الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة العشاء 19/ 6/ 1426 هـ أول الجزء الحادي عشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج" رحمه اللَّه تعالى.
(37) - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1042]
(464) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَقَرَأَ في إِحْدَى الرَّكعَتَيْنِ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)})
(1)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسَّان الْعَنْبَرِيّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور، ذُكر في الباب الماضي.
4 -
(عَدِيّ) بن ثابت الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
5 -
(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، ومات رضي الله عنه سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
وفي نسخة: "بالتين والزيتون".
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، إلَّا الصحابيّ، فمدنيّ، ثم كوفيّ رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ عَدِيٍّ) الأنصاريّ الكوفيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) بن عازب رضي الله عنهما (يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ) فيه جواز قول: "العشاء الآخرة"؛ خلافًا لمن كرهه.، وفي رواية الإسماعيليّ:"فصلّى العشاء ركعتين"(فَقَرَأَ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ) هي الركعة الأولى، كما بيّنه النسائيّ من طريق يزيد بن زُريع، عن شُعبة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فقرأ في العشاء في الركعة الأولى. . . "، وقوله:({وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)}) مفعول به لـ "قرأ" محكيّ؛ لقصد لفظه، وفي نسخة: بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} ؛ أي قرأ تمام هذه السورة، وإنما قرأ في العشاء بقصار المفضَل؛ لكونه مسافرًا، والسفر يُطلب فيه التخفيف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 1042 و 1043 و 1044](464)، و (البخاريّ) في "الأذان"(767 و 769)، و"التفسير"(4952)، و"التوحيد"(7546)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1221)، و (الترمذيّ) فيها (315)، و (النسائيّ) فيها (2/ 173)، و (ابن ماجه) فيها (834 و 835)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 79)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 80)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(733)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(2706)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(1/ 359)، و (الحميديّ) في "مسنده"(726)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 286 و 353)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(522)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1838)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 155)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1023 و 1024 و 1025)،
و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 393)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(598)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1043]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءِ، فَقَرَأَ بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جميل بن طَرِيف الثّقَفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(لَيْث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيد) بن قيس الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، وتقدّم الكلام على الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1044]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الهمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
3 -
(مِسْعَر) بن كِدام الحافظ المشهور تقدّم في الباب الماضي، وكذا الباقيان ذكرا في السند الماضى.
وقوله: (فَمَا سَمِعْتُ أحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ) فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان حسن الصوت، وقد أخرج الترمذيّ في "الشمائل"، عن قتادة، قال:"ما بعث اللَّه نبيًا إلَّا حسن الصوت"، وزاد قوله:"وكان نبيكم حسن الوجه، حسن الصوت".
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "تخريج أحاديث الإحياء": ورويناه متصلًا في "الغيلانيات"، من رواية قتادة، عن أنس، والصواب الأول، قاله الدارقطنيّ، ورواه ابن مردويه في "التفسير" من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطرقه كلها ضعيفة. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1045]
(465) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَأْتِي، فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ، فَأَمُّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِـ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ"
(2)
، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ، وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، نَعْمَلُ بالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى
(3)
، فَافْتَتَحَ بـ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ"
(4)
، فَأَقَبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على مُعَاذٍ، فَقَالَ:"يَا مُعَاذُ أفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ بكَذَا، وَاقْرَأْ بِكَذَا". قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابرٍ، أَنَّهُ قَالَ: "اقْرَأْ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} ، {وَالضُّحَى (1)} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
(1)
"المغني عن حمل الأسفار" 1/ 565.
(2)
وفي نسخة: "فافتتح سورة البقرة".
(3)
وفي نسخة: "ثم أتانا".
(4)
وفي نسخة: "فافتتح سورة البقرة".
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
4 -
(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (54) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، وجابر رضي الله عنه ممن نزل مكة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرو بْنِ دِينَارٍ) الْجُمحيّ المكيّ رحمه الله.
[تنبيه]: (اعلم): أن هذا الحديث رواه عن جابر رضي الله عنه عمرو بن دينار، وأبو الزبير، ومُحارب بن دِثَار، وعبيد اللَّه بن مِقْسَم، فأما رواية عمرو فأخرجها المصنّف رحمه الله هنا عن سفيان بن عيينة، والبخاريّ عن شعبة، وفي "الأدب" له عن سَلِيم بن حَيّان، وثلاثتهم عن جابر رضي الله عنه.
وأما رواية أبي الزبير فهي الرواية التالية للمصنّف.
وأما رواية مُحارب بن دثار، فهي عند البخاريّ، وهي أيضًا عند النسائي مقرونةً بأبي صالح.
وأما رواية عبيد اللَّه، فهي عند ابن خزيمة، وله طُرُق أخرى غير هذه، قد تتبع الحافظ رحمه الله في "الفتح" ما يُحتاج إليه منها معزوًّا، وسأُلَخّص ذلك هنا -إن شاء اللَّه تعالى- قال: وإنما قدّمت ذكر هذه لتسهل الحوالة عليها
(1)
.
(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ) بن جبل بن عمرو بن
(1)
"الفتح" 2/ 226.
أوس الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ المشهور، شَهِد بدرًا، وما بعدها، وكان إليه الْمُنتَهَى في العلم بالأحكام، والقراءات، مات رضي الله عنه بالشام سنة (18) تقدّم في الإيمان 7/ 130. (يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بيّن الصلاة في الرواية الآتية من طريق منصور، عن عمرو، ولفظه: "كان يصلّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة"، قال الحافظ: فكأن العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرّتين. انتهى. (ثُمَّ يَأْتِي) وفي رواية منصور المذكورة: "ثم يرجع إلى قومه"(فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ) في رواية منصور: "فيُصلّي بهم تلك الصلاة"، وفي هذا رَدٌّ على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم غير الصلاة التي كان يصلّيها بقومه، وفي رواية الحميديّ عن ابن عيينة:"ثم يرجع إلى بني سَلِمة، فيصلِّيها بهم"، ولا مخالفة فيه؛ لأن قومه هم بنو سَلِمة، وفي رواية الشافعي عنه:"ثم يرجع فيصلّيها بقومه في بني سَلِمة"، ولأحمد:"ثم يرجع فيؤمنا"(فَصَلَّى) أي معاذ (لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ) أي صلاة العشاء الآخرة (ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ) أي وهم بنو سَلِمة -بفتح السين المهملة، وكسر اللام- (فَأَمَّهُمْ) أي في تلك الصلاة، كما بيّنته رواية منصور المذكورة، وفي رواية البخاريّ:"فصلّى العشاء"، قال في "الفتح": كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة، والطحاويّ، من طريق مُحَارب:"صلّى بأصحابه المغرب"، وكذا لعبد الرزاق، من رواية أبي الزبير، فإن حُمِل على تعدد القصة، كما سيأتي، أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازًا تَمَّ، وإلا فما في الصحيح أصحِّ. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
(فَافْتَتَحَ بِـ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ") وفي نسخة: "فافتتح سورة البقرة"؛ أي ابتدأ في قراءة "سورة البقرة" بعد قراءة الفاتحة، وإنما ترك ذكرها؛ لكونها معلومة مشهورة، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"فقرأ بالبقرة"، ولا دليل يُستَدَل به على من يكره أن يقول البقرة، بل يقول سورة البقرة؛ لأن هذا من تصرّف الرواة.
وفي رواية مُحارب: "فقرأ بسورة البقرة، أو النساء" على الشكّ، وللسّرّاج من رواية مِسعر، عن محارب:"فقرأ بالبقرة والنساء"، قال الحافظ:
(1)
"الفتح" 2/ 227.
كذا رأيته بخط الزكيّ البرزاليّ بالواو، فإن كان ضَبَطَه احْتَمَل أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة، وفي الثانية بالنساء.
ووقع عند أحمد من حديث بُريدة بإسناد قويّ: "فقرأ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] "، وهي شاذّةٌ، إلَّا إن حُمِل على التعدد.
(فَانْحَرَفَ رَجُلٌ) أي مال عن الصفّ، وخرج منه، يقال: انحرف عن كذا: مال عنه، قاله الفيّومي رحمه الله
(1)
.
[فإن قلت]: كان حقّه أن يقول: فسلّم رجل، فانحرف؛ لأن الانحراف يكون بعد السلام.
[قلت]: يُجاب عنه بأن المعنى: أراد الانحراف، فسلّم.
ووقع عند البخاريّ بلفظ: "فانصرف الرجل" بالتعريف، واللام فيه للعهد الذهنيّ، ويحتمل أن يراد به الجنس، فكأنه قال: واحد من الرجال؛ لأن المعرَّف تعريف الجنس كالنكرة في مؤدَّاه.
[تنبيه]: قال في "الفتح": لَمْ يقع في شيء من الطرق المتقدمة تسمية هذا الرجل، لكن رَوَى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"، والبزار، من طريقه، عن طالب بن حبيب، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال:"مَرَّ حَزْم بن أُبَيّ بن كعب بمعاذ بن جبل، وهو يصلّي بقومه صلاة العتمة، فافتتح بسورة طويلة، ومع حزم ناضح له. . . " الحديث، قال البزار: لا نعلم أحدًا سماه عن جابر إلَّا ابن جابر. انتهى.
وقد رواه أبو داود في "السنن" من وجه آخر، عن طالب، فجعله عن ابن جابر، عن حَزْم صاحبِ القصة، وابن جابر لَمْ يُدرك حَزْمًا، ووقع عنده "صلاة المغرب" وهو نحو ما تقدم من الاختلاف في رواية مُحارب.
ورواه ابن لَهِيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، فسماه حازمًا، وكأنه صَحَّفه، أخرجه ابن شاهين من طريقه.
ورواه أحمد، والنسائيّ، وأبو يعلي، وابن السكن بإسناد صحيح، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس، قال: "كان معاذ يؤم قومه، فدَخَل حَرَام،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 130.
وهو يريد أن يَسْقِي نخله. . . "، الحديث، كذا فيه براء بعدها ألف، وظن بعضهم أنه حَرَام بن مِلْحان، خالُ أنس، وبذلك جزم الخطيب في "المبهمات"، قال الحافظ: لكن لَمْ أره منسوبًا في الرواية، ويَحْتَمِل أن يكون تصحيفًا من حَزْم، فتجتمع هذه الروايات، وإلى ذلك يومئ صنيع ابن عبد البرّ، فإنه ذكر في الصحابة حرام بن أُبَيّ بن كعب، وذكر له هذه القصة، وعزا تسميته لرواية عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس، ولم أقف في رواية عبد العزيز على تسمية أبيه، وكأنه بَنَى على أن اسمه تصحَّف، والأب واحد، سماه جابر، ولم يسمه أنس.
وجاء في تسميته قول آخر، أخرجه أحمد أيضًا، من رواية مُعاذ بن رِفاعة، عن رجل من بني سَلِمة، يقال له: سُليم، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا نبي اللَّه إنّا نَظَلّ في أعمالنا، فنأتي حين نُمسِي، فنصلّي، فيأتي معاذ بن جبل، فينادى بالصلاة، فنأتيه، فيطوّل علينا. . . " الحديث، وفيه أنه استُشْهِد بأُحد، وهذا مرسلٌ؛ لأن معاذ بن رِفاعة لَمْ يدركه.
وقد رواه الطحاويّ، والطبرانيّ، من هذا الوجه، عن معاذ بن رِفاعة، أن رجلًا من بني سَلِمة، فذكره مرسلًا.
ورواه البزار، من وجه آخر، عن جابر، وسَمّاه سُليمًا أيضًا، لكن وقع عند ابن حزم من هذا الوجه، أن اسمه سَلْم -بفتح أوله، وسكون اللام- وكأنه تصحيف، واللَّه تعالى أعلم.
وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأَيَّد ذلك بالاختلاف في الصلاة، هل هي العشاء، أو المغرب؟ وبالاختلاف في السورة، هل هي "البقرة"، أو "اقتربت"؟ وبالاختلاف في عُذْر الرجل، هل هو لأجل التطويل فقط؛ لكونه جاء من العمل، وهو تَعْبَان، أو لكونه أراد أن يَسْقِي نخله إذ ذاك، أو لكونه خاف على الماء في النخل، كما في حديث بُريدة؟.
واستشكل هذا الجمع؛ لأنه لا يُظَنّ بمعاذ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم يأمره بالتخفيف، ثم يعود إلى التطويل.
ويجاب عن ذلك باحتمال أن يكون قرأ أَوّلًا بالبقرة، فلما نهاه قرأ "اقتربت"، وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره أن يقرأ بها، كما سيأتي.
ويَحْتَمل أن يكون النهي أَوّلًا وَقَع لما يُخشَى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام، ثم لما اطمأنّت نفوسهم بالإسلام، ظَنّ أن المانع زال، فقرأ بـ "اقتربت"؛ لأنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ "الطور"، فصادف صاحب الشغل.
وجَمَع النوويّ باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بـ "البقرة"، فانصرف رجل، ثم قرأ "اقتربت" في الثانية فانصرف آخر.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما جَمع به النوويّ رحمه الله أظهر، وأقرب، وحاصله أن الواقعتين حصلتا قبل أن ينهاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم لَمّا رفع الرجلان في وقت واحد، أو متقارب، نهاه صلى الله عليه وسلم، عن التطويل، وأمره بقراءة السور التي ذكرها له؛ وأما الحمل على التعدّد مع تخلّل النهي له فبعيد؛ لأن معاذًا رضي الله عنه من أفقه الصحابة رضي الله عنهم، فلا يُظنّ به أن يخالف ما أمره صلى الله عليه وسلم من القراءة بالسور التي ذكرها، أو نحوها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
ووقع في رواية أبي الزبير التالية للمصنّف: "فانطلق رجلٌ منّا"، وهذا يَدُلّ على أنه كان من بني سَلِمة، ويُقَوي رواية من سماه سُلَيمًا، قاله الحافظ.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لَمْ يظهر لي وجه التقوية على تسميته سليمًا، فلا مناسبة بين كونه من بني سلمة وتسميته سُليمًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(فَسَلَّمَ) أي تسليم الخروج من الصلاة (ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ) أي استأنف الصلاة بعد قطعها بالسلام، وأتمّها منفردًا، هذا هو الظاهر الذي يدلّ عليه قوله:"فسلّم"، فلا يكون حجة لمن قال: إنه فارق بالنيّة، وأتمّ بلا استئناف؛ لأن التسليم ينافي ذلك، لكن لو قيل: إذا كان قطع الصلاة، واستئنافها جائزًا، فالمفارقة بالنيّة، وإكمالها منفردًا يجوز من باب أولى لا يبعد، واللَّه تعالى أعلم.
(وَانْصَرَفَ) أي خرج من المسجد إلى بيته، أو إلى محلّ حاجته، ووقع في رواية سَلِيم بن حَيّان:"فتَجوَّز رجل، فصلّى صلاة خفيفةً".
ثم إن رواية المصنّف ظاهرة في أنه قَطَع الصلاة، لكن ذكر البيهقيّ أن محمد بن عَبّاد شيخ مسلم، تفرد عن ابن عيينة بقوله:"ثم سَلَّم"، وأن الحفاظ من أصحاب ابن عيينة، وكذا مِن أصحاب شيخه عمرو بن دينار، وكذا من
أصحاب جابر، لم يذكروا السلام، وكأنه فَهِمَ أن هذه اللفظة تدلّ على أن الرجل قطع الصلاة؛ لأن السلام يُتَحَلَّل به من الصلاة، وسائرُ الروايات تدلّ على أنه قَطَع القُدْوة فقط، ولم يَخْرُج من الصلاة، بل استَمَرّ فيها منفردًا.
قال الرافعيّ في "شرح المسند" -في الكلام على رواية الشافعيّ عن ابن عيينة في هذا الحديث: "فتَنَحَّى رجلٌ مِن خَلْفِه، فصلَّى وحده"-: هذا يَحْتَمِل من جهة اللفظ أنه قَطَع الصلاة، وتَنَحَّى عن موضع صلاته، واستأنفها لنفسه، لكنه غير محمول عليه؛ لأن الفرض لا يُقْطَع بعد الشروع فيه. انتهى.
ولهذا استَدَلّ به الشافعية، على أن للمأموم أن يقطع القُدْوة، ويُتِمّ صلاته منفردًا.
ونازع النوويّ فيه، فقال: لا دلالة فيه؛ لأنه ليس فيه أنه فارقه، وبنى على صلاته، بل في الرواية التي فيها أنه سَلَّم دليلٌ على أنه قطع الصلاة من أصلها، ثم استأنفها، فيدُلّ على جواز قطع الصلاة، وإبطالها لعذر
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما قاله النوويّ رحمه الله هو الأرجح؛ لوضوح حجته، وهو الذي مال إليه النسائيّ حيث بوّب بقوله:"خروجُ الرجل من صلاة الإمام، وفراغُهُ من صلاته في ناحية المسجد"، ثم أورد حديث الباب، وفيه:"فانصرف الرجل، فصلّى في ناحية المسجد"، وهو ظاهر في كونه قطع الصلاة، واستأنفها لنفسه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَالُوا) أي أصحاب معاذ (لَهُ) أي لذلك الرجل الذي قطع الائتمام به، وصلّى منفردًا (أَنَافَقْتَ) أي أصرت منافقًا، أو شابهتهم؟ وأصل النفاق مشتق من النّفَق، بفتحتين، وهو سَرَبٌ في الأرض، يكون له مخرجٌ من موضع آخر، يقال: نافق الْيَرْبُوعُ: إذا أَتَى النافِقَاء، ومنه قيل: نافق الرجلُ: إذا أظهر الإسلام لأهله، وأضمر غير الإسلام، وأتاه مع أهله، فقد خرج منه بذلك، ومحل النفاق القلبُ، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أنافقت": أي فعلتَ ما يفعله المنافق من الميل والانحراف عن الجماعة، والتخفيف في الصلاة، كما وصفهم اللَّه تعالى
(1)
"الفتح" 2/ 228.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 618.
بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142]، قالوه تشديدًا وتغليظًا. انتهى
(1)
.
(يَا فُلَانُ) كناية عن اسم الرجل، وإنما كنوا عنه سترًا له، وفي رواية أبي الزبير التالية:"فأخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق"، وفي رواية سَلِيم بن حَيّان:"فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافق"، وفي رواية البخاريّ:"فكان معاذ تناول منه"، أي ذكره بسوء، وهو قوله: إنه منافقٌ.
ويوفّق بين الروايتين بأن معاذًا قال ذلك أَوّلًا، ثم قاله أصحاب معاذ للرجل.
(قَالَ) الرجل (لَا) أي لم أنافق (وَاللَّهِ) إنما أقسم تأكيدًا لنفيه، وقوله:(وَلَآتِيَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) إما معطوف على جواب القسم؛ أي واللَّه لا أنافق، ولآتينّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإما إنشاء قسم آخر، والمقسم به مقدَّر؛ أي واللَّه لآتينّه صلى الله عليه وسلم.
(فَلَأُخْبِرَنَّهُ) أي قول معاذ له: إنه منافق، وفي رواية أبي الزبير التالية:"فلما بلغ ذلك الرجل دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبره ما قال معاذ"، وفي رواية النسائيّ:"فقال معاذ: لئن أصبحت لأذكرنّ ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول اللَّه، عَمِلتُ على ناضح لي. . . "، فذكر الحديث، وكان معاذًا سبقه بالشكوي، فلما أرسل إليه جاء، فاشتكى من معاذ.
(فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء (أَصْحَابُ نَوَاضِحَ) جمع ناضح، وهي الإبل التي يُستقى عليها الماء، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَضَحَ البعيرُ الماء، من بابي ضَرَبَ، ونَفَعَ: حَمَله من نهر، أو بئر؛ لسقي الزرع، فهو ناضحٌ، والأنثى ناضحة بالهاء، سُمِّي ناضحًا؛ لأنه يَنْضَحُ الْعَطَشَ؛ أي يَبُلُّهُ بالماء الذي يَحْمِله، هذا أصله، ثم استُعْمِل الناضح في كلّ بعير، وإن لَمْ يَحْمِل الماء. انتهى
(2)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1002 - 1003.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 609 - 610.
(نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ) أي نكدّ فيه بعمل الزراعة، وسقي النخيل بالنواضح؛ لأمر المعاش، وأراد الرجل بذلك الاعتذار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب عَمَل وتعبٍ شديد في النهار، ومن كان كذلك لا يستطيع تطويل الصلاة.
وفي رواية للنسائيّ: "فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إن معاذًا يصلّي معك، ثم يأتينا فيؤمّنا، وإنك أخّرت الصلاة البارحة، فصلّى معك، ثم رجع فأمّنا، فاستفتح بـ "سورة البقرة"، فلما سمعت ذلك تأخّرت، فصلّيتُ، وإنما نحن أصحاب نواضح، نعمل بأيدينا".
وفي رواية: "عملتُ على ناضحي من النهار، فجئت، وقد أُقيمت الصلاة، فدخلت المسجد، فدخلت معه في الصلاة، فقرأ سورة كذا وكذا، فطوّل، فانصرفتُ، فصلّيتُ في ناحية المسجد".
(وَإِن مُعَاذًا) بكسر همزة "إن" عطفًا على "إن" الأولى (صلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى) وفي نسخة: "ثم أتانا"(فَافْتَتَحَ بـ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ") وفي نسخة: "فافتتح سورة البقرة".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن معاذًا رضي الله عنه أراد أن يقرأها كلّها في تلك الصلاة، ويَحْتَمِل أنه أراد أن يقرأ بعضها، ويركع، فتوهّم الرجل أنه أراد إتمامها، فقطع صلاته، فعاتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إيهامه ذلك، فإنه سبب للتنفير.
لكن يُبعد هذا الاحتمال إنكاره صلى الله عليه وسلم، وتوبيخه على ذلك؛ إذ لو أراد أن يقرأ بعضها، لبيّن للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فعذره، وترك تعنيفه، واللَّه تعالى أعلم.
(فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) خطاب عتاب (أفَتَّانٌ أَنْتَ؟) مبتدأ وخبر، والهمزة للاستفهام الإنكاريّ والتوبيخيّ؛ أي أنت منفّرٌ عن الدين، وصادٌّ عنه، يعني أنه لا ينبغي، ولا يجوز لك ذلك.
وفي رواية أبي الزبير التالية: "أتريد أن تكون فتّانًا يا معاذ؟ "، وفي رواية النسائيّ:"أفتّانٌ يا معاذ، أفتّانٌ يا معاذ، أفتّانٌ يا معاذ؟ " بالتكرار ثلاثًا بالرفع، وفي "الكبرى" له:"أفتّانًا يا معاذ؟ " بالتكرار ثلاثًا، والنصب، ولأحمد في حديث معاذ بن رِفاعة المتقدم:"يا معاذُ لا تكن فاتنًا"، وزاد في حديث أنس:"لا تُطَوّل بهم".
ومعنى الفتنة ها هنا أن التطويل يكون سببأ لخروجهم من الصلاة، وللتكرُّه للصلاة في الجماعة.
ورَوَى البيهقيّ في "الشعب" بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: "لا تبغضوا اللَّهَ إلى عباده، يكون أحدكم إمامًا، فيُطَوِّل على القوم الصلاة، حتى يُبَغِّضَ إليهم ما هم فيه".
وقال الداوديّ: يَحْتَمِل أن يريد بقوله: "فَتّان"؛ أي معذِّب؛ لأنه عذَّبهم بالتطويل، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج: 10] قيل: معناه عذَّبوهم.
(اقْرَأْ بِكَذَا، وَاقْرَأْ بِكَذَا"، قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة (فَقُلْتُ لِعَمْرٍو) أي ابن دينار (إنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم المكيّ (حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: "اقْرَأَ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، {وَالضُّحَى (1)} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، زاد في رواية البخاريّ، من طريق الحميديّ، عن ابن عيينة مع الثلاثة الأُوَل:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} ، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} ، وفي رواية الليث، عن أبي الزبير التالية هنا:"فاقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ".
(فَقَالَ عَمْرٌو) أي ابن دينار: (نَحْوَ هَذَا) أي نحو ما ذكره أبو الزبير، وفي رواية البخاريّ:"وأمره بسورتين من أوسط المفصل، قال عمرو: لا أحفظهما"، أي قال عمرو بن دينار: لا أحفظ السورتين اللتين أمره أن يقرأ بهما، وكأنه قال ذلك في حال تحديثه لشعبة، وإلا ففي رواية سَلِيم بن حَيّان، عن عمرو:"اقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، ونحوها"، وقد تقدّم الخلاف في المراد بالمفصَّل، وصحح في "الفتح" أنه من أول {ق} إلى آخر القرآن.
وقوله: "أوسط" يَحْتَمِل أن يريد به المتوسط، والسورُ التي مَثَّلَ بها من قصار المتوسط، ويَحْتَمِل أن يريد به المعتَدِل، أي المناسب للحال من المفصَّل، قاله في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
2/ 229.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 1045 و 1046 و 1047 و 1048](465)، و (البخاريّ) في "الأذان"(700 و 701 و 711)، و"الأدب"(6106)، و (أبو داود) في "الصلاة"(599 و 600 و 790)، و (الترمذيّ)(583)، و (النسائيّ) فيها (2/ 102)، و (ابن ماجه) فيها (836)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1694)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 143)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1246)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 308 و 369)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(1524 و 1840)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 213)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1774 و 1775 و 1776 و 1777 و 1778 و 1779 و 1780)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1026 و 1027 و 1028 و 1029)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(327)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 274 - 275)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(857)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القراءة في صلاة العشاء، وهو مجمع عليه.
2 -
(ومنها): جواز صلاة المفترض خلف المتنفِّل؛ لأن معاذًا رضي الله عنه كان يصلي الفريضة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيُسْقِط فرضه، ثم يصلِّي مرةً ثانيةً بقومه، هي له تطوع، ولهم فريضة، وقد جاء هكذا مُصَرَّحًا به في غير مسلم، وهذا جائز عند الشافعي رحمه الله وآخرين، ولم يُجِزه ربيعة، ومالك، وأبو حنيفة، والكوفيون رحمهم اللَّه تعالى، وتأولوا حديث معاذ رضي الله عنه على أنه كان يصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تنفلًا، ومنهم من تأوله على أنه لم يعلم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: حديث معاذ كان في أول الأمر، ثم نُسِخ، قال النوويّ: وكلُّ هذه التأويلات دعاوي لا أصل لها، فلا يُتْرَك ظاهر الحديث بها. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله هو الحقّ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): جواز خروج المأموم عن صلاة الإمام، وصلاته منفردًا
لعذر، وأما بغير عذر فاستَدَلّ به بعضهم، وتُعُقِّب، وقال ابن المنير: لو كان كذلك لَمْ يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدةٌ، وفيه نظر؛ لأن فائدة اللأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردًا، وهذا كما استَدَلّ بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة، وفيه نحو هذا النظر، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: استَدَلّ أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أنه يجوز للمأموم أن يقطع القدوة، ويُتِمّ صلاته منفردًا، وإن لَمْ يخرج منها، وفي هذه المسألة ثلاثة أوجه لأصحابنا: أصحها أنه يجوز لعذر ولغير عذر، والثاني: لا يجوز مطلقًا، والثالث يجوز لعذر، ولا يجوز لغيره، وعلى هذا: العُذر هو ما يَسْقُط به عنه الجماعة ابتداءً، ويُعْذَر في التخلف عنها بسببه، وتطويل القراءة عذر على الأصح؛ لقصة معاذ رضي الله عنه.
قال: وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنه ليس في الحديث أنه فارقه، وبنى على صلاته، بل في الرواية الأولى أنه سَلَّم، وقطع الصلاة من أصلها، ثم استأنفها، وهذا لا دليل فيه للمسألة المذكورة، وإنما يدُلّ على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح أنه يجوز قطع الاقتداء، والصلاة وحده لعذر؛ لحديث قصّة معاذ رضي الله عنه، حيث أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل الذي قطع الاقتداء به، وصلّى وحده، وأما إذا لَمْ يكن لعذر فلا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أصلاتان معًا؟ "، وهو حديث صحيح، أخرجه مالك، وأبو داود، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من يُصلِّي صلاةً وحده بعد أن تقام الصلاة.
والحاصل أن قطع الاقتداء لعذر، جائز، وأما لغير عذر، فلا، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): استحباب تخفيف الصلاة مراعاةً لحال المأمومين، وأما من قال: لا يكره التطويل إذا عَلِم رضاء المأمومين، فَيُشكِل عليه أن الإمام قد لا يَعْلَم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، كما في حديث الباب،
(1)
"الفتح" 2/ 231.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 182.
فعلى هذا يكره التطويل مطلقًا إلَّا إذا فُرِض في مصلّ بقوم محصورين راضين بالتطويل، في مكان لا يدخله غيرهم.
5 -
(ومنها): أن الحاجة من أمور الدنيا عُذْرٌ في تخفيف الصلاة.
6 -
(ومنها): جواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قالوا، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل إذا كان هناك سبب، كمن صلّى وحده، أو في جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فيصلّي معهم، أو كان إمامًا فصلّى مع جماعة، ثم ذهب إلى مسجده، فيصلّي بقومه أيضًا، كما فعل معاذ رضي الله عنه، ونحو ذلك، وأما تكرار الصلاة الواحدة بدون سبب فيحتاج إلى دليل، واللَّه تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يُصَلَّى فيه بالجماعة إذا كان بعذر.
8 -
(ومنها): الإنكار بلطف؛ لوقوعه بصورة الاستفهام.
9 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه تعزير كلِّ أحد بحسبه.
10 -
(ومنها): الاكتفاء في التعزير بالقول.
11 -
(ومنها): الإنكار في المكروهات، كذا قيل، وفيه: فلم لا يكون من الحرام؟.
12 -
(ومنها): مشروعيّة التكرار ثلاثًا في الإنكار؛ للتأكيد، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم فَسَلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثًا.
13 -
(ومنها): أن فيه اعتذار مَن وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حقّ من وقع في محذور ظاهر، وإن كان له عذر باطنٌ؛ للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك؛ متأوِّلًا.
14 -
(ومنها): أن التخلُّف عن الجماعة من صفة المنافقين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز صلاة المفترض خلف المتنفّل:
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بعد إخراج الحديث ما نصّه:
والعمل على هذا عند أصحابنا: الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا أَمَّ الرجل القوم في المكتوبة، وقد كان صلّاها قبل ذلك أنّ صلاة من ائتَمّ به جائزة، واحتجّوا بحديث جابر في قصة معاذ، وهو حديث صحيح، وقد رُوي من غير وجه، عن جابر، ورُوي عن أبي الدرداء أنه سئل عن رجل دخل المسجد، والقوم في صلاة العصر، وهو يَحْسَب أنَّها صلاة الظهر، فائتم بهم، قال: صلاته جائزة.
وقد قال قوم من أهل الكوفة: إذا ائتَمّ قوم بإمام، وهو يصلّي العصر، وهم يَحسَبُون أنَّها الظهر، فصلّى بهم، واقتَدَوا به، فإن صلاة المقتدي فاسدة؛ إذ اختلف نية الإمام ونية المأموم. انتهى
(1)
.
وقال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختَلَف أهل العلم في هذا الباب، فقالت طائفة بظاهر قصّة معاذ رضي الله عنه، وقصّة صلاة الخوف
(2)
.
وممن قال بهذا عطاء بن أبي رَبَاح، وطاوس، وبه قال الشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وسليمان بن حرب، وأبو ثور، وقال بمثل هذا المعنى الأوزاعي.
وقالت طائفة: كلُّ من خالفت نيّته نيّة الإمام في شيء من الصلاة لَمْ يُعْتَدّ بما صلّى معه، واستأنف، هذا قول مالك بن أنس، ورُوي معنى ذلك عن الحسن البصريّ، وأبي قلابة، وبه قال الزهريّ، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وحَكَى أبو ثور عن الكوفيّ
(3)
أنه قال: إن كان الإمام متطوّعًا لم يُجْز من خلفه الفريضة، وإن كان الإمام مفترضًا، وكان من خلفه متطوّعًا كانت صلاتهم جائزة.
وكان عطاء، وطاوس يقولان في الرجل يأتي إلى الناس، وهم في قيام
(1)
راجع: "الجامع" للإمام الترمذيّ رحمه الله رقم (583).
(2)
أشار به إلى ما أخرجه النسائيّ رحمه الله في "سننه"(1555) بسند صحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف بالذين خلفه ركعتين، والذين جاءوا بعدُ ركعتين، فكانت للنبيّ أربع ركعات، ولهؤلاء ركعتين ركعتين".
(3)
الظاهر أن المراد به الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
رمضان، ولم يكن صلّى المكتوبة، قالا: يصلّي معهم ركعتين، فيبني عليهما ركعتين، ويَعتدّ به من العتَمَة، وأبى ذلك سعيد بن المسيِّب، والزهريّ، وقالا: يُصلّي معهم، ثم يُصلّي العشاء وحده.
ثم رجّح ابن المنذر: قول من قال بالجواز؛ عملًا بحديث الباب
(1)
.
وقال في "الفتح" عند شرح حديث الباب ما نصّه: واستُدِلَّ بهذا الحديث على صحة اقتداء المفتوض بالمتنفل؛ بناءً على أن معاذًا رضي الله عنه، كان ينوي بالأولى الفرض، وبالثانية النفل، ويدلّ عليه ما رواه عبد الرزاق، والشافعيّ، والطحاويّ، والدارقطنيّ، وغيرهم، من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه في حديث الباب، زاد:"هي له تطوُّع، ولهم فريضةٌ".
قال الحافظ رحمه الله: وهو حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تُهْمة تدليسه.
فقول ابن الجوزيّ: "إنه لا يصحّ" مردود، وتعليل الطحاويّ له بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتمّ من سياق ابن جريج، ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح في صحته؛ لأن ابن جريج أسنّ، وأجلّ من ابن عيينة، وأقدم أخذًا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه، ولا أكثر عددًا، فلا معنى للتوقّف في الحكم بصحتها.
وأما رَدّ الطحاويُّ لها باحتمال أن تكون مُدْرَجة، فجوابه أن الأصل عدم الإدراج، حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضمومًا إلى الحديث فهو منه، ولا سيما إذا رُوي من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعيِّ أخرجها من وجه آخر، عن جابر متابعًا لعمرو بن دينار عنه.
وقولُ الطحاويّ: "هو ظَنٌّ من جابر" مردودٌ؛ لأن جابرًا كان ممن يصلِّي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يُظَنّ بجابر أنه يُخْبِر عن شخص بأمر غير مشاهَد، إلَّا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه.
قال: وأما احتجاج أصحابنا -يعني الشافعيّة- لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا
(1)
راجع كلامه في: "الأوسط" 4/ 218 - 220.
أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبة"، فليس بجيِّد؛ لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت، من غير تَعَرُّض لنية فرض أو نفل، ولو تعينت نية الفريضة لامتنع على معاذ أن يصلّي الثانية بقومه؛ لأنها ليست حينئذ فرضًا له.
قال: وكذلك قول بعض أصحابنا: لا يُظَنّ بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة، في المسجد الذي هو من أفضل المساجد، فإنه وإن كان فيه نوع ترجيح، لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع.
وكذلك قول الخطابيّ: إن العشاء في قوله: "كان يصلي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم العشاء" حقيقة في المفروضة، فلا يقال: كان ينوي بها التطوع؛ لأن لمخالفه أن يقول: هذا لا ينافي أن ينوي بها التنفل.
وأما قول ابن حزم: إن المخالفين لا يُجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصلّيه متطوعًا، فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يَجُوزُ عندهم؟ فهذا إن كان كما قال نقضٌ قويّ، وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة.
وأما قول الطحاويّ: لا حجة فيها؛ لأنَّها لَمْ تكن بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تقريره.
فجوابه أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابيّ إذا لَمْ يخالفه غيره حجةٌ، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلّي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عَقَبيًّا، وأربعون بَدْرِيًّا، قاله ابن حزم، قال: ولا يُحْفَظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز: عُمر، وابن عمر، وأبو الدرداء، وأنس، وغيرهم.
وأما قول الطحاويّ: لو سَلَّمنا جميع ذلك لَمْ يكن فيه حجة؛ لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصَلَّى مرّتين، أي فيكون منسوخًا.
فقد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادّعاه من إعادة الفريضة. انتهى.
قال الحافظ: وكأنه لم يقف على كتابه، فإنه قد ساق فيه دليل ذلك،
وهو حديث ابن عمر رفعه: "لا تُصَلُّوا الصلاة في اليوم مرتين"، ومن وجه آخر مرسل: إن أهل العالية كانوا يصلّون في بيوتهم، ثم يصلّون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك، فنهاهم.
قال: ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظرٌ؛ لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلّوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البيهقيّ جمعًا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لَمْ يكن بعيدًا.
ولا يقال: القصة قديمة؛ لأن صاحبها استُشْهِد بأحد؛ لأنا نقول: كانت أُحُدٌ في أواخر الثالثة، فلا مانع أن يكون النهي في الأولى، والإذن في الثالثة مثلًا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين لَمْ يُصَلّيا معه: "إذا صلّيتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلّيا معهم، فإنها لكما نافلة"
(1)
، أخرجه أصحاب "السنن" من حديث يزيد بن الأسود العامريّ، وصححه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع، في أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ويدلّ على الجواز أيضًا أمره صلى الله عليه وسلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده، ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها: أن "صَلُّوها في بيوتكم في الوقت، ثم اجعلوها معهم نافلة".
وأما استدلال الطحاويّ أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى معاذًا عن ذلك بقوله في حديث سُلَيم بن الحارث: "إما أن تصلّي معي، وإما أن تُخَفِّف بقومك"، ودعواه أن معناه: إما أن تصلّي معي، ولا تصلّي بقومك، وإما أن تخفف بقومك، ولا تصلّي معي، ففيه نظرٌ؛ لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير: إما أن تصلّي معي فقط، إذا لَمْ تُخَفِّف، وإما أن تخفف بقومك، فتصلّي معي، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف؛ لأنه هو المسؤول عنه المتنازع فيه.
وأما تقوية بعضهم بكونه منسوخًا بأن صلاة الخوف وقعت مرارًا على
(1)
حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد (16829)، والترمذيّ برقم (203)، والنسائيّ (858)، والدارميّ (1332).
صفة فيها مخالفة ظاهرةٌ بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم مرتين على وجه، لا تقع فيه منافاة، فلَمّا لَمْ يفعل دَلّ ذلك على المنع.
فجوابه أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بهم صلاة الخوف مرتين، كما أخرجه أبو داود، عن أبي بكرة صريحًا، ولمسلم عن جابر نحوه، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة، فلبيان الجواز.
وأما قول بعضهم: كان فعل معاذ للضرورة؛ لقلة القُرّاء في ذلك الوقت، فهو ضعيف، كما قال ابن دقيق العيد؛ لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة، كان حافظوه كثيرًا، وما زاد لا يكون سببًا لارتكاب أمر ممنوع منه شرعًا في الصلاة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من عرض الأقوال وأدلّتها أن الأرجح قول من قال بجواز اقتداء المفترض بالمتنفّل، وبالعكس؛ لحديث الباب وغيره مما سبق بيانه، والذين منعوا من ذلك لَمْ يأتوا بحجة مقنعة تقاوم حجج المجيزين، ولذا قال السنديّ الحنفيّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": فدلالة حديث قصّة معاذ رضي الله عنه على جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل واضحة، والجواب عنه مشكلٌ جدًّا، وأجابوا بما لا يتمّ، وقد بسطت الكلام فيه في "حاشية ابن الهُمَام". انتهى.
وهذا من إنصافه رحمه الله، وهكذا ينبغي لكلّ متمذهب أن يكون مع الأدلّة، وإن خالف مذهبه، بل ومذاهب الجلّ؛ لأن الحقّ أحقّ أن يُتبع، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} الآية [النساء: 59].
والحاصل أنه يجوز اقتداء المفترض بالمتنفّل والعكس؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 2/ 230 - 231.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1046]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْث، قَالَ: (ح)
(1)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيُّ لِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا، فَصَلَّى، فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ مُعَاذٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ؟ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ
(2)
فَاقْرَأْ بِـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} ، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمْح بن المهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقون تقدّموا في هذا الباب، و"ليث" بـ "أل" وبدونها: هو الليث بن سعد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو
(1)
وفي نسخة: تأخير "قال" عن التحويل.
(2)
وفي نسخة: "إذا أممت -يعني الناس-".
أعلى الأسانيد له، وهو (55) من رباعيّات الكتاب، ووافقه النسائيّ، وابن ماجه على الإسنادين، فأخرجه النسائيّ عن قتيبة برقم (998)، وابن ماجه عن محمد بن رُمح برقم (986).
(فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا) أي من الأنصار، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في شرح الحديث الماضي، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (فَصَلَّى) أي فصلّى الرجل وحده بعدما قطع صلاته مع معاذ رضي الله عنه.
وقوله: (فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ) ببناء الفعل للمفعول، أي أخبر بعض الناس معاذًا رضي الله عنه بما فعله الرجل من صلاته. وقوله:(فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ) أي وصل إليه قول معاذ إنه منافقٌ.
وقوله: (إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ) أي صلّيتَ بهم إمامًا، وتمام شرح الحديث ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1047]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(هُشَيْم) بن بَشِير المذكور قبل باب.
3 -
(مَنْصُور) بن زاذان الواسطيّ المذكور أيضًا قبل باب، والباقيان ذُكرا قبل حديث.
وقوله: (الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ) فيه جواز قول: "العشاء الآخرة"، وقد سبق قريبًا
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
بيانه، وقول الأصمعيّ بإنكاره، وإبطال قوله، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1048]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لَمْ يتكلم فيه أحدٌ بحجّة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّاد) بن زيد بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تَمِيمة كَيْسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العباد [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (فَيُصَلِّي بِهِمْ) أي تلك الصلاة التي صلّاها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي العشاء، كما بُيّنت في الروايات الماضية.
[تنبيه]: تكلّم أبو مسعود الدمشقيّ رحمه الله في هذا الإسناد، فقال: قتيبة يقول في حديثه: عن حمّاد، عن عمرو، ولم يذكر فيه أيّوبَ، وكان ينبغي لمسلم أن ينبّه عليه.
ويُجاب عن مسلم: بأنه إنما أهمل التنبيه عليه؛ لكونه جَعَل الرواية مسوقةً عن أبي الربيع وحده، كذا أفاده النوويّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 183.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: رواية حمّاد التي أشار إليها أبو مسعود، أخرجها الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(532)
حدّثنا قتيبة، حدّثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه، أن معاذ بن جبل، كان يصلّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمهم، وقال: هذا حديث حسن صحيح. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(38) - (بَابُ أَمْرِ الأَئِمَّةِ بِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ فِي تَمَامٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1049]
(466) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَن قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي لَأَتَّاخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بنَا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الْحَاجَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الْبَجَليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 299.
2 -
(قَيْس) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2](ت بعد 90) وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 475.
3 -
(أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بالكوفة، وقيل: بالمدينة قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 458.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وهُشيمٍ، فواسطيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: إسماعيل، عن قيس.
5 -
(ومنها): أن قيسًا هو التابعي الذي انفرد بالرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة على الصحيح، ولا مشارك له في ذلك، خلافًا للحاكم صاحب "المستدرك" حيث ادّعى ذلك، وقد أشار السيوطيّ رحمه الله إلى ذلك في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَالتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ مَعْ خَمْسَةٍ
…
أَوَّلُهُمْ ذُو الْعَشَرَهْ
وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ
…
وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ
6 -
(ومنها): أن صحابيّه اشتهر بنسبته إلى بدر، فعدّه البخاريّ في "صحيحه"، ومسلم في "الكنى": ممن شَهِد غزوة بدر، وقال الأكثرون: لَمْ يشهدها، وإنما نزل ماءً ببدر، فنُسب إليها، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو (الْأَنْصَارِيِّ) البدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أقف على اسمه، ووَهِم مَن زعم أنه حَزْم بن أُبَيّ بن كعب؛ لأن قصته كانت مع معاذ، لا مع أُبَيّ بن كعب. انتهى
(1)
. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ) ولفظ البخاريّ: "إني لأتأخَّر عن صلاة الغداة"، أي فلا أحضرها مع الجماعة؛ لأجل التطويل، وفي رواية للبخاريّ أيضًا من طريق ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد: "واللَّه
(1)
"الفتح" 2/ 232.
لأتأخر" بزيادة القسم، وفيه جواز مثل ذلك؛ لأنه لَمْ يُنْكِر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للبخاريّ من طريق الثوريّ، عن إسماعيل: "إنى لا أكاد أدرك الصلاة".
قال القاضي عياض رحمه الله: ظاهره مشكل؛ لأن التطويل يقتضى الإدراك لا عدمه، قال: فكأن الألف زيدت بعد "لا"، وكأن "أُدْرِك" كانت "أَتْرُك".
قال الحافظ: هو توجيه حسن لو ساعدته الرواية، وقال أبو الزناد بن سراج: معناه أنه كان به ضعف، فكان إذا طوَّل به الإمام في القيام، لا يبلغ الركوع إلَّا وقد ازداد ضعفه، فلا يكاد يتم معه الصلاة.
قال الحافظ أيضًا: وهو معنى حسن، لكن رواه البخاريّ، عن الفريابيّ، عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ:"إني لأتأخر عن الصلاة"، فعلى هذا فمراده بقوله:"إني لا أكاد أدرك الصلاة"، أي لا أقرُب من الصلاة في الجماعة، بل أتأخر عنها أحيانًا؛ من أجل التطويل
(1)
.
قال: ويَحْتَمل أيضًا أن يكون المراد أن الذي أَلِفَه من تطويله اقتضى له أن يتشاغل عن المجيء في أول الوقت؛ وثوقًا بتطويله، بخلاف ما إذا لَمْ يكن يطوِّل، فإنه كان يحتاج إلى المبادرة إليه أوّل الوقت، وكأنه يَعْتَمِد على تطويله، فيتشاغل ببعض شغله، ثم يتوجه، فيصادف أنه تارةً يدركه، وتارة لا يدركه، فلذلك قال:"لا أكاد أدرك مما يُطَوّل بنا"، أي بسبب تطويله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى ما في هذا الاحتمال من البعد، فالأول هو الوجه، فتأملّ، واللَّه تعالى أعلم.
وإنما خص الصبح بالذكر؛ لأنَّها تطوَّل فيها القراءة غالبًا، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها.
(مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ) هو كناية عن اسم سُمّي به المحدّث عنه، ويقال في غير الآدميّ: الفلان معرّفًا بالألف واللام، قاله الكرمانيّ رحمه الله
(3)
.
والمراد بفلان هنا هو: أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، قال في "الفتح": ووَهِمَ مَن
(1)
"الفتح" 1/ 224 "كتاب العلم" رقم الحديث (90).
(2)
"الفتح" 2/ 232 "كتاب الأذان" رقم (702).
(3)
"شرح الكرمانيّ" 2/ 78.
فَسَّر الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أُبَيّ بن كعب، كما أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن، من رواية عيسى بن جارية -وهو بالجيم- عن جابر، قال: كان أُبّيّ بن كعب يصلّي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلةً، فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتَلَ من صلاته، فغضب أُبَيّ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أُبَيًّا، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى عُرِف الغضب في وجهه، ثم قال:"إن منكم منفرين، فإذا صلّيتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيفَ، والكبيرَ، والمريضَ، وذا الحاجة"، فأبان هذا الحديث أن المراد بقوله في حديث الباب:"مما يطيل بنا فلان"، أي في القراءة، واستفيد منه أيضًا تسمية الإمام، وبأيّ موضع كان، وفي الطبرانيّ من حديث عديّ بن حاتم:"مَن أَمّنا، فَلْيُتِمّ الركوع والسجود". انتهى
(1)
.
وقوله: (مِمَّا يُطِيلُ بِنَا)"من" هنا للتعليل، و"ما" مصدريّة، و"يُطيل" من الإطالة، أي من أجل إطالته القراءة في الصلاة علينا، وفي رواية البخاريّ:"مما يُطوّل"، من التطويل.
(فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ) بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي غَضَبًا أشدّ، أو منصوب على الحال من "النبيّ صلى الله عليه وسلم".
وسببه إما لمخالفة الموعظة، أو للتقصير في تعلُّم ما ينبغي تعلمه، كذا قاله ابن دقيق العيد.
وتعقّبه تلميذه أبو الفتح اليعمريّ بأنه يتوقف على تقدم الإعلام بذلك، قال: ويَحْتَمِل أن يكون ما ظهر من الغضب؛ لإرادة الاهتمام بما يُلقيه لأصحابه؛ ليكونوا من سماعه على بالٍ؛ لئلا يعود مَن فَعَل ذلك إلى مثله.
قال الحافظ رحمه الله: وأقول: هذا أحسن في الباعث على أصل إظهار الغضب، أما كونه أشدّ فالاحتمال الثاني أوجه، ولا يَرِدُ عليه التعقب المذكور. انتهى
(2)
.
(مِمَّا غَضِبَ)"من" صلة "أشدّ"، و"ما" مصدريّة، أي غضبه (يَوْمَئِذٍ) أي يوم أُخبر بذلك (فَقَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وفي رواية البخاريّ:"أيها الناس" بحذف حرف النداء.
(1)
"الفتح" 2/ 232.
(2)
"الفتح" 2/ 232 - 233.
[فائدة]: المقصود بالنداء في نحو قوله: "يا أيها الناس"، هو "الناس"، وإنما جاءوا بـ"أيّ" ليمكن الوصول إلى نداء ما فيه "أل"؛ لأنهم كرهوا الجمع بين التخصيص بالنداء، وأداة التعريف، فكأن المنادى هو الصفة، و"ها" مُقْحَمة للتنبيه، أفاده في "العمدة"
(1)
.
(إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ) بصيغة الجمع، والنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، وهو من التنفير، وهو التفريق، قال في "القاموس": النَّفْرُ: التفرّق، نَفَرت الدابّة تَنْفِرُ وتَنْفُرُ -أي من بابي ضرب، وقعد- نَفْرًا، ونُفُورًا، ونِفَارًا، فهي نافرةٌ، ونَفُورٌ: جَزِعَتْ، وتباعدت، قال: ونَفَرَ الظبيُ: شَرَدَ، ونفّرتُهُ، واستنفرته، وأنفرته. انتهى ملخّصًا
(2)
.
والمعنى: أن منكم من يفرّق الناس، ويُبعدهم عن الجماعة بسبب تطويله.
وقال في "الفتح": قوله: "إن منكم منفرين" فيه تفسير للمراد بالفتنة في قوله في حديث معاذ رضي الله عنه: "أفتّان أنت"، ويحتمل أن تكون قصة أُبَيّ هذه بعد قصة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع، وفي قصة معاذ واجهه وحده بالخطاب، وكذا ذَكَر في هذا الغضب، ولم يذكره في قصة معاذ، وبهذا يتوجه الاحتمال الأول؛ لابن دقيق العيد، يعني ما ذكر في سبب شدّة غضبه. انتهى
(3)
.
وإنما خاطب الكلّ، ولم يُعيّن المطوِّل فقط؛ كرَمًا منه، ولطفًا عليه، وكانت هذه عادته صلى الله عليه وسلم غالبًا حينما كان يوجّه العتاب والتأديب لمن يستحقّه حتى لا يحصل له الخجل ونحوه على رؤوس الأشهاد، أفاده الكرمانيّ رحمه الله
(4)
.
(فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ) وفي رواية البخاريّ: "فأيُّكم ما صلّى بالناس" أي أيُّ واحد منكم، و"ما" زائدة، وزيادتها بعد "أيٍّ" الشرطيّة كثيرةٌ، وفائدتها التوكيد، وزيادة التعميم، قاله الكرمانيّ
(5)
.
(فَلْيُوجِزْ) من الإيجاز، وهو الاختصار، ولفظ البخاري:"فليتجوّز"، أي فليُخفّف، وأصل اللام الكسر، ويجوز فيها السكون؛ تخفيفًا.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 160.
(2)
راجع: "القاموس المحيط" 2/ 146.
(3)
"الفتح" 2/ 233.
(4)
"شرح الكرماني" 2/ 78 - 79.
(5)
"شرح الكرماني" 5/ 82.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفًا بالنسبة إلى عادة قوم، طويلًا بالنسبة لعادة آخرين، قال: وقول الفقهاء: لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات، لا يخالف ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك؛ لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلًا.
قال الحافظ رحمه الله: وأولى ما أُخِذ حدُّ التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود، والنسائيّ، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"أنت إمام قومك، واقدر القوم بأضعفهم"، وإسناده حسنٌ، وأصله في مسلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه يأتي في هذا الباب بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ثم ذكر علّة أمره بالإيجاز والتخفيف، فقال:
(فَإِنَّ) الفاء للتعليل، أي لأن (مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ) بالنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخَّرًا، وما بعده عطف عليه.
ومقتضى هذا التعليل أنه متى لم يكن فيهم مُتَّصِف بصفة من المذكورات، لم يضرّ التطويل، لكن فيه أنه يمكن مجيء من يتصف بإحداها.
وقال اليعمريّ رحمه الله: الأحكام إنما تناط بالغالب، لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقًا، قال: وهذا كما شُرع القصر في صلاة المسافر، وعُلِّل بالمشقة، وهو مع ذلك يُشْرَع، ولو لم يَشُقّ؛ عملًا بالغالب؛ لأنه لا يُدرَى ما يَطْرأ عليه، وهنا كذلك. انتهى. وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(وَالضَّعِيفَ) أي المريض، وفي حديث عثمان بن أبي العاص الآتي:"فإن فيهم الكبيرَ، وإن فيهم المريضَ، وإن فيهم الضعيفَ، وإن فيهم ذا الحاجة"، فيكون المراد بالضعيف هناك الضعيف في خِلْقته، كالنحيف، والسمين.
وزاد في رواية الطبرانيّ في حديث عثمان المذكور: "والحامل،
(1)
"الفتح" 2/ 233.
والمرضع"، وله من حديث عديّ بن حاتم: "والعابر السبيل"، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(وَذَا الْحَاجَةِ") بالنصب أيضًا؛ لما ذُكر، وهذا من عطف العامّ على الخاصّ؛ لأن ذا الحاجة يعمّ الكبير، والضعيف، وغيرهما.
وإنما اقتصر على ذكر هذه الثلاثة؛ لأنها متناولة لجميع الأنواع المقتضية للتخفيف، فإن المقتضي له إما في نفسه أولًا، والأول إما في ذاته، وهو الضعف، أو بسبب العارض لذاته، وهو المرض، أو لما يشمل هذين، وغيرهما، وهي الحاجة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1049 و 1050](466)، و (البخاريّ) في "العلم"(90) و"الأذان"(702 و 704) و"الأدب"(6110) و"الأحكام"(7159)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(984)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 131 و 132)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(607)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(3726)، و (الحميديّ) في "مسنده"(453)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 118 و 119 و 5/ 273)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(326)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1605)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2137)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 555 و 556 و 557 و 558 و 559 و 560 و 561 و 562 و 563)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1553 و 1554 و 1555)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1030)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 115)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(844)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
2/ 234.
1 -
(منها): بيان الأمر للأئمة بتخفيف الصلاة حتى لا يتضرّر المأمومون، لكن بشرط أن لا يُخلّ بسننها، وآدابها، ومقاصدها، وأما إذا أدّى التخفيف إلى نقص شيء من ذلك، كما يفعله بعض الجهلة مغترّين بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"فليُخفّف"، فيتلاعبون بالصلاة، فهذا من تلبيس الشيطان، واستيلاء الجهل بالسنّة، وغلبة الهوى، فإنا للَّه، وإنا إليه راجعون.
2 -
(ومنها): بيان سماحة الشريعة، وسهولة أمر الدين، حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الأئمة بالتخفيف في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة، حتى لا تحصل مشقّة على الضعفاء، كالمريض، والصغير، والكبير، وذي الحاجة.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على الرفق بالمأمومين، وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يُدْخِل عليهم ما يشقّ عليهم، وإن كان يسيرًا من غير ضرورة. انتهى.
4 -
(ومنها): جواز التأخّر عن صلاة الجماعة، إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير.
5 -
(ومنها): جواز ذكر الإنسان بفلان ونحوه في معرض الشكوى، والاستفتاء.
6 -
(ومنها): جواز الغضب لما يُنْكَر من أمور الدين، والغضب في الموعظة.
7 -
(ومنها): أن فيه حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في حال غضبه، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقضينّ حكم بين اثنين، وهو غضبان"، متّفقٌ عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يصدر منه في حال غضبه ما يخالف الشرع، بخلاف غيره.
والحاصل أن الحكم في حال الغضب خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.
8 -
(ومنها): جواز الإنكار على مَن ارتَكَبَ ما يُنْهَى عنه، وإن كان مكروهًا غير محرَّم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قالوا، لكن تقدّم أن كون هذا من المكروهات محلّ نظر، بل هو من المحرّمات إذا تضَرَّر به المأمومون، أو
بعضهم، وكيف لا يكون محرّمًا، وقد غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، وصفه الصحابيّ بأنه لم يره غضب قبله مثله، وقال:"فأيُّكم أم الناس فليتجوّز"، وأمره للوجوب، كما أن نهيه للتحريم إلا لصارف، ولا صارف هنا، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.
9 -
(ومنها): أن الأرجح كون الأمر بالتخفيف للوجوب، قال العراقيّ رحمه الله: هذا الأمر بالتخفيف صَرَّح أصحابنا -يعني الشافعيّة- وغيرهم بأنه على سبيل الاستحباب، وذهب جماعة إلى الوجوب؛ تمسكًا بظاهر الأمر، قال ابن حزم الظاهريّ رحمه الله: يجب على الإمام التخفيف، إذا أمَّ جماعةً، لا يَدْري كيف طاقتهم.
وقال ابن عبد البرّ المالكيّ رحمه الله: في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف؛ لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك، ولا يجوز لهم التطويل؛ لأن في الأمر لهم بالتخفيف نهيًا عن التطويل، وكذا قال ابن بطّال في "شرح البخاريّ": فيه دليل أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف؛ لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهم بذلك. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح عندي قول من قال بالوجوب؛ عملًا بظاهر الأمر؛ إذ لا صارف له عن الوجوب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): مشروعيّة التعزير على إطالة الصلاة، إذا لم يَرْضَ المأموم به، وجواز التعزير بالكلام، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر ما جاء عن أهل العلم في تخفيف الصلاة:
(اعلم): أن أحاديث الباب فيها الأمر للأئمة بتخفيف الصلاة؛ مراعاةً لحال المأمومين.
قال الترمذيّ رحمه الله في "جامعه": وهو قول أكثر أهل العلم، اختاروا أن لا يُطيل الإمام الصلاة؛ مخافة المشقّة على الضعيف، والكبير، والمريض. انتهى.
وقال العراقيّ رحمه الله في "شرح التقريب" بعد نقل كلام الترمذيّ المذكور: وهو يقتضي خلافًا في ذلك بين أهل العلم، ولا أعلم فيه خلافًا، قال ابن
(1)
"طرح التثريب" 2/ 348.
عبد البرّ: التخفيف لكل إمام أمر مُجْمَعٌ عليه، مندوب عند العلماء إليه، وقال أيضًا: لا أعلم بين أهل العلم خلافًا في استحباب التخفيف لكل من أمّ قومًا على ما شرطنا من الائتمام بأقل ما يُجزئ، وساق الكلام على ذلك، وكأن الترمذيّ توهم الخلاف في ذلك من قول ابن أبي شيبة في "مصنفه" في التبويب:"التخفيفُ في الصلاة"، "من كان يُخَفِّفها"، وليس ذلك صريحًا في وجود خلاف، ولم يبوّب ابن أبي شيبة على التطويل المقابل للتخفيف، ولو كان ثَمّ قائل به لَبَوَّب عليه، وذكره.
وقد رَوَى ابن أبي شيبة في الباب المذكور، عن ثابت البنانيّ قال: صلّيت مع أنس رضي الله عنه العَتَمَة، فتجوَّز ما شاء اللَّه، وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: كان أبي إذا صلّى في المسجد خَفَّف الركوع والسجود، وتجوَّز، وإذا صلّى في بيته أطال الركوع والسجود والصلاة، فقلت له؟، فقال: إنا أئمة يُقْتَدَى بنا، وعن أبي رجاء، وهو العطارديّ قال: رأيت الزبير بن العوّام صلّى صلاةً خفيفةً، فقلت: أنتم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخفّ الناس صلاةً، فقال: إنا نُبادر هذا الوسواس، وعن عمار بن ياسر، أنه قال: احذفوا هذه الصلاة قبل وسوسة الشيطان.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تخفيف الصلاة من أجل مبادرة الوسواس يحتاج إلى دليل، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم
وعن حذيفة أنه عَلَّمَ رجلًا، فقال: إن الرجل ليخفف الصلاة، ويُتِمُّ الركوع والسجود، وعن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه صلّى صلاةً تجوّز فيها، فقلت له: هكذا كانت صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وأجوز، وعن عمرو بن ميمون: لَمّا طُعِن عمر، وماج الناس تقدم عبد الرحمن بن عوف، فقرأ بأقصر سورتين في القرآن:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} ، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} ، وعن إبراهيم النخعيّ أنه كان يخفف الصلاة، ويتمّ الركوع والسجود، وعن أبي مِجْلَزٍ قال: كانوا يُتِمّون، ويوجزون، ويبادرون الوسوسة.
قال الجامع: مبادرة الوسوسة محلّ نظر، كما أسلفته آنفًا، فليُتنبّه.
وعن عمرو بن ميمون، قال: ما رأيت الصلاة في موضع أخفّ منها فيما
بين هاتين الحائطين، يعني مسجد الكوفة الأعظم، وعن النعمان بن قيس، قال: كُنّ النساء إذا مررن على عَبِيدة، وهو يصلّي قُلْن: خففوا، فإنها صلاة عَبِيدة، يعني مِن خفتها، رواها كلها ابن أبي شيبة.
وحَكَى ابن حزم في "الْمُحَلَّى" عن عمرو بن ميمون أنه قال: لو أن رجلًا أخذ شاة عزوزًا لم يفرُغ من لبنها حتى أُصلي الصلوات الخمس، أُتِمُّ ركوعها وسجودها، والْعَزُوز -بالعين المهملة، والزاي المعجمة المكررة-: الضيِّقة الإحليل، وعن علقمة: لو أُمر بذبح شاة، فأُخذ في سَلْخها لصلّيت الصلوات الخمس في تمام قبل أن يُفْرَغ منها.
ويَحْتَمِل أن ابن أبي شيبة إنما بَوّب تخفيف الصلاة مع الانفراد، أو مع إمامة المحصورين، فذكر فيه من كان يؤثر تخفيفها، ولو مع هذه الحالة، فنقله الترمذيّ إلى أئمة العامة، وأولئك لا خلاف فيهم كما تقدم. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): المراد من الأمر بتخفيف الصلاة -كما قال أهل العلم- أن يكون بحيث لا يُخِلّ بسننها ومقاصدها، ففي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمّنا بالصّافّات".
وقال العلّامة ابن القيّم رحمه الله: إذا أمرهم بالتخفيف، وأمرهم أن يصلّوا كصلاته في قوله:"صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي"، عُلِمَ بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أَمَرَ به، يوضّح ذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا ويُسمّى تخفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمّى تطويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفّ منه، فلا حدّ له في اللغة يُرجَع إليه، وليس من الأفعال المعروفة التي يُرْجَع فيها إلى العرف كالْحِرْز، والقَبْض، وإحياء الموات، والعباداتُ ترجع إلى الشارع في مقدارها، وصفاتها، وهيآتها، كما يُرجَع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوع في ذلك إلى عرف الناس وعوائدهم في مسمّى التخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا بيِّنًا لا ينضبط.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 346 - 348.
ولهذا لَمّا فَهِمَ بعض من نَكَّس اللَّه قلبه أن التخفيف المأمور به هو ما يُمكن من التخفيف، اعتَقَدَ أن الصلاة كلّما خُفّفت، وأُخِّرت كانت أفضل، فصار كثير منهم يمرّ فيها مرّ السَّهْم، ولا يزيد على "اللَّه أكبر" في الركوع والسجود بسرعة، فكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق قراءته، وربّما ظنّ الاقتصار على تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث.
ويُحْكَى عن بعض هؤلاء أنه رأى غُلامًا له يَطمئنّ في صلاته، فضربه، وقال: لو بعثك السلطان في شغل أكنت مبطئًا عن شغله مثل هذا الإبطاء؟ وهذا كلُّه تلاعب بالصلاة، وتعطيلٌ بها، وخِدَاعٌ من الشيطان. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله العلّامة ابن القيّم رحمه الله هو الحقّ، وإن اعتَرَض عليه الصنعانيّ، وطوّل الكلام في الرّدّ عليه في كتابه "العدّة حاشية العمدة"
(1)
.
وخلاصة ما أشار إليه ابن القيّم: أن ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من كيفيّة الصلاة هو الذي أمر به، فقد كان يُخفّف أحيانًا، ويُطوّل أحيانًا على حسب ما يراه من حال المأمومين، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خفّف صلاته، فقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} ، وكان ذلك في السفر، وقد روي أنه قرأ بها في المغرب، ولم يُذكر السفر، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقرأ بقصار المفصّل، ولا يُعارضه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه أنكر على مروان قراءته بقصار المفصّل؛ لأنه أنكر استمراره على ذلك، وجاء في "الصحيح" أنه قرأ فيها {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، وكذلك ورد أنه قرأ بها في صلاة الظهر، وكذلك صلّى الصبح بـ "الزلزلة" في الركعتين، وقرأ فيه أيضًا "المعوّذتين"، ونحو ذلك من رواية قراءته بالسور القصار.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه طوّل في بعض الأحيان، فقرأ في المغرب {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، و {الطُّورِ} ، وبطولى الطوليين، وظاهره أنه أتمّها، فقول القاضي عياض: إن المراد بعضها خلاف الظاهر، وكان يطوّل في الصبح، فيقرأ في الركعتين ما بين الستّين والمائة، وصلاها أيضًا بـ {الْمُؤْمِنُونَ} حتى إذا جاء ذكر
(1)
راجع: "العدّة على عمدة الأحكام" 2/ 261 - 264.
موسى وعيسى أخذته سعلة، فركع، وقرأ فيها أيضًا {ق} ، وقرأ فيها {الطُّورِ} .
وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنهم قدّروا قراءته في الظهر في الأوليين بقدر {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وفي الأخريين بقدر النصف من ذلك، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قد خفّف، وهو الغالب منه، وطوّل أحيانًا، حيث يرى نشاط المأمومين، وأمر أمته أن يقتدوا به في التخفيف والتطويل، فقال:"صلّوا كما رأيتموني أصلّي".
وخلاصة القول أن كلّ ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ينبغي العمل به؛ لأنه التخفيف الذي أمر به الأئمة، قال أنس رضي الله عنه:"ما صلّيت وراء إمام قطّ أخفّ صلاةً ولا أتمّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبيّ فيخفِّف؛ مخافة أن تفتن أمه"، متّفق عليه.
وبالجملة فعلى الإمام أن يراعي أحوال المأمومين، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك، فقد قال:"إني لأقوم في الصلاة، أريد أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبيّ، فأتجوّز في صلاتي؛ كراهية أن أشقّ على أمه"، أخرجه البخاريّ، فإن خفي على الإمام حالهم، فليُخفّف احتياطًا.
وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" مسائل مفيدةً، فراجعها
(1)
تستفد علمًا جَمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1050]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ،
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 10/ 168 - 171.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
قَالَ: (ح)
(1)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ هُشَيْمٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون تقدّموا، فأبو بكر، ووكيع تقدّما قبل باب، والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وابن نمير هو: محمد، وأبوه هو: عبد اللَّه بن نُمير، وسفيان هو: ابن عيينة.
[تنبيه]: إنما ذكر هُشيمًا هنا مع أنه تقدّم في السند الماضي؛ لاختلاف شيخيه عليه، وذلك أن يحيى بن يحيى حدّثه عنه وحده، وقال: أخبرنا هُشيم؛ ليُبيّن أنه أخذ عنه قراءةً، وأما أبو بكر، فحدّثه عنه مقرونًا بوكيع، وقال: حدّثنا هُشيم، ووكيع؛ ليُبيّن أنه أخذ عنهما سماعًا، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (قال: ح إلخ) هذا من الراوي عن المصنّف، أي قال المصنّف: ح وحدّثنا ابن نمير إلخ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ) أي كلّ هؤلاء الأربعة: هُشيم، ووكيع، وعبد اللَّه بن نُمير، وسفيان بن عيينة رووه عن إسماعيل بن أبي خالد.
وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء متعلّق بحال مقدّر من إسماعيل بن أبي خالد، أي حال كونه مخبرًا بهذا الإسناد السابق، وهو: عن قيس، عن أبي مسعود رضي الله عنه.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ هُشَيْمٍ) يعني الذي قبل هذا، وهو متعلّق بـ "حدّثنا".
[تنبيه]: رواية هشيم هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 83) فقال:
(1030)
وحدّثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا هشيم ووكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد (ح) وحدّثنا حبيب، ثنا يوسف القاضي، ثنا مسدّد، ثنا يحيى، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي
(1)
وفي نسخة: تأخير "قال" على الحاء.
مسعود، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إني لأتأخر عن صلاة الغداة، مما يطيل بنا فلان فيها، قال: فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما رأيته في موعظة أشدَّ غضبًا منه يومئذ، فقال:"يا أيها الناس إن منكم منفرين، وأيُّكم صلّى بالناس، فليتجوَّز، فإن فيهم الضعيفَ، والكبيرَ وذا الحاجةِ"، قال: لفظ هشيم. انتهى.
وأما رواية وكيع، فقد ساقها ابن حبّان في "صحيحه" فقال:
(2137)
أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود، قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه إني لأتأخر عن صلاة الغداة، مما يطيل بنا فلان، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما رأيته في موعظة أشدّ غضبًا منه يومئذ، فقال:"أيها الناس إنّ منكم منفرين، فأيُّكم ما صلّى بالناس، فليتجوّز، فإن فيهم الضعيفَ، والكبيرَ، وذا الحاجة". انتهى.
وأما رواية ابن نمير، فساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(984)
حدّثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير، حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل، عن قيس، عن أبي مسعود، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول اللَّه، إني لأتأخر في صلاة الغداة، من أجل فلان؛ لما يطيل بنا فيها، قال: فما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قطُّ في موعظة أشدّ غضبًا منه يومئذ، فقال:"يا أيها الناس إنّ منكم منفرين، فأيّكم ما صلّى بالناس فَلْيُجَوِّز، فإن فيهم الضعيفَ، والكبيرَ، وذا الحاجة". انتهى.
وأما رواية سفيان بن عيينة، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (1/ 419) فقال:
(1553)
حدّثنا علي بن حرب، وشعيب بن عمرو الدمشقيّ قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود، قال: قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني لأتأخر عن صلاة الصبح، مما يُطَوِّل بنا فلان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنّ منكم منفرين، فأيُّكم أمّ للناس، فليخفِّفْ، فإن فيهم الضعيف، والمريضَ، وذا الحاجة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1051]
(467) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ، وَالْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَالْمَرِيضَ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام -بمهملة، وزاي- الْحِزاميّ المدنيّ، نزل عسقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 653.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الدوسيّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات سنة (59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله أنه قال: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ) وفي رواية همّام بن منبّه التالية: "إذا ما قام أحدكم للناس"، وفي رواية أبي سلمة الثالثة:"إذا صلّى أحدكم للناس"، واللام بمعنى الباء.
[تنبيه]: هل المراد بصلاته للناس أن يكون إمامًا منصوبًا للإمامة من جهة الإمام الأعظم، أو من جهة ناظر المسجد الذي يصلّي به، بحيث لا يتمكن غيره من الإمامة في ذلك المحلّ، أو أعم من ذلك، ومن كون أهل المحلة نصبوه للإمامة بهم، بحيث لو شاءوا لَغَيَّروه، وأقاموا غيره في ذلك، أو أعمّ من ذلك، ومِن أن يتقدم للإمامة بغير تقديم أحد، أو كونه صار إمامًا، ولو لم يقصد التقدُّم لذلك من الأول، بل تقدَّم ليصلّي منفردًا فتابعه غيره، فنوى الإمامة به، أو لو لم ينو الإمامة به، بل نوى المأموم الائتمام فقط؛ لأنه يصير بذلك عند الشافعي وجماعة إمامًا، ولو لم ينو هو الإمامة، غايته أنه لا يحصل له فضيلة الجماعة إذا لم ينو الإمامة؟.
هذه احتمالات خمسة، قال العراقيّ رحمه الله: وأرجحها عندي الرابع، فمتى صار إمامًا بنيته للإمامة على أيّ وجه تقدَّم يستحب له التخفيف، وأما إذا لم ينو هو الإمامة، فالظاهر أنه لا يستحب له التخفيف باقتداء غيره به. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وعندي الأرجح إجراؤه على عمومه؛ فيعُمّ جميع الأقسام الخمسة، فعلى الجميع التخفيف؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمّ أحدكم الناس"، فالمعتبر كونه إمامًا، سواء نوى ذلك، أم لم ينو، فقصره على الذي نوى الإمامة تخصيص بلا دليل، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قوله: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ"، قال العراقيّ رحمه الله: لم يذكر الصلاة، فتناول الفرائض والنوافل التي يُشْرَع لها الجماعة، كالعيد، والتراويح، ونحوهما؛ لأن حذف المعمول يدل على العموم، بدليل صحة الاستثناء، فإنه معيار العموم، نعم يُسْتَثنى من ذلك صلاة الكسوف؛ لمشروعية تطويل القراءة فيها، فلا يُسَنّ النقص عن المشروع في ذلك، وكأنه لم يستثنها؛ لندورها،
(1)
"طرح التثريب" 2/ 348.
والاهتمام بشأنها؛ للأمر العارض. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
(فَلْيُخَفِّفْ) أي القراءة والأذكار، بحيث لا يُخلّ بأركانها، وسننها، وآدابها؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نقرة الغراب، وقال للمسيء صلاته:"صلّ، فإنك لم تصلّ"، متّفقٌ عليه، وقال:"لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود"
(2)
، وقال:"لا ينظر اللَّه عز وجل إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده"
(3)
.
فالذي يُخلّ بشيء مما ذُكِر لم يُصلّها، فينبغي لمن يريد التخفيف مراعاة ما ذُكر حتى لا يقع في شيء من المحظور، وما أكثر من يقع في ذلك من الجهلة، وذوي الغفلة الذين ناصيتهم بيد الشيطان، فهو الذي يتصرّف في رفعها ووضعها، فلا حول ولا قوّة إلا باللَّه العزيز الحكيم.
(فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ) المراد به ضعف الْخِلْقة (وَالْمَرِيضَ) وفي رواية أبي سلمة الآتية: "فإن في الناس الضعيف، والسقيم"، والسقيم بمعنى المريض، وعطف المريض على الضعيف، من عطف العامّ على الخاصّ.
قال في "المصباح": الضَّعْف بفتح الضاد في لغة بني تميم، وبضمّها في لغة قريش: خلاف القوّة والصّحّة، فالمضموم مصدر ضَعُف، مثالُ قَرُبَ قُرْبًا، والمفتوح مصدر ضَعَفَ ضَعْفًا، من باب قَتَلَ، ومنهم من يجعل المفتوح في الرأي، والمضموم في الجسد، وهو ضعيفٌ، والجمع ضُعَفَاءُ، وضِعَافٌ أيضًا، وجاء ضَعَفَةٌ، وضَعْفَى. انتهى.
وقال في مادّة مَرِضَ: مَرِضَ الحيوان مَرَضًا، من باب تَعِبَ، والمرَضُ: حالةٌ خارجةٌ عن الطبع ضَارّةٌ بالفعل، ويُعْلَم من هذا أن الآلام، والأَوْرَامَ أعراضٌ عن المرض، وقال ابن فارس: الْمَرَضُ: كلُّ ما خرج به الإنسان عن حدّ الصّحّة، من علّة، أو نفاق، أو تقصير في أمرٍ
(4)
.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 350.
(2)
حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه" برقم (871).
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(10380) بسند صحيح.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 362 و 568.
(فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ)"كيف" هنا استفهاميّة، أي على أيّ كيفيّة أرادها، من التطويل والتخفيف؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره، وفي رواية همّام بن منبّه التالية:"فليُطل صلاته ما شاء"، وفي "مسند السرّاج":"فليُطِل إن شاء".
قال العراقيّ رحمه الله: هل هذا الأمر أمرُ استحباب كالمذكور قبله، أو أمر إباحة، وترخيص؟ يترجح الأول؛ لكونه أمرًا في عبادة، ويترجح الثاني لتعليقه بمشيئة المصلّي، ولو كان للاستحباب لم يُعَلَّق بمشيئته، ولا يحتمل هنا أن يكون للوجوب كما قيل به في الأمر الذي قبله. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ذكر العراقيّ الاحتمالين بدون ترجيح لأحدهما، والذي يظهر لي ترجيح الثاني؛ لأن الغالب من صلاته صلى الله عليه وسلم وحده التطويل، لا التخفيف، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: الإطالة المذكورة مشروطة بأن تؤدّي إلى خروج الوقت، وإلا فلا، وجوّز بعضهم الإطالة، ولو خرج الوقت، وهو المصحّح عند بعض الشافعيّة، وفيه نظرٌ؛ لأنه يعارضه عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجيء وقتُ الصلاة الأخرى"، رواه مسلم، ولفظ أبي داود:"إنما التفريط في اليقظة أن تُؤَخَّر صلاةٌ حتى يدخل وقت أخرى"، أفاده في "الفتح"
(1)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.
[تنبيه آخر]: قال العراقيّ رحمه الله: هذا التطويل إنما هو في الأركان التي تَحْتَمِل التطويل، وهي القيام، والركوع، والسجود، والتشهد، دون الاعتدال والجلوس بين السجدتين. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله العراقيّ من تقييده التطويل ببعض الأركان مما لا دليل عليه، بل الأدلّة بخلافه، فقد أخرج الشيخان عن البراء رضي الله عنه قال:"كان ركوع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع، وبين السجدتين قريبًا من السواء"، وفي رواية لمسلم: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما
(1)
2/ 234.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 353.
قال: "رَمَقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء".
وأخرجا عن ثابت، قال: كان أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يصلّي، وإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي.
فهذا وأمثاله من الأحاديث في "الصحيحين"، وغيرهما دليلٌ على أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الأركان التي تطوّل، ولذا قال الحافظ في "الفتح" في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ما نصّه: واستُدلّ بعمومه أيضًا على جواز تطويل الاعتدال، والجلوس بين السجدتين. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
والحاصل أن الحقّ أن الاعتدال، والجلوس بين السجدتين مما يُشرع فيه التطويل، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1051 و 1052 و 1053 و 1054](467)، و (البخاريّ) في "الأذان"(703)، و (أبو داود) في "الصلاة"(794 و 795)، و (الترمذيّ) فيها (236)، و (النسائيّ) فيها (2/ 94)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 134)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 132)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(3712)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 54)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 486)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1560 و 1561)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1031 و 1032 و 1033 و 1034)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1760 و 2136)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 17)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(843)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 2/ 234.
(المسألة الثالثة): قال العراقيّ رحمه الله: هذا الحكم، وهو الأمر بالتخفيف مذكور مع علته، وهو كون المأمومين فيهم السقيم والضعيف والكبير، فإن انتفت هذه العلة، فلم يكن في المأمومين أحدٌ من هؤلاء، وكانوا محصورين، ورَضُوا بالتطويل طَوَّل؛ لانتفاء العلة، وبذلك صَرَّح أصحابنا وغيرهم.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قد بان في هذا الحديث العلة الموجِبَة للتخفيف، وهي عندي غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة؛ لأنه وإن عَلِمَ قُوّةَ مَن خلفه، فإنه لا يَدري ما يحدُث لهم من آفات بني آدم، ولذلك قال:"فإذا صلّى أحدكم لنفسه، فليطوِّل ما شاء"؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره، وقد يحدث لظاهر القوّة، ومَن يَعْرِف منه الحرص على طول الصلاة حادث من شُغْل، وعارض من حاجة، وآفة من حدَث وبول أو غيره. انتهى.
وتبعه على ذلك ابن بطّال، فذكر مثل هذا الكلام.
قال العراقيّ رحمه الله: وهو ضعيف، فإن الاحتمال الذي لم يَقُم عليه دليل، لا يترتب عليه حكم، فإذا انحصر المأمومون ورَضُوا بالتطويل، لا نأمر إمامهم بالتخفيف؛ لاحتمالِ عارضٍ لا دليل عليه، وحديثُ أبي قتادة يَرُدُّ على ما ذكراه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأقوم في الصلاة، وأنا أريد أن أطوِّل فيها، فأسمع بكاء الصبيّ، فأتجوَّز كراهية أن أشقّ على أمه".
فإرادته صلى الله عليه وسلم أوّلًا التطويل يدلُّ على جواز مثل ذلك، وما تركه إلا لدليل قام على تضرّر بعض المأمومين به، وهو بكاء الصبيّ الذي يشغل خاطر أمه، واللَّه أعلم. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله العراقى: حسنٌ جِدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال ابن حزم رحمه الله: حدُّ التطويل ما لم يخرج وقت الصلاة التي تلي التي هو فيها، ثم استدَلّ على ذلك بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر في الوقت الذي صلّى فيه العصر بالأمس، وقال صلى الله عليه وسلم:"وقتُ الصبح ما لم تطلع الشمس، ووقت العصر ما لم تغرُب الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط نُور الشفق، ووقت العشاء الآخرة إلى نصف الليل"، قال: فصحّ يقينًا أن من دخل في صلاة في آخر وقتها، فإنما يصلّي باقيها في وقت الأخرى، أو في
وقت ليس له تأخير ابتداء الصلاة إليه أصلًا، وقد صَحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن التفريط أن تُؤَخَّر صلاة حتى يدخل وقت أخرى، فصحّ أن له إذا في خل في الصلاة في وقتها أن يطوِّل ما شاء إلا تطويلًا مَنَعَ النصّ منه، وليس له أن يطيل حتى تفوته الصلاة التالية لها فقط. انتهى كلامه.
وتعقّبه العراقيّ رحمه الله، فقال: وهو ضعيف، والذي ينبغي أن يقال في حدّ التطويل المباح أنه ما لم يخرج وقت الصلاة التي هو فيها، ولو جوّزنا له أن يُخْرِج جزءًا منها عن وقتها لم يكن لتوقيتها فائدةٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الوقت ما بين هذين".
وأما استدلاله على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر في الوقت الذي صلّى فيه العصر بالأمس، فقد تقرَّر تأويله عند أكثر العلماء على معنى أنه فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي ابتدأ فيه صلاة العصر في اليوم الأول، فقوله:"صلّى الظهر" أي ابتدأها، وقوله:"صلّى العصر" أي فرغ منها.
وفعلها يصلح للابتداء والشروع، فحُملت في كل موضع على اللائق بها، ولا اشتراك بين الصلاتين في وقت.
وعلى تقدير أن لا نؤَوِّله، وَيجْعَل بين الصلاتين اشتراكٌ في الوقت، كما يقوله المالكية، فالاشتراك إنما هو في مقدار أربع ركعات خاصةً، وهكذا يقول المالكية، وهل ذلك من وقت العصر أو الظهر؟ خلاف عندهم، وأما القول بالاشتراك في جميع الوقت، فلا قائل به، ولا دليل يَعْضِده، ولا يصح القياس في ذلك عند من يقول القياس، فكيف بمن ينكره.
والعجب من استدلاله على مطلوبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما التفريط أن تُؤَخَّر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى".
قال: وهذا عليه لا له، فإنه دالّ على أن غاية التأخير المباح دخول وقت الأخرى، لا فراغه، ولا تضييقه، وما ذكره ابن حزم مبنيّ على أن هذه الأوقات للشروع في الصلاة، لا للفراغ منها، وهو مردود، بل هذه المواقيت لجملة الصلاة، أولها، ووسطها، وآخرها.
قال: وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنه يَحْرُم تأخير الصلاة إلى حدٍّ يَخرُج بعضها عن الوقت، وهو موافقٌ لما ذكرته، لكنهم قالوا: إنه لو شَرَع في
الصلاة، وقد بقي من الوقت ما يسع جميعها، فَمَدَّ هذا بتطويل القراءة لم يأثم بذلك، إلا في وجه حكاه القاضي حسين في "تعليقه"، وقال: إن هذا الخلاف ينبني على أن هذه الأوقات وقت للدخول والخروج، أو للدخول فقط، وهل يُكْرَه ذلك؟ فيه وجهان، أصحهما عندهم لا يكره، لكن قال النوويّ في "شرح المهذب": إنه خلاف الأولى.
قال: وعندي أن تجويزهم تطويل القراءة حتى يخرج الوقت مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما التفريط أن تؤخر صلاةٌ حتى يدخل وقت أخرى"، ولقوله:"الوقت ما بين هذين".
قال: والصحيح أن هذه الأوقات للدخول والخروج. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي صحّحه الحافظ العراقيّ رحمه الله من كون الأوقات للدخول والخروج هو الراجح عندي، فلا يجوز تطويل القراءة حتى يخرج وقت الصلاة المحدود لها بنصّ الحديث المتقدّم، وما ذكره ابن حزم من أن المراد خروج وقت الصلاة التي تليها خلاف الصواب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1052]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا
(3)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَا قَامَ أَحَدُكُمْ
(4)
لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَفِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِذَا قَامَ وَحْدَهُ فَلْيُطِلْ صَلَاتَهُ
(5)
مَا شَاءَ").
(1)
"طرح التثريب" 2/ 351 - 352.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(4)
وفي نسخة: "إذا أمّ أحدكم".
(5)
وفي نسخة: "فليُصلّ صلاته".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد بن رافع النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام، تقدّم قبل باب.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد، تقدّم قبل باب.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
وقوله: (هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلخ) تقدّم البحث فيه مستوفًى غير مرّة، فلا تكن من الغافلين.
وقوله: (إِذَا مَا قَامَ أَحَدُكُمْ) من القاعدة المشهورة: "ما" بعد "إذا" زائدة، وفي نسخة:"إذا أمّ أحدكم".
وقوله: (فَلْيُطِلْ صَلَاتَهُ) من الإطالة، وفي نسخة:"فلْيُصلّ صلاته".
وقوله: (مَا شَاءَ)"ما" موصولة، أي يصلّ الصلاة التي شاء أن يصلّيها طويلة، وقال بعض الشرّاح:"ما" زمانيّة، أي المدّة التي يشاؤها
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1053]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ في النَّاسِ الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَذَا الْحَاجَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
والباقون تقدّموا قبل باب.
(1)
راجع: "فتح المنعم" 3/ 31.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثني".
وقوله: (لِلنَّاسِ) أي إمامًا لهم.
وقوله: (وَالسَّقِيمَ) كالمريض وزنًا ومعنًى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1054]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ "السَّقِيمَ":"الْكَبِيرَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الفهميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام المصريّ الحجة المشهور، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه كنيته، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.
والباقون تقدّموا قبل باب.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن الماضي.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لأبي بكر بن عبد الرحمن.
وقوله: (بَدَلَ "السَّقِيمَ": "الْكَبِيرَ")"بدل" مضاف إلى "السقيم" وهو
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
مجرور بالكسرة، ويجوز نصبه على الحكاية، و"الكبيرَ" مقول "قال" منصوب لا غير، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية أبي بكر بن عبد الرحمن التي أحالها المصنّف على رواية أبي سلمة، أخرجها البيهقي رحمه الله في "السنن الكبرى"(3/ 115)، فقال:
(5049)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، ثنا أبو عبد اللَّه محمد بن يعقوب، ثنا حسين بن حسن بن مهاجر، ومحمد بن إسماعيل بن مِهْران، قالا: ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدَّثني أبي، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: حدَّثني يونس، عن ابن شهاب، ثنا أبو بكر بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيفَ، والكبيرَ، وذا الحاجة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1055]
(468) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"أُمَّ قَوْمَكَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا، قَالَ:"ادْنُهْ"، فَجَلَّسَنِي
(1)
بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ، ثُمَّ قَالَ:"تَحَوَّلْ"، فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ:"أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ، فَلْيُصَل كَيْفَ شَاءَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد اللَّه بن موهَب التيميّ مولاهم، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة [6](خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
2 -
(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد اللَّه التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد
(1)
وفي نسخة: "فأجلسني".
المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ جليلٌ [2]، ويقال: إنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم (ت 103) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ) الطائفيّ، أبو عبد اللَّه، استعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقرّه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أمه، قالت: شَهِدت آمنة لَمّا ولدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه ابن أخيه يزيد بن الحكم بن أبي العاص، وسعيد بن المسيِّب، ونافع بن جبير بن مُطْعِم، ومُطَرِّف، وأبو العلاء: ابنا عبد اللَّه بن الشِّخِّير، وموسى بن طلحة بن عبيد اللَّه، ومحمد بن عياض، والحسن، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن جَوْشَن الغَطَفانيّ، وآخرون.
قال محمد بن عثمان بن أبي صفوان: مات سنة (51) وأَرَّخه ابن الْبَرْقيّ، وخليفة، ومصعب، وابن قانع: سنة (55)، وقال ابن حبان في "الصحابة": أقام على الطائف إلى أيام عمر، ومات في ولاية معاوية بالبصرة، انتقل إليها في آخر أمره، وأعقب بها.
وقال ابن سعد: كتب إليه عمر: استَخْلِف على الطائف، وأَقْبِل، فاستَخْلَف أخاه الحكم، وأقبل إلى عمر، فوجَّهه إلى البصرة، فابتنى بها دارًا، وبقي ولده بها.
وقال العسكريّ: استعمله عمر: على عُمَان، ومات سنة (55) أو نحوها.
وقال ابن عبد البر: هو الذي افتتح توج، وإصطخر في زمن عثمان، قال: وهو الذي أمسك ثَقِيفًا عن الردَّة، قال لهم: يا معشر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ارتدادًا
(1)
.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (468) وأعاده بعده، وحديث (2202):"ضَعْ يدك على الذي تألم. . . "، و (2203):"ذاك شيطان، يقال له: خَنْزَب. . . ".
والباقيان تقدّما في هذا الباب.
(1)
"تهذيب التهذيب" 7/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى عمرو بن عثمان، فانفرد به الشيخان، والنسائيّ، والصحابيّ، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فطائفيّ، ثم بصريّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.
5 -
(ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة سوى نحو (12) حديثًا
(1)
، وقد عرفت آنفًا أن له في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بن عبيد اللَّه التيميّ أنه قال: (حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "أُمَّ قَوْمَكَ) بضمّ الهمزة، وتشديد الميم، أمر من أمّ، يقال: أمّه، وأمّ به، من باب نصر: إذا صلّى به إمامًا
(2)
.
وهذا الأمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما صدر بعدما سأله عثمان رضي الله عنه أن يجعله إمامًا، فقد أخرج أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه اجعلني إمام قومي، فقال:"أنت إمامهم، واقتَدِ بأضعفهم، واتخِذْ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا".
وأخرجه أحمد أيضًا بإسناد صحيح، عن عثمان بن أبي العاص، أن وفد ثَقِيف قَدِموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنزلهم المسجد؛ ليكون أَرَقّ لقلوبهم، فاشترطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يُحْشَرُوا
(3)
، ولا يُعْشَروا
(4)
، ولا يُجَبُّوا
(5)
، ولا يُسْتَعْمَل عليهم غيرهم، قال: فقال: "إن لكم أن لا تُحْشَروا، ولا تُعْشَروا، ولا
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 524 - 530.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 23.
(3)
أي لا يُنَفَّروا، وقيل: لا يُحشروا لعامل الزكاة.
(4)
أي لا يؤخذ عشر أموالهم.
(5)
أي لا يُصلُّوا.
يُسْتَعمَل عليكم غيركم"، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين لا ركوع فيه"، قال: وقال عثمان بن أبي العاص: يا رسول اللَّه، عَلِّمني القرآن، واجعلني إمام قومي.
(قَالَ) عثمان رضي الله عنه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا) قيل: يَحْتَمِل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له بتقدمه على الناس، فأذهبه اللَّه تعالى ببركة كفّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودعائه.
ويَحْتَمِل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوسًا، ولا يصلح للإمامة الموسوس، فقد ذكر مسلم في "الصحيح" بعد هذا، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه هذا، قال: قلت: "يا رسول اللَّه، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يَلْبِسها عليّ. . . ".
قال القاضي عياض رحمه الله بعد ذكر نحو هذين الاحتمالين ما نصّه: والأول أظهر معاني هذه اللفظة، أو يكون غيرَ ذلك من المعاني، فصنع النبيّ صلى الله عليه وسلم ما صنع؛ ليُذهب اللَّه تعالى عنه ببركة يده ودعائه صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ادْنُهْ") فعل أمر من دنا، يقال: دنا منه، ودنا إليه يَدْنُو دُنُوًّا، من باب قعد: قَرُب، فهو دَانٍ
(2)
، والهاء للسكت، وهي ساكنة، كما قال في "الخلاصة":
وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ
…
بِحَذْفِ آخِرٍ كَـ "أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كـ "عِ" أَوْ
…
كَـ "يَعِ" مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَعَوْا
(فَجَلَّسَنِي) بتشديد اللام، من التجليس، وفي نسخة:"فأجلسني"، من الإجلاس (بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أمامه (ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ) بفتح الكاف، وتشديد الفاء، قال في "القاموس": الكفّ: اليد، أو إلى الكوع، جمعه أَكُفّ، وكُفُوفٌ، وكُفٌّ بالضمّ. انتهى
(3)
.
وقال في "المصباح": الكفّ من الإنسان وغيره أُنثى، قال ابن الأنباريّ: وزعم من لا يوثق به أن الكفّ مذكّرٌ، ولا يَعْرِف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 384، و"المفهم" 2/ 79، و"شرح النوويّ" 4/ 185 - 186.
(2)
راجع: "المصباح" 1/ 201.
(3)
"القاموس المحيط" 3/ 190.
قولهم: كفٌّ مُخَضَّبٌ فعلى معنى ساعِدٍ مُخَضَّبٍ، قال الأزهريّ: الكفّ: الراحة مع الأصابع، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تكفّ الأذى عن البدن. انتهى
(1)
.
(فِي صَدْرِي) أي على صدري، ففي بمعنى "على"، كما في قوله تعالى:{فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وقولِ الشاعر [من الطويل]:
هُمُ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ
…
فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا
و"الصدر": مذكَّرٌ، وجمعه صدور، كفَلْسٍ وفُلُوس
(2)
.
(بَيْنَ ثَدْيَيَّ) ظرف متعلّق بـ "وَضَعَ"، و"ثدييّ" بتشديد الياء، على التثنية، قال النوويّ رحمه الله: وفيه إطلاق اسم الثَّدْي على حَلَمَة
(3)
الرجل، وهذا هو الصحيح، ومنهم من منعه. انتهى
(4)
.
وقال في "المصباح": الثَّدْيُ للمرأة، وقد يقال للرجل أيضًا، قاله ابن السّكّيت، ويُذَكَّر ويؤنّث، فيقال: هو الثديُ، وهي الثديُ، والجمع: أَثْدٍ، وثُدِيٌّ، وأصلهما أَفْعُلٌ، وفُعُولٌ، مثلُ أَفْلُس وفُلُوس، وربّما جُمع على ثِدَاءٍ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَامٍ. انتهى
(5)
.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَحَوَّلْ") أي إلى الجهة الأخرى، أي اجعل صدرك جهة ظهرك، وظهرك جهة صدرك (فَوَضَعَهَا) أي كفّه، وأنّث ضميرها؛ لأنها مؤنّثة، كما أسلفته آنفًا (فِي ظَهْرِي) بفتح، فسكون: خلاف البطن، وجمعه أظهُرٌ، وظُهُورٌ، مثلُ فلس وأفلُس وفُلُوس، وجاء ظُهْرَانُ أيضًا بالضمّ، و"في" بمعنى "على" كما سبق آنفًا أي على ظهري، وقوله:(بَيْنَ كَتِفَيَّ) بدل اشتمال من الجارّ والمجرور، وهو تثنية كَتِفٍ، قال في "القاموس": الْكَتِفُ، كفَرِح -أي بفتح، فكسر- ومِثْلٍ -أي بكسر، فسكون- وحَبْلٍ -أي بفتح، فسكون- جمعه كقِرَدَة، وأصحاب. انتهى
(6)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 535 - 536.
(2)
راجع: "القاموس" 2/ 68، و"المصباح" 2/ 335.
(3)
الْحَلَمة بفتحتين: رأس الثدي، أفاده في "المصباح" 1/ 149.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 185.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 80.
(6)
"القاموس المحيط" 3/ 188.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ) ثم علّل الأمر بالتخفيف بقوله: (فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ) كرّر "إن" في المعطوفات للتأكيد (وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ") أي على أيّ صفة أرادها، من التطويل، والتخفيف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1055 و 1056](468)، و (أبو داود) في "الصلاة"(531)، و (الترمذيّ) فيها (193)، و (النسائيّ) في "الأذان"(672)، و"الكبرى"(1/ 509)، و (ابن ماجه)(987)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(1/ 405)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 402)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 21 و 217)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 52)، و"الأوسط"(2/ 110 و 111)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1556 و 1557 و 1558 و 1559)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1035 و 1036)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 314 و 317)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 429)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أمر الأئمة بتخفيف الصلاة مراعاة لحقّ الضعفاء حتى لا يشقّ عليهم.
2 -
(ومنها): جواز طلب الإمامة في الصلاة، وليس كسائر طلب الإمارة، فإن ذلك منهيّ عنه، حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تسأل الإمارة. . . " الحديث، متّفقٌ عليه، كذلك طلب العمل، فقد قال صلى الله عليه وسلم للأشعريين اللذين جاءا إليه مع أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وطلبا منه أن يولّيهما بعض أعماله:"لن نستعمل على عملنا من أراده"، متّفقٌ عليه.
3 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تأليف الناس على الإسلام، فإن
هذا الصحابيّ، وقومه أرادوا أن لا يتولّى عليهم غيرهم، فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ما طلبوا؛ ترغيبًا لهم في الإسلام، وتثبيتًا لقلوبهم على محبّته.
4 -
(ومنها): إثبات عَلم من أعلام النبوّة، ومعجزة من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان عثمان يجد في نفسه مرضًا، فدعا اللَّه تعالى، ومسحه بيده المباركة، فأذهب اللَّه عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1056]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: حَدَّثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا، فَأَخِفَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالإرجاء [5](ت 118)(ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب الْمَخْزُومي، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون تقدّموا قبل باب.
وقوله: (آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"آخرُ" مبتدأ، و"ما" موصولة، و"عَهِدَ" بفتح أوله، وكسر ثانيه، يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ، من باب تَعِبَ: إذا أوصاه
(2)
، والجملة صلة "ما"، والعائد محذوف، كما قال في "الخلاصة":
. . . . . . . . . . . . . .
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
أي عهده.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
"المصباح المنير" 2/ 435.
وقوله: (إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا إلخ) خبر المبتدأ محكيّةٌ؛ لقصد لفظها، أي آخرُ الأمر الذي عهده إليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو هذا القول.
وقوله: (فَأَخِفَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ) بفتح الهمزة، وكسر الخاء المعجمة، أمر من أخفّ رباعيًّا، والتخفيف ضدّ التثقيل، أي خفّف الصلاة، ولا تُثقِلها عليهم بالتطويل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1057]
(469) - (وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوجِزُ فِي الصَّلَاةِ
(1)
، وَيُتِمُّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثَعْلب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
5 -
(أَنَس) بن مالك الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الثلاثة التالية، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق غير مرّة، وهو (58) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
(1)
وفي نسخة: "كان يوجز الصلاةَ".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه خلف، فبغداديّ، وأبو الربيع بصريّ، نزيل بغداد.
4 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه هو المشهور بالخادم، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد جاوز عمره المائة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوجِزُ فِي الصَّلَاةِ) وفي نسخة: "يوجز الصلاة"، وهو من الإيجاز، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَجُز اللفظُ بالضمّ وَجَازةً، فهو وَجِيزٌ: أي قصير، سريع الوصول إلى الفهم، ويتعدّى بالحركة، والهمزة، فيقال: وَجَزته، من باب وَعَدَ، وأوجزته، وبعضهم يقول: وَجَزَ في كلامه، وأوجز فيه أيضًا. انتهى
(1)
.
ولفظ البخاريّ: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة، ويُكملها"، قال في "العمدة": من الإيجاز، وهو ضدّ الإطناب، والإكمالُ ضدّ النقص. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": والمراد بالإيجاز مع الإكمال: الإتيان بأقلّ ما يُمكن من الأركان والأبعاض. انتهى
(3)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ": الإيجاز: هو التخفيف، والاختصار، والإكمال: هو إتمام أركانها من الركوع والسجود والانتصاب بينهما، قال: وإدخال هذا الحديث في هذا الباب
(4)
فائدته أنه بيَّن به قدر التخفيف المأمور به، وأنه إنما يُشكى الإمام إذا زاد عليه زيادة فاحشة، فأما إكمال الصلاة، وإتمام أركانها، فليس بتطويل منهيّ عنه. انتهى
(5)
.
(وَيُتِمُّ) بضمّ أوله، من الإتمام، وهو إتمام أركانها، من القراءة، والركوع
(1)
"المصباح المنير" 2/ 648.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 358.
(3)
"الفتح" 2/ 236.
(4)
يعني الباب الذي في "صحيح البخاريّ": "باب من شكا إمامه إذا طوّل".
(5)
"فتح الباري" للحافظ ابن رجب 6/ 233.
والسجود، وكذا سننها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1057 و 1058 و 1059](469)، و (البخاريّ) في "الأذان"(706 و 708)، و (أبو داود) في "الصلاة"(853)، و"الأدب"(4904)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(237)، و (النسائيّ) فيها (2/ 94 و 95)، و (ابن ماجه) فيها (985)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1997)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(3718)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 55)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 170 و 173 و 179 و 231 و 234 و 276 و 279)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 288 و 289)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1604)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1759 و 1886 و 2138)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(726)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1564 و 1565 و 1566 و 1567 و 1568 و 1569 و 1570 و 1571)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1037 و 1038 و 1039)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 115)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(840)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1058]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ أَخَفِّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ).
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا في الباب.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقيه، وهو (59) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (كَانَ مِنْ أَخَفِّ النَّاسِ صَلَاةً)"من" زائدة للتوكيد، و"أخفّ" خبر "كان"، واسمها ضمير "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، و"صلاةً" منصوب على التمييز.
وقوله: (فِي تَمَامٍ)"في" بمعنى "مع"، كما في قوله تعالى:{ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] أي مع أمم، وقيل: التقدير فيه: في جملة أمم، فحُذف المضاف
(1)
، والحديث متّفقٌ عليه، وفوائده ستأتي قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1059]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ، أَخَفَّ صَلَاةً، وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)، وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
(1)
"مغني اللبيب" 1/ 338.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثني".
3 -
(إِسْمَاعِيل بْنَ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.
والباقون ذُكروا قبله.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله أيضًا، كسابقه، ولاحقه، وهو (60) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالمدنيين من إسماعيل.
وقوله: (مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ)"ما" نافية، "وقطُّ" بضمّ الطاء المشدّة ظرف زمان تختصّ بالنفي ماضيًا غالبًا، وقد تجيء في الإثبات، كما أثبت ذلك ابن مالك لغةً في "شرح شواهد التوضيح"، خلافًا لمن منع ذلك.
وقوله: (أَخَفَّ صَلَاةً)"أخفّ" صفة لـ "إمام" ممنوع من الصرف؛ للوصفيّة ووزن الفعل، و"صلاةً" منصوب على التمييز.
وقوله: (وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً) عطف على ما قبله عطف معمولين على معمولين، فـ "أتمّ" عطف على "أخفّ"، و"صلاةً" عطف على "صلاة"، والحديث متّفق عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1060]
(470) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَعَ أُمِّهِ، وَهُوَ في الصَّلَاةِ، فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ، أَوْ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، وكان يتشيّع [8](178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
2 -
(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) هو: ابن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع وعشرين ومائة، وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان تقدّما قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله أيضًا، كالأسانيد الثلاثة قبله، وهو (59) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه ثابتًا من أثبت الناس في أنس رضي الله عنه، ممن كان معروفًا بملازمته، فقد لازمه أربعين سنة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ) ومثله الصبيّة، فليس هذا الحكم خاصًّا بالذكور.
والبُكاء بالضمّ والمدّ، وبالقصر: مصدر بَكَى، من باب ضرب، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جمع الشاعر اللغتين، فقال [من الوافر]:
بَكَتْ عَيْنِي وَحَقَّ لَهَا بُكَاهَا
…
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
، وقال الكرمانيّ رحمه الله:"البكاء" إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه الدمع، وإذا قصرت أردت خروج الدمع، وها هنا ممدود لا محالة بقرينة "فأسمع"؛ إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. انتهى
(2)
.
وقوله: (مَعَ أُمِّهِ) ظرف متعلّق بحال من "الصبيّ"، أي حال كونه كائنًا مع أمه (وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من "رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم"(فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ) قرأ يتعدّى بنفسه، وبالباء، فيقال: قرأتُ أمّ الكتاب، وبأمّ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 59.
(2)
"شرح الكرماني" 5/ 86.
الكتاب، قاله الفيّوميّ
(1)
، وقوله:(الْخَفِيفَةِ) بالجرّ صفة لـ "السورة"، والمراد السورة القصيرة، كما بيّنه قوله:(أَوْ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1060 و 1061](470)، و (البخاريّ) في "الأذان"(708 و 709 و 710)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(376)، و (ابن ماجه) فيها (989)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3718)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2030)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 57)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 109)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1562 و 1563)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1040 و 1041)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1610)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2139)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 118 و 395)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(845 و 846)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب الرفق بالمأمومين، وسائر الأتباع، ومراعاة مصالحهم، وعدم إدخال ما يشقّ عليهم، وإن كان يسيرًا من غير ضرورة.
2 -
(ومنها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان يخفّف صلاته من أجل بكاء الصبيّ حتى لا يشقّ على أمه، وهو مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
3 -
(ومنها): جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد.
4 -
(ومنها): جواز إدخال الصبيان المسجد، لكن بشرط أن لا يخاف
(1)
"المصباح" 2/ 502.
منهم تلويثه، وتنجيسه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1061]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ، مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) التيميّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو جعفر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقيان تقدّما في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، من أوله إلى آخره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ) وفي نسخة: "لأدخل في الصلاة"(أُرِيدُ إِطَالَتَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي حال كوني مريدًا إطالة تلك الصلاة التي أدخل فيها
(فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ) أي أترك إطالتها، وأقتصر على أقلّ ما هو مطلوب فيها، من الأركان، والواجبات، والمستحبّات (مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ") وفي رواية البخاري:"مما أعلم من شدّة وجد أمه من بكائه"، و"من" للتعليل، أي من أجل شدّة حزنها، وشفقتها عليه.
و"الوجدُ": يُطلَق على الحزن، وعلى الحبّ أيضًا، وكلاهما سائغ هنا، والحزن أظهر، أي حزنها، واشتغال قلبها به، قاله النوويّ
(1)
.
وقال في "القاموس": وَجَدَ المطلوبَ، كوَعَدَ، وَوَرِمَ يَجِدُهُ ويَجُدُهُ بضم الجيم، ولا نظير لها وَجْدًا وَجِدَةً وَوُجْدًا ووُجُودًا ووِجْدانًا وإِجْدانًا بكسرهما: أدركه، والمالَ وغيرَهُ يَجِدُهُ وَجْدًا مثلثةً وَجِدَةً: استغنى، وعليه يَجِدُ وَيَجُدُ وَجْدًا وجِدَةً ومَوْجِدةً: غَضِبَ، وبه وَجْدًا في الحبّ فقط، وكذا في الحزن، لكن يكسر ماضيه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عبارة "القاموس" هذه تفيد أن وَجَدَ عليه بمعنى حَزِنَ مكسور الماضي، ولا يفتح، وقد اعتَرض عليه الشارح المرتضى في شرحه، وأفاد أن ماضي وجد بمعنى حزن يجوز فيه الفتح، والكسر، والضمّ، ودونك عبارته بعد نقل أقوال أهل اللغة: فتحصّل من مجموع أقوالهم أن وجد بمعنى حَزِنَ فيه ثلاث لغات: الفتح الذي عليه الجمهور، والكسر الذي عليه اقتصر المصنّف -يعني صاحب "القاموس" والهجريّ، وغيرهما- والضم الذي حكاه اللحيانيّ في "نوادره"، ونقلهما ابن سِيدَهْ في "المحكم" مقتصرًا عليهما. انتهى كلامه
(3)
.
وقد نظمت مُلخّص ذلك، فقلت:
وَوَجَدَ الْمَطْلُوبَ قُلْ كَوَعَدَا
…
وَوَرِمَتْ يَجِدُهُ كَسْرًا بَدَا
يَجُدُهُ بِضَمِّ جِيمٍ وَرَدَا
…
لِعَامِرٍ بِلَا نَظِيرٍ وُجِدَا
وَيَجِدُ الْمَالَ بِكَسرٍ كَوَعَدْ
…
وَالْكَسْرُ وَالضَّمُّ لِغَضْبَانَ وَرَدْ
كَذَاكَ فِي الْحُبِّ وَفِي الْحُزْنِ أَتَى
…
مُثَلَّثَ الْمَاضِي بِـ "تَاجٍ" أُثْبِتَا
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 187.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 413.
(3)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 522 - 523.
قال في "الفتح": وكأنّ ذكر الأمّ هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناها ملتحقٌ بها، واعترضه العينيّ كعادته بما لا وجه له، فتفطّن.
وقال أيضًا: فيه أن من قصد في الصلاة الإتيان بشيء مستحبّ لا يجب عليه الوفاء به، خلافًا لأشهب حيث ذهب إلى أن من نوى التطوّع قائمًا ليس له أن يُتمّه جالسًا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على جواز الإسراع في الصلاة، وإن كان قد شرع في تطويلها؛ لأجل حاجة الأم، ولا حجة فيه للشافعيّ على جواز انتظار الإمام مَن سَمِعَ حسّه داخلًا؛ لأن هذه الزيادة عملٌ في الصلاة بخلاف الحديث. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما نسبه إلى الشافعيّ من احتجاجه على ما ذكر بهذا الحديث بعيد، ولم أر من نسبه إليه غيره، والنووي مع كونه من أشدّ الناس اهتمامًا بأقوال الشافعي، لم يتعرّض لهذا، وإنما ذكر الشافعية ذلك في حديث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وَقْعَ قَدَم"، وقد تقدّم أني رجّحت القول بعدم استحباب انتظار الداخل بتطويل الركوع؛ لعدم ثبوت النصّ عليه، ولأنه لم يُنقل عن السلف، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(39) - (بَابُ اعْتِدَالِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَتَخْفِيفِهَا فِي تَمَامٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1062]
(471) - (وَحَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ حَامِدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ
(1)
"الفتح" 2/ 237.
(2)
"المفهم" 2/ 79.
عَازِبٍ، قَالَ:"رَمَقْتُ الصَّلَاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعَهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عُمَر بن حفص بن عمر بن عُبيد اللَّه بن أبي بكرة الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
[تنبيه]: "البكراويّ" بفتح الموحّدة، وسكون الكاف: نسبة جدّه الأعلى أبي بكرة الصحابيّ رضي الله عنه، وقد سبق بيان هذا
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضاح بن عبد اللَّه تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(هِلَالُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ) ويقال: ابن حميد، ويقال: ابن عبد اللَّه، ويقال: ابن عبد الرحمن، ويقال: ابن مِقْلاص الْجُهَنيّ مولاهم، أبو عمر، ويقال: أبو أمية، ويقال: أبو الجهم الكوفيّ الصيرفيّ الْجِهْبِذ الوَزّان، ثقةٌ [6].
رَوَى عن عبد اللَّه بن عَكيم، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعروة بن الزبير، وأبي بِشْر.
ورَوَى عنه مِسْعرٌ، وإسرائيل، وشيبان، وحجاج بن أرطاة، وأبو عوانة، وشريك، وابن عيينة، وعُمر بن عبيد الطَّنافسيّ، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: لا بأس به، ثنا حامدٌ، ثنا سفيان، قال: كان هلال الوزّان شيخًا قد كَبِرَ، وكان يكتب على البيدر في كل شهر بعشرة دراهم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ولكنه فَرَّق بين هلال بن عبد الرحمن، وهلال بن مِقْلاص، وهلال بن أبي حميد، وأشار البخاريّ إلى أن هلال بن أبي حميد
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 4/ 187.
أصحّ، وقال: قال وكيع: هلال بن حميد، ومرَّةً: هلال بن عبد اللَّه، ولا يصحّ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط هذا برقم (471)، وحديث (529):"لعن اللَّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور. . . "، و (2971):"ما شبعَ آل محمد يومين من خبز. . . ".
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات بوقعة الْجَماجم سنة (83)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.
6 -
(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان جمع بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، وهلال، كما أسلفناه آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من هلال.
شرح الحديث:
(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "رَمَقْتُ الصَّلَاةَ) أي أطلت النظر، يقال: رَمَقَه بعينه رَمْقًا، من باب نظر: أطال النظر إليه
(1)
.
وقال الصنعانيّ رحمه الله: "رمقت الصلاة": أي نظرتها نظر تعرّف، وإخبار لجملتها وتفصيلها، وهي تقال على المحسوسات حقيقةً، وعلى المعقولات مجازًا عن تيقّن معرفتها. انتهى
(2)
.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: معنى "رمقتُ" هنا: المبالغة في النظر، وشدّة التتبّع لأفعاله، وأقواله صلى الله عليه وسلم، ففيه الحثّ على استحباب مراعاة أفعال العالم وأقواله؛ للاقتداء به، فإن تعارض القول والفعل، فعلى أيهما يعتمد؟ فيه خلاف
(1)
"المصباح المنير" 1/ 239.
(2)
"العدّة حاشية العمدة" 2/ 330.
للأصوليين، ليس هذا موضعه. انتهى
(1)
.
وقوله: (مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بحال مقدّر من "الصلاة"، أي حال كونها كائنة معه صلى الله عليه وسلم (فوَجَدْتُ قِيَامَهُ) حَكَى ابن دقيق العيد رحمه الله عن بعض العلماء أنه نَسَبَ هذه الرواية إلى الوهم، ثم استبعده؛ لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل، ثم قال في آخر كلامه: فليُنْظَر ذلك من الروايات، ويحقق الاتحاد، أو الاختلاف من مخارج الحديث. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وقد جمعتُ طرقه، فوجدت مداره على ابن أبي ليلى، عن البراء، لكن الرواية التي فيها زيادة ذكر القيام من طريق هلال بن أبي حميد، عنه، ولم يذكره الْحَكَم عنه، وليس بينهما اختلاف في سوى ذلك، إلا ما زاده بعض الرواة عن شعبة، عن الحكم، من قوله:"ما خلا القيام والقعود"، وإذا جُمِع بين الروايتين ظهر من الأخذ بالزيادة فيهما، أن المراد بالقيام المستثنى: القيام للقراءة، وكذا القعود المراد به: القعود للتشهد. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ لهذا الحديث استثناء لم يُذكر في رواية مسلم، ونصّه:"قال: كان ركوع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبًا من السواء".
قال في "الفتح": قوله: "ما خلا القيامَ، والقعودَ" بالنصب فيهما، قيل: المراد بالقيام الاعتدال، وبالقعود الجلوس بين السجدتين، وجزم به بعضهم، وتَمَسّك به في أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين لا يطوَّلان.
وردّه ابن القَيِّم في كلامه على "حاشية السنن"، فقال: هذا سوء فهم من قائله؛ لأنه قد ذَكَرهما بعينهما، فكيف يستثنيهما؟ وهل يحسن قول القائل: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد إلا زيدًا وعمرًا؟ فإنه متى أراد نفي المجيء عنهما كان تناقضًا. انتهى.
وتُعُقِّب بأن المراد بذكرها إدخالها في الطمأنينة، وباستثناء بعضها إخراج المستثنى من المساواة.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 98 - 99.
(2)
"الفتح" 2/ 337.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التعقّب فيه نظرٌ لا يخفى، بل ردّ ابن القيّم: هو الوجه السديد، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وقال بعض شيوخ شيوخنا: معنى قوله: "قريبًا من السواء" أن كل ركن قريب من مثله، فالقيام الأول قريب من الثاني، والركوع في الأولى قريب من الثانية، والمراد بالقيام والقعود اللذين استُثْنِيا الاعتدال والجلوس بين السجدتين، ولا يخفى تكلُّفه.
واستُدِلّ بظاهره على أن الاعتدال ركن طويلٌ، ولا سيما قوله في حديث أنس الآتي:"حتى يقول القائل: قد نسي"، وفي الجواب عنه تعسُّفٌ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل هو تعسّف بارد بعيد عن مدلول الحديث، فتبصّر.
(فَرَكْعَتَهُ) المراد به الركوع (فَاعْتِدَالَهُ) أي استواءه قائمًا (بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ) أي الرجوع من موضع صلاته إلى موضع حاجته، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد التسليم شيئًا يسيرًا في مصلّاه. انتهى
(2)
.
وكان جلوسه صلى الله عليه وسلم بعد التسليم حتى ينصرف النساء قبل أن يراهنّ الرجال، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مَقَامه يسيرًا قبل أن يقوم، قال: نَرَى -واللَّه أعلم- أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهنّ أحد من الرجال.
وقوله: (قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ") منصوب على أنه مفعول ثانٍ لـ "وَجدتُ".
والمراد أن مقدار قيامه صلى الله عليه وسلم، وركوعه، وسجوده، واعتداله، وجلوسه بين السجدتين، وكذا جلوسه بعد التسليم من الصلاة، إلى أن ينصرف إلى حاجته متقارب، وفيه إشعار بأن فيها تفاوتًا، لكنه لم يُعَيِّنه، وهو دالّ على تطويل الاعتدال، والجلوس بين السجدتين؛ لِمَا عُلِم من عادته صلى الله عليه وسلم من تطويل الركوع
(1)
"الفتح" 2/ 323.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 188.
والسجود، وأن القول بأن الاعتدال ركن قصير قول ضعيفٌ، بل باطلٌ، وكذا الجلوس بين السجدتين.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على تخفيف القراءة، والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع وعن السجود، ونحو هذا قول أنس رضي الله عنه في الحديث الآتي بعده:"ما صَلّيت خلف أحد أوجز صلاةً من صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تمام".
وقوله: "قريبًا من السواء" يدُلّ على أن بعضها كان فيه طول يسير على بعض، وذلك في القيام، ولعله أيضًا في التشهد.
(واعلم): أن هذا الحديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبتت الأحاديث السابقة بتطويل القيام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وأنه كان تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يرجع، فيتوضأ، ثم يأتي المسجد، فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ "سورة المؤمنين"، حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ في المغرب بـ {الطُّورِ} ، وبـ {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، وفي "صحيح البخاريّ" بـ "الأعراف"، وأشباه هذا، وكلُّه يدلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات، وهذا الحديث الذي نحن فيه جَرَى في بعض الأوقات، وقد ذكره مسلم في الرواية الأخرى، ولم يذكر فيه القيام، وكذا ذكره البخاريّ، وفي رواية للبخاريّ:"ما خلا القيام والقعود"، وهذا تفسير الرواية الأخرى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ جيّد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [39/ 1062 و 1063 و 1064](471)، و (البخاريّ) في "الأذان"(792 و 801 و 820)، و (أبو داود) في "الصلاة"(854)، و (الترمذيّ) فيها (279 و 280)، و (النسائيّ) فيها (2/ 197 - 198)،
و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(736)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 280 و 285)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 306)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(610)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1884)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1700)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1042)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 122 - 123)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(628)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس رضي الله عنه يعني الذي بعده بلفظ:"كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي" أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نصّ فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف، وهو قولهم: لم يُسَنّ فيه تكرير التسبيحات، كالركوع والسجود، ووَجْهُ ضعفه أنه قياس في مقابلة النصّ، وهو فاسدٌ، وأيضًا فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير "سبحان ربي العظيم" ثلاثًا يجيء قدر قوله:"اللهم ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، وقد شُرع في الاعتدال ذكر أطول، كما أخرجه مسلم، من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى، وأبي سعيد الخدريّ، وعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهم بعد قوله:"حمدًا كثيرًا طيبًا ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعدُ"، زاد في حديث ابن أبي أوفى:"اللهم طَهِّرني بالثلج. . . إلخ"، وزاد في حديث الآخَرَين:"أهلَ الثناء والمجد. . . إلخ"، وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أثنى على رجل زاد من عند نفسه في الاعتدال ذكرًا
(1)
.
ومن ثَمّ اختار النوويّ جواز تطويل الركن القصير بالذكر، خلافا للمرجَّح في المذهب، واستَدَلَّ لذلك أيضًا بحديث حذيفة رضي الله عنه في مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قرأ
(1)
هو: ما يأتي برقم (600) عن أنس رضي الله عنه، أن رجلًا جاء، فدخل الصفّ، وقد حَفَزَه النفَسُ، فقال: الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاته، قال:"أيكم المتكلم بالكلمات؟ " فأرمّ القوم، فقال:"أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأسًا"، فقال رجل: جئت وقد حَفَزني النفسُ فقلتها، فقال:"لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها أيُّهُم يرفعها".
في ركعة بالبقرة، أو غيرها، ثم ركع نحوًا مما قرأ، ثم قام بعد أن قال:"ربنا لك الحمد" قيامًا طويلًا قريبًا مما ركع، قال النوويّ: الجواب عن هذا الحديث صَعْبٌ، والأقوى جواز الإطالة بالذكر. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا من إنصاف النوويّ رحمه الله، وإيثاره النصّ على مذهبه، فقد ثبت في مذهبه أنهم قالوا ببطلان الصلاة بتطويل الاعتدال، وهكذا ينبغي لمقلّدي الأئمة أن يتّبعوا النصوص وإن خالفت نصّ إمامهم؛ لأن نصوص الكتاب والسنة مضمون فيها الحقّ والصواب، لا يتطرّق إليها خلاف ذلك بوجه من الوجوه، بخلاف نصوص الأئمة، فإنها عُرْضة للخطأ والزلل، فالواجب على العاقل أن يتمسّك بالنصوص حيثما كانت، وعند من كانت، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وقد أشار الشافعيّ في "الأُمّ" إلى عدم البطلان، فقال في ترجمة "كيف القيام من الركوع": ولو أطال القيام بذكر اللَّه، أو يدعو، أو ساهيًا، وهو لا ينوي به القنوت، كرهت له ذلك، ولا إعادة، إلى آخر كلامه في ذلك.
فالعجب ممن يُصَحِّح مع هذا بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال، وتوجيهُهُم ذلك أنه إذا أطيل انتفت الموالاة مُعْتَرَضٌ بأن معنى الموالاة أن لا يتخلَّل فصلٌ طويلٌ بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشرع لا يصحّ نفي كونه منها، واللَّه أعلم.
وأجاب بعضهم عن حديث البراء رضي الله عنه أن المراد بقوله: "قريبًا من السواء" ليس أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت قريبًا معتدلةً، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان، وإذا أخفّها أخفّ بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بـ "الصافات"، وثبت في "السنن" عن أنس رضي الله عنه أنهم حَزَرُوا في السجود قدر عشر تسبيحات، فيُحْمَل على أنه إذا قرأ بدون "الصافات"، اقتصر على دون العشر، وأقلُّه كما ورد في "السنن" أيضًا ثلاث تسبيحات. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد اتّضح بما سبق مما قاله محقّقو الشافعيّة،
(1)
"الفتح" 2/ 337 - 338.
كالنوويّ، وابن دقيق العيد، وصاحب "الفتح" أن قول من قال: إن الاعتدال ركنٌ قصير ضعيفٌ، بل باطلٌ؛ لمنابذته الأحاديث الصحيحة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: الحديث الذي ورد في ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود، هو: ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه عن عون بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد، فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه"
(1)
.
وهو حديث ضعيفٌ؛ للانقطاع، قال الترمذيّ: حديث ابن مسعود ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد اللَّه بن عتبة، لم يلق ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى.
وقال أبو داود بعد إخراجه: هذا مرسل -أي منقطع- عون لم يُدرك ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى.
قال الترمذيّ رحمه الله: والعمل على هذا عند أهل العلم، يَستحِبّون أن لا يَنقُص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات، ورُوي عن عبد اللَّه بن المبارك أنه قال: أستحب للإمام أن يسبح خمس تسبيحات؛ لكي يدرك مَن خلفه ثلاث تسبيحات، وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1063]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ
(3)
رَجُلٌ قَدْ سَمَّاهُ، زمَنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَكَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا رَفَعَ
(1)
حديث ضعيف؛ للانقطاع، أخرجه أبو داود برقم (886)، والترمذيّ برقم (242)، وابن ماجه برقم (890).
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "على أهل الكوفة".
رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ قَدْرَ مَا أَقُولُ:"اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ"، قَالَ الْحَكَمُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرُكُوعُهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَسُجُودُهُ، وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ، قَالَ شُعْبَةُ: فَذَكَرْتُهُ لِعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَلَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ هَكَذَا).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل باب.
4 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والبراء رضي الله عنه، تقدّما في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الحكم، عن ابن أبي ليلى، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْحَكَمِ) بن عُتيبة: أنه (قَالَ: غَلَبَ) بالبناء للفاعل (عَلَى الْكُوفَةِ) وفي نسخة: "على أهل الكوفة"، وهي المدينة المعروفة، وقد تقدّم الكلام عليها
قريبًا (رَجُلٌ) بالرفع على الفاعليّة لـ "غلب"، وقوله:(قَدْ سَمَّاهُ) هذا قول شعبة، والضمير المرفوع للحكم، والمنصوب لـ "رجلٌ"، أي سمّى الحكم أي عيّن اسم ذلك الرجل، ويأتي في الرواية التالية تسميته بمطر بن ناجية (زَمَنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ) بنصب "زمن" على الظرفيّة، وهو متعلّق بـ "غَلَب".
و"ابن الأشعث" هذا هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الْكِنديّ، الأمير متولّي سِجِستان، بعثه الحجاج على سِجِستان، فثار هناك، وأقبل في جمع كبير، وقام معه علماء وصلحاء للَّه تعالى، لِمَا انتَهَك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته، فقاتله الحجاج، وجَرَى بينهما عِدّة مُصافّات، وينتصر ابن الأشعث، ودام الحرب أشهرًا، وقُتِل خلق من الفريقين، وفي آخر الأمر انهزم جمع ابن الأشعث، وفَرّ هو إلى الملك رُتْبِيل ملتجئًا إليه، فقال له علقمة بن عمرو: أخاف عليك، وكأني بكتاب الحجاج قد جاء إلى رُتْبيل يُرْغِبه ويُرْهِبه، فإذا هو قد بَعَث بك، أو قتلك، ولكن ها هنا خمسمائة مقاتل، قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نَتَحَصَّن بها، ونقاتل حتى نُعْطَى أمانًا، أو نموت كرامًا، فأبى عليه، وأقام الخمسمائة حتى قَدِمَ عُمارة بن تميم، فقاتلوه حتى أَمَّنَهم، ووَفَى لهم، ثم تتابعت كتب الحجاج إلى رُتْبيل بطلب ابن الأشعث، فبَعَثَ به إليه على أن تَرْك له الْحمل
(1)
سبعة أعوام، وقيل: إن ابن الأشعث أصابه السِّلّ فمات، فقُطِع رأسه، ونَفِذ إلى الحجاج، وقيل: إن الحجاج كَتَب إلى رُتْبيل: إني قد بعثت إليك عُمَارة في ثلاثين ألفًا يطلبون ابن الأشعث، فأبى أن يُسَلِّمه، وكان مع ابن الأشعث عُبيد بن أبي سُبيع، فأرسله إلى رُتْبيل، فَخَفّ على رتبيل، واختَصّ به، قال لابن الأشعث أخوه القاسم: لا آمن غَدْر رُتبيل، فاقتله، يعني عُبيدًا، فَهَمّ به، فَفَهِم ذلك، وخاف، فوَشَى به إلى رُتبيل، وخَوَّفه من غائلة الحجاج، وهَرَب سرًّا إلى عُمَارة، فاستعجل في ابن الأشعث ألف ألف درهم، فكَتَب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب: أن أعط عُبيدة، ورُتبيل ما طَلَبا، فاشترط أمورًا، فأعطيها، وأرسل إلى ابن الأشعث، وإلى ثلاثين من أهل بيته، وقد هيأ لهم القيود والأغلال، فقَيَّدهم،
(1)
هكذا النسخة، ولعل المعنى ترك حمل الجزية إلى الحجّاج، واللَّه تعالى أعلم.
وبَعَث بهم إلى عُمارة، وسار بهم، فلما قَرُب ابن الأشعث من العراق ألقى نفسه من قصر خراب أنزلوه فوقه، فهلك، فقيل: ألقى نفسه والحرّ معه الذي هو مقيَّد معه، والقيد في رجلي الاثنين فهَلَكا، وذلك في سنة أربع وثمانين
(1)
.
(فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، والأصحّ أنه لا يصحّ سماعه من أبيه، وهو أحد الأعلام من ثقات الكوفيين، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 85/ 452. (أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ) أي أن يؤمّ أبو عبيدة الناسَ في الصلاة (فَكَانَ) أبو عبيدة (يُصَلِّي) أي بالناس (فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ قَدْرَ مَا أَقُولُ) بنصب "قدر" على الظرفيّة متعلّق بـ "قام"، "وما" مصدريّة، أي قدر قولي ("اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ) بنصب "ملء" على الحال، أي مالئَ السماوات، ويجوز رفعه على أنه نعت لـ "الحمد" (وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد ما ذُكر (أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ) بنصب "أهل" على المدح، أو النداء، ويجوز رفعه خبرًا لمحذوف، أي أنت أهل الثناء، و"الثناءُ": الحمد، و"المجد": العظمة (لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ") بفتح الجيم على المشهور، ومعناه: الحظّ والغنى، أي لا ينفع صاحب الحظ والغنى غناه، وقيل: بكسر الجيم، أي لا ينفع صاحب الاجتهاد اجتهاده (مِنْكَ الْجَدُّ") "من" هنا بمعنى البدل، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ} الآية [الزخرف: 60]، أي بدلكم، والمعنى هنا: أي لا ينفع ذا الغنى غناه بدل طاعتك، وسيأتي تمام شرح هذه الألفاظ بعد باب -إن شاء اللَّه تعالى- (قَالَ الْحَكَمُ) بن عتيبة (فَذكَرْتُ ذَلِكَ) أي هذا الوصف لصلاة أبي عُبيدة (لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ) أي عبد الرحمن (سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هكذا في هذه الرواية، وفي الرواية السابقة: "فوجدت قيامه"، والظاهر أنه أراد بالصلاة هنا القيام، حيث عطف عليه قوله: (وَرُكُوعُهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ) قال في "العمدة": "إذا"
(1)
"سير أعلام النبلاء" 4/ 183 - 184 للحافظ الذهبيّ رحمه الله.
للوقت المجرّد منسلخًا عنه معنى الاستقبال. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: "إذا" هنا بمعنى "وقت" معطوف على اسم "كان"، والتقدير: ووقتُ رفع رأسه، وكون "إذا" للوقت المجرد عن معنى الشرط قول لبعض النحاة، فقد أعربوها مبتدأ، وخبرًا، ومفعولًا به، وغير ذلك، كما ذكر ابن هشام في "مغنيه"
(2)
. (وَسُجُودُهُ، وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ)"ما" موصولة عطف على اسم "كان" أيضًا، والمراد: الجلوس بين السجدتين (قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ) بالنصب على أنه خبر "كان"، وفيه إشعار بأن في هذه الأفعال المذكورة تفاوتًا، فبعضها كان أطول من بعض.
(قَالَ شُعْبَةُ) بن الحجّاج الراوي عن الحكم (فَذَكَرْتُهُ) أي ما أخبره به الحكم عن ابن أبي ليلى (لِعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) الجمليّ المراديّ، تقدّم في الباب الماضي (فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَلَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ هَكَذَا) يعني أنه يخالف هذا الوصف الذي رواه عن البراء بن عازب عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولعله رآه في وقت لم يتمكّن من إتمام ذلك؛ لعذر طرأ عليه، أو كان له اجتهاد يراه، واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّمت مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1064]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، أَنَّ مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى الْكُوفَةِ، أَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
رجال هذا الإسناد:
خمسة، وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، والحَكم في الحديث الماضي.
(1)
"عمدة القاري" 6/ 97.
(2)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 176 - 187.
وقوله: (مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ) هو: الرياحيّ، من بني يربوع، من تميم، وكان من الشجعان، ظهر في أيام الحجاج بن يوسف الثقفيّ، ومات بعد (82 هـ)
(1)
.
[تنبيه]: رواية شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(4/ 285) فقال:
(18050)
حدّثنا إسماعيل -يعنى ابن علية- أخبرنا شعبة، عن الحكم بن عُتيبة، أنّ
(2)
مَطَرَ بن ناجية استَعْمَل أبا عبيدة بن عبد اللَّه على الصلاة، أيام ابن الأشعث، فكان إذا رفع رأسه من الركوع، قام قدرَ ما أقول، أو وَقَدْ قال: قدر قوله: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعدُ، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعْطِي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ"، قال الحكم: فحدَّثت ذاك عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال: حدَّثني البراء بن عازب، قال: كان ركوع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإذا رَفَع رأسه من الركوع، وسجوده، وما بين السجدتين قريبًا من السواء. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1065]
(472) - (حَدَّثَنَا
(3)
خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ، كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا، حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ
(4)
: قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مَكَثَ، حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة، كلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
ومن لطائف الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (62) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فبغداديّ.
(1)
راجع: "معجم الأعلام"(ص 846).
(2)
وقع في "النسخة "ابن" بدل "أنّ"، وهو غلط بلا شكّ.
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(4)
وفي نسخة: "حتى يقول الناس".
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: إِنِّي لَا آلُو) بهمزة ممدودة، بعد حرف النفي، ولام مضمومة، بعدها واوٌ: أي لا أقصّر (أَنْ) بالفتح مصدريّة (أُصَلِّيَ بِكُمْ، كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا) فيه تصريح من أنس رضي الله عنه بأنه يصف صلاة رسول صلى الله عليه وسلم بالفعل (قَالَ) وفي رواية البخاريّ: "قال ثابت"(فَكَانَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ) وفي رواية البخاريّ: "لم أركم"(تَصْنَعُونَهُ) فيه إشعارٌ بأن من خاطبهم كانوا يُخلّون بتطويل الاعتدال، ولا يُطيلون الجلوس بين السجدتين، ولكن السنّة إذا ثبتت لا يُبالي من تمسّك بها بمخالفة من خالفها، قاله في "الفتح"
(1)
. وقوله: (كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، والتقدير هنا: ما الشيء الذي كان يصنعه أنس رضي الله عنه، فأجاب بقوله: كان إذا رفع رأسه (مِنَ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ) أي قام، فقوله:(قَائِمًا) حال مؤكّدة لعاملها، وهو "انتصب"، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
فِي نَحْوِ "لَا تَعْثَ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا"
(حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ) وفي بعض النسخ: "حتى يقول الناس"، وهو بنصب "يقولَ" على أن "حتّى" بمعنى "إلى"، و"أن" مضمرة بعدها وجوبًا، أي إلى أن يقول القائل.
ومعنى الحديث: أنه يُطيل القيام، حتى يقول القائل: إنه قد نسي ما بعده، ويحتمل أن يكون القول بمعنى الظنّ؛ لأنه قد يأتي بمعناه.
[تنبيه]: قال التوربشتيّ رحمه الله: نُصِبَ "يقول" بـ "حتى"، وهو الأكثر، ومنهم من لا يُعْمل "حتى" إذا حسن "فَعَلَ" موضع "يفعل"، كما يحسن في هذا الحديث حتى قالوا: قد نسي، وأكثر الرواة على ما علمنا على النصب، وكان تركه من حيث المعنى أتمّ وأبلغ. انتهى.
وقال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله: لا ينتصب الفعل بعد "حتى" إلا إذا كان مستقبلًا، ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن التكلّم، فالنصب واجبٌ، نحو:
(1)
"الفتح" 2/ 288.
{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} الآية [طه: 91]، وإنا كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصّةً فالوجهان، نحو:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} الآية [البقرة: 214]، فإن قولهم إنما هو مستقبل بالنظر إلى الزلزال، لا بالنظر إلى زمن قصّ ذلك علينا، وكذلك لا يرتفع الفعل بعد "حتى" إلا إذا كان حالًا، ثم إن كانت حاليّته بالنسبة إلى زمن التكلّم فالرفع واجبٌ، كقولك: سرتُ حتى أدخلُ البلدَ، إذا قلت ذلك وأنت في حالة الدخول، وإن كانت حاليّته ليست حقيقيةً، بل محكيّةً رُفع، وجاز نصبه إذا لم تقدّر الحكاية، نحو:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} الآية قرأ نافع بالرفع بتقدير: حتى حالتهم حينئذ أن الرسول والذين آمنوا معه يقولون كذا وكذا.
(واعلم): أنه لا يرتفع الفعل بعد "حتى" إلا بثلاثة شروط:
[أحدها]: أن يكون حالًا، أو مؤوّلًا بالحال كما مثّلنا.
[والثاني]: أن يكون مسبَّبًا عما قبلها، فلا يجوز: سرتُ حتى تطلعُ الشمس؛ لأن طلوع الشمس لا يتسبّب عن السير.
[والثالث]: أن يكون فضلةً، فلا يصحّ في نحو: سيري حتى أدخلها؛ لئلا يبقى المبتدأ بلا خبر. انتهى كلام ابن هشام رحمه الله
(1)
.
وإلى القاعدة المذكورة لـ "حتى" أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَبَعْدَ "حَتَّى" حَالًا أَوْ مُؤَوَّلَا
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا
(قَدْ نَسِيَ) أي ترك النزول للسجود، وأهمله، و"نَسِيَ" -بفتح أوله، وكسر ثانيه- من باب رَضِيَ نَسْيًا -بالفتح- ونِسْيًا، ونِسيانًا، ونِسَاوَةً بكسرهنّ، ونَسْوةً: ضدّ حَفِظَهُ، أفاده في "القاموس"، و"اللسان"
(2)
، وفي "المصباح": نَسِيتُ الشيءَ أَنْسَاهُ نِسْيانًا مشترك بين معنيين: أحدهما: ترك الشيء على ذُهُول وغَفْلَة، وذلك خلافُ الذكر له، والثاني: الترك على تعمّد، وعليه قوله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، أي لا تقصدوا الترك والإهمال،
(1)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 250.
(2)
راجع: "القاموس المحيط" 4/ 395، و"لسان العرب" 15/ 322.
ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، ونَسِيتُ ركعةً: أهملتها ذُهُولًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: المناسب هنا الترك ذُهُولًا، كما لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": قوله: "قد نسي": أي نسي وجوب الْهُويّ إلى السجود، قاله الكرمانيّ، ويَحْتَمِلُ أن يكون المراد أنه نسي أنه في صلاة، أو ظنّ أنه وقت القنوت حيث كان معتدلًا، أو وقت التشهّد حيث كان جالسًا، ووقع عند الإسماعيليّ من طريق غندر، عن شعبة، عن ثابت:"قلنا: قد نَسِي من طول القيام"، أي لأجل طول قيامه. انتهى.
(وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مَكَثَ) أي تلبّث، يقال: مَكَثَ مَكْثًا، من باب نصر: أقام، وتلبّثَ، فهو ماكثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثلُ قَرُبَ قُرْبًا، فهو قَرِيبٌ لغةٌ، وقرأ السبعة قوله تعالى:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتمكّث في أمره: إذا لم يَعْجَلْ فيه، أفاده الفيّوميّ
(2)
. (حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ) أي ترك ما بعده من أجزاء الصلاة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 1065](472)، و (البخاريّ) في "الأذان"(800 و 821)، و (أبو داود) في "الصلاة"(853)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 162 و 226 و 247)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(609)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1885 و 1902)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1842)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1044)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 98)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(629)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 604.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 577.
(المسألة الثالثة): قال في "المرعاة": هذا الحديث نصّ صريح في تطويل الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، وقد ترك الشافعيّة والحنفيّة هذه السنّة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من عالم، وفقيه، وإمام، ومنفرد، وصغير، وكبير، والأعظم من ذلك أنهم إذا رأوا من يُطيل الاعتدال من الركوع، والجلوس من بين السجدتين شغبوا عليه، وجهّلوه، وسفّهوه، وتركوا الاقتداء به.
قال بعض الحنفيّة معتذرًا عن أمثال هذا الحديث: إن فيها مبالغة الراوي.
قال: قال شيخنا ردًّا عليه: كلَا ثم كلّا، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يبالغون من عند أنفسهم في وصف صلاته صلى الله عليه وسلم، وحكاية أفعاله في الصلاة وغيرها، ولا يُقصّرون، بل يَحكونها على حسب ما رأوا، فحمله على مبالغة الراوي باطلٌ مردود عليه.
وحَمَل بعضهم حديث أنس رضي الله عنه هذا على ابتداء الأمر حين كان يُطوّل صلاته، قال: ثم أمر بالتخفيف بعده.
وهذا ادّعاء محضٌ لا دليل على كون ما في هذا الحديث لابتداء الأمر، فلا يُلتفت إليه.
وقال بعضهم: كانت هذه الإطالة في صلاة النافلة.
وهذا الحمل أيضًا يَحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، بل يردّه إطلاق ما رُوي عن ثابت، قال:"كان أنس يَنعتُ لنا صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يُصلّي، فإذا رفع رأسه من الركوع قال حتى نقول: قد نسي"، أخرجه البخاريّ.
وقال بعضهم: لم يَذكُر هذه الصفة إلا أنس من بين الصحابة رضي الله عنهم الذين رووا صفة صلاته صلى الله عليه وسلم.
وتُعُقّب بأنه لم ينفرد به أنس رضي الله عنه، بل وافقه البراء بن عازب رضي الله عنهما كما تقدّم، وحُذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عند المصنّف، ولفظه:"ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع اللَّه لمن حمده، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه"
(1)
.
(1)
سيأتي للمصنف رحمه الله برقم (772) عن حذيفة رضي الله عنه قال: صلَّيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات =
ولو سُلّم أنه لم يذكر هذه الصفة غير أنس لا يضرّ من قال بمشروعيّتها، فكم من صفة من صفات الصلاة تفرّد بذكرها بعض الصحابة، وقد أخذ بها الأئمة، وعملوا بها، وعدُّوها من سنن الصلاة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن تطويل الاعتدال، والجلوس بين السجدتين ثابت بهذه الأحاديث، ولكن لا بدّ أن نعلم أن أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم مختلفة في التطويل، والإيجاز، فكان تارة يُطوّل، وتارة يُوجز، على حسب ما يراه من أحوال المأمومين، فكذلك يكون الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، فمن يصلّي وحده يطّول كيف شاء، ومن يصلّي بالناس يراعي أحوالهم، فهذا هو الحقّ الأبلج، والمنهج الأبهج، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1066]
(473) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ
(3)
، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِثٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ، أَوْجَزَ صَلَاةً مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَمَامٍ، كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَارِبَةً، وَكَانَتْ صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَدَّ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-إِذَا قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ، وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ).
= ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها يقرأ مترسلًا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ، ثم ركع، فجعل يقول:"سبحان ربي العظيم"، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال:"سمع اللَّه لمن حمده"، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال:"سبحان ربي الأعلى"، فكان سجوده قريبًا من قيامه.
(1)
"المرعاة" 3/ 185.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "حدّثنا بهز بن أسد".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10]، مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(بَهْز) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبثٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(حَمّاد) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ، والنسائيّ، وأما حماد بن سلمة، فقد علّق له البخاريّ، بل قيل: أخرج له حديثًا واحدًا في "كتاب الرقاق".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن حمّادًا أثبت من روى عن ثابت، وثابت من أثبت الناس في أنس رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَا) نافية (صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ، أَوْجَزَ صَلَاةً) منصوب على التمييز (مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَمَامٍ) أي مع تمامها بأركانها وسننها، وآدابها، فـ "في" بمعنى "مع"(كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَارِبَةً) أي في طولها، وقصرها، فإذا طوّل القيام طوّل الركوع والسجود، وغيرهما، وإذا أوجز في القيام أوجز فيها (وَكَانَتْ صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (مُتَقَارِبَةً، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (مَدَّ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) أي طوّل فيها تطويلًا زائدًا، وذلك ليدرك الناس الجماعة؛ لكثرتهم في عهده (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ) بفتح الهمزة، والهاء فعل
ماض مبنيّ للفاعل، قال ابن الأثير رحمه الله: أوهم في صلاته: أي أسقط منها شيئًا، يقال: أوهمتُ الشيءَ: إذا تركته، وأوهمت في الكلامِ والكتابِ: إذا أسقطت منه شيئًا، ووَهَمَ إلى الشيءِ -بالفتح- يَهِمُ وَهْمًا: إذا ذهب وَهْمُهُ إليه، ووَهِمَ -يعني بكسر الهاء- يوْهَم وَهَمًا: إذا غَلِطَ. انتهى
(1)
.
والمعنى هنا: أنه يلبث في حال الاستواء من الركوع زمانًا نقول فيه أنه أسقط الركعة التي ركعها، وعاد إلى ما كان عليه من القيام، أو نسي أنه في صلاة، قال ابن الملك: ويقال: أوهمته: إذا أوقعته في الغلط، وعلى هذا يكون أُوهِم على صيغة المجهول، أي أُوقِعَ عليه الغلط، ووقَفَ سَهْوًا. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن الملك يحتاج إلى ثبوته روايةً، وأيضًا ركيك من حيث المعنى، فتنبّه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد أوهم" كذا صوابه بفتح الهمزة والهاء، فعلٌ ماض مبنيّ للفاعل، ومعناه: تَرَكَ، قال ثعلبٌ: يقال: أوهمتُ الشيءَ أُوهِمه: إذا تركته كلّه، ووَهِمْتُ في الحساب وغيره أَوْهَمُ: إذا غَلِطتَ، ووَهَمْتُ -أي بفتح الهاء- إلى الشيء أَهِمُ وَهْمًا: إذا ذهب وَهْمُك إليه، وأنت تريد غيره. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ يَسْجُدُ، وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ) أي أسقط ما بعد ذلك، وتركه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 1066](473)، و (أبو داود) في "الصلاة"(853)، و (أحمد) في "مسنده"(12631 و 13088)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1569 و 1571 و 1579)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1045)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"النهاية" 5/ 233 - 234.
(2)
"المفهم" 2/ 81.
(40) - (بَابُ مُتَابَعَةِ الإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، والْعَمَلِ بَعْدَهُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1067]
(474) - (حَدَّثَنَا
(1)
أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ:(ح)
(2)
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا
(3)
أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، لَمْ أَرَ أَحَدًا يَحْنِي ظَهْرَهُ، حَتَّى يَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَخِرُّ مَنْ وَرَاءَهُ سُجَّدًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن يونس بن عبد اللَّه بن قيس، نُسب لجدّه التميميّ الْيَرْبوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زُهَيْر) بن معاوية بن حُديج، وهو أبو خيثمة المذكور بعد التحويل الْجُعفيّ الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأَخَرَة [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، اختلط في آخره [3](ت 129) أو قبلها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
4 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) بن زيد بن حُصين الأنصاريّ الْخَطْميّ، صحابيّ صغير، ولي الكوفة لابن الزبير (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 456.
6 -
(الْبَرَاءُ) بن عازب رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: تأخير "قال" عن الحاء.
(3)
وفي نسخة: "حدّثنا".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ ابن صحابيّ، عن صحابيّ ابن صحابيّ، كلاهما من الأنصار، ثم من الأوس، وكلاهما سكن الكوفة، قاله في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ.
[فإن قلت]: قد سبق آنفًا أن سماع زهير عن أبي إسحاق بعدما اختلط، فلماذا أخرجه المصنّف من طريقه؟.
[قلت]: لم ينفرد به زهير عنه، بل تابعه سفيان الثوريّ، فرواه عنه، كما في السند التالي، وشعبة عند النسائيّ (829)، وهما ممن أخذ عنه قبل اختلاطه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) الْخَطميّ، منسوب إلى خَطْمَة -بفتح المعجمة، وإسكان الطاء- بطنٌ من الأوس، وكان عبد اللَّه المذكور أميرًا على الكوفة في زمن ابن الزبير، ووقع في رواية للبخاريّ أن أبا إسحاق قال: سمعت عبد اللَّه بن يزيد يخطب، وأبو إسحاق معروف بالرواية عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، لكنه سمع هذا عنه بواسطة، قاله في "الفتح".
(قَالَ) أي عبد اللَّه بن يزيد (حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ) بن عازب رضي الله عنهما (وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ) الظاهر أنه من كلام عبد اللَّه بن يزيد، وعلى ذلك جَرَى الحميديّ في "جمعه"، وصاحب "العمدة"، لكن رَوَى عبّاس الدُّوريّ في "تاريخه" عن يحيى بن معين أنه قال: قوله: هو غير كذوب إنما يريد عبدَ اللَّه بن يزيد الراويَ
(1)
2/ 213.
عن البراء، لا البراء، ولا يقال لرجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: غير كذوب، يعني أن هذه العبارة إنما تَحْسُنُ في مشكوك في عدالته، والصحابة كلُّهم عدول، لا يحتاجون إلى تزكية.
وقد تعقبه الخطابيّ، فقال: هذا القول لا يوجب تُهْمَةً في الراوي، إنما يوجب حقيقة الصدق له، قال: وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي، والعمل بما رَوَى، كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت خليلي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: حدَّثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي عياض، وتبعه النوويّ: لا وَصْمَ في هذا على الصحابة؛ لأنه لم يُرِد به التعديل، وإنما أراد به تقوية الحديث؛ إذ حدَّث به البراء، وهو غير مُتَّهَمٍ، ومثل هذا قول أبي مسلم الخولانيّ: حدَّثني الحبيب الأمين، وقد قال ابن مسعود، وأبو هريرة رضي الله عنهما، فذكرهما، قال: وهذا قالوه تنبيهًا على صحة الحديث، لا أنّ قائله قَصَد به تعديل راويه، وأيضًا فتنزيه ابن معين للبراء عن التعديل لأجل صحبته، ولم يُنَزِّه عن ذلك عبد اللَّه بن يزيد، لا وجه له، فإن عبد اللَّه بن يزيد معدود في الصحابة. انتهى كلامه.
وقد علمتَ أنه أخذ كلام الخطابيّ، فبسطه، واستَدْرَك عليه الإلزام الأخير، وليس بوارد؛ لأن يحيى بن معين لا يُثْبت صحبة عبد اللَّه بن يزيد، وقد نفاها أيضًا مصعب الزبيريّ، وتوقف فيها أحمد بن حنبل، وأبو حاتم، وأبو داود، وأثبتها ابن الْبَرْقيّ، والدارقطنيّ، وآخرون.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى الكلام: حدثني البراء، وهو غير مُتَّهَمٍ كما علمتم، فَثِقُوا بما أخبركم به عنه.
وقد اعتَرَض بعض المتأخرين على التنظير المذكور، فقال: كأنه لم يُلِمّ بشيء من علم البيان؛ للفرق الواضح بين قولنا: فلان صدوق، وفلان غير كذوب؛ لأن في الأول إثبات الصفة للموصوف، وفي الثاني نفي ضدّها عنه، فهما مفترقان، قال: والسرّ فيه أن نفي الضدّ كأنه يقع جوابًا لمن أثبته يخالف إثبات الصفة. انتهى.
والذي يظهر لي أن الفرق بينهما أنه يقع في الإثبات بالمطابقة، وفي النفي بالالتزام، لكن التنظير صحيح بالنسبة إلى المعنى المراد باللفظين؛ لأن
كلًّا منهما يَرِد عليه أنه تزكية في حقّ مقطوع بتزكيته، فيكون من تحصيل الحاصل، ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدّم، من أن المراد بكلّ منهما تفخيم الأمر، وتقويته في نفس السامع.
وذكر ابن دقيق العيد: أن بعضهم استَدَلّ على أنه كلام عبد اللَّه بن يزيد بقول أبي إسحاق في بعض طرقه: سمعت عبد اللَّه بن يزيد، وهو يخطب، يقول: حدثنا البراء، وكان غير كذوب، قال: وهو مُحْتَمِلٌ أيضًا.
قال الحافظ رحمه الله: لكنه أبعد من الأول، وقد وجدت الحديث من غير طريق أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن يزيد، وفيه قوله أيضًا: حدثنا البراء، وهو غير كذوب، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق محارب بن دثار، قال: سمعت عبد اللَّه بن يزيد على المنبر، يقول، فذكره، وأصله في مسلم -يعني الرواية الآتية بعد حديث- لكن ليس فيه قوله: وكان غير كذوب، وهذا يُقَوِّي أن الكلام لعبد اللَّه بن يزيد، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ظاهر السياق يقتضي أنه من كلام عبد اللَّه بن يزيد في حقّ البراء، ورجّح ذلك الخطّابيّ وغيره، وقال ابن معين وغيره: إنما هو من قول أبي إسحاق في حقّ عبد اللَّه بن يزيد، وقالوا: إن الصحابة أجلّ من أن يوصفوا بنفي الكذب.
قال: وهذا ليس بشيء، ونفيُ الكذب صفة مدح لا ذمّ، وكذلك نفي سائر النقائص، وقد كان عليّ بن أبي طالب يقول: واللَّه ما كَذَبْتُ، ولا كُذِبْتُ، فنَفَى الكذب عن نفسه، وأشار إلى نفيه عمن أخبره، وهو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها في حقّ عمر، وابن عمر: إنكم لتُحدِّثون عن غير كاذبين، ولا مكذَّبين، ولكنّ السمعَ يُخطئ.
وأبلغ من هذا أن اللَّه عز وجل ينفي عن نفسه النقائص والعيوب، كالظلم، وإرادته، والغفلة، والنسيان، وكذلك نفيه للشريك، والصاحبة، والولد، وليس في شيء من ذلك نقصٌ بوجهٍ ما.
وأيضًا فعبد اللَّه بن يزيد هو الْخَطميّ، وهو معدود من الصحابة، وله
(1)
"الفتح" 2/ 213.
رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكيف حَسُنَ نفي الكذب عنه دون البراء، وكلاهما صحابيّ، وإن كان البراء أشهر منه، وأكثر روايةً، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تحصّل من مجموع ما قالوا: أن الأرجح كون قوله: "وهو غير كذوب" من قول عبد اللَّه بن يزيد، والمراد به مجرّد تأكيد الرواية، لا تزكية الصحابيّ، ويُقَوّي ذلك ما جاء من طريق محارب بن دثار، عند أبي عوانة، كما سبق آنفًا.
لكن بقي أن يقال: إن نفي الكذوبيّة لا يستلزم نفي الكاذبيّة، أي إن نفي المبالغة في الكذب لا يستلزم نفي أصل الكذب وقليله، والمطلوب نفي مطلق الكذب، لا نفي المبالغة فيه.
وأجيب بأن المعنى أنه غير كاذب، فهو من قبيل قوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، واللَّه تعالى أعلم.
[فائدة]: رَوَى الطبرانيّ في مسند عبد اللَّه بن يزيد هذا شيئًا، يدُلُّ على سبب روايته لهذا الحديث، فإنه أخرج من طريقه أنه كان يصلي بالناس بالكوفة، فكان الناس يَضَعُون رؤوسهم قبل أن يَضَع رأسه، ويرفعون قبل أن يرفع رأسه، فذكر الحديث في إنكاره عليهم، قاله في "الفتح"
(2)
.
(أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَفَعَ) صلى الله عليه وسلم (رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ) وفي الرواية التالية: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، لم يَحْنِ أحدٌ منَّا"، وفي الرواية الآتية من طريق محارب بن دثار، عن عبد اللَّه بن يزيد:"فإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: سمع اللَّه لمن حمده، لم نزل قيامًا"(لَمْ أَرَ أَحَدًا) أي من الصحابة الذين يصلّون وراءه صلى الله عليه وسلم (يَحْنِي ظَهْرَهُ) بفتح حرف المضارعة، وسكون الحاء المهملة، وكسر النون، أي يَثْنِي ويَعْطِفُ، يقال: حَنَيتُ الْعُودَ: إذا ثَنَيته، وفي رواية ابن أبي ليلى الآتية:"لا يحنو أحد منا ظهره" بالواو، وهو لغة صحيحة، يقال: حنيت، وحَنَوتُ بمعنى واحد.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 6/ 163.
(2)
2/ 213 - 214.
وجملة "يحني" في محلّ نصب حال من "أحدًا"؛ لأن رأى هنا بصريّة، لا علميّة، فتتعدّى لمفعول واحد، وهو "أحدًا".
[فإن قلت]: صاحب الحال لا يكون غالبًا إلا معرفة، فكيف جاء الحال من "أحدًا"، وهو نكرة؟.
[قلت]: جاز ذلك؛ لوقوعه بعد النفي، كما قال في "الخلاصة":
وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ
…
لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ
مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ أَوْ مُضَاهِيهِ كَـ "لَا
…
يَبْغِ امْرُؤٌ عَلَى امْرِئٍ مُسْتَسْهِلَا"
(حَتَّى يَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَبْهَتَهُ) قال الفيّوميّ: الْجَبْهة من الإنسان تُجمَعُ على جباه، مثلُ كلْبَة وكِلابٍ، قال الخليل: هي مُسْتَوَى ما بين الحاجبين إلى الناصية، وقال الأصمعيّ: هي موضع السجود. انتهى
(1)
. (عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَخُرُّ) من بابي ضرب، ونصر، قال في "القاموس": الْخَرُّ: السقوط، كالْخُرور، أو من عُلْوٍ إلى سُفْل، يَخِرُّ -أي بكسر الخاء- وَيخُرُّ -أي بضمها- انتهى
(2)
، ولم يذكر في "المصباح" إلا الكسر فقط (مَنْ وَرَاءَهُ)"من" بفتح الميم موصولة في محلّ رفع فاعلُ "يخرّ"، والظرف صلتها، وقوله:(سُجَّدًا) حال من "مَن وراءه"، وهو: جمع ساجد، كما قال في "الخلاصة":
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 6701 و 1068 و 1069 و 1070](474)، و (البخاريّ) في "الأذان"(690 و 747 و 811)، و (أبو داود) في "الصلاة"(620 و 621 و 622)، و (الترمذيّ) فيها (281)، و (النسائيّ) فيها (2/ 96)،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 91.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 19.
و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(718)، و (الحميديّ) في "مسنده"(725)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 284 و 285 و 286)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1850 و 1851 و 1852 و 1853)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1046 و 1047 و 1048 و 1049)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2226 و 2227)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 92)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(847)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أدب من آداب الصلاة، وهو أن السنّة أن لا ينحني المأموم للسجود حتى يضع الإمام جبهته على الأرض، قال النوويّ رحمه الله: إلا أن يَعْلَم من حاله أنه لو أَخَّر إلى هذا الحدّ لرفع الإمام من السجود قبل سجوده، قال أصحابنا -يعني الشافعيّة- رحمهم اللَّه تعالى: في هذا الحديث وغيره ما يقتضي مجموعه أن السنّة للمأموم التأخر عن الإمام قليلًا، بحيث يَشْرَع في الركن بعد شروعه، وقبل فراغه منه. انتهى
(1)
، وهو تحقيق حسن، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على تطبيق السنّة، وامتثال أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال لهم:"أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف. . . " الحديث، أخرجه مسلم، وقد تقدّم برقم [966](426).
3 -
(ومنها): أنّ ابن الجوزيّ: استدلّ به على أن المأموم لا يَشْرَع في الركن حتى يُتِمّه الإمام.
وتُعُقّب بأنه ليس فيه إلا التأخر، حتى يتلَبَّس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه، بحيث يَشْرَع المأموم بعد شروعه، وقبل الفراغ منه.
ووقع في حديث عمرو بن حريث رضي الله عنه الآتي آخر الباب: "فكان لا يَحْنِي أحدٌ منّا ظهره حتى يستتم ساجدًا"، ولأبي يعلى من حديث أنس رضي الله عنه حتى يتمكن النبيّ صلى الله عليه وسلم من السجود، وهو أوضح في انتفاء المقارنة.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 191.
4 -
(ومنها): ما قيل: إنه يُستدلّ به على طول الطمأنينة، وفيه نظرٌ؛ لا دلالة له على ذلك، لكن الطمأنينة لها أدلّة كثيرة تدّل على وجوبها، قد تقدّم بيانها فيما مضى من الأبواب.
5 -
(ومنها): أنه يستدلّ به على جواز النظر إلى الإمام؛ لاتباعه في انتقالاته.
6 -
(ومنها): ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث، وإن كان قد تقدّم حاصله، إلا أن فيه تفصيلًا لأقوال العلماء؛ لذا أحببت إيراده هنا، قال رحمه الله:
وفي الحديث دليلٌ على أن المأموم يُتابع الإمام، وتكون أفعاله بعد أفعال الإمام، فإن البراء رضي الله عنه أخبر أنهم كانوا إذا رفعوا من الركوع لم يَحْنِ أحدٌ منهم ظهره حتى يقع النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدًا، ثم يسجدون بعده.
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: أنهم كانوا يُصلّون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا رفع رأسه من الركوع لم أر أحدًا يحني ظهره حتى يضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض، ثم يخرّ مَن وراءه سُجّدًا.
وهذه صريحة في أنهم كانوا لا يُسرعون في السجود حتى يُنهيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا" يدلّ على أن تكبير المأمومين من ركوعهم وسجودهم يكون عقب تكبيرة الإمام، وركوعه، وسجوده، لا معه، ولا قبله.
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك"، رواه مسلم
(1)
.
وأكثر العلماء على أن الأفضل للمأموم أن يُتابع الإمام، فيركع، ويرفع، ويسجد، ويجلس بعد الإمام في ذلك، وكذلك كان يفعل أبو قلابة وغيره من السلف، وروَى وكيع بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"لا تبادروا أئمتكم، فإنما جُعل الإمام ليؤتمّ به، فيكون أولّ من يركع، وأول من يسجد، وأول من يرفع"، وهو مذهب الشافعيّ، وأحمد، ورواية عن مالك.
(1)
وقد سبق برقم (404).
وإن وافقه في فعله معه كُره، وصَحّت صلاته عند أكثر أصحابنا -يعني الحنبليّة- والشافعيّة، ومن أصحابنا من أبطل الصلاة بذلك، ويُستثنى من ذلك صورتان:
إحداهما: تكبيرة الإحرام في ابتداء الصلاة، فإذا كبّر معه لم تنعقد صلاة المأموم عند ابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وهو قول مالك، وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة، والثوريّ، والعنبريّ، ومحمد بن الحسن، وزُفرُ: تنعقد صلاته بذلك، وزاد الثوريّ عليهم، فقال: لو كبّر مع إمامه، وفرغ من تكبيره قبل فراغ إمامه جاز.
ومن الحنفيّة من جعل تكبيرة الإحرام شرطًا للصلاة، كالطهارة، والسِّتَارة
(1)
، ولم يجعلها منها.
والصورة الثانية: إذا سلّم مع إمامه، فإنه يجوز مع الكراهة عند أكثر أصحابنا، والشافعيّة، ولهم وجهٌ آخر أنه لا يجوز، وحُكي عن مالك، قال بعض أصحابنا: وهذا قويّ على قول من يَعتبر النيّة للخروج.
وعن مالك في أصل متابعة المأموم لإمامه ثلاث روايات:
إحداهنّ: أنه يُستحبّ أن يكون عمله بعد عمل إمامه معاقبًا له، كقول الشافعيّ، وأحمد.
والثانية: أن عمل المأموم كلّه مع عمل الإمام، ركوعه، وسجوده، ورفعه، ما خلا الإحرام، والتسليم، فإنه يأتي المأموم بهما إلا بعد تكبيرة الإمام وسلامه، وقيل: إنها أصحّ الروايات عنه.
والثالثة: أنه يكون عمله مع الإمام، ما خلا ثلاثة أشياء: التحريم، والتسليم، والقيام من اثنتين، فإنه يكون بعده. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الأقوال معظمها مخالفة للنصوص، وإنما ذكرتها؛ لتُعلم، لا ليُعمل بها، فإن القول الذي يكون مخالفًا للنص لا يُلتفت إليه، فالواجب العمل بما دلّت عليه النصوص.
(1)
أي ستر العورة.
(2)
"فتح الباري" للحافظ ابن رجب رحمه الله 6/ 163 - 165.
والحاصل أنه لا يَشْرَع المأموم في أيّ جزء من أجزاء الصلاة مطلقًا إلا بعد تأكّده من تلبّس الإمام بذلك الجزء، فعند ذلك يتبعه ويشاركه في أدائه مع تأخّره قليلًا في الابتداء.
وكذا لا يقارنه في الشروع فيه، كما يفعله جهلة المقلّدين للآراء الضعيفة المخالفة للنصوص، فضلًا أن يسابقه، كما يفعله الجهّال المغفّلون الذين نواصيهم بيد الشيطان، يتلاعب بهم كيف شاء، يرفعهم، ويضعهم، ويحرّضهم على الاستعجال والمسابقة.
وكذا لا يتأخّر عن الإمام أيضًا حتى يكمل الركن الذي انتقل إليه، وينتقل إلى الذي يليه، كما قاله ابن الجوزيّ في كلامه السابق، فإنه أيضًا مخالف للسنّة، فتبصر، ولا تكن أسير التقليد، فإنه متمسَّك البليد، وملجأ العنيد، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1068]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ، متقنٌ، حافظ، إمامٌ، قدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمام حجة، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"أبو إسحاق" هو: عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ.
وقوله: (سَاجِدًا) منصوب على الحال من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
وقوله: (ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ) أي ننزل إلى الأرض بعده صلى الله عليه وسلم، ساجدين، فقوله:"سُجودًا": جمع ساجد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1069]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ الْأَنْطَاكِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَكَعَ رَكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، لَمْ نَزَلْ قِيَامًا، حَتَّى نَرَاهُ قَدْ وَضَعَ وَجْهَهُ
(1)
فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ نَتَّبِعُهُ)
(2)
.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمِ الْأَنْطَاكِيُّ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن حكيم بن سَهْم الأَنْطاكيّ، ثقةٌ يُغْرَب [10].
رَوَى عن الوليد بن مسلم، وعيسى بن يونس، وأبي إسحاق الفَزَاريّ، وبَقِيَّة، وابن المبارك، ومعتمر بن سليمان، وجماعة.
ورَوَى عنه مسلم، وإبراهيم بن عبد اللَّه بن الجنيد، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، وأحمد بن يونس الضبيّ، والحسين بن إسحاق التَّسْتُريّ، وموسى بن هارون، وعمر بن سعد بن سنان الطائيّ، وعليّ بن أحمد بن النضر، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وقال الخطيب: كان ثقةً، قال أبو القاسم: مات بأنطاكية سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
(1)
وفي نسخة: "جبهته".
(2)
وفي نسخة: "ثُمَّ نَتْبَعُهُ".
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث
(1)
، برقم (474) و (1740) و (1910) و (2276) و (2829).
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ) هو: إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حِصْن بن حُذيفة بن بَدْر الفزاريّ، أبو إسحاق الكوفيّ، نزيل الشام، وسكن الْمِصِّيصَة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيفُ [8](ت 212)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 88.
3 -
(أبو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن فيروز الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.
4 -
(مُحَارِبُ بْنُ دِثَارِ) بن كُردُوس بن قرواش بن جعونة بن سلمة بن صخر بن ثعلبة بن سَدُوس السَّدُوسيّ، أبو دثار، ويقال: أبو مُطَرّف، ويقال: أبو كردوس، ويقال: أبو النضر الكوفي القاضي، وقيل: إنه ذُهْليّ، ثقة إمامٌ زاهدٌ [4].
رَوَى عن ابن عمر، وعبد اللَّه بن يزيد الْخَطْميّ، وجابر، وعُبيد بن البراء بن عازب، والأسود بن يزيد النخعيّ، وعبد اللَّه وسليمان ابني بُريدة، وصِلَة بن زُفَر، وعمران بن حِطّان، وغيرهم.
وروى عنه عطاء بن السائب، وأبو إسحاق الشيبانيّ، والأعمش، وشريك، وسعيد بن مسروق، وعاصم بن كُليب، ويونس بن أبي إسحاق، وأبو سِنَان ضِرَار بن مُرّة، وزُبيد بن الحارث الياميّ، وشعبة، وزائدة، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، والنسائيّ: ثقة، زاد أبو حاتم: صدوق، وزاد أبو زرعة: مأمون، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال سعيد بن سماك بن حرب، عن أبيه: كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل سِتّ خِصال سَوَّدوه: الحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والبيان، والتواضع، ولا يَكْمُلن في الإسلام إلا بالعفاف، وقد كَمُلن في هذا الرجل، يعني محارب بن دثار، وقال الثوريّ: ما يُخَيَّل إليّ أني
(1)
هكذا في برنامج الحديث، ونقل في "تهذيب التهذيب" 9/ 264 عن "الزهرة" أن مسلمًا رَوَى عنه تسعة أحاديث، والأول هو الظاهر، واللَّه تعالى أعلم.
رأيت زاهدًا أفضل من محارب، وقال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى الذين يرجئون عليًّا وعثمان، ولا يشهدون فيهما بشيء، وله أحاديث، ولا يَحتجون به.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول ابن سعد هذا: "ولا يُحتجّون به" بعد أن سبق أقوال المحقّقين فيه، نظير ما سبق في ترجمة أبي إسحاق الفزاريّ، فتنبّه.
وقال عبد اللَّه بن إدريس، عن أبيه: رأيت الحكم، وحمادًا في مجلس قضاء محارب، قال الذهبيّ: وفي إدراك ابن عيينة له نظرٌ، فلعله أرسل عنه شيئًا، وهو حجةٌ مطلقًا، وقال ابن حبان: كان من أفرس الناس، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان، والدارقطنيّ: ثقة.
قال ابن سعد وغيره: مات في ولاية خالد بن عبد اللَّه، وقال ابن قانع: مات سنة ست عشرة ومائة، وقال خليفة: مات في آخر ولاية خالد، وعُزِل خالد سنة عشرين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.
والباقيان سبقا في السند الماضي.
وقوله: (عَلَى الْمِنْبَرِ) أي خطيبًا عليه.
وقوله: (لَمْ نَزَلْ قِيَامًا) أي قائمين، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل.
وقوله: (قَدْ وَضَعَ وَجْهَهُ) وفي نسخة: "جبهته".
وقوله: (ثُمَّ نَتَّبِعُهُ) بفتح النون، وتشديد التاء المثنّاة، افتعال من التبع، وفي نسخة:"نَتْبعه" بسكون التاء، مضارع تَبع ثلاثيًّا، من باب تعب، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1070]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْن نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ
(1)
وَغَيْرُهُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
(1)
وفي نسخة: "أبانٌ" بالصرف في الموضعين، وقد سبق أنه يجوز فيه الصرف وعدمه، فتنبّه.
لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْنُو
(1)
أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى نَرَاهُ قَدْ سَجَدَ، فَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْكُوفِيُّونَ: أَبانُ وَغَيْرُهُ، قَالَ: حَتَّى نَرَاهُ يَسْجُدُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبَانُ) بن تَغْلب، أبو سعد الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلّم فيه للتشيّع [7](ت 140)(م 4) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
والباقون تقدّموا قريبًا، فزهير تقدّم قبل ثلاثة أبواب، ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير، وسفيان بن عيينة تقدّما قبل باب، والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد مما تكلم فيه الدارقطنيّ، وقال: الحديث محفوظ لعبد اللَّه بن يزيد، عن البراء، ولم يقل أحد: عن ابن أبي ليلى غير أبان بن تغلب، عن الحكم، وقد خالفه ابن عَرْعَرة، فقال: عن الحكم، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن البراء، وغير أبان أحفظ منه، هذا كلام الدارقطنيّ.
وهذا الاعتراض لا يُقْبَل، بل أبان ثقة، نَقَلَ شيئًا، فوجب قبوله، ولم يَتَحَقَّق كذبه وغلطه، ولا امتناع في أن يكون مرويًّا عن ابن يزيد، وابن أبي ليلى، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله، ولكن يجاب بأن المصنّف رحمه الله إنما أورده على سبيل الاستشهاد والمتابعة، وقد يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، وهذا أولى مما قاله النوويّ رحمه الله، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
وفي نسخة: "لا يحني".
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 191.
وقوله: (حَدَّثَنَا؛ أَبَانُ وَغَيْرُهُ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف غيره
(1)
.
وقوله: (لَا يَحْنُو) بالواو تقدّم أنه لغة في الياء، ووقع في نسخة بالياء، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في هذه الرواية الأخيرة من روايات البراء رضي الله عنه "يحنو" بالواو، وباقي رواياته، ورواية عمرو بن حريث بعدها كلها بالياء، وكلاهما صحيح، فهما لغتان حكاهما الجوهريّ وغيره:"حَنَيْتُ"، و"حَنَوْتُ"، لكن الياء أكثر، ومعناه: عطفته، ومثله حَنَيْتُ العودَ، وحَنَوْته: عَطَفتُهُ. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ إلخ) يعني أن زهير بن حرب قال في روايته: حدّثنا سفيان، ولم ينسبه إلى أبيه، بدل قول ابن نمير:"حدّثنا سفيان بن عيينة"، فنسبه إليه.
وقوله: (أَبَانُ وَغَيْرُهُ) بدل من قوله: "الكوفيّون"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1071]
(475) - (حَدَّثَنَا
(3)
مُحْرِزُ بْنُ عَوْنِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ، أَبُو أَحْمَدَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ، مَوْلَى آلِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} ، وَكَانَ لَا يَحْنِي رَجُلٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَسْتَتِمَّ سَاجِدًا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحْرِزُ بْنُ عَوْنِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ) الهلاليّ، أبو الفضل البغداديّ، كان جدّه أبو عون عبد الملك بن يزيد أمير مصر، صدوقٌ [10].
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 129.
(2)
"شرح النووي على صحيح مسلم" 4/ 191.
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
رَوَى عن أخيه مختار بن عون، ومالك، ومسلم بن خالد، وخَلَف بن خليفة، وعبد اللَّه بن إدريس، وفَرَج بن فَضَالة، وفضيل بن عياض، والعَطّاف بن خالد، ورِشْدين بن سعد، وإبراهيم بن سعد، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، ويحيى بن معين، ومحمد بن عبد الرحيم البزار، وإبراهيم بن الجنيد، وغيرهم.
قال عبد اللَّه بن أحمد: سألت ابن معين عن مُحرز بن عون؟ فقال: ليس به بأس ثقةٌ، وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: كان شيخًا صدوقًا لا بأس به، وقال صالح بن محمد: ثقة، وقال مرّةً: لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن قانع: بغداديٌّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: حدَّث، وكتب عنه الناس كثيرًا، وكان ثقةً ثبتًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال حاتم بن الليث الجوهريّ: وُلِد سنة أربع وأربعين ومائة، ومات ببغداد سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وله سبع وثمانون سنة، وفيها أَرّخه موسى بن هارون، والبغويّ.
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (475) وحديث (1408):"نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُنْكَح المرأة على عمّتها. . . ".
2 -
(خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ، أَبُو أَحْمَدَ) الكوفيّ، نزيل واسط، ثم بغداد، صدوق اختلط في الآخر، وادَّعَى أنه رأى عمرو بن حُريث الصحابيّ، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة، وأحمد [8](ت 181) على الصحيح (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 13/ 592.
3 -
(الْوَلِيدُ بْنُ سَرِيعٍ
(1)
، مَوْلَى آلِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) الكوفيّ، صدوقٌ [4](م س) تقدم في "الصلاة" 36/ 1028.
4 -
(عَمْرُو بْنُ حُرَيْثِ) بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، صحابيّ صغير، مات رضي الله عنه سنة (85)(ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1028.
(1)
بفتح السين المهملة، وكسر الراء.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (60) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) بالتصغير رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ) أي صلاة الفجر (فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)}) أي السورة التي فيها هذه الآية، وتقدم في (36/ 1028) بلفظ:"سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} ".
قال النوويّ رحمه الله: قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} قال المفسرون، وأهل اللغة: هي النجوم الخمسة، وهي المشتري، وعُطارد، والزُّهَرَة، والْمِرِّيخ، وزُحَل
(1)
، هكذا قال أكثر المفسرين، وهو مرويّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي رواية عنه: أنها هذه الخمسة، والشمس، والقمر، وعن الحسن: هي كلُّ النجوم، وقيل: غير ذلك، و {الْخُنَّسِ}: التي تَخْنِس
(2)
، أي ترجع في مَجراها، و {الْكُنَّسِ}: التي تَكْنِس
(3)
: أي تدخل في كِنَاسها
(4)
، أي تغيب في المواضع التي تغيب فيها، و {الْكُنَّسِ} جمع كانس، كراع ورُكَّع، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. انتهى
(5)
.
وذكر الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" أقوالًا في معنى الآية، فقيل: النجوم تَخْنِس بالنهار، وتظهر بالليل، قال: وقال بعض الأئمة: إنما قيل للنجوم: "الخنّس"، أي في حال طلوعها، ثم هي جَوَارٍ في فَلَكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها:"كُنّس"، من قول العرب: أَوَى الظبي إلى كناسه: إذا تغيّب فيه، وقيل: هي الظباء، وقيل: هي بقر الوحش حين تكنس في حجرتها، ثم
(1)
قال في "القاموس": وخُنُوسها أنها تغيب كما يخنُسُ الشيطان إذا ذُكر اللَّه. انتهى.
(2)
من باب ضرب ونصر خُنوسًا. اهـ. "ق".
(3)
من باب ضرب.
(4)
"كناس الظبي" بكسر الكاف: بيته.
(5)
"شرح النوويّ" 4/ 192.
قال: وتوقّف ابن جرير في المراد بها، هل هي النجوم، أو الظباء، وبقر الوحش؟ قال: ويَحْتَمِل أن يكون الجميع مرادًا. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ لَا يَحْنِي) تقدّم أنه يجوز فيه الواو أيضًا، فيقال:"لا يحنو"، أي لا يَثني، وقوله:(رَجُلٌ) مرفوع تنازعه كلّ من "كان"، و"يَحني"، فأُعمل الثاني؛ لقربه عند البصريين، والأول؛ لتقدّمه عند الكوفيين، قال في "الخلاصة":
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ
…
وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أَسْرَهْ
وقوله: (مِنَّا) متعلّق بصفة لـ "رجلٌ"(ظَهْرَهُ، حَتَّى يَسْتَتِمَّ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بوضع جبهته حال كونه (سَاجِدًا) والمعنى: حتى يسجد سجودًا تامًّا.
قال في "القاموس": أَتَمَّهُ، وتَمَّمَهُ، واستتمّه وتَمّ به، وعليه: جعله تامًّا، وتمام الشيء، وتَمامته، وتَتِمّته: ما يَتِمُّ به، وقال أيضًا: تَمَّ يَتِمُّ تَمًّا وتَمَامًا مثلّثتين، وتَمَامة، ويُكسر. انتهى
(2)
.
والحديث هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدّم تخريجه في (36/ 1028)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(41) - (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1072]
(476) - (حَدَّثَنَا
(3)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 641 - 642.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 83.
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ
(1)
، وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) عن (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنه يُدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
5 -
(عُبَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ) الْمُزَنيّ، ويقال: الثَّعْلبيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن عبد اللَّه بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن مُغَفَّل، وعبد الرحمن بن مَعْقِل بن مُقَرِّن.
وروى عنه الأعمش، ومنصور، والثوريّ، وشعبة، وقيس بن الربيع، ومِسْعَر، وأبو الْعُميس، وآخرون.
قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صدوقٌ، وقال أبو داود: قال يحيى بن سعيد: عبيدٌ أبو الحسن ممن لم يدركه سفيان من مشايخ الكوفيين، قال أبو داود: وسفيان يقول: أدركناه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقةٌ حجةٌ.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عندهم هذا الحديث
(1)
وفي نسخة: "ملء السماء".
فقط، وله عند أبي داود أيضًا حديث آخر في لحوم الحمر الأهلية.
6 -
(ابْنُ أَبِي أَوْفَى) هو: عبد اللَّه بن أبي أوفى، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد بن رِفاعة بن ثعلبة بن هوازن بن أسلم بن أفصَى بن حارثة الأسلمي، أبو إبراهيم، وبه جزم البخاريّ، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو معاوية، صحابيّ، ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وشَهِدَ عبد اللَّه بيعة الرضوان، ثم نزل الكوفة ومات بها.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه إبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكِيُّ، وإبراهيم بن مسلم الْهَجَريّ، وإسماعيل بن أبي خالد، والحكم بن عُتيبة، وسالم أبو النضر فيما كتب إليه، وسلمة بن كُهيل، والأعمش -يقال: مرسل- وطارق بن عبد الرحمن البجلي، وطلحة بن مُصَرِّف، وعبد اللَّه، ويقال: محمد بن أبي الْمُجَالد، وعُبيد بن الحسن، وعدي بن ثابت، وعطاء بن السائب، وعمرو بن مرة، وفائد أبو الورقاء، والقاسم بن عوف الشيباني، ومَجْزأة بن زاهر، والوليد بن سَرِيع، ويحيى بن عَقِيل، وأبو آدم المحاربي، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو المختار الأسدي، وأبو يعفور العبدي، وشَعْثاء الكوفية.
وأخرج أحمد عن يزيد، عن إسماعيل: رأيت على ساعد عبد اللَّه بن أبي أوفى ضربة، فقال: ضُربتها يوم حُنين، فقلت: أشهدت حُنينًا؟ قال: نعم، وقبل ذلك. وفي "الصحيح" عن عمرو بن مرّة قال: سمعت ابن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة. وفي "الصحيح" عنه قال: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ست غزوات نأكل الجراد، وفي روأية: سبع غزوات، قال سفيان وعطاء -هو ابن السائب-: رأيت عبد اللَّه بن أبي أوفى بعدما ذهب بصره
(1)
.
قال يحيى بن بكير وغيره: مات سنة ست وثمانين، وقال البخاري عن أبي نعيم: مات سنة (87)، وقال الذهليّ عن أبي نعيم: مات سنة سبع أو ثمان وثمانين.
قال عمرو بن علي: وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة، وهو أخو زيد بن أبي أوفي، لكن منع ذلك أبو أحمد العسكري وغيره، وفي "كتاب
(1)
راجع: "الإصابة" 4/ 16 - 17.
الجهاد" من البخاري ما يدلّ على أنه شهد الخندق
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وعبيد بن الحسن، فتفرّد به هو، وأبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن عبيد بن الحسن.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه آخر من مات من الصحابة بالكوفة، كما مرّ آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) عبد اللَّه (بْنِ أَبِي أَوْفَى) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) قال العلماء -رحمهم اللَّه تعالى-: معنى سَمِعَ هنا: أجاب، ومعناه: أن مَن حَمِدَ اللَّه تعالى متعرِّضًا لثوابه، استجاب اللَّه تعالى له، وأعطاه ما تَعَرَّض له، فإنا نقول: ربنا لك الحمد؛ لتحصيل ذلك، قاله النوويّ
(2)
.
(مِلْءُ السَّمَاوَاتِ) وفي نسخة: "ملء السماء"، و"مِلْءُ" بالنصب، والرفع، والنصب أشهر، وهو الذي اختاره ابن خَالَوَيه، ورجَّحه، وأطنب في الاستدلال له، وجَوَّز الرفعَ على أنه مرجوحٌ، وحُكِي عن الزجاج أنه يتعين الرفع، ولا يجوز غيره، وبالغ في إنكار النصب، ورجّح الأكثرون النصب، وهو المعروف في روايات الحديث، وهو منصوب على الحال، مالئًا، قال العلماء: معناه حمدًا لو كان أجسامًا لملأ السماوات والأرض، قاله النوويّ
(3)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 304 - 305.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 193.
(3)
راجع: "المجموع" 3/ 416، و"شرح مسلم" 4/ 193.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: نصب "ملء" على أنه حال، بتقدير مالئًا، كما سبق في كلام النوويّ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي حمدًا ملءَ السموات، أو مفعول لفعل محذوف، أي أعني، ورفعه على أنه خبر لـ "الحمدُ"، أو خبر لمحذوف: أي هو.
و"الْمِلْء" بكسر الميم، وسكون اللام: ما يأخذ الإناء إذا امتلأ.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: هو تمثيلٌ وتقريبٌ، والمراد تكثير العدد حتى لو قُدّر ذلك أجسامًا لملأ ذلك، وقال غيره: المراد بذلك التعظيم، كما يقال: هذه الكلمة تملأ طباق الأرض، وقيل: المراد بذلك أجرها وثوابها. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا حاجة إلى هذه التأويلات المتكلّفة، بل الصواب إبقاء الحديث على ظاهر معناه، وما المانع أن يكون الحمد شيئًا يملأ السموات والأرض، وقد ثبت بالنصوص الكثيرة أن الأعمال توزن يوم القيامة، ومنه تلك البطاقة التي تثقّل ميزان العبد، والحديث فيه صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه بسند صحيح
(1)
، ومعلوم أنه لا يوزن إلا ما كان شيئًا محسوسًا، فلا داعي إلى هذه التأويلات التي تكلّفوها، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
قال الإمام أحمد: (6699) حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقانيّ، حدّثنا ابن مبارك، عن ليث بن سعد، حدّثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبليّ، قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه عز وجل يستخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلًّا كل سِجِلّ مَدّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر، أو حسنةٌ؟، فيبهت الرجل، فيقول: لا يا ربّ، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنةً واحدةً لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أَحضِرُوه، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة، مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كِفّة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم اللَّه الرحمن الرحيم". انتهى. وهذا إسناد صحيح، ولفظ الترمذي:"فلا يثقل مع اسم اللَّه شيء".
(وَمِلْءُ الْأَرْضِ) معطوف على ما قبله بوجهيه، وكذا قوله:(وَمِلْءُ مَا شِئْتَ)"ما" موصولة، حُذف عائدها، أي الذي شئته، وقوله:(مِنْ شَيْءٍ) بيان لـ "ما"، وقوله:(بَعْدُ") من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، وإنما بُني على الضمّ؛ تشبيهًا له بأحرف الغاية، قال في "الخلاصة":
وَاضْمُمْ بِنَاءً "غَيْرًا" انْ عَدِمْتَ مَا
…
لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا
"قَبْلُ" كَـ "غَيْرُ""بَعْدُ""حَسْبُ""أَوَّلُ"
…
وَ"دُونُ" وَالْجِهَاتُ أَيْضًا وَ"عَلُ"
والمضاف المقدّر هنا "السموات، والأرض"، والظرف متعلّق بمحذوفٍ صفة لـ "شيء"، والمراد من قوله:"من شيء": العرش، والكرسيّ، ونحوهما مما في مقدُور اللَّه عز وجل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1072 و 1073 و 1074 و 1075](476)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(676 و 684)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 198)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 256)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 247)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 356 و 381)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(955 و 956)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1847 و 1848 و 1849)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1051 و 1052 و 1053) واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يُستحبّ أن يقوله المصلّي إذا رفع رأسه من الركوع.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة الاعتدال، ووجوب الطمأنينة فيه؛ لأنه لا يمكن أن يقول هذا الذكر إلا إذا اعتدل، واطمأنّ.
3 -
(ومنها): أنه يستحب لكل مصلّ، من إمام، ومأموم، ومنفرد، أن
يقول: "سَمِعَ اللَّه لمن حمده، ربنا لك الحمد"، ويجمع بينهما، فيكون قوله:"سَمِعَ اللَّه لمن حمده" في حال ارتفاعه، وقوله:"ربنا لك الحمد" في حال اعتداله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلّي"، رواه البخاريّ، قاله النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم أن الراجح أن الإمام والمنفرد يجمعان بينهما؛ للحديث المذكور، وأما المأموم، فلا يُشرع له التسميع؛ لصريح قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده"، فقولوا:"ربّنا ولك الحمد"، فقد صرّح فيه أنّ وظيفة المأموم هو التحميد فقط، فتبصّر لذلك.
4 -
(ومنها): أن هذا الذكر مشروع في جميع الصلوات، سواء كانت فرضًا أو نفلًا؛ خلافًا لبعض العلماء؛ حيث قالوا: إنه خاصّ بالتطوّع فقط، ولا حجة لهم في ذلك، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1073]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ").
رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا قريبًا، فإلى شعبة تقدّموا قبل باب، والباقيان في السند الماضي، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1074]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أَوْفَى، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاءِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ، وَمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ، تقدّموا قبله، غير:
1 -
(مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِر) بن الأسود الأسلميّ الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وأُهْبان بن أوس الأسلميّ، وابن أبي أوفى، وناجية الأسلميّ، وعطاء النَّهْديّ، وإبراهيم بن ملاذ.
ورَوَى عنه إسرائيل، وقيس بن الربيع، ورَقَبَة بن مَصْقَلة، وشريك النخعيّ.
قال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: قوله: (مَجْزَأَة) هو بميم مفتوحة، ثم جيم ساكنة، ثم زاي، ثم همزة تُكْتَب ألفًا، ثم هاء، وحَكَى صاحب "المطالع" فيه كسر الميم أيضًا، ورَجَّح الفتح، وحَكَى أيضًا تركَ الهمزة فيه، ذكره النوويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": هو: بفتح الميم، والزاي، بينهما جيم ساكنة، وبهمزة مفتوحة قبل الهاء، وقال أبو عليّ الْجَيَّانيّ: المحدّثون يسهّلون الهمزة، ولا يَلفظون بها، وقد يَكسرون الميم. انتهى
(2)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ) بفتح، فسكون: هو ماءٌ ينزل من السماء، ثم ينعقد على وجه الأرض، ثم يذوب بعد جُمُوده.
وقوله: (وَالْبَرَدِ) بفتحتين: هو حَبّ الغمام، وهو ماءٌ ينزل من السماء جامدًا كالملح، ثم يذوب على الأرض.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 193.
(2)
"الفتح" 7/ 517 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4173).
وقوله: (وَمَاءِ الْبَارِدِ) وفي بعض النسخ: "والماء البارد"، وعلى النسخة الأولى يكون من إضافة الموصوف إلى صفته، كقوله تعالى:{بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، وقولهم:"مسجد الجامع"، ومذهب الكوفيين فيه أنه جائز على ظاهره، ومذهب البصريين أنه لا بدّ من التقدير؛ لأنه يكون من إضافة الشيء إلى نفسه، تقديره: ماء الطُّهُور البارد، وجانب المكان الغربيّ، ومسجد الموضع الجامع، وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته" حيث قال:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ
قال الكرمانيّ رحمه الله: الغسل البالغ إنما يكون بالماء الحارّ، فلم ذكر الماء البارد؟.
ثم أجاب ناقلًا عن محيي السنة أن معناه: طَهِّرني من الذنوب، وذكرها مبالغة في التطهير.
وقال الخطابيّ رحمه الله: هذه أمثالٌ، ولم يُرَد بها أعيان هذه المسميات، وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا، والمبالغة في مَحْوها عنه، والثلج والبرد ماءان لم تمسهما الأيدي، ولم يَمْتَهِنهما استعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان معنى ما أراده من تطهير الثوب.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: ذَكَرَ أنواع المطهِّرات الْمُنَزَّلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلّا بأحدها بيانًا لأنواع المغفرة التي لا تَخَلُّص من الذنوب إلّا بها، أي طَهِّرني بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس، ورفع الأحداث.
وقوله: (اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا) يَحْتَمِل أن يكون الجمع بينهما -كما قال بعض المفسرين- في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} [النساء: 112] قال: الخطيئة المعصية بين العبد وبين اللَّه تعالى، والإثم بينه وبين الآدمي، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
و"الخطايا": جمع خَطِيّة، كالعطايا جمع عطية، يقال: خَطِئَ في دينه خِطْأ: إذا أَثِمَ فيه، والْخِطْأُ بالكسر: الذنب والإثم، وأصل خطايا خَطايِءُ،
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 194.
فقلبوا الياء همزة، كما في قبائل، جمع قبيلة، فصار خطائء بهمزتين فقلبوا الثانية ياءً، فصار خطائيُ، ثم قلبت الهمزة ياء مفتوحة، فصارت خطايَيُ، فقلبت الياء الأخيرة ألفًا، فصار خطايا
(1)
.
وقوله: (كَمَا يُنَقَّى) بالبناء للمفعول، أي كما يُنظّف.
وقوله: (الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ) خصّ الأبيض؛ لأن التطهير فيه أظهر.
وقوله: (مِنَ الْوَسَخِ) وفي رواية: "من الدّرَن"، وفي رواية:"من الدّنَس"، وكله بمعنى واحد، ومعناه: اللهم طهِّرني طهارة كاملة مُعْتَنًى بها، كما يُعْتَنَى بتنقية الثوب الأبيض من الوسخ، قاله النوويّ.
وفيه إيماءٌ إلى أن القلب بمقتضى أصل الفطرة سليم، ونظيفٌ، وأبيض، وظريفٌ، وإنما يتّسخ، وَيسْوَدّ بارتكاب الذنوب، وبالتخلّق بالعيوب، فينبغي للعبد إزالة هذا الوسخ بالاستغفار والالتجاء إلى اللَّه عز وجل بالدعاء والتضرّع حتى ينظّفه مما حلّ به من أوساخ المعاصي، ودرن المخالفات.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، ومسائله تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1075]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ:(ح)
(3)
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ:"كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّرَنِ"، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ:"مِنَ الدَّنَسِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 294.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "بتأخير""قال" عن الحاء.
والباقون تقدّموا قبل باب، وزهير في الباب الماضي.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لمعاذ بن معاذ، والد عبيد اللَّه، ويزيد بن هارون.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد شعبة الذي قبل هذا، وهو: عن مَجْزأة بن زاهر، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى.
[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(3/ 236) فقال:
(956)
أخبرنا أبو يعلى، قال: حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شعبة، عن مَجْزَأَة بن زاهر، عن ابن أبي أوفى، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعدُ، اللهم طَهِّرني بالثلج، والبرد، والماء البارد، اللهم طَهِّرني من ذنوبي كما يُطهَّر الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس". انتهى.
وأما رواية ابن معاذ، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1076]
(477) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَزَعَةَ
(1)
، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
(2)
، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنديّ، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ فاضلٌ [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
(1)
وفي نسخة: "عن قزعة بن يحيى".
(2)
وفي نسخة: "وملء الأرض".
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ) الطاطَريّ، ثقة [9](ت 210)(م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) التَّنُوخيّ الدمشقيّ، ثقةٌ إمامٌ، اختلط في آخره [7](ت 167)(بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
4 -
(عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ) الكلابيّ، أو الْكَلاعيّ، أبو يحيى الشاميّ، ثقةٌ مقرئٌ [3](ت 121) وقد جاوز المائة (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 35/ 1052.
5 -
(قَزَعَةُ) -بفتحتين، أو بفتح، فسكون- ابن يحيى البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1052.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل غير ذلك (ع) تقدّم في "المقدّمة" جـ 2 ص 485.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالدمشقيين، غير شيخه، فسمرقنديّ، وقَزَعة فبصريّ، وأبي سعيد رضي الله عنه، فمدنيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعي: عطيّة، عن قَزَعة.
4 -
(ومنها): أن صحابيه ابنُ صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
(1)
، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) إلى هنا تقدّم شرحه في هذا الباب عند شرح حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رضي الله عنهما.
(أَهْلَ الثَّنَاءِ) بنصب "أهلَ" على النداء، بحذف حرف النداء، وهو جائزٌ، كما قال الحريريّ رحمه الله في "مُلحته":
(1)
وفي نسخة: "وملء الأرض".
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي" أو منصوب على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":
الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"
…
كَأيُّهَا الْفَتَى بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"
أو منصوب على المدح، أي أمدح أهلَ الثناء.
وهذا الذي ذكرناه من النصب هو المشهور، وجوّز بعضهم رفعه على تقدير: أنت أهلُ الثناء، قال النوويّ رحمه الله: والمختار النصب، والثناء: الوصفُ الجميل والمدح. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الثناء" -بالفتح، والمدّ- يقال: أثنيت عليه خيرًا، وبخير، وأثنيت عليه شرًّا، وبشرّ؛ لأنه بمعنى وَصَفْتُهُ، هكذا نَصّ عليه جماعة، منهم صاحب "الْمُحْكَم"، وكذلك صاحب "البارع"، وعزاه إلى الخليل، ومنهم محمد بن الْقُوطيّة، وهو الْحَبْر الذي ليس في منقوله غَمْز، والبحر الذي ليس في منقوده لَمْز، وكأن الشاعر عَنَاه بقوله [من الوافر]:
إَذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا
…
فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
وقد قيل فيه: هو العالم النِّحْرير، ذو الإتقان والتحرير، والحجة لمن بعده، والبرهان الذي يوقف عنده، وتبعه على ذلك مَنْ عُرِف بالعدالة، واشتَهَرَ بالضبط، وصحة المقالة، وهو السَّرَقُسْطِيُّ، وابنُ القطّاع.
واقتَصَر جماعة على قولهم: أثنيت عليه بخير، ولم يَنْفُوا غيره.
ومن هذا اجتَرَأَ بعضهم، فقال: لا يُسْتَعْمَل إلا في الْحَسَن، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفيه عما عداه، والزيادة من الثقة مقبولة.
ولو كان الثناء لا يُسْتَعْمَل إلا في الخير، كان قول القائل: أثنيت على زيد كافيًا في المدح، وكان قوله:"له الثناء الحسن" لا يفيد إلا التأكيد، والتأسيسُ أولى، فكان في قوله:"الحسن" احترازٌ عن غير الحسن، فإنه يُسْتَعْمَل في النوعين، كما قال صلى الله عليه وسلم:"والخيرُ في يديك، والشرّ ليس إليك"، أخرجه مسلم.
وفي "الصحيحين": "مَرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مَرّوا بأخرى، فأَثْنَوا عليها شرًّا، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، وسئل عن قوله:
وجبت، فقال: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار. . . " الحديث.
وقد نقل النوعان في واقعتين، تراخت إحداهما عن الأخرى، من العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن العرب الفُصَحاء، عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم قد يَكْتَفُون بالنقل عن واحد، ولا يُعْرَف حاله، فإنه قد يَعْرِض له ما يُخْرِجه عن حَيِّز الاعتدال، من دَهْش، وسُكْر، وغير ذلك، فإذا عُرِف حاله لم يحتجّ بقوله، ويَرْجِع قولُ مَن زَعَم أنه لا يُسْتَعمَل في الشرّ إلى النفي، وكأنه قال: لم يُسْمَع، فلا يقال: والإثبات أولى، وللَّه در من قال [من الوافر]:
وَإِنَّ الْحَقَّ سُلْطَانٌ مُطَاعٌ
…
وَمَا لِخِلَافِهِ أَبَدًا سَبِيلُ
وقال بعض المتأخرين: إنما استُعْمِل في الشرّ في الحديث للازدواج، وهذا كلام مَن لا يَعْرِف اصطلاح أهل العلم بهذه اللفظة. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد اتّضَح بما حَرَّره الفيّوميّ: أن الثناء يُستعمل للمدح والذمّ، وإنما يُميّز بالقرينة، مثل ما هنا، فإن المقام مقام مدح، فمن فسّره بأنه الوصف الجميل، كالنوويّ في كلامه السابق، إما قصور عن التحقيق المذكور، وإما محمول على أنهم فسّروه بما يقتضيه المقام، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(وَالْمَجْدِ) بالجرّ عطفًا على "الثناء"، وهو بفتح الميم، وسكون الجيم: العظمة، ونهاية الشرف.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "أهل الثناء والمجد" كذا لهم، ولابن ماهان:"أهل الثناء والحمد"، والحمد أعم من الثناء والمجد، على ما بيّنّاه في الفرق بين "مجّدني عبدي"، و"حمدني عبدي"، و"أثنى عليّ عبدي"، والمجد نهاية الشرف، وكان لفظة "الحمد" هنا أليق بالكلام؛ لقوله أوّلًا:"لك الحمد". انتهى كلام القاضي رحمه الله
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 85 - 86.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 391.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أهل الثناء والمجد" هذا هو المشهور في الرواية في مسلم وغيره، ووقع في رواية ابن ماهان:"أهلُ الثناء، والحمد"، وله وجه، ولكن الصحيح المشهور الأول. انتهى
(1)
.
(أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ)"أحقّ" مبتدأ خبره جملة: "لا مانع لما أعطيتَ"، "وما" موصولة، أو موصوفة مضاف إليها "أحقّ"، وجملة "قال العبد" صلتها بتقدير عائد، أي الذي قاله العبد، ويَحْتَمِل أن تكون مصدريّة، أي أحقّ قول العبد.
وقوله: "وكلُّنا لك عبدٌ" جملة حاليّةٌ وقعت معترضة بين المبتدأ والخبر، أفاده ابن الملك.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد"، هكذا هو في مسلم وغيره "أحقُّ" بالألف، و"كلُّنا" بالواو، وأما ما وقع في كتب الفقه "حَق ما قال العبد: كلنا"، بحذف الألف والواو، فغير معروف من حيث الرواية، وإن كان كلامًا صحيحًا.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي أنكره النووي قد ثبت في "سنن النسائيّ"، راجع "شرحي" عليه
(2)
.
قال: وعلى الرواية المعروفة تقديره: أحقُّ قول العبد: "لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت"، إلى آخره، واعتَرَضَ بينهما:"وكلُّنا لك عبد"، ومثلُ هذا الاعتراض في القرآن قول اللَّه تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم: 17 - 18] اعتَرَض قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، ومثله قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] على قراءة من قرأ {وَضَعَتْ} بفتح العين وإسكان التاء، ومثله قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة: 76] اعتَرَضَ {لَوْ تَعْلَمُونَ} ، ونظائره كثيرة، ومنه قول الشاعر [من الوافر]:
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 194.
(2)
راجع: "ذخيرة العقبى" 13/ 207 رقم الحديث (1068).
أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي
…
بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زَيادِ
فاعتَرَض بقوله: "والأنباء تنمي"، وقول امرئ القيس [من الطويل]:
أَلَا هَلْ أَتَاهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ
…
بِأَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا
(1)
فاعتَرَضَ قوله: "وَالْحَوادثُ جَمَّةٌ"، وقال الآخر [من الطويل]:
إِلَيْكَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ كَانَ كَلَالُهَا
…
إِلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
فاعتَرَضَ قوله: "أبيْتَ اللعنَ"، ونظائره كثيرة، وإنما يعترض ما يعترض من هذا الباب؛ للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره هنا: أحقُّ قول العبد: لا مانع لما أعطيت، وكلُّنا لك عبدٌ، فينبغي لنا أن نقوله.
(اللَّهُمَّ) تقدّم أن أصلها "يا أللَّه"، فحُذفت "يا" وعُوِّضَ عنها الميم المشدّدة في الأخير، ولا يُجمَع بينهما إلا في الضرورة، كقوله:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا
…
أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
وإليه أشار في "الخلاصة" حيث قال:
وَبِاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ "يَا" و"أَلْ"
…
إِلَّا مَعَ "اللَّهِ" وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ
وَالأَكْثَرُ "اللَّهُمَّ" بِالتَّعْوِيضِ
…
وَشَذَّ "يَا اللَّهُمَّ" فِي قَرِيضِ
(لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ)"ما" تعمّ العقلاء وغيرهم، فهي موصول اسميّ، والجملة صلتها بتقدير العائد، أي للذي أعطيته، ويَحْتَمِلُ أن تكون حرفًا مصدريًّا، أي لإعطائك، وهذا بمعنى قوله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} الآية [فاطر: 2].
[تنبيه]: من القاعدة النحويّة أن اسم "لا" التي لنفي الجنس إذا كان مضافًا، نحو: لا طالب علم ممقوتٌ، أو شبيهًا بالمضاف، وهو الذي له تعلّقٌ بما بعده بالعمل، أو غيره، نحو: لا طالعًا جبلًا: أن يُنصب، ولكن هذا الحديث مرويّ بإسقاط التنوين من اسمها، فما هو الوجه؟.
أُجيب بأنه إما مبنيّ؛ إجراءً له مُجرى المفرد، أو معرب، حُذف تنوينه تشبيهًا بالمضاف، أو مبنيّ لكونه مفردًا، وقوله:"لما أعطيتَ" متعلّق بمحذوف
(1)
بيقر الرجلُ: هاجر من أرض إلى أرض، أو خرج إلى حيث لا يَدرِي، وله معان أُخَر، راجع:"اللسان" في مادّة "بقر".
خبرٍ لـ "لا"، أي لامانعَ مانعٌ لما أعطيتَ، وتمام البحث في هذا فيما كتبته على النسائيّ
(1)
.
(وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ) الكلام فيه كسابقه (وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ)"ذا" هنا بمعنى صاحب، مفعول مقدّم على الفاعل، منصوب بالألف، كما قال في "الخلاصة":
وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ
…
وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ
مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا
…
وَ"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا
و"الْجَدُّ" بالرفع فاعلٌ مؤخَّرٌ.
قال النوويّ رحمه الله: المشهور فيه فتحُ الجيم، هكذا ضبطه العلماء المتقدِّمون والمتأخِّرون، قال ابن عبد البرّ: ومنهم من رواه بالكسر، وقال أبو جعفر، محمد بن جرير الطبريّ: هو بالفتح، قال: وقاله الشيبانيّ بالكسر، قال: وهذا خلاف ما عَرَفه أهل النقل، قال: ولا يُعْلَم من قاله غيره، وضَعّفَ الطبريّ
(2)
ومَن بعده الكسر، قالوا: ومعناه على ضعفه الاجتهاد، أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده، إنما ينفعه وينجيه رحمتك.
وقيل: المراد ذا الجِدّ والسعي التامّ في الحرص على الدنيا، وقيل: معناه الإسراع في الْهَرَب، أي لا ينفع ذا الإسراع في الهرب منك هَرَبه، فإنه في قبضتك وسلطانك، والصحيح المشهور الْجَدّ بالفتح، وهو الحظّ والغنى والعظمة والسلطان، أي لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظه، أي لا يُنجيه حظه منك، وإنما ينفعه، وينجيه العمل الصالح، كقوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} الآية [الكهف: 46]، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 13/ 209 رقم الحديث (1068).
(2)
وقال غيره: المعنى الذي أشار إليه الشيبانيّ صحيحٌ، ومراده أن العمل لا يُنجي صاحبه، وإنما النجاة بفضل اللَّه ورحمته، كما جاء في حديث:"لن يُنجي أحدًا منكم عمله. . . " الحديث، قاله في "زهر الربى" 2/ 199 - 200.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 196.
(مِنْكَ الْجَدُّ) اختُلِف في "من" هذه، فقال الزمخشريّ في "الفائق": بمعنى "بدل"، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ} الآية [الزخرف: 60] أي بدلكم، والمعنى: أن المحظوظ لا ينفعه حظّه بَدَلَك، أي بدل طاعتك وعبادتك.
وقال التوربشتيّ: أي لا ينفع ذا الغنى غناه عندك، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، وعلى هذا فمعنى "منك" عندك.
ويَحْتَمِلُ وجهًا آخر، أي لا يُسلّمه من عذابك غناه.
وقال المظهر: أي لا ينفعه غناه من عذابك، إن شئت به عذابًا. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رُوي سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ" فيما أخرجه ابن ماجه رحمه الله في "سننه" عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: ذُكرت الجدود عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فقال رجلٌ: جدّ فلان في الخيل، وقال آخر: جدّ فلان في الإبل، وقال آخر: جدّ فلان في الغنم، وقال آخر: جدّ فلان في الرقيق، فلما قَضَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة قال:"اللَّهمّ ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعدُ، اللَّهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما مَنَعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ"، وطوّل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صوته بـ "الجدّ"؛ ليعلموا أنه ليس كما يقولون. انتهى
(2)
.
لكن الحديث في سنده أبو عمر مجهول، لا يُعرف حاله، كما قال البوصيريّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد" 2/ 178 - 179.
(2)
حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه برقم (879).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [41/ 1076](477)، و (أبو داود) في "الصلاة"(847)، و (النسائيّ) فيها (2/ 198 - 199)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 87)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 301)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(613)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1905)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 239)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 94)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1843)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1054 و 1055)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الذكر المشروع إذا رفع المصلي رأسه من الركوع في حالة الاعتدال.
2 -
(ومنها): الحثّ على أن يتواضع العبد للَّه، ويخضع له، ويتضرعّ إليه دائمًا، ويرغب فيما عنده، ويسأله خيري الدنيا والآخرة؛ لأنه المتفرّد بذلك، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
اللهم زِدْنا، ولا تنقصنا، وأكرمنا، ولا تُهِنّا، وأعطنا، ولا تَحْرِمنا، وآثرنا، ولا تؤثر علينا، وارَضَ عنا وأَرْضِنا.
3 -
(ومنها): أن فيه دلالةً ظَاهرةً على فضيلة هذا القول، فقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا أحقُّ ما قاله العبد، فينبغي أن نُحافظ عليه؛ لأن كلنا عبد، ولا نُهْمِله، وإنما كان أحقّ ما قاله العبد؛ لما فيه من التفويض إلى اللَّه تعالى، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الخير والشرّ منه، والحثّ على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1077]
(478) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 195 - 196.
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا
(1)
، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.
2 -
(هُشَيْمُ بْنُ بَشِير) بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) المكيُّ أبو عبد الملك، ويقال: أبو عبد اللَّه الحبشيّ، مولى نافع بن علقمة، ويقال: مولى أم علقمة، ثقةٌ [6](ت 7 أو 119) علق عنه البخاري وأخرج له المصنف، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
5 -
(عَطَاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114) على المشهور (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
6 -
(ابْنُ عَبَّاس) عبد اللَّه الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
(1)
وفي نسخة: "وملء ما بينهما".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وقيس علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، من قيس، وهشام بصريّ، وهُشيم واسطيّ، وأبو بكر كوفيّ، وابن عبّاس مدنيّ، ثم بصريّ، ثمّ مكيّ، ثمّ طائفيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة روى (1696)، ومن المشهورين بالفتوى.
وأما شرح الحديث فواضح مما سبق، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادته.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1077 و 1078](478)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 198)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2908)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 246 - 247)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 270 و 276 و 277 و 333)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 270)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1906)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11347 و 12503)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1844 و 1845 و 1846)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1056)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 94)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1078]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ
(1)
، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِهِ: "وَمِلْءُ مَا شِئْتَ
(2)
مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير الْهَمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(حَفْص) بن غياث بن طلق النخعيّ، أبو عُمَر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير حفص بن غياث.
[تنبيه]: رواية حفص التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية هُشيم لم أجد من ساقها بتمامها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(42) - (بَابُ النَّهْي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالأَمْرِ بِتَعْظِيمِ الرَّبِّ بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ فِي الرُّكُوعِ، وَالاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1079]
(479) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ
(1)
وفي نسخة: "وحدّثناه ابن نمير".
(2)
وفي نسخة: "إلى قوله: ملء ما شئت".
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ
(1)
، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بِهَذَا)
(2)
.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُور) بن شعبة، أبو عثمان الخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ) أبو أيوب المدنيّ، مولى خُزَاعة، ويقال: مولى آل حُنَين، صدوقٌ [3]
(3)
.
رَوَى عن أمه آمنة بنت الحكم الغِفَارية، وسعيد بن المسيِّب، وإبراهيم بن عبد اللَّه بن معبد بن عباس، وطلحة بن عبد اللَّه بن كُرَيز، وغيرهم.
وروى عنه محمد بن إسحاق، وابن جريج، والدراورديّ، وزياد بن سعد، وابن عيينة، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم.
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأسٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، ونقل ابن خَلْفُون، عن ابن نُمَير توثيقه، وقال الْبَرْقيّ، عن ابن معين: سليمان بن سُحيم، أبو أيوب الهاشميّ ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له شأنٌ ثَبْتٌ.
وقال ابن سعد: تُوُفّي في خلافة أبي جعفر المنصور، وكان ثقةً، له
(1)
وفي نسخة: "عن الستارة".
(2)
ووقع في نسخة النوويّ وغيره إسقاط قوله: "بهذا".
(3)
هكذا جعله في "التقريب" من الثالثة، والظاهر أنه من السادسة أو نحوها، فإنه لا يروي إلا عن التابعين، فهو من أتباع التابعين، كما قال ابن حبّان، فتأمل.
أحاديث، وكذا قال ابن حبان في "الثقات"، لكن قال: في أول خلافة أبي جعفر، وفَرَّق بين مولى خُزاعة، وبين مولى آل حنين، قال الحافظ رحمه الله: والظاهر أنه وَهِمَ في ذلك
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا تعقّب الحافظ تفريق ابن حبّان، ولم يذكُر له حجة على ذلك، فهو محل نظر.
ودونك عبارة ابن حبّان رحمه الله في "الثقات"، قال في طبقة التابعين: سليمان بن سُحيم، كنيته أبو أيوب مولى لخزاعة، يروي عن جماعة من الصحابة، وروى عنه أهل المدينة، مات في أول ولاية أبي جعفر، ثم قال في أتباع التابعين: سليمان بن سُحيم، مولى عباس بن عبد المطّلب، ويقال: مولى آل حُنين، عِداده في أهل الحجاز، يروي عن طاوس، وإبراهيم بن عبد اللَّه بن معبد، روى عنه ابن عيينة، وابن إسحاق، والماجشون، وليس هذا مولى لخزاعة، ذاك تابعيّ. انتهى كلامه
(2)
.
وتعقّب هذا الكلام يحتاج إلى بينّة واضحة، فليُتأمّل.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ) بن عباس بن عبد المطلب الهاشميّ المدنيّ، صدوقٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وعن عمّ أبيه، عبد اللَّه بن عباس، وروى عن ميمونة.
ورَوَى عنه نافع، وأخوه عباس بن عبد اللَّه، وابن جريج، وسليمان بن سُحيم.
ذكره ابن حبان في "الثقات" في طبقة أتباع التابعين، وقال: قيل: إنه سمع من ميمونة، وليس ذلك بصحيح عندنا. انتهى.
وقد أخرج البخاريّ في "التاريخ" بعد أن رَوَى حديثه عن ميمونة: حدّث نافع عنه، عن ابن عباس، عن ميمونة، قال البخاريّ: ولا يصحّ فيه ابن
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 194.
(2)
راجع: "كتاب الثقات" 4/ 310 و 6/ 383.
عباس، فهذا مشعرٌ لصحة روايته عن ميمونة عند البخاريّ، وقد عُلِم مذهبه في التشديد في هذه المواطن، وقد نَبّه المزيّ في "الأطراف" على أن روايته عن ميمونة بإسقاط ابن عباس ليس في "صحيح مسلم".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (479)، وحديث (1396).
5 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن مَعْبَد بن العباس بن عبد المطلب الهاشميّ المدنيّ، ثقةٌ قليلُ الحديث، [3].
رَوَى عن عمه عبد اللَّه بن عباس، وروى عنه ابنه إبراهيم، ومحمد بن جعفر، وابن أبي مُليكة، ومحمد بن عليّ بن رَبِيعة.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، له عندهم حديث الباب فقط.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه، فالأول خُراسانيّ، ثم مكيّ، والثاني كوفيّ، والثالث نسائيّ، ثم بغداديّ، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وهو أيضًا من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: قال أبو بكر: حدثنا سفيان، عن سليمان، هذا من وَرَع مسلم، وباهر علمه؛ لأن في رواية اثنين -يعني سعيد بن منصور، وزهير بن حرب- عن سفيان بن عيينة أنه قال: أخبرني سليمان بن سُحَيم، وسفيان معروف بالتدليس، وفي رواية أبي بكر، عن سفيان، عن سليمان، فنبّه مسلم على اختلاف الرُّواة في عبارة سفيان. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "وسفيان معروف بالتدليس"، فيه نظر لا يخفى؛ لأن ابن عيينة ليس مشهورًا بالتدليس، وإن وُصف به، إلا أنه قليل، وأيضًا فقد قالوا: إنه لا يُدلّس إلا عن ثقة، حتى ادّعى ابن حبّان أنه لا نظير له في ذلك.
والحاصل أن تدليس ابن عيينة قليلٌ، وإذا دلّس لا يضرّه؛ لأنه لا يدلّس إلا عن ثقة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: وقع للمصنّف رحمه الله في هذا الإسناد غريبةٌ، وذلك أن عادته عند اختلاف شيوخه في صيغ الأداء أن يبيّنه في أول السند، فيقول مثلًا: حدّثنا سعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزُهير بن حرب، قال أبو بكر: حدّثنا سفيان، عن سليمان، وقال الآخران: حدّثنا سفيان بن عيينة، أخبرني سليمان بن سُحَيم، وهكذا عادته المستمرّة، إلا أنه خالف هذا هنا، فأخّر كلام أبي بكر عن سياق المتن، فأوقع بعضَهم في الغلط، حيث ظنّ أن قوله:"قال أبو بكر إلخ" أولُ السند التالي، فجعلوا قوله:"حدّثنا يحيى بن أيوب إلخ" من كلام سليمان بن سُحيم، وممن وقع له ذلك صاحب "تحفة الأشراف"، حيث قال:(م) في "الصلاة" عن سعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبة، وزُهير بن حرب، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة، وقال أبو بكر: حدّثنا سفيان، عن سليمان، عن يحيى بن أيوب إلخ.
فجعل يحيى بن أيوب شيخًا لسليمان، وهذا غلطٌ صريحٌ، والصواب أن قوله:"قال أبو بكر، حدثنا سفيان، عن سليمان" من تَتِمّة السند الماضي.
وأما قوله: "حدّثنا يحيى بن أيوب"، فهو من مقول المصنّف، فيحيى بن أيوب شيخه، لا شيخ سليمان، وهو المقابريّ البغداديّ، وهو من الطبقة العاشرة، كما سنوضّحه في السند التالي، لا الغافقي المصريّ الذي هو من الطبقة السابعة.
ومما يؤكّد ما قلناه أنه وقع في النسخة التي شرح عليها الأبيّ والسنوسي بزيادة توضّح ما ذُكر، ولفظها:"حدّثنا سفيان، عن سليمان بهذا"، وسقطت لفظة "بهذا" عن كثير من النسخ، كشرح النووي وغيره.
فقوله: "بهذا" إشارة إلى الحديث الذي قبله، فتأمله تجده حقًّا.
وبالجملة فما وقع في هذا الغلط من وقع فيه إلا من تغيير المصنّف أسلوبه المعتاد الذي ذكرناه آنفًا.
ويَحْتَمل أن يكون هذا من تصرّف النسّاخ، لا من المصنّف، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ) بكسر السين المهملة: اسم لما يُسْتَرُ به، قال في "المصباح": السِّتْر -أي بكسر، فسكون-: ما يُسْتَرُ به، وجمعه: سُتُورٌ، والسُّتْرة بالضمّ مثله، قال ابن فارس: السُّتْرة: ما استترتَ به كائنًا ما كان، والسِّتَارة بالكسر مثله، والسِّتَار بحذف الهاء لغةٌ، وسترتُ الشيءَ سَتْرًا، من باب نصر. انتهى
(1)
.
والمراد هنا السِّتْرُ الذي يكون على باب البيت، أو الدار، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب الذي بينه وبين أصحابه رضي الله عنهم؛ ليكلّمهم بما يأتي.
(وَالنَّاسُ صُفُوفٌ) بالضمّ: جمع صَفّ، كفلس وفُلُوس، وهو على حذف مضاف: أي ذوو صُفُوف، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو؛ لأن الجملة اسميّة، وهي تربط بالواو، وبالمضمر، كما قال في "الخلاصة":
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
(خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ) ظرف متعلّق بـ "صُفُوفٌ"، والحال أن الناس مصطفّون وراء أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، يُصلّي بهم؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مريضًا، كما بُيِّن في رواية إسماعيل بن جعفر، عن سليمان بن سُحيم التالية بلفظ:"كشف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السِّتْرَ، ورأسه معصوبٌ، في مرضه الذي مات فيه. . . "(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّهَا النَّاسُ) بحذف حرف النداء، على حدّ قوله تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، قال الحريريّ في "الْمُلْحَة":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
(1)
"المصباح المنير" 1/ 266.
أي يا أيها الناس (إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره جملة بعده، أي إن الأمر والشأن (لَمْ يَبْقَ) بفتح أوله، وثالثه، مضارع بَقِيَ، يقال: بَقِيَ الشيءُ يَبْقَى، من باب تَعِبَ بَقَاءً، وبَاقِيَةً: دام، وثَبَتَ، ويتعدّى بالألف، فيقال: أبقيتُهُ، والاسمُ الْبَقْوَى، بالفتح مع الواو، والْبُقْيَا بالضمّ مع الياء، ومثله الْفَتْوَى، والْفُتْيَا، والثَّنْوَى، والثُّنْيَا، وهي الاسم من الاستثناء، والرَّعْوَى، والرُّعْيَا، من أرعيتُ عليه، وطَيِّئٌ تُبْدل الكسرة فتحةً، فتنقلب الياء ألفًا، فيصير بَقَا، وكذلك كلُّ فِعْل ثلاثيّ، سواءٌ كانت الكسرة والياء أصليّتين، نحوُ بَقِيَ، ونَسِيَ، وفَنِيَ، أو كان ذلك عارضًا، كما لو بُنِي الفعلُ للمفعول، فيقولون في هُدِيَ زيدٌ، وبُنِيَ البيتُ: هُدَا زيدٌ، وبُنَا البيتُ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ) بصيغة اسم الفاعل: هو ما اشتمل على الخبر السارّ، من وحيٍ، أو إلهامٍ، أو رؤيا، أو نحوها، أي مما يَظهَر للنبيّ من المبشّرات بعد نبوّته، وفيه إشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "مبشِّرات النبوّة": أولُ ما يبدو منها، مأخوذ من تباشير الصبح وبشائره، وهو أوّل ما يبدو منه، وهذا كما تقدّم من قول عائشة رضي الله عنها:"أوّلُ ما بُدئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم"
(2)
. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح" -عند شرح قول البخاريّ رحمه الله في "كتاب التعبير": "باب المبشِّرات" -ما نصّه: "المبشِّرات" بكسر الشين المعجمة، جمع مُبَشِّرة، وهي البُشْرَى، وقد ورد في قوله تعالى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] هي الرؤيا الصالحة، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه الحاكم، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، ورواته ثقات، إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة، وأخرجه الترمذيّ أيضًا من وجه آخر، عن أبي سلمة، قال: نُبِّئتُ عن عبادة، وأخرجه أيضًا هو وأحمد، وإسحاق، وأبو يعلى، من طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن عبادة، وذكر
(1)
"المصباح المنير" 1/ 58.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
"المفهم" 2/ 86.
ابن أبي حاتم، عن أبيه، أن هذا الرجل ليس بمعروف، وأخرجه ابن مردويه، من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله، وفي الباب عن جابر، عند البزار، وعن أبي هريرة، عند الطبريّ، وعن عبد اللَّه بن عمرو، عند أبي يعلى. انتهى.
وقال في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لم يَبْقَ من النبوة إلا المبشرات" ما نصّه: كذا ذكره باللفظ الدالّ على المضِيّ تحقيقًا لوقوعه، والمراد الاستقبال، أي لا يبقى، وقيل: هو على ظاهره؛ لأنه قال ذلك في زمانه، واللام في النبوة للعهد، والمراد نبوته، والمعنى: لم يبق بعد النبوة المختصّة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا، وصَرَّح به في حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد، بلفظ:"لم يبق بعدي"، وقد جاء في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، من طريق إبراهيم بن عبد اللَّه بن مَعْبد، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارة، ورأسُهُ معصوب، في مرضه الذي مات فيه، والناسُ صفوفٌ خلفَ أبي بكر، فقال:"يا أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له. . . " الحديث، وللنسائيّ من رواية زُفَر بن صَعْصَعَة، عن أبي هريرة، رفعه:"إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة"
(1)
، وهذا يؤيّد التأويل الأول.
وظاهر الاستثناء مع ما تقدّم من أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة، أن الرؤيا نبوّة، وليس كذلك؛ لما تقدم أن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة؛ أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه رافعًا صوته، لا يسمى مؤذِّنًا، ولا يقال: إنه أذّن، وإن كانت جزءًا من الأذان، وكذا لو قرأ شيئًا من القرآن، وهو قائم، لا يسمى مصليًا، وإن كانت القراءة جزءًا من الصلاة.
ويؤيِّده حديث أم كرز -بضم الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي- الكعبية رضي الله عنها، قالت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ذَهَبَت النبوة، وبقيت
(1)
راجع: "السنن الكبرى" للنسائيّ في "كتاب التعبير"(4/ 382).
المبشِّرات"، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، ولأحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "لم يبق بعدي من المبشِّرات إلا الرؤيا"، وله، وللطبرانيّ، من حديث حُذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه مرفوعًا: "ذهبت النبوة، وبقيت المبشِّرات"، ولأبي يعلى، من حديث أنس رضي الله عنه، رفعه: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، ولا نبيّ، ولا رسول بعدي، ولكن بقيت المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "رؤيا المسلمين، جزء من أجزاء النبوة".
قال الْمُهَلَّب رحمه الله ما حاصله: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرةً، وهي صادقة، يريها اللَّه للمؤمن؛ رفقًا به؛ لِيَستعِدَّ لما يقع قبل وقوعه.
وقال ابن التين رحمه الله معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي، ولا يبقى ما يُعْلَم منه ما سيكون إلا الرؤيا.
ويَرِدُ عليه الإلهام، فإن فيه إخبارًا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء، كما في حديث مناقب عمر رضي الله عنه:"قد كان فيمن مَضَى من الأمم مُحَدَّثون"، وفُسِّر المحدَّث -بفتح الدال- بالملهم -بالفتح- أيضًا، وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة، فكانت كما أَخْبَروا.
والجواب أن الحصر في المنام؛ لكونه يشمل آحاد المؤمنين، بخلاف الإلهام، فإنه مُخْتَصّ بالبعض، ومع كونه مختصًّا، فإنه نادر، فإنما ذكر المنام لشموله، وكثرة وقوعه.
ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن يكن"، وكأن السّر في ندور الإلهام في زمنه، وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وإرادة إظهار المعجزات منه، فكان المناسب أن لا يقع لغيره منه في زمانه شيء، فلما انقطع الوحي بموته، وقع الإلهام لمن اختَصَّه اللَّه به؛ للأمن من اللبس في ذلك.
وفي إنكار وقوع ذلك مع كثرته، واشتهاره، مكابرةٌ ممن أنكره. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ.
(1)
"الفتح" 12/ 392 - 393.
(إِلَّا الرُّؤيا الصَّالِحَةُ) الاستثناء مفرّغ؛ لأن ما قبل إلّا" تفرّغ للعمل فيما بعدها، فالرؤيا فاعل "يَبْقَ"، وقوله: (يَرَاهَا الْمُسْلِمُ) في محلّ نصب على الحال من "الرؤيا"، أي يراها الشخص المسلم، ومثله المسلمة، فليس هذا خاصًّا بالرجال، وفي الرواية التالية: "يراها العبد الصالح" (أَوْ تُرَى لَهُ) ببناء الفعل للمفعول، أي رآها غيره له.
(أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، يلقى بها للمخاطب؛ تنبيهًا له، وإزالةً لغفلته (وَإِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة، وفي رواية النسائيّ:"ألا إني" بحذف الواو (نُهِيتُ) بالبناء للمفعول، أي نهاني اللَّه تعالى، ونهيه صلى الله عليه وسلم نهيٌ لأمته؛ إذ ليس مختصًّا به، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"فأما الركوع، فعظِّموا فيه الربّ. . . " الحديث؛ إذ معناه: لا تقرءوا فيه القرآن، بل عظّموا اللَّه تعالى بالتسبيح، والتحميد، والتمجيد (أَنْ) بالفتح مصدريّة (أقرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا) والمصدر المؤوّل مجرور بـ "عن" مقدّرةً قياسًا، كما قال في "الخلاصة":
وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ وَإِنْ
…
حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُو"
وانتصاب "راكعًا، أو ساجدًا" على الحال، أي نهاني اللَّه تعالى عن قراءة القرآن في حال ركوعي، أو سجودي.
قال بعضهم: وكأنّ حكمة النهي عن ذلك أن أفضل أركان الصلاة القيام، وأفضل الأذكار القرآن، فجُعل الأفضل للأفضل، ونُهِيَ عن جعله في غيره؛ لئلا يوهم استواءه مع بقيّة الأذكار. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: يؤيّد هذا القول ما أخرجه المصنّف رحمه الله وغيره من حديث جابر رضي الله عنه قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيُّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت"
(1)
، أي القيام، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: لَمّا كان الركوع والسجود، وهما غاية الذلّ والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح نهى صلى الله عليه وسلم عن القراءة فيهما، كأنه كرِهَ أن يُجمع بين
(1)
سيأتي للمصنّف رحمه الله برقم (756).
كلام اللَّه تعالى وبين كلام الخلق في موضع واحد، فيكونا على السواء. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الطيبيّ مخدوشٌ؛ فإن القيام فيه دعاء الاستفتاح، وقد جُمع مع قراءة الفاتحة وغيرها من القرآن، فتبصّر.
(فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل أي سبّحُوه، ونَزِّهوه، ومَجِّدوه، والفاء الأولى فاء الفصيحة، أي إذا عرفتم أن قراءة القرآن منهيّ عنها في حال الركوع والسجود، وأردتم معرفة الأذكار المشروعة فيهما، فأقول لكم:"فأما الركوع، فعظّموا فيه الربّ إلخ"، وأما الفاء الثانية، فهي رابطة لجواب "أما"، وهي حرف تفصيل، وفصل، وتوكيد، بمعنى "مهما يكن من شيء"، كما قال في "الخلاصة":
"أَمَّا" كَـ "مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ" وَفَا
…
لِتِلْوِ تِلْوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا
والمعنى: أن المشروع في الركوع هو تعظيم الربّ عز وجل بأنواع التسبيح، والتحميد، والتقديس المذكورة في أحاديث هذا الباب، وغيرها، فإنه اللائق به، فهو أولى من الدعاء، فيه.
[فإن قيل]: هذا يعارضه ما سيأتي من حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يتأول القرآن، متّفق عليه، فإنه يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الركوع.
[أجيب]: بأنه لا معارضة بينهما؛ لأن ذلك قليلٌ بالنسبة إلى التسبيح، وغيره من أنواع التعظيم المشروع في حال الركوع، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ) أي فيه، يعني أن الأولى في حال السجود الاجتهاد في الدعاء.
[فإن قلت]: هذا يعارضه ثبوت التسبيح في السجود، فقد أخرج أبو داود، وغيره، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لَمّا نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، قال:"اجعلوها في سجودكم"، صححه ابن خزيمة
(1)
.
(1)
في سنده إياس بن عامر الغافقيّ، صحح حديثه ابن خزيمة، وقال العجليّ: لا بأس =
[قلت]: الجواب هو ما سبق في الركوع، وهو أن التسبيح فيه قليلٌ بالنسبة للدعاء المأمور بالاجتهاد فيه، واللَّه تعالى أعلم.
ثمّ بيّن سبب الحثّ على الاجتهاد في الدعاء، فقال:
(فَقَمِنٌ) بفتح القاف، وكسر الميم، وفتحها، ويقال أيضًا: قمين بالياء، ومعناه: جدير، وخَلِيقٌ.
قال الأزهريّ رحمه الله: يقال: هو قَمَنٌ أن يفعل ذلك -بالتحريك- وقَمِن -بكسر الميم- أن يفعل ذلك، فمن قال: قَمَن -بفتح الميم- أراد المصدر، فلم يُثَنِّ، ولم يَجْمَع، ولم يؤنث، يقال: هما قَمَنٌ أن يفعلا ذلك، وهم قَمَنٌ أن يفعلوا ذلك، وهُنَّ قَمَنٌ أن يفعلن ذلك، ومن قال: قَمِنٌ -بكسر الميم- أراد النعت، فَثَنَّى، وجَمَعَ، فقال: هما قَمِنان، وهم قَمِنون، ويؤنث على ذلك، وفيه لغتان: هو قَمِن أن يفعل ذلك، وقَمِين أن يفعل ذلك بالياء، قال قيس بن الْخَطِيم [من الطويل]:
إَذَا جَاوَزَ الإِثْنَيْنِ سِرٌّ
…
فَإِنَّهُ بِنَثِّ وَتَكْثِيرِ الْوُشَاةِ قَمِينُ
وقال ابن كيسان: قَمِينٌ بمعنى حَرِيٌّ، مأخوذ من تَقَمَّنتُ الشيءَ: إذا أشرفتَ عليه أن تأخذه، وقال غيره: هو مأخوذ من الْقَمِين، بمعنى السريع والقريب، ذكره في "اللسان"
(1)
.
وقوله: (أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ")"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مبتدأ مؤخّر، وخبره قوله:"قمنٌ" مقدّمًا عليه، أو هو فاعل بـ "قَمِنٌ" على مذهب الكوفيين الذين لا يشترطون الاعتماد.
وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بِهَذَا) أي بالحديث السابق، وقد تقدّم آنفًا أن الأولى للمصنّف أن يقدّم هذا الكلام قبل المتن في أول السند، كعادته عند اختلاف شيوخه في صيغ الأداء، وقد وقع بعضهم في غلط شنيع بسبب هذا التأخير، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
= به، ووثّقه ابن حبّان، انظر:"تهذيب التهذيب" 1/ 196، وقال في "التقريب": صدوق من الثالثة.
(1)
"لسان العرب" 13/ 347.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 1079 و 1080](479)، و (أبو داود) في "الصلاة"(876)، و (النسائيّ) فيها (2/ 188 - 190 و 217 - 218)، و (عبد الرّزاق) في "مصنفه"(2839)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 82)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 248 - 249)، و (الحميديّ) في "مسنده"(489)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 304)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(548)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1896)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 233 - 234)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(203)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 87 - 88)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1822 و 1823)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1058 و 1059)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(626)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، قال البيضاويّ رحمه الله: نَهْيُ اللَّه تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم يدلّ على عدم جواز القراءة في الركوع والسجود، لكن لو قرأ لم تبطل صلاته، إلا إذا كان المقروء الفاتحة، فإن فيه خلافًا من حيث إنه زاد ركنًا، لكن لم يتغيّر به نظم صلاته. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإنما وظيفة الركوع التسبيح، ووظيفة السجود التسبيح والدعاء، فلو قرأ في ركوع، أو سجود غير الفاتحة كُرِه، ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا: أصحّهما: أنه كغير الفاتحة فيكره، ولا تبطل صلاته، والثاني: يحرُم وتبطل صلاته هذا، إذا كان عمدًا، فإن قرأ سهوًا لم يكره، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1015.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 197.
2 -
(ومنها): الحثّ على تعظيم الربّ عز وجل في حال الركوع بأنواع التسبيح والتقديس، والتمجيد، وقد ذَكَر المصنّف رحمه الله بعد هذا الأذكار التي تقال في الركوع والسجود.
وقال النوويّ رحمه الله: استحبّ الشافعي وغيره من العلماء أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده:"سبحان ربي الأعلى"، ويكَرِّر كل واحدة منهما ثلاث مرات، ويضُمّ إليه ما جاء في حديث عليّ رضي الله عنه الذي ذكره مسلم بعد هذا:"اللهم لك ركعت، اللهم لك سجدت. . . " إلى آخره، وإنما يستحب الجمع بينهما لغير الإمام، وللإمام الذي يَعلم أن المأمومين يؤثرون التطويل، فإن شكّ لم يَزِد على التسبيح، ولو اقتصر الإمام والمنفرد على تسبيحة واحدة، فقال:"سبحان اللَّه" حَصَلَ أصل سنة التسبيح، لكن ترك كمالها وأفضلها.
3 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على الدعاء في السجود؛ لكونه حالةً يستجاب فيها الدعاء؛ لكون العبد فيه أقرب إلى اللَّه تعالى، فقد أخرج المصنّف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"
(1)
.
فيستحبّ أن يجمع في سجوده بين الدعاء والتسبيح، وستأتي الأحاديث الواردة فيه -إن شاء اللَّه تعالى-.
4 -
(ومنها): بيان أن الوحي انقطع بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فليس بعده شيءٌ يَستدلّ به الناس على الأمور الغيبيّة إلا الرؤيا التي يراها المسلم، أو تُرى له. وأخرج الترمذيّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي، ولا نبيّ"، قال: فشقّ ذلك على الناس، فقال:"لكن المبشرات"، قالوا: يا رسول اللَّه، وما المبشرات؟ قال:"رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة"، قال الترمذيّ رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.
5 -
(ومنها): بيان شرف رؤيا المسلم، وأنها بشرى عاجلة، يريه اللَّه عز وجل
(1)
سيأتي برقم (482).
ما يسرّه، فيستبشر بذلك، وقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
وأخرج المصنّف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تَكَد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءًا من النبوة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا صالحة بشرى من اللَّه، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يُحَدِّث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليَقُم، فليصلّ، ولا يُحَدِّث بها الناس. . . "، الحديث.
6 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: في نسبة نهي القراءة في الركوع والسجود إلى نفسه صلى الله عليه وسلم إيهام أنه صلى الله عليه وسلم مخصوص به، وأن الأمة ليسوا داخلين في النهي، فأزيل ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم إياهم أن يُعظّموا اللَّه تعالى في الركوع، وأن يدعوه في السجود، ودلّ ذلك على أن المنهيّ، والمنهيّ عنه عظيمان، ولذلك صُدِّرت الجملة بالكلمة التي هي من طلائع القسم، وهي "ألا"، فإذا نُهي مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، فغيره أولى به، ودلّ على أن الأمر بالذكر والتسبيح دون النهي عن القراءة في المرتبة، فنَسَبَهما إلى الأمة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأذكار في الركوع والسجود:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختلفوا فيما على من ترك التسبيح في الركوع والسجود، فروينا عن الحسن أنه قال: المجزئ ثلاث.
وقال إسحاق: لا تتمّ صلاته إلا بالتكبيرات، والتسبيح، والتحميد، والتشهّد، والقراءة، فإن تركها تارك عمدًا كان تاركًا لما أُمر به، فعليه إعادتها.
قال: ومن حجة من قال هذا القول أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبّح في سجوده، وقال لَمّا نزلت:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} : "اجعلوها في سُجودكم"، وكذلك قال لَمّا نزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} : "اجعلوها في ركوعكم"،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1015 - 1016.
وهذا إن لم يكن أوكد في باب الأمر من التشهّد، فليس بدونه، فاللازم لمن جعل التشهّد فرضًا، وجعل على تاركه إعادة الصلاة أن يقول كذلك في تارك التسبيح في الركوع والسجود؛ إذ هو في باب الأمر مثله، أو أوكد منه.
قال: وأسقطت طائفة فرض التسبيح عن الراكع والساجد، وقالت: لا إعادة على تاركه، فروينا عن ابن سيرين أنه قال: إذا وضع يديه على ركبتيه، فقد أتمّ، وإذا أمكن جبهته من الأرض، فقد أتمّ، وقال الثوريّ: وإن لم يقل شيئًا، وقال المسيّب بن رافع نحوه، وقيل لابن أبي نَجِيح: أكان مجاهد يقول: يجزيه إذا وضع يديه على ركبتيه؟، فأومأ برأسه نعم.
وكان الشافعيّ يقول: إذا ترك التكبير سوى تكبيرة الافتتاح، وقوله: سمع اللَّه لمن حمده، والذكر في الركوع والسجود لم يُعد صلاته، وكذلك قال أبو ثور، وأصحاب الرأي.
واحتجّ الشافعيّ بحديث رفاعة، يعني حديث المسيء صلاته، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالأذكار.
قال ابن المنذر رحمه الله: ولعمري لو اقتصر على حديث رفاعة، فلم يَفْرض غير ما فيه، مثل التشهّد، والتسليم للخروج من الصلاة، لكان قد ذهب مذهبًا، فإن قال قائل: التشهّد وجب بحديث آخر، قيل له: وكذلك التسبيح في الركوع والسجود وجب بحديث آخر، ولن يدخل في أحدهما شيء إلا دخل في الآخر مثله. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد الإمام ابن المنذر رحمه الله في الاحتجاج على الإمام الشافعيّ رحمه الله حيث لَزِم قوله في هذه المسألة التناقضُ؛ إذ أوجب التشهد، مع أنه لم يُذكر في حديث عقبة بدليل خارج، ولم يوجب التسبيح في الركوع والسجود؛ لعدم ذكره في حديثه، ولا شك أن مثل هذا يلزم منه التناقض، فالحقّ أن كلّ ما دلّ عليه دليلٌ صحيح وجب المصير إليه، فمن أوجب التشهّد لأمره صلى الله عليه وسلم به، فليوجب أذكار الركوع والسجود؛ لأمره كذلك من غير فرق، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الأوسط" 3/ 186 - 187.
قال القرطبيّ رحمه الله: مذهب الجمهور كراهة القراءة والدعاء في الركوع، وقال الشافعيّ والكوفيّون: يقول في الركوع: "سبحان ربي العظيم"، وفي السجود:"سبحان ربي الأعلى"؛ اتّباعًا لحديث عقبة رضي الله عنه
(1)
، وكلُّهم على استحباب ذلك، وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الركوع والسجود، وذهب إسحاق، وأهل الظاهر إلى وجوب الذكر فيهما دون تعيين، وأنه يعيد الصلاة من تركه.
وفي "المبسوط" عن يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار، من أئمتنا -يعني المالكيّة- فيمن لم يذكر اللَّه في ركوعه، ولا سجوده أنه يُعيد الصلاة أبدًا، وقد تأولّ المتأخّرون من أصحابنا ذلك عليهما تأويلات بعيدة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد عرفت فيما سبق أن الحقّ وجوب أذكار الركوع والسجود، فما ذهب إليه إسحاق، وأهل الظاهر، ونقل عن يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار هو الصحيح، فتبصّر.
وقال النوويّ رحمه الله: التسبيح في الركوع والسجود سنةٌ غير واجب، هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعيّ -رحمهم اللَّه تعالى- والجمهور، وأوجبه أحمد رحمه الله، وطائفة من أئمة الحديث؛ لظاهر الحديث في الأمر به، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وهو في "صحيح البخاريّ".
وأجاب الجمهور بأنه محمول على الاستحباب، واحتَجُّوا بحديث المسيء صلاته، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمره به، ولو وَجَب لأمره به. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال الحافظ رجب رحمه الله: ولو لم يسبّح في ركوعه، ولا سجوده، فقال أكثر الفقهاء: تجزئ صلاته، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والثوريّ، والشافعيّ وغيرهم.
(1)
تقدّم قريبًا ذكر حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وهو حديث صحّحه ابن خزيمة.
(2)
"المفهم" 2/ 85 - 86.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 197.
وقال أحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق: إن تركه عمدًا بطلت صلاته، وإن تركه سهوًا وجب عليه أن يَجبُره بسجدتي السهو.
وقالت طائفة: هو فرض لا يسقط في عمد، ولا سهو، وحُكي روايةً عن أحمد، وهو قول داود، ورجّحه الخطابيّ، وقد روى الحسن، والنخعيّ ما يدلّ عليه.
قال: ويُستدلّ له بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن"، رواه مسلم، ولذلك سمّى اللَّه تعالى الصلاة تسبيحًا، كما سمّاها قرآنًا، فدلّ على أن الصلاة لا تخلو عن القرآن والتسبيح.
قال: وعلى القول بالوجوب، فقال أصحابنا: الواجب في الركوع: "سبحان ربي العظيم"، وفي السجود:"سبحان ربي الأعلى" لا يُجزئ غير ذلك؛ لحديث ابن مسعود، وعقبة بن عامر رضي الله عنه، وقد سبقا
(1)
.
وقال إسحاق: يُجزئ كلُّ ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من تسبيح، وذكر، ودعاء، وثناء. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيس.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من ذكر أقوال العلماء، وأدلّتهم أن مذهب من أوجب التسبيح في الركوع والسجود، هو الحقّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به، والأمر للوجوب، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتسبيح في الركوع والسجود، كما سبق في حديث عقبة رضي الله عنه المتقدّم:"اجعلوها في ركوعكم. . . اجعلوها في سجودكم"، وكذا حديث الباب قال:"فعظّموا فيه الربّ"، وقال:"فاجتهدوا في الدعاء"، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم فعلًا، كما صحّ قولًا، وقال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وقال أيضًا:"إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن".
فإذا لم تفد هذه النصوص الوجوب، فما الذي يفيده؟ إن هذا لهو العجب العُجاب!!!.
وأما الاحتجاج بحديث المسيء صلاته، فليس بصواب؛ لأن الأرجح -كما أسلفناه في محلّه- أن الواجبات ليست مقصورة على حديثه، بل غاية ما
(1)
أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فضعيف؛ للانقطاع، وأما حديث عقبة رضي الله عنه فحسن، كما أسلفت تحقيقه، فتنبّه.
فيه أن كلّ ما ذُكر فيه فهو واجب، وما زاد على ذلك ينظر إلى دليله، فإن اقتضى الوجوب كما هنا عُمل به، وإلا حُمِل على الاستحباب.
والحاصل أن قول من قال بوجوب أذكار الركوع والسجود هو الحقّ، فمن ترك التسبيح في الركوع، أو التسبيح والدعاء في السجود بالكلّية أعاد الصلاة، عمدًا كان، أو سهوًا؛ لما سبق من الأدلّة الصحيحة الصريحة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في عدد تسبيح الركوع والسجود:
(اعلم): أنهم قد اختَلَفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن أدنى الكمال ثلاث تسبيحات، وتُجزئ واحدة، وروي عن الحسن، وإبراهيم أن المجزئ ثلاثٌ، قال ابن رجب: وقد يتأول على أنهما أرادا المجزئ من الكمال، كما تأوّل الشافعيّ وغيره، حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور على أدنى الكمال، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في ركوعه وسجوده قدر خمس تسبيحات، وعن الحسن قال: التامّ من ذلك قدر سبع تسبيحات، وعنه قال: سبع أفضل من ثلاث، وخمس وسط بين ذلك، وكذا قال إسحاق: يسبّح من ثلاث إلى سبع.
وقالت طائفة: يستحبّ للإمام أن يسبّح خمسًا ليُدرك من خلفه ثلاثًا، هكذا قال ابن المبارك، وسفيان الثوريّ، وإسحاق، وبعض الحنابلة، ومنهم من قال: يسبّح من خمس إلى عشر، وقال بعض الحنابلة: يكره للإمام أن ينقص عن أدنى الكمال في الركوع والسجود، ولا يكره للمنفرد؛ ليتمكّن المأموم من سنّة المتابعة.
وقال أصحاب الشافعيّ: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات، ومنهم من قال: خمس إلا أن يرضى المأمومون بالتطويل، ويكونون محصورين.
قال ابن رجب: وهذا خلاف نصّ الشافعيّ في "الأُمّ"، فإنه نصّ على أنه يسبّح ثلاثًا، ويقول مع ذلك ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عليّ رضي الله عنه، قال: وكلُّ ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ركوع أو سجود أحببت أن لا يُقصِّر عنه، إمامًا كان، أو منفردًا، وهو تخفيف لا تثقيل.
قال: واختلف أصحابنا -يعني الحنابلة- في الكمال في التسبيح، هل هو عشر تسبيحات، أو سبع؟ ولهم وجهان آخران في حقّ المنفرد، أحدهما يسبّح بقدر قيامه، والثاني ما لم يَخَف سهوًا، ذكر هذا كلّه الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح عندي أن المصلّي مطلقًا يسبّح بلا عدد معيّن، وكلما زاد كان أفضل، إلا أن يكون إمامًا، فيخفّف للأمر بذلك، وأقوى ما ثبت في ذلك ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيّ بإسناد حسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن عبد العزيز- فحزَرْنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات.
وأما ما أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، عن عون بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وذلك أدناه"، فإنه حديث ضعيف؛ للانقطاع، كما قاله أبو داود والترمذيّ؛ لأن عون بن عبد اللَّه لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه.
والحاصل أنه لا حدّ للتسبيح في الركوع والسجود بالثلاث، ولا بغيرها، بل يسبّح ما شاء، وكلّما زاد كان حسنًا، وإنما الواجب الطمأنينة مع الذكر، لكن إن كان إمامًا فالأولى له أن يراعي حال المأمومين، فلا يشقّ عليهم بالتطويل، ولا يفوّت عليهم سنة التسبيح بالاستعجال، بل يعطي كلّ ذي حقّ حقه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1080]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 7/ 178 - 181.
أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
السِّتْرَ، وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا، يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (السِّتْرَ) تقدّم أنه بكسر السين، وسكون التاء بمعنى الساتر.
وقوله: (وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ) اسم مفعول من عَصَبَ، يقال: عَصَب رأسه يَعْصِبه، من باب ضرب: إذا شدّه بالعصابة، وهي بالكسر: كلّ ما عَصَبْتَ به رأسَك، من عِمَامةٍ، أو منديل، أو خِرقة
(2)
.
والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي حال كونه مشدود الرأس بالعمامة؛ لشدّة مرضه.
وقوله: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) قدّم "اللهم" تأكيدًا للأمر، كما أكّده بتكريره ثلاثًا، فهو صلى الله عليه وسلم يُشهد اللَّه تعالى على تبليغه، وأنه لم يقصِّر في تبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى، وتبليغ ما أمره عز وجل بتبليغه إلى الأمة، ولذلك ثبت عنه في حديث آخر:"اللهم اشهَد"
(3)
.
(1)
وفي نسخة: "كشف علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
(2)
راجع: "لسان العرب" 1/ 603.
(3)
هو ما تقدّم في "كتاب الإيمان"(221) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأسند ظهره إلى قبة أَدَم، فقال: "ألا لا يدخل الجنة إلا نفس =
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير إسماعيل بن جعفر، يعني أن إسماعيل بن جعفر أتّم سياق الحديث بعد قوله:"أو تُرى له" بمثل حديث سفيان بن عيينة الماضي.
[تنبيه]: رواية إسماعيل بن جعفر هذه، ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:
(1120)
أخبرنا عليّ بن حُجْر المروزيّ، قال: أنبأنا إسماعيل، هو ابن جعفر، قال: حدّثنا سليمان بن سُحَيم، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن مَعْبد بن عباس، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عباس، قال: كَشَف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السِّتْر، ورأسه معصوب في مرضه، الذي مات فيه، فقال:"اللَّهمّ قد بلغت، ثلاث مرات، إنه لم يبق من مبشرات النبوة، إلا الرؤيا الصالحة، يراها العبد، أو تُرَى له، ألا وإني قد نُهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فإذا ركعتم فعظموا ربكم، وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قَمَنٌ أن يستجاب لكم". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1081]
(480) - (حَدَّثَنِي
(1)
أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
= مسلمة، اللهم هل بلغت، اللهم اشهد. . . " الحديث، وسيأتي أيضًا نظيره في "كتاب الحج" في خطبته صلى الله عليه وسلم في عرفة برقم (1218)، وفي "القسامة" برقم (1679)، وفي "صفة القيامة" برقم (2801).
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
2 -
(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب بن مسلم القُرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح، وقيل:(160)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة فقيه، من رؤوس [4] (ت 125) وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.
6 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق المدنيّ، ثقة [3].
روى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي مُرّة، مولى عَقِيل، وأرسل عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى عنه الزهريّ، وشريك بن أبي نَمِر، ونافع، وابن عجلان، وابن إسحاق، وغيرهم.
قال محمد بن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قيل: إنه توفي سنة بضع ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، هذا برقم (480) كرّره أربع مرّات، وحديث رقم (722) و (1205) و (2078) وكرّره ثلاث مرات.
7 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن حُنين الهاشميّ، مولى العباس، ويقال: مولى عليّ المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن عليّ، وابن عباس، وأبي أيوب، وابن عمر، والْمِسْوَر بن مَخْرَمة.
وروى عنه ابنه إبراهيم، ومحمد بن المنكدر، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، ونافع مولى ابن عمر، وأبو بكر بن حفص بن عمر بن
سعد بن أبي وقاص، وشريك بن عبد اللَّه بن أبي نَمِر، وغيرهم.
قال العجليّ: مدنيّ، تابعيّ، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أسامة بن زيد الليثيّ: دخلت عليه ليالي استُخْلِف يزيد بن عبد الملك، وكان موته قريبًا من ذلك، وكذا قال ابن حبان: مات في ولاية يزيد بن عبد الملك.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (480)، وكرّره أربع مرّات، و (481)، وحديث (1205):"يغسل رأسه، وهو محرم. . . "، و (2078):"نهى عن لبس القسيّ. . . "، وكرّره ثلاث مرّات.
8 -
(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) الهاشميّ، ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أبو الحسن رحمه الله، مات سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، ومن قبله مصريّون.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن إبراهيم، عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، وصهر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وابن عمّه، وأنه مات يوم مات، وهو أفضل من في الأرض من الأحياء من بني آدم، بإجماع المسلمين، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّ أَباهُ) عبد اللَّه بن حُنين (حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ) أي القرآن، حال كوني (رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا) وفي الرواية التالية: "نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن، وأنا راكع، أو ساجد"، وفي الرواية التي بعدها:"نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن القراءة في الركوع، والسجود، ولا أقول: نهاكم".
قال النوويّ رحمه الله: ليس معناه: أن النهي مُخْتَصٌّ به، وإنما معناه: أن اللفظ الذي سمعته بصيغة الخطاب لي، فأنا أنقله كما سمعته، وإن كان الحكم يتناول الناس. انتهى
(1)
.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: هذا دليلٌ على منع الرواية بالمعنى، واتّباع اللفظ، قال: ولا شكّ في أن نهيه صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه نَهْيٌ لسواه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُخاطب الواحد، ويريد الجماعة في بيان الشرع. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "دليلٌ على منع الرواية بالمعنى"، فيه نظر لا يخفى؛ إذ الحديث لا يدلّ على المنع، وغايته أن يدلّ على الأولويّة، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا لا يدلّ على خصوصيّته بهذا الحكم، وإنما أخبر بكيفيّة توجّه صيغة النهي الذي سمعه، فكأن صيغة النهي التي سمع:"لا تقرأ القرآن في الركوع"، فحافظ حالة التبليغ على كيفيّة ما سَمِع حالة التحمّل، وهذا من باب نقل الحديث بلفظه كما سُمِعَ، ولا شكّ أن مثل هذا اللفظ مقصور على المخاطب من حيث اللغة، ولا يُعدَّى إلى غيره إلا بدليل من خارج، إما عامّ، كقوله صلى الله عليه وسلم:"حُكْمي على الواحد حكمي على الجميع"
(2)
، أو خاصّ في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا، أو ساجدًا". انتهى
(3)
.
[تنبيه]: هذا الحديث سيأتي بأتمّ مما هنا في "كتاب اللباس والزينة" برقم (2078) عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 198.
(2)
هذا الحديث بهذا اللفظ ليس له أصل، كما قاله الحافظ العراقيّ في "تخريجه"، وسُئل عنه الحافظان: المزّيّ، والذهبيّ، فأنكراه، وإنما الثابت ما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، من حديث أُميمة بنت رُقيقة، مرفوعًا:"إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة"، قال الحافظ السخاويّ رحمه الله: هذا من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ الشيخين بإخراجها؛ لثبوتها على شرطهما. انتهى. "المقاصد الحسنة"(ص 192 - 193).
(3)
"المفهم" 2/ 86 - 87.
حنين، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالب، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لُبْس الْقَسِيّ، والْمُعَصفَر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع، وسيأتي شرحه هناك -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 1081 و 1082 و 1083 و 1084 و 1085 و 1086](480) و [42/ 1087](481)، وسيأتي في "اللباس"(2078)، و (أبو داود) في "اللباس"(4044 و 4045 و 4046)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(264) و"اللباس"(1737)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 189) و"الزينة"(8/ 191 و 204)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 80)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2832)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 249)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 83)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1895)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1825 و 1826 و 1827 و 1828 و 1829 و 1830 و 1831 و 1832 و 1833 و 1834)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1060 و 1061 و 1062 و 1063 و 1064 و 1065 و 1066 و 1067 و 1068 و 1069 و 1070 و 1071)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 87)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(627).
وفوائد الحديث، تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1082]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ، يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَا رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، مشهور بكنيته [10](ت 247)(ع) أحد مشايخ الستّة تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِير) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
والباقون تقدّموا قبله، والإسناد مسلسلٌ بالمدنيين من الوليد، والباقيان كوفيّان، وقد تقدّم شرح الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1083]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) عن (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
4 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أبو عبد اللَّه، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، كان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
والباقون تقدّموا قبله، والإسناد مسلسلٌ بالمدنيين من محمد بن جعفر.
وقوله: (وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ) تقدّم أن معناه أنه سمع منه صلى الله عليه وسلم خطابًا خاصًّا به رضي الله عنه، ولا يريد بذلك أن النهي مختصّ به، بل هو من باب أداء ما سمعه كما سمعه؛ ليؤدّي ما سمعه على الوجه الذي سمعه، وإن كان يجوز أداؤه بالمعنى، لكن الأول هو الأولى، فقد أخرج الترمذيّ رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر اللَّه امرأً سَمِع منا شيئًا، فبلَّغه كما سمع، فرُبّ مُبَلَّغ أوعى من سامع"، وقال: حديث حسن صحيح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1084]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهَيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي حِبِّي صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ
(2)
رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم أول الباب.
2 -
(إِسْحَاقُ) بن إبراهيم بن مخلَد المعروف بابن راهويه، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو الْقَيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفَرّاءُ الدبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [5].
رَوَى عن السائب بن يزيد الكِنْديّ، وزيد بن أسلم، وعبيد اللَّه بن مِقْسَم،
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني"، وفي أخرى:"وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أن أقرأ القرآن".
وعِيَاض بن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح، وموسى بن يسار، ونافع مولى ابن عمر، ونافع بن جبير بن مُطْعِم، ونعيم الْمُجمِر، وغيرهم.
وروى عنه السفيانان، وإسماعيل بن جعفر، وأبو داود الطيالسيّ، وابن مهديّ، وابن المبارك، وابن وهب، وعبد الرزاق، وابن أبي فُديك، ويحيى القطان، ووكيع، والوليد بن مسلم، والدّرَاورديّ، والعَقَديّ، وأبو نعيم، والقعنبيّ.
قال البخاريّ، عن عليّ ابن المدينيّ: له نحو ثلاثين حديثًا، وقال الشافعيّ: ثقةٌ حافظٌ، وقال أبو طالب، عن أحمد: ثقةٌ، وهو أكبر من هشام بن سعد، وقال ابن معين: كان صالح الحديث، وهو أحبّ إلي من هشام، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: وهو أحب إلينا من هشام بن سعد، كان القعنبيّ يُثْنِي عليه، وقال ابن سعد، عن القعنبيّ: ما رأيت بالمدينة رجلين كانا أفضل من داود بن قيس، ومن الحجاج بن صفوان، وقال ابن سعد: مات بالمدينة، وكان ثقةً، وله أحاديث صالحةٌ، وقال عليّ ابن المدينيّ: داود بن قيس الفَرّاء ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية أبي جعفر، وقال الساجيّ: ثقةٌ.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم (480) و (571) و (889) و (985) و (1524) و (1663) و (1935) و (2564) و (2578).
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (نَهَانِي حِبِّي صلى الله عليه وسلم) بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة: بمعنى محبوبي، قال الفيّوميّ رحمه الله: أحببتُ الشيءَ بالألف، فهو مُحَبٌّ، واستحببته مثله، ويكون الاستحباب بمعنى الاستحسان، وحَبَبْتُهُ أَحِبُّهُ، من باب ضرب، والقياس أَحُبُّهُ بالضم، لكنه غير مُستعمل، وحَبِبْتُهُ أَحَبُّهُ، من باب تَعِبَ لغةٌ، وفيه لغة لهذيل: حاببته حِبَابًا، من باب قاتل، والْحُبُّ اسم منه، فهو محبوبٌ وحَبِيبٌ، وحِبٌّ، بالكسر، والأنثى حَبِيبةٌ، وجمعها: حَبَائِب، وجمع المذكر أَحِبّاءُ، وكان القياس أن يُجْمَع جمع شُرَفَاءَ، ولكن استُكْرِهَ لاجتماع المثلين، قالوا: كلُّ ما كان على فَعِيل من الصفات، فإن كان غير مضاعَفٍ، فبابه فُعَلاءُ،
مثل شَرِيف وشُرَفاء، وإن كان مضاعَفًا، فبابه أَفْعِلاءُ، مثلُ حَبِيبٍ، وطَبِيبٍ، وخَلِيل. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1085]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ (ح) وَحَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ:(ح)
(3)
وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا
(4)
الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، إِلَّا الضَّحَّاكَ، وَابْنَ عَجْلَانَ، فَإِنَّهُمَا زَادَا
(5)
: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ، قَالُوا: نَهَانِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَا رَاكِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي رِوَايَتِهِمُ النَّهْيَ عَنْهَا فِي السُّجُودِ، كَمَا ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ وَزيدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَدَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة وعشرون:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِك) بن أنس، الإمام العلم المشهور، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
3 -
(نَافِع) مولى ابن عمر المدنيّ، أبو عبد اللَّه، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 117.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة بتأخير "قال" عن التحويل في المواضع كلها.
(4)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(5)
وفي نسخة: "فإنهما ذَكَرَا".
4 -
(عِيسَى بنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ) أبو موسى التجيبيّ، الملقّب زُغْبة، ثقة [10](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
5 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
7 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الحمّال البزاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
8 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
9 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
10 -
(الْمُقَدَّمِيُّ) -بتشديد الدال المفتوحة- هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الْمُقَدَّميّ، أبو عبد اللَّه الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقة [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
11 -
(يَحْيَى القَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير، من كبار [9](ت 298)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
12 -
(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: حمد بن عجلان، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
13 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) -بفتح الهمزة- السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
14 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7].
رَوَى عن الزهريّ، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رَبَاح، ومحمد بن المنكدر، وصالح بن كيسان، وعبد اللَّه بن رافع مولى أم سلمة، وعمرو بن شعيب، وجماعة.
وروى عنه يحيى القطان، وابن المبارك، والثوريّ، وابن وهب، والأوزاعيّ، والدّراورديّ، ووكيع، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال أحمد: تركه القطان بآخرةٍ، وقال الأثرم، عن أحمد: ليس بشيء، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: رَوَى عن نافع أحاديث مناكير، فقلت له: أراه حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه، فستعرف فيه النُّكْرة، وقال ابن معين في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة: كان يحيى بن سعيد يُضَعِّفه، وقال أبو يعلى الموصليّ عنه: ثقةٌ صالحٌ، وقال عثمان الدارميّ عنه: ليس به بأسٌ، وقال الدُّوريّ وغيره عنه: ثقةٌ، زاد غيره: حجةٌ، وقال أبو حاتم: يُكْتَب حديثه، ولا يُحْتَجّ به، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال أبو أحمد بن عديّ: يروي عنه الثوريّ وجماعة من الثقات، وبروي عنه ابن وهب نسخةً صالحةً، وهو كما قال ابن معين: ليس بحديثه بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم، وقال الْبَرْقيّ، عن ابن معين: أنكروا عليه أحاديث، وقال ابن نُمير: مدنيّ مشهورٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: صالحٌ إلا أن يحيى، يعني ابن سعيد أمسك عنه بآخرةٍ، وذكره ابن المدينيّ في الطبقة الخامسة من أصحاب نافع، وقال الدارقطنيّ: لَمّا سمع يحيى القطان أنه حدَّث عن عطاء، عن جابر، رفعه:"أيامُ منًى كلُّها مَنْحَر"، قال: اشهدوا أني قد تركت حديثه، قال الدارقطنيّ: فمن أجل هذا تركه البخاريّ، وقال الحاكم في "المدخل": رَوَى له مسلم، واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مُسْتَشْهَدٌ بها، أو هو مقرون في الإسناد، وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ، وهو مستقيم الأمر، صحيح الكتاب، وأسامة بن زيد بن أسلم مدنيّ وَاهٍ، وكانا في زمن واحد، إلا أن الليثيّ أقدم.
وقال ابن القطان الفاسيّ: لم يحتجّ به مسلم، إنما أخرج له استشهادًا، قال: وقال عمرو بن عليّ الفلاس: حدثنا عنه يحيى بن سعيد، ثم تركه، قال: يقول: سمعت سعيد بن المسيِّب، قال ابن القطان: هذا أمر منكَرٌ؛ لأنه بذلك يساوي نسخة الزهريّ. انتهى كلام ابن القطان.
قال الحافظ: ولم يرد يحيى بذلك ما فَهِمَه عنه، بل أراد ذلك في حديث مخصوص، يتبيّن من سياقه، اتَّفَقَ أصحاب الزهريّ على روايته عنه، عن
سعيد بن المسيِّب بالعنعنة، وشذَّ أسامة، فقال: عن الزهريّ، سمعت سعيد بن المسيِّب، فأَنْكَر عليه القطان هذا لا غير. انتهى
(1)
.
مات سنة (153) وكان له يوم مات بضع وسبعون سنةً.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.
15 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قريبًا.
16 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
17 -
(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو الحسن الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6].
رَوَى عن أبيه، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعَبيدة بن سفيان، وسعيد بن الحارث، وإبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، ودينار أبي عبد اللَّه القراظ، وغيرهم.
ورَوَى عنه موسى بن عقبة، ومات قبله، وابن عمه عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص، وشعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وأبو معشر المدني، ويزيد بن زريع، وغيرهم.
قال علي ابن المديني: سمعت يحيى بن سعيد، وسئل عن سهيل، ومحمد بن عمرو، فقال: محمد أعلى منه، قال علي: قلت ليحيى: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو، أو تَشَدَّد؟ قال: لا، بل أُشَدّد، قال: ليس هو ممن تريد، وكان يقول: حدثنا أشياخنا: أبو سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال يحيى: وسألت مالكًا عنه، فقال فيه نحو ما قلت لك، قال علي: وسمعت يحيى يقول: محمد بن عمرو أحب إلي من ابن أبي حرملة. وقال إسحاق بن حكيم عن يحيى القطان: محمد بن عمرو رجل صالح، ليس باحفظ الناس للحديث. وقال إسحاق بن منصور: سئل يحيى بن معين عن محمد بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، أيهما يُقَدَّم؟ فقال: محمد بن عمرو. وقال ابن خيثمة: سئل ابن معين عن محمد بن عمرو، فقال: ما زال
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 108 - 109.
الناس يتّقون حديثه، قيل له: وما عِلّة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث، ويُشتَهَى حديثه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه، وهو شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة. وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. وقال عبد اللَّه بن أحمد عن ابن معين: سهيل، والعلاء، وابن عَقِيل حديثهم ليس بحجة، ومحمد بن عمرو فوقهم. وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو. وقال الحاكم: قال ابن المبارك: لم يكن به بأس. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يُسْتَضعف. وقال ابن معين: ابن عجلان أوثق من محمد بن عمرو، ومحمد بن عمرو أحب إلي من محمد بن إسحاق. حكاه العقيلي. وقال ابن عدي: له حديث صالح، وقد حدّث عنه جماعة من الثقات، كل واحد يتفرد عنه بنسخة، وُيغْرِب بعضهم على بعض. وروى عنه مالك في "الموطأ"، وأرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ. قال الواقدي: توفي سنة أربع وأربعين ومائة. وقال عمرو بن علي: مات سنة خمس وأربعين.
روى له البخاري مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (480)، و (679) و (731) و (1386) و (1480) و (1977) و (2261).
18 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السّرِيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
19 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
20 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يَسَار بن خِيَار، ويقال: كومان، أبو بكر المدنيّ، ويقال: أبو عبد اللَّه المطلبيّ مولاهم، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ يُدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5].
رأى أنسًا، وابن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، ورَوَى عن أبيه، وعمّيه عبد الرحمن، وموسى، والأعرج، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، وغيرهم.
ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي حبيب، وهما من شيوخه، وجرير بن حازم، وعبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند، وابن عون، وإبراهيم بن سعيد، والحمادان، وشعبة، والسفيانان، وغيرهم.
قال سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق: رأيت أنس بن مالك عليه عمامة سوداء. وقال المفضل الغلابي: سألت ابن معين عنه، فقال: كان ثقة، وكان حسن الحديث، فقلت: إنهم يزعمون أنه رأى ابن المسيب، فقال: إنه لقديم، وقال الدُّوري عن ابن معين: قد سمع محمد بن إسحاق من أبان بن عثمان، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعطاء، وقال علي ابن المديني: مدار حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ستة فذكرهم، ثم قال: فصار عِلمُ الستة عند اثني عشر، فذكر ابن إسحاق فيهم. وقال ابن عيينة: رأيت الزهري قال لمحمد بن إسحاق: أين كنت؟ فقال: هل يَصِلُ إليك أحد؟ قال: فدعا حاجبه، وقال: لا تحجبه إذا جاء. وقال ابن المديني: سمعت سفيان قال: قال ابن شهاب -وسئل عن مفاريده-: فقال: هذا أعلم الناس بها. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما بقي ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن هارون بن معروف: سمعت أبا معاوية يقول: كان ابن إسحاق من أحفظ الناس، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء، فاستودعها ابن إسحاق. وقال النُّفَيليّ عن عبد اللَّه بن فائد: كنا إذا جلسنا إلى ابن إسحاق، فأخذ في فنّ من العلم قَضَى مجلسه في ذلك الفنّ. وقال الميموني: ثنا أبو عبد اللَّه بحديث استحسنته عن ابن إسحاق، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه ما أحسن هذه القصص التي يجيء بها ابن إسحاق، فتبسم إليّ متعجبًا. وقال صالح بن أحمد عن عليّ ابن المدينيّ، عن ابن عيينة قال: جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة، وما يتَّهِمه أحد من أهل المدينة، ولا يقول فيه شيئًا، قلت لسفيان: كان ابن إسحاق جالس فاطمة بنت المنذر، فقال أخبرني: ابن إسحاق أنها حدثته، وأنه دخل عليها. وقال عبد اللَّه بن أحمد: ثنا أبو بكر بن خلاد الباهليّ، سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت هشام بن عروة يقول: يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، واللَّه إن رآها قطّ، قال عبد اللَّه: فحدَّثْنَا أبي بذلك، فقال: ولِمَ يُنكِرُ
هشام؟ لعله جاء فاستأذن عليها، فأذنت له أحسبه قال: ولم يعلم.
وذكر في "الميزان" عن أبي قلابة الرقاشيّ، حدّثني أبو داود سليمان بن داود، قال: قال يحيى القطّان: أشهد أن محمد بن إسحاق كذّاب، قلت: وما يُدريك؟ قال: قال لي وُهيب، فقلت لوهيب: وما يُدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس، فقلت لمالك: وما يُدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة، قال: قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حدّث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدخِلَت عليّ وهي بنت تسع، وما رآها رجلٌ حتى لقيت اللَّه تعالى.
قال الحافظ الذهبيّ: قد أجبنا عن هذا، والرجل فما قال: إنه رآها، أفبمثل هذا يُعتَمد على تكذيب رجل من أهل العلم؟ هذا مردود، ثم قد روى عنها محمد بن سُوقة، ولها رواية عن أم سلمة، وجدّتها أسماء، ثم ما قيل من أنها أُدخلت عليه وهي بنت تسع غلطٌ بَيِّنٌ، ما أدري ممن وقع من رواة الحكاية، فإنها أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، ولعلها ما زُفّت إليه إلا وقد قاربت بضعًا وعشرين سنة، وأخذ عنها ابن إسحاق، وهي بنت بضع وخمسين سنة، أو أكثر. انتهى
(1)
.
وقال في "سير أعلام النبلاء" بعد ذكره الحكاية ما نصّه: قلت: معاذ اللَّه أن يكون يحيى وهؤلاء بَدَا منهم هذا بناءً على أصل فاسد واهٍ، ولكنّ هذه الخرافة من صَنْعَة سليمان، وهو الشاذكونيّ -لا صبّحه اللَّه بخير- فإنه مع تقدّمه في الحفظ متّهمٌ بالكذب، وانظر كيف قد سلسل الحكاية، ويُبيّن لك بطلانها أن فاطمة بنت المنذر لما كانت بنت تسع سنين لم يكن زوجها هشام خُلِق بعدُ، فهي أكبر منه ببضع عشرة سنة، وأسند منه، فإنها روت كما ذكرنا عن أسماء بنت أبي بكر، وصحّ أن ابن إسحاق سمع منها، وما عَرَف بذلك هشام، أفبمثل هذا القول الواهي يُكذّب الصادق؟ كلّا واللَّه، نعوذ باللَّه من الهوى والمكابرة، ولكن صَدَق القاضي أبو يوسف إذ يقول: من تتبّع غريب الحديث كُذِّب، وهذا من أكبر ذنوب ابن إسحاق، فإنه كان يكتب عن كلّ أحد، ولا يتورّع سامحه اللَّه. انتهى كلام الذهبيّ
(2)
.
(1)
"ميزان الاعتدال" 3/ 471.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 7/ 49 - 50.
وقال الأثرم عن أحمد: هو حسن الحديث. وقال مالك: دجال من الدجاجلة. وقال البخاري: رأيت علي بن عبد اللَّه يحتج بحديث بن إسحاق، قال: وقال علي: ما رأيت أحدًا يَتَّهِم ابن إسحاق، قال: وقال لي إبراهيم بن المنذر: ثنا عمر بن عثمان أن الزهري كان يتلقف المغازي من ابن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر بن قتادة، والذي يُذكَر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يَتَبَيَّنُ، وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك، أخرج إليّ كتب ابن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخبت منها كثيرًا، قال: وقال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه، قال: ولو صحّ عن مالك تناوله من ابن إسحاق، فلربما تكلم الإنسان، فيرمي صاحبه بشيء، ولا يتَّهمه في الأمور كلها، قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فُليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في "الموطأ"، وهما ممن يحتج بهما، قال: ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تَسقُط عدالتهم إلا ببرهان وحجة، قال: وقال عبيد بن يعيش: ثنا يونس بن بكير، سمعت شعبة يقول: ابن إسحاق أمير المؤمنين لحفظه، قال: وقال لي علي بن عبد اللَّه: نظرت في كتب ابن إسحاق، فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين، قال: وقال لي بعض أهل المدينة: إن الذي يُذكَر عن هشام بن عروة قال: كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي، لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه، فإن أهل المدينة يَرَون الكتاب جائزًا، وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب. إلى هنا عن البخاري.
وقال البخاري أيضًا: محمد بن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها. وقال إبراهيم الحربي: حدثني مصعب قال: كانوا يطعنون عليه بشيء من غير جنس الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي: وابن إسحاق رجلٌ قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقًا
وخيرًا مع مِدْحَة ابن شهاب له، وقد ذاكرت دُحيمًا قولَ مالك فيه، فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنما هو لأنه اتّهمه بالقدر. وقال الزبيري عن الدراوردي: وجُلِد ابن إسحاق -يعني في القدر-. وقال الجوزجاني: الناس يشتهون حديثه، وكان يُرمَى بغير نوع من البدع. وقال موسى بن هارون: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن نمير يقول: كان محمد بن إسحاق يُرمَى بالقدر، وكان أبعد الناس منه. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن نمير يقول: إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين، فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أُتِي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة. قال يعقوب: وسألت ابن المديني: كيف حديث ابن إسحاق عندك؟ فقال: صحيح، قلت له: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه، ثم قال عليّ: أَيَّ شيء حدث بالمدينة، قلت له: وهشام ابن عروة قد تكلم فيه، قال عليّ: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها، قال: وسمعت عليًّا يقول: إن حديث ابن إسحاق لَيَتَبَيَّنُ فيه الصدق، يروي مرة حدثني أبو الزناد، ومرة ذكر أبو الزناد، وهو من أروى الناس عن سالم أبي النضر، ورَوَى عن رجل عنه، وهو من أروى الناس عن عمرو بن شعيب، وروى عن رجل عن أيوب عنه. وقال يعقوب بن سفيان: قال علي: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نَعَس أحدكم يوم الجمعة"، والزهري عن عروة عن زيد بن خالد:"إذا مسّ أحدكم فرجه"، والباقي يعني المناكير في حديثه يقول: ذَكَرَ فلان، ولكن هذا فيه حَدَّثَنَا، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت عليًّا عنه، فقال: صالح وسط. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال ابن يونس: قَدِم الإسكندرية سنة (199) ورَوَى عن جماعة من أهل مصر أحاديث لم يروها عنهم غيره فيما علمت. وقال ابن عيينة: سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث، وفي رواية عن شعبة: فقيل له: لِمَ؟ قال: لحفظه. وفي رواية عنه: لو سُوِّد أحدٌ في الحديث لسُوِّد محمد بن إسحاق. وقال ابن سعد: كان ثقة، ومن الناس من يتكلم فيه، وكان خرج من المدينة قديمًا، فأتى الكوفة، والجزيرة، والريّ، وبغداد، فأقام بها حتى مات بها سنة (151)، وقال في موضع آخر: ورواته من أهل البلدان أكثر
من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم غير إبراهيم بن سعد. وقال ابن عدي: ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد رَوَى عنه أئمة الناس، ولو لم يكن له من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكُتُب لا يحصل منها شيء إلى الاشتغال بمغازي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومبعثه، ومبدأ الخلق لكانت هذه فضيلةً سَبَق إليها، وقد صنفها بعده قوم، فلم يبلغوا مبلغه، وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد فيها ما يتهيأُ أن يُقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يَهِمُ في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره، وهو لا بأس به. وذكره النسائي في الطبقة الخامسة من أصحاب الزهري. وقال ابن المديني: ثقة لم يَضَعْه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب.
قال الحافظ: وكذبه سليمان التيمي، ويحيى القطان، ووهيب بن خالد، فأما وهيب والقطان فقلَّدا فيه هشام بن عروة ومالكًا، وأما سليمان التيمي فلم يتبيّن لي لأيّ شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غير الحديث؛ لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل. قال ابن حبان في "الثقات": تكلّم فيه رجلان: هشام ومالك، فأما قول هشام فليس مما يجرح به الإنسان، وذلك أن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة، والستر بينهما مُسْبَل، وأما مالك فإن ذلك كان منه مرة واحدة، ثم عاد لَهُ إلى ما يُحبّ، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا، وحفظوا قصة خيبر وغيرها، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا منهم من غير أن يحتجّ بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن. ولما سئل ابن المبارك قال: إنا وجدناه صدوقًا ثلاث مرات. قال ابن حبان: ولم يكُن أحدٌ بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، ولا يوازيه في جمعه، وهو من أحسن الناس سياقًا للأخبار إلى أن قال: وكان يكتب عمن فوقه ومثله ودونه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه، سمعت محمد بن نصر الفراء يقول: سمعت يحيى بن يحيى، وذُكِرَ عنده محمد بن إسحاق فوثقه. وقال الدارقطني: اختَلَف الأئمة فيه، وليس بحجة إنما يُعتَبر به. وقال أبو يعلى الخليلي: محمد بن إسحاق عالم كبير، وإنما لم يخرج له البخاري من أجل روايته المطوّلات، وقد
استَشْهَد به، وأكثر عنه فيما يَحكِي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحواله وفي التواريخ، وهو عالم واسع الرواية والعلم ثقة. وقال ابن الْبَرْقِيّ: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه وروايته، وفي حديثه عن نافع بعض الشيء. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال الحاكم: قال محمد بن يحيى: هو حسن الحديث، عنده غرائب. ورَوَى عن الزهري، فأحسن الرواية. قال الحاكم: وذُكِر عن البوشنجي أنه قال: هو عندنا ثقة ثقة.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: القول الوسط في ابن إسحاق، هو ما قاله الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في "الميزان" -بعدما ساق أقوال المعدّلين والجارحين له-: فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوقٌ، وما انفرد به ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئًا، وقد احتجّ به أئمة، فاللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع: ويزاد على قوله: "حسن الحديث": "إن صرّح بالتحديث؛ لكونه مدلّسًا"، وإنما أطلت في ترجمته؛ لكثرة كلام الناس فيه، فأحببت أن أستقصي ما قاله علماء الجرح والتعديل، فإنهم القدوة في هذا الباب، ولا عبرة بغيرهم، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.
قال عمرو بن علي: مات سنة خمسين. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة إحدى. وقال ابن معين وابن المديني: مات سنة اثنتين. وقال خليفة بن خياط: مات سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة.
عَلَّق له البخاريّ، وأخرج له المصنّف في المتابعات، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط
(2)
، هذا برقم (480) و (830) و (873) و (1173) و (1199) و (1656) و (1703).
(1)
"ميزان الاعتدال" 3/ 475.
(2)
هكذا في برنامج الحديث "صخر"، وذكر الذهبيّ في "الميزان" أنها خمسة أحاديث، والذي في البرنامج أقرب إلى الصواب؛ لأنه مسلسلٌ بأرقام تلك الأحاديث، فتفطّن.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ) إشارة إلى السبعة، وهم: نافع، ويزيد بن أبي حبيب، والضحّاك بن عثمان، وابن عجلان، وأسامة بن زيد، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، هؤلاء السبعة رووه عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه، إلا الضحّاك بن عثمان، ومحمد بن عجلان، فزادا بين عبد اللَّه بن حُنين، وعليّ رضي الله عنه ابنَ عبّاس رضي الله عنهما.
وقوله: (كُلُّهُمْ، قَالُوا: نَهَانِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَا رَاكِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي رِوَايَتِهِمُ النَّهْيَ عَنْهَا فِي السُّجُودِ) يعني أن هولاء السبعة اقتصروا في الحديث على قوله: "نهاني عن قرءاة القرآن، وأنا راكع"، ولم يذكروا النهي عن القراءة في السجود، الزهريّ، وزيد بن أسلم، والوليد بن كثير، وداود بن قيس في رواياتهم التي سبقت قبل رواية هؤلاء السبعة.
والحاصل ما أشار إليه المصنّف رحمه الله في هذا الكلام أن خمسةً ممن ذُكروا في السند، وهم: نافع، ويزيد بن أبي حبيب، وأسامة بن زيد، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، رووه عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه، دون واسطة ابن عبّاس رضي الله عنهما.
وأن اثنين منهم، وهما: الضحّاك بن عثمان، وابن عجلان روياه، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن ابن عبّاس، عن عليّ رضي الله عنهم، فأدخلا الواسطة.
ثم إن سبعتهم رووا الحديث بذكر النهي عن القراءة في الركوع فقط، ولم يذكروا النهي عنها في السجود، وإنما ذكره الأربعة المتقدِّمون، وهم الزهريّ، وزيد بن أسلم، والوليد بن كثير، وداود بن قيس، فإنهم ساقوه بذكر النهي عن القراءة في الركوع والسجود، وقد سبق بيان رواياتهم قبل هذا الحديث، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: ذكر المصنّف رحمه الله هنا الاختلاف على إبراهيم بن حنين في ذكر ابن عبّاس رضي الله عنهما بين عليّ رضي الله عنه، وعبد اللَّه بن حنين، وإسقاطه، فأسقطه الأكثرون، وأثبته اثنان: الضحّاك، وابن عجلان، وقال الدارقطنيّ: من أسقط أكثر وأحفظ، قال النوويّ: هذا الاختلاف لا يؤثّر في صحّة الحديث، فقد
يكون عبد اللَّه بن حنين سمعه من ابن عبّاس، عن عليّ، ثم سمعه من عليّ نفسه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحديث وإن كان صحيحًا في نفسه، إلا أن ترجيح الأكثرين والأحفظين من المختلفين في إسناده، وهم الذين أسقطوا ذكر ابن عبّاس رضي الله عنهما هو الذي يظهر، كما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله، وقد حقّق رحمه الله هذا البحث في "علله"، وفصّله تفصيلًا مستوعبًا، أحببت إيراده هنا؛ تكميلًا للفائدة، ونشرًا للعائدة، ودونك نصّ "العلل":
وسئل عن حديث ابن عباس، عن عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه نهاه عن القراءة في الركوع والسجود، وعن خاتم الذهب، ولبس المعصفر".
فقال: هو حديث يرويه ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن ابن عباس، عن عليّ.
ورواه أيضًا إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، واختلف عنه، فرواه محمد بن عجلان، وداود بن قيس، والضحاك بن عثمان، وعبد الحكيم بن عبد اللَّه بن أبي فَرْوة، فاتفق هؤلاء الأربعة عن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ بن أبي طالب.
واختُلِف عن داود بن قيس من بينهم، فقال القعنبيّ: عنه، عن إبراهيم، عن ابن عباس، عن عليّ، ولم يذكر أباه، وقال يحيى القطان، ووكيع، وابن وهب: عن داود بن قيس، عن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي.
وخالفهم جماعة أكثر منهم عددًا، فرووه عن إبراهيم بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن عليّ، ولم يذكروا فيه ابن عباس، على الاختلاف منهم على إبراهيم، رواه الزهريّ، عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ، وتابعه الوليد بن كثير، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وإسحاق بن أبي بكر، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن أبي حبيب، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، وزيد بن أسلم، فرووه عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، أنه سمعه من عليّ، ولم يذكروا فيه ابن عباس، وزاد الوليد بن كثير، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن أبي حبيب فيه حديثًا آخر بهذا الإسناد، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَسَى عليًّا حُلّة سِيَرَاء.
ورواه زيد بن أسلم، واختُلِف عنه، فرواه إسماعيل بن عياش، ومحمد بن
جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ، وخالفه عمر بن عبد الرحمن شيخ لأبي أحمد الزبيريّ، فرواه عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عليّ، والقول قول ابن عياش.
واختُلِف عن شريك بن أبي نَمِر، فرواه الدّراورديّ، عن شريك، عن إبراهيم بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن عليّ.
وخالفه إسماعيل بن جعفر، فرواه عن شريك، عن عبد اللَّه بن حُنين، عن عليّ.
واختُلِف عن أسامة بن زيد، فرواه ابن وهب، عن أسامة، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ، وذكر فيه أن أسامة دَخَل على عبد اللَّه بن حنين، فسمعه.
ورواه وكيع، وعثمان بن عمر، ومحبوب بن محرز، عن أسامة، عن عبداللَّه بن حنين، عن عليّ.
ورواه نافع مولى ابن عمر، عن إبراهيم، واختُلف عن نافع، فرواه مالك بن أنس، عن نافع، وضَبَط إسناده، فقال: عن نافع، عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ.
ورواه الليث بن سعد، عن نافع، عن إبراهيم، عن بعض موالي آل عباس، عن عليّ.
ورواه أيوب السخيتانيّ، عن نافع، واختُلف عنه، فقال وُهيب، والحارث بن نَبْهان: عن أيوب، عن نافع، عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ، وقال حماد بن زيد: عن أيوب، عن نافع، عن إبراهيم بن حنين، عن عليّ، وكذلك قاله الحسن بن أبي جعفر، عن أيوب، وقال ابن عُلَيّة: عن أيوب، عن نافع، عن إبراهيم بن فلان بن حنين، عن جدّه حنين، عن عليّ، وقال عبد الوارث: عن أيوب، عن نافع، عن عليّ.
ورواه عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، واختُلِف عنه، فقال بشر بن المفضَّل، والمعتمر بن سليمان، وعبد الوهاب الثقفيّ، وابن نمير: عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن حنين، عن عليّ.
وقال زائدة، وإسماعيل بن عياش، وعبدة بن سليمان: عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن إبراهيم، عن عليّ.
وقال حماد بن سلمة: عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن حنين، عن عليّ.
ورواه عمرو بن سعد، عن نافع، عن ابن حنين، عن عليّ، ورواه بُرد بن سِنان، عن نافع، عن إبراهيم، عن عليّ، وكذلك قال زيد بن واقد: عن نافع.
ورُوي عن الثوري، عن عبد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن حنين، عن عليّ.
وقال همام: عن نافع، عن رجل لم يسمه، عن عليّ.
ورواه عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن عليّ، قاله شريك، عنه.
ورواه أبو بكر بن حفص، عن عبد اللَّه بن حنين، واختُلِف عنه، فرواه شعبة، فقال غندر، والنضر بن شُميل، وغيرهما: عن شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد اللَّه بن حنين، عن ابن عباس، ولم يذكروا فيه عليًّا.
وخالفهم أبو قَطَن، فرواه عن شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد اللَّه بن حنين، عن عليّ، ولم يذكر ابن عباس.
ورواه يحيى بن أبي كثير، ومحمد بن المنكدر، عن عبد اللَّه بن حنين، عن عليّ.
ورواه سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نَمِر، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا آخر، هو أنه كان يتختم بيمينه، تفرد به سليمان بن بلال عنه، بهذا الإسناد.
وخالفه إبراهيم بن أبي يحيى، فرواه عن شريك بن أبي نمر، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه".
ورواه إسحاق بن أبي فَرْوَة، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا آخر، وهو قوله:"إذا كان الإزار واسعًا، فاتَّشِح به، وإذا كان ضَيِّقًا، فاتَّزِر به"، وإسحاق بن أبي فروة متروك الحديث.
وروى إسحاق بن أبي فروة أيضًا، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ:"أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قَتَل عبده، فجُلِد مائةً، ونفاه سنةً"، ولم يتابع عليه.
حدّثنا أبو عبيد، القاسم بن إسماعيل المحامليّ، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، ثنا إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي.
وحدّثنا علي بن عبد اللَّه بن مبشر، قال: ثنا أحمد بن سنان، وثنا أحمد بن الوكيل، ثنا عمر بن شَبّة، وحدثنا إبراهيم بن حماد، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا عمر بن شبة، قالوا: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ، قال:"نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن القراءة راكعًا، وعن الْقَسِيّ، والمعصفر"، وقال ابن شبة:"نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ألبس خاتم الذهب، وأن أقرأ وأنا راكع"، ولم يذكر القَسِيّ والمعصفر.
وقال الدَّوْرقيّ مثل ابن سِنان، إلا أنه قال:"وأن أقرأ وأنا راكع".
حدثنا محمد بن جعفر بن رميس، ومحمد بن مخلد، قالا: حدثنا إبراهيم بن راشد، حدّثنا مُعَلَّى بن أسد، أخو بَهْز بن أسد، ثنا وهيب، عن أيوب، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ:"نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر، وخاتم الذهب"، زاد ابن رميس:"وعن لباس القَسِيّ، وأن أقرأ وأنا راكع".
حدثنا حمزة بن الحسين بن عمر السمسار، قال: ثنا عبيد اللَّه بن محمد بن مالك، قال: ثنا كثير بن يحيى، قال: ثنا الحارث بن نَبْهان، قال: ثنا أيوب السختيانيّ، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ مثل قول ابن رميس.
حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسيّ، قال: ثنا أبو زيد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن حباب المؤذن بصنعاء، قال: ثنا إسحاق بن يوسف الحذافي، ثنا عبد الملك بن الصباح، ثنا سفيان، عن عبد اللَّه، عن نافع، عن ابن حنين، عن عليّ قال: "نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أقرأ، وأنا راكع، وأن أتختم بالذهب، وأن
ألبس المعصفر". انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(1)
، وإنما سقته بطوله تكميلًا لما أشار إليه المصنّف رحمه الله من الاختلاف الواقع فيه سندًا ومتنًا، فقد فصّل الدارقطنيّ رحمه الله ما أجمله، وأوضح ما أبهمه أتمّ إيضاح، رحم اللَّه تعالى الجميع رحمة واسعة، إنه أرحم الراحمين.
[تنبيه آخر]: أما رواية نافع التي أشار إليها المصنف هنا فساقها هو في "كتاب اللباس والزينة"، فقال:
(2078)
حدّثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالب، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لُبْس الْقَسِيّ، والْمُعَصْفَر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع. انتهى
(2)
.
وأما رواية يزيد بن أبي حبيب، فأخرجها النسائيّ رحمه الله في "سننه" بسند المصنّف، فقال:
(1043)
أخبرنا عيسى بن حماد زُغْبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين حدّثه، أن أباه حدّثه، أنه سمع عليًّا يقول:"نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن لَبُوس القسيّ، والْمُعَصْفَر، وقراءة القرآن، وأنا راكع". انتهى.
وأما رواية الضحّاك بن عثمان، فأخرجها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 95) فقال:
(1066)
حدّثنا إبراهيم بن عبد اللَّه، ثنا محمد بن سليمان بن فارس، ثنا محمد بن رافع، ثنا ابن أبي فُديك، أنبا الضحاك بن عثمان (ح)، وحدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا إبراهيم بن محمد بن عليّ الرازيّ، ثنا سليمان بن داود الفزاريّ، ثنا ابن أبي فُديك، عن الضحاك بن عثمان، حدّثني إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ بن أبي
(1)
"العلل" للدارقطنيّ 3/ 78 - 88.
(2)
راجع: "صحيح مسلم" 3/ 1648.
طالب، أنه قال:"نَهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أقول: نهاكم عن التختم بالذهب، وعن لبس القَسِيّ، ولبس الْمُفَدَّم"
(1)
. انتهى.
وأما رواية ابن عجلان، فأخرجها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(5267)
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى، عن ابن عجلان، قال: أخبرني إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ، قال:"نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وأن أقرأ القرآن، وأنا راكع، وعن القسيّ، وعن المعصفر". انتهى.
وأخرجها أيضًا أبو نعيم رحمه الله، في "مستخرجه" (2/ 96) فقال:
(1067)
حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد اللَّه بن أحمد، حدثني أبي (ح) وحدّثنا حبيب، ثنا يوسف، ثنا ابن أبي بكر، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدّثني إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ، قال:"نَهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أقرأ، وأنا راكع". انتهى.
وأما رواية أسامة بن زيد، فأخرجها أيضًا أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 96) فقال:
(1068)
حدّثنا محمد بن إبراهيم بن عليّ، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني أسامة، أن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين حدّثه، عن أبيه، عن عليّ، أنه سمعه يقول:"نَهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن، وأنا راكع". انتهى.
وأما رواية محمد بن عمرو، فأخرجها أيضًا أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 96) فقال:
(1069)
حدّثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن بِشْر الْعَبْديّ، عن محمد بن عمر (ح) وحدّثنا إبراهيم بن
(1)
أي المشبع حمرة.
محمد العسال، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا أبو الربيع، ثنا إسماعيل بن جعفر، ثنا محمد بن عمرو بن علقمة (ح) وحدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن عليّ، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني محمد بن عمرو (ح) وحدّثنا إبراهيم بن عبد اللَّه، ثنا أبو بكر بن خزيمة، ثنا عليّ بن حُجْر، ثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، حدّثني إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه، سمعت عليّ بن أبي طالب، برَحْبَة الكوفة، وهو يقول للناس:"نَهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أقول: نهاكم، عن قراءة القرآن، وأنا راكع". انتهى.
وأما رواية محمد بن إسحاق، فأخرجها أبو نعيم رحمه الله أيضًا في "مستخرجه" (2/ 96) فقال:
(1070)
حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد اللَّه بن أحمد، حدّثني أبي، ثنا يعقوب، يعني ابن إبراهيم، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثني إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين (ح) وحدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن عليّ، ثنا عبيد اللَّه، ثنا يزيد بن زُريع، ثنا محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه: سمعت عليّ بن أبي طالب، يقول:"نَهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن، وأنا راكع". انتهى.
وقد أخرجها أيضًا الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، مطوّلة، فقال:
(672)
حدّثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثني إبراهيم بن عبد اللَّه بن حُنين، عن أبيه، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "نَهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا أقول: نهاكم، عن تختم الذهب، وعن لبس الْقَسِيّ، والْمُعَصْفَر، وقراءة القرآن، وأنا راكع، وكَسَاني حُلّة من سِيَرَاء، فخرجت فيها، فقال: يا عليّ إني لم أكسُكَها لتلبسها، قال: فرجحت بها إلى فاطمة رضي الله عنها، فأعطيتها ناحيتها، فأخذت بها لِتَطْوِيها معي، فَشَقَقتها بثنتين، قال: فقالت: تَرِبَت يداك يا ابن أبي طالب، ماذا صنعت؟ قال: فقلت لها: نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن لبسها، فالبسي، واكسي نساءك". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1086]
(. . .)(وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ، عَنْ حَاتِم بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فِي السُّجُودِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِم، صحيح الكتاب [8].
رَوَى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي عبيد، وهشام بن عروة، والجعيد بن عبد الرحمن، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن مهدي، وابنا أبي شيبة، وسعيد بن عمرو الأشعثيّ، وقتيبة، وإسحاق ابن راهويه، وإبراهيم بن موسى الرازيّ، وهناد بن السريّ، ويحيى بن معين، وأبو كريب، وجماعة.
قال أحمد: هو أحب إلي من الدَّرَاوَرْديّ، وزعموا أن حاتِمًا كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح. وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من سعيد بن سالم. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان أصله من الكوفة، ولكنه انتقل إلى المدينة فنزلها، ومات بها سنة (186)، وكان ثقةً مأمونًا كثير الحديث. وقال البخاري، عن أبي ثابت المديني: مات سنة (87)، وكذا قال ابن حبان، وزاد: ليلة الجمعة لتسع ليال مضين من جمادى الأولى، كذا قال في "الثقات"، وكذا عند البخاري أيضًا في "التاريخ الكبير"، وفي "الأوسط" أيضًا. وقال العجلي: ثقة. وكذا قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين. وقال ابن المديني: روى عن جعفر، عن أبيه، أحاديث مراسيل أسندها.
وذكر الذهبي في "الميزان" أن النسائي قال: ليس بالقوي. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لعل للنسائيّ فيه قولين، واللَّه تعالى أعلم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.
2 -
(جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّد) بن عليّ بن الحسين المعروف بالصادق، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ، فقيهٌ إمامٌ [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِر) بن عبد اللَّه بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية محمد بن المنكدر هذه أخرجها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 292) فقال:
(1833)
حدّثنا محمد بن كثير الحرّانيّ، قال: ثنا النُّفَيليّ، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن ابن حُنين، عن عليّ، قال:"نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أقول: نهاكم، عن تختم الذهب، وأن أقرأ، وأنا راكع". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1087]
(481) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ، وَأَنَا رَاكِعٌ، لَا يَذْكُرُ فِي الْإِسْنَادِ عَلِيًّا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ عَلِيّ) بن بَحْر بن كَنِيز الفلّاس الصيرفيّ الباهليّ، أبو حفص البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ) هو: عبد اللَّه بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الحيض" 9/ 734.
والباقيان تقدّما قبله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: رواية أبي بكر بن حفص، عن عبد اللَّه بن حنين، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه ضعيفة؛ لمخالفتها رواية الأكثرين، فقد خالفه إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين، ومحمد بن المنكدر، عند المصنّف في هذا الباب، ويحيى بن أبي كثير، عند النسائيّ في "سننه"
(1)
، فكلّهم رووه عن عبد اللَّه بن حنين، عن عليّ رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(43) - (بَابُ مَا يُقَالُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1088]
(482) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](231) عن (74) سنة (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيّوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حافظ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
5 -
(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) بن الحارث الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، لا بأس به [6](140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.
(1)
"المجتبى""كتاب الزينة"(8/ 191 - 192).
6 -
(سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْر) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ثقةٌ [6](ت 130)(ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.
7 -
(أَبُو صالِحٍ ذَكْوَانُ) السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات (59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سبُاعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عمارة، والباقون مصريّون، سوى شيخه هارون بن معروف، فمروزيّ، ثم بغداديّ.
3 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ) عز وجل، الأقرب أن "ما" مصدريّة، و"كان" تامّةٌ، والجارّ والمجرور متعلّقٌ بـ "أقرب"، وليست "من" تفضيليّةً، فلا يَرِد أن اسم التفضيل لا يُستعمَل إلا بأحد أمور ثلاثة، لا بأمرين، كالإضافة، و"من"، فكيف يُستعمل هنا بأمرين؟ فافهم.
وأمور الثلاثة هي كونه بـ "من"، أو بـ "أل"، أو بالإضافة، وإلى هذه الأحوال أشار ابن مالك في "الخلاصة"، فقال:
وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ صِلْهُ أَبَدَا
…
تَقْدِيرًا أَوْ لَفْظًا بِـ "مِنْ" إِنْ جُرِّدَا
وَإِنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا
…
أُلْزِمَ تَذْكِيرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا
وَتِلْوَ "أَلْ" طِبْقٌ وَمَا لِمَعْرِفَهْ
…
أُضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ عَنْ ذِي مَعْرِفَهْ
وخبر "أقرب" محذوف وجوبًا؛ لسدّ الحال بعده مسدّه، كما قال في "الخلاصة" عند ذكر مواضع حذف الخبر وجوبًا:
وَقَبْلَ حَالٍ لَا يَكُونُ خَبَرَا
…
عَنِ الَّذِي خَبَرُهُ قَدْ أُضْمِرَا
كَضَرْبِيَ الْعَبْدَ مُسِيئًا وَأَتَمْ
…
تَبْيِينِيَ الْحَقَّ مَنُوطًا بِالْحِكَمْ
والتقدير: حاصل له.
وقوله: (وَهُوَ سَاجِدٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من ضمير "حاصلٌ"، أو من ضمير "له".
والمعنى: أقرب أكوان العبد من ربّه تبارك وتعالى حاصل له حين كونه ساجدًا.
ولا يَرِدُ على الأول أن الحال لا بُدّ أن يرتبط بصاحبه، ولا ارتباط هنا؛ لأن ضمير "وهو ساجد" لـ "العبد"؛ لا لـ "أقرب"؛ لأنا نقول: يكفي في الارتباط وجود الواو من غير حاجة إلى الضمير، مثلُ "جاء زيد والشمس طالعةٌ"، أفاده السنديّ رحمه الله.
وقال ابن مالك رحمه الله: قوله: "وهو ساجد" جملةٌ حاليّة سدّت مسدّ خبر المبتدأ، ونظيره:"ضربي زيدًا قائمًا"، التزمت العرب حذف خبر المبتدأ، وتنكير قائمًا، وجَعَلت المبتدأ عاملًا في ضمير صاحب الحال، ويشهد بأنّ "كان" المقدّرة تامّةٌ، و"قائمًا" حال من فاعلها التزام العرب تنكير "قائمًا"، وإيقاع الجملة الاسميّة المقرونة بواو الحال مَوْقِعه في هذا الحديث، والمبتدأُ فيه مؤوَّلٌ يُفسِّرُ صاحبَ الحال، يعني بالمصدر المقدّر؛ لأن لفظ "ما يكون" مؤوَّلٌ بـ "الكون"، والتقدير: أقرب الكون كونُ العبد ساجدًا. انتهى
(1)
.
وقد ذكرت هذا البحث في "شرح النسائيّ" بأتمّ مما هنا، فراجعه تستفد
(2)
، وباللَّه تعالى التوفيق.
وإنما كان العبد أقرب إليه تعالى في حال سجوده من سائر أحوال الصلاة وغيرها؛ لأن العبد بقدر ما يَبْعُد عن حظوظ نفسه بمخالفتها يقرب من ربّه عز وجل، والسجودُ فيه غاية التواضع، وترك الكبر، وكسر النفس؛ لأنها لا تأمر صاحبها بالمذلّة، ولا ترضى بها، ولا بالتواضع، فإذا سجد فقد خالف نفسه، وبَعُد عنها، فإذا بعُد عنها قرُب من ربّه عز وجل.
وقيل: وجه أقربيّته من ربّه في السجود أن العبد داع لربّه فيه؛ لكونه مأمورًا به، واللَّه تعالى قريب من السائلين، كما قال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ
(1)
راجع: "عقود الزبرجد" للسيوطيّ 2/.
(2)
"ذخيرة العقبى" 14/ 7.
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186]، ولأن السجود غاية في الذلّ والانكسار، وتعفير الوجه، وهذه الحالة أحبّ أحوال العبد، كما رواه الطبرانيّ في "الكبير" بإسناد حسن، عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولأن السجود أول عبادة أَمَرَ اللَّهُ تعالى بها بعد خلق آدم عليه السلام، فالمتقرّب بها أقرب، ولأن فيه مخالفة إبليس في أول ذنب عَصَى اللَّه تعالى به، وللبحث تمام في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ") متعلِّقه محذوف، أي فيه، أي السجود.
قال في "الفتح": والأمر بإكثار الدعاء في السجود، يَشْمَل الحثَّ على تكثير الطلب لكل حاجة، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه:"ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعَ نعله"، أخرجه الترمذيّ
(2)
، ويَشْمَل التكرار للسؤال الواحد، والاستجابةُ تَشْمَل استجابة الداعي بإعطاء سؤله، واستجابة الْمُثْنِي بتعظيم ثوابه. انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1088](482)، و (أبو داود) في "الصلاة"(875)، و (النسائيّ) فيها (2/ 226)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 421)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1928)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(186 و 187)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1073)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 110)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(658)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"ذخيرة العقبى" 14/ 7 - 8.
(2)
أخرجه الترمذيّ بسند فيه ضعف، وحسّنه الشيخ الألباني في تخريح "المشكاة" رقم (2251).
(3)
"الفتح" 2/ 350.
1 -
(منها): بيان فضل السجود؛ لأنه أقرب أحوال العبد من اللَّه عز وجل.
2 -
(ومنها): الإشارة إلى أن أفضل أحوال العبد التواضع؛ إذ به القرب من اللَّه عز وجل.
3 -
(ومنها): الأمر بالإكثار من الدعاء في حال السجود؛ لكون العبد فيه أقرب من ربّه عز وجل، فيكون جديرًا بالإجابة، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [البقرة: 186]، وقد تقدّم حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم".
4 -
(ومنها): أن فيه حجةً لمن يقول: إن كثرة السجود أفضل من طول القيام، وسائر الأركان، وفيه خلاف، والراجح أن طول القيام أفضل؛ لقوّة حجته، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم، هل السجود أفضل من القيام، أم العكس؟:
قال النوويّ رحمه الله: في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
[أحدها]: أن تطويل السجود، وتكثير الركوع والسجود، أفضل، حكاه الترمذيّ، والبغويّ، عن جماعة، وممن قال بتفضيل تطويل السجود ابنُ عمر رضي الله عنهما.
[والمذهب الثاني]: مذهب الشافعيّ رحمه الله، وجماعة، أن تطويل القيام أفضل؛ لحديث جابر رضي الله عنه في "صحيح مسلم": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة طول القنوت"، والمراد بالقنوت القيام، ولأن ذكر القيام القراءةُ، وذكر السجود التسبيح، والقراءة أفضل، ولأن المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يُطَوِّل القيام أكثر من تطويل السجود.
[والمذهب الثالث]: أنهما سواء، وتوقّف أحمد بن حنبل رحمه الله في المسألة، ولم يَقْضِ فيها بشيء، وقال إسحاق ابن راهويه: أما في النهار، فتكثير الركوع والسجود أفضل، وأما في الليل فتطويل القيام، إلا أن يكون
للرجل جزء بالليل يأتي عليه، فتكثير الركوع والسجود أفضل؛ لأنه يقرأ جزأه، ويَرْبَح كثرة الركوع والسجود.
وقال الترمذيّ رحمه الله: إنما قال إسحاق هذا؛ لأنهم وَصَفُوا صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام، ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وُصِف بالليل، واللَّه أعلم. انتهى.
وقال العلامة الشوكانيّ في شرح حديث: "أفضل الصلاة طول القنوت" -أي القيام- ما نصُّهُ: والحديث يدلّ على أن القيام أفضل من السجود والركوع وغيرهما، وإلى ذلك ذهب جماعة، منهم: الشافعي كما تقدم، وهو الظاهر، ولا يعارض حديثُ الباب، وما في معناه الأحاديثَ المتقدمة في فضل السجود؛ لأن صيغة أفعل الدالّة على التفضيل، إنما وردت في فضل طول القيام، ولا يلزم من فضل الركوع والسجود أفضليتهما على طول القيام.
وأما حديث: "ما تقرَّب العبد إلى اللَّه بأفضل من سجود خَفِيّ"، فإنه لا يصحّ؛ لإرساله، كما قال الحافظ العراقيّ رحمه الله، ولأن في إسناده أبا بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، وكذلك أيضًا لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام؛ لأن ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: الظاهر أن أحاديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل التي لا تُشْرَع فيها الجماعة، وعلى صلاة المنفرد، فأما الإمام في الفرائض والنوافل، فهو مأمور بالتخفيف المشروع، إلا إذا عَلِمَ من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل، ولم يَحْدُث ما يقتضي التخفيف، من بكاء صبيّ ونحوه، فلا بأس بالتطويل، وعليه يُحْمَل صلاته صلى الله عليه وسلم في المغرب بـ "الأعراف"، كما تقدم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح قول من قال بأفضليّة القيام، كما هو مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله؛ لقوّة دليله، فقد صرّح صلى الله عليه وسلم بقوله:"أفضل الصلاة القنوت"، ولأن صلاته صلى الله عليه وسلم موصوفة بطول القيام، لا بكثرة السجود، فقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما أنه كان يصلّي إحدى عشرة ركعةً، وثلاث
(1)
"نيل الأوطار" 3/ 92 - 93.
عشرة ركعة، ويقرأ بـ "البقرة"، و"آل عمران"، و"النساء"، ويركع ويسجد قريبًا مما قام، ومن المعلوم أنه لا يختار إلا الأفضل، فاتّفق قوله وفعله في ذلك، فدلّ على أن القيام هو الأفضل، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1089]
(483) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، ويُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لى ذَنَبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن مَيْسَرة الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) عن (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) الغافقيّ -بغين معجمة، وفاء، وقاف- أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ، ربّما أخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 820.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، وعمارة علّق عنه البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي) أي اصفح عنّي، يقال: غفر اللَّه له غَفْرًا، من باب ضرب، وغُفْرانًا: صَفَحَ عنه، والمَغْفِرة اسم منه، واستغفرتُ اللَّه: سألته المغفرةَ، واغتفرت للجاني ما صنع، وأصلُ الْغَفْر السَّتْر، ومنه يقال: الصِّبْغُ أَغْفَرُ للوَسَخِ، أي أسترُ
(1)
. (ذَنْبِي) بفتح، فسكون، جمعه ذُنُوبٌ، وهو الإثم، وقوله:(كُلَّهُ) بالنصب توكيدًا لما قبله (دِقَّهُ وَجِلَّهُ) بكسر أولهما، وبضمّ الجيم أيضًا: أي قليله وكثيره، وقيل: صغيره وكبيره، وهو تفصيل لما قبله، قيل: إنما قدّم الدِّقّ على الجلّ؛ لأن السائل متصاعد في مسألته، ولأن الكبائر إنما تنشأ في الغالب من الإصرار على الصغائر، وعدم المبالاة بها، وكأنها وسائل إلى الكبائر، ومن حقّ الوسيلة أن تُقدّم إثباتًا أو نفيًا، قاله الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفيه توكيد الدعاء، وتكثير ألفاظه، وإن أغنى بعضها عن بعض. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) المراد ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر منه (وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ") أي ظاهره وخفيّه بالنسبة لغير اللَّه تعالى؛ لأنهما عنده سواء، وهذا من باب عطف المؤكِّد على المؤكَّد؛ مبالغة في محو الذنوب وآثارها الظاهرة والباطنة.
قال في "المنهل": والغرض من هذا كمال التواضع والإذعان لامتثال أمر اللَّه تعالى، والتشريع للأمة، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنب. انتهى
(4)
.
وقال القرطبىّ رحمه الله: فيه دليلٌ على نسبة الذنوب إليه صلى الله عليه وسلم، وقد اختَلَف الناس في ذلك، فمنهم من يقول: الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر، وذهبت شِرْذمة من الروافض إلى تجويز كلّ ذلك عليهم إلا ما يناقض مدلول المعجزة، كالكذب والكفر، وذهب المقتصدون إلى أنهم معصومون عن الكبائر إجماعًا سابقًا خلاف الروافض، ولا يُعتدّ بخلافهم؛ إذ حَكَم بكفرهم كثير من العلماء. انتهى
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 449.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1023.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 201.
(4)
"المنهل العذب المورود" 5/ 326.
(5)
"المفهم" 2/ 92.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أشرت إلى هذه المسألة في "التحفة المرضيّة" حيث قلت:
فَكُلُّ مُرْسَلٍ بُعَيْدَ الْبِعْثَةِ
…
لَا يَفْعَلُ الْمُزْرِيَ بِالنُّبُوَّةِ
أَوْ مُوجِبَ الْخِسَّةِ أَوْ مَا يُسْقِطُ
…
مُرُوءَةً عَمْدًا وَسَهْوًا يَهْبِطُ
وَأَجْمَعُوا عَلَى انْتِفَا الْكَبَائِرِ
…
وَرَجَّحُوا الْجَوَازَ لِلصَّغَائِرِ
لَكِنَّهُمْ يُنَبَّهُونَ فَوْرَا
…
فَنِعْمَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِمْ تَتْرَى
وإن أردت تحقيق معاني الأبيات فارجع إلى شرحها "المنحة الرضيّة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1089](483)، و (أبو داود) في "الصلاة"(878)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1931)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 234)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1880)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1074)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(620)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1090]
(484) - (حَدَّثَنَا
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب [8](ت 188) عن (71) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد اللَّه السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبت [6](132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبَيح الْهَمْدانيّ الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
6 -
(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيه عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57)، وقيل غير ذلك (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أنَّ رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني مروزيّ، وعائشة رضي الله عنها مدنيّة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها الصدّيقة بنت الصدّيق، حبيبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبنت حبيبه رضي الله عنهما، الفقيهة، من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ) كذا في رواية منصور، وقد بَيَّنَ الأعمش في روايته، عن أبي الضحى الآتية ابتداء هذا
الفعل، وأنه صلى الله عليه وسلم واظب عليه، ولفظه:"عن عائشة قالت: ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم منذ نزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} يُصلي صلاةً إلا دعا، أو قال فيها: سبحانك اللهم. . . " الحديث.
قيل: اختار النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة لهذا القول؛ لأن حالها أفضل من غيرها، وليس في الحديث ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضًا، بل في رواية عامر الشعبيّ، عن مسروق الآتية ما يُشعِر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها.
وقوله: (فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ) بيان للمحلّ الذي كان صلى الله عليه وسلم يقول فيه هذا الذكر من الصلاة، وهو الركوع والسجود.
("سُبْحَانَكَ) قال أهل اللغة العربية، وغيرهم: التسبيح: التنزيه، وقولهم:"سبحانَ اللَّه" منصوب على المصدر، يقال: سَبَّحتُ اللَّه تسبيحًا وسُبْحَانًا، فسبحان اللَّه معناه: براءةً وتنزيهًا له من كل نقص، وصفة للمُحْدَث، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ: "سُبحان" اسم علمٌ لمصدر سَبَح، وقع موقعه، فنُصب نصبه، وهو لا ينصرف للتعريف، والألف والنون الزائدتين، كعثمان، ومعناه البراءة للَّه من كلّ نقص وسُوء، وهو في الغالب مما لا ينفصل عن الإضافة، وقد ذكره الحريريّ في جملة الأسماء الملازمة للإضافة، حيث قال في "ملحة الإعراب":
وَفِي الْمُضَافِ مَا يَجُرُّ أَبَدَا
…
مِثْلُ "لَدُنْ زَيْدٍ" وَإِنْ شِئْتَ "لَدَى"
وَمِنْهُ "سُبْحَانَ" وَ"ذُو" وَ"مِثْلُ"
…
وَ"مَعْ" وَ"عِنْدَ" وَ"أُولُو" وَ"كُلُّ"
ثُمَّ الْجِهَاتُ السِّتُّ "فَوْقُ" وَ"وَرَا"
…
وَ"يَمْنَةٌ" وَعَكْسُهَا بِلَا مِرَا
وَهَكَذَا "غَيْرُ" وَ"بَعْضُ" و"سِوَى"
…
فِي كَلِمٍ شَتَّى رَوَاهَا مَنْ رَوَى
قال: وقد جاء منفصلًا عنها في قول الأعشى:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ
…
سُبْحَانَ مِنْ علْقَمَةَ الْفَاخِرِ
وقد أشربه في هذا البيت معنى التعجّب، فكأنه قال: تَعَجُّبًا من علقمةّ!.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 201 - 202.
هذا قول حُذّاق النحويين، وأئمّتهم، وقد ذهب بعضهم إلى أن "سبحان" جمع سِبَاح، من سَبَحَ يسبح في الأرض: إذا ذهب فيها سبحًا وسباحًا، وهذا كحِسَاب وحُسبان، وقيل: جمع سَبيح للمبالغة من التسبيح، مثل خبير وعليم، ويُجمع على سُبْحان، كقَضِيب وقُضبان، وأبطل القرطبي هذين القولين بدليل عدم صرفه، كما مرّ في بيت الأعشى
(1)
.
(اللَّهُمَّ) تقدّم قريبًا أن أصلها "يا أللَّه"، فحُذفت "يا"، وعُوّض عنها الميم المشدّدة (رَبَّنَا) منادى بحذف حرف النداء، أي يا ربّنا (وَبِحَمْدِكَ) متعلّق بفعل محذوف دلّ عليه التسبيح، أي بحمدك سبّحتك، ومعناه: بتوفيقك لي، وهدايتك، وفضلك عليّ سبَّحتك، لا بحولي وقُوّتي، ففيه شكر اللَّه تعالى على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى اللَّه تعالى، وأن كل الأفعال له، واللَّه أعلم، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال القرطبيّ بعد ذكره نحو ما تقدّم: هكذا قولهم، وكأنهم لاحظوا أن الحمد هنا بمعنى الشكر، قال: ويظهر لي وجه آخر، وهو إبقاء معنى الحمد على أصله، ويكون إثباتًا للسبب، ويكون معناه: بسبب أنك موصوفٌ بصفات الكمال والجلال سبّحك المسبِّحون، وعظّمك المعظّمون، واللَّه تعالى أعلم
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أشبعت هذا البحث في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد
(3)
، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله: (اللَّهُمَّ) كرّره للتأكيد (اغْفِرْ لِي") أي استر ذنوبي، واصفح عنها.
وقولها: (يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ) أي يَعْمَل ما أُمر به في قول اللَّه عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفِيَ ما أُمر به في الآية، وكان يأتي به في الركوع والسجود؛ لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها، فكان يختارها لأداء هذا الواجب الذي أُمر به؛ ليكون أكمل، قاله النوويّ رحمه الله
(4)
.
(1)
راجع: "المفهم" 2/ 87 - 88، و"إكمال المعلم" 2/ 398 - 399.
(2)
"المفهم" 2/ 88.
(3)
راجع: "ذخيرة العقبى" 13/ 152.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 201.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والمراد أنه يمتثل ما أمره اللَّه تعالى به بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الآية، فتأويل القرآن تارةً يُراد به تفسير معناه بالقول، وتارةً يراد به امتثال أوامره بالفعل، ولهذا يقال لمن ارتكب شيئًا من الرُّخَص بتأويل سائغ، أو غيره: إنه فعله متأوّلًا. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "يتأول القرآن" أي يفعل ما أُمر به فيه، وقد تبين من رواية الأعمش -يعني الآتية بعد هذا- أن المراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة، والذكر المذكور.
قال: وفي هذا تعيين أحد الاحتمالين في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ؛ لأنه يَحْتَمِل أن يكون المراد بـ {سَبِّحْ} نفس الحمد؛ لما تضمّنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه؛ لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى اللَّه عز وجل، فعلى هذا يكفي في امتثال الأمر الاقتصار على الحمد.
ويحتمل أن يكون المراد: {فَسَبِّحْ} متلبسًا بالحمد، فلا يمتثل حتى يجمعهما، وهو الظاهر. انتهى. وهو بحث نفيسٌ
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1090 و 1091 و 1092 و 1093](484)، و (البخاريّ) في "الأذان"(794 و 817) و"المغازي"(4293) و"التفسير"(4967 و 4968)، و (أبو داود) في "الصلاة"(877)، و (النسائيّ) فيها (2/ 219)، و (ابن ماجه) فيها (889)، و (عبد الرزّاق)(2878)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 43 و 49)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(605)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1930)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1881 و 1882 و 1883 و 1885)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1075 و 1076 و 1077 و 1078
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 7/ 272.
(2)
"الفتح" 2/ 349.
و 1079)، و (الطحاويّ) في معاني الآثار" (1/ 234)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (2/ 109)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (618)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الدعاء في الركوع والسجود بالدعاء المذكور.
2 -
(ومنها): بيان جواز الدعاء في الركوع، ونُقل عن مالك: كراهته، وقد ترجم الإمام البخاريّ في "صحيحه":"باب الدعاء في الركوع"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح، مع أن الحديث واحد، أنه قَصَدَ الإشارة إلى الردّ على من كَرِهَ الدعاء في الركوع، كمالك، وأما التسبيح فلا خلاف فيه، فاهتَمّ هنا بذكر الدعاء لذلك، وحجة المخالف حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدّم في الباب الماضي، وفيه:"فأما الركوع فعَظِّموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم"، لكنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع، كما لا يمتنع التعظيم في السجود، وظاهر حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الذكر كله في الركوع، وكذا في السجود، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يؤخذ من هذا الحديث إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"أما الركوع فعَظِّموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء".
قال: ويمكن أن يُحْمَل حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولوية.
ويَحْتَمِل أن يكون أَمَر في السجود بتكثير الدعاء؛ لإشارة قوله: "فاجتهدوا"، والذي وقع في الركوع من قوله:"اللهم اغفر لي" ليس كثيرًا، فلا يعارض ما أَمَر به في السجود. انتهى.
واعترضه الفاكهانيّ بأن قول عائشة رضي الله عنها: "كان يكثر أن يقول" صريح في كون ذلك وقع منه كثيرًا، فلا يعارض ما أَمَر به في السجود.
قال الحافظ: هكذا نقله عنه شيخنا ابن الْمُلَقِّن في "شرح العمدة"، وقال: فليُتَأَمَّل، وهو عجيب، فإن ابن دقيق العيد أراد بنفي الكثرة عدم الزيادة
(1)
"الفتح" 2/ 329.
على قوله: "اللهم اغفر لي" في الركوع الواحد، فهو قليل بالنسبة إلى السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء الْمُشْعِر بتكثير الدعاء، ولم يُرِد أنه كان يقول ذلك في بعض الصلوات دون بعض، حتى يَعْتَرِض عليه بقول عائشة رضي الله عنها:"كان يكثر. . . إلخ" انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة القول أن الأمر بتعظيم الربّ عز وجل في الركوع لا ينافي جواز الدعاء فيه بدليل هذا الحديث، وإنما غاية ما يدلّ عليه قوله:"فعظّموا فيه الربّ" أن يكون معظم الذكر المشروع فيه هو التعظيمَ بالتسبيح والتحميد، والتقديس، كما أن الغالب في السجود الاجتهاد في الدعاء، ولا ينافي التسبيح فيه أيضًا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لَمّا نزل {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]: "اجعلوها في سجودكم"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الإكثار من الاستغفار، مع أنه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، كما قال تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] الآية، وسبب ذلك أن يكون عبدًا شكورًا، فقد أخرج الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى تَوَرَّمت قدماه، فقيل له: غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ قال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا".
4 -
(ومنها): شدّة حرصه على مبادرته أمر اللَّه عز وجل له في القرآن، حيث قال له:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} الآية [النصر: 3]، وهو معنى قوله:"يتأول القرآن"، أي يُطبّق على نفسه ما أُمر به في القرآن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1091]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ
(1)
"الفتح" 2/ 349 - 350.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ
(1)
، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاكَ أَحْدَثْتَهَا
(2)
، تَقُولُهَا؟ قَالَ:"جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي، إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم، تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل باب أيضًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي. ومسلم هو ابن صُبيح، أبو الضحى.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه محمد بن العلاء، أحد مشايخ الستة بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، فكلهم كوفيّون، سوى عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.
5 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض: الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ) هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لا يخصّ هذا الذكر في الصلاة فقط، ويؤيّد هذا
(1)
وفي نسخة: "سبحانك اللهمّ وبحمدك".
(2)
وفي نسخة: "قد أحدثتها".
ما أخرجه ابن جرير الطبريّ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم، ولا يقعد، ولا يذهب، ولا يجيء، إلا قال: سبحان اللَّه وبحمده، فقلت: يا رسول اللَّه، رأيتك تكثر من سبحان اللَّه وبحمده، لا تذهب، ولا تجيء، ولا تقوم، ولا تقعد، إلا قلت: سبحان اللَّه وبحمده، قال:"إني أُمرت بها"، فقال:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} إلى آخر السورة
(1)
.
("سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ) وفي نسخة: "سبحانك اللهمّ وبحمدك"(أَسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إِلَيْكَ") قال النوويّ: فيه حجةٌ على أنه يجوز، بل يُستحبّ أن يقول:"أستغفرك، وأتوب إليك"، وحُكي عن الرَّبِيع بن خثيم قال: لا يقل أحدكم: "أستغفر اللَّه وأتوب إليه"، فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم يفعل، بل يقول:"اللهم اغفر لي، وتب عليّ" وهذا الذي قاله من قوله: "اللهم اغفر لي، وتب عليّ" حَسَنٌ، وأما كراهته "أستغفر اللَّه" وتسميته كذبًا فلا نوافق عليه؛ لأن معنى "أستغفر اللَّه" أطلب مغفرته، وليس في هذا كَذِبٌ، ويكفي في ردّه ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قال: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ، وأتوب إليه، غُفرت ذنوبه، وإن كان قد فَرّ من الزَّحْف"
(2)
، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ ومسلم. انتهى
(3)
.
(قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا) استفهاميّة (هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتي أَرَاكَ) وفي رواية عامر الشعبي الآتية: "فقلت: يا رسول اللَّه، أراك تكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه، وأتوب إليه"(أَحْدَثْتَهَا) وفي نسخة: "قد أحدثتها"(تَقُولُهَا؟) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("جُعِلَتْ) بالبناء للمفعول، أي جعل اللَّه تعالى (لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي) وفي رواية الشعبيّ الآتية:"فقال: خبّرني ربّي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه، وأتوب إليه، فقد رأيتها"
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ في "الصحيحة" 7/ 447.
(2)
حديث صحيح، كما قال الحاكم.
(3)
"الأذكار" للنوويّ 1/ 323.
(إِذَا رَأَيْتُهَا) أي تلك العلامة (قُلْتُهَا) أي قلت هذه الكلمات التي أحدثتها.
ثم ذكر العلامة فقال: ({إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ) وفي رواية الشعبيّ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} فتح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 2 - 3].
تفسير السورة الكريمة:
{إِذَا} منصوب بـ "سَبِّح"، وهو لما يُسْتَقْبَل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة {جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} النصر: الإغاثةُ والإظهار على العدوّ، والفتح: فتح البلاد، والمعنى نَصْرُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على العرب، أو على قريش، وفَتْحُ مكة، أو جنس نصر اللَّه المؤمنين، وفتح بلاد الشرك عليهم، قاله النسفيّ رحمه الله.
وقال القرطبيّ: النصر العون، مأخوذ من قولهم: قد نَصَرَ الغيثُ الأرضَ: إذا أعان على نباتها من قَحْطها، قال الشاعر [من الطويل]:
إِذَا انْسَلَخَ الشهر الحرام فَوَدّعِي
…
بِلَادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
ويُروَى:
إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَجَاوِزِي
…
بِلَادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
يقال: نَصَره على عدوه ينصره نصرًا: أي أعانه، والاسم النُّصْرة، واستنصره على عدوه: أي سأله أن ينصره عليه، وتناصروا: نصر بعضهم بعضًا.
ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش، قاله الطبريّ، وقيل: نصره على من قاتله من الكفار، فإن عاقبة النصر كانت له.
وأما الفتح فهو فتح مكة، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور، وقيل: فتح سائر البلاد: وقيل ما فتحه عليه من العلوم، و"إذا" بمعنى "قد": أي قد جاء نصر اللَّه؛ لأن نزولها بعد الفتح، ويمكن أن يكون معناه إذا يجيئك. انتهى
(1)
.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 230.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ} [النصر: 2] هو حال من "الناس" على أن "رأيت" بمعنى أبصرتَ، أو عَرَفْتَ، أو مفعول ثان على أنه بمعنى "عَلِمتَ"{فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} هو حال من فاعل {يَدْخُلُونَ} وجواب {إِذَا} ، {فَسَبِّحْ} ، أي إذا جاء نصر اللَّه إياك على من ناوأك، وفَتْحُ البلاد، ورأيت الناس يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيرة، بعدما كانوا يدخلون فيه واحدًا واحدًا، واثنين اثنين {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فقل: سبحان اللَّه حامدًا له، أو فَصَلِّ له، {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي اطلب مغفرته لك؛ تواضعًا وهضمًا للنفس، أو دُمْ على الاستغفار، قاله النسفيّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: [فإن قيل]: فماذا يُغْفَر للنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟.
[قيل له]: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي، وعمدي، وجهلي، وهَزْلي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمت، وما أخرت، وما أعلنت، وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على كل شيء قدير".
فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه؛ لعظم ما أنعم اللَّه به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحقّ ذلك ذنوبًا.
ويَحْتَمِل أن يكون بمعنى: كن متعلقًا به سائلًا راغبًا متضرعًا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال.
وقيل: الاستغفار تعبّد يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدًا، وقيل: ذلك تنبيهٌ لأمته؛ لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار، وقيل:{وَاسْتَغْفِرْهُ} أي استغفر لأمتك.
{إِنَّهُ كَانَ} ولم يزل {تَوَّابًا} التوّاب الكثير القبول التوبة، وفي صفة العباد الكثير الفعل للتوبة، قاله النسفيّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] أي على المسبِّحين
(1)
"تفسير النسفي" 4/ 361.
والمستغفرين يتوب عليهم ويرحمهم، ويَقْبَل توبتهم، وإذا كان صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم، يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، فعاش بعدهما النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانين يومًا، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزل:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] فعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا، وقال مقاتل: سبعة أيام، وقيل غير هذا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": أخرج النسائيّ من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن، وقد تقدم في تفسير "براءة" أنها آخر سورة نزلت، والجمع بينهما أن آخرية سورة النصر نزولها كاملةً، بخلاف براءة، كما تقدم توجيهه، ويقال: إن {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} يوم النحر، وهو بمنى، في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها أحدًا وثمانين يومًا، وليس منافيًا للذي قبله، بناءً على بعض الأقوال في وقت الوفاة النبوية، وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال، وعن مقاتل سبعًا، وعن بعضهم ثلاثًا، وقيل: ثلاث ساعات، وهو باطل.
وأخرج ابن أبي داود في "كتاب المصاحف" بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ "إذا جاء فتح اللَّه والنصر". انتهى
(2)
.
وقال الإمام ابن كثير في "تفسيره": "سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} مدنية".
أخرج البخاريّ عن ابن عباس، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لِمَ يدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد عَلِمتم، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول اللَّه عز وجل: {إِذَا جَاءَ
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 233.
(2)
"الفتح" 8/ 605 - 606.
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]؟ فقال بعضهم: أُمِرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره، إذا نُصِرنا، وفُتِح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} ، فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3]، فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول. تفرّد به البخاريّ.
وأخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المدينة، إذ قال:"اللَّه أكبر اللَّه أكبر جاء نصر اللَّه والفتح، جاء أهل اليمن"، قيل: يا رسول اللَّه، وما أهل اليمن؟ قال:"قوم رقيقة قلوبهم، لَيِّنةٌ طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية"
(1)
.
وأخرج أحمد بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدريّ أنه قال: لما نزلت هذه السورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} قرأها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، فقال: "الناس حَيْزٌ
(2)
وأنا وأصحابي حَيْزٌ -وقال- لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"، فقال له مروان: كَذَبتَ، وعنده رافع بن خَدِيج، وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عِرَافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه الدِّرّة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. تفرّد به أحمد.
قال ابن كثير رحمه الله: فالذي فَسَّر به بعض الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنهم من أنه قد أُمِرنا إذا فتح اللَّه علينا المدائن والحصون، أن نحمد اللَّه ونشكره ونسبحه، يعني نُصَلِّي له ونستغفره، معنى مَلِيحٌ صحيحٌ، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات، فقال قائلون: هي صلاة الضحى، وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها، فكيف صلاها ذلك اليوم؟ وقد كان مسافرًا لم ينو الإقامة بمكة، ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبًا من تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، ويفطر هو وجميع الجيش، وكانوا
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ بشواهده. "الصحيحة" 7/ 1107.
(2)
أي جماعة وفئة.
نحوًا من عشرة آلاف، قال هؤلاء: وإنما كانت صلاة الفتح، قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات، وهكذا فَعَل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، ثم قال بعضهم: يصليها كلها بتسليمة واحدة، والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين، كما ورد في "سنن أبي داود": أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين.
وأما ما فَسَّر به ابن عباس وعمر من أن هذه السورة نُعِيَ فيها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم روحه الكريمة، وأُعْلِم: أنك إذا فتحت مكة، وهي قريتك التي أخرجتك، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، فقد فَرَغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا، والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} .
أخرج النسائيّ بسند حسن عن ابن عباس، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] إلى آخر السورة، قال: نعيت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك:"جاء الفتح، وجاء نصر اللَّه، وجاء أهل اليمن"، فقال رجل: يا رسول اللَّه، وما أهل اليمن؟ قال:"قوم رقيقة قلوبهم، ليّنة قلوبهم، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان".
وقال ابن جرير الطبريّ: حدّثنا أبو السائب، حدّثنا حفص، حدّثنا عاصم، عن الشعبيّ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم، ولا يقعد، ولا يذهب، ولا يجيء، إلا قال: سبحان اللَّه وبحمده، فقلت: يا رسول اللَّه، رأيتك تكثر من سبحان اللَّه وبحمده، لا تذهب، ولا تجيء، ولا تقوم، ولا تقعد، إلا قلت: سبحان اللَّه وبحمده، قال: إني أُمرت بها، فقال:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} إلى آخر السورة
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله: والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة قولًا واحدًا، فإن أحياء العرب كانت تَتَلَوَّمُ بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيّ، فلما فتح اللَّه عليه مكة، دخلوا في دين اللَّه أفواجًا، فلم تمض سنتان حتى
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ في "الصحيحة" 7/ 447.
استوسقت جزيرة العرب إيمانًا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مُظهر للإسلام، وللَّه الحمد والمنة.
وقد رَوَى البخاري في "صحيحه" عن عمرو بن سَلِمَة قال: لما كان الفتحُ بادر كلُّ قوم بإسلامهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت الأحياء تَتَلَوَّم بإسلامها فتح مكة، يقولون: دَعُوه وقومه، فإن ظَهَر عليهم، فهو نبيّ. . . الحديث. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1092]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ نَزَلَ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} يُصَلِّي صَلَاةً، إِلَّا دَعَا، أَوْ قَالَ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ رَبِّي
(2)
، وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(مُفَضَّلٌ) بن مُهَلْهَل السَّعْديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ نَبيلٌ عابدٌ [7](ت 167)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
والباقون تقدّموا قبله.
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 777 - 780.
(2)
وفي نسخة: "سبحانك اللَّهمّ ربّي".
وقوله: (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ) بضمّ الصاد المهملة، مصغّرًا، وأما والد الربيع بن صَبِيح، فإنه بالفتح، مكبّرًا، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
صَبِيحُ وَالِدِ الرَّبِيعِ فُتِحَا
…
وَاضمُمْ أَبًا لِمُسْلِمٍ أَبِي الضُّحَى
وقوله: (إِلَّا دَعَا، أَوْ قَالَ فِيهَا إلخ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، والحديث متّفق عليه، ومسائله تقدمّت في شرح ثاني أحاديث الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1093]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي
(1)
عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ:"سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ"، فَقَالَ: "خَبَّرَنِي
(2)
رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي، فَإذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحُ مَكَّةَ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 2، 3] ".
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أخبرني".
3 -
(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ متقن [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
4 -
(عَامِر) بن شَرَاحيل الشعبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (خَبَّرَني رَبِّي) وفي نسخة: "أخبرني"، وهما بمعنًى.
وقوله: (فَإذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا) قال العلامة ابن القيم في "الهدي": كأنه أخذه من قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} ؛ لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، فيقول إذا سلم من الصلاة:"أستغفر اللَّه" ثلاثًا، وإذا خرج من الخلاء قال:"غفرانك"، وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة: 199] الآية.
قال الحافظ: ويؤخذ أيضًا من قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ، فقد كان يقول عند انقضاء الوضوء:"اللهم اجعلني من التوابين"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1094]
(485) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَيْفَ تَقُول أَنْتَ فِي الرُّكُوعِ؟ قَالَ: أَمَّا "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"، فَأَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ
(1)
"الفتح" 8/ 606.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ:"سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ، وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِىُّ) أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، وكان يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(عَطَاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضل، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
5 -
(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد اللَّه بن عُبيد اللَّه بن أبي مُليكة زُهير بن عبد اللَّه بن جُدعان التيميّ المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
والباقيان تقدّما قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، الأول ما أخرج له النسائيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والإخبار.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، سوى عائشة رضي الله عنها فمدنيّةٌ، وابن رافع فنيسابوريّ، وعبد الرزّاق، فصنعانيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عطاء، عن ابن أبي مليكة.
شرح الحديث:
عن ابْنِ جُرَيْجٍ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاء) بن أبي رَبَاح.
[تنبيه]: هكذا رواية المصنّف من طريق عبد الرزّاق بذكر عطاء بين ابن جُريج وبين ابن أبي مُليكة، وهكذا هو عند النسائيّ من طريق حجاج الأعور، عن ابن جريج، فقد أخرجه في "سننه"، فقال:
أخبرنا إبراهيم بن الحسن الْمِصِّيصيّ الْمِقْسَمِيّ، قال: حدّثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: أخبرني ابن أبي مُليكة، عن عائشة، قالت:"فقدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه. . . " الحديث.
لكن أخرجه النسائيّ في "كتاب عشرة النساء" من طريق عبد الرزّاق، بإسقاط عطاء، فقال:
(3962)
أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن عائشة قالت:"افتقدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . " الحديث.
وقد تابع عبد الرزّاق محمد بن بكر في ذلك، عند الإمام أحمد رحمه الله، فقال في "مسنده":
(24023)
حدّثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت:"افتقدت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه. . . " الحديث.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن عبد الرزّاق له روايتان، ذكر
في إحداهما عطاء، وأسقطه في أخرى، وكلا الروايتين صحيحتان؛ إذ يمكن حمله على أن ابن جريج حدّث عن عطاء، عن ابن أبي مليكة، ثم لقي ابن أبي مليكة، فحدّثه، ومما يؤيّد ذلك أنه صرّح في رواية عبد الرزّاق المذكورة عند النسائيّ، ومحمد بن بكر عند أحمد بأن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مُليكة، كما مرّ آنفًا، ومثل هذا كثير في روايات الثقات، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ فِي الرُّكُوعِ؟) أي من الأذكار والدعاء (قَالَ) عطاء (أَمَّا "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ") أي هذا الكلام (فَأَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَت: افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هو افتعال من الفقد، وفي رواية أبي هريرة التالية:"فقدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" ثلاثيًّا، قال النوويّ: هما لغتان بمعنى. انتهى. وهكذا تفيد عبارة الفيّوميّ رحمه الله، حيث قال: فَقَدته فَقْدًا، من باب ضرب، وفُقْدَانًا
(1)
: عَدِمته، فهو مفقودٌ، وفقِيدٌ، وافتقدته مثله، وتفقّدته: طلبته عند غيبته. انتهى
(2)
.
ولكن عبارة "القاموس" تدلّ على اختلاف معنى فَقَدَ، وافتقد، حيث قال: فَقَده يَفْقِده فَقْدًا -أي من باب ضَرَب- وفِقْدَانًا -بالضمّ والكسر- وفُقُودًا: عَدِمَهُ، فهو فَقِيدٌ ومفقودٌ، قال: وافتقده، وتفقده: طلبه عند غيبته. انتهى بإيضاح
(3)
.
فعلى هذا يكون معنى قولها هنا: افتقدته: أي طلبته، وعلى رواية أبي هريرة فمعناه: عَدِمته من محلّه في البيت.
(ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلة من الليالي، قيل:"ذات" مقحمة، وقيل: هو من إضافة المسمّى إلى الاسم (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ) أي زوجاته، وهذا يدلّ للقول الراجح، أنه صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه القسم بين زوجاته؛ إذ لو كان واجبًا عليه لما ظنّت عائشة رضي الله عنها ذلك منه؛ إذ لا يترك الواجب عليه.
(1)
بضم الفاء وكسرها.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 478.
(3)
راجع: "القاموس المحيط" 1/ 323.
ويَحْتَمل أن تكون عائشة رضي الله عنها نسيت لشدّة غيرتها وجوب القسم عليه، حتى ظن ذلك منه، والاحتمال الأول أقوى، وأظهر، وستأتي المسألة مفصّلة موضّحة في محلّها -إن شاء اللَّه تعالى-.
(فَتَحَسَّسْتُ) بالحاء المهملة: أي تطلّبته، وفي رواية النسائيّ في "كتاب عشرة النساء":"فتجسّسته" بالجيم، وهو بمعنى الأول.
قال في "اللسان": تَحَسَّس الخبرَ: تطلّبه، وتَبَحّثه، وفي التنزيل:{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية [يوسف: 87]، وقال اللِّحْيانيّ: تَحَسّس فلانًا، ومن فلان: أي تبحّث، وقال أبو عبيدة: تحسّستُ الخبرَ، وتحسّيته، وقال شَمِر: تَنَدّسه مثلُهُ، وقال أبو معاذ: التحسّس شِبْهُ التسمّع والتبصّر، قال: والتجسّس بالجيم: البحث عن العورة، وقال ابن الأعرابيّ: تجسّس الخبرَ، وتحسّسه بمعنى واحد.
وقال أيضًا: التجسّس بالجيم: التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشرّ، وقيل: التجسّس بالجيم: أن يطلبه لغيره، وبالحاء أن يطلبه لنفسه، وقيل: بالجيم البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع. انتهى
(1)
.
(ثُمّ رَجَعْتُ) أي من المحلّ الذي ذهبت إليه لتطلبه فيه، ولعلّها خرجت تبحث عنه في بعض بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم، فلما لم تجده رجعت إلى بيتها (فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ)"إذا" هنا هي الْفُجائيّة، أي ففاجأني ركوعه صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه صلى الله عليه وسلم قائلًا:("سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ) تقدّم شرح هذه الجملة قريبًا (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ") أي لا معبود بحقّ إلا أنت وحدك لا شريك لك.
(فَقُلْتُ: بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) الجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف، تقديره: أَفْدِيك بأبي، وأمّي، فلما حُذف الفعل انفصل الضمير.
ويَحْتَمِل أن يكون "أنت" مبتدأ، والجارّ والمجرور متعلّقٌ بمحذوف خبرٍ عن "أنت"، أي أنت مَفْديّ بأبي وأمّي.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بأبي أنت إلخ" أي بأبي أنت وأمّي تُفدى من
(1)
"لسان العرب" 6/ 38 - 39 مادة جسس بالجيم، وحسس بالحاء.
المكاره، وهو كلامٌ يستعملونه في محلّ المحبّة، والمبالغة في الإكرام والاحترام، وقد صَرَّحُوا بذلك المعنى المقدَّر، فقالوا: فِداك أبي وأُمِّي، وجعلني اللَّه فداك، ويقولون بكسر الفاء، والمدّ، والهمز، وبفتح الفاء، والقصر. انتهى
(1)
.
(إِنِّي لَفِي شَأْنٍ) أي لفي حال، وهو كونها ظنّت أنه ذهب إلى بعض أزواجه (وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ) أي لفي شأن مغاير لما أنا عليه، وهو إعراضه عن الدنيا، وإقباله على الآخرة، ومناجاة ربّه بالصلاة والذكر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1094](485)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 223) وفي "عشرة النساء"(7/ 72) وفي "الكبرى"(69/ 717)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 151)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1820)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(10791080).
وفوائد الحديث تأتي في الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1095]
(486) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ
(2)
، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ:
(1)
"المفهم" 2/ 89.
(2)
وفي نسخة: "قدمه".
"اللَّهُمَّ أَعُوذُ
(1)
بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (40)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) -بفتح الحاء المهملة- بن منقذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](121) وهو ابن (74) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
3 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
وأبو بكر، وأبو أُسامة حمّاد بن أسامة تقدّما في الباب الماضي، والصحابيّان تقدّما في هذا الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من عبيد اللَّه، والباقيان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عبيد اللَّه، عن محمد بن يحيى، عن الأعرج.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، كلاهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً) وفي رواية النسائيّ: "ذات ليلة"(مِنَ الْفِرَاشِ) بكسر الفاء، فِعالٌ بمعنى مفعول، ككتاب
(1)
وفي نسخة: "اللهم إني أعوذ".
بمعنى مكتوب، وجمعه فُرُشٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، وهو فَرْشٌ أيضًا تسميةً بالمصدر، يقال: فَرَشتُ البِساطَ وغيره، من باب نصر، وفي لغة من باب ضرب: بسطته، وافترشته، فافترَشَ هو، أفاده الفيّوميّ
(1)
. (فَالْتَمَسْتُهُ) أي طلبته، وفي رواية النسائيّ:"فجعلتُ أطلبه بيدي"، وإنما طلبته؛ لكونها ظنّت أنه ذهب إلى بعض نسائه، كما سبق في الحديث الماضي (فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ) وفي نسخة:"قدمه" بالإفراد، وفيه دليلٌ للمذهب الراجح أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وقد سبق تحقيقه في أبواب الوضوء مستوفًى. (وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) أي محلّ صلاته من البيت، ويَحْتَمل أنه كان يصلّي في المسجد النبويّ، وفي رواية النسائيّ:"وهو ساجد"، والجملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم كائن في المسجد.
وقوله: (وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ) جملة حاليّة أيضًا، أي والحال أن قدميه صلى الله عليه وسلم منصوبتان، وفيه بيان كيفية وضع القدمين في السجود، وهو أن تكونا منصوبتين.
وقول: (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة أيضًا، مثل الجملتين السابقتين.
[تنبيه]: هذه الجمل الواقعة أحوالًا يَحْتَمِل أن تكون من الأحوال المتداخلة، وهو أن تأتي الحال الثانية من ضمير الحال الأولى، أو من المترادفة، وهذا يمنعه بعض النحاة، والأصحّ جوازه، ويَحتمل أن تكون الواو في الجملتين الأخيرتين عاطفةً على الأولى، واللَّه تعالى أعلم.
("اللَّهُمَّ أَعُوذُ) وفي نسخة: "اللَّهمّ إني أعوذ"، أي أعتصم، وأتحصّن، يقال: عاذ به يعوذ عَوْذًا، وعِيَاذًا، ومعاذًا: لاذ به، ولجأ إليه، واعتصم
(2)
، وقوله:(بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ) معلّقان بـ "أعوذ"، أي ألجأ إليك متوسّلًا برضاك عنّي من فعل يوجب سخطك عليّ.
و"الرضا" بالكسر مقصورًا مصدر سماعيّ لـ "رَضِي"، والقياس بالفتح، و"السخط" بضم، فسكون، وبفتحتين: مصدر لـ "سَخِطَ"، بفتح، فكسر، الأول سماعيّ، والثاني قياسيّ، قال ابن مالك في "الخلاصة":
(1)
"المصباح المنير" 2/ 468.
(2)
"لسان العرب" 3/ 497.
وَمَا أَتَى مُخَالِفًا لِمَا مَضَى
…
فَبَابُهُ النَّقْلُ كَـ "سُخْطٍ" وَ"رِضَا"
(وَبِمُعَافَاتِكَ) أي وأعتصم بتجاوزك فضلًا منك ومِنّة، و"المعافاة": مصدر عافاه، من العفو، وهو التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، يقال: عفا يَعْفُو عَفْوًا، فهو عَافٍ، وعَفُوٌّ، وقال ابن الأنباريّ في قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 43]: محا اللَّه عنك، مأخوذ من قولهم: عَفَت الرياحُ الآثارَ تعفو عَفْوًا، لفظ اللازم والمتعدّي سواء، قاله في "اللسان"
(1)
.
(مِنْ عُقُوبَتِكَ) أي من تعذيبك إياي بسبب المعاصي التي اقترفتها.
قال القاضي عياض رحمه الله: رضا اللَّه، وسخطه، ومعافاته، وعقوبته من صفات كماله، فاستعاذ من المكروه منها إلى المحبوب، ومن الشرّ إلى الخير. انتهى.
(وَأَعُوذُ بِكَ) أي وأعتصم بك (مِنْكَ) أي مما يؤدّي إلى عذابك من المخالفات، وقال السنديّ رحمه الله ما حاصله: أي أعوذ بصفات جمالك عن صفات جلالك، فهذا إجمال بعد شيء من التفصيل، وتوسّل بجميع صفات الجمال عن صفات الجلال، وإلا فالتعوّذ من الذات مع قطع النظر عن شيء من الصفات لا يَظْهَر. انتهى
(2)
.
وقال الخطابيّ رحمه الله: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ باللَّه، وسأله أن يُجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدّان متقابلان، وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضدّ له، وهو اللَّه عز وجل استعاذ به منه لا غير، ومعنى ذلك الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حقّ عبادته، والثناء عليه. انتهى
(3)
.
(لَا أُحْصِي) بضم الهمزة، من الإحصاء، أي لا أُطيقه، ولا أَبلُغه، ولا أنتهي غايته، ولا أحيط بمعرفته، كما قال صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن حاله في المقام المحمود حين يخِرّ تحت العرش ساجدًا، قال: "فأحمده بمحامد لا أقدر عليه
(1)
"لسان العرب" 15/ 72.
(2)
"إكمال العلم" 2/ 401.
(3)
راجع: "إكمال المعلم" 2/ 401.
الآن يُلهمنيه اللَّه"، متفق عليه، وروي عن مالك: لا أحصي نعمتك، وإحسانك عليّ، والثناء بها عليك، وإن اجتهدت في ذلك، والأول أولى؛ لما ذكرناه، ولما جاء في نصّ الحديث نفسه: "أنت كما أثنيت على نفسك"، ومعنى ذلك اعتراف بالعجز عن أداءِ وفهم ما يريده اللَّه من الثناء على نفسه، وبيان صمديّته، وقدّوسيّته، وعظمته، وكبريائه، وجبروته ما لا يُنتهى إلى عدّه، ولا يُوصَل إلى حدّه، ولا يُحصّله عقل، ولا يُحيط به فكر، وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام. انتهى
(1)
.
(ثَنَاءً عَلَيْكَ) أي فردًا من ثنائك على شيء من نعمائك، وهذا بيان لكمال عجز البشر عن أداء حقّ الربّ عز وجل.
(أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ)"أنت" مبتدأ، و"كما أثنيت" خبره، والكاف بمعنى "على"، وقوله:(عَلَى نَفْسِكَ") متعلّق بـ "أثنيتَ"، أي كائنٌ على الأوصاف التي أثنيت بها على نفسك، والجملة في موضع التعليل لعدم إحصاء الثناء عليه.
وقيل: "أنت" تأكيد للضمير المجرور في "عليك"، أي لا أُحصي ثناءً عليك مثل ثنائك على نفسك.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "أنت كما أثنيت على نفسك" اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، وبأنه كما قال لا يُحصيه، ورَدَّ ثناءه إلى الجملة دون تفصيل، وإحصاء، وتعيين، فوكل ذلك إلى المحيط بكلّ شيء جملةً وتفصيلًا، وكما أنه تعالى لا نهاية لسلطانه، وعظمته، ومجده، وعزّته، وجليل أوصافه، فكذلك لا نهاية للثناء عليه؛ إذ الثناء تابع للمُثْنَى عليه، فكلّ ثناء أُثني عليه به وإن كثُر وطال، وبولغ فيه، فقدره تعالى أعظم، وسلطانه أعزّ، وأوصافه أكبر وأكثر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. انتهى
(2)
.
وقال السنديّ في "حاشية النسائيّ": معنى قوله: "أنت كما أثنيت على نفسك" أي أنت الذي أثنيت على ذاتك ثناءً يليق بك، فمن يقدر على أداء حقّ ثنائك؟ فالكاف زائدة، والخطاب في عائد الموصول بملاحظة المعنى، نحو:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
(1)
"المفهم" 2/ 90.
(2)
"إكمال العلم" 2/ 401 - 402.
ويَحْتَمِل أن تكون الكاف بمعنى "على"، والعائد إلى الموصول محذوفٌ، أي أنت ثابتٌ دائم على الأوصاف الجليلة التي أثنيت بها على نفسك، والجملة على الوجهين في موضع التعليل.
وفيه إطلاق لفظ النفس على ذاته تعالى بلا مشاكلة.
وقيل: "أنت" تأكيد للمجرور في "عليك"، فهو من استعارة المرفوع المنفصل موضع المجرور المتّصل؛ إذ لا منفصل في المجرور.
و"ما" في "كما" مصدريّة، والكاف بمعنى "مثل" صفة "ثناءً"، وَيَحْتَمِلُ أن تكون "ما" على هذا التقدير موصولةً، أو موصوفةً، والتقدير: مثل ثناء أثنيته، أو مثل الثناء الذي أثنيته، على أن العائد المقدّر ضمير المصدر، ونصبه على كونه مفعولًا مطلقًا، وإضافة "مثل" إلى المعرفة لا يضرّ في كونه صفة نكرة؛ لأنه متوغّلٌ في الإبهام، فلا يتعرّف بالإضافة.
وقيل: أصله: ثناؤك المستَحَقّ! كثنائك على نفسك، فحُذف المضاف من المبتدأ، فصار الضمير المجرور مرفوعًا. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1095](486)، و (أبو داود) في "الصلاة"(879)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 102 - 103) و"الصلاة"(2/ 210 و 222)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 214)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2881)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 58 و 201)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(655 و 671)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1932 و 1933)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 234)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 127)،
(1)
"حاشية السنديّ على النسائيّ" 1/ 103 - 104.
و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1366)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1821)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1081)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يقال في السجود، وهو هذا الذكر.
2 -
(ومنها): شدّة غيرة النساء على أزواجهنّ.
3 -
(ومنها): سعة أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث لم يُعاقب عائشة رضي الله عنها باتّهامها له ما لا يليق به من الظلم، ولذلك قال لها فيما سيأتي للمصنّف في "الجنائز" برقم (974) في قصّة خروجه إلى البقيع:"أظننت أن يحيف اللَّه عليك ورسوله. . . " الحديث.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا للمذهب الصحيح في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة، قال النوويّ رحمه الله: استَدَلّ به من يقول: لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة وآخرين، وقال مالك، والشافعيّ، وأحمد -رحمهم اللَّه تعالى- والأكثرون: ينقض، واختلفوا في تفصيل ذلك.
وأجيب عن هذا الحديث بأن الملموس لا ينتقض على قول الشافعي رحمه الله وغيره، وعلى قول من قال: ينتقض، وهو الراجح عند أصحابنا يُحْمَل هذا اللمس على أنه كان فوق حائل فلا يضرّ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: بُعد هذا التأويل مما لا يخفى على بصير، والحقّ أن القول بعدم النقض هو الأرجح، وقد تقدّمت المسألة مستوفاةً في أبواب الوضوء، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
5 -
(ومنها): استحباب نصب القدمين في حال السجود.
6 -
(ومنها): مشروعيّة قيام الليل.
7 -
(ومنها): استحباب الدعاء في السجود؛ لأنه من مواطن الإجابة، كما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم:"فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم".
8 -
(ومنها): استحباب التعوّذ من سخط اللَّه تعالى وعقوبته.
9 -
(ومنها): بيان عظمة اللَّه تعالى، وعجز الخلق عن أداء الثناء عليه، كما ينبغي له، بل هو الذي يُثني على نفسه، كما ينبغي لجلاله وكماله.
10 -
(ومنها): أن فيه إثبات صفة الرضا والسخط للَّه عز وجل على ما يليق بجلاله.
11 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ لأهل السنة في جواز إضافة الشرّ إلى اللَّه تعالى، كما يضاف إليه الخير؛ لقوله:"أعوذ بك من سخطك، ومن عقوبتك". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1096]
(487) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَنَّ عَائِشَةَ نَبَّأَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط أخيرًا، من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
4 -
(مُطَرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
والباقيان تقدّما قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من سعيد، سوى عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، والأولان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: قتادة، عن مطرّف، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُطَرِّفِ) بضم الميم، وتشديد الراء المكسورة (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) بكسر الشين المعجمة والخاء المشدّدة المكسورة (أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (نَبَّأَتْهُ) بتشديد الموحّدة، لغة في أنبأته بالهمزة، يقال: أنبأته الخبرَ، وبالخبر، ونبّأته: أعلمته
(1)
، يعني أنها أخبرته، وأعلمته (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبُّوحٌ) بضمّ السين المهملة، وتشديد الموحّدة: المنزّه عن كلّ عيب (قُدُّوسٌ) بضمّ القاف، والدال المهملة: الطاهر من العيوب، والمنزّه عن الأولاد والأنداد، والْقُدْس: الطهارة
(2)
.
وقال النووي رحمه الله: هما بضم السين والقاف، وبفتحهما والضم أفصح وأكثر، قال الجوهريّ في فصل ذرح: كان سيبويه يقولهما بالفتح، وقال الجوهريّ في فصل سبح: سَبُّوح من صفات اللَّه تعالى، قال ثعلب: كلُّ اسم على فَعُّول فهو مفتوح الأول، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس، فإن الضم فيهما أكثر، وكذلك الذُّرُّوح وهي دُوَيِّبَة حمراء مُنَقَّطةٌ بسواد تطير، وهي من ذوات السموم، وقال ابن فارس، والزُّبَيديّ، وغيرهما: سُبُّوح هو اللَّه عز وجل، فالمراد بالسُّبُّوح القُدُّوس المسبَّح المقدَّس، فكأنه قال: مُسَبَّحٌ مُقَدَّسٌ، رب الملائكة والروح.
ومعنى سُبُّوح: المبرأ من النقائص والشريك، وكلّ ما لا يليق بالإلهية، وقُدُّوس: المطهَّر من كل ما لا يليق بالخالق.
وقال الهرويّ: قيل: القُدُّوس المبارك، قال القاضي عياض: وقيل فيه: سُبُّوحًا قُدُّوسًا على تقدير: أُسَبّح سُبُّوحًا، أو أذكر، أو أعظّم، أو أَعبُد. انتهى
(3)
.
(رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ") قيل: الرُّوح ملك عظيم، وقيل: يَحْتَمِل أن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 591.
(2)
"المغني في الأنباء عن غريب المهذّب" 1/ 120 - 121.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 204 - 205.
يكون جبريل عليه السلام، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة، كما لا نرى نحن الملائكة، واللَّه أعلم.
وعطف "الروح" على الملائكة من باب عطف الخاصّ على العامّ؛ لشرفه، كما قوله عز وجل:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} الآية [البقرة: 98]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1096 و 1097](487)، و (أبو داود) في "الصلاة"(872)، و (النسائيّ) فيها (2/ 190 - 191)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2884)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(1/ 225)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 35 و 94 و 115 و 148 و 176 و 193 و 200 و 244)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(606)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1899)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 234)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1810 و 1811 و 1812 و 1813)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1082 و 1083 و 1084)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 87 و 109)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(625)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1097]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(هِشَام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقون تقدّموا في الباب.
[تنبيه]: رواية شعبة هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(23489)
حدّثنا بَهْز، قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن مُطَرِّف، عن عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده:"سُبُّوح قُدُّوس، رب الملائكة والرُّوح". انتهى.
وأما رواية هشام، فساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(872)
حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا هشام، حدّثنا قتادة، عن مُطَرِّف، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده:"سُبُّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والرُّوح". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(44) - (بَابُ فَضْلِ السُّجُودِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1098]
(488) - (حَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنِي
(2)
الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ، حَدَّثَنِي مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ، قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ
(3)
، يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلتُهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "أعمل به".
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً"، قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(الْأَوْزَاعِيَّ) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الفقيه، ثقةٌ فاضل جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ) هو: الوليد بن هشام بن معاوية بن هشام بن عُقبة بن أبي مُعَيط الأمويّ، أبو يعيش الْمُعيطيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن عمر بن عبد العزيز، وكان عامله على قِنِّسرين، وعن أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعبد اللَّه بن مُحيريز، ومعدان بن أبي طلحة، وأم الدرداء، وغيرهم.
وروى عنه ابنه يعيش، والأوزاعيّ، والوليد بن سليمان بن أبي السائب، وأبو صالح الليثيّ، ورجاء بن أبي سلمة، وابن عيينة، وآخرون.
قال ابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس بحديثه، ثنا دُحَيم، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعيّ، حدّثني الوليد بن هشام، وهو ثقة عدلٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن عساكر: بلغني أنه عاش إلى دولة مَرْوان بن محمد.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.
5 -
(مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ) هو: معدان بن أبي طلحة، ويقال: ابن طلحة الكِنَانيّ اليعمريّ الشاميّ، ثقةٌ [2].
رَوَى عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، وثوبان، وعمرو بن عَبَسة.
وروى عنه سالم بن أبي الجعد، والسائب بن حُبيش، والوليد بن هشام المعيطيّ، ويعيش بن الوليد على خلاف فيه.
قال ابن معين: أهل الشام يقولون: ابن طلحة، وقتادة وهؤلاء يقولون: ابن أبي طلحة، وأهل الشام أثبت فيه، وقال ابن سعد، والعجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن سعد، ومسلم، وخليفة، في الطبقة الأولى من أهل الشام.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (488) و (567) و (809) و (811) و (946) و (1617) و (2301).
[تنبيه]: قوله: "الْيَعْمَريُّ" -بفتح الياء التحتانيّة، والميم، وبينهما عين مهملة ساكنة، آخره راء-: نسبة إلى يَعْمَر بطنٌ من كندة، قاله في "اللُّبّ"
(1)
.
6 -
(ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) صَحِبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات رضي الله عنه بحِمْص سنة (54)(م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالشاميين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره، فانتفت منه تهمة تدليس الوليد، وتسويته، فإنه ممن اشتهر بذلك.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولازمه في سفر وحضر إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم.
شرح الحديث:
عن مَعْدَانُ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ، أنه (قَالَ: لَقِيتُ) أي استقبلت، يقال: لَقِتُه ألقاه، من باب تَعِب لُقِيًّا، والأصل على فُعُول، ولُقًى بالقصر، ولِقَاءً بالكسر والمدّ: إذا استقبلته (ثَوْبَانَ) بفتح الثاء المثلّثة، وسكون الواو (مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حيث إنه اشتراه، فأعتقه، فاشتراه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وكان من
(1)
راجع: "لُبّ اللباب" 2/ 340.
أهل السِّرا، وهي موضع بين مكة واليمن، وقيل: إنه من حِمْيَر، وقيل: من أَلْهان، وقيل: من حَكَم بن سَعْد العشيرة، فأصابه سباء، فاشتراه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، فلم يزل معه صلى الله عليه وسلم حتى تُوفّي، فخرج إلى الشام، فنزل بالرَّمْلة، ثم انتقل إلى حِمْصَ، فابتنى بها دارًا، ولم يزل بها إلى أن مات سنة (54).
(فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ) وفي رواية النسائيّ: "دُلّني على عمل ينفعني"(أَعْمَلُهُ) وفي نسخة: "أعمل به"، و"أعملُ" بالرفع على أن الجملة صفة لـ "عَمَل"، وكذلك قوله:"يُدخلني"، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أعمله" يجوز أن يكون "أعمله" مجزومًا جوابًا للأمر، و"يُدخلني" بدلًا منه، وذلك لأن مَعْدان لَمّا كان معتقدًا لكون الإخبار سببًا لعمله صحّ ذلك، وأن يكون مرفوعًا صفةً لـ "عمل". انتهى
(1)
.
(يُدْخِلُني) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإدخال (اللَّهُ بهِ الْجَنَّةَ، أَوْ) للشكّ من بعض الرواة (قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ) أَي أخبرني بأحبّ الأعمال إلى اللَّه تعالى حتى أعمل به (فَسَكَتَ) وفي رواية النسائيّ: "فسكت عنّي مليًّا"، أي ساعة طويلة (ثُمَّ سَأَلْتُهُ) أي عما سأله أوّلًا، قال القاري رحمه الله: يَحْتَمل أن يكون السؤال في زمان آخر، وأن تكون "ثُمّ" لمجرّد العطف. انتهى
(2)
. والظاهر الثاني، واللَّه تعالى أعلم.
(فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ) إنما كرّر عليه؛ لكون المسؤول عنه مما لا ينبغي تركه، والظاهر أن سكوته لكونه مشغولًا بأمر آخر، وفي "المرعاة": ولعلّ سكوته لامتحان حال السائل في الجدّ في السؤال والطلب. انتهى
(3)
. (فَقَالَ) ثوبان رضي الله عنه (سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ) أي عما سألتني عنه، وهو العمل الذي يدخل الجنّة (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) أي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ("عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ) أي الْزَم السجود له، قال النوويّ رحمه الله: المراد به السجود في الصلاة. انتهى
(4)
. وقال ابن الملك رحمه الله: أراد به السجود للصلاة، أو للتلاوة، أو للشكر. انتهى
(5)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1028.
(2)
"المرقاة" 2/ 616.
(3)
"المرعاة" 3/ 215 - 216.
(4)
"شرح النوويّ" 4/ 206.
(5)
"المرقاة" 2/ 616.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن الملك: أقرب لظاهر عموم النصّ، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: "عليك" اسم فعل أمر، بمعنى "الْزَمْ"، منقولٌ من الجارّ والمجرور، قال في "الخلاصة":
وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ "عَلَيْكَا"
…
وَهَكَذَا "دُونَكَ" مَعْ "إِلَيْكَا"
ويتعدّى بنفسه، نحو عليك زيدًا، أي الزمه، فـ "زيدًا" منصوب على المفعوليّة، ويتعدّى بالباء أيضًا، كما في هذا الحديث، وكحديث:"فعليك بذات الدين"، فيكون بمعنى استمسك مثلًا، وقيل: إن الباء زائدة؛ لأنها تزاد كثيرًا في مفعول اسم الفعل؛ لضعف عمله، وأما الكاف فهي ضمير عند الجمهور، لا حرف خطاب، كما هو مبسوط في محلّه من كتب النحو.
(فَإنَّكَ) الفاء للتعليل، أي إنما أمرتك بكثرة السجود؛ لأنك (لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً) مفعول مطلق أريد به بيان الوحدة، أي سجدة واحدةً (إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً)"إلا" أداة استثناء مُلغاة، والجملة في محلّ نصب على الحال، و"درجةً" منصوب على التمييز.
والمعنى: إنك لا تسجد سجدة واحدة للَّه تعالى، إلا في حال كون اللَّه تعالى رافعًا إياك بسببها درجةً.
وذلك أنه لما تواضع للَّه تعالى غاية التواضع بوضع أشرف أعضائه، وهو الوجه على الأرض، وباعد نفسه عن الكبر جازاه اللَّه تعالى بأن رفع درجته.
وقال النوويّ رحمه الله: سبب الحثّ على كثرة السجود ما سبق في الحديث الماضي: "أقربُ ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد"، وهو موافق لقول اللَّه تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، ولأن السجود غاية التواضع والعبودية للَّه تعالى، وفيه تمكين أعزّ أعضاء الإنسان، وأعلاها، وهو وجهه من التراب الذي يُدَاسُ، ويُمْتَهَن. انتهى
(1)
.
ولفظ النسائيّ: فقال: عليك بالسجود، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من عبد يسجد للَّه سجدةً، إلا رفعه اللَّه عز وجل بها درجةً، وحطّ عنه بها خطيئة".
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 206.
(وَحَطَّ عَنْكَ) أي أزال عنك، يقال: حَطَّ الرَّحْلَ وغيرَه حَطًّا، من باب نصر: أنزله من عُلو إلى سُفل، وحَطَطْتُ من الدين: أسقطت منه، والمناسب هنا المعنى الثاني، أي أزال عنك (بِهَا) أي بسبب تلك السجدة (خَطِيئَةً") مفعول "حطّ"، أي ذنبًا (قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبا الدَّرْدَاءِ) هو: عُوَيمر بن مالك، وقيل: ابن عامر، وقيل: ابن ثعلبة، وقيل: ابن عبد اللَّه، وقيل: ابن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عديّ بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ، أبو الدرداء الخزرجيّ.
وقال الْكُدَيميّ عن الأصمعيّ: اسمه عامر، وكانوا يقولون له: عُويمر، وكذا قال عمرو بن عليّ عن بعض ولده.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة، وزيد بن ثابت. وروى عنه ابنه بلال، وزوجته أم الدرداء، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة، ومعدان بن أبي طلحة، وأبو إدريس الخولاني، وأبو مرة، مولى أم هانئ، وأبو حبيبة الطائي، وأبو السَّفَر الْهَمْداني مرسل، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وجُبير بن نُفير، وسويد بن غَفَلَة، وزيد بن وهب، وصفوان بن عبد اللَّه بن صفوان، وعلقمة بن قيس، وكثير بن قيس، وسعيد بن المسيّب، وأبو بَحْرية عبد اللَّه بن قيس، وكثير بن مرة، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن كعب القرظي، وهلال بن يساف، وآخرون.
قال أبو مُسْهِر، عن سعيد بن عبد العزيز: أسلم يوم بدر، وشهد أُحُدًا، وأبلى فيها، وقال الأعمش، عن خيثمة عنه قال: كنت تاجرًا قبل البعثة، فزاولت بعد ذلك التجارة والعبادة، فلم يجتمعا، فأخذت العبادة، وتركت التجارة.
وقد علّق على هذا الحافظ الذهبيّ رحمه الله، فقال: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، وهذا الذي قاله هو طريق جماعة من السلف، والصوفيّةِ، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك، فبعضهم يَقوَى على الجمع، كالصدّيق، وعبد الرحمن بن عوف، وكما كان ابن المبارك، وبعضهم يَعْجِز، ويقتصر على العبادة، وبعضهم يَقْوَى في بدايته، ثم يعجز، وبالعكس، وكلّ سائغ، ولكن لا
بدّ من النهضة بحقوق الزوجة والعيال. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله
(1)
، وهو نفيسٌ.
وقال صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد: "نعم الفارس عُويمر"، وقال:"حكيم أمتي"، ومناقبه وفضائله كثيرة جِدًّا.
قال أبو مُسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: مات أبو الدرداء، وكعب الأحبار، في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته، وقال الواقدي، وغير واحد: مات سنة اثنتين وثلاثين. وقال ابن حبان: وَلَّاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب، وقال ابن سعد: آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين عوف بن مالك، وقال ابن عبد البر: قالت طائفة من أهل الأخبار: مات بعد صِفِّين، قال: والأصح عند أهل الحديث أنه تُوُفّي في خلافة عثمان، وصحح ابن الحذّاء قول البخاريّ: إنه عُويمر بن زيد، وقال عمرو بن عليّ عن بعض ولده: مات قبل عثمان بسنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
(فَسَأَلْتُهُ) وفي رواية النسائيّ: "فسألته عما سألت عنه ثوبان"، أي عن العمل الذي يدخله الجنّة (فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ) رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ: فقال لي: عليك بالسجود، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من عبد يسجد للَّه سجدة إلا رفعه اللَّه بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"سير أعلام النبلاء" 2/ 338.
(2)
هذا هو الذي في برنامج الحديث، والذي ذكرته في "قرّة العين" نقلًا عن ابن الجوزيّ أنه رَوَى (179) حديثًا، اتّفق الشيخان على حديثين، وانفرد البخاريّ بثلاثة، ومسلم بثمانية، والظاهر أن الاختلاف بالتكرار، كما يظهر من أرقام قائمة مرويّاته في البرنامج، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ثوبان وأبي الدرداء رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 1098](488)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(388 و 389)، و (النسائيّ) فيها (2/ 228)، و (ابن ماجه) فيها (1423)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4846)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(986)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 276 و 285)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(316)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1735)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1858)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1085)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 485)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(388)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل السجود، وأنه من أفضل الأعمال التي يُتقرّب بها إلى اللَّه عز وجل، تمحى بها الذنوب، وترفع بها الدرجات.
2 -
(ومنها): الحث على كثرة السجود، والترغيب فيه، والمراد به السجود في الصلاة.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا لمن يقول: تكثير السجود أفضل من إطالة القيام، وقد تقدمت المسألة، والخلاف فيها في الباب الذي قبل هذا، وأن الأرجح قول من قال: إن تطويل القيام أفضل من كثرة السجود؛ لأن صيغة "أفعل" الدالّة على التفضيل إنما جاء في فضل القيام، لا في السجود، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت"، أي القيام، وهذا نصّ صريح في تفضيل طول القيام على كثرة السجود، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص على السؤال عن أفضل الأعمال التي يتقرّبون بها إلى اللَّه تعالى، ويستوجبون بها رضاه ومحبّته، والدار الآخرة؛ إذ هي المهمّ للعاقل؛ لأنها الدار الباقية، وهي الحياة الأبديّة الدائمة، قال اللَّه تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
5 -
(ومنها): أن كثرة نوافل الأعمال، ولا سيّما السجود، مما يوجب محبّة الربّ عز وجل، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل، حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما تَرَدَّدتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يَكْرَه الموت، وأنا أكره مَسَاءته"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1099]
(489) - (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ أَبيتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ
(1)
بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي:"سَلْ"، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ:"أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ " قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ:"فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، أَبُو صَالِحٍ) الْقَنْطريّ البغداديّ، ثقةٌ
(2)
[10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
2 -
(هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ) بن عُبيد اللَّه، ويقال: بن عُبيد، السَّكْسَكِيّ -بمهملتين مفتوحتين، بينهما كاف ساكنة- مولاهم الدمشقيّ، نزيل بيروت، وقيل: هو لَقَبٌ، واسمه محمد، وقيل: عبد اللَّه، وكان كاتب الأوزاعيّ، ثقةٌ متقنٌ [9].
(1)
وفي نسخة: "فآتيه".
(2)
قال عنه في "التقريب": صدوقٌ، والذي يظهر لي أنه ثقةٌ، كما يتبيّن ذلك مما قاله الأئمة في ترجمته.
رَوَى عن الأوزاعيّ، وحَرِيز بن عثمان، وخالد بن دُرَيك، وبكر بن خُنَيس، وطلحة بن عمرو المكيّ، وعمر بن قيس، وهشام بن حسان، والمثنى بن الصباح، وغيرهم.
وروى عنه ابنه محمد، والليث بن سعد، وهو أكبر منه، وأبو مُسْهِر، ومروان بن محمد، ومنصور بن عمار، وبَقِيّة، وهشام بن إسماعيل العطار، والحكم بن موسى، وهشام بن عمار، وعلي بن حُجْر، وآخرون.
قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد بن حنبل: لا يُكْتَب حديث الأوزاعيّ عن أوثق من هِقْل، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: كان أبو مُسهِر يرضاه، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قال أبو مسهر: هو المقدَّم، وقال ابن معين: قال أبو مسهر: ما كان ها هنا أحدٌ أثبتُ في الأوزاعيّ من هِقْل، وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ صدوقٌ، وقال الغلابي، عن ابن معين: ما كان بالشام أوثق منه، وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو صالح، حدّثني الهِقْل بن زياد، وهو ثقة من الثقات، من أعلى أصحاب الأوزاعيّ، وقال مروان بن محمد: كان أعلم الناس بالأوزاعيّ عشرةٌ، أولهم هِقْل، وقال أبو زرعة الرازيّ، والعجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن عمار: الهقل من أثبت أصحاب الأوزاعيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو سليمان بن زَبْر، عن أبيه، عن إسحاق بن خالد: سمعت أبا مسهر يقول: ومن أصحابه الأثبات الهقل بن زياد، وكان الأوزاعيّ أوصى إليه، وكان حافظًا متقنًا.
مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكذا قال ابن يونس في تاريخ وفاته، وقال ابن قانع: مات سنة إحدى وثمانين، وهو ثبت.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (489) و (588) و (792) و (1536) و (1596) و (2278).
3 -
(الْأَوْزَاعِيَّ) عبد الرحمن بن عمرو المذكور في السند الماضي.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ) هو: ربيعة بن كعب بن مالك الأسلميّ، أبو فِرَاس المدنيّ، كان مَن أهل الصُّفّة، خَدَمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونزل بعد موته على بَريد من المدينة.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وحنظلة بن عليّ الأسلميّ، ونُعيم المجمر.
ويقال: إنه أبو فِرَاس الذي رَوَى عنه أبو عِمْران الْجَوْنيّ، وقد رُويَ عن أبي عمران، عن ربيعة الأسلمي.
قال الحافظ رحمه الله: وصوَّب الحاكم أبو أحمد، وابن عبد البرّ تبعًا للبخاريّ أن ربيعة بن كعب غير أبي فِرَاس الذي رَوَى عنه أبو عِمْران.
وذَكَر مسلم، والحاكم في "علوم الحديث" أن ربيعة تفرَّد بالرواية عنه أبو سلمة، وليس ذلك بجيِّد؛ لما تراه من ذكر رواية هؤلاء عنه، لكن قولُ المزيّ: إن محمد بن عمرو بن عطاء رَوَى عنه ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يأخذ عنه، وإنما رَوَى عن نعيم المجمر عنه، كما هو في "مسند أحمد" وغيره، واللَّه أعلم.
قال: هكذا تعقبه شيخنا -يعني العراقيّ- في "النكت على ابن الصلاح"، وقد وردت رواية محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي فِراس الأسلميّ، عند ابن منده في "المعرفة" وغيره، فمن قال: إن أبا فراس هو ربيعة، فوَحَّدَهما أثبت رواية محمد بن عمرو بن عطاء عنه بهذا، ومن زَعَم أنهما اثنان أمكن اثنان، قال الشيخ: لكن الحديث الذي أورده ابن منده هو متن الحديث الذي أورده مسلم لربيعة بن كعب، وإن كان في ألفاظه اختلاف، فيَقْوَى أنه واحد.
وكذلك رَوَى الحاكم في "المستدرك" من طريق المبارك بن فَضَالة: حدَّثني أبو عِمران الْجَوْنيّ، حدَّثني ربيعة بن كعب الأسلميّ، قال: كنت أخدُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي:"يا ربيعة ألا تَزَوَّج؟ "، وهذا هو الحديث الذي رُوي عن أبي عمران، عن أبي فِراس، فَيَتَّجِه أنه هو، واللَّه أعلم. انتهى.
وقد ذكر غير واحد أنه مات سنة (63) بعد الْحَرّة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، و"المصنّف"، والأربعة، وليس له عنهم إلا هذا الحديث فقط.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وعلّق له البخاريّ، وأخرج له أبو داود في "المراسيل"، وهقل، ما أخرج له البخاريّ، وكذا الصحابيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من يحيى بن أبي كثير، فقد سكن المدينة عشر سنين، وشيخه، بغداديّ، والباقيان دمشقيّان.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا حديث الباب فقط.
شرح الحديث:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله، أنه قال:(حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ) رضي الله عنه (قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ) من البيوتة، أي أكون معه في الليل.
قال الفيّوميّ رحمه الله: بَاتَ يَبِيتُ بَيْتُوتَةً، ومَبِيتًا، ومَبَاتًا، فهو بائت، وتأتي نادرًا بمعنى نام ليلًا، وفي الأعم الأغلب بمعنى فَعَلَ ذلك الفعل بالليل، كما اختَصَّ الفعل في "ظَلَّ" بالنهار، فإذا قلت: بات يَفْعَل كذا، فمعناه: فعله بالليل، ولا يكون إلا مع سَهَر الليل، وعليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64] الآية.
وقال الأزهريّ: قال الفراء: بات الرجل: إذا سَهِرَ الليل كلَّه في طاعة، أو معصية.
وقال الليث: مَن قال: بات بمعنى نام، فقد أخطأ، ألا ترى أنك تقول: بات يَرْعَى النجومَ، ومعناه ينظر إليها، وكيف ينام من يراقب النجوم؟.
وقال ابن الْقُوطِيَّة أيضًا، وتبعه السَّرَقُسْطيّ، وابن القطاع: بات يفعل كذا: إذا فعله ليلًا، ولا يقال: بمعنى نام.
وقد تأتي بمعنى صار، يقال: بات بموضع كذا، أي صار به، سواء كان في ليل أو نهار، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه لا يدري أين باتت يده"، والمعنى: صارت، ووَصَلَت، وعلى هذا المعنى قول الفقهاء: بات عند امرأته ليلةً، أي صار عندها، سواء حَصَل معه نوم أم لا، وبَاتَ يَبَاتُ، من باب تَعِبَ لغة. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: فمعنى "أبيت" هنا هو وجوده عنده صلى الله عليه وسلم لخدمته، ولا يريد نومه، ويدلّ عليه قوله:"فأتيته إلخ"، واللَّه تعالى أعلم.
(مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ظرف لـ "أبيتُ"، قال في "المرقاة": ولعلّ هذا وقع له في السفر، وقال ابن حجر: أي إما في السفر، أو الحضر، والمراد بالمعيّة القرب منه بحيث يسمع نداءه إذا ناداه لقضاء حاجته. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: يؤيّد كونه في الحضر قوله في رواية أحمد: "كنت أخدُم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه، نهاري أجمع، حتى يصلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته. . . " الحديث.
(فَأَتَيْتُهُ) وفي نسخة: "فآتيه" بصيغة مضارع المتكلّم، (بِوَضُوئِهِ) بفتح الواو؛ لأن المراد الماء الذي يتوضّأ منه، وقوله:(وَحَاجَتِهِ) من عطف العامّ على الخاصّ، أى بما يَحتاج إليه، من نحو سواك، وغيره.
[تنبيه]: هذا الحديث اختصره المصنّف رحمه الله، وقد ساقه الإمام أحمد في "مسنده" مطوّلًا، فقال:
(15984)
حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا أَبِي، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني محمد بن عمرو بن عطاء، عن نُعيم المجمر، عن ربيعة بن كعب، قال: كنت أخدُم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه، نهاري أجمع، حتى يصلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تَحْدُث لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجة، فما أزال أسمعه يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 67 - 68.
(2)
"المرقاة" 2/ 615.
"سبحان اللَّه، سبحان اللَّه، سبحان اللَّه وبحمده"، حتى أَمَلَّ، فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقدَ، قال: فقال لي يومًا لِمَا يرى من خفتي له، وخدمتي إياه:"سلني يا ربيعة أعطك"، قال: فقلت: أَنْظُر في أمري يا رسول اللَّه، ثم أُعْلِمك ذلك، قال: ففكرت في نفسي، فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقًا سَيكفيني ويأتيني، قال: فقلت: أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لآخرتي، فإنه من اللَّه عز وجل بالمنزل الذي هو به، قال: فجئت، فقال:"ما فعلتَ يا ربيعة؟ "، قال: فقلت: نعم يا رسول اللَّه، أسألك أن تشفع لي إلى ربك، فيعتقني من النار، قال: فقال: "من أمرك بهذا يا ربيعة؟ "، قال: فقلت: لا واللَّه الذي بعثك بالحقّ ما أمرني به أحدٌ، ولكنك لَمّا قلت:"سلني أعطك"، وكنتَ من اللَّه بالمنزل الذي أنت به، نظرتُ في أمري، وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، فقلت: أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لآخرتي، قال: فصمت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طويلًا، ثم قال لي:"إني فاعل، فأعنّي على نفسك بكثرة السجود". انتهى.
وهذا إسناد صحيحٌ، وقد صرّح فيه ابن إسحاق بالتحديث، فزالت تهمة التدليس منه.
(فَقَالَ لِي: "سَلْ") بفتح السين المهملة، أمر من سأل يسأل، وأصله اسأل، فخُفّف، ويَحتمل أن يكون أمرًا من سال يسال، كخاف يخاف، لغة في سأل يسأل بالهمزة
(1)
.
والمعنى: اطلب مني حاجتك حتى أكافئك في خدمتك لي.
(فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ) أي كوني رفيقًا لك فيها، ولا ينافي هذا ما تقدّم في رواية أحمد:"أسألك أن تشفع لي إلى ربك، فيعتقني من النار"؛ لأن أحدهما يستلزم الآخر؛ لأنه إذا أعتق من النار، دخل الجنّة، وإذا دخل الجنّة، فقد رافقه صلى الله عليه وسلم فيها، ويَحْتمل أن يكون المراد بالمرافقة مرافقةً خاصّة، بأن يكون قريبًا من درجته، وهذا أيضًا لا ينافي ما ذُكر، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ ") قال النوويّ رحمه الله: "أَوَ" بفتح الواو.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 297.
انتهى
(1)
. وقال القرطبيّ رحمه الله: رويناه بإسكان الواو من "أو"، ونصب "غير". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: إن تعيّنت الرواية بأحد الوجهين، فلا ينبغي العدول عنها، وإلا فالكلام محتمل للوجهين؛ إذ يَحْتَمِل أن تكون الهمزة للاستفهام، دخلت على واو العطف، و"غيرَ" مفعول لفعل مقدّر، أي أتسأل غير ذلك، من أمور الدنيا، كالغنى ونحوه.
ويَحْتَمِلُ أن تكون "أَوْ" بسكون الواو للإضراب، بمعنى "بل"، أي بل أسأل غير ذلك من الحوائج، واللَّه تعالى أعلم.
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "أو غير ذلك" قيل: لعله صلى الله عليه وسلم فَهِم منه المساواة معه في درجته، وذلك مما لا ينبغي لغيره، فلذلك قال له:"أو غير ذلك"، أي سل غير هذا، فلما قال له الرجل:"هو ذاك" قال له: "فأعنّي على نفسك إلخ"؛ ليزداد من القرب، ورفعة الدرجات حتى يقرب من منزلته، وإن لم يساوه فيها، فإن السجود معرج القُرَب، ومدار رفعة الدرجات، قال اللَّه تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان رضي الله عنه الماضي:"لا تسجد للَّه سجدةً إلا رفعك اللَّه بها درجةً"، ولأن السجود غاية التواضع للَّه، والعبوديّة له؛ إذ فيه تمكين أعزّ عضو الإنسان، وأرفعه، وهو وجهه من أدنى الأشياء، وهو التراب، والأرض المدوسة بالأرجل والنعال. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أو غير ذلك" رويناه بإسكان الواو من "أو"، ونصب "غيرَ"، أي أو سل غير ذلك، كأنه حضّه على سؤال شيء آخر غير مرافقته؛ لأنه فَهِمَ منه أن يطلُب المساواةَ معه في درجته، وذلك مما لا ينبغي لغيره، فلما قال الرجل:"هو ذاك"، قال له:"أعنّي على نفسك بكثرة السجود"، أي الصلاة؛ ليزداد من القرب، ورفعة الدرجات حتى يقرُب من منزلته، وإن لم يساوه فيها.
قال: ولا يُعترض هذا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه حُذيفة رضي الله عنه ليلة
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 206.
(2)
"المفهم" 2/ 93.
(3)
راجع: "إكمال العلم" 2/ 403.
الأحزاب: "ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم، جعله اللَّه معي يوم القيامة"
(1)
؛ لأن هذا مثل قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية [النساء: 69]؛ لأن هذه المعيّة هي النجاة من النار، والفوز بالجنّة، إلا أن أهل الجنّة على مراتب، ومنازلهم بحسب أعمالهم وأحوالهم، وقد دلّ على هذا أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:"المرء مع من أحبّ". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ) مبتدأ وخبره، أي المسئول ما ذكرته لك، من مرافقتي لك في الجنّة، لا غيره (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَعِنِّي) الفاء فاء الفصيحة، أي إذا كان مطلوبك ما ذكرته، فأعني (عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) الجارّان متعلّقان بـ "أعنِّي"، أي كن عونًا لي على تحصيل مطلوبك الذي هو مرافقتك لي في الجنّة بكثرة السجود للَّه تعالى، والظاهر أنه عموم السجود، ويَحْتَمِل أن يكون المراد به الصلاة، وخصّ السجود بالذكر؛ لأنه مُذلّ للنفس، وقاهر لها؛ لما فيه من وضع أشرف الأعضاء، وأعلاها على الأرض، وأيّ نفس خضعت للَّه تعالى استحقّت رحمته وإحسانه، ورفع درجاته، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن ابن عمر عن عمر قال: لا أعلمه إلا رفعه، قال: "يقول اللَّه تبارك وتعالى: مَن تواضع لي هكذا - وجعل يزيد
(2)
باطن كفه إلى الأرض، وأدناها إلى الأرض -رفعته هكذا- وجعل باطن كفه إلى السماء، ورفعها نحو السماء".
وأخرج أحمد، وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من يتواضع للَّه سبحانه درجة، يرفعه اللَّه به درجة، ومن يتكبر على اللَّه درجةً يضعه اللَّه به درجةً حتى يجعله في أسفل السافلين"، وفيه درّاج، عن أبي الهيثم، ضعيف.
وقال بعضهم: المراد تعظيم تلك الحاجة، وأنها تحتاج إلى معاونة منك، ومجرّدُ السؤال مني لا يكفي فيها.
(1)
سيأتي للمصنّف في "كتاب الجهاد" برقم (1788).
(2)
هو يزيد بن هارون الراوي.
أو المعنى: فوافقني بكثرة السجود قاهرًا بها نفسك، أو أعنّي على قهر نفسك بكثرة السجود، كأنه أشار إلى أن ما ذكرته لا يحصل إلا بقهر النفس التي هي أعدى عدوّ المرء، فلا بدّ لك من قهرها بصرفها عن غيّها وتكبّرها بالتواضع، فإن السجود كاسرٌ للنفس، ومذلّ لها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ربيعة بن كعب الأسلميّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 1099](489)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1320)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3416)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 227 - 228)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3879)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 57 - 58)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4570 و 4571 و 4572 و 4573 و 4574 و 4575)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2594 و 2595)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1859 و 1860 و 1861)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1086)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 486)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على كثرة السجود؛ لأنه سبب لرفع الدرجات، ومحو الخطيئات.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، حيث كان شديد الاهتمام بالآخرة، دون الدنيا؛ لقرب زوالها، ودناءة مقدارها، والآخرة خير وأبقى، فالفوز الحقيقيّ هو الفوز في الآخرة، قال اللَّه عز وجل:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
3 -
(ومنها): بيان شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث اهتمّ بهذا الصحابيّ؛ لقيامه بخدمته، فأراد أن يكافئه على ذلك، وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم مع من يخدمه،
فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن زياد بن أبي زياد، مولى بني مخزوم، عن خادم للنبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٍ، أو امرأةٍ، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يقول للخادم: "ألك حاجة؟ "، قال: حتى كان ذات يوم، فقال: يا رسول اللَّه حاجتي؟ قال: "وما حاجتك؟ "، قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، قال:"ومَن دَلّك على هذا؟ "، قال: ربي، قال:"إما لا، فأعنّي بكثرة السجود"
(1)
.
4 -
(ومنها): أنه ينبغي للرئيس أن يهتمّ بحوائج مرؤوسيه المحسنين إليه، وسؤاله إياهم ما يحتاجون إليه، حتى يُعينهم على حوائجهم بما يستطيعه، فإن لم يستطع دعا لهم، فقد أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائيّ بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من استعاذ باللَّه فأعيذوه، ومن سألكم باللَّه فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه، فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه"
(2)
.
5 -
(ومنها): جواز طلب الرتبة الرفيعة، من مرافقة الأنبياء، ونحو ذلك.
6 -
(ومنها): بيان أن من الناس من يكون مع الأنبياء عليهم السلام في الجنّة.
7 -
(ومنها): الحثّ على مجاهدة النفس وقهرها بكثرة الطاعة، وعلى أن نيل المراتب العليّة بمخالفة النفس الدنيّة.
8 -
(ومنها): مزيد فضل الصلاة، وأن الإكثار منها سبب لعلوّ الدرجات، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "المسند" برقم (15646).
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد برقم (5342)، وأبو داود برقم (1672 و 5109)، والنسائيّ برقم (2567).
(45) - (بَابُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، وَالنَّهْي عَنْ كَفِّ الشَّعْرِ وَالثَّوْبِ، وَعَقْصِ الشَّعْرِ فِي الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1100]
(490) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ شَعْرَهُ وَثِيَابَهُ، هَذَا حَدِيثُ يَحْيَى، وقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ شَعْرَهُ وَثِيَابَهُ: الْكَفَّيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، وَالْجَبْهَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْد) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179) عن (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
5 -
(طَاوُس) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد اللَّه الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا إلخ"، وذلك لبيان اختلاف شيخيه في كيفيّة التحمّل، وصيغتي الأداء، فالأول أخذه عن حماد قراءةً، والثاني سماعًا.
4 -
(ومنها): أن قوله: "حماد بن زيد" مرفوع على الفاعليّة على سبيل التنازع لـ "أخبرنا"، وحدّثنا".
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن طاوس، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ)"أُمر" بالبناء للمفعول، و"أن" مصدريّة "وَيسْجُد" بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والجملة صلة "أن".
وقال السنديّ رحمه الله: "أُمِرَ" على بناء المفعول، و"أن يَسْجُد" على بناء الفاعل، ويَحْتَمِلُ أن يُعْكَسَ، ويَحْتَمِل بناؤهما للفاعل على أن ضمير "يَسْجُدَ" للمصلي.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الاحتمالات لا بدّ أن تصحّ روايةً، والظاهر أن الوجه الأول هو الرواية، كما صرّح به الحافظ رحمه الله، حيث قال في "شرحه" رواية البخاريّ من طريق سفيان، عن عمرو ما نصّه: قوله: "أُمِرَ" هو بضم الهمزة في جميع الروايات، بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله، والمراد به اللَّه جل جلاله، قال البيضاويّ: عُرِف ذلك بالعُرْف، وذلك يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة افْعَلْ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا النظر غير صحيح، بل الحقّ أن الأمر هنا للوجوب؛ لأنه لا فرق بين قوله: افْعَلْ كذا، وبين قوله: "أمرتك أن تفعل
(1)
"الفتح" 2/ 345.
كذا"، قال الشوكانيّ رحمه الله ردًّا على هذا النظر ما نصّه: وهو ساقطٌ؛ لأن لفظ "أمر" أدلّ على المطلوب من صيغة "افعل"، كما تقرّر في الأصول، ولكن الذي يتوجّه على القول باقتضائه الوجوب على الأمة أنه لا يتمّ إلا على القول بأن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، وفيه خلاف معروفٌ، ولا شكّ أن عموم أدلّة التأسّي تقتضي ذلك، وقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من رواية شعبة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عبّاس بلفظ: "أُمرنا"، وهو دالٌّ على العموم. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح في الأصول أن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، كعكسه، وإلى هذا أشرت بقولي:
خِطَابُهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُصْطَفَى
…
يَعُمُّنَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقْتَفَى
لأَنَّهُ أُسْوَتُنَا فَإِنْ وَرَدْ
…
دَلِيلُ مَا يَخُصُّهُ فَلْيُعْتَمَدْ
كَذَا خِطَابُهَا يَعُمُّهُ إِذَا
…
لَمْ يَأْتِ مَا يَخُصُّهَا فَيُحْتَذَى
[فإن قلت]: ظاهر قوله: "أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وكذا الرواية التالية:"أُمِرتُ أن أسجُد على سبعة أعظم"، يدلّ على الخصوصيّة، فمن أين يؤخذ أمر الأمة بذلك؟.
[قلت]: يؤخذ من الروايات الأخرى التي فسّرت أن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم ما يعمّه هو وأمته، فقد فسّره حديث العباس بن عبد المطّلب رضي الله عنه الآتي في الباب، أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف. . . " الحديث، فقد بيّن أن الأمر عامّ له صلى الله عليه وسلم، ولأمته.
وكذا رواية البخاريّ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من طريق شعبة، عن عمرو بن دينار بلفظ:"أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم. . . " الحديث، فتبيّن بهذا أن الخصوصيّة ليست مرادة هنا، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "الفتح" عند شرح رواية شعبة المذكورة ما نصّه: وعُرِف بهذا أن ابن عباس رضي الله عنهما تلقّاه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إما سماعًا منه، وإما بلاغًا عنه، وقد أخرجه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بلفظ: "إذا سجد العبد سجد
(1)
"نيل الأوطار" 2/ 299.
معه سبعة آراب. . . " الحديث، وهذا يرجح أن النون في "أُمِرنا" نون الجمع، والآراب بالمد جمع إِرْب، بكسر أوله، وإسكان ثانيه، وهو العضو، ويَحْتَمِل أن يكون ابن عباس تلقاه عن أبيه رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
(عَلَى سَبْعَةٍ) متعلّق بـ "يسجد"، أي على سبعة أعضاء (وَنُهِيَ) بالبناء للمفعول أيضًا (أَنْ يَكُفَّ) بفتح أوله، وضمّ ثانيه، يقال: كفّ الشيءَ كفًّا، من باب نصر: تركه، وكَفَفتُهُ كَفًّا أيضًا: منعته، فكَفَّ، يتعدّى ويلزم، وما هنا من المتعدّي، ولذا نَصَبَ قوله (شَعْرَهُ وَثيَابَهُ)"الشَّعْر" بسكون العين، وفتحها، ويُجمع الأول على شُعُور، كفلس وفلوس، والثاني على أشعار، كسبب وأسباب، وهو مذكر، والواحدة شعرة
(2)
، والمراد به هنا شعر الرأس.
والمعنى: أنه نُهي عن أن يضمّ، ويَجمع عند السجود شعره، وثيابه؛ صونًا لهما عن التراب، بل يُرسلهما، ويتركهما على حالهما حتى يقعا إلى الأرض، فيكون كلّه ساجدًا للَّه عز وجل.
ويأتي في الرواية التالية بلفظ: "ونُهي أن يَكْفِت الثياب والشعر"، والْكَفْتُ بمثناة في آخره، هو الضمّ، وهو بمعنى الكفّ.
وظاهره يقتضي أن النهي عنه في حال الصلاة، وإليه جنح الداوديّ، وتؤيّده ترجمة الإمام البخاريّ به في "صحيحه" حيث قال:"بابٌ لا يكُفّ ثوبه في الصلاة".
وردّ ذلك عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور، فإنهم كَرِهُوا ذلك للمصلي، سواء فعله في الصلاة، أو قبل أن يدخل فيها، واتَّفقوا على أنه لا يُفْسِد الصلاة، لكن حَكَى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة.
قيل: الحكمة في ذلك أنه إذا رَفَعَ ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبر، أفاده في "الفتح"
(3)
.
وقوله: (هَذَا) مبتدأ، خبره قوله:(حَدِيثُ يَحْيَى) بن يحيى، شيخه
(1)
"الفتح" 2/ 345.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 314 - 315.
(3)
"الفتح" 2/ 345 - 346.
الأول، يعني أن هذا السياق الذي مضى هو سياق يحيى، وأما سياق شيخه الثاني، فأشار إليه بقوله:(وقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الزهرانيّ (عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ) أي بدل قول يحيى: "على سبعة" بلا ذكر التمييز، أي أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم.
و"الأعظم: جمع عَظْم، ويُجمع أيضًا على عِظَام بالكسر، مثلُ سَهْم وأسْهُم وسِهَام، وكأنه سَمّى كلَّ واحد من هذه الأعضاء عظمًا باعتبار الجملة، وإن اشتمل كلّ واحد منها على عِظام كثيرة، فهو من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ.
وقال الصنعانيّ في "حاشية العمدة": قوله: "على سبعة أعضاء" أي معتمدًا عليها في أداء واجب السجود، وهو إيصال المكلّف جبهته إلى الأرض تعظيمًا للَّه تعالى، والساجد هو الشخص، ونسبة السجود إلى الوجه في مثل "سَجَدَ وجهي"، وحديث:"إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه" مجاز عما يقع به السجود. انتهى.
وقوله " (وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ شَعْرَهُ وَثِيَابَهُ) جملة معترضة بين المجمل، وهو قوله: سبعة أعظم"، وتفسيره، وهو قوله:(الْكَفَّيْنِ) هذا تفسير لما في الرواية الآتية بلفظ: "اليدين"، قال ابن دقيق العيد: المراد باليدين هنا الكفان، وقد اعتقد قوم أن مطلق لفظ "اليدين" يُحمل عليهما، كما في قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واستنتجوا من ذلك أن التيمّم إلى الكوعين، وعلى كلّ تقديرٍ، فسواء صحّ هذا أم لا فالمراد ها هنا الكفّان؛ لأنا لو حملناه على بقيّة الذراع لدخل تحت المنهيّ عنه من افتراش الكلب والسبع، ثم تصرّف الفقهاء بعد ذلك، فقال بعض مصنّفي الشافعيّة: إن المراد الراحة، أو الأصابع، ولا يُشترط الجمع بينهما، بل يكفي أحدهما، ولو سجد على ظهر الكفّ لم يكفه، هذا معنى ما قال. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بقوله: "لدخل تحت المنهيّ عنه إلخ" إلى
(1)
"إحكام الأحكام" 2/ 311.
حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب"، الآتي في الباب التالي.
وأما ما ذكره عن بعض الفقهاء من أن المراد الراحة، أو الأصابع، فمما لا دليل عليه، بل هو معارض لعموم النصّ، فلا يُلتفت إليه فتبصّر.
(وَالرُّكبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ) وفي الرواية الآتية: "وأطراف القدمين" وهو تفسير للمراد، وذلك بأن يجعل قدمين قائمتين على بطون أصابعهما، وعقباه مرتفعان، فيستقبل بظهور قدميه القبلة.
وقال النوويّ رحمه الله في "تحقيقه": المعتبر في القدمين بطون الأصابع، وقيل: يكفي ظهر القدم، وفي الكفّين بطنهما، وقيل: يشترط بطن الراحة، وقال ابن عبد البرّ: لو سجد عليهما مقبوضتين جاز ذلك
(1)
.
(وَالْجَبْهَةِ) بفتح، فسكون، جمعها جِبَاهٌ، مثلُ كَلْبة وكلاب، قال الخليل: هي مُسْتَوَى ما بين الحاجبين إلى الناصية، وقال الأصمعيّ: هي موضع السجود، قاله في "المصباح"
(2)
.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: الجبهة: ما أصاب السجود من الأرض، ولا يكفي جانباه، وهما الجبينان. انتهى
(3)
.
وزاد في رواية عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه الآتية:"وأشار بيده على أنفه"، قال في "الفتح": كأنه ضَمَّن "أشار" معنى "أَمَرَّ" بتشديد الراء، فلذلك عدّاه بـ "على" دون "إلى" ووقع في "العمدة" بلفظ "إلى"، وهي في بعض نسخ البخاريّ، من رواية كريمة، وعند النسائيّ من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، فذكر هذا الحديث، وقال في آخره: قال ابن طاوس: "ووضع يده على جبهته، وأمرّها على أنفه"، وقال: هذا واحد، فهذه رواية مفسَّرَة.
قال القرطبيّ: هذا يدلّ على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبَعٌ.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 87.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 91.
(3)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 82.
وقال ابن دقيق العيد: قيل: معناه أنهما جُعِلا كعضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانيةً، قال: وفيه نظرٌ؛ لأنه يلزم منه أن يُكْتَفَى بالسجود على الأنف، كما يُكْتَفى بالسجود على بعض الجبهة، وقد احتُجَّ بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف، قال: والحقّ أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة، وإن أمكن أن يُعْتَقد أنهما كعضو واحد، فذاك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دلّ عليه الأمر.
وأيضًا فإن الإشارة قد لا تُعَيِّن المشار إليه، فإنها إنما تتعلق بالجبهة لأجل العبادة، فإذا تقارب ما في الجبهة أمكن أن لا يعين المشار إليه يقينًا، وأما العبارة فإنها معيّنة لما وضعت له فتقديمه أولى. انتهى.
وما ذكره من جواز الاقتصار على بعض الجبهة قال به كثير من الشافعية، وكأنه أُخِذ من قول الشافعيّ في "الأم": إن الاقتصار على بعض الجبهة يُكْرَه، وقد ألزمهم بعض الحنفية بما تقدم.
ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده.
وذهب الجمهور إلى أنه يجزئ على الجبهة وحدها، وعن الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب من المالكية وغيرهم: يجب أن يَجْمَعهما، وهو قول للشافعي أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: أقلّ السجود مباشرة بعض جبهته مصلاه مع الطمأنينة، والتحامل على موضع سجوده، وارتفاع الأسافل على الأعالي، وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين لم يجب كشفهما قطعًا، بل يكره كشف الركبتين كما نصّ عليه في "الأمّ"، وإذا أوجبنا وضع الكفّين لم يجب كشفهما أيضًا على أظهر القولين، وهو ظاهر الحديث، فإنه دالّ على الوضع فقط، والزائد هل يُجعل علّة للإجزاء، أو جزء علّة؟ فيه نظر، والخلاف متردّد بين الجبهة، فيجب كشفها قطعًا، وبين الركبتين والقدمين فلا يجب قطعًا. انتهى.
(1)
"الفتح" 2/ 346.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مذهب القائلين بوجوب السجود على الجبهة والأنف جميعًا هو الحقّ؛ لظاهر الأمر، وأما القول بوجوب كشف الوجه، أو سائر الأعضاء فمما لا دليل عليه، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 1100 و 1101 و 1102 و 1103 و 1104](490)، و (البخاريّ) في "الأذان"(809 و 810 و 812 و 815 و 816)، و (أبو داود) في "الصلاة"(889 و 890)، و (الترمذيّ) فيها (373)، و (النسائيّ) فيها (2/ 208 و 210 و 216)، و (ابن ماجه) فيها (883 و 884 و 1040)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(2971 و 2972 و 2973)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2603)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 261)، و (الحميديّ) في "مسنده"(493)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 221 و 255 و 279 و 285 و 286 و 324)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 302)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(632 و 634)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1923 و 1924 و 1925)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10855 و 10856 و 10857 و 10858 و 10859 و 10860 و 10861 و 10862 و 10863 و 10864 و 10865 و 10867 و 10868)، وفي "الصغير"(91)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 103 و 108)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 200 و 201)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 256)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1862 و 1863 و 1864 و 1865 و 1866 و 1867)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1087 و 1088 و 1089 و 1090 و 1091)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن أعضاء السجود التي لا يتحقق السجود المأمور به في النصوص إلا بوضعها سبعة.
2 -
(ومنها): أن ظاهر الحديث دالّ على وجوب السجود على هذه الأعضاء، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): بيان النهي عن كفّ الشعر والثوب للصلاة، والحكمة في ذلك أن كفّهما يُشبه فعل المتكبّر، فينافي معنى السجود، وهو التواضع للَّه عز وجل بجميع أعضاء المصلّي، وما يتّصل به.
ثم إن هذا النهي عن كفّ الثوب في الصلاة محمول على غير حالة الاضطرار، فإن من ضمّ إليه ثوبه إذا خاف تكشّف عورته لا يدخل تحت هذا النهي، بل هو من فعل الواجبات، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): بيان أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونهيه يعمّ أمته إلا فيما خُصّ به.
5 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قد يُسْتَدُّل بهذا على أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء، فإن مسمى السجود يحصل بالوضع، فمن وضعها فقد أتى بما أُمر به، فوجب أن يَخْرُج عن العهدة، وهذا يلتفت إلى بحث أصوليّ، وهو أن الإجزاء في مثل هذا، هل هو راجع إلى اللفظ، أم إلى أن الأصل عدم وجوب الزائد على الملفوظ به، مضمومًا إلى فعل المأمور به؟.
وحاصله أن فعل المأمور به هل هو عِلّة الإجزاء، أو جزء علّة الإجزاء، ولم يُخْتَلَف في أن كشف الركبتين غير واجب، وكذلك القدمان، أما الأول فلما يُحْذَر فيه من كشف العورة، وأما الثاني، وهو عدم كشف القدمين، فعليه دليل لطيفٌ جدًّا؛ لأن الشارع وَقَّت المسح على الخفّ بمدة تقع فيها الصلاة مع الخفّ، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين، وانتقضت الطهارة، وبطلت الصلاة، وهذا باطل.
ومن نازع في انتقاض الطهارة بنزع الخفّ، فَيُرَدّ عليه بحديث صفوان الذي فيه:"أُمِرنا أن لا نَنْزِع خفافنا. . . " إلى آخره
(1)
.
(1)
انتقاض الطهارة بنزع الخفّ تقدّم الكلام عليه في محلّه، وأن الأرجح عدم الانتقاض، وللصنعاني في "حاشيته" في هذا المحلّ (2/ 313 - 314) اعتراض على القول بالانتقاض، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
فنقول: لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدّة التي دلّ عليها لفظة "أُمِرنا" المحمولة على الإباحة.
وأما اليدان فللشافعيّ تردد قول في وجوب كشفهما. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد حقّق الإمام ابن دقيق العيد: هذه المسألة، وأجاد فيها.
وحاصل ما دلّ عليه تحقيقه أنه لا يجب كشف أعضاء السجود: الجبهةِ، أو غيرها، كما دلّ عليه ظاهر حديث الباب، ولا نصّ يخالفه ويدلّ على الوجوب.
والحاصل أن المصلّي مأمور بوضع هذه الأعضاء، سواء كانت مكشوفة، أو غير مكشوفة، فإذا تحقّق وضعه لها، فقد أدّى ما وجب عليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم السجود على الأعضاء السبعة:
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر الحديث يدلّ على وجوب السجود على هذه الأعضاء؛ لأن الأمر للوجوب، والواجب عند الشافعيّ منها الجبهة، لم يتردد قوله فيه، واختَلَفَ قوله في اليدين والركبتين والقدمين، وهذا الحديث يدلّ للوجوب، وقد رَجّح بعض أصحابه عدم الوجوب، ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قويّ أقوى من دلالته، فإنه استَدَلّ لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة رضي الله عنه
(1)
: "ثم يسجدُ، فَيُمَكِّن جبهته"، وهذا غايته أن تكون دلالته دلالة مفهوم، وهو مفهوم لقب، أو غاية
(2)
، والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه، وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم، كما مرَّ لنا في قوله صلى الله عليه وسلم:"جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، مع قوله:"جُعلت لنا الأرض مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا"، فإنه ثَمَّ يُعْمَل بذلك
(1)
أراد حديث رفاعة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته، وقد تقدّم في بابه.
(2)
وللصنعانيّ كلام على المراد بالغاية، فراجعه (2/ 307 - 308).
العموم من وجه إذا قدّمنا دلالة المفهوم، وها هنا إذا قدّمنا دلالة المفهوم أسقطنا الدليل الدالّ على وجوب السجود على هذه الأعضاء، أعني اليدين، والركبتين، والقدمين، مع تناول اللفظ لها بخصوصها.
وأضعف مِن هذا ما استُدلّ به على عدم الوجوب، من قوله صلى الله عليه وسلم:"سجد وجهي للذي خلقه"، قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه.
وأضعف مِن هذا الاستدلالُ على عدم الوجوب بأن مسمَّى السجود يَحصل بوضع الجبهة، فإن هذا الحديث يدلّ على إثبات زيادة على المسمَّى، فلا تُترك.
وأضعف من هذا المعارضة بقياس شَبَهيّ، ليس بقويّ، مثل أن يقال: أعضاءٌ لا يجب كشفها فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء، سوى الجبهة.
وقد رَجَّح المحامليّ من أصحاب الشافعيّ القول بالوجوب، وهو أحسن عندنا من قول من رَجَّح عدم الوجوب.
وذهب أبو حنيفة إلى أن مَن سجد على الأنف وحده كفاه، وهو قول في مذهب مالك وأصحابه.
وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معًا، وهو قول في مذهب مالك أيضًا، ويُحْتَجّ لهذا المذهب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، فإن في بعض طرقه:"الجبهة والأنف معًا"، وفى هذه الطريق التى ذكرها المصنف -يعني صاحب "العمدة"-:"الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه".
فقيل: معنى ذلك أنهما جُعِلا كالعضو الواحد، ويكون الأنف كالتبع للجبهة.
واستُدِلّ على هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كعضو منفرد عن الجبهة حكمًا، لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها ثمانيةً، لا سبعةً، فلا يطابق العدد المذكور في أول الحديث.
الثاني: أنه قد اختَلَفت العبارة مع الإشارة إلى الأنف، فإذا جُعلا كعضو واحد، أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، فتطابق الإشارة
العبارة، وربما استُنْتِجَ من هذا أنه إذا سجد على الأنف وحده أجزأه؛ لأنهما إذا جُعلا كعضو واحد، كان السجود على الأنف كالسجود على بعض الجبهة، فيجزئ.
والحقّ أن مثل هذا لا يعارِض التصريح بذكر الجبهة والأنف؛ لكونهما داخلين تحت الأمر، وإن أمكن أن يُعتَقَد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور، فذلك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دَلّ عليه الأمر.
وأيضًا فإن الإشارة قد لا تُعَيِّن المشار إليه، فإنها إنما تتعلق بالجبهة، فإذا تفاوت ما في الجبهة أمكن أن لا يتعين المشار إليه يقينًا، وأما اللفظ فإنه مُعَيِّن لما وُضِع له، فتقديمه أولى. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في تحقيق هذه المسألة، وأفاد.
وحاصل ما حقّقه أن السجود على هذه الأعضاء المذكورة في الحديث واجب؛ لأنها وردت بصيغة الأمر، والأمر للوجوب، وأما التفريق بين أجزائها، فيجب السجود على بعضها دون بعض، كما يقول الشافعيّ رحمه الله في الجبهة، والحنفيّة في الجبهة أو الأنف، وكذا في سائر الأعضاء، فمخالف للنصوص، فلا يُلتفت إليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1101]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا أَكُفَّ ثَوْبًا، وَلَا شَعْرًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببُنْدَار، تقدّم قريبًا.
(1)
"إحكام الأحكام" 2/ 306 - 311 بنسخة "الحاشية".
2 -
(مُحَمَّدٌ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بِغُنْدَر، تقدّم قريبًا أيضًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في الحديث الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1102]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ
(1)
، وَنُهِيَ أَنْ يَكْفِتَ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمامٌ فقيه، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد اللَّه، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) 4/ 18.
والباقيان تقدّما قبله.
وقوله: (عَلَى سَبْعٍ) وفي نسخة: "على سبعة"، وتذكير العدد وتأنيثه إذا لم يذكر المعدود تمييزًا جَائزٌ، ومنه حديث:"وأتبعه ستًّا من شوّال"، وتقول: مسائلُ تسعةٌ، ورجالٌ تسعٌ
(2)
.
وقوله: (وَنُهِيَ أَنْ يَكْفِتَ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ)"يَكْفِتَ" بفتح أوله، وسكون الكاف، وكسر الفاء، أي لا يضمّها، ولا يجمعها، و"الْكَفْتُ": الجمع والضمّ، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)} [المرسلات: 25] أي
(1)
وفي نسخة: "على سبعة".
(2)
راجع: "حاشية الخضري على ابن عقيل" 2/ 208.
تجمع الناس في حياتهم وموتهم، وهو بمعنى الكفّ في الرواية المتقدّمة، وكلاهما بمعنى واحد
(1)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا الحديث يقتضي أن الكفت المنهيّ عنه إنما هو في حال الصلاة، وذلك لأنه شغل في الصلاة، لم تدع الحاجة إليه، أو لأنه يرفع شعره وثوبه من مباشرة الأرض في السجود، فيكون كِبْرًا، وذهب الداوديّ إلى أن ذلك لمن فعله في الصلاة، قال عياضٌ: ودليل الآثار، وفعل الصحابة يُخالفه. انتهى
(2)
.
والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم شرحه، ومسائله في الحديث الأول، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1103]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أنفِهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ، وَلَا الشَّعْرَ
(3)
").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل المعروف بالسمين، صدوقٌ ربما وَهِم، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "المقدمة" 1/ 104.
2 -
(بَهْز) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(وُهَيْب) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا في الآخر [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 209.
(2)
"المفهم" 2/ 95.
(3)
وفي نسخة: "ولا أكفت الثياب والشعر".
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (الْجَبْهَةِ) بالجرّ بدلٌ من "سبعة"، أو عطف بيان له، وما بعدها عطف عليها، ويَحْتَمل النصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعني الجبهةَ. . . إلخ.
وقوله: (وَأَشَارَ بيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ) معترضة بين المتعاطفات، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن الجبهة الأصل في السجود، وأن الأنف تبع له، وقد اختلف العلماء فيمن اقتصر على أحدهما دون الآخر على ثلاثة أقوال: الإجزاءُ، ونفيه، والتفرقةُ، فإن اقتصر على الجبهة أجزأ، وإن اقتصر على الأنف لم يُجزه، وهو مشهور مذهبنا -يعني المالكيّة- وقد سوّى في هذا الحديث في الأمر بكيفية السجود بين الوجه واليدين والركبتين والقدمين، فدلّ هذا الظاهر على أن من أخلّ بعضو من تلك الأعضاء مع تمكّنه من ذلك، لم يفعل السجود المأمور به. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قرّر القرطبيّ رحمه الله أخيرًا هو الحقّ الذي لا محيد عنه، ولا التفات إلى ما يغايره.
وحاصله أن الحديث نصّ في استواء هذه الأعضاء السبعة في وجوب السجود عليها، فلا يجوز الإخلال ببعضها مع الاستطاعة، فمن قال بتفريق بعضها عن بعض في الحكم، فأجاز السجود مع ترك بعضها، فقد خالف النصّ، فلا يجوز تقليده، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (وَالْيَدَيْنِ) المراد به الكفّان كما تقدّم في الرواية الأولى.
وقوله: (وَالرِّجْلَيْنِ) المراد به الركبتان، كما في الرواية الأخرى.
وقوله: (وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ) أي بأن تُجعل قائمتين على بطون أصابعهما، وعقباه مرتفعتان، فيستقبل بظهور قدميه القبلة
(2)
.
وقوله: (وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ) وفي نسخة: "ولا أكفت الثياب والشعر"، و"نَكْفِت" بفتح النون، وسكون الكاف، وكسر الفاء، آخره مثنّاة فوقيّة، وروي بالنصب عطفًا على المنصوب السابق، وهو "أسجُدَ"، أي أمرت أن لا نكفت،
(1)
"المفهم" 2/ 94.
(2)
"المرعاة" 3/ 204.
ويجوز رفعه على أن الجملة مستأنفة
(1)
.
وقوله: (وَلَا الشَّعْرَ) بزيادة "لا" للتأكيد، والمراد شعر الرأس، والمعنى: أمرت أن أرسل الثياب والشعر، ولا نضمّهما إلى أنفسنا؛ وقايةً لهما من التراب، بل نتركهما حتى يقعا على الأرض؛ لنسجد بجميع الأعضاء والثياب.
والحديث متفقٌ عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1104]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ
(2)
، وَلَا أَكْفِتَ الشَّعْرَ، وَلَا الثِّيَابَ: الْجَبْهَةِ، وَالأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا قريبًا، فالثلاثة الأولون تقدّموا قبل باب، والباقون في السند الماضي.
وقوله: (عَلَى سَبْعٍ) وفي نسخة: "على سبعة"، وتقدّم قريبًا حكم تذكير العدد وتأنيثه، فلا تنس نصيبك.
والحديث متّفقٌ عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1105]
(491) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ -وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ أَطْرَافٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ").
(1)
"المرعاة" 3/ 256.
(2)
وفي نسخة: "على سبعة".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(بَكْرٌ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.
3 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ، له أفراد [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
5 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْد) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقة [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
6 -
(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم، عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها، وهو ابن (88) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(ومنها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى بكر، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وبكر، فمصري.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو الخلفاء رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)"أل" في "العباس"؛ للمح الأصل، وذكرها وتركه جائزان، كما أشار ابن مالك إلى ذلك في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْضُ العلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا
…
لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا
كـ "الْفَضْلِ" وَ"الْحَارِثِ" وَ"النُّعْمَانِ"
…
فَذِكُرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ
(أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ أَطْرَافٍ) بفتح الهمزة: جمع طَرَف بفتحتين، كسبب وأسباب، والمراد الأعضاء.
ووقع في رواية أبي داود، والنسائيّ بلفظ:"سبعة آراب" بالمدّ، وهو: جمع إِرْبٍ، بكسر، فسكون، كحِمْل وأَحْمال، وهي الأعضاء.
وهذه الجملة خبريّة لفظًا، إنشائيّةٌ معنى، بدليل حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الماضي، أي فليسجُد معه سبعة أعضاء.
ثم فسّر الأطراف بقوله:
(وَجْهُهُ) بالرفع بدلٌ من "سبعة"، أو خبر لمحذوف، أي هي وجهه، ويَحْتمل النص، إن صحّ روايةً على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعني وجهه.
والمراد بالوجه هنا الجبهة والأنف، كما تقدّم التصريح به في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"الجبهة والأنف".
(وَكَفَّاهُ) هكذا هنا، وهو تفسير لما تقدّم في بعض روايات ابن عبّاس بلفظ:"اليدين"، كما تقدّم تحقيقه.
(وَرُكْبَتَاهُ) هذا أيضًا تفسير لما سبق في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما بلفظ "الرجلين".
(وَقَدَمَاهُ") تقدّم في حديث ابن عبّاس بلفظ: "وأطراف القدمين"، وهو تفسير لما هنا، فالمأمور به نصب أطراف القدمين على الأرض، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: حديث العبّاس رضي الله عنه هذا هكذا هو في معظم النسخ عندنا، وعليها شرح القاضي عياض، والنوويّ، والأبيّ والسنوسيّ، وهو الذي عند
الحافظ أبي الحجّاج المزيّ في "تحفته"
(1)
.
لكنه لا يوجد في النسخة الاستانبوليّة التي هي من أحسن نسخ مسلم التي بين أيدينا الآن، وهي التي حقّقها وعلّق عليها الأستاذ محمد ذهني رحمه الله.
وقد كتب الحافظ في "النكت الظراف" ما نصّه: قال ابن شيخنا -يعني أبا زرعة-: لم أقف عليه في "الصلاة" من "صحيح مسلم". انتهى
(2)
. ولم يتعقّبه الحافظ، فدلّ على اختلاف نسخ "صحيح مسلم" في إثباته، وحذفه.
ومما يؤيّد ذلك أنه لم يُذكره أبو نعيم في "مستخرجه على مسلم"، ولا أبو عوانة في "مسنده" الذي هو "مستخرج على صحيح مسلم" أيضًا، فدلّ على أنه لم يقع ذكر في النسخ التي عندهما من "صحيح مسلم".
وقد كنت كتبت في "شرح النسائي"، وملت إلى ترجيح ما قاله أبو زرعة، وتعقّبت المتأخرين الذين قلّدوا المزيّ في قوله: إن مسلمًا أخرجه، والآن تبيّن لي أن ما قاله المزّي والعراقي صحيح، باعتبار اختلاف النسخ، فلا داعي إلى تخطئة بعضهم، وتصويب بعضهم، فليُتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 1105](491)، و (أبو داود) في "الصلاة"(891)، و (الترمذيّ) فيها (272)، و (النسائيّ) فيها (2/ 208 و 210)، و (ابن ماجه) فيها (885)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 85)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 206 و 208)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(631)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1921 و 1922)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 255 - 256)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 205)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 101).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لم أجد حديث العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه هذا في "مسند أبي عوانة"، ولا في "مستخرج أبي نعيم"، ولعلهما لم يستخرجاه
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 4/ 137.
(2)
راجع: "الإطراف بأوهام الأطراف"(ص 113).
لكونهما لم يجداه في نسخة مسلم التي عندهما، كما أسلفنا اختلاف نسخه في التنبيه الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1106]
(492) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَامَ، فَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَرَأْسِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا، مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي، وَهُوَ مَكْتُوفٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ) بتشديد الواو، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
2 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب، تقدّم قبل بابين.
3 -
(بُكَيْر) بن عبد اللَّه بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
4 -
(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو: كريب بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدِين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.
والباقيان ذكرا قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى كريب، وهو وابن عبّاس مدنيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ) بن أبي ربيعة، هكذا نسبه الإمام أحمد في "مسنده"، ونصّه:
(1/ 316) حدّثنا حجاج، أخبرنا ليث، حدّثنا عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد اللَّه، عن شعبة مولى ابن عباس، أو كريب مولى ابن عباس، أن عبد اللَّه بن عباس، مَرَّ بعبد اللَّه بن الحارث بن أبي ربيعة، وهو يصلي مضفورَ الرأس معقودًا من ورائه، فوقف عليه، فلم يَبْرَح يَحُلُّ عَقْدَ رأسه، فأقرَّ له عبد اللَّه بن الحارث حتى فَرَغ من حَلِّه، ثم جلس، فلما فرغ ابن الحارث من الصلاة أتاه، فقال: علام صنعت برأسي ما صنعت آنفًا؟ قال: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل الذي يصلي، ورأسه معقود من ورائه، كمثل الذي يصلي مكتوفًا". انتهى.
(يُصَلِّي) جملة حاليّة من المفعول، والرابط الواو، كما قال في "الخلاصة":
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
أي حال كونه مصلّيًا (وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ) اسم مفعول من عَقَصَ شعره يَعْقِصه، من باب ضرب: ضَفَرَه، وفَتَله، والعِقصةُ، والْعَقِيصةُ: الضفيرة، قاله في "القاموس"
(1)
، وقال في "المصباح": الْعَقِيصة: للمرأة: الشعرُ يُلْوَى، ويُخَل أطرافه في أصوله، والجمع عقائص، وعِقَاص، والْعِقْصَة مثلها. انتهى
(2)
. والْعَقْصُ: جمع الشعر وسط رأسه، أو لفّ ذوائبه حول رأسه، ونحو ذلك، كفعل النساء، والجملة أيضًا حاليّة، وهي من الأحوال المتداخلة، إن كانت حالًا من فاعل "يُصلّي"، أو المترادفة، إن كانت من المفعول، وقوله:(مِنْ وَرَائِهِ) متعلّق بـ "معقوص"(فَقَامَ) أي ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَجَعَلَ) هي من أفعال الشروع، بمعنى شرع، وأخذ، ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وخبرها يكون جملة
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 308.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 422.
مضارعيّة، وهو هنا قوله:(يَحُلُّهُ) زاد في رواية أبي داود: "وأقرّه الآخر"، وفي رواية أحمد السابقة:"فأقرّ له عبد اللَّه بن الحارث حتى فرغ من حَلِّه".
و"يَحُلّه" بضم الحاء المهملة، من حَلَّ الْعُقْدة، من باب نصر: إذا نقضها.
والمعنى: أن عبد اللَّه بن عبّاس رضي الله عنهما شرع ينقض شعر عبد اللَّه بن الحارث المضفور.
(فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي سلّم عبد اللَّه بن الحارث من صلاته (أقبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما مستفسرًا سبب نقض شعره (فَقَالَ: مَا لَكَ وَرَأْسِي؟)"ما" استفهاميّة مبتدأ، خبره الجارّ والمجرور، و"ورأسي" الواو فيه واو المعيّة، و"رأسي" منصوب على أنه مفعول معه، أي أيّ شيء ثبت مع رأسي حتى تحُلّ ضفيرته؟.
(فَقَالَ) ابن عبّاس مبيّنًا دليله على ما صَنَعَ (إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ) بفتحتين: أي صفة (هَذَا) المصلّي، وهو معقوص، فـ "مثل" مبتدأ خبره "مثلُ" بعده، وفي رواية أحمد:"مثل الذي يُصلّي، ورأسه معقوص من ورائه. . . ".
(مَثَلُ الّذِي يُصَلِّي، وَهُوَ مَكْتُوفٌ") أي مربوطةٌ يداه بحبل ونحوه، مشدودة إلى خلفه، وهو اسم مفعول من كَتَفَهُ يَكْتِفُهُ، من باب ضرب، وكِتَافًا بالكسر: إذا شدّ يديه إلى خلف كتفيه، مُوثَقًا بحبل ونحوه، وكَتَّفَه بالتشديد مبالغة
(1)
.
وقال بعضهم: المشار إليه الوضع القائم، والشعر المعقوص، أي إنما مَثَلُ الذي يُصلي بهذا الوضع كمثل الذي يُصلي، وهو مكتوفٌ؛ لأن تكتيف جزء يشبه تكتيف جزء آخر، فتكتيف الشعر يشبه تكتيف اليدين. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله في معنى الحديث: أراد أنه إذا كان شعره منشورًا سقط على الأرض عند السجود، فيُعطى صاحبه ثواب السجود به، وإذا كان معقوصًا صار في معنى ما لم يسجد، وشَبَّهه بالمكتوف، وهو المشدود اليدين؛
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 525.
(2)
"فتح المنعم" 3/ 66.
لأنهما لا يقعان على الأرض في السجود. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 1106](492)، (وأبو داود) في "الصلاة"(646)، و (النسائيّ) فيها (2/ 215 - 216)، و (ابن ماجه) فيها (885)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 304 و 416)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 320 - 321)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(910)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2280)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 109)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1509)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1092)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عدم مشروعيّة السجود، وهو معقوص الشعر.
2 -
(ومنها): الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن ذلك لا يؤخّر، ولو كان المأمور، أو المنهيّ عنه في الصلاة، ولذا لم يؤخّره ابن عبّاس حتى يفرغ من الصلاة.
3 -
(ومنها): أن المكروه يُنكَر كما يُنكر الحرام، هكذا قيل، وفيه نظر.
4 -
(ومنها): إزالة المنكر باليد إذا أمكن؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: "من رأى منكم منكرًا، فليُغيّره بيده. . . "، رواه مسلم.
5 -
(ومنها): قبول خبر الواحد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن صلّى معقوص الشعر:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: كَرِه أن يصلي الرجل، وهو عاقص شعره عليُّ بنُ أبي طالب، وابن مسعود، وحُذيفة، وقال عطاء: لا يكفّ الشعر عن
(1)
"النهاية" 3/ 275 - 276.
الأرض، وكَرِهَ ذلك الشافعيّ، وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما إذا سجد يقع شعره على الأرض.
واختَلفوا فيما يجب على من فَعَل ذلك، فكان الشافعيّ، وعطاء يقولان: لا إعادة عليه، وكذلك أحفظ عن كلّ من لقيته من أهل العلم، غير الحسن البصريّ، فإنه كره ذلك، وقال: عليه إعادة تلك الصلاة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: اتَّفَقَ العلماء على النهي عن الصلاة، وثوبه مُشَمَّر، أو كُمُّه، أو نحوه، أو رأسه معقوصٌ، أو مردود شعره تحت عمامته، أو نحو ذلك، فكل هذا منهيّ عنه باتّفاق العلماء، وهو كراهة تنزيه، فلو صلى كذلك فقد أساء، وصحت صلاته، واحتَجّ في ذلك أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ بإجماع العلماء، وحكى ابن المنذر الإعادة فيه عن الحسن البصريّ.
ثم مذهب الجمهور أن النهي مطلقًا لمن صَلَّى كذلك، سواء تعمده للصلاة أم كان قبلها كذلك لا لها، بل لمعنى آخر، وقال الداوديّ: يختص النهي بمن فَعَل ذلك للصلاة، والمختار الصحيح هو الأول، وهو ظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم، ويدلّ عليه فعل ابن عباس المذكور هنا.
قال العلماء: والحكمة في النهي عنه أن الشعر يسجد معه، ولهذا مثَّله بالذي يصلي، وهو مكتوف. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "كراهة تنزيه" فيه نظر لا يخفى، فقد وردت الأحاديث بصيغة النهي، كما بيّنها المصنّف وغيره في هذا الباب، ومعلوم أن النهي للتحريم عند جمهور الأصوليين، وهو الحقّ ما لم يصرفه دليلٌ إلى غيره، ولم يذكروا هنا دليلًا لذلك، إلا الإجماع المزعوم، وقد عرفت أنه غير صحيح؛ لمخالفة الحسن البصريّ، فالظاهر أن النهي للتحريم، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الأوسط" 3/ 183 - 184.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 209.
(46) - (بَابُ الاعْتِدَالِ فِي السُّجُودِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1107]
(493) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(وَكِيع) بن الجرَّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 196 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاح، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة، تقدّم قبل بابين.
5 -
(أَنَس) بن مالك بن النضر، أبو حمزة الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من شعبة، والأولان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه، ووقع في رواية أبي داود الطيالسيّ عند الترمذيّ،
ورواية أبي النضر عند أبي عوانة في "مسنده"
(1)
، ورواية معاذ عند الإسماعيليّ، ثلاثتهم عن شعبة التصريح بسماع قتادة له من أنس رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ) أي كونوا متوسّطين في حالة السجود بين الافتراش والقبض، بوضع الكفّين على الأرض، ورفع المرفقين عنها، وعن الجنبين، والبطن عن الفخذين رفعًا بليغًا بحيث تظهر بواطن آباطكم إذا لم تكن مستورةً؛ إذ هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئة الكسالى
(2)
.
والحاصل أن الاعتدال المطلوب هنا غير الاعتدال المطلوب في الركوع، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع أسافل البدن على أعاليه.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: لعل الاعتدال ها هنا محمول على أمر معنويّ، وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع، وعلى وفق الأمر، فإن الاعتدال الْخَلْقِيّ الذي طلبناه في الركوع لا يتأدى في السجود، فإنه ثمة استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي، حتى لو تساويا ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعيّ.
ومما يقوي هذا الاحتمال أنه قد يُفْهَم من قوله عقب ذلك: "ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" أنه كالتَّتِمَّة للأول، وإن الأول كالعلة له، فيكون الاعتدال الذي هو فعل الشيء على وفق الشرع علةً لترك الانبساط كانبساط الكلب، فإنه منافٍ لوضع الشرع، وقد ذُكِر في هذا الحديث الحكم مقرونًا بعلّته، فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة، ومثل هذا التشبيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قَصَد التنفير عن الرجوع في الهبة، قال:"مثل الراجع في هبته، كالكلب يعود في قيئه". انتهى كلام ابن دقيق العيد
(3)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(وَلَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(يَبْسُطْ) بضمّ السين المهملة، من باب
(1)
راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 501.
(2)
راجع: "المرعاة" 3/ 207.
(3)
"إحكام الأحكام" 2/ 355 - 356 بنسخة "الحاشية".
نصر (أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ) أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط والفراش.
ويجوز أن تكون "لا" نافية، والفعل بعدها مرفوع، ويكون النفي بمعنى النهي، بل هو أبلغ، كما أسلفنا وجهه غير مرّة، لكن هذا إن صحّت الرواية به، وإلا فما صحّت الرواية به هو المتعيّن، فتنبّه لذلك، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (انْبِسَاطَ الْكَلْبِ") بالنصب على المصدريّة، أي مثل انبساط الكلب، وهو وضع الكفّين مع المرفقين على الأرض، و"الانبساط" مصدر فعل محذوف، تقديره: ولا يبسط ذراعيه، فينبسط انبساط الكلب.
قال القرطبيّ رحمه الله: هو مصدر على غير لفظ الفعل، وفعله ينبسط، لكن لَمّا كان انبسط من بَسَطَ جاء المصدر عليه، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، وقوله:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37]، كأنه قال: أنبتكم، فنبتم نباتًا، وأنبتها، فنبتت نباتًا، وفي الآية الثانية شاهدان
(1)
.
قال: ومثل هذا الحديث نهيه صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، ولا شكّ في كراهية هذه الهيئة، ولا في استحباب نقيضها، وهو التجنيح المذكور في الأحاديث بعد هذا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهو التفريج والتخوية، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
[تنبيه]: هل عطف جملة "ولا يبسط أحدكم انبساط الكلب" على جملة "اعتدلوا في السجود" من قبيل عطف التفسير والبيان على معنى أن الأمر بالشيء نهي عن ضدّه، فيكون المراد من الاعتدال في السجود رفع المرفقين عن الأرض، والتجنيح الآتي في الروايات الآتية؟، أو هو من قبيل الأمر بأشياء، والنهي عن ضدّ واحد منها لمزيد العناية به، فيكون المراد من الاعتدال في السجود وضع جميع أعضاء السجود في مواضعها المطلوبة؟.
قال بعضهم: الظاهر الأول. انتهى
(3)
.
(1)
أي في قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ، إذ التقدير -واللَّه أعلم-: فقُبلت بقبول حسن.
(2)
"المفهم" 2/ 96.
(3)
انظر: "فتح المنعم" 3/ 67.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل الثاني هو الظاهر والأولى؛ لأننا قدّمنا أن المعنى الصحيح للاعتدال هنا هو وضع جميع أعضاء السجود في مواضعها المطلوبة شرعًا، فيكون عطف "ولا يبسط إلخ" عليه عطفَ ضدّ واحد من أضداد كثيرة؛ لمزيد العناية به، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وروى الترمذيّ بإسناد صحيح، عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب"، قال الترمذيّ: حسن صحيح، قال: والعمل عليه عند أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود، ويكرهون الافتراش كافتراش السبع. انتهى.
قال ابن العربىّ رحمه الله في "شرحه": أراد به كون السجود عدلًا باستواء الاعتماد على الرجلين والركبتين واليدين والوجه، ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر، وبهذا يكون ممتثلًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم"، وإذا فرش ذراعيه فرش الكلب كان الاعتماد عليهما دون الوجه، فيسقط فرض الوجه. انتهى
(1)
.
وقال ابن حجر الهيتميّ الفقيه رحمه الله: فيكره ذلك لقبح الهيئة المنافية للخشوع إلا لمن أطال السجود حتى شقّ عليه اعتماد كفّيه، فله وضع ساعديه على ركبتيه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: اشتكى بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مشقةَ السجود عليهم، إذا تَفَرّجُوا، فقال:"استعينوا بالرُّكَب"، رواه أبو داود، والترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه موصولًا، ورُوي مرسلًا، قال البخاريّ والترمذيّ: إرساله أصحّ من وصله.
قال الترمذيّ رحمه الله: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، من حديث الليث، عن ابن عجلان، وقد رَوَى هذا الحديثَ سفيان بن عيينة، وغير واحد، عن سُمَيّ، عن النعمان بن أبي عياش، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وكأن رواية هؤلاء أصح من رواية الليث. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحديث موصولًا لا يصحّ؛ لأن ابن عجلان
(1)
"عارضة الأحوذي" 2/ 75 - 76.
اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، والصحيح أنه مرسل؛ لأن النعمان بن أبي عيّاش تابعيّ، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1107 و 1108](493)، و (البخاريّ) في "الأذان"(822)، و (أبو داود) في "الصلاة"(897)، و (الترمذيّ) فيها (276)، و (النسائيّ) فيها (2/ 183 و 213 - 214)، و (ابن ماجه) فيها (892)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1977)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 259)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 115 و 177 و 179 و 202 و 274 و 291)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "زوائد المسند"(3/ 279)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 303)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1926 و 1927)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 113)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1869 و 1870)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1093)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر بالاعتدال في السجود، وتقدّم أن معنى الاعتدال في السجود أن يضع كفيه على الأرض، ويرفع مرفقيه عنها، وعن جنبيه، رفعًا بليغًا، بحيث يظهر باطن إبطيه إذا لم يكن مستورًا.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا أدب متفق على استحبابه، فلو تركه كان مسيئًا مرتكبًا النهي، وهو للتنزيه وصلاته صحيحة. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "للتنزيه" فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر أنه للتحريم؛ لأنه لا صارف للأمر، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أن الهيئة المنهيّ عنها مشعرة بالتهاون، وقلّة الاعتناء بالصلاة.
3 -
(ومنها): ما قيل: الحكمة في كراهية هذه الهيئة في الصلاة،
واستحباب ضدّها أنه إذا جنّح كان اعتماده على يديه، فيخفّ اعتماده حينئذ على وجهه، ولا يتأثّر أنفه، ولا جبهته، ولا يتأذّى بملاقاة الأرض، فلا يتشوّش هو في الصلاة، وكان أشبه بهيئات الصلاة، واستعمال كلّ عضو فيها بأدبه، بخلاف ما إذا بسط ذراعيه، وضمّ عضديه لجنبيه، فإنه يكون اعتماده على وجهه، وحينئذ يتأذّى، ويُخاف عليه التشويش، وأيضًا هذه هي صفات الكسلان المتهاون بحاله، مع ما فيها من التشبّه بالسباع والكلاب، كما نهي عن التشبّه بها في الإقعاء. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، بزيادة من كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاعتدال في السجود:
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إخرج الحديث: إن العمل على هذا عند أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود. انتهى.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذا يُشعر بحكاية الإجماع عليه، وهو قول جمهور العلماء، وروي ذلك عن عليّ، وابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهم، وفي "المسند" عن شعبة مولى ابن عبّاس، قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس، فقال: إن مولاك إذا سجد وضع رأسه وذراعيه وصدره بالأرض، فقال له ابن عباس: ما يَحملك على ما تصنع؟ قال: التواضع، قال: هكذا رَبْضَةُ الكلب، رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجد رُؤي بياض إبطيه.
قال: ولكن روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يَفرش ذراعيه، قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه: كان ابن مسعود يذهب إلى ثلاثة أشياء: إلى التطبيق، وإلى افتراش الذراعين، وإذا كانوا ثلاثة يقوم في وسطهم، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يُجافي في السجود، ولم تبلغه هذه الآثار. انتهى
(2)
.
وروى ابن أبي شيبة من غير وجه، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: اسجدوا حتى بالمرفق. وبإسناده عن الحكم بن الأعرج، قال: أخبرني من رأى أبا ذرّ رضي الله عنه مسوّدًا ما بين رسغه إلى مرفقه.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 407، و"المفهم" 2/ 96.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب 7/ 279 - 280.
وأخرج عن ابن عون قال: قلت لمحمد -يعني ابن سيرين-: الرجل يسجد يعتمد بمرفقيه على ركبتيه؟ فقال: ما أعلم به بأسًا.
وأخرج عن نافع، قال: كان ابن عمر يَضُمّ يديه إلى جنبيه إذا سجد.
وأخرج عن قيس بن سكن قال: كلَّ ذلك قد كانوا يفعلون، ينضمّون، ويتجافَوْن، كان بعضهم ينضمّ، وبعضهم يجافي.
وأخرج عن النعمان بن أبي عياش قال: شَكَوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الادِّعام والاعتماد في الصلاة، فرَخَّص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه، أو فخذيه.
وأخرج عن ابن عمر أن رجلًا سأله: أضع مِرْفقي على فخذي، إذا سجدت؟ فقال: اسجد كيف تيسّر عليك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من أقوال أهل العلم، وأدلتهم في هذه المسألة أن المذهب الراجح هو ما عليه الجمهور من أن المأمور به في السجود هو الاعتدال، وهو أن يضع كفيه على الأرض، ويرفع مرفقيه عنها، وعن جنبيه، رفعًا بليغًا بحيث يظهر باطن إبطيه إذا لم يكن مستورًا.
وأما ما نقل عن بعض السلف، كابن مسعود، وغيره ممن سبق ذكرهم، فمحمول على ما إذا حصل للمصلي ضرر بالتجافي، فرخّصوا له في ذلك، كما بُيّن في حديث النعمان بن أبي عيّاش، وهو مرسل صحيح، أو يُعتذَر عنهم بأنهم لم يعلموا بالأمر بالاعتدال، كما اعتذر الإمام أحمد في الكلام السابق عن ابن مسعود رضي الله عنه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1108]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ
(1)
راجع: "مصنّف ابن أبي شيبة" 1/ 232 - 233.
الْحَارِثِ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ:"وَلَا يَتَبَسَّطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ").
رجال هذا الإسناد ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيب) بن عربىّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنَ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.
وقوله: (وَلَا يَتَبَسَّطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ إلخ) هكذا رواية المصنّف بمثنّاة بعد حرف المضارعة، ثم موحّدة، وقد اختَلف في هذه اللفظة رواة البخاريّ، ففي رواية الأكثر:"ولا ينبسط"، بنون ساكنة قبل الموحّدة، وللحموي:"يبتسط" بمثنّاة بعد موحّدة، وفي رواية ابن عساكر بموحّدة ساكنة فقط، وعليها اقتصر في "العمدة"، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: ومعنى "يتبسّط" بالتاء المثنّاة فوقُ: أي يتّخذها بساطًا. انتهى
(2)
.
وقوله: (ذِرَاعَيْهِ) الذراع من الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، وبسط الذراعين المنهيّ عنه في السجود هو مَدّ هذين العضوين على الأرض، وملاصقتهما لها بطولهما، كهيئة الكلب حين يَفْرِش ذراعيه على الأرض.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(822)
حدّثنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". انتهى.
(1)
2/ 352.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 210.
وأما رواية خالد بن الحارث، فلم أجد من أفردها، إلا أن النسائيّ أخرجها في "الكبرى" من طريقه، ومن طريق عبدة أيضًا، وأشار إلى أن لفظ الحديث لعبدة، ونصّه (1/ 234):
(698)
أنبأ إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأ عبدة، قال: حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، وأنبأ إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه بسط الكلب".
ثم قال: اللفظ لإسحاق. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1109]
(494) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، عَنْ إِيَادٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَاد) بن لَقِيط السَّدُوسي أبو السَّلِيل -بفتح السين المهملة، وكسر اللام، آخره لام أيضًا- الكوفيّ، ثقةٌ
(1)
[7].
رَوَى عن أبيه، وعبد اللَّه بن سعيد، وكُليب بن وائل، وعبد الرحمن بن نُعيم الأعرجيّ، والصحيح عن أبيه عنه.
وروى عنه ابن مهديّ، وابن المبارك، وأبو داود الطيالسيّ، وعفان،
(1)
قال في "التقريب": صدوق، والحقّ أنه ثقةٌ كما يتبيّن من أقوال الأئمة في ترجمته، ولا التفات إلى قول البزّار وحده: ليس بالقوي، فإنه غير قوي؛ لمخالفته قول الأئمة، فتبصّر.
وأحمد بن يونس، وجعفر بن حميد، وسعيد بن منصور، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وآخرون.
قال الدُّوري عن ابن معين: ثقةٌ، وكان عَرِيف قومه، وقال يحيى بن حَسّان: كان عبد اللَّه بن المبارك يَعْجَب به، وقال النسائيّ: ثقة، وقال في موضع آخر: ليس به بأسٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أبو نعيم: كان ابن إياد ثقةً، وكان له صحيفة فيها أحاديثه، فإذا جاءه إنسان رَمَى إليه تلك الصحيفة، فكتب منها ما أراد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال البزّار في "كتاب السنن": ليس بالقوي.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول البزّار هذا محلّ نظر؛ لأنه جرح مجملٌ، يُعارض ما قاله الأئمة، فلا ينبغي الالتفات إليه، واللَّه أعلم.
وقال ابن قانع، وابن منده: مات سنة تسع وستين ومائة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (494)، وحديث (2746):"للَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده. . . ".
3 -
(إِيَاد) -بكسر أوّله، ثم تحتانيّة مخفّفة- ابن لَقِيط السَّدوسيّ، والد عبيد اللَّه، ثقةٌ [4].
رَوَى عن البراء بن عازب، والحارث بن حَسّان العامريّ، وأبى رِمْثَة، وامرأة بَشِير ابن الْخَصَاصيّة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه، وعبد الملك بن عُمير، والثوريّ، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، ومِسْعر، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في ترجمة ولده.
4 -
(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (63) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَجَدْتَ) أي أردت السجود (فَضَعْ كَفَّيْكَ) أي على الأرض، وتكون حيال المنكبين، أو الأذنين، على اختلاف الروايات في ذلك، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه وضع كفيه حذاء منكبيه، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وصححه، وصّح أيضًا من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم وضع يديه حيال أذنيه، أخرجه أبو داود، والنسائيّ بسند صحيح.
والأولى أن يفعل هذا في أوقات، وهذا في أوقات أخرى؛ عملًا بالروايتين، قال ابن المنذر رحمه الله: الساجد بالخيار، إن شاء وضع يديه حذاء أذنيه، وإن شاء جعلهما حذو منكبيه. انتهى
(1)
.
والسنة أن تكون الأصابع مضمومة؛ لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضمّ أصابعه، أخرجه ابن خزيمة، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبيّ.
والسنة أيضًا أن تكون الأصابع قبل القبلة؛ لصحّة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، أخرجه البيهقيّ بسند صحيح
(2)
.
(وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ") بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الفاء، وبالعكس، أي ارفعهما من الأرض، ومن جنبيك، هذه الرواية تبيّن المراد من بسط الذراعين المنهيّ عنه.
(1)
"الأوسط" 3/ 169.
(2)
راجع: "صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني"(ص 108).
والحديث دليل واضحٌ على وجوب هذه الهيئة، ولكن حمله العلماء على الاستحباب، ولا أدري ما الصارف عن الوجوب؟، وقد ذُكر معظمها في حديث المسيء صلاته، فالحقّ أنها واجبة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1109](494)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(748)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 283 و 294)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(656)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1916)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 113)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1868)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1094)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1110]
(495) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحْبيل بن حَسَنَة الْكِنديّ، أبو شُرَحْبيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ) هو: عبد اللَّه بن مالك بن الْقِشْب -بكسر القاف، وسكون المعجمة، بعدها موحّدة- واسمه جُندب بن نَضْلة بن عبد اللَّه بن رافع بن مِحَصن بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن
كعب بن الحارث بن كعب بن عبد اللَّه بن نصر بن الأزد، أبو محمد حليف بني عبد المطلب، المعروف بابن بُحينة -بموحّدة، ومهملة، مصغّرًا- وهي أمه، قال محمد بن سعد: أبوه مالك بن قِشْب، حالَفَ المطلب بن عبد مناف، فتزوج بُحينة بنت الحارث بن المطلب، فولدت له عبد اللَّه، فأسلم قديمًا، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر، ومات ببطن رِيم، على ثلاثين مِيلًا من المدينة، في عَمَل مروان بن الحكم، وكان ينزل به، وكانت ولاية مروان على المدينة من سنة أربع وخمسين إلى سنة ثمان وخمسين.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عليّ، وحفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، والأعرج، وأبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وسُمِّي في روايته مالكَ ابنَ بُحينة.
قال الحافظ رحمه الله: واختُلِف فيه على حفص، ففي رواية شعبة، وأبي عوانة، وحماد بن سلمة، كلُّهم عن سعد بن إبراهيم، عن حفص بن عاصم: مالك ابن بحينة، وقال النسائيّ: قول من قال: مالك ابن بحينة خطأٌ، والصواب عبد اللَّه بن مالك ابن بُحينة، ووقع في رواية لمسلم عن ابن بُحينة، عن أبيه، قال مسلم: أخطأ القعنبيّ في ذلك. انتهى
(1)
.
وأَرَّخ ابنُ زَبْر وفاته سنة ست وخمسين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (495)، وحديث (570) وكرّره ثلاث مرّات، و (711) وأعاده بعده، و (1203).
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير بكر، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: جعفر، عن الأعرج.
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 414 - 415.
4 -
(ومنها): أن شيخه بغلانيّ، وبكرًا وجعفرًا مصريّان، والباقيان مدنيان.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا عدد مرويّاته فيه، وهو من المقلّين من الرواية، فليس له في "الكتب الستّة إلا نحو أربعة أحاديث فقط
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن عبد اللَّه بن مالك ابن بُحَينة" الصواب فيه أن يُنَوَّن مالكٌ، ويُكْتَب "ابن" بالألف؛ لأن "ابن بُحينة" ليس صفة لـ "مالك"، بل صفة لـ "عبد اللَّه"؛ لأن "عبد اللَّه" اسم أبيه مالك، واسم أم عبد اللَّه بُحينةُ، فـ "بحينةُ" امرأة مالك، وأم عبد اللَّه بن مالك. انتهى
(2)
.
وقال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: "عبد اللَّه بن مالك ابن بُحَينة" وبُحَينة أمه -بضم الباء الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وبعدها ياء ساكنة، ونون مفتوحة- وأبوه مالك بن الْقِشْب -بكسر القاف، وسكون الشين المعجمة، وآخره باء- أزديُّ النسب من أزد شَنُوءة، تُوُفّي في آخر خلافة معاوية، وهو أحد مَن نُسِب إلى أمه.
فعلى هذا إذا وقع "عبد اللَّه" في موضع رفع وَجَب أن يُنَوَّن "مالك" أبوه، ويُرْفَع "ابنُ"؛ لأنه ليس صفة لمالك، فيترَك تنوينه ويجرَّ، وإنما هو صفة لعبد اللَّه بن مالك، وإذا وقع "عبد اللَّه" في موضعِ جَرّ نُوِّن "مالكٌ"، وجُرَّ "ابنُ"؛ لأنه ليس "ابنُ" صفة لمالك.
وهذا من المواضع التي يَتَوَقَّف فيها صحة الإعراب على معرفة التاريخ
(3)
.
وذلك مثل محمد ابن حَبِيب اللغويّ صاحب "كتاب الْمُحَبَّر" في "المؤتلف والمختلف في قبائل العرب"، فإن "حبيب" أمه لا أبوه، فعلى هذا يُمنَع صرفه، ويقال: محمد بن حبيب، وقيل: إنه أبوه.
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 244 - 248.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 210.
(3)
اعترضه الصنعانيّ، فقال: أي تاريخ ساق فيه الأنساب؛ ليُعرف أن هذا ليس أبًا لهذا، ولا ابنًا له، ونحو ذلك. انتهى. "العدّة" 2/ 341.
ومن غريب ما وقفت عليه في هذا محمد بن شَرَف الْقَيْرَوانيّ الأديب الشاعر الْمُجِيد إنه منسوب إلى أمه شَرَف، ولذلك نظائر، لو تُتُبّعت لَجُمِع منها قدر كثير.
وقد قيل: إن بُحينة أم أبيه مالك، والأول أصحّ، وقد اعتنى بجمعها بعض الحفاظ. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه القاعدة قد أسلفناها غير مرّة، وهي قاعدة مهمّة جدًّا.
وحاصلها أن لفظ "ابن" إذا وقع صفة بين علمين، وكان الثاني أبًا للأول وجب حذف التنوين من الاسم الأول، وهمزة الوصل من "ابن"، وتُحذف أيضًا خطًّا تبعًا للفظ؛ لكثرة الاستعمال، فإن كان الثاني غير أب للأول، كما هنا، وجب تنوين الاسم الأول، وكتابة همزة "ابن" أيضًا، وله شروط غير هذا مذكورة في شروح "الخلاصة" وحواشيها
(2)
عند قولها في "باب النداء":
وَنَحْوَ "زَيْدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ
…
نَحْوِ "أَزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ"
وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا
…
أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا
واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ إِذَا صَلَّى) أي دخل في الصلاة، وأراد السجود؛ لما يأتي من رواية عمرو بن الحارث التالية:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سجد يُجَنِّح في سجوده، حتى يُرى وَضَحُ إبطيه"، و"الْوَضَحُ" -بفتحتين-: البياض، وفي رواية الليث التالية أيضًا:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرّج يديه عن إبطيه، حتى إني لأرى بياض إبطيه".
(فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ) يَحْتَمِل أن يكون مخفّف الراء، من الْفَرْج ثلاثيًّا، وهو
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 234 - 235.
(2)
راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل" 2/ 116 - 118.
الفتح، يقال: فرجتُ بين الشيئين فَرْجًا، من باب ضَرَبَ: فَتَحتُ، وفَرَج القوم للرجل فَرْجًا أيضًا: أوسَعُوا له في الموقف والمجلس، قاله الفيُّوميّ
(1)
.
ويَحْتَمِل أن يكون مشدّد الراء، من التفريج، وهو بمعنى الأول، والتشديد للمبالغة.
والمراد أنه فتح بينهما، وبين ما يليهما من الْجَنْب، حتى يستقيم معه قوله:"حتى يبدُوَ بياض إبطيه"، فهو أحد طرفي المتعدّد، والطرف الثاني محذوف، وهذا معنى قول الحافظ في "الفتح": أي نَحَّى كلَّ يد عن الجنب الذي يليها، أفاده السنديّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله فرّج بين يديه"، معناه: فرّج بين يديه وجنبيه، وفرّج اللَّه الغمّ بالتشديد والتخفيف، وهو من باب ضرب يضرب، وهو لفظ مشترك بين الْفَرْج العورةِ، والثَّغْرِ، وموضع المخافة. انتهى
(3)
.
(حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) بنصب "يبدُوَ" بـ "أن" مضمرةً بعد "حتى" وجوبًا، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"
…
حَتْمٌ كَـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"
و"بياضُ" مرفوع على الفاعليّة، أي حتى يظهر البياض الذي في إبطيه.
و"الإبط" بكسر، فسكون: ما تحت الجناح، ويُذكّر، ويؤنّثُ، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، ومن كلامهم: رَفَعَ السَّوْطَ حتى بَرَقَت إبطه، والجمع آباط، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمال، قال الفيّوميّ: ويزعُمُ بعض المتأخّرين أن كسر الباء لغة، وهو غير ثابت؛ لما يأتي في إِبِلِ
(4)
. انتهى
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 465.
(2)
"شرح السندي على النسائيّ" 2/ 212.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 182 - 183.
(4)
أراد به قوله في مادّة "إبل": والإبل بناءٌ نادرٌ، قال سيبويه: لم يجئ على فِعِلٍ بكسر الفاء والعين من الأسماء إلا حرفان: إبلٌ وحِبِرٌ، وهو الْقَلَح، ومن الصفات إلا حرف، وهي امرأة بِلِزٌ، وهي الضخمة، وبعض الأئمة يذكر ألفاظًا غير ذلك لم يثبُت نقلها عن سيبويه. انتهى. "المصباح" 1/ 2.
(5)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 2.
وقال في "القاموس": "الإبط": باطن الْمَنْكب، وتُكسر الباء، ويُؤنّث، جمعه آباطٌ. انتهى
(1)
.
قال الشارح المرتضى رحمه الله: وتكسر الباء لغةً، فيُلْحق بإِبِلٍ، وقولهم: لا ثاني له، أي على جهة الأصالة، فلا ينافي أن له أمثالًا بالإتباع، كهذا، وألفاظ كثيرة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كلام المرتضى رحمه الله هذا يفسّر ما تقدّم عن الفيّوميّ أن كسر الباء غير ثابت مراده أصالةً، فلا ينافي جواز كسرها إتباعًا، فافهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مالك ابن بُحينة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1110 و 1111](495)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(390) و"الأذان"(807) و"المناقب"(3564)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 212)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 345)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(648)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1919)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 114)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1877 و 1878)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1095 و 1096)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان معنى الاعتدال المأمور به في الحديث الماضي، وذلك أن من جملة الاعتدال في السجود أن يجافي يديه عن جنبيه، حتى يكون على أكمل الهيئة للسجود، وتحقيق معنى التواضع؛ لأن هذه الهيئة أبعد من هيئة الكسالى.
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 349.
(2)
"تاج العروس" 5/ 100.
2 -
(ومنها): ما قال ابن التين رحمه الله: فيه دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عليه قميصٌ؛ لانكشاف إبطيه.
وتُعُقِّب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقد رَوَى الترمذي في "الشمائل" عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت:"كان أحبّ الثياب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم القميص"، أو أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لَرُئِيَ، قاله القرطبيّ.
3 -
(منها): ما قيل: إنه يُستدلّ به على أن إبطيه صلى الله عليه وسلم لم يكن عليهما شعر.
وفيه نظرٌ، فقد حَكَى المحب الطبريّ في "الاستسقاء" من "الأحكام" له أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الإبط من جميع الناس مُتَغَيِّر اللون غيره. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا نقل في "الفتح"، وسكت عليه، وهذا عجيبٌ، فأين دليل هذه الخصوصيّة؟ فتأمله.
4 -
(ومنها): ما قيل: إنه يُستدلّ بإطلاقه على استحباب التفريج في الركوع أيضًا.
وفيه نظرٌ؛ لأن في رواية عمرو بن الحارث، والليث بن سعد التالية بلفظ:"كان إذا سجد"، وهي رواية البخاريّ في "المناقب" عن قتيبة، عن بكر بن مضر، فتبيّن بها أن المراد بالصلاة هنا في قوله:"كان إذا صلّى" السجود، من إطلاق الكلّ، وإرادة الجزء؛ إذ الرواية يفسّر بعضها بعضًا، فلا يدلّ على التفريج في الركوع، فتأمل.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود، أنه يَخِفّ بها اعتماده عن وجهه، ولا يتأثر أنفه، ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض، وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، مع مغايرته لهيئة الكسلان.
وقال ناصر الدين ابن الْمُنَيّر رحمه الله في "الحاشية": الحكمة فيه أن يَظْهَر كلُّ عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يَسْتَقِلّ كلُّ عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضدُّ ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض؛ لأن
المقصود هناك إظهار الاتحاد بين المصلين، حتى كأنهم جسد واحدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): وردت أحاديث تدلّ على مشروعيّة الاعتدال، التجافي والتفريج في السجود، وقد ساق المصنّف في هذا الباب، جملةً منها، فأخرج حديث أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وعبد اللَّه بن مالك ابن بُحينة، وميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهم.
ويأتي له في الباب التالي حديث عائشة رضي الله عنها: "نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع".
ورَوَى الطبرانيّ وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح، أنه قال:"لا تفترش افتراش السبع، وادَّعِمْ على راحتيك، وأبد ضَبْعَيك، فإذا فعلت ذلك سَجَدَ كلُّ عضو منك".
وأخرج الترمذيّ، وحسَّنه، من حديث عبد اللَّه بن أرقم:"صليتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكنت أنظر إلى عُفْرَتي إبطيه إذا سجد".
ولابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، ولْيَضُمّ فخذيه".
وللحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما نحو حديث عبد اللَّه بن أرقم.
وعنه عند الحاكم: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجد يُرَى وَضَحُ إبطيه"، وله من حديثه، رفعه:"إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مِرْفَقيك"، وهو حديث البراء رضي الله عنه الماضي عند المصنّف.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه الأحاديث مع حديث ميمونة رضي الله عنها عند مسلم: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجافي يديه، فلو أن بُهَيمة أرادت أن تَمُرّ لمرّت"، مع حديث ابن بحينة المعلّق عند البخاريّ، وأخرجه مسلم هنا ظاهرها وجوب التفريج المذكور.
لكن أخرج أبو داود ما يدلّ على أنه للاستحباب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، شكا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم له مشقة السجود عليهم، إذا انفرَجُوا، فقال:"استعينوا بالرُّكَب"، وترجم له:"الرخصة في ذلك" أي في ترك التفريج،
قال ابن عجلان أحد رواته: وذلك أن يَضَعَ مرفقيه على ركبتيه، إذا طال السجود وأعيا.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: استدلال الحافظ بهذا الحديث على الاستحباب، وأنه يصرف الوجوب المستفاد من أحاديث الباب، فيه نظر لا يخفى؛ لأن الحديث متكلّم فيه، والصحيح إرساله، كما قال البخاريّ، والترمذيّ، وأبو حاتم، والدارقطنيّ، وغيرهم
(1)
، وعلى تقدير صحّته، فهو مقيّد بالمشقّة، والمشقّة تقدّر بقدرها، فمن لا يشقّ عليه، لا يُرخّص له في ترك التفريج، فالحقّ أن التفريج المذكور واجب، كما دلّت عليه أحاديث الباب، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم رأيت للصنعانيّ رحمه الله تعقّبًا جيّدًا لكلام الحافظ هذا، حيث قال: وقد يُجاب عنه بأن ما استَدَلّ به على الاستحباب أدلّ منه على الوجوب، فإن الترخيص فرع العزيمة، وهو مخصوص بحالة المشقّة، فلا بُدّ من مسلك صحيح، يعمّ الحكم به جميع الأحوال، على أن قوله صلى الله عليه وسلم:"استعينوا بالرُّكَبِ" أظهر في تكميل الواجب، وعدم الترخيص فيه. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تعقّب الصنعانيّ رحمه الله هذا وجيهٌ، فدلالة هذه الأحاديث على الوجوب ظاهرة، لا يعارضها حديث:"استعينوا بالرُّكَب"، بل هو مؤيِّد لها؛ إذ دلالته على الوجوب أظهر من دلالته على الاستحباب، ولو سُلّم، فهو لمن تضرّر فقط.
هذا كلّه على سبيل التنزّل، وإلا فالحديث لا يصلح لمعارضة هذه الأحاديث الصحيحة الكثيرة؛ لأن الصحيح أنه مرسل، والمرسل غير صحيح عند المحدّثين؛ للانقطاع، وعند من يحتجّ به إذا اعتضد يُشْتَرط أن لا يعارضه
(1)
راجع: "التاريخ الكبير" 4/ 203، و"الصغير" 2/ 18 - 19، و"جامع الترمذيّ"(286)، و"علل ابن أبي حاتم" 1/ 190، و"علل الدارقطنيّ" 10/ 85، والبيهقيّ في "السنن الكبرى" 2/ 117.
(2)
"العدّة حاشية العمدة" 2/ 343.
ما هو أصحّ منه، وما هنا كذلك، فتنبّه لهذه الدقائق، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: رأيت للشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذيّ كلامًا غريبًا، يُتعجّب منه، وذلك أن الترمذيّ رحمه الله قال:
(263)
حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث، عن ابن عجلان، عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: اشتكى بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مشقّةَ السجود عليهم، إذا تفرّجوا، فقال:"استعينوا بالركب". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، من حديث الليث، عن ابن عجلان، وقد رَوَى هذا الحديثَ سفيانُ بن عيينة، وغير واحد، عن سُمَيّ، عن النعمان بن أبي عياش، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وكأنّ رواية هؤلاء أصحّ من رواية الليث. انتهى. فعلّق أحمد شاكر على قوله:"وكأن رواية هؤلاء أصحّ من رواية الليث"، ما نصّه: لماذا؟، هؤلاء رووا الحديث عن سُميّ، عن النعمان مرسلًا، والليث بن سعد رواه عن سُميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موصولًا، فهما طريقان مختلفان، يؤيّد أحدهما الآخر، ويَعضِده، والليث بن سعد ثقةٌ حافظٌ حجة، لا تردّد في قبول زيادته، وما انفرد به، فالحديث صحيحٌ. انتهى كلام ابن شاكر رحمه الله
(1)
. والغريب منه أنه تكلّم في الليث، وليس الكلام فيه، فإن الخلاف إنما جاء من ابن عجلان، فإنه الذي خالف ابن عيينة وغير واحد في روايتهم عن سُميّ، عن النعمان بن أبي عيّاش، مرسلًا، فرواه عن سُميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موصولًا، فالمخالف هو ابن عجلان، فأخطأ ابن شاكر، فدافع عن الليث الذي ليس هو المقصود في الإعلال، ومعلوم أن ابن عجلان مضطرب في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فضعف وصل الحديث جاء من قبله، لا من قبل الليث، فتبصر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه آخر]: ذكر في "الفتح": أن الترمذيّ أخرج الحديث المذكور، ولم
(1)
راجع: تعليق أحمد شاكر على "جامع الترمذيّ" 2/ 78.
يقع في روايته: "إذا انفرجوا"، فترجَمَ له:"ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود"، فجَعَل محلّ الاستعانة بالرُّكَب لمن يرفع من السجود، طالبًا للقيام، واللفظ مُحْتَمِلٌ ما قال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تُعَيِّن المراد. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
وتعقّب الشيخ أحمد محمد شاكر هذا الذي قاله في "الفتح"، فأجاد في ذلك، ونصّه: وهذا الذي قاله الحافظ، وقلّده فيه العينيّ في "عمدة القاري" يخالف ما بين أيدينا من نسخ الترمذيّ، فإن الزيادة التي تعين المراد موجودة هنا
(2)
، والعنوان الذي نسبه للترمذيّ غير ما ذُكر هنا
(3)
، فلعلّ النسخة التي كانت بيد الحافظ ابن حجر كانت غير صحيحة في هذا الموضع. انتهى كلام ابن شاكر رحمه الله، وهو حسنٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): خصّ الفقهاء ما ذُكر من مشروعيّة التفريج بالرجال دون النساء، وقالوا: المرأة تضمّ بعضها إلى بعض؛ لأن المقصود منها التصوّن، والتجمّع والتستّر، وتلك الحالة أقرب إلى هذا المقصود، هكذا قال ابن دقيق العيد رحمه الله.
ولأنه قد روى أبو داود في "المراسيل" عن يزيد بن أبي حبيب، أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأتين، وهما تصلّيان، فقال:"إذا سجدتما، فضُمّا بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست كالرجل في ذلك"، رواه البيهقيّ من طريقين موصولتين، لكن في كلّ منها متروك، كما قال في "التلخيص الحبير"، ذكره الصنعانيّ في "حاشية العمدة"
(4)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الفرق بين الرجال والنساء محلّ توقّف؛ لأنه يحتاج إلى دليل صحيح صريح يعارض ما سبق من أحاديث الباب
(1)
2/ 244.
(2)
يعني زيادة أبي داود قوله: "إذا انفرجوا".
(3)
إذ العنوان الموجود للترمذيّ: "باب ما جاء في الاعتماد في السجود"، وهو نصّ في المسألة، فتنبّه.
(4)
"العدّة" 2/ 343.
من أدلّة مجافاة اليدين عن الجنبين، والبطن عن الفخذين، ورفع المرفقين عن الأرض، فإنها تعمّ الرجال والنساء، وهي أحاديث كثيرة صحيحة، والحديث الذي استدلّوا به ضعيف؛ لأنه مرسل، فلا يصلح لإثبات الفرق بين الجنسين، ولا يَقْوَى لمعارضة تلك الأحاديث الصحيحة، فالظاهر أن الرجال والنساء في ذلك سواء، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1111]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ، حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ"، وَفى رِوَايَةِ اللَّيْثِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ يَدَيْهِ عَنْ إِبْطَيْهِ، حَتَّى إِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الحافظ الفقيه المشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"جعفر" في السند الماضي.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ) الضمير لعمرو بن الحارث والليث.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) يعني إسناد جعفر الماضي، وهو: عن الأعرج، عن عبد اللَّه بن مالكٍ ابن بُحينة رضي الله عنه.
وقوله: (يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ) بضمّ حرف المضارعة، وفتح الجيم، وكسر النون المشدّدة، من التجنيح، أي يفرّج بين يديه، ويجعلهما كجناحي الطائر المبسوطين، وهو بمعنى قوله في رواية بكر بن مضر الماضية:"فرّج بين يديه"، ورواية الليث التالية:"فرّج يديه عن إبطيه"، فالمراد أنه يجافي عضديه عن جنبيه.
وقوله: (حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بالنون في "نَرَى"،
ورُوِي بالياء المثناة من تحتُ المضمومةِ، وكلاهما صحيح، ويؤيِّد الياءَ الروايةُ الأخرى عن ميمونة رضي الله عنها:"إذا سجد خَوَّى بيديه، حتى يُرَى وَضَحُ إبطيه"، ضَبَطناه، وضَبَطوه هنا بضم الياء، ويؤيِّد النون روايةُ الليث في هذا الطريق:"حتى إني لأَرَى بياضَ إبطيه". انتهى
(1)
.
وقوله: (وَضَحُ إِبْطَيْهِ) الوَضَحُ بفتحتين: البياض، والضوء، والدرن أيضًا، وهو مصدر، من باب تَعِبَ، قاله في "المصباح"
(2)
.
وقال في "القاموس": الْوَضَحُ محرَّكةً: بياضُ الصبحِ، والقمرُ، والبرصُ، والْغُرَّةُ والتحجيلُ في القوائم. انتهى
(3)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: معنى: وَضَحُ إبطيه": أي البياض الذي تحتهما، وذلك للمبالغة في رفعهما، وتجافيهما عن الجنبين، والوضَحُ: البياضُ من كلّ شيء. انتهى
(4)
.
[تنبيه]: لا حاجة إلى تخريج روايتي عمرو بن الحارث، والليث بن سعد المذكورتين هنا؛ لأن المصنّف ساقهما بتمامهما، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1112]
(496) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ، لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم قبل حديث.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 211.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 662.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 255.
(4)
"النهاية" 5/ 195.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ) العامريّ، مقبول [6].
رَوَى عن عمه يزيد بن الأصم، وروى عنه عبد الواحد بن زياد، ومروان بن معاوية، وابن عيينة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم (496) و (497) و (511) و (530) و (653).
5 -
(يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ)، واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البكّائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرَّقّة، ابن أخت ميمونة رضي الله عنها، ويقال: له رؤية، ثقةٌ [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
6 -
(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث الهلاليّة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينها.
2 -
(ومنها): أن قوله: "قال يحيى: أخبرنا. . . إلخ" فيه بيان اختلاف شيخيه في صيغ الأداء، فيحيى بن يحيى قال:"أخبرنا سفيان بن عيينة" فصرّح بالإخبار، وأنه أخذه منه قراءةً، ونسب سفيان إلى أبيه، بخلاف ابن أبي عمر، كان لم يصرّح بذلك.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمّه، عن خالته.
4 -
(ومنها): أن ميمونة رضي الله عنها ذات مناقبّ جمّة، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بسَرِف، موضع قريبٌ من مكة، سنة سبع من الهجرة، وماتت بها، ودُفنت في الظلّة التي بنى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، سنة خمسين، وهذا من أغرب ما اتّفق، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مَيْمُونَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ)
أي شرع في السجود، وفي رواية مروان بن معاوية، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ التالية: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سجد خَوَّى
(1)
بيديه، يعني جَنَّح حتى يُرَى وَضَحُ إبطيه من ورائه"، وفي رواية جعفر بن بُرْقان، عن عبيد اللَّه الثالثة: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى، حتى يَرَى مَن خلفه وَضَحَ إبطيه"، وجواب "إذا" هنا قوله: (لَوْ) شرطيّة، كما قال في "الخلاصة":
"لَوْ" حَرْفُ شَرْطٍ فِي مُضِيٍّ وَيَقِلْ إِيلَاؤُهُ
…
مُسْتَقْبَلًا لَكِنْ قُبِلْ
وَهْيَ فِي الاخْتِصَاصِ بِالْفِعْلِ كَـ "إِنْ"
…
لَكِنَّ "لَوْ" بِهَا "أَنَّ" قَدْ تَقْتَرِنْ
وفي رواية النسائيّ: "حتى لو أنّ بَهْمةً أرادت أن تمرّ تحت يديه مرّت".
(شَاءَتْ بَهْمَةٌ) بفتح الموحّدة، وسكون الهاء: ولد الضأن، يُطلق على الذكر والأنثى، والجمع بَهْمٌ بلا هاء، مثلُ تَمْرة وتَمْر، وجمع الْبَهْم بِهَامٌ، مثلُ سَهْم وسِهَام، وتُطلق البهام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليبًا، فإذا انفردت قيل لأولاد الضأن: بِهَام، ولأولاد المعز سِخَال، وقال ابن فارس: الْبَهْمُ: صغار الغنم، وقال أبو زيد: يقال لأولاد الغنم ساعةَ تَضَعُها الضأنُ، أو المعزُ، ذكرًا كان الولد، أو أنثى: سَخْلَةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أبو عبيد وغيره من أهل اللغة: الْبَهْمَةُ: واحدة الْبَهْم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع الْبَهْمِ بِهَام بكسر الباء، وقال الجوهريّ: الْبَهْمة من أولاد الضأن خاصّةً، ويُطلق على الذكر والأنثى، قال: والسّخَالُ: أولاد الْمِعْزَى. انتهى
(3)
.
(أَنْ تَمُرَّ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "شاءت"، أي لو شاءت المرور (بَيْنَ يَدَيْهِ) وفي رواية أبي داود:"لو أرادت أن تمرّ تحت يديه مرّت"، فيكون معنى:"بين يديه" هنا بمعنى رواية أبي داود "تحت يديه"، فافهم. (لَمَرَّتْ") جواب، والغالب في جوابها إذا كان مثبتًا أن يقترن باللام، كهذا الحديث، ويجوز حذفها، نحو: لو قام زيد قام عمرو.
والمراد من هذا التمثيل بيان مبالغته صلى الله عليه وسلم في التفريج، والتجافي في السجود.
(1)
بتشديد الواو: أي جافى.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 64.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 211.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على شدّة رفع بطنه عن الأرض، وتجنيحه، وهذا كلّه حكم الرجال، فأما النساء، فحكمهنّ عند مالك حكم الرجال، إلا أنه يُستحبّ لهنّ الانضمام والاجتماع، وخيّرهنّ الكوفيّ في الانفراج والانضمام، وذهب بعض السلف إلى أن سنّتهنّ التربّع، وحكمُ الفرائض والنوافل في هذا سواء. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم لك تحقيق هذه المسألة، وأنه لا دليل صحيحٌ يفرّق بين الرجال والنساء فيها، فالحقّ أن الأدلة شاملة للجنسين، فتبصّر.
ثم إن ما نقله عن الكوفيّ إن أراد به الإمام أبا حنيفة رحمه الله، فليس مذهبه هكذا، بل هو ممن يقول بالانضمام للنساء، وإن أراد غيره فلا أدري من هو؟، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1112](496) و [46/ 1113 و 1114](497)، و (أبو داود) في "الصلاة"(898)، و (النسائيّ) فيها (2/ 213 و 232) وفي "الكبرى"(1/ 234)، و (ابن ماجه) فيها (880)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 332 و 333 و 335)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 351 - 352)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1871 و 1872 و 1873 و 1874 و 1875 و 1876)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1097 و 1098 و 1099)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1113]
(497) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
(1)
"المفهم" 2/ 97 - 98.
الْأَصَمِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ خَوَّى بِيَدَيْهِ، يَعْنِي جَنَّحَ، حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ، وَإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) المعروف بابن راهويه، أبو محمد المروزي، ثقةٌ حافظٌ مجتهدٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
والباقون ذُكِروا في السند الماضي.
[تنبيه]: قوله: "حدّثنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه إلخ"، قال القاضي عياض رحمه الله: ذكر مسلم في سند هذا الحديث: أنا سفيان بن عيينة، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ، عن عمه يزيد، كذا في الأصول، وعند شيوخنا بغير خلاف، ثم قال مسلم: عن الفزاريّ، وعن عبد الواحد بن زياد، ثنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ، عن عمّه يزيد، كذا في رواية الْعُذْريّ، والذي رواه الفارسيّ: ثنا عبد اللَّه بن عبد اللَّه في الموضعين، وكلاهما صحيح، هما أخوان: عبد اللَّه، وعبيد اللَّه، رويا عن عمّهما، ذكر ذلك البخاريّ في "تاريخه"
(1)
، وذكر الخلاف في هذا الحديث عنهما. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في بعض الأصول "عبيد اللَّه بن عبد اللَّه" بتصغير الأول في الروايتين، وفي بعضها "عبد اللَّه" مكبرًا في الموضعين، وفي أكثرها بالتكبير في الرواية الأولى، والتصغير في الثانية، وكله صحيحٌ، فـ "عبد اللَّه"، و"عبيد اللَّه" أخوان، وهما ابنا عبد اللَّه بن الأصم، و"عبد اللَّه" بالتكبير أكبر من "عبيد اللَّه"، وكلاهما رَوَيَا عن عمه يزيد بن الأصم، وهذا مشهور في
(1)
"التاريخ الكبير" 3/ 1/ 128، 387.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 408 - 409.
كتب أسماء الرجال، والذي ذكره خَلَفٌ الواسطيّ في كتابه "أطراف الصحيحين" في هذا الحديث:"عبد اللَّه" بالتكبير في الروايتين، وكذا ذكره أبو داود، وابن ماجه في "سننيهما" من رواية ابن عيينة بالتكبير، ولم يذكروا رواية الْفَزَاريّ، ووقع في "سنن النسائي" اختلاف في الرواية عن النسائيّ، بعضهم رواه بالتكبير، وبعضهم بالتصغير، ورواه البيهقيّ في "السنن الكبير" من رواية ابن عيينة بالتصغير، ومن رواية الْفَزَاريّ بالتكبير، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما تقدّم أن الاختلاف الواقع في هذا الاسم "عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ" بالتصغير والتكبير، لا يضرّ؛ لأنهما أخوان رويا هذا الحديث، عن عمّهما يزيد بن الأصم، فصحّ الحديث عن كليهما.
أما عبيد اللَّه المصغّر، فقد تقدّمت ترجمته في السند، وأما عبد اللَّه المكبّر، فهو:
عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ العامريّ، أبو سليمان، ويقال: أبو الْعَنْبس، وكان أكبر من أخيه عبيد اللَّه، رأى الحسن، والحسين، صدوقٌ [4].
روى عن عمّه يزيد بن الأصمّ، وعنه السفيانان، وعبدة بن سليمان، وعبد الواحد بن زياد، ومروان الفَزَاريّ.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخٌ، ووثّقه الجعليّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات".
أخرج له مسلم حديثًا واحدًا فيما يقطع الصلاة، قاله في "التهذيب"
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا جعل في "التهذيب" حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيما يقطع الصلاة عند مسلم من رواية عبد اللَّه بن عبد اللَّه المكبّر، لكن النسخ عندنا أنه عبيد اللَّه المصغّر، حتى إن الشرّاح: القاضي عياض، والنووي، وغيرهما لم ينبّهوا عليه كما نبّهوا في هذا الباب؛ إذ لم يقع في نسخهم، وكذا
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 211 - 212.
(2)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 366.
لم ينبّه الحافظ المزّيّ في "الأطراف"
(1)
، فالظاهر أن نسبة رواية عبد اللَّه المكبّر لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور إلى المصنّف -كما ذكره في "التهذيب"- غير صحيحة، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (إِذَا سَجَدَ خَوَّى بِيَدَيْهِ) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو المفتوحة: أي فرّج، وباعد.
قال النووي رحمه الله: "فَرّج بين يديه"، و"خَوَّى بيديه" -بالخاء المعجمة، وتشديد الواو- و"فَرّج"، و"جَنَّحَ" بمعنى واحدٍ، ومعناه كله: باعد مِرْفقيه، وعَضُديه عن جنبيه. انتهى
(2)
.
وقوله: (يَعْنِي جَنَّحَ) العناية من بعض الرواة، ولم يتعيّن لي من هو؟.
وقوله: (حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ)"يُرى" بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول، و"الوَضَحُ" بفتحتين: البياض.
وقوله: (وَإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذ الْيُسْرَى) قال النوويّ رحمه الله: يعني أنه إذا قعد بين السجدتين، أو في التشهد الأول، وأما القعود في التشهد الأخير فالسنة فيه التورُّك، كما رواه البخاريّ في "صحيحه"، من رواية أبي حُميد الساعديّ رضي الله عنه، وكذلك رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تحقيق هذه المسألة في موضعها -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1114]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ جَافَى، حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَضَحَ إِبْطَيْهِ"، قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي بَيَاضَهُمَا).
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 15/ 293.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 211.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(جَعْفَرُ بْنُ برْقًانَ) -بضمّ الموحّدة، وسكون الراء- الكلابيّ، أبو عبد اللَّه الرّقّيّ، ثقةٌ يَهِمُ في حديث الزهريّ [7](ت 150) أو بعدها (بخ م 4) 63/ 362.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو محمد البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في هذا الباب.
وقوله: (إِذَا سَجَدَ جَافَى) أي باعد مِرْفقيه، وعضديه عن جنبيه.
وقوله: (حَتَّى يرَى مَنْ خَلْفَهُ)"يَرَى" بفتح أوله، مبنيًّا للفاعل، و"مَنْ" موصولة في محلّ رفع على الفاعليّة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(47) - (بَابُ مَا يَجْمَعُ صِفَةَ الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1115]
(498) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ -يَعْنِي الْأَحْمَرَ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ
(1)
، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ، لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى
(1)
وفي نسخة: "حسين المعلّم قال: عن بُديل".
يَسْتَوِيَ جَالِسًا، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ"، وَفي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ: "وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، [10]، (ت 234) تقدم في "المقدمة"(ع) 2/ 5.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
3 -
(حُسَيْنٌ الْمُعَلَمُ) هو: حسين بن ذكوان المكتب الْعَوذيّ البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المذكور في السند الماضي.
5 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
6 -
(بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقَيليّ -بضم العين المهملة- البصريّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أنس، وأبي الجوزاء، وعبد اللَّه بن شَقِيق، وعطاء، وعبد اللَّه بن الصامت، وعبد اللَّه بن عُبيد بن عمير، وأبي العالية، والبراء، وغيرهم.
ورَوَى عنه قتادة، ومات قبله، وشعبة، وحماد بن زيد، وإبراهيم بن طهمان، وحسين المعلّم، وأبان العطار، وابناه: عبد اللَّه وعبد الرحمن ابنا بُدَيل، وغيرهم.
قال ابن سعد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، وقال البزار: لم يسمع من عبد اللَّه بن الصامت، وإن كان قديمًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الثالثة، وحَكَى البغويّ، عن محمد بن سعد، أنه قال: ميسرة والد بُديل هذا، هو ميسرة الفجر، صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال البغويّ: وهو عندي وَهَمٌ. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 371.
قال البخاريّ، عن عليّ ابن المدينيّ: مات سنة (130).
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (498) و (588) و (648) و (730) و (749) و (1674) و (2872).
7 -
(أَبُو الْجَوْزَاءِ) -بالجيم، والزاي- هو: أوس بن عبد اللَّه الرَّبَعيّ -بفتح الموحّدة- البصريّ، من رَبَعَة
(1)
الأزد، ثقةٌ يُرسل كثيرًا [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وصفوان بن عَسّال.
ورَوَى عنه بُديل بن ميسرة؛ وأبو أشهب، وعمرو بن مالك، وقتادة، وغيرهم.
قال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن حبان في "الثقات": كان عابدًا فاضلًا، وقال ابن عديّ: حَدَّث عنه عمرو بن مالك قدر عشرة أحاديث غير محفوظة، وأبو الجوزاء رَوَى عن الصحابة، وأرجو أنه لا بأس به، ولا يصح روايته عنهم أنه سمع منهم، قال البخاريّ: في إسناده نظرٌ. انتهى. ويريد البخاريّ بهذا أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود، وعائشة، وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده، وأحاديثه مستقيمة.
قال الحافظ: حديثه عن عائشة في الافتتاح بالتكبير عند مسلم، وذكر ابن عبد البر في "التمهيد" أيضًا أنه لم يسمع منها، وقال جعفر الفريابيّ في "كتاب الصلاة": ثنا مُزاحم بن سعيد، ثنا ابن المبارك، ثنا إبراهيم بن طَهْمان، ثنا بُدَيل الْعُقيليّ، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولًا إلى عائشة يسألها. . . فذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه لم يشافهها، لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك، فشافهها على مذهب مسلم في إمكان اللقاء، واللَّه أعلم.
قال: وقول البخاريّ: في إسناده نظرٌ، ويختلفون فيه، إنما قاله عَقِب حديث رواه له في "التاريخ" من رواية عَمرو بن مالك البَكْريّ، والبكري ضعيف عنده.
وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": أبو الجوزاء عن عمر، وعليّ مرسل.
(1)
بفتحتين.
وحَكَى البخاريّ، عن يحى بن سعيد أنه قُتِل في الجماجم، سنة (83).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
8 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه، وبُديل بن ميسرة، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بديل، عن أبي الجوزاء.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ) أي يبدؤها، ويجعل التكبير فاتحتها، والمراد لفظ "اللَّه أكبر" كما بُيّن في الروايات الأخرى (وَالْقِرَاءَةَ) بالنصب عطفًا على "الصلاةَ"، أي يبتدأ القراءة (بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}) بالرفع على الحكاية، وإظهار ألف الوصل، ويجوز حذف همزة الوصل، وكذا جرّ الدال على الإعراب، قاله القاري
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "والقراءَة": أي يبتدئ القراءة بسورة الفاتحة، فيقرؤها، ثم يقرأ السورة، وذلك لا يمنع تقديم دعاء الاستفتاح، فإنه لا يسمّى في العرف قراءةً، ولا يدلّ على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ إذ ليس المراد أنه كان يبتدئ القراءة بلفظ {الْحَمْدُ لِلَّه} [الفاتحة: 2]، بل المراد منه أن يبدأ بقراءة السورة التي مُفْتَتَحُها {الْحَمْدُ لِلَّه} ، كما يقال: قرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]. انتهى
(2)
.
وقال في "المرعاة" بعدما نقل كلام الطيبيّ المذكور ما حاصله: وبهذا
(1)
"المرقاة" 2/ 499.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 978 - 979.
ظهر الردّ على من تمسّك بالحديث على مشروعيّة ترك الجهر بالبسملة في الصلاة، فإن المراد بذلك كما قلنا اسم السورة، لكن نوقش ذلك بأنه لو كان المراد اسم السورة لقالت عائشة رضي الله عنها:"بالحمدُ"؛ لأنه وحده هو الاسم.
ورُدّ بأن "الحمد للَّه رب العالمين" اسم للسورة أيضًا، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال مرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي. . . وفيه: ثم قال: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ "، فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليخرج من المسجد، فذَكَّرته، فقال:" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته".
وأخرج أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أمُّ القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني".
فهذا نصّ واضحٌ في أن الفاتحة تُسمّى بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ويمكن الجواب عن ذلك التمسّك أيضًا بأنها ذَكَرت أول آية من الآيات التي تخصّ السورة، وتركت البسملة؛ لأنها مشركة بينها وبين غيرها من السور. انتهى
(1)
.
وقد تقدّم تحقيق هذه المسألة في موضعها من هذا الكتاب مستوفًى، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإشخاص، قال الطيبيّ: أي لم يرفعه، من أشخصتُ كذا: رفعته، وشَخَصَ شُخُوصًا: إذا ارتفع.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ضبطوه من الإشخاص رباعيًّا، والذي في "القاموس" أن ثلاثيّه يتعدّى أيضًا، وعبارته: وشَخَصَ كمنع شُخُوصًا: ارتفع، وبصرَه: فتح عينيه، وجعل لا يُطرِف، وبصرَهُ: رفعه. انتهى.
فدلّ قوله: "شخص بصره: رفعه" على أن ثلاثيّه يتعدّى، فعلى هذا يحتمل أن يُضبط قوله هنا:"لم يُشخص" بفتح الياء أيضًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
راجع: "المرعاة في شرح المشكاة" 3/ 8.
(وَلَمْ يُصَوِّبْهُ) أي لم يُنكِّسه، من التصويب، وهو الإنزال من أعلى إلى أسفل، ومنه الصيِّب للمطر، يقال: صاب يصوب: إذا نزل، أي لم يخفضه خفضًا بليغًا، بل يعتدل فيه بين الخفض والتصويب، وهو التسوية، كما أشار إليه بقوله:(وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ) أي بين المذكور من الإشخاص والتصويب، بحيث يستوي ظهره وعنقه كالصفحة الواحدة.
قال الطيبيّ رحمه الله: "بين" وإن كان من حقّه أن يضاف إلى شيئين فصاعدًا، إلا أن "ذلك" لَمّا كان بمعنى شيئين من حيث إنه وقع مشارًا به إلى مصدر الفعلين المذكورين، حَسُنَ إضافته إليه. انتهى
(1)
.
وقال القاري رحمه الله: قيل: كأن وجه الاستدراك بها -يعني قوله: "ولكن إلخ"- أن نفي ذينك لا يقتضي البينيّة الآتية، بل ربّما اقتضى خلافها، فبيّن أن المراد أنه كان إذا ركع يكون ركوعه بين ذلك. انتهى
(2)
.
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ) أي لم ينزل إلى السجود (حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا) أي حتى يعتدل في قيامه (وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ) أي الأولى (لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا) قال الطيبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على وجوب الاعتدال، وتعقّبه القاري، فقال: يَحتمل الحملَ على وجه الكمال، فلا يتمّ به الاستدلال، وحديث البخاريّ:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي" لا يدلّ على فرضيّة جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ بعض أفعاله وأقواله سنة إجماعًا انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تعقّب القاري غير سديد، فالحقّ وجوب الاعتدال في الجلوس، كالاعتدال في القيام من الركوع، وليس الاستدلال بحديث البخاريّ فقط، بل مع ما ينضمّ إليه مما يُثبت الوجوب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته:"ثم اجلس حتى تطمئنّ جالسًا"، وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود بإسناده بهذا اللفظ، والأمر للوجوب، فتنبّه لهذه الدقائق، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 979.
(2)
"المرقاة" 2/ 499.
(3)
"المرقاة" 2/ 499.
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ) أي يقرأ (فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) أي بعدهما (التَّحِيَّةَ) بالنصب على المفعوليّة، قال القاري: وقيل: بالرفع، أي "التحيّات إلخ"، قال: ولا يبعد أن يكون "التحيّة" مبتدأ خبره "في كلّ ركعة". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: بُعد هذا الوجه مما لا يخفى، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتشهّد في كلّ ركعتين بقوله: "التحيّات للَّه إلخ".
وسُمّي هذا الذكر تحيّةً؛ لاشتماله على التحيّة، وهو الثناء الحسن، وتشهّدًا؛ لاشتماله على الشهادتين.
(وَكَانَ يَفْرِشُ) بضمّ الراء، وكسرها، والضمّ أشهر، أي يبسطها، يقال: فرشتُ البساطَ وغيره فَرْشًا، من باب نصر، وفي لغة من باب ضرب: بسطته، وافترشته، فافترش هو
(1)
. (رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، أي يُقيمها، يقال: نصبتُ الخشبةَ نصبًا، من باب ضرب: أقمتها
(2)
. (رِجْلَهُ الْيُمْنَى) يعني أنه يضع أصابعها على الأرض، ويرفع عقبها.
واستدلّ به من قال بمشروعيّة النصب والفرش في التشهّدين جميعًا، ووجهه الإطلاق، وعدم التقييد في مقام التصدّي لوصف صلاته صلى الله عليه وسلم، لا سيّما بعد وصفها للذكر المشروع في كلّ ركعتين.
وتُعُقّب ذلك بأن حديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه في عشرة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، زيادة تفصيل، فإنه فرّق بين الجلوسين، فجعل الافتراش في التشهّد الأول، والتورّك في التشهّد الثاني، فيلزم العمل به.
وحاصله أن حديث عائشة رضي الله عنها فيه إجمال، وحديث أبي حميد رضي الله عنه فيه تفصيل، أو يُحمل حديث عائشة رضي الله عنها على أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيهما لبيان الجواز، وسيأتي البحث في ذلك مستوفًى في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.
(وَكَانَ يَنْهَى) بفتح أوله وثالثه: أي يمنع (عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ) بضم العين المهملة، وسكون القاف، فموحّدة، فسّرها أبو عبيد وغيره بالإقعاء المنهيّ عنه، وهو أن يُلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض،
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 468.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 607.
كما يفرش الكلب وغيره من السباع، وأما تفسيرها بافتراش القدمين، والجلوس بالأليتين على العقبين فغلطٌ؛ لأنه سنة ثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم وغيره.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" هو الإقعاء الذي فَسَّرناه، وهو مكروه باتفاق العلماء بهذا التفسير الذي ذكرناه، وأما الإقعاء الذي ذكره مسلم بعد هذا، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سنة، فهو غير هذا، كما سنفسره في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى- انتهى
(1)
.
(وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الزَجُلُ ذِرَاعَيْهِ) أي يبسطهما في حال السجود، قال الطيبيّ رحمه الله: التقييد بالرجل يدلّ على أن المرأة تفترش. انتهى. (افْتِرَاشَ السَّبُعِ) أي كافتراشه، ولا حاجة لتفسير السبع بالكلب؛ لأن هذه الصفة تعمّ الكلب، وغيره من السباع، ووروده في بعض الرواية بلفظ الكلب ليس للتقييد، بل للتمثيل والتنبيه بذكر بعض الأنواع.
وافتراش السبع هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، ويُفضي بمرفقيه وكفّيه إلى الأرض، والسنّة أن يرفع ذراعيه، ويكون الموضوع على الأرض هو الكفّ فقط، نعم إن طال عليه السجود، فتضرّر به، فله الاعتماد بمرفقيه على فخذيه؛ لما تقدّم من أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شكوا إليه مشقّة السجود، فقال:"استعينوا بالرُّكب"، وقد سبق أن الأرجح إرساله، لكن المرسل في مثل هذا يُعمل به؛ للمشقّة؛ لأن المرسل حجة عند بعض العلماء مطلقًا، وعند بعضهم بشروط، وهو الصحيح، كما أوضحت بيان ذلك في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ") أي تسليم الخروج، واستُدلّ به على تعيّن التسليم للخروج من الصلاة؛ اتّباعًا لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، غير النسائيّ، فإن الإضافة تقتضي الحصر، فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم، أي انحصرت صحّة تحليلها في التسليم، لا تحليل لها غيره.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 215.
وقال ابن العربيّ رحمه الله ما معناه: قوله: "تحليلها التسليم" يقتضي حصر الخروج عن الصلاة على التسليم دون غيره من سائر الأفعال والأقوال المناقضة للصلاة؛ لأنه ذكره بالألف واللام الذي هو باب شأنه التعريف كالإضافة، وحقيقة الألف واللام إيجاب الحكم لما ذُكر، ونفيه عما لم يُذكر، وسلبه منه، وعبَّر عنه بعضهم بأنه الحصر، وأبو حنيفة يخالف فيه، حيث إنه يرى الخروج منها بكلّ فعل وقول يضادّ الصلاة، كالحدث ونحوه؛ حملًا على السلام، وقياسًا عليه، وهذا يقتضي إبطال الحصر الذي بيّنّاه. انتهى
(1)
.
(وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ) الأحمر (وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ) بفتح العين المهمَلة، وكسر القاف، هذا هو المشهور، وحُكِي ضمّ العين، وهو ضعيف، وهو بمعنى "عُقْبة الشيطان" المذكور في رواية إسحاق بن إبراهيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى)؛ حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: تقدّم أن بعضهم أعلّوا هذا الحديث بالانقطاع؛ لأن أبا الجوزاء لم يسمعه من عائشة رضي الله عنها، قال جعفر الفريابيّ في "كتاب الصلاة": ثنا مُزاحم بن سعيد، ثنا ابن المبارك، ثنا إبراهيم بن طهمان، ثنا بُديل الْعُقيليّ، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولأ إلى عائشة يسألها. . . فذكر الحديث، قالوا: ظاهر هذا أنه لم يشافهها.
لكن يُجاب عن المصنّف: بأنه لا مانع من جواز كونه توجّه إليها بعد ذلك، فشافهها به، ومذهبه الاكتفاء بالمعاصرة مع إمكان اللقيّ، وهذا متحقّق هنا.
ونقل في "المرعاة" عن "جامع الأصول" أنه قال: أبو الجوزاء سمع من عائشة
(2)
، فإن صحّ هذا فقد زالت العلّة المذكورة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
راجع: "عارضة الأحوذي" 1/ 38.
(2)
راجع: "المرعاة شرح المشكاة" 3/ 10.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 1115](498)، و (أبو داود) في "الصلاة"(783)، و (ابن ماجه) فيها (812 و 869)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1547)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 410)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 31 و 171 و 194 و 281)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1768)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 85 و 172)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1585 و 1595)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1100 و 1101)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة به، وهو التكبير.
2 -
(ومنها): إثبات التكبير في أول الصلاة، وأنه يتعين لفظ التكبير؛ لأنه ثبتٌ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وأنه قال:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، بل ثبت أمره صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته بالتكبير، فقد قال له صلى الله عليه وسلم:"إذا قُمت إلى الصلاة، فكبّر"، متّفقٌ عليه، وأمره للوجوب.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي ذكرناه من تَعَيُّن التكبير، هو قول مالك، والشافعيّ، وأحمد -رحمهم اللَّه تعالى- وجمهور العلماء من السلف والخلف، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقوم غيره من ألفاظ التعظيم مقامه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تقدّم تصويب ما قاله الجمهور، وتفنيد ما قاله في محلّه، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
3 -
(ومنها): أن قولها: "والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "[الفاتحة: 2]، استَدَلّ به مالك وغيره، ممن يقول: إن البسملة ليست من الفاتحة، وجواب الشافعيّ والأكثرين القائلين بأنها من الفاتحة، أن معنى الحديث أنه يبتدئ القرآن بسورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لا بسورة أخرى، فالمراد بيان السورة التي يبتدأ بها، وقد قامت الأدلة على أن البسملة منها، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 214.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 214.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تقدّم أيضًا تحقيق هذه المسألة مستوفًى في محلّه، فراجعه هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.
4 -
(ومنها): أن السنة للراكع أن يُسَوِّي ظهره بحيث يستوي رأسه ومؤخره.
5 -
(ومنها): أن فيه وجوب الاعتدال إذا رفع من الركوع، وأنه يجب أن يستوي قائمًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:"ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا"، وأمره للوجوب، وكان صلى الله عليه وسلم يواظب على الجلوس بين السجدتين، وقال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي".
6 -
(منها): وجوب الجلوس بين السجدتين، لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:"ثم ارفع حتى تطمئنّ جالسًا"، وأمره للوجوب، ولمواظبته عليه.
7 -
(ومنها): أن قولها: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" فيه حجة لأحمد بن حنبل، ومن وافقه من فقهاء أصحاب الحديث، أن التشهد الأول والأخير واجبان، وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما اللَّه والأكثرون: هما سنّتان، ليسا واجبتين، وقال الشافعي رحمه الله: الأول سنّة، والثاني واجب.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الإمام أحمد رحمه الله، ومن وافقه من وجوب التشهّدين جميعًا هو الحقّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا قعد أحدكم في الصلاة، فليقل التحيات للَّه"، متّفقٌ عليه، والأمر للوجوب، ولحديث الباب، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي"، ولما أخرجه مسلم من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن".
وأما احتجاج الأكثرين بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول وجبره بسجود السهو، ولو وجب لم يصحّ جبره كالركوع وغيره من الأركان.
فجوابه أن جبره بالسجود لا يستلزم عدم الوجوب، وإنما غايته أنه مما لا يُبطل الصلاة تركه، فتبصّر.
وأما قولهم: إنه صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه الأعرابي حين علّمه فروض الصلاة.
فجوابه أن الواجبات ليست منحصرة في حديث المسيء صلاته، فالمعروف عند أهل العلم أن كلّ ما ذُكر في ذلك التعليم، واجب، ولا عكس، فكلّ ما دلّ عليه دليل الوجوب من صيغة الأمر أو نحوه يزاد على ذلك التعليم،
فتنبّه لذلك، وهذا البيان قد سبق تحقيقه في شرح حديث المسيء صلاته مستوفًى، فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا.
8 -
(ومنها): أن قولها: "وكان يَفْرُش رجله اليسرى، ويَنْصِب رجله اليمنى" معناه: يجلس مفترشًا، وفيه حجة لأبي حنيفة رحمه الله، ومن وافقه أن الجلوس في الصلاة يكون مفترشًا، سواء فيه جميع الجلسات، وعند مالك: يُسَنّ متوركًا، بأن يُخْرِج رجله اليسرى من تحته، ويُفضِي بوَرِكِه إلى الأرض، وقال الشافعيّ رحمه الله: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشًا، إلا التي يَعْقُبها السلام، والجلسات عند الشافعي: أربع: الجلوس بين السجدتين، وجِلْسة الاستراحة عقب كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، فالجميع يُسَنُّ مفترشًا، إلا الأخيرة، فلو كان مسبوقًا، وجلس إمامه في آخر صلاته متوركًا جلس المسبوق مفترشًا؛ لأن جلوسه لا يعقبه سلام، ولو كان على المصلي سجود سهو فالأصحّ أنه يجلس مفترشًا في التشهد، فإذا سجد سجدتي السهو تَوَرَّك، ثم سلَّم. هذا تفصيل مذهب الشافعي رحمه الله.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بإطلاق حديث عائشة رضي الله عنها هذا، واحتج الشافعي: بحديث أبي حميد الساعديّ في "صحيح" البخاريّ، وفيه التصريح بالافتراش في الجلوس الأول، والتورك في آخر الصلاة، وحَمَلَ حديث عائشة رضي الله عنها هذا على الجلوس في غير التشهد الأخير؛ للجمع بين الأحاديث، قاله النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: جمع الإمام الشافعيّ رحمه الله في هذا حسنٌ، وأحسن منه جمع الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن جلسات الصلاة كلّها بالافتراش، إلا الصلاة التي فيها جلستان، فالأولى تكون بالافتراش، والثانية بالتورّك، وإنما رجّحت هذا؛ لأن حديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه إنما جاء هكذا، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله حديثه في "صحيحه" عن محمد بن عمرو بن عطاء، أنه كان جالسًا مع نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حميد الساعديّ: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبّر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هَصَر ظهره
(1)
، فإذا رفع
(1)
ثنَاه، وأماله.
رأسه استوى حتى يعود كل فَقَار مكانه، فإذا سجد وضع يديه، غير مفترش، ولا قابضِهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة، قَدَّم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مَقْعَدته"، وهذا الحديث لم يُخرجه مسلم.
فقد نصّ فيه أن الصلاة التي فيها تشهّدان، فالجلوس للأول بالافتراش، وللثافي بالتورّك، وأما الصلاة التي ليس فيها تشهّدان فتبقى على حديث عائشة رضي الله عنها، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
قال النوويّ رحمه الله: وجلوس المرأة كجلوس الرجل، وصلاة النفل كصلاة الفرض في الجلوس، هذا مذهب الشافعيّ ومالك -رحمهما اللَّه تعالى- والجمهور، وحَكَى القاضي عياض عن بعض السلف أن سنة المرأة التربُّع، وعن بعضهم التربع في النافلة، والصواب الأول، ثم هذه الهيئة متساوية، فلو جلس في الجميع مفترشًا، أو متوركًا، أو متربعًا، أو مُقْعِيًا، أو مادًّا رجليه صحَّت صلاته، وإن كان مخالفًا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد سبق أن القول بالتفرقة بين الرجال والنساء في هيئة الصلاة مما لم يصحّ عليه دليلٌ من الكتاب أو السنّة، بل كلّ ما صحّ من صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قولًا أو فعلًا فإنه يشمل الرجال والنساء، فقوله صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتموني أصلّي" يشملهما جميعًا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنّفه" بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعيّ أنه قال: تفعل المرأة في الصلاة كما يفعل الرجل.
وروى البخاريّ في "التاريخ الصغير"
(2)
بسند صحيح، وعلّقه في "الصحيح" بصيغة الجزم، عن أم الدرداء، أنها كانت تجلس في صلاتها جِلْسة الرجل، وكانت فقيهة.
وأما حديث انضمام المرأة في السجود، وأنها ليست في ذلك كالرجل، فهو مرسل لا يصحّ، رواه أبو داود في "المراسيل" عن يزيد بن أبي حبيب.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 214.
(2)
راجع: "التاريخ الصغير"(ص 95).
وأما ما رواه الإمام أحمد في مسائل ابنه عبد اللَّه عنه (ص 71) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأمر نساءه يتربّعن في الصلاة، فلا يصحّ؛ لأن فيه عبد اللَّه بن عمر العمري، وهو ضعيف
(1)
.
والحاصل أن المرأة في هيئة الصلاة كالرجل فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن قولها: "وكان يختم الصلاة بالتسليم" فيه دليلٌ على وجوب التسليم، فإنه صحّ قوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم"، وقد قدّمنا أنه يفيد الحصر، فلا خروج منها إلا بالتسليم، هذا مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على الخروج منها به، وقوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي".
قال النوويّ رحمه الله: واختَلَف العلماء فيه، فقال مالك، والشافعيّ وأحمد -رحمهم اللَّه تعالى- وجمهور العلماء من السلف والخلف: السلام فرضٌ، ولا تصح الصلاة إلا به، وقال أبو حنيفة، والثوريّ، والأوزاعي -رحمهم اللَّه تعالى-: هو سنة، لو تركه صحّت صلاته، قال أبو حنيفة: لو فَعَلَ منافيًا للصلاة من حدَث، أو غيره في آخرها صحّت صلاته، واحتج بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه الأعرابيّ في واجبات الصلاة حين علّمه واجبات الصلاة، واحتَجّ الجمهور بما ذكرناه، وبالحديث الآخر في سنن أبي داود والترمذيّ:"مفتاحُ الصلاة الطهور، وتحليلُها التسليم".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: واحتّج ابن حزم بحديث: "وإذا شَكّ أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصواب، فليتمّ عليه، ثم لْيُسَلِّم، ثم يسجدْ سجدتي السهو". متّفق عليه، قال: فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالتسليم من كلّ صلاة، وأمره صلى الله عليه وسلم فرض. انتهى كلامه باختصار
(2)
، وهو احتجاج قويّ.
قال: ومذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور -رحمهم اللَّه تعالى- أن المشروع تسليمتان، ومذهب مالك رحمه الله في طائفة: المشروع تسليمةٌ، وهو قولٌ ضعيفٌ عن الشافعيّ رحمه الله، ومن قال بالتسليمة الثانية، فهي عنده سنةٌ، وشذّ بعض الظاهرية، والمالكية، فأوجبها، وهو ضعيفٌ، مخالف
(1)
راجع: "صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم" للشيخ الألبانيّ رحمه الله (ص 151).
(2)
راجع: "المحلّى" 3/ 275.
لإجماع من قبله، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النووي
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: دعواه الإجماع فيه نظر، فقد نقل ابن حزم عن الحسن بن حيّ أنه قال: التسليمتان معًا فرضٌ.
والحاصل أن القول بفرضيّة التسليمتين هو الظاهر؛ لظواهر النصوص، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(48) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي سُتْرَةِ الْمُصَلِّي)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1116]
(499) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ، فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِي
(2)
مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
2 -
(سِمَاك) بن حرب بن أوس بن خالد الباهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ في روايته عن عكرمة اضطراب، وتغيّر بآخره [4](123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
3 -
(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد اللَّه التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ فاضلٌ [2] ويقال: وُلد في عهده صلى الله عليه وسلم (ت 103) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 215 - 216.
(2)
وفي نسخة: "ولا بال" بحذف الياء.
4 -
(أَبُوهُ) طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العشرة، استُشهد أيّام الجمل (36) وهو ابن (63) تقدم في "الإيمان" سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.
وشيوخه الثلاثة تقدّموا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه، وأبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وسماك علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه: يحيى، فنيسابوريّ، وقتيبة، فبغلانيّ، والصحابيّ مدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا أبو الأحوص" إشارة إلى اختلاف صيغ أداء شيوخه؛ لاختلاف كيفيّة تحمّلهم، وقد تقدّم بيان ذلك مفصّلًا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن قوله: "أبو الأحوص" تنازعه "أخبرنا"، و"حدّثنا"، فأعمل البصريون الثاني؛ لقربه، والكوفيّون الأول؛ لسبقه، كما تقدّم غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سماك، عن موسى، ورواية الابن، عن أبيه.
7 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، وغاب عن بدر، فضرب له النبيّ صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وشهد أُحُدًا، وأبلى فيه، فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذُكر يوم أحد يقول: ذاك يومٌ كلُّه لطلحة، وكانت يده شلاء؛ وقى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ) طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَضَعَ) بالبناء للفاعل (أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أمامه، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده" من طريق زائدة، عن سماك: "ليجعل أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، ثم لْيُصلّ".
قال في "المرعاة": وهذا مطلق، وقد ورد في حديث بلال رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في الكعبة، وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فينبغي للمصلّي أن يدنو من السترة، ولا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع، وقال البغويّ: استَحَبّ أهل العلم الدنوّ من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنوّ منها. انتهى
(1)
.
أخرج الإمام أحمد، وأبو داود والنسائيّ، بإسناد صحيح، عن سهل بن أبي حَثْمَة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم إلى سُتْرَة فَلْيَدْنُ منها، لا يقطعِ الشيطانُ عليه صلاته".
(مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) بنصب "مثل" على المفعوليّة لـ "وَضَعَ"، أي يضع سُترةً مثلَها.
قال النوويّ رحمه الله: "الْمُؤْخِرة" -بضم الميم، وكسر الخاء، وهمزة ساكنة- ويقال: بفتح الخاء، مع فتح الهمزة، وتشديد الخاء، ومع إسكان الهمزة، وتخفيف الخاء، ويقال: آخرة الرحل، بهمزة ممدودة، وكسر الخاء، فهذه أربع لغات، وهي العود الذي في آخر الرحل. انتهى
(2)
.
وعبارة "القاموس" و"شرحه": والآخِرَةُ من الرَّحْلِ: خلاف قَادِمَتِهِ، وكذا من السرج، وهي التي يَستَنِدُ إليها الراكب، والجمع: الأواخرُ، وهذه أفصح اللغات، كما في "المصباح"، كآخِرِهِ، من غير تاءٍ، ومُؤَخَّره، كمُعَظَّم، ومُؤَخَّرته، بزيادة التاء، وتُكسر خاؤهما، مخفَّفَةً، ومُشَدَّدَةً، أمّا الْمُؤْخِرُّ، كمُؤْمِنٍ، فلغة قليلةٌ، وقد جاء في بعض روايات الحديث، وقد منع منها بعضهم، والتشديدُ مع الكسر أنكره ابن السِّكِّيتِ، وجعله في "المصباح" من اللحن. انتهى
(3)
.
(1)
"المرعاة" 2/ 489.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 216.
(3)
"القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 3/ 9.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تحصّل من مجموع ما سبق أن لآخرة الرحل ثماني لغات: آخرةٌ كقائمةٍ، وآخرٌ كقائمٍ، ومُؤَخَّرٌ، ومُؤَخَّرَةٌ، بصيغة اسم المفعول المضعَّف، كمُعَظَّمٍ ومُعَظَمَةٍ، وَمُؤَخِّرٌ، ومؤَخِّرَةٌ، بصيغة اسم الفاعل المضعّف، كمُعَلِّمٍ، ومُعَلِّمَةٍ، ومُؤْخِرٌ، ومُؤْخِرَةٌ، بصيغة اسم الفاعل المخفّف، كمُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ، وأفصحها آخرةٌ.
ومعناه: العُودُ الذي يستند إليه الراكب من كُور البعير، قال الحافظ رحمه الله: اعتبَرَ الفقهاء مُؤْخِر الرحل في مقدار أقلّ السترة، واختَلَفُوا في تقديرها، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع، وهو أشهر، لكن في مصنّف عبد الرزّاق عن نافع أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع، وقال النوويّ: في هذا الحديث بيان أن أقلّ السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع، ويحصُل بأي شيء أقامه بين يديه، قال: وليس في هذا الحديث دليلٌ على بطلان الخطّ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث، وإن لم يدلّ على بطلان الخطّ إلا أن الخطّ لا يصحّ حديثه، فلا ينبغي أن يفعله المصلّي، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِي) بإثبات الياء، فـ "لا" نافية، ولذا رفع الفعل بعدها، وفي بعض النسخ بحذف الياء، وعليه فـ "لا" ناهية، جُزم بها الفعل، والفاعل ضمير "أحدكم".
قال الفيّوميّ رحمه الله: وقولهم: لا أباليه، ولا أبالي به: أي لا أهتمّ به، ولا أكْتَرِثُ له، ولم أبال، ولم أُبَلْ للتخفيف، كما حذفوا الياء من المصدر، فقالوا: لا أباليه بَالَةً، والأصلُ باليَةً، مثلُ عافاه مُعافاةً وعافيةً، قالوا: ولا يُستعمل إلا مع الْجَحْد، والأصل فيه قولهم: تبَالَى القومُ: إذا تبادروا إلى الماء القليل، فاستَقَوا، فمعنى "لا أبالي": لا أُبادر إهمالًا له. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ")"من" موصولة في محلّ نصب على المفعوليّة،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 62.
والمعنى: لا يبالي المصلّي بمرور أحد وراء السترة، من المرأة، أو نحوها، ولا يلزمه دفعه، لإشارة، أو غيرها؛ لأنه لا يضرّه بقطع صلاته.
ويحتمل أن يكون "مَنْ مَرّ" مرفوعًا على الفاعليّة لـ "يبالي"، والمعنى: أن مَن مرّ وراء تلك السترة، لا يبالي بذلك؛ لجواز ذلك له، فلا يلحقه به إثم.
ولفظ أبي داود: "إذا جعلت بين يديك مثلَ مؤخرة الرَّحْل، فلا يضُرّ مَن مرّ بين يديك".
قال في "المنهل": قوله: "فلا يضرّ من مرّ بين يديك"، يعني لا ينقص من ثواب صلاتك من مرّ خلف السترة، حال صلاتك بخلاف من مرّ بينك وبينها، وأخبر صلى الله عليه وسلم بنفي الضرر؛ لأنه قد فَعَلَ ما يُؤْذِنُ بأنه يصلّي، وهو وضعُ السترة، فالمراد بالضرر نقص الصلاة، وفيه إشعارٌ بأن من وضع السترة بين يديه لا ينقص من ثواب صلاته شيء بمرور من مرّ بين السترة والقبلة، ويحصُل النقص إذا لم يتّخذ سُترةً، وكذا إذا مَرّ المارّ بينه وبين السترة. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1116 و 1117](499)، و (أبو داود) في "الصلاة"(685)، و (الترمذيّ) فيها (335)، و (ابن ماجه) فيها (940)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2292)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(231)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 276)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 162)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2379 و 2380)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 269)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1396)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2202 و 1103)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 149)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
راجع "المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 5/ 77.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة اتخاذ السترة للمصلّي.
2 -
(ومنها): بيان أقلّ مقدار الستّرة، وهو قدر مُؤخرة الرحل، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث الندب إلى السترة بين يدي المصلي، وبيان أن أقل السترة مؤخِرَة الرَّحْل، وهي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع، ويحصل بأيّ شيء أقامه بين يديه هكذا، وشرط مالك: أن يكون في غلظ الرمح.
قال: قال أصحابنا: ينبغي له أن يدنو من السترة، ولا يزيد ما بينهما على ثلاث أذرع، فإن لم يجد عصًا ونحوها، جمع أحجارًا أو ترابًا، أو متاعه، وإلا فليبسط مصلى، وإلا فليخطّ الخطّ، وإذا صلى إلى سترة منع غيره من المرور بينه وبينها، وكذا يمنع من المرور بينه وبين الخط، ويحرُم المرور بينه وبينها، فلو لم تكن له سترةٌ، أو تباعد عنها، فقيل: له منعه، والأصح أنه ليس له؛ لتقصيره، ولا يحرم حينئذ المرور بين يديه، لكن يُكْره، ولو وجد الداخلُ فُرْجةً في الصف الأول، فله أن يَمُرّ بين يدي الصف الثاني، ويَقِف فيها؛ لتقصير أهل الصف الثاني بتركها، والمستحب أن يَجعل السترة عن يمينه أو شماله، ولا يصمُد لها؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود بسند ضعيف، عن ضُباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها، أنه قال: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صَلَّى إلى عَمُود، ولا عُود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن والأيسر، ولا يَصْمُد له صَمْدًا
(1)
. انتهى كلام النوويّ بزيادة
(2)
.
3 -
(ومنها): بيان أن من صلّى إلى سترة لا يضرّ صلاته مرور من مرّ بينها وبين القبلة.
4 -
(ومنها): بيان أن من لم يتّخذ سترة تتضرّر صلاته بمرور المارّ، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك.
5 -
(ومنها): ما قال العلماء: الحكمة في مشروعيّة اتّخاذ الستة منع المرور بين يدي المصلّي، وقيل: كفّ النظر عما وراء السترة.
(1)
أي لا يقصدها بالاستقبال، بل يميل إما يمنة، أو يسرة.
(2)
"شرح النووي" 4/ 217.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والأول أظهر، وأشبه بظواهر النصوص، والْعَنَزَة ونحوها لا تكفّ النظر. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه استَدَلّ القاضي عياض بهذا الحديث على أن الخط بين يدي المصلي لا يكفي، قال: وإن كان قد جاء به حديث، وأخذ به أحمد بن حنبل رحمه الله، فهو ضعيف.
واختُلِف فيه، فقيل: يكون مُقَوَّسًا، كهيئة المحراب، وقيل: قائمًا بين يدي المصلي إلى القبلة، وقيل: من جهة يمينه إلى شماله، قال: ولم يَرَ مالك رحمه الله، ولا عامة الفقهاء الخطّ. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله: وحديث الخط رواه أبو داود، وفيه ضَعْفٌ، واضطرابٌ، واختَلَف قول الشافعيّ رحمه الله فيه، فاستحبَّهُ في "سنن حرملة"، وفي القديم، ونفاه في البويطيّ، وقال جمهور أصحابه باستحبابه، وليس في حديث مؤخرة الرحل دليل على بطلان الخط. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الراجح عندي ما ذهب إليه القاضي عياض رحمه الله، من أن الخطّ لا يكفي في السترة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ مقدار السترة المشروعة لَمّا سُئل عنها، فلو كان يكفي أقلّ من ذلك، كالخطّ لبينه، فاتّضح بذلك أن ما كان أقلّ من مؤخرة الرحل لا يُعتَبرُ سُترة شرعيّةً، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: حديث الخطّ هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"، فقال:
(689)
حدّثنا مسدد، حدّثنا بشر بن المفضَّل، حدَّثنا إسماعيل بن أمية، حدَّثني أبو عمرو بن محمد بن حُريث، أنه سمع جدَّه حُريثًا يحدث عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا صَلَّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخطط خطًّا، ثم لا يضرّه ما مرَّ أمامه".
وأخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه"، والبيهقيّ، وذكر أبو داود عن ابن عيينة قال: لم نجد شيئًا نشدّ به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 22.
(2)
"شرح النووي" 4/ 216 - 217.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار ابن عيينة إلى ضعف هذا الحديث، وأنه لا متابع، ولا شاهد له يقؤيه، وكذا ضعّفه الشافعيّ، والبغويّ، وغيرهم.
والحاصل أنه حديث ضعيف؛ لاضطرابه، ولجهالة أبي محمد بن عمرو بن حُريث، وجدّه، فلا يصلح للاحتجاج به.
وأما ما ردّ به الحافظ قول ابن عيينة: "لم نجد شيئًا نشُدّ به هذا الحديث إلخ"، في "نكته على ابن الصلاح"(2/ 773) بأن الطبرانيّ! رواه من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وفي إسناده أبو هارون العبديّ، وهو ضعيف. انتهى.
فمما لا يُلتَفَت إليه؛ لأن أبا هارون هذا لا يُعتبر به، ففي "التقريب": عُمَارة بن جُوَين -مصغَّرًا- أبو هارون العبديّ مشهور بكنيته، متروكٌ، ومنهم من كذّبه، شيعيّ من الرابعة. انتهى.
فكيف ساغ له أن يردّ برواية هذا المتروك، بل المكذّب قول ابن عيينة المذكور؟ إن هذا لشيء عجيب غريب من الحافظ، ومثلُ هذا أيضًا تحسينه هذا الحديث في "بلوغ المرام" ليس مما ينبغي.
والحاصل أن حديث الخطّ لا يصحّ، ولا يثبت، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.
وقد استوفيت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تجد علمًا جمًّا
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم اتّخاذ السترة:
ذهب الأكثرون إلى استحباب اتّخاذها للمصلّي، وإن كان في فضاء.
ورخّصت طائفة من العلماء لمن صلّى في فضاء أن يُصلّي إلى غير سترة، منهم الحسن، وعروة، وكان القاسم، وسالم يصلّيان في السفر إلى غير سترة، وروي عن الإمام أحمد نحوه، نقله عنه الأثرم وغيره، وهو أيضًا مذهب مالك.
ورخّصت طائفة في الصلاة إلى غير سترة مطلقًا، رُوي عن الشعبيّ، قال: لا بأس أن يصلّي إلى غير سترة، وقال ابن سيرين: قلتُ لعبيدة: ما يستر
(1)
"ذخيرة العقبى" 9/ 172 - 177.
المصلّي، وما يَقطع الصلاة؟ قال: يسترها التقوى، ويقطعها الفجور، قال: فذكرته لشُرَيح، فقال: أطيب لنفسك أن تجعل بين يديك شيئًا، أخرجهما وكيع، ورَوَى بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من الجفاء أن يصلّي الرجل إلى غير سترة.
قال ابن رجب رحمه الله: وحيث تُستحبّ الصلاة إلى السترة، فليس ذلك على الوجوب عند الأكثرين، وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد.
ومنهم من قال: هي واجبة، لكن لا تبطل الصلاة بتركها حتى يوجد المرور المبطل للصلاة الذي لأجله شُرِعت السترة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الحقّ قول من قال: بوجوب اتّخاذ السترة مطلقًا، سواء صلّى في البيت، أو في الفضاء هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك، قولًا وفعلًا.
أما فعلًا فقد أخرج الشيخان وغيرهما أحاديث فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو مذكور في أحاديث هذا الباب.
وأما قولًا، فقد أخرج ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُصلِّ إلا إلى سُترة، ولا تَدَع أحدًا يمرّ بين يديك، فإن أبى فقاتله، فإنما هو شيطان"
(2)
.
وأخرج الحاكم عن سبرة بن معبد الْجُهنيّ رضي الله عنه مرفوعًا: "ليستتر أحدكم في صلاته، ولو بسهم"، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، ولْيَدْنُ منها، ولا يَدَعْ أحدًا يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمرّ فليقاتله، فإنه شيطان"
(3)
.
فقد صحّ أمره صلى الله عليه وسلم، وهو للوجوب عند جمهور الأصوليين، وصحّ أيضًا فعلًا في الحضر والسفر، فالحقّ أن اتّخاذ السترة واجب مطلقًا.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 22.
(2)
"صحيح ابن خزيمة"(800)، و"صحيح ابن حبّان"(2362).
(3)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود (697)، وابن ماجه (954).
وأما الذين أجازوا الصلاة بلا سترة مطلقًا، أو في الفضاء، فتردّهم هذه الأحاديث الصحيحة قولًا وفعلًا، ويُمكن أن يُعتذر لهم بأنهم لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة، أو تأوّلوها بما لا يوافقهم فيه غيرهم، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.
وقد استوفيت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه
(1)
، تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1117]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي، وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ، تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ
(2)
بَيْنَ يَدَيْهِ"، وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: "فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ) هو: عمر بن عُبيد بن أبي أُمية الطَّنافسيّ -بفتح الطاء المهملة، والنون، وبعد الألف فاء مكسورة، ثم سين مهملة- الحنفيّ الإياديّ مولاهم، أبو حفص الكوفيّ، صدوقٌ [8].
رَوَى عن أبيه، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وسعيد بن مسروق، وسماك بن حرب، والأعمش، ومنصور، وأشعث بن سُليم، وغيرهم.
وروى عنه أخواه: يعلى، وإبراهيم، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، وعمرو الناقد، ومحمد بن سَلَام البِيكَنديّ، ومحمد بن
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 9/ 172 - 177.
(2)
وفي نسخة: "من مرّ".
عبد اللَّه بن نُمير، وأبو كريب، وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، وغيرهم.
قال أحمد بن حنبل: لم نُدرك بالكوفة أحدًا أكبر منه، ومن المطلب بن زياد، وقال ابن معين: صالحٌ، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال ابن سعد: كان شيخًا قديمًا ثقةً، وقال الدارقطنيّ: عمر، ويعلى، ومحمد، أولاد عُبيد كلهم ثقاتٌ، وأبوهم ثقةٌ، وكذا قال الإمام أحمد قبله، وقال عثمان الدارميّ: سألته -يعني ابن معين- عن يعلى، ومحمد؟ فقال: ثقتان، قلت: فعمر؟ قال: ثقةٌ، قلت: كأنه دونهما؟ قال: نعم، وقال العجليّ: عمر أخو يعلى ومحمد، وهو أسن منهما، وهو دونهما في الحديث، وكان صدوقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال ابن سعد وغيره: مات سنة (185)، وقال ابن حبّان: مات سنة (87) وكذا أَرَّخه خليفة، وهارون بن حاتم، وغير واحد، وقيل: مات سنة (8)، وذكر ابن زَبْرٍ أنه ولد سنة (104).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (499)، وحديث (2049):"الكمأة من المنّ. . . ".
وشيخاه تقدّما في الباب الماضي، والباقون في السند الماضي.
وقوله: (وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِينَا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو؛ لأن الجملة الواقعة حالًا تارة تربط بالضمير، كجاء زيد يده على رأسه، وتارةً بالواو، كهذا الحديث، وتارةً بهما، كجاء زيد وهو يضحك، إلا المبدوءة بالمضارع المثبت، فإنها تربط بالضمير فقط، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَمَوْضِعَ الْحَالِ تَجِيءُ جُمْلَهْ
…
كَـ "جَاءَ زَيْدٌ وَهْوَ نَاوٍ رِحْلَهْ"
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ
…
حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ
وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَا انْوِ مُبْتَدَا
…
لَهُ الْمُضَارعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
وقوله: (فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي سألناه عن حكمه، هل الصلاة جائزة، أم لا؟.
وقوله: (مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ، تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ)"مثلُ" مبتدأ خبره جملة "تكون إلخ"، و"تكون" يَحْتَمِل أن تكون تامّة، بمعنى توجد، و"بين" ظرف متعلّقٌ بها، يعني أنها تُركَز أمامكم، ويَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، وخبرها الظرف، أي تكون قائمةً بين يدي أحدكم.
وقوله: (مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ)"ما" موصولة، عامّة للعقل وغيره، أي لا يضرّه الشيء الذي مرّ أمامه، من إنسان، أو دابّة، وفي بعض النسخ:"مَنْ مرّ"، وفيه تغليب العاقل، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت فيما قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1118]
(500) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ: "مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيَدَ) المقرئ
(1)
، أبو عبد الرحمن المكيّ، بصريّ الأصل، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 232) بمكة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) مِقْلاص، أبو يحيى الخُزاعيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
(1)
[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث هنا غلط، حيث ترجم هنا لعبد اللَّه بن يزيد مولى الأسود بن سفيان المقرى المدنيّ، شيخ مالك، والصواب ما هنا، وذلك لأن مولى الأسود متقدّم من الطبقة السادسة، ما أدركه زهير بن حرب، ولا ابن نمير؛ لأنه مات سنة (148) وزهير ولد سنة (160) أي بعد موته بنحو اثنتي عشرة سنة، وقد وقع لهم قبل هذا نفس الغلط في الحديث المتقدّم في "المقدمة" رقم (4/ 15) ونبّهت عليه هناك، وكذلك في الحديث المتقدم في "الصلاة" رقم (31/ 1000)، وسيأتي كذلك أسانيد أخرى وقع فيها نفس الغلط، وجملة ما وقع فيه الغلط (18) حديثًا، فتنبّه لهذا الغلط الكثير، وباللَّه تعالى التوفيق.
4 -
(أَبُو الْأَسْوَدِ) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ المدنيّ، يتيم عُروة، ثقةٌ [6] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.
5 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ذُكرت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن نصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه نسائيّ، ثم بغداديّ، وعبد اللَّه بن يزيد مكيّ، وسعيد مصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا الأسود محمد بن عبد الرحمن، يقال له: يتيم عروة؛ لأن أباه كان أوصى به إلى عروة، وكان جدّه الأسود من مهاجري الحبشة.
5 -
(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
6 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة المجموعين في قولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرْ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ
وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في الرواية التالية: "في غزوة تبوك"(عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي؟) أي عن مقدار ما يكفي أن يكون
ساترًا للمصلي عما يقطع صلاته (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ") برفع "مثلُ" بتقدير مبتدأ، أي هي مثلُ مؤخِرة الرحل، أو مبتدأ حُذف خبره، أي مثلُ مؤخرة الرحل يكفي في السترة، وتقدّم ضبط "مؤخرة" في الحديث الماضي، ومعناها: العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب، من كور البعير، وقُدّر بعظم الذراع.
و"الرَّحْلُ" بفتح، فسكون: مَرْكبٌ للبعير، كالرَّاحُول، جمعه أَرْحُلٌ، ورِحَالٌ، أفاده في "القاموس"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1118 و 1119](500)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 62 رقم 746) وفي "الكبرى" رقم (821)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1397)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1104 و 1105)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 380 - 381)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1119]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ: "كمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان بن مالك التُجيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
(1)
راجع: "القاموس المحيط" 3/ 383.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) بفتح التاء، وضمّ الموحّدة، قال الفيّوميّ رحمه الله: باكت الناقة تَبُوك بَوْكًا: سَمِنَتْ، فهي بائكٌ بغير هاء، وبهذا المضارع سُمِّيت غزوة تبوك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية من غير قتال، فكانت خاليةً عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هُزَالٌ، ثم سُمّيت البقعة "تَبُوكَ" بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريبٌ من مدين الذين بعث اللَّه تعالى إليهم شُعيبًا عليه السلام. انتهى
(1)
. والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق تخريجه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1120]
(501) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ، أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الْأُمَرَاءُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير المذكور في السند الماضي.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة (بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 66.
5 -
(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في أول سنة (73) أو أول (74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
2 -
(ومنها): أن شيخه الأول أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، نظمتهم بقولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ الْبَارِعِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
وقد تقدَّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عُبيد اللَّه، وابن المثنّى بصريّ، والباقيان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عبيد اللَّه، عن نافع.
5 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما ذو مناقب جمّة، أحد المكثرين السبعة، كما تقدّم في الحديث الماضي، ومن أشدّ الناس اتّباعًا للأثر، ومن العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":
وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو
…
وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِهَارٍ يَجْرِي
دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَهْ
…
وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ
وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ) أي لأجل أداء صلاة العيد في الصحراء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يصلّي العيد خارج المسجد (أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ) أي أمر خادمه بحمل الحربة، وهي -بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء-: دون الرُّمح، عَريضة النَّصْل.
وفي رواية للبخاريّ في "العيدين" من طريق الأوزاعيّ، عن نافع:"كان يغدو إلى المصلَّى، والْعَنَزَة تُحْمَل، وتُنْصَب بين يديه، فيصلي إليها"، زاد ابن ماجه، وابن خزيمة، والإسماعيليّ:"وذلك أن المصلَّى كان فَضَاءً، ليس فيه شيء يستره".
(فَتُوضَعُ) أي تلك الحَرْبة (بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أمام النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) أي إلى تلك الحربة؛ لتستره عن المارّة، وفيه مشروعيّة اتّخاذ السترة للمصلّي، وفي تعبيره بـ "كان" دلالةٌ على أنه كان يلازم ذلك.
(وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو والضمير، ويَحْتَمل أن يكون "الناس" معطوفًا على الفاعل الضمير؛ للفصل بالجارّ والمجرور، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَفْعَلُ ذَلِكَ) أي الأمر بالحربة، ونصبها بين يديه، والصلاة إليها، وذلك حيث لا يكون جدار هنا (فِي السَّفَرِ) أي في حال خروجه من بيته للغزو، أو للنسك، يعني أن حمل الحربة، ونصبها عند الصلاة ليس مختصًّا بيوم العيد (فَمِنْ ثَمَّ) -بفتح الثاء المثلّثة، وتشديد الميم- أي من أجل ذلك (اتَّخَذَهَا الْأُمَرَاءُ) أي أمر الأمراء خَدَمهم باتّخاذ الحربة، يُخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه، والضمير في "اتَّخذها" يَحْتَمِل عوده إلى الحربة التي اتّخذها النبيّ صلى الله عليه وسلم، يعني أن الأمراء كانوا يداولونها واحدًا بعد واحد، ويَحْتَمِلُ أن يعود إلى جنس الحربة، فيكون فيه استخدام
(1)
.
(1)
راجع: "المنهل العذب المورود" 5/ 78.
[تنبيه]: اختُلف في الحربة التي كان يضعها النبيّ صلى الله عليه وسلم أمامه للصلاة، فقيل: هي التي أهداها له النجاشيّ، فقد رَوَى عُمَر بن شَبَّة في "أخبار المدينة" من حديث سعد القَرَظ: أن النجاشيّ أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حربةً، فأمسكها لنفسه، فهي التي يُمْشَى بها مع الإمام يوم العيد.
وقيل: كانت لرجل من المشركين، يدلّ عليه ما رُوي من طريق الليث أنه بلغه أن العنزة التي كانت بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت لرجل من المشركين، فقتله الزبير بن العوّام رضي الله عنه يوم أُحُد، فأخذها منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يَنصِبها بين يديه إذا صلى.
ويَحَتَمِل الجمع بأن عَنَزَة الزبير كانت أوّلًا قبل حربة النجاشيّ، أفاده في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه آخر]: أخرج الإمام ابن ماجه حديث الباب، فجعل قوله:"فمن ثَمّ اتّخذها الأمراء" من قول نافع، ونصّه:
(1305)
حدّثنا سُوَيد بن سعيد، حدّثنا عليّ بن مُسهِر، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى يوم عيد، أو غيره، نُصِبت الْحَرْبة بين يديه، فيصلي إليها، والناس من خلفه، قال نافع: فمن ثَمّ اتّخذها الأمراء انتهى.
قال في "الفتح": هذه الجملة الأخيرة -يعني قوله: "فمن ثَمّ اتّخذها الأمراء"- فَصَلَها عليّ بن مُسْهِر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فجعلها من كلام نافع، كما أخرجه ابن ماجه، وأوضحته في "كتاب المدرج". انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1120 و 1121](501)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(494 و 498 و 972)، و (أبو داود) في "الصلاة"(687)، و (النسائيّ) فيها (2/ 62)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 18 و 98 و 106 و 145 و 151)،
(1)
"الفتح" 1/ 683.
(2)
"الفتح" 1/ 683.
و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 328)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(798)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2377)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1406 و 1407)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1106 و 1107)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة اتّخاذ السترة للصلاة.
2 -
(ومنها): مشروعيّة الاحتياط، وأخذ آلة دفع الأعداء، ولا سِيَّما في السفر.
3 -
(ومنها): جواز الاستخدام، وأمر الخادم بنصب السترة، ونحو ذلك.
4 -
(ومنها): أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، قال في "العمدة": وادّعى بعضهم فيه الإجماع، نقله ابن بطّال
(1)
، وقد ترجم عليه الإمام البخاريّ في "صحيحه"، فقال:"بابُ سترة الإمام سترة من خلفه"، فأورد أحاديث ابن عبّاس، وابن عمر، وأبي جحيفة رضي الله عنهم المذكورة في هذا الباب، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
5 -
(ومنها): استحباب اتّخاذ الْحَربة في السفر؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، كما اتّخذها الأمراء من بعده، لكن قال الحافظ ابن رجب رحمه الله ما نصّه: وما ذُكر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من اتّخاذ الأمراء لها، فالأمراء الذين عناهم في زمنه إنما اتّخذوها تعاظمًا وكبرًا، ولم يتّخذوها لأجل الصلاة، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتّخذها للصلاة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال ابن رجب رحمه الله، وهو على إطلاقه محلّ نظر، فإن الأمراء فيهم أهل خير وصلاح، ومن يريد الخير واتّباع السنّة، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): "مشروعيّة اتّخاذ السترة لمن يُصلّي في الفضاء، قال ابن قُدامة رحمه الله: يُسْتَحبّ للمصلي أن يصلي إلى سترة، فإن كان في مسجد، أو بيت صلى إلى الحائط، أو سارية، وإن كان في فضاء صلى إلى شيء شاخص بين
(1)
"عمدة القاري" 4/ 404.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 21.
يديه، أو نَصَب بين يديه حَرْبةً، أو عصى، أو عَرَض البعير، فصلى إليه، أو جعل رَحْله بين يديه، وسئل أحمد: يصلي الراحل إلى سترة في الحضر والسفر؟ قال: نعم، مثل مؤخرة الرحل، ولا نعلم في استحباب ذلك خلافًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ ترجيح القول بوجوب اتّخاذ السترة، لقوّة أدلّته، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في شرح حديث طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم هل سترة الإمام سترة لمن خلفه أم لا؟:
قال ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: سترة الإمام سترة لمن خلفه، نَصّ على هذا أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، كذلك قال ابن المنذر، وقال الترمذيّ: قال أهل العلم: سترة الإمام سترة لمن خلفه، قال أبو الزناد: كلُّ من أدركت من فقهاء المدينة الذين يُنْتَهَى إلى قولهم: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وسليمان بن يسار، وغيرهم يقولون: سترة الإمام سترة لمن خلفه.
ورُوي ذلك عن ابن عمر، وبه قال النخعيّ، والأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ، وغيرهم.
وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم "صَلَّى إلى سترة"، ولم يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"أقبلت راكبًا على حمارٍ أَتَانٍ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان تَرْتَع، فدخلت في الصفّ، فلم يُنْكِر عليّ أحدٌ"، متّفقٌ عليه.
ومعنى قولهم: سترةُ الإمام سترة لمن خلفه، أنه متى لم يَحُلْ بين الإمام وسترته شيء، يقطع الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة، لا يضرُّها مرور شيء
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 2/ 66 - 67.
بين أيديهم في بعض الصفّ، ولا فيما بينهم وبين الإمام، وإن مَرّ ما يَقطَع الصلاة بين الإمام وسترته، قَطَع صلاته وصلاتهم، وقد دلّ على هذا ما رَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: هَبَطنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من ثَنِيّة أَذَاخِر، فحضرت الصلاة، يعني فصلَّى إلى جدار، فاتخذه قبلة، ونحن خلفه، فجاءت بَهْمَةٌ تمرّ بين يديه، فما زال يُدارؤها حتى لَصِقَ بطنه بالجدار، ومرّت من ورائه"
(1)
.
فلولا أن سترته سترةٌ لهم لم يكن بين مرورها بين يديه وخلفه فرقٌ. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله.
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله ما ملخّصه: قول جمهور العلماء أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، قال ابن المنذر: رُوي ذلك عن ابن عمر، وبه قال النخعيّ، ومالكٌ، والأوزاعيّ، وأحمد. انتهى.
ومنهم من قال: الإمام سترة لمن خلفه، وهو قول طائفة من أصحاب مالك.
قال: ومعنى كون سترة الإمام سترة لمن خلفه أن المأمومين لا يُشرع لهم أن ينصبوا بين أيديهم سترة غير سترة إمامهم، وأنه لا يضرّهم من مرّ بين أيديهم إذا لم يمرّ بين يدي إمامهم، ويدلّ على ذلك أيضًا ما روى هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: هبطنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . فذكر الحديث الماضي، قال: وهذا يدلّ على أن المرور بين الإمام وسترته محذورٌ بخلاف المرور بين يدي من خلفه إذا كانت سترة الإمام محفوظةً، وأما جواز المرور بين يدي المأمومين إذا كانت سترة الإمام محفوظةً، ففيه قولان: أحدهما: أنه منهيّ عنه أيضًا، نصّ عليه أحمد في رواية الأثرم.
والقول الثاني: جوازه من غير كراهة، وأنه غير داخل في النهي، قال: وذكر ابن عبد البرّ في "التمهيد" أن المأموم لا يدفع من مرّ بين يديه، وقال: لا أعلم بين أهل العلم فيه خلافًا، وذكر في "الاستذكار" أن مالكًا يرخّص في ذلك لمن لم يجد منه بُدًّا، وأن غيره لا يرى به بأسًا، يعني بكلّ حال، سواء
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (708).
اضطرّ إليه أو لا؛ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: وقد قدّمنا أن الإمام سترة لمن خلفه، فالماشي خلفه أمامَ الصفّ كالماشي خلفه دون صفّ.
قال: وحكي عن أحمد أن من كان بين يديه فرجة فلا يكره له أن يمشي عَرْضًا بين الصفوف حتى يقوم فيها، قال: وهذا قول ثالث بالرخصة في ذلك لحاجة إليه، وإن لم يكن ضرورةً.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه من المأمومين، فروى الْجُوزَجانيّ وغيره من طريق ابن سيرين أنه بلغه أن الحكم الغفاريّ أمّ جيشًا، وأنه كان بين يديه رُمحٌ، فمرّ به ما يقطع الصلاة، فأعاد بالقوم الصلاة، فلما انصرف ذُكر ذلك له، فقال: أوَ لم تروا إلى ما مرّ بين أيدينا؛ فأنا ومن يليني قد سترنا الرمح، فإنما أعدت الصلاة من أجل العامّة، قال ابن المنذر في كتابه الكبير: ورُوي عن عطاء نحوه.
وروى عُمر بن شَبّة في كتاب "أخبار قضاة البصرة" بسنده عن يونس، قال: كان موسى بن أنس يصلّي بالناس في صحن المسجد، فكان كلبٌ يمرّ بين أيديهم، فسألوا الحسن؟ فقال: أما الإمام، ومن كان إلى سارية، ومن كان خلف الصفّ، فلا يُعيد، ومن كان بين السواري فليُعد. انتهى مختصر كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من عرض أقوال العلماء، وأدلتهم أن الأرجح أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، كما هو مذهب الجمهور، ومذهب الإمام البخاريّ أيضًا، فقد ترجم عليه في "صحيحه"، فقال:"باب سترة الإمام سترة لمن خلفه"؛ وذلك لقوّة حجته، كحديث مرور ابن عبّاس رضي الله عنهما بين يدي بعض الصفّ راكبًا أتانًا، ولم يُنكر ذلك عليه، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه المتقدّم.
والحاصل أن سترة الإمام سترة لمن خلفه من الصفوف، فلا يضرّهم مَن مرّ بين أيديهم إذا كانت سترة الإمام محفوظةً، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 12 - 18.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1121 (. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْكُزُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَغْرِزُ الْعَنَزَةَ، وَيُصَلِّي إِلَيْهَا، زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَهِيَ الْحَرْبَةُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
والباقون تقدّموا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير.
وقوله: (كَانَ يَرْكُزُ) بضمّ الكاف، وكسرها، يقال: رَكَز الرمحَ يَرْكُزُهُ وَيَرْكِزُهُ رَكْزًا، من بابي نصر وضرب: غَرزه وأثبته في الأرض، والْمَرْكِز وزانُ مَسْجِدٍ، وتفتح الكاف أيضًا: موضع الثبوت
(1)
.
وقوله: (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَغْرِزُ) يعني أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة قال في روايته بدل قول ابن نُمير: "يركز": "يغرز" مضارع غَرَزَ، يقال: غَرَزَه غَرْزًا، من باب ضرب: أثبته بالأرض، وأغرزته بالألف لغة، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقوله: (الْعَنَزَةَ) بالنصب على المفعوليّة، تنازعه "يركز"، و"يغرِز"، وهي بفتحتين: عصًا أقصر من الرمح، ولها زُجٌّ من أسفلها، والجمع عَنَزٌ، وعَنَزَاتٌ، مثلُ قَصَبة وقَصَبٍ وقَصَبَات
(3)
.
وقوله: (وَهِيَ الْحَرْبَةُ) يعني أن الْعَنَزة هي الحربة، قال في "القاموس": الْحَرْبَةُ: الأَلَّةُ، جمعها حِرَابٌ
(4)
، وقال في مادّة "أَلّ" ما حاصله: الأَلّةُ: الْحَرْبَةُ الْعَرِيضة النّصْلِ، جمعها أَلّ. انتهى
(5)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "المصباح"، و"القاموس"، و"اللسان" في مادّة "ركز".
(2)
"المصباح المنير" 2/ 445.
(3)
"المصباح" 2/ 432.
(4)
"القاموس المحيط" 1/ 53.
(5)
راجع: "القاموس" 3/ 330.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1122]
(502) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ
(1)
رَاحِلَتَهُ، وَهُوَ يُصَلِّي إِلَيْهَا
(2)
").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، نزيل بغداد، أحد الأئمة الأعلام، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ مجتهدٌ، رأس [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
2 -
(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن طرخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز (85)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
والباقون تقدّموا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن فيه أحد الأئمة الأربعة، وإمام السنة، ورأس المحدثين أحمد بن حنبل رحمه الله، وروى عنه المصنّف في هذا الكتاب نحو تسعة عشر حديثًا، وقد تقدّم له قبل هذا حديثان، برقم (166) و (215).
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وقد تقدّم قبله، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما ("أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ) بفتح الياء، وكسر الراء، ورُوي بضم الياء، وتشديد الراء، ومعناه: يجعلها معترضة بينه وبين القبلة، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
(1)
وفي نسخة: "يُعَرِّض" بضم أوله، وتشديد الراء.
(2)
وفي نسخة: "ويصلّي إليها".
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 218.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله: "يعرض راحلته" -بكسر الراء-: أي يُنيخها معترضةً بينه وبين جهة القبلة، وفيه لغة أخرى "يَعْرُضُ" بضمّ الراء، ذكرها صاحب "كشف المشكل". انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
وفي بعض النسخ: "يُعَرِّض" مضبوطًا بالقلم بضمّ أوله، وكسر رائه المشدّدة، من التعريض، أي يجعلها عَرْضًا، وهذا هو الذي ذكره في "الفتح"
(2)
، و"العمدة"
(3)
.
وقوله: (رَاحِلَتَهُ) بالنصب على المفعوليّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الراحلة: الْمَرْكَبُ من الإبل ذكرًا كان أو أُنثى، وبعضهم يقول: الراحلةُ: الناقة التي تصلح أن تُرْحَلَ، وجمعها رَوَاحلُ، ورَحَلْتُ البعيرَ رَحْلًا، من باب نَفَعَ: شددتُ عليه رَحْلَهُ، وأرحلتُ فلانًا بالألف: أعطيته راحلةً. انتهى بتصرّف
(4)
.
وقوله: (وَهُوَ يُصَلّي إِلَيْهَا") يحتمل أنها جملة معطوفة على جملة "يعرض"، ويَحْتَمِل أن تكون في محلّ نصب على الحال، وهي من الحال المقدّرة، كقوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقدّرين الخلود؛ لأن الخلود لا يكون إلا بعد الدخول، والمعنى هنا أنه يعرض راحلته، مُقَدّرًا الصلاة إليها.
وفي بعض النسخ: "ويصلي إليها"، بحذف "هو"، فيكون معطوفًا على "يعرض"، وفي رواية البخاريّ:"فيُصلّي إليها" بالفاء.
[تنبيه]: هذا الحديث اختصره المصنّف، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال:
(507)
حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدَّميّ، حدّثنا معتمر، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرض راحلته، فيصلي إليها، قلت: أفرأيت إذا هَبَّت الركاب؟ قال: كان يأخذ هذا الرحل، فَيُعَدِّله، فيصلي إلى آخرته، أو قال: مُؤَخَّره، وكان ابن عمر يفعله. انتهى.
وقوله: "هبّت الركاب" معناه: قامت الإبل للسير، قاله الهرويّ وغيره، ويقال للنائم إذا قام من النوم: هبّ من منامه.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 68.
(2)
1/ 691.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 419.
(4)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 222 - 223.
والمراد إذا لم يكن عنده إبل باركةٌ يستتر بها.
وقال الخطّابيّ: هَبّت: أي هاجت، يقال: هبّ الفحل هَبِيبًا: إذا هاج، قال: يريد أن الإبل إذا هاجت لم تهدأ، ولن تقرّ، فتفسد على المصلّي إليها صلاته.
قال ابن رجب: وهذا الذي قاله في غاية البعد، وإن كان محتملًا في اللفظ، فليس هو المراد في الحديث.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أنه لا بُعد فيما قاله الخطّابيّ، وهو الذي اعتمده الحافظ في "الفتح"، والعينيّ في "العمدة"، فتأمّله، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "يأخذ الرحل": رحلُ البعير هو ما على ظهره مما يُركب عليه، والراحلة هي ما يرتحله الرجل، أي يركبه في ارتحاله، بعيرًا كان، أو ناقةً، قاله الأزهريّ وغيره، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"تجدون الناس كإبلٍ مائةٍ، لا يجد الرجل فيها راحلةً"، متّفقٌ عليه.
وقوله: "فيعدله" بفتح الياء، وكسر الدال، قال الخطّابيّ: أي يقيمه تلقاء وجهه.
و"آخرة الرحل" بكسر الخاء: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب على الرحل، وقد سبق الخلاف في تقديرها، هل هي ذراعٌ تامّ بالذراع الذي يُذرع به، أو ذراع بعظم الإنسان، وهو نحو ثلثي ذراع مما يُذرع به؟ ذكره ابن رجب رحمه الله.
وقال الحافظ رحمه الله: اعتَبَر الفقهاء مُؤَخَّرة الرحل في مقدارِ أقلِّ السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراغ، وهو أشهر، لكن في "مصنف عبد الرزاق"، عن نافع أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "قلتُ: أفرأيت" ظاهره أنه كلام نافع، والمسؤول ابن عمر، لكن بَيّن الإسماعيليّ من طريق عَبِيدة بن حُميد، عن
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله-4/ 68 - 70، و"فتح الباري" لابن حجر رحمه الله 1/ 692.
عبيد اللَّه بن عمر، أنه كلام عبيد اللَّه، والمسئول نافع، فعلى هذا هو مرسل؛ لأن فاعل "يأخذ" هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يدركه نافع.
وقوله: "هَبّت الركاب" أي هاجت الإبل، يقال: هَبّ الفحل: إذا هاج، وهَبّ البعير في السير: إذا نَشِطَ، و"الرِّكَاب": الإبل التي يُسار عليها، ولا وأحد لها من لفظها، والمعنى: أن الإبل إذا هاجت شَوَّشت على المصلي؛ لعدم استقرارها، فَيَعْدِل عنها إلى الرحل، فيجعله سُترةً.
وقوله: "فيعدله" -بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الدال- أي يقيمه تلقاء وجهه، ويجوز التشديد.
وقوله: "إلى أَخَرَته" بفتحات، بلا مدّ، ويجوز المدّ، و"مؤخرته" بضم أوله، ثم همزة ساكنة، وأما الخاء فجزم أبو عبيد بكسرها، وجوَّز الفتح، وأنكر ابن قتيبة الفتحَ، وعَكَس ذلك ابن مكيّ، فقال: لا يقال: مُقْدِمٌ، ومُؤْخِرٌ بالكسر إلا في العين خاصّةً، وأما في غيرها فيقال بالفتح فقط، ورواه بعضهم بفتح الهمزة وتشديد الخاء، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1122 و 1123](502)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(507)، و (أبو داود) فيها (692)، و (الترمذيّ) فيها (352)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 3 و 26 و 106)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 328)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(801)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2378)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 269)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13454)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1414 و 1415)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1108 و 1109)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 1/ 691 - 692.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية اتّخاذ السترة للصلاة إليها.
2 -
(ومنها): جواز الصلاة إلى الحيوان، وجواز الصلاة بقرب البعير، بخلاف الصلاة في أعطان الإبل، فإنها مكروهة؛ للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك؛ لأنه يُخاف هناك نُفورها، فيذهب الخشوع، بخلاف هذا، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): مشروعية الاستتار برَحْلِ الراحلة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قد تبيّن بهذا الحديث جواز الاستتار بالراحلة، وبالبعير، سواء كان مرتحلًا، أو غير مرتحل، اللَّهمّ إلا أن يكون غيرُ المرتحل هائجًا، فيُخشى من هَيَجانه إفساد الصلاة على من يُصلّي إليه، كما ذكره الخطّابيّ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبي رحمه الله: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها، وإما لأنهم كانوا يَتَخَلَّون بينها، مستترين بها. انتهى.
وقال غيره: علة النهي عن ذلك كون الإبل خُلِقت من الشياطين، فقد أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا في مَرَابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خُلِقت من الشياطين".
قال في "الفتح": فيُحْمَل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة، ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة؛ لكون البيت كان ضَيّقًا، وعلى هذا فقول الشافعيّ في البويطيّ: لا يستتر بامرأة ولا دابة، أي في حال الاختيار.
ورَوَى عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد اللَّه بن دينار، أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يَكْره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رَحْلٌ، وكأن الحكمة في ذلك
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 218.
(2)
"فتح الباري" 4/ 70.
أنها في حال شَدّ الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الصلاة إلى الراحلة لا يتقيّد بحالة الضرورة؛ لأن قوله: "كان صلى الله عليه وسلم يعرض راحلته فيصلّي إليها" يدلّ على تكرّر ذلك منه؛ لأن "كان" تدلّ على الاستمرار، ومما يؤيّد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يَعْدِل إلى الاستتار بالرحل، إلا إذا هاجت الركاب، فلو كان الاستتار بالراحلة للضرورة، لتركها، واستتر برحلها، فدلّ على أن الاستتار بالراحلة جائز إذا لم تكن هائجة، فعند ذلك يستتر برحلها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1123]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِلَى رَاحِلَتِهِ"، وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ:"إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى بَعِيرٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
كلهم تقدّموا في هذا الباب، غير "أَبي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ"، وهو: سليمان بن حيّان، فتقدّم في الباب الماضي.
وقوله: (صَلَّى إِلَى بَعِيرٍ) وفي نسخة: "إلى بعيره"، وهو بمعنى راحلته؛ لأن الراحل هي المركوب من الإبل، ذكرًا كان أو أُنثى، كما تقدّم قريبًا، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1124]
(503) - (حَدَّثَنَا
(3)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي
(1)
"الفتح" 1/ 692.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِبهِ، قَالَ: أَتَبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ، فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ، مِنْ أَدَمِ، قَالَ: فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوئهِ
(1)
، فَمِنْ نَائِلٍ، وَنَاضِحٍ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ
(2)
، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ، وَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ: فَجَعَلْت أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا، يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَبْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، لَا يُمْنَعُ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَكِيع) بن الجرَاح تقدّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيه إمامٌ حجةٌ، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ) السُّوائيّ -بضمّ السين المهملة- الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، ومسلم بن رِيَاح الثقفي، وله صحبة، والمنذر بن جرير البجلي، وعبد الرحمن بن سُمَير، ومِخْنَف بن سُلَيم، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، والثوري، وقيس بن الربيع، ومالك بن مِغْوَل، وحجاج بن أرطاة، وصدقة بن أبي عِمْران، وأبو العُمَيس، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقةٌ. وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال خليفة: مات في آخر ولاية خالد على العراق. وقال ابن قانع: مات سنة ست عشرة ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (503) وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (1017) وكرّره مرّتين، و (2869).
4 -
(أَبُوهُ) هو: وَهْب بن عبد اللَّه بن مسلم بن جُنَادة بن حبيب بن سُواءة
(1)
وفي نسخة: "بوَضُوء".
(2)
وفي نسخة: "وعليه حلّة حمراء".
-بضم السين المهملة، وتخفيف الواو، والمدّ- ابن عامر بن صَعْصَعة، ويقال: اسم أبيه وهب، أبو جُحَيفة السُّوَائيّ، يقال له: وهب الخير.
قَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره، وحفظ عنه، ثم صَحِب عليًّا بعده، وولّاه شُرْطة الكوفة لَمّا ولي الخلافة.
وفي "الصحيح" عنه: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن عليّ يُشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قَلُوصًا، فمات قبل أن نقبضها، وكان عليّ يُسمّيه وهب الخير.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ، والبراء بن عازب.
ورَوَى عنه ابنه عون، وسَلَمة بن كُهيل، والشعبي، والسَّبِيعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وزياد الأعسم، وأبو عمر الْمُنَبِّهِيُّ، وعلي بن الأقمر، والحكم بن عتيبة.
قال الواقديّ: مات في ولاية بشر بن مروان، وقال غيره: سنة أربع وسبعين، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: مات أبو جحيفة قبل أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وهو قول ابن حبان، وقال أبو نعيم: كان على شُرْطة عليّ، واستعمله على خمس المتاع.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث فقط، برقم (503) وكرره ثلاث مرات، و (1961) و (2342) و (2343) و (2869).
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى زهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
شرح الحديث:
عن عون بن أبي جحيفة (عَنْ أَبِيهِ) أبي جُحَيفة، وهب بن عبد اللَّه السُّوَائيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَةَ، وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ) قال النوويّ رحمه الله: هو الموضع المعروف على باب مكة، ويقال له: البطحاء أَيضًا. انتهى
(1)
.
ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ "بالبطحاء"، قال في "الفتح": يعني بطحاء مكة، وهو موضع خارج مكة، وهو الذي يقال له الأبطح. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: البَطْحاء: هي الحصى الصغار، وبطحاء الوادي، وأبطحه حصاه اللَّيِّن في بطن المسيل، ومنه حديث "صلَّى بالأبطح" يعني أبطح مكة، وهو مَسِيل واديها، ويُجمع على البِطَاح، والأباطيح. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البَطِيحةُ والأبطحُ: كلُّ مكان مُتَّسِعٍ، والأبطح بمكة هو المحصَّبُ. انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": الأبطح: هو المكان المعروف، ويقال له: البطحاء، ويقال: إنه إلى منى أقرب، وهو المحصّب، وهو خيف بني كنانة، وزعم بعضهم أنه ذو طُوَى، وليس كذلك، كما نبّه عليه ابن قرقول، وعند النسائيّ:"وهو في قبّة حمراء، في نحو من أربعين رجلًا"
(5)
.
(فِي قُبَّةٍ) بضم القاف، وتشديد الموحّدة، قال الفيّوميّ: الْقُبّة من البنيان معروفةٌ، وتُطلق على البيت المدوّر، وهو معروف عند التُّرْكُمَان والأَكْراد، والجمع قِبَاب، مثلُ بُرْمَة وبِرَام. انتهى.
وقال في "العمدة": قال الجوهريّ: القُبّة من البناء، والجمع قُبَبٌ وقِبَابُ قال: المراد من القبة هنا هي التي تُعْمَل من الجلد، وقد فَسَّر ذلك بكلمة "من" البيانية. انتهى.
وقوله: (لَهُ) متعلّق بصفة لـ "قُبّة"، أي كائنة له صلى الله عليه وسلم (حَمْرَاءَ) صفة بعد صفة، ممنوع من الصرف؛ لألف التأنيث الممدودة (مِنْ أَدَمٍ) قال في
(1)
"شرح النووي" 4/ 218.
(2)
"الفتح" 1/ 683.
(3)
"النهاية" 1/ 124 - 125.
(4)
"المصباح" 1/ 51.
(5)
"عمدة القاري" 4/ 148.
"المختار": الأدَمُ -بفتحتين-: جمع أَدِيمٍ، وقد يُجمع على آدِمة، كرغيف وأَرْغِفة
(1)
، وقال في "المصباح": الأَدِيم: الجلد المدبوغ، والجمع أدم بفتحتين، وبضمّتين أيضًا، وهو القياس، مثلُ بَرِيدٍ وبُرُد
(2)
.
وفي "اللسان": الأَدِيم الجلدُ ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ، وقيل: هو بعد الأَفِيق، وذلك إذا تَمَّ واحْمَرَّ، والأَفِيق هو الجلد الذي لم يَتِمَّ دِباغه، وقيل: هو ما دُبِغ بغير القرظ، قاله ابن الأثير، والأَدَمُ -بفتح الدال- اسم للجمع عند سيبويه، مثلُ أَفِتي وأَفَقٍ، والآدام جمع أَدِيم، كيتيم وأَيتَام، وإن كان هذا في الصفة أكثر، وقد يجوز أن يكون جمع أَدَمٍ. انتهى
(3)
.
(قَالَ) أبو جحيفة رضي الله عنه (فَخَرَجَ بِلَالٌ) هو ابن رَبَاح، وأمّه حمامةُ، مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، الموذّن المعروف، من السابقين الأولين، شهد بدرًا، وما بعدها، ومات بالشام سنة (17) أو (18) وقيل:(20)، تقدّمت ترجمته مستوفاة في (23/ 648). (بِوَضُوئِهِ) وفي نسخة:"بوضوء" بلا إضافة، وهو هنا بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضّأ به، وأما بالضم فالفعل، وقد قيل: هما لغتان فيهما، قاله القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
وقوله: (فَمِنْ نَائِلٍ) أي آخذ من ذلك الوضوء (وَنَاضِحٍ) أي متمسّح بما أصابه من يد صاحبه، كما فُسّر في الرواية الآتية، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: فمنهم من ينال منه شيئًا، ومنهم من يَنْضَح عليه غيره شيئًا مما ناله، ويَرُشُّ عليه بَلَلًا مما حَصَلَ له، وهو معنى ما جاء في الحديث الآخر:"فمن لم يُصب أخذ من يد صاحبه".
(قَالَ) أبو جُحيفة رضي الله عنه (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ) وفي نسخة: "وعليه حلّة حمراء"، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل.
و"الْحُلّة"-بضمّ الحاء المهملة، وتشديد اللام- جمعه: حُلَلٌ، كغُرْفة وغُرَف، قال الفيّوميّ: رحمه الله: "الْحُلّة" -بالضمّ- لا تكون إلا ثوبين من جنس واحد. انتهى
(5)
.
(1)
"مختار الصحاح"(ص 28).
(2)
"المصباح" 1/ 9.
(3)
"لسان العرب" 12/ 10.
(4)
"المفهم" 2/ 102.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 148.
وقال في "النهاية": "الحُلّة": واحدة الْحُلَل، وهي برود اليمن، ولا تُسمّى حُلّةً إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. انتهى
(1)
.
وقال في "الدرّ النثير": قال الخطّابيّ: الحلّة ثوبان: إزار ورداء، ولا تكون حلّة إلا وهي جديدة تُحَلُّ من طَيِّها، فتُلبس. انتهى.
وقال في "اللسان": وقال اليماميّ: الحلّة: كلُّ ثوب جيّد جديد تلبسه، غليظٍ، أو دقيقٍ، ولا يكون إلا ثوبين، وقال ابن شُمَيل: الحلّة: القميص والإزار والرداء، لا تكون أقلّ من هذه الثلاث، وقال شَمِر: الحلّة عند الأعراب: ثلاثة أثواب، وقال ابن الأعرابيّ: يقال للإزار والرداء حُلّة، ولكلّ منهما على انفراده حُلّة، قال الأزهريّ: وأما أبو عبيد، فإنه جعل الحلّة ثوبين، والجمع حُلُل، وحِلالُ، وأنشد ابن الأعرابي [من الرجز]:
لَيْسَ الْفَتَى بِالْمُسْمِنِ الْمُخْتَالِ
…
وَلَا الَّذِي يَرْفُلُ فِي الْحِلَالِ
انتهى من "اللسان" باختصار
(2)
.
وقال في "القاموس": "الْحُلّةُ" بالضمّ: إزار ورداءٌ، بُرْدٌ أو غيره، ولا تكون حُلّةً إلا من ثوبين، أو ثوب له بِطَانة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: المشهور أن الحلّة لا تُطلق إلا على ثوبين، كإزار ورداء، أو ما كان في حكمهما، كالمبطّن، واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية أبى داود: "وعليه حُلّة حمراء، برودٌ، يمانيةٌ قِطْريّ".
قوله: "برود" جمع بُرْد مرفوعٌ؛ لأنه صفة لـ "حلّة"، وقوله:"يمانية" صفة لـ "برود"، أي منسوبة إلى اليمن، وقوله:"قِطْريّ" بكسر القاف، وسكون الطاء، والأصل قَطَريّ بفتح القاف والطاء؛ لأنه نسبة إلى قَطَر بلد بين عُمان وسِيف البحر، ففي النسبة خَفَّفوها، وكسروا القاف، وسكنوا الطاء، ويقال: القِطْريّ: ضرب من البرود، فيها حمرة، ويقال: ثياب حُمْرٌ لها أعلام، فيها بعض الخشونة، وقيل: حُلَلٌ جِيادٌ، تُحْمل من قِبَل البحرين، وإنما لم يقل:"قِطْرية" مع أن التطابق بين الصفة والموصوف شرط؛ لأنه بكثرة الاستعمال صار
(1)
"النهاية" 1/ 432.
(2)
"لسان العرب" 11/ 172.
(3)
"القاموس المحيط" 3/ 359.
كالاسم لذلك النوع من الحلل، ووَصَف الحلة بثلاث صفات: الأولى صفة الذات، وهي قوله:"حمراء"، والثانية صفة الجنس، وهي قوله:"برود"، بَيَّن به أن جنس هذه الحلة الحمراء من البرود اليمانية، والثالثة صفة النوع، وهي قوله:"قِطْريّ"؛ لأن البرود اليمانية أنواع، نوعٌ منها قَطْريّ، بيّنه بقوله: قَطْري.
وقيل: إنما لبس النبيّ صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء في السفر؛ ليتأهب للعدوّ، ويجوز أن يلبس في الغزو ما لا يلبس في غيره.
وتُعُقّب بأنه لم يكن في هذا السفر للغزو؛ لأنه كان عقب حجة الوداع، ولم يَبْقَ له غزو إذ ذاك، قاله في "العمدة"
(1)
.
[تنبيه]: ظاهر قوله: "حمراء" يدلّ على أنها كانت حمراء خالصةً، لكن فسرها بعضهم بأنها إنما كانت بُرد مخطّطًا فيه خُطَطٌ حمر، ولم يكن كلّه أحمر، وإلى هذا ميل الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ"
(2)
.
وقوله: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، ذكره تأكيدًا لكلامه، وأنه لم ينس الواقعة حتى إنه الآن ليستحضر نظره إلى بياض ساقه صلى الله عليه وسلم (قَالَ) أبو جحيفة (فَتَوَضَّأَ) صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: فيه تقديم وتأخير، تقديره:"فتوضّأ، فمن نائل بعد ذلك، وناضح"؛ تبرّكًا بآثاره صلى الله عليه وسلم، وقد جاء مبيّنًا في الحديث الآخر:"فرأيت الناس يأخذون من فضل وَضُوئه". انتهى.
(وَأَذَّنَ بِلَالٌ) رضي الله عنه، أي شرع في الأذان (قَالَ) أبو جحيفة (فَجَعَلْتُ) أي شرعتُ وأخذت (أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا) وقوله:(يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا) بيان للمعنى المشار إليه بقوله: "ها هنا وها هنا" على اللفّ والنشر، فقوله:"يمينًا" يعود إلى "ها هنا" الأول، وقوله:"وشمالًا" يعود إلى "ها هنا" الثاني، ثم أوضح وقت التفاته يمينًا وشمالًا بقوله:(يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) فالتفاته يمينًا عند قوله: "حيّ على الصلاة"، والتفاته شمالًا عند قوله:"حيّ على الفلاح"، وسيأتي تمام البحث في هذا الفوائد -إن شاء اللَّه تعالى-.
(قَالَ) أبو جحيفة (ثُمَّ رُكِزَتْ) بالبناء للمفعول، والذي ركزها هو
(1)
"عمدة القاري" 4/ 148 - 149.
(2)
راجع: "فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 436 - 441.
بلال رضي الله عنه، ففي الرواية التالية من طريق عمر بن أبي زائدة، عن عون:"ثم رأيت بلالًا أخرج عَنَزَةً، فركزها"(لَهُ) صلى الله عليه وسلم (عَنَزَة) -بفتحات- هي: عصًا في أسفلها حديدة (فَتَقدَّمَ) صلى الله عليه وسلم أمام الناس (فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ) أي لكونه مسافرًا (يَمُرُّ) بالبناء للفاعل (بَيْنَ يَدَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، والمراد وراء تلك العنزة، لا بينه وبينها، كما بيّن في الروايات الآتية، وقوله:(الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ) مرفوع على الفاعليّة، وجملة "يمرّ إلخ" حال من الفاعل، والرابط الضمير في "يديه".
وفي رواية عمر بن أبي زائدة: "ورأيت الناس، والدوابّ يمرّون بين يدي الْعَنَزة"، وفي رواية الحكم عن أبي جحيفة:"وكان يمرّ من ورائها المرأة، والحمار"، وفي حديث رضي الله عنه المتقدّم:"ولا يبالي من مرّ وراء ذلك"، وفي لفظ:"ثم لا يضرّه من مَرّ بين يديه".
قال النوويّ رحمه الله: معناه: يمرّ الحمار والكلب وراء السُّترة، وقُدّامها إلى القبلة، كما بُيِّن في الروايات الآخرى.
(لَا يُمْنَعُ) بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل ضمير يعود إلى المذكور، أي لا يُمنع كلّ من الحمار والكلب عن المرور بين يدي تلك العنزة، والجملة حال من الفاعل.
(ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ) الظاهر أنه صلّى العصر في وقته؛ لأن "ثُمّ" تقتضي المهلة، ويَحْتَمِل أنه جمع بين الظهر والعصر (ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ) ظاهر قوله: "ثم لم يزل إلخ" يشعر بأن ما قصّة أبي جحيفة رضي الله عنه هذه كانت بعد خروجه صلى الله عليه وسلم من مكّة
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي جُحيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 124 و 1125 و 1126 و 1127 و 1128]
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 684.
(503)
، و (البخاريّ) في "الوضوء"(187) و"الصلاة"(376 و 495 و 499 و 501) و"الأذان"(633 و 634) و"المناقب"(3553 و 3566) و"اللباس"(5786 و 5859)، و (أبو داود) في "الصلاة"(688)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 73)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(197)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 66 - 67)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 88)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2314)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 277)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 307 و 308 و 309)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 327 - 328)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(841)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1268 و 2394)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 249 و 250 و 251 و 252)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 270)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(535)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1408 و 1409 و 1410 و 1411)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1110 و 1111 و 1112 و 1113)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 202)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة وضع السترة للمصلّي بين يديه، والاكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة.
2 -
(ومنها): استحباب حمل العنزة في السفر؛ لهذا الغرض، ونحوه.
3 -
(ومنها): جواز لبس الحلّة الحمراء، وفيه اختلاف بين العلماء، والراجح جوازه، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في "كتاب اللباس والزينة" برقم (2077) -إن شاء اللَّه تعالى-.
4 -
(ومنها): جواز الصلاة في الثوب الأحمر، وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك الحنفية، فإنهم قالوا: يكره، وتأوّلوا حديث الباب بأنها كانت حُلّة من بُرُود فيها خطوط حُمْرٌ، ومن أدلتهم ما أخرجه أبو داود، من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، وعليه ثوبان أحمران، فسلّم عليه، فلم يرُدّ عليه، وهو حديثٌ ضعيفُ الإسناد، وإن وقع في بعض نسخ الترمذيّ أنه قال: حديث حسنٌ لأن في سنده أبا يحيى القتّات، وهو ضعيف، وعلى تقدير أن يكون مما يُحتجّ به فقد عارضه ما هو أقوى منه، كحديث
الباب، وهو واقعة عين، فَيَحْتَمِل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر.
وحمله البيهقي على ما صُبغ بعد النسج، وأما ما صبغ غزله، ثم نُسِج فلا كراهية فيه.
وقال ابن التين: زعم بعضهم أن لبس النبيّ صلى الله عليه وسلم لتلك الحلّة كان من أجل الغزو، وفيه نظرٌ؛ لأنه كان عقب حجة الوداع، ولم يكن له إذ ذاك غزو، قاله في "الفتح"
(1)
.
5 -
(ومنها): جواز الاستعانة بمن يركز له عنزةً، ونحو ذلك.
6 -
(ومنها): بيان طهارة الماء المستعمل إذا كان المراد أنهم كانوا يأخذون ما سال من أعضائه صلى الله عليه وسلم، وكذلك إن كان المراد أنهم أخذوا ما فضل من وضوئه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تناوله بيده، وتقاطر فيه غسالة أعضائه، فدلّ على ذلك كلّه، وهذا قول الجمهور، وخالف في ذلك بعض الحنفيّة، فقالوا بنجاسة الماء المستعمل، وهو خلاف الصواب، فهذا الحديث ونحوه من الأحاديث تردّه، واللَّه تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن قصر الصلاة في السفر أفضل من الإتمام؛ لما يُشعر به هذا الحديث من مواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وأنه يشرع القصر، وإن كان بقرب بلد ما لم ينو الإقامة فيه أربعة أيام فصاعدًا، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.
8 -
(ومنها): بيان أن الساق ليست بعورة، وأنه يجوز النظر إليها، وهذا مجمع عليه في الرجال.
9 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة من تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومحبّته.
10 -
(ومنها): مشروعيّة الأذان في السفر، قال النوويّ: قال الشافعيّ رحمه الله: ولا أكره من تركه في السفر ما أكره من تركه في الحضر؛ لأن أمر المسافر مبنيّ على التخفيف. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الفرق يحتاج إلى نصّ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يترك الأذان في السفر، وأمر به المسافر، حيث قال لمالك بن الحويرث وصاحبه لَمّا
(1)
"الفتح" 2/ 579.
أرادا السفر: "إذا حضرت الصلاة فأذّنا وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما"، ولأحمد، وأصحاب السنن:"إذا سافرتما فأذّنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما"،
فدلّ على أن الأذان لا يُرخَّص فيه بسبب السفر، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
11 -
(ومنها): أنه يُسَنّ للمؤذن الالتفات في الحيعلتين يمينًا وشمالًا برأسه وعنقه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
12 -
(ومنها): ما قاله النوويّ: ففيه التبرّك بآثار الصالحين، واستعمال فضل طَهورهم، وطعامهم، وشرابهم، ولباسهم انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "بآثار الصالحين" محلّ نظر؛ لأن هذا لم يُنقل مع غيره صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة والتابعين يعرفون فضل أبي بكر، والخلفاء الراشدين، بل وفضل أصحاب رسول اللَّه رضي الله عنهم كلّهم، ولم يُنقل أن أحدًا منهم تبرّك بوضوئهم، ولا بغير ذلك، فما لم يثبت عنهم لا يسع لمن جاء بعدهم أن يفعله؛ لأنه داخل في محدثات الأمور، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم التحذير عنها فيما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعًا في حديث طويل، قال فيه:"فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وأرزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الالتفات في الأذان:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في استدارة المؤذّن، فرخّصت طائفة فيه، فممن رخّص فيه: الحسن البصريّ، والنخعيّ، والثوريّ، والنعمان، وصاحباه، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو ثور.
وكرهت طائفة الاستدارة في الأذان، منهم ابن سيرين، ومالك، وقال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يُسمع الناس، وكذلك قال
(1)
"شرح النووي" 4/ 219.
إسحاق. انتهى ملخّص كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ: أنه يُسَنّ للمؤذن الالتفات في الحيعلتين يمينًا وشمالًا برأسه وعنقه، قال أصحابنا: ولا يحوّل قدميه وصدره عن القبلة، وإنما يَلْوي رأسه وعنقه، واختلفوا في كيفية التفاته على مذاهب، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا:
أصحُّها، وهو قول الجمهور أنه يقول:"حي على الصلاة" مرتين عن يمينه، ثم يقول عن يساره مرتين:"حي على الفلاح".
والثاني: يقول عن يمينه: "حي على الصلاة" مرةً، ثم مرةً عن يساره، ثم يقول:"حيّ على الفلاح" مرةً عن يمينه، ثم مرةً عن يساره.
والثالث: يقول عن يمينه: "حي على الصلاة" ثم يعود إلى القبلة، ثم يعود إلى الالتفات عن يمينه، فيقول:"حي على الصلاة"، ثم يلتفت عن يساره فيقول:"حي على الفلاح"، ثم يعود إلى القبلة، ويلتفت عن يساره فيقول:"حي على الفلاح". انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح" عند شرح قوله: "أتتبّع فاه ها هنا وها هنا" ما نصّه: وهذا فيه تقييد للالتفات في الأذان، وأن محلّه عند الحيعلتين، وبَوّب عليه ابن خزيمة:"انحرافُ المؤذن عند قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، بفمه لا ببدنه كلّه"، قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساق الحديث من طريق وكيع أيضًا، بلفظ:"فجعل يقول في أذانه هكذا، ويُحَرِّف رأسه يمينًا وشمالًا".
وفي رواية عبد الرزاق، عن الثوريّ في هذا الحديث زيادتان: إحداهما: الاستدارة، والأخرى: وضع الإصبع في الأذن، ولفظه عند الترمذيّ: رأيت بلالًا يؤذن، ويدور، ويتبع فاه ها هنا وها هنا، وإصبعاه في أذنيه، فأما قوله:"ويدور" فهو مدرج في رواية سفيان، عن عون، بَيَّن ذلك يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عون، عن أبيه، قال: رأيت بلالًا أذّن، فأتبع فاه ها هنا وها هنا، والتفت يمينًا وشمالًا، قال سفيان: كان حجاج -يعني ابن أرطاة- يذكر لنا عن
(1)
"الأوسط" 3/ 26 - 27.
(2)
"شرح النووي" 4/ 219.
عون أنه قال: "فاستدار في أذانه"، فلما لَقِينا عونًا لم يذكر فيه الاستدارة، أخرجه الطبرانيّ، وأبو الشيخ، من طريق يحيى بن آدم، وكذا أخرجه البيهقيّ من طريق عبد اللَّه بن الوليد العَدَنيّ، عن سفيان، لكن لم يُسَمِّ حجاجًا، وهو مشهور عن حجاج، أخرجه ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم من طريقه.
ولم ينفرد به، بل وافقه إدريس الأودي، ومحمد الْعَرْزميّ، عن عون، لكن الثلاثة ضعفاء.
وقد خالفهم من هو مثلهم، أو أمثل، وهو قيس بن الربيع، فرواه عن عون، فقال في حديثه:"ولم يستدر"، أخرجه أبو داود.
ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عَنَى استدارة الرأس، ومن نفاها عَنَى استدارة الجسد كلّه.
ومشى ابن بطال ومن تبعه على ظاهره، فاستدلّ به على جواز الاستدارة بالبدن كلّه.
وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذنين للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختُلِف هل يستدير ببدنه كلّه، أو بوجهه فقط، وقدماه قارّتان مستقبل القبلة؟.
واختُلِف أيضًا هل يستدير في الحيعلتين الأوليين مرة، وفي الثانيتين مرة، أو يقول: حَيّ على الصلاة عن يمينه، ثم حي على الصلاة عن شماله، وكذا في الأخرى؟، قال: ورُجِّح الثاني؛ لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما، قال: والأول أقرب إلى لفظ الحديث. انتهى
(1)
.
وفي "المغني" عن أحمد: لا يدور إلا إن كان على منارة، يقصد إسماع أهل الجهتين.
[تنبيه]: وأما وضع الإصبعين في الأذنين، فقد رواه مُؤَمَّل أيضًا عن سفيان، أخرجه أبو عوانة، قال الحافظ رحمه الله: وله شواهد، ذكرتها في "تغليق التعليق"، من أصحها ما رواه أبو داود، وابن حبان، من طريق أبي سلّام
(1)
"إحكام الأحكام" 2/ 176 - 177.
الدمشقيّ، أن عبد اللَّه الْهَوْزنيّ حدّثه، قال: قلت لبلال: كيف كانت نفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث، وفيه قال بلال: فجعلت إصبعي في أذني، فأذّنت.
ولابن ماجه، والحاكم، من حديث سَعْد القرظ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وفي إسناده ضعف.
قال العلماء: في ذلك فائدتان:
إحداهما: أنه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديثٌ ضعيفٌ، أخرجه أبو الشيخ من طريق سعد القرظ عن بلال.
ثانيهما: أنه علامة للمؤذن؛ ليعرف مَن رآه على بُعْد، أو كان به صَمَمٌ أنه يؤذن، ومن ثَمّ قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنه حسبُ.
قال الترمذيّ رحمه الله: استَحَبّ أهل العلم أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان، قال: واستحبه الأوزاعيّ في الإقامة أيضًا.
[تنبيه آخر]: لم يَرِد تعيين الإصبع التي يُسْتَحب وضعها، وجزم النوويّ أنها المسبحة، وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة.
[تنبيه آخر]: وقع في "المغني" للموفق نسبة حديث أبي جحيفة رضي الله عنه بلفظ: "أن بلالًا أذّن، ووَضَع إصبعيه في أذنيه" إلى تخريج البخاريّ ومسلم، وهو وَهَمٌ، وساق أبو نعيم في "المستخرج" حديث الباب من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، وعبد الرزاق، عن سفيان، بلفظ عبد الرزاق من غير بيان، فما أجاد؛ لإيهامه أنهما روايتان، وقد عرفت ما في رواية عبد الرزاق من الإدراج، وسلامة رواية عبد الرحمن من ذلك، واللَّه المستعان. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1125]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا
(2)
عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، أَنَّ أَبَاهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
حَمْرَاءَ، مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخْرَجَ وَضُوءًا، فَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالًا أَخْرَجَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوق فاضل ربما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(بَهْز) بن أسد العميّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) الْهَمْدانيّ الوادعيّ الكوفيّ، أخو زكريّا، صدوقٌ رُمي بالقدر [6](ت بعد 150)(خ م س) تقدم في "الطهارة" 22/ 638.
والباقيان ذُكرا في السند الماضي.
وقوله: (يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ) أي يتسابقون في أخذه، يقال: بادره مُبادرةً، وبِدارًا، وابتدره، وبَدَرَ غيره إليه: عاجله، وبدره الأمرُ وإليه: عَجِلَ إليه، واستبق، قاله في "القاموس"
(1)
.
وقوله: (فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا) منصوب على الحال، وهو اسم فاعل من التشمير، يقال: شَمّر إزاره تشميرًا: إذا رفعه، أي رافعها إلى أنصاف ساقيه، ونحو ذلك، كما قال في الرواية السابقة:"كأني أنظر إلى بياض ساقيه"، وفيه رفع الثوب عن الكعبين
(2)
.
وقوله: (فَصَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ) هما ركعتا الظهر؛ لأنه كان مسافرًا، ففي الرواية السابقة:"فتقدَّم، فصلّى الظهر ركعتين".
وقوله: (وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَي الْعَنَزَةِ) فيه تغليب العاقل؛ إذ حقّ "الدوابّ" أن يقول: "تمرّ".
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ لهذا الحديث من طريق شعبة، عن
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 369.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 220 - 221.
عون بن أبي جحيفة بلفظ: "والمرأة والحمار يمرّون"، قال في "الفتح": كذا ورد بصيغة الجمع، فكأنه أراد الجنس، ويؤيده رواية:"والناسُ والدواب يمرون"، كما تقدّم، أو فيه حذفٌ، تقديره: وغيرهما، أو المراد الحمار براكبه، وقد تقدم بلفظ:"يمر بين يديه المرأة والحمار"، فالظاهر أن الذي وقع هنا من تصرف الرواة.
وقال ابن التين: الصواب "يمرّان"؛ إذ في "يمرون" إطلاق صيغة الجمع على الاثنين.
وقال ابن مالك: أعاد ضمير الذكور العقلاء على مؤنث ومذكر غير عاقل، وهو مشكل، والوجه فيه أنه أراد المرأة والحمار وراكبه، فحذف الراكب؛ لدلالة الحمار عليه، ثم غَلَّب تذكير الراكب المفهوم على تأنيث المرأة، وذا العقل على الحمار، وقد وقع الإخبار عن مذكور ومحذوف في قولهم:"راكبُ البعير طليحان"
(1)
، أي البعير وراكبه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أقرب التوجيهات أن يقال: إنه من باب إطلاق ضمير الجمع على الاثنين، وهو واقع في فصيح الكلام، كقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] الآية، وقد اختُلف في أقلّ الجمع، فقيل: اثنان، وهو مرويّ عن مالك رحمه الله، وهو الذي رجحته في "التحفة المرضيّة" في الأصول، والجمهور أنه ثلاثة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1126]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(3)
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، كِلَاهُمَا عَنْ
(1)
وقع في نسخة "الفتح""طريحان" بالراء، والصواب باللام، ومعناه مهزولان، يقال: بعير طَلِيح: أي مهزول.
(2)
"الفتح" 1/ 686.
(3)
وفي نسخة: "حدّثنا".
عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ:"فَلَمَّا كَانَ بِالْهَاجِرَةِ، خَرَجَ بِلَالٌ، فَنَادَى بِالصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْد) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَوْن) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
4 -
(أَبُو عُمَيْسٍ) عتبة بن عبد اللَّه بن عتبة بن عبد اللَّه بن مسعود الْهُذليّ المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطّحّان، وربما نُسب إلى جدّه، ثقةٌ [11](ت في حدود 250) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
6 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيُّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابد [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
7 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
8 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
والباقيان ذكرا في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ: (ح)) فاعل "قال" ضمير المصنّف رحمه الله.
وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لأبي عميس، ومالك بن مِغْوَل.
وقوله: (يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني أن بعض هؤلاء الأربعة: سفيان، وعمر، وأبي عُميس، ومالك بن مِغْوَل زيادة في روايتهم على رواية الآخرين.
وقوله: (فَلَمَّا كَانَ بِالْهَاجِرَةِ) الظاهر أن اسم "كان" ضمير يعود على الشأن
والأمر المفهوم من السياق، والباء فيه بمعنى "في"، أي فلمّا كان شأن الناس، وأمرهم واقعًا في الهاجرة، أي في نصف النهار.
قال ابن الأثير رحمه الله: الْهَجِير، والهاجرة: اشتداد الحرّ نصف النهار، والتهجير، والتهَجُّر، والإهجار: السير في الهاجرة. انتهى
(1)
.
وقال في "القاموس": والْهَجِير، والهَجِيرةُ، والْهَجْرُ، والهاجرةُ: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو من عند زوالها إلى العصر؛ لأن الناس يستكنّون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا، وشدّةُ الحرّ. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَنَادَى بِالصَّلَاةِ) أي أذّن للصلاة، أو نادى الناس بقوله:"حيّ على الصلاة".
[تنبيه]: رواية أبي العُمَيس التي أحالها المصنّف هنا ساقها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"(1/ 388) فقال:
(1413)
حدّثنا كعب الذراع، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: حدّثني أبي، عن أبي عُمَيس، قال: حدّثني عون، عن أبيه، قال:"أَذّن بلال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح، في قبة من شعر، فخرج، فصلى والعنزة بين يديه، والناس والحمير تمر بين يديه، فصلى ركعتين". انتهى.
وأما رواية مالك بن مغول، فساقها الإمام البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه" فقال:
(3566)
حدّثنا الحسن بن الصباح، حدّثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مِغْوَل، قال: سمعت عون بن أبي جُحيفة، ذَكَر عن أبيه، قال:"دُفِعتُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بالأبطح، في قبة كان بالهاجرة، خَرَج بلال، فنادى بالصلاة، ثم دخل، فأخرج فضل وَضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقع الناس عليه، يأخذون منه، ثم دخل، فأخرج العَنَزة، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وَبِيص ساقيه، فرَكَز العنزة، ثم صلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين يمر بين يديه الحمار والمرأة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"النهاية" 5/ 246.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 158.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1127]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، قَالَ شُعْبَةُ: وَزَادَ فِيهِ عَوْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَبِي جُحَيْفَةَ:"وَكَانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، لكنّه ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون تقدّموا قبل باب، والصحابيّ في السند الماضي.
وقوله: (فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على القصر والجمع في السفر، وفيه أن الأفضل لمن أراد الجمع، وهو نازل في وقت الأولى، أن يقدِّم الثانية إلى الأولى، وأما من كان في وقت الأولى سائرًا، فالأفضل تأخير الأولى إلى وقت الثانية، كذا جاءت الأحاديث، ولأنه أرفق به. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ من أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين احتمال، وقد سبق أن قوله:"ثمّ صلى العصر" يقتضي أنه صلاها في وقتها؛ لأن "ثُمّ" للمهلة، فيمكن أن تحمل هذه الرواية على تلك.
والحاصل أن الأمر محتملٌ، واللَّه تعالى أعلم.
وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق، وهو متّفقٌ عليه، وتقدّمت مسائله قبل حديثين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 221.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1128]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ الْحَكَمِ:"فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ مَهْديّ) هو: عبد الرحمن بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198) عن (73) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا مِثْلَهُ) يعني أن شعبة حدّث ابنَ مهديّ، ومن معه بإسناد عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وإسناد الحكم، عن أبي جحيفة رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية شعبة، عن الحكم التي فيها الزيادة المذكورة، فساقها الإمام البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(188)
حدّثنا آدم، قال: حدّثنا شعبة، قال: حدّثنا الحكم، قال: سمعت أبا جحيفة يقول: "خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوَضوء، فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وَضُوئه، فيتمسحون به، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عَنَزَة". انتهى.
وأما رواية شعبة، عن عون، فأخرجها البخاريّ أيضًا، فقال:
(495)
حدّثنا أبو الوليد، قال: حدّثنا شعبة، عن عون بن أبي جُحيفة، قال:"سمعت أبي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء، وبين يديه عَنَزَة الظهرَ ركعتين، والعصرَ ركعتين، تمر بين يديه المرأة والحمار". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1129]
(504) - (حَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ
(2)
، فَنَزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، الفقيه الحافظ المتقن المتفقه على جلالته وإتقانه، رأس [4](ت 125) أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "بين يدي بعض الصفّ".
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن هذا الإسناد من أصحّ الأسانيد، كما نُقل عن الإمام النسائيّ رحمه الله
(1)
.
7 -
(ومنها): أن فيه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه من الفقهاء السبعة، وقد تقدّموا قريبًا.
8 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وقد تقدّموا قريبًا أيضًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أقبَلْتُ رَاكبًا) منصوب على الحال (عَلَى أَتَانٍ) وفي رواية يونس التالية: "على حمار"، وفي رواية البخاريّ:"على حمار أتان"، و"الأتان": بفتح الهمزة، وشذَّ كسرها، كما حكاه الصغانيّ: هي الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى: أتانةٌ، حكاه يونس، وأنكره غيره، فجاء في الرواية على اللغة الفصحى.
و"الحمار" اسم جنس يشمل الذكر والأنثى، كقولك: بعيرٌ، وقد شذّ حمارة بالهاء في الأنثى، حكاه في "الصحاح".
و"حمارٍ أتانٍ" بالتنوين فيهما على النعت، أو البدل، ورُوي بالإضافة.
وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى؛ للاستدلال بطريق الأَولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة؛ لأنهن أشرف.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: هو قياس صحيح من حيثُ النظر، إلا أن الخبر الصحيح لا يُدفع بمثله. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد الحافظ في هذا التعقّب، وسيأتي البحث، في هذا مستوفًى قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
(1)
راجع شرحي على الألفيّة السيوطيّة 1/ 34، وتقييده هناك برواية ابن عبّاس، عن عمر رضي الله عنهم لا يضرّ، فتنبّه.
(وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ) أي قاربت البلوغ الشرعيّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَهَزَ نَهْزًا، من باب نَفَعَ: نَهَضَ ليتناول الشيءَ، وإذا قَرُبَ المولود من الْفِطَام قيل: نَهَزَ لِلْفَطَام يَنْهَزُ له، فالابن ناهزٌ، والبنت ناهزةٌ، ويقال أيضًا: ناهز للفطام مناهَزَةً، قال الأزهريّ: وأصل النَّهْز الدفع، وانتهز الْفُرْصة: انتهض إليها مبادرًا. انتهى
(1)
.
ومحلّ الجملة "وأنا يومئذ. . . إلخ" نصبٌ على الحال من الفاعل بعد الحال، وكذا قوله:(وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ) فهي أحوال متدخلة، أو مترادفة، على خلاف في هذا، كما تقدّم غير مرّة.
[تنبيه]: اختَلَف العلماء في سِنّ ابن عباس عند وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقيل: عشر سنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: خمس عشرة، وهو رواية سعيد بن جبير عنه، قال أحمد بن حنبل رضي الله عنهما: وهو الصواب، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح" في "كتاب فضائل القرآن" -عند شرح قول ابن عباس رضي الله عنهما: "تُوُفّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم
(3)
"-: وقد استَشْكَل عياضٌ قول ابن عباس: توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين بما تقدم في "الصلاة" من وجه آخر عن ابن عباس أنه كان في حجة الوداع ناهز الاحتلام، وسيأتي في "الاستئذان" من وجه آخر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات، وأنا ختين، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يُدرِك، وعنه أيضًا أنه كان عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن خمس عشرة سنة، وسَبَق إلى استشكال ذلك الإسماعيليّ، فقال: حديث الزهريّ، عن عبيد اللَّه، عن ابن عباس -يعني حديث الباب- يخالف هذا، وبالغ الداوديّ، فقال: حديث أبي بشر -يعني الذي فيه: وأنا ابن عشر سنين- وَهَمٌ.
وأجاب عياض بأنه يَحْتَمِل أن يكون قوله: "وأنا ابن عشر سنين" راجع إلى حفظ القرآن، لا إلى وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون تقدير الكلام: تُوُفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد جمعت الْمُحْكَم، وأنا ابن عشر سنين، ففيه تقديم وتأخير.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 628.
(2)
"شرح النوويّ" 4/ 21.
(3)
أي الذي ليس فيه منسوخ.
وقد قال عمرو بن عليّ الفلاس: الصحيح عندنا أن ابن عباس كان له عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً، قد استكملها، ونحوه لأبي عبيد، وأسند البيهقيّ عن مصعب الزبيريّ أنه كان ابن أربع عشرة، وبه جزم الشافعيّ في "الأم"، ثم حَكَى أنه قيل: ست عشرة، وحُكِي قولُ ثلاث عشرة، وهو المشهور، وأورد البيهقيّ عن أبي العالية، عن ابن عباس:"قرأت المحكم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثنتي عشرة"، فهذه ستة أقوال، ولو وَرَد إحدى عشرة لكانت سبعة؛ لأنها من عشر إلى ست عشرة.
قال الحافظ: والأصل فيه قول الزبير بن بكار وغيره من أهل النسب، أن ولادة ابن عباس رضي الله عنهما كانت قبل الهجر بثلاث سنين، وبنو هاشم في الشِّعْب، وذلك قبل وفاة أبي طالب، ونحوُهُ لأبي عبيد.
ويمكن الجمع بين مختلف الروايات إلا ست عشرة، وثنتي عشرة، فإن كلًّا منهما لم يثبت سنده، والأشهر بأن يكون ناهز الاحتلام، لَمّا قارب ثلاث عشرة، ثم بلغ لما استكملها، ودخل في التي بعدها، فإطلاق خمس عشرة بالنظر إلى جبر الكسرين، وإطلاق العشر، والثلاث عشرة بالنظر إلى إلغاء الكسر، وإطلاق أربع عشرة بجبر أحدهما.
وقال في "كتاب الاستئذان" -ردًّا على الإسماعيليّ، حيث قال:"الأحاديث عن ابن عبّاس في هذا مضطربة"-: دعوى الاضطراب مردودة، مع إمكان الجمع، أو الترجيح، فإن المحفوظ الصحيح أنه وُلد بالشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبد البر، وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: وُلِدت وبنو هاشم في الشِّعْب، وهذا لا ينافي قوله:"ناهزت الاحتلام"، أي قاربته، ولا قوله:"وكانوا لا يَختنون الرجل حتى يُدْرك" لاحتمال أن يكون أدرك، فخُتِن قبل الوفاة النبوية، وبعد حجة الوداع، وأما قوله:"وأنا ابن عشر"، فمحمول على إلغاء الكسر.
ورَوَى أحمد من طريق أخرى، عن ابن عباس، أنه كان حينئذ ابن خمس عشرة.
ويمكن رَدّه إلى رواية ثلاث عشرة، بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء،
ووُلد في أثناء السنة، فجَبَر الكسرين بأن يكون وُلِد مثلًا في شوال، فله من السنة الأولى ثلاثة أشهر، فأطلَق عليها سنة، وقُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم في ربيع، فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى، وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال ثلاث عشرة ألغَى الكسرين، ومن قال خمس عشرة جبرهما، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى ما في الجمع المذكور من التكلّف، فالأولى عندي طريق الترجيح، فيُرجّح كونه ابن ثلاث عشرة؛ كما صححه ابن عبد البرّ رحمه الله، ونَقَلَ بسند صحيح عن ابن عباس كونه وُلِدت وبنو هاشم في الشِّعْب، وهو موافق لمعنى قوله:"قد ناهزت الاحتلام"، فهذا أقرب التوجيهات، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(بِمِنًى) متعلّق بـ "يصلّي"، وهو بالقصر الموضع المعروف بمكة، وهو محلّ رمي الجمَرَات، وذبح الهدايا.
قال النوويّ رحمه الله: "منى" فيها لغتان: الصرف وعدمه، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سُمِّيت منى؛ لما يُمْنَى بها من الدماء، أي يراق، ومنه قول اللَّه تعالى:{مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]. انتهى
(2)
.
وقال في "القاموس": "ومنى" كـ "إلى" قرية بمكة، وتُصرف، سُمّيت لما يُمنى -أي يُرَاق- فيها من الدماء، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لأن جبريل عليه السلام لَمّا أراد أن يفارق آدم قال له: تمنّ، قال: أتمنّى الجنّة، فسُمّيت منى؛ لأمنيّة آدم رحمه الله. انتهى
(3)
.
وقال في "المصباح": ومنًى: اسم موضع بمكة، والغالب عليه التذكير، فيُصرف، وإذا أُنّث مُنِع من الصرف، ويقال: بينه وبين مكة ثلاثة أميال، وسمّي منًى؛ لما يُمنى به من الدماء، أي يُراق. انتهى
(4)
.
وقد عدّ الحريريّ: "منًى" في جملة الأسماء المصروفة، حيث قال في "مُلحته":
(1)
"الفتح""كتاب الاستئذان" 11/ 93 رقم الحديث (6299).
(2)
"شرح النووي" 4/ 222.
(3)
"القاموس المحيط" 4/ 392.
(4)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 582.
وَلَيْسَ مَصْرُوفًا مِنَ الْبِقَاعِ
…
إِلَّا بِقَاعٌ جِئْنَ فِي السَّمَاعِ
مِثْلُ حُنَيْنٍ وِمِنًى وَبَدْرِ
…
وَدَابِقٍ وَوَاسِطٍ وَحِجْرِ
[فائدة]: يجوز في أسماء: القائل، والأرضين، والكَلِم الصرف على تأويلها باللفظ، والمكان، والحيّ، أو الأب، وعدَمُهُ على إرادة الكلمة، والبقعة، والقبيلة، إلا إذا سُمع فيه أحدهما فقط، فلا يُتجاوز، كما سُمع الصرف في كَلْبٍ، وثَقِفٍ، ومَعَذٍ، باعتبار الحيّ، وبدرٍ، وحُنينٍ، على المكان، وكمنعه في يهودَ، ومجوسَ، عَلَمين باعتبار القبيلة، ودِمَشْقَ، على البقعة، وإلا إذا تحقّق مانع غير التأنيث المعنويّ، فيُمنع بكلّ حالٍ، كتغلبَ، وباهلةَ، وخولانَ، وبغداد، أفاده في "التسهيل"، و"شرحه"، ونقله الخضريّ في "حاشيته على شرح ابن عقيل على الخلاصة" بزيادة
(1)
، وهي فائدة حسنة مهمةٌ، فاغتنمها، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله أيضًا: (يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى) كذا قال مالك، وأكثر أصحاب الزهريّ، ووقع من رواية ابن عيينة عن الزهريّ الآتية بلفظ:"بعرفة"، قال النوويّ رحمه الله: يُحْمَلُ ذلك على أنهما قضيتان.
وتُعُقُّب بأن الأصل عدم التعدّد، ولا سيّما مع اتّحاد مخرج الحديث، فالحقّ أن قول ابن عيينة:"بعرفة" شاذّ.
ويأتي أيضًا من رواية معمر، عن الزهريّ بلفظ:"وذلك في حجة الوداع، أو يوم الفتح" بالشكّ، وهذا الشك من معمر لا يُعَوَّل عليه، والحقّ أن ذلك كان في حجة الوداع، أفاده في "الفتح"
(2)
.
(فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ) وفي بعض النسخ: "بين يدي بعض الصفّ"، وهو مجاز عن الأَمَام -بفتح الهمزة- لأن الصفّ ليس له يدٌ، و"بعض الصفّ" يَحْتَمِل أن يراد به صفّ من الصفوف، أو بعضٌ من أحد الصفوف، هكذا قال الكرمانيّ، لكن زاد البخاريّ في "الحج" من رواية ابن أخي ابن شهاب، عن عمّه قوله:"حتى سِرْتُ بين يدي بعض الصف الأول"، وهو يُعَيِّن الاحتمال الثاني، فتنبّه
(3)
.
(1)
"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة".
(2)
"الفتح" 1/ 681.
(3)
"الفتح" 1/ 681.
(فَنَزَلْتُ) أي عن الأتان (فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ) أي ترعى، يقال: رَتَعَت الماشية رَتْعًا، من باب نَفَعَ، ورُتُوعًا: إذا رَعَت كيف شاءت، والجملة في محلّ نصب على الحال المقدَّر؛ لأن الرتع لا يحصل حالة الإرسال، أي مقَدَّرًا رُتُوعها.
وقال في "الفتح": قوله: "تَرْتَعُ" -بمثناتين مفتوحتين، وضم العين- أي تأكل ما تشاء، وقيل: تُسْرِع في المشي، وجاء أيضًا بكسر العين، بوزن "يَفتَعِلُ"، من الرَّعْي، وأصله تَرْتَعِي، لكن حذفت الياء تخفيفًا، والأول أصوب، ويدل عليه رواية البخاريّ في "الحج":"نَزَلتُ عنها، فَرَتَعَتْ". انتهى
(1)
.
(وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ) وفي رواية عند البخاريّ: "فدَخَلتُ في الصفّ" بالفاء، (فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) أي لا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة الذين مرّ بين أيديهم.
قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: استَدَلَّ ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يَسْتَدِلّ بترك إعادتهم للصلاة؛ لأن ترك الإنكار أكثر فائدةً.
قال الحافظ رحمه الله: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدلّ على صحتها فقط، لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدلّ على جواز المرور، وصحةِ الصلاة معًا، ويُستفاد منه أن ترك الإنكار حجةٌ على الجواز بشرطه، وهو انتفاء الموانع من الإنكار، وثبوت العلم بالاطلاع على الفعل.
ولا يقال: لا يلزم مما ذُكِر اطّلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لاحتمال أن يكون الصفّ حائلًا دون رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم له؛ لأنا نقول: قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه، وتقدم أيضًا أن في رواية البخاريّ في "الحج" أنه مَرّ بين يدي بعض الصفّ الأول، فلم يكن هناك حائلٌ دون الرؤية، ولو لم يَرِد شيء من ذلك، لكان توفُّر دواعيهم على سؤاله صلى الله عليه وسلم عما يَحْدُث لهم كافيًا في الدلالة على اطّلاعه على ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 1/ 206.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1129 و 1130 و 1131 و 1132](504)، و (البخاريّ) في "العلم"(76) و"الصلاة"(493) و"الأذان"(861) و"جزاء الصيد"(1857) و"المغازي"(4412) و"فضائل القرآن"(5036) و"الاستئذان"(6299)، و (أبو داود) في "الصلاة"(715)، و (الترمذيّ) فيها (337)، و (النسائيّ) فيها (2/ 64)، و (ابن ماجه)(947)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 155 - 156)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 68)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2359)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 278 - 285)، و (الحميديّ) في "مسنده"(475)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 264 و 342)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(833 و 934)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2151)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1430 و 1431 و 1432 و 1433)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1114 و 1115 و 1116 و 1117)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(168)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 276 - 277)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(548)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه، وقد ترجم الإمام البخاريّ في "صحيحه" بهذا، فقال:"باب سترة الإمام سترة من خلفه".
قال في "الفتح": ولفظ ترجمة الباب ورد في حديث مرفوع، رواه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق سُويد بن عبد العزيز، عن عاصم، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"سُترة الإمام سترة لمن خلفه"، وقال: تَفَرّد به سُويد عن عاصم. انتهى. وسُويد ضعيف عندهم، ووردت أيضًا في حديث موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه عبد الرزاق. انتهى.
قال القاضي عياض رحمه الله: واختلفوا هل سترةُ الإمام بنفسها سترة لمن خلفه، أم هي سترة له خاصّةً، وهو سترة لمن خلفه؟ مع الاتّفاق على أنهم مُصَلّون إلى سترة.
قال الحافظ رحمه الله: ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مَرّ بين يدي الإمام أحدٌ فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترةُ مَن خلفه يَضُرّ صلاته وصلاتهم معًا، وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة من خلفه يضر صلاته، ولا يضر صلاتهم
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بأن سترة الإمام سترة لمن خلفه هو الأرجح؛ لظاهر حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا، واللَّه تعالى أعلم.
قال القاضي أيضًا: ولا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يَأْمَن المرور بين يديه، واختلفوا إذا كان في موضع يأمن المرور بين يديه، وهما قولان في مذهب مالك، قال النووي: ومذهبنا أنها مشروعة مطلقًا؛ لعموم الأحاديث، ولأنها تصون بصره، وتمنع الشيطان المرور، والتعرض لإفساد صلاته، كما جاءت الأحاديث. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن السترة مشروعة، بل واجبة مطلقًا؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بها، وأمره للوجوب، وقد أسلفت تحقيقه، فلا تكن من الغافلين، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
2 -
(ومنها): بيان أن صلاة الصبيّ صحيحة.
3 -
(ومنها): ما قيل: إن فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة؛ لأن المرور مَفْسَدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة، واستدَلَّ ابن عباس رضي الله عنهما على جواز المرور بعدم الإنكار؛ لانتفاء الموانع إذ ذاك، ولا يقال: منع من الإنكار اشتغالهم بالصلاة؛ لأنه نَفَى الإنكار مطلقًا، فتناول ما بعد الصلاة، وأيضًا فكان الإنكار يمكن بالإشارة.
4 -
(ومنها): أن الإمام البخاريّ احتجّ به على صحّة تحمّل الصبيّ الحديث، فترجم له، فقال:"باب متى يصحّ سماع الصغير"، ثم أورده، قال في "الفتح": وفيه ما ترجم له، أن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية، وإنما يشترط عند الأداء، قال: ويُلْحَق بالصبيّ في ذلك العبد، والفاسق، والكافر، وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي-صلى الله عليه وسلم، وتقريره مقام حكاية قوله؛ إذ لا فرق
(1)
"الفتح" 1/ 682.
بين الأمور الثلاثة في شرائط الأداء
(1)
.
5 -
(ومنها): أن مَن عَلِمَ الشيء صغيرًا وأداه كبيرًا جاز، ولا خلاف فيه، وأخطأ من حَكَى فيه خلافًا، وكذا الفاسق والكافر، إذا أدّيا حال الكمال
(2)
.
6 -
(ومنها): فيه جواز الركوب إلى صلاة الجماعة.
7 -
(ومنها): ما قال الْمُهَلَّب: فيه أن التقدّم إلى القعود لسماع الخطبة، إذا لم يضرّ أحدًا، والخطيبُ يَخطُب جائز، بخلاف ما إذا تخطى رقابهم.
8 -
(ومنها): أنه إذا فُعِل بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ، ولم ينكره فهو حجة.
9 -
(ومنها): جوازُ إرسال الدّابّة من غير حافظٌ، أو مع حافظٌ غير مكلَّف.
10 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، فيكون ناسخًا لحديث أبي ذرّ رضي الله عنه الذي سيأتي للمصنّف: في كون مرور الحمار يقطع الصلاة، وكذا مرور المرأة، والكلب الأسود.
وتُعُقِّب بأن مرور الحمار مُتَحَقّق في حال مرور ابن عباس، وهو راكبه، وقد تقدّم أن ذلك لا يَضُرُّ؛ لكون الإمام سترةً لمن خلفه، وأما مروره بعد أن نزل عنه، فيحتاج إلى نقل.
11 -
(ومنها): ما قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا يَخُصّ حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يَدَعْ أحدًا يمرّ بين يديه"، فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد، فأما المأموم فلا يضرُّه مَن مَرّ بين يديه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، قال: وهذا كلُّه لا خلاف فيه بين العلماء، وكذا نقل عياض: الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة، لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام، أم سترتهم الإمام نفسه؟ انتهى.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لما رواه عبد الرزاق، عن الحكم بن عمرو الغفاريّ الصحابيّ أنه صلى بأصحابه في سفر، وبين يديه سترة، فمرّت حَمِير بين يدي أصحابه، فأعاد بهم الصلاة، وفي رواية له أنه قال لهم: إنها لم تقطع صلاتي، ولكن قطعت صلاتكم.
(1)
"الفتح" 1/ 206 - 207.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 105.
فهذا يَعْكُر على ما نُقِل من الاتفاق.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة القول أن كون سترة الإمام سترة لمن خلفه، وإن لم يكن مجمعًا عليه، إلا أنه مذهب الجمهور، وهو الحقّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1130]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ أَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارٍ، وَرَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ، يُصَلِّي بِمِنًى، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَ: فَسَارَ الْحِمَارُ
(2)
بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ، فَصَفَّ مَعَ النَّاسِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه المصريّ الحافظ، تقدّم قبل باب.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (يُصَلِّي بِالنَّاسِ) تفصيل بعد إجمال، فإن قوله:"يصلّي بمنى" يَحْتَمِل أن يكون منفردًا، ويَحتَمِل أن يكون مع الناس، فبيّنه بهذه الجملة.
قَالَ: (فَسَارَ الْحِمَارُ) وفي نسخة: "فسار بالحمار".
وقوله: (ثُمَّ نَزَلَ) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: ثم نزلتُ.
وقوله: (عَنْهُ) أي عن الحمار، وقد سبق أنها أتان، وهي أنثى الحمير، وإنما ذكّره هنا نظرًا للفظ "الحمار" فإنه مذكّر، وإن كان يُطلق على الأنثى أيضًا، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "فسار بالحمار".
وقوله: (فَصَفَّ مَعَ النَّاسِ) أي دخل ابن عبّاس رضي الله عنهما في صفّ الناس الذين يصلون وراء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1131]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِعَرَفَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدّموا قريبًا، أما عمرو الناقد، وابن عيينة، فتقدّما قبل باب، وأما الباقون ففي هذا الباب.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد الزهريّ السابق، وهو: عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن عبد اللَّه بن عبّاس رضي الله عنهما.
وقوله: (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِعَرَفَةَ) تقدّم أن هذا مما خالف فيه ابن عيينة الرواة عن ابن شهاب، فالظاهر أنه وَهَم، وقد حال النوويّ في دفع هذا الوَهَم، فقال: هو محمول على أنهما قضيّتان، لكن الظاهر أنه غلطٌ؛ لاتّحاد مخرج الحديث، وقد كنت ملت في شرح النسائيّ إلى قول النووي رحمه الله، لكن الآن يترجّح لي خلافه؛ لما ذكرت، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(1894)
حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه، عن ابن عباس: جئت أنا والفضل، ونحن على أتان، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بعرفة، فمررنا على بعض الصف، فنزلنا عنها، وتركناها تَرْتَعُ، ودخلنا في الصف، فلم يقل لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1132]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ "مِنًى"، وَلَا "عَرَفَةَ"، وَقَالَ:"في حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ يَوْمَ الْفَتْحِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: ("فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ يَوْمَ الْفَتْحِ") هكذا بالشكّ في رواية معمر، وقد تقدّم أن الصواب "في حجة الوداع" بدون شكّ، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(3444)
حدّثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، وعبدُ الأعلى، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس، قال: جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أو قال: يوم الفتح، وهو يصلي، أنا والفضل مرتدفان على أتان، فقطعنا الصفّ، ونزلنا عنها، ثم دخلنا الصفّ، والأتان تمر بين أيديهم، لم تقطع صلاتهم، وقال عبد الأعلى: كنت رَدِيف الفضل على أتان، فجئنا، ونبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
وفي نسخة: "حدّثناه".
(49) - (بَابُ الأَمْرِ بِمَنْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1133]
(505) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَدَع أَحَدًا يَمُرُّ
(1)
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبِي فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدَويّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) الأنصاريّ الْخَزْرجيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](112) عن (77) سنةً (خت م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
3 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وعبد الرحمن علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
(1)
وفي نسخة: "أن يمرّ".
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة، وفيه رواية الابن، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن أبا سعيد صحابيّ ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي) أي إلى شيء يستره عن المارّ؛ لما في الرواية التالية: "إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفع في نحره. . . "، فإطلاق هذه الرواية مقيّد بما في هذه الرواية (فَلَا يَدَعْ) أي لا يترك، وهو: مضارع وَدَعَ، يقال: وَدَعته أَدَعُهُ وَدْعًا: إذا تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمَّ حُذفت الواو، ثُمّ فُتِح لمكان حرف الحلق، وقد اشتهر أن العرب أماتت ماضيه، ومصدره، واسم فاعله، لكن الصواب أنه قليل الاستعمال، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة، كحديث:"لينتهينّ قوم عن وَدْعهم الجمعات. . . " الحديث، أخرجه مسلم
(1)
، وحديث:"دَعُوا الحبشة ما ودعوكم. . . " حديث حسنٌ، أخرجه أبو داود، والنسائيّ
(2)
، وقُرئ في الشاذّ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بتخفيف الدال.
(أَحَدًا) منصوب على المفعوليّة، وقول:(يَمُرُّ) في محلّ نصب نعتٌ لـ "أحدًا"، ويَحْتَمِلُ نصبه على الحال منه، وإن كان نكرةً؛ لوقوعه في سياق النفي، كما قال في "الخلاصة":
وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ
…
إِنْ لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ
مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ أَوْ مُضَاهِيهِ كَـ "لَا
…
يَبْغِي امْرُؤ عَلَى امْرِىٍ مُسْتَسْهِلَا"
وفي بعض النسخ: "أن يمرّ" بزيادة "أن" المصدريّة، وعليه فالمصدر
(1)
سيأتي في "كتاب الجمعة" برقم (865).
(2)
حديث حسنٌ، أخرجه أبو داود برقم (4302)، والنسائيّ برقم (3176).
المؤوّل بدل من "أحدًا" بدل اشتمال، أي مُرُورَه، كما تقول: أعجبني زيدٌ علمه (بَيْنَ يَدَيْهِ) متعلّق بـ "يمرّ"، أي أمامه، والمراد بينه وبين السترة، وأما ما وراء السترة فليس محلّ دفعه؛ لأن المرور فيه جائزٌ، كما سبق في حديث طلحة رضي الله عنه:"ولا يبالي مَن مرّ وراء ذلك"(وَلْيَدْرَأْهُ) أي ليدفع، وهو مضارع درأ، يقال: درأت الشيءَ بالهمز دَرْءًا، من باب نفع: دَفَعتُهُ، ودارأته: دافعته، وتدارءوا: تدافعوا
(1)
، والمعنى: أن المصلّي يدفع من أراد المرور بينه وبين سترته (مَا اسْتَطَاعَ)"ما" مصدريّة ظرفيّةٌ، أي مدّة استطاعته.
ثم إن ظاهر هذا الأمر وجوب الدفع، وبه قال أهل الظاهر، وقال النوويّ رحمه الله: الأمر بالدفع أمر ندب متأكّد، ولا أعلم أحدًا من العلماء أوجبه، بل صرّح أصحابنا وغيرهم بأنه مندوب غير واجب. انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": فكأنه لم يُراجع كلام أهل الظاهر، أو لم يعتدّ بخلافهم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا عجيب، كيف لا يعتدّ بمن كان ظاهر النصّ معه، وهل هناك نصّ آخر يصرف الأمر عن الوجوب؟ فأين هو؟ هيهات.
قال القاضي عياض رحمه الله: اتّفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليردّه، وإنما يدفعه، ويردّه من موقفه؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أُمر بالقرب من سُترته، وإنما يردّه إذا كان بعيدًا منه بالإشارة، أو التسبيح. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقييده الدفع بموقفه فقط محلّ نظر، فأين الدليل على ذلك؟، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِنْ أَبَى) أي امتنع المارّ عن الرجوع، يقال: أبى الرجل يأبى إباءً -بالكسر والمدّ- وإباءةً: امتنع، فهو آبٍ، وأَبِيٌّ، على فاعل، وفَعِيلٍ، وتأبَّى مثله، وبناؤه شاذٌّ؛ لأن فَعَلَ يَفْعَلُ -بفتحتين- يكون حلقيَّ العين، أو اللام،
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 194.
(2)
"شرح النووي" 4/ 223.
(3)
"الفتح" 1/ 695.
وحَكَى ابن سِيدَهْ عن قومٍ: أَبِيَ يَأْبَى، كنَسِيَ يَنْسَى، وحَكَى ابن جني، وصاحب "القاموس": أَبَى يَأْبِي، كضَرَبَ يَضْرِبُ.
(فَلْيُقَاتِلْهُ) وفي رواية أبي صالح الآتية: "فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله"، أي يدفع بيده في نحره، فإن لم يندفع بذلك، فليدفعه، ولو بما أَدَّى إلى قتله.
وأخرج عبد الرزّاق، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"لا تَدَعْ أحدًا يمرّ بين يديك، وأنت تصلّي، فإن أبى إلا أن تقاتله فقاتله".
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فليدفعه" أي بالإشارة، ولطيف المنع، وقوله:"فليقاتله" أي يزيد في دفعه الثاني أشدّ من الأول، قال: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح؛ لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والاشتغال بها، والخشوع فيها. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ: مخالف للحديث، فإن رواية المصنّف بلفظ:"فليدفع في نحره" صريحة، أو كالصريح في الدفع باليد، لا بالإشارة، وأصرح منها رواية الإسماعيليّ، ولفظه:"فإن أبى، فليجعل يده في صدره، ويدفعه"، وأما دعواه مخالفة الإقبال على الصلاة والخشوع، فليست مسلّمةً؛ لأن من أمر بالخشوع في الصلاة هو الذي شرع المقاتلة فيها، فلا تنافي، ولا تعارض؛ إذ كلّ من عند اللَّه تعالى، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال في "الفتح": وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقةً، واستَبْعَد ابن العربيّ ذلك في "القبس"، وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة.
وأغرب الباجيّ، فقال: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن، أو التعنيف.
وتُعُقّب بأنه يستلزم التكلم في الصلاة، وهو مبطل، بخلاف الفعل اليسير.
ويمكن أن يكون أراد أنه يلعنه داعيًا لا مخاطبًا، لكن فعل الصحابيّ يخالفه، وهو أدرى بالمراد.
وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: "فإن أبَى فليجعل يده في صدره ويدفعه"، وهو صريح في الدفع باليد.
ونَقَلَ البيهقيّ عن الشافعيّ أن المراد بالمقاتلة دفعٌ أشدُّ من الدفع الأول.
قال: وقال أصحابنا -يعني الشافعيّة-: يردُّه بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشدَّ، ولو أدَّى إلى قتله، فلو قتل فلا شيء عليه؛ لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها.
ونَقَل عياض وغيره أن عندهم خلافًا في وجوب الدية في هذه الحالة.
ونَقَل ابن بطال وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه، ولا العمل الكثير في مدافعته؛ لأن ذلك أشدّ في الصلاة من المرور.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد علمت ما في هذا عند تعقّب كلام القرطبيّ، فلا تكن من الغافلين.
قال: وذهب الجمهور إلى أنه إذا مَرّ، ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يردّه؛ لأن فيه إعادةً للمرور.
ورَوَى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وغيره أن له ذلك، ويمكن حمله على ما إذا ردَّه، فامتنع وتمادى، لا حيث يُقَصِّر المصلي في الردّ. انتهى
(1)
.
وقال ابن المنذر رحمه الله: وقد اختلف أهل العلم في ردّ المصلّي من مرّ بين يديه من حيث جاء، فرخّص قوم في ردّه إذا مرّ، روي هذا القول عن عبد اللَّه بن مسعود، وكذلك فعله سالمٌ، ورُوي عن الحسن البصريّ.
وقال آخرون: لا يردّه بعد أن جاز، كذلك قال الشعبيّ والثوريّ وإسحاق ابن راهويه، وكذلك نقول؛ لأن رجوعه من حيث جاء يكون مرورًا ثانيًا بين يدي المصلّي، وليس لذلك وجهٌ. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن القول الثاني هو الأرجح، كما رجحه ابن المنذر رحمه الله، وذكر حجته، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ") الفاء تعليليّة؛ لأن ذلك المارّ الآبي عن الرجوع شيطان، وفي حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما الآتي:"فإن معه القرين"، أي الشيطان.
(1)
"الفتح" 1/ 695.
(2)
"الأوسط" 5/ 95 - 96.
قال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معناه: فإنما حمله على مروره، وامتناعه من الرجوع الشيطان، وقيل: معناه يَفْعَل فِعْلَ الشيطان؛ لأن معنى الشيطان البعيد من الخير، وقبولِ السنة، من قولهم: ومنه سُمّي الشيطان؛ لبعده عن رحمة اللَّه تعالى، فسمّاه شيطانًا؛ لاتّصافه بوصفه، كما يقال: فلان الأسد، أي يبطش ويَقْوَى كبطشة الأسد وقوّته، وقيل: المراد بالشيطان هنا قرين الإنسان اللازم له، كما قال في الرواية الأخرى:"فإن معه القرين"، ويكون هذا من معنى قوله في الحديث الآخر:"فإن الشيطان يحول بينكم وبينها"، فيكون على هذا يمنع الإنسان الجواز بين يدي المصلّي من أجل الشيطان اللازم له؛ لكونه خبيثًا نجسًا، ويكون اللَّه تعالى يمنعه من التسلّط على المشي أمام المصلّي، وقطع صلاته إذا اجتهد العبد في الدنُوّ من قبلته، وامتثل ما أُمر به، ولم يجعل له سبيلًا إليه، بخلافه إذا لم يدْنُ من السترة. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
. واللَّه أعلم.
وقال في "الفتح": قوله: "فإنما هو شيطان" أي فعله فعلُ الشيطان؛ لأنه أبى إلا التشويش على المصلي، وإطلاق الشيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى:{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1133 و 1134](505)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(509) و"بدء الخلق"(3274)، و (أبو داود) في "الصلاة"(697 و 698 و 700)، و (النسائيّ) فيها (2/ 66)، و (ابن ماجه) فيها (954)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 154)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 279 و 283)،
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 420 - 421.
و (أحمد) في "مسنده"(3/ 34 و 43 و 44 و 63)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 328)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1240)، و (علي بن الجعد) في "مسنده"(3196)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(816 و 818 و 819)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2367 و 2372)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 460 و 461) و"مشكل الآثار"(3/ 250)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(167)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 267 و 268)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1388 و 1389 و 1390)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1118 و 1119)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة دفع المارّ، ويكون ذلك بالأسهل، فالأسهل، فإن لم يرتدع فبالأشدّ، ولو أدّى إلى مقاتلته.
2 -
(ومنها): التشديد في المرور بين يدي المصلّي وبين سترته، حيث إن المارّ شُرع دفعه، ولو أدّى إلى قتله، وكذلك سمّاه شيطانًا.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: يُستدلّ بالحديث على تحريم المرور بين المصلّي وسترته؛ لأنه جعله من عمل الشيطان، وأمر بالعقوبة عليه، وذلك من أدلّة التحريم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن قوله في رواية أبي صالح التالية: "إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من الناس. . . إلخ" يدلّ على أن حقّ دفع المارّ إذا كان المصلى متّخذًا سترة، وإلا فلا يحقّ له الدفع.
قال ابن المنذر رحمه الله: ليس لأحد أن يمرّ بين يدي من يصلّي إلى سُترة، وإن مرّ بين يديه، وهو يصلّي إلى سترة كان له دفعه، فإن لم يندفع قاتله، إن أبى إلا أن يمرّ بين يديه، وقد رخّص في المرور بين يدي من يصلّي إلى غير سترة بعض أهل العلم، واحتجّ بحديث المطّلب بن أبي وداعة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بحديث ابن أبي وَداعة إلى ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، عن المطَّلِب بن أبي وَدَاعة، قال:
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله-4/ 88.
(2)
"الأوسط" 5/ 95.
رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم حين فرغ من أسبوعه، أتى حاشية الطَّوَاف، فصلى ركعتين، وليس بينه وبين الطُّوّاف أحد.
لكن الحديث ضعيف؛ وقد بيّنته في "شرح النسائيّ"
(1)
، والأولى الاحتجاج برواية المصنّف رحمه الله، حيث قال:"إلى شيء يستره"، فإنه يدلّ على أن الدفع لمن له سُترة، وأما غيره فلا، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): جواز إطلاق لفظ الشيطان على مَنْ يَفْتِن في الدين، وأن الحكم للمعاني دون الأسماء؛ لاستحالة أن يصير المارّ شيطانًا بمجرّد مروره، قاله ابن بطّال رحمه الله.
قال في "الفتح": وهو مبنيّ على أن لفظ "الشيطان" يُطْلَق حقيقة على الجنيّ، ومجازًا على الإنسيّ، وفيه بحث.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن لفظ الشيطان يُطلق حقيقة على الإنسيّ، وغيره من الحيوان المتمرّد، كما قال اللَّه تعالى:{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} الآية [الأنعام: 112]، قال في "القاموس": الشيطان معروفٌ، وكلُّ عَاتٍ متمرِّدٍ من إنس، أو جنّ، أو دابّة. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": وفي الشيطان قولان:
أحدهما: أنه من شَطَنَ: إذا بَعُد عن الحقّ، أو عن رحمة اللَّه، فتكون النون أصليّة، ووزنه فَيْعَال، وكلّ عاتٍ متمرّد من الجنّ والإنس، والدوابّ، فهو شيطان، ووصف أعرابيّ فرسه، فقال: كأنه شيطان في أشطان
(3)
.
والقول الثاني: أن الياء أصليّة، والنون زائدة، عكس الأول، وهو شاط يشيط إذا بطل، أو احترق، فوزنه فعلان. انتهى
(4)
.
والحاصل أنه لا داعي لدعوى المجاز، فإن الشيطان يُطلق حقيقةً على كلّ متمرّد إنسيّ، أو جنّيّ، أو غيرهما، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 9/ 228 - 233.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 240.
(3)
جمع شَطَن بفتحتين: وهو الحبل.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 313.
5 -
(ومنها): أنه في المنازعات ينبغي رفع الحكم إلى الحاكم، ولا ينتقم الخصم بنفسه، هكذا قيل
(1)
.
6 -
(ومنها): أن رواية العدل مقبولة، وإن كان الراوي لها منتفعًا بها، فإن أبا سعيد رضي الله عنه حدّث بالحديث؛ احتجاجًا على ما فعله بالشابّ.
7 -
(ومنها): أن ابن أبي جمرة: استنبط من قوله: "فإنما هو شيطان" أن المراد بقوله: "فليقاتله" المدافعة اللطيفة، لا حقيقة القتال، قال: لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة، والتستر عنه بالتسمية ونحوها، وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشدّ على صلاته من المارّ.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن جمرة: فيه نظرٌ، بل الأولى حمل المقاتلة على حقيقتها، كما هو صريح الحديث، وفهمه الصحابيّ الراوي له رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور، أو لدفع الإثم عن المارّ؟ الظاهر الثاني. انتهى.
وقال غيره: بل الأول أظهر؛ لأن إقبال المصلي على صلاته أولى له من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره.
وقد رَوَى ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته".
ورَوَى أبو نعيم، عن عمر رضي الله عنه:"لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه، ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس".
قال الحافظ رحمه الله: فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي، ولا يختص بالمارّ، وهما وإن كانا موقوفين لفظًا، فحكمهما حكم الرفع؛ لأن مثلهما لا يقال بالرأي. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"عمدة القاري" 4/ 428.
(2)
"الفتح" 1/ 695 - 696.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1134]
(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ابْنُ هِلَالٍ، يَعْنى حُمَيْدًا، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَصَاحِبٌ لِي نَتَذَاكَرُ حَدِيثًا، إِذْ قَالَ أَبُو صَالِح السَّمَّانُ: أَنَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَأَيْتُ مِنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ، يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ، أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ، فَنَظَرَ، فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ، فَعَادَ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنَ الدَّفْعَةِ الْأُولَى، فَمَثَلَ قَائِمًا، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ، فَخَرَجَ، فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ، قَالَ: وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَا لَكَ وَلابْنِ أَخِيكَ، جَاءَ يَشْكُوكَ؟
(1)
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَي شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْ في نَحْرِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236)(م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثقةٌ قاله ابن معين [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) الْعَدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، توقّف فيه ابن سيرين؛ لدخوله في عمل السلطان [3](ع) تقدم في "الحيض" 21/ 791.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ) الزيّات، ذكوان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
وأبو سعيد رضي الله عنه ذُكِر قبله.
(1)
وفي نسخة: "يشتكيك".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى أبي صالح، وهو والصحابيّ مدنيان.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
5 -
(ومنها): أن البخاريّ لم يُخرج لسليمان بن المغيرة هذا حديثًا موصولًا إلا هذا الحديث مقرونًا بيونس بن عُبيد، وأورد له أربعة أحاديث تعليقًا، وأما المصنّف فأخرج له (39) حديثًا، فاحفظه، فإنه نفيس، وباللَّه تعالى التوفيق.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: لم يُخرج البخاريّ لسليمان بن المغيرة إلا هذا الحديث متابعةً لحديث يونس بن عُبيد، وإنما خرّجه بعد إسناد حديث يونس؛ لما فيه من الزيادة في إسناده ومتنه.
أما في إسناده، ففيه التصريح بسماع حميد له من أبي صالح، وسماع أبي صالح له من أبي سعيد.
وأما في المتن، فإن فيه ذكر الصلاة إلى الستر، وليس هو في حديث يونس.
وكذلك رواه سَلِيم بن حيّان، عن حميد، ولم يقل أيضًا:"إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من الناس"، وحينئذ، فلفظ الحديث الذي ساقه البخاريّ لسليمان بن المغيرة، وحَمَلَ حديث يونس عليه، ولم يُنبّه على ما في حديث سليمان من الزيادة، وقد نَبّه على ذلك الإسماعيليّ.
وكذلك روى مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمرّ بين يديه، ولْيَدْرَأْه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان"، خرّجه مسلم.
وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد، من رواية عطاء بن يسار، وأبي الودّاك، ورُوي أيضًا من رواية عطاء بن يسار عنه، وليس في حديث أحد منهم ذكر الصلاة إلى السترة، وإنما تفرّد بها سليمان بن المغيرة في حديثه عن حميد بن هلال، واللَّه أعلم.
وتابعه على ذكرها ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، وقد خرّج حديثه أبو داود، وابن ماجه، وليس ابن عجلان بذاك الحافظ.
وتابعه أيضًا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، خرّج حديثه عبد الرزاق عنه بسياق مطوّل، قال في "مصنّفه" (2/ 20):
عبد الرزاق، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ، قال: بينا أبو سعيد الخدريّ يصلي، إذ جاءه شابّ يريد أن يمرّ قريبًا من سترته، وأمير المدينة يومئذ مروان، قال: فدفعه أبو سعيد حتى صَرَعَهُ، قال: فذهب الفتى حتى دخل على مروان، فقال: ها هنا شيخ مجنون دفعني حتى صرعني، قال: هل تعرفه؟ قال: نعم، قال: وكانت الأنصار تدخل عليه يوم الجمعة، قال: فدخل عليه أبو سعيد، فقال مروان للفتى: هل تعرفه؟ قال: نعم، هو هذا الشيخ، قال مروان للفتى: أتعرف مَن هذا؟ قال: لا، قال: هذا صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فرَحّب به مروان، وأدناه حتى قعد قريبًا من مجلسه، فقال له: إن هذا الفتى يذكر أنك دفعته حتى صرعته، قال: ما فعلت فردّها عليه، وهو يقول: إنما دفعت شيطانًا، قال: ثم قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحد أن يمر بين يديك وبين سترتك، فَرُدَّه، فإن أبى فادفعه، فإن أبى فقاتله، فإنما هو شيطان". انتهى كلام ابن رجب بزيادة
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن زيادة "إلى شيء يستره من الناس" لم ينفرد بها سليمان بن المغيرة، بل تابعه داود بن قيس، وهو ثقةٌ فاضلٌ، وابن عجلان، وهو -وإن قال ابن رجب: ليس بذاك الحافظ، فالحقّ
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله-4/ 78 - 80.
أنه صالح في المتابعة، فقد وثّقه الأئمة: أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ، وغيرهم، وإنما قالوا اختلطت عليه أحاديث سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذه ليست منها.
والحاصل أن زيادة سليمان هذه، أعنى قوله:"إلى شيء يستره"، صحيحة بلا ريب، كما هو رأي الشيخين، حيث أخرجاها في "صحيحيهما"، وقد رواها ثلاثة من الثقات: سليمان بن المغيرة، عن حُميد بن هلال، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، وداود بن قيس، وابن عجلان، كلاهما عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
شرح الحديث:
عن حُميد بن هلال: أنه (قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا) تقدّم الكلام على "بينما"، و"بينا" غير مرّة، وخلاصته أن أصلهما "بين" الظرفيّة، زيدت عليها "ما"، فصارت "بينما"، أو أُشبعت الفتحة، فصارت "بينا"، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويُضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتمّ به المعنى، وكثيرًا ما يُقرن جوابهمابـ "إذ"، أو "إذا"، نحو: بينما زيد جالسٌ إذ دخل عليه عمرو، أو إذا دخل عليه عمرو، ومنه قول [من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
وبعضهم يقول: الأفصح في جوابها أن لا تُقرن بهما، لكن المسموع في الأحاديث الصحيحة، وكلام العرب كثير، واللَّه تعالى أعلم
(1)
.
(وَصَاحِبٌ لِي نَتَذَاكَرُ حَدِيثًا) أي نتدارسه، ويذكّر بعضنا بعضًا (إِذْ قَالَ أَبُو صَالِحٍ)"إذ" هي الفجائيّة، أي فاجأني قول أبي صالح (السَّمَّانُ) واسمه ذكوان، كما سَبق آنفًا (أنَا أُحَدِّثُكَ) بكسر الدال المشدّدة، من التحديث (مَا) موصول بمعنى الذي، أو موصوف بمعنى شيئًا، منصوب على المفعوليّة (سَمِعْتُ) بحذف العائد؛ لكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":
. . . . . . . . . . . . . .
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
(1)
راجع: "لسان العرب" 13/ 63 - 67.
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
(مِنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه، أراد به المرفوع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره. . . " الحديث (وَرَأَيْتُ مِنْهُ) أي يعني الفعل الذي صدر منه مع ذلك الشابّ الذي أراد المرور بين يديه، وهو يصلّي، وقوله:(قَالَ) بيان وتفسير لقوله: "ما سمعت من أبي سعيد. . . إلخ"(بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ) رضي الله عنه (يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه مصلّيًا يوم الجمعة (إِلَى شَيْءٍ) متعلّقٌ بـ "يصلي"(يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "شيء"(إِذْ جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ) سبق آنفًا أن "إذ" فجائيّة، أي فاجأني مجيء شابّ، يقال: شَبّ الصبيّ يَشِبّ، من باب ضرب شَبَابًا، وشَبِيبةً، وهو شابّ، وذلك سنٌّ قبل الْكُهُولة، وقومٌ شُبّان، مثلُ فارس وفُرْسَان، والأنثى شابّةٌ، والجمع شَوابّ، مثلُ دابّة ودَوَابّ
(1)
. (مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ) بضم الميم، وفتح العين المهملة، وسكون الياء، آخره طاء مهملة، مصغّرًا، وهو تصغير أمعط، وهو الذي لا شعر عليه، والأمعط، والأمر سواء، وأبو معيط في قريش، واسمه: أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أُميّة الأكبر، وهو والد عقبة بن أبي مُعيط الذي قتله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صبرًا، قاله في "العمدة"
(2)
.
قال في "الفتح": وقع في "كتاب الصلاة" لأبي نعيم أنه الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط، أخرجه عن عبد اللَّه بن عامر الأسلميّ، عن زيد بن أسلم قال: بينما أبو سعيد قائم يصلي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، فأراد أن يمر بيق يديه، فدفعه، فأبى إلا أن يمر بين يديه، فدفعه، هذا آخر ما أورده من هذه القصة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: هذا آخر القصّة، هكذا قال في "الفتح"، لكن يُخالفه ما ذكره ابن رجب في "شرحه"، ونصّه: وروى أبو نعيم في "كتاب الصلاة": ثنا عبد اللَّه بن عامر، عن زيد بن أسلم، قال: بينما أبو سعيد قائم يصلي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدرأه، فأبى إلا أن يمر، فدفعه، ولطمه، وقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 302.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 425.
يقول: "إن أبى إلا أن يمرّ فاردده، فإن أبى إلا أن يمرّ فادفعه، فإنما تدفع الشيطان".
قال: عبد اللَّه بن عامر الأسلميّ فيه ضعف، وزيد بن أسلم إنما رواه عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، كما تقدّم، وتسمية الوليد بن عقبة غريبٌ غير محفوظ. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: وفي تفسير الذي وقع في "الصحيح" بأنه الوليد هذا نظرٌ؛ لأن فيه أنه دخل على مروان، زاد الإسماعيليّ: ومروان يومئذ على المدينة. انتهى. ومروان إنما كان أميرًا على المدينة في خلافة معاوية، ولم يكن الوليد حينئذ بالمدينة؛ لأنه لما قُتل عثمان تَحَوَّل إلى الجزيرة، فسكنها حتى مات في خلافة معاوية، ولم يَحضُر شيئًا من الحروب التي كانت بين عليّ ومن خالفه، وأيضًا فلم يكن الوليد يومئذ شابًّا، بل كان في عشر الخمسين، فلعله كان فيه، فأقبل ابن للوليد بن عقبة فيتجه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما تقدّم أنه كون المارّ الوليد بن عقبة لا يصحّ سندًا، ولا يوافقه التاريخ أيضًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
ورَوَى عبد الرزاق حديث الباب، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، فقال فيه:"إذ جاء شابٌّ"، ولم يسمه أيضًا.
وعن معمر، عن زيد بن أسلم، وقال فيه:"فذهب ذو قرابة لمروان".
ومن طريق أبي العلاء، فيه عن أبي سعيد، فقال فيه:"مَرّ رجل بين يديه، من بني مروان".
وللنسائي من وجه آخر: "فمَرّ ابن لمروان"، وسماه عبدُ الرزاق من طريق سليمان بن موسى:"داود بن مروان"، ولفظه:"أراد داود بن مروان أن يمرّ بين يدي أبي سعيد، ومروان يومئذ أمير المدينة"، فذكر الحديث، وبذلك جزم ابن الجوزيّ، ومن تبعه في تسمية المبهم الذي في "الصحيح" بأنه داود بن مروان.
وفيه نظرٌ؛ لأن فيه أنه من بني أبي مُعَيط، وليس مروان من بنيه، بل أبو
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 86 - 87.
معيط ابن عمّ والد مروان؛ لأنه أبو معيط بن أبي عمرو بن أمية، ووالد مروان هو الحكم بن أبي العاص بن أمية، وليست أمّ داود، ولا أمّ مروان، ولا أم الحكم من ولد أبي مُعيط، فيَحْتَمِل أن يكون داود نُسِب إلى أبي مُعيط من جهة الرضاعة، أو لكون جدّه لأمه عثمان بن عفان كان أخًا للوليد بن عقبة بن أبي معيط لأمه، فنُسِب داود إليه مجازًا.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه بُعْدٌ، والأقرب أن تكون الواقعة تعددت لأبي سعيد مع غير واحد، ففي "مصنف ابن أبي شيبة" من وجه آخر، عن أبي سعيد، في هذه القصة:"فأراد عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن يمرّ بين يديه"، الحديث، وعبد الرحمن مخزوميّ ما له من أبي مُعيط نسبة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله حسن، إلا أن الوليد بن عقبة لا يدخل في التعدّد؛ لما تقدّم من أن ذكره هنا لا يصحّ أصلًا، واللَّه تعالى أعلم.
(أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ) بالجيم من الجواز، وهو المرور، يقال: جاز الموضع يجوزه جوازًا، واجتازه: سلكه، وسار فيه، وأجازه: خلّفه وقطعه
(2)
. (بَيْنَ يَدَيْهِ) أي قدّامه، والظاهر أنه كان بينه وبين سترته، إذ لو لم يستتر لما دفعه، بدليل قوله في احتجاجه:"إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس. . . إلخ"(فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ) أي صدر ذلك الشابّ، قال الفيّوميّ رحمه الله:"النحر": موضع القلادة من الصدر، والجمع نُحُورٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، وتُطلَق النحور على الصدور. انتهى
(3)
. (فَنَظَرَ) أي ذلك الشابّ (فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا) بفتح الميم، وبالغَين المعجمة: أي طريقًا يمكنه المرور منها، يقال: ساغ الشراب في الحلق: إذا نزل من غير ضرر، وساغ الشيءُ: طاب
(4)
. (إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ) رضي الله عنه (فَعَادَ) الشابّ إلى أن يمرّ بين يديه، حيث فقد المساغ (فَدَفَعَ) أبو سعيد (فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنَ الدَّفْعَةِ الْأُولَى) أي من المرّة الأولى، قال
(1)
"الفتح" 1/ 694.
(2)
راجع: "مختار الصحاح"(ص 73).
(3)
"المصباح المنير" 2/ 595.
(4)
"عمدة القاري" 4/ 425.
الفيّوميّ رحمه الله: "الدَّفْعَة" بالفتح: المرّة، وبالضمّ: اسمٌ لما يُدفع بمرّة، يقال: دَفَعتُ من الإناء دَفْعَةً بالفتح بمعنى المصدر، وجمعُها دَفَعَاتٌ، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات، وبَقِيَ في الإناء دُفْعَةٌ بالضمّ: أي مقدارٌ يُدفع. انتهى
(1)
. (فَمَثَلَ قَائِمًا) أي انتصب الشابّ قائمًا، يقال: مَثَلَ بين يديه مُثُولًا: من باب قَعَد: إذا انتصب قائمًا، قاله في "المصباح"
(2)
، وزاد في "القاموس":"مَثُل" بضمّ المثلّثة، ككرُم.
فـ "قائمًا" حال مؤكّد لعامله، وهو "مَثَلَ"، على حدّ قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، قال ابن مالك في "خلاصته":
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
فِي نَحْوِ"لَا تَعْثَ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا"
(فَنَالَ) الشابّ (مِنْ أَبِي سَعِيدٍ) رضي الله عنه أي أصاب من عِرْضه بالشتم، أو نحوه، وهو من النيل، وهو الإصابة (ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ، فَخَرَجَ) أي من المسجد.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وفيما فعله أبو سعيد رضي الله عنه دليلٌ على دفع المارّ بين المصلّي، وبين سترته، وإن ازدحم الناس، ولم يجد المارّ سبيلًا سوى ذلك، ويدلّ عليه أيضًا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه، لكان أن يقِفَ أربعين خيرٌ له من أن يمرّ"، فإنه يدلّ على أن وقوفه أربعين ينتظر مسلكًا يُباح له المرور فيه خيرٌ له من المرور بين يدي المصلّي، وإن لم يجد طريقًا غيره.
وقد قال بعض الشافعيّة والمالكيّة، والحنابلة: لا يكره المرور حينئذ، ولا يمنع منه، قال الحنابلة: لكن يضع المارّ شيئًا يمرّ من ورائه، أو يخطّ خطًّا إذا لم يجد.
قال: والرجوع إلى ما فَهِمه الصحابيّ من الحديث الذي رواه، وعمل به مستدلًّا به أولى.
قال: وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يصلّي، فلا يدع أحدًا يمُرّ بين يديه، وليدرأ ما استطاع" أمرٌ بدفع المارّ، ونهي عن تمكينه من المرور، وظاهره الوجوب، وقد وقع في كلام ابن عبد البرّ ما يقتضيه، وأنه لا يعلم فيه خلافًا،
(1)
"المصباح" 1/ 196.
(2)
راجع: "المصباح" 2/ 564.
ووقع في كلامه أيضًا ما يقتضي أنه على الندب دون الوجوب. انتهى كلام ابن رجب
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد الحافظ ابن رجب في تحقيقه هذا.
أما أوّلًا فإن ما فهمه أبو سعيد رضي الله عنه من أن الدفع على إطلاقه، سواء كان للمارّ مندوحة أم لا؟ هو الحق الذي ينبغي أن لا يُتجاوز إلى غيره إلا بدليل أوضح منه، من نصّ أو إجماع؛ لأن الصحابي من أهل اللسان يفهم دقائق اللغة العربيّة، ويفهم حقائق الشريعة، حيث جالس صاحبها صلى الله عليه وسلم، وفهم مقاصده، فينبغي أن يُقدّم على فهم غيره، واللَّه تعالى أعلم.
وأما ثانيًا فقوله: "وظاهره الوجوب"، هو الذي سبق لنا ترجيحه، وإن كان الأكثرون على خلافه؛ لأن الأمر والنهي للوجوب والتحريم، ما لم يصرفهما صارف، ولم يذكر القائلون بالندبيّة هنا صارفًا معتبرًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة الأمويّ، أبو عبد الملك المدنيّ، يقال: إنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الواقديّ، ولم يَحفَظ منه شيئًا، توُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين، ولي الخلافة في آخر سنة (64)، ومات بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة (65 هـ) وهو ابن (61 أو 63) سنة، وله ذكر عند المصنّف، وأخرج له البخاريّ، والأربعة.
(فَشَكَا إِلَيْهِ) أي إلى مروان (مَا) موصولة، أي الذي (لَقِيَ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، من باب تعب، أي أصابه من أبي سعيد من الدفع على نحره (قَالَ) أبو صالح (وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ) رضي الله عنه (عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَا لَكَ)"ما" استفهاميّة مبتدأ، و"لك" خبره وقوله:(وَلابْنِ أَخِيكَ) عطف على "لك" بإعادة الخافض، وهو لازم عند جمهور النحاة، خلافًا لابن مالك، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى
…
ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلَا
وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى
…
فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَا
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 80 - 81.
وأطلق الأُخُوّة باعتبار الإيمان، وهذا يؤيّد أن المارّ غير الوليد؛ لأن أباه عُقبة قُتل كافرًا، واستَدَلَّ الرافعيّ بهذه القضة على مشروعية الدفع، ولو لم يكن هناك مَسْلَكٌ غيره، خلافًا لإمام الحرمين.
وقوله: (جَاءَ يَشْكُوكَ؟) أي يُخبر عنك بسوء فعلك به، وفي بعض النسخ:"يشتكيك"، وهو بمعناه، قال في "المختار": شكاه، من باب عَدَا وشِكَايَةً بالكسر، وشَكِيّةً، وشكاةً بالفتح: أي أخبر عنه بسوء فعله به، فهو مَشْكُوٌّ، ومَشْكيٌّ، والاسم: الشَّكْوَى، وأشكاه: فَعَلَ به فعلًا أحوجه إلى أن يشكوه، وأشكاه أيضًا: أعتبه من شكواه، ونزع عنه شِكايته، وأزاله عمّا يشكوه، وهو من الأضداد، واشتكاه مثلُ شكاه. انتهى
(1)
. وأفاد في "القاموس" أن شَكَيت بالياء لغة في شَكَوت بالواو
(2)
.
والجملة محلّ نصب على الحال من "ابن أخيك".
(فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ) قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ولو أخذ من هذا جواز التستّر بالأشياء عمومًا، لكان فيه ضعفٌ؛ لأن مقتضى العموم جواز المقاتلة عند وجود كل شيء ساتر، لا جواز الستر بكلّ شيء، إلا أن يُحمل الستر على الأمر الحسيّ، لا الأمر الشرعيّ، وبعض الفقهاء كَرِه التستّر بآدميّ، أو حيوان غيره؛ لأنه يصير في صورة المصلّي إليه، وكرهه مالك في المرأة. انتهى
(3)
.
(فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ) أي يمرّ (بَيْنَ يَدَيْهِ) أي بينه وبين الساتر الذي أمامه، وليس المراد ما يعم ما وراء السترة؛ لأن المرور وراءها جائز، كما تقدّم في حديث طلحة رضي الله عنه حيث قال:"ولا يبالي مَن مرّ وراء ذلك". (فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ) أي صدر مريد المرور (فَإِنْ أَبَى) أي امتنع عن الرجوع (فَلْيُقَاتِلْهُ) بكسر لام الأمر، وسكونها (فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ") أي لكونه متمرّدًا عن الاستجابة لترك المنكر، فكلّ من عَتَى، وتَمَرّد عن الحقّ، فهو شيطان، أو المراد أن الذي حمله على هذا العصيان شيطانه الذي تسلّط عليه، ويؤيّد هذا حديث ابن
(1)
"مختار الصحاح"(ص 169).
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 350.
(3)
"إحكام الأحكام" 2/ 454 بنسخة الحاشية.
عمر رضي الله عنهما بلفظ: "فإن معه القرين"، والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبقت مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1135]
(506) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مروان الْحَمّالُ، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشريّ، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ) الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
4 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَان) بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7] تقدم في "الحيض" 16/ 774.
5 -
(صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ) الْجَزَريّ، نزيل مكة، ثقة [4].
رَوَى مالك بن أوس بن الْحَدَثان، وسعيد بن جبير، وطاووس بن كيسان، والقاسم بن محمد، والزهريّ، وهو من أقرانه، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، وابن جريج، ومالك، وابن إسحاق، ومعمر، والسفيانان، والضحاك بن عثمان، وجرير بن عبد الحميد، وجماعة.
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة من الثقات، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ، قال: قلت له: من أهل مكة؟ فقال: من أهل الجزيرة، سكن مكة، وقال له سفيان: بلغني أنك
من الخوارج، قال: كنت منهم، فعافاني اللَّه منه، قال أبو داود: كان مُتَوَحِّشًا يصلي بمكة جمعةً، وبالمدينة جمعةً، وقال ابن سعد: تُوُفّي في أول خلافة بني العباس، وكان ثقةً قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر بعضهم أنه عَمّ محمد بن إسحاق بن يسار، وهو وَهَمٌ ممن قاله، وقال النسائيّ، ويعقوب بن سفيان: ثقةٌ.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.
6 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، ذُكر في الباب الماضي.
وقوله: (فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ) أي مصاحبه من الشياطين، قال ابن الأثير رحمه الله: القرين يكون في الخير والشرّ، قال: ومنه الحديث: "ما من أحد إلا وُكل به قرينه"، أي مصاحبه من الملائكة والشياطين، وكلّ إنسان فإن معه قرينًا منهما، فقرينه من الملائكة يأمره بالخير، ويحُثّه عليه، وقرينه من الشياطين يأمره بالشرّ، ويَحثّه عليه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار ابن الأثير بهذا إلى ما أخرجه المصنّف رحمه الله عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِل به قَرينه من الجنّ"، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟ قال: "وإياي، إلا أن اللَّه أعانني عليه فأسلمُ، فلا يأمرني إلا بخير"
(2)
.
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس منكم من أحد، إلا وقد وُكِل به قرينه من الشياطين"، قالوا: وأنت يا رسول اللَّه؟ قال: "نعم، ولكن اللَّه أعانني عليه، فأسلم"
(3)
.
وأخرج الدارميّ في "سننه" عن عبد اللَّه -يعني ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة"، قالوا: وإياك؟ قال: "نعم وإياي، ولكن اللَّه أعانني عليه، فأسلم".
(1)
"النهاية" 4/ 54.
(2)
سيأتي للمصنف في "صفة القيامة" برقم (2814).
(3)
"المسند" برقم (2319).
قال أبو محمد: من الناس من يقول: أسلمَ استسلم، يقول: ذَلَّ. انتهى
(1)
.
وتمام شرح الحديث، وفوائده، تقدّمت في شرح الأحاديث الماضية.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1135 و 1136](506)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 86)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(800)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2362 و 2370)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13573)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 461)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1387)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1120)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 268)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1136]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد اللَّه بن شريك بن زهير بن سارية أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ [9].
رَوَى عن أفلح بن حميد، وأسامة بن زيد الليثيّ، وخُثَيم بن عِراك،
(1)
"سنن الدارميّ" برقم (2618).
(2)
وفي نسخة: "حدّثنيه إسحاق"، وفي أخرى:"حدّثني".
وسعيد بن أبي عروبة، والثوريّ، ومالك، وكثير بن زيد، والهيثم بن رافع، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وعليّ ابن المدينيّ، وأبو موسى، وبُندار، وعمرو بن عليّ، وإسحاق بن منصور، وعباس بن عبد العظيم، وهارون الحمّال، ومحمد بن رافع، وبكر بن خلف، وأبو خَيثمة، ومحمد بن يحيى الذُّهْليّ، وغيرهم.
قال الأثرم، عن أحمد: ثقةٌ، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: أنا أحدث عنه، وقال أبو زرعة: هم ثلاثة إخوة، وهم ثقات، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، وقال العُقَيليّ: عبد الكبير ثقةٌ، وأخوه أبو عليّ ثقةٌ، والأخ الثالث ضعيف، يعني عُميرًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: هم إخوة أربعة: أبو بكر، وأبو عليّ، وأبو المغيرة، واسمه عُمير، وشَرِيكٌ، وقال الدارقطنيّ: هم أربعة إخوة، لا يُعْتَمَد منهم إلا على أبي بكر، وأبي عليّ.
وقال محمد بن سعد: كان ثقةً، وتُوُفّي بالبصرة سنة أربع ومائتين، وفيها أرَّخه أبو داود.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث فقط.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ، بِمِثْلِهِ) الضمير لأبي بكر الحنفيّ، أي قال أبو بكر، عن الضحّاك بن عثمان بمثل رواية محمد بن إسماعيل بن أبي فُديك، عنه.
[تنبيه]: رواية أبي بكر الحنفيّ هذه ساقها الإمام ابن خزيمة في "صحيحه"(2/ 9) فقال:
(800)
أنا أبو طاهر
(1)
، نا أبو بكر
(2)
، ثنا بُندار، ثنا أبو بكر -يعني الحنفيّ- ثنا الضحاك بن عثمان، حدثني صدقة بن يسار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَلّ إلا إلى سُتْرة، ولا تَدَعْ أحدًا يَمُرُّ بين
(1)
هو حفيد ابن خزيمة: محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة الراوي عن جدّه، المتوفّى سنة (387 هـ).
(2)
هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، صاحب الصحيح.
يديك، فإن أبى فلتقاتله، فإن معه القرين". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(50) - (بَابُ التَّغْلِيظِ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1137]
(507) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زيدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ، أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْم، يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو جهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي، مَاذَا عَلَيْهِ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ
(1)
مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ"، قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا أَدْرِي، قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة، مولى عمر بن عبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كان يُرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.
2 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) العابد مولى ابن الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.
3 -
(أَبُو جُهَيْمِ) -بالتصغير- ابن الحارث بن الصِّمّة ابن عَمرو الأنصاريّ، قيل: اسَمه عبد اللَّه، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو عبد اللَّه بن جُهيم بن الحارث بن الصِّمّة، وقيل: اسمه الحارث بن الصّمّة، وقيل: هو آخر غيره، صحابيّ معروفٌ، وهو ابن أخت أُبَيّ بن كعب، بقي إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما، تقدّم في "الحيض" 27/ 828.
(1)
وفي نسخة: "خيرٌ له".
والباقيان تقدّما قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبي النضر، عن بسر.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة سوى حديثين، هذا عند جميعهم، وحديث التيمّم:"أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجلٌ، فسلّم عليه. . . " الحديث عندهم إلا الترمذيّ، وابن ماجه، راجع:"تحفة الأشراف"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد (أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنيِّ) الصحابيّ المشهور، مات بالكوفة سنة (60) وقيل:(70)، وله (85) سنةً، تقدّمت ترجمته في "الإيمان"(34/ 238). (أَرْسَلَهُ) أي أرسل بسر بن سعيد (إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": هكذا رَوَى مالك هذا الحديث في "الموطأ" لم يُخْتَلف عليه فيه، أن المرسِلَ هو زيد، وأن المرسَل إليه هو أبو جهيم، وتابعه سفيان الثوريّ، عن أبي النضر، عند مسلم، وابن ماجه، وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة، عن أبي النضر، فقال:"عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله. . . "، فذكر هذا الحديث.
قال ابن عبد البرّ: هكذا رواه ابن عيينة مقلوبًا، أخرجه ابن أبي خيثمة، عن أبيه، عن ابن عيينة، ثم قال ابن أبي خيثمة: سئل عنه يحيى بن معين؟ فقال: هو خطأ، إنما هو:"أرسلني زيد إلى أبي جهيم"، كما قال مالك.
(1)
"تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" 8/ 397 - 398.
وتَعَقَّب ذلك ابن القطان، فقال: ليس خطأُ ابن عيينة فيه بمتعين؛ لاحتمال أن يكون أبو جهيم بَعَثَ بُسرًا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جهيم، يَستثبِت كلُّ واحد منهما ما عند الآخر.
قال الحافظ: تعليل الأئمة للأحاديث مبنيّ على غلبة الظنّ، فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا، لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال، فَيُعْتَمَدُ، ولولا ذلك لما اشتَرَطوا انتفاء الشذوذ، وهو ما يخالف الثقة فيه مَن هو أرجح منه في حدّ الصحيح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم في شرح المقدّمة أن اشتراط انتفاء الشذوذ في حدّ الصحيح بمعنى المخالفة المذكورة فيه نظر؛ لأنه ينافي قبول زيادة الثقة، وإنما الصحيح انتفاء العلّة، فراجع ما كتبته هناك، تجد تحقيقًا نفيسًا، وباللَّه تعالى التوفيق.
وحاصل الاختلاف هنا أن يرجّح ما قاله ابن معين: من أن ابن عيينة أخطأ في هذا، وأما ما جمع به ابن القطّان، فلا يخفى ما فيه من التكلّف، واللَّه تعالى أعلم.
ثم رأيت كلامًا للحافظ ابن رجب يؤيّد هذا، حيث قال في "شرح البخاريّ": ورواه ابن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو الجهيم أسأل زيد بن خالد الجهنيّ: ما سمعتَ من النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول؟ فذكره من رواية زيد بن خالد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا رويناه في "مسند الحميديّ" عن سفيان، وكذا خرّجه ابن ماجه عن هشام بن عمّار، عن ابن عيينة، إلا أنه قال: أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله، ولم يذكر من أرسله، وذكر أن الشكّ في تمييز الأربعين من ابن عيينة، وهذا كلُّه وَهَمٌ.
وممن نصّ على أن جعل الحديث من مسند زيد بن خالد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَهَمٌ من ابن عُيينة وخطأٌ؛ ابنُ معين في رواية ابن أبي خيثمة، وأشار إليه الإمام أحمد في رواية حنبل.
وقد اضطرب ابن عيينة في لفظه وإسناده، ولم يحفظه جيّدًا.
(1)
"الفتح" 1/ 696.
وقد روي عنه كقول مالك وسفيان
(1)
على الصواب، خرّجه ابن خزيمة عن عليّ بن خَشْرَم عنه.
ومن تكلّف الجمع بين القولين من المتأخرين، فقوله ليس بشيء، ولم يأت بأمر يُقْبل منه.
وقد رواه الضحّاك بن عثمان، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم المارّ بين يدي المصليّ، والمصلّي ما عليهما. . . "، وذكر الحديث، خرّجه أبو العبّاس السّرّاج في "مسنده"، وهذا يوافق رواية ابن عيينة، وهو أيضًا وَهَمٌ، وزيادته "والمصلّي" غير محفوظة أيضًا. انتهى كلام ابن رجب
(2)
، وهو بحثٌ نفيسٌ.
(يَسْأَلُهُ) جملة حاليّة من المفعول، وهي من الأحوال المقدّرة، أي حال كون بسر مقدّرًا سؤاله أبا جُهيم (مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"ما" استفهاميّة مبتدأ، و"ذا" خبره، وهو اسم موصول بمعنى الذي، كما قال في "الخلاصة":
وَمِثْلُ "مَا""ذَا" بَعْدَ "ما" اسْتِفْهَامِ
…
أَوْ "مَنْ" إِذا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ
والعائد محذوف، والجملة في موضع المفعول الثاني لـ "يسأل"، وهو معلّق عنها للاستفهام، والتقدير: يسأله أيّ الشي الذي سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويَحتَمِل أن يكون "ماذا" اسمًا مركّبًا بمنزلة اسم واحد للاستفهام، وهو معنى قول ابن مالك:"إذا لم تُلْغَ"، فيكون مفعولًا مقدّمًا لـ "سَمِعَ"
(3)
.
(فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي؟) أي أمامه بالقرب منه، وعَبَّر باليدين؛ لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختُلِف في تحديد ذلك، فقيل: إذا مَرّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل: بينه وبين قدر رَمْيَةٍ بحجر، قاله في "الفتح"
(4)
.
(1)
أي الثوريّ.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 89 - 91.
(3)
راجع: "الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" للسمين الحلبيّ 2/ 384 عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} .
(4)
1/ 696.
(قَالَ أَبُو جُهَيْمٍ) رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي، مَاذَا عَلَيْهِ؟) تقدم الكلام عليه آنفًا، وقال في "العمدة": كلمة "ما" استفهام، ومحلّه الرفع على الابتداء، وكلمة "ذا" إشارة، والأولى أن تكون "ذا" موصولةً بدليل افتقاره إلى شيء بعده؛ لأن تقديره: ماذا عليه من الإثم، ثم إن "ماذا عليه" في محلّ النصب على أنه سدّ مسدّ المفعولين لقوله:"يعلم"، وقد عُلّق عمله بالاستفهام. انتهى
(1)
.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: أبهم الأمر؛ ليدلّ على فخامته، وأنه مما لا يُقَدَّرُ قدرُهُ، ولا يدخل تحت العبارة. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "ماذا عليه" زاد الكشميهنيّ: "من الإثم"، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في "الموطأ" بدونها، وقال ابن عبد البرّ: لم يُخْتَلَف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة، وأصحاب المسانيد، والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقًا، لكن في "مصنف ابن أبي شيبة":"يعني من الإثم"، فَيَحْتَمِل أن تكون ذُكِرت في أصل البخاريّ حاشيةً، فظنها الكشميهنيّ أصلًا؛ لأنه لم يكن من أهل العلم، ولا من الحفّاظ، بل كان راويةً، وقد عزاها المحبّ الطبريّ في "الأحكام" للبخاري، وأطلق، فعيب ذلك عليه، وعلى صاحب "العمدة" في إيهامه أنها في "الصحيحين"، وأنكر ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" على من أثبتها في الخبر، فقال: لفظ "الإثم" ليس في الحديث صريحًا، ولما ذَكَره النووي في "شرح المهذب" دونها، قال: وفي رواية رَوَيناها في "الأربعين" لعبد القادر الرُّهاويّ: "ماذا عليه من الإثم". انتهى ما في "الفتح"
(3)
.
وعبارة الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد وقع في بعض نسخ كتاب البخاريّ ومسلم أيضًا بعد "ماذا عليه""من الإثم"، وهي غير محفوظة، وذكر ابن عبد البرّ
(1)
"عمدة القاري" 4/ 430.
(2)
"شرح البخاري" للكرمانيّ رحمه الله 4/ 163.
(3)
1/ 696 - 697.
أن هذه اللفظة في رواية الثوريّ، عن سالم أبي النضر، وقد وقعت في كتاب ابن أبي شيبة من رواية الثوريّ مدرجةً بلفظ "يعني من الإثم"، فدلّ على أنها مدرجة من قول بعض الرواة، وتفسير للمعنى؛ فإن هذا يُفهَم من قوله:"ماذا عليه"، فإن ابن آدم له عمله الصالح، وعليه عمله السيئ، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} الآية [فصلت: 46]، وقال:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وإذا كان هذا عليه، فهو من سيّئاته. انتهى
(1)
.
وقوله: (لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ) جواب "لو"، وكلمة "أن" مصدريّة، والتقدير: لو يعلم المارُّ مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلّي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: جواب "لو" ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرًا له. انتهى
(2)
.
وتعقّبه العينيّ، فقال: لا ضرورة إلى هذا التقدير، وهو تصرّف فيه تعسّفٌ، وحقّ التركيب ما تقدّم. انتهى
(3)
.
قال الكرمانيّ رحمه الله: وأبهم العدد تفخيمًا للأمر، وتعظيمًا. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: قلت: ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شكّ الراوي فيه. انتهى.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: هل للتخصيص بالأربعين حكمةٌ معلومةٌ؟.
قلت: أسرار أمثالها لا يعلمها إلَّا الشارع.
ويَحْتَمِل أن يكون ذلك؛ لأن الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طَور بأربعين كأطوار النطفة، فإن كل طور منها بأربعين، وكمال عدل الإنسان في أربعين سنةً، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد؛ لأن أجزاءه وهي عشرة، ومن العشرات المئات، ومنها الألوف، فلما أُريد التكثير ضوعف كل إلى عشرة أمثاله. انتهى
(4)
.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 91.
(2)
"شرح الكرمانيّ" 4/ 163.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 430.
(4)
"شرح الكرمانيّ" 4/ 163.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الوجه الذي ذكره الكرمانيّ أوّلًا هو المعتمد، فهذا العدد ونحوه مما لا ينبغي أن يوكل وجه حكمته إلى الشارع الحكيم، وأما الوجه الثاني، فإنه تكلّف ظاهر، تردّه رواية المائة، ففي رواية ابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لكان أن يقف مائة عام خيرًا له من الخطوة التي خطاها".
وأما ما ذكره العينيّ في وجه الحكمة للمائة أيضًا فمن التكلّف الظاهر، ومثل هذا من فضول الكلام، فينبغي عدم الخوض فيه، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الحافظ بعد ذكر رواية المائة ما نصّه: وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معيَّن.
وَجَنح الطحاويّ إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين؛ زيادةً في تعظيم الأمر على المار؛ لأنهما لم يقعا معًا؛ إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر، ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثَبَتَ الْمُدَّعَى، وأما دونها فمن باب أولى.
وقد وقع في "مسند البزار" من طريق ابن عيينة التي ذكرها ابن القطان: "لكان أن يقف أربعين خريفًا"، أخرجه عن أحمد بن عَبْدة الضبيّ، عن ابن عيينة.
وقد جعل ابن القطان الجزم في طريق ابن عيينة، والشك في طريق غيره دالّا على التعدد.
لكن رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وغيرهم من الحفاظ، عن ابن عيينة، عن أبي النضر على الشك أيضًا، وزاد فيه:"أو ساعةً"، فيبعد أن يكون الجزم والشك وقعَا معًا من راو واحد في حالة واحدة، إلا أن يقال: لعله تذكر في الحال، فجزم، وفيه ما فيه. انتهى
(1)
.
وقوله: (خَيْرًا لَهُ) خبر "كان"، واسمها قوله:"أن يقف" في تأويل المصدر، أي لكان وقوفه أربعين خيرًا له، ووقع في بعض النسخ "خيرٌ له"
(1)
"الفتح" 1/ 697.
بالرفع، قال في "الفتح": في روايتنا بالنصب على أنه خبر "كان"، ولبعضهم "خير" بالرفع وهي رواية الترمذيّ، وأعربها ابن العربي على أنها اسم "كان"، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة؛ لكونها موصوفةً، ويَحْتَمِل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. انتهى.
واعترض السنديّ رحمه الله إعراب ابن العربيّ بأن القواعد تأبى ذلك؛ لأن قوله: "أن يقف" بمنزلة الاسم المعرفة، فلا يصلح أن يكون خبرًا لـ "كان"، وتكون النكرة اسمًا لها، بل "أن" مع الفعل يكون اسمًا لـ "كان" مع كون الخبر معرفةً متقدّمةً، مثلُ قوله تعالى:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} الآية [آل عمران: 147]، ولهذا نظائر في القرآن، وكذلك المعنى يأبى ذلك عند التأمّل، فالوجه أن اسم كان ضمير الشأن، والجملة مفسّرة للشأن، أو أن "خير" منصوب على أنه خبر "كان"، وترك الألف بعده من تسامح أهل الحديث، فإنهم كثيرًا ما يتركون كتابة الألف بعد الاسم المنصوب، كما صرّح به النوويّ، والسيوطيّ، وغيرهما في مواضع. انتهى كلام السنديّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، وإن وقع في كلام العينيّ ما يُفيد تعقّبه، لكنه هو الوجه، فتأمله بالإنصاف.
والحاصل أن "خير" في حالة الرفع خبر لـ "أن يقف"، والجملة خبر "كان"، واسمها ضمير الشان، أو "أن يقف" اسمها، و"خيرًا" خبرها منصوب بالفتحة، لكنه مكتوب بصورة المرفوع والمجرور على عادة قدماء المحدّثين، وهو أيضًا لغة ربيعة، فإنهم يقفون على المنصوب المنصوب بالسكون، كرأيت زيد، واللَّه تعالى أعلم.
(مِنْ أَنْ يَمُرَّ) متعلّقٌ بـ "خير"(بَيْنَ يَدَيْهِ") ظرف لـ "يمُرّ"، أي من مروره أمام المصلي.
(قَالَ أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أميّة الراوي عن بُسر بن سعيد، قال في "الفتح": هو كلام مالك، وليس من تعليق البخاريّ؛ لأنه ثابت في "الموطأ" من جميع الطرق، وكذا ثبت في رواية الثوريّ، وابن عيينة، كما ذكرنا. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 1/ 697.
(لَا أَدْرِي)"لا" نافية، ولذا رفع الفعل بعدها، أي لا أعلم (قَالَ) وفي رواية البخاريّ:"أقال" بهمزة الاستفهام، وتقدّر هنا، والظاهر أن فاعل "قال" ضمير بسر، وقال الكرمانيّ رحمه الله: فاعله بسرٌ، أو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
. (أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً) لأنه ذكر العدد، أعني أربعين، ولا بدّ من مميّز، وهو لا يخلو عن هذه الأشياء، وقد أُبهم هنا، وقد سبق آنفًا أن الحكمة في إبهامه التفخيم والتعظيم على ما قيل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي جُهيم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 1137 و 1138](507)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(510)، و (أبو داود) فيها (701)، و (الترمذيّ) فيها (336)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 66) وفي "الكبرى"(1/ 272 - 273)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(944)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 154 - 155)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2322)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 282)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 169)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 329)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(84 و 85 و 86)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(813)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2366)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1391 و 1392 و 1393 و 1394 و 1395)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1121)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 268)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(543)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن المرور بين يدي المصلّي ممنوع، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك. انتهى. ومقتضى ذلك أن يُعَدَّ في الكبائر.
(1)
"شرح الكرمانيّ" 4/ 163.
2 -
(ومنها): جواز أخذِ القرين عن قرينه ما فاته، أو استثباته فيما سَمِع معه.
3 -
(ومنها): الاعتمادُ على خبر الواحد؛ لأن زيدًا اقتصر على النزول مع القدرة على العلوّ اكتفاء برسوله المذكور.
4 -
(ومنها): جواز استعمال "لو" في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي الوارد فيما أخرجه المصنّف في "القدر" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القويّ خيرٌ وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرِصْ على ما ينفعك، واستعن باللَّه، ولا تَعْجَزْ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّرَ اللَّهُ، وما شاء فَعَل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"
(1)
؛ لأن محل النهي أن يُشْعِر بما يُعانِد المقدور، كما سيأتي في "كتاب القدر" - إن شاء اللَّه تعالى.
5 -
(ومنها): أن ابن بطال: استنبط من قوله: "لو يَعْلَم" أن الإثم يَختصّ بمن يعلم بالنهي، وارتكبه.
قال الحافظ: وأخذه من ذلك فيه بُعْدٌ، لكن هو معروف من أدلة أخرى. انتهى.
6 -
(ومنها): أن ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يَختَصّ بمن مَرّ، لا بمن وقف عامدًا مثلًا بين يدي المصلي، أو قعد، أو رَقَدَ، لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي، فهو في معنى المارّ، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما دلّ عليه ظاهر الحديث هو الحقّ؛ لأن التشويش ليس خاصًا بهذه الأشياء، بل قد يحصل ممن كان وراء ظهر المصلّي، أو عن يمينه، أو يساره، فالحديث لا يدلّ على هذا كلّه، بل دليل النهي عن التشويش معلوم من أدلّة الشرع الأخرى، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن ظاهرهُ عموم النهي في كل مُصَلٍّ، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد؛ لأن المأموم لا يضرّه مَن مَرّ بين يديه؛ لأن سترة إمامه سترة له، أو إمامه سترة له.
(1)
سيأتي للمصنّف في "كتاب القدر" برقم (2664).
قال الحافظ: والتعليل المذكور لا يطابق المدَّعَى؛ لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي، لا عن المارّ فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الحافظ فيه نظرٌ؛ لأن التعليل بالتشويش ليس منصوصًا عليه حتى يُعتمد، بل الأقرب تعليله بأنه يقطع المناجاة بين المصلي وبين ربّه، فما قاله بعض المالكيّة هو الأرجح، كما لا يخفى على من تأمله.
وأيضًا فقد تقدّم مرور ابن عبّاس رضي الله عنهما بين يدي بعض المأمومين، ولم يُنكر ذلك عليه، فدلّ على كون حكم المأموم غير حكم الإمام والمنفرد، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن العلامة ابن دقيق العيد: ذكر أن بعض الفقهاء المالكية قَسَمَ أحوال المارّ والمصلي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: يأثم المارّ دون المصلي، وعكسه، ويأثمان جميعًا، وعكسه.
فالصورة الأولى: أن يصلي إلى سُترة في غير مَشْرَع، وللمارّ مندوحة، فيأثم المارّ دون المصلي.
الثانية: أن يصلي في مَشْرَع مسلوك بغير سترة، أو متباعدًا عن السترة، ولا يجد المارّ مندوحة، فيأثم المصلي دون المارّ.
الثالثة: مثل الثانية، لكن يجد المارّ مندوحةً فيأثمان جميعًا.
الرابعة: مثل الأولى، لكن لم يجد المارّ مندوحةً، فلا يأثمان جميعًا. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وظاهر الحديث يدلّ على منع المرور مطلقًا، ولو لم يجد مسلكًا، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته، ويؤيِّده قصة أبي سعيد رضي الله عنه السابقة، فإن فيها:"فنظر الشابّ، فلم يجد مَسَاغًا".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الحافظ من أن ما دلّ عليه الحديث من عموم النهي لجميع الصور هو الحقّ؛ لظهور حجّته، لكن إذا كانت هناك ضرورة لا بدّ منها، فيكون من باب الاضطرار، وقد قال اللَّه تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] الآية، فليُتنبّه لذلك، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وقد تقدّمت الإشارة إلى قول إمام الحرمين: إن الدفع لا يُشْرعَ للمصلي في هذه الصور، وتبعه الغزاليّ، ونازعه الرافعيّ، وتعقبه ابن الرفعة بما حاصله أن الشابّ إنما استوجب من أبي سعيد الدفع؛ لكونه قَصّر في التأخر عن الحضور إلى الصلاة، حتى وقع الزحام. انتهى.
وما قاله مُحْتَمِلٌ، لكن لا يدفع الاستدلال؛ لأن أبا سعيد لم يَعْتَذر بذلك، ولأنه متوقف على أن ذلك وقع قبل صلاة الجمعة، أو فيها، مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها، فلا يتجه ما قاله من التقصير بعدم التبكير، بل كثرة الزحام حينئذ أوجه، واللَّه أعلم. انتهى.
[تنبيه]: وقع في رواية أبي العباس السّرّاج من طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر:"لو يعلم المارّ بين يدي المصلِّي والمصلَّى"، فحمله بعضهم على ما إذا قَصّر المصلي في دفع المارّ، أو بأن صلى في الشارع، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"والمصلَّى" بفتح اللام، أي بين يدي المصلي، من داخل سترته، وهذا أظهر. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم أن الحافظ ابن رجب قال: زيادة "والمصلّي" غير محفوظة. انتهى. وهو أولى مما قاله الحافظ، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1138]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَن زيدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنيِّ، أَرْسَلَ إِلَى أَبِي جُهَيْمِ الْأَنْصَارِيِّ: مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ؟، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الرحمن المصريّ، سكن نيسابور، ثقةٌ، صاحب حديث، من صغار [10](ت سنة بضع 250)، تفرّد به المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
2 -
(وَكِيع) بن الجرّاح تقدّم قبل باب.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدم قبل باب أيضًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ؟)"ما" استفهاميّة مبتدأ خبره جملة "سمعتَ"، والجملة معلّق عنها العامل المقدّر، بدليل الرواية السابقة، أي يسأل ما سمعت؟. . . إلخ، و"يقول" في محلّ نصب على الحال من "النبيّ"، أي حال كونه قائلًا.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير سفيان، يعني أن سفيان ذكر الحديث عن سالم أبي النضر بمعنى حديث مالك، عنه.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوري هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 384) فقال:
(1395)
حدّثنا بكار بن قتيبة، قال: ثنا أبو عامر الْعَقَديّ، قال: ثنا سفيان الثوريّ، عن سالم أبي النضر، عن بُسر بن سعيد، عن أبي الجهيم الأنصاريّ، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لأن يقوم أربعين في مقامه، خير له من أن يمر بين يديه"، قال: لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين سنة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(51) - (بَابُ دُنُوِّ الْمُصَلِّي مِنَ السُّتْرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1139]
(508) - (حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: "كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) الْعَبْديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هو: عبد العزيز المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8](ت 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
3 -
(أَبُوهُ) هو: سلمة بن دينار، أبو حازم الأعرج الأثور التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
4 -
(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) أو بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (64) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغداديّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وهم تسعة، وقد ذكرهم قريبًا.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه آخر من مات بالمدينة من الصحابة على بعض الأقوال، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: "كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح اللام، هو المكان الذي يُصلي فيه، والمراد به مقامه صلى الله عليه وسلم، وكذا هو في رواية أبي داود، قال:"كان بين مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممرّ الْعَنْز"، وقال في "العمدة": المراد مقامه صلى الله عليه وسلم في صلاته، ويتناول ذلك موضع القدم، وموضع السجود. انتهى. (وَبَيْنَ الْجِدَارِ) بكسر الجيم، قال
الفيّوميّ رحمه الله: الْجِدار: الحائط، والجمع جُدُرٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، والْجَدْرُ -بفتح، فسكون- لغة في الجدار، وجمعه جُدْران. انتهى
(1)
.
والمراد جدار المسجد النبويّ مما يلي القبلة، وقد صرّح به في رواية البخاريّ، في "كتاب الاعتصام"، ولفظه من طريق أبي غسان -محمد بن مُطَرِّف- عن أبي حازم، عن سهل:"أنه كان بين جدار المسجد، مما يلي القبلة، وبين المنبر ممر الشاة"
(2)
.
(مَمَرُّ الشَّاةِ) بفتح الميمين: أي موضع مرورها، وهو مرفوع على أنه اسم "كان"، وخبرها الظرف المتقدّم، ويَحْتَمل أن تكون "كان" شانيّةً، اسمها ضمير الشأن، والظرف خبر مقدّم، و"ممرُّ" مبتدأ مؤخّر، والجملة خبر "كان"، وتقدّم في رواية أبي داد بلفظ:"ممرّ الْعَنْز" وهي بفتح، فسكون: المعز.
والمعنى: أن المسافة التي كانت بين المكان الذي يقوم فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم للصلاة، وبين الجدار الذي أمامه إلى جهة القبلة قدر ما يسع مرور الشاة فيه، وهو كناية عن قربه إليه.
وقال النوويّ رحمه الله: يعني بالمصلّى موضع السجود، وفيه أن السنة قرب المصلّي من سترته. انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1139](508)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(496) و"الاعتصام"(7334)، و (أبو داود) في "الصلاة"(696)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1762 و 2374)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5896 و 5786)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1434)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1122)،
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 93.
(2)
"صحيح البخاريّ""كتاب الاعتصام" رقم (7334).
(3)
"شرح النووي" 4/ 225.
و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 272)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(536)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على استحباب القرب من السترة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم نصًّا:"إذا صلى أحدكم إلى سُتْرَة، فَلْيَدْنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"، رواه أبو داود، والنسائيّ بسند صحيح.
قال: ولا يُعارَضُ حديث ممرّ الشاة بحديث صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكعبة، إذ جَعَل بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع؛ إذ قد حَمَل بعض المشايخ حديث مَمَرّ الشاة على ما إذا كان قائمًا، وحديث ثلاث أذرع على ما إذا ركع، أو سجد، قال: ولم يَحُدّ مالك في هذا حدًّا، إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع مَن يمر بين يديه، وقد قدّره بعض الناس بقدر شبر، وآخرون بثلاثة أذرع، وكلّ ذلك تحكّمات. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: حديث سهل رضي الله عنه يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي قريبًا من الجدار، بحيث لا يكون بين موقفه وبين الجدار غير قدر ما تَمُرّ فيه الشاة.
قال: وفي القرب من السترة أحاديث أُخَرُ:
فمنها: ما أخرجه البخاريّ من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر، كان إذا دخل الكعبة، مَشَى قِبَلَ وجهه حين يدخل، وجَعَل الباب قِبَل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبَل وجهه قريبًا من ثلاثة أذرع صلى، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى فيه".
ومنها: ما ورد في الأمر بالدنوّ من السترة، من غير تقدير بشيء، فروى نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حَثْمة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم إلى سترة، فَلْيَدْن منها، لا يقطعُ الشيطان عليه صلاته"
(2)
، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن حبّان في "صحيحه".
وذكر أبو داود في إسناده اختلافًا، وكذلك البخاريّ في "تاريخه"، وقد روي أيضًا عن نافع بن جبير مرسلًا، وفيه:"فإن الشيطان يمرّ بينه وبينها"،
(1)
"المفهم" 2/ 107.
(2)
حديث صحيح.
وقال العُقيليّ: حديث سهل هذا ثابت، وقال الميمونيّ: قلت لأبي عبد اللَّه -يعني أحمد-: كيف إسناد حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدكم فليدن من سُترته"؟ قال: صالح، ليس بإسناده بأس.
وروى ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدكم، فليُصلّ إلى سُترة، وليدن منها"، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه
(1)
.
وروي هذا المتن من وجوه أُخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ورَوى إسحاق بن سُويد، عن عمر أنه رأى رجلًا يصلي متباعدًا عن القبلة، فقال: تقدّم لا يُفسد الشيطان عليك صلاتك، أما إني لم أقل إلا ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. أخرجه الإسماعيليّ وغيره، وهو منقطع؛ فإن إسحاق لم يسمع من عمر رضي الله عنه، وقد رُوي مرسلًا، وروي عنه عمن حدّثه عن عمر.
ورَوَى مصعب بن ثابت، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ارْهَقُوا القبلة"، أخرجه البزّار، والأثرم، وقال الدارقطنيّ فيما نقله عنه الْبَرْقانيّ: لم يروه إلا مصعب بن ثابت، وليس بالقويّ.
ومعنى إرهاق القبلة: مضايقتها، ومزاحمتها، والدنوّ منها، فسّره به ابن قتيبة، وتوقّف أحمد في تفسيره.
وأخرجه الْجُوزَجانيّ، ولفظه:"إذا صلّى أحدكم، فليُصلّ إلى سترة، وليقرُب منها".
وفي الباب أحاديث أُخر مسندة ومرسلة.
وروى وكيع بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يُصلي وبينه وبين القبلة مقدار ممرّ رجل، وعنه قال: لا يصلينّ أحدكم وبينه وبين القبلة فَجْوة.
وسُئل الحسن: هل كانوا يَرقبون في البعد شيئًا؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن المنذر: كان عبد اللَّه بن مُغَفَّل يجعل بينه وبين سترته ستّة أذرع، وقال عطاء: أقلّ ما يكفيك ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعيّ.
(1)
تقدّم أنه حديث صحيح.
وقال مهنّا: سألت أحمد عن الرجل يصلي كم يكون بينه وبين القبلة؟ قال: يدنو من القبلة ما استطاع، ثم قال: إن ابن عمر قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع.
وقال الأثرم: سئل أبو عبد اللَّه عن مقدار ما بين المصلي وبين السارية؟ فذكر حديث ابن عمر هذا، قيل له: يكون بينه وبين الجدار إذا سجد شبر؟ قال: لا أدري ما شبر؟ قال الأثرم: ورأيته يتطوّع وبينه وبين القبلة شيء كثير، أذرع ثلاثة، أو أكثر.
قال ابن عبد البرّ: ولم يحُدّ مالك في ذلك حدًّا، ثم أشار ابن عبد البرّ إلى أن الآخذين بحديث سهل بن سعد الذي أخرجه البخاري في قدر ممرّ الشاة أولى، وقال في موضع آخر: حديث ابن عمر أصحّ إسنادًا من حديث سهل، وكلاهما حسنٌ.
قال ابن رجب: ولو جُمع بين حديث سهل وحديث ابن عمر، فأُخذ بحديث ابن عمر في النافلة، وحديث سهل في الفريضة، لكان له وجهٌ، فإن صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكعبة كانت تطوّعًا، وسهل إنما أخبر عن مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسجده الذي كان يصلي فيه بالناس الفرائض. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أن العمل بما دلّ عليه حديث سهل، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم هو الحقّ، فكلّ ما مرَّ من الأقوال، والتقديرات، كتقدير بعضهم بستة أذرع، أو غير ذلك مخالف للسنة.
ولا تعارض بين الحديثين، فكلاهما ثابت من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن لنا بفعله مقدار القرب من السترة الذي أمر به بقوله، فكان مقداره ممرّ الشاة، وجوّز الزيادة عليه، إلى ثلاثة أذرع، فالأولى للمصلي القرب منها بمقدار ممرّ الشاة، وإن تباعد بمقدار ثلاثة أذرع فلا بأس.
والحاصل أن أرجح المذاهب -كما قدّمناه- وجوب الصلاة إلى السترة مطلقًا، ووجوب الدنوّ منها، بهذا المقدار، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما، وأمره
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 25 - 29.
للوجوب عند جمهور الأصوليين، وقد بيّن مقدار الدنوّ بفعله، فاتّفق فعله صلى الله عليه وسلم وقوله في ذلك، وللَّه عز وجل الحمد والمنّة على ما بيّن لنا من السنّة.
ومع اتّضاح السنة، وتبيّن الحقّ فما أكثر تساهل الناس في هذين الأمرين، فلا ترى في المصلّين من يعتني باتّخاذ السترة إلا ما شاء ربك، وإذا نصحتهم بذلك يتعلّلون، ويقولون: هذه سنة، وليست بواجبة، مع أن أدلة الوجوب واضحة، ولكن حملهم التقليد الأعمى على مخالف السنّة، وترك المبالاة بها.
ومن العجيب الغريب أن كثيرًا منهم يأتي إلى العمود، فيستند إليه، ويصلي، وهو وراءه، ولو فرضنا أنه صلى إليه لما اقترب منه.
وآخرون يدخلون المسجد، فيصلّون في آخره لاصقين ظهورهم بجدار آخر المسجد، والناس يمرّون بين أيديهم، ولا يبالي هؤلاء، ولا المارّون، وهذا كله من غربة السنّة، واستيلاء الجهل، أو الهوى، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1140]
(509) - (حَدَّثَنَا
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، وَهُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ، أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ مَكَانِ الْمُصْحَفِ، يُسَبِّحُ فِيهِ، وَذَكَرَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَحَرَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ
(2)
، وَكَانَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التميميّ، ويقال: التيميّ، ويقال: مولى باهلة، أبو سعيد البصريّ، ثقة [9].
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "ذاك المكان".
رَوَى عن حميد الطويل، وسليمان التيميّ، ويزيد بن أبي عُبيد، وهشام بن عروة، وعبيد اللَّه بن عمر، وابن أبي ذئب، ومالك، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وعليّ، ومُعَلَّى بن أسد، وأبو بكر بن أبي شيبة، والفلاس، وبندار، وأبو موسى، وهارون الحمال، وهارون بن سليمان، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، إن شاء اللَّه تعالى، وتُوُفّي بالبصرة في جمادى الآخرة سنة (202)، وقال غيره: في رجب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وابن شاهين فيهم، وقال: ثقةٌ ثقةٌ، لا بأس به.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (509) و (559) و (1092) و (1679) و (1802) و (1860) و (2144).
2 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ، أبو خالد الحجازيّ مولى سلمة بن الأكوع، ثقةٌ [4].
رَوَى عن مولاه، وعُمير مولى آبي اللَّحْم، وهشام بن عروة، وهو أكبر ورَوَى عنه بُكير بن الأشج، ومات قبله، ويحيى القطان، وحاتم بن إسماعيل، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزوميّ، ويحيى بن راشد، وحماد بن مَسْعَدة، وصفوان بن عيسى، ومكي بن إبراهيم، وأبو عاصم، وغيرهم.
قال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: حجازيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: تُوُفّي بالمدينة بعد خروج محمد بن عبد اللَّه بسنتين أو ثلاث، وكان ثقةً كثير الحديث، وقال ابن قانع: مات سنة سبع، وقال الواقديّ: مات قبل خروج محمد بن عبد اللَّه، وقال أبو بكر بن منجويه: مات سنة ست، أو سبع وأربعين ومائة، وهو قول ابن حبان بنصّه.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
3 -
(سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شهد بيعة الرضوان، ومات رضي الله عنه سنة (64)(ع) 43/ 288.
والباقيان تقدّما قريبًا، وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (65) من رباعيّات الكتاب، وقد وقع للإمام البخاريّ ثلاثيًّا، فقد رواه عن مكيّ بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة رضي الله عنه، والسند الآتي للمصنف، رواه عن محمد بن المثنّى، عن مكيّ، به.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن شيخه محمد بن المثنّى، أحد مشايخ الستة بلا واسطة، كما أشرنا إليه في السند الماضي.
4 -
(ومنها): أن قوله: "يعني ابن أبي عبيد"، وقوله:"وهو ابن الأكوع"، قد تقدّم بيانه غير مرّة، وباللَّه تعالى التوفيق.
شرح الحديث:
(عَنْ سَلَمَةَ، وَهُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ) رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى) أي يقصد، يقال: تحرّيتُ الشيءَ: إذا قصدته، وتحرّيتُ في الأمر: إذا طلبت أحرى الأمرين، وهو أولاهما، قاله الفيّوميّ
(1)
.
والمعنى: أنه يجتهد، ويختار ذلك المكان للصلاة فيه.
(مَوْضِعَ مَكَانِ الْمُصْحَفِ) أي موضع حصول المصحف، فـ "المكان" مصدر ميّميّ لـ "كان" التامّة، بمعنى حصل، ووُجد، فلا يلزم من إضافة "موضع" إليه إضافة الشيء إلى نفسه، فتنبّه.
و"الْمُصْحَف" مثلّث الميم، وأصله الضمّ، مأخوذ من أُصْحِف مغيّر الصيغة، أي جُمِعت فيه الصُّحُف، وهي جمع صَحِيفة، بفتح، فكسر: وهي الكتاب، وتجمع على صحائف
(2)
.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 133.
(2)
راجع: "القاموس" 3/ 161، و"المختار" ص 174.
(يُسَبِّحُ فِيهِ) بالبناء للفاعل، قال النوويّ رحمه الله: المراد بالتسبيح صلاة النافلة. انتهى. (وَذَكَرَ) أي سلمة رضي الله عنه لَمّا ساله يزيد بن أبي عبيد، ففي الرواية التالية: "قال: كان سلمة يتحزَى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت له: يا أبا مُسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها.
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَحَرَّى) أي يقصد (ذَلِكَ الْمَكَانَ) وفي نسخة: "ذاك المكان"، يعني الذي فيه المصحف، قال الحافظ رحمه الله: هذا دالّ على أنه كان للمصحف موضع خاصّ به، قال: ووقع عند مسلم بلفظ: "يُصلي وراء الصندوق"
(1)
، وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه.
(وَكَانَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ) قال النوويّ رحمه الله: المراد بالقبلة الجدار، وإنما أُخِّر المنبر عن الجدار؛ لئلا ينقطع نظر أهل الصف الأول، بعضِهِم عن بعض. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1140 و 1141](509)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(502)، و (ابن ماجه) فيها (1430)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 62 و 68)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1763 و 2152)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6299)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 271)، و (أبو عوانة)(1435 و 1436)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1123 و 1124)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان المسافة التي تكون بين المصلي وبين سترته، وهو مقدار ممرّ الشاة.
(1)
عزاه في "الفتح" 1/ 688 بهذا اللفظ إلى مسلم، ولم أجده فيه، إلا أن يكون مصحّفًا من الأسطوانة الآتية في الرواية التالية، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من التسابق في اقتفاء آثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يرونه يصلي في موضع إلا صلّوا فيه، ولا ينزل في مكان إلا نزلوا فيه؛ عملًا بقوله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] الآية.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي هذا أنه لا بأس بإدامة الصلاة في موضع واحد، إذا كان فيه فضلٌ، وأما النهي عن إيطان الرجل موضعًا من المسجد يلازمه، فهو فيما لا فضل فيه، ولا حاجة إليه، فأما ما فيه فضل، فقد ذكرناه، وأما من يحتاج إليه لتدرشى عليم، أو للإفتاء، أو سماع الحديث، ونحو ذلك، فلا كراهة فيه، بل هو مستحبٌّ؛ لأنه من تسهيل طُرُق الخير، وقد نقل القاضي رحمه الله خلاف السلف في كراهة الإيطان لغير حاجة، والاتفاق عليه لحاجة، نحو ما ذكرناه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحديث الذي أشار إليه هو عن عبد الرحمن بن شِبْل أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "نَهَى عن ثلاث: عن نَقْرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يُوَطِّن الرجل المقام للصلاة، كما يوطن البعير"، وهو حديث حسنٌ، أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1141]
(. . .) - (حَدَّثَنَاه
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
(2)
مَكِّيٌّ، قَالَ: يَزِيدُ أَخْبَرَنَا، قَالَ: كَانَ سَلَمَةُ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ
(3)
الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمِ، أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا).
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
وفي نسخة: "عند هذه الأسطوانة".
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مَكِّيّ) بن إبراهيم بن بشير بن فَرْقَد، وقيل: ابن فرقد بن بشير التميميّ الحنظليّ، أبو السَّكَن البلخيّ الحافظ، ثقةٌ ثبتٌ [9].
رَوَى عن الجعيد بن عبد الرحمن، وعبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند، وأيمن بن نابل، ويزيد بن أبي عبيد، وبهز بن حكيم، وأبي حنيفة، ومالك، وابن جريج، وهشام بن حسان، وهشام الدستوائيّ، وجعفر الصادق، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاريّ، وروى له هو والباقون بواسطة محمد بن عمرو البلخيّ، وأبي موسى محمد بن المثنى، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأحمد بن أبي سُرَيج الرازيّ، وعبد اللَّه بن مخلد التميميّ، وعبيد اللَّه بن عمر القواريريّ، وهارون الحمال، وبندار، ومجاهد بن موسى، ومحمد بن إسماعيل ابن عُلَيّة، وإبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ، ومعمر بن محمد بن معمر الْبَلْخيّ، وهو آخر مَن رَوَى عنه، وآخرون.
قال الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملي: حدّثنا إسحاق بن منصور المروزيّ، قال: سألت أحمد بن حنبل، عن مكي بن إبراهيم؟ فقال: ثقةٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالحٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ مأمونٌ، وقال عليّ بن الحسين بن حبان: وجدت في كتاب أبي، بخطه: وسألته -يعني ابن معين- عن حديث مكيّ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر في الصلاة على النجاشيّ، فقال: هذا باطلٌ، وقال الحاكم: حدّثنا بكر بن محمد الصيرفيّ، سمعت عبد الصمد بن الفضل يقول: سألنا مكيّ بن إبراهيم عن هذا الحديث، فحدّثنا به من كتابه: عن مالك، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، وقال: هكذا في كتابي، وقال الخطيب: يقال: إن مكيّ بن إبراهيم رواه بالريّ، فلما جاء بالحجّ سئل عنه، فأبى أن يحدِّث به، وقال عبد الصمد بن الفضل: سمعته يقول: حججت ستين حجة، وتزوجت ستين امرأة، وكتبت عن سبعة عشر نفسًا من التابعين، ولو علمت أن الناس يحتاجون إليّ لما كتبت دون التابعين عن أحد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن عبد الوهاب الفراء: حدّثنا مكيّ بن إبراهيم الرجل الصالح بنيسابور،
وقال محمد بن عليّ بن جعفر البلخيّ: سألته عن مولده، فقال: سنة ست وعشرين ومائة، وقال البخاريّ: مات سنة أربع أو خمس عشرة، وقال ابن سعد: مات سنة خمس عشرة ومائتين، وفيها أَرَّخَه غير واحد، زاد ابن سعد: في النصف من شعبان، وقد قارب مائة سنة، وقال: قَدِم بغداد يريد الحجّ، فحجّ، ورجع، وحدّث في ذهابه ورجوعه، وكان ثقةً ثبتًا في الحديث، وقال مسلمة في "الصلة": ثقةٌ، وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه، وأخطأ في حديثه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، في الصلاة على النجاشيّ، والصواب: عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، يعني كما تقدم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (509)، و (1835) حديث:"من أطاعني فقد أطاع اللَّه. . . "، وأما البخاريّ، فقد روى عنه (33) حديثًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ) وفي نسخة: "عند هذه الأسطوانة"، بضمّ الهمزة والطاء: الساريةُ، والنون عند الخليل أصلٌ، فوزنها أُفْعُوالةٌ، وعند بعضهم زائدةٌ، والواو أصلٌ، فوزنها أُفْعُلانةٌ، والجمع أَسَاطين، وأُسْطُوانات، على لفظ الواحد، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "اللسان": الأُسْطُوان: الرجل الطويل الرجلين والظهر، وجَمَلٌ أُسْطُوان: طويل العنق مرتفع، ومنه الأُسْطوانة، قال رؤبة:
جَرَّبْنَ مِنِّي أُسْطَوَانًا أَعْنَقَا
…
يَعْدِلُ هَدْلَاءَ بِشِدْقٍ أَشْدَقَا
والأَعْنَقُ: الطويل العُنُق، والأُسْطُوانة: السارية معروفةٌ، وهو من ذلك، وأُسْطُوانُ البيت معروف، وأَسَاطِينُ مُسَطَّنة، ونونُ الأُسطُوانة من أصل بناء الكلمة، وهو على تقدير أُفْعُوالة، وبيان ذلك أنهم يقولون: أَسَاطينُ مُسَطَّنَةٌ.
وقال الفراء: النون في الأُسطوانة أصليةٌ، قال: ولا نظير لهذه الكلمة في كلامهم، وقال الجوهريّ: النون أصلية، وهو أُفْعُوالةٌ، مثلُ أُقْحُوَانةٍ
(2)
، وكان
(1)
"المصباح المنير" 1/ 276.
(2)
"الأُقْحُوانة" بضمّ الهمزة والحاء: من نبات الربيع، له نَوْرٌ أبيض، لا رائحة له. انتهى. "المصباح" 2/ 491.
الأخفش يقول: هو فُعْلُوانَةٌ، قال: وهذا يوجب أن تكون الواو زائدة، وإلى جنبها زائدتان: الألف والنون، قال: وهذا لا يكاد يكون، قال: وقال قوم: هو أُفْعُلانةٌ، ولو كان كذلك لَمَا جُمِع على أساطين؛ لأنه لا يكون في الكلام أَفَاعِينُ.
وقال ابن بَرّيٍّ عند قول الجوهريّ: إن أُسطوانة أُفعُوالة مثل أُقحُوانة، قال: وزنها أُفعلانة، وليست أُفعوالة، كما ذَكَرَ، يَدُلُّك على زيادة النون قولهم في الجمع: أَقَاحِيُّ وأَقَاحٍ، وقولهم في التصغير: أُقَيحِيَةٌ.
قال: وأما أُسطوانة فالصحيح في وزنها فُعْلُوانة؛ لقولهم في التكسير: أَسَاطين، كسَرَاحِين، وفي التصغير: أُسَيْطِينة، كسُرَيحين، قال: ولا يجوز أن يكون وزنها أُفْعُوالة؛ لقلة هذا الوزن، وعدم نظيره.
فأما مُسَطَّنَةٌ ومُسَطَّنٌ، فإنما هو بمنزلة تَشَيْطَن، فهو مُتَشيطِنٌ، فيمن زَعَم أنه من شاط يَشِيط؛ لأن العرب قد تَشْتَقّ من الكلمة، وتُبْقِي زوائده، كقولهم: تَمَسْكَنَ، وتَمَدْرَعَ، قال: وما أنكره بَعْدُ من زيادة الألف والنون بعد الواو المزيدة في قوله: وهذا لا يكاد يكون، فغير منكر، بدليل قولهم: عُنْظُوان
(1)
، وعُنْفُوان
(2)
، ووزنهما فُعْلُوان بإجماع، فعلى هذا يجوز أن يكون أُسْطُوانة، كعُنظُوانة، قال: ونظيره من الياء فِعْلِيانُ، نحو صِلِيَّان، وبِلِيّان، وعِنْظِيان، قال: فهذه قد اجتمع فيها زيادة الألف والنون وزيادة الياء قبلها، ولم ينكر ذلك أحد، ويقال للرجل الطويل الرجلين، والدابة الطويل القوائم: مُسَطَّنٌ، وقوائمه: أساطينهُ. انتهى
(3)
.
وقوله: (يَا أَبَا مُسْلِمٍ) كنية سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
وقوله: (أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ) وفي رواية ابن حبّان: "عن يزيد بن أبي عبيد أنه كان يأتي مع سلمة بن الأكوع إلى سُبْحة الضحى، فيَعْمِدُ إلى الأُسطوانة دون المصحف، فيُصلي قريبًا منها، فأقول له: ألا تصلي
(1)
"العُنْظُوان، كعُنْفُوان: الشِّرِّيرُ الْمُسَمِّعُ، والساخر الْمغْري. اهـ. "القاموس" 2/ 396.
(2)
عُنْفُوانُ الشيء": أوله. اهـ. "المصباح" 2/ 433.
(3)
"لسان العرب" 13/ 208 - 209.
ها هنا، وأُشير له إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتحرّى هذا المقام". انتهى
(1)
.
وقوله: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا) أي يقصد الصلاة عند هذه الأُسطُوانة.
[تنبيه]: قال في "الفتح": والأسطوانة المذكورة حقّق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسّطة في الروضة المباركة، وأنها تُعرف بأسطوانة المهاجرين، قال: وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "لو عَرَفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام"، وأنها أسرّتها إلى ابن الزبير، فكان يُكثر الصلاة عندها، قال: ثم وجدت ذلك في "تاريخ المدينة" لابن النجّار، وزاد:"أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها"، وذكره قبله محمد بن الحسن في "أخبار المدينة". انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(52) - (بَابُ بَيَانِ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِذَا لَمْ يَتَّخِذِ الْمُصَلِّي السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1142]
(510) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ"، قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، مِنَ الْكَلْبِ
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 59 - 60.
(2)
"الفتح" 1/ 688.
الْأَحْمَرِ، مِنَ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ:"الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم المذكور في السند التالي، و"عُلَيَّة" أمه، الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [8](ت 193) وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار الْعَبْدي، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
5 -
(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) الْعَدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة فقيه [3](ع) تقدم في "الحيض" 21/ 791.
6 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ) الْغِفاريّ البصريّ، ثقة [3].
رَوَى عن عَمّه أبي ذرّ، وعمر، وعثمان، والحكم ورافع ابني عمرو، وحذيفة، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم.
ورَوَى عنه حميد بن هلال، وأبو العالية البرّاء، وأبو عِمران الْجَوْنيّ، وسَوَادة بن عاصم، ومحمد بن واسع، وأبو عبد اللَّه الْحَربيّ، وأبو نَعَامة السَّعْديّ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: يُكْتب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: يُكْنَى أبا النضر، وكان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، ذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين، ونقل الذهبيّ أن بعضهم قال: ليس بحجة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا جرح مجمل معارض لتوثيق هؤلاء الأئمة له، فلا ينبغي أن يُلتفت إليه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (20) حديثًا.
7 -
(أَبُو ذَرٍّ) الْغِفَاريّ الصحابيّ الشهير، واسمه جُندب بن جُنَادة على الأصحّ، تقدّم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من إسماعيل، وأبو ذرّ رضي الله عنه مدنيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين البصريين روى بعضهم عن بعض: يونس، عن حُميد، عن عبد اللَّه بن الصامت، ورواية الأخيرين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة، وفيه رواية الراوي، عن عمّه، فعبد اللَّه ابن أخي أبي ذرْ رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ) المراد بالقيام هنا الشروع في الصلاة، لا خصوص القيام الذي هو خلاف القعود، فيشمل جميع حالات الصلاة (يُصَلِّي) جملة فعليّة في محلّ نصب على الحال (فَإِنَّهُ) يَحْتمل أن يكون ضمير "أحدكم"، ويَحْتمل أن يكون ضمير الشأن، أي فإن الأمر والشأن (يَسْتُرُهُ) أي يحجبه، ويمنعه عما يقطع صلاته (إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ) الظرف خبر "كان" مقدّمًا على اسمها، وهو "مثلُ آخرة الرحل"، و"آخرةُ الرحل" بالمدّ: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير، وهي خلاف قادمته، وقد تقدّم أن فيها ثماني لغات، وهذه أفصحها في شرح حديث طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه[48/ 1116](499).
و"الرحل" بفتح، فسكون: مَرْكب للبعير، أو الناقة، جمعه: أَرْحُلٌ، ورِحَالٌ.
(فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ) مرجع الضمير كسابقه (يَقْطَعُ صَلَاتَهُ) أي يُبطلها، أو يُقلّل ثوابها على خلاف بين العلماء، سنحقّقه قريبًا - إن شاء اللَّه تعالى. (الْحِمَارُ) بالرفع فاعل مؤخّر، لـ "يقطع"، و"صلاته" مفعوله مقدّمًا (وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ") المعنى: أن مرور هذه الأشياء بين يدي المصلّي يقطع صلاته، إذا لم يكن أمامه سترة مثلُ آخرة الرحل، قال عبد اللَّه بن الصامت (قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ) "ما" استفهاميّةٌ مبتدأٌ، و"بالُ" خبره، و"البال": الحال، والشأن، أي ما شأن الكلب الأسود يقطع الصلاةَ؟ (مِنَ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ) متعلّق بحال مقدّر من "الأسود" على حذف مضاف، أي حال كونه كائنًا من دون الكلب الأحمر، وقوله:(مِنَ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟) بدل إضراب من الجارّ والمجرور قبله، ويَحْتَمِلُ أن يكون معطوفًا عليه بعاطف مقدّر، أي ومن الكلب الأصفر.
[تنبيه]: ذكر ابن هشام الأنصاريّ في "مغنيه" أنه حَكَى أبو زيد: أكلتُ خبزًا، لحمًا، تمرًا، فقيل: على حذف الواو، وقيل: بدل إضراب، وحَكَى أبو الحسن: أعطه درهمًا، درهمين، ثلاثةً، وخُرّج على إضمار "أو"، ويَحْتَمل البدل المذكور. انتهى كلام ابن هشام رحمه الله
(1)
.
(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (يَا ابْنَ أَخِي) تقدّم أنه ابن أخيه نسبًا (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَني) أي عن مخالفة حكم الكلب الأسود لحكم غيره من الكلاب، حيث يقطع الصلاة بمروره بين يدي المصلّي دونها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ") حمله بعضهم على ظاهره، فقال: إن الشيطان يتصوّر بصورة الكلاب السُّود، وقيل: سُمّي شيطانًا؛ لأنه أشدّ ضررًا من غيره، وبهذا عُلمت الحكمة في كون الكلب يقطع الصلاة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 2/ 170.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1142 و 1143](510)، و (أبو داود) في "الصلاة"(702)، و (الترمذيّ) فيها (338)، و (النسائيّ) فيها (2/ 63 - 64)، و (ابن ماجه) فيها (952 و 3210)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2348)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(453)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 149 و 155 - 156 و 160 - 161)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 329)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(830)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2383 و 2384 و 2385)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1632 و 1635 و 1636) و"الصغير"(195 و 505)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1398 و 1399 و 1400 و 1401 و 1402)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1125 و 1126 و 1127 و 1128 و 1129 و 1130)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 458) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 274)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة):
1 -
(منها): بيان أن الأشياء التي تقطع الصلاة عند عدم السترة، وهي المرأة، والحمار، والكلب الأسود، وسيأتي تحقيق اختلاف العلماء في ذلك في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): تأكيد الأمر باتّخاذ السترة؛ محافظةً على سلامة الصلاة من القطع.
3 -
(ومنها): الحثّ على ابتعاد المصلي عما يُخلّ بالخشوع في حال الصلاة.
4 -
(ومنها): التنفير عن الكلب الأسود؛ لكونه شيطانًا، ولذلك لمّا نُسخ قتل الكلاب لم يُنسخ قتلهُ، فقد أخرج الترمذيّ عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأُمَم لأمرت بقتلها كلِّها، فاقتلوا منها كلَّ أسود بهيم"
(1)
.
قال الترمذيّ رحمه الله: حديث حسن صحيح، ويُرْوَى في بعض الحديث أن
(1)
حديث صحيح كما قال الترمذيّ، أخرجه برقم (1406).
الكلب الأسود البهيم شيطان، والكلب الأسود البهيم الذي لا يكون فيه شيء من البياض، وقد كَرِه بعض أهل العلم صيدَ الكلب الأسود البهيم. انتهى.
5 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله: لَمّا كان المصلي مشتغلًا بمناجاة اللَّه تعالى، وهو في غاية القرب منه، والخلوة به أُمِر بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصّة، والقرب الخاصّ، ولذلك شُرِعت السترة في الصلاة؛ خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجةً في هذه الحال، فيقطع بذلك موادّ الأُنس والقرب، فإن الشيطان رجيم مطرود مُبعَدٌ عن الحضرة الإلهيّة، فإذا تخلّل في محلّ القرب الخاصّ للمصلّي أوجب تخلّله بُعدًا وَقطعًا لموادّ الرحمة والقرب والأُنس.
فلهذا المعنى -واللَّه أعلم- خُصّت هذه الثلاثة بالاحتراز منها، وهي المرأة؛ فإن النساء حبائل الشيطان، وإذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان، وإنما تَوَصَّل الشيطان إلى خروج آدم عليه السلام من دار القرار بالنساء.
والكلب الأسود شيطان، كما نصّ عليه في الحديث، وكذلك الحمار، ولهذا يُستعاذ باللَّه عند سماع صوته؛ لأنه يرى الشيطان، فلهذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المصلّي بالدنوّ من السترة؛ خشيةَ أن يَقطَع الشيطان عليه صلاته. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): وردت أحاديث كثيرة بمعنى حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا:
(فمنها): ما أخرجه المصنّف، وأحمد، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب، ويَقِي ذلك مثلُ مؤخرة الرحل".
(ومنها): ما أخرجه أحمد، وابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار".
(ومنها): ما أخرجه البزّار بإسناد رجاله ثقات -كما قال العراقيّ- عن أنس رضي الله عنه: "يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة".
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 135.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه:"قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب"، وفي رواية ابن ماجه:"والكلب الأسود"، قال أبو داود: رفعه شعبة، ووقفه سعيد -يعني ابن أبي عروبة- وهشام الدستوائي، وهَمَّام بن يحيى على ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا قال: أحسبه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم إلى غير سترة، فإنه يقطع صلاته الكلب، والحمار، والخنزير، واليهوديّ، والمجوسيّ، والمرأة، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قَذْفَة بحجر".
وصرّح أبو داود بأن زيادة الخنزير، والمجوسيّ، وعلى قَذْفة بحجر وَهَمٌ وَهِمَ فيه شيخه محمد بن إسماعيل بن سَمِينة، لتفرّده به.
لكن دعوى الوهم فيه نظر؛ لأنه له متابعًا كما بيّنته في "شرح النسائي"
(1)
.
(ومنها): ما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع صلاة المسلم شيءٌ، إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة"، فقالت عائشة: يا رسول اللَّه لقد قُرِنّا بدواب سواء، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم مرور هذه الأشياء بين يدي المصليّ:
ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى بطلان الصلاة بمرور المرأة، والحمار، والكلب الأسود.
وممن قال بهذا: أبو هريرة، وأنس، وابن عبّاس، في رواية عنه، وحُكي أيضًا عن أبي ذرّ، وابن عمر رضي الله عنهم، وجاء عن ابن عمر أنه قال به في الكلب، وقال به الحكم بن عمرو الغفاريّ في الحمار.
وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة: الحسن البصريّ، وأبو الأحوص، صاحب ابن مسعود، ومن الأئمة: أحمد بن حنبل فيما حكاه عنه
(1)
راجع: "الذخيرة" 9/ 190 - 191.
ابن حزم، وحَكَى الترمذيّ عنه أنه يُخصّص بالكلب الأسود، ويتوقّف في الحمار والمرأة، قال ابن دقيق العيد: وهو أجود مما دلّ عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار.
وذهب أهل الظاهر أيضًا إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة إذا كان الكلب والحمار بين يديه، سواء كان الكلب والحمار مارًّا، أم غير مارّ، وصغيرًا، أم كبيرًا، حيًّا، أم ميتًا، وكون المرأة بين يدي الرجل مارّةً، أم غير مارّة، صغيرة، أم كبيرة، إلا أن تكون مضطجعةً معترضةً.
وذهب إلى أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود، والمرأة الحائض ابنُ عبّاس، وعطاء بن أبي رَبَاح، واستدلّا بحديث أبي داود، وابن ماجه المتقدّم.
وذهب مالك، والشافعيّ، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء.
وقال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في هذا، فقال بعضهم: يقطع هؤلاء الصلاة.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء، ووجه قوله أن الكلب لم يجيء في الترخيص فيه شيءٌ، يعارض هذا الحديث، وأما المرأة ففيها حديث عائشة رضي الله عنها المذكور بعد هذا، وفي الحمار حديث ابن عباس السابق.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وجمهور العلماء، من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء، ولا من غيرهم.
وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة؛ لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، ومنهم مَن يَدَّعِي نسخه بالحديث الآخر:"لا يقطع صلاة المرء شيءٌ، وادرءوا ما استطعتم"، وهذا غير مرضيّ؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وتأويلها، وعَلِمْنا التاريخ، وليس هنا تاريخ، ولا يتعذر الجمع والتأويل، بل يتأول على ما ذكرناه، مع أن حديث:"لا يقطع صلاة المرء شيء"، ضعيف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شرح النووي" 4/ 227.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح المذاهب وأقواها هو مذهب من قال: إنه يقطع الصلاة ويُبطلها مرور الكلب الأسود، والمرأة الحائض، والحمار؛ لظهور حجته، مع ضعف معارضها، وقد استوفيت -بحمد اللَّه تعالى- هذا البحث في "شرح النسائيّ"، فارجع إليه تزدد علمًا جمًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1143]
(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا
(1)
وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَ بْنَ أَبِي الذَّيَّالِ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ، حَدَّثَنَا زَيادٌ الْبَكَّائِيُّ
(2)
، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ، كَنَحْوِ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:
1 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) الأزديّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
2 -
(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد اللَّه الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، في حديثه عن قتادة ضعفٌ، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
3 -
(سَلْمَ
(3)
بْنَ أَبِي الذَّيَّالِ)
(4)
عَجْلان البصريّ، ثقةٌ قليل الحديث [7].
رَوَى عن الحسن البصريّ، وحميد بن هلال العَدَويّ، وابن سيرين، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعن بعض أصحابه عنه.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "زياد البكّاءُ".
(3)
بفتح السين المهملة، وسكون اللام.
(4)
بفتح الذال المعجمة، وتشديد الياء.
ورَوَى عنه معتمر بن سليمان، وقال: كان صاحب حديث، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وإسماعيل بن مسلم قاضي قيس.
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ ثقةٌ صالح الحديث، ما أصلح حديثه، ما سمعت أحدًا يحدث عنه غير معتمر، وقال عباس الدُّوريّ، عن أحمد بن حنبل: أحاديثه متقاربةٌ، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، قلت: رَوَى عنه معتمر؟ قال: نعم، وقال ابن المدينيّ: ما رأيت أحدًا يعرفه غير إسماعيل ابن عليّة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
ذَكَر الطبرانيّ أنه فُقِد، فلم يُرَ له أثرٌ وقد ذكرت كلامه في ذلك في ترجمة معاوية بن عبد الكريم الضال. قال ابن حبان في الثقات: كان متقنًا، وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": ليس به بأس، وقال الآجريّ، عن أبي داود: رَوَى عنه معتمر، وروى عنه إسماعيل قاضي قيس، قال الآجريّ: وقيس مدينة في البطائح، وقال أبو بكر البزار في "مسنده": لم يُسنِد إلا خمسة أحاديث، أو ستة، وقال ابن خَلْفُون في "ثقاته": اسم أبي الذّيَّال عَجْلان.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنيُّ) أبو يعقوب البصريّ، ثقةٌ [10].
رَوَى عن حماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعثمان بن عبد الرحمن الْجُمَحيّ، وشيبان بن حبيب، وزيد البكائيّ، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والترمذيّ، وابن ماجه، وابن أبي عاصم، والعمريّ، وزكرياء الساجيّ، وعبدان الأهوازيّ، وإسحاق بن إبراهيم الْمَنْجَنِيقيّ، ومحمد بن جرير الطبريّ، والقاسم بن زكريا المطَرِّزُ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو بكر البزار: ثقةٌ، وقال مسلمة بن قاسم: بصريّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال ابن أبي عاصم: مات سنة خمس وأربعين ومائتين.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (510) و (1283) و (1774) و (2359) و (2875).
[تنبيه]: قوله: "الْمَعْنيّ" -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، ثم نون-: نسبة إلى مَعْن بن مالك بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس بن عدنان بن عبد اللَّه بن زاهر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد اللَّه بن مالك بن نضر بن الأزد، بطن من الأزد، قاله في "اللباب"
(1)
.
5 -
(زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ) هو: زياد بن عبد اللَّه بن الطُّفَيل العامريّ البكائيّ -بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف- أبو محمد، ويقال: أبو يزيد الكوفيّ، صدوقٌ ثبتٌ في المغازي [8].
رَوَى عن عبد الملك بن عُمير، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، والأعمش، ومنصور، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن أبي زياد، وجماعة.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وأحمد بن عبدة الضّبّيّ، وأبو غَسّان النَّهْديّ، وسهل بن عثمان، ويوسف بن حماد، وعمرو بن زرارة، وعبد الملك بن هشام السَّدُوسي النحويّ صاحب السيرة، وعبد اللَّه بن سعيد بن أبان الأمويّ، وهو من أقرانه، وغيرهم.
قال وكيع: وهو أشرف من أن يَكْذِب، وقال أحمد: ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق، وقال أيضًا: كان ابن إدريس حسن الرأي فيه، وقال مرةً: كان صدوقًا، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس بشيء، وكان عندي في المغازي لا بأس به، وقال أبو داود، عن ابن معين: زياد البكائي في ابن إسحاق ثقةٌ، كانه يُضَعِّفه في غيره، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: لا بأس به في المغازي، وأما في غيره فلا، وسألته عن من أكتب المغازي، ممن يروي عن يونس بن بكير أو غيره؟ قال: اكتب عن أصحاب البكائيّ، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن معين: كان ضعيفًا، وقال عبد اللَّه بن عليّ ابن المدينيّ: سألت أبي عنه؟ فضعَّفه، وقال في موضع آخر: كتبت عنه شيئًا كثيرًا، وتركته، وقال أبو زرعة: صدوقٌ، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال في موضع آخر: ليس بالقويّ، وقال يحيى بن آدم، عن ابن إدريس: ما أحدٌ أثبت في ابن إسحاق
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 348.
منه؛ لأنه أملى عليه إملاءً مرتين، وقال صالح بن محمد: ليس كتاب المغازي عند أحد أصحّ منه عند زياد، وزياد في نفسه ضعيف، ولكن هو من أثبت الناس في هذا الكتاب، وذلك أنه باع داره، وخرج يدور مع ابن إسحاق، حتى سَمِع منه الكتاب، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان صدوقًا، وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ، كثير الوهم، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وكان ابن معين سيئ الرأي فيه.
وقال ابن عديّ: ولزياد أحاديث صالحةٌ، وقد رَوَى عنه الثقات من الناس، وما أرى برواياته بأسًا.
قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وثمانين ومائة، وكان ضعيفًا، وقد حدثوا عنه، وكذا أَرَّخه البخاريّ، وغيره، وأرخه ابن قانع سنة اثنتين وثمانين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (510) و (1080) و (1283)، وروى له البخاريّ حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره، حديث أنس:"غاب عمي أنس بن النضر عن بدر".
[تنبيه]: قال في "تهذيب التهذيب": وقع في "جامع الترمذي" في "النكاح: عن البخاريّ عن محمد بن عقبة، عن وكيع، قال: زياد مع شَرَفه يكذب في الحديث، والذي في "تاريخ البخاريّ" عن ابن عقبة، عن وكيع: زياد أشرف من أن يَكْذِب في الحديث، وكذا ساقه الحاكم أبو أحمد في "الكنى" بإسناده إلى وكيع، وهو الصواب، ولعله سقط من رواية الترمذي "لا"، وكان فيه: "مع شرفه لا يكذب في الحديث"، فتتفق مع الروايات، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: البكّائي -بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف-: نسبة إلى البكّاء، وهو: ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل: هو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهم من بني عامر بن صعصة، قاله في "اللباب"
(2)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 649 - 650.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 117.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا هو الصحيح في ضبط البكائيّ بياء النسبة، وأما ما وقع في بعض نسخ "صحيح مسلم" من "البكّاء" بدون ياء النسبة، فغلط؛ لأن ذلك وصف لمن عُرف بكثرة البكاء، وهم جماعة، وليس زياد هذا منهم، وإنما هو إلى جدّ ربيعة بن عامر، وهو الذي يوصف بالبكّاء، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ) هو: عاصم بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4](ت بعد 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (قَالَ (ح)) فاعل "قال" في المواضع الأربعة ضمير المصنّف، وهو مُلْحَق من الراوة عنه.
وقوله: (كُلُّ هَوُلَاءِ) يعني أن الخمسة: سليمان بن المغيرة، وشعبة، وجرير بن حازم، وسلم بن أبي الذّيّال، وعاصمًا الأحول، رووه عن حميد بن هلال، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية سليمان بن المغيرة، فقد ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(20870)
حدّثنا بَهْز، حدّثنا سليمان بن المغيرة، حدّثنا حُميد، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ قال: يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثلُ آخرة الرَّحْل المرأة، والحمار، والكلب الأسود، قال: قلت لأبي ذرّ: ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال:"الكلب الأسود شيطان".
وأما رواية شعبة، فقد ساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(952)
حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يقطع الصلاة إذا لم يكن بين يدي الرجل مثل مؤخرة الرحل المرأة، والحمار، والكلب الأسود"، قال: قلت: ما بال الأسود من الأحمر؟ قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال:"الكلب الأسود شيطان".
وأما رواية جرير بن حازم، وسَلْم بن أبي الذيّال، وعاصم الأحول، فلم
أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1144]
(511) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ
(2)
، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم قبل باب.
2 -
(الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ) العامريّ، مقبول [6](م د س ق) تقدم في "الصلاة" 46/ 1112.
[تنبيه]: هكذا معظم نسخ "صحيح مسلم": "عبيد اللَّه بن عبد اللَّه" مصغّر الاسم الأول، وهو الذي في "تحفة الأشراف"، وأشار في هامش نسخة محمد ذهني إلى أن في بعض النسخ يوجد:"حدّثنا عبد اللَّه بن عبد اللَّه" مكبّرًا، وهذا هو الذي وقع في مستخرجي أبي عوانة، وأبي نعيم، وعبد اللَّه، وعبيد اللَّه أخوان والأول أكبر، وكلاهما يرويان عن عمهما يزيد بن الأصمّ، ويروي عنهما عبد الواحد بن زياد.
ولم يرمز في "التهذيبين" في ترجمة عبد اللَّه المكبّر إلا لمسلم وحده،
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ".
وأما عبيد اللَّه فرمز فيه لمسلم، وأبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، أو خمسة.
ثم رأيت الحافظ المزيّ قال في "تحفة الأشراف"(15/ 165): روى له مسلم حديثًا واحدًا فيما يقطع الصلاة، ثم أورد هذا الحديث بسنده، ونقل كلامه الحافظ في "تهذيب التهذيب"(2/ 366)، ولم يتعقّبه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: يَحْتَمِل أن يكون الحديث مرويًّا عنهما جميعًا، واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد البكّائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرّقّة، ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، ثقة [3](103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
وقوله: ("يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ) بتذكير الفعل، وهو جائز؛ للفصل بالمفعول، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ يُبِيحُ الْفَصْلُ تَرْكَ التَّاءِ فِي
…
نَحْوِ "أَتَى الْقَاضِيَ بِنْتُ الْوَاقِفِ"
وقوله: (وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ") أي يحفظ الصلاة من قطعها سترةٌ تكون مثل مؤخر الرحل، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1144](511)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(950)، و (أحمد) في "مسنده"(7923)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1403)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1127)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(53) - (بَابٌ فِي أَنَّ اعْتِرَاضَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1145]
(512) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) تقدّم قريبًا.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم تقدّم قريبًا.
6 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير تقدّم قريبًا.
7 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، عروة، والمكثرين السبعة عائشة رضي الله عنها.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أي في الليل، ويَحْتَمِل أن تكون للتبعيض، أي بعض الليل (وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ) جملة حاليّة من الفاعل، والرابط الواو، والضمير في "بينه"، قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشيء حائلًا بين شيئين، ومعناه هنا مضطجعة (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ") بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح، وقال الأصمعيّ، وابن الأعرابيّ: بالكسر الميت نفسه، وبالفتح السرير، ورَوَى أبو عُمَر الزاهد عن ثعلب عكس هذا، فقال: بالكسر السرير، وبالفتح الميت نفسه، وهو مأخوذ من جَنَزُت الشيءَ أَجْنِزُهُ، من باب ضرب: إذا سترته، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "القاموس": جَنَزَه يَجْنِزُهُ: ستره وجمعه، والْجِنَازة: الميتُ، ويُفْتَحُ، أو بالعكس: الميتُ، وبالفتح: السرير، أو عكسه، أو بالكسر: السرير مع الميت. انتهى
(2)
.
والمراد أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلّي عليها.
والحديث استدلّت به عائشة رضي الله عنها والجمهور بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل؛ لأنها إذا كانت لا تقطع في حالة كونها معترضةً مضطجعةً، وهذه الحالة أقوى من المرور، ففي المرور بالأَولى.
وفيه أنه ليس فيما ذكرت مرور امرأة بين يدي المصلي، ومجمل حديث:"يقطع الصلاة المرأة إلخ" هو المرور، قال السنديّ رحمه الله: لا دلالة في حديث عائشة رضي الله عنها أنها مرّت بين يديه، وقال ابن بطّال رحمه الله: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض امرأة بين المصلّي وبين قبلته تدلّ على جواز القعود، لا على جواز المرور. انتهى.
لا يقال: إن قولها: "أنسلّ انسلالًا" صريحٌ في المرور، فإن الانسلال هو المرور؛ لأن المرور المتنازع فيه هو أن يمُرّ المارّ بين يدي المصلّي
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 111.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 170.
معترضًا، لا أن يمشي ذاهبًا لجهة القبلة، أو لجهة الرجلين، ولم يتحقّق هنا إلا المضيّ إلى جهة الرجلين كما يدلّ عليه قولها:"فأنسلّ من عند رجليه".
وأما ما قيل: من أن اعتراض المرأة أشدّ من المرور، فإذا لم يقطع الصلاة الاعتراض، لا يقطع المرور أيضًا بالأولى، ففيه أن الظاهر أن حصول التشويش بالمرأة من جهة الحركة والسكون، وعلى هذا فمرورها أشدّ من اعتراضها، واضطجاعها وجلوسها.
وفي رواية النسائيّ في هذا الحديث: "فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم، فأمرّ بين يديه، انسللت انسلالًا"، فالظاهر أن عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه.
وأما إنكارها على من ذكر المرأة مع الكلب والحمار فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا يقطع صلاة المسلم إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة"، فقالت عائشة: يا رسول اللَّه، لقد قُرِنَّا بدوابّ سوء"، أخرجه أحمد
(1)
.
فيحتمل أنها نسيت حديث القطع عند الإنكار، ويمكن أن يكون عندها معنى القطع بمرور المرأة فيما روت هو قطع الخشوع بمرورها.
وأما حديث الاعتراض فذكرته للردّ على من قال بقطع الصلاة بالمرأة بمعنى إبطالها بالكليّة.
وقيل: أنكرت كون الحكم باقيًا هكذا، فلعلّها ترى نسخه.
وقد أخرج البخاريّ عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمّه عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت:"لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوم، فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة، على فراش أهله".
قال في "الفتح": ووجه الدلالة من حديث عائشة رضي الله عنها الذي احتَجّ به ابن شهاب أن حديث: "يقطع الصلاة المرأة. . . إلخ" يَشْمَل ما إذا كانت مارّةً، أو قائمةً، أو قاعدةً، أو مضطجعةً، فلما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى، وهي مضطجعة
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده"(24025).
أمامه، دَلّ ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه.
قال: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخِّر عن حديث أبي ذرّ رضي الله عنه لم يدلّ إلا على نسخ الاضطجاع فقط.
وقد نازع بعضهم في الاستدلال به مع ذلك من أوجه أخرى:
[أحدها]: أن العلة في قطع الصلاة بها ما يحصل من التشويش، وقد قالت: إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح، فانتفى المعلول بانتفاء علته.
[ثانيها]: أن المرأة في حديث أبي ذرّ مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يُحْمَل المطلق على المقيد، ويقال: يتقيد القطع بالأجنبية؛ لخشية الافتتان بها، بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة.
[ثالثها]: أن حديث عائشة واقعة حال يَتَطَرَّق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذرّ، فإنه مسوق مساق التشريع العامّ.
وقد أشار ابن بطال: إلى أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يقدر من ملك أَرَبه على ما لا يقدر عليه غيره.
وقال بعض الحنابلة: يعارض حديث أبي ذرّ وما وافقه أحاديثُ صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يُتْرَك العمل بحديث أبي ذرّ الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله بعض الحنابلة هو الحقّ والصواب، فالعمل بحديث أبي ذرّ رضي الله عنه متعيّنٌ؛ لكونه صحيحًا صريحًا لا يقبل التأويل، وأما الأحاديث المعارضة له، فلا تصحّ، وما صحّ منها كحديث عائشة رضي الله عنها فيقبل التأويل، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
قال: والفرق بين المارّ وبين النائم في القبلة أن المرور حرامٌ، بخلاف الاستقرار نائمًا كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لبثها. انتهى
(1)
.
وقال صاحب "المرعاة": ومن وجوه المناعة أيضًا ما قيل: إنه يُحمل
(1)
"الفتح" 1/ 702.
على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض
(1)
، والحكم بقطع الصلاة إنما هو إذا كانت حائضًا. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 1145 و 1146 و 1147 و 1148 و 1149 و 1150](512) وسيأتي برقم (744)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(383 و 384 و 508 و 511 و 513 و 514 و 515 و 519) و"الجمعة"(997 و 1209) و"الاستئذان"(6276)، و (أبو داود) فيها (711 و 712 و 713 و 714)، و (النسائيّ) فيها (1/ 101 - 102)، و (ابن ماجه) فيها (956)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 117)، و (الشافعيّ) في "السنن المأثورة" برواية الطحاويّ (126)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 86 و 192 و 199 و 205 و 231)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(823 و 824)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2344)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1418 و 1419 و 1420 و 1421 و 1422 و 1423 و 1424 و 1425)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1132 و 1133 و 1134 و 1135 و 1136 و 1137)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 264)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(545)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(3)
:
1 -
(منها): بيان جواز اعتراض المرأة بين المصلّي وبين القبلة، وأن ذلك ليس من المرور الممنوع.
(1)
أي بدليل قول عائشة رضي الله عنها: "فأقوم، فأصلي الوتر"، فإنه صريح في كونها غير حائض.
(2)
"المرعاة" 2/ 498.
(3)
المراد فوائد حديث عائشة رضي الله عنها بطرقه وسياقه المختلفة، لا خصوص هذا السياق، فتنبّه.
2 -
(ومنها): جواز الصلاة إلى المرأة، قال النوويّ رحمه الله: وفيه جواز صلاته إليها، وكَرِه العلماء، أو جماعة منهم الصلاة إليها لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لخوف الفتنة بها، وتذكُّرها، وإشغال القلب بها بالنظر إليها، وأما النبيّ صلى الله عليه وسلم فمنَزَّه عن هذا كله، مع أن صلاته كانت في الليل، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ لا اختلاف بينه صلى الله عليه وسلم وبين غيره في مثل هذه الحالة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): جواز الصلاة إلى النائم، وأنه لا كراهة في ذلك، قال العراقيّ رحمه الله: فيه أنه لا بأس بالصلاة إلى النائم، وهو كذلك عند الجمهور، وقال مالك: لا يصلي إلى نائم، إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاوس، قال ابن بطال: كَرِهت طائفة من العلماء الصلاة خلف النائم؛ خوفَ ما يَحْدُث منه، فيشغل المصلي، أو يُضحكه فتفسد صلاته، قال مجاهد: أصلي وراء قاعد أحب إلي من أن أصلي وراء نائم، قال ابن بطال: والقول قول من أجاز ذلك؛ للسنة الثابتة. انتهى.
وأما ما رواه أبو داود، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُصَلُّوا خلف النائم، ولا المتحدث"، فإن في إسناده مَن لم يُسَمَّ، قال الخطابيّ: لا يصحّ، قال: وعبد اللَّه بن يعقوب لم يُسَمِّ من حدثه به، عن محمد بن كعب، قال: وإنما رواه عن محمد بن كعب رجلان كلاهما ضعيفان: تمام بن بزيع، وعيسى بن ميمون، وقد تكلم فيهما يحيى بن معين، والبخاريّ، ورواه أيضًا عبد الكريم أبو أمية، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعبد الكريم متروك الحديث.
قال العراقيّ: قد رواه عن محمد بن كعب أيضًا أبو الْمِقْدَام، وهو هشام بن زياد البصريّ ضعيف أيضًا، ولهذا لَمّا ذكر النووي الحديث في "الخلاصة" قال: اتّفقوا على ضعفه. انتهى.
ومَن كَرِهَ ذلك فإنما كرهه من حيثُ اشتغل به عن الصلاة، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": كَرِهَ عثمان أن يستَقْبَل الرجل وهو يصلي، قال الخطابيّ: فأما الصلاة للمتحدِّثين، فقد كرهها الشافعيّ، وأحمد، من أجل أن
كلامهم يَشْغَل المصلي، وكان ابن عمر لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أنه استدلت به عائشة رضي الله عنها، وكذلك أكثر العلماء بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل، لكن قد عرفت أن القول بقطعها هو الحقّ؛ لصريح حديث أبي ذرّ رضي الله عنه وغيره:"يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود"، فارجع إلى ما أسلفناه من التحقيق، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
5 -
(ومنها): ما قاله العراقيّ رحمه الله: في قول عائشة رضي الله عنها: "وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة" ما يوهم أنه مخالف لقولها في الحديث الآتي: "ورجلاي في قبلته"، فإن ظاهره أن رجليها كانتا لجهة القبلة، وقد يُجْمَع بينهما بأن المراد بقولها:"ورجلاي في قبلته" أنه كان مستقبل أسفلها، وإن كانت معترضة، ولا يلزم أن يستقبل أسفل رجليها، ويَحْتَمل أن يقال: كان مرةً كذا، ومرةً كذا، لكن الأول أولى؛ لأن قوله في رواية البخاريّ:"على الفراش الذي ينامان عليه" يدلّ على أنها كانت معترضة بين يديه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينام على شقه الأيمن، مستقبل القبلة بوجهه، فدلّ على أنه لم تكن جهة أرجلهما إلى القبلة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ.
6 -
(ومنها): ما قال في "الطرح": إن بعضهم أجاب عن حديث عائشة رضي الله عنها بأنه ليس فيه مرور، وإنما يقطع المرورُ بين يدي المصلي، وأما كون المرأة كالسترة للمصلي فلا تقطع الصلاة، وإنما كرهه بعضهم، قال ابن بطال: كَرِه كثير من أهل العلم أن تكون المرأة سترة للمصلي، قال مالك في "المختصر": ولا يستتر بالمرأة، وأرجو أن تكون السترة بالصبي واسعة، قال: وقال الشافعيّ: لا يستتر بامرأة ولا دابة.
وأشار ابن عبد البرّ إلى أن مرور المرأة أخفّ من الصلاة إليها، فقال في "التمهيد": وكيف تقطع الصلاة بمرورها، وفي هذا الحديث أن اعتراضها في القبلة نفسها لا يضرّ؟.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 387 - 388.
قلت: في حديث عائشة المتَّفَق عليه ما يشير إلى أن المرور أشدّ، فإنها قالت:"فأكره أن أَسْنَحَه، فأنسلُّ من قبل رجلي السرير"، وفي رواية لهما:"فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس، فأوذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنسلّ من عند رجليه"، أي من عند رجلي السرير. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): قال في "الطرح" أيضًا: لقائل أن يقول: إن عائشة رضي الله عنها يكن بينها وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم سُترة، بل كان السرير الذي عليه عائشة هو السترة، وكأن عائشة من وراء السترة؛ لأن قوائم السرير التي تلي النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، والدليل على ذلك ما اتفق عليه الشيخان، من رواية الأسود، عن عائشة:"لقد رأيتني مضطجعةً على السرير، فيجيء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيتوسط السرير، فيصلي. . . " الحديث، وعلى هذا فلا يكون في حديث عائشة ما ينافي حديث أبي ذرّ وأبي هريرة رضي الله عنهما في قطع المرأة الصلاة؛ لوجود السترة هنا. انتهى. وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أنه إن قال قائل: قد ثبت حديث أبي ذرّ رضي الله عنه في قطع المرأة للصلاة، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس في حديث عائشة رضي الله عنها هنا تعميم لكون النساء لا يقطعن، فلو قال قائل: إنما يقطع الصلاة المرأة الأجنبية؛ خوفَ الافتتان بها، فأما زوجته ومحرمه فلا يضرّ، وإنما نُقِلَ أنه صلى الله عليه وسلم صلى وبين يديه عائشة وميمونة رضي الله عنهما كما هو مذكور في هذا الباب، وكذلك عند أبي داود وابن ماجه أن أم سلمة رضي الله عنها:"كان فراشها بِحِيال مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، زاد أحمد:"وكان يصلي، وأنا حِيَالَهُ".
والجواب عن ذلك أنه لا قائل بالفرق بين الأجنبية وغيرها في ذلك، وأيضًا فقد ورد مرور الأجنبية فيما رواه أبو داود، والنسائيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي، فنزل ونزلت، وتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب، فدخلتا بين الصفّ، فما بالا ذلك"، وهو حديث صحيح.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 393.
وقال مالك في "المجموعة": ولا يصلي وبين يديه امرأة، وإن كانت أمه أو أخته، إلا أن يكون دونها سترة. انتهى
(1)
.
9 -
(ومنها): قال في "الطرح": [فإن قيل]: كيف أنكرت عائشة رضي الله عنها على مَن ذَكر المرأة مع الحمار والكلب فيما يقطع الصلاة، وهي قد رَوَت الحديثَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد في "المسند" بلفظ:"لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة، فقالت عائشة: يا رسول اللَّه، قد قُرِنا بدواب سَوْء"؟.
والجواب أن عائشة رضي الله عنها تنكر ورود الحديث، ولم تكن لتُكَذِّب أبا هريرة وأبا ذر رضي الله عنهما، وإنما أنكرت كون الحكم باقيًا هكذا، فلعلها كانت تَرَى نسخه بحديثها الذي ذكرته، أو كانت تَحْمِل قطع الصلاة على مَحْمِل غير البطلان، والظاهر أنها رأت تغيير الحكم بالنسبة إلى المرأة وإلى الحمار أيضًا، فقد حَكَى ابن عبد البر أنها كانت تقول:"يقطع الصلاة الكلب الأسود"، وهذا كقول أحمد، وإسحاق، واللَّه أعلم. انتهى.
10 -
(ومنها): أنه استَدَلّ ابنُ عبد البر: بغمزه صلى الله عليه وسلم رجل عائشة على أن مطلق اللمس ليس بناقض للوضوء، وإن كان يَحْتَمِل أن يغمزها على الثوب، أو يضربها بكمه، ونحو ذلك، ثم حَكَى اختلاف العلماء في ذلك، فقال سفيان الثوريّ، وأبو حنيفة، والأوزاعيّ، فيما حكاه الطبري عنه، وأكثر أهل العراق: لا ينقض اللمس من غير جماع، قال أبو حنيفة: إلا أن يقصد مسها لشهوة وانتشر، وقال مالك، وأحمد، وإسحاق بنقض اللمس بشهوة ولذّة، وأراد مالك، والليث، ولو كان من فوق حائل، قال محمد بن نصر: ولم أره لغيرهما، وقال الشافعيّ، والأوزاعيّ فيما حكاه محمد بن نصر المروزيّ: ينقض اللمس مطلقًا بشهوة وغيرها، ما لم يكن بينهما محرمية على ما هو معروف في موضعه.
قال العراقيّ رحمه الله: وليس في هذا الحديث حجة لمن لم ير النقض بمطلق اللمس؛ لأن عائشة كانت مستترةً مغطاةً باللحاف، كما ثبت في "الصحيحين"
(1)
"طرح التثريب" 2/ 393 - 394.
من رواية الأسود عنها: "فأَنسَلُّ من قبل رجلي السرير، حتى أنسَلَّ من لِحَافي". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مسألة نقض الوضوء بلمس المرأة، قد استوفيت بحثها في "كتاب الطهارة"، وبَيَّنتُ أن الأرجح عدم النقض؛ للأدلة الكثيرة المذكورة هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
11 -
(ومنها): قال في "الطرح" أيضًا: إذا قلنا بقطع المرأة، ومن ذُكِر معها الصلاة بمروره، أو استقباله، فما مقدار المسافة بين يدي المصلي التي يحصل بها المحذور؟.
والجواب: أنه إنما يَحْرُم، أو يكره إذا كان على دون ثلاثة أذرع؛ لأنه مقدار السترة، فإن زاد على الثلاثة فلا يضرّ.
وقال بعضهم: ستة أذرع، وقال بعضهم: قَذْفَةٌ بحجر، ويدل له ما رويناه في بعض طرق الحديث، عند أبي داود، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أحسبه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم إلى غير سترة، فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهوديّ، والمجوسيّ، والمرأة، ويجزي عنه إذا مروا بين يديه على قَذْفة بحجر"، قال أبو داود: في نفسي من هذا الحديث شيءٌ، وأحسب الوَهْمَ من ابن أبي سَمِينة، والمنكر فيه ذكر "المجوسيّ"، وفيه:"على قَذْفَة بحجر"، وذكر "الخنزير"، وفيه نكارة، قال: وليس كلام أبي داود هذا ثابتًا في أصل سماعنا من "السنن"، وهو ثابت في كثير من النسخ الصحيحة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح قول من قدّر بثلاثة أذرع؛ للحديث الصحيح في كونه صلى الله عليه وسلم صلى في البيت وكان بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع، وأما حديث أبي داود، فضعيف، كما أشار هو إليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): قال في "الطرح " أيضًا: في غمزه صلى الله عليه وسلم رجلي عائشة رضي الله عنها دليل على أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وهو كذلك.
[فإن قيل]: ففي بعض طرق أبي داود: "غَمَزني، فقال: تَنَحَّيْ"، وفي
(1)
"طرح التثريب" 2/ 395.
لفظ: "قال: قومي"، فهذا يدلّ على أن غمزه لها لم يكن في الصلاة؛ لقوله مع الغمزة:"تَنَحَّيْ".
والجواب: أن الغَمْز مع قوله: "تنحي" إنما هو إذا أراد أن يوتر بين الفراغ من التهجد وبين الوتر، كما هو مُصَرَّحٌ به في هذه الرواية، فإنها قالت:"فيصلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا أمامه، فإذا أراد أن يوتر"، زاد عثمان:"غَمَزني"، ثم اتفقا:"فقال: تنحي"، وهذا كقوله في الحديث الآخر:"حتى إذا أراد أن يوتر أيقظها، فأوترت". انتهى
(1)
.
13 -
(ومنها): أن في قول عائشة رضي الله عنها: "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" بيانًا لما كانوا عليه من ضيق العيش؛ إذ لم يكونوا يُسْرِجون في بيوتهم مصابيح، قال ابن عبد البر رحمه الله: وفيه أنها إذ حَدَّثت بهذا الحديث كانت في بيوتهم المصابيح، وذلك أن اللَّه تعالى فَتَحَ عليهم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم من الدنيا، فَوَسَّعوا على أنفسهم؛ إذ وسَّع اللَّه عليهم. انتهى.
14 -
(ومنها): أنّ الشيخ ابن دقيق العيد ذَكَرَ ما حاصله: إن قصة عائشة رضي الله عنها في كونها في قبلته صلى الله عليه وسلم، وهي راقدةٌ ليس يُبَيِّن مساواتها لمرور المرأة؛ لأنها ذَكَرَت أن البيوت حينئذ ليس فيها مصابيح، فلعل سبب هذا الحكم عدم المشاهدة لها. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1146]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ كُلَّهَا، وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَينَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي، فَأَوْتَرْتُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(وَكِيع) بن الجرّاح تقدّم قبل بابين.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 395.
(2)
المصدر السابق 2/ 396.
2 -
(هِشَام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 5 أو 146) عن (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته.
وقوله: (فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي، فَأَوْتَرْتُ) قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل، وفيه أنه يستحبّ لمن وَثِقَ باستيقاظه من آخر الليل إما بنفسه، وإما بإيقاظ غيره أن يؤخر الوتر، وإن لم يكن له تهجُّدٌ، فإن عائشة رضي الله عنها كانت بهذه الصفة، وأما من لا يَثِقُ باستيقاظه، ولا له من يوقظه فيوتر قبل أن ينام، وفيه استحباب إيقاظ النائم للصلاة في وقتها، وقد جاءت فيه أحاديث أيضًا غير هذا. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم في الحديث الماضي تمام شرحه ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1147]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: الْمَرْأَةُ
(3)
، وَالْحِمَارُ، فَقَالَتْ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَدَابَّةُ سَوْءٍ، لَقَدْ رَأَيْتُني بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِضَةً، كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ عَلِيّ) بن بَحْر بن كَنِيز الفلّاس الصيرفيّ الباهليّ، أبو حفص البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.
(1)
"شرح النووي" 4/ 228.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
(3)
وفي نسخة: "قال: قلت: المرأة".
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُنْدَر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ربيب شعبة، ثقة، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ عابد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ) هو: عبد اللَّه بن حفص بن عُمَر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، مشهور بكنيته، ثقة [5](ع) تقدم في "الحيض" 9/ 734.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
ومن لطائف هذا الإسناد أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه شعبة أمير المؤمنين في الحديث، كما قاله الثوريّ، وأول من فتّش عن الرجال بالعراق، وذبّ عن السنة، وفيه محمد بن جعفر الملقّب بغُندر، لقّبه به ابن جريج لَمّا أكثر الشغب عليه، وهو ربيب شعبة، ولزمه عشرين سنة، وفيه أبو بكر بن حفص ممن اشتهر بالكنية.
وقوله: (مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟)"ما" استفهاميّة مبتدأ، خبره جملة "يقطع"، أي أيُّ شيء يقطع الصلاة؟.
وقوله: (قَالَ: فَقُلْنَا) فاعل "قال" ضمير عروة، وفي نسخة:"قال: قلت".
وقوله: (الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ) فاعل لفعل مقدّر يفسّره السؤال، أي يقطعها المرأة والحمار.
وقولها: (إِنَّ الْمَرْأَةَ لَدَابَّةُ سَوْءٍ) بفتح السين المهملة، وسكون الواو، أي قبيحة، تريد به الإنكار عليهم في قولهم: إن المرأة تقطع الصلاة.
[فائدة]: قال في "المصباح المنير": أساء زيد في فعله، وفَعَلَ سُوءًا، والاسم السُّوءى على فُعْلَى، وهو رجلُ سَوْءٍ بالفتح والإضافة، وعَمَلُ سَوْءٍ، فإن عرّفتَ الأول قلتَ: الرجلُ السَّوْءُ، على النعت. انتهى
(1)
.
وقال في "مختار الصحاح": ساءهُ ضدُّ سَرَّهُ، من باب قال، ومَسَاءَة بالمدّ، ومَسَائيَةً بكسر الهمزة، والاسم السُّوءُ بالضمّ، وقُرئ {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 298.
السَّوْءِ} [التوبة: 98] بالضمّ، أي الْهَزِيمة والشرّ، وقرئ بالفتح من الْمَسَاء، وتقول: هو رجلُ سَوْءٍ بالإضافة، ورجلُ السَّوءِ، ولا تقول: الرجلُ السَّوْءُ، وتقول: الحقُّ اليقينُ، وحقُّ اليقينِ، ولا يقال: رجلُ السُّوء بالضمّ. انتهى
(1)
.
وقال في "القاموس": سَاءَه سَوْءًا، وسَوَاءً، وسَوَاءَةً، وسَوَايَةً، وسَوَائِيَةً، ومَسَاءَةً، ومَسَائِيَةً، مقلوبًا، وأصله مَسَاوِئَةً، ومَسَايَةً، ومَسَاءً، ومَسَائِيَّةً: فَعَلَ به ما يَكْرَهُ، فاستاء هو، والسُّوءُ بالضمّ الاسمُ، قال: ولا خير في قول السُّوْءِ بالفتح والضمّ، إذا فتحتَ فمعناه: في قولٍ قَبِيحٍ، وإذا ضممتَ: فمعناه في أن تقول سُوءًا، وقُرئ {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} بالوجهين، أي الهزيمةِ والشرِّ والرَّدى والفسادِ، وكذا {أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} ، أو المضموم الشررُ، والمفتوح الفساد والنارُ، ومنه {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في قراءة، ورجلُ سَوْءٍ، ورجلُ السَّوْءِ بالفتح والإضافة. انتهى
(2)
.
وقولها: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أي رأيت نفسي، و"رأى" هنا بصريّةٌ، وهذا من المواضع التي يجوز كون الفاعل والمفعول ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، وهي في هذا ملحقة بأفعال القلوب، كظننتني قائمًا، وعلمتني فاضلًا، راجع تفصيل المسألة في:"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة"
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، ومسائله في شرح حديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1148]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ
(4)
، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ (ح) قَالَ
(1)
"مختار الصحاح"(ص 158).
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 18.
(3)
1/ 221.
(4)
وفي نسخة: "حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم".
الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي مُسْلِمٌ
(1)
، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَذُكِرَ عِنْدَهَا
(2)
مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ: الْكَلْبُ، وَالْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ شَبَّهْتُمُونَا
(3)
بِالْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد اللَّه بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) أبو حفص الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 222)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.
3 -
(أَبُو) حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغير قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ ورعٌ إلا أنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
5 -
(إِبْرَاهيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
6 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مكثرٌ مخضرَمٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
7 -
(مُسْلِمٌ) بن صُبَيح الْهَمْدانيّ، أبو الضُّحى الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقة فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
8 -
(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني مسلم بن صُبَيح".
(2)
وفي نسخة: "ذُكر عندها".
(3)
وفي نسخة: "قد شبَّهُونا".
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بين اثنين منهم، وفصل واحدًا بالتحويل، وسببه اختلاف صيغ أدائهم؛ لاختلاف كيفيّة تحمّلهم، وذلك أن عمرًا الناقد والأشجّ حدّثهما حفص مع جماعة، فلذا قالا:"حدّثنا حفص"، وأما عُمر بن حفص، فحدّثه أبوه وحده، فلذا قال:"حدّثني أبي"، وهذا من دقائق صنيع المحدّثين، ولا سيّما المصنّف، فإنهم يراعون كيفية التحمّل والأداء، وإن كان لا يختلف المعنى، وهو من المستحسنات، لا من الواجبات، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
فتنبّه لهذه الدقائق؛ فإنه من مهمّات علم الحديث.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له" يعني لفظ الحديث لعمر بن حفص، وأما عمرو، والأشجّ فروياه بالمعنى، وهذا من أيضًا من المنوبات، كما أشار إليه في "الألفية" المذكورة بقوله:
وَمَنْ رَوَى مَتْنًا عَنَ أَشْيَاخٍ وَقَدْ
…
تَوَافَقُوا مَعْنًى وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ
مَقْتَصِرًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَلَمْ
…
يُبَيِّن اخْتِصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ
أَوْ قَالَ قَدْ تَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ
…
وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى عَلَى خُلْفٍ رَأَوْا
وَإِنْ يَكُنْ لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ
…
مَعْ "قَالَ" أَوْ "قَالَا" فَذَاكَ أَحْسَنُ
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير عمرو الناقد، فبغداديّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أنهم رجال الجماعة، إلا عمرًا الناقد، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
5 -
(ومنها): أن شيخه الأشجّ أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة.
6 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين رأى بعضهم عن بعض:
الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، والأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق.
[تنبيه]: هذا السند بعينه هو الذي أخرج به البخاريّ هذا الحديث، فرواه عن عمر بن حفص، عن أبيه به، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(قَالَ الْأَعْمَشُ) هذا متّصل بالسند الماضي، وليس معلّقًا، وقول الكرمانيّ: إما تعليق، وإما داخل في الإسناد الأول، ترديد مردود، والصواب ما قدّمنا. (وَحَدَّثَنِي) بواو العطف، فهو معطوف على قول الأعمش:"حدّثني إبراهيم"(مُسْلِمٌ) وفي نسخة: مسلم بن صُبيح، وهو بضمّ الصاد المهملة، بخلاف والد الربيع بن صَبِيح، فإنه بالفتح، كما قال في "ألفيّة الحديث":
صبِيحُ وَالِدُ الرَّبِيعِ فُتِحَا
…
وَاضْمُمْ أَبًا لِمُسْلِمٍ أَبِي الضُّحَى
[تنبيه]: قال الكرماني: مسلم هو البطين، فردّ عليه في "الفتح"، وأجاد في ذلك.
(عَنْ مَسْرُوق) بن الأجدع، قال أبو سعيد السمعانيّ: سُمِّي مسروقًا؛ لأنه سرقه إنسانٌ في صغره، ثم وُجد، وغَيَّر عمر رضي الله عنه اسم أبيه إلى عبد الرحمن، فأُثبت في الديوان: مسروق بن عبد الرحمن. انتهى
(1)
.
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (وَذُكِرَ عِنْدَهَا) ببناء الفعل للمفعول، هكذا وقع في معظم النسخ بواو العطف، ووقع بعضها "ذُكر عندها" بحذفها، وهو واضح، وللأول أيضًا وجه، وهو أن تكون الواو للحال، أي والحال أنه قد ذُكر عندها (مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ)"ما" موصولة، و"يَقطع" بالبناء للفاعل: صلتها، ثم يجوز فيها وجهان:
الأول: أن تكون مبتدأ وخبره قوله: "الكلب إلخ"، والجملة في محلّ رفع نائب فاعل "ذُكر"، أي ذُكر عندها هذا الكلام.
والثاني: أن تكون "ما" نائب فاعل "ذُكر"، ويكون قوله:"الكلب إلخ" بدلًا منها.
(1)
من هامش "خلاصة الخزرجيّ"(ص 374).
(الْكَلْبُ، وَالْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (قَدْ شَبَّهْتُمُونَا) وفي نسخة: "قد شبّهونا" بضمير الغيبة (بِالْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ) وفي الرواية التالية: "عَدَلتمونا بالكلاب والْحُمُر"، والمعنى واحدٌ، وفي رواية للبخاريّ:"لقد جعلونا كلابًا"، وهذا على سبيل المبالغة، ولسعيد بن منصور من وجه آخر:"قالت عائشة: يا أهل العراق قد عدلتمونا. . . " الحديث، قال في "الفتح": وكأنها أشارت بذلك إلى ما رواه أهل العراق عن أبي ذرّ رضي الله عنه وغيره مرفوعًا، وهو عند مسلم وغيره من طريق عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.
وقال في "الطرح": قولها: "قد شبّهتمونا" أرادت بخطابها ذلك ابن أختها عروة، وأبا هريرة، فروى مسلم من رواية عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: "ما يقطع الصلاة؛ قال: قلتُ: المرأة والحمار، فقالت: إن المرأة لدابةُ سَوْء. . . فذكرت الحديث.
ورَوَى ابن عبد البر، من رواية القاسم، قال: بَلَغَ عائشة أن أبا هريرة يقول: إن المرأة تقطع الصلاة، فذكرت الحديث. انتهى
(1)
.
[فائدة]: قال ابن مالك رحمه الله: في هذا الحديث جواز تعدي المشبَّه به بالباء، وأنكره بعض النحويين، حتى بالغ فخَطّأ سيبويه في قوله:"شُبِّهَ كذا بكذا"، وزَعَم أنه لا يوجد في كلام من يوثق بعربيته، وقد وُجِد في كلام مَن هو فوق ذلك، وهي عائشة رضي الله عنها، قال: والحقّ أنه جائز، وإن كان سقوطها أشهر في كلام المتقدمين، وثبوتها لازم في عرف العلماء المتأخرين. انتهى
(2)
.
(وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي) وقوله: (وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، مُضْطَجِعَةً) قال الكرمانيّ رحمه الله: ثلاثة أخبار مترادفةٌ، وقال أيضًا: أو خبران، وحال، أو حالان وخبر، وفي بعضها "مضطجعة" بالنصب، فالأولان خبران، أو أحدهما حال، والآخر خبر.
قال العينيّ رحمه الله: التحقيق فيه أن قوله: "وأنا على السرير" جملة اسمية وقعت حالًا من "عائشة"، وكذا "بينه وبين القبلة" حال، وقوله:"مضطجعةٌ" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وأنا مضطجعةٌ، وعلى التقديرين تكون هذه
(1)
"طرح التثريب" 2/ 394.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 702.
الجملة أيضًا حالًا، ويجوز أن يكون "مضطجعةٌ" بالرفع خبرًا لقوله:"وأنا"، أي والحال أنا مضطجعة على السرير، فعلى هذا لا يَحْتَاج إلى تقدير مبتدأ، وأما وجه النصب في "مضطجعةً"، فعلى أنه حال من "عائشة" أيضًا، ثم يجوز أن يكون هذان الحالان مترادفين، ويجوز أن يكونا متداخلين. انتهى
(1)
.
(فَتَبْدُو) أي تظهر (لِيَ) بسكون ياء المتكلّم، وفتحها (الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ كُرْهًا بضم الكاف وفتحها: ضدّ أحبه، فهو مكروه (أَنْ أَجْلِسَ)"أن" مصدريّة، والمصدر مفعول "أكره"، أي جلوسي أمامه صلى الله عليه وسلم (فَاُوذِيَ) بالنصب عطفًا على ما قبله (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": استُدلّ به على أن التشويش بالمرأة، وهي قاعدة يحصل منه ما لا يحصُل بها وهي راقدةٌ، والظاهر أن ذلك من جهة الحركة والسكون، وعلى هذا فمرورها أشدّ، وفي رواية النسائيّ من طريق شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنها في هذا الحديث:"فأكرَهُ أن أقوم، فأمرَّ بين يديه، فأنسلّ انسلالًا"، فالظاهر إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات، لا المرور بخصوصه. انتهى
(2)
.
(فَأَنْسَلُّ) بالرفع عطفًا على "أكره"، وليس منصوبًا بالعطف على "فأُوذيَ"، ومعنى "أنسلّ" أي أَمْضي، وأذهب بِتَأنٍّ وتدرُّج (مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ) الضمير للسرير، كما بُيّن في الرواية التالية:"فأنسلّ من قِبَلِ رجلي السرير حتى أنسلّ من لحافي".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم بيان مسائله في أول أحاديث الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1149]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: عَدَلْتُمُونَا بِالْكِلَابِ وَالْحُمُرِ، لَقَدْ
(1)
"عمدة القاري" 4/ 436 - 437.
(2)
"الفتح" 1/ 702.
رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ، فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْنَحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَي السَّرِيرِ، حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد اللَّه السّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقولها: (عَدَلْتُمُونَا) هو بمعنى قولها: شبّهتمونا.
وقولها: (مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ) بالنصب على الحاليّة؛ لأن "رأى" بصريّة، وهي لا تتعدّى إلا إلى مفعول واحد، ويَحْتَمِل أن تكون علميّة، فيكون "مضطجعةً" مفعولًا ثانيًا لها.
وقولها: (فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْنَحَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هو: بقطع الهمزة المفتوحة، وإسكان السين المهملة، وفتح النون: أي أَظْهَرَ له، وأَعتَرِضَ، يقال: سَنَحَ لي كذا، أي عرض، ومنه السانح من الطير. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: قولها: "أكره أن أَسْنَحَهُ": أي أكره أن أستقبله ببدني في صلاته، من سَنَحَ لي الشيءُ: إذا عَرَضَ، ومنه السانح: ضدّ البارح. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: سَنَحَ الشيءُ يَسْنَحُ بفتحتين سُنُوحًا، من باب خَضَعَ: سَهُلَ، وتَيَسّر، وسَنَحَ الطائر: جَرَى على يمينك إلى يسارك، والعرب تتيامن بذلك، قال ابن فارس: السانح: ما أتاك عن يمينك من طائر وغيره، وسَنَحَ لي رأيٌ في كذا: ظَهَرَ، وسَنَحَ الخاطر به: جاد. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 229.
(2)
"النهاية" 2/ 407.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 291 بزيادة من "مختار الصحاح"(ص 157).
وقولها: (فَأَنْسَلُّ) مضارع انسلّ، انفعال من سَلّ الشيءَ: إذا انتزعه وأخرجه في رفق، قال ابن الأثير رحمه الله: معنى: "فأنسلُّ": أي أمضي، وأخرج بتأنّ وتدريج. انتهى
(1)
.
وقال في "القاموس": السّلُّ: انتزاعك الشيءَ، وإخراجه في رِفقٍ، كالاستلال، وسيفٌ سَلِيلٌ، ومسلولٌ، وانسَلَّ وتَسَلّلَ: انطلق في استخفاء. انتهى
(2)
.
وقولها: (حَتَّى أَنْسَلَّ) بالنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد "حتّى"، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"
…
حَتْمٌ كَـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"
وقولها: (مِنْ لِحَافِي) بكسر اللام: هو كلّ ثوب يُتَغَطَّى به، والجمع لُحُفٌ، كَكِتَابٍ وكُتُبٍ، والْمِلْحَفَةُ: بالكسر: هي الْمُلَاءَةُ التي تَلْتَحف بها المرأة، أمّا ده الًفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّمت مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1150]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
(1)
"النهاية" 2/ 392.
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 396.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 550.
والباقون تقدّموا قبل بابين، وعائشة رضي الله عنها في السند الماضي، واسم أبي النضر سالم بن أبي أميّة.
وقولها: (بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي قُدّامه إلى جهة القبلة.
وقولها: (وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ)"رِجْلايَ" أصله رجلان لي، فحُذفت اللام، ونون التثنية للإضافة، وأضيف إلى ياء المتكلّم المفتوحة، وهو مبتدأ خبره الجارّ والمجرور، وأما قولها الآتي:"فقبضتُ رجليّ" فالياء التي هي علامة النصب أُدغمت في ياء المتكلّم، وكذلك تُدغم في حالة الجر، كقولك: مررت بغلامَيّ، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا
…
لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَـ "رَامٍ" وَ"قَذَى"
أَوْ يَكُ كَـ "ابْنَيْنِ" وَ"زَيْدِينَ" فَذِي
…
جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي
وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ
…
مَا قَبْلَ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ
وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ
…
هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ
وقولها: (فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي) أي عَضّني بيده، قاله القرطبيّ
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: استَدَلّ به مَن يقول: لمسُ النساء لا ينقض الوضوء، والجمهور على أنه ينقض، وحملوا الحديث على أنه غَمَزَها فوق حائل، وهذا هو الظاهر من حال النائم، فلا دلالة فيه على عدم النقض. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم في فوائد الحديث الأول من الباب أن الأرجح قول من قال بعد النقض؛ لقوّة دليله، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقولها: (فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ) هو تثنية رِجْل، كسابقه قُلبت ألف التثنية، وأدغمت في ياء المتكلّم، كما أسلفته آنفًا.
وقولها: (وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ) أرادت بـ "يومئذ" معنى حينئذ؛ لأنه لا يُعْهَد وقود المصابيح في اليوم، وهو النهار، والعرب تُعَبِّر باليوم عن الحين والوقت، كما تعبر به عن النهار، وهو مشهور عندهم، قاله في "الطرح"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أرادت بهذا الكلام الاعتذارَ، تقول: لو كان فيها
(1)
"المفهم" 2/ 111.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 396.
مصابيح، لقبضت رجليّ عند إرادته السجود، ولَمَا أحوجته إلى غَمْزي
(1)
.
[فإن قيل]: قد جعلتم أن قولها "يومئذ" المراد به الحين والزمن، فَيَحَتِمل أن تريد بذلك الوقت صلاته صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، لا كلَّ الليل، وإنما كانوا يطفئون مصابيحهم عند النوم، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه في "الصحيح":"وأطفئوا مصابيحكم"، فإنما هو عند النوم، وقد ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يجلس في بيت مُظْلِم حتى يوقد له، وفي "الصحيحين" أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الأنصاريّ الذي نزلت فيه:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية أنه قال لامرأته: "وتَعَالي، فأطفئي السراج"، فدلّ ذلك على أنهم كانت لهم مصابيح في بيوتهم، في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير أنها كانت تطفأ عند النوم.
[والجواب]: أن هذا وإن كان مُحْتَمِلًا إلا أن قولها: "ليس فيها مصابيح" ظاهر في مطلق النفي، وإن حدثت بعد ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم، ويدلّ على ذلك قول عائشة رضي الله عنها في بعض طرقه إذ سئلت عن ذلك:"لو كان لنا مصباح لأكلناه"، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لا يقعد في بيت مظلم، فهذا حديث لا يَثْبُت، وقد ضعفه ابن حبان رحمه الله، قاله في "الطرح"، وهو بحث مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1151]
(513) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، جَمِيعًا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ المذكور في السند الماضي.
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 230.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.
4 -
(عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بن عُمر الْكِلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو بعدها، وله نحو (70) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.
5 -
(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.
6 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ، أبو الوليد المدنيّ، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقةٌ فقيه، من كبار [2] مات مقتولًا سنة (81) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 1/ 687.
7 -
(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث الهلاليّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف صيغ الأداء باختلاف كيفيّة التحمّل، كما بيّنته قريبًا.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنهم ما بين نيسابوريّ، وهو: يحيى، وواسطيين، وهما: خالد، وعبّاد، وكوفيين، وهما: أبو بكر، والشيبانيّ، ومدنيين، وهما الباقيان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الشيبانيّ، عن عبد اللَّه بن شدّاد.
5 -
(ومنها): أن صحابيّته رضي الله عنها ذات مناقب جمّة، هي أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة سبعة، بسرف، وماتت بها سنة (51)، ودُفنت في الظلّة التي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا من أغرب ما اتّفق، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ أنه (قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ) بنت الحارث رضي الله عنها (زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن الأفصح في الزوج أنه يُطلق على الرجل
والمرأة، وقد جاء به القرآن الكريم، قال تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وهي لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون للمرأة: زوجة بالهاء (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال، و"الحذاء بالكسر: إزاؤه، وصرت بجنبه، يقال: حذوته أحذوه حَذْوًا، وحاذيته مُحاذاةً، وحِذَاءً، من باب قاتل: إذا وازيته، وقولها:(وَأَنَا حَائِضٌ) جملة حاليّة أيضًا، فهما إما متداخلان، أو مترادفان، و"الحائض" بلا هاء أفصح من الحائضة؛ لأنه وصف خاصّ بالمرأة، فلا يَحتاج إلى الفرق بالهاء (وَرُبَّمَا) بضمّ الراء، وتشديد الموحّدة، وفيها لغات، تُستعمل للتقليل قليلًا، وللتكثير كثيرًا، وقيل: بالعكس، وقال في "القاموس": ورُبَّ، ورُبَّةَ، ورُبَّمَا، ورُبَّتَمَا، بضمّهنّ، مشدَّداتٍ، ومُخَفّفَاتٍ، وبفتحهنّ كذلك، ورُبُ بضمّتين، مخفَّفةً، ورُبْ كَمُذْ: حرفٌ خافضٌ، لا يقع إلا على نكرة، أو اسمٌ، وقيل: كلمةُ تقليلٍ، أو تكثيرٍ، أو لهما، أو في موضع المباهاة للتكثير، أو لم توضع لتقليلٍ ولا لتكثير، بل يُستفادان من سياق الكلام. انتهى
(1)
.
(أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ) زاد في الرواية الآتية في "كتاب المساجد: "وكان يصلي على خمرة"، قال في "الفتح": والخمرة -بضم الخاء المعجمة، وسكون الميم- قال الطبريّ: هو مُصَلًّى صغيرٌ، يُعْمَل من سَعَف النخل، سُمِّيت بذلك؛ لسترها الوجه والكفين، من حَرِّ الأرض وبردها، فإن كانت كبيرةً سُمِّيت حصيرًا، وكذا قال الأزهريّ في "تهذيبه"، وصاحبه أبو عُبيد الهرويّ، وجماعةٌ بعدهم، وزاد في "النهاية": ولا تكون خُمْرَةً إلا في هذا المقدار، قال: وسُمِّيت خمرة؛ لأن خيوطها مستورة بسَعَفها، وقال الخطابيّ: هي السَّجّادة يَسجُد عليها المصلي، ثم ذَكَر حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الفأرة التي جَرَّت الفتيلة حتى ألقتها على الْخُمْرة التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا عليها. . . الحديث، قال: ففي هذا تصريح بإطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه، قال: وسُمِّيت خمرةً؛ لأنها تُغَطِّي الوجه. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 71.
(2)
"الفتح" 1/ 513.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 1151](513)، وسيأتي في "كتاب المساجد" بنفس السند والمتن، إلا أنه زاد:"وكان يصلي على خمرة"، و (البخاريّ) في "الحيض"(333) و"الصلاة"(379 و 517 و 518)، و (أبو داود) فيها (656)، و (النسائيّ) فيها (2/ 57) و"الكبرى" في "كتاب المساجد"(1/ 268)، و (ابن ماجه) فيها (958 و 1028)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 364)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 368)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1426 و 1427)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1138)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه يدلّ على أن وقوف المرأة بجنب المصلي لا يبطل صلاته، قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وأبطلها أبو حنيفة رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تعقّب العينيّ قول النووي هذا، ومثله ما يأتي عن القاضي عياض بأن هذا ذهول عن مذهب الحنفيّة، فإنهم إنما يقولون ببطلان الصلاة في محاذاة المرأة إذا كانت مشتركة في الصلاة، وميمونة رضي الله عنها هنا حائض لا تصليّ، فتنبّه.
وقال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليلٌ على أن محاذاة المرأة في الصلاة المصليَ لا تفسد صلاته، سواء كانت في صلاته أم لا؛ خلافًا لأبي حنيفة في أن صلاة المحاذي من الرجال تفسد، وحجته نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل إلى جانب المرأة، والمرأة إلى جانب الرجل، وقوله:"أخّروهنّ من حيث أخّرهن اللَّه"، قال: وكلُّ هذا عندنا محمول على التحضيض والندب، لا على الإيجاب، ومن الغريب أنهم فرّقوا بين الرجل والمرأة في فساد صلاتهما، فأجازوا صلاتها، وأفسدوا صلاته، والنهي فيهما سواء، والمعنى واحد. انتهى كلام القاضي بتصرّف
(1)
.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 428 - 429.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: من السنّة أن تتأخر المرأة عن صفوف الرجال، كما رَوَى البخاريّ وغيره، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"صليت خلفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا ويتيم في بيتنا، خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمي أم سليم خلفنا".
وأما حديث: "أخروهنّ من حيث أخرهنّ اللَّه"، فلا أصل له: مرفوعًا، وإنما هو صحيحٌ موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" أن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه كان إذا رأى النساء، قال: أَخِّروهن حيث جعلهن اللَّه، وقال: إنهن مع بني إسرائيل يَصْفُفن مع الرجال، كانت المرأة تلبس القالَبَ، فَتَطَال لخليلها، فسُلِّطت عليهن الحيضة، وحُرِّمت عليهن المساجد، وكان عبد اللَّه إذا رآهنّ قال: أخروهن حيث جعلهن اللَّه. انتهى.
2 -
(ومنها): أن ثياب الحائض طاهرة إلا موضعًا تَرَى عليه دمًا، أو نجاسةً أخرى.
3 -
(ومنها): جواز الصلاة بحضرة الحائض.
4 -
(ومنها): جواز الصلاة إلى النائم، أو بحضرته، قال القاضي عياض رحمه الله: وإنما كرهه من كرهه؛ تنزيهًا للصلاة؛ لما يخرُج منه، وهو في قبلته
(1)
.
5 -
(ومنها): جواز الصلاة في ئوب بعضه على المصلي، وبعضه على حائض، أو غيرها.
6 -
(ومنها): قال النوويّ رحمه الله: وأما استقبال المصلي وجهَ غيره، فمذهبنا ومذهب الجمهور كراهته، ونقله القاضى عياض عن عامة العلماء -رحمهم اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1152]
(514) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 428.
سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ
(1)
، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ، وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ، إِلَى جَنْبِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) بن طلحة بن عُبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يُخطئ [6](ت 148)(م 4) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون تقدّموا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ، وطلحة، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه من الفقهاء السبعة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة (قَالَ) طلحة (سَمِعْتُهُ) أي عبيد اللَّه (يُحَدِّثُ) جملة حاليّة من المفعول، أو مفعول ثان على رأي من يرى "سمع" من أخوات "ظنّ" (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) "من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، وفي رواية النسائيّ:"بالليل"، وهي أيضًا بمعنى "في"(وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ) بكسر الميم، وسكون الراء: كساء من صوف، أو خَزٍّ يؤتَزَر به، وتَتَلَفَّعُ المرأة به، جمعه مُرُوط، مثلُ حِمْل وحُمُول
(2)
. (وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ) تعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس
(1)
وفي نسخة: "سمعته عن عائشة".
(2)
راجع: "المصباح" 2/ 569.
بعض ذلك الْمِرْط، ولبست هي بعضه، وهذا يدلّ على أن المرط ثوب واسع، يمكن أن يكون بعضه على المصلي، وبعضه على من كان بجنبه، وقولها:(إِلَى جَنْبِهِ) لا يوجد في رواية أحمد، وأبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، والظاهر أنه تأكيد للأول.
[تنبيه]: هذه الْجُمَل الخمسة، من قوله:"يصلي من الليل"، إلى قوله:"وعليه بعضه" أحوال، ثم يحتمل ما بعد الأولى أن يكون معطوفًا عليها، ويحتمل أن تكون الواوات حاليّة، فتكون أحوالًا متداخلةً، أو مترادفة، والأحوال المترادفة منعها بعض النحاة، ومعنى المتداخلة أن يأتي الحال من الحال، ومعنى المترادفة أن يأتي الحالان أو أكثر من واحد، وإلى هذا أشار ابن مالك: في "الخلاصة" بقوله:
وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدَ
…
لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرَ مُفْرَدِ
وإذا أردت تحقيق المسألة فراجع شُرُوح "الخلاصة"، وحواشيها لهذا البيت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 1152](514)، و (أبو داود) في "الصلاة"(370)، و (النسائيّ) فيها (2/ 71) وفي "الكبرى"(5/ 844)، و (ابن ماجه) فيها (652)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 67 و 99 و 137 و 199 و 204)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1451 و 1452)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1139)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(54) - (بَابُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَصِفَةِ لُبْسِهِ، وَوُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1153]
(515) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَيِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ: "أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزومي، أبو محمد المدني الفقيه الحجة الثبت، من كبار [3](49)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وبالفقهاء، فكلهم مشهورون بالفقه.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن سعيد.
5 -
(ومنها): أنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما ذكره الحاكم أبو عبد اللَّه رحمه الله
(1)
.
6 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، وسعيد من الفقهاء السبعة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن سَائِلًا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه،
(1)
راجع: "تدريب الراوي" 1/ 83.
لكن ذكر شمس الأئمة السرخسيّ الحنفيّ في كتابه "المبسوط" أن السائل ثوبان. انتهى
(1)
. (سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟) أي عن حكم الصلاة في الثوب الواحد، وفي رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه الآتية:"نادى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أيُصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: أوَكلّكم يجد ثوبين؟ "، وفي رواية أبي داود:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الصلاة في ثوب واحد؟ "(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم " (أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ ") الواو عاطفة على محذوف، والاستفهام إنكاريّ بمعنى النفي، والتقدير: أأنتم قادرون، ولكلّ منكم ثوبان؟، أي لستم قادرين، وليس لكلّ منكم ثوبان، فهو صلى الله عليه وسلم يشير إلى جواز الصلاة في الثوب الواحد، فكأنه قال: يكفي أحدكم في الصلاة الثوبُ الواحدُ؛ لأن الثوبين لا يقدر عليهما كلّ أحد.
وقال الخطّابيّ في "معالمه": لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإخبار ما كان يَعلَمُهُ من حالهم في العُدْم، وضِيق الثياب، يقول: وإذا كنتم بهذه الصفة، وليس لكلّ واحد منكم ثوبان -والصلاة واجبة عليكم- فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة.
وقال في "شرح البخاري": وفي ضمنه الفتوى من طريق الفحوى، ثم استقصار فهمهم، واستزادة علمهم، كأنه قال: إذا كان ستر العورة واجبًا، والصلاة لازمة، وليس لكلّ واحد منكم ثوبان، فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أن الثوبين لا يقدر عليهما كلّ أحد، فلو وجبا لعجز من لا يقدر عليهما عن الصلاة، وفي ذلك حرجٌ، وقد قال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية [الحج: 78].
وقال الطحاويّ رحمه الله: معناه: لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا؛ لأن حكم الصلاة في الثوب الواحد لمن يجد ثوبين كهو في الصلاة لمن لا يجد غيره. انتهى.
(1)
"الفتح" 1/ 561.
(2)
"الفتح" 1/ 561.
وتعقّبه الحافظ بأن هذه الملازمة في مقام المنع؛ للفرق بين القادر وغيره، والسؤال إنما كان عن الجواز، لا عن الكراهة. انتهى.
وتعقّبه العينيّ على عادته، ولكنه غير مصيب، فتنبّه، واللَّه تعالى المستعان.
[تنبيه]: روى ابن حبّان هذا الحديث من طريق الأوزاعيّ، عن الزهريّ، لكن قال في الجواب:"ليتوشّح به، ثم ليصلّ فيه"
(1)
.
قال في "الفتح": فيَحْتَمِل أن يكونا حديثين، أو حديثًا واحدًا فرّقه الرواة، وهو الأظهر، وكأن البخاريّ: أشار إلى هذا؛ لذكره التوشّح في الترجمة، حيث قال:"باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به"، قال الزهريّ في حديثه: الملتحف: المتوشّح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1153 و 1154 و 1155](515)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(358 و 365)، و (أبو داود) فيها (625)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 69 - 70)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1047)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 140)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1364)، و (الحميديّ) في "مسنده"(937)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 230 و 238 و 239 و 28 و 345 و 495 و 498 و 499 و 501)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(170)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(758)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2295 و 2298 و 2303)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 6/ 78 رقم (2303).
(2)
"الفتح" 1/ 561.
(1/ 379)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1140 و 1141 و 1142)، و (الدارقطنيّ)(1/ 282)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 236 - 237)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(511)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الإمام الطحاويّ رحمه الله: تواترت الأحاديث، وتتابعت بجواز الصلاة في الثوب الواحد مُتَوَشِّحًا بَه في حال وجود غيره من الثياب، وأخرج في ذلك عن أحد عشر صحابيًّا، وهم: أبو هريرة، وطَلْق بن عليّ، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، وعمر بن أبي سلمة، وسلمة بن الأكوع، وعبد اللَّه بن عباس، وأبي بن كعب، وأبو سعيد الخدريّ، وأنس بن مالك، وأم هانئ رضي الله عنهم.
ولَمّا أخرج الترمذيّ حديث عُمر بن أبي سلمة في الصلاة في ثوب واحد، قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وعمرو بن أبي أسد، وأبي سعيد، وكيسان، وابن عباس، وعائشة، وأم هانئ، وعمار بن ياسر، وطلق بن عليّ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم.
قال في "العمدة": وفي الباب أيضًا عن حذيفة، وعبد اللَّه بن أبي أمية، وعبد اللَّه بن أبي أنيس، وعبد اللَّه بن سَرْجِس، وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن المغيرة المخزوميّ، وعليّ بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي أمامة، وأبي عبد الرحمن حاضن عائشة، وأم حبيبة، وأم الفضل، ورجل لم يُسَمَّ.
فحديث أبي هريرة عند البخاريّ، وأبي داود، وحديث طلق بن عليّ عند أبي داود، والطحاويّ، وحديث جابر عند الطحاويّ، والبزار، وحديث عبد اللَّه بن عُمر عند الطحاويّ، وحديث عُمر بن أبي سلمة عند الشيخين، وغيرهما، وحديث سلمة بن الأكوع، عند أبي داود، والطحاويّ، وحديث أم هانئ عند الشيخين وغيرهما، وحديث عبد اللَّه بن عباس عند الطحاويّ، وحديث أبي بن كعب عند ابن أبي شيبة، والطحاويّ، وحديث أبي سعيد الخدريّ عند ابن ماجه، والطحاويّ، وحديث أنس بن مالك عند أحمد والطحاويّ، وحديث عمرو بن أبي أسد عند البغويّ في "معجم الصحابة"، والحسن بن سفيان في "مسنده"، وحديث كيسان عند ابن ماجه، وحديث عائشة
عند أبي داود، وحديث عمار بن ياسر عند
(1)
، وحديث عبادة بن الصامت عند الطبرانيّ في "الكبير"، وحديث حذيفة عند أحمد، وحديث عبد اللَّه بن أبي أمية عند الطبرانيّ في "الكبير"، وحديث عبد اللَّه بن أبي أنيس عند الطبرانيّ أيضًا، وحديث عبد اللَّه بن سَرْجِس عنده أيضًا، وحديث عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن المغيرة عند أحمد، وحديث علي بن أبي طالب عند الطبرانيّ، وحديث معاذ عنده أيضًا، وحديث معاوية عنده أيضًا، وحديث أبي أمامة عنده أيضًا، وحديث عبد الرحمن حاضن عائشة عنده أيضًا في "الأوسط"، وحديث أم حبيبة عند أحمد، وحديث أم الفضل عنده أيضًا، وحديث الرجل الذي لم يُسَمَّ عنده أيضًا. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الصلاة في ثوب واحد، قال النوويّ رحمه الله: ولا خلاف في هذا، إلا ما حُكي عن ابن مسعود رضي الله عنه فيه، ولا أعلم صحته، وأجمعوا أن الصلاة في ثوبين أفضل، وأما صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم في ثوب واحد، ففي وقتٍ كان لعَدَم ثوب آخر، وفي وقتٍ كان مع وجوده؛ لبيان الجواز، كما قال جابر رضي الله عنه: ليراني الْجُهّال، والا فالثوبان أفضل، كما سبق. انتهى.
2 -
(ومنها): بيان يُسر الدين، وسهولة الشريعة، حيث سهّلت في جواز الصلاة في ثوب واحد، قال عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية [البقرة: 185]، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} الآية [المائدة: 6].
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاهتمام بأمور الدين، فكانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كل ما أشكل عليهم، فيعلّمهم ويبيّن لهم ما أشكل عليهم، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].
(1)
هنا بياض في الأصل.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 90 - 91.
4 -
(ومنها): ما قاله وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: استُدِلّ بهذا الحديث على وجوب الصلاة في الثياب؛ لما دل عليه من أن جواز الاقتصار على ثوب واحد رخصة؛ لضيق الحال، فدَلّ على أنه لا يجوز ترك ذلك، والمعتبر في ذلك الثوب أن يكون ساترًا للعورة، بحسب اختلاف العلماء في العورة، وذلك أيضًا يختلفَ بالذكورة، والأنوثة، وحرية المرأة، ورِقِّها، وإذا ثبت وجوب السترة في الصلاة كان دليلًا على أنه شرط فيها؛ لأن الغالب أن ما وجب في الصلاة كان شرطًا فيها، وبهذا قال الجمهور انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم ستر العورة في الصلاة:
ذهب الجمهور إلى أن ستر العورة من شروط الصلاة، وعن بعض المالكية: التفرقة بين الذاكر والناسي، ومنهم من أطلق كونه سنةً، لا يُبطل تركها الصلاةَ، واحتج بأنه لو كان شرطًا في الصلاة لاختَصَّ بها، ولافتقر إلى النية، ولكان العاجز العريان ينتقل إلى بدل كالعاجز عن القيام ينتقل إلى القعود.
والجواب عن الأول النقض بالإيمان، فهو شرط في الصلاة، ولا يختص بها، وعن الثاني باستقبال القبلة، فإنه لا يفتقر للنية، وعن الثالث على ما فيه بالعاجز عن القراءة، ثم عن التسبيح، فإنه يصلي ساكتًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله بعد استدلاله بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب على وجوب سترة العورة في الصلاة رحمه الله ما نصّه:
وإذا ثبت وجوب السترة في الصلاة كان دليلًا على أنه شرط فيها؛ لأن الغالب أن ما وجب في الصلاة كان شرطًا فيها، وبهذا قال الجمهور، قال: وعند المالكية أربعة أقوال: الاشتراط مطلقًا، وهو المشهور، والاشتراط مع الذِّكْر دون النسيان، والوجوب خاصّة، والاستحباب.
وحَكَى القاضي أبو بكر ابن العربي في كون ستر العورة من فروض
(1)
"الفتح" 1/ 555 - 556.
الصلاة أربعة أقوال، بعد أن صَدَّر كلامه بأن ستر العورة فرض إسلاميّ، لا خلاف فيه بين الأمة، قال: واختلف العلماء هل هو من فروض الصلاة؟ على أربعة أقوال:
الأول أنه يجب ستر جميع الجسد، حكاه أبو الفرج.
الثاني: يكون متزرَ وسطه، كما فعل جابر رضي الله عنه، قاله ابن القاسم، كأنه غطى العورة وحماها، وستر ما اتصل بها.
الثالث: يصلي مستور العورة خاصةً، وبه قال الشافعىّ، وأبو حنيفة، وأكثر علماء الأمصار
الرابع: أنه لا يجب ستر عورة ولا غيرها، قال بعض شيوخنا: إذا كان في بيته، ولا يراه أحد، وحكاه القاضي أبو محمد وغيره عن القاضي إسماعيل، والأبهريّ، وابن بكير، وجاء نحوه عن أشهب؛ لأنه قال: من صلى عريانأ أعاد في الوقت، قال: والصحيح وجوب ستر العورة في الصلاة، فإنها إذا وجبت خارج الصلاة تأكدت بالصلاة. انتهى.
قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وفيه نظرٌ، فإنه ذكر أن الأقوال الأربعة في أن ستر العورة من فروض الصلاة أم لا؟ ثم حَكَى القول الأول أنه يجب ستر جميع الجسد، ولا قائل فيما نعلم بأن جميع جسد الرجل عورة، فكان حقه أن يَفْرِض الخلاف فيما يجب ستره في الصلاة لا بقيد كونه عورة، على أن الذي حكاه ابن عبد البر في "الاستذكار" عن أبي الفرج وجوب ستر العورة في الصلاة، لا ستر جميع البدن. انتهى.
قال وليّ الدين: وحكى القاضي عياض عن أبي الفرج وجوب ستر جميع الجسد في الصلاة، كما حكاه ابن العربيّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من أن ستر العورة في الصلاة واجب لا تصحّ الصلاة إلا به؛ لأحاديث الباب، وغيرها مما هو صريح في الوجوب، وأما القول بعدم الوجوب، أو بوجوب ستر جميع البدن فمن الأقوال الساقطة التي لا تستند إلى دليل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 239 - 240.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في الصلاة في الثوب الواحد:
ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين إلى جواز الصلاة في الثوب الواحد.
وممن رأى ذلك من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب، وأُبيّ بن كعب، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عبّاس، وأنس بن مالك، وخالد بن الوليد، وأبو هريرة رضي الله عنهم، وروي ذلك عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
وبه قال جماعة من التابعين، وهو قول مالك، ومن تبعه من أهل المدينة، والأوزاعيّ، ومن قال بمثل قوله من أهل الشام، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأبي ثور، وأصحاب الحديث، وأهل الرأي من الكوفة.
قال ابن المنذر رحمه الله: وقد روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يصلي في ثوبين، وقال نافع: رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد، وقال: ألم أكسك ثوبين؟ فقلت: بلى، قال: أرأيت لو أرسلتك إلى فلان أكنت ذاهبًا في هذا الثوب؟ فقلت: لا، قال: اللَّه أحقّ أن تَزَيَّنَ له، أو من تَزَيَّنت له.
وثبت عنه أنه قال لنافع: إذا كان واسعًا تتوشّح به، وإذا كان قصيرًا فاتّزر به.
ثم أخرج ابن المنذر أثريّ ابن عمر بسنده، ثم قال: وهذا من قول ابن عمر يدلّ على أنه استحبّ الصلاة في ثوبين، لا أنه رأى ذلك واجبًا، لا يجزي عنه، ويُشبه أن يكون مراد ابن مسعود هذا المعنى؛ استحبابًا لأن يصلي في ثوبين، ولو أوجب ابن مسعود الصلاة في ثوبين لكانت السنّة مستغنى بها. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
وأخرج عبد الرزّاق في "مصنّفه" عن الحسن، قال: اختَلَف أُبَيّ بن كعب وابن مسعود في الرجل يصلي في الثوب الواحد، فقال أُبَيّ: يصلي في الثوب الواحد، وقال ابن مسعود في ثوبين، فبلغ ذلك عمر، فأرسل إليهما، فقال: اختلفتما في أمر، ثم تفرّقتما، فلم يدر الناس بأيّ ذلك يأخذون، لو أتيتما لوجدتما عندي علمًا، القول ما قال أُبَيّ، ولم يأل ابن مسعود.
(1)
"الأوسط" 5/ 53 - 54.
وعن الحسن: أن أُبي بن كعب وعبد اللَّه بن مسعود اختلفا في الصلاة في الثوب الواحد، فقال أُبيّ: لا بأس به، قد صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد، فالصلاة فيه جائزة، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون الثياب، وأما إذ وجدوها فالصلاة في ثوبين، فقام عمر على المنبر، فقال: القول ما قال أُبيّ، ولم يأل ابن مسعود
(1)
.
وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه" عن مجاهد قال: لا تُصَلِّ في ثوب واحد إلا أن لا تجد غيره، وأخرج عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا يُصَلِّيَنَّ في ثوب واحد، وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض، يصلي وهو مُضْطبع، وعن ابن عُلَيّة، عن خالد، قال: رأيت أبا قلابة وعليه جبة، ومِلْحفة غسيلة، وهو يصلي، مُضْطَبِعًا، قد أخرج يده، وعن ابن عَوْن قال: قيل للحسن: إنهم يقولون: يكره أن يصلي الرجل، وقد أخرج يده من تحت نحره، فقال الحسن: لو وكل اللَّه دينه إلى هؤلاء لضيقوا على عباده. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من جواز الصلاة في الثوب الواحد، وما نُقل عن هؤلاء مما يدلّ على أنه يصلي في ثوبين إما محمول على الاستحباب، وإلا فحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة عليهم، كما سبق قول ابن المنذر رحمه الله: ولو أوجب ابن مسعود في ثوبين لكانت السنّة مستغنًى بها.
لكن الصلاة في ثوبين أفضل إن تيسّر، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم. "أوَلكلّكم ثوبان؟ " دليلٌ على أن من كان معه ثوبان يتزّر بالواحد، ويلبس الآخر، إنه حسنٌ في الصلاة. انتهى
(3)
.
وأخرج البخاريّ في "صحيحه" عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال:"أو كلكم يجد ثوبين؟ ".
ثم سأل رجل عمر رضي الله عنه، فقال: "إذا وَسّع اللَّه فأوسعوا، جَمَعَ رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقَباء، في
(1)
"مصنّف عبد الرزاق" 1/ 356.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 1/ 279.
(3)
"التمهيد" 6/ 371.
سراويل ورداء، في سراويل وقَميص، في سراويل وقَباء، في تُبّان وقباء، في تُبّان وقميص، قال: وأحسبه قال: في تبان ورداء". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وفي هذا دليلٌ على أن عمر رضي الله عنه يرى أن الصلاة في الثوبين أفضل من الثوب الواحد؛ لأنه إنما جاز لضيق الحال، فإذا وسّع اللَّه على عبده فالأفضل أن يتجمّل بثيابه.
والحاصل أن الصلاة في الثوب الواحد مع وجود غيره جائزة، وإنما الأفضل لمن يجد غيره أن يصلي بهما، وأما القول بإيجاب الصلاة في ثوبين، وإن نُقل عن بعض السلف، كما مرّ آنفًا فتردّه الأحاديث الصحيحة المذكورة في هذا الباب وغيرها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1154]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، وَحَدَّثَنِي
(1)
أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، صاحب الشافعيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت حافظ عابد فقيهٌ [9](ت 197) عن (72) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ، ثقة ثبت، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
5 -
(أَبُوهُ) شُعيب بن الليث بن سعد الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
6 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
7 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَحَدَّثَنِي أَبِي) بواو العطف، فيكون معطوفًا على محذوف، أي حدّثني أبي بكذا، وحدّثني إلخ، وفي بعض النسخ:"حدّثني" بحذفها، وهو واضح.
وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير ليونس، وعُقيل.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث مالك، عن ابن شهاب الماضي.
[تنبيه]: رواية يونس التي أحالها هنا على رواية مالك، ساقها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 122) فقال:
(1141)
حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا ناداه، فقال: يا رسول اللَّه، أيصلي الرجل في ثوب واحد؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أولكلكم ثوبان؟ ". انتهى.
وأما رواية عُقيل، عن ابن شهاب، فساقها الحافظ أبو بكر البيهقيّ في "السنن الكبرى" (2/ 237) فقال:
(3095)
وأخبرنا أبو الحسن، علي بن أحمد بن عبدان، أنبأ أبو بكر محمد بن محمويه العسكريّ بالأهواز، ثنا جعفر بن محمد القلانسيّ، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رجلًا يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيصلي أحدنا في الثوب الواحد؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أولكلكم ثوبان؟ ".
فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: إني لأترك ردائي على الْمِشْجَب، وأُصَلِّي مُلْتَحِفًا.
قال: أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث الليث بن سعد، دون فعل أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1155]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَادَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يصَلِّي أَحَدُنَا فِي ثَوْبِ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: "أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193) عن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةُ فقيهٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) بن أبي عمرة الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون تقدّموا في هذا الباب وفيما قبله، والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت في أول أحاديث الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1156]
(516) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
(1)
، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
(1)
وفي نسخة: "وزهير بن حرب، عن ابن عيينة".
الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُصَلِّي
(1)
أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ
(2)
مِنْهُ شَيْءٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز مولى الأسود بن سفيان، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقون ذُكروا في هذا الباب، وابن عيينة في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن قوله: "قال زهير: حدّثنا سفيان"، إشارة إلى اختلاف صيغ أداء شيوخه، ففي رواية زهير بن حرب صرّح بالتحديث، وذكر شيخه باسمه، بخلاف الآخَرينِ فلم يصرّحا بذلك.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو الزناد، عن الأعرج.
5 -
(ومنها): أن هذا الإسناد من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، فقد روي عن البخاريّ أنه قال: أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه أبو الزناد، عن الأعرج، عنه
(3)
.
6 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
(1)
وفي نسخة: "لا يصلّ" بحذف الياء.
(2)
وفي نسخة: "على عاتقه" بالإفراد.
(3)
راجع شرحي "إسعاف ذوي الوطر على ألفية الأثر" 1/ 41 - 42.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ) هكذا "يُصَلِّي" بإثبات الياء في معظم النسخ، وأشار في هامش نسخة محمد ذهني إلى أنه يوجد في بعض النسخ:"لا يُصَلِّ" بحذفها، قال ابن الأثير رحمه الله: كذا هو في "الصحيحين" بإثبات الياء، ووجهه أن "لا" نافية، وهو خبر بمعنى النهي
(1)
.
وقال ابن رجب رحمه الله: هكذا الرواية "لا يُصلّي" بالياء، فيكون إخبارًا عن الحكم الشرعيّ، أو إخبارًا يُراد به النهي، كما قيل مثله في قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الآية [البقرة: 233]. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ رحمه الله: ورواه الدارقطنيّ في "غرائب مالك" من طريق الشافعيّ، عن مالك بلفظ:"لا يصل" بغير ياء، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك، بلفظ:"لا يُصَلِّيَنّ" بزيادة نون التأكيد، ورواه الإسماعيليّ من طريق الثوريّ، عن أبي الزناد، بلفظ:"نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". انتهى
(3)
.
(فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ) متعلّقٌ بـ "يُصلّي"(لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ") هكذا في معظم النسخ "عاتقيه" بالتثنية، ووقع في بعضها "عاتقه" بالإفراد، وهو الذي عند النسائيّ، وعند أبي داود:"ليس على منكبيه منه شيءٌ"، و"العاتق" هو ما بين المنكبين إلى أصل العنق، وهو مُذكّر وحُكي تأنيثه.
وقوله: "شيءٌ" اسم "ليس" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور الأول، والثاني صفة لـ "شيء" قُدّم عليه، فيُعرب حالًا؛ لأن نعت النكرة إذا قُدّم عليها يُعرب حالًا، كما في قول الشاعر:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ
…
يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
فـ "موحِشًا" نعت لـ "طللٌ"، فلما قُدّم عليه نُصب على الحال، وجملة "ليس إلخ" في محلّ نصب على الحال من الثوب.
والمراد من الحديث: أنه لا يتّزر بالثوب الواحد في وسطه، ويشدّ طرفي
(1)
"الفتح" 1/ 561.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 361.
(3)
"الفتح" 1/ 561.
الثوب في حَقْويه، بل يتوشّح بهما على عاتقيه؛ ليحصل الستر لجزء من أعلى البدن، وإن كان ليس بعورة، أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد وردت أحاديث في كيفيّة الصلاة في الثوب الواحد، وهو أن يُخالف بين طرفي الثوب على عاتقيه، وهو التوشّح المذكور فيما أخرجه البخاري، وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أشهد أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه"، لفظ البخاريّ، ولفظ أبي داود:"إذا صلى أحدكم في ثوب، فليخالف بطرفيه على عاتقيه".
وهذا فيما إذا كان الثوب يتّسع لذلك، وأما إذا كان ضيّقًا، فليُصلّ به متّزِرًا؛ لما أخرجه الشيخان من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فجئت ليلةً لبعض أمري، فوجدته يصلي، وعليّ ثوب واحدٌ، فاشتملت به، وصليت إلى جانبه، فلما انصرف قال:"ما السُّرَى يا جابر؟ "، فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت قال:"ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ " قلت: كان ثوبٌ -يعني ضاق- قال: "فإن كان واسعًا فالتَحِف به، وإن كان ضَيِّقًا فاتزر به"، ولفظ مسلم:"إذا كان واسعًا فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيّقًا، فاشدُده على حِقْوِك"
(2)
.
وقد أورد المصنّف بعد هذا أحاديث تبيّن الكيفيّة أيضًا، وسنزيد عند شرحها بيانًا وإيضاحًا وشرحًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
[فائدة]: "العاتق": ما بين المنكب والعنق، مُذَكّرٌ، وقد أُنِّث، وليس بِثَبَتٍ، وزعموا أن هذا البيت مصنوع، وهو:
لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةٌ
…
اتَّسَعَ الْفَتْقُ عَلَى الرَّاتِقِ
لَا صُلْحَ بَيْنِي -فَاعْلَمُوا- وَلَا
…
بَيْنَكُمْ مَا حَمَلَتْ عَاتِقِي
وَلَا سَيْفِي وَمَا كُنَّا بِنَجْدٍ وَمَا
…
قَرْقَرَ قُمْرُ الْوَادِي بِالشَّاهِقِ
(1)
"الفتح" 1/ 471.
(2)
"الْحِقْو" بفتح الحاء وكسرها: موضع شَدّ الإزار، وهو الخاصرة.
قال ابنُ بَرِّيّ: والعاتق مؤنّثةٌ، واستَشْهَدَ بهذه الأبيات، ونَسَبها لأبي عامر جدّ العبّاس بن مِرْداس، وقال: ومن رَوى البيت الأول:
اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
فهو لأنس بن العبّاس بن مِرْداس، وقال اللحيانيّ: هو مذكّرٌ لا غير، وهما عاتقان، والجمع عُتْقٌ، وعُتَقٌ، وعَوَاتِقُ، ذكره في "اللسان"
(1)
.
وقال في "العمدة" بعدما ذكر نحو ما تقدّم ما نصّه: وفي "الموعب": صَفْح العنق من موضع الرداء من الجانبين جميعًا يقال له: العاتق، وقال أبو حاتم: رَوَى من لا أثق به التأنيث، وسألت بعض الفصحاء، فأنكر التأنيث، وقد أنشدني من لا أثق به بيتًا ليس بمعروف، ولا عن ثقة:"ولا صلح بيني" إلى آخره.
وقال ابن التبّاني: قال أبو عبيد: قال الأحمر: العاتق يذكَّر ويؤنَّث، وأنشدنا:
"لا صُلْحَ بَيْنِي. . . إلخ"، وقال ابن الأنباريّ، عن الفرّاء مثله، وفي "الجامع": هو مذكَّرٌ، وبعض العرب يؤنثه، وأنكره بعضهم، وقال: هذا لا يُعْرَف، وأما يعقوب بن السِّكِّيت، فذكره مذكَّرًا ومؤنثًا من غير تردُّد، وتبعه على ذلك جماعة، منهم أبو نصر الجوهريّ، وقد أنشد ابن عصفور في ذكر الأعضاء التي تُذَكَّر وتُؤَنَّث [من الطويل]:
وَهَاكَ مِنَ الأَعْضَاءِ مَا قَدْ عَدَدتُهُ
…
يُؤَنَّثُ أَحْيَانًا وَحِينًا يُذَكَّرُ
لِسَانُ الْفَتَى وَالْعُنْقُ وَالإِبْطُ وَالْقَفَا
…
وَعَاتِقُهُ وَالْمَتْنُ وَالضِّرْسُ يُذْكَرُ
وَعِنْدِي ذِرَاعٌ وَالْكُرَاعُ مَعَ الْمِعَا
…
وَعَجْزُ الْفَتَى ثُمَّ الْقَرِيضُ الْمُحَبَّرُ
كَذَا كُلُّ نَحْوِيٍّ حَكَى فِي كِتَابِهِ
…
سِوَى سِيبَوَيْهِ وَهْوَ فِيهِمْ مُكَبَّرُ
يَرَى أَنَّ تَأْنِيثَ الذِّرَاعِ هُوَ الَّذِي
…
أَتَى وَهْوَ لِلتَّذْكِيرِ فِي ذَاكَ مُنْكِرُ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"لسان العرب" 10/ 237 - 238.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1156](516)، (والبخاريّ) في "الصلاة"(359 و 360)، و (أبو داود) فيها (626 و 627)، و (النسائيّ) فيها (2/ 71) وفي "الكبرى"(1/ 276)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 325)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 368)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(456 و 457 و 158)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1143)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): النهي لمن صلّى في ثوب واحد أن يُجرّد عاتقيه منه.
2 -
(ومنها): عناية الشام بالتزيّن والتجمّل في الصلاة، قال الحافظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية [الأعراف: 31] ما نصّه: ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنّة يُستحبّ التجمُّل عند الصلاة، ولا سيّما يوم الجمعة، ويوم العيد. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله العلماء: إن حكمة النهي الوارد في هذا الحديث أنه إذا ائتَزر به، ولم يكن على عاتقه منه شيء، لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جَعل بعضه على عاتقه، ولأنه قد يَحتاج إلى إمساكه بيده أو يديه، فيُشْغَل بذلك، وتفوته سنةُ وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت صدره
(2)
، ورفعهما حيث شُرع الرفع، وغير ذلك، ولأن فيه ترك ستر أعلى البدن، وموضعِ الزينة، وقد قال اللَّه تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ} الآية [الأعراف: 31]، ذكره النوويّ رحمه الله
(3)
.
(1)
"تفسير ابن كثير" 2/ 295.
(2)
هكذا قال النووي: "تحت صدره" لأن مذهبه على هذا، وإلا فالذي صحّ في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أنه على الصدر، وقد استوفينا البحث في هذا في محلّه، وللَّه الحمد والمنّة.
(3)
"شرح النوويّ" 4/ 231 - 232.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا النهي مُعَلَّل بأمرين:
أحدهما: أن في ذلك تَعَرِّي أعالي البدن، ومخالفة الزينة المسنونة في الصلاة.
والثاني: أن الذي يفعل ذلك إما أن يَشْغَل يده بإمساك الثوب أو لا، فإن لم يَشْغَل خيف سقوط الثوب، وانكشاف العورة، وإن شُغِل كان فيه مفسدتان:
إحداهما: أنه يمنعه من الإقبال على صلاته، والاشتغال بها.
الثانية: أنه إذا شَغَل يديه في الركوع والسجود، لا يؤمن من سقوط الثوب، وانكشاف العورة.
ونُقِل عن بعض العلماء القول بظاهر هذا الحديث، ومَنَعَ الصلاة في السراويل والإزار وحده؛ لأنها صلاة في ثوب واحد، ليس على عاتقه منه شيء، وهذا مخصوص بغير حالة الضرورة، والأشهر عند الفقهاء خلافُ هذا المذهب، وجوازُ الصلاة بما يَسْتُر العورة، وعارضوا هذا بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه في الثوب:"وإن كان ضَيِّقًا فاتَّزِر به"، ويُحْمَل هذا النهي على الكراهة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن النهي للتحريم، وأن حديث جابر رضي الله عنه محمول على حالة الضرورة، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في حكم ستر العاتقين في الصلاة:
قال النوويّ ما حاصله: ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، والشافعيّ -رحمهم اللَّه تعالى- والجمهور إلى أن هذا النهي للتنزيه، لا للتحريم، فلو صلى في ثوب واحدٍ ساترٍ لعورته، ليس على عاتقه منه شيء صحّت صلاته مع الكراهة، سواءٌ قدر على شيء يجعله على عاتقه أم لا.
وقال أحمد، وبعض السلف -رحمهم اللَّه تعالى-: لا تصح صلاته إذا
(1)
"إحكام الأحكام" 2/ 148 - 149 بنسخة "العدّة".
قدر على وضع شيء على عاتقه إلا بوضعه؛ لظاهر الحديث، وعن أحمد بن حنبل -رحمه اللَّه تعالى- رواية أنه تصح صلاته، ولكن يأثم بتركه.
وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن كان واسعًا فالْتَحِف به، وإن كان ضَيِّقًا فَأتزر به"، رواه البخاريّ، ورواه مسلم في آخر الكتاب في حديثه الطويل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي ترجيح القول بكون النهي للتحريم، فتنبّه.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قد أجمع العلماء لمن صلّى في ثوب واحد على استحباب المخالفة بين طرفيه، ووضعهما على عاتقيه، وأنه الأفضل، بل كرهوا للمصلي أن يجرّد عاتقيه في الصلاة، قال النخعيّ: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد رداء يصلي فيه وضع على عاتقيه عِقالًا، ثم صلى، وقال النخعيّ أيضًا: كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة، خرّجهما ابن أبي شيبة في مصنّفه
(1)
.
ولو صلى مكشوف المنكبين، فقال أكثر الفقهاء: لا إعادة عليه، وحُكي روايةً عن أحمد، وقال أبو جعفر محمد بن عليّ: عليه الإعادة؛ لارتكابه النهي، والمشهور من مذهب أحمد أنه إن صلّى الفريضة كذلك أعاد، وفي إعادة النفل عنه روايتان، وقد قيل: إن الشافعيّ نصّ على وجوبه في الصلاة، وحكى بعض المالكيّة عن أبي الفرج من أصحابهم أن ستر جميع الجسد في الصلاة لازم، وفي صحة هذا نظر.
ونصّ أحمد على أنه لو ستر أحد منكبيه، وأعرى الآخر صحّت صلاته؛ لأنه لم يرتكب النهي، فإن النهي هو إعراء عاتقيه، ولم يوجد ذلك. انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله
(2)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: الحديث يدلّ على المنع من الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلي منه شيء، وقد حمل الجمهور هذا النهي
(1)
"المصنّف" 1/ 349.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 362 - 363.
على التنزيه، وعن أحمد: لا تصح صلاةُ مَن قدر على ذلك فتركه، وعنه أيضًا تصحّ صلاته، ويأثم.
وغَفَل الكرمانيّ عن مذهب أحمد، فادَّعى الإجماع على جواز ترك جعل طرف الثوب على العاتق، وجعله صارفًا للنهي عن التحريم إلى الكراهة، وقد نَقَل ابن المنذر عن محمد بن عليّ عدم الجواز، وكلام الترمذيّ يدل على ثبوت الخلاف أيضًا، وعَقَد الطحاويّ له بابًا في "شرح معاني الآثار"، ونَقَل المنع عن ابن عمر، ثم عن طاوس، والنخعيّ، ونقله غيره عن ابن وهب، وابن جرير.
وجمع الطحاوي بين الأحاديث بأن الأصل أن يصلي مشتملًا، فإن ضاق اتّزر.
ونقل الشيخ تقي الدين السبكيّ وجوب ذلك عن الشافعيّ، واختاره، قال الحافظ: لكن المعروف في كتب الشافعية خلافه.
واستَدَلَّ الخطابي على عدم الوجوب بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب كان أحد طرفيه على بعض نسائه، وهي نائمة، قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به، ويفضل منه ما كان لعاتقه، قال الحافظ: وفيما قاله نظر لا يخفى.
قال الشوكانيّ: إذا تقرّر لك عدم صحة الإجماع الذي جعله الكرمانيّ صارفًا للنهي، فالواجب الجزم بمعناه الحقيقيّ، وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق، والجزم بوجوبه، مع المخالفة بين طرفيه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم:"إذا صلّى أحدكم في ثوب، فليُخالف بطرفيه على عاتقيه"، حتى ينتهض دليل يصلح للصرف.
ولكن هذا في الثوب إذا كان واسعًا جمعًا بين الأحاديث كما صرّح بذلك في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيّقًا، فاتّزر به".
وقد عَمِل بظاهر الحديث ابن حزم، فقال: وفرضٌ على الرجل إن صلى في ثوب واسع أن يَطْرَح منه على عاتقه أو عاتقيه، فإن لم يفعل بطلت صلاته، فإن كان ضَيِّقًا اتَّزر به، وأجزأه، سواءٌ كان معه ثياب غيره، أو لم يكن، ثم ذَكَرَ ذلك عن نافع مولى ابن عمر، والنخعيّ، وطاوس. انتهى كلام الشوكانيّ ببعض تصرّف.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ: تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
وخلاصة القول أن مذهب القائلين بعدم صحّة الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتقه منه شيء، وأن النهي للتحريم، لا للتنزيه هو الحقّ الذي لا ينبغي العدول عنه؛ لكون النصّ صريحًا في ذلك، ولا معارض له، والقائلون بخلافه لم يأتوا بمعارض يصلح للتمسّك به، فبعضهم ادّعى الإجماع، وقد عرفت بطلانه، وبعضهم احتجّ بحديث جابر، وقد عرفت المراد منه.
والحاصل أن من صلّى في ثوب واحد واسع، ولم يجعل على عاتقه منه شيئًا، وهو قادر على ذلك لم تصحّ صلاته؛ لما ذكرناه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1157]
(517) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلًا بِهِ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء بن كُريب الْهَمدانيّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) عن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) عن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
5 -
(عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم القرشيّ، أبو حفص المدنيّ، رَبِيب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أمه أم سلمة، ورَوَى عنه ابنه محمد، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزبير، وثابت الْبُنَانيّ، وعطاء بن أبي رَبَاح، وقُدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، وعبد اللَّه بن كعب الْحِمْيَرِيّ، ووهب بن كيسان، وأبو وَجْزَة السعدي، وابن له غير مسمى.
قال ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: وُلِد بأرض الحبشة، وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن الزبير: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة، وفي رواية عنه: كان أكبر مني بسنتين، قال الزبير بن بكار: وكان مع علي بن أبي طالب، فولاه البحرين، وله عقب، وقال ابن عبد البرّ: وُلد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، وقيل: إنه كان ابن تسع سنين لما مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشَهِد مع عليّ الْجَمَل، وتوفي بالمدينة سنة (83)، وقال غيره: قُتِل مع عليّ يوم الجمل، وليس بشيء.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (517) وكرّره ثلاث مرّات، و (1108) و (2022) وأعاده بعده.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، والإخبار.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من هشام، والأولان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: هشام، عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا عدد أحاديثه فيه، وهو من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب
الستة إلا نحو ثمانية أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ) أي أخبر عروةَ، وقوله:(قَالَ) تفسير وتوضيح لمعنى "أخبر"("رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي) جملة في محلّ نصب على الحال؛ لأن "رأيت" بصريّة لا تتعدّى إلى اثنين، وأعربها في "العمدة" مفعولًا ثانيًا لـ "رأيت"، وهذا على جعلها علميّةً، والظاهر أنها هنا بصريّة، كما قدّمته آنفًا، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
(فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) متعلّقٌ بـ "يصلّي"(مُشْتَمِلًا بِهِ) هكذا عند المصنّف بالنصب، وكذا هو عند البخاريّ في رواية الأكثرين، منصوب على الحال من "رسول اللَّه"، ووقع في البخاريّ في رواية المستملي والحموي بلفظ:"مشتمل"، قال في "العمدة": وجه الجرّ للمجاورة، ووجه الرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، والتقدير: وهو مشتمل به. انتهى
(2)
.
(فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) متعلّق بـ "يصلي"، ولا يلزم منه تعلّق حرفي الجرّ بلفظ واحد بفعل واحد؛ لاختلاف معنييهما؛ إذ الأولى بمعنى الباء، والثانية ظرفيّة، ويَحْتمل أن يكون متعلّقًا بـ "مشتملًا"، أو تنازعه العاملان (وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ")"واضعًا" حال من فاعل "يصلّي"، و"طرفيه" مفعول به لـ "واضعًا"، و"على عاتقيه" متعلّق بـ "واضعًا".
والمراد من وضع الطرفين على العاتقين هو المخالفة بين طرفي الثوب، كما فسّرته رواية حمّاد بن زيد الآتية بلفظ:"قد خالف بين طرفيه"، وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشِّحًا به".
قال الإمام البخاريّ في "صحيحه": "قال الزهريّ في حديثه: "الْمُلْتَحِف": الْمُتَوَشِّحُ، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال
(1)
"تحفة الأشراف" 7/ 317 - 322.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 90.
على منكبيه، قالت أمّ هانئ: التَحَفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بثوب، وخالف بين طرفيه على عاتقيه". انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: الْمُشْتَمِل، والمتوشِّح، والمخالف بين طرفيه: معناها واحد هنا، قال ابن السِّكِّيت: التوشُّح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرحه": مراد البخاريّ هنا تفسير الالتحاف المذكور فيه، وقد حكى عن الزهريّ أنه فسّره بالتوشّح، وذكر أن التوشّح والالتحاف والاشتمال بالثوب المأمور به في الصلاة هو أن يطرح الثوب على منكبيه، ويرُدّ طرفيه على عاتقيه، فإن لم يردّهما فهو السدل المنهيّ عنه.
ثم ذكر تفسير ابن السّكّيت للتوشّح المذكور في كلام النوويّ، ثم قال: وفرّق الأخفش بين التوشّح والاشتمال، فقال: التوشّح هو: أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى، ويُلقيه على منكبه الأيمن، ويُلقي طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر، قال: والاشتمال أن يَلتَفّ الرجل بردائه، أو بكسائه من رأسه إلى قدمه، يردّ طرف الثوب الأيمنَ على منكبه الأيسر. انتهى
(3)
.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه المصنّف من طرق ثلاثة، من طريق أبي أسامة، ووكيع، وحماد بن زيد، وكذلك أخرجه البخاريّ من ثلاثة طرق، من
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 558 بنسخة "الفتح".
(2)
"شرح النووي" 4/ 233.
(3)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله-2/ 353 - 354.
طريق عبيد اللَّه بن موسى، ويحيى القطّان، وأبو أسامة، كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ": وأظنّ البخاريّ خرّجه من هذه الوجوه الثلاثة عن هشام ليُبيّن أن من رواه عن هشام، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي أُميّة المخزوميّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد وَهِمَ، فإن ابن إسحاق رواه عن هشام كذلك، خرّجه من طريقه الإمام أحمد، وخرّجه أيضًا من طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة كذلك، وهو وَهَمٌ أيضًا.
وممن جزم بأنه وَهَمٌ على ابن المدينيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيّان.
وممن رواه عن هشام، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: شعبة، ومالك، وحمّاد بن زيد، وغيرهم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1157 و 1158 و 1159 و 1160](517)، و (البخاري) في "الصلاة"(354 و 355 و 356)، و (أبو داود) فيها (628)، و (الترمذيّ) فيها (339)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 70)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1549)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 140)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1365)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 26 و 27)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2291 و 2292 و 2293)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 379)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1461 و 1462 و 1463 و 1464)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1144 و 1145)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(512 و 513)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): أن فيه جواز الصلاة في ثوب واحد، وقد أجمع العلماء على ذلك، وما نُقل عن ابن مسعود وغيره خلاف ذلك فمحمول على الأفضليّة، أو يُعتذر لهم بأنهم لم يعلموا السنة في ذلك.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 355 - 356.
2 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّة الاشتمال في الصلاة، وهو الالتحاف، والتوشّح، وليس المراد اشتمال الصمّاء الذي ورد عنه النهي.
3 -
(ومنها): بيان كيفيّة الصلاة في الثوب الواحد، وذلك أن يضع طرفيه على عاتقيه، وهو معنى المخالفة، والتوشّح والالتحاف، كما مرّ.
4 -
(ومنها): أنه قد ورد الأمر بالكيفيّة المذكورة، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عكرمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: أشهد أنى سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه".
ولا يجوز أن يشتمل به اشتمال الصمّاء؛ لورود النهي عن ذلك، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنه قال:"نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصَّمّاء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد، ليس على فرجه منه شيء"، متّفقٌ عليه.
و"اشتمالُ الصماء" هو -بالصاد المهملة والمدّ- قال أهل اللغة: هو أن يُخَلِّل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبًا، ولا يُبقِي ما يُخرِج منه يده، قال ابن قتيبة: سُمِّيت صماءَ؛ لأنه يَسُدُّ المنافذ كلها، فتصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خَرْقٌ.
وقال الفقهاء: هو أن يَلْتَحِف بالثوب، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعَهُ على منكبيه، فيصير فرجه باديًا.
قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون كل مكروهًا؛ لئلا تَعْرِض له حاجة، فيتعسر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يَحْرُم؛ لأجل انكشاف العورة
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1158]
(. . .) - (حَدَّثنَاه
(2)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ
(3)
: "مُتَوَشِّحًا"، وَلَمْ يَقُلْ:"مُشْتَمِلًا").
(1)
"الفتح" 1/ 569.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "هشام بن عروة، عن أبيه، بهذا غير أنه قال".
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني إسناد هشام، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "مُتَوَشِّحًا") الضمير لوكيع، يعني أن وكيعًا قال في روايته:"متوشّحًا" بدل قول أبي أسامة: "مشتملًا"، وهو بمعناه، قال في "العمدة":"الْمُتَوَشِّحُ": اسم فاعل من باب التفَعُّل، من تَوَشَّح يتوشح، والتوشُّح بالثوب: التغشي به، والأصل فيه من الوِشَاح، وهو شيء يُنْسَج عَرِيضًا من أَدِيم، وربما رُصِّع بالجواهر والْخَرَز، وتَشُدُّه المرأة بين عاتقيها وكَشْحَيها، ويقال فيه: وِشَاحٌ وإشَاحٌ، وقال ابن سِيدَهْ: التوشُّح أن يتوشح بالثوب، ثم يُخرِج الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يَعْقِد طرفيها على صدره. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية وكيع هذه ساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(1049)
حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عُمر بن أبي سلمة، قال:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحلإ، مُتَوَشِّحًا به، واضعًا طرفيه على عاتقيه". انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1159]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فِي ثَوْبٍ، قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ").
(1)
"عمدة القاري" 4/ 88.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْد) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179) عن (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
والباقون ذُكروا في هذا الباب.
وقوله: (فِي ثَوْبٍ) وفي بعض النسخ: "في ثوب واحد"، والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1160]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُلْتَحِفًا
(1)
، مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ"، زَادَ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَ: "عَلَى مَنْكِبَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](140)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ) التُّجيبيّ، أبو موسى المصريّ، لقبه زُغْبة، وهو أيضًا لقب أبيه، ثقةٌ [10](ت 248) وقد جاوز التسعين، وهو آخر من حدّث عن الليث بن سعد من الثقات (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد تقدّم في هذا الباب.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
5 -
(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) هو: أسعد بن سهل بن حُنيف -مصغرًا- الأنصاريّ، مشهور بكنيته، معدود في الصحابة لرؤيته النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يسمع منه (ت 100) وله (92) سنةً (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
(1)
وفي نسخة: "ملتحفًا به مخالفًا".
والصحابيّ رضي الله عنه تقدّم قبله.
وقوله: (مُلْتَحِفًا) وفي نسخة: "ملتحفًا به"، وهو بمعنى مشتملًا، ومتوشّحًا.
وقوله: (مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ) بدل من "ملتحفًا".
وقوله (زَادَ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَ: "عَلَى مَنْكِبَيْهِ") يعني أن عيسى بن حماد زاد في روايته عن الليث على رواية قتيبة عنه قوله: "على منكبيه" وهو متعلّق بـ "ملتحفًا"، أو "مخالفًا" على سبيل التنازع.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، ومسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1161]
(518) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُتَوَشِّحًا بِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم من شرح الأحاديث الماضية، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1161 و 1162 و 1163](518)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(352 و 353 و 361 و 370)، و (أبو داود) فيها
(633)
، و (ابن ماجه) فيها (1038 و 1039)، و (أحمد) في "مسنده"(2624 و 11136)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1465 و 1466)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1146)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1162]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، جَمِيعًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ:"قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهَمْداني، أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة حافظ فاضل، [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) هو: عبد اللَّه بن نُمير الْهَمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
وسفيان هو الثوريّ المذكور في السند الماضي.
وقوله: (جَمِيعًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني أن عبد اللَّه بن نُمير، وعبد الرحمن بن مهديّ كليهما حدّثنا عن سفيان بالسند الماضي، وهو عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه.
وقوله: ("قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم") الفاعل ضمير جابر رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان هذه، ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، مقرونًا بوكيع، فقال:
(13791)
حدّثنا وكيع، وعبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن
جابر بن عبد اللَّه، قال:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يصلي في ثوب واحدٍ، مُتَوَشِّحًا به". انتهى.
وأما رواية ابن نُمير، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1163]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبِ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ الْمَكِّيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ رَأَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ، مُتَوَشِّحًا بِهِ، وَعِنْدَهُ ثِيَابُهُ، وَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [7] مات قديمًا قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
والباقون ذُكروا في هذا الباب.
وقوله: (أَنَّهُ رَأَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما، في هذه الرواية بيان أن أبا الزبير المكيّ شاهد بنفسه هذه القصّة، فزالت عنه تهمة التدليس.
وقوله: (وَعِنْدَهُ ثِيَابُهُ) جملة اسميّة وقعت حالًا بعد حال، وهو "متوشّحًا"، من فاعل "يصلّي"، ويَحْتمل أن يكونا متداخلين، أو مترادفين، كما سبق بيانه غير مرّة.
وقوله: (يَصْنَعُ ذَلِكَ) أي هذا الصنيع، وهو صلاته في ثوب متوشّحًا به مع وجود ثياب أخرى، والجملة حال إن كان "رأى" بصريّة، أو مفعول ثان، إن كان علميّة، والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1164]
(519) - (حَدَّثَنى
(2)
عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ
(1)
وفي نسخة: "حدثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
لِعَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، حَدثنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُتَوَشِّحًا بِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل، الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمونٌ [8](ت 187)، وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران تقدم في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ الإسكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
4 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابي، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ لعمرو"، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن كل من جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى الأول (1540) حديثًا، والثاني (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية في "المساجد": "على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(قَالَ) أي أبو سعيد رضي الله عنه (فَرَأَيْتُهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (يُصَلِّي) تقدّم
قريبًا أن "رأى" إن كانت بصريّة، فالجملة حال؛ لأنها لا تتعدّى إلا إلى مفعول واحد، وإن كانت علميّة فالجملة مفعول ثانٍ لها (عَلَى حَصِيرٍ) بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، قال في "اللسان": "الحصير: البساط الصغير من النبات، قال: وقيل: الحصير: المنسوج؛ سمّي حَصِيرًا لأنه حُصِرت طاقته بعضها مع بعض. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": ذكر ابن سِيدَهْ في "المحكم" أنها سَفِيفَةٌ تُصنَع من بَرْديّ، وأَسَلٍ، ثم تُفرَشُ، سمّي بذلك؛ لأنه يلي وجه الأرض، ووجه الأرض يُسمّى حَصِيرًا، و"السَّفِيفَةُ" بفتح السين المهملة، وبالفاءين: شيءٌ يُعمل من الْخُوصِ، كالزَّنْبيل، و"الأَسَلُ" بفتح الهمزة، والسين المهملة، وآخره لام: نباتٌ له أغصانٌ كثيرةٌ دُقَاقٌ، لا ورق لها.
وفي "الْجَمْهرة": الْحَصِير: عربيّ، سُمّي حَصِيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض، وقال الجوهريّ: الحصير: الْبَارِيَّةُ. انتهى
(2)
.
وقوله: (يَسْجُدُ عَلَيْهِ) بالبناء للفاعل، جملة حاليّة من الفاعل (قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَرَأَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُتَوَشِّحًا بهِ) أي ملتحِفًا، مخالفًا بين طرفيه على عاتقيه، كما تقدّم بيانه، واللَّه تعالى أَعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1164 و 1165](519) وسيأتي في "كتاب المساجد" برقم (661)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(332)، و (ابن ماجه) فيها (1029)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 59)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1004)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2307)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني
(1)
"لسان العرب" 4/ 195 - 196.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 161.
الآثار" (1/ 381)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (2/ 421)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (1504)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1147 و 1148)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الصلاة في ثوب واحد، وقد تقدّم أنه مجمع عليه إلا ما شذّ به ابن مسعود رضي الله عنه وبعض الناس، وقد أوّل لهم بأنهم أرادوا الأفضليّة، وإلا فيُعتذر عنهم بأنهم لم يعلموا ما ثبت في السنة من الجواز، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): بيان كيفيّة الصلاة في الثوب الواحد، وهو أن يتوشّح به، والمراد أن يخالف بين طرفيه، على عاتقيه.
3 -
(ومنها): جواز الصلاة على الحصير، والسجود عليه، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في "كتاب المساجد" برقم (658) -إن شاء اللَّه تعالى-.
4 -
(ومنها): جواز الصلاة على شيء يحول بينه وبين الأرض، من ثوب، وحَصِير، وصُوف، وشعر، وغير ذلك، وسواء نبت من الأرض أم لا، قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال القاضي عياض رحمه الله: أما ما نبت من الأرض فلا كراهة فيه، وأما البسط واللُّبُود وغيرها، مما ليس من نبات الأرض، فتصح الصلاة فيه بالإجماع، لكن الأرض أفضل منه إلا لحاجة حَرّ، أو برد، أو نحوهما؛ لأن الصلاة سرُّها التواضع، والخضوع للَّه عز وجل. انتهى
(1)
.
وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة قريبًا في "كتاب المساجد" -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1165]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 233 - 234.
أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبِ:"وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ"، وَرِوَايَةُ أبِي بَكْرٍ، وَسُويدٍ:"مُتَوَشِّحًا بِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيد) بن سَهْل الْهَرَويّ، ثم الْحَدَثانيّ، أبو محمد، صدوقٌ، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قُدماء [10](ت 240)(م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
والباقون ذُكروا في هذا الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لأبي معاوية، وعليّ بن مُسهِر.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني إسناد الأعمش الماضي، وهو: عن أبي سفيان، عن جابر، عن أبي سعيد الْخُدريّ رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية، وعليّ بن مسهر لم أجد من ساقهما بلفظ المصنّف، ولكنّ أبا نُعيم ساقهما مساقًا واحدًا في "مستخرجه" (2/ 124) فقال:
(1148)
حدّثنا حبيب بن يوسف، ثنا مسدّد، ثنا أبو عوانة، عن الأعمش (ح) وثنا مَخْلَد بن جعفر، ثنا الفِرْيابيّ، ثنا مِنْجاب، أنبا عليّ بن مسهر، عن الأعمش (ح) وحدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أبي سعيد الخدريّ:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه". انتهى.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق بيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء الحادي عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه اللَّه تعالى، والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب يوم الجمعة المبارك 26/ 8/ 1426 هـ الموافق 30/ سبتمبر - أيلول/ 2005 م.
أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة يونس 10/ 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".
ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثاني عشر مفتتحًا بـ (5) - (كتاب المساجد ومواضع الصلاة) رقم الحديث [1166](520).
"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *