، ومنهم المؤمن والكافر، والكافر يسمى شيطانًا، وعن ابن عباس: هم ولد الجانّ، وليسوا شياطين، منهم الكافر والمؤمن، وهم يموتون، والشياطين وَلَد إبليس لا يموتون إلّا مع إبليس.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن هذه الحكايات كلّها من الإسرائيليّات التي لا اعتماد عليها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: واختلفوا في مآل أمرهم على حسب اختلافهم في أصلهم، فمن قال: إنهم من ولد الجانّ، قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس، فعند الحسن يدخلونها، وعن مجاهد لا يدخلونها، وقال: ليس لمؤمني الجن غير نجاتهم من النار، قال تعالى:{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]، وبه قال أبو حنيفة، ويقال لهم كالبهائم: كونوا ترابًا، وفي رواية عن أبي حنيفة أنه تردَّد فيهم، ولم يَجْزِم، وقال آخرون: يعاقبون في الإساءة، ويجازَون في الإحسان، كالإنس، وإليه ذهب مالك، والشافعيّ، وابن أبي ليلى؛ لقوله تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]، بعد قوله:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الآية [الأنعام: 130]. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا القول الأخير هو الصواب؛ لوضوح حجته.
(1)
"عمدة القاري" 6/ 55.
والحاصل أن الجنّ مثل الإنس، في الثواب والعقاب، ودخول الجنّة، والنار؛ لدلالة النصوص على هذا، كالآية المذكورة، وكقوله تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56]، وغير ذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن هذا الحديث مع حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي بعده، والأحاديث الأخرى يدلّ على أن الجنّ أصناف متعددة، وتعددت وفادتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة بعد الهجرة، فقول من قال باتّحاد قصّة ليلة الجنّ غير صحيح، كما أسلفنا تحقيقه قريبًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1012]
(450) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى
(1)
، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ: هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَفَقَدْنَاهُ، فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ، أَوِ اغْتِيلَ، قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْنَاكَ، فَطَلَبْنَاكَ، فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنَا بِشَرَّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ:"أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ"، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ
(2)
، فَقَالَ:"لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ، ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُم").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنَزيّ، تقدّم قبل بابين.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني عبد الأعلى".
(2)
وفي نسخة: "وسألوه عن الزاد".
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، وكان يغضب إذا قيل له: أبو هَمّام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
4 -
(عَامِر) بن شَرَاحيل الشَّعْبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3](ت بعد 100) عن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] (ت بعد 60 وقيل: بعد 70) (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
6 -
(ابْنُ مَسْعُودٍ) هو: عبد اللَّه الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، وداود علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةَ تابعيين روى بعضهم عن بعض: داود، عن عامر، عن علقمة.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه من السابقين الأولين، من المهاجرين، ومن كبار علماء الصحابة، ومن المقرئين المشهورين، وقد أثنى على قراءته النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مسعود أن أبا بكر وعمر بشّرَاه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أحبّ أن يقرأ القرآن غَضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرٍ) الشعبيّ رحمه الله، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ) بن قيس: (هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (شَهِدَ) أي حضر (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجنِّ؟) أي ليلة اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجنّ بعد أن دعوه إليهم (قَالَ) عامر (فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ
مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أي عن حضوره تلك الليلة، فقوله:(فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) تفصيل، وتفسير لمعنى "سألتُ"(مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟) أي ليلة حضور الجنّ مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم لِيسألوه عن الدين، ويستفتوه في بعض المسائل (قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (لَا) أي لم يشهد أحدّ منا تلك الليلة.
قال النوويّ رحمه الله: هذا صريح في إبطال الحديث المرويّ في "سنن أبي داود" وغيره المذكور فيه الوضوء بالنبيذ، وحضور ابن مسعود معه صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ، فإن هذا الحديث صحيح، وحديث النبيذ ضعيف باتّفاق المحدثين، ومداره على زيد، مولى عمرو بن حُريث، وهو مجهول. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بالحديث المذكور إلى ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي زيد، مولى عمرو بن حُريث، عن ابن مسعود، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ لَقِي الجنَّ، فقال:"أمعك ماء؟ " فقلت: لا، فقال:"ما هذا في الإداوة؟ "، قلت: نبيذٌ، قال:"أرنيها، تمرةٌ طيبةٌ، وماء طهورٌ"، فتوضأ منها، ثم صلّى بنا
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 169 - 170.
(2)
ساقه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(4150) فقال: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني أبو عُميس عتبة بن عبد اللَّه بن عتبة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبي فزارة، عن أبي زيد، مولى عمرو بن حُريث المخزوميّ، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: بينما نحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو في نفر من أصحابه، إذ قال:"ليقم معي رجل منكم، ولا يقومنّ معي رجل في قلبه من الغش مثقال ذرة"، قال: فقمت معه، وأخذت إداوة، ولا أحسبها إلا ماءً، فخرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بأعلى مكة، رأيت أَسْوِدَةً مجتمعةً، قال: فخطَّ لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال:"قم ها هنا حتى آتيك"، قال: فقمت، ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرأيتهم يتثورون إليه، قال: فسَمَرَ معهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلًا طويلًا، حتى جاءني مع الفجر، فقال لي:"ما زلت قائمًا يا ابن مسعود؟ "، قال: فقلت: يا رسول اللَّه أَوَلم تقل لي: "قم حتى آتيك؟ "، قال: ثم قال لي: "هل معك من وَضُوء؟ "، قال: فقلت: نعم، ففتحت الإداوة، فإذا هو نبيذ، قال: فقلت له: يا رسول اللَّه، واللَّه لقد أخذت الإداوة، ولا أحسبها إلا ماءً، فإذا هو نبيذٌ، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تمرةٌ طيبةٌ، وماءٌ طهورٌ"، قال: ثم توضأ منها، فلما =
قال الترمذيّ: وأبو زيد رجلٌ مجهولٌ عند أهل الحديث، لا تُعرف له رواية غير هذا الحديث. انتهى.
وكذا حكم بأنه مجهول أحمد بن حنبل، والبخاريّ، وأبو زرعة الرازي، وأبو أحمد الحاكم، وابن حبّان، واللَّه تعالى أعلم.
(وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلةً مَن الليالي (فَفَقَدْنَاهُ) وفي رواية الترمذيّ: "ولكن قد افتقدناه"، يقال: فَقَدته فقدًا، من باب ضرب، وفِقْدَانًا: عَدِمتُهُ، فهو مفقود، وفَقِيدٌ، وافتقده مثله، وتفقّدتُهُ: طلبتُهُ عند غيبته
(1)
.
(فَالْتَمَسْنَاهُ) أي طلبناه (فِي الْأَوْدِيَةِ) جمع وادٍ، وهو كلُّ منفرج بين جبال، أو آكام يكون مَنْفَذًا للسيل
(2)
. (وَالشِّعَابِ) بالكسر: جمع شِعْبٍ بكسر، فسكون، وهو: الطريق، وقيل: الطريق في الجبل
(3)
. (فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ) بالبناء للمفعول، من الاستطارة، أي طارت به الجنّ (أَو) للتنويع، أي قال بعضنا: استطير، وقال بعضنا:(اغْتِيلَ) بالبناء للمفعول أيضًا، من الاغتيال: أي قُتِل سِرًّا، والْغِيلَة بكسر الغين المعجمة: هي القتل في خُفْية، قاله النوويّ
(4)
.
وقال في "المصباح": غاله غَوْلًا: أهلكه، واغتاله: قتله على غِرّة، والاسم: الْغِيلة بالكسر، والغائلة: الفساد والشرّ. انتهى.
(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ) يعني أنهم أصابهم بسب فقده صلى الله عليه وسلم همّ وحزن شديد، من نوع ما يصيب القوم من الهموم والحزن
= قام يصلي أدركه شخصان منهم، قالا له: يا رسول اللَّه إنا نحب أن تؤمّنا في صلاتنا، قال: فصفّهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه، ثم صلى بنا، فلما انصرف، قلت له: من هؤلاء يا رسول اللَّه؟ قال: "هؤلاء جنُّ نَصِيبين، جاءوا يختصمون إليّ في أمور، كانت بينهم، وقد سألوني الزاد، فزوّدتهم"، قال: فقلت له: وهل عندك يا رسول اللَّه من شيء تزوّدهم إياه؟، قال: فقال: "قد زوّدتهم الرَّجْعَة، وما وجدوا من رَوْث وجدوه شعيرًا، وما وجدوا من عظم وجدوه كاسيًا"، قال: وعند ذلك نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أن يستطاب بالروث والعظم. انتهى.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 478.
(2)
"المصباح" 2/ 654.
(3)
"المصباح" 1/ 313.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 170.
الشديد (فَلَمَّا أَصْبَحْنَا) أي دخلنا في الصباح (إِذَا هُوَ جَاءٍ)"إذا" هي الفجائيّة، أي ففاجأنا مجيئه صلى الله عليه وسلم (مِنْ قِبَلِ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة: أي من جهة (حِرَاءٍ) بالكسر، والمدّ، ويُقصر، ويذكّر، فيُصرف، ويؤنّث، فيُمْنَع من الصرف، ففيه أربع لغات، وقال في "القاموس": حِرَاءٌ: ككِتاب، وكعَلَى، عن عياض، ويؤنَّث، ويمنع من الصرف: جبل بمكة، فيه غارٌ تحنّث فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْنَاكَ، فَطَلَبْنَاكَ، فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ) أي الداعي الذي أرسلته الجنّ، فالإضافة فيه بمعنى "من"(فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ"، قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (فَانْطَلَقَ) أي ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِنَا) أي بالصحابة الذين باتوا بشرّ ليلة باتها قوم، من أجل أنهم فقدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَرَانَا آثَارَهُمْ) بالمدّ: جمع أَثَرٍ بفتحتين، كسبب وأسباب، والأثر: بقيّة الشيء (وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ) أي ما بقي من النيران التي أوقدوها تلك الليلة لأغراضهم.
(وَسَأَلُوهُ) أي طلب أولئك الجنّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم (الزَّادَ) وفي نسخة: "عن الزاد"، والمراد به طعامهم، وعلف دوابّهم، وأصل الزاد هو الطعام الذي يتّخذه المسافر في سفره، قال الفيّوميّ: زاد المسافر: طعامه المتَّخذ لسفره، والجمع: أزواد. انتهى
(1)
، ولعلّ التعبير بالزاد؛ لأنهم كانوا رُحّلًا مثل ما كانت الأعراب ترحل من محلّ إلى آخر؛ لطلب الكلإ ونحوه، وسيأتي في الرواية التالية زيادة:"وكانوا من جِنّ الجزيرة".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تكلّم العلماء في قوله: "وسألوه الزاد. . . إلخ" أنه مدرج من كلام الشعبيّ، وسيأتي تفصيل ما قالوه في المسألة الثالثة -إن شاء اللَّه تعالى-.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ)"كلُّ" مبتدأ، خبره جملة "يقع في أيديكم"، ويحتمل أن يكون الجارّ والمجرور قبله خبرًا، أي كلُّ عظم كان لكم زادًا، (ذُكِرَ) بالبناء للفعول (اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) والجملة من الفعل والنائب في محلّ جرّ صفة لـ "عظم".
(1)
"المصباح المنير" 1/ 259 - 260.
قال بعض العلماء: هذا لمؤمنيهم، وأما غيرهم، فجاء في حديث آخر:"أن طعامهم ما لم يُذْكَر اسم اللَّه عليه"، قاله النوويّ
(1)
.
[تنبيه]: قوله صلى الله عليه وسلم: "لكم كلّ عظم. . . إلخ" هذا بعد أن دعا اللَّه تعالى بذلك، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يَحْمِل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إداوةً لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:"مَن هذا؟ " فقال: أنا أبو هريرة، فقال:"ابغني أحجارًا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم، ولا بروثة"، فأتيته باحجار أَحْمِلها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فَرَغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجنّ، وإنه أتاني وَفْدُ جن نصيبين، ونعم الجنّ، فسألوني الزاد، فدعوت اللَّه لهم أن لا يَمُرّوا بعظم، ولا بروثة، إلا وجدوا عليها طعامًا". انتهى.
فهذا صريح في كونه صلى الله عليه وسلم دعا لهم، ثم أخبرهم بأن اللَّه تعالى استجاب له في ذلك، فحديث الباب بيّن إخباره لهم أخيرًا، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ) جملة في محلّ رفع خبر المبتدأ، وقوله:(أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا) بنصب "أوفر" على الحال، و"لحمًا" منصوب على التمييز (وَكُلُّ بَعْرَةٍ) مبتدأ خبره "عَلَفٌ"، قال في "القاموس": الْبَعْرُ، ويُحَرَّك: رَجِيعُ الْخُفّ، والظِّلْفِ، واحدته بِهاء، والجمع: أَبْعار، والفعل كمَنَعَ. انتهى
(2)
.
وفي "المصباح": الْبَعَرُ معروفٌ، والسكون لغة، وهو من كلّ ذي ظِلْفٍ، وخُفّ، والجمع: أبعار، مثلُ سَبَبٍ وأسباب، وبَعَرَ ذلك الْحَيَوانُ بَعْرًا، من باب نَفَعَ: ألقى بَعَرَه. انتهى
(3)
.
(عَلَفٌ) بفتحتين: ما يُعلف به، والجمع عِلاف بالكسر، مثلُ جبل وجِبَال، يقال: عَلَفْتُ الدابّة عَلْفًا، من باب ضرب، وأعلفتها بالألف لغة
(4)
. (لِدَوَابِّكُمْ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تَسْتَنْجُوا بِهِمَا) أي بالعظم، والبعرة (فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ") الفاء للتعليل؛ أي إنما
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 170.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 374.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 53.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 425.
نهيتكم عن الاستنجاء بهما؛ لأنهما زاد إخوانكم من الجنّ، فلا يجوز تنجيسهما؛ احترامًا لحقوقهم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر هذه الرواية أن الجنّ سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الطعام، فأخبرهم بما جعل اللَّه لهم من الطعام، ثم نهى عن الاستنجاء به، ويعارض هذا ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قَدِم وفد الجنّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد انْهَ أُمَّتَكَ أن يستنجوا بعظم أو روثة، أو حُمَمَة، فإن اللَّه تعالى جَعَل لنا فيها رزقًا، قال: فنهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك
(1)
.
فظاهر هذه الرواية أن الجنّ هم الذين أخبروا النبيّ صلى الله عليه وسلم بطعامهم، وطلبوا منه أن ينهى أمته عن الاستنجاء به.
والجمع بينهما أن يقال: إن الجنّ لَمّا وفدوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم طلبوا منه الزاد، فدعا اللَّه تعالى لهم، ثم أخبرهم بأن اللَّه جعل لهم كلّ عظم ذُكر اسم اللَّه عليه طعامًا لهم، وكلّ بعرة علفًا لدوابّهم، ثم إنهم رأوا أن الناس يستنجون بهما، فطلبوا منه أن ينهى أمته عن ذلك، فنهى عنه.
والحاصل أن الجنّ طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم الزاد، فدعا لهم بما ذُكر، وأخبرهم به، ثم طلبوا منه في وقت آخر أن ينهى أمته عن الاستنجاء بما جعل اللَّه تعالى لهم فيه رزقًا، فنهاهم عن ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1012 و 1013 و 1014 و 1015](450)، و (أبو داود) في "الطهارة"(39 و 85)، و (الترمذيّ) فيها (18) و"التفسير"
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (39) وفيه إسماعيل بن عيّاش متكلّم فيه، لكنه ثقة فيما روى عن الشاميين، وهذا منه، فلا كلام فيه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(3258)
، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 47)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 155)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(82)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1432 و 6320 و 6527)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 108 - 109) وفي "دلائل النبوّة"(2/ 229)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(178)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في هذا الحديث:
قال النوويّ رحمه الله: قال الدارقطنيّ رحمه الله: انتهى حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه عند قوله: "فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم"، وما بعده من قول الشعبيّ، كذا رواه أصحاب داود، الراوي عن الشعبيّ: ابنُ عُلَيّة، وابن زُريع، وابن أبي زائدة، وابن إدريس، وغيرهم. قال النوويّ رحمه الله: هكذا قاله الدارقطنيّ وغيره، ومعنى قوله: إنه من كلام الشعبيّ أنه ليس مرويًّا عن ابن مسعود بهذا الحديث، وإلا فالشعبيّ لا يقول هذا الكلام إلا بتوقيف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عبارة عِلَل الدارقطنيّ رحمه الله (5/ 131):
وسئل -أي الدارقطنيّ رحمه الله عن حديث علقمة، عن عبد اللَّه، أنه سئل: هل كان أحد منكم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ. . . فذكر الحديث، وفيه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بها" -يعني بالبعر والروث- فقال: يرويه داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن عبد اللَّه، رواه عنه جماعة من الكوفيين، والبصريين، فأما البصريون، فجعلوا قوله:"وسألوه الزاد. . . " إلى آخر الحديث من قول الشعبيّ مرسلًا، وأما يحيى بن أبي زائدة، وغيره من الكوفيين، فأدرجوه في حديث ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحيح قول مَن فَصَّلَهُ، فإنه من كلام الشعبيّ مرسلًا. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أشار الإمام مسلم رحمه الله إلى هذه العلّة فيما أورده من الإسنادين التاليين، ففي الرواية الأولى بَيَّنَ أن إسماعيل ابن عليّة فصّل الحديث، فجعله إلى قوله:"وآثار نيرانهم" من قول ابن مسعود رضي الله عنه،
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 170.
وجعل ما بعده من قول الشعبيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، ثم ذكر في الرواية الثانية، ما يؤيّد هذا، حيث ساق الحديث من رواية عبد اللَّه بن إدريس، عن داود، فجعل آخر حديثه:"وآثار نيرانهم"، فلم يذكر ما بعده، فدلّ على أنه ليس من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، كما فصّله ابن عليّة.
والحاصل أن أرجح الروايتين رواية من فصّله، وجعل آخره من مرسل الشعبيّ، لكن مراسيل الشعبيّ صححها العلماء، فقد قال العجليّ: مرسل الشعبيّ صحيحٌ، لا يكاد يُرسل إلا صحيحًا، وقال الحسن بن شُجاع الْبَلْخيّ: سمعت عليّ ابن المدينيّ يقول: مرسل الشعبيّ، وسعيد بن المسيّب أحبّ إليّ من داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح العلل"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة القول أن كونه من مرسل الشعبيّ، وإن كان هو الراجحَ، لا يُخرجه عن كونه صحيحًا،، فقد صُحّحت مراسيله، فقد قدّمها ابن المدينيّ في كلامه السابق على الموصول، وهذا غاية في الصحّة.
ويَحْتَمِل أن يكون الشعبيّ رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد تقدّم أن البخاريّ أخرجه في "صحيحه" من حديثه مرفوعًا، ولفظه:"وإنه أتاني وفد جِنّ نَصِيبين، ونعم الجنُّ، فسألوني الزاد، فدعوت اللَّه لهم أن لا يمروا بعظم، ولا بروثة إلا وَجَدُوا عليها طعامًا". انتهى. والشعبيّ ممن أدرك أبا هريرة، وروى عنه كثيرًا، وأحاديثه عنه في "الصحيحين"، وغيرهما، راجع:"تحفة الأشراف"(9/ 492 - 495)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنّ، ودعاهم إلى اللَّه تعالى.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من طلب العلم، والبحث عن حقيقة المسألة ووجهها، فقد سأل الشعبيّ علقمة عن شهود ابن مسعود رضي الله عنه ليلة الجنّ، كما سأل علقمة عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه نفسه.
3 -
(ومنها): شدّة اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وشدّة حرصهم على
(1)
راجع: "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب 1/ 296.
أن لا يناله مكروه، وهذا هو واجب كلّ مسلم أن يكون صلى الله عليه وسلم أولى عنده من جميع الخلق حتى من نفسه التي بين جنبيه، كما قال اللَّه عز وجل:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]، فلا يقدّم ما تهواه نفسه على سنته صلى الله عليه وسلم، بل يجعلها نُصْبَ عينيه، اعتقادًا، وقولًا، وفعلًا؛ لأن هذا هو مقتضى الإيمان، قال اللَّه تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36].
4 -
(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الجنّ كما بُعث إلى الناس.
5 -
(ومنها): بيان معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث إن الجنّ تخضع لأمره، وتطيعه، وتسأله عما أشكل عليها من أمر المعاش والمعاد.
6 -
(ومنها): إثبات البيّنة على الأمر، وإن كان مما لا يُشكّ فيه، فقد أراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم آثار الجنّ، وآثار نيرانهم حتى يزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وإلا فالصحابة رضي الله عنهم غنيّون عن طلب البيّنة على مثل هذا.
7 -
(ومنها): إثبات معجزة له صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهي أنه دعا لهم بأن يجعل اللَّه تعالى لهم العظم الذي أُكل لحمه، وبقي بلا شيء لحمًا وافرًا، بل أوفر مما كان به من قبلُ، وكذلك البعر صار علفًا لدوابّهم.
8 -
(ومنها): أن الجنّ يأكلون الطعام، ولهم داوبّ مثل الناس.
9 -
(ومنها): بيان أن للجنّ حقوقًا على الإنس، وأنه يجب البعد عما يؤذيهم كغيرهم.
10 -
(ومنها): مشروعيّة السعي في تحصيل ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضرّه.
11 -
(ومنها): أن على الإمام أن يحذّر الناس عن إلحاق الضرر بأيّ مسلم إنسًا أو جنًّا.
12 -
(ومنها): النهي عن الاستنجاء بالعظم، والبعر، ويُلحق به كلّ ما في معناه، من المطعومات، والمحترمات، كأوراق الكتب، وقد تقدّم البحث في هذا في "كتاب الطهارة" مستوفًى، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1013]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ
(1)
عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ مُفَصَّلًا، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
و"داود" ذُكر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقوله: (إِلَى قَوْلِهِ: وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ) يعني أن حديث ابن مسعود انتهى إلى هذا القدر، فما بعده ليس من حديثه، وإنما هو من حديث الشعبيّ، كما بيّنه بقوله:"قَالَ الشَّعْبِيُّ. . . إلخ".
وقوله: (وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ) لا تنافي بين هذا وبين ما تقدّم من رواية البخاريّ: "أنهم من جنّ نصيبين"؛ لأن نصيبين بلدة مشهورة بالجزيرة، قال في "الفتح": ووقع في كلام ابن التين أنها بالشام، وفيه تجوّز، فإن الجزيرة بين الشام والعراق، قال: ويجوز صرف نصيبين، وتركه. انتهى
(2)
.
وقوله: (مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ) أي من مرسلاته، وقد تقدّم الحديث موصولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاريّ في "صحيحه" فتنبّه.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
"الفتح" 7/ 210 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3861).
وقوله: (مُفَصَّلًا، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ) أي منقطعًا عنه.
[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة هذه ساقها الترمذيّ، في "الجامع"، فقال:
(3181)
حدّثنا عليّ بن حُجْر، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود، عن الشعبيّ، عن علقمة، قال: قلت لابن مسعود رضي الله عنه: هل صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منّا أحدٌ، ولكن قد افتقدناه ذات ليلة، وهو بمكة، فقلنا: اغْتِيل، أو استُطِير، ما فُعِل به؟ فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، حتى إذا أصبحنا، أو كان في وجه الصبح، إذا نحن به يجيء من قبل حراء، قال: فذكروا له الذي كانوا فيه، فقال:"أتاني داعي الجنّ، فأتيتهم، فقرأت عليهم، فانطَلَقَ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم".
قال الشعبيّ: وسألوه الزاد، وكانوا من جِنّ الجزيرة، فقال:"كلُّ عظم يُذْكَر اسمُ اللَّه عليه، يقع في أيديكم أوفرَ ما كان لحمًا، وكلُّ بَعْرة، أو روثة عَلَفٌ لدوابّكم"، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما، فإنهما زاد إخوانكم الجنّ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1014]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَى قَوْلِهِ: وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ) يعني أن عبد اللَّه بن إدريس لم يذكر في روايته عن داود، عن الشعبيّ ما بعد قوله:"وآثار نيرانهم"، بل اقتصر عليه.
[تنبيه]: رواية عبد اللَّه بن إدريس هذه لم أجد من ساقها بتمامها، إلا أن أبا نعيم قال في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (2/ 69):
(997)
حدّثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ابن إدريس، عن داود، عن الشعبيّ، عن علقمة، قال: قلت لعبد اللَّه: أصحبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكن فَقَدناه، فذكره إلى قوله:"وآثار نيرانهم". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1015]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
(2)
صلى الله عليه وسلم، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ تقدّم قبل باب.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الطحّان المزنيّ مولاهم، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(خَالِد) بن مِهْرَان الحذّاء، أبو المنازل البصريّ، ثقةٌ ثبت، تغيّر في الآخر [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(أَبُو مَعْشَرٍ) زياد بن كُليب الحنظليّ الكوفيّ، ثقة [6](ت 19 أو 120)(م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "مع النبيّ صلى الله عليه وسلم".
5 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
والباقيان تقدّما قبله.
وقوله: (وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَهُ) بكسر الدال الأولى؛ أي تمنّيتُ، أو أحببت، يقال: وَدِدتُهُ أَوَدُّهُ، من باب تَعِبَ وُدًّا بفتح الواو، وضمّها: أحببته، والاسم: الْمَوَدّة، ووَدِدتُ لو كان كذا أَوَدُّ أيضًا وُدًّا، ووَدَادَةً بالفتح: تمنّيتُهُ، وفي لغة: وَدَدت أَوَدّ بفتحتين، حكاها الكسائيّ، وهو غلطٌ عند البصريين، وقال الزجّاج: لم يقل الكسائيّ إلا ما سَمِعَ، ولكنه سَمِعَه ممن لا يوثق بفصاحته، قاله في "المصباح"
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: فيه الحرص على مصاحبة أهل الفضل في أسفارهم، ومُهمّاتهم، ومَشَاهدهم، ومَجالسهم مطلقًا، والتأسّف على فوات ذلك. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1016]
(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مَعْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ) هو: سعيد بن محمد بن سعيد الْجَرْميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبيد اللَّه الكوفيّ، صدوقٌ، رُمي بالتشيّع، من كبار [11].
رَوَى عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، وأبي تُمَيلة يحيى بن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 653.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 171.
واضح، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبي أسامة، والمطلب بن زياد، وأبي عبيدة الحداد، وحاتم بن إسماعيل، ويحيى بن سعيد الأمويّ، وأبي يوسف القاضي، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وروى له أبو داود، وابن ماجه بواسطة الذُّهْليّ، وأبو زرعة، وعبد اللَّه بن أحمد، وعبد الأعلى بن واصل، وابن أبي الدنيا، وعباس الدُّوريّ، وجماعة.
قال أبو زرعة: سألت ابن نُمير، وابن أبي شيبة عنه، فأثنيا عليه، وذاكرت عنه أحمد بأحاديث فعرفه، وقال: صدوق، وكان يطلب معنا الحديث، وقال ابن معين: صدوقٌ، وقال أبو داود: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال إبراهيم بن عبد اللَّه بن أيوب المخزوميّ: كان إذا جاء ذكر عليّ بن أبي طالب، قال: صلى الله عليه وسلم.
روى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (450)، وحديث (996):"كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته"، و (1814):"غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة. . . ".
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قبل باب.
4 -
(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
5 -
(مَعْن) بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود الْهُذليّ المسعوديّ، أبو القاسم الكوفيّ القاضي، ثقةٌ، من كبار [7].
رَوَى عن أبيه، وأخيه القاسم، وعون بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وجعفر بن عمرو بن حُريث، وأبي داود الأعمى.
وروى عنه الثوريّ، ومِسْعَر، وليث بن أبي سُليم، ومحمد بن طلحة بن مُصَرِّف، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه المسعوديّ، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال العجليّ: كان على قضاء الكوفة، وكان صارمًا عفيفًا مسلمًا
جامعًا للعلم، وقال ابن سعد: قليل الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: كان قاضيًا على الكوفة، ثقةً.
تفرّد به الشيخان، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (450)، وحديث (800):"اقرأ عليّ، قال: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال. . . ".
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود الْهُذَليّ الكوفي، ثقة، من صغار [2].
رَوَى عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، والأشعث بن قيس، وأبي بردة بن نيار إن كان محفوظًا، ومسروق بن الأجدع.
وروى عنه ابناه: القاسم، ومعن، وسماك بن حرب، والحسن بن سعد، وعبد الملك بن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم.
قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة قليل الحديث، وقد تكلموا في روايته عن أبيه، وكان صغيرًا، فأما علي ابن المديني فقال: قد لقي أباه. وقال ابن معين: عبد الرحمن وأبو عبيدة لم يسمعا من أبيهما. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد: مات عبد اللَّه، وعبد الرحمن ابن ست سنين أو نحوها. وقال أحمد: أما سفيان الثوري وشريك فإنهما يقولان: سمع. وأما إسرائيل فإنه يقول في حديث الضب: سمعت. وقال العجلي: يقال: إنه لم يَسمَع من أبيه إلا حرفًا واحدًا: "مُحَرِّم الحلال كمستحلّ الحرام"، وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: سمع من أبيه، ومن علي. وقال أبو حاتم: صالح.
ورَوَى البخاري في "التاريخ الصغير" بإسناد لا بأس به، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه قال: لما حضر عبد اللَّه الوفاةُ قال له ابنه عبد الرحمن: يا أبت أوصني، قال: ابك من خطيئتك.
ورَوَى البخاري في "التاريخ الكبير"، وفي "الأوسط" من طريق ابن خُثَيم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: إني مع أبي. . . فذكر الحديث في تأخير الصلاة، وزاد في "الأوسط": قال شعبة: لم يسمع من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي. وقال ابن المديني في "العلل": سمع من أبيه حديثين: حديث الضبّ، وحديث تأخير الوليد للصلاة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن
سعد: كان ثقة قليل الحديث، وأسند حديثه:"مُحَرِّم الحلال. . . " من طريق سماك عنه. وقال أبو حاتم: سمع من أبيه، وهو ثقة. وقال الحاكم: اتفق مشايخ أهل الحديث أنه لم يسمع من أبيه. انتهى.
قال الحافظ: وهو نقلٌ غير مستقيم.
وقال خليفة بن خياط: مات مَقْدَمَ الحجاج العراق سنة (79).
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق أن أرجح الأقوال أنه سمع من أبيه، ولكنه قليلٌ، واللَّه تعالى أعلم.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.
7 -
(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.
و"ابن مسعود رضي الله عنه" ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه عبيد اللَّه، وقد دخل الكوفة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عبد الرحمن، عن مسروق، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مَعْن) بن عبد الرحمن المسعوديّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي) عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود (قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا) أي ابن الأجدع (مَنْ آذَنَ) بالمدّ: أي أعلم (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِنِّ) أي بحضورهم مجلسه صلى الله عليه وسلم (لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ) مسروق (حَدَّثَنِي أَبُوكَ، يَعْنِي) أي يقصد مسروق بقوله: "أبوك"(ابْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ) الضمير للشأن، أي أن الأمر والشأن (آذَنَتْهُ) أي أعلمته (بِهِمْ) أي بحضور الجنّ (شَجَرَةٌ) وفي رواية إسحاق ابن راهويه في
"مسنده" عن أبي أُسامة بهذا الإسناد: "آذنت بهم سَمُرَة"، وهي بفتح المهملة، وضمّ الميم
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: هذا دليلٌ على أن اللَّه تعالى يَجعَل فيما يشاء من الجماد تمييزًا، ونظيره قول اللَّه تعالى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الآية [الإسراء: 44]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إني لأَعْرِف حجرًا بَمكة، كان يُسِّلم عليّ قبل أن أُبْعَثَ، إني لأعرفه الآن"، رواه مسلم
(2)
، وحديث الشجرتين اللتين أتتاه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره مسلم في آخر الكتاب، وحديث حَنِين الْجِذْع، وتسبيح الطعام، وفِرَار حَجَر موسى بثوبه، ورَجَفَان حِرَاء، وأُحُد. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بحضور الجنّ، ولا رآهم، ويعارضه حديثه الماضي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أتاني داعي الجنّ، فذهبتُ معه، فقرأت عليهم القرآن"، فإنه يدلّ على أنه علم بهم، ورآهم، وقرأ عليهم القرآن، وكلّموه في شأن الزاد.
ووجه الجمع بينهما أن يقال: إنهما واقعتان وقعتا له صلى الله عليه وسلم، ففي إحداهما لم يعلم بهم، وإنما أعلمته شجرة كانت عنده، وأخرى جاءه داعيهم، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، وكلّموه، كما مرّ الجمع بين حديثه، وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"ما قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الجنّ، وما رآهم"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1016](450)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3859)، و (البزار) في "مسنده"(5/ 352)، و (أبو نعيم) في
(1)
"الفتح" 7/ 210 "كتاب المناقب" رقم (3861).
(2)
سيأتي لمسلم في "الفضائل" برقم (2277).
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 171.
"مستخرجه"(999)، وبقيّة المسائل تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(35) - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1017]
(451) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، يَعْنِي الصَّوَّافَ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنَ الظُّهْرِ، وَيُقَصِّرُ الثَّانِيَةَ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّبْحِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى المعروف بالزَّمِنِ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، يُنسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(الْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ) هو الحجاج بن أبي عثمان ميسرة، أو سالم الصوّاف الكنديّ مولاهم، أبو الصلت البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ البصريّ، وسكن المدينة مدّةً، ثقةٌ ثبتُ، يدلّس، ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 195)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه مكثر، قيل: اسمه: عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
7 -
(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ، الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة السَّلَمِيّ المدنيّ، الصحابيّ الشهير، شَهِدَ بدرًا، ومات سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن فيه قوله: "وهو ابن أبي كثير"، وقد تقدّم سرّ إدخال لفظة "وهو" غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين، ويحيى بن أبي كثير، وإن كان بصريًّا يماميًّا، لكنه سكن المدينة في طلب العلم عشر سنين
(1)
.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين، ورواية الابن عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن أبا قتادة رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، يقال له: فارس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ) ذكر أبي سلمة لا يوجد إلا في هذه الرواية، فقد رواه عن يحيى بن أبي كثير جماعة، وهم: همام بن يحيى، وأبان بن يزيد، عند المصنّف، وهشام الدستوائيّ، والأوزاعيّ عند البخاريّ، ومعمر عند أبي داود، فكلّهم اقتصروا على عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبي قتادة، ولم يزد أبا سلمة إلا حجاج الصوّاف، خالف الجماعة في الزيادة،
(1)
راجع: "تهذيب الكمال" 31/ 510.
ولعله لكونه حافظًا لم يعتبروه شاذًّا، فلم ينبّه عليه، ولا النسائيّ، مع أنه كثير التنبيه في مثل هذا، واللَّه تعالى أعلم.
(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه، ووقع في رواية الْجَوْزقيّ، من طريق عبيد اللَّه بن موسى، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير التصريح بالإخبار ليحيى من عبد اللَّه، ولعبد اللَّه من أبيه، وكذا للنسائي من رواية الأوزاعيّ، عن يحيى، لكن بلفظ التحديث فيهما، وكذا عنده من رواية أبي إسماعيل القنّاد، عن يحيى: حدّثني عبد اللَّه، فأُمِن بذلك تدليس يحيى، قاله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) أبو قتادة رضي الله عنه (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال ابن الملقّن رحمه الله: "كان" تقتضي الدوام في الفعل، وقد سلف. انتهى
(2)
. (يُصَلِّي بِنَا) أي إمامًا للصحابة رضي الله عنهم (فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ) بتحتانيّتين، تثنية الأولى، وكذلك الأخريان تثنية أخرى، وأما ما يشيع على الألسنة من الأُولة، وتثنيتها بالأولتين، فمرجوح في اللغة، كما نبّه عليه ابن دقيق العيد
(3)
، والجارّ والمجرور بدل من الأول بدل اشتمال، كما تقول: أعجبتني الجارية حديثها، وقوله:(بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَتَيْنِ) متعلّق بـ "يقرأ"، والمراد أنه يقرأ في كل ركعة سورة كما سيأتي صريحًا في الروايات الآتية.
وسُمّيت السورة سورةً؛ لانفصالها عن أختها، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كما يقال لما ارتفع من الأرض: سورة، وقيل: لأنها قطعة من القرآن، فعلى هذا يكون أصلها الهمز، ثم خُفّفت، وأُبدلت واوًا؛ لضمّ ما قبلها، وقيل: لتمامها وكمالها، من قولهم للناقة التامّة: سورة، قاله ابن الملقّن
(4)
، وجمع السُّورة سُوَر بفتح الواو، مثل غُرْفة وغُرَف، ويجمع على سُورات بضمّ، فسكون، وسُوَرَات بضم، ففتح
(5)
.
(1)
"الفتح" 2/ 285 "كتاب الأذان" رقم (760).
(2)
"الإعلام" 3/ 194.
(3)
"إحكام الأحكام" 2/ 394.
(4)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 193.
(5)
راجع: "المصباح" 1/ 295، و"الإعلام" 3/ 193.
(وَيُسْمِعُنَا) بضم أوله، من الإسماع (الْآيَةَ أَحْيَانًا) أي في أحيان، جمع حين، وهو يدلّ على تكرّر ذلك منه صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية النسائي من حديث البراء رضي الله عنه: "كنا نصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر، فنَسْمَع منه الآية بعد الآية، من سورة لقمان، والذاريات"، ولابن خزيمة من حديث أنس رضي الله عنه نحوه، لكن قال: "بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} [الغاشية: 1].
(وَكَانَ يُطَوِّلُ) بتشديد الواو، من التطويل (الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنَ الظُّهْرِ، وَيُقَصِّرُ الثَّانِيَةَ) بتشديد الصاد المهملة، من التقصير، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّ الصاد ثلاثيًّا، من باب نصر، من القصر.
وإنما طوّل في الأولى؛ إعانةً للناس على إدراك صلاة الجماعة كاملةً بإدراك الركعة الأولى؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] الآية.
ويؤيّد هذا ما رَوَاه عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى في آخر هذا الحديث:"فظننا أنه يريد بذلك أن يُدرِك الناس الركعة"، ولأبي داود، وابن خزيمة نحوه، من رواية أبي خالد، عن سفيان، عن معمر.
ورَوَى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إني لأحب أن يُطَوِّل الإمام الركعة الأولى من كل صلاة، حتى يكثر الناس.
وقال الشيخ تقيّ الدين رحمه الله: كأن السبب في ذلك أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرًا من الملل. انتهى.
وهذا الحديث يدلّ على استحباب تطويل الأولى على الثانية، ولا يعارضه حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الآتي حيث قال:"أَمُدّ في الأوليين"؛ لأن المراد تطويلهما على الأخريين، لا التسوية بينهما في الطول، وقال مَن استحبّ استواءهما: إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما في القراءة فهما سواء.
لكن يعارض ما ذكر ما يأتي في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "كان يقرأ في الظهر في الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية"، وفي رواية لابن ماجه: أن الذين حَزَرُوا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة، فإنه ظاهر في استواء الأوليين.
وقد جمع ابنُ حبان: بأن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها، مع استواء المقروء فيهما. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن حبّان رحمه الله هو الوجه عندي في الجمع بين حديث أبي قتادة هذا، وحديث أبي سعيد المذكور، وإلا فالتعارض حاصل، اللهم إلا أن يُحْمَل على أوقات مختلفة، لكن الأول هو الظاهر.
ومما يؤيّد ما قاله ابن حبّان ما رواه المصنّف من حديث حفصة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم "كان يُرَتِّل السورة حتى تكون أطول من أطول منها"، واللَّه تعالى أعلم.
(وَكَذَلِكَ فِي الصُّبْحِ) فيه جواز تسمية الصلاة بوقتها، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوّل الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر الثانية.
[تنبيه]: لم يقع في حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا هنا ذكر القراءة في الأخريين، فتمسك به بعض الحنفية على إسقاطها فيهما، وهذا استدلال باطلٌ؛ لأنه ثبت في حديثه كما سيأتي في الرواية ففيها:"ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب".
والحاصل أن القراءة في كلّ ركعة فرض، كما تقدّم تحقيقه في محلّه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 1017 و 1018](451)، و (البخاريّ) في "الأذان"(759 و 762 و 778 و 779 و 798)، و (أبو داود) في "الصلاة"(798 و 799 و 800)، و (النسائيّ) فيها (2/ 165 - 166)، و (ابن ماجه) فيها (819 و 829)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 372)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 296)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(503 و 504)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1830 و 1831 و 1855 و 1857)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(187)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 151)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"
(1000 و 1001)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 95)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(592)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القراءة في صلاة الظهر والعصر.
2 -
(ومنها): بيان استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية.
3 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز الجهر في السرية، وأنه لا سجود سهو على من فعل ذلك؛ خلافًا لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم، سواءٌ قلنا: كان يفعل ذلك عمدًا لبيان الجواز، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر.
4 -
(ومنها): أن فيه حجةً على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار، دون التوقف على اليقين؛ لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ويَحْتَمِل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُخبرهم عقب الصلاة دائمًا أو غالبًا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة، قاله النوويّ، وزاد البغويّ: ولو قصرت السورة عن المقروء، كأنه مأخوذ من قوله:"كان يفعل"؛ لأنها تدلّ على الدوام، أو الغالب.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لما قاله أصحابنا وغيرهم: إن قراءة سورة قصيرة بكمالها أفضل من قراءة قدرها من طويلة؛ لأن المستحب للقارئ أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط، ويقف عند انتهاء المرتبط، وقد يَخْفَى الارتباط على أكثر الناس، أو كثير منهم، فنُدِب إلى إكمال السورة؛ ليحترز عن الوقوف دون الارتباط، وأما اختلاف الرواية في السورة في الأخريين، فلعل سببه اختلاف إطالة الصلاة، وتخفيفها بحسب الأحوال. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 174.
7 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل؛ قال القرطبيّ رحمه الله: ولا حجة فيه؛ لأن الحكمة لا يُعَلَّل بها؛ لخفائها، أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة يريد تقصير تلك الركعة، ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سنتها من تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع فامتنع الإلحاق. انتهى. وقد ذكر البخاريّ رحمه الله في "جزء القراءة" كلامًا معناه: أنه لم يَرِدْ عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع شيء.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: انتظار الداخل في الركوع ليس عليه دليلٌ، وغاية ما في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوّل القيام بالقراءة، ليدركه الناس، ففي رواية أبي داود من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال:"فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى"، ولابن خزيمة نحوه، وروى ابن حبّان من طريق سفيان، عن معمر، ولفظه:"كنا نرى ذلك أنه يفعل ليتدارك الناس"، وبوّب عليه ابن حبّان:"باب ذكر السبب الذي من أجله كان يطوّل المصطفى صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى". انتهى.
وأخرج أحمد، وأبو داود بسند فيه ضعف، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وَقْعَ قَدَم. انتهى
(1)
.
والحاصل أن انتظار الداخل بتطويل القراءة مستحبّ، وأما بالركوع، فلا دليل عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ما قاله أهل العلم في توجيه اختلاف صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم تطويلًا وتخفيفًا:
قالوا: كانت صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له، ولا لهم طَوَّل، وإذا لم يكن كذلك خَفَّف، وقد يريد الإطالة، ثم يَعْرِض ما يقتضي
(1)
ضعيف؛ لإبهام الراوي عن ابن أبي أوفى.
التخفيف، كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف، وقيل: إنما طوّل في بعض الأوقات، وهو الأقل، وخَفَّف في معظمها، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف؛ لأنه الأفضل، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وقال:"إن منكم منفِّرين، فأيكم صلّى بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف، وذا الحاجة"، وقيل: طَوَّل في وقت، وخفف في وقت؛ ليبيّن أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراط، بل يجوز قليلها وكثيرها، وإنما المشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختَلَفت فيما زاد.
وعلى الجملة: السنّة التخفيف كما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم للعلة التي بَيَّنَها، وإنما طَوَّل في بعض الأوقات؛ لتحققه انتفاء العلة، فإن تحقق أحدٌ انتفاء العلة طَوَّل، ذكره النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال النوويّ رحمه الله: قد اختَلَف العلماء في استحباب قراءة السورة في الأخريين من الرباعية، والثالثة من المغرب، فقيل بالاستحباب وبعدمه، وهما قولان للشافعيّ رحمه الله. قال الشافعيّ: ولو أدرك المسبوق الأخريين أتى بالسورة في الباقيتين عليه؛ لئلا تخلو صلاته من سورة.
وأما اختلاف قدر القراءة في الصلوات فهو عند العلماء على ظاهره، قالوا: فالسنّة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل، وتكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوساطه، وفي المغرب بقصاره، قالوا: والحكمة في إطالة الصبح والظهر أنهما في وقت غفلة بالنوم آخر الليل، وفي القائلة، فيُطَوِّلهما ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها، والعصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تَعَب أهل الأعمال، فخُفِّفت عن ذلك، والمغرب ضيقة الوقت فاحتيج إلى زيادة تخفيفها لذلك، ولحاجة الناس إلى عَشَاء صائمهم وضيفهم، والعِشَاء في وقت غلبة النوم والنعاس، ولكن وقتها واسع، فأشبهت العصر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1018]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
3 -
(هَمَّام) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
4 -
(أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ) العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقة، له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث حجة لمالك على صحّة مذهبه في اشتراط قراءة الفاتحة في كلّ ركعة، وعلى قراءة سورتين مع الفاتحة في الركعتين الأوليين، وأن ما بقي من الصلاة لا يُقرأ فيه إلا بالفاتحة خاصّة، وقد تمسّك الشافعيّ في أنه يقرأ فيما بقي بسورة مع الفاتحة بحديث أبي سعيد الآتي بعد هذا، ووجه تمسّكه قوله: إنه قرأ في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك، والفاتحة إنما هي سبع آيات، لا خمس عشرة، فكان يزيد سورةً.
قال: وهذا لا حجة فيه، فإنه تقدير وتخمين من أبي سعيد، ولعلّه صلى الله عليه وسلم كان يمدّ في قراءة الفاتحة حتى يقدّر بذلك، وهذا الاحتمال غير مدفوع، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرتّل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وهذا يشهد بصحّة هذا التأويل، وحديث أبي قتادة نصّ، فهو أولى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الشافعيّ رحمه الله من جواز قراءة السورة بعد الفاتحة في الأخريين هو ظاهر الأحاديث، ولا تعارض بينه وبين حديث أبي قتادة؛ لإمكان الجمع بينهما باختلاف الأوقات.
ومما يؤيّد ما قاله الشافعيّ: حديث المسيء صلاته، حيث أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ بأم القرآن، وبما تيسّر، ثم قال له:"وافعل ذلك في صلاتك كلّها"، ففيه بيان أن زيادة ما تيسّر على الفاتحة يعمّ الأخريين، وقد تقدّم بيان ذلك مستوفًى في محلّه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وما ورد في كتاب مسلم وغيره من الإطالة فيما استقرّ فيه التقصير، أو التقصير فيما استقرّت فيه الإطالة، كقراءته في الفجر بالمعوّذتين، كما رواه النسائيّ، وكقراءة الأعراف، والمرسلات في المغرب، فمتروك، أما التطويل فبإنكاره على معاذ، وبأمره الأئمة بالتخفيف، ولعل ذلك منه صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن خلفه من يشقّ عليه القيام، وعَلِمَ ذلك، أو كان منه ذلك متقدّمًا حتى خفّف، وأمر الأئمة بالتخفيف، كما قال جابر بن سَمُرة: وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا.
ويَحْتَمِلُ أن يكون فعل ذلك في أوقات ليبيّن جواز ذلك بحسب اختلاف الأوقات من السعة والضيق، وقد استقرّ عمل أهل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرًا لا يضرّ من خلفه بقراءتها بطوال المفصّل، ويليها في ذلك الظهر، والجمعة، وتخفيف القراءة في المغرب، وتوسيطها في العصر والعشاء، وقد قيل في العصر: إنها تُخفّف كالمغرب، وتطويله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى إنما كان ليدرك الناس الركعة الأولى، رواه أبو داود من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وعن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع الأقدام، يعني حتى يتكامل الناس، ويجتمعوا، وعلى هذا يُحمَل حديث أبي سعيد: أنه كان يطوِّل الركعة الأولى من الظهر، بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فيها، وذلك -واللَّه أعلم- لتوالي دخول الناس.
قال: ولا حجة للشافعيّ في هذا الحديث على تطويل الإمام؛ لأجل الداخل؛ لأن ما ذُكر ليس تعليلًا لتطويل الأولى، وإنما هي حكمته، ولا يُعلّل
بالحكمة؛ لخفائها، أو لعدم انضباطها
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم حديث أبي قتادة عند ابن حبّان بلفظ: "كنا نرى أنه يفعل ذلك ليتدارك الناس"، فهذا تعليلٌ واضح من الصحابيّ، فما قاله الشافعيّ هو الأرجح، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
وتمام شرح الحديث ومسائله تقدّمت في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1019]
(452) - (حَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} السَّجْدَةِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} ، وَقَالَ: قَدْرَ ثَلَاِثِينَ آيَةً).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(هُشَيْم) بن بشير بن القاسم، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
(1)
"المفهم" 2/ 73 - 74.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
4 -
(مَنْصُور) بن زاذان -بزاي، ثم ذال معجمتين- الواسطيّ، أبو المغيرة الثقفيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6].
رَوَى عن أنس، يقال: مرسل، وأبي العالية رُفَيع، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، ومحمد بن سيرين، وميمون بن أبي شبيب، ومعاوية بن قرة، وحميد بن هلال، وقتادة، وعمرو بن دينار، والحكم بن عتيبة، وغيرهم.
وروى عنه ابن أخيه مسلم بن سعيد الواسطيّ، وحبيب بن الشهيد، وجرير بن حازم، وخلف بن خليفة، وهشيم، وأبو حمزة السُّكَّريّ، وأبو عوانة، وغيرهم.
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقةٌ، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: رجل صالحٌ متعبدٌ، كان ثقةً ثبتًا، وكان سريع القراءة، وكان يحب أن يترسل فلا يستطيع، وقال إبراهيم بن عبد اللَّه الْهَرَويّ، عن هشيم: لو قيل لمنصور بن زاذان: إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل.
وقال ابن أبي عاصم: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقال غيره: سنة تسع، وقال يزيد بن هارون: مات في الطاعون سنة إحدى وثلاثين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يَختم القرآن بين الأولى والعصر، وكان من المتقَشِّفين المتجرِّدين، مات سنة تسع وعشرين ومائة. انتهى. وفيها أرَّخه خليفة بن خياط، ويحيى بن بكير، والبخاريّ، وابن قانع، والقَرّاب، وكذا حكاه ابن أبي خيثمة عن ابن معين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، هذا برقم (452) وأعاده بعده، وحديث (465) و (826) و (1191) و (1652) وأعاده بعده.
[تنبيه]: وقع للنوويّ رحمه الله هنا وهم، وهو أنه قال: أما منصور فهو ابن المعتمر، وهذا غلط بلا شكّ، فإنه منصور بن زاذان، كما نصّ عليه أبو داود في "سننه" (1/ 213) رقم (804) فقال:"أخبرنا منصور بن زاذان"، والنسائيّ في "سننه" في هذا الإسناد، وفي الإسناد الذي بعده، فقال في الأول:"أنبأنا منصور بن زاذان"، وفي الثاني:"عن منصور بن زاذان"، وكذا نصّ عليه
الدارقطنيّ في "سننه"(1/ 337)، والمزيّ في "تحفة الأشراف"(3/ 305)، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
5 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِم) بن شهاب الْعَنبريّ
(1)
، أبو بشر البصريّ، ثقة [5](م د س) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
6 -
(أَبُو الصِّدِّيقِ) بكر بن عَمْرو، وقيل: ابن قيس الناجيّ -بالنون والجيم- البصريّ، ثقة [3].
رَوَى عن ابن عمر، وأبي سعيد، وعائشة.
وروى عنه قتادة، وعاصم الأحول، والعلاء بن بشير المزنيّ، والوليد بن مسلم الْعَنْبَريّ، ومُطَرِّف بن الشِّخِّير، وهو من أقرانه، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: تُوُفّي سنة (108).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (452) وأعاده بعده، وحديث رقم (2766):"كان فيمن كان قبلكم رجلٌ، قتل تسعًا وتسعين نفسًا. . . "، وأعاده بعده.
[تنبيه]: قوله: "الناجيّ" بنون، ثم جيم: نسبة إلى ناجية، قبيلةٌ من سامة بن لُؤيّ، قاله في "اللباب"
(2)
.
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح" المقدّمة" جـ 2 ص 485.
(1)
هكذا نسبه في "التهذيبين"، و"التقريب"، ونسبه في "تحفة الأشراف" الْهُجيمي، وهو الذي وقع في "سنن أبي داود"، و"مسند عبد بن حميد"، والظاهر أنه لا اختلاف بينهما؛ لأنهما أخوان، كما يظهر من "الأنساب"، و"اللباب"، فالأول نسبة إلى بني العنبر بن عمرو بن تميم بن مُرّ بن أُدّ، والثاني نسبة إلى بني الْهُجيم بن عمرو بن تميم بن مُرّ بن أُدّ، راجع:"اللباب" 3/ 381 - 382، و"الأنساب" 4/ 245 - 250.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 287.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، والوليد بن مسلم، كما أسلفته.
3 -
(ومنها): أنهم ما بين كوفيّ، وهو أبو بكر، ونيسابوريّ، وهو يحيى، وواسطيين، وهما: هشيم، ومنصور، وبصريين، وهما: الوليد وأبو الصدّيق، ومدنيّ، وهو الصحابيّ رضي الله عنه.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا هشيم "إشارة إلى اختلاف شيخيه في الأداء، فيحيى بن يحيى صرّح بإخبار هُشيم له، بخلاف أبي بكر.
5 -
(ومنها): أن هشيمًا معروف بالتدليس، وقد عنعن هنا، لكنه صرّح بالإخبار عند أبي داود، في "سننه"(1/ 213) رقم (804) وبالإنباء عن النسائيّ في "سننه" برقم (475)، وصرّح بالتحديث عند الدارقطنيّ في "سننه"(1/ 337) فزال عنه تهمة التدليس، وللَّه الحمد.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الوليد، عن أبي الصدّيق.
7 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا) فيه أن الذين حَزَرُوا كانوا جماعةً، وقد أخرج ابن ماجه في "سننه" بسند ضعيف، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال:"اجتمع ثلاثون بدريًّا، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تَعَالَوا حتى نَقِيس قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما لم يَجهَر فيه من الصلاة، فما اختَلَف منهم رجلان، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية، وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك، وقاسوا ذلك في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر"
(1)
.
(1)
حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه برقم (828)، وفي سنده زيد العميّ، وهو ضعيفٌ، =
(نَحْزُرُ) أي نقدّر، يقال: حَزَرت الشيءَ حَزْرًا، من بابي ضرب، ونصر: قدّرته، ومنه حَزَرْتُ النخلَ: إذا خَرَصته، قاله الفيّوميّ
(1)
. (قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "قيامَ" على المفعوليّة لـ "نحزر"(فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) متعلّق بـ "قيام"، أي في كلّ من صلاة الظهر، وصلاة العصر (فَحَزَرْنَا) أي قدّرنا (قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأوُلَيَيْنِ) بضم الهمزة تثنية الأولى، كما تقدّم قريبًا، أي في كلّ من الركعتين الأوليين، وليس المراد أنه يقرأ في كليهما مقدار ذلك، ويوضّح هذا المعنى الرواية التالية بلفظ:"كان يقرأ في صلاة الظهر، في الركعتين الأوليين، في كلّ ركعة قدر ثلاثين آية"(مِنَ) صلاة (الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ) بنصب "قدر" على الظرفيّة، أي مقدار ما يقرأ القارئ ثلاثين آيةً، وقوله:"قراءة" مضاف إلى ({الم (1)}) لقصد لفظه، وقوله:({تَنْزِيلُ}) بالرفع على الحكاية، ويجوز جره على البدل، ونصبه بتقدير "أعني"، وقوله:(السَّجْدَةِ) قال النوويّ: يجوز جرّها على البدل، ونصبها بـ "أعني"، ورفعها خبرأ لمبتدأ محذوف، قال القاري: ولا يخفى أن هذه الوجوه الثلاثة كلّها مبنيّة على رفع {تَنْزِيلُ} حكايةً، وأما على إعرابه، فيتعيّن جرّ "السجدة" على الإضافة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: إضافةُ {تَنْزِيلُ} إلى "السجدة" من إضافة العام للخاصّ، كشجر أراك (وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ) بضم الهمزة أيضًا تثنية الأُخرى (قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) أي قدر خمس عشرة آيةً.
وهذا دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأخريين من الظهر غير الفاتحة، ويوضّح ذلك قوله:(وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِن) صلاة (الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ) ووقع في شرح النوويّ: "على قدر قيامه من الأخريين"، قال النووي: كذا هو في معظم الأصول "من الأخريين"، وفي بعضها:"في الأخريين"، وهو معنى رواية "من". انتهى
(3)
. (مِن) صلاة
= والمسعوديّ عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عتبة بن عبد اللَّه بن مسعود، اختلط بآخره، والراوي عنه أبو داود الطيالسيّ روى عنه بعد اختلاطه.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 133.
(2)
راجع: "المرعاة" 3/ 134.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 175.
(الظُّهْرِ) إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من العصر غير الفاتحة، وبهذا يتبيّن أن ما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله من جواز قراءة غير الفاتحة معها في الأخريين مذهب قويّ، لا كما ادّعاه القرطبيّ في كلامه الماضي، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ) أي وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين (مِن) صلاة (الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) أي من قيامه في الأوليين، فيكون بقدر سبع آيات، أو نحوها؛ لأنه يأتي في الرواية التالية:"أنه كان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين في كلّ ركعة قدر خمس عشرة آيةً" فيكون نصف ذلك المقدار المذكور.
وفيه دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد في الأخريين من العصر على الفاتحة بخلاف الظهر، كما أسلفناه آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو بَكْرٍ) أي ابن أبي شيبة شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [السجدة: 1، 2]، وَقَالَ) بدل ذلك (قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً). ونصّ روايته في "المصنّف" (1/ 312):
(3568)
حدّثنا أبو بكر، قال: نا هشيم، عن منصور، عن أبي بِشْر الْهُجَيميّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال:"كنا نَحْزِرُ قيام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، قال: فحزرنا قيامه في الظهر، في الركعتين الأوليين بقدر ثلاثين آيةً، وحزرنا قيامه في الظهر، في الركعتين الأخريين على النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين، من العصر على قدر الأُخريين من الظهر، وحزرنا قيامه في الأخريين، من العصر على النصف من ذلك". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 1019 و 1020](452)، و (أبو داود) في "الصلاة"(804)، و (النسائيّ) فيها (1/ 237)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 355 - 356)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 2)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(509)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1825 و 1828)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 295)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1759 و 1760)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1002 و 1003)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 207)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 337)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 390 - 391)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(593)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة القراءة في صلاة الظهر والعصر.
2 -
(ومنها): بيان كون عدد ركعات صلاة الظهر والعصر أربعًا في الحضر.
3 -
(ومنها): بيان عدم مشروعيّة الجهر في الظهر والعصر؛ لقوله: "كنا نحزِر"؛ فإنهم ما قدّروا ذلك إلا لعدم سماعهم لقراءته لكونه لا يجهر.
4 -
(ومنها): استحباب تطويل الركعتين الأوليين، وقصر الأخريين في كلّ من الظهر والعصر.
5 -
(ومنها): استحباب كون صلاة العصر على النصف من صلاة الظهر.
قيل: الحكمة في كون العصر على النصف من الظهر كون صلاة الظهر تُفعَل في وقت الغفلة بنوم القائلة، فطُوّلت ليدركها المتأخّر بخلاف العصر، فإنها تفعل في وقت تَعَب أهل الأعمال، فخُفّفت لذلك، واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الحرص على معرفة مقدار صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتّبعوه عليها، ويُبلّغوا ذلك من بعدهم من الأمّة.
7 -
(ومنها): مشروعيّة قراءة غير الفاتحة في الظهر في الركعتين الأخريين؛ لأن الفاتحة سبع آيات، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقوم قدر خمس عشرة آيةً، وهذا هو المذهب الجديد للشافعيّ، وهو الراجح لظاهر هذا الحديث.
8 -
(ومنها): كونه لا يقرأ في العصر في الأخريين أكثر من الفاتحة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1020]
(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، أَوْ قَالَ: نِصْفَ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) عن بضع وتسعين سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون تقدّموا قبله، و"منصور": هو ابن زاذان، و"الوليد أبو بشر" هو: ابن مسلم العنبريّ.
وقوله: (عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ) هكذا في رواية المصنّف، وهو الصواب، ووقع عند النسائيّ بدله "عن أبي المتوكّل"، والصواب ما هنا، وقد استوفيت الكلام فيه في "شرح النسائيّ"
(1)
، فراجعه، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله: (كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً إلخ) قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" -بعد إخراجه الحديث بلفظ: "فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آيةً"- ما نصّه: قول أبي سعيد رحمه الله: "فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية" يُضَادّ في الظاهر قول أبي قتادة رضي الله عنه: "ويطيل في الأولى، ويقصر في الثانية"، وليس
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 6/ 311 - 312.
بحمد اللَّه ومَنِّهِ كذلك؛ لأن الركعة الأولى كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فيها ثلاثين آية بالترسيل والترتيل والترجيع، والركعة الثانية كان يقرأ فيها مثل قراءته في الأولى بلا ترسيل ولا ترجيع، فتكون القراءتان واحدة، والأولى أطول من الثانية. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ مفيدٌ.
وقوله: (خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً) بفتح شين "عشرة"، ويجوز تسكينها، ويجوز كسرها أيضًا، وهي لغة بني تميم، قال في "الخلاصة":
وَقُلْ لَدَى التَّأْنِيثِ إِحْدَى عَشْرَهْ
…
والشِّيْنُ فِيهَا عَنْ تَمِيمٍ كَسْرَهْ
(2)
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1021]
(453) - (حَدَّثَنَا
(3)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوْا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرُوا مِنْ صَلَاتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ لَهُ مَا عَابُوهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، إِنِّي لَأَرْكُدُ بِهِمْ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْر) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ الكوفيّ الْفَرسيّ، ثقة فقيهٌ تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) عن (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
2 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة السُّوائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ عز وجل،
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 167 - 168.
(2)
راجع: شروح "الخلاصة" في باب العدد، و"حاشية الخضريّ" 2/ 210 - 211.
(3)
وفي نسخة: "وحدّثني".
نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
3 -
(3) - (سَعْدُ) بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55) على المشهور (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون تقدّموا قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنهم ما بين نيسابوريّ، وواسطيّ، وكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ.
5 -
(ومنها): أن سعدًا أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وآخر من مات منهم، وهو أول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما، قد وقع التصريح بسماع عبد الملك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما في رواية أحمد وغيره، قاله في "الفتح"(أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ) بضمّ الكاف، هي البلدة المعروفة، وهي دار الفضل، ومحلّ الفضلاء، بنيت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمر نوابه ببنائها هي والبصرة، قيل: سميت كُوفة لاستدارتها، تقول العرب: رأيت كُوفًا، وكُوفانًا للرمل المستدير، وقيل: لاجتماع الناس فيها، تقول العرب: تَكَوَّف الرملُ: إذا استدار، ورَكِبَ بعضُهُ بعضًا، وقيل: لأن ترابها خالطه حَصًى، وكل ما كان كذلك سُمِّي كُوفةً، قال الحافظ أبو بكر الحازميّ وغيره: ويقال للكوفة أيضًا: كُوفان بضم الكاف. انتهى
(1)
.
وقال في "اللسان": الْكُوفة: الرَّمْلةُ المجتمعة، وقيل: الكوفةُ: الرملة ما
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 4/ 175 - 176.
كانت، وقيل: الكوفة: الرملة الْحَمْراء، وبها سُمّيت الكوفةُ، وقال الأزهريّ والليث: كُوفانُ اسم أرض، وبها سُمّيت الكوفةُ، وقال ابن سِيدَهْ: الكوفةُ بلدٌ، سُمّيت بذلك؛ لأن سعدًا لَمّا أراد أن يبني الكوفة ارتادها لهم، وقال: تَكَوَّفُوا في هذا المكان، أي اجْتَمِعُوا فيه، وقال المفضّل: إنما قال: كَوِّفُوا هذا الرمل، أي نَحُّوه، وانزِلُوا، ومنه سُمِّيت الكوفةُ، وكُوفانُ اسم الكوفة، قال اللِّحْيانيّ: وبها كانت تُدعَى قبلُ، وقال الكسائيّ: كانت الكوفة تُدعى كُوفانَ، وكَوَّفَ القومُ أَتَوُا الكوفة، قال الشاعر [من الطويل]:
إِذَا مَا رَأَتْ يَوْمًا مِنَ النَّاسِ رَاكِبًا
…
يُبَصِّرُ مِنْ جِيرَانِهَا وَيُكَوِّفُ
وكَوَّفْتُ تكويفًا: أي صِرْتُ إلى الكوفة، وتكوَّفَ الرجلُ: أي تشبّه بأهل الكوفة، أو انتسب إليهم، وتكوّفَ الرملُ والقومُ: أي استداروا. انتهى
(1)
.
(شَكَوْا سَعْدًا) هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو خال جابر بن سمرة الراوي عنه، وفي الرواية التالية:"قال عمر لسعد: قد شكوك في كلّ شيء حتى في الصلاة"، وفي رواية أبي داود:"قد شكاك الناس في كلّ شيء حتى في الصلاة".
وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الملك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند عمر رضي الله عنه، إذ جاء أهل الكوفة يَشْكُون إليه سعد بن أبي وقاص، حتى قالوا: إنه لا يحسن الصلاة. انتهى.
وفي قوله: "أهل الكوفة" مجاز، وهو من إطلاق الكل على البعض؛ لأن الذين شَكَوه بعض أهل الكوفة لا كلهم، ففي رواية زائدة، عن عبد الملك في "صحيح أبي عوانة":"جعل ناس من أهل الكوفة"، ونحوه لإسحاق ابن راهويه، عن جرير، عن عبد الملك، وسُمِّي منهم عند سيف، والطبرانيّ: الجرّاح بن سنان، وقبيصة، وأربد الأسديّون، وذكر العسكريّ في "الأوائل" أن منهم الأشعث بن قيس (إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، أي في أيام خلافته، حيث كان أمّر سعدَ بن أبي وقاص على قتال الْفُرْس في سنة أربع عشرة، ففَتَحَ اللَّه العراق على يديه، ثم اختَطّ الكوفة سنة سبع عشرة، واستمرّ عليها
(1)
"لسان العرب" 9/ 311.
أميرًا إلى سنة إحدى وعشرين، في قول خليفة بن خياط، وعند الطبري سنة عشرين، فوقع له مع أهل الكوفة ما ذُكِرَ.
زاد في رواية البخاريّ: "فعزله، واستعمل عليهم عمّارًا": أي عزل عمر رضي الله عنه سعدًا، واستَعْمَل على أهل الكوفة بدله عمار بن ياسر رضي الله عنهما، قال خليفة: استَعْمَل عَمّارًا على الصلاة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حُنيف على مِسَاحة الأرض. انتهى. وكأن تخصيص عمار بالذكر لوقوع التصريح بالصلاة دون غيرها، مما وقعت فيه الشكوى، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَذَكَرُوا مِنْ صَلَاتِهِ) أي ذكر أهل الكوفة من جملة ما شكوه إلى عمر رضي الله عنه إساءته في الصلاة، وفي رواية البخاريّ:"فشَكَوا حتى ذكروا أنه لا يُحسن يصلّي"، قال في "الفتح": ظاهره أن جهات الشكوى كانت متعددةً، ومنها قصة الصلاة، وصَرَّح بذلك في رواية أبي عون -يعني الآتية بعد هذا-:"فقال عمر: قد شَكَوْك في كل شيء حتى في الصلاة"، وذكر ابن سعد، وسيف، أنهم زعموا أنه حابى في بيع خُمُس باعه، وأنه صنع على داره بابًا مُبَوَّبًا من خشب، وكان السوق مجاورًا له، فكان يتأذى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: انقطع التصويت، وذكر سيف أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السَّرَايا، وقال الزبير بن بكار في "كتاب النسب": رفع أهل الكوفة عليه أشياء، كشفها عمر، فوجدها باطلة. انتهى. ويُقَوِّيه قول عمر في وصيته:"فإني لم أعزله من عجز، ولا خيانة". انتهى
(2)
.
(فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) أي إلى سعد (عُمَرُ) بن الخطّاب ليحضر عنده، ويسمع الدعوى، ويُجيب عليها (فَقَدِمَ) بكسر الدال، قال في "القاموس": قَدِمَ من سفره، كعَلِمَ قُدُومًا وقِدْمَانًا بالكسر: آبَ، فهو قادمِ. انتهى
(3)
. أي رجع سعد رضي الله عنه من الكوفة (عَلَيْهِ) أي على عمر رضي الله عنه (فَذكَرَ لَهُ) أي ذكر عمر لسعد رضي الله عنهما (مَا عَابُوهُ بِهِ) أى ما تنقّصه به أهل الكوفة، وقوله:(مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ) بيان لما عابوه (فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي مثلَ صلاته
(1)
"الفتح" 2/ 278.
(2)
"الفتح" 2/ 278.
(3)
"القاموس المحيط" 4/ 162.
(مَا) نافية (أَخْرِمُ عَنْهَا) بفتح أوله، وكسر الراء: أي لا أنقُصُ، قال في "الفتح": وحَكَى ابن التين عن بعض الرواة أنه بضمّ أوله، واستضعفه (إِنِّي لَأَرْكُدُ بِهِمْ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: رَكَدَ الماءُ رُكُودًا، من باب قَعَدَ: سَكَنَ، وأركدته: أسكنته، ورَكَدت السفينة: وقَفَت، فلا تجري، قاله الفيّوميّ
(1)
، قال القَزّاز:"أَرْكُد" أي أُقيم طويلًا، أي أُطَوِّل فيهما القراءة.
وقال النوويّ: قوله: "لأركُد بهم" يعني أُطَوِّلهما، وأديمهما، وأَمُدُّهما، كما قاله في الرواية الأخرى، من قولهم: رَكَدَت السُّفُنُ، والريح، والماء: إذا سَكَنَ ومَكَثَ. انتهى
(2)
.
ويَحْتَمِل أن يكون التطويل بما هو أعمّ من القراءة، كالركوع والسجود، لكن المعهود في التفرقة بين الركعات، إنما هو في القراءة وسيأتي في الرواية التالية، من رواية أبي عون، عن جابر بن سَمُرة:"أَمُدّ في الأوليين، وأَحذف في الأخريين"
(3)
.
(فِي الْأُولَيَيْنِ) بضم الهمزة: تثنية الأولى، أي في الركعتين الأوليين.
(وَأَحْذِفُ) بفتح الهمزة، وسكون الحاء المهملة، وكسر الذال المعجمة، أي أحذف التطويل، وليس المراد حذف أصل القراءة، ووقع في رواية البخاريّ بدله:"وأُخِفّ" بضم أوله، وكسر الخاء المعجمة، وتشديد الفاء، وهو بمعناه.
ووقع عند الإسماعيليّ من رواية محمد بن كثير، عن شعبة بلفظ:"أحذم" بالميم موضع الفاء، من حذم يَحْذِم حَذْمًا: إذا أسرع
(4)
.
(فِي الْأُخْرَيَيْنِ) تثنية الأخرى، يعني أنه يقصرهما عن الأوليين، لا أنه يُخِلّ بالقراءة، ويَحذفها كلّها، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": والمراد بالحذف حذف التطويل، لا حذف أصل القراءة، فكأنه قال: أَحْذِف تطويل القراءة.
(فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (ذَاكَ) إشارة إلى ما ذكره من كيفيّة صلاته كصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فـ "ذاك" مبتدأ خبره قوله:(الظَّنُّ بِكَ) وفي رواية: ظنّي بك (أَبَا إِسْحَاقَ) بحذف حرف النداء، كقوله تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الآية [يوسف: 29]، قال الحريريّ رحمه الله في "مُلْحَته":
(1)
"المصباح المنير" 1/ 237.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 176.
(3)
راجع: "الفتح" 2/ 279.
(4)
راجع: "عمدة القاري" 6/ 9.
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دَعَائِي"
أي يا أبا إسحاق، وهي كنية سعد، كُنِي بذلك بأكبر أولاده، وهذا تعظيم من عمر رضي الله عنه له، وفيه دلالةٌ على أنه لم تَقْدَح فيه الشكوى عنده رضي الله عنهما.
[تنبيه]: هذا الحديث اختصره المصنّف رحمه الله، وقد ساقه الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(755)
حدّثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا عبد الملك بن عُمَير، عن جابر بن سَمَرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه، فعزَلَه، واستَعْمَل عليهم عَمّارًا، فشكوا حتى ذَكَروا أنه لا يُحسن يصلّي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعُمُون أنك لا تحسن تصلّي، قال أبو إسحاق: أما أنا واللَّه، فإني كنت أصلّي بهم صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما أَخْرِم عنها، أُصَلِّي صلاة العشاء، فأَرْكُد في الأوليين، وأُخِفّ في الأُخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلًا أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يَدَعْ مسجدًا إلا سأل عنه، ويُثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم، يقال له: أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، قال: أمّا إذ نَشَدتَنَا فإن سعدًا كان لا يَسِير بالسَّرِيَّة، ولا يَقْسِم بالسَّوِيّة، ولا يَعْدِل في القَضِيّة، قال سعد: أما واللَّه لأدعونّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعةً، فأَطِلْ عمره، وأطل فقره، وعَرِّضه بالفتن، وكان بَعْدُ إذا سئل يقول: شيخ كبير، مفتونٌ، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعدُ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه لَيَتَعَرَّض للجواري في الطرق، يَغْمِزُهُنّ. انتهى
(1)
.
وقوله: "أمّا أنا واللَّه""أمّا" بالتشديد، وهي للتقسيم، والقسيم هنا محذوف، تقديره: وأما هم فقالوا ما قالوا، وفيه القسم في الخبر لتأكيده في نفس السامع، وجواب القسم يدل عليه قوله:"فإني كنت أصلّي بهم".
وقوله: "أصلّي صلاة العشاء" كذا هنا بالفتح والمد، ورواه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن أبي عوانة بلفظ:"صلاتي العشيّ" بالكسر والتشديد،
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 479 - 480 بنسخة "الفتح".
وكذا في رواية عبد الرزاق، عن معمر، وكذا لزائدة في صحيح أبي عوانة، وهو الأرجح، ويدل عليه التثنية، والمراد بهما الظهر والعصر، ولا يبعد أن تقع التثنية في الممدود، ويراد بهما المغرب والعشاء، لكن يَعْكُر عليه قوله:"الأخريين "؛ لأن المغرب إنما لها أخرى واحدة، وأبدى الكرمانيّ لتخصيص العشاء بالذكر حكمةً، وهو أنه لما أتقن فعل هذه الصلاة التي وقتها وقت الاستراحة، كان ذلك في غيرها بطريق الأولى، وهو حسنٌ، ويقال مثله في الظهر والعصر؛ لأنهما وقت الاشتغال بالقائلة والمعاش، والأولى أن يقال: لعل شكواهم كانت في هاتين الصلاتين خاصةً، فلذلك خصهما بالذكر، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقوله: "ذلك الظنّ بك" أي هذا الذي تقول هو الذي كنا نظنه، زاد مسعر عن عبد الملك وابن عون معًا:"فقال سعد: أتعلّمني الأعراب الصلاة؟ ".
وقوله: "فأرسل معه رجلًا أو رجالًا" بالشك، وفي رواية ابن عيينة:"فبعث عمر رجلين"، وهذا يدل على أنه أعاده إلى الكوفة؛ ليحصل له الكشف عنه بحضرته؛ ليكون أبعد من التهمة، لكن كلام سيف يدل على أن عمر إنما سأله عن مسألة الصلاة بعدما عاد به محمد بن مسلمة من الكوفة، وذكر سيفٌ والطبريّ أن رسول عمر بذلك محمد بن مسلمة، قال: وهو الذي كان يقتصّ آثار مَن شُكِيَ من العُمّال في زمن عمر، وحكى ابن التين أن عمر أرسل في ذلك عبد اللَّه بن أرقم، فإن كان محفوظًا، فقد عُرِف الرجلان، ورَوَى ابن سعد من طريق مَلِيح بن عوف السلميّ، قال: بَعَث عمر محمد بن مسلمة، وأمرني بالمسير معه، وكنت دليلًا بالبلاد، فذكر القصة، وفيها:"وأقام سعدًا في مساجد الكوفة، يسألهم عنه"، وفي رواية إسحاق، عن جرير:"فطيف به في مساجد الكوفة".
وقوله: "لبني عَبْس" بفتح المهملة، وسكون الموحدة، بعدها مهملة: قبيلةٌ كبيرةٌ من قيس.
وقوله: "أبا سَعْدة" بفتح المهملة، بعدها مهملة ساكنة، زاد سيف في
(1)
2/ 278 - 279.
روايته: فقال محمد بن مسلمة: أنشد اللَّه رجلًا يعلم حقًّا إلَّا قال.
وقوله: "أمّا" بتشديد الميم وقسيمها محذوف أيضًا.
وقوله: "نشدتنا" أي طلبت منا القول.
وقوله: "لا يسير بالسرية" الباء للمصاحبة، و"السَّرِيّة" بفتح المهملة، وكسر الراء المخففة: قطعة من الجيش، ويَحْتَمِل أن يكون صفة لمحذوف: أي لا يسير بالطريقة السَّرِية، أي العادلة، والأول أولى؛ لقوله بعد ذلك:"ولا يعدل"، والأصل عدم التكرار، والتأسيس أولى من التأكيد، ويؤيده رواية جرير وسفيان بلفظ:"ولا يَنْفِر في السرية".
وقوله: "في القضيّة": أي الحكومة، وفي رواية سفيان، وسيف:"في الرعية".
وقوله: "قال سعد"، وفي رواية جرير:"فغضب سعد"، وحكى ابن التين أنه قال له: أعليّ تسجع؟.
وقوله: "أَمَا واللَّه" بتخفيف الميم، حرف استفتاح.
وقوله: "لأدعونّ بثلاث" أي عليك، والحكمة في ذلك أنه نَفَى عنه الفضائل الثلاث، وهي: الشجاعة، حيث قال:"لا ينفر"، والعفّة حيث قال:"لا يَقْسِمُ"، والحكمةُ حيث قال:"لا يَعْدِل"، فهذه الثلاثة تتعلق بالنفس، والمال، والدين، فقابلها بمثلها، فطُولُ العمر يتعلق بالنفس، وطول الفقر يتعلق بالمال، والوقوعُ في الفتن يتعلق بالدين، ولما كان في الثنتين الأُوليين ما يمكن الاعتذار عنه، دون الثالثة قابلهما بأمرين دنيويين، والثالثة بأمر دينيّ، وبيان ذلك أن قوله:"لا يَنْفِر بالسَّرِيَّة" يمكن أن يكون حقًّا، لكن رأى المصلحة في إقامته؛ ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم، أو كان له عذر، كما وقع له في القادسية، وقوله:"لا يَقْسِم بالسوية" يمكن أن يكون حقًّا، فإن للإمام تفضيلَ أهل الغَنَاء في الحرب، والقيام بالمصالح، وقوله:"لا يَعْدِل في القَضِيّة"، هو أشدّها؛ لأنه سَلَبَ عنه العدل مطلقًا، وذلك قَدْحٌ في الدين، ومن أعجب العَجَب أن سعدًا مع كون هذا الرجل واجهه بهذا، وأغضبه حتى دعا عليه في حال غضبه، راعَى العدل والإنصاف في الدعاء عليه؛ إذ عَلَّقه بشرط أن يكون كاذبًا، وأن يكون الحامل له على ذلك الغَرَضَ الدنيويّ.
وقوله: "رياءً وسمعةً" أي ليراه الناس، ويسمعوه، فيُشْهِروا ذلك عنه، فيكون له بذلك ذكرٌ.
وقوله: "وأَطِلْ فقره"، وفي رواية:"وشدِّد فقره"، ورُوي:"وأكثر عياله"، قال الزين ابن الْمُنَيِّر: في الدعوات الثلاث مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره فيعلمَ كرامةَ سعد، وأما طول فقره، فلنقيض مطلوبه؛ لأن حاله يُشعر بأنه طلب أمرًا دنيويًّا، وأما تعرضه للفتن؛ فلكونه قام فيها، ورضيها دون أهل بلده.
وقوله: "فكان بعدُ" أي كان أبو سعدة.
وقوله: "شيخٌ كبيرٌ مفتونٌ"، وفي رواية الطبراني، وأبي يعلى:"قال عبد الملك: فأنا رأيته يَتَعَرَّض للإماء في السِّكَك، فإذا سألوه، قال: كبيرٌ فقيرٌ مفتونٌ"، وفي رواية:"فافتقر، وافْتُتِنَ"، وفي رواية:"فَعَمِيَ، واجتمع عنده عشر بنات، وكان إذا سمع بِحِسّ المرأة تشبث بها، فإذا أُنكر عليه، قال: دعوة المبارك سعد"، وفي رواية:"ولا تكون فتنة إلَّا وهو فيها"، وفي رواية محمد بن جُحَادة، عن مصعب بن سعد، نحو هذه القصة، قال:"وأدرك فتنة المختار، فقتل فيها"، رواه ابن عساكر، وفي رواية سيف:"أنه عاش إلى فتنة الجماجم، وكانت سنة ثلاث وثمانين، وكانت فتنة المختار حين غلب على الكوفة من سنة خمس وستين إلى أن قُتل سنة سبع وستين".
وقوله: "دعوة سعد" أفردها لإرادة الجنس، وإن كانت ثلاث دعوات، وكان سعد معروفًا بإجابة الدعوة، رَوَى الطبراني من طريق الشعبيّ، قال: قيل لسعد: متى أصبت الدعوة؟ قال: يومَ بدر، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم استجب لسعد"، ورَوَى الترمذيّ، وابنُ حبان، والحاكم من طريق قيس بن أبي حازم، عن سعد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم استجب لسعد إذا دعاك". انتهى ملخّصًا من الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 280 - 281.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 1021 و 1022 و 1023 و 1024](453)، و (البخاريّ) في "الأذان"(755 و 758 و 770)، و (أبو داود) في "الصلاة"(803)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(2/ 174)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(216 و 217)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(3706 و 3707)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 175 و 176 و 179 و 180)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(508)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1859 و 1937 و 2140)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(308)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 149 - 150)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1004 و 1005 و 1006 و 1007)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 65)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القراءة في كلّ الصلاة.
2 -
(ومنها): أن الإمام إذا شُكِي إليه نائبه بعث إليه، واستفسره عن ذلك، وأنه إذا خاف مفسدة باستمراره في ولايته، ووقوع فتنة عَزَله، فلهذا عزله عمر رضي الله عنه مع أنه لَمْ يكن فيه خَلَلٌ، ولم يثبت ما يَقْدَح في ولايته وأهليته، وقد ثبت في "صحيح البخاريّ" في حديث مَقْتل عمر رضي الله عنه والشوري، أن عمر رضي الله عنه قال:"إن أصابت الإمارة سعدًا فذاك، وإلا فليستعن به أيُّكم ما أُمِّرَ، فإني لَمْ أَعْزِله من عجز ولا خيانة"، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال في "الفتح": في هذا الحديث جواز عزل الإمام بعضَ عماله إذا شُكِيَ إليه، وإن لم يثبت عليه شيء، إذا اقتضت ذلك المصلحة، قال مالك: قد عَزَلَ عمرُ سعدًا، وهو أعدل مَن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والذي يظهر أن عمر عَزَله حسمًا لمادّة الفتنة، ففي رواية سيف: "قال عمرُ: لولا الاحتياط،
(1)
المراد فوائد الحديث بطرقه المختلفة التي أوردتها في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف هنا، فتنبّه.
وأن لا يُتَّقَى من أمير مثلِ سعد لَمَا عزلته"، وقيل: عزله إيثارًا لقربه منه؛ لكونه من أهل الشوري، وقيل: لأن مذهب عمر رضي الله عنه أنه لا يَسْتَمِرّ بالعامل أكثر من أربع سنين، وقال المازريّ: اختلفوا هل يُعزل القاضي بشكوى الواحد، أو الاثنين، أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى منه؟.
3 -
(ومنها): أن فيه استفسارَ العامل عما قيل فيه، والسؤال عمن شَكَى في موضع عمله، والاقتصار في المسألة على مَن يُظَنّ به الفضل.
4 -
(ومنها): بيان أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه، يكون ممن يجاوره.
5 -
(ومنها): أن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال.
6 -
(ومنها): أن فيه خطاب الرجل الجليل بكنيته، والاعتذار لمن سُمِع في حقه كلامٌ يسوؤه.
7 -
(ومنها): بيان الفرق بين الافتراء الذي يُقْصَد به السبّ، والافتراء الذي يُقْصَد به دفع الضرر، فيعزَّر قائل الأول دون الثاني، ويَحْتَمِل أن يكون سعد لَمْ يطلب حقّه منهم، أو عفا عنهم، واكتَفَى بالدعاء على الذي كَشَفَ قِناعه في الافتراء عليه دون غيره، فإنه صار كالمنفرد بأذيته، وقد جاء في الخبر:"من دعا على ظالمه فقد انتصر"
(1)
، فلعله أراد الشفقة عليه بأن عَجَّل له العقوبة في الدنيا، فانتصر لنفسه، وراعى حال من ظلمه؛ لِمَا كان فيه من وفور الديانة، ويقال: إنه إنما دعا عليه؛ لكونه انتهك حرمة مَن صَحِب صاحب الشريعة، وكأنه قد انتصر لصاحب الشريعة.
8 -
(ومنها): أن في قوله: "ذاك الظن بك أبا إسحاق" مدحَ الرجل الجليل في وجهه إذا لَمْ يُخَف عليه فتنة بإعجاب ونحوه، والنهيُ عن ذلك إنما هو لمن خيف عليه الفتنة، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بالأمرين، وجَمَع العلماء بينهما بما ذكرته.
(1)
حديث ضعيف، أخرجه الترمذيّ 5/ 554، وفيه أبو حمزة ميمون الأعور: ضعيف.
9 -
(ومنها): جواز الدعاء على الظالم الْمُعَيَّن بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته، ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة، وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم، ومن الأول قول موسى عليه السلام:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [يونس: 88].
10 -
(ومنها): أن فيه سلوكَ الورع في الدعاء.
11 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الأُوليين من الرباعية متساويتان في الطول، وقد تقدّم أن الراجح تطويل الأولى على الثانية؛ لصريح حديث أبي قتادة رضي الله عنه:"وكان يطوّل في الركعة الأولى، ويقصر الثانية"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1022]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقون تقدّموا قريبًا، فقتيبة، وإسحاق بن إبراهيم، وهو ابن راهويه، تقدّما قبل باب، والباقيان تقدّما في السند الماضي.
[تنبيه]: هذا السند من رباعيّات المصنّف: كسابقه، وهو (53) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه آخر]: رواية جرير هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1475)
حدّثنا جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن عُمير، عن جابر بن سَمُرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر، فقالوا: لا يُحسن
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
يصلّي، فذكر ذلك عمر له، فقال: أَمّا صلاةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد كنت أصلّي بهم أَرْكُد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فقال: ذاك الظنّ بك، يا أبا إسحاق. انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1023]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: قَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ذَاكَ ظَنِّي بِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم أوّل الباب.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدم في "المقدّمة" ج 1 ص 388.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدم في "المقدّمة" ج 1 ص 381.
4 -
(أَبُو عَوْنٍ) محمد بن عبيد اللَّه بن سعيد الثقفيّ الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وأبي الزبير، وجابر بن سمرة، ومحمد بن حاطب الْجُمَحيّ، والحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة، وسعيد بن جبير، وعبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
ورَوَى عنه الأعمش، وأبو حنيفة، ومحمد بن سُوقة، والمسعوديّ، ومحمد بن قيس الأسديّ، وشعبة، والثوريّ، ويونس بن الحارث الطائفيّ، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: توفي في ولاية خالد على العراق، وكان ثقةً، وله أحاديث، وقال أبو زرعة: حديثه عن سعيد مرسل، وقال ابن شاهين في "الثقات": هو أوثق من عبد الملك بن عُمير، وقال ابن قانع وغيره: مات سنة عشر ومائة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (453)، وحديث (593):"إن اللَّه حرّم ثلاثًا. . . "، و (2071):"إني لم أبعث بها إليك لتلبسها. . . "، وأعاده بعده.
و"جابر بن سمرة" رضي الله عنهما تقدّم في الحديث الماضي.
وقوله: (قَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ) تقدّم أن مما شكوه أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه، وأنه صنع على باب داره بابًا مبوّبًا من خشب، وكان السوق مجاورًا له، فكان يتأذَّى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: لينقطع الصوت، وزعموا أيضًا أنه كان يُلهيه الصيد عن الخروج في السرايا.
وقوله: (أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ)"أمّا" بتشديد الميم للتقسيم، والقسيم هنا محذوف، تقديره: أما أنا فأمدّ. . . إلخ، وأما هم فقالوا ما قالوا.
وقوله: (وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"ما" الأولى نافية، و"الثانية" موصولة، و"آلُو" بالمد في أوله، وضم اللام: أي لا أُقَصِّر في ذلك، ومنه قوله تعالى:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} الآية [آل عمران: 118]؛ أي لا يقصِّرون في إفسادكم.
والمعنى: أني لا أُقَصِّر فيما أخذته من صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بل أقتدي به في ذلك دون تقصير.
وقوله: (أَوْ ذَاكَ ظَنِّي بِكَ)"أو" للشكّ من الراوي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1024]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَبِي عَوْنٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ: فَقَالَ: تُعَلِّمُنِي الْأَعْرَابُ بِالصَّلَاةِ؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، أحد مشايخ الستّة [10](ت 247) وهو ابن (87) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر الْعَبديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
3 -
(مِسْعَر) بن كِدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون تقدّموا قبله، و"عبد الملك": هو ابن عُمير، و"أبو عون" هو: محمد بن عبيد اللَّه بن سعيد الثقفيّ.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ) يعني أن حديث مسعر عن عبد الملك، وأبي عون بمعنى حديث هشيم، وجرير، وشعبة عنهما.
وقوله: (وَزَادَ) فاعله ضمير مسعر؛ أي زاد مسعر في روايته على رواية الثلاثة المذكورين قولَهُ: "فقال: أتعلّمني. . . إلخ".
وقوله: (فَقَالَ: تُعَلِّمُنِي الْأَعْرَابُ بِالصَّلَاةِ؟) فاعل "قال" ضمير سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه؛ أي قال سعد منكرًا شكواهم في حلاته.
وفيه دلالةٌ على أن الذين شَكَوه لَمْ يكونوا من أهل العلم، وكأنهم ظَنُّوا مشروعية التسوية بين الركعات، فأنكروا على سعد التفرقة، فيستفاد منه ذمُّ القول بالرأي الذي لا يَستَنِد إلى أصل، وفيه أن القياس في مقابلة النصّ فاسد الاعتبار.
وقوله: (الأَعْرَابُ) بفتح الهمزة: ساكنو البادية من العرب الذين لا يُقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلَّا للحاجة، ولا واحد له من لفظه، وأما العرب
بضمّ، فسكون، وبفتحتين: فهو خلاف المعجم، مؤنّثٌ، وهم: سكان الأمصار، أو عامّ، أفاده في "القاموس"
(1)
.
[فائدة]: إذا كان عَلِم بمعنى اليقين تعدّى إلى مفعولين، فتقول: علمت زيدًا فاضلًا، وإذا كانت بمعنى عَرَفَ تعدّى إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} الآية [الأنفال: 60]، وقد يُضمَّن معنى شَعَرَ، فتدخل الباء في مفعوله، فيقال: عَلِمت، وعَلِمتُ به، وأعلمته الخبر، وأعلمته به، ومثله: علّمته بالتشديد، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(2)
، ومنه قول سعد رضي الله عنه هنا:"تعلّمني الأعراب بالصلاة"، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية مسعر هذه أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 73)، فقال:
(1007)
حدّثنا أحمد بن يوسف بن خلاد، ثنا موسى بن إسحاق، ثنا مِنجاب، ثنا علي بن مسهر (ح) وحدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن البزار، ثنا عبد اللَّه بن محمد بن ناجية، ثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، ثنا محمد، ثنا بشر
(3)
قالا: ثنا مسعر، عن عبد الملك بن عمير، وأبي عون، عن جابر بن سمرة، قال: اشتكى أهل الكوفة صلاة سعد إلى عمر رضي الله عنه، فقال: أَتُعَلِّمني الأعراب بالصلاة؟ واللَّه إني لأركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، وإنه حبيب إليّ ما اقتديت به من صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: ذاك الظن بك أبا إسحاق. لفظ ابن بشر. انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1025]
(454) - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَزْعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
(1)
راجع: "القاموس المحيط" 1/ 102.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 427.
(3)
هكذا وقع في النسخة "ثنا محمد، ثنا بشر"، وهذا غلط بلا شكّ، ولعل الصواب:"ثنا محمد بن بشر"، وبالجملة فهذا السند يحتاج إلى مراجعة نسخة صحيحة من "المستخرج".
الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، مِمَّا يُطَوِّلُهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) -بالتصغير- الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٌ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، كثير التدليس والتسوية [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) التَّنُوخي الدمشقيّ، ثقةٌ إمامٌ، لكنه اختلط في آخره [7](ت 167)(بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
4 -
(عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ) الكلابيّ، وقيل: الكلاعيّ -بالعين المهملة بدل الموحَّدة- أبو يحيى الحِمْصَيّ، ويقال: الدمشقيّ، ثقةٌ مقرئٌ [3].
رَوَى عن أُبَيّ بن كعب، ومعاوية، والنعمان بن بشير، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن عمرو، وابن عمر، وعبد الرحمن بن غَنْم، وقزعة بن يحيى، وأبي إدريس الْخَوْلانيّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه سعد، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد اللَّه بن يزيد الدمشقيّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن بَزَّة، والحسن بن عِمران العسقلانيّ، وعلي بن أبى حَمَلَة، وقرأ عليه القرآن.
ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة، وقال: كان معروفًا، وله أحاديث، وقال ابن أبي حاتم: عطية مولى بني عامر، رَوَى عن يزيد بن بشر، عن ابن عمر، حديث:"بُنِي الإسلام على خمس"، وعنه سالم بن أبي الجعد، هو عطية بن قيس الذي رأى ابنَ أم مكتوم، سئل أبي عنه، فقال: صالح الحديث، وقال عبد الواحد بن قيس: كان الناس يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس، وقال الفَسَويّ: سألت عبد الرحمن -يعني دُحَيمًا- عنه؟، فقال: كان أسنَّهم -يعني أسن أقرانه - وكان غزا مع أبي أيوب الأنصاريّ، وكان هو وإسماعيل بن عبيد اللَّه قارئ الْجُنْد، وقال أبو مسهر: كان مولده في حياة
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سنة (7) وغزا في خلافة معاوية، وتوفي سنة عشر ومائة، وقال المفضل الغلابيّ: حدّثني رجل من بني عامر، من أهل الشام، قال: عطية بن قيس كان من التابعين، وكان لأبيه صحبة، وقال سعد بن عطية: مات أبي سنة (121) وهو ابن (104) سنة، قال ابن حبان في "الثقات": كان مولده سنة (17)، ومات قبل مكحول سنة (121).
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.
5 -
(قَزْعَةُ) -بفتحات، ويجوز إسكان الزاي، قاله النوويّ
(1)
- ابن يحيى، ويقال: ابن الأسود، أبو الغادية البصريّ، مولى زياد بن أبى سفيان، ويقال: مولى عبد الملك، بل هو من بني الْحَرِيش، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عُمَر وابن عَمْرو بن العاص، وأبي سعيد الخدريّ، وحبيب بن مسلمة، وأبي هريرة، وقَرْثَع الضبيّ، وجماعة.
وروى عنه عبد الملك بن عُمير، وعطية بن قيس، وقتادة، ومجاهد، وربيعة بن يزيد، وسهم بن مِنجاب، وعاصم الأحول، ويزيد بن أبي مالك الأنصاريّ، وإسماعيل بن محمد بن سعد، وطلق بن حبيب، وعمرو بن دينار، وآخرون.
قال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن زياد الهلاليّ، عن عبد الملك بن عُمير: ثنا قَزَعَة، وكان رجلًا يسبق الحاجّ في سلطان معاوية، وقال البزار: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم الرازيّ: لا ندري سمع منه قتادة أم لا؟.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط
(2)
.
والصحابيّ تقدّم في هذا الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
راجع: "شرح النووي" 4/ 176.
(2)
وله عند البخاريّ ثلاثة أحاديث فقط.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "يعني ابن مسلم"، وقوله:"وهو ابن عبد العزيز"، وقد مرّ البحث فيه مستوفر، غير مرّة، خلاصته أن شيخه لم ينسبهما، فأراد أن ينسبهما، فأتى بلفظ "يعني"، و"هو" للفصل بين ما نقله عن شيخه، وما زاده هو للتوضيح، فتنبّه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فخُوَارَزْميّ، ثم بغدادي، والصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن عطيّة وقَزَعة هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما لكل منهما فيه من الأحاديث.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عطيّة، عن قَزَعة، وهو أيضًا من رواية الأقران.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما أنه (قَالَ: لَقَدْ) اللام هي الموطّئة للقسم (كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ) أي ليصلّيها الناس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ) -بفتح الموحدة، وكسر القاف-: اسم لمقبرة المدينة النبويّة، وأصل البقيع: هو المكان الْمُتَّسِع، ويقال: الموضع الذي فيه شجر، ويُسمّى أيضًا بقيع الغَرْقد، والغرقد شجر له شوك، وكان ينبت هناك، فذهب، وبقي الاسم، وقال في "اللسان": والبقيع من الأرض: المكان المتّسِع، ولا يُسمَّى بقيعًا إلَّا وفيه شجر. انتهى
(1)
.
(فَيَقْضِي حَاجَتَهُ) من البول والغائط (ثُمَّ يَتَوَضأُ، ثُمَّ يَأْتِي) أي إلى المسجد، وفي الرواية التالية:"ثم يأتي أهله، فيتوضَّأ، ثم يرجع إلى المسجد"(وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
وَمَوْضِعَ الْحَالِ تَجِيءُ جُمْلَهْ
…
كَـ "جَاءَ زَيْدٌ وَهْوَ نَاوٍ رِحْلَهْ"
(1)
راجع: "لسان العرب" 8/ 18.
إلى أن قال:
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
وقوله: (مِمَّا يُطَوِّلُهَا)"من" تعليليّة، و"ما" مصدريّة؛ أي من أجل تطويله الصلاة بنا، ولفظ النسائيّ:"يطوّلها" بحذف"مما".
والحديث دليلٌ ظاهرٌ لاستحباب تطويل الركعة الأولى من صلاة الظهر؛ تكثيرًا للجماعة.
قال النوويّ رحمه الله: قد ثبت في أحاديث أُخَر في غير هذا الباب، وهي في "الصحيحين""أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أخفّ الناس صلاةً في تمام"، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأدخل في الصلاة، أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي؛ مخافةَ أن تُفْتَن أمه".
قال العلماء: كانت صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَخْتَلِف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له ولا لهم طَوَّل، وإذا لَمْ يكن كذلك خَفَّف، وقد يريد الإطالة، ثم يَعْرِض ما يقتضي التخفيف، كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفِّف.
وقيل: إنما طَوَّل في بعض الأوقات، وهو الأقل، وخَفَّف في معظمها، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف لأنه الأفضل، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وقال:"إن منكم منفِّرين، فأيُّكم صلّى بالناس فليخفِّف، فإن فيهم السقيمَ والضعيفَ وذا الحاجة".
وقيل: طَوَّل في وقت، وخفف في وقت؛ ليبيّن أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراط، بل يجوز قليلها وكثيرها، وإنما المشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختُلِف فيما زاد.
وعلى الجملة: السنّة التخفيف، كما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم للعلة التي بَيَّنَها، وإنما طَوَّل في بعض الأوقات؛ لتحققه انتفاء العلة، فإن تَحَقَّق أحدٌ انتفاءَ العلة طَوَّل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 176.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وسيأتي تمام البحث في هذا بعد بابين -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا [35/ 1025 و 1026](454)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(2/ 164)، وفي "الكبرى"(1/ 335)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(825)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 66)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1854)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1747)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1508 و 1009)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1026]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَزَعَةُ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، قُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يَسْأَلُكَ
(2)
هَؤُلَاءِ عَنْهُ، قُلْتُ: أَسْأَلُكَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لَكَ فِي ذَاكَ مِنْ خَيْرٍ
(3)
، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: كانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَأتِي أَهْلَهُ، فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى).
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "عما سألك".
(3)
وفي نسخة: "مالك من خير في ذلك".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين المروزيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل حديثين.
3 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِح) بن حُدير الْحَضرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحِمْصيّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ له أوهام [7](ت 158)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(رَبِيعَةُ) بن يزيد الإياديّ، أبو شعيب الدمشقيّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) 6/ 559.
والباقيان تقدّما قبله.
وقوله: (أَتَيْتُ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) وفي رواية أبي نعيم في "مستخرجه": انطلقنا إلى أبي سعيد الخدريّ في رجال من أهل العراق، فسألوه، قال: قلمت: أما أنا فلا أسألك إلَّا عن فرائض اللَّه، قال: إنه لا خير لك في أن تعلم كُنْه ذلك، ثم قال: أما إذ أبيتم، فلقد كانت الصلاة تقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فينطلق أحدنا إلى حاجته بالبقيع. . . الحديث، ونحوه لأبي عوانة في "مسنده".
وقوله: (وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ) أي عنده ناسٌ كثيرون للاستفادة منه، والجملة في محلّ نصب على الحال من المفعول.
وقوله: (عَمَّا يَسْأَلُكَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ) وفي نسخة: "عما سألك هؤلاء عنه".
وقوله: (مَا لَكَ فِي ذَاكَ مِنْ خَيْرٍ) وفي نسخة: "مالك من خير في ذلك"، ومعنى الكلام: أنك لا تستطيع الإتيان بمثلهَا؛ لطولها، وكمال خشوعها، وإن تكلفت ذلك شقّ عليك، ولم تُحَصِّله، فتكون قد عَلِمت السنّة وتركتها، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا مختصرٌ، وقد ساقه الإمام أحمد رحمه الله مطوّلَا بسند المصنّف، فقال:
(11325)
حدّثنا عبد اللَّه
(2)
، حدّثني أبي، ثنا عبد الرحمن بن مهديّ،
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 176.
(2)
هو ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.
قال: حدّثني معاوية يعني ابن صالح، عن ربيعة بن يزيد، قال: حدّثني قَزَعَة، قال: أتيت أبا سعيد، وهو مكثور عليه، فلما تفرّق الناس عنه، قلت: إني لا أسألك عما يسألك هؤلاء عنه، قلت: أسألك عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك في ذلك من خير، فأعادها عليه، فقال: كانت صلاة الظهر تقام، فينطلق أحدنا إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله، فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى.
قال: وسألته عن الزكاة، فقال: لا أدري أرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي أربعين شاةً شاةٌ إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدةٌ ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث شِيَاه، إلى ثلاث مائة، فإذا زادت ففي كلّ مائةٍ شاةٌ، وفي الإبل في خمسٍ شاةٌ وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاثُ شِيَاه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة، ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدةٌ، ففيها حقةٌ إلى ستين، فإذا زادت واحدةٌ ففيها جذعةٌ إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدةٌ، ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت واحدةٌ ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون.
وسألته عن الصوم في السفر، قال: سافرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، فكانت رخصةً، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلًا آخر، فقال:"إنكم مُصَبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزيمةً، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 35.
(36) - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1027]
(455) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: (ح)
(1)
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعَابِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَفْتَحَ "سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ"، حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ
(2)
، أَوْ ذِكْرُ عِيسَى -مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ يَشُكُّ- أَوِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، أَخَذَتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَحَذَفَ، فَرَكَعَ، وَفِي حَدِيثِهِ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَلَمْ يَقُلِ: ابْنِ الْعَاصِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمصِّيصيّ الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصِّيِصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره، لَمّا دخل بغداد [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقة عابدٌ [11](تخ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
وفي نسخة: " (ح) قال" بتأخير "قال".
(2)
وفي نسخة: "ذكر موسى وهارون عليه السلام".
5 -
(عَبْدُ الرَّزَاقِ) بن همّام الْحِميريّ، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير، عمي، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرِ) بن رفاعة بن أمية بن عائذ بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم المخزومي المكي، ثقة [3].
رَوَى عن جده لأمه عبد اللَّه بن السائب بن أبي السائب المخزومي، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد اللَّه، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه جعفر، والزهريّ، وزياد بن إسماعيل المخزومي، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة، والوليد بن كثير، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم.
قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة مشهور، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه، وقال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (455)، وحديث (1143):"أَنَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟. . . "، و (2085):"لا ينظر اللَّه إليه يوم القيامة"، يعني الذي يجرّ إزاره خيلاء، و (2656):"جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القدر. . . ".
7 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ) هو: عبد اللَّه بن سفيان المخزوميّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [4].
رَوَى عن عبد اللَّه بن السائب المخزوميّ، وأبي أُمية بن الأخنس.
وروى عنه محمد بن عباد بن جعفر، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن عبد اللَّه بن صيفيّ، وغيرهم.
قال أحمد بن حنبل: ثقةٌ مأمونٌ، أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه هذا الحديث فقط
(1)
.
(1)
قال في "تهذيب التهذيب" 5/ 211: عَلَّق البخاريّ حديثه المذكور في "بابُ الجمع بين السورتين في الركعة"، فهو مذكور فيه ضمنًا؛ لأنه قال:"ويُذكر عن عبد اللَّه بن السائب"، فذكره، وقد وصله مسلم. انتهى.
8 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) هكذا النسخ بزيادة "ابن العاص"، والصواب أنه عبد اللَّه بن عمرو بن عبد القاريّ الحجازيّ، مقبول [4].
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وليس له عندهما إلَّا هذا الحديث.
[تنبيه]: قد أشرت آنفًا أنه وقع عند المصنّف "عبد اللَّه بن عمرو بن العاص"، وكذا هو عند ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما"
(1)
، وقد قال الحفّاظ: زيادة "ابن العاص" غلط.
قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ الجيّانيّ رحمه الله في "تقييده" ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث من حديث حجّاج، عن ابن جُريج، قال فيه:"وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص"، وفي حديث عبد الرزّاق، عن ابن جريج:"وعبد اللَّه بن عمرو"، ولم يقل:"ابن العاص"، وهذا هو الصواب، وعبد اللَّه بن عمرو المذكور في هذا الإسناد ليس ابن العاص، إنما هو رجلٌ من أهل الحجاز، روى عن محمد بن عبّاد بن جعفر.
وروى أبو عاصم النبيل
(2)
، ورَوح بن عبادة هذا الحديث عن ابن جريج، كما رواه عبد الرّزّاق.
ثم قال: حدّثنا أحمد بن محمد، قال: نا عبد الوارث، قال: نا قاسم بن
(1)
راجع: "صحيح ابن خزيمة" رقم (546)، و"صحيح ابن حبّان"(1815).
(2)
رواية أبي عاصم ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(649)
حدّثنا الحسن بن عليّ، حدّثنا عبد الرزاق، وأبو عاصم، قالا: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني أبو سلمة بن سفيان، وعبد اللَّه بن المسيب العابديّ، وعبد اللَّه بن عمرو، عن عبد اللَّه بن السائب، قال:"صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة. . . " الحديث.
وقال الإمام البخاريّ في "التاريخ الكبير" 5/ 152:
(461)
عبد اللَّه بن عمرو سمع منه محمد بن عباد بن جعفر، يُعَدُّ في أهل الحجاز، أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي سلمة بن سفيان، وعبد اللَّه بن عمرو، عن عبد اللَّه بن السائب: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ المؤمنين، فلما ذكر موسى وهارون، أو عيسي، شَكَّ محمد أخذته سعلة فركع. انتهى.
أصبغ، قال: نا الحارث بن أبي أُسامة، قال: نا رَوْح بن عُبادة، قال: نا ابن جُريج، قال: سمعت محمد بن عبّاد بن جعفر، قال: أخبرني أبو سلمة بن سفيان، وعبد اللَّه بن عمرو، وعبد اللَّه بن المسيّب العابديّ، عن عبد اللَّه بن السائب، قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى -محمد بن عبّاد شكّ، أو اختلفوا عليه- أخذت النبيّ صلى الله عليه وسلم سعلةٌ، فحذف، فركع، قال: وابن السائب حاضر ذلك.
قال الحارث: وحدّثنا هَوْذة بن خليفة، قال: نا ابن جريج بمثله في الإسناد والمتن. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وقوله: "ابن عمرو بن العاص" وَهَمٌ من بعض أصحاب ابن جريج، وقد رَوَيناه في "مصنف عبد الرزاق" عنه، فقال:"عبد اللَّه بن عمرو القاريّ"، وهو الصواب، وقال النوويّ: قوله: "ابن العاص" غَلَطٌ عند الحفاظ، والصواب حذفه، فليس هذا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص الصحابيّ المعروف، بل هو عبد اللَّه بن عمرو الحجازيّ التابعيّ، كذا ذكره البخاريّ في "تاريخه"، وابن أبي حاتم، وخلائق من الحفّاظ المتقدّمين والمتأخّرين. انتهى
(2)
.
وقال ابن خزيمة في "صحيحه"(1/ 275) بعد إخراج الحديث: وليس هو عبد اللَّه بن عمرو بن العاص السَّهْميّ. انتهى.
وقال الحافظ المزّيّ في "تهذيب الكمال"(15/ 363): عبد اللَّه بن عمرو بن عبد القاريّ ابن أخي عبد الرحمن بن عبد، وعبد اللَّه بن عبد، وقد ينسب إلى جدّه مذكور في ترجمة عمه عبد اللَّه بن عبد القاريّ، وقال محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن عبد اللَّه بن السائب، في القراءة في صلاة الصبح، فقال بعضهم: عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وهو وَهَمٌ، وقال بعضهم: عبد اللَّه بن عمرو بن عبد القاريّ، وقال بعضهم: عبد اللَّه بن عمرو المخزوميّ. انتهى كلام المزيّ رحمه الله.
(1)
"تقييد المهمل، وتمييز المشكل" 3/ 811 - 812.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 177 بزيادة من "الفتح" 2/ 299.
وقال الذهبيّ في "تذهيب تهذيب الكمال": وأخطأ من قال: هو ابن عمرو بن العاص. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من كلام هؤلاء النّقّاد أن الصواب حذف "ابن العاص"؛ لأنه ليس عبد اللَّه بن عمرو بن العاص المشهور، وإنما هو عبد اللَّه بن عمرو بن عبد القاريّ التابعيّ، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
9 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعَابِدِيُّ) -بالباء الموحدة- هو: عبد اللَّه بن المسيَّب بن أبي السائب صَيْفِيّ بن عابد بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مَخْزُوم العابديّ ابن أخي السائب، شريك النبيّ صلى الله عليه وسلم، صدوق، من كبار [3]، ووهِمَ من ذكره في الصحابة.
رَوَى عن ابن عمه عبد اللَّه بن السائب، وعن عُمَر، وابن عمر.
وروى عنه محمد بن عباد بن جعفر، وابن أبي مليكة، كان ممن ارتُثَّ يوم الدار، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر الزبير بن بكار أن عمار بن ياسر حمله على ظهره من الدار إلى أن دفعه إلى أمه، وذكره عليّ بن سعيد العسكريّ في الصحابة، حكاه أبو موسى المديني في "الذيل"، والحديث الذي أخرجه له سقط منه الصحابيّ فتَمّ عليه الوهم بذكر هذا، وذكر ابن حبان أنه مات في أيام ابن الزبير.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، أخرجا له هذا الحديث فقط، مقرونًا.
10 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ) بن أبي السائب صيفيّ بن عابد بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم المخزوميّ، أبو السائب، ويقال: أبو عبد الرحمن المكيّ القارئ، له ولأبيه صحبة، وكان أبوه شريك النبيّ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمد على خلاف فيه، وعبد اللَّه بن عَمْرو العابديّ، وليس بابن العاص، وابن عمه عبد اللَّه بن المسيَّب بن أبي السائب العابديّ، وأبو سلمة بن سفيان، وعُبيد المكيّ، وعطاء، ومجاهد، والمؤمّل بن وهب المخزوميّ، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وكان قارئ أهل مكة، أخذ عنه أهل مكة القراءة، قرأ عليه مجاهد وغيره، وقيل: إنه مولى مجاهد مِن فوقُ، وتُوُفِّي بمكة قبل عبد اللَّه بن الزبير بيسير، وهو عبد اللَّه بن السائب قائد ابن عباس، أفرده صاحب "الكمال" بالذكر، وهو هو.
قال الحافظ: اقتصر المزيّ على رقم "الأدب المفرد" للبخاريّ مع الباقين، وقد عَلَّق البخاريّ حديثه في "الجامع" أيضًا.
وقرأ ابن السائب على أُبَيّ بن كعب، وقال ابن جريج، عن ابن أبي مليكة: رأيت ابن عباس لما فرغوا من دفن عبد اللَّه بن السائب قام ابن عباس، فوقف على قبره، فدعا له، وانصرف.
قال الحافظ: فعلى هذا يكون مات قبل ابن الزبير بمدة لا يعبر عنها بيسير؛ لأن ابن عباس مات قبل ابن الزبير بخمس سنين. انتهى.
علّق له البخاريّ، وأخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان بالتحويل.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من محمد بن عبّاد.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن ثلاثة من التابعين: محمد بن عبّاد، عن أبي سلمة بن سفيان، وعبد اللَّه بن عمرو، وعبد اللَّه بن المسيّب.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو من المقلّين من الرواية، فليس له إلَّا هذا الحديث عن المصنّف، والأربعة، وعلّقه البخاريّ.
[تنبيه]: اختُلِف على ابن جريج في إسناد هذا الحديث، فقال ابن عيينة عنه، عن ابن أبي مليكة، عن عبد اللَّه بن السائب، أخرجه ابن ماجه، وقال أبو عاصم عنه، عن محمد بن عباد، عن أبي سلمة بن سفيان، أو سفيان بن أبي سلمة، قال في "الفتح": وكأن البخاريّ عَلَّقه بصيغة التمريض، فقال:"ويُذْكَر عن عبد اللَّه بن السائب، قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم المؤمنون". . .؛ لهذا الاختلاف، مع أن إسناده مما تقوم به الحجة. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مثل هذا الاختلاف لا يضرّ في صحّة الحديث، ولذا أخرجه المصنّف هنا عن هارون بن عبد اللَّه، عن حجّاج بن محمد الأعور -وعن محمد بن رافع، عن عبد الرزّاق- وأخرجه أبو داود، عن الحسن بن عليّ، عن عبد الرزّاق -وأبي عاصم- ثلاثتهم عن ابن جريج، عن محمد بن
عبّاد بن جعفر، عن أبي سلمة بن سُفيان، وعبد اللَّه بن عمرو، وعبد اللَّه بن المسيّب العابديّ، ثلاثتهم عن عبد اللَّه بن السائب رضي الله عنهما.
وأخرجه النسائيّ عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن جريج، عن محمد بن عبّاد، عن ابن سفيان، عن عبد اللَّه بن السائب رضي الله عنهما.
فقد اتّفق حجّاج الأعور، وعبد الرزّاق، وأبو عاصم، وخالد بن الحارث عن أنه عن ابن جريج، عن محمد بن عبّاد، فلا تضرّ مخالفة ابن عيينة فيه.
على أنه يَحْتَمِل أن يكون لابن جريج فيه إسنادان، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ) بأنه (قَالَ: صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي معنا، إمامًا لنا، فاللام هنا بمعنى "مع"، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا
…
لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
(1)
(الصُّبْحَ) أي صلاة الصبح (بِمَكَّةَ) قال في "الفتح": قال الرافعيّ في "شرح المسند": قد يُستَدَلّ به على أن سورة المؤمنين مكيّة، وهو قول الأكثر، قال: ولمن خالف أن يقول: يَحْتَمل أن يكون قوله: "بمكة"؛ أي في الفتح، أو في حجة الوداع، قال الحافظ: قد صرّح بقضيّة الاحتمال المذكور النسائيّ في روايته، فقال:"في فتح مكة". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاستدلال بهذا الحديث على كون السورة مكيّة غريبٌ جدًّا؛ لأن الرواية يفسّر بعضها بعضًا، فرواية النسائيّ بيّنت المراد بأن ذلك وقع يوم فتح مكة، فلا كلام بعد هذا، فتفطّن، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
(فَاسْتَفْتَحَ "سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ") أي جعل ابتداء قراءته فاتحة سورة المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1].
والمراد قراءتها بعد الفاتحة، وإنما لم يذكره لكونه معلومًا عندهم، وفي رواية النسائيّ: "عن عبد اللَّه بن السائب قال: حضرت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم
(1)
وقيل: اللام في البيت بمعنى "بعد"، راجع:"مغني اللبيب" لابن هشام (ص 216) تحقيق الدكتور مازن.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 300.
الفتح، فصلّى في قُبُل الكعبة، فخلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فافتتح بسورة المؤمنين. . . ".
[تنبيه]: تقدّم أن السورة بلا همزة، وبالهمزة لغتان، ذكرهما ابن قتيبة وغيره، وترك الهمزة هنا هو المشهور الذي جاء به القرآن العزيز، ويقال: قرأت السورة، وقرأت بالسورة، وافتتحتها، وافتتحت بها، ذكره النوويّ رحمه الله.
(حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ) زاد في نسخة: "عليه السلام"، يعني قوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)} [المؤمنون: 45](أَوْ) للشكّ من الراوي (ذِكْرُ عِيسَى) عليه السلام، يعني قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} الآية [المؤمنون: 50]، وذكر عيسى متّصل في الآيات بذكر قصّة موسي، وفي رواية الطحاويّ:"على ذكر موسى، وعيسى".
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ يَشُكُّ) مبتدأ وخبره، يعني أن الشك في كون المذكور مع موسى هو هارون، أو عيسى من محمد بن عبّاد، وقوله:(أَوِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ) أي أو اختلف الرواة عنه في ذلك (أَخَذَتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ) قال النوويّ: بفتح السين، وقال العينيّ: بفتح السين وضمّها، والذي في كتب اللغة: أن السُّعْلة بالضمّ، ففي "القاموس": سَعَلَ، كنصر سُعَالًا، وسُعْلَةً بضمّهما، وهي حركةٌ تَدْفع بها الطبيعة أَذًى عن الرِّئة، والأعضاء التي تتّصل بها. انتهى
(1)
.
وفي "المصباح": سَعَلَ يَسْعُلُ، من باب قَتَلَ سُعْلَةً بالضمّ، والسُّعَالُ اسم منه. انتهى
(2)
.
وفي رواية ابن ماجه: "فلمّا بلغ ذكرُ عيسى وأمه أخذته سُعْلَةٌ، أو قال شَهْقَةٌ"، وفي رواية:"شَرْقةٌ" بمعجمة وقاف، قال السنديّ رحمه الله: قيل: أخذته بسبب البكاء. انتهى
(3)
.
(فَرَكَعَ) صلى الله عليه وسلم (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ) رضي الله عنهما (حَاضِرٌ ذَلِكَ) أي ما وقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة من السعلة، وقطعه القراءة وركوعه، وقوله:(وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَحَذَفَ، فَرَكَعَ) يعني أن هذا السياق لحجاج بن محمد،
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 395.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 277.
(3)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 2/ 176.
عن ابن جريج، وأما عبد الرزاق، فرواه عنه بلفظ:"فحذف، فركع"، فزاد لفظة:"فحذف"، ومعنى"حذف" ترك القراءة، وفسّره بعضهم برمي النُّخامة الناشئة عن السّعلة، والأول أظهر؛ لقوله:"فركع"؛ إذْ لو أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى فيها.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِ: "وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو") أي وقع في حديث عبد الرزّاق: "وعبد اللَّه بن عمرو"(وَلَمْ يَقُلِ: ابْنِ الْعَاصِ) أي لَمْ يزد قوله: "ابن العاص"، كما زاده حجاج، وهذا إشارة من المصنّف رحمه الله إلى أن الرواة اختلفوا على ابن جريج في زيادة "ابن العاص"، فزاده حجاج بن محمد، وأسقطه عبد الرزاق، وقد سبق أن الصواب حذفه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن السائب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد علّقه البخاريّ، كما سبق بيانه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1027](455)، و (البخاريّ) في "التاريخ الكبير"(5/ 152)، وعلّقه في "صحيحه"(2/ 255)، و (أبو داود) في "الصلاة"(649)، و (النسائيّ) فيها (2/ 176)، و (ابن ماجه) فيها (820)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2707)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 77)، و (الحميديّ) في "مسنده"(821)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 411)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(546)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1815 و 2189)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1794)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1015)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 389)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(604)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القراءة في صلاة الصبح، وهو مجمع عليه.
2 -
(ومنها): جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة، وهذا جائز بلا خلاف، ولا كراهة فيه إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن له عذرٌ فلا
كراهة فيه أيضًا، ولكنه خلاف الأولى عند الجمهور، وعن مالك: في المشهور عنه كراهته
(1)
.
3 -
(ومنها): جواز الاقتصار على بعض السورة، وتُعُقّب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأجل ضرورة السعلة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ جواز قراءة بعض السورة، وليس اعتمادًا على هذا الحديث؛ لما ذُكر، بل لأن الكراهة حكم لا يثبت إلَّا بدليل، ولا يوجد لذلك دليل، بل الأدلة على الجواز، وهي كثيرة:
(منها): ما أخرجه الإمام أحمد باسناد صحيح، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين، ولم يُذكر ضرورة، ففيه القراءة بالأول وبالأخير.
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 136]، وفي الثانية:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]، رواه مسلم.
(ومنها): ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أَمّ الصحابة رضي الله عنهم في صلاة الصبح بسورة البقرة، فقرأها في الركعتين، وهذا إجماع منهم.
(ومنها): ما رواه محمد بن عبد السلام الْخُشَنيّ -بضم الخاء المعجمة، بعدها معجمة مفتوحة خفيفة، ثم نون- من طريق الحسن البصريّ قال: غزونا خراسان، ومعنا ثلاثمائة من الصحابة رضي الله عنهم، فكان الرجل منهم يصلّي بنا، فيقرأ الآيات من السورة، ثم يركع، أخرجه ابن حزم محتجًّا به.
(ومنها): ما رواه الدارقطنيّ بإسناد قويّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كلّ ركعة.
فهذه الأحاديث الصحاح تدلّ على أن قراءة بعض السورة جائز بلا كراهة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى
(1)
راجع: "عمدة القاري" 6/ 59.
من التمادي في القراءة مع السعال والتنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استُحِبّ فيه تطويلها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1028]
(456) - (حَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:(ع)
(2)
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ع) وَحَدَّثَني أَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
(3)
الْوَلِيدُ بْنُ سَرِيعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) عن (74) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 2.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ حافظٌ إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.
3 -
(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(الْوَليدُ بْنُ سَرِيعٍ) -بفتح السين المهملة، وكسر الراء- الكوفيّ، مولى آل عمرو بن حُرَيث، صدوقٌ [4]
رَوَى عن عمرو بن حُريث، وعبد اللَّه بن أبي أوفَي، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، والمسعوديّ، ومسعرٌ، وأبو حنيفة، وخَلَف بن خَلِيفة، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبيّ في "الكاشف": ثقة
(4)
.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، أخرجا له هذا الحديث فقط، أخرجه المصنّف هنا برقم (456) وأعاده برقم (475).
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(2)
وفي نسخة: " (ح) قال".
(3)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(4)
"الكاشف" 3/ 238.
5 -
(عَمْرُو بْنُ حُرَيْثِ) بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشيّ، أبو سعيد الكوفيّ صحابيّ صغير.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أخيه سعيد بن حُريث، وأبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وسعيد بن زيد، وعديّ بن حاتم.
وروى عنه ابنه جعفر، وابن أخيه عمرو بن عبد الملك بن حُريث، ومولياه: أصبغ وهارون بن سَلْمان، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن عمير، والوليد بن سَرِيع، والمغيرة بن سُبَيع، والحسن الْعُرَنيّ، وخَليفة والد فِطْر، وأبو الأسود المحاربيّ، وخَلَف بن خليفة رآه رؤيةً، إن صحّ ذلك
(1)
.
قال الواقديّ: تُوُفِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن حُرَيث ابن ثنتي عشرة سنةً، وقال البخاريّ وغيره: مات سنة خمس وثمانين.
ورَوَى الخطيب في "المتَّفِقِ والمفتَرِق" من طريق أبي مَيْسَرة محمد بن الحسين الزعفرانيّ، قال: كان يكنى أبا سعيد، وهو في عداد الطُّلَقاء الصغار، حفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتُوُفّي سنة ثمان وتسعين.
قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر، ولعله بتقديم السين، فقد حَكَى خليفة بن خياط في "تاريخه" ذلك، وَقَرَّبه شُرَيح بن هانئ وغيره.
وقال ابن حبان في "الصحابة": وُلِد يوم بدر، ومات بمكة سنة (85)، وقال ابن إسحاق: قُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن (12) سنةً. انتهى.
ويُشكِل على هذا ما رواه أبو داود، من طريق فِطْر بن خليفة، ثنا أبي، عن عمرو بن حُريث، قال: خَطّ لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينة. . . الحديث، فإن ظاهره أول كان في زمنه صلى الله عليه وسلم رجلًا، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن سعد: ولي الكوفة لزياد، ولابنه عبيد اللَّه بن زياد
(2)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (456) وأعاده برقم (475)، وحديث (800): "اقرأ عليّ، قال: أأقرأ عليك،
(1)
وقد أنكره الإمام أحمد، وقال: لعله رأى ولده جعفر بن عمرو بن حُريث، فشبّه عليه، راجع:"تهذيب التهذيب" 1/ 547.
(2)
راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 263.
وعليك أنزل؟. . . "، و (1359): "خطب الناس، وعليه عمامة سوداء"، وأعاده بعده، و (2049): "الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين"، وكرّره ستّ مرّات.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"ابن بشر": هو محمد بن بشر العبديّ، و"مسعر": هو ابن كدام.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ فرّق بينهم بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن ملتقى الأسانيد الثلاثة هو مسعر رضي الله عنه، فكلّ من يحيى بن سعيد، ووكيع، وابن بشر يروون عن مسعر.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى زهير، فبغداديّ، ويحيى بن سعيد، فبصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له"، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في غير موضع.
5 -
(ومنها) أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له من الأحاديث إلَّا نحو عشرة أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"(7/ 336 - 340)، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) بصيغة التصغير المخزوميّ رضي الله عنه (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ) أي في صلاة الفجر إمامًا ({وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)}) أي السورة التي فيها هذه الآية، وفي الرواية الآتية برقم (475) من طريق خلف بن خليفة، عن الوليد بن سَرِيع، عن عمرو بن حُريث قال: صلّيت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم الفجر، فسمعته يقرأ {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} ، وفي رواية النسائيّ:"قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} ".
فقوله: {وَاللَّيْلِ} قسم أقسم اللَّه عز وجل فيه بالليل، وله عز وجل أن يُقسم ببعض مخلوقاته، وأما المخلوق فلا يجوز له أن يُقسم إلَّا باللَّه عز وجل، وسيأتي تمام البحث في هذا في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقوله: {إِذَا عَسْعَسَ} وقال جمهور أهل اللغة: معنى عَسْعَسَ الليلُ: أدبر، كذا نقله صاحب "المحكم" عن الأكثرين، ونَقَل الفرّاء إجماع المفسرين عليه، قال: وقال آخرون: معناه: أقبل، وقال آخرون: هو من الأضداد، يقال: إذا أقبل، وإذا أدبر، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وفي الحديث مشروعيّة قراءة هذه السورة في صلاة الصبح أحيانًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمرو بن حُريث رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1028](456) ويأتي في [40/ 1071](475)، و (أبو داود) في "الصلاة"(817)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 194)، و (ابن ماجه) فيها (817)(2/ 157)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2721)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 77)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1055 و 1209)، و (الحميديّ) في "مسنده"(567)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 353)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 306 - 307)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 297)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1819)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1457)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1783 و 1784 و 1785 و 1786)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1011)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 388)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(603)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 178.
[1029]
(457) - (حَدَّثَنِي
(1)
أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ، وَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} حَتَّى قَرَأَ: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أُرَدِّدُهَا، وَلَا أَدْرِي مَا قَالَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من (80) سنة (خت م د ت س)، تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ) -بكسر العين المهملة- الثعلبيّ، أبو مالك الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [3](ت 135) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 208.
4 -
(قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ) الثَّعْلبي -بالثاء المثلّثة- ويقال: الذُّبْيَانيّ، سكن الكوفة، صحابيّ، رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن أرقم، وروى عنه ابن أخيه زياد بن عِلاقة بن مالك، والحجاج بن أيوب مولى بني ثعلبة، قال ابن السكن: سمعت ابن عُقدة يقول: قطبة بن مالك من بني ثُعَل، وصوابهْ الثُّعَليّ، قال ابن السكن: والناس يخالفونه، ويقولون: الثَّعْلبيّ.
قال الحافظ: ذكر الدارقطنيّ، وابن السكن، والحاكم، والأزديّ، والبغويّ، وغيرهم أن زياد بن عِلاقة تفرد بالرواية عنه، وقد أفاد الحافظ المزيّ له راويًا آخر -أي وهو الحجاج بن أيوب- قال: وظَفِرت بثالث، ذكره ابن المدينيّ في "التاريخ والعلل"، وهو عبد الملك بن عُمير، ولما ذكره ابن حبان في الصحابة قال: قطبة بن مالك الثعلبيّ، مولى بني ثعلبة بن يربوع.
أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، له عنده هذا الحديث فقط، كرّره ثلاث مرّات، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، له عندهم أيضًا هذا الحديث، وله عند الترمذيّ أيضًا حديث آخر في الدعاء:"اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء".
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (52) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فعلّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، سوى ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنّ صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلَّا الحديثان المذكوران آنفًا
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ) الثعلبيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ، وَصَلَّى بنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وقوله:"بنا" أَي معنا، فالباء للمصاحبة، كما تقدّم في اللام من قوله:"صلّى لنا"، والصلاة التي صلّى بهم هي الفجر كما يأتي بيانها في الرواية التالية (فَقَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ({ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}) أي هذه السورة، واختُلِف في معنى {ق} وقال الإمام ابن كثير رحمه الله:{ق} حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور، كقوله تعالى:{ص} ، و {ن} ، و {ألَمْ} ، و {حمَ (1)} ، و {طس} ، ونحو ذلك، قاله مجاهد وغيره، وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقد رُوِي عن بعض السلف أنهم قالوا:{ق} جبل محيط بجميع الأرض، يقال له: جبل قاف، وكأن هذا -واللَّه أعلم- من خُرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لَمّا رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يُلَبِّسون به على الناس أمر دينهم، كما افتُرِيَ في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها، أحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قِدَم، فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول الْمَدَى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب اللَّه وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله:"وحدِّثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج"،
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 523 - 524.
أخرجه البخاريّ، فيما قد يُجَوِّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليمس من هذا القبيل، واللَّه أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، وللَّه الحمد والمنّة، حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيّ رحمه الله، أورد ها هنا أثرًا غريبًا لا يصح سنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: حدثنا أبي، قال: حُدِّثت عن محمد بن إسماعيل المخزوميّ، حدّثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خَلَق اللَّه تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحرًا محيطًا بها، ثم خَلَق من وراء ذلك البحر جبلًا، يقال له: قاف، سماء الدنيا مَرْفُوفة عليه، ثم خلق اللَّه تعالى من وراء ذلك الجبل أرضًا مثل تلك الأرض سبع مرّات، ثم خلق من وراء ذلك بحرًا محيطًا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلًا يقال له: قاف، السماء الثانية مرفوفة عليه، حتى عَدّ سبع أرضين، وسبعة أبحر، وشبعة أجبل، وسبع سماوات، قال: وذلك قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]، فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع، والذي رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل:{ق} هو اسم من أسماء اللَّه عز وجل، والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء، كقوله تعالى:{ص} ، و {ن} ، و {حم} ، و {طس} ، و {الم} ، ونحو ذلك، فهذه تُبْعِد ما تقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: المراد قُضِيَ الأمرُ واللَّهِ، وأن قوله:{ق} دلّت على المحذوف من بقية الكلمة، كقول الشاعر:
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
(1)
قال ابن كثير: وفي هذا التفسير نظرٌ؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دَلّ دليل عليه، ومن أين يُفْهَم هذا من ذكر هذا الحرف؟. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
شطر بيت، عجزه:"لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الإِيجَافْ".
(2)
"تفسير ابن كثير" 4/ 222 - 223.
وقوله تعالى: ({ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}) أي الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحَكَى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)} [ق: 4]، قال ابن كثير رحمه الله: وفي هذا نظر، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم، وهو إثبات النبوّة، وإثبات المعاد، وتقريره وتحقيقه، وإن لم يكن القسم يُتَلَقَّى لفظًا، وهذا كثير في أقسام القرآن، كما تقدم في قوله:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} [ص: 1 - 2]، وهكذا قال ها هنا:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)} [ق: 1 - 2] أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر، كقوله جل جلاله:{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2]؛ أي وليس هذا بعجيب. انتهى
(1)
.
(حَتَّى قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ({وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}) بنصب {وَالنَّخْلَ} وعطفًا على {جَنَّاتٍ} ؛ أي وأنبتنا النخل، و {بَاسِقَاتٍ} وأي طِوالًا شاهقات، وهو منصوب على الحال.
وقال القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": والباسقات: الطِّوال، قاله مجاهد وعكرمة، وقال قتادة وعبد اللَّه بن شداد: بُسوقها: استقامتها في الطول، وقال سعيد بن جبير: مستويات، وقال الحسن وعكرمة أيضًا والفراء: مَوَاقير حَوَامل، يقال للشاة: بَسَقَت: إذا وَلَدت، والأول في اللغة أكثر وأشهر، يقال: بَسَقَ النخل بسوقًا: إذا طال، قال [من الوافر]:
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ
…
وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجٍ الْبَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا
…
وَفَاتَ ثِمَارُهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ
ويقال: بَسَق فلان على أصحابه؛ أي علاهم، وأبسقمت الناقة: إذا وَقَع في ضرعها اللبن قبل النتاج، فهي مُبْسِقٌ، ونُوقٌ مَبَاسيقُ.
ثم نقل عن الثعلبيّ أنه قال: قال قطبة بن مالك: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ "باصقات" بالصاد.
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 222 - 223.
وهذا الذي ذكره الثعلبيّ مخالف لما وقع في "صحيح مسلم" هنا، فإنه بالسين، فليُتنبّه
(1)
.
(قَالَ) قطبة بن مالك رضي الله عنه (فَجَعَلْتُ) أي شرعتُ (أُرَدِّدُهَا) أي أكرّر هذه الآية تعجبًا منها (وَلَا) نافية (أَدْرِي) أي لا أعلم (مَا) موصولة؛ أي الذي (قَالَ) بحذف العائد؛ لكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":
. . . . . . . . . . . . . .
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
أي قال صلى الله عليه وسلم، يعني أنه لَمْ يحفظ ما قرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية؛ لكونه مشغولًا بالتدبّر فيها، وإجالتها على فكره مرّةً بعد أخرى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث قُطْبة بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1029 و 1530 و 1031](457)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(306)، و (ابن ماجه) فيها (816)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(2719)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1256)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 77)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 353)، و (الحميديّ) في "مسنده"(825)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 297)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 25 و 26 و 27 و 28 و 29 و 30 و 31 و 32 و 33 و 34 و 35)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(527)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1814)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1787 و 1788 و 1789)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1012 و 1013 و 1014)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 388 - 389)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(602)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 6 - 7.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1030]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ (ع) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادٍ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)} ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(شَرِيك) بن عبد اللَّه النخعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، صدوقٌ يُخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8].
رَوَى عن زياد بن علاقة، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، والعباس بن ذَرِيح، وإبراهيم بن جرير العجلي، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وخلق.
ورَوَى عنه ابن مهدي، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويونس بن محمد المؤدب، والفضل بن موسى السيناني، وعبد السلام بن حرب، وابنا أبي شيبة، وغيرهم.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: سمع شريك من أبي إسحاق قديمًا، وشريك في أبي إسحاق أثبت من زهير، وإسرائيل، وزكريا. وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين: شريك ثقة، وهو أحب إلي من أبي الأحوص، وجرير، وهو يروي عن قوم لم يرو عنهم سفيان الثوري، قال ابن معين: ولم يكن شريك عند يحيى -يعني القطان- بشيء، وهو ثقة ثقة. وقال أبو يعلى: قلت لابن معين: أيما أحب إليك جرير أو شريك؟ قال: جرير، قلت: فشريك أو أبو الأحوص؟ قال: شريك، ثم قال: شريك ثقة، إلَّا أنه لا يتقن، ويغلط، ويذهب بنفسه على سفيان وشعبة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: شريك أحب إليك في أبي إسحاق أو إسرائيل؟ قال: شريك أحب إلي، وهو أقدم، قلت: شريك أحب إليك في منصور أو أبو الأحوص؟ فقال: شريك أعلم به، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان حسن الحديث، وكان أروى الناس
عنه إسحاق الأزرق. وقال علي بن حكيم عن وكيع: لم يكن أحد أروى عن الكوفيين من شريك، وقال الجوزجاني: شريك سيئ الحفظ، مضطرب الحديث مائل. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: شريك يحتج بحديثه؟ قال: كان كثير الخطأ، صاحب حديث، وهو يغلط أحيانًا، فقال له فضلك الصائغ: إنه حدّث بواسط بأحاديث بواطيل، فقال أبو زرعة: لا تقل بواطيل. قال عبد الرحمن: وسألت أبي عن شريك، وأبي الأحوص، أيهما أحب إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: في بعض ما لم أتكلم عليه من حديثه مما أمليت بعض الإنكار، والغالب على حديثه الصحة والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة، إنما أُتي به من سوء حفظه، لا أنه يتعمد شيئًا مما يستحق أن ينسب فيه إلى شيء من الضعف.
قال أحمد بن حنبل: ولد شريك سنة (90)، ومات سنة سبع وسبعين ومائة، وكذا أرّخه غير واحد، منهم ابن سعد، وقال: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث، وكان يَغْلَط. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: أخطأ في أربعمائة حديث. وقال ابن المثنى: ما رأيت يحيى، ولا عبد الرحمن حَدّثا عنه بشيء. وقال محمد بن يحيى بن سعيد، عن أبيه: رأيت في أصول شريك تخليطًا. وقال أبو جعفر الطبري: كان فقيهًا عالمًا. وقال أبو داود: ثقة يخطئ على الأعمش، زهير فوقه، وإسرائيل أصح حديثًا منه، وأبو بكر بن عياش بعده. وقال ابن حبان في "الثقات": ولي القضاء بواسط سنة (155)، ثم ولي الكوفة بعدُ، ومات بها سنة (7) أو (188)، وكان في آخر أمره يخطئ فيما روى، تغير عليه حفظه، فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط، وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة.
روى له البخاري في التعاليق، والمصنّف في المتابعة، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (457) و (1358) و (1463) و (1550) و (2231) و (2256) و (2548).
2 -
(ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيان الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (53) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: ({وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)}) أي يقرأ السورة التي فيها هذه الآية.
وقوله: ({طَلْعٌ نَضِيدٌ}) قال القرطبيّ رحمه الله: "الطَّلْعُ": هو أول ما يَخرُج من ثمر النخل، يقال: طَلَعَ الطَّلْعُ طُلُوعًا، وأطلعت النخلة، وطَلْعُها كُفُرَّاها قبل أن ينشقّ، وقوله:{نَضِيدٌ} أي متراكب قد نُضِّد بعضه على بعض، وفي البخاريّ:"النضيد": الْكُفُرَّى ما دام في أكمامه، ومعناه: منضود بعضه على بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة، والمفسّرون: معنى {نَضِيدٌ} : منضود، متراكبٌ بعضه فوق بعض، قال ابن قتيبة: هذا قبل أن ينشقّ، فإذا انشقّ كِمَامه، وتفرّق فليس هو بعد ذلك بنضيد. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1031]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(3)
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(4)
الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)} ، وَرُبَّمَا قَالَ:{ق} ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار) بن عثمان الْعَبديّ، أبو بكر البصريّ، المعروف ببندار، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ المعروف بغُنْدَر، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 7.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 178 - 179.
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(4)
وفي نسخة: "مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم في الباب الماضي، وزياد بن علاقة، وعمّه قطبة بن مالك تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
وقوله: (وَرُبَّمَا قَالَ: {ق}) فاعل "قال" ضمير زياد بن عِلاقة، كما بيّنته رواية أبي عوانة في "مسنده"، ولفظه من طريق أبي الوليد عن شعبة، عن زياد بن عِلاقة، قال: سمعت قطبة بن مالك، أنه صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فسمعته يقرأ في إحدى الركعتين في الصبح {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ، قال شعبة: وسألته مرّة أخرى، فقال: سمعته يقرأ بـ {ق} . انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل المعنى المراد: أن آية {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)} ، وهي الآية العاشرة من سورة {ق} كانت من جملة ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرؤه من سورة {ق} ، فكان يصل الآية المذكورة بما قبلها وما بعدها، فالإخبار بـ {ق} صحيح، والإخبار بهذه الآية، أو غيرها من السورة صحيح أيضًا، فليس مراد الراوي بيانَ عدد الآيات المقروءة من السورة، وإنما مراده الإخبار بأنه صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الفجر بهذه السورة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1032]
(458) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}، وَكَانَ
(1)
صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبله.
2 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 24) وله (4 أو 85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
(1)
وفي نسخة: "وكانت".
3 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيٌّ [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
4 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) الذُّهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، إلا في روايته عن عكرمة فمضطربٌ [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
والصحابيّ تقدّم في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابرِ بْنِ سَمُرَةَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ) قال الطيبيّ رحمه الله: "كان" في مثل هذه الأحاديث ليست بمعنى الاستمرار، كما في قوله تعالى:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، بل هي للحالة المتجدّدة، كما في قوله تعالى:{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الغالب في استعمال "كان" للاستمرار والدوام، لكنها تخرج عن ذلك حسبما يقتضيه المقام، كما في هاتين الآيتين، وكما في أحاديث القراءة هنا، فإنها ليست للدوام، بدليل الأدلة الأخرى التي تبيّن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ غيرها من السور في تلك الصلوات، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(فِي الْفَجْرِ) أي صلاة الفجر (بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}) يَحْتَمل أن يكون قرأها في ركعة، أو في ركعتين (وَكَانَ) وفي نسخة:"وكانت"(صَلَاتُهُ) صلى الله عليه وسلم (بَعْدُ) من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة لفظًا، ونيّة معناها؛ أي بعد ذلك (تَخْفِيفًا) الظاهر أن البعديّة للوقت الذي كان يقرأ فيه بالسورة المذكورة؛ أي كان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الوقت يُخفّف صلاته، فلا يقرأ مثل هذه السورة، بل كان يقرأ بأقلّ منها.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالبعديّة بعديّة القراءة، من الركوع والسجود ونحو ذلك؛ أي فكان ركوع النبيّ صلى الله عليه وسلم وسجوده أخفّ من قراءته، والأول أظهر، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1004.
ثم رأيت القاري كتب ما معناه: "وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا" أي بعد الفجر في بقية الصلوات، وقيل: بعد ذلك الزمان، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يطوّل أول الهجرة؛ لقلّة أصحابه، ثم لَمَّا كثُر الناس، وشقّ عليهم التطويل؛ لكونهم أهل أعمال، من تجارة، وزراعة خفّف رفقًا بهم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: خالف إسرائيل بن يونس زائدة في متن هذا الحديث، فقد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في "مسنده" من طريق عبد الرّزّاق، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلّون اليوم، ولكنه كان يُخَفِّف، كانت صلاته أخفّ من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: والظاهر أن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ؛ إذ يمكن حمله على اختلاف الأوقات، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم ويفعل تارة هذا وتارة هذا، كما يتّضح ذلك من روايات جابر بن سمرة رضي الله عنهما الآتية بعد هذا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1032 و 1033 و 1034 و 1035](458 و 459 و 460)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 91 و 102 و 103 و 105)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 353)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(526)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1816)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1929)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1790 و 1791)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1015
(1)
راجع: "المرقاة" 2/ 563.
(2)
راجع: "المسند" 5/ 104 رقم (21033)، و"مصنّف عبد الرزاق"(2720)، و (صحيح ابن حبّان)(1823)، و (مستدرك الحاكم)(1/ 240).
و 1016 و 1017)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 389)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1033]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ يُخَفِّفُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُصَلِّي صَلَاةَ هَؤُلَاءِ، قَالَ: وَأَنْبَأَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بـ {ق وَالْقُرْآنِ}
(2)
، وَنَحْوِهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 1245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(زُهَيْر) بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 62.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (وَلَا يُصَلِّي صَلَاةَ هَؤُلَاءِ) الظاهر أنه أشار إلى القوم الذين كانوا يطوّلون في صلاتهم بالناس، وهذا هو الذي يدلّ عليه قوله:"كان يُخفّف الصلاة".
ويَحْتَمِل أنهم كانوا يخفّفونها، ويبالغون في التخفيف، فكأنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم وإن كان يُخفّف فيها إلَّا أنه ليس مثل تخفيفهم، بل كان يقرأ مثل هذه السور، فيكون ذمًّا لهم في التخفيف البالغ؛ لمخالفته تخفيفه صلى الله عليه وسلم، فإنه وسط.
وقوله: (وَنَحْوِهَا) بالجرّ، وهو ظاهر، وقيل: بالنصب عطفًا على محلّ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: " {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ".
الجارّ والمجرور، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1034]
(459) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم في الباب الماضي.
والباقون تقدّموا في الباب، وشرح الحديث واضح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[135]
(460) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، وَفِي الصُّبْحِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ) سليمان بن داود بن الجارود البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقون تقدّموا قبله، وشرح الحديث واضحٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1036]
(461) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في السند الماضي.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
3 -
(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طرخان، أبو المعتمر، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقة عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(أَبُو الْمِنْهَالِ) سيّار بن سلامة الرياحيّ البصريّ، ثقة [4].
رَوَى عن أبي بَرْزة الأسلميّ، والبراء السَّلِيطيّ، وأبيه سلامة، وأبي العالية الرِّيَاحيّ البصريّ، وأبي مسلم الْجَرْميّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه سليمان التيميّ، وخالد الحذّاء، وعوف الأعرابيّ، ويونس بن عُبيد، وسَوّار بن عبد اللَّه العنبريّ الكبير، وشعبة، وحماد بن سلمة، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ صالح الحديث، وقال العجليّ: بصريٌّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (129)، وقال ابن سعد: كان ثقةً.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (461) وأعاده بعده، وحديث (647):"لا يبالي بعض تأخير صلاة العشاء. . . "، وكرره ثلاث مرّات.
5 -
(أَبُو بَرْزَةَ) نَضْلَة بن عُبيد، ويقال: نَضْلة بن عبد اللَّه، ويقال: اسمه عبد اللَّه بن نَضْلَة الأسلميّ، صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر الصدِّيق، وروى عنه ابنه المغيرة، وبنت ابنه منية بنت عبيد بن أبي برزة، وأبو المنهال الرِّيَاحيّ، والأزرق بن
قيس، وأبو عثمان النَّهْديّ، وأبو العالية الرِّياحيّ، وكِنَانة بن نُعيم، وأبو الوازع الراسبيّ، وسعيد بن عبد اللَّه بن جرير، وأبو طالوت عبد السلام بن أبي حازم، وآخرون.
قال البخاريّ: نزل البصرة، وذكر له حديثَ غَزَوتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وقال أبو نَضْرة، عن عبد اللَّه بن مَولة القشيريّ، قال: كنت بالأهواز، إذ مَرّ بي شيخ ضخم، فإذا أبو برزة، وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة، ثم البصرة، وغزا خُراسان، وقال الخطيب: شَهِد مع عليّ، فقاتل الخوارج بالنَّهْروان، وغزا بعد ذلك خُراسان، فمات بها، وقال أبو عليّ محمد بن عليّ بن حمزة المروزيّ: قيل: إنه مات بنيسابور، وقيل: بالبصرة، وقيل: بمفازة بين سِجِسْتان وهَرَاة، وقال خليفة: مات بخُراسان بعد سنة أربع وستين، بعدما أُخرج ابن زياد من البصرة، وقال غيره: مات في آخر خلافة معاوية، وجزم الحاكم أبو أحمد بسنة أربع، وقال ابن حبان: وقد قيل: إنه بَقِي إلى ولاية عبد الملك. انتهي، وبه جزم البخاري في "التاريخ الأوسط"، في "فصل من مات ما بين الستين إلى السبعين".
قال الحافظ رحمه الله: ومما يُؤَيِّد ذلك أن في "صحيح البخاريّ" أنه شَهِد قتال الخوارج بالأهواز، زاد الإسماعيليّ: مع المهلَّب بن أبي صُفْرة، وكان ذلك في سنة خمس وستين، كما جزم به محمد بن قُدامة وغيره، وكان عبد الملك قد وَلي الخلافة بالشام. انتهى
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، برقم (461) وأعاده بعده، وحديث (647):"لا يبالي بعض تأخير العشاء. . . "، وكرّره ثلاث مرّات، و (2472): "هذا منّي، وأنا منه
(2)
. . . "، و (2544): "لو أن أهل عمان أتيت ما سبّوك، ولا ضربوك"، و (2596): "لا تصاحبنا ناقةٌ عليها لعنة"، و (2618): "اعزِلِ الأذى عن طريق المسلمين"، وأعاده بعده.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 227 - 228.
(2)
قاله لجُلَيبيب الصحابيّ لمّا استُشهد رضي الله عنه.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فكوفيّ، ويزيد، فواسطيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: التيميّ، عن أبي المنهال، وهو أيضًا من رواية الأقران؛ إذ هما من الطبقة الرابعة.
5 -
(ومنها): أن أبا برزة، وأبا المنهال هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد عرفت ما لكلّ منهما فيه من الأحاديث فيما ذكرته آنفًا.
6 -
(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستّة من يُكنى بأبي بَرْزة، وكذا من يُسمّى بنَضْلة بن عُبيد غير الصحابيّ هذا.
7 -
(ومنها): أن جملة من يُكنى بأبي المنهال في الكتب الستّة ثلاثة:
(الأول): هذا المترجم هنا.
(الثاني): عبد الرحمن بن مُطعم المكيّ، ثقة من الثالثة (ت 106)(ع)، وله عند المصنّف حديثان، وسيأتي في "كتاب المساقاة" برقم (1589).
(الثالث): عبد الملك بن قتادة بن مِلْحان، مقبول من الثالثة أيضًا عند أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ التَّيْمِيِّ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، نُسب إلى بني تيم، وليس منهم، كما أسلفته آنفًا (عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ) سيّار بن سلامة الرِّيَاحيّ (عَنْ أَبِي بَرْزَةَ) نَضْلَة بن عُبيد الأسلميّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ) أي الصبح (مِنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) أي من ستين آيةً من القرآن إلى مائة آية.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وهو مختصر، وسيأتي للمصنّف مطوّلًا في "كتاب المساجد"، "باب استحباب التبكير بالصبح" برقم (647) ويأتي شرحه مستوفًى، وبيان مسائله هناك -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1037]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ
(2)
، عَنْ أَبِي بَرْن الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ آيَةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الإمام الحافظ الثقة المثبت الحجة العابد [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(خَالِدٌ الحذّاء) تقدَّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ آيَةً) يعني أن أقلّ ما يقرؤه صلى الله عليه وسلم في الصبح مقدار ستين آية، ثم يزيد بعده إلى أن يبلغ مائة آية.
قال الكرمانيّ رحمه الله: كان القياس أن يقول: ما بين الستين والمائة؛ لأن لفظ "بين" يقتضي الدخول على متعدّد، قال: ويَحْتمل أن يكون التقدير: يقرأ ما بين الستين وفوقها إلى المائة، فحُذف لفظ "فوقها"؛ لدلالة الكلام عليه. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1038]
(462) - (حَدَّثَنَا
(4)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ: إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ، وَهُوَ يَقْرَأُ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "عن أبي منهال".
(3)
راجع: "الفتح" 2/ 34.
(4)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
ذَكَّرْتَني بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، إمام دار الهجرة، أبو عبد اللَّه الفقيه، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "المقدّمة" ج 1 ص 378.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحافظ الحجة المثبت، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "المقدّمة" ج 1 ص 348.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه الحبر البحر الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
6 -
(أُمُّ الفَضْلِ بِنْتُ الحَارِثِ) هي: لبابة -بتخفيف الموحّدة- بنت الحارث بن حَزْن -بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، بعدها نون- ابن بُجَير بن الْهَرِم بن رُويبة بن عبد اللَّه الهلالية، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين لأبويها، وأختهن أم حُفيدة، واسمها هُزَيلة بنت الحارث، ولهن أختان من أمهن: سَلْمى، وأسماء بنت عُميس، وأختهن لبابة أم خالد بن الوليد، وهي الكبرى، وقيل: الصغرى، واسمها عَصْماء، ويقال: بل عَصْماء أخت أخرى لهنّ.
رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها ابناها: عبد اللَّه، وتَمّام، ومولاها عُمير بن الحارث، وأنس بن مالك، وقابوس بن أبي الْمُخارِق، وعبد اللَّه بن الحارث بن نَوْفل، وكُريب مولى ابن عباس.
قال ابن عبد البرّ: يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة
(2)
، وكان
(1)
وفي نسخة: "من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
(2)
واعترض هذا الحافظ في "الفتح"(2/ 288) فقال: والصحيح أخت عمر زوج =
النبيّ صلى الله عليه وسلم يزورها، ويَقِيلُ عندها، وكانت من الْمُنْجِبات، وَلَدت للعبّاس ستّة رجال، لَمْ تَلِد امرأة مثلهم، وهم: الفضل، وبه كانت تُكنى، ويُكنى زوجها العبّاس أيضًا أبا الفضل، وعبد اللَّه الفقيه، وعبيد اللَّه، وقُثَم، ومَعْبَد، وعبد الرحمن، وأم حبيبة سابعةٌ، وفي أم الفضل يقول عبد اللَّه بن يزيد الهلاليّ [من الرجز]:
مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْلِ
…
بِجَبَلٍ نَعْلَمُهُ أَوْ سَهْلِ
كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْنِ أُمُّ الْفَضْلِ
…
أَكْرِمْ بِهَا مِنْ كَهْلَةٍ وَكَهْلِ
عَمِّ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى ذِي الْفَضْلِ
…
وَخَاتِمِ الرُّسْلِ وَخَيْرِ الرُّسْلِ
قال: وأخوات أم الفضل لأبيها وأمها: ميمونة بنت الحارث زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولبابة الصغرى، وعَصْماء، وعَزّة، وهُزَيلة، أخواتٌ لأب وأمّ، كلُّهُنّ بنات الحارث بن حَزْن الهلاليّ، وأخواتهنّ لأمهن: أسماء، وسَلْمى، وسلامة بنات عُمَيس الْخَثْعَميّات، وأخوهن لأمهنّ: مَحْمِية بن جَزْء الزُّبَيديّ، فهنّ ستّ أخوات لأب وأمّ، وتسع أخوات لأمّ، أمهنّ كلهنّ هند بنت عَوْف الكنانية، وقيل: الْحِمْيَريّة، وهي العجوز التي قيل فيها: أكرم الناس أصهارًا، وقد قيل: إن زينب بنت خُزيمة الهلالية أختهنّ لأمهنّ أيضًا.
ورَوَى الدَّرَاوَرْديّ عن إبراهيم بن عقبة، عن كُريب، عن ابن عباس مرفوعًا:"الأخوات الأربعُ مؤمناتٌ: ميمونةُ بنت الحارث، وأم الفضل، وأسماء، وسَلْمى".
= سعيد بن زيد؛ لما سيأتي في "المناقب" من حديثه: "لقد رأيتني، وعمرُ موثقي وأخته على الإسلام"، واسمها فاطمة. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا وجه للاعتراض المذكور، فإن نصّ حديث سعيد بن زيد لا يدلّ على أن أخت عمر أول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله عنها، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل في مسجد الكوفة يقول: "واللَّه لقد رأيتني، وإن عمر لموثقي على الإسلام، قبل أن يسلم عمر. . . " الحديث، فليس في هذا النصّ دلالة على أنَّها قبل أم الفضل، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال ابن حبان في "الصحابة": ماتت قبل زوجها العباس بن عبد المطلب في خلافة عثمان رضي الله عنهم.
أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (462)، وحديث (1123):"أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة. . . " وأعاده بعده، و (1451):"لا تحرّم الإملاجة، ولا الإملاجتان"، وكرّره خمس مرّات.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك، وشيخه نيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عُبيد اللَّه.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، هي أمه.
6 -
(ومنها): أن فيه عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة.
7 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وقد تقدّموا غير مرّة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: إِنَّ أُمُّ الْفَضْلِ) لبابة (بِنْتَ الْحَارِثِ) الهلاليّة رمنها وفي رواية الترمذيّ: "عن أمه أم الفضل"(سَمِعَتْهُ) أي ابنَ عبّاس رضي الله عنهما، وفيه التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة؛ لأن السياق يقتضي أن يقول: سمعتني، وإنما لم يقل: إن أمي؛ لشهرتها بذلك، قاله في "العمدة"
(1)
. (وَهُوَ يَقْرَأُ) الضمير لابن عبّاس رضي الله عنهما، والجملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، وفيه التفات أيضًا؛ لأن السياق يقتضي أن يقول: وأنا أقرأ، وقوله:({وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}) منصوب على أنه مفعول به لـ "يقرأ" محكيّ؛ لقصد
(1)
"عمدة القاري" 67/ 33 - 34.
لفظه؛ أي يقرأ هذه السورة (فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ) تصغير "ابن" تصغير تلطّف وتعطّف (لَقَدْ) اللام هي الموطّئة للقسم؛ أي واللَّه لقد (ذَكَّرْتَنِي) بتشديد الكاف، فيه حذف المفعول الثاني لـ "ذَكّر" أي قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر الكرمانيّ في "شرح البخاريّ" أنه يُروى بتخفيف الكاف.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وفي ثبوت ما ذكره نظر؛ لأن ذَكَرَ المخفّف لا يناسب هنا، كما لا يخفي، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (بِقِرَاءَتِكَ) قال الكرمانيّ: ويُروى: "بقرآنك"
(1)
. (هَذِهِ السُّورَةَ) متعلّق "بقراءتك" على مختار البصريين؛ لقربه، أو بـ "ذكّرتني" على مختار الكوفيين؛ لتقدّمه، وإليه أشار ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" حيث قال:
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أهْلِ الْبَصْرَهْ
…
وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أَسْرَهْ
(إِنَّهَا) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
وجملة "إنّ. . . إلخ" مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدَّر، فكأنه قال لها: أيّ شيء ذكّرتك؛، فقالت: إنها (لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(يَقْرَأُ بِهَا) أي بسورة {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} [المرسلات: 1]، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ "سمعت" على رأي من يقول: إنها من أخوات "ظنّ"(فِي الْمَغْرِبِ) أي في صلاة المغرب.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: قوله: "يقرأ بها" إما حال، وإما استئناف، وعلى الحال يَحْتَمل سماعها منه صلى الله عليه وسلم القرآن بعد ذلك، وعلى الاستئناف لا يَحْتَمِل. انتهى
(2)
.
[فإن قلت]: سيأتي في الرواية التالية من طريق صالح بن كيسان، عن الزهريّ أن هذه الصلاة آخر صلوات النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"ثم ما صلّى بعدُ حتى قبضه اللَّه عز وجل"، وقد ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها أن الصلاة التي صلّاها
(1)
"شرح الكرمانيّ" 5/ 128.
(2)
"شرح الكرمانيّ" 5/ 128.
النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كانت الظهر، فكيف يُجمع بينهما؟.
[قلت]: يُجمَع بأن الصلاة التي حَكَتها عائشة رضي الله عنها كانت في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصلاة التي حكتها أمّ الفضل كانت في بيته صلى الله عليه وسلم، كما رواه النسائي:"صلّى بنا في بيته المغرب، فقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ}، وما صلّى بعدها صلاةً حتى قبِضَ".
[فإن قلت]: يعكُرُ على هذا ما رَوَاه الترمذيّ من طريق محمد بن إسحاق، عن الزهريّ عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، عن أمه أم الفضل، قالت:"خرج إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلّى المغرب، فقرأ بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، فما صلّاها بعدُ حتى لقي اللَّه"، وقال: حديث حسن صحيح.
[قلت]: يمكن الجمع بأن يُحْمَل قولُها: "خَرَج إلينا" على أنه خرج من مكانه الذي كان راقدًا فيه إلى الحاضرين في البيت، فصلّى بهم، فيحصل الالتئام بذلك في الروايات، وللَّه الحمد والمنّة
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم الفضل رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1038 و 1039](462)، و (البخاريّ) في "الأذان"(763)، و"المغازي"(4429)، و (أبو داود) في "الصلاة"(810)، و (الترمذيّ) فيها (308)، و (النسائيّ) فيها (2/ 168)، و (ابن ماجه) فيها (831)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 78)، و (الشافعيّ) في "مسنده" و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(2694)(1/ 79)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 257)، و (الحميديّ) في "مسنده"(338)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 339 و 340)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(519)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 288، و"عمدة القاري" 6/ 34.
(1832)
، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 211)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1761 و 1762 و 1763 و 1764 و 1765)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1019 و 1020)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 392)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(596)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1039]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ:(ح)
(2)
وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ:(ع) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ في حَدِيثِ صَالِحٍ: ثُمَّ مَا صَلَّى بَعْدُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عز وجل).
رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ، عابد فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) أبو نصر الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا"، وفي أخرى:"وحدّثناه".
(2)
وفي نسخة: " (ح) قال" في المواضع الثلاثة.
7 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [16](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
8 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
9 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلّم فيه بلا حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
10 -
(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [4](ت بعد 130 أو بعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا في هذا الباب، و"سفيان" هو: ابن عُيينة.
وقوله: (قال) قبل حاء التحويل في المواضع الثلاثة فاعله ضمير الراوي عن مسلم رحمه الله، فحاء التحويل، وما بعدها مقول القول، ووقع في بعض النسخ بتأخير "قال" عن الحاء.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ) كلٌّ من الأربعة: سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وصالح بن كيسان رووا عن الزهريّ.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الزهريّ الماضي، وهو: عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عبّاس، عن أم الفضل رضي الله عنهم.
وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ. . . إلخ) فاعل "زاد" ضمير الراوي؛ أي زاد الراوي، وهو إبراهيم بن سعد، عن صالح في حديثه. . . إلخ.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة التي أحالها المصنّف هنا على رواية مالك، ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 475) فقال:
(1761)
حدّثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث، أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ} . انتهى.
وأما رواية معمر، فقد ساقها أيضًا فيه، (1/ 475) فقال:
(1763)
وحدّثنا السلميّ، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنبا معمر، عن
الزهريّ، عن عبيد اللَّه، عن ابن عباس، عن أمه أم الفضل، قالت: إن آخر ما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة {وَالْمُرْسَلَاتِ} . انتهى.
وأما رواية يونس، وصالح، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1040]
(463) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِالطُّوَرِ فِي الْمَغْرِبِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفليّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقة عارف بالنسب [3].
رَوَى عن أبيه، وعمر، وابن عباس، ومعاوية، وعبد اللَّه بن عَدي بن الحمراء.
ورَوَى عنه أولاده: عمر، وجَبْر، وسعيد، وإبراهيم، وسعد بن إبراهيم، والزهري، وعمرو بن دينار، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة. وقال: قال محمد بن عمر: تُوُفي في خلافة سليمان بن عبد الملك، وكان ثقة، قليل الحديث. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة. وقال البخاري: نسبه لي ابنُ أبي أويس، عن ابن إسحاق، قال: وكان أعلم قريش بأحاديثها، وقد كان أبوه من أنسب قريش لقريش، وللعرب قاطبةً. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال خليفة بن خياط وغيره: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وذكر ابن سعد أنّ أبا مالك الْحِمْيري قال: رأيت نافع بن جبير يوم مات أخوه قد أَلْقَى رداءه وهو يمشي، وهذا يدل على أن محمدًا لم يبق إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، فإن نافعًا بقي بعده، ولم يدركها.
ولا يصح سماعه من عمر بن الخطاب، فإن الدارقطني نَصَّ على أن
حديثه عن عثمان مرسل. وقال له عبد الملك بن مروان: إني لأعرفك بالصدق.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (463) و (1220) و (2354) وأعاده بعده، و (2386) و (2556) وأعاده بعده.
2 -
(أَبُوهُ) جبير بن مطعِم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ الصحابيّ، كان عارفًا بالأنساب، مات رضي الله عنه سنة (8 أو 59)(ع) 10/ 746.
والباقون تقدّموا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، والظاهر أنه دخلها للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعي، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) وفي رواية ابن خزيمة من طريق سفيان، عن الزهريّ:"حدّثني محمد بن جبير"(عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِالطُّورِ) اختُلف في معناه، والأصحّ أنه الجبل الذي فيه الأشجار، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: الطور: هو الجبل الذي يكون فيه أشجار، مثلُ الجبل الذي كلّم عليه موسي، وأرسل منه عيسى عليه السلام وما لم يكن فيه شجر لا يُسمّى طُورًا، وإنما يقال له: جبل، قال: يُقسم اللَّه تعالى بمخلوقاته الدالّة على قدرته العظيمة، أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع له عنه، انتهى بتصرّف
(1)
.
وقوله: "يقرأ" كذا هو في "الموطّأ"، بصيغة المضارع، وفي رواية
(1)
راجع "تفسير ابن كثير" 4/ 307.
البخاريّ: "قرأ بالطور" بصيغة الماضي، وزاد البخاريّ في "الجهاد" من طريق محمد بن عمرو، عن الزهريّ:"وكان جاء في أسارى بدر"، ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو، عن الزهريّ:"في فداء أهل بدر"، وزاد الإسماعيليّ من طريق معمر:"وهو يومئذ مشرك"، وللبخاريّ في "المغازي" من طريق معمر أيضاَّ فَي آخره:"قال: وذلك أولَ ما وَقَر الإيمان في قلبي"، وللطبرانيّ من رواية أسامة بن زيد، عن الزهريّ نحوه، وزاد:"فأخذني من قراءته الكرب"، ولسعيد بن منصور، عن هشيم، عن الزهريّ:"فكأنما صُدِعَ قلبي حين سمعت القرآن".
واستُدِلّ به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق، إذا أداه في حال العدالة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَمَنْ بِكُفْرٍ أَوْ صِبًا قَدْ حَمَلَا
…
أَوْ فِسْقِهِ ثُمَّ رَوَى إِذْ كَمَلَا
يَقْبَلُهُ الْجُمْهُورُ وَالْمُشْتَهَرُ
…
لَا سِنَّ لِلْحَمْلِ بَلِ الْمُعْتَبَرُ
تَمْيِيزُهُ أَنْ يَفْهَمَ الْخِطَابَا
…
قَدْ ضَبَطُوا وَرَدُّهُ الْجَوَابَا
وقوله: (بِالطُّورِ) أي بسورة {الطُّورِ} ، وقال ابن الجوزيّ: يَحْتَمِل أن تكون الباء بمعنى "من"، كقوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الآية [الإنسان: 6]، وفيه أنه سيأتي ما يدلّ على أنه قرأ السورة كلّها، فلا يصحّ معنى "من"، فتنبّه. (فِي الْمَغْرِبِ) أي في صلاة المغرب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جبير بن مُطْعِم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1040 و 1041](463)، و (البخاريّ) في "الأذان"(765)، و"الجهاد"(3050)، و"المغازي"(4023)، و"التفسير"
(1)
2/ 290.
(4854)
، و (أبو داود) في "الصلاة"(811)، و (النسائيّ) فيها (2/ 169)، و (ابن ماجه) فيها (832)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 78)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(946)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(2692)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(12/ 79)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 357)، و (الحميديّ) في "مسنده"(556)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 84)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 296)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(514)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1833 و 1834)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 211)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1491 و 1496 و 1497)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1766 و 1767 و 1768 و 1769)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1021 و 1022)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 193)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(597)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القراءة في صلاة المغرب.
2 -
(ومنها): استحباب الجهر في قراءة صلاة المغرب، ولذا بوّب عليه الإمام البخاريّ في "صحيحه"، فإن أسرّ المصلّي فيها عمدًا، فقد أساء؛ لتركه السنّة، وإن كان سهوًا سجد سجدتي السهو.
3 -
(ومنها): مشروعيّة القراءة بسورة {الطُّورَ} في المغرب، وهو الراجح إذا لَمْ يشقّ على المأمومين، وقد كرهه الإمام مالك رحمه الله.
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: ذُكِر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال، نحو {الطُّورَ} ، {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، وقال الشافعيّ: لا أكره ذلك، بل استحبّه، وكذا نقله البغويّ في "شرح السنة" عن الشافعيّ، والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهية في ذلك، ولا استحباب، وأما مالك فاعتَمَد العمل بالمدينة، بل وبغيرها.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: استَمَرَّ العمل على تطويل القراءة في الصبح، وتقصيرها في المغرب، والحقّ عندنا أن ما صَحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وثبتت مواظبته عليه، فهو مستحبّ، وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه. انتهى كلامه رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أحسن كلام الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله هذا، فهو عين التحقيق، والبحث العميق، فكلّ ما صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قرأه في صلاته فلنا أن نَتَّبِعه في ذلك طال أم قصُر، فإن كانت قراءته بالاستمرار، كقراءته سورتي السجدة والإنسان في حبح الجمعة، فنستمرّ عليه، وإن كانت قراءته أحيانًا، مثل ما ذكر في أحاديث هذا الباب، فنعمل به أحيانًا، مع مراعاة حال المؤمنين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في الجمع بين الروايات المختلفة في قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": الأحاديث التي ذكرها البخاريّ في القراءة هنا ثلاثة، مختلفة المقادير؛ لأن "الأعراف" من السبع الطِّوال، و"الطور" من طوال المفصِّل، و"المرسلات" من أوساطه، وفي ابن حبان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ بهم في المغرب بـ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
قال: ولم أر حديثًا مرفوعًا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصَّل إلَّا حديثًا في ابن ماجه، عن ابن عمر، نَصَّ فيه على "الكافرون" و"الإخلاص"، ومثله لابن حبان، عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة، إلَّا أنه معلولٌ، قال الدارقطنيّ: أخطأ فيه بعض رواته.
وأما حديث جابر بن سمرة، ففيه سعيد بن سِمَاك، وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب.
قال: واعتَمَد بعض أصحابنا -يعني الشافعيّة- وغيرهم حديث سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطِوَال المفصَّل، وفي المغرب بقصار المفصل. . . الحديث، أخرجه النسائيّ، وصححه ابن خزيمة وغيره، وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن في الاستدلال به نظر
(1)
.
(1)
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي لا نظر فيه؛ لأنه ظاهر الدلالة، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
نعم حديث رافع الذي تقدم في المواقيت أنهم كانوا يَنْتَضِلون بعد صلاة المغرب، يدُلّ على تخفيف القراءة فيها.
قال: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه دليل على أن ذلك تكرر منه.
وأما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه
(1)
، ففيه إشعار بذلك؛ لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يُرِد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك، كما رآه من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أم الفضل رضي الله عنهما إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من {وَالْمُرْسَلَاتِ} ؛ لكونه كان في حال شدّة مرضه، وهو مظنة التخفيف.
قال: وهو يَرُدّ على أبي داود ادّعاء نسخ التطويل؛ لأنه رَوَى عقب حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار، قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد رضي الله عنه، ولم يبيّن وجه الدلالة، وكأنه لَمّا رأى عروة راوي الخبر عَمِل بخلافه حمله على أنه اطّلَع على ناسخه، ولا يخفى بُعْدُ هذا الحمل، وكيف تصح دعوى النسخ، وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلّاها بهم قرأ بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ} ؟.
قال ابن خزيمة في "صحيحه": هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلّي أن يقرأ في المغرب، وفي الصلوات كلها بما أحبّ، إلَّا أنه إذا كان إمامًا استُحِبّ له أن يُخفِّف في القراءة، كما تقدم. انتهى.
قال الحافظ: وهذا أولى من قول القرطبيّ: ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استَقَرّ عليه التقصير أو عكسه، فهو متروكٌ. انتهى
(2)
.
(1)
أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: "ما لك تقرأ في المغرب بقصار؟ وقد سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين".
(2)
"الفتح" 2/ 290 - 291.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن خزيمة: حسنٌ جدًا.
وحاصله أن تُحمَل هذه الأحاديث المختلفة في قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة على بيان إباحة كلّها، فيجوز للمصلّي أن يقرأ في حلواته كلّها بعد الفاتحة ما أحبّ من السور طِوَالها، وأوساطها، وقِصَارها، إلَّا أن يكون إمامًا، فيُستحبّ له التخفيف، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، لكن يستحبّ له أن يداوم على تطويل ما أطال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، كالصبح، وسيأتي تمام البحث في هذا بعد باب -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ادَّعَى الطحاويّ أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث الثلاثة على تطويل القراءة؛ لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدلّ لذلك بما رواه من طريق هشيم، عن الزهريّ، في حديث جبير، بلفظ:"فسمعته يقول: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} "، قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة في هذه الآية خاصة. انتهى.
قال الحافظ: وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصّة"، مع كون رواية هشيم، عن الزهريّ بخصوصها مُضَعَّفةً، بل جاء في روايات أخرى ما يدلّ على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاريّ في "التفسير":"سمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} الآيات إلى قوله: {الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي يطير"، ونحوه لقاسم بن أصبغ، وفي رواية أسامة، ومحمد بن عمرو المتقدمتين:"سمعته يقرأ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} "، ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى:"فاستمعت قراءته، حتى خرجت من المسجد".
ثم ادَّعَى الطحاويّ أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وكذا أبداه الخطابيّ احتمالًا، وفيه نظرٌ؛ لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لَمَا كان لإنكار زيد معنى.
وقد رَوَى حديث زيد هشامُ بن عروة، عن أبيه، عنه أنه قال لمروان: "إنك لَتُخِفُّ القراءة في الركعتين من المغرب، فواللَّه لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-
يقرأ فيها بـ "سورة الأعراف" في الركعتين جميعًا"، أخرجه ابن خزيمة، واختُلِف على هشام في صحابيه، والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت، وقال أكثر الرواة: عن هشام، عن زيد بن ثابت، أو أبي أيوب، وقيل: عن عائشة، أخرجه النسائيّ مقتصرًا على المتن دون القصة.
واستَدَلّ به الخطابي وغيره على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، وفيه نظر؛ لأن من قال: إن لها وقتًا واحدًا لم يحدّه بقراءة معينة، بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس، وله أن يَمُدّ القراءة فيها، ولو غاب الشفق.
واستَشْكَل المحب الطبريّ إطلاق هذا، وحمله الخطابيّ قبله على أنه يُوقِع ركعةً في أول الوقت، ويديم الباقي، ولو غاب الشفق، ولا يخفى ما فيه؛ لأن تعمّد إخراج بعض الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزأت، فلا يُحْمَل ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": اختُلِف في المراد بالْمُفَصَّل مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن، هل هو من أول "الصافات"، أو "الجاثية"، أو "القتال"، أو "الفتح"، أو "الحجرات"، أو "ق"، أو "الصف"، أو "تبارك"، أو "سَبِّح"، أو "الضحى" إلى آخر القرآن؟ أقوالٌ، أكثرها مُسْتَغْرَبٌ، اقتَصَر في "شرح المهذَّب" على أربعة من الأوائل، سوى الأول، والرابع، وحَكَى الأول والسابع والثامن ابن أبي الصيف اليمنيّ، وحَكَى الرابع والثامن الدزمازيّ
(1)
في "شرح التنبيه"، وحَكَى التاسع المرزوقيّ في "شرحه"، وحَكَى الخطابيّ والماورديّ العاشر.
والراجح "الحجرات"، ذكره النوويّ، ونَقَل المحب الطبريّ قولًا شاذًّا أن المفصَّل جميع القرآن.
(1)
ضبط هذا الاسم في "تاج العروس شرح القاموس" 4/ 36 بالدال المهملة، وزايين، بينهما ميم وألف، وردّ على صاحب "القاموس" حيث ضبطه بالذال المعجمة، ثم راء، والآخرة زاي، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا رجّح "الحجرات" في "الفتح"، ولم يذكر مستنده، والحقّ أنه {ق} ، كما سيأتي بيانه، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وأما ما أخرجه الطحاويّ من طريق زُرَارة بن أوفى، قال: أقرأني أبو موسى كتاب عمر إليه: "اقرأ في المغرب آخر المفصَّل، وآخر المفصَّل من {لَمْ يَكُن} إلى آخر القرآن"، فليس تفسيرًا للمفصَّل، بل لآخره، فدَلَّ على أن أوله قبل ذلك. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيقٌ نفيش.
ثمّ رأيت للحافظ ابن كثير رحمه الله بحثًا رجّح فيه كون أول المفصّل {ق} ، ودونك نصّه:
قال رحمه الله: سورة {ق} هذه السورة هي أول الحزب المفصَّل على الصحيح، وقيل: من الحجرات، وأما ما يقوله العوامّ: إنه من {عَمَّ} فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم.
قال: والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصّل ما رواه الإمام أحمد، قال:
(18542)
- حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، حدّثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفيّ، عن عثمان بن عبد اللَّه بن أوس الثقفيّ، عن جدّه أوس بن حُذيفة، قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسلموا من ثقيف، من بني مالك، أنزلنا في قبة له، فكان يختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد، فإذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلينا، فلا يَبرح يحدّثنا، ويشتكي قريشًا، ويشتكي أهل مكة، ثم يقول:"لا سواء، كنا بمكة مستذلين، أو مستضعفين، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سِجال الحرب علينا ولنا"، فمكث عنا ليلةً لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء، قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول اللَّه؟ قال: "طرأ عني حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه"، فسألنا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تُحَزِّبون القرآن؟، قالوا: نُحَزِّبه ستَّ سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورةً، وثلاث عشرة سورةً، وحزب المفصّل، من {ق} حتى تختم. انتهى.
قال ابن كثير رحمه الله: إذا عُلِم هذا، فإذا عددت ثمانيًا وأربعين سورة، فالتي بعدهن سورة {ق} ، بيانه: ثلاث: البقرة، وآل عمران، والنساء، وخمس: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءةُ، وسبع: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحِجْر، والنحل، وتسع: سبحان، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحجّ، والمؤمنون، والنور، والفرقان، وإحدى عشرة: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، وألم السجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس، وثلاث عشرة: الصافات، وص، والزُّمَر، وغافر، وحم السجدة، وحم عسق، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، والقتال، والفتح، والحجرات، ثم بعد ذلك الحزب المفصَّل، كما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فتعيّن أن أوله سورةُ {ق} ، وهو الذي قلناه، وللَّه الحمد والمنة. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله من ترجيح كون المفصّل من سورة {ق} هو الحقّ؛ للحديث المذكور، وهو حديث حسنٌ، وضعّفه بعضهم
(2)
؛ لضعف عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفيّ، والجواب عن هذا:
أما عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفيّ، فقد روى عنه جمع كثير، ووثقه ابن المدينيّ، والعجليّ، وابن حبّان، وقال ابن معين: صالح، وفي رواية عنه: ليس به بأس، وقال البخاريّ: مقارب الحديث
(3)
، وقال ابن عديّ: أحاديثه
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 221.
(2)
هو الشيخ الألبانيّ رحمه الله، أورده في "ضعيف أبي داود" رقم (297).
(3)
وأما قوله في "تت": وقال البخاريّ: فيه نظر، فقد خطّأه بعضهم، وقال: إنما قال ذلك بإثر حديث: "لا تتخذوا أصحابي غرضًا"، فقوله:"فيه نظر" للحديث، وليس للراوي، انظر:"التاريخ الكبير"(5/ 131)، و"الكامل" لابن عديّ (4/ 1484). ونقل الترمذيّ في "العلل الكبير" (ص 288) عن البخاريّ أنه مقارب الحديث. انتهى. انظر: هامش "تهذيب التهذيب" 2/ 375.
مستقيمة، وهو ممن يُكتب حديثه، وقال الدارقطنيّ: يعتبر به، وتكلّم فيه غيرهم.
وخلاصة القول فيه أنه حسن الحديث.
وأما عثمان بن عبد اللَّه بن أوس، فالحقّ أيضًا أنه حسن الحديث، فقد روى عنه جماعة، ووثّقه ابن حبّان، وقال الذهبيّ: محلّه الصدق، وحديث مثله يكون حسنًا بلا ريب.
والحاصل أن الحديث حسنٌ، فيُستفاد منه أن أرجح الأقوال في المفصّل قول من قال: إنه من {ق} إلى آخر السورة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[فائدة]: رمز بعضهم لتحزيب القرآن المذكور بقوله: "فَمِي بِشَوْق"، فالفاء لـ "الفاتحة"، والميم لـ "المائدة"، والياء لـ "يونس"، والباء لـ "بني إسرائيل"، والشين لـ "الشعراء"، والواو لـ "الصافّات"، والقاف لـ {ق} .
والمعنى أن ابتداء الحزب الأول من "الفاتحة"، والثاني من "المائدة"، والثالث من "يونس"، والرابع من "بني إسرائيل"، والخامس من "الشعراء"، والسادس من "الصافّات"، والسابع من {ق} ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1041]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: (ح)
(1)
وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ:(ع) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
(1)
وفي نسخة: بتأخير "قال" على الحاء في الموضعين.
رجال هذا الإسناد: أحد عشر: وكلهم تقدّموا قبل حديث، وزهير بن حرب تقدّم في الباب، و"سفيان": هو ابن عيينة.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ) أي هؤلاء الثلاثة: سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد رووه عن الزهريّ.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد الزهري الماضي، وهو: محمد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه، مثل متنه.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(16135)
حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه "سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور". انتهى.
وساقها الإمام البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:
(4854)
حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، قال: حدّثوني عن الزهريّ، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغِ هذه الآية:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)} قال: كاد قلبي أن يطير، قال سفيان: فأما أنا، فإنما سمعت الزهريّ يُحَدِّث عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {الطُّورَ} ، ولم أسمعه زاد الذي قالوا لي. انتهى.
وأما رواية معمر، فساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:
(3050)
حدَّثني محمود
(1)
، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ عن محمد بن جبير، عن أبيه، وكان جاء في أسارى بدر، قال:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {الطُّورَ} ". انتهى.
(1)
هو ابن غيلان.
وأما رواية يونس، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير" (2/ 116) مقرونًا فقال:
(1497)
حدّثنا أحمد بن رِشْدين المصريّ، ثنا يوسف بن عديّ، ثنا رِشْدين بن سعد، عن قُزة، وعُقيل، ويونس، عن الزهريّ، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} . انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء العاشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه اللَّه تعالى، والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب يوم الأحد المبارك 18/ 6/ 1426 هـ الموافق 24/ يوليو - تموز/ 2005 م.
أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".
ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الحادي عشر مفتتحًا بـ (37) - (بَابُ القِراءَةِ في العِشَاءِ) رقم الحديث [1042](464).
"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *